المقالة الأولى

في

المقدمات

الفصل الأول

في

تفصيل مذاهب الناس فيها

اعلم (١) : أن الموجود. إما أن يكون واجبا لذاته ، وإما أن يكون ممكنا لذاته. أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله. وأطبق المحققون على أنه يجب أن يكون ، لا متحيزا ، ولا حالا في المتحيز. وأما الممكن لذاته. فإما أن يكون قائما بالنفس ، وإما أن يكون قائما بالغير. والقائم بالنفس. إما أن يكون متحيزا ، وإما أن لا يكون متحيزا. والقائم بالغير. إما أن يكون قائما بالمتحيز ، وإما أن يكون قائما بغير المتحيز. فهذه أقسام أربعة.

فأما الذوات المتحيزة والصفات القائمة ، فهي معلومة الثبوت. وأما الذوات التي لا تكون متحيزة فهي المسماة في اصطلاح الفلاسفة بالمفارقات ، وفي اصطلاح قوم آخرين بالأرواح. وهي على قسمين. لأن هذه الذوات. إما أن يقال : كما أنها ليست أجساما ، ولا حالة في الأجسام ، فكذلك ليست متعلقة بالأجسام على سبيل التصرف والتدبير [وإما أن يقال : إنها متعلقة بالأجسام على سبيل التصرف والتدبير (٢)] والأول تسميها الفلاسفة بالعقول المجردة.

__________________

(١) بعد فراغ المؤلّف من الجزء السادس كتب هكذا : «بسم الله الرحمن الرحيم. وبه ثقتي. الكتاب السابع في الأرواح العالية والسافلة. وفيه مقالات. المقالة الأولى في المقدمات. وفيها فصول. الفصل الأول : في تفصيل مذاهب الناس فيها. اعلم أن الموجود .... الخ».

(٢) سقط (م).

وهاهنا بحث. فإن عدم تعلقها بالأجسام على سبيل التدبير والتصرف ، يحتمل أن يكون لكمالات ذواتها ، واستعلائها عن الالتفات إلى الأجسام ، ويحتمل أن يكون لضعفها في ذواتها وعدم اقتدارها على التصرف في شيء من الأجسام. فهذا بحسب القسمة محتمل. ومن الذي أحاط عقله بجميع ملك الله وملكوته؟ وإلى هذا القسم الإشارة في الكتاب الإلهي ، حيث قال : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ، لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) (١).

وأما القسم الثاني. فهو الجواهر التي تكون مجردة في ذواتها عن الجسمية. والحلول في الجسمية. إلا أنها متعلقة بالأجسام على سبيل التدبير والتصرف. وهذا القسم ينقسم إلى قسمين لأنها إما أن تكون مدبرة للأجسام الفلكية ، أو الأجسام العنصرية. ولما ثبت بالدليل [أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، ولم يثبت بالدليل (٢)] أن العالم واحد ، بل ثبت أنه لا يمتنع وجود عوالم غير هذا العالم. وبتقدير ثبوتها ، فيحصل هناك من زمر الأرواح المقدسة ، ما لا يعلمها [إلا الله تعالى ، ولا يعلمها (٣)] البشر البتة.

إلا أن البحث عن تلك الأحوال غير ممكن. فلهذا السبب اقتصرت العقول على البحث عن الأرواح المدبرة للأجسام الفلكية ، أو الأرواح المدبرة للأجسام العنصرية.

أما الأرواح المدبرة للأجسام الفلكية. فالأظهر أن الأفلاك تكون لها كالأبدان ، والكواكب لها كالقلوب ، والخطوط الشعاعية الفائضة من أجرام الكواكب [النيرة (٤)] جارية مجرى الأجسام اللطيفة النورانية ، الفائضة من

__________________

(١) النجم ٢٦ وفي تفسير «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي رحمه‌الله في تفسير هذه الآية : «هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام. وزعم : أن ذلك يقربه إلى الله تعالى. فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش : الملك واحد ، ومعناه جمع ، وهو كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وقيل : إنما ذكر ملكا واحدا. لأن «كم» تدل على الجمع»

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (ط ، ل).

(٤) من (ل).

القلب والدماغ ، الواصلة إلى سائر الأعضاء. ثم كما أن لكل بدن : نفسا واحدة ، إلا أنه يفيض عنها في كل جزء من أجزاء البدن : قوة مدبرة لذلك الجزء ، فكذلك لا يبعد أن يفيض من النفس الكلية التي للفلك : نفوس مخصوصة ، كل واحد منها يكون متعلقا بجزء معين من أجزاء الفلك ، وبجانب مخصوص من جوانبه.

وأما النفوس السفلية : فقد اتفق الأكثرون على أن النفوس الناطقة البشرية : جواهر مجردة عن الجسمية ، وعن الحلول في الجسم ، إلا أنها متعلقة بهذه الأبدان على سبيل التدبير والتصرف.

وأما نفوس سائر الحيوانات : فالأكثرون زعموا : أنها قوى جسمانية ، وليست جواهر مجردة. ومنهم من زعم : أنها من الجواهر المجردة. وهؤلاء قسمان :

الأول : القائلون بالتناسخ ، وهم الذين زعموا : أن أرواح البهائم [والسباع (١)] كانت أرواحا بشرية ، إلا أنها بعد مفارقة الأبدان الإنسانية ، صارت متعلقة بأبدان البهائم والسباع.

والفرقة الثانية : الذين ينكرون التناسخ ، ويزعمون مع هذا : أن نفوس السباع والبهائم ، وسائر الحيوانات : نفوس مجردة عن الجسمية ، والحلول في الجسمية. فهذا هو الكلام في نفوس الحيوانات.

واختلف الناس في الجن والشياطين وليس للمتأخرين من الفلاسفة في هذا الباب : كلام مقنع ، إلا أن الأكثرين من الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ أثبتوها ، وجزموا بوجودها.

وحاصل القول فيها :

أنهم زعموا : أن الأرواح على قسمين : أرواح فلكية. وأرواح سفلية.

__________________

(١) سقط (ط ، ل).

أما الأرواح الفلكية : فهم الملائكة ، وهم معصومون عن الشرور والنقائص وأما الأرواح السفلية ، فهم فريقان :

أحدهما : الأرواح الطاهرة الخيرة ، النقية عن العقائد الذميمة ، والأفعال الرديئة. وهم مؤمنو الجن.

والثاني : الأرواح الخبيثة الشريرة المؤذية. قالوا : ولهم رئيس ، هو أقواهم قوة ، وأتممهم قدرة. وهو المسمى «إبليس» والباقون أتباعه ، وهو مع جنده ، في مقابلة [جند الملائكة. وأما المجوس. فقد بالغوا ، وزعموا : أنه. أعني «إبليس» في مقابلة (١)] «الله» تعالى وملائكته (٢) فكل ما يحصل في العالم من الخيرات والراحات ، فهو من الله تعالى ، والملائكة. وكل ما يحصل في العالم من الآلام والآفات والمكروهات فهو من إبليس والشياطين.

ثم القائلون [بوجود هذا (٣)] النوع من الأرواح ، فريقان : منهم من زعم : أنها أرواح فلكية ، إلا أن كل واحد منها يدبر لقسم من أقسام هذا العالم ، فههنا (٤) أرواح مدبرة [للجبال ، وأرواح مدبرة (٥)] للبحار ، وأرواح مدبرة للمفاوز ، وأرواح مدبرة للعمرانات. وهذا القسم أيضا : أقسام. فبعضها مدبرة لأحوال الأمطار ، وبعضها للزروع ، وبعضها للحروب. وقال الآخرون : بل هذه الأرواح ، المدبرة لهذه الأشياء ، لا يبعد أن يكون تعلقها الأول ، بجزء من أجزاء كرة الأثير.

واعلم : أن هاهنا نوعا (٦) آخر من الأرواح ، قال بإثباته جمهور الأنبياء ، وأقرّ به أصحاب الطلسمات ، وذلك لأنه جاء في الكلمات المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يقول : «جاءني ملك البحار ، وملك الجبال ، وملك الأمطار ،

__________________

(١) سقط (م).

(٢) ومنازعته (طا) ، (ل)

(٣) ليسوا نوعا مستقلا ، بل هم من الملائكة.

(٤) بهذا (م).

(٥) فبعض الارواح (م).

(٦) من (ل).

وملك الأرزاق ، وملائكة الحرب» فهذا كلام أثبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأقرّ به. وجمهور أصحاب الطلسمات يثبتون هذا النوع من الأرواح ، ويقرون به ، فيجب البحث عن وجود هذا النوع.

تلك الحرارة تشبه الحرارة الغريزية [فإذا كانت الحرارة الغريزية (١)] التي في القلب مع قلتها ، لم تخل من نفس تدبرها ، وتتعلق بها ، فالحرارة اللطيفة الموجودة تحت فلك القمر ، كيف يمكن خلوها عن نفوس تتعلق بها وتدبرها؟ ومنهم من قال : لا يمتنع أيضا تعلق الأرواح الكثيرة [بها (٢) ، و] بكرة النسيم ، وبكرة الزمهرير. فإنا نشاهد أن الجبال التي تكثر فيها الثلوج ، قد يتولد فيها ديدان عظيمة ، تشبه زقاقا رقيقة مملوءة من الماء العذب البارد ، فإذا لم يمتنع تعلق الأرواح بها ، فكذلك لا يمتنع تعلق الأرواح بهذه الكرات. فهذا تفصيل الكلام في هذا الباب.

والحاصل : أن مراتب المفارقات عند الفلاسفة المتأخرين ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا» أربعة. فأعلاها وأشرفها : واجب الوجود لذاته ، ثم العقول ، ثم النفوس السماوية ، ثم النفوس البشرية. ولا يعترفون بالجن والشياطين. وأما أرباب الملل والنحل ، وأصحاب الطلسمات. فإنهم يثبتون الجن والشياطين ، وسائر الأقسام. والله أعلم.

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (م).

الفصل الثاني

في

ذكر شرح اخر في تقسيم الأرواح

اعلم : أن الموجودات بحسب القسمة العقلية ، على أربعة أقسام : لأنها إما أن تؤثر(١) ولا تتأثر ، بوجه من الوجوه. وإما أن تقبل الأثر ، ولا تمكنه أن يؤثر البتة. وإما أن تؤثر وتتأثر معا. وإما أن لا تؤثر ولا تتأثر البتة. فهذه أقسام أربعة ، لا مزيد عليها.

أما القسم الثاني : وهو الذي يؤثر ولا يتأثر البتة ، فهو الله سبحانه وتعالى. والدليل عليه : أنه واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان واجبا لذاته (٢) كان واجب الوجود في جميع صفاته السلبية (٣) والثبوتية. والدليل عليه : أن ذاته المخصوصة ، إن كانت كافية في حصول ذلك الإيجاب ، أو ذلك السلب ، يلزم أن يدوم ذلك الإيجاب. وذلك السلب بدوام ذاته. فحينئذ يمتنع وقوع التغير في شيء من صفاته ، وإن لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الإيجاب وذلك السلب ، فحينئذ يتوقف حصول ذلك الإيجاب ، وذلك السلب [على اعتبار حال الغير ، ولا شك أن هويته موقوفة على حصول ذلك الإيجاب أو ذلك السلب (٤)] والموقوف على الموقوف على الغير. موقوف على الغير. [والموقوف

__________________

(١) تكون مؤثرة (م).

(٢) واجب الوجود لذاته (م ، ط).

(٣) السلبية والإضافية والثبوتية (م ، ط).

(٤) من (طا ، ل).

على الغير (١)] : ممكن لذاته [فواجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته (٢)] هذا خلف. فثبت : أن الحق سبحانه وتعالى ؛ واجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود في كل صفاته الإيجابية [والسلبية (٣)] وكل ما كان كذلك ، فهو لا يقبل الأثر من الغير البتة.

وأما بيان أنه مؤثر في غيره ، فهو أنه ثبت : أن كل ما عدا الموجود الواحد الواجب ، فإنه ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته ، فإنه لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته. إما بواسطة أو بغير واسطة. فثبت : أن الحق سبحانه وتعالى : مؤثر في كل ما سواه ، وأنه لا يقبل الأثر البتة عن شيء مما سواه. فهو من حيث أنه مستقل في وجوده ، وفي جميع صفاته الثبوتية والسلبية. قائم بنفسه. ومن حيث إن كل ما سواه [قائم به (٤)] فإنه يوجد بإيجاده. وإن ما يتقوم بتقويمه ، فهو مقوم بغيره. والكامل في كونه قائما بذاته ، مقوما لغيره : هو الله القيوم. فواجب الوجود : هو القيوم الحق. فلهذا السر قال في الكتاب الإلهي : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٥).

وأما القسم الثاني : وهو الموجود الذي يتأثر ولا يؤثر فهو «الهيولى» وقد عرفت في كتاب «الهيولى» : أن هيولى العالم الجسماني ، هي الأجزاء التي لا تتجزأ وعند الفلاسفة : هيولى عالم الأجسام [موجود (٦)] ليس بمتحيز ، وصورتها هي الحجمية والتحيز.

إذا عرفت هذا فنقول : تلك الأجزاء من حيث هي هي ، ليست حارة ولا باردة ، ولا رطبة ولا يابسة ، ولا مجتمعة ولا مفترقة ، بل هي قابلة لهذه

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) سقط (ل).

(٥) البقرة ٢٥٥.

(٦) من (طا) ، (ل).

الصفات ، ولهذه الأحوال ، وتلك الأحوال (١) تسمى عند بعضهم : بالهباءات وليس فيها إلا مجرد القبول والطاعة والانقياد. ولما كان الجود بإعطاء الوجود ، لا يصح إلا من الموجود ، وكان القبول والتأثر لا يحصل إلا عند حصول العدم ، لا جرم قيل في الكتاب الإلهي : (وَاللهُ الْغَنِيُّ ، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٢).

إذا عرفت هذا ، فنقول : [من الظاهر (٣)] أن الوجود أشرف من العدم ، ولهذا السبب كان أشرف الموجودات : المؤثر الذي لا يتأثر ، وهو الله سبحانه وتعالى وأخسها : المتأثر الذي لا يؤثر ، وهو الهيولى.

وأما القسم الثالث من أقسام الموجودات : وهو الذي يؤثر ويتأثر معا. فهو عالم الأرواح والنفوس ، ويجب البحث هاهنا عن أمرين :

الأول : إثبات أنها متأثرة. والدليل عليه : أن واجب الوجود لذاته : واحد ، فيكون كل ما سواه : ممكنا لذاته. فهذه الأرواح والنفوس ممكنة لذواتها. والممكن لذاته لا يوجد إلا بمؤثر ، فثبت أن هذه الأرواح قابلة للأثر.

الثاني : إثبات أنها مؤثرة ، وهاهنا [يحصل (٤)] البحث العظيم.

فمن الثاني : من زعم : أنه لا يؤثر إلا الواحد ، الذي هو واجب الوجود لذاته. واحتج (٥) عليه بوجوه :

الحجة الأولى : إن كل ما كان ممكنا لذاته ، فإن ماهيته مقتضية للإمكان ، فلو كانت مؤثرة في وجود غيرها ، لكانت الماهية الواحدة اقتضت أثرين ، وهذا محال. وهذه الحجة مستقيمة على أصول الفلاسفة من وجهين :

الأول : إن عندهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

__________________

(١) الأجزاء (م). الأحوال (طا).

(٢) محمد ٣٨.

(٣) من (ل).

(٤) من (ل).

(٥) واحتجوا (طا) ، (ل).

الثاني : إن عندهم البسيط لا يكون قابلا وفاعلا معا.

الحجة الثانية : أن نقول : إن الشيء الواحد. إما أن لا يمتنع كونه مصدرا للأثرين (١) أو يمتنع. فإن لم يمتنع ذلك ، فنقول : لا شك أن واجب الوجود لذاته : موجود. ولا شك أنه مؤثر في وجود غيره. والتقدير في هذا القسم : أنه لا يمتنع صدور الآثار الكثيرة عن المؤثر الواحد. وإذا كان كذلك ، لم يمتنع إسناد جميع موجودات العالم إليه. وعلى هذا التقدير ، فإثبات المؤثر الواحد : معلوم ، وإما إثبات ما عداه : فمشكوك فيه. والتمسك بطاعة المعبود المعلوم ، أولى من التمسك بطاعة المعبود المجهول. فثبت : أن العقل يقتضي التوجه إلى عبادة الله تعالى ، والإعراض عن كل ما سواه.

وهذا الدليل هو المذكور في الكتاب الإلهي ، حيث قال تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ. فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٢) والمعنى : أن المعبود الأول معلوم الثبوت ، وما سواه غير معلوم. والاقتصار على المعلوم أولى من الذهاب إلى غير المعلوم.

وأما القسم الثاني : وهو أن يكون التقدير ، هو أنه يمتنع صدور الآثار الكثيرة عن المؤثر الواحد ، فنقول : فعلى هذا التقدير ، يمتنع كون الممكن لذاته ، مصدرا للأثر ، لأن للممكن لذاته ماهية ، تقتضي الإمكان فلو اقتضت تلك الماهية أثرا آخر ، لزم صدور الآثار الكثيرة عن المؤثر الواحد ، وهو محال.

الحجة الثالثة : إن علّة الحاجة إلى المؤثر ، هي الإمكان. والدليل عليه : إنا إذا رفعنا الإمكان عن الوهم ، بقي الوجوب بالذات ، أو الامتناع بالذات ، وكل واحد منهما ، يحيل الحاجة إلى المؤثر. فثبت : أن علة الحاجة ليست إلا الإمكان. والمفهوم من الإمكان أمر واحد ، فعلة الحاجة إلى المؤثر أمر واحد. وذلك الأمر الواحد ، إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر معين ، أو

__________________

(١) للاثنين (م).

(٢) المؤمنون ١١٧ والآية كاملة في (ل).

إلى مؤثر غير معين. والثاني باطل ، لأن المؤثر الذي لا يكون معينا في ذاته امتنع وجوده في نفسه [لأن كل ما كان موجودا في نفسه (١)] فهو معين في ذاته ، وما لا يكون معينا في ذاته ، امتنع كونه موجودا في ذاته ، وما لا وجود له في ذاته ، امتنع احتياج غيره في الوجود إليه. فثبت : أن الإمكان (٢) لا يحوج إلا إلى شيء معين. فوجب إسناد كل ممكن إليه. فثبت : أنه لا مؤثر إلا الواحد.

فهذا تقرير هذا القول.

وأما الجمهور الأعظم من أهل العالم. فقد أثبتوا مؤثرات كثيرة. قالوا : وكيف يمكننا إنكار ذلك ، ونرى النار [مؤثرة (٣)] في الإحراق ، والشمس في الإشراق ، والخبز في الشبع ، والماء في الري؟ ثم قالوا : والأرواح مؤثرة في عالم الأجسام ، ومدبرة لها ، ومتصرفة فيها. وأكدوا أقوالهم تارة بوجوه فلسفية ، وأخرى برموز نبوية. ألا ترى : أنه جاء في الكتاب الإلهي في صفات الملائكة : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤)؟ وقال أيضا : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) وإذا ثبت هذا ، فقد ظهر أن عالم الأرواح متوسط بين العالم الإلهي ، وبين العالم الجسماني ، لا توسطا بالحيز والمكان ، بل توسطا بالشرف والرتبة. فهي من حيث إنها متأثرة (٦) عن العالم الإلهي ، كانت أدون منه ، ومن حيث إنها مؤثرة في عالم الأجسام ، كانت أعلى وأجل منها ، فلا جرم كانت درجة الأرواح متوسطة بين الدرجتين.

إذا عرفت هذا فنقول : الروحانيات لها مراتب ودرجات :

فالمرتبة الأولى : وهي أعلى مرتبة ، وأجلها رتبة : الذين يكونون

__________________

(١) من (ل).

(٢) الإمكان يحوج إلى (م).

(٣) سقط (طا).

(٤) الذاريات ٤.

(٥) النازعات ٥.

(٦) مؤثرة من (ل).

مستغرقين في نور جلال الله تعالى ، استغراقا تاما ، بحيث لا يتفرغون مع ذلك الاستغراق ، لتدبير عالم الأجسام ، فطعامهم التوحيد ، وشرابهم التقديس ، وأنفسهم التنزيه. استغرقوا في نور جلال الله تعالى ، ولم يتفرغوا إلى شيء سوى الله تعالى. وهؤلاء هم الملائكة المقربون.

وقد عبر الكتاب الإلهي عن هذه المرتبة بقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، لا يَفْتُرُونَ) (١).

ثم إن لهذا القسم من الروحانيات : درجات لا نهاية لها في الكمال والنقصان وذلك لأن أنوار جلال الله سبحانه وتعالى ، غير متناهية. فدرجات العارفين في العرفان أيضا : غير متناهية. ثم إنه لما كان لا صفة لهذا القسم من الروحانيات ، إلا الاستغراق في المعارف الإلهية ، والفناء في تلك الجلالة الصمدية ، لا جرم سمى الحكماء الإلهيون هذا القسم من الأرواح : بالعقول المحضة ، لأنها [وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها ، إلا أنها (٢)] لكثرة تعقلاتها ، وقوة معارفها ، صاروا كأنهم [عين (٣)] تلك التعقلات ، ونفس تلك الإدراكات.

فإن قال قائل : فعلى ما تقولونه أنتم ، لم يبق لهذا القسم من الروحانيات ، إلا قبول الوجود عن الحق ، وقبول الأضواء القدسية عن إشراق جلال الحق ، وكل ذلك انفعال وتأثر ، فأين التأثير والفعل؟ فنقول في الجواب : إنها وإن كانت مستغرقة في تلك التعقلات الإلهية ، والتعقلات القدسية ، إلا أنه لا يبعد أن يفيض عنها : آثار عظيمة ، إما على الأرواح الفلكية ، أو على الأجرام الفلكية (٤) فيضان النور عن الشمس ، والحياة عن

__________________

(١) الأنبياء (١٩ ـ ٢٠) ، والنص كامل في (طا).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) من (م ، ط).

(٤) الفلكية ، ففاض عنها الانوار ، فيضان ... إلخ (م ، ط).

الروح ، وبهذا التقدير تكون فعالة. وأيضا : فلا يبعد أن يقال : إن تلك العقول ، يكون بعضها أدنى حالا من البعض ، فيستكمل الناقص منها بالكامل ، كما أن الشمس والقمر ، وإن كانا في العالم الجسماني جوهرين علويين شريفين ، إلا أن القمر ، لما كان أضعف حالا من الشمس لا جرم صار يقبل النور عن الشمس. ثم إنه بعد قبول النور عن الشمس ، يصير فياضا ، لتلك الأنوار على العالم السفلي ، فلا يبعد أن يكون حال الروحانيات كذلك.

وأما القسم الثاني من أقسام الأرواح : فهم الذين التفتوا إلى تدبير عالم الأجسام. وما بالغوا في الاستغراق في خدمة الجانب الأعلى إلى حيث يمنعهم عن التعلق بالجانب الأسفل ، وهؤلاء هم الملائكة العملية. وفي مصطلحات الفلاسفة هم المسمون بالنفوس.

ثم إن هذا القسم متفاوتون أيضا في درجات الشرف والكمال. فكل من كان تعلقه بجسم أشرف وأعلى ، كان هو في ذاته أشرف (١) وأعلى. ولما كان أعظم الأجسام هو العرش ، لا جرم كان أعظم الأرواح المتعلقة بعالم الأجسام هو الروح المتصرف في العرش ، ولا يبعد أن يكون المسمى بالروح الأعظم هو ذلك الروح ، وهو المسمى أيضا : بالنفس الكلية في مصطلحات الفلاسفة ، لأن تلك النفس بدنها العرش (٢) ، وكل ما حصل في داخل العرش ، فكأنه جزء من أجزائه ، وشعبة من شعبه. وكذلك النفوس المدبرة لتلك الأجسام تكون شعبة من شعب تلك النفس ، ونتيجة من نتائجها.

ثم المرتبة الثانية من مراتب النفوس : النفس المدبرة للكرسي ، كما قال في الكتاب الإلهي : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)؟ إلى قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٣) والسبب في تسمية الفلك الثامن بالكرسي : أن الكرسي جسم حصل فيه درجات متفاوتة بالدنو والعلو ، لأن

__________________

(١) أعلى وأبهى (طا) ، (ل).

(٢) بنفس الكل (ل).

(٣) البقرة ٢٥٥.

الكواكب المركوزة في الفلك الثامن : أجرام مختلفة بالصغر والكبر ، والتي أدركتها أبصار الخلق من تلك الكواكب مرتبة على سبع مراتب في العظم ، فأصغرها جرما ، ما يكون في العظم السابع ، وهو يكون في أدنى الدرجات ، وفوقها ما يكون في العظم السادس. وهكذا تترقى مرتبة فمرتبة ، ودرجة فدرجة ، إلى أن تصل إلى العظم الأول. ولهذا [السبب (١)] حصل في ثخن الفلك الثامن : درجات متفاوتة. ولهذا سمي بالكرسي. ولما كانت «الشعرى اليمانية» أكبرها قدرا ، وجب أن يكون مكانه في الدرجة الأعلى ، والمرتبة الاسمي والأسنى. وأقول : لا شك أن لكل واحد من تلك الكواكب خواص وآثار ، لا يعلمها إلا الله ـ سبحانه وتعالى.

والمرتبة الثالثة من النفوس : الأرواح المدبرة لفلك (٢) «زحل» وهكذا القول في سائر أطباق السموات ، وأجرام الكواكب على اختلاف درجاتها ، وتباعد مراتبها ، حتى تنتهي إلى الروح المدبرة لكرة «القمر».

ثم بعد هذه المراتب : الأرواح المدبرة لكرة الأثير [ثم لكرة الهواء (٣)] ثم الأرواح المدبرة لأقسام هذا العالم ، وذلك لأن كرة الأرض مقسومة بأربعة أقسام ، وأعظم الأقسام الأربعة : البحار. والقسم الثاني : المفاوز ، والبيانات. والقسم الثالث : الجبال. والقسم الرابع : العمرانات ، ولا يبعد في العقل أن يحصل لكل قسم من هذه الأقسام : روح واحدة ، أو أرواح كثيرة مدبرة لها. وكل ما ذكرناه ، مما نطق به أصحاب الوحي والتنزيل فإنه [عليه‌السلام كان يقول (٤)] : «جاءني ملك البحار ، فقال : كذا وكذا. وجاءني ملك الجبال ، فقال : كذا وكذا ، وجاءني ملك الأمطار ، فقال : كذا وكذا. وجاءني ملك الحروب». و «خازن الجنة فلان ، وخازن النار فلان» وإذا كان كل واحد من هذه الأقسام أمرا محتملا في العقل ، ولم يوجد دليل على نفيه ،

__________________

(١) من (طا) ، (ل).

(٢) لكرة (م ، ط).

(٣) من (طا) ، (ل).

(٤) من (طا) ، (ل).

وأصحاب [الوحي (١)] والمكاشفات أخبروا عن وجودها ، وجب الاعتراف بها.

ثم هاهنا مباحث :

المبحث الأول : إن الحكماء بينوا : أن لكل فلك عقلا ونفسا. وبينوا أيضا : أن كل فلك فإنه ينقسم أيضا بحسب الجهات الست إلى أقسام ستة. فللفلك يمين وشمال ، وقدام وخلف ، وفوق وتحت. فلا يبعد أن يحصل له بحسب كل قسم من هذه الأقسام الستة : روح يدبره. والفلاسفة أثبتوا لمجموع كل فلك عقلا ونفسا [وبينوا أيضا : أن كل فلك ، فإنه ينقسم أيضا بحسب الجهات الست ، إلى أقسام ستة (٢)] فيكون المجموع : ثمانية. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٣) ثم لا يبعد أيضا : أن يتولد عن كل واحد من تلك الأرواح القوية القاهرة : شعب ونتائج. الله أعلم بعددها. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (٤) الآية (٥).

المبحث الثاني : إن من الناس من قال : كما بينا : أن الموجودات على ثلاثة أقسام : المؤثر الذي لا يتأثر ، وهو أشرف الأقسام. ومتأثر لا يؤثر ، وهو أحط الأقسام. والموجود الذي يكون مؤثرا باعتبار ، ومتأثرا باعتبار آخر ، وهو

__________________

(١) من (طا) ، (ل).

(٢) سقط (ط) ، (ل).

(٣) الحاقة ١٧ واعلم : أن المؤلف قد ابتعد عنه الصواب في هذه المسألة. فإن أي فلك لا عقل له ولا نفس له. بل هو جماد يتحرك بالقوة التي أودعها الله فيه. ولو أنه قال : إن لكل فلك ملائكة موكلون به ، كما توكل بالبحار ملك ، وبالجبال ملك. لكان الحق معه وقوله إن حملة العرش. هم عقل الفلك ونفسه وجهاته الستة قول باطل. لأنه لم يذكر نصا قرآنيا على إثبات عقل ونفس للفلك. وليس في القرآن من نص على ذلك. فكيف يصح له أن يطوع القرآن للفلسفة بدون دليل من حقيقة أو من مجاز؟ والتفسير الصحيح : أن حملة العرش ثمانية من الملائكة.

(٤) الزمر ٧٥ واعلم أن الملائكة الحافين هم خلق الله ، وليسوا متولدين عن الأفلاك. بل هم الموكلون بالأفلاك.

(٥) «وقضي بينهم بالحق. وقيل : الحمد لله رب العالمين».

مرتبة متوسطة بين المرتبتين المتقدمتين ، فكذلك أجسام العالم [السفلي (١)] منقسمة إلى هذه الأقسام الثلاثة.

فالقسم الأول : أجسام تؤثر ولا تتأثر عن سائر الأجسام [وهو طبقتان : العرش والكرسي. والقسم الثاني : الأجسام التي تقبل الأثر عن سائر الأجسام (٢)] ولا تؤثر في غيرها ، وهما الطبقتان السافلتان. فأعلاهما كرة اللطيف ، وهي كرة النار [والهواء (٣)] ، وأدونهما كرة الكثيف ، وهي كرة الماء والأرض. والقسم الأول أشرف الأقسام. وهذا الثاني أخسها وحصل فيما بين هذين القسمين قسم ثالث ، وهو الذي يقبل الأثر عن الكرتين العاليتين ، ويؤديه إلى الكرتين السافلتين ، وهي السموات السبع التي حصلت الكواكب السبعة فيها. وذلك لأن هذه الكواكب مركوزة في أفلاك التدوير. وهذه التداوير مركوزة في الأفلاك الحاملة ، فإذا وصل فلك التدوير من حضيض الفلك الحامل إلى أوجه ، ثم وصل الكوكب من حضيض فلك التدوير إلى أوجه. فحينئذ يصير الكوكب مماسا للفلك الذي فوقه بنقطة واحدة ، ويستفيد القوى العالية من الفلك الأعلى ، ثم إذا نزل الكوكب من أوج فلك التدوير إلى حضيضه ، ونزل فلك التدوير من أوج الفلك الحامل إلى حضيضه ، فحينئذ يصير الكوكب ملاقيا للفلك الذي تحته بنقطة واحدة ، فتؤدي تلك القوى المأخوذة من الفلك الفوقاني إلى الفلك التحتاني. فأول هذه الحالة ، إنما تظهر في «زحل» حيث يماس الفلك الكوكب بنقطة واحدة. [وآخرها حيث يماس القمر فلك الأثير بنقطة واحدة (٤)] فثبت : أن هذه الأفلاك السبعة كالأسباب السبعة (٥) بين العرش والكرسي ، وبين عالم العناصر.

المبحث الثالث : وهو أنك عرفت بالبيان الذي ذكرناه : أن عالم

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) من (طا) ، (ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) من (طا) ، (ل).

(٥) كالأشياء المتوسطة (م).

الأرواح ، ابتدأ بالأشراف فالأشرف ، منحطا إلى الأدون فالأدون ، حتى بلغت في آخر المراتب إلى الأرواح الأرضية. وهي بالنسبة إلى الأرواح الفلكية ، كنسبة أجساد الناس إلى أجساد الأفلاك ، وكنسبة القلوب المودعة في هذه الأجساد إلى الكواكب ، التي هي جارية مجرى القلوب لتلك الأفلاك ، ولما كانت نسبة الأجساد إلى الأجساد ، والقلوب إلى القلوب ، كالعدم بالنسبة إلى الوجود ، فكذلك نسبة الأرواح السفلية إلى الأرواح العلوية.

ثم إن الأرواح البشرية فيما بينها تفاوت شديد في الشرف والدناءة. وبعد الأرواح البشرية : النفوس الحيوانية ، وبعدها : النفوس النباتية.

وهاهنا آخر مراتب النفوس والأرواح.

والقسم الرابع من أقسام الموجودات : الموجود الذي لا يؤثر ولا يتأثر البتة : وهذا القسم ممتنع الوجود في العقول. فإنا لما دللنا على أن الموجود ، إما واجب ، وإما ممكن. ودللنا على أن الواجب : واحد. ودللنا على أن كل ممكن : فهو معلول. فحينئذ يكون ذلك الواجب الواحد مؤثرا فيه. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن الموجود ، إن كان واجبا لذاته ، فهو مؤثر. وإن كان ممكنا لذاته ، فهو متأثر. فالقول بإثبات موجود لا يكون مؤثرا ولا متأثرا : محال.

الفصل الثالث

في

حكاية شبهات المنكرين

للموجودات الروحانية والجواب عنها

زعم أكثر المتكلمين : أن إثبات موجود ممكن الوجود ، لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز : محال. واحتجوا عليه بوجوه :

الحجة الأولى : قالوا : ثبت بالدليل : أن إله العالم [يجب أن (١)] لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز. فلو فرضنا موجودا آخر بهذه الصفة ، لكان الموجود : مساويا لذات الله تعالى في أنه غير متحيز ، ولا حال في المتحيز. والاستواء في هذا الحكم ، يوجب الاستواء في الماهية. بدليل أنا إذا أردنا أن نذكر في ذات (٢) الله تعالى : صفة ، باعتبارها تمتاز ذاته عن سائر الذوات ، لم نقدر إلا على ذكر هذه الصفة. وهي : أنه ذات ليست بمتحيزة ، ولا حالة في شيء من المتحيزات. والصفة إذا كانت كاشفة عن الحقيقة ، كان الاشتراك فيها ، يوجب الاشتراك في الحقيقة. فثبت : أنه لو حصل موجود بهذه الصفة ، لكان ذلك الموجود مثلا لذات الله تعالى. والمثلان يجب استواؤهما في جميع اللوازم. فيلزم : إما القول بكون الكل: آلهة واجبة الوجود ، أو بكون الكل عبيدا ممكنة الوجود. ولما كان الكل محالا. ثبت : أن إثبات موجود بهذه الصفة. محال.

__________________

(١) من (طا) ، (ل)

(٢) صفات (م)

الحجة الثانية لهم : قالوا : الحس دل على وجود المتحيز ، وعلى وجود الصفات القائمة به. وأما القسم الثالث ، فلا يمكن إثباته ، إلا لأجل افتقار أحد هذين القسمين إليه. لأن ما لا يكون العلم بوجوده بديهيا ، لم يجز المصير إلى إثباته ، إلا إذا قضى العقل باحتياج ما علم وجوده إليه. إلا أنا لما اعترفنا بأن الإله تعالى غير متحيز ، ولا حال في المتحيز ، كان وجوده كافيا في وجود هذه المتحيزات ، وفي وجود الأعراض القائمة بها. وإذا كان كذلك ، فلم يبق على وجود موجود [آخر (١)] غير متحيز ، ولا حال في المتحيز : دليل. وما لا دليل عليه أصلا ، كان القول بإثباته موجبا للجهالات.

الحجة الثالثة : وهي مختصة بنفي العقول والنفوس ـ قالوا : هذه العقول والنفوس التي تثبتها الفلاسفة. يزعمون : أنها قديمة [فهي غير متحيزة عن ذات الله تعالى ، لا بالزمان ولا بالمكان ، ولا بالوجود والعدم. لأن التقدير تقدير أنها قديمة (٢)] وإذا كان كذلك ، امتنع امتياز بعضها عن بعض في نفس الأمر ، وهذا يقتضي اتحاد الاثنين ، وهو محال.

واعلم : أن هذه الوجوه ضعيفة :

أما الحجة الأولى : فالجواب عنها : أن المساواة في كونه غير متحيز ، ولا حال في المتحيز : مساواة في الصفة السلبية ، لا توجب المساواة في تمام الماهية. والدليل عليه وجوه :

الأول : إن كل حقيقتين ، فلا بد وأن يشتركا في سلب كل ما عداهما عنهما ، وذلك برهان قاطع على أن المساواة في السلوب ، لا توجب المساواة في تمام الماهية.

الثاني : إن كل نوعين داخلين تحت جنس واحد ، فهما مشتركان في طبيعة ذلك الجنس ، ولم يلزم من حصول تلك المشاركة ، حصول المماثلة المطلقة.

__________________

(١) من (ل)

(٢) سقط (م)

الثالث : إن ماهيات الأعراض مختلفة ، ثم إنها مع اختلافها في ماهياتها : متساوية في كونها أعراضا واجبة الحصول في المحل ، وكذلك جميع الممكنات والمحدثات : متساوية في الإمكان والحدوث.

الرابع : إن المختلفين يتشاركان في كونهما مختلفين. والضدين يتشاركان في كونهما ضدين.

الخامس : إن طبائع الأعداد الكثيرة ، مع اختلافها في ماهياتها ، متشاركة ، إما في الزوجية وإما في الفردية.

السادس : إن العقلاء أطبقوا على أن الموجبتين في الشكل الثاني : لا ينتجان. ولا سبب فيه ، إلا أن الاستواء في بعض الصفات ، لا يدل [على المماثلة المطلقة. فثبت بهذه الوجوه : أن الاستواء في بعض الصفات لا يدل (١)] على التماثل في تمام الماهية.

أما قوله : «هذه الصفة : صفة كاشفة عن حقيقة ذات الله تعالى. والاستواء في الصفة الكاشفة يوجب المماثلة» أما المقدمة الأولى فممنوعة. والدليل عليه : أن الصفة الكاشفة عن حقيقة ذات الله تعالى : هي الوجوب بالذات. وأما المقدمة (٢)] الثانية : وهي الاستواء في الصفة الكاشفة يدل على التماثل. فهذا أيضا : ممنوع. لأنا لا نجزم هاهنا بالمماثلة المطلقة ، وإنما نجزم بأنا لا نعرف فيه ما يدل على المخالفة. والفرق بين عدم الجزم [بالمخالفة ، وبين الجزم بالمماثلة : معلوم.

وأما الحجة الثانية : فجوابها : أن حاصلها (٣)] يرجع إلى المطالبة بالدليل الذي يدل على ثبوت هذا القسم ، لأن المطالبة بدليل الثبوت غير ، وإقامة الدليل على النفي غير. فأين أحد البابين من الآخر؟

__________________

(١) سقط (م)

(٢) من (طا) ، (ل)

(٣) سقط (م)

وأما الحجة الثالثة : فهي قريبة من الحجة الأولى. فلم قلتم : إنه لما لم يتميز أحدهما عن الآخر ، لا في الزمان ، ولا في المكان ، ولا في العدم ، ولا في الوجود (١) فإنه يلزم عدم التمييز في نفس الأمر. فلم لا يجوز أن يقال : بأن بعضها يتميز عن البعض بحقيقته المخصوصة ، وماهيته المعينة؟ والدليل عليه : أن العلم والقدرة إذا حصلا في محل واحد ، فههنا لم يتميز أحدهما عن الآخر ، لا بالزمان ولا بالمكان ولا بالوجود ولا بالعدم ، مع أن الامتياز حاصل في نفس الأمر [فكذا هاهنا (٢)]

__________________

(١) الحدوث (م)

(٢) من (ل ، طا)

الفصل الرابع

في

ذكر الدلائل الدالة على ثبوت

هذا القسم من الموجودات على سبيل الاجمال

اعلم : أنا قد استقصينا في إثبات هذا المطلوب في أول كتاب «تنزيه الله تعالى» ولا بأس بإعادة بعض الدلائل هاهنا :

الحجة الأولى : إنا أقمنا الدلائل القاهرة في كتاب «الزمان والمكان» على أن المدة : موجود من الموجودات. ثم بينا : أنه لا يجوز أن تكون المدة عبارة عن مقدار الحركة الفلكية. وبينا : أن المدة جوهر قائم بذاته (١) غني عن وجود الحركة ولواحقها. ثم إنا نعلم : أن ذلك الجوهر يمتنع أن يكون جسما ، لأن كل ما كان جسما فإنه يكون قريبا ، من جسم ، وبعيدا من جسم آخر. وبديهة العقل شاهدة بأن نسبة المدة إلى جميع الأشياء على السوية. ويمتنع أن يقال : إن هذه النسبة قريبة من فلان ، وبعيدة من فلان آخر. وعند هذا ينعقد قياس من الشكل الثاني ، وهو أن كل ما كان مدة ، فإن نسبته إلى جميع الأجسام بالقرب والبعد على السوية ، ولا شيء مما يكون جسما كذلك. ينتج : فلا شيء من المدة بجسم. فثبت : أن المدة : جوهر. وثبت : أنه ليس بمتحيز ، فهو جوهر مجرد ، مغاير للجسم ، وغير حال فيه. وهو مطلوب.

وهذا المطلوب إنما يتم بالبناء على أصلين :

__________________

(١) بنفسه (م)

أحدهما : إثبات المدة. والثاني : إثبات أنه ليس بجسم ، ولا حال في الجسم (١) وقد احكمنا هذين الأصلين في كتاب «الزمان»

الحجة الثانية : إن الدليل دل على وجود الخلاء ، وهو البعد المجرد القائم بالنفس. فنقول : هذا البعد ليس بجسم. لأن المراد من الجسم: الجوهر الذي يقبل الحركة من حيزا إلى حيز. ونفس الحيز لا يقبل الحركة من حيز إلى حيز ، وإلّا لحصل للحيز : حيز آخر إلى غير النهاية. وهو محال ، فثبت : أنه جوهر مجرد.

الحجة الثالثة : وهي مبنية على إثبات المثل التي كان يثبتها القدماء. وتقريرها : إن أشخاص الناس مشتركون في معنى الإنسانية ، ومختلفون في الطول والقصر ، والسواد والبياض. وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فكونه إنسانا : أمر ، مغاير لهذه الصفات والأحوال. وإذا ثبت هذا ، فنقول : ذلك المعنى من حيث إنه هو ، امتنع أن يكون له قدر معين أو شكل معين ، وإلا لما كان مشتركا فيه بين الموجودات ، ذوات الأقدار المختلفة ، والأشكال المختلفة.

ثم نقول : هذا الموجود ، إما أن يكون موجودا في الأذهان فقط ، ولا وجود له في الأعيان ، وإما أن يكون موجودا في الأعيان. والأول باطل ، لأن القدر المشترك بين الأشخاص الموجودة في الأعيان أجزاء مقومة لتلك الموجودات وما يكون جزءا من ماهيات الأشياء الموجودة في الأعيان : يجب كونه موجودا في الأعيان ، إذ لو حصلت تلك الأشياء في الأعيان [مع أن الأجزاء المقومة لماهيتها غير موجودة في الأعيان ، فحينئذ قد حصل الشيء في الأعيان (٢)] مع أن أجزاء قوامه غير حاصلة في الأعيان. وذلك محال في صريح العقل. فثبت : أن هذه الماهية التي هي القدر المشترك بين الكل : موجود في الأعيان.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : إما أن يكون كونه موجودا في الأعيان ، موقوفا

__________________

(١) فيه (ل)

(٢) من (ل)

على قيام هذه الصفات [به. أعني : الطول والقصر والشكل والأين (١)] وإما أن لا يكون موقوفا. والأول باطل. لأن قيام تلك الصفات متوقف على تحقق تلك الماهية. فلو كان تحققها متوقفا على قيام تلك الصفات بها ، لزم الدور. وهو محال.

فثبت بهذا البرهان : وجود موجودات مجردة في الأعيان. وهي التي كان [يقول بها الإمام «أفلاطون» وكان (٢)] يسميها بالمثل المجردة [الله أعلم (٣)]

__________________

(١) من (ل)

(٢) من (م).

(٣) من (طا ، ل).

المقالة الثانية

في

بيان أن النفس الانسانية

هل هي جوهر مجرد عن الحجمية

والحلول في الحجمية. أم لا؟

الفصل الأول

في

تفصيل مذاهب الناس فيه

اعلم : أنا نعلم بالضرورة : أن هاهنا شيئا يشير إليه كل أحد منّا ، بقوله : «أنا» وبالحقيقة : أعرف المعارف ، وأظهر الظاهرات : هو ما يشير إليه كل أحد بقوله : «أنا»

إلا أن العقلاء اختلفوا في [أن ماهية (١)] ذلك الشيء ، ما هو؟

وضبط المذاهب فيه : أن يقال : إنه إما أن يكون جسما ، أو عرضا ساريا في الجسم ، أو لا جسما ولا عرضا (٢) ساريا في الجسم.

أما القسم الأول : وهو أنه جسم. فذلك الجسم ، إما أن يكون هو هذا البدن ، وإما أن يكون جسما مشابكا لهذا البدن ، وإما أن يكون جسما خارجا عنه [فأما القسم الثالث وهو أن تكون نفس الإنسان عبارة عن جسم خارج عن هذا البدن ، فهذا لم يقل به أحد (٣)] وأما القسم الأول : وهو أن نفس الإنسان عبارة عن هذا البدن المعين ، والهيكل المخصوص. فهو قول جمهور الخلق ، وهو المختار عند أكثر المتكلمين. وأما القسم الثاني : وهو أن الإنسان (٤) عبارة عن جسم مخصوص موجود في داخل هذا البدن. فالقائلون

__________________

(١) سقط (م)

(٢) جوهرا (ل)

(٣) من (طا) ، (ل)

(٤) لو عبر بكلمة النفس ، لكانت العبارة واضحة.

بهذا القول اختلفوا في تعيين نفس ذلك الجسم على وجوه :

الأول : قال بعضهم : إنه عبارة عن الأخلاط الأربعة التي يتولد منها هذا البدن.

والثاني : قال بعضهم : إنه هو الدم. وهذا الاختلاف مبني على أصل آخر ، وهو أن الأطباء اختلفوا. فقال كثير منهم : إن هذا البدن متولد من مجموع الأخلاط الأربعة. وقال قوم من المحققين : إنه متولد من الدم فقط ، ثم تولد من هذا الأصل : الاختلاف في أن الإنسان. هل هو عبارة عن مجموع الأخلاط الأربعة ، أو عن الدم؟

والقول الثالث : إنه عبارة عن الدم (١) اللطيف ، الذي يتولد من الجانب الأيسر من القلب ، وينفذ في الشريانات إلى سائر الأعضاء.

والقول الرابع : إنه هو الروح الذي يصعد من القلب إلى الدماغ ، ويتكيف بالكيفية الصالحة لقبول قوة الحفظ ، والفكر ، والذكر.

والقول الخامس : وهو قول «ابن الراوندي» ـ إنه جزء لا يتجزأ في القلب.

والقول السادس : وهو أنه جسم مخالف بالماهية للجسم ، الذي يتولد منه الأعضاء، وذلك الجسم جسم نوراني علوي خفيف ، حيّ لذاته ، متحرك ، ينفذ في جواهر الأعضاء ، ويسري فيها [سريان النار في الفحم (٢)] وسريان ماء الورد في الورد ، وسريان الدهن في السمسم. فما دامت هذه الأعضاء تبقى صالحة لقبول الآثار الفائضة عن هذا الجسم اللطيف الشريف ، وهو قوة الحس والحركة بالإرادة [بقي (٣)] مع ذلك الجسم ، مشابكا لهذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار الشريفة ، والقوى النورانية. وإذا فسدت هذه

__________________

(١) الدم (م) الروح (ل ، ط)

(٢) من (ل)

(٣) من (طا)

الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار (١) فارق الروح والبدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح. ثم قال أصحاب هذا القول : «هذا القول أولى من غيره ، لأنه لما لم يكن هذا الجسم من جنس الأجسام التي تولدت الأعضاء منها ، لا جرم صح القول بأنه لا يلزم من وقوع الذوبان والتحلل في البدن ، وقوع الذوبان والتحلل في هذا الجسم الشريف ، بل يكون باقيا بحالة واحدة من أول العمر إلى آخره. وأيضا : فلما كان جسما ، صح عليه المجيء والذهاب والرجوع. وآيات القرآن ناطقة بهذه الأحوال (٢) قال الله تعالى : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) (٣) وقال : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) (٤)

والقول السابع : إن الإنسان عبارة عن أجزاء أصلية باقية من أول العمر إلى آخره ، مصونة عن التبدل والتغير ، والفرق بين هذا القول وبين ما قبله :

أن في القول الذي قبله (٥) كان الجسم الذي هو عبارة عن النفس جسما مخالفا بالماهية للجسم الذي تولّد عنه البدن ، وفي هذا القول ليس كذلك.

والقول الثامن : إن الإنسان عبارة عن الأعضاء الرئيسية التي لا يمكن بقاء الحياة مع فقدانها.

فهذا كله تفصيل قول من يقول : إن الإنسان عبارة عن جسم مشابك لهذا البدن.

وأما القسم الثاني من الأقسام المذكورة في أول هذا التقسيم. وهو أن يقال : إن الإنسان عبارة عن [عرض حال في الجسم ، فهذا لا يقول به عاقل ، لأن كل إنسان يجد من نفسه علما ضروريا ، بأنه جوهر قائم بنفسه ،

__________________

(١) الأخلاط (م)

(٢) بذلك (م)

(٣) الأنعام ٦٢

(٤) الفجر ٢٧ ـ ٢٨

(٥) الأول (م)

غير حال في محل ، فمع هذا العلم ، يستحيل أن يقال : الإنسان عبارة عن عرض حال في جسم من الأجسام. وأما القسم الثالث وهو أن يقال : الإنسان عبارة عن (١)] جوهر مجرد، ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز. فهذا قول أكثر الحكماء الإلهيين ، وقال به قوم كثير من أهل الملة. أما من الشيعة فقد كان يقول بهذا القول «أبو سهل النوبختي» صاحب كتاب «الآراء والديانات» وكان يقول به «محمد بن النعمان» الملقب عندهم بالشيخ المفيد. وأما من المعتزلة ، فهو قول معمر بن عباد السلمي» وأتباعه [وأما من أهل السنة ، فكان الشيخ «أبو حامد الغزالي» جازما بهذا المذهب ، شديد الاعتقاد فيه (٢)] وأما أكثر المحققين من الصوفية فيقولون بهذا القول.

فإن قال قائل : أعرف المعارف ، وأظهر الظاهرات عند كل أحد : علمه بالشيء المشار إليه بقوله : أنا ، وهو نفسه المعينة ، وذاته المخصوصة ، ولما كان هذا أعرف المعلومات وأظهر المفهومات ، فكيف وقعت فيه هذه الاختلافات العظيمة ، والشبهات الغامضة؟ ورأيت في الرسالة الموسومة بالتفاحة. وهي الرسالة المشتملة على المباحثات التي جرت عند «أرسطاطاليس (٣)» عند قربه من الموت. فقيل له : كيف يعقل أن يسأل الإنسان غيره عن حال نفسه؟ فأجاب الحكيم : بأنه مثل سؤال المريض : الطبيب عن دائه ، وسؤال الأعمى من حوله : عن لونه.

وأقول : نحن نذكر تقرير هذا الإشكال كما ينبغي ، ثم نطلب الجواب عنه.

أما تقرير الإشكال فهو أن نقول : أعرف الأشياء للإنسان نفسه. والدليل عليه : أن علمه بغيره يتوقف على علمه بنفسه [فإني إذا قلت في شيء من الأشياء : إني أعرفه. فهذا حكم على نفسي بكونها عارفة بذلك الشيء (٤)]

__________________

(١) من (طا) ، (ل)

(٢) من (طا ، ل)

(٣) أرسطو (م)

(٤) من (طا ، ل)

وكل تصديق فهو مسبوق بتصوّر الطرفين. ينتج : إني كل ما حكمت على نفسي بأني أعرف شيئا من الأشياء ، فإن معرفة نفسي بنفسي ، سابقة على معرفة ذلك الحكم. فثبت : أن علمي [بنفسي ، سابق على علمي (١)] بكل ما يغايرني. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن علمي بنفسي ، أظهر من علمي بكل ما سواها. فلو توسلنا بمعرفة شيء آخر إلى معرفة النفس ، كان هذا من باب تعريف الأظهر الأجلى ، بالأعمق الأخفى. وإنه محال.

وأيضا : لما كان العلم بغير النفس ، مشروطا بالعلم بالنفس ، فلو كانت معرفة النفس مستفادة من شيء آخر ، لزم الدور. وهو محال.

والجواب : إن العلم بوجود النفس من حيث إنها شيء ما غير. والعلم بأنها ما هي على التفصيل والتعيين شيء آخر. والظاهر الجلي هو القسم الأول ، وهو غير المطلوب بالبرهان البتة.

وأما القسم الثاني فهو المطلوب بالبرهان [ومعرفة سائر الأشياء (٢)] غير موقوفة على معرفة النفس ، بحسب هذا الاعتبار (٣) فزال السؤال. فإن قال قائل : السؤال باق. وبيانه من وجهين :

الأول : وهو أن علمي بالحقيقة المخصوصة التي لي يمتنع أن يكون مستفادا من البرهان ، لأن البرهان عبارة عن إثبات الحد الأكبر [للحد الأصغر (٤)] بواسطة الحد الأوسط ، ويجب أن يكون ثبوت الحد الأكبر للحد الأوسط [وثبوت الحد الأوسط (٥)] للحد الأصغر ، أعرف من ثبوت الحد الأكبر للحد الأصغر ، إلا أن هذا المعنى في علم النفس بحقيقته نفسها : محال. لأن من المحال أن يحصل بين الشيء وبين حقيقته المخصوصة: متوسط يتوسط

__________________

(١) من (ل)

(٢) من (ل)

(٣) القسم (طا) ، (ل)

(٤) من (ل)

(٥) من (ل)

بينهما ، أو ثالث يتخللهما. وإذا كان حصول الحد الأوسط هاهنا ممتنعا : كان طلب هذا البحث ممتنعا.

وأيضا : فبتقدير أن يحصل بين الشيء وبين عين ذاته متوسطا ، إلا أنه من المحال أن يكون ثبوت ذلك المغاير لذلك الشيء ، أعرف من ثبوت ذاته لذاته.

فثبت بهذين الوجهين : أنه يمتنع أن يكون هذا المطلوب : مطلوبا بالدليل. فبقي فيه أحد الأمرين. إما أن يكون مأيوسا من إثباته مطلقا. وإما أن يكون معلوما بالضرورة. وأيضا : فإذا سلمتم أن علمي بأني موجود : علم ضروري. فقول القائل : أنا موجود : قضية. موضوعها : قولنا أنا. ومحمولها : قولنا موجود. والتصور سابق على التصديق ، فوجب أن يكون علمي بالمعنى المشار إليه بقولي : «أنا» : حاصلا. وذلك المعنى ليس إلا الماهية المخصوصة ، التي هي «أنا» وإذا كانت هذه الماهية المخصوصة معلومة ، من حيث إنها هي ، امتنع كونها مطلوبة بالبرهان. وأيضا : فالمشار إليه بقولي : «أنا» إما أن يكون [تمام تلك الماهية. وإما أن يكون جزء من أجزاء هذه الماهية. وإما أن يكون أمرا (١)] مغايرا لها خارجا عنها. فإن كان الأول ، كان العلم بماهية نفسي ، علما بديهيا ، فيمتنع كونه مطلوبا بالبرهان. وإن كان الثاني فهو باطل. لأنه يلزمه أن يكون المشار إليه بقولي : «أنا» : جزء من أجزاء ماهيتي. فيكون تمام حقيقة الشيء : جزءا من أجزاء حقيقته ، وهو محال.

وبهذا البيان : يظهر أن المشار إليه بقولي : «أنا» : يمتنع أن يكون خارجا عن الماهية لازما لها. وأيضا : فهب أن هذا القسم معقول في الجملة. إلا أني إن علمت كونه من لوازم نفسي ، كان العلم بنفسي سابقا على هذا العلم ، وإن لم أعلم كونه من لوازم نفسي ، كان علمي بنفسي ، علما بشيء مغاير لنفسي ، ولا تعلّق له بنفسي. وذلك محال.

__________________

(١) من (طا) ، (ل)

السؤال الثاني : إن مذهب الحكماء : أن علم الشيء بذاته ، هو نفسي ذاته.

وفي هذه الصورة يقولون : العقل والعاقل والمعقول : واحتجوا عليه : بأنه : لما ثبت أن تعقل الشيء عبارة عن صورة مساوية للمعقول في ذات العاقل. فنقول : علم الشيء بذاته. إما أن يكون صورة مغايرة لذاته ، حاصلة في ذاته. وإما أن يكون عين ذاته. والأول باطل. وإلا لزم اجتماع المثلين. وذلك محال. ولأن على هذا التقدير لم يكن أحدهما بالحالية ، والآخر بالمحلية أولى من العكس. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أن علم النفس بحقيقتها المخصوصة : عين ذاتها. ولما كانت [ذاتها (١)] حاضرة في جميع أوقات دوام تلك الذات ، وجب أن يكون علمها بذاتها المخصوصة ، دائما بدوام ذاتها. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون هذا العلم مطلوبا بالبرهان. لأن الحاصل لا يمكن تحصيله ثانيا.

فيثبت بهذه المباحث القوية : أن معرفة جوهر النفس يجب أن تكون معرفة بديهية أولية ، غنية عن [التعريف (٢)] والكسب والطلب. وأنتم قد جعلتموه من المباحث البرهانية ، فكان الإشكال لازما.

والجواب : إن المطلوب بالبرهان : هو أن جوهر النفس : جوهر ليس بمتحيز ، ولا حال في المتحيز. فالمطلوب بالبرهان هو هذا القيد السلبي ، والقيود السلبية أمور مغايرة للذات المخصوصة.

فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك ، إلا أن المقتضي لذلك السلب للخصوص هو تلك الحقيقة المخصوصة. فإذا كان العلم [بتلك الحقيقة المخصوصة حاصلا كان العلم (٣)] بعلة ذلك السلب حاصلا [والعلم بالعلة

__________________

(١) سقط (م)

(٢) سقط (ط) ، (ل)

(٣) من (طا) ، (ل)

يوجب العلم بالمعلول ، فوجب أن يكون العلم بذلك السلب حاصلا (١)] على سبيل الدوام. قلنا : السلب نفي محض ، فلا يمكن جعله من مقتضيات الماهية.

فإن قالوا : إذا كان الأمر (٢) كذلك ، امتنع كون الحد الأوسط موجبا له ، فوجب أن تتعذر معرفته بواسطة البرهان.

فنقول : الجواب الأولى هو أن يقال : إنا نجد بالضرورة اختلاف الناس في هذا المطلوب (٣) ونعلم بالضرورة أنه بحث غامض. فما ذكرتموه من السؤال تشكيك في البديهيات.

__________________

(١) سقط (م)

(٢) العقول (م)

(٣) القول والمطلوب (م)

الفصل الثاني

في

حكاية دلائل القائلين

بأن النفس يجب أن تكون جوهرا جسمانيا

وقبل الخوض في المقصود لا بد من تقديم مقدمة.

وهي : إن العلوم على قسمين : منها بديهية. ومنها : كسبية. والكسبيات موقوفة على البديهيات ، إذ لو كان كل علم كسبيا ، لزم إما الدور ، وإما التسلسل. وهما محالان. لأن الموقوف على المحال : محال.

فوجب أن لا يحصل شيء من العلوم أصلا. فثبت : أن القول بأن جميع العلوم كسبية ، يوجب القول بنفي العلوم أصلا ، وما أفضى إثباته إلى نفيه ، كان إثباته باطلا. فثبت : أن الاعتراف بحصول العلم ، يوجب الاعتراف بحصول العلم البديهي ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لا معنى للعلم البديهي ، إلا العلم الذي تحكم بصحته فطرة عقول العقلاء ، من غير حاجة فيه إلى بحث ونظر وتأمل.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : الذي يدل على أن النفس جسم مخصوص وجوه :

الحجة الأولى : إن العلم بصفات النفس : بديهي ، ومتى كان كذلك (١)

__________________

(١) ومتى كان العلم بالصفة بديهيا ، كان العلم بالذات بديهيا (ط).

كان العلم بالذات بديهيا ، وهذا يقتضي أن يكون علمنا بذاتنا المخصوصة علما بديهيا ، وإذا ثبت هذا وجب أن تكون ذاتنا عبارة عن هذا البدن. فهذه الحجة مبنية على مقدمات [ثلاث (١)] :

المقدمة الأولى : إن علمنا بصفات نفوسنا : علم بديهي. والذي يدل عليه : أني أعلم بالضرورة : أني (٢) أبصرت وسمعت وقلت وعرفت ، وتفكرت ، واشتهيت ، وغضبت [ودخلت الدار وخرجت وسافرت إلى البلدة الفلانية ورجعت منها (٣)] ومن نازع في كون هذه العلوم ، علوما بديهية ، فقد نازع في أجلى العلوم البديهية وأقواها. فثبت : أن علمنا بصفات أنفسنا : علم بديهي.

والمقدمة الثانية : وهي قولنا : إن العلم بصفة النفس إذا كان بديهيا ، كان العلم بذات النفس ، يجب أن يكون بديهيا. فالدليل عليه (٤) : أن علمي بأني أبصرت وسمعت وعقلت ونظرت : حكم على نفسي بثبوت هذه الصفات لها. والحاكم بشيء على شيء ، لا بد وأن يكون قد سبق له تصور الطرفين أولا ، فلو كان علمي بوجود نفسي علما كسبيا ، فقبل ذلك الكسب : أكون شاكا في وجود نفسي. ومن كان شاكا في وجود النفس يمتنع أن يكون عالما بحصول الصفات المخصوصة بها. ولما دللنا على أن هذا العلم علم بديهي ، وجب أن يكون العلم بوجود النفس بديهيا. وهذا هو المسألة المشهورة عند العقلاء بأنه متى كان العلم بصفة الشيء بديهيا ، وجب أن يكون العلم بأصل الذات بديهيا.

والمقدمة الثالثة : إنه لما ثبت : أن علم كل أحد بنفسه المخصوصة ، علم بديهي. وجب أن تكون النفس هو هذا البدن ، أو شيء داخل فيه. والدليل

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) بالضرورة عند قولي أنا أبصرت ... إلخ (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) على ذلك (م).

عليه : أن إثبات شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن : أمر استدلالي لا ضروري. وذلك مما لا نزاع فيه بين العقلاء. وعند هذا ينعقد قياس من الشكل الثاني. وهو أن يقال : نفس كل واحد : معلوم له بالبديهة. والشيء المجرد الذي لا يكون جسما ولا جسمانيا : غير معلوم بالبديهة. ينتج : أن النفس يمتنع أن تكون عبارة عن الموجود الذي ليس بجسم ولا بجسماني. وهو المطلوب.

الحجة الثانية لمنكري هذا الجوهر المجرد : إنه لو كانت النفس عبارة عن جوهر مجرد ، ليس بجسم ولا حال في الجسم ، لكان قول القائل : تحركت وسكنت ودخلت الدار وخرجت منها ، وذهبت إلى السوق ، ورجعت منه إلى المسجد. كل ذلك [يوجب أن (١)] تكون أقوالا باطلة. لأن هذه الصفات ممتنعة الثبوت في حق الجوهر المجرد عن الجسمية. إلا أن هذه الأقوال معلومة الصحة بالبديهة. لأن كل عاقل قبل خوضه في هذه المضائق يعلم بالضرورة صدق قوله : دخلت الدار ، وخرجت منها. كما يعلم صدق قوله : علمت كذا ، وفهمت كذا. فالقدح فيه يكون قدحا في أظهر البديهيات.

فإن قالوا : حاصل هذا الدليل يرجع إلى التمسك بألفاظ الناس وإطلاقهم ، والألفاظ تحتمل الحقيقة والمجاز. فلعل مرادهم بقولهم : دخلت الدار وخرجت منها : أن «بدني» دخل الدار ، وخرج منها. وعلى هذا التقدير تسقط هذه الحجة.

فنقول في الجواب : إنا لا نمسك باللفظ المحض الذي يحتمل الحقيقة والمجاز ، بل نتمسك بشهادة صريح عقل كل أحد : بأنه هو الذي دخل في الدار وخرج منها ، [فشهادة العقل بمعاني هذه الألفاظ غير ، وشهادة العقل بذكر هذه الألفاظ غير (٢)] واعتمادنا في هذه الحجة : على القضية العقلية المعنوية ، لا على مجرد الإطلاقات اللفظية.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (طا) ، (ل).

والدليل القاطع عليه : أنه إذا كان الإنسان عبارة عن جوهر النفس ، كان البدن مركبا له ، ومحلا لتصرفه. فكان دخول بدنه في الدار وخروجه منها ، جاريا مجرى دخول فرسه في الدار ، وخروجه منها. لكن كل عاقل يدرك تفرقة [بديهية (١)] بين قوله : دخلت في الدار وخرجت منها ، وبين قوله : دخل فرسي الدار ، وخرج منها.

ولما كان القول بأن النفس جوهر مجرد ، يوجب زوال هذه التفرقة المعلومة بالبديهة ، وجب أن يكون القول بإثبات النفس : باطلا.

الحجة الثالثة : لو كانت النفس عبارة عن جوهر مجرد ، له تعلق بهذا البدن بالتصرف والتدبير ، لم يبعد في أول (٢) العقل أن ينقطع تعلق هذه النفس بهذا البدن ، وتصير متعلقة بالبدن الثاني ، وبالعكس. وعلى هذا التقدير ، فإذا رأينا بدن «زيد» ثم رأيناه بعد ذلك وجب أن نبقى شاكين في أن هذا الإنسان. هل هو الإنسان الأول؟ لأن بتقدير أن يتبدل المدبر الأول لهذا البدن ، بمدبر آخر ، فقد تبدل ذلك الإنسان بغيره. كما أنا لما رأينا بيتا وجوزنا أن ملك ذلك البيت قد انتقل إلى مالك آخر ، فحينئذ لا نقطع عند رؤية ذلك البيت في المرة الثانية ، بأن مالكه هو المالك الأول. بل نبقى شاكين فيه. فكذا هاهنا وجب أن يبقى الشك في أن هذا الإنسان الذي نراه الآن ، هل هو الإنسان الذي رأيناه أولا؟

ولما لم يحصل هذا الشك لأحد من العقلاء ، وثبت : أن على تقدير أن يكون الإنسان شيئا آخر ، غير هذا البدن ، وجب حصول هذا الشك ، علمنا : أن القول بأن الإنسان شيء غير هذا البدن ، قول باطل.

فإن قالوا : التجويز الذي ذكرتم قائم على كل التقديرات ، لاحتمال أن الشخص الأول فني ، وحدث شخص آخر يساوي الأول في الصورة والخلقة.

__________________

(١) من (طا) ، (ل).

(٢) ثانيا (م).

إما بإيجاد الفاعل المختار ، وإما لأجل حدوث شكل غريب في الفلك ، اقتضى حدوث هذا المعنى.

فنقول : موضع الإلزام : إنا مع القطع بأن هذا الجسد [هو الجسد (١)] الذي رأيناه أولا لم يبق الشك في أن هذا الإنسان هو الإنسان الأول.

ومعلوم : أن السؤال المذكور ، لا يتوجه على هذا الكلام.

الحجة الرابعة : إن نفسي جوهر ، موصوف بأنه علم وتفكر وتذكر وأبصر وسمع وذاق وشم واشتهى وغضب وتحرك وسكن. ثم إن الموصوف بهذه الصفات ليس إلا هذه البنية (٢) أو ما يكون داخلا فيها فوجب أن تكون نفسي عبارة عن هذا البدن أو ما يكون داخلا فيه. ولا بد في تقرير هذه الحجة من تقرير أمرين :

الأول : إن نفسي عبارة عن الجوهر الموصوف بهذه الصفات. والدليل عليه : أني لا أشك أني إذا رأيت المبصرات ، فأنا أبصرتها. وإذا سمعت الحروف والأصوات ، فأنا سمعتها. لأن التاء في قولي أبصرتها وسمعت وفهمت وعرفت : ضمير النفس. ولا فرق بين قولك : أبصرت وسمعت ، وبين قولك : أنا موصوف بإبصار كذا ، وسماع كذا. ولما كانت بديهة العقل حاكمة بأني [أبصرت وسمعت ، كانت تلك البديهة حاكمة بأني أنا (٣)] الموصوف بهذه الصفات.

وأما الثاني : فهو في بيان أن الموصوف بهذه الصفات هو هذه البنية. فالدليل عليه : أني كما أعلم بالضرورة أن ذوق الطعام (٤) غير حاصل في أخمص الرجل ، وفي الساق.

__________________

(١) من (م).

(٢) إلا هذا البدن ، وهذه البنية ... إلخ (م).

(٣) المقدمة الأولى (م ، ط).

(٤) الأطعمة (م ، ط).

[اعلم بالضرورة : أن ذوق الطعام حاصل في اللسان (١)] وأن سماع الصوت حاصل بالأذن ، وكذا القول في سائر الإحساسات. وأيضا (٢) : الإنسان يعلم بالبديهة أنه يجد الفكر والتخيل من جانب الدماغ ، ويجد العلم والإدراك من ناحية القلب. وجميع هذه الشواهد دالة على أن هذه الإدراكات مختصة بهذه الأعضاء.

فثبت : أن جوهر النفس [جوهر مخصوص (٣)] موصوف بهذه الصفات ، وثبت : أن الموصوف بهذه الصفات : هو هذه الأعضاء ، فوجب القطع بأن جوهر النفس إما هذه البنية ، وإما أجسام سارية في هذه البنية مشابكة لها. مداخلة فيها (٤).

الحجة الخامسة : إن النفس لو كانت جوهرا مفارقا للبدن ، ولا تعلق لها بالبدن ، إلا تعلق التدبير والتصرف ، كتعلق الملاح بالسفينة ، والجمال بالمحمول ، فكما أن الملاح يمكنه أن يترك تدبير هذه السفينة ، ويشتغل بتدبير سفينة أخرى ، وجب أن تتمكن النفس من أن تترك تدبير هذا البدن ، وتشتغل بتدبير بدن آخر. يعني : أن مدبر هذا البدن ، ينتقل إلى تدبير ذلك البدن ، ومدبر ذلك البدن ينتقل إلى تدبير هذا البدن. ولما كان ذلك ممتنعا ، علمنا : أن النفس ليست إلا هذا البدن. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : هذه النفس لها عشق طبيعي ، وشوق ذاتي ، إلى تدبير هذا البدن ، فلهذا السبب يمتنع انتقالها إلى تدبير بدن آخر.

والجواب عن الأول : إن القول بالاتحاد باطل ، مشهور البطلان. لأنهما بعد الاتحاد إن بقيا (٥) معا. فهما اثنان لا واحد ، وإن عدما معا ، وحدث ثالث فهذا ليس من الاتحاد في شيء وإن بقي أحدهما وعدم الآخر. فهذا أيضا ليس

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) وأيضا : أعلم (م) ، (ط).

(٣) وكذلك (م ، ط).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) قيدا معا (ل). فنيا (طا).

باتحاد ، لأن الموجود ليس (١) نفس المعدوم. وأيضا : البدن جسم مركب من الأخلاط المتضادة ، والأجزاء المتكاثرة ، والنفس جوهر مجرد عن الحجمية والعرضية ، فكيف يعقل أن يصير أحدهما عين الآخر؟

والجواب عن الثاني : وهو قولكم : النفس المعينة لها عشق طبيعي ، وشوق ذاتي ، إلى تدبير هذا البدن. فنقول : هذا أيضا ضعيف. لأن عشق البدن (٢) لا يصح إلا [ممن يقدر (٣)] على الالتذاذ بالمحسوسات ، وإلا على الانتفاع بما في عالم الجسمانيات من المنافع والراحات. فأما أن تكون النفس عاشقة لهذه الآلهة بعينها ، مع أنه يمكنها تحصيل المقصود بسائر الآلات. فهذا محال. والدليل القاطع عليه : أن النفس متى جزمت وقطعت بأن تحصيل هذه اللذات والطيبات بهذا الطريق : ممكن. وبالطريق الثاني أيضا : ممكن. وأنه لا رجحان لأحد الطريقين على الثاني في كثرة الفوائد والمنافع. فههنا (٤) يمتنع أن يكون للنفس ميل إلى أحد الطريقين بعينه دون الثاني. فكذا هاهنا ، مطلوب النفس هو الانتفاع باللذات الجسمانية والراحات الشهوانية. ولما كانت الأبدان بأسرها متساوية في الإفضاء إلى هذا المطلوب ، وجب أن تكون نسبة النفس إليها بأسرها على السوية. ومتى كان الأمر كذلك ، كان قولهم : إن النفس المعينة عاشقة لهذا البدن المعين عشقا طبيعيا : قول (٥) باطل.

الحجة السادسة : إن علمي بنفسي أظهر العلوم وأقواها.

والدليل عليه : أن علمي بما يغاير نفسي ، تابع لعلمي بنفسي ، والتابع يمتنع أن يكون أقوى من المتبوع. وإذا ثبت هذا فنقول : لو كانت نفسي موجودا مجردا ، لا داخل العالم ، ولا خارج العالم ، ولا متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه.

__________________

(١) لا يكون (م).

(٢) النفس (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) فههنا يستحيل (م).

(٥) أمرا (ل).

[كما أن الباري سبحانه وتعالى ـ موجود (١)] لا داخل العالم ، ولا خارجا عنه ، ولا متصلا بالعالم ، ولا منفصلا عنه ، لكنت أعلم بالضرورة : أني موجود وموصوف بهذه الصفة. ومعلوم أن ذلك باطل. لأن كثيرا من العقلاء زعموا : أن إثبات هذا الموجود [بهذه الصفة (٢)] : محال في العقول ، حتى قالوا : إن إله العالم يجب أن يكون متحيزا ، ومختصا بالحيز والجهة.

وأما العقلاء الذين سلموا ثبوت هذا المعنى في حق الله تعالى ، فلم يخطر ببال أحد منهم : أنه في نفسه موصوف بهذه الصفة. فثبت : أن نفس الإنسان ، لو كان موصوفا بهذه الصفة ، لكان العلم بكونه كذلك ، علما ضروريا ، وثبت : أن التالي باطل ، فكان المقدم (٣) باطلا.

ولمجيب أن يجيب عنه ، فيقول : هذه القيود سلبية ، والعلم بالماهية ، مغاير للعلم بقيودها السلبية ، وغير موجب له.

الحجة السابعة : هذا الجسد محل للإدراكات الجزئية والكلية ، ومحل للقدرة على [الإدراكات (٤)] والتحريكات الإرادية. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون هذا الجسد وما فيه هو الإنسان. فهذه الحجة مبنية على مقدمات.

المقدمة الأولى : وهي [إن هذا الجزء محل للإدراكات. فالدليل عليه (٥)] أن هذا أن هذا الجسد. إما أن يقال : حصل فيه قوة شعور وإدراك ، أو لم يحصل فيه البتة قوة الشعور والإدراك.

والقسم الثاني : باطل. لأن كل جسم يكون خاليا عن قوة الشعور والإدراك ، يكون جمادا محضا ، فإنا لا نعقل بين الجماد وبين الحيوان : فرقا.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) سقط (ط) ، (ل).

(٣) فالمقدم باطل (م).

(٤) من (م).

(٥) سقط (طا ، ل).

إلا هذا المعنى ، وهو أن الجماد لا شعور له البتة ، ولا إدراك له البتة ، فلو كان جسم البدن خاليا عن الشعور والإدراك ، لكان جمادا محضا. لكنا نعلم بالضرورة : أن أبدان الحيوانات حال كونها أحياء ، ليست جمادات [محضة (١)] وكيف لا نقول ذلك ، وإن من وضع إصبعه على الجمر فإنه يحس بالألم في ذلك الموضع؟ ولو وضع إصبعه على الجمر ، فإنه يحس بنوع آخر من الألم في ذلك الموضع. فالقول بأن البدن جماد محض لا شعور فيه ، ولا إدراك : إنكار لأعظم البديهيات.

فثبت : أنه حصل في أبدان الحيوانات : قوة شعور وإحساس بالأشياء المخالفة [والموافقة (٢)] ولا نريد من قولنا : إن النفس مدركة للجزئيات إلا ذلك.

والمقدمة الثانية : في بيان أن هذا البدن مدرك للكليات. فنقول :

الدليل على صحة هذه المقدمة : إنا بينا : أن البدن مدرك للجزئيات ، وكل ما كان مدركا للجزئيات ، فإنه يجب أن يكون مدركا للكليات. والدليل عليه : إن هذا الألم عبارة عن الألم مع قيد كونه هذا ، ومدرك المركب ، لا بد وأن يكون مدركا لمفرداته ، لما ثبت في المنطق في باب الذاتي المقوم : إن تصور المركب ، مسبوق بتصور مفرداته. فثبت : أن مدرك هذا الألم مدرك للألم ، والألم ماهية كلية ، فثبت : أن مدرك الجزئيات ، يجب أن يكون مدركا للكليات. وأيضا : قد بينا أن البدن يبصر هذا الإنسان ، وهذا الإنسان عبارة عن الإنسان مع قيد كونه هذا. فمبصر هذا الإنسان يجب أن يكون قد أبصر الإنسان. وأبصر كونه هذا. لكن الإنسان من حيث إنه إنسان ماهية كلية. فالقوة الباصرة قد أدركت الماهية الكلية.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن القوة الباصرة لما أدركت هذا الإنسان ، فهي ما أدركت إلا مجرد كونه هذا ، فأما الإنسان فهو غير مبصر.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

وأيضا : فهب أن القوة الباصرة أدركت الإنسان إلا أن الإنسان من حيث إنه إنسان ، لا كلي ولا جزئي ، ولكنه إنسان [فقط (١)] فلا يلزم منه أن تكون القوة الباصرة مدركة للكليات.

فنجيب عن الأوّل : بأنا إذا أدركنا هذا السواد وهذا البياض. فإما أن يكون المرئي ، مجرد كون هذا : هذا. وذاك : ذاك. من غير أن تتعلق القوة الباصرة بماهية السواد والبياض ، وإما أن يكون المرئي مجموع كونه هذا ، مع كونه سوادا ، أو مجموع كونه ذاك بياضا. أما الأول فباطل لوجوه :

أحدها : إنا قد دللنا على أن التعين قيد عدمي ، فيمتنع كونه مرئيا.

وثانيها : إن بتقدير أن يكون [التعين أمرا ثابتا ، فإن تعين هذا وتعين ذاك. كل واحد منهما يتشاركان في كونه تعينا (٢)] فهذا التعين وذلك التعين شخصان داخلان تحت نوع واحد ، ولا مخالفة بينهما في الماهية أصلا. فإذا أحسسنا بهذا السواد وهذا البياض ، وفرضنا أن المحسوس ليس إلا مجرد كونه هذا وذاك ، وثبت أن مجرد كونه هذا وذاك شخصان داخلان تحت نوع واحد وأنه لا مخالفة بينهما في الماهية ، فحينئذ يلزم أن لا يحس من طريق الإبصار بكون السواد والبياض متخالفين. ولما كان ذلك باطلا بالبديهة ، علمنا : أنه ليس المحسوس بحس البصر ، هو مجرد كونه هذا وذاك ، بل كونه سوادا أو بياضا [أيضا محسوس بحس البصر (٣)].

وثالثها : إن بتقدير أن يكون التعين أمرا ثابتا ، وأن يكون المحسوس هو التعين. إلا أن التعين أيضا ماهية كلية ، فيكون المحسوس [بالبصر أيضا أمرا كليا. إلا أن يقال : المحسوس (٤)] ليس هو التعين بل تعين التعين. ثم يعود الكلام [الأول (٥)] فيه ، ويلزم التسلسل.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (طا) ل.

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) من (م).

فثبت بهذه الوجوه : إنا إذا أحسسنا بهذا السواد وبهذا البياض ، فقد حصل الإحساس بالسواد والبياض.

وأما السؤال الثاني ، وهو قوله : «هب أنا أدركنا السواد بحس البصر ، لكن لم قلتم : إنا أدركنا بحس البصر السواد من حيث إنه كلي»؟

فجوابه : إنا قد بينا في المنطق : أن الكلي قد يراد به الكلي المنطقي ، وهو نفس الكلية ، وقد يراد به [الكلي (١)] العقلي وهو مجموع الماهية [مع قيد كونها كلية. وقد يراد به الكلي الطبيعي ، وهي تلك الماهية (٢)] التي يمكن أن يحكم العقل عليها ، بكونها كلية. وكلامنا في هذا المقام في بيان أن الكلي الطبيعي مدرك بالقوة الحساسة. أما الكلي المنطقي والعقلي فلا حاجة إلى ذكر هما في هذا الباب. ثبت بما ذكرنا : إن النفس مدركة للجزئيات ، وكل ما كان مدركا للجزئيات ، فإنه يجب أن يكون مدركا للكليات الطبيعية.

وأما المقدمة الثالثة : فهي في بيان أن البدن موصوف بالقدرة على التحريكات الإرادية (٣). والدليل عليه : أن المحرك بالإرادة هو الذي يحرك بواسطة القصد والاختيار. واختيار الشيء مشروط بإدراك ماهيته ، فإن ما لا يكون متصورا ولا مشعورا به ، فإنه يمتنع القصد إلى تكوينه. فثبت : أن الفاعل المختار يجب أن يكون مدركا. فلما كان البدن هو المدرك ، وجب أن يكون الفاعل المختار : هو البدن ، أو شيء موجود في البدن.

وأما المقدمة الرابعة : وهي أنه لما ثبت أن البدن موصوف بالإدراكات الجزئية ، والإدراكات الكلية ، وبالحركات الإرادية ، كان جوهر البدن موصوفا بمجموع هذه الصفات. ولا معنى للإنسان إلا الجوهر الموصوف بهذه الصفات وذلك يوجب القطع بأن الإنسان هو البدن أو جسم موجود فيه وإذا ثبت هذا

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) بالقوة على التحريك الإرادي (ط).

فلو فرضنا جوهرا مجردا مفارقا لهذا البدن ، لكان ذلك الشيء موجودا مغايرا للإنسان. فيكون الإنسان هو هذا البدن الموصوف بهذه الإدراكات الجزئية والكلية [والحركات الإرادية (١)] وهذا بحث نفيس.

الحجة الثامنة للقائلين بأن النفس جسم : لهم (٢) أن يقولوا : لو كانت النفس جوهرا مجردا عن الحجمية والتحيز ، لامتنع أن يتوقف فعلها على مماسة محل الفعل. لأن ما لا يكون متحيزا ، امتنع أن يصير مماسا للمتحيز. وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ يكون فعلها على سبيل الاختراع من غير حاجة إلى حصول مماسة وملاقاة بين الفاعل وبين محل الفعل. ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقدر الواحد منا على تحريك الأجسام ، من غير أن يماسها ، ومن غير أن يماس شيئا يماسها. وذلك لأن جوهر النفس ، لما كانت قادرة على تحريك البدن من غير حصول مماسة بينها وبين ذلك البدن ، علمنا : أن جوهر النفس قادر على تحريك الجسم من غير واسطة المماسة. وسائر الأجسام قابلة للحركة ، ونسبة جوهر النفس إلى كل الأجسام على السوية ، فلما قدرت النفس على تحريك بعضها من غير المماسة وجب حصول قدرتها على تحريك البقية من غير المماسة ، ولما كان ذلك باطلا [بالبديهة (٣)] علمنا : أن النفس لا تقوى على التحريك ، إلا بشرط أن تماس ما يماسه. وكل ما كان مماسا لشيء من الأجسام ، فهو متحيز. فوجب أن يكون النفس جوهرا متحيزا. وهو المطلوب.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : أن تأثير النفس في تحريك بدنها الخاص ، غير مشروط بالمماسة. وتأثيرها في تحريك الأجسام موقوف على حصول المماسة بين بدنها وبين تلك الأجسام؟ فإنكم ما لم تبطلوا هذا الاحتمال ، لا يتم دليلكم.

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) هي أن نقول (ل).

(٣) سقط (ط).

والجواب : إنه لما كان قبول البدن لتصرفات النفس ، لا يتوقف على حصول المماسة بين النفس وبين البدن ، وجب أن يكون الحال كذلك في تحريك سائر الأجسام. لأن جميع الأجسام متساوية في قبول الحركة (١) ونسبة النفس : إلى جميعها على السوية. لأن النفس إذا كانت مجردة عن الحجمية وعلائق الحجمية ، كانت نسبة ذاتها إلى الكل على السوية [ومتى كانت ذات الفاعل بالنسبة إلى الكل على السوية (٢)] وذات جميع القوابل بالنسبة إلى ذات الفاعل بالسوية ، وجب أن يكون التأثير بالنسبة إلى الكل على السوية ، فإذا استغنى الفاعل في الفعل عن مماسة محل الفعل في حق البعض ، وجب أن يكون الحال كذلك [في حق الكل وإن افتقر إلى المماسة في حق البعض ، وجب أن يفتقر إليها في حق الكل (٣)].

وأقصى ما في الباب أن يقال : النفس كالعاشقة لهذا البدن ، إلا أن هذا العشق الشديد يقتضي أن يكون تعلقها بهذا البدن أكثر ، وأن يكون تصرفها في هذا البدن أكثر. فأما أن يتغير مقتضى ذاتها بالنسبة إلى هذه الأجسام. فذاك محال. وهذا برهان يفيد اليقين في هذا المطلوب.

الحجة التاسعة : الحكماء اتفقوا على أن حد الإنسان ، هو أنه جوهر جسماني ، مغتذ ، نامي مولد حساس ، متحرك بالإرادة ، ناطق. فالجوهر الجسماني هو الذات وكونه مغتذيا ، ناميا مولدا ، حساسا ، متحركا بالإرادة ، ناطقا : صفات ستة. وهي صفات الجوهر الجسماني ، فيجب أن يكون الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بهذه الصفات ، فالقول : بأن الإنسان جوهر مجرد موصوف بهذه الصفات مناقض لهذا الكلام.

فإن قالوا : نسلم أن الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بهذه الصفات ، إلا أنا نثبت جوهرا مجردا ، يدبر الجسم الموصوف بهذه الصفات. قلنا : فذلك

__________________

(١) الأثر (م ، ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ل).

الجوهر المجرد منفصل عن الجسم الموصوف بالصفات المذكورة ، فيرجع كلامكم إلى أنكم أثبتم للإنسان مدبرا. وكلامنا الآن ليس إلا في البحث عن حقيقة الإنسان ، لا في البحث عن مدبر الإنسان ، فإن عندنا مدبر الإنسان ومدبر جميع العالم هو الله سبحانه وتعالى.

الحجة العاشرة : وهي الحجة التي عليها تعويل المتكلمين. إن كل عاقل إذا قلت له : ما الإنسان؟ وما حقيقته؟ فإنه يشير إلى هذا الهيكل المخصوص ، وهذه البنية المخصوصة. ولو قلت له : الإنسان شيء آخر سوى هذه البنية. فإن جمهور العقلاء ببدائه عقولهم يكذبونه.

وأيضا : أوائل العقول قاضية بأن الخطاب متوجه إلى هذه البنية والثواب والعقاب متوجه إليها والذم والترهيب متوجه إلى هذه البنية. ولو أن رجلا قال : المأمور والمنهي : شيء آخر ، مغاير لهذه البنية. لرأيت العقلاء بأسرهم مطبقين على تكذيبه. وكل ما شهدت بدائه العقول ، وصرائح الأذهان ببطلانه ، كان بطلانه بديهيا أوليا. فثبت : أن العلم بأن الإنسان هو هذه البنية المشاهدة ، وهذا الهيكل المخصوص : علم بديهي. فكان القدح فيه باطلا. فهذه جملة دلائل [نقاة (١)] النفس الناطقة [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) سقط (طا ، ل). والمراد : دلائل نفي كون النفس جسما ، لا جوهرا مجردا. مثل الروح.

(٢) من (م).

الفصل الثالث

في

حكاية الحجة التي هي

أقوى الوجوه في اثبات تجرد النفس

نقول : إنه حصل في الوجود موجودات غير قابلة للقسمة ، فوجب أن يكون العلم بها ، غير قابل للقسمة ، فوجب أن يكون الموصوف بذلك العلم : غير قابل للقسمة. وكل متحيز ، وكل حال في المتحيز : منقسم. فوجب أن يكون الموصوف بتلك العلوم : غير متحيز ولا حال في المتحيز.

واعلم : أن هذا الدليل مبني على أربع مقدمات :

المقدمة الأولى : في بيان أنه حصل في الوجود موجودات ، لا تقبل القسمة. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن واجب الوجود لذاته ، غير قابل للقسمة بوجه من الوجوه ، لا القسمة المقدارية ، ولا القسمة العقلية ، الحاصلة من الجنس والفصل ، ولا القسمة [العقلية (١)] الحاصلة من المادة والصورة ، لأن كل منقسم فهو يحتاج إلى جزئه ، [وجزؤه غيره. فكل منقسم فهو محتاج إلى غيره (٢)] وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته [فكل منقسم فهو ممكن لذاته (٣)] فيلزم أن كل ما يكون

__________________

(١) من (ل)

(٢) سقط (م)

(٣) من (ط ، ل)

ممكنا لذاته ، فإنه يكون منزها عن التأليف والتركيب ، فيكون فردا محضا.

الثاني : إن النقطة يمتنع كونها منقسمة. وقد ذكرنا في المسألة المشتملة على إثبات الجوهر الفرد : وجوها كثيرة في تقرير هذا المطلوب. ومن جملتها : أن النقطة نهاية للخط ، فلو كانت النقطة منقسمة ، لم يكن كل واحد من نصفها نهاية للخط. وهذا يلزمه أن كل ما كان نهاية للخط ، يمتنع أن يكون منقسما.

الثالث : إن الوحدة أبعد الأشياء عن طبائع الكثرة. فالوحدة إن كانت موجودة فهو المطلوب ، وإن لم تكن موجودة كانت الكثرة موجودة [لكن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات فمتى كانت الكثرة موجودة كانت الوحدة موجودة (١)] فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بوجود الوحدة على كل حال.

الرابع : لا شك أن في الوجود ماهيات موجودة ، فهذه الماهيات إما أن تكون بسيطة أو مركبة. فإن كانت بسيطة مفردة فهو المطلوب وإن كانت مركبة وكل مركب فإنما يتركب عن البسائط. فعلى جميع التقديرات لا بد من الاعتراف بوجود ماهية بسيطة مفردة عن جميع جهات التركيب.

فثبت بهذه الوجوه الأربعة : أنه قد حصل في الوجود موجودات لا تقبل القسمة.

وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أنه إذا كان المعلوم غير منقسم ، كان العلم المتعلق به غير قابل للقسمة. فنقول : الدليل عليه : هو أن ذلك العلم ، لو انقسم ، لكان كل واحد من جزئياته ، إما أن يكون علما بذلك المعلوم أو يكون علما بجزء ذلك المعلوم ، أو لا يكون علما بذلك المعلوم ولا بشيء من أجزائه ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بكون ذلك العلم قابلا للقسمة.

أما أنه يمتنع أن يكون جزء ذلك العلم : علما بذلك المعلوم. فبيانه من وجهين (٢) :

__________________

(١) سقط (م)

(٢) وجوه [الأصل]

الأول : إنه يلزم أن يكون الجزء مساويا للكل ، وذلك محال. لأنه إذا كان كل ذلك العلم علما بذلك المعلوم وأحد أجزاء ذلك العلم يكون أيضا علما بذلك المعلوم ، فحينئذ يلزم كون الجزء مساويا للكل من كل الوجوه ، وهو محال. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون الكل مساويا للجزء في بعض الأحوال ، وإن كان مخالفا له من سائر الوجوه؟

قلنا : العلم بالشيء لا حقيقة له ولا ماهية له ، سوى كونه علما بذلك المعلوم ، وكل ما سوى هذا الاعتبار ، فإنه يكون خارجا عن ماهية كونه علما ، فإذا كان لا ماهية للعلم إلا هذا القدر. ثم قلنا : إن هذا القدر وقع الاشتراك فيه بين كل العلم ، وبين جزئه ، فحينئذ يلزم كون الجزء مساويا للكل من كل الوجوه ، وهو محال.

الثاني : وهو أنه إذا كان كل ذلك العلم علما بذلك المعلوم [وكان كل واحد من أجزاء ذلك العلم أيضا ، علما بذلك المعلوم ، فحينئذ يكون الموصوف بذلك عالما بذلك المعلوم (١)] لا مرة واحدة ، بل مرارا كثيرة. وذلك باطل.

الثالث : وهو أنا إذا فرضنا أن كل واحد من أجزاء ذلك العلم ، كان علما بذلك المعلوم ، فهل تنتهي تلك الأجزاء إلى جزء لا يقبل القسمة ، أو لا ينتهي إلى ذلك؟ فإن كان الأول فذلك الجزء من العلم ، علم بذلك المعلوم ، مع أنه لا يقبل القسمة. فقد وجدنا علما لا يقبل القسمة. وهو المطلوب. وإن كان الثاني فحينئذ يلزم أن يحصل لذلك العلم أجزاء لا نهاية لها ، لا مرة واحدة بل مرارا لا نهاية لها. وهو محال. وعلى تقدير تسليمه ، فالمقصود حاصل. لأن الكثرة عبارة عن اجتماع الوحدات ، فما لم تحصل الوحدة لم يحصل اجتماعها ، وحينئذ يحصل المقصود.

وأما القسم الثاني من الأقسام المذكورة في أول الدليل : وهو أن كل واحد

__________________

(١) سقط (ط)

من أجزاء ذلك العلم يكون علما بجزء من أجزاء ذلك المعلوم. فهذا أيضا : باطل. لأن هذا إنما يعقل : إذا كان المعلوم منقسما. وكلامنا في المعلوم الذي لا يقبل القسمة.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : كل واحد من أجزاء ذلك العلم ، لا يكون [علما بنفس (١)] ذلك المعلوم ولا شيء من أجزائه [علما بذلك المعلوم (٢)]

فنقول : إن تلك الأجزاء إذا اجتمعت. فهل حدث عن اجتماعها أمر زائد على تلك الأجزاء ، أو لم يحدث؟ فإن لم يحدث أمر زائد ، كان الحاصل هناك أمورا ليست [علما بذلك المعلوم ولا بشيء من أجزائه. فيلزم أن يقال : العلم بالشيء : ليس (٣)] علما به. هذا خلف. وإن حدث أمر زائد. فذلك الزائد إن قبل القسمة ، عاد التقسيم الأول فيه. وإن لم يقبل القسمة فهو علم لا يقبل القسمة. وذلك هو المطلوب [فثبت بما ذكرنا : أنه متى كان المعلوم غير منقسم ، وجب أن يكون العلم به غير منقسم. وهو المطلوب (٤)].

المقدمة الثالثة في بيان أنه متى كان العلم غير منقسم كان الموصوف بذلك العلم غير منقسم : فنقول : الذي يدل عليه : أن ذلك الموصوف ، إذا كان منقسما ، افترض فيه أجزاء وأقسام. وكل واحد من تلك الأجسام ، إما أن يكون موصوفا بكل ذلك العلم ، أو بجزء من أجزائه ، أو لا بكله ولا ببعضه. والأول : محال ، وإلا لزم حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة. والثاني : محال ، وإلا لزم أن يكون ذلك العلم منقسما. وقد فرضناه غير منقسم ، هذا خلف. والثالث : محال ، لأنه إذا كان كل واحد من أجزاء ذلك المحل : خاليا عن ذلك العلم [وعن جميع أجزائه يلزم كون ذلك المحل خاليا عن كل ذلك العلم (٥)] مع أنا فرضناه موصوفا به. هذا خلف.

__________________

(١) : سقط (ل).

(٢) سقط (ط)

(٣) سقط (طا)

(٤) سقط (ط)

(٥) سقط (ط)

فإن قيل : أليس أن مذهب الفلاسفة : أن الجسم البسيط ، إذا خلا عن التقطيع ، وعن اختلاف العرضين ، وعن الوهم ، فإنه يكون في نفسه واحدا على سبيل الحقيقة ، ولا يكون فيه تركيب أصلا ، ولا يلزم من كونه قابلا للقسمة حصول القسمة فيه ، كما أنه لا يلزم من كون الجسم قابلا للسواد ، أن يكون أسود؟

وإذا كان كذلك ، فهذا الجسم في نفسه شيء واحد ، وليس له من الأبعاض والأقسام [شيء (١)] وإذا كان كذلك ، فههنا يمتنع أن يقال : الحال في كل واحد من أقسامه : إما كل ذلك العلم ، أو بعضه. لأن هذا الكلام إنما يصح ، لو حصل ذلك الجسم أبعاض وأقسام. أما لما كان في نفسه شيئا واحدا ، ولم يحصل له أبعاض وأقسام البتة [لم يصح (٢)] هذا الكلام.

السؤال الثاني : هب أن ذلك الجسم ، حصلت له أبعاض وأقسام. فلم لا يجوز أن يقال : كل واحد من أبعاضه خالي عن كل ذلك العلم وعن بعضه؟ قوله : «لو كان كذلك ، لامتنع أن يكون كل ذلك الجسم موصوفا بذلك العلم» قلنا : ما الدليل على أنه لما خلا كل واحد من أجزاء ذلك الموصوف عن كل تلك الصفة وعن بعضها ، وجب خلو ذلك الموصوف عن كل تلك الصفة؟ وذلك لأن الكل من حيث هو كل ، مغاير لكل واحد من أجزائه خلا عن كل تلك الصفة وعن بعضها ، فلا يلزم من هذا ، وجوب خلو [كل (٣)] تلك الذات عن كل تلك الصفة؟

والجواب عن السؤال الأول : إن الجسم البسيط ، وإن كان واحدا في نفسه ، إلا أن حصول الانقسام فيه أمر ممكن. وكل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه : محال. فإذا فرض ذلك الانقسام واقعا ، امتنع أن يلزم منه

__________________

(١) من (م)

(٢) لم يحصل (طا ، ل)

(٣) من (ط)

محال. ولما لزم المحال ، علمنا : أنه إنما لزم لا من هذا الغرض ، وإنما لزم من قيام الصفة التي لا تقبل القسمة بالمحل ، الذي يقبل القسمة ، فوجب أن يكون هذا الغرض محالا.

وأما السؤال الثاني. فجوابه : إنا ندعي العلم البديهي بأنه متى كان جميع أجزاء الذات خاليا عن كل الصفة ، وعن كل واحد من أجزاء تلك الصفة ، امتنع بعد كون تلك الذات موصوفة بتلك الصفة.

وأما المقدمة الرابعة : فهق في بيان أن كل متحيز فهو منقسم. وهذا بناء على نفي الجوهر الفرد. والكلام فيه معلوم.

وإذا ظهرت هذه المقدمات الأربعة ، ظهر أن محل هذه العلوم جوهر ليس بجسم ولا بجسماني. وهو المطلوب.

واعلم : أن هذا الدليل ذكره الشيخ الرئيس «أبو علي» في جميع كتبه ، إلا أنه ما ذكره على هذا الترتيب ، ولم يقرره بهذه الوجوه. وسنحكي كلامه في تقرير هذه الوجوه (١) ومن أنصف : علم أن هذا البيان أكمل وأتم.

ثم نقول : الاعتراض على هذا الدليل من وجوه :

[الأول : إن هذا الدليل بناء على نفي الجوهر الفرد والكلام فيه معلوم.

والثاني : لم قلتم : إن الحال في المنقسم : منقسم. والذي يدل على صحته وجوه(٢):]

الحجة الأولى (٣) : إن النقطة شيء مشار إليه ، لا يقبل القسمة. فهو إمّا أن يكون جوهرا ، وإما أن يكون عرضا. فإن كان جوهرا فقد ثبت الجوهر

__________________

(١) هذا الدليل (م ، ط)

(٢) من (طا ، ل)

(٣) الأول [الأصل]

الفرد ، وبطل هذا الدليل. وإن كان عرضا ، عاد الكلام فيه ، ويلزم إما إثبات الجوهر الفرد ، وإما حلول ما لا ينقسم في محل منقسم. وعلى كلا التقديرين ، يبطل دليلكم بالكلية.

فإن قالوا : الكلام فيه من وجوه :

الأول : إن النقطة وجودها في الوهم ، لا في الأعيان.

الثاني : إن النقطة عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الخط عبارة عن عدمه وفنائه ، وذلك عدم محض.

الثالث : إن النقطة طرف ، والطرف لا يكون ساريا في ذي (١) الطرف ، ولا شائعا فيه. وأما العلم فبتقدير أن يكون صفة للجسم ، فإنه يجب أن يكون ساريا فيه. لأنه [يلزم عليه (٢)] إن لم يكن ساريا فيه ، كان إما طرفا ، وإما حالا في الطرف. لا جائز أن يكون طرفا. لأن الطرف هو النقطة. والعلم ليس بنقطة. ولا جائز أن يكون حالا في الطرف ، الذي هو النقطة. لوجهين :

الأول : إن النقطة موجود لا يقبل القسمة فيمتنع أن تختلف أحواله بحسب اختلاف أحوال المزاج. وإذا ثبت هذا فنقول : طبيعة النقطة [إن كانت (٣)] مستعدة لقبول العلم ، فوجب أن تكون كل نقطة موصوفة بالعلم ، لأن الفيض عام ، فإن كان القابل مستعدا ، وجب عموم الفيض.

الثاني : إن النقطة طرف الخط ، فلا يحل فيه طرف ما كان حاصلا في الطرف (٤) حتى يكون الحال في مقابلة المحل ، ويكون طرف الحال في مقابلة طرف المحل. والجواب :

أما السؤال الأول : وهو قوله : «النقطة لا وجود لها إلا في الوهم»

__________________

(١) ذلك (ط)

(٢) من (م)

(٣) من (م)

(٤) الخط (م)

فكلام باطل. لأن الجسم متناهي في الخارج ، ونهايته هو السطح ، فوجب أن يكون السطح موجودا في الخارج. والسطح متناه الخط ، ونهايته الخط ، والخط موجود في الخارج فنهايته موجودة في الخارج [فالنقطة موجودة في الخارج] (١)

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «النقطة عبارة عن نهاية الخط ، ونهاية الشيء عبارة عن عدمه» فنقول : إن الخط يلاقي بطرفه خطا آخر ، فلو كانت النقطة عدما ، لكان محل الملاقاة عدما محضا. وإنه باطل.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «النقطة غير سارية في الجسم» فنقول : لم لا يجوز أيضا : أن يكون العلم حالا في المحل ، لا على وجه الشيوع. والسريان؟ قوله : «العرض الذي لا يكون ساريا في الجسم : إما النقطة ، وإما الحال في النقطة» قلنا : هذا الحصر ممنوع. فلم لا يجوز إثبات أعراض غير سارية في الجسم مع أنها لا تكون نقطة ولا حالة في النقطة؟ وهذا الحصر ليس لهم في إثباته شبهة ، فضلا عن حجة. ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون محل هذه العلوم هو النقطة؟

أما قوله أولا : «إن النقطة يمتنع أن يختلف حالها في القبول وعدم القبول ، بسبب اختلاف الاستعدادات» قلنا : لم لا يجوز أن يكون شرط كون تلك النقطة قابلة للعلم المخصوص : حصول استعداد مخصوص في الجسم الذي تكون تلك النقطة حالة فيه؟ وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، سقط كلامكم.

وأما قوله ثانيا : «إنه لا يحل في طرف المحل إلا طرف الحال» قلنا : هذا تحكم ولا بد فيه من الدليل. فهذا تمام الكلام في سؤال النقطة.

الحجة الثانية في بيان أنه لا يلزم من انقسام المحل انقسام الحال : هو أن الوحدة حاصلة. فهذه الوحدة إما أن تكون جوهرا أو عرضا ، فإن كانت

__________________

(١) من (ط)

[جوهرا (١)] فقد ثبت الجوهر [الفرد (٢)] وإن كانت عرضا وجب أن يكون له محل. فمحلها إن كان منقسما فقد جوزتم قيام غير المنقسم بالمنقسم ، وإن كان غير منقسم فهو الجوهر الفرد ، وعلى جميع التقديرات ، يبطل دليلكم. فإن قالوا : الوحدة طبيعة عدمية ، وهي عبارة عن عدم الكثرة. فنقول : [هذا باطل (٣)] لأن الكثرة إما أن تكون طبيعة وجودية ، أو عدمية. لا جائز أن تكون وجودية ، لأن الكثرة عبارة عن مجموع الوحدات. فإذا كانت الوحدة عدمية ، كانت الكثرة عبارة عن مجموع العدمات ومجموع العدمات لا يكون موجودا. وإن كانت الكثرة عدما والوحدة عبارة عن عدم الكثرة ، فحينئذ تكون الوحدة عدما للعدم ، فتكون أمرا موجودا. فسقط ما قالوه.

الحجة الثالثة : إن الإضافات عارضة للأجسام. مثل الفوقية والتحتية والمالكية والمملوكية. فلو انقسم الحال لانقسام محله ، لزم كون الإضافات منقسمة ، وذلك محال. لأنه يلزم أن يحصل للفوقية والتحتية نصف وثلث وربع. وذلك مما لا يقبله العقل.

الحجة الرابعة : إن القوة الوهمية والقوة المفكرة : قوى جسمانية ، عند «الشيخ» فيجب (٤) أن تحصل للقوة الوهمية والفكرية أجزاء وأبعاض ، وذلك محال. لأنها لو انقسمت ، لكان كل واحد من أبعاضها ، إما أن يكون وهما ، وحينئذ يكون الجزء مساويا للكل ، وهو محال. أو يكون بعض الوهم. لكن الوهم لا معنى له إلا الحكم. بكون هذا صديقا ، وكون ذاك عدوا. وهذا الحكم لا يقبل القسمة البتة. أو لا يكون وهما لكل ذلك الشيء ولا لبعضه ، وحينئذ يبطل هذا القسم بعين ما أبطلتم مثله في القوة العقلية.

الحجة الخامسة : الوجود صفة عارضة للماهيات ، فإذا أشرنا إلى جسم

__________________

(١) سقط (طا)

(٢) سقط (م)

(٣) سقط (طا)

(٤) فيلزم (م)

معين ، وقلنا : إنه موجود ، فيجب أن يكون الوجود صفة قائمة به [فلو لزم انقسام الحال لانقسام المحل ، لزم أن يكون ذلك الوجود منقسما (١)] وذلك محال. لأن كل واحد من أجزاء الوجود. إن كان وجودا ، لزم كون الجزء مساويا للكل ، وهو محال. وإن كان كل واحد من أجزاء الوجود ليس بوجود ، فهذا محال لوجهين :

الأول : إن تلك الأجزاء عند اجتماعها ، إن لم تحدث هناك هيئة زائدة ، لزم أن يكون الوجود حاصلا ، وإن حصلت هيئة زائدة ، فتلك الهيئة الزائدة ، إما أن يكون وجودا ، وإما أن لا يكون. وإن لم ينقسم ، فحينئذ لم يلزم من انقسام المحل انقسام الحال. وهو المطلوب.

الثاني : إن كل واحد من أجزاء الوجود ، إذا لم يكن وجودا ، لزم أن يقال : كل واحد من أجزاء الجسم المنقسم ، فهو غير موصوف بالوجود ، فوجب أن تكون (٢) تلك الأجزاء [غير (٣)] موجودة ، فجزء الجسم الموجود يجب أن لا يكون موجودا. وذلك محال.

الحجة السادسة : إن طباع الأعداد ماهيات مختلفة. فكون الشيء : عشرة : عرض ، وكونه تسعة : عرض آخر. وهذان العرضان : [نوعان (٤)] مختلفان بالماهية ، داخلان تحت جنس الكم المنفصل.

إذا عرفت هذا فنقول : المفهوم من كون العشرة : عشرة : مفهوم واحد ، وماهية واحدة. فتلك الماهية الواحدة ، إما أن تكون عارضة لكل واحد من تلك الآحاد ، وإما أن تنقسم بحسب انقسام تلك الآحاد. والأول محال. وإلا لزم أن يكون كل واحد من تلك الآحاد ، موصوفا بأنه عشرة. وذلك محال ، وأنه يلزم قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة. وهو محال.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل) وفي (م) ذلك الوجود صفة. وفي (ط).

(٢) أن لا تكون (م)

(٣) سقط (م ، ط)

(٤) سقط (ل ، طا)

والثاني أيضا : محال لأن المفهوم من كون العشرة عشرة ، لا يقبل القسمة [نعم العشرة تقبل القسمة (١)] أما مجرد العشرية فإنها لا تقبل القسمة البتة. فإن نازع الخصم فيه فنقول : لو انقسمت العشرية (٢) لكان كل واحد من أجزائها ، إما أن يكون عشرية ، وإما أن لا يكون [عشرية (٣)] ويذكر التقسيم الذي ذكروه في العلم إلى آخره.

الحجة السابعة : الكيفيات المختصة بالكميات ، مثل الاستدارة والتثليث التربيع. عند الفلاسفة : أعراض موجودة. فنقول : هيئة الاستدارة إن كانت عرضا ، فذلك العرض إما أن يكون بتمامه قائما بكل واحد من الأجزاء ، فيلزم أن يكون كل واحد من أجزاء الدائرة : دائرة. هذا خلف. وإما أن ينقسم ذلك العرض إلى الأجزاء ، ويقوم بكل واحد من أجزاء الخط ، جزء من أجزاء ذلك العرض ، وهذا أيضا باطل. لأن جزء الاستدارة إن كان في نفسه استدارة ، عاد ما ذكرناه من أنه يلزم أن يكون جزء الدائرة : دائرة. وإن لم يكن كذلك، فحينئذ يكون القائم بكل واحد من أجزاء [الخط (٤)] شيئا ، ليس هو في نفسه استدارة ، فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إن لم يحدث أمر زائد ، وجب أن لا تحصل الاستدارة ، وإن حصل. فذلك الحاصل إن كان منقسما ، عاد التقسيم الأول ، وإن لم ينقسم فحينئذ يكون الحال [غير منقسم (٥)] ويكون المحل منقسما. وذلك يبطل كلامهم.

الحجة الثامنة : لا شبهة أن هذه الأجسام ممكنة بذواتها ، واجبة بغيرها. فكونها ممكنة بذواتها ، واجبة بغيرها صفات عرضية خارجة عن الماهية. فنقول : هذه المفهومات إن لم تنقسم لانقسام محلها ، فقد بطل الكلام المذكور ، وإن انقسمت فكل واحد من أجزاء الإمكان ، ومن أجزاء الوجوب بالغير ، إن

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) العشرة (ل)

(٣) سقط (ل)

(٤) سقط (طا)

(٥) سقط (طا)

كان في نفسه إمكانا ووجوبا بالغير ، لزم أن يكون الجزء مساويا للكل. وإن لم يكن كذلك ، فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إما أن يحدث أمر زائد ، أو لا يحصل. ونسوق التقسيم إلى آخره [فهذه النقوض الثمانية واردة على قوله : «الحال يجب أن ينقسم بانقسام المحل» والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (طا ، ل)

الفصل الرابع

في

حكاية الدلائل التي عوّل عليها

«الشيخ» في اثبات أن النفس الناطقة : مجردة

مجموع الوجوه التي ذكرها في جميع كتبه ـ [والله أعلم (١)] :

الحجة الأولى : وهذه الحجة هي التي ذكرناها ، لكن بتقرير آخر. فقال : «محل العلوم الكلية : [إما أن يكون جسما أو جسمانيا (٢)] ولو كان جسما أو جسمانيا لانقسمت تلك العلوم. لأن الحال في المنقسم : منقسم» ولم يذكر على صحة هذه المقدمة دليلا ولا شبهة ، ولم يورد عليها شيئا من النقوض التي ذكرناها.

ثم قال (٣) : «وكون تلك العلوم منقسمة : أمر محال» واحتج عليه : بأنه

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (م).

(٣) قصيدة في النفس لابن سينا.

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزّز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف

وهي التي سفرت ، ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك ، وربما

كرهت فراقك ، وهي ذات تفجع

أنفت وما ألفت ، فلما واصلت

أنست مجاورة الخراب البلقع

وأظنها نسيت عهودا بالحمى

ومنازلا بفراقها لم تقنع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها

عن ميم مركزها ، بذات الأجرع

علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت

بين المعالم والطول الخضع؟ ـ

لو انقسم هذا العلم ، لكان إما ينقسم إلى جزءين متشابهين أو مختلفين. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه منقسما. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن ينقسم إلى جزءين متشابهين لوجهين:

__________________

 ـ تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى

بمدامع تهمى ، ولما تقلع

وتظل ساجعة على الدمن التي

درست بتكرار الرياح الأربع

إذا عاقها الشرك الكثيف وصدها

قفص عن الأوج الفسيح المربع

حتى إذا قرب المسير إلى الحمى

ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع

وغدت مفارقة لكل مخلف

عنها ، حليف الترب ، غير مشيع

سجعت ، وقد كشف الغطاء فأبصرت

، ما ليس يدرك بالعيون الهجع

وغدت تغرد فوق ذروة شاهق

والعلم يرفع كل من لم يرفع

فلأي شيء أهبطت مع شامخ

عال إلى قعر الحضيض الأوضع؟

إن كان أهبطها الإله لحكمة

طويت عن الفطن اللبيب الأروع

فهبوطها ـ إن كان ضربة لازب

لتكون سامعة بما لم تسمع

وتعود عالمة بكل حقيقة

في العالمين ـ فخرقها لم يرقع

وهي التي قطع الزمان طريقها

حتى لقد غربت بغير المطلع

فكأنها برق تألق بالحمى

ثم انطوى فكأنه لم يلمع

وتنقسم هذه القصيدة ثلاثة أقسام :

(١) سجن النفس : هبطت النفس من عل ، وحلت في الجسد شقية سجينة. وهي إن ارتاحت إلى سكناه بعض الراحة ، فحنينها أبدا إلى عالمها ، وهناؤها إذ تعود إليه مغردة هانئة (بيت ١ ـ ١٤).

(٢) غاية اتحاد النفس بالجسد : لم حلت النفس في الجسد؟ ألتعرف كل شيء؟ إنها لم تعرف. (بيت ١٥ ـ ١٨).

(٣) إنكار تناسخ النفس : ولن تعود النفس بالتناسخ ، لكي تكمل معرفتها (بيت ١٩ ـ ٢٠) إننا نرى ، في القسم الأول ، صدى نظرية أفلاطون القائلة بوجود النفس قبل البدن ، وهبوطها من عالم المثل إلى عالم الحس. ولكن أفلاطون يهبط النفس إلى الجسد لجناية صدرت عنها ، ويقضي عليها بالتناسخ تكفيرا عن إثمها ، وهذا ما لا يتفق وباقي القصيدة. فهل يكون ابن سينا بتر نظرية أفلاطون؟

ثم إن ابن سينا لا يسلم ، في باقي كتبه بوجود النفس قبل البدن. فهل يمكن أن يسلم به هنا؟ وعليه نرى أن نجعل من «المحل الأرفع» العقل الفعال ، فيتلاءم ما في القصيدة مع باقي كتب ابن سينا.

[من كتاب «النفس البشرية عند ابن سينا» للدكتور ألبير نصر نادر].

الأول : إن كل واحد من ذينك الجزءين ، لا بد وأن يكون مخالفا للكل ، لامتناع أن يكون الكل مثل الجزء ، وتلك المخالفة ليست بالحقيقة ولوازمها ، وإلا لم يكن ذلك الانقسام : انقساما إلى جزءين متشابهين. بل لا بد وأن يكون بالعوارض المادية كالمقدار والشكل ، فحينئذ يلزم أن لا يكون ذلك العلم مجردا عن جميع اللواحق الزائدة ، لأنا بينا : أنه حصل معه المقدار الذي به يخالف الجزء كله في المقدار ، وإذا لم تكن تلك الصورة مجردة ، امتنع كونها مشتركا فيها بين المختلفات. لأن الموصوف بصفة [معينة (١)] يستحيل أن يصدق هو على ما لا يكون موصوفا بها ، لكن العلوم الكلية صور (٢)] مشترك فيها بين الأشخاص. فإن المعقول من الإنسان ، لا شك أنه مشترك فيه بين جميع الأشخاص.

الوجه الثاني في إبطال هذا القسم : وهو أن ذلك الانقسام إما أن يكون شرطا لكون تلك الصورة معقولة ، أو لا يكون. والأول باطل. أما أولا : فلأنه يلزم كون كل واحد من الجزءين مخالفا بالماهية لذلك الكل ، لوجوب مباينة الشرط للمشروط.

وأما ثانيا : فقبل حصول الانقسام ، وجب أن لا تكون الصورة معقولة ، لفقدان الشرط ، وأما ثالثا ، فالشيء الذي [يكون (٣)] هذا حاله ، وجب أن يكون منقسما ، وليس (٤) كل معقول كذلك.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : أن (٥) تلك الصورة منقسمة (٦) ليس شرطا لكونها معقولة. فهذا يقتضي أن تكون تلك الصورة العقلية [عند

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) صفة (م ، ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) سقط (ل).

(٥) وأن (م ، ط).

(٦) في (م ، ط) : منقسمة وليس كل معقول كذلك. وأما ليس شرطا ... إلخ.

انقسامها (١)] مغشاة بعوارض غريبة ، من جمع وتفريق ، ويكون في أقل منه بلاغ.

هذا لفظ «الإشارات» وتفسيره. إن كل واحد من جزئها مكتفي بجزء من ذلك المحل ، وذلك الجزء من تلك الصورة مساوي لكلها في تمام الماهية ، وحكم الشيء حكم مثله، فوجب أن يكون حلول كل تلك الصورة (٢) في جزء من ذلك المحل [ممكنا. وإذا كان كذلك كان حلول كل تلك الصورة في كل ذلك المحل (٣)] عارضا غريبا. وفي أقل منه بلاغ.

وأما القسم الثاني من القسمين المذكورين في أول الدليل : وهو أن يقال : إن تلك الصورة تنقسم إلى جزءين مختلفين في الماهية. فنقول : هذا محال. لأن الصورة العقلية لو كانت جسمانية ، لحصلت لها أجزاء بحسب الانقسامات الممكنة في الجسم ، لكن تلك [الانقسامات غير متناهية. فوجب أن تكون الأجزاء المختلفة الحاصلة لتلك (٤)] الصورة العقلية غير متناهية. وهذا محال. لوجوه :

الأول : إنه إذا كان كل واحد من تلك الأجزاء التي هي غير متناهية حالا في جزء آخر من ذلك المحل ، فقد اختص كل واحد من أجزاء ذلك الجسم بعرض مخالف للعرض الحال في الجزء الآخر ، وذلك يوجب تركب الجسم من أجزاء غير متناهية ، [بالفعل.

والثاني : وهو أن تلك الكثرة سواء كانت متناهية ، أو غير متناهية فلا بد فيها من واحد ، فتلك الصورة العقلية إذا كانت مركبة من أجزاء غير متناهية (٥)] فقد حصل فيها جزء واحد ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) الصفة (ط).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (م ، ط).

(٥) سقط (م).

الثالث : إنا نفرض أن الجزء الجنسي ، وقع في أحد النصفين. والجزء الفصلي وقع في النصف الثاني. فإذا غيرنا (١) القسمة ، وجب أن ينتقل الجزء الجنسي من موضعه ، إلى الموضع الثاني ، الحاصل بسبب الغرض الثاني من القسمة [وأيضا (٢)] فإذا أوقعنا قسما في قسم مثل هذا : فإنه يلزم أن يتنصّف الجنس ، وإن لم يتنصف (٣) الفصل. وذلك محال. فهذا تمام تقرير هذه الحجة على ما ذكره «الشيخ».

واعلم : أن هذه الحجة في غاية الضعف لوجوه :

الأول : إنه مبني على أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية لماهية المعلوم في ذات العالم.

وقد بينا في أول [منطق (٤)] هذا الكتاب بالدلائل القاهرة : فساد هذا المذهب.

الثاني : نقول : هب أنا سلمنا لكم هذه القاعدة. فلم لا يجوز أن تنقسم تلك الصورة إلى جزءين متشابهين في الماهية. قوله : «فعلى هذا التقدير تكون تلك الصورة صورة غير مجردة» قلنا : الكلام من وجهين :

الأول : وهو أن هذا لازم عليكم أيضا. وذلك : لأن هذه الصورة ، إذا كانت حالة في جوهر النفس الناطقة ، فهي صورة جزئية ، حالة في نفس جزئية ، وتقارنها سائر الأعراض الحالة في تلك النفس الجزئية. فإذا اعتبرنا تلك الصورة مع جملة هذه اللواحق ، لم تكن صورة مجردة. بل (٥) كانت مقرونة بلواحق كثيرة. وذلك يمنع من كونها كلية.

__________________

(١) اعتبرنا (م ، ط).

(٢) من (م ، ط).

(٣) لم يتنصف (م ، ط).

(٤) من (ل ، طا).

(٥) فإذا (ل).

فإن قالوا : المراد بكونها كليه : أن تلك الصورة ، إذا حذفنا عنها تلك اللواحق ، واعتبرناها من حيث هي هي ، بدون تلك اللواحق ، كانت كلية. فنقول : إذا جاز هذا ، فلم لا يجوز أن يقال : هذه الصورة ، وإن كانت حالة في مادة جسمانية مخصوصة ، بمقدار معين وشكل معين ، إلا أنها إذا اعتبرت من حيث هي هي ، مع حذف تلك الزوائد كانت كلية. فثبت : أن الإلزام الذي أورده «الشيخ» فهو بعينه لازم عليه.

والوجه الثاني (١) في بيان ضعف هذا الدليل : إن هذا القدر ، إن صح ، كان مستقلا فإفادة المطلوب ، من غير ذكر هذه التقسيمات. فإن الصورة العقلية سواء انقسمت (٢) بانقسام محلها ، أو لم تنقسم ، وسواء كان انقسامها إلى جزءين متشابهين في الماهية أو مختلفين فيها ، فإنه يصح أن يقال : إنها لو كانت حالة في جسم ، لما كانت مجردة. لكنها مجردة ، فوجب أن لا تكون جسمانية. فهذا الكلام واف بإفادة هذا المطلوب بتقدير صحته. وحينئذ لا يحتاج إلى ذكر التقسيمات [التي ذكرها. فثبت : أن هذه الحجة في غاية السقوط. والله أعلم.

الحجة الثانية من الوجوه (٣)] التي ذكرها «الشيخ» : أن قال : «الصورة العقلية الكلية مجردة عن الشكل والوضع ، وكل ما كان كذلك ، امتنع كونه جسمانيا».

بيان الأول : إن الصورة الكلية ، معناها : القدر المشترك بين الأشخاص ، ذوات الأشكال المختلفة ، والأوضاع المختلفة [والمقادير المختلفة (٤)] وما كان كذلك ، امتنع أن يكون موصوفا بشكل معين ، وقدر معين.

__________________

(١) الثالث [الأصل].

(٢) انقسمت علتها (ط).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (طا).

وبيان الثاني : إن كل صورة جسمانية ، فإنه يحصل لها قدر معين ، وشكل معين ، ووضع معين ، بسبب محلها. وقد بينا : أن الصورة العقلية [المجردة يمتنع كونها كذلك. وربما ذكروا هذا الكلام بتقرير آخر. وهو أن الصورة العقلية (١)] الكلية ، لا شك أنها مجردة. وكونها مجردة. إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه ، أو بسبب الآخذ.

والأول باطل. لأن هذه الصورة الكلية المجردة ، إنما أخذت عن الأشخاص الموصوفة بالمقادير المعينة. والأوضاع المعينة.

ولما بطل هذا ، بقي [أن كون هذه الصورة الكلية مجردة ، إنما كان بسبب أن الآخذ مجرد ، فوجب (٢)] أن تكون القوة العقلية جوهرا مجردا عن الوضع والمقدار.

ولقائل أن يقول : السؤال عليه من وجهين :

الأول : أن نقول ما الذي تريدونه بهذه الصورة الكلية؟ أتريدون به [أن العلم بذلك المعلوم حصل في ذات العالم ، أو تريدون (٣) به] أن العلم بذلك المعلوم حصل في ذات العالم؟.

أما الأول : فباطل ظاهر البطلان ، وإلا لكنا إذا عرفنا واجب الوجود ، وجب أن يحصل في عقولنا صورة مساوية لواجب الوجود في تمام الماهية. وذلك لا يقوله عاقل ، ولكنا إذا عقلنا المعدوم ، وجب أن يحصل في ذاتنا صورة مساوية للمعدوم في تمام الماهية ، وذلك محال. لأن المعدوم نفي محض ، فكيف يعقل أن يكون الموجود مساويا له في تمام الماهية؟ وبالجملة : فالاستقصاء فيه مذكور في أول كتاب المنطق [من هذا الكتاب (٤)].

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ل).

(٤) سقط (ط). وهو يشير إلى مقدمة كتاب المطالب ..

وأما الثاني : فهو مسلّم إلا أنه لا يفيد مقصودكم ، لأن الأمر الكلي المشترك فيه بين الأشخاص الإنسانية ، هو الإنسانية ، لا العلم بالإنسانية. وإذا كان كذلك ، لم يلزم من كون العلم بالإنسانية مقرونا بالعوارض الخارجية : حصول القدح في قولنا : الإنسانية من حيث هي هي : أمر كلي مشترك فيها. وتمام الكلام في هذا البحث : مذكور في باب الكلي [والجزئي (١)] من المنطق ، والإلهيات.

السؤال الثاني : إن هذا الإشكال وارد عليكم أيضا وذلك لأن الصورة الكلية التي تثبتونها وتزعمون أنها حالة في النفس ، فهي صورة شخصية موصوفة بعوارض شخصية ، أعني حلولها في تلك النفس وحدوثها في وقت معين ، ومقارنتها لسائر الصور العقلية ، ولسائر الأعراض الحاصلة في جوهر النفس. فثبت أن هذه الصورة العقلية وإن كانت حالة في جوهر ، ليس بجسم ولا بجسماني ، فهي غير مجردة عن العوارض الخارجية. فإن قالوا : المراد بكونها مجردة : أنها نظرا إلى ماهيتها ، مع قطع النظر عن العوارض المذكورة مجردة فنقول : لم لا يجوز أن تكون الصورة الحالة في المحل الجسماني تكون مجردة ، بمعنى أنها بالنظر إلى حقيقتها وماهيتها مع قطع النظر عن العوارض تكون مجردة وكلية؟.

الحجة الثالثة : قالوا : القوة العاقلة تقوى على أفعال غير متناهية ، ولا شيء من القوى الجسمانية يقوى على أفعال غير متناهية ، ينتج : أن القوة العاقلة ليست من القوى الجسمانية.

أما بيان المقدمة الأولى : فهو أن الصورة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية. وذلك يدل على أنها تقوى على أفعال غير متناهية.

وأما بيان المقدمة الثانية : فهو أن كل قوة جسمانية ، فإنها تنقسم بانقسام محلها. فالذي تقوى عليه بعض القوة ، يجب أن يكون أقل من الذي تقوى

__________________

(١) سقط (ل).

عليه كل القوة. وإلا لزم أن يكون البعض مثلا للكل. وهو محال. وكل ما كان أقل من غيره فهو متناه ، فالذي تقوى عليه بعض القوة ، يجب أن يكون متناهيا ، والذي يقوى عليه الكل ، أضعاف ما يقوى عليه البعض مرارا متناهية. وضعف المتناهي مرارا متناهية ، يجب أن يكون متناهيا ، فيلزم أن يقال : إن كل ما تقوى عليه القوة الجسمانية ، يجب أن يكون متناهيا.

والاعتراض : لا نسلم أن القوة العاقلة ، تقوى على أفعال غير متناهية. وأما قوله : «إنها تقوى على إدراكات غير متناهية ، والإدراكات أفعال ، ينتج : أنها تقوى على أفعال غير متناهية» قلنا : لا نسلم أنها تقوى على إدراكات غير متناهية. ولم لا يجوز أن يقال : إنها تنتهي في الإدراكات والمعارف إلى حيث لا يمكنها أن تزيد عليه شيئا؟ فإن قالوا : هذا محال ، وذلك لأن جوهر النفس ، لما أمكنها تحصيل الإدراك والمعرفة ، فلو انتهت إلى حد يمتنع عليها تحصيل الزائد ، لزم أن ينقلب الشيء من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي [وهو محال.

فنقول : إن صح هذا الكلام. فهذا بعينه يدل على أن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية. وذلك لأن تلك القوة الجسمانية ، وجب القول بصحة بقائها أبدا. وإلا لزم انتهاؤها إلى وقت يمتنع بقاؤها فيه. وحينئذ يلزم الانتقال من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي (١)] وهو محال.

وإذا ثبت إمكان بقائها أبدا ، وجب إمكان بقاء كونها مؤثرة أبدا. لو انتهت في صحة التأثير والفعل. إلى حيث أن يمتنع ذلك بعده ، لزم انتقالها من الإمكان الذاتي. إلى الامتناع الذاتي. وهو محال؟

فثبت : إن هذا الكلام الذي ذكروه في بيان أن القوة العاقلة تقوى على إدراكات غير متناهية إن صح ، وجب القطع بأن القوة الجسمانية تقوى على أفعال غير متناهية وذلك يوجب سقوط دليلهم بالكلية.

السؤال الثاني : إن قوة التخيل والفكر والذكر تقوى على استحضار

__________________

(١) سقط (ط).

التخيلات والتفكرات والتذكرات إلى غير النهاية. مع أنها عندكم قوى جسمانية.

فإن قالوا : لا نسلم أن هذه القوى تقوى على أفعالها إلى غير النهاية ، بل لا بد من الانتهاء إلى حيث لا تقوى على الفعل بعد ذلك.

فنقول : فإذا جاز لكم أن تلتزموا ذلك ، فلم لا يجوز لغيركم أن يلتزم مثله في القوة العاقلة. وهو أن يقال : إنها تنتهي إلى حيث تقوى على الزيادة؟ وما الفرق بين البابين؟ فإنا لا نجد في العقل : فرقا بين الموضعين.

السؤال الثالث : هب أن النفس تقوى على إدراكات لا نهاية لها. فلم قلتم : إن الإدراكات فعل؟ وتقريره : أن إدراك الشيء عندكم : عبارة عن حصول صورة المعقول في العاقل ، وإذا ثبت هذا فيكون الجوهر العاقل قابلا لتلك الصورة العقلية ، لا فاعلا لها. وعندكم : الممتنع على الأجسام أفعال لا نهاية لها. فإنها انفعالات لا نهاية لها ، فهذا غير ممتنع عندكم على الجسمانيات. ألا تروا أن الهيولى أزلية. وقد حصل فيها صور متعاقبة لا نهاية لها؟.

فإن قالوا : الإدراكات على قسمين : التصورات والتصديقات.

أما التصورات ، فلا نزاع في كونها انفعالات. وأما التصديقات ، فهي أفعال ، لأنها عبارة عن حكم الذهن بإسناد أحد التصورين إلى الثاني ، وهذا الإسناد فعل. فثبت : أن النفس لما كانت قادرة على التصديقات التي لا نهاية لها ، كانت قادرة على أفعال لا نهاية لها. فنقول : لا نسلم أن الإسناد والحكم : فعل. وذلك لأنا لا نعقل من هذا الإسناد (١) والحكم ، إلا حصول الاعتقاد بأن إحدى الماهيتين موصوفة بالثانية ، أو مسلوب عنها تلك الثانية. فإذا حصل في الذهن اعتقاد أن كذا موصوف بكذا ، أو غير موصوف به. فهذا [هو (٢)] الحكم والإسناد. والتصديق هو في الحقيقة ليس إلا عبارة عن

__________________

(١) الإنسان (ل).

(٢) من (ل).

حصول هذا الاعتقاد في جوهر النفس [فتكون جوهر النفس (١)] هاهنا قابلة [لا فاعلة (٢)] ويعود التقرير المذكور.

السؤال الرابع : هب أن النفس تقوى على أفعال غير متناهية ، فلم قلتم : إن القوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية؟

قوله : لأن كل متحيز فهو منقسم ، والحال في المنقسم منقسم وإذا كان كذلك ، كان مقوى بعض تلك القوة أقل من مقوى كلها ، والأقل من الغير : متناه. فمقوي بعض القوة : متناه. فيجب أن يكون مقوي كلها : متناهيا» فنقول : هذه الحجة تشتمل على مقدمات:

أولها : قوله : «كل متحيز منقسم» وهو بناء على نفي الجوهر الفرد. وقد سبق الكلام فيه.

وثانيها : «إن الحال في المنقسم : منقسم» وقد ذكرنا النقوض الثمانية في الحجة الأولى.

وثالثها : «إن مقوي بعض القوة ، يجب أن يكون أقل من مقوي كلها» فنقول : نسلم أنه لا بد من حصول التفاوت بين مقوي البعض وبين مقوي الكل. لكن لم قلتم : إنه لا يحصل التفاوت إلا بأن ينقطع مقوي البعض قبل انقطاع مقوي الكل؟ [ولم لا يجوز أن يظهر هذا التفاوت بسبب أن مقوي البعض ، أبطأ من مقوي الكل (٣)] وإن بقي كل واحد منهما أبد الآباد ، وعلى هذه الحالة؟.

وبالجملة : فنحن نسلم أنه لا بد من التفاوت. لكن لا نسلم أنه لا يحصل التفاوت ، إلا بانقطاع أثر البعض. فهم مطالبون بإثبات هذه المقدمة.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) العود (ط).

(٣) سقط (ط).

ورابعها : إن قوله : «كل ما كان أنقص من غيره ، فهو متناه» فهذه مقدمة كثيرة المباحث والشبهات. وقد استقصينا الكلام فيها في مسألة «تناهي الأبعاد» في دليل : كون الأبعاد قابلة للزيادة والنقصان.

السؤال الخامس : وهو الذي أورده «الشيخ» على نفسه. فقال : «أليس أن النفس الفلكية المباشرة لتحريكات الفلك : قوة جسمانية ، مع أن الحركات الفلكية غير متناهية. فههنا قد صدر عن القوى الجسمانية : أفعال غير متناهية» وأجاب عنه : «بأن النفس الفلكية ، وإن كانت قوة جسمانية ، إلا أنها تستمد الكمال والقوة من العقل المفارق ، فلهذا السبب قدرت القوة الجسمانية على أفعال غير متناهية».

هذا هو الجواب الذي ذكره [الشيخ (١)] في أكثر كتبه فيقال له : فإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال أيضا : النفس الناطقة قوة جسمانية ، ألا أنها تستمد القوة والكمال من العقل الفعال ، فلا جرم قويت النفس الناطقة مع كونها جسمانية ، على أفعال غير متناهية. وهاهنا آخر الكلام على هذه الطريقة.

الحجة الرابعة : قالوا : لو كانت القوة العاقلة حالة في آلة جسمانية من قلب أو دماغ ، لوجب أن تكون القوة العاقلة دائمة الإدراك لتلك الآلة ، أو ممتنعة الإدراك لها مطلقا. والتالي باطل.

فالمقدم مثله باطل. بيان الشرطية : أن الإدراك عبارة عن حصول ماهية المعلوم في العالم ، فلو كانت القوة العاقلة حالة في مادة جسمانية ، لكان إدراك القوة العاقلة لتلك الآلة إما أن يكون عين وجود تلك الآلة ، وإما أن يكون عبارة عن حصول صورة مساوية لتلك الآلة في القوة العاقلة. وهذا القسم الثاني : محال.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

لأن تلك الصورة إذا حلت في القوة [العاقلة (١)] الحالة في تلك الآلة ، فحينئذ يلزم كون تلك الصورة حالة في تلك الآلة ، فيلزم : اجتماع صورتين متماثلتين في تلك المادة ، والجمع بين المثلين : محال ، ولما بطل هذا القسم الأول ، وهو أن يقال : إن القوة العاقلة ، لو أدركت [آلتها (٢)] لكان إدراكها لتلك الآلة عبارة (٣) عن نفس حضور تلك الآلة عند القوة العاقلة. وهذا القدر من الحضور ، إن كان كافيا في حصول الإدراك وجب حصول الإدراك دائما. وإن لم يكن كافيا ، امتنع حصول الإدراك في شيء من الأوقات. لأنه لو حصل في بعض الأوقات ، لكان ذلك بسبب أمر زائد على مجرد حضور صورة الآلة ، وذلك الزائد يجب أن يكون عبارة عن حصول صورة مساوية لها في القوة الناطقة ، بناء على القاعدة المشهورة من أن إدراك الشيء عبارة عن حضور صورة مساوية للمعقول في العاقل. وقد بينا أن ذلك محال.

فثبت بهذا البيان : أن القوة [العاقلة (٤)] لو كانت حالة في جسم ، كقلب أو دماغ، لوجب أن تكون مدركة لذلك الجسم دائما ، أو تكون ممتنعة الإدراك دائما (٥).

أما بيان أن هذا التالي محال : فلأنا نعلم بالضرورة : أنا في بعض الأوقات نستحضر صورة القلب والدماغ في عقولنا ، وفي بعض الأوقات نكون غافلين عن هذا الاستحضار. فثبت بما ذكرنا : صحة الشرطية ، وثبت : فساد التالي ، فيلزم فساد المقدم.

والاعتراض : إنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على أن حصول صورة مساوية في تمام الماهية للمعقول في جوهر العاقل محال ، فلا نعيد تلك الدلائل. ثم لئن سلمنا ذلك ، لكن حصول تلك الصورة ، يكون شرطا لحصول الإدراك

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) عن حصول (م ، ط).

(٤) سقط (ل).

(٥) لها دائما (ط).

والشعور ، فإما أن يقال : إن الإدراك عبارة عن عين تلك الصورة ؛ وهذا لا يقول عاقل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الجسم الموصوف بالسواد يكون السواد حاصلا فيه ، وإدراك السواد غير حاصل فيه ، فإدراك السواد مغاير لحصول ماهية السواد. فإن قالوا : حصول الماهية إنما يكون إدراكا لها ، إذا كان ذلك الشيء الذي حضرت الماهية عنده : قوة مدركة ، فإذا كان الجسم جمادا ، فقد فات هذا الشرط ، فيفوت المشروط.

فنقول في الجواب : إن كان الإدراك عبارة عن مجرد الماهية عنده. فالمدرك يجب أن يكون عبارة عن الشيء الذي حضرت الماهية عنده. فوجب أن يكون الجماد مدركا. وإن قلنا : إنه ليس كلما حضرت الماهية عنده ، بل قد يكون مدركا لها ، وقد لا يكون. فهذا يقتضي أن يكون الإدراك حالة مغايرة لمجرد الحضور. وهو المطلوب.

الثاني : وهو إن الخيال الذي هو خزانة الحس المشترك ، قد حصلت الصور الجسمانية عنده ، مع أن قوة الإدراك غير حاصلة ، وذلك يدل على قولنا.

الثالث : إن أشباح المبصرات تنطبع في كل واحد من الجليدتين ، والإدراك غير حاصل هناك ، وإلا لزم أن يدرك الإنسان : المرئي الواحد شيئين. لأنه انطبع في كل واحد من الجليدتين صورة على حدة. بل الحق أن الانطباع يحصل في الجليدتين. إلا أن قوة الإبصار إنما تحصل عند ملتقى العصبتين المجوفتين. هكذا قاله الشيخ في كتاب «الشفاء» وهذا يدل على أن الإدراك غير الانطباع.

الرابع : وهو أنا نعلم بالضرورة : أن الإدراك والشعور والإبصار : أحوال نسبية إضافية ، فيمتنع أن يكون عبارة عن مجرد حضور تلك الماهية. وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : القوة العقلية حالة في جسم مخصوص ، ثم إن القوة الناطقة قد تحصل لها الحالة الإضافية المسماة بالشعور

والإدراك ، فحينئذ تصير القوة العاقلة مدركة لتلك الآلة ، وقد لا توجد تلك الآلة الإضافية ، فتصير غافلة عن تلك الآلة ، وإذا كان هذا الاحتمال الظاهر القوي الحق قائما ، فقد سقطت هذه الشبهة بالكلية. والعجب من الشيخ كيف جوز عقله أن يسمى مثل هذا الكلام الركيك بالبرهان العظيم.

السؤال الثاني : أن يقال : أتدعون أنا إذا عقلنا شيئا ، فإن الصورة الحاضرة في العقل مساوية لذلك المعقول من جميع الوجوه والاعتبارات ، أو لا توجبون حصول هذه المساواة من كل الوجوه؟

والأول لا يقوله عاقل. وتقريره من وجوه :

الأول : إنا إذا عقلنا الله تعالى وجب أن تكون الصورة الحاصلة في عقولنا : موجودا واجب الوجود لذاته ، وذلك لا يقوله عاقل.

الثاني : إنا إذا عقلنا السماء والأرض ، فهذه الصورة العقلية : كيفية قائمة بالنفس جزئية. وهذه الكيفية لا تحس ولا تلمس ، والعلم الضروري حاصل بأنها لا تساوي هذا الفلك في جميع أجزاء الماهية والصفات.

الثالث : إنه لو كان الأمر كذلك ، فإذا عقلنا النار ، وجب أن تحصل النار في عقولنا. وإذا عقلنا الثلج ، وجب أن يحصل الثلج في عقولنا ، فتكون النار العقلية ، والثلج العقلي ، مساويا للنار والثلج الموجودين في الخارج ، وذلك لا يقوله عاقل. وأما إذا سلمتم : أن الصورة العقلية ، لا يجب أن تكون مساوية لذات المعقول من جميع الوجوه ، فحينئذ لا يلزم من حدوث صورة أخرى في القلب ، أو الدماغ في القوة العاقلة : اجتماع المثلين.

السؤال الثالث : هب أنه يلزم اجتماع المثلين. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ وبيانه : أن القوة العاقلة حالة في جوهر القلب أو الدماغ ، وهذه الصورة الحادثة : حالة في القوة العاقلة ، فإحدى الصورتين حالة محل القوة العاقلة ، والثانية حالة فيها. فلم لا يكفي هذا القدر من التفاوت في حصول المغايرة؟

السؤال الرابع : نحن إذا رأينا (١) المسافة الطويلة والامتداد الطويل ، فهل يتوقف هذا الإبصار على ارتسام صورة المرئي في عين الرائي ، أو لا يتوقف؟ فإن توقف عليه ، فحينئذ يلزم اجتماع المثلين. لأن القوة الباصرة عندكم جسمانية ، فهي حالة في محل له حجم ومقدار ، فإذا حصل فيه مقدار المرئي وحجميته ، فحينئذ يلزم اجتماع المثلين ، فإذا جاز هناك ، فلم لا يجوز مثله في مسألتنا؟ وإن كان إدراك الشيء لا يتوقف على حصول صورة المرئي في الرائي ، فحينئذ يبطل قولهم : إن إدراك القلب والدماغ يتوقف على حصول صورة القلب والدماغ في القوة (٢) العاقلة.

السؤال الخامس : هب أنه يصح لكم بالدليل : أن القوة العاقلة لو كانت حالة في جسم ، لوجب أن تكون دائمة الإدراك لذلك الجسم فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟ قوله : «لأجل أن إدراكنا بقلبنا ودماغنا ، غير دائم» قلنا : فهذا الدليل الذي ذكرتم ، إنما يصح لإبطال قول من يقول : «القوة العاقلة حالة في القلب أو الدماغ» فأما من يقول : «إنها حالة في جسم مخصوص ، مشابك لبعض بطون القلب ، أو بعض بطون الدماغ» فهذا الإلزام غير وارد عليه. فإن قالوا : فيلزم أن يكون أبدا (٣) عالما بوجود ذلك الجسم. فنقول : إن من يقول : «النفس جسم مخصوص موصوف بصفة مخصوصة» يلتزم ذلك ، ويقول : إن الإنسان أبدا يكون عالما بأنه جسم مخصوص ، ولا يزول عن عقله ذلك البتة. فسقطت هذه الحجة بالكلية.

واعلم : أن هذه الدلائل الأربعة هي التي زعم [الشيخ (٤)] أنها حجج برهانية ، ودلائل يقينة. ثم ذكر بعد ذلك وجوها أخرى ، واعترف بكونها وجوها إقناعية ظنية. وقد ظهر بالمباحث التي ذكرناها : أن هذه الوجوه التي

__________________

(١) عقلنا (ل ، طا).

(٢) الصورة (ل ، طا).

(٣) أبدا دائما (م).

(٤) سقط (ط).

سماها قطعية يقينية ، لا تفيد ظنا ضعيفا ، فضلا عن القوى. ولقد ذكر في تعليقاته ومباحثاته : وجها خامسا. وذكر أيضا : أنه من القطعيات ، فوجب علينا أيضا أن نذكره.

الحجة الخامسة : إن كل أحد يدرك نفسه ، وقد ثبت أن إدراك الشيء عبارة عن حضور ماهية المعلوم عند العالم ، فإذا علمنا أنفسنا فهذا إما أن يكون لأجل حضور ذواتنا [لذواتنا (١)] أو لأجل حضور صورة مساوية لذواتنا في ذواتنا. والقسم الثاني باطل لوجهين :

الأول : إنه يلزم اجتماع المثلين ، وهو محال. لأنه لا يكون أحدهما بالحالية ، والآخر بالمحلية أولى من العكس.

والثاني : هو إنه ما لم نعرف أن هذه الصورة الحادثة مساوية لذاتنا ، لم تكن معرفة تلك الصورة نافعة في معرفة الذات. لكن علمنا بأن هذه الصورة مساوية لذاتنا. يجب أن يكون مسبوقا بعلمنا بذاتنا. ويعود الكلام فيه ، ويمر إلى غير النهاية ، وهو محال. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أنه لا معنى لعلمنا بذواتنا ، إلا نفس حضور ذاتنا عند ذاتنا. وهذا إنما يكون إذا كانت ذاتنا [قائمة (٢)] بالنفس ، غنية عن المحل ، لأن بتقدير أن يكون في محل ، لم يكن هو حاضرا عند نفسه ، وإنما يكون حاضرا عند ذلك المحل. فثبت : أن النفس عالمة بذاتها ، وثبت : أن علمها بنفسها عبارة عن حضور نفسها عند نفسها وثبت : أن هذا المعنى ، إنما يحصل إذا كانت النفس قائمة بنفسها ، غنية عن محل تحل فيه. فهذا يقتضي أن تكون القوة العاقلة : جوهرا قائما بالنفس ، غنيا عن الجسم. وهو المطلوب.

والاعتراض عليه : إن هذه الحجة مبنية على أن تعقل الشيء ، يستدعي حضور صورة مساوية في تمام الماهية للمعقول عند العاقل ، وعلى أن التعقل لا

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ل).

معنى له إلا مجرد هذا الحضور. وكل ذلك قد أبطلناه. وبينا : أن الإدراك عبارة عن حالة نسبية إضافية. فإن حصلت لذات الإنسان مع ذاتها ، تلك الإضافة ، صار الإنسان عالما بذاته المخصوصة ، وإلا بقي غافلا عنها [وأيضا (١)] فهذه الحجة موقوفة على مقدمة ثالثة ، وهي : البحث في كون الشيء حاضرا عند نفسه. وقد بحثنا عن هذه المقدمة عند حكاية دلائل الفلاسفة على كونه تعالى عالما بذاته المخصوصة.

وأيضا : فهذه الحجة مع ركاكة مقدماتها : منقوضة. وذلك لأنا إذا أخذنا حجرا أو خشبا. ونقول : إنه جوهر قائم بنفسه ، فذاته حاضرة عند ذاته. فيجب في هذه الجمادات أن تكون عاقلة بذواتها. وإنه محال. فإن قالوا : إن الحجرية صورة قائمة في المادة ، فلا تكون هذه الصورة حاضرة عند نفسها ، بل تكون حاضرة عند مادتها. فنقول : إنه يمتنع أن تكون كل مادة حاصلة في مادة أخرى إلى غير النهاية ، بل لا بد من الاعتراف بحصول جوهر قائم بنفسه في هذا الحجر وهذا الخشب : هو المادة الأصلية. وإذا كان كذلك ، فتلك المادة تكون قائمة بنفسها ، فتكون ذاته حاضرة عند ذاته ، فوجب كونها عالمة بنفسها ، فيلزم في هذه الجمادات : أن تكون عالمة بنفسها ، شاعرة بذواتها. ومعلوم أنه باطل. وأيضا : فجميع الحيوانات مدركة لذواتها ، فلو كان الشيء مدركا لذاته يقتضي أن تكون ذاته جوهرا مجردا ، لزم أن تكون نفوس الحيوانات أسرها جواهر مجردة. والقوم لا يقولون به. فهذا هو وجه السؤال على هذه الحجة والبينة.

الحجة السادسة : اعلم : أن «أبا البركات البغدادي» زعم أن الدليل القوي في هذه المسألة ، هو هذا الذي نذكره. فقال : «لا شك في أن الواحد منا يمكنه أن يتخيل بحرا من الزئبق ، وجبلا من الياقوت ، ويمكنه أن يتخيل شموسا وأقمارا [كثيرة (٢)] فهذه الصورة الخيالية ، إما أن تكون معدومة أو

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ل).

تكون موجودة. والأول باطل. لأن قوة الإدراك والفهم تشير إلى كل واحد من تلك الصور ، وتميز بينها وبين غيرها. وربما بلغ ذلك التخيل ، إلى أن يصير كالأمر المشاهد المحسوس ، بسبب قوته. ومعلوم : أن العدم المحض والنفي الصرف ، لا يكون كذلك. فثبت : أن هذه الصور الخيالية : موجودة. ولما علمنا بالضرورة : أنها ليست موجودة في الأعيان ، ثبت أنها موجودة في الأذهان. فنقول : محل هذه الصورة ، إما أن يكون جسما ، أو حالا في الجسم ، أو لا جسم ولا حالا في الجسم. والقسمان الأولان باطلان. لأن صورة البحر والجبل والشموس والأقمار : صورا عظيمة ، والدماغ : جسم صغير. وانطباع الصور العظيمة في المحل الصغير : محال في بديهة العقل. ولما بطل ذلك ، ثبت : أن محل هذه الصور الخيالية موجودة ، ليس بجسم ولا بجسماني. وذلك هو المطلوب» هذا تقرير هذا الدليل (١)

واعلم: أن هذا الوجه ، لا شك أنه أخف مئونة من الدلائل المتقدمة. لأن هذا الدليل ، مبني على أن إدراك هذه الصور الخيالية ، يستدعي انطباعها في العالم. وهذه المقدمة فيها أبحاث :

الأول : إن جوهر النفس إذا كان مجردا عن الحجمية والمقدار ، امتنع كونها محلا للمقدار والشكل. وذلك لأنه إذا كان جوهرا مجردا عن الحجمية ، والمقدار ، كان [واحد (٢)] مبرأ عن القسمة والتركب ، وإذا كان كذلك ، فالمحل الذي تحل فيه صورة زاوية من زوايا ذلك المتخيل ، هو الذي بعينه الذي تحل فيه صورة الزاوية الثانية من ذلك المتخيل. وإذا كانت الصورة بأسرها مرتسمة في محل واحد ، فحينئذ لا يحصل امتياز جانب عن جانب في ذلك الإدراك ، وإذا لم يحصل هذا الامتياز ، امتنع إدراك (٣) الشكل والأضلاع في الجوانب(٤)

__________________

(١) الكلام (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) امتياز (ل).

(٤) والجوانب (ل).

والبحث الثاني : وهو أنه إن عقل (١) حلول الشكل والمقدار ، فيما كان مجردا عن الحجمية والمقدار من كل الوجوه ، فلم لا يعقل حلول الشكل العظيم والمقدار العظيم في المحل الصغير [وذلك لأنا إنما نمنع من حلول الصور العظيمة في المحل الصغير (٢)] لأجل أن العظيم لا ينطبق بكليته على الصغير [فيمتنع حلوله فيه ، إلا أن العظيم وإن كان لا ينطبق بكليته على الصغير (٣)] فقد ينطبق العظيم على ذلك الصغير.

أما الموجود المجرد عن الجسمية والحجمية ، فإنه يمتنع انطباق الصورة المقدارية عليه ، لا بحسب الكل ، ولا بحسب البعض. فثبت : أن انطباق العظيم على الصغير أقرب عند العقل من انطباق الشكل والمقدار ، على ما ليس له شكل ومقدار [عند العقل (٤)] فإذا كان عدم الانطباق من جميع الوجوه ، لا يمنع من حلول الصورة [والشكل في الجوهر المجرد ، فعدم انطباق العظيم على الصغير ، أولى أن لا يمنع من حلول الصورة (٥)] العظيمة في المحل الصغير. وإذا بطلت هذه المقدمة ، فقد فسد هذا الدليل بالكلية.

والبحث الثالث : إن القدماء أقاموا الدليل على أن انطباع الصورة الخيالية في الجوهر المجرد : محال.

وتقريره أن نقول : إنا إذا فرضنا مربعا مجنحا بمربعين على هذه الصورة :

فإنه يمكننا أن نتخيل هذين المربعين الواقعين على الطرفين ، بحيث يتميز

__________________

(١) إنا عقلنا (م ، ط).

(٢) من (م ، ط).

(٣) مكرر في (ل).

(٤) سقط (طا ، ل).

(٥) سقط (ط).

كل واحد منهما عن الآخر [فهذان المربعان لا بد وأن يكونا موجودين ، وإذا كانا ليسا موجودين في الأعيان ، فهما موجودان في الأذهان. فإما أن يكون محل كل واحد منهما عين الآخر ، أو غيره. فإن كان الأول امتنع امتياز أحدهما عن الآخر. لأن (١)] الامتياز ليس بالماهية ولوازمها. لأن الماهية واحدة. ولا بالعوارض لأنهما لما حلا في محل واحد. فكل ما يفرض عارضا لأحدهما ، كانت نسبة ذلك العارض إلى أحدهما كنسبته إلى الثاني. وإذا صار العارض مشتركا فيه ، امتنع بقاء الامتياز ، وإذا لم يبق الامتياز في الذهب ، وجب أن لا يميز [الخيال (٢)] أحد ذينك المربعين عن الآخر ، وحيث حصل هذا الامتياز ، وجب أن يكون محل إحدى الصورتين مغايرا لمحل الصورة الأخرى ، وذلك لا يحصل إلا إذا كان المحل جسما. فثبت : أن حصول هذه الصورة الخيالية في الجوهر المجرد : محال.

فهذا تمام الكلام على هذه الحجة.

وهاهنا آخر الكلام في الاعتراض على هذه الدلائل ، التي زعموا أنها من الدلائل اليقينية [القطعية (٣)] والله أعلم.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (طا).

الفصل الخامس

في

حكاية الدلائل الاقناعية التي

ذكروها في أن النفس الناطقة مجردة عن الجسمية

ذكر الشيخ الرئيس «أبو علي» وجوها كثيرة في هذا الباب ، نقلها عن قدماء (١) الفلاسفة.

الحجة الأولى : قالوا : لو كانت القوة العقلية جسدانية ، لضعفت في زمان الشيخوخة دائما [ولكنها لم تضعف في زمان الشيخوخة دائما (٢)] فهي غير جسدانية. بيان الشرطية : إن المزاج يختل في زمان الشيخوخة. ومتى ضعف المحتاج إليه ، فإنه يلزم منه ضعف المحتاج. فلو كانت القوة العقلية بدنية ، لزم من اختلال البدن ، اختلالها. لكن البدن يختل عند الشيخوخة ، فكان يلزم لا محالة اختلال [القوة العقلية عند الشيخوخة.

وأما بيان عدم التالي : فلأن كثيرا من الشيوخ لا تختل قوته العقلية البتة (٣)] فثبت بما ذكرنا : أن الشرطية حقة ، وثبت أن التالي مفقود ، فوجب كون المقدم كاذبا. ثم قال هذا المستدل : وليس للسائل أن يقول : إن الشيخ إذا توغل في الشيخوخة ، فإنه يصير خرفا ويزول عقله. وهذا يدل على أن القوة العقلية جسدانية. قال : وذلك لأن هذا السؤال مدفوع ، نظرا إلى البحث

__________________

(١) عن القدماء الحجة ... إلخ (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ط).

المنطقي ، ونظرا إلى البحث العقلي. أما البحث المنطقي فهو أنا قلنا : إن كانت القوة العقلية بدنية ، لزم من حصول الخلل في البدن ، حصول الخلل في القوة العقلية. وهذا اللزوم غير حاصل ، لأنه قد يبقى الشيخ مع كمال العقل ، فوجب أن لا تكون القوة العقلية بدنية، لأن انتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم. أما إذا قلنا : إن هذا الخلل قد يحصل مع الشيخوخة ، فإنه لا ينتج شيئا [لأن الاستثناء من التالي ، لا ينتج شيئا (١)] وأما البحث العقلي ؛ فهو أنا بينا أنه لو كانت القوة العقلية بدنية ، لوجب عند حصول الخلل في البدن ، أن يحصل الخلل في القوة العقلية ، وأن لا ينفك ضعف البدن عن ضعف العقل. وحيث حصل هذا الانفكاك علمنا : أن القوة العقلية غنية في ذاتها عن البدن. فلا جرم لم يلزم من حصول الخلل في البدن ، حصول الخلل في العقل. وأما حصول الخلل في العقل في بعض أوقات حصول الخلل في البدن ، فهذا لا يدل على كون القوة العقلية بدنية ، لاحتمال أن يكون الموجب لاختلال العقل في هذه الصورة [سببا آخر (٢)] وهو أن شدة اهتمام النفس بإصلاح البدن ، يمنعها عن استكمال القوة النظرية (٣).

فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

والاعتراض عليه : لا نسلّم إنه لو كانت القوة العقلية بدنية ، لزم اختلالها بسبب حصول كل خلل في البدن. وبيانه من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : القدر المحتاج إليه من صحة البدن في كمال القوة العقلية: مقدار معين. وأما كمال حال البدن في الصحة فإنه غير (٤) معتبر في كمال حال القوة العقلية. وإذا كان هذا محتملا لم يبعد أن يقال : إن ذلك

__________________

(١) من (م ، ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) استعمال (م ، ط).

(٤) غير معين ، وغير معتبر (م ، ط).

القدر المحتاج إليه باقي إلى آخر الشيخوخة [فلا جرم بقي العقل كاملا إلى آخر الشيخوخة (١)].

الثاني : إن الشيخ لعله إنما يمكنه أن يستمر في الإدراكات العقلية على الصحة والكمال ، لأن عقله يتم بعضو من البدن ، يتأخر الفساد والاستحالة إليه ، وإن ظهرت الآفة في سائر القوى والأفعال.

الثالث : إنه لا يمتنع أن تكون بعض الأمزجة أوفق لبعض القوى ، فلعل مزاج الشيخ أوفق للقوة العقلية. ولهذا السبب تقوى فيه القوى العقلية.

الرابع : إن المزاج إذا كان في غاية القوة والشدة ، كانت سائر القوى قوّية فتكون القوى الشهوانية والغضبية قوية جدا ، وقوة هذه القوى ، تمنع العقل من الاستكمال. فإذا حصلت الشيخوخة ، وحصل الضعف ، حصل بسبب ذلك الضعف ، ضعف في العقل ، وضعف في هذه القوى المانعة للعقل من الاستكمال ، وبقدر ما حصل من الضعف في العقل ، حصل الضعف في أضداد العقل ، فينجبر النقصان من أحد الجانبين ، بالنقصان الحاصل في المواضع ، فيحصل الاعتدال.

الخامس : إن الشيخ حفظ المقدمات الكثيرة ، ومارسها ، وكثرت تجاربه ، وهذه الأحوال تعينه على جودة الفكر (٢) وقوة النظر. فالنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن ، صار مجبورا بما ذكرنا.

السادس : إن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات الراسخة ، فصارت الزيادة الحاصلة بهذا الطريق ، جابرة للنقصان الحاصل بسبب اختلال البدن.

السابع : [قال عليه‌السلام (٣)] : «يهرم ابن آدم ، ويشيب منه اثنان : الحرص والأمل» والتجارب دالة على صدق هذه القضية ، مع أن الحرص

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) جودة الفكر ، وقوة الفكر (م ، ط).

(٣) سقط (طا).

[والأمل (١)] من القوى الجسمانية والصفات الخيالية. ثم إن ضعف البدن ، لم يوجب ضعف هذه الصفات. فثبت : أنه لا يلزم من اختلال البدن وضعفه ، ضعف الصفات (٢) البدنية.

الثامن : إن هذه الحجة لا تدل على تكون النفس جوهرا مجردا ، لأن بتقدير أن تكون النفس عبارة عن أجسام مشرقة صافية سماوية مخالفة للطبائع العنصرية ، وأنها لا تقبل الانحلال والذبول والتبدل. فحينئذ لا يلزم من حصول الضعف والانحلال [في البدن (٣)] حصولهما في جوهر النفس.

واعلم : أن هذه الوجوه ، وإن كان يمكن تكلف الأجوبة عنها ، إلا أن الحجة مع هذه السؤالات والجوابات تصير خفية ظنية. والقول بأن الإنسان جوهر مجرد ، لا داخل العالم ولا خارجه : قول مهيب هائل. وإثبات مثل ذلك المذهب المهيب ، بمثل هذه الحجة الضعيفة الظنية : بعيد.

الحجة الثانية : قالوا : القوة العقلية غنية في أفعالها عن الجسم ، وكل ما كان غنيا في فعله عن الجسم ، وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الجسم ، ينتج : أن القوة العقلية غنية في ذاتها عن الجسم.

أما بيان أن القوة العقلية [غنية في أفعالها عن الجسم. فلوجوه ثلاثة :

الأول : إن القوة العقلية (٤)] تدرك نفسها. ومن المستحيل أن يحصل بينها وبين نفسها : آلة متوسطة. فثبت : أن القوة العقلية غنية عن الآلة في إدراكها لنفسها

الثاني : إنها تدرك إدراكها لنفسها وليس هذا الإدراك بآلة.

الثالث : إنها تدرك الجسم الذي يقال : إنه آلتها. ومعلوم أنه ليس بينها

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) ضعف التجارب (م ، ط).

(٣) سقط (ط ، م).

(٤) سقط (ل).

وبين آلتها : آلة أخرى. فثبت : أن القوة العقلية غنية في فعلها عن الآلة.

وأما بيان أن [كل (١)] ما كان غنيا في فعله عن الآلة ، وجب أن يكون غنيا في ذاته عن الآلة. فلوجهين :

الأول : إن القوى الجسمانية كالقوة الباصرة والسامعة ، والخيال والوهم ، لما كانت جسمانية. لا جرم تعذر عليها إدراك ذواتها ، وإدراكها لكونها مدركة لذواتها ، وإدراكها لتلك الأجسام الحاملة لها. فلو كانت القوة العقلية جسمانية ، لتعذر عليها هذه الأمور الثلاثة.

الثاني : إن مصدر الفعل هو (٢) الذات ، فلو كانت الذات متعلقة في قوامها (٣) ووجودها بذلك المحل ، كان الفعل لا محالة صادرا عن تلك الجهة. فيكون لتلك الجهة مدخل في تتميم ذلك الفعل ، فوجب أن لا يحصل ذلك الفعل إلا بشركة من تلك الأجسام. ولما ثبت أنه ليس كذلك ، وجب القطع بأن القوة العقلية : غنية عن الجسم في ذاتها. وهو المطلوب.

والاعتراض عليه : أن يقال : [لم قلتم (٤)] إن القوة العاقلة لما كانت وحدها هي المدركة لذاتها ، ولإدراكها لذاتها ، ولإدراكها لآلتها [وجب أن تكون جسمانية؟ قوله أولا : «إن القوى الحساسة ، لما كانت جسمانية ، لا جرم (٥)] تعذر عليها تلك الآثار الثلاثة. فالقوة العقلية لو كانت جسمانية ، لوجب أن يتعذر عليها هذه الآثار الثلاثة».

فنقول : ولم قلتم إنه لما ثبت حكم في قوة جسمانية ، وجب أن يثبت مثل ذلك الحكم في جميع القوى الجسمانية؟ وهل هذا إلا من باب التمثيلات (٦) التي بينوا في المنطق كونها فاسدة؟.

__________________

(١) من (ل).

(٢) صفة الذات (م ، ط).

(٣) فعلها (م).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (طا ، ل).

(٦) باب التمثيل (م ، ط).

وأما قوله ثانيا : «إذا لم يتوقف صدور هذه الآثار عنها ، على اعتبار حال المحل ، وجب أن لا تتوقف ذواتها على اعتبار حال المحل».

فنقول : أليس أن الصور والأعراض محتاجة إلى محالها ، وليس احتياجها إلى تلك المحال ، إلا لمجرد ذواتها ، ثم لا يلزم من استقلالها بهذا الحكم ، استغناؤها في ذواتها عن تلك المحال؟

فعلمنا : أنه لا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم من الأحكام أن يكون مستغنيا في ذاته عن المحل ، بل نقول : إن جميع الآثار الصادرة عن الأجسام لأجل قوى ، وأعراض (١) حالة في تلك الأجسام. وليس لتلك الأجسام [مدخل (٢)] في اقتضاء تلك الآثار. فعلمنا : أنه لا يلزم من كون الشيء مستقلا باقتضاء حكم ، كونه غنيا في وجوده عن المحل.

الحجة الثالثة : قالوا : القوى الجسمانية تكلّ بكثرة الأفعال ، ولا تقوى على الضعيف(٣) بعد القوي. فإن من نظر إلى قرص الشمس [بالاستقصاء (٤)] فإنه في تلك اللحظة لا يحس بالشعلة الضعيفة. والسمع إذا أحس بصوت الرعد ، فإنه تلك اللحظة لا يحس بصوت الذباب. وعلة ذلك ظاهرة ، وهي أن القوى الجسمانية بسبب مزاولة الأفعال تتعرض موادها للتحلل والذبول ، وذلك يوجب الضعف. وأما القوى العقلية فإنها لا تضعف بسبب كثرة الأفعال ، وتقوى (٥) على الضعيف بعد القوى. فوجب أن لا تكون جسمانية.

والاعتراض : إن القوة الخيالية جسمانية. ثم إنها تقوى على تخيل الأشياء العظيمة ، مع تخيلها للأشياء الحقيرة. فمثلا يمكنها (٦) أن تتخيل صورة

__________________

(١) والأعراض حادثة (م).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) القوى بعد الضعف (م ، ط).

(٤) من (م).

(٥) والقوى على القوى وبعد الضعيف (م ، ط).

(٦) يمكننا (ل ، طا).

الشعلة الصغيرة حال ما تتخيل الشموس والأقمار. وأيضا : كما أن إبصار [الأشياء (١)] القوية القاهرة ، يمنع من إبصار الأشياء الضعيفة ، فكذا تعقل المعقولات القاهرة ، يمنع من تعقل المعقولات الضعيفة. ألا ترى أن المستغرق في معرفة جلال الله تعالى وكبريائه ، يمتنع عليه في تلك الحالة استحضار العلم بسائر الأشياء؟

الحجة الرابعة : إنا إذا حكمنا بأن السواد يضاد البياض وجب أن يحصل في الذهن ماهية السواد والبياض [بناء (٢)] على القاعدة المعلومة من أن الإدراك لا يحصل إلا عند حصول (٣) ماهية المدرك في المدرك. ثم إن البديهة قاضية بأن الجمع بين السواد والبياض ، والحرارة والبرودة في الأجسام : محال. فلما حصل هذا الاجتماع في القوة العقلية ، وجب أن لا تكون القوة العقلية قوة جسمانية وهو المطلوب.

والاعتراض عليه : إن هذه الحجة مبينة على أن من أدرك شيئا فقد حصل في ذات المدرك ماهية المدرك. وهذا الكلام لا يقبله العقل. فإنا إذا تصورنا الكرة ، فلو حصلت الكرية في النفس ، لوجب أن تكون النفس كرة لأنه لا معنى للكرة ، إلا الذات الموصوفة بهذا الشكل. وكذلك القول في السواد والبياض ، والحرارة والبرودة.

فإن قالوا : إن انطباع صورة الكرة في النفس ، مثل انطباعها في المرآة حين نشاهد الكرة في المرآة ، وكما لا يلزم من حصول صورة الكرة في المرآة ، أن تصير المرآة : كرة. فكذا القول في الإدراك النفساني. وأيضا : إنا إذا تصورنا السواد والبياض ، والحرارة والبرودة. فهذا لا يقتضي انطباع هذه الأعراض في النفس. وإنما الحاصل في النفس : صور هذه الماهيات ورسومها ومثالاتها.

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) من (ل ، طا).

(٣) حضور (ل).

قلنا : أما الأول فباطل. لأنا بينا في كتاب «الحس والمحسوس» : أن صور (١) المرئيات غير منطبعة البتة في المرآة. وهذا قول متفق عليه بين أكثر المحققين من الفلاسفة.

وأما السؤال الثاني : فنقول : لما سلمتم أن المنطبع في النفس عند إدراك السواد والبياض ، ليس نفس (٢) السواد والبياض ، بل رسومها ومثالاتها. فلم لا يجوز حصول رسوم هذه الأشياء ومثالاتها في المادة الجسمانية؟ وحينئذ يسقط هذا الدليل [بالكلية (٣)].

الحجة الخامسة : وهي حجة ذكرها المتكلمون. فقالوا : لو كان محل الإدراكات جسما ، وكل جسم منقسم ، فوجب أن لا يمتنع أن يقوم ببعض أجزاء ذلك الجسم : علم (٤) والبعض الآخر منه : جهل. وحينئذ يلزم أن يكون الإنسان الواحد : عالما وجاهلا بالشيء الواحد. وإنه محال.

ولقائل أن يقول : هذه الحجة منقوضة على أصول الفلاسفة. فإن الشهوة والغضب والتخيل من الأحوال الجسمانية. فيلزمهم [تجويز (٥)] أن تقوم الشهوة بأحد الجزءين ، والنفرة بالجزء الثاني ، حتى يكون الإنسان الواحد مشتهيا للشيء ، ونافرا عنه [معا (٦)] ويلزم أيضا : تجويز أن يقوم خيال بأحد الجزءين ، وأن يقوم ضد ذلك الخيال بالجزء الثاني. وحينئذ يلزم اجتماع خيالين متضادين في الإنسان الواحد ، وهو محال.

الحجة السادسة : وهي التي ذكرها «أبو علي بن مسكويه» في أول كتابه : في الأخلاق فقال : «إنا رأينا المادة الجسمانية ، إذا حصلت فيها نقوش

__________________

(١) أن تكون (م ، ط).

(٢) عين (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) علم ضروري (م).

(٥) من (م).

(٦) سقط (ل).

مخصوصة ، فإن وجود تلك النقوش فيها ، يمنع من حصول نقوش غيرها فيها ، وأما النقوش العقلية فبالضد من ذلك. وذلك لأن النفس ، إذا كانت خالية عن جميع العلوم ، والإدراكات. فإنه يصعب عليها التعلم ، فإذا تعلم شيئا ، صار حصول تلك العلوم معينا على سهولة تحصيل سائر العلوم.

فالنقوش الجسمانية متعاندة متنافية ، وأما النقوش العقلية فهي متعاونة متعاضدة. لأن كل نقش [يحصل ، فإنه (١)] يسهل حصول سائر النقوش في عين ذلك المحل ، وذلك يدل على أن محل التعقلات والإدراكات ليس بجسم ولا جسماني».

واعلم : أن هذه الحجة من جنس القياسات الشعرية. وذلك لأن النقوش العقلية ، معناها : العلوم والإدراكات ، والنقوش الجسمانية ، معناها : الأشكال والصور. ولا شك أن العلوم مخالفة بماهياتها وحقائقها للصور والأشكال ، ولا يلزم من ثبوت حكم في نوع من أنواع الماهيات : ثبوته ، فيما يخالف ذلك النوع. وإذا أمكن أن يكون حصول هذا الحكم ، إنما كان بسبب اختلاف هذه الأنواع في ماهياتها ، لم يلزم منه الحكم على تلك المحال بكونها جسمانية أو مجردة.

فهذه جملة الدلائل التي وصلت إلينا في هذا الباب. وقد ظهر أنها بأسرها ضعيفة ، وأنها لا تفيد ظنا قويا ، فضلا عن الجزم واليقين [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ط).

الفصل السادس

في

الدلائل القوية المعتبرة في اثبات النفس

الحجة الأولى : إن هذا الجسد أجزاؤه واقعة في التبدل. والمشار إليه لكل أحد ، بقوله: «أنا» : غير واقع في التبدل ، ينتج : أن هذا الجسد ليس هو [الشيء (١)] المشار إليه بقوله : «أنا».

أما المقدمة الأولى : فالدليل على صحتها وجوه :

الأول : إن جسد الإنسان جوهر [حار (٢)] رطب. والحرارة إذا عملت في الرطوبة ، أصعدت عنها البخارات ، وذلك يوجب انحلال بدن الإنسان.

ولهذا السبب احتاج هذا البدن إلى الغذاء ، ليقوم الغذاء بدل ما تحلل. فثبت : أن التحلل والذوبان : دائم الحصول في بدن الإنسان.

الثاني : إن بدن الإنسان حال ما كان طفلا ، كان شيئا صغيرا ، وحال صيرورته شابا ، يصير جسما عظيما. وذلك يوجب كون أجزائه في التبدل.

الثالث : إن الإنسان قد يكون سمينا ، ثم يصير هزيلا ، ثم يعود سمينا. فالأجزاء قد تبدلت لا محالة بالزيادة والنقصان.

__________________

(١) سقط (م ، ط).

(٢) من (طا ، ل).

الرابع : إنا نشاهد كون هذا الجسد ، واقعا في الذوبان بسبب انفصال الرطوبات الكثيرة منه ، وبسبب انفصال العرق والوسخ. فإن الإنسان إذا دخل الحمام ، وبالغ في تنظيف الجلد من الأوساخ ، حتى صار ظاهر [الجلد (١)] بحيث لو أعيد إليه الحك والدلك: يخرج منه الدم. ثم إذا خرج من الحمام وبقي أسبوعا [ثم عاد و (٢)] دخل الحمام مرة ثانية ، فإنه يجد في الجلد شيئا كثيرا من الأوساخ. وما ذاك إلا لأن الأجزاء التي كانت ملتصقة بالبدن في المرة الأولى ، التصاقا طبيعيا ، وكانت حية ، فإنها في هذه المرة الثانية ، يبست وانفصلت عن البدن ، وزالت الحياة عنها. وهذه الاعتبارات بأسرها دالة على أن جميع أجزاء (٣) هذا الجسد واقعة في التبدل والذوبان والانحلال.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : إن المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» : باق دائم من أول العمر إلى آخره. فالأمر فيه ظاهر ، ويدل عليه وجوه :

الأول : إني أعلم بالضرورة : أني الآن عين ما كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة. وقد بينا في أول هذا الكتاب : أن أظهر العلوم عند الإنسان : علمه بوجود نفسه ، وكما أني أعلم أني أنا موجود الآن ، فكذلك أعلم أني أنا الذي كنت موجودا قبل هذا بعشرين سنة. بل أنا الذي ولدت في السنة الفلانية. وهذا يدل على أن العلم الضروري حاصل لكل أحد بأنه باق من أول العمر إلى آخره.

والوجه الثاني في تقرير هذا المطلوب : هو أنه لو لم يكن ذلك الإنسان المعين باقيا من أول العمر إلى آخره ، لاحتاج في تحصيل العلوم في كل حين وأوان ، إلى كسب جديد ، لأن الذي تعلم العلم وحصله ، إذا فني وزال ، وحصل بعده شيء آخر ، فهذا الحادث ما حصل ذلك العلم ، وما اكتسبه ،

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) أجزاء البدن (م).

فوجب أن لا يحصل له ذلك العلم إلا بكسب جديد. وحيث لا يحتاج إلى هذا الكسب الجديد ، علمنا أن محل العلوم باق من أول العمر إلى آخره.

والوجه الثالث : أنه إذا فني الأول وجاء الثاني فهذا الثاني غير الأول ولا خبر له من حال الأول [البتة (١)] فوجب أن لا يحصل للإنسان علم بأحواله الماضية ، وأن لا يحصل عنده من العلوم إلا العلوم بالأحوال الحاضرة. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن المشار إليه لكل أحد بقوله : «أنا» [شيء (٢)] باق من أول العمر إلى آخره.

فثبت بهذه البيانات : أن الجسد غير باق ، لا بمجموعه ولا بشيء من أجزائه ، وثبت : أن الإنسان باق. ومن العلوم البديهية : أن الباقي لا يكون [عين (٣)] ما هو غير باق. وهذا يقتضي أن الإنسان شيء مغاير لهذا البدن ، وشيء مغاير لهذه الأعضاء المحسوسة التي منها يتولد هذا البدن. وهو المطلوب.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة سارية في أجزاء هذا البدن ، سريان النار في الفحم [وسريان ماء الورد في الورد ، وسريان دهن السمسم في السمسم (٤)] ولا يقال : إن تلك الأجزاء لا بد وأن تكون من جنس الأجسام العنصرية. إما المفردة وإما المركبة. وعلى كلا التقديرين ، فهي قابلة للانحلال والتفرق والتمزق. وحينئذ يعود الكلام المذكور من أنها غير باقية ، والإنسان باق. فوجب أن يكون الإنسان مغايرا لها؟ لأنا نقول : لنا هاهنا مقامان :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : الأجسام مختلفة بالماهية فبعضها هذه الأجسام العنصرية، بسائطها ومركباتها. وبعضها أجسام مخالفة لها. أما الأجسام التي

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) سقط (ط ، ل).

(٤) من (طا ، ل).

هي النفس ، فهي حية لذواتها ، فعالة لذواتها. فإذا اتفق أن نفذت تلك الأجسام الشريفة الروحانية النورانية في تضاعيف البدن ، بقي البدن حيا ، فعالا ، دراكا ، وإذا فسد مزاج البدن واستولت الأخلاط الغليظة عليه ، وصار بحيث لا يقبل الآثار عن الجوهر ، المسمى بالروح ، وانفصل الروح عن البدن؟ فهذا احتمال لا بد من إبطاله.

والمقام الثاني : وهو أنا نسلم أن تلك الأجزاء التي هي الإنسان ، مماثلة لسائر الأجسام في تمام الماهية ، إلا أن الفاعل المختار يبقيها في داخل البدن ، مصونة عن التغير والانحلال ، من أول وقت الحياة إلى آخر وقت الممات ، ثم إنها عند الموت تنفصل. والفاعل المختار يفعل ما بها ما يشاء. إما بأن يوصل إليها الروح والراحة والريحان ، وإما بأن يعذبها بأنواع العذاب والخسران.

والجواب : اعلم : أن الفلاسفة يدفعون هذا الاحتمال ، بناء على مقدمتين :

فالمقدمة الأولى : إنهم أقاموا الدلالة على أن جميع الأجسام ، متماثلة في تمام الماهية. وقد سبق ذكر (١) هذا الدليل.

والمقدمة الثانية : إنه سبحانه وتعالى عام الفيض ، ويمتنع أن يخص أحد المثلين بخاصية وأثر [لا يحصل في الثاني (٢)] وهذه المقدمة فلسفية محضة.

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن تلك الأجزاء الأصلية البدنية مساوية للأجزاء الفرعية القابلة للانحلال في تمام الماهية. وإذا ثبت هذا فنقول : نسبة الأحوال الموجبة للانحلال والذوبان إلى جميع الأجزاء الموجودة في هذا البدن : على التساوي. ويمتنع أن يقال : إن إله العالم خصص بعض تلك الأجزاء بالإبقاء ، والصون عن الانحلال والفناء ، من غير سبب مخصص. لأنا ذكرنا : أن الفيض عام ، وأن الترجيح من غير مرجح محال [في العقول (٣)] وإذا كان الأمر

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) سقط (ط).

كذلك ، وجب حصول الذوبان والانحلال في جميع الأجزاء البدنية ، وحينئذ يندفع هذا السؤال [ويتم هذا الاستدلال. والله أعلم (١)].

الحجة الثانية في المسألة : أن [نقول (٢)] : إن المشار إليه لكل أحد بقول «أنا» قد يكون معلوما له ، حال كونه غافلا عن جميع الأجزاء الظاهرة والباطنة. والمعلوم مغاير لغير المعلوم ، فوجب أن تكون النفس مغايرة لجميع هذه الأجزاء الظاهرة والباطنة.

أما المقام الأول : فالدليل عليه : أن الإنسان حال اهتمامه بالمهم الشديد ، قد يقول تفكرت وأبصرت وسمعت ، مع أنه يكون حال تكلمه بهذا الكلام غافلا عن وجهه ويده وقلبه ودماغه وسائر أعضائه. وذلك يدل على ما ذكرناه.

وأما المقام الثاني : وهو أن المغفول عنه ، مغاير للمعلوم. فهذا بديهي. وإلا لزم اجتماع النقيضين ، وهو محال. وحينئذ يظهر أن النفس غير هذا الجسد (٣).

فإن قيل : إن هذا الكلام عليه سؤالات :

السؤال الأول : لم لا يجوز أن يقال : المعتبر في كون الإنسان إنسانا [أجزاء مخصوصة في قلبه ، أو في دماغه. فأما أن يكون المعتبر في كونه إنسانا (٤)] هو قلبه مع شكله المخصوص ، أو دماغه مع شكله المخصوص ، فلا نقول به ، وإذا كان كذلك فلا جرم أمكنه أن يعرف نفسه حال كونه غافلا عن جميع الأعضاء كالقلب والدماغ [وغير هما (٥)]؟.

السؤال الثاني : إن هذا الدليل بعينه يبطل أن يكون الإنسان جوهرا

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) من (م ، ط).

(٣) غنية عن هذا البدن (م).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (م).

مجردا. وذلك لأن في الساعة التي ذكرتم ، كما يكون الإنسان غافلا عن القلب والدماغ ، فغفلته عن الجوهر المجرد أتم وأكمل. فإن دل ما ذكرتم على أن النفس ليست عبارة عن القلب والدماغ [وغير هما (١)] فبأن يدل على أنها ليست عبارة عن الجوهر المجرد : كان أولى.

السؤال الثالث : إن الدليل الذي ذكرتم قائم في جميع الحيوانات ، فيلزمكم أن تثبتوا لها نفوسا ناطقة مجردة. وذلك بعيد.

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : إنا قد دللنا في باب «نفي الهيولى (٢)» أن كون الجسم جسما متحيزا ، لا يمكن أن يكون صفة قائمة بمحل آخر ، بل هو ذات قائمة بنفسها ، مستقلة بذاتها. وإذا ثبت هذا فنقول : ذلك الإنسان إما أن يكون متحيزا وإما أن لا يكون كذلك. فإن كانت ذاته جوهرا متحيزا وجب أن يكون العالم بتلك الذات : عالما بالمتحيز ، وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد معلوما مجهولا معا. وهو محال. لكنه لا يجب ذلك ، بدليل : أنه إذا كان شديد الاهتمام بأمر من الأمور ، فإنه في تلك الساعة [قد يقول : قلت كذا ، وفعلت كذا. فهو في تلك الساعة عالم بذاته المخصوصة ، مع أنه في تلك الساعة (٣)] يكون غافلا عن معنى التحيز الذاهب في الجهات الستة. فثبت : أنه لو كانت ذاته متحيزة ، لكان كل من عرف ذاته ، وجب أن يكون عارفا بالمتحيز ، وثبت : أنه قد يعرف ذاته ، حال ما يكون غافلا عن المتحيز ، فوجب أن لا تكون ذاته متحيزة. وإذا لم تكن ذاته متحيزة ، وجب أن تكون ذاته (٤) جوهرا مجردا. وهو المطلوب.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «إن هذا الكلام بعينه يدل على أن ذاته يمتنع أن تكون جوهرا مجردا» فنقول : هذا غير لازم ، لأن الجوهر المجرد ذات

__________________

(١) من (م).

(٢) كت ب الهيولي (م).

(٣) من (ل).

(٤) ذاته مجردة (م).

مخصوصة ، وكونه ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز : قيد سلبي. وهذا القيد السلبي مغاير لتلك الذات المخصوصة ، وإذا حصلت هذه المغايرة ، ثبت : أنه لا يمتنع كون تلك الذات المخصوصة : معلومة ، مع الذهول عن ذلك القيد السلبي ، بخلاف ما إذا كانت ذاته المخصوصة متحيزة ، لأنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، كان تحيزه نفس تلك الذات ، لا أمرا مغايرا لها ، فكان يجب أن يمتنع كونه عالما بتلك الذات المخصوصة مع الذهول عن التحيز. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، ثبت أن تلك الذات المخصوصة يمتنع كونها متحيزة ، فظهر الفرق بين البابين.

وأما السؤال الثالث فجوابه : إنه لو ثبت أن الحيوانات تدرك أنفسها المخصوصة ، حال كونها غافلة عن حقيقة التحيز ، لكان السؤال لازما ، إلا أنه لا سبيل إلى معرفة هذه المقدمة. ثم بتقدير أن نثبت لها نفوسا مجردة ، إلا أنه لا يجب (١) كونها نفوسا ناطقة. لأن التجرد (٢) عن المادة : قيد سلبي ، والاشتراك في القيود السلبية لا يدل على التساوي في تمام الماهية.

الحجة الثالثة : لو كانت النفس جسما ، لكانت إما أن تكون عبارة عن الجسم من حيث إنه جسم ، أو عن الجسم الموصوف بالصفات المخصوصة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون النفس جسما. أما الحصر فظاهر ، وأما أنه يمتنع كون النفس عبارة عن الجسم من حيث إنه جسم. فالدليل عليه هو : أن المفهوم من الجسم ، يصدق عليه كونه أمرا مشتركا فيه بين جميع الأجسام. والمفهوم من كونه هذا الإنسان : لا يصدق عليه كونه أمرا مشتركا فيه بين جميع الأجسام. وذلك يدل على أن المفهوم من كونه هذا الإنسان ليس مجرد كونه جسما فقط ، وأما أنه يمتنع كون النفس عبارة عن الجسم الموصوف بالصفات المخصوصة. فالدليل عليه : أن على هذا التقدير تكون ماهية النفس

__________________

(١) يجب غير (ل).

(٢) المجرد (ل).

[ماهية (١)] مركبة من الجسم ، ومن الأعراض المخصوصة. والماهية المركبة يمتنع أن تكون أقوى (٢) قوة من جزئها ، لأن الماهية المركبة محتاجة إلى كل واحد من أجزائها ، والمحتاج أضعف حالا من المحتاج إليه ، كما أن المحتاج إليه يكون أقوى قوة من المحتاج.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو كانت النفس الإنسانية ماهية مركبة من الجسم والعرض ، لوجب أن تكون النفس أضعف حالا من العرض ، فيلزم حينئذ أن يقال : كما أن العرض موجود غير قائم بذاته ، بل محتاج إلى محل يحل فيه [وجب أن يكون الشيء الذي يشير إليه كل أحد بقوله «أنا» يكون موجودا غير قائم بذاته ، بل يكون محتاجا إلى محل يحل فيه (٣)] لكن العلم الضروري حاصل بأن كل أحد يجد ذاته ذاتا قائمة بالنفس ، غنية عن محل تحل فيه ، فوجب أن لا تكون النفس عبارة عن جسم مخصوص موصوف بأعراض مخصوصة. فثبت : أنه لو كانت النفس جسما لكانت إما أن تكون مجرد كونه جسما أو يكون جسما موصوفا بصفات مخصوصة. وثبت فساد القسمين ، فوجب أن لا تكون (٤) النفس جسما. فإن قيل : هذا [الكلام (٥)] أيضا لازم عليكم ، لأن النفس المخصوصة ، إما أن تكون عبارة عن النفس من حيث إنها نفس ، وإما أن تكون عبارة عن النفس [من حيث إنها نفس (٦)] موصوفة بالصفات المخصوصة. والأول باطل ، لأن النفس [من حيث إنها نفس (٧)] مفهوم مشترك فيه بين جميع النفوس ، وهذا الإنسان من حيث إنه هذا الإنسان ، ليس مفهوما مشتركا فيه بين جميع الناس. والثاني أيضا باطل. وإلا لكان أحد أجزاء ماهية هذه النفس ، هو العرض ، وما يكون أحد أجزاء ماهية

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) أشد من جزئها (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) أن تكون (ط).

(٥) من (م).

(٦) سقط (طا ، ل).

(٧) من (م ، ط).

العرض ، يمتنع أن يكون جوهرا. فثبت : أن الذي ذكرتموه في الجسم ، هو بعينه وارد عليكم في النفس.

فنقول في الجواب : لم لا يجوز أن تكون ذات كل نفس ممتازة عن سائر النفوس. بحقيقته المخصوصة ، ولا يلزم من اشتراكها في كونها نفوسا ، أن يجب تماثلها في حقائقها المخصوصة. لأن معنى كونها نفوسا أنها موجودات مدبرة للبدن ، والاستواء في اللوازم والآثار لا يدل على الاستواء في الماهية. فظهر الفرق.

الحجة الرابعة : لو كانت النفس جسما ، لكانت إما أن تكون عبارة عن الجسم من حيث إنه جسم ، أو عن جسم مخصوص موصوف بصفات مخصوصة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون النفس جسما. أما الحصر فظاهر.

وأما فساد القسم الأول : فظاهر. كما بينا في الدليل المتقدم ، بقي الكلام في بيان فساد القسم الثاني ، فنقول : الصفة التي باعتبارها صار الإنسان المعين : إنسانا (١) إما أن تكون قائمة بمجموع تلك الأجزاء ، أو بكل واحد واحد ، من أجزاء ذلك المجموع والأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بكون الإنسان جسما.

أما بيان فساد القسم الأول فلأن ذلك المجموع إنما يحصل عند حصول تلك الأجزاء. فإما أن يقال : إنه حصل لتلك الأجزاء وحدة ، باعتبارها صار ذلك المجموع شيئا واحدا ، أو لم يحصل هذا المعنى. والأول باطل. وإلا لزم. إما قيام تلك الوحدة بالمحال الكثيرة. وإما كون تلك الوحدة مسبوقة بوحدة أخرى إلى غير النهاية ، وكلاهما محال. والثاني أيضا باطل. لأنه إذا لم يحصل لذلك المجموع وحدة باعتبارها كان شيئا واحدا. فلو كانت الصفات التي لأجلها صار ذلك الإنسان المعين : معينا ، لزم قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة ، وهذا محال لوجهين :

__________________

(١) المعين ذلك الإنسان (ل).

الأول : إنه يلزم حلول العرض الواحد بالمحال الكثيرة ، وهو محال.

الثاني : إنه لما كانت تلك الأغراض قائمة بكل واحد ، من تلك الأجزاء [فهذا يعود إلى القسم الثاني ، وهو كون تلك الصفات قائمة بكل واحد من تلك الأجزاء (١)] فنقول : وإنما قلنا : إن هذا القسم الثاني. باطل ، لأنه إذا كان كل واحد من تلك الأجزاء ، موصوفا بالصفات التي لأجلها كان هذا الإنسان المعين إنسانا معينا. لزم أن يقال : إن ذلك الجسم ليس إنسانا واحدا ، بل أناسا كثيرين. لكن العلم الضروري حاصل لكل أحد بأنه إنسان واحد ، لا أناسا كثيرين. وإن لم يكن هذا المعنى معلوما بالضرورة ، فليس عند البشر علم ضروري. فثبت بهذا البيان : أن هذا القسم باطل.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : الموصوف بالصفات التي لأجلها حصل للإنسان المعين ، جزء واحد من الأجزاء التي لا تتجزأ. فنقول : إن نفينا الجزء الذي لا يتجزأ [فقد سقط هذا الكلام بالكلية. وأما إن أثبتنا الجزء الذي لا يتجزأ (٢)] فهذا أيضا باطل. وذلك لأنه ثبت : أن المبدأ عام الفيض ، فيمتنع أن يخص الذات المعينة بصفة معينة ، إلا لأجل اختصاصه باستعداد [خاص. لأجله يصير أولى بتلك الصفة واختصاص الجزء الواحد الذي لا يتجزأ باستعداد (٣)] قبول الحياة والعلم والقدرة : محال وذلك لأن سائر الأجزاء إن كانت موصوفة بذلك الاستعداد ، فحينئذ يكون كل واحد منها عالما قادرا. وقد فرضنا أن العالم القادر ليس إلا الواحد. هذا خلف.

وإن كان ما عدا ذلك الجزء غير موصوف بذلك الاستعداد ، بل باستعداد مضاد لاستعداد قبول الحياة والعلم والقدرة ، فذلك الجزء مغلوب بحسب ذلك الاستعداد ، فيما بين سائر الأجزاء. لأن على هذا التقدير لم يوجد جزء موصوف بذلك الاستعداد إلا ذلك (٤) الجزء فقط. وكل ما سواه فإنه موصوف بما يضاد

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) إلا جزء ذلك الجزء فقط (ط).

تلك الحالة. ومن المعلوم أن المانع إن كان في غاية الغلبة والقوة ، فإنه يمتنع حصول الاستعداد في ذلك المغلوب المقهور. بل الغالب يقلب المقهور إلى صفة نفسه ، وإلى حالة نفسه [فثبت بهذا : أنه يمتنع أن يقال : إن ذلك الجزء الواحد ، اختص بذلك الاستعداد (١)] وإذا امتنع هذا ، فقد امتنع اتصافه وحده بالصفة المعتبرة في الإنسانية. فثبت بما ذكرنا : أنه لو كان الموصوف بالصفات المعتبرة بالإنسانية هو الجسم ، لكان الموصوف بتلك الصفة ، إما مجموع الأجزاء ، أو كل واحد من ذلك المجموع ، أو واحد بعينه. وثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل القول بأن الموصوف بالصفات [المعتبرة (٢)] في الإنسانية هو الجسم.

الحجة الخامسة : أن نقول : لو كان الحي القادر [العالم (٣)] هو الجسم ، لكان كل واحد من تلك الأجزاء قابلا لهذه الصفات ، إما أن يتوقف على كون الآخر كذلك ، وإما أن لا يتوقف (٤) حصول الاستعداد في أحد الجانبين على الثاني ، ولا يتوقف الثاني على الأول. وإما أن يستغني كل واحد من الجانبين عن الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول بأن الحي القادر العالم : هو الجسم باطلا.

أما بيان أن القسم الأول : باطل : فهو أنه لما كان حصول الاستعداد في هذا الجزء يتوقف على حصول الاستعداد في ذلك الجزء ، وهذا التوقف حاصل من الجانب الثاني ، فحينئذ يلزم توقف كل واحد منهما على الآخر ، وذلك دور ، والدور باطل.

وأما بيان أن القسم الثاني باطل : فلأن على هذا التقدير يكون كل واحد

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) سقط (طا).

(٣) من (ل).

(٤) أن يتوقف (م ، ط).

من تلك الأجزاء مستقلا (١) لقبول الحياة والموت والجهل [والعلم (٢)] والقدرة والعجز ، وذلك يوجب القول. بحصول نوعين من أنواع المحالات :

الأول : إن بتقدير أن تحصل الحياة والعلم والقدرة في جميع الأجزاء ، فحينئذ يكون كل واحد منها حيا عالما قادرا على حدة ، وحينئذ لا يكون الإنسان الواحد إنسانا واحدا ، بل أناسا كثيرين. والعلم بفساده ضروري.

والنوع الثاني من المحالات : إنه إذا كان حصول هذه الحالة لكل واحد من تلك الأجزاء لا يتوقف على حصولها للجزء الثاني ، فحينئذ لا يمتنع كون أحد تلك الأجزاء ميتا جاهلا عاجزا حال كون الثاني حيا عالما قادرا ، ولا يمتنع أيضا : اتصاف أحد الجزءين بالعلم بالشيء حال اتصاف الجزء الثاني بالجهل بذلك الشيء. ولا يمتنع أن يحاول أحد الجزءين فعلا ، ويحاول الجزء الثاني دفعه ومنعه. وحينئذ يصير حال تلك الأجزاء ، مساويا لحال جماعة من الناس ، في كون بعضهم عالما بالشيء حال ما يكون [البعض (٣)]] مانعا منه ، ولما كان العلم الضروري حاصلا بامتناع هذه المعاني ، ثبت فساد هذا القسم.

وأما القسم الثالث : وهو توقف أحد الجانبين على الآخر ، واستغناء الآخر عن الأول فهذا أيضا باطل لوجهين :

الأول : إن تلك الأجزاء متشابهة متماثلة ، بناء على القول بتماثل الأجسام. والأشياء المتماثلة في الماهية يمتنع اختلافها في اللوازم والنتائج (٤).

__________________

(١) مستعدا (م).

(٢) سقط (طا).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (م ، ط).

والثاني : إن اختصاص ذلك الجزء الواحد. بذلك الاستعداد الخاص مع كون سائر الأجزاء مخالفة له في تلك الصفة. قد بينا : أنه محال. فثبت بما ذكرنا : فساد الأقسام الثلاثة، وذلك يبطل القول بأن النفس : جسم.

الحجة السادسة في المسألة : أن نقول : لا بد من الاعتراف بوجود شيء واحد يكون موصوفا بجميع أنواع الإدراكات لجميع أنواع (١) المدركات ويكون هو المباشر لتلك الأفعال. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن تكون النفس غير جسم ، وغير جسماني. وهذا الدليل ، إنما يتم بتقرير مقدمات ثلاثة :

أولها : إن الموصوف بجميع الإدراكات شيء واحد.

وثانيها : إن ذلك الشيء ، كما أنه هو الموصوف بجميع الإدراكات ، فكذلك هو الفاعل لجميع الأفعال.

وثالثها : إنه لما كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : النفس ليست جسما ، ولا حالة في الجسم.

أما المقدمة الأولى : فالدليل على صحتها : إنا إذا رأينا لون العسل حكمنا بأن طعمه: الحلاوة. والقاضي على الشيئين ، لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فوجب وجود شيء يكون هو بعينه مدركا للألوان والطعوم ، حتى يمكنه أن يحكم بأن هذا الملون هو ذلك المطعوم.

وأيضا : إذا سمعنا صوتا مخصوصا حكمنا بأن صاحب هذا الصوت هو فلان ، الذي صورته كذا وكذا ، فلا بد هاهنا من شيء واحد ، يكون هو بعينه [سامعا للأصوات ، ومبصرا للصور ، حتى يمكنه أن يحكم بأن صاحب هذا الصوت هو بعينه صاحب تلك الصورة. فثبت : أنه لا بد من وجود شيء يكون هو بعينه (٢)] مدركا لجميع المحسوسات بالحواس الخمسة. ثم نقول :

__________________

(١) أقسام (ط).

(٢) من (طا ، ل).

إن ذلك الحاس هو بعينه المتخيل. وذلك لأنا إذا تخيلنا صورة «زيد» أو تخيلنا صوته ، أو تخيلنا طعم العسل أو رائحته ، أو حرارة النار ، أو برودة الماء. فإذا أحسسنا بإحدى الحواس الخمسة [أحد هذه المحسوسات (١)] حكمنا : بأن هذا المحسوس هو بعينه ذلك المتخيل ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فوجب الإقرار بوجود شيء يكون بعينه الحساس ويكون هو بعينه ذلك المتخيل. ثم نقول : إن القوى الوهمية عند القوم : عبارة عن قوة تحكم على الأشخاص المحسوسة بمعان جزئية غير محسوسة ، مثل : الحكم على هذا الشخص بأنه عدو ، وعلى ذلك الآخر بأنه صديق ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فوجب الاعتراف بوجود شيء واحد يكون هو بعينه مدركا لهذه الصور ، ولهذه المعاني ، حتى يمكنه أن يحكم على تلك الصور بهذه المعاني. ثم نقول : القوة المفكرة هي التي تقوى أولا. على تركيب الصور بعضها بالبعض.

وثانيا. على تركيب المعاني بعضها بالبعض (٢). وثالثا. على تركيب بعض الصور ببعض المعاني. ورابعا. على تحليل بعضها عن البعض. ولا شك أن هذا التركيب والتحليل حكم على البعض بثبوت البعض الآخر ، أو بسلبه عنه.

والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فلا بد من شيء واحد يكون هو الحساس للكل ، ويكون هو بعينه [المتخيل للكل ، ويكون هو بعينه المدرك للصور والمعاني ، ويكون هو بعينه (٣)] المتصرف فيها بأسرها بالتركيب تارة ، وبالتحليل أخرى. ثم نقول : إنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص بأنه إنسان وأنه ليس بفرس. والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما ، فلا بد من شيء واحد يكون هو بعينه مدركا لهذا الجزئي ولهذا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) بعض الأجزاء (م ، ط).

(٣) من (طا ، ل).

الكلي ، حتى يمكنه أن ينسب ذلك الكلي إلى ذلك الجزئي [تارة بالانحلال (١)] وتارة بالإيجاب ، وتارة بالسلب. فظهر بهذا البرهان الذي لا ريب فيه : أن الموصوف بجميع الإدراكات الكلية والجزئية ، وأن المتصرف فيها بالتحليل والتركيب ، يجب أن يكون شيئا واحدا. وهو المطلوب.

المقدمة الثانية في بيان أن ذلك الشيء الواحد ، الذي هو المدرك ، يجب أن يكون بعينه هو الفاعل لجميع الأفعال : والدليل عليه : أن الإنسان إنما يفعل بالقصد والاختيار. والفعل الاختياري معناه : أنه إذا اعتقد في الشيء ، أنه مشتمل على نفع خالص ، أو راجح. أوجب هذا الاعتقاد حصول رغبة في ذلك الفعل ، وإذا حصلت تلك الرغبة ، صار القادر فاعلا. وأما إذا اعتقد أن في الفعل الفلاني مفسدة خالصة أو راجحة ، أوجب ذلك الاعتقاد حصول نفرة عن ذلك الفعل [وإذا حصلت تلك النفرة ، صار القادر ممتنعا عن الفعل (٢)] وإذا ثبت هذا ، ثبت أن ذلك المدرك بعينه ، يجب أن يكون هو الموصوف بالرغبة تارة ، وبالنفرة أخرى ، إذ لو كان الموصوف بالرغبة والنفرة شيء مغاير لذلك المدرك لكانت هذه الرغبة والنفرة ، حاصلة لشيء خالي عن الإدراك والاعتقاد. وحينئذ يكون حصول تلك الرغبة ، وتلك النفرة ، لا لأجل ذلك الاعتقاد. وقد فرضناه معللا به. هذا خلف. وأيضا : فالراغب في الشيء أو النافر عنه ، قد أشار فهمه إلى ذلك الشيء المرغوب فيه أو المهروب منه [فثبت : أن المريد للفعل أو الترك ، يجب أن يكون هو بعينه مدركا لذلك الشيء (٣)] وظاهر أن الفاعل للفعل هو الذي أراد ذلك الفعل ، ولما ثبت أن الفاعل [هو بعينه ذلك الشيء ، الذي أراده ، وثبت : أن ذلك المريد هو بعينه الذي أدركه ، ثبت أن الفاعل هو بعينه ذلك المدرك. وهذا برهان قاطع على أن

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

الفاعل (١)] والمريد والمدرك : شيء واحد بعينه. وأن توزيع هذه الأحوال على هذه الذوات المتباينة : قول لا يليق بالعاقل البتة.

ومن العجائب جدا في هذا الباب : أن «جالينوس» قال : «القلب مبدأ الغضب والفرح والغم» ثم قال : «وليس في القلب قوة مدركة ، وإنما القوة المدركة حاصلة في الدماغ» وهذا القول لا يليق بالعاقل لأنه ما لم يحصل اعتقاد كون ذلك الشيء منافيا (٢) للمزاج ، امتنع صيرورته مغضوبا عليه ، وما لم يحصل اعتقاد أنه ملائم للمزاج امتنع حصول الفرح به. فالقول بأن القلب محل الغم والفرح والغضب. مع كونه خاليا عن الإدراك : قول لا يليق بالعاقل البتة. فثبت بما ذكرنا من البيان الظاهر الجلي القوي : أن المدرك لجميع أنواع الإدراكات ، وأن المريد والكاره ، وأن الفاعل والتارك ، يجب أن يكون شيئا واحدا.

المقدمة الثالثة في (٣) بيان أنه لما كان العالم القادر شيئا واحدا ، وجب أن يكون ذلك الشيء غير جسم وغير حال في الجسم :

والدليل عليه وجهان :

الأول : إنه لو كان جسما ، لكان ذلك الجسم. إما أن يكون مجموع هذا البدن ، أو جسما داخلا فيه ، أو داخلا في عضو من الأعضاء الموجودة فيه ، أو جسما خارجا عنه. والأقسام الثلاثة باطلة.

وإنما قلنا : إنه يمتنع (٤) أن يكون ذلك الجسم عبارة عن مجموع ذلك البدن ، لأنا نعلم بأن السمع والبصر والتخيل والتفكر والتذكر ، غير حاصل في

__________________

(١) سقط (م).

(٢) ملائما (م).

(٣) البيانات (م).

(٤) لا يجوز (م ، ط).

اليدين ولا في الرجلين ، ولا في أكثر الأعضاء. والعلم بذلك ضروري ، فيمتنع أن تكون جملة البدن موصوفة بتلك الصفات. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون ذلك الجسم جسما موجودا في داخل البدن. لأن ذلك الجسم. إن كان مشابكا في جملة أجزاء البدن (١) عاد المحال الأول. وإن كان حاصلا في موضع معين من البدن ، فهذا باطل. وإلا لكنا نجد في أبداننا موضعا معينا مشتملا على شيء موصوف بمجموع هذه الصفات. والعلم الضروري حاصل بأنا لا نجد في هذا البدن موضعا موصوفا بمجموع هذه الصفات.

فإن قالوا : هب أنكم لا تعرفون ذلك الموضع ، إلا أن عدم العلم بالشيء ، لا يدل على العلم بعدمه. فنقول : إن علم كل أحد بنفسه ، علم ضروري ، وهو سابق على جميع العلوم. بدليل : أني كلما علمت أو اعتقدت شيئا ، فإني أعلم كوني عالما بذلك الشيء أو معتقدا له. وعلمي بنفسي ، سابق على علمي بكوني عالما بذلك الشيء أو معتقدا له. فثبت : أن علمي بنفسي أجلى العلوم الضرورية. فإذا كان المشار إليه بقولي «أنا» : عبارة عن ذلك الجسم الموجود في ذلك الجسم الموجود في ذلك الموضع المعين من البدن ، وكان ذلك الشيء بعينه موصوفا بجملة هذه الصفات. وهي السمع والبصر والذوق [والشم (٢)] واللمس والتخيل والتفكر والتذكر والتعقل. فإن الإنسان كلما علم كونه موصوفا بصفة من هذه الصفات ، فقد علم نفسه. فإذا كان ذلك العالم هو ذلك الشيء المحصور في ذلك الموضع. فحينئذ نعلم بالضرورة : أن ذلك العالم الموصوف بتلك الصفات ، هو الشيء الموجود في ذلك الموضع ، فوجب أن نعلم بالضرورة أن الشيء المشار إليه بقولي : «أنا» : هو الشيء المختص بذلك الموضع. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أنه يمتنع أن يكون الشيء الموصوف بهذه الصفات جسما حاصلا في موضع معين من هذا البدن.

__________________

(١) البدن وأجزائه (م).

(٢) من (ل).

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون ذلك الشيء جسما خارجا عن البدن ، فهو معلوم الفساد بالضرورة. وإذا بطلت هذه الأقسام الثلاثة ، ثبت : أن ذلك الشيء ليس بجسم.

والوجه الثاني في بيان أن ذلك الشيء ليس بمتحيز : هو أن نقول : ذلك المتحيز ، إما أن يكون منقسما ، أو لا يكون منقسما. والقسمان باطلان. أما أنه يمتنع أن يكون منقسما. فلأن الموصوف بهذه الصفات ، إما أن يكون مجموع تلك الأقسام ، أو كل واحد منها أو واحد منها معينا. والكل باطل ، لعين البيان المذكور في الدليل المتقدم.

وأما أنه يمتنع أن يكون غير منقسم ، فهو إنا إن نفينا الجوهر الفرد ، فقد تم المقصود ، وإن أثبتناه أبطلناه بعين ما ذكرناه في الدليل [الأول (١) والله أعلم].

الحجة السابعة : إن نفس كل أحد شيء واحد. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع كونه جسما.

أما بيان المقام الأول : فهو أن أعرف المعارف ، وأظهر الظاهرات : علم كل أحد بأنه موجود ، وعلمه بأنه واحد.

أما بيان الأول : فالدليل عليه أني إذا علمت شيئا فإني أحكم على نفسي بكوني عالما بذلك المعلوم ، والحكم بشيء على شيء ، مسبوق بتصور الطرفين ، وهذا يقتضي أن علمي بذاتي ، كان سابقا على علمي بذلك الشيء ، حتى حكمت على نفسي بكونها عالمة بذلك المعلوم.

وأما بيان الثاني : فالدليل عليه : أني لو لم أكن شيئا واحدا ، بل كنت أشياء كثيرة ، وأنا عبارة عن مجموعها. لكان كل واحد من تلك الأشياء عالما بحال نفسه ، ويكون غافلا عن حال الآخر. وحينئذ لا يكون ذلك المجموع

__________________

(١) سقط (م ، ط). وفي م : المتقدم.

عالما بمجموع تلك الأحوال. فلو كنت أشياء كثيرة ، لوجب أن لا أكون عالما بأحوال نفسي ، ومعلوم أن ذلك باطل ، بل نقول : إن من المعلوم بالضرورة أن الذي أشير إليه بقولي «أنا» : شيء واحد [منفرد ، وغير متعدد. وأن الفرق بين علمي بأني أنا شيء واحد (١)] وبين الحكم على مجموع أشخاص من الناس بأنهم مجموع واحد : معلوم بالضرورة ، بل هو من أظهر العلوم الضرورية. فثبت : أن نفس كل [أحد (٢)] شيء واحد. وأما المتحيز ، والحال في المتحيز ، فإنه يمتنع أن يكون واحدا ، بناء على نفي الجوهر الفرد ، وأما على القول بإثبات [الجوهر الفرد (٣)] فإنه يمتنع أيضا أن تكون النفس جزءا لا يتجزأ. وذلك يدل على أن النفس ليست بمتحيز ولا حال في المتحيز. وهو المطلوب.

فهذا شرح جملة الوجوه القوية في إثبات تجرد النفس.

الحجة الثامنة في إثبات هذا المطلوب : إن بديهة العقل قاضية بأن الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد يمتنع أن يكون سببا لكماله ، وسببا لنقصانه معا. وإذا ثبت هذا فنقول : إنا نعلم بالضرورة أن المواظبة على الأفكار الكثيرة في العلوم الدقيقة توجب كمال حال النفس. فإن النفس بسبب هذه الأفكار تنتقل من القوة إلى الفعل في الكمالات العقلية ، وتصير نورانية مشرقة مضيئة مبتهجة. والمواظبة على الأفكار الكثيرة المذكورة توجب نقصان حال البدن وهلاكه ، وذلك لأن عند حصول الاشتغال بتلك الأفكار والاستغراق فيها ، يستولي الجفاف على الدماغ ، ويضعف حال الهضم فيسوء حال البدن. فثبت : أن المواظبة على الأفكار المذكورة ، توجب كمال حال النفس ، ونقصان حال البدن. فلو كانت النفس عين البدن أو جزءا من أجزائه ، لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد ، سببا للكمال والنقصان معا. وذلك محال.

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ط).

فوجب الجزم بأن النفس هي شيء غير البدن ، وغير كل واحد من أجزائه وهو المطلوب.

واعلم : أن الاعتبار المذكور يختص بالقوة النظرية ، وهو أيضا قائم في رياضة الإنسان إذا كان مواظبا على الأكل والشرب والتفرج والتنزه بالجسمانيات ، فإنه تختل قوته العقلية ، وتفسد ، ولا يبقى معه منها شيء يلتفت إليه ، أو يعتبر به فإن من المشهور في المثل : «البطنة تذهب بالفطنة» أما إذا راض الإنسان نفسه بالامتناع عن المأكولات ، والانقطاع عن اللذات الجسمانية ، وجلس في بيت مظلم بحيث لا يبصر شيئا ولا يسمع شيئا ، وتكلف إزالة الصور المحسوسة والمثل الجسمانية عن الفكر والخيال ، وواظب على هذه الحالة مدة [مديدة (١)] فإنه تصير نفسه في غاية الكمال ، وبدنه في غاية الضعف والنحافة. وهذا الاعتبار يدل على أن كل ما كان سببا لسعادة النفس ، فهو بعينه يصير سببا لشقاوة البدن. وكل ما كان سببا لشقاوة النفس فهو بعينه سبب لسعادة البدن. وذلك يدل على أن النفس شيء غير البدن ، وغير أجزاء هذا البدن وأعضائه.

وهاهنا وجه ثالث يناسب الوجهين الأولين ، وهو أن النوم بالنسبة إلى الجسد كالموت وبالنسبة إلى النفس كالحياة وكاليقظة. وذلك لأن الإنسان في حال اليقظة ، تكون نفسه كالنائمة عن عالم الغيب ، الغافلة عن أحوال ذلك العالم ، المعرضة عنها ، فإذا نام الإنسان بحسب جسده ، فحينئذ تحصل اليقظة [للنفس (٢)] فتتصل بعالم الغيب ، وتقف على بعض أحوال ذلك العالم ، وهو المنامات الصادقة ، الدالة على أحوال المغيبات ، فإذا استيقظت فقد حصلت اليقظة للبدن ، وصارت النفس نائمة منقطعة عن عالم الغيب.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن حياة النفس ، وسعادتها ، ويقظتها ،

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (طا).

توجب موت البدن وشقاوته وقوته. وأن حياة البدن وسعادته ويقظته ، توجب موت النفس وشقاوتها ونومها. وذلك من أدل الدلائل على أن النفس شيء غير البدن ، وغير كل واحد من أجزائه [وأبعاضه (١)] وهو المطلوب.

الحجة (٢) التاسعة في بيان أن النفس ليست جسما : هو أن نقول : لو كانت النفس العاقلة الفاهمة الفاعلة جسما ، فكان إما أن يكون مجموع هذا البدن أو جزءا داخلا فيه ، أو جسما خارجا عنه. والكل باطل ، فبطل القول بكون النفس جسما. إنما قلنا : إنه لا يجوز أن تكون عبارة عن مجموع هذا البدن ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة : أن أكثر أجزاء هذا المجموع خال عن الفهم والإدراك ، فإن العظام لا حس لها ، والأخلاط لا حس لها البتة ، والرباطات أيضا لا حس لها ، وهذا بحسب الأعضاء البسيطة.

وأما بحسب الأعضاء المركبة ، فنحن نعلم بالضرورة : أن الرجلين واليدين وكثيرا من الأعضاء الظاهرة والباطنة ، ليست محلا للعقل والفهم والإدراك. وإذا ثبت أن أكثر الأعضاء البسيطة والمركبة خال عن العلم والفهم والإدراك ثبت : أنه لا يمكن أن يقال : إن مجموع البدن هو هذا العالم القادر المريد الفاعل. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون العالم القادر المريد الفاعل جسما في داخل البدن ، فلأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، يكون ذلك الجسم (٣) فاعلا بالمماسة ، وفاعلا بالاعتماد على سائر الأجسام. لكن من المعلوم أنه كل ما كانت الحاجة إلى الآلات أقل ، كان ذلك الفعل أسهل. وكل ما كانت الحاجة إلى الآلات أكثر ، كان ذلك الفعل أشق. ولا شك أن ذلك الجسم لا يكون مماسا لجميع أجزاء البدن ، لأن الجسم الواحد يمتنع حصوله في الأماكن الكثيرة دفعة واحدة ، فلزم أن يقال : إن تأثيره في بعض أجزاء البدن أسهل من

__________________

(١) سقط ((ط).

(٢) هذه الحجة والحجة العاشرة في الأصول : مذكورة في نهاية الفصل السابع وموضوعه : الدلائل السمعية على أن النفس غير البدن.

(٣) يكون الأمر : غير (ل).

تأثيره في سائر الأجزاء. ومعلوم أنه ليس كذلك. ولأن تأثيره في الإبصار بالعين ، مثل تأثيره في السماع بالأذن. فثبت : أن تأثير النفس في استعمال جميع الأعضاء بالسوية.

وقد دللنا : على أنه لو كان جسما داخلا في البدن ، لما حصلت هذه التسوية ، فحينئذ يلزم أن لا تكون النفس جسما موجودا في البدن.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : النفس جسم مشابك للبدن ، فبعض أجزائه مشابك في العين ، وبعضها في الأذن ، وبعضها في القلب [وبعضها في الدماغ (١)] وبهذا التقدير فيتولى كل جزء من أجزاء النفس ، جزءا من أجزاء البدن. فنقول : هذا باطل من وجوه (٢) :

الأول : إنه على هذا التقدير يكون الإنسان عبارة عن مجموع أجزاء كثيرة متفرقة في أعضاء مختلفة. ونحن قد دللنا في الفصل المتقدم على أن الإنسان يجب أن يكون شيئا واحدا موصوفا بجميع العلوم وبجميع العلوم وبجميع الإدراكات ، وبجميع القدر ، وأن يكون هو بعينه فاعلا لجميع الأفعال. وذلك يبطل هذا الذي ذكرتم.

الوجه الثاني في الجواب : إن بتقدير أن يكون الأمر كما ذكرتم ، إلا أنه يلزم أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء مستقلا بالتصرف في ذلك العضو المخصوص (٣) ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن لا يكون اشتغال بعض تلك الأجزاء بفعله الخاص به ، مانعا للجزء الآخر من فعله الخاص به. ومعلوم : أن هذا حاصل. فإن الإنسان إذا اشتغل بالغضب ، امتنعت الشهوة عليه ، وإذا اشتغل بالشهوة ، امتنع الغضب عليه [وإذا اشتغل بالفكر امتنع كلاهما عليه (٤)].

__________________

(١) من (ل).

(٢) وجهين [الأصل].

(٣) في (طا ، ل) وضع الناسخ عبارات سهوا ومحلها في الفصل الرابع عشر.

(٤) من (م ، ط).

والوجه الثالث في الجواب : إن هذا السؤال إنما يتم لو قلنا : إنه حصل مع كل جزء من أجزاء البدن : جزء من أجزاء النفس. حتى يقال : بأن كل واحد منها يحرك ذلك الجزء من غير احتياج إلى شيء من الآلات ، فحينئذ تكون نسبة النفس إلى جميع الأعمال على السوية. ومعلوم أن ذلك [باطل (١)] وإلا لزم أن تكون جميع الأعضاء متساوية في كونها عضوا واحدا رئيسا ، مستقلا بقبول قوة الحياة. ومعلوم : أنه ليس كذلك. لأن القلب والدماغ أقوى في تعلق النفس بهما من سائر الأعضاء. فثبت بهذه البيانات : أنه لا يجوز أن تكون النفس جسما ساريا في البدن.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : النفس جسم مغاير للبدن وغير داخل فيه ، فهذا بعيد عن العقل ، ولم يقل به أحد. ولما بطلت الأقسام الثلاثة بقي القسم الرابع ، وهو أن النفس جوهر مجرد عن الجسمية وعلائقها ، وأن نسبته إلى جميع الأجزاء على السوية ، فلم يكن اشتغاله باستعمال بعض الأجزاء ، أشق عليه من استعمال سائر الأعضاء [وهو المطلوب (٢)].

الحجة العاشرة : لو كانت النفس هذا البدن ، أو عضوا من أعضاء هذا البدن ، لامتنع الحشر والنشر والثواب والعقاب ، ولو كان الأمر كذلك ، لكان الإنسان أخس الحيوانات (٣) ولكان تكوينه وإيجاده عبثا محضا. وهذه اللوازم باطلة ، فكان القول بأن النفس عين هذا البدن ، أو عضو من أعضائه : باطلا. فنفتقر في تقرير هذا الدليل إلى [تقرير(٤)] مقدمات.

المقدمة الأولى : في بيان أن النفس ، لو كانت عبارة عن هذا البدن ، أو عن عضو من أعضائه ، لكان القول بالبعث والقيامة باطلا. فتقريره : إنا نشاهد أن هذا البدن مع جميع أعضائه وأجزائه يتفرق ويتمزق ، ويصير فانيا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) من جميع الموجودات (م).

(٤) سقط (ل).

بالكلية. والشيء إذا فني وعدم فإعادته بعينه بعد فنائه : محال في بديهة العقل. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة ، فإذا مات الإنسان وتفرقت [تلك الأجزاء (١)] والأعضاء ، فالزائل إنما هو الصفات والأعراض ، وأما تلك الأجزاء فهي بأعيانها باقية. فلا جرم كان ذلك الإنسان باقيا بعينه. فإذا عادت تلك الأعراض إليه ، فإن هذا الإنسان الموجود في هذه الحالة ، هو عين الإنسان الذي كان موجودا قبل ذلك. فنقول: هذا باطل ، لأن بتقدير أن يكون الإنسان عبارة عن جسم مخصوص ، فإنه يمتنع أن يقال : ذلك الإنسان عبارة عن مجرد تلك الأجسام ، لأن تلك الأجسام ، قد كانت موجودة قبل أن تركبت واتصفت بتلك الصفات ، وما كان هذا الإنسان موجودا. وإذا مات ذلك الإنسان بعد حياته ، وتفرقت تلك الأجزاء. فتلك الأجزاء باقية ، مع أن ذلك الإنسان غير باق. فعلمنا : أن بتقدير أن يكون الإنسان جسما ، فإنه لا يكون الإنسان المخصوص عبارة عن مجرد الجسمية ، بل يجب أن يكون عبارة عن جسم موصوف بصفات مخصوصة. وهي : العلم والقدرة والحياة. وإذا كان الإنسان عبارة عن مجموع تلك الذوات مع هذه الصفات ، فعند فناء هذه الصفات ، قد عدم أحد الأجزاء المعتبرة في تحقق هذا الإنسان ، من حيث إنه هذا الإنسان.

ولما ثبت بحكم بديهة العقل : أن إعادة المعدوم : محال ، ثبت : أن عود ذلك العرض الذي هو أحد أجزاء ماهية ذلك الإنسان : محال. فيلزم : أن يكون عود ذلك الإنسان بعينه محالا. فثبت بما ذكرناه : أنه لو كان النفس عبارة عن هذا البدن ، أو عن عضو من أعضاء (٢) هذا البدن لكان القول بالبعث والقيامة : باطلا ، ولكان بقاء النفس بعد موت البدن : باطلا. وهذا برهان قوي في إثبات هذا المطلوب.

وأما بيان المقدمة الثانية : وهي قولنا : لو كان القول بالبعث باطلا ،

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) أعضائه لكان (م).

وكان القول ببقاء النفس بعد موت (١) البدن باطلا ، لكان الإنسان أخس من جميع الحيوانات. فالدليل عليه : أن الإنسان إنما يتميز عن سائر الحيوانات بقوة العقل والعقل يوجب الشقاء في اللذات الجسمانية ، ويوجب السعادة في الكمالات العقلية ، المنتفع بها بعد الموت. والدليل عليه : أن العاقل يحمله عقله على التفكر في الماضي والحاضر والمستقبل.

أما التفكر في الماضي. فكل ما مضى من الأمور (٢) المكروهة. فإذا تذكره ، وقع في قبله حسرة شديدة ، بسبب حصولها في الماضي. وكل ما مضى من الأحوال الطيبة ، فإذا تذكره وقع في قلبه حسرة شديدة بسبب فوتها وزوالها.

وأما التفكر في الأحوال الحاضرة. فهذا إما أن يكون في خير أو شر. فإن كان في الخير ، فالعقل يوجب الغم من وجوه :

الأول : إنه يخاف زوالها فيحصل له ألم الخوف في الحال.

الثاني : إنه لا راحة إلا وفوقها مرتبة أخرى أعلى منها ، فإذا عرف العقل ذلك ، اشتاق إلى المرتبة القوية ، واستحقر المقدار الحاصل ، فيحصل الغم والألم.

الثالث : إن كل ما يحصل ، فإنه يزول الالتذاذ به ، وحصوله يقوي الرغبة في الأحوال المستقبلة. فهو يوجب الخوف الشديد ، والفزع التام. لأنه لا يعرف أنها تحصل على وفق المراد ، أو على خلاف المراد. مثبت بما ذكرناه : أن العقل يوجب حصول هذه الراحات الجسمانية ، منغصة مقرونة بالخوف والمكروه وألم القلب. وأما سائر الحيوانات ، فإنها لما كانت خالية عن العقل ، كان انتفاعها باللذات الجسدانية ، خاليا عن التنغيص الحاصل بسبب العقل ، فوجب أن يكون انتفاعها بهذه اللذات [الجسدانية (٣)] أكمل من انتفاع الناس بها.

__________________

(١) الموت باطلا (م).

(٢) المدركات (م).

(٣) سقط (ط).

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن كون العقل موجبا للكمال والسعادة ، إنما يحصل بعد الموت. فإذا كان الغرض هو أن النفس لا تبقى البتة بعد موت البدن ، لم يحصل من العقل منفعة فيما بعد الموت ، وقد بينا أنه من أقوى الأسباب الموجبة لتنغيص هذه اللذات الجسدانية ولتكديرها ، وإبطال الانتفاع بها. وحينئذ يظهر [عن هذا (١)] أنه لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن (٢) لكان الإنسان أخس الحيوانات وأرذلها ، وأدناها قدرا وقيمة. فإن امتيازها عن غيرها ، ليس إلا بالعقل الذي لا فائدة فيه. إلا تنقيص [الخيرات (٣)] وتنغيص اللذات والطيبات. ولما شهدت بديهة العقل بأن هذا اللازم باطل ، وأن الإنسان أشرف الحيوانات وأعلاها قدرا وقيمة ، بسبب حصول هذا العقل له ، وظهر أن العقل سبب نقصان الخيرات الجسمانية العاجلة ، وجب القطع بأن كمال العقل [إنما حصل (٤)] وجلالته ورفعته ، إنما حصل بسبب أنه سبب لحصول الكمالات فيما بعد موت (٥) البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أنها باقية بعد موت البدن.

وأما بيان المقدمة الثالثة : وهي قولنا : لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن ، لكان خلق الإنسان عبثا. فالدليل عليه : أن هذا الإنسان إما أن يكون مخلوقا للخير والمصلحة والراحة ، أو يكون مخلوقا للضرر والبلاء ، أو لا يعتبر أحد هذين القسمين.

أما القسم الثاني ، فهو بعيد لما ثبت : أن الخير غالب ، والشر مغلوب.

وأما القسم الثالث ، فباطل لأن هذا المعنى ، كان حاصلا عند البقاء على العدم الأصلي. فلم يبق إلا أن الحق هو القسم الأول ، وهو أنه خلق للفوز بالجنة ، والراحة ، والحكمة ، والمصلحة. فنقول : محل الفوز بتلك

__________________

(١) من (م).

(٢) الجسد (م).

(٣) من (م).

(٤) من (ل ، طا).

(٥) الموت وهذا (م). ، (ل).

الخيرات ، إما في هذه الحياة الجسمانية وإما بعدها. والأول باطل. لأن دار الدنيا ، دار البلاء والعناء والشقاء. وسيأتي تقرير هذه المقدمات في كتاب «الأخلاق» عند مذمة هذه الحياة الجسمانية على سبيل الاستقصاء. ولما بطل هذا القسم ، ثبت : أن المقصود من تكوين هذه النفوس البشرية : فوزها بالخيرات والسعادات فيما بعد موت البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن ، وغير جملة أجزائه وأبعاضه ، وعلى أن النفس باقية بعد موت البدن. إما في السعادة والسلامة ، أو في الشقاوة [والعذاب.

وليكن هاهنا

وليكن هاهنا آخر كلامنا في إثبات النفس. والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (ل ، طا).

الفصل السابع

في

الدلائل السمعية على أن النفس غير البدن

اعلم : أن جماعة من الذين قلت بضاعتهم في العلوم الحقيقية ، أخذوا يشنعون بأن القول بأن النفس غير البدن : قول مخالف للكتاب والسنة. فوجب الجزم بإبطاله. فلهذا السبب أوردنا [هذا الفصل (١)] في هذا الكتاب (٢) تنبيها على أن الكتاب والسنة مملوءان ، من الدلائل الدالة على هذا المطلوب. فنقول : أما الدلائل القرآنية فمن وجوه :

الحجة الأولى : إن القرآن دل على أن السعداء : أحياء بعد الموت ، وعلى أن الأشقياء أحياء بعد الموت. وذلك يدل على أن النفس غير البدن [وعلى أنها باقية بعد موت البدن (٣)].

أما بيان ذلك في حق السعداء : فهو قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ : أَمْواتاً. بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٤) ووجه الاستدلال : أن العلم الضروري حاصل بأن هذا البدن

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) في هذا الباب (ل ، ط).

(٣) سقط (طا ، ل).

(٤) آل عمران ١٦٨ ـ ١٦٩ والتكملة من (طا ، ل) ويقول القرطبي في تفسيره «وصار قوم إلى أن هذا مجاز. والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة. وهو كما يقال :

بعد موته : ميت ، ولو جاز الشك في موته ، لجاز أن يقال : إن جميع الجمادات أحياء عاقلة ناطقة ، وذلك يوجب القول بالسفسطة وزوال العقل. فثبت بمقتضى بديهة العقل : أن بعد موت البدن ، يكون الجسد ميتا. والله تعالى نص على أن ذلك الإنسان حي بعد هذا الموت ، وحينئذ نقول : الإنسان ليس بميت بعد موت البدن ، وأما البدن وجميع اجزائه فإنه ميت بعد موته ، ينتج من الشكل الثاني [أن الإنسان (١)] شيء مغاير للبدن ، ولجميع أجزائه وأبعاضه. وهذا كلام في غاية القوة.

وأما تقرير هذا المعنى في حق الأشقياء : فهو قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٢) وقوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٣) والمراد : أن شرح تعذيب أولئك الكفار والفساق وتعذيبهم ، لا يتم إلا إذا كانوا أحياء عقلاء يميزون بين العذاب وبين الراحة.

فهذا يقتضي كون أولئك الكفار والفساق أحياء بعد موت البدن ، وحينئذ يرجع القياس المنعقد من الشكل الثاني. وأيضا : فالقرآن والأخبار ناطقة بحصول ثواب القبر تارة ، وبحصول عذاب القبر. وذلك يدل على أن المكلف حي بعد موت هذا البدن ، وهذا يدل على القطع (٤) بأن المكلف شيء مغاير لهذا البدن.

__________________

 ـ موت التقى حياة لا فناء لها

قد مات قوم ، وهم في الناس أحياء

فالمعنى : أنهم يرزقون الثناء الجميل» أ. ه وعلى رأي القوم هذا : لا يكون نعيم في القبر. ويكون رأي الإمام الرازي غير ملزم إلا لمن يلزم نفسه به.

(١) سقط (ل).

(٢) غافر ٤٦ وفي تفسير القرطبي : أن الفراء النحوي جعل في الآية تقديما وتأخيرا. وعلى رأيه لا يكون عذاب في القبر. قال إن معنى الآية : ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

النار يعرضون عليها غدوا وعشيا. والأحسن من رأيه : أن كلمة (النَّارُ) مجاز عن الشدائد التي أصابتهم في الحياة الدنيا ، وهي الأخذ بالسنين ونقص من الثمرات.

(٣) نوح ٢٥ وفي تفسير القرطبي : إن منكري عذاب القبر يقولون في تفسير الآية : «صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار».

(٤) أن القطع (ل).

الحجة الثانية : وهي قريبة مما تقدم. إنا نرى جميع طوائف العالم ، وجميع الفرق متفقين على أنه إذا مات إنسان. فإن اعتقدوا فيه أنه كان حال الحياة ، موصوفا بالصفات المحمودة: ذكروه بالرحمة والتعظيم ، فتارة يقولون : صلوات الله عليه. وتارة يقولون : رحمة الله عليه. وإن اعتقدوا فيه أنه كان [حال الحياة (١)] موصوفا بالصفات المذمومة من الجهل والشرور والإيذاء : ذكروه باللعن والخزي والعذاب. ولو قدرنا أن الإنسان لم يبق حيا بعد موت البدن، لكان هذا الكلام عبثا باطلا ، فإن من لا يكون حيا ، استحال اتصال الرحمة والروح والراحة إليه ، واستحال أيضا إيصال الذم واللعن إليه. ولو كان الأمر كذلك ، لكان أهل المشرق والمغرب من الزمان الأقدم إلى هذا الزمان مطبقين على الفعل الباطل [والقول الفاسد ، وهذا بعيد. فإن إطباق الخلق العظيم على العلم الباطل (٢)] غير ممكن. فهذا يدل على أن فطر النفوس وبدائه العقول شاهدة بأن الإنسان شيء آخر غير هذا البدن ، وأنه يبقى بعد موته حيا ، فإن كان سعيدا كان أهلا للرحمة ، وإن كان شقيا كان أهلا للعنة.

الحجة الثالثة : إنه جرت عادة العقلاء بأنهم يذهبون إلى المزارات المتبركة ويصلون ويصومون عندها ، ويدعون الله في بعض المهمات ، فيجدون آثار النفع ظاهرة ، ونتائج القبول لائحة.

يحكى أن أصحاب «أرسطاطاليس» كانوا كلما صعبت عليهم مسألة ، ذهبوا إلى قبره ، وبحثوا فيها ، فكانت تنكشف لهم تلك المسألة ، وقد يتفق أمثال هذا كثيرا ، عند قبور الأكابر من العلماء والزهاد [في زماننا (٣)] ولو لا أن تلك النفوس باقية بعد موت الأبدان، وإلا لكانت تلك الاستعانة بالميت الخالي عن الحس والشعور [عبثا (٤)] وذلك باطل.

ومما يقوي هذا : هو أن الأحياء قد يصلون لأجل الأموات ، وقد يتصدقون لأجلهم. وقد يتفق كثيرا (٥) : أن الحي إذا نام عند قبر بعض

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م ، ط).

(٣) من (م).

(٤) من (م).

(٥) هذا الاستدلال لا يليق بعقل المؤلف.

الأموات ، فإنه يراه في المنام ، وقد يدله على أمر مخصوص ، وقد يدله على دفين ، كان هذا الحي غافلا عنه ، وقد ينبهه على بعض المهمات. وكل ذلك يدل على أن النفوس باقية بعد موت الأجساد ، وكل ما دل على أن النفس باقية بعد موت الجسد ، فإنه يكون دليلا على أن النفس غير الجسد.

الحجة الرابعة : الآيات الدالة على أن الإنسان بعد موته يرجع إلى الله في السعادة والكرامة قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (١) ولا شك أن المراد من هذه (النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) : هو ذلك المكلف الذي حصل له اطمئنان ، بأنه يجب الإعراض عن الجسمانيات ، والإقبال على عالم المفارقات والروحانيات. ثم إنه تعالى قال لهذه النفس : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) وهذا الرجوع لا يحصل إلا بعد الموت ، ثم إنه تعالى وصفها حال الرجوع بهذه الصفات الثلاثة :

أولها : كونها مطمئنة في العلوم الحقة ، والأخلاق الفاضلة ، التي لا تزول بسبب زوال الجسد.

ثانيا : كونها راضية عن خالقها في جميع الأحوال.

وثالثها : كونها مرضية عند الله تعالى في جميع الاعتقادات والأخلاق. ثم لما وصفها الله تعالى بهذه الصفات قال لها : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي ، وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وكل ذلك تصريح بأن الشيء الذي هو الإنسان في الحقيقة باقي ، حي ، عاقل فاهم بعد موت هذا البدن [وإذا ثبت هذا فنقول : الإنسان باقي ،

__________________

(١) الفجر ٢٧ ـ ٣٠ والتكملة من (ل ، ط). وإلى ربك فيها تأويلان : ١ ـ إلى جسد صاحب النفس ـ وهذا يدل على أن النفس غير الجسد. ٢ ـ إلى ربك أي إلى الله تعالى ـ وهذا يدل على أن النفس هي الروح والجسد. وهو صحيح. والرجوع إلى الله في الآخرة ، أي ارجعي إلى ثواب ربك وكرامته. وادخلي في عبادي أي في الصالحين منهم ، وادخلي الجنة معهم.

حي ، عاقل ، فاهم بعد موت هذا البدن. والبدن (١)] ليس كذلك. وهذا يدل على أن الإنسان شيء مغاير لمجموع هذا البدن ، ولكل واحد من أجزائه وأقسامه.

ويقرب من هذه الآية قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ. مَوْلاهُمُ الْحَقِّ. أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) (٢) فحكم عليهم بعد موتهم : بأنهم (رُدُّوا إِلَى اللهِ. مَوْلاهُمُ الْحَقِ) وذلك يقتضي بقاؤهم بعد موت البدن ، وعلى أنه تعالى يحاسبهم بعد موت البدن. وكل ذلك يدل على ما ذكرناه. فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد بهذا الخطاب : جزء [مخصوص (٣)] من أجزاء البدن؟ فنقول : فعلى هذا التقدير يكون المكلف المثاب والمعاقب والمخاطب والمعاتب ، ليس إلا ذلك الجزء ، فيكون الإنسان هو ذلك الجزء ، لا هذا البدن. ولا شيئا من الأعضاء المحسوسة كالقلب والدماغ. ونحن لا نطلب إلا هذا القدر في هذا المقام (٤).

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (٥) فذكر المراتب الخمسة في التغيرات الجسمانية. ثم قال في المرتبة السادسة منها ، وهي مرتبة تعلق الروح بالبدن : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [وهذا يدل على أن الروح ليس من عالم الأجسام ، وإلا لكان ذلك أيضا تغيرا للجسم من حالة إلى حالة أخرى ، فكان من جنس المراتب الخمسة المتقدمة. وكما لم يقل في شيء منها : (ثُمَ‌ أَنْشَأْنَاهُ‌ خَلْقاً آخَرَ)] وجب أن لا يذكر هذا

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) الأنعام ٦١ ـ ٦٢ والتكملة من (طا ، ل) وفي تفسير القرطبي : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) أي ردهم الله بالبعث للحساب».

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) تقديم وتأخير في (ل).

(٥) المؤمنون ١٢.

(٦) من (م ، ط). والإنشاء الآخر. قال فيه القرطبي : قيل هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا. وعن ابن عباس : خروجه إلى الدنيا. وعن مجاهد : كمال شبابه. والصحيح : أنه عام ـ

اللفظ في هذه المرتبة أيضا. وحيث خص هذه المرتبة بهذا اللفظ ، دل ذلك على أن الروح ليس من جنس الأجسام.

الحجة السادسة : قوله (١) عليه‌السلام في بعض خطبه : «إذا حمل الميت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش ، وتقول : يا أهلي ويا ولدي. لا تلعبن بكم الدنيا ، كما لعبت بي. جمعت المال من حله ومن غير حله (٢) ثم خلفته لغيري. فالمهنأة له ، والتبعة علي. فاحذروا مثل ما حل بي».

ووجه الاستدلال : أنه عليه‌السلام. حكم بأن الجسد الميت المحمول على النعش حال كونه كذلك ، ترفرف روحه فوق النعش ، وتقول : «يا أهلي. ويا ولدي. لا تلعبن بكم الدنيا. ، كما لعبت بي» ومعلوم : أن الأهل والولد ، ما كانا إلا كذلك الإنسان. فلما قال الروح المترفرف هذا الكلام ، ثبت أن الإنسان [ما كان إلا ذلك الروح. ولما كان ذلك الروح باقيا ، وجب كون ذلك الإنسان (٣)] باقيا حال ما كان الجسد ميتا محمولا على النعش. وذلك من أظهر الدلائل على أن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد ، ومغاير لجميع أبعاضه وأجزائه.

ويقرب من هذا الدليل : ما روي أنه عليه‌السلام ألقى جثث القتلى يوم بدر في وهدة ، ثم نادى بأعلى صوته ، وقال : «لقد وجدنا ما وعدنا ربنا : حقا. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟» فقيل له : يا رسول الله : أتخاطب الموتى (٤)؟ فقال : «إنهم أقوى سمعا وفهما منكم» وهذا يدل على أنهم فاهمون عاقلون مدركون ، حال كون تلك الأبدان ميتة متمزقة متفرقة. والحي مغاير لما

__________________

ـ في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت.

(١) قوله عليه‌السلام حديث آحاد. وإن كان صحيحا فإنه على حكاية الحال. أي لو فرض ولو قدر أن ينطق الميت في هذه الحال ، لنطق بما معناه هذا.

(٢) في (ل) : «ومن غير حله. فالمهنأة لغيري ... إلخ».

(٣) سقط (ط).

(٤) الحديث آحاد.

هو غير حي. فوجب أن يكون الإنسان مغايرا لهذه الجثث ولجميع أجزائها وأقسامها.

الحجة السابعة : كل خبر ورد في بيان أن أهل الطاعات وصلوا إلى الخيرات والراحات. وأن أهل المعاصي وصلوا إلى العذاب [والبلاء (١)] فهو بعينه يدل على أن النفس غير البدن ، وعلى أنها لا تموت بموت البدن ، وعلى أنها تبقى مدركة عاقلة فاهمة بعد موت البدن. وذلك لأنا نشاهد هذه الأبدان متفرقة متمزقة ، خالية عن الحس والإدراك والشعور. فالقول بإثبات الحس والمعرفة والإدراك لها ، مكابرة في الضروريات. ثم إن هذه النصوص دالة على أن أولئك الناس ، واصلون إما إلى الخيرات والسعادات وإما إلى الشرور والآفات. والعلم الضروري حاصل بأن الحي العاقل [الفاهم (٢)] مغاير لما ليس كذلك. وهذا يفيد القطع بأن النفس غير البدن ، وعلى أنها باقية بعد موت البدن. ولما كانت الآيات والأخبار الدالة على وصول السعداء إلى منازل الخيرات ، ووصول الأشقياء إلى دركات الآفات ، خارجة عن العد والإحصاء ، لا جرم كانت الدلائل السمعية الدالة على أن النفس غير البدن ، وغير عضو من هذه الأعضاء خارجة عن العد والإحصاء [والله أعلم(٣)].

الحجة الثامنة : إن الدلائل النقلية (٤) والشواهد العقلية ، متطابقة متوافقة على إضافة جميع الأعضاء والأجزاء البدنية إلى الإنسان ، بلام التمليك. وهذا يقتضي كون الإنسان مغايرا ، لجميع الأعضاء والأجزاء. فنفتقر هاهنا إلى تقرير ثلاثة مقامات (٥) :

أحدها : إن الدلائل النقلية تدل على ما ذكرناه.

وثانيها : إن الشواهد العقلية تدل على ما ذكرناه.

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) اليقينية (ط).

(٤) في الأصل : أشياء ..

وثالثها : إنه لما كان الأمر كذلك ، وجب كون النفس مغايرة للبدن ، ولجميع هذه الأعضاء.

أما المقام الأول : فيدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ : الْإِيمانَ) (١) فأضاف القلب إليهم ، لأن قوله (قُلُوبِهِمُ) يجري مجرى قولهم : دورهم وقصورهم ودوابهم.

والثاني : قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ ، لا يَفْقَهُونَ بِها. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ ، لا يُبْصِرُونَ بِها. وَلَهُمْ آذانٌ ، لا يَسْمَعُونَ بِها) (٢) والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

الأول : إنه أضاف القلوب والأعين والآذان إليهم ، كما يضاف المملوك إلى المالك.

الثاني : إنه تعالى : بين أن القلوب لا تفقه ، وإنما يفقه الإنسان بالقلب ، فيكون القلب كالآلة له في هذا الفهم ، وأن الأعين والآذان لا تبصر ولا تسمع ، وإنما يبصر الإنسان ويسمع بعينه وأذنه. وهذا تصريح بما ذكرناه.

والثالث : إن الله تعالى قال : (كَلَّا ، بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٣) فأضاف القلب إليهم.

وإذا وقفت على هذا البيان أمكنك أن تجد آيات كثيرة دالة على هذا المطلوب.

وأما المقام الثاني : وهو بيان أن الشواهد العقلية تدل على ما ذكرناه : فذلك لأن فطرة كل أحد ، وبديهة عقله : تحكم بصحة قوله : إن رأسي كذا ،

__________________

(١) المجادلة ٢٢ وتشبيه المؤلف في غير موضعه لأن الدور تستقل عن صاحبها. والقلب إذا استقل عن الجسد : مات وإضافة العضو إلى الإنسان لا تدل على أن العضو مستقل بنفسه وله روح. ونفس ، كما للإنسان. والكتابة هنا ليست على حقيقتها. بل هي مجاز ، وكذلك إضافة القلب إليهم مجاز ، بمعنى : أثبت. أي هم بمنزلة من ثبت على الإيمان.

(٢) الأعراف ١٧٩ والتكملة من (ل). وفي تفسير القرطبي : أنهم صاروا بمنزلة من لا يفقه.

(٣) المطففون ١٤ ، والران : هو الذنب ، على الذنب ، حتى يسود القلب.

وقلبي كذا ، ودماغي كذا [وأذني كذا وسمعي كذا ، وبصري كذا وكذا (١)] وكل من نازع في صحة هذه الإضافة فقد نازع في أظهر العلوم وأكملها وأجلاها.

وأما المقام الثالث : وهو أن هذا يدل على أن النفس غير البدن ، وغير كل واحد من هذه الأعضاء :

فالدليل عليه : إن هذه الإضافة صحيحة بمقتضى القرآن ، والخبر ، وبمقتضى بديهة العقل. وأما إضافة الشيء إلى نفسه فإنها باطلة بمقتضى بديهة العقل. ويلزم من مجموع هاتين المقدمتين : أن الشيء الذي أضيفت كل هذه الأعضاء إليه ، إضافة الملكية ، يكون مغايرا لها ، وذلك يقتضي أن تكون النفس مغايرة للبدن ومغايرة لجميع أعضائه وأقسامه.

فإن قيل : فهذا أيضا وارد عليكم ، لأنه يصح (٢) أن يقال : روحي ونفسي وذاتي وحقيقتي ، وهذا يقتضي أن تكون [نفسه (٣)] مغايرة لنفسه ، وأن تكون ذاته مغايرة لذاته. وإنه محال.

والجواب : أما قوله : «نفسي» : فهذا يقتضي حصول التغاير بين المضاف والمضاف إليه ، فحملنا المضاف على البدن ، وحملنا المضاف إليه على تلك الذات المخصوصة ، المشار إليها بقوله : «أنا» وحينئذ تصح هذه الإضافة.

وأما قوله : «روحي» فيحمل الروح على هذه البخارات المخصوصة ، إما في القلب، وإما في الدماغ. وحينئذ تصح الإضافة ، وأما قوله : «ذاتي وحقيقتي» فنقول : لا شك أن الذوات والحقائق متشاركة بأسرها في كونها ذوات وحقائق ، ومتخالفة بكون كل واحدة منها تلك الحقيقة المخصوصة ، وما به

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) لا يصح (م).

(٣) سقط (ل).

المشاركة غير ما به المخالفة ، فقد حصلت المغايرة من هذا الوجه ، فلا جرم كفت هذه المغايرة في صحة هذه الإضافة.

أما لو كانت النفس عبارة عن مجموع هذا البدن ، أو عن عضو مخصوص ، فحينئذ كانت تلك النفس عين (١) ذلك البدن ، وذلك البدن عين تلك النفس ، فكان قوله «بدني وقلبي» يوجب إضافة الشيء إلى نفسه بالاعتبار الواحد. وذلك محال. فظهر الفرق [بين البابين. والله أعلم (٢)].

__________________

(١) غير (ط).

(٢) من (طا ، ل).

ولاحظ : في المخطوطات بعد هذا : «الحجة التاسعة في بيان أن النفس ليست جسما ... إلخ».

المقالة الثالثة

في

صفات النفوس البشرية

الفصل الأول

في

أن النفوس هل هي

متحدة في الحقيقة والماهية أم لا؟

لقد عظم اختلاف الناس في هذا الباب :

فذهب جمع عظيم من قدماء الفلاسفة : إلى أن النفوس الإنسانية والحيوانية : متساوية في تمام الماهية ، وأن اختلاف أفعالها وإدراكاتها [إنما حصل (١)] بسبب اختلاف آلاتها وأدواتها ، فلو كان دماغ سائر الحيوانات مساويا لدماغ الإنسان ، لكانت نفوس سائر الحيوانات مساوية للنفوس الإنسانية في التعقلات والتفكرات ، ولو كان لسان سائر الحيوانات ، مساويا للسان الإنسان. لكان مساويا له في قوة النطق. فهذا مذهب قال به بعض الناس.

وأما الشيخ [الرئيس (٢)] «أبو علي بن سينا» : فإنه زعم أن نفوس سائر الحيوانات قوى جسمانية ، وليست جواهر مجردة. وأما النفوس الناطقة البشرية فإنها جواهر مجردة في ذواتها. ثم زعم : أنها بأسرها متساوية في تمام الماهية والحقيقة ، ولما شاهدنا اختلاف الناس في الذكاء والبلادة ، والأخلاق الفاضلة والمذمومة. زعم (٣) : أن ذلك الاختلاف إنما حصل بسبب اختلاف الأمزجة البدنية. فمن كان صفراوي المزاج ، كان الفرح وحسن الأخلاق غالبا

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) من (ل).

عليه. ومن كان بلغمي المزاج ، كانت آثاره شبيهة بأحوال السوداء.

ولما ثبت في باب المزاج : أن مراتب الأمزجة مختلفة ، وغير متناهية ، لا جرم كانت مراتب اختلاف النفوس في قوة الإدراك [وقوة الحركة (١)] غير متناهية.

والطائفة الثالثة : زعموا : أن النفس البشرية جنس تحته أنواع مختلفة بالماهية ، وتحت كل نوع أشخاص متساوية بالماهية ، وكل نوع من تلك الأنواع ، فهو كالنتيجة من روح معين من أرواح الكواكب ، فنوع منها حرة كريمة فاضلة ، قوية في الفهم والأفعال الجملية ، ونوع آخر منها نذلة شريرة بليدة. وذلك الروح الكوكبي الذي هو المبدأ لذلك النوع ، هو المسمى في اصطلاحات قدماء الفلاسفة : بالطباع التام. وإنما سموه بهذا الاسم ، لأن المعلول لا بد وأن يكون من جنس العلة. وشبيها بها. فكل صفة وخصلة ، حصلت لذلك النوع المعين من النفوس البشرية ، فهي إنما حصلت بتأثير ذلك الروح الفلكي ، ولا شك أن تلك الخواص والصفات في ذلك الروح الفلكي ، أكمل منها في تلك النفوس. فلهذا السبب سموا تلك الأصول (٢) بالطباع التام. وهذه النفوس كالأولاد لذلك الروح ، وهو كالأب لهذه النفوس. وكما أن الأب له شفقة ومحبة على أولاده ، فكذلك لذلك الروح مزيد معونة في تربية ذلك النوع من النفوس. فإن كان ذلك الطباع التام من الأرواح الفاضلة الكريمة الخيرة العاقلة ، ظهرت تلك الآثار في هذه النفوس. وإن كانت بالضد كان [أحوال تلك النفوس على وفق أحوال ذلك الأب. وأيضا : فتلك النفوس لما كانت (٣)] من نوع واحد ، لا جرم حصل بينها نوع مجانسة ومشاكلة ، وحصل بينها لهذا السبب مزيد محبة ومودة.

ولهذا السبب قد يتفق بين شخصين أجنبيين من المحبة ما لا يزاد عليها.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) النفوس المسماة بالطباع التام (م).

(٣) سقط (م ، ط).

وقد يتفق بين آخرين من النفرة والبغضة ما لا يزاد عليها ، والأظهر : أن هذا المذهب هو الذي كان يذهب إليه صاحب الوحي والشريعة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث قال : «الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف» وقال أيضا : «الناس معادن ، كمعادن الذهب والفضة» وهذا [المذهب (١)] هو المختار عندنا.

والطائفة الرابعة : قالوا : النفوس البشرية ، وإن كان قد يوجد فيها ما يكون بعضها أشد مشاكلة للبعض في العلوم والأخلاق ، إلا أن تلك المشابهة والمشاكلة واقعة في الصفات لكن المشاكلة في الصفات لا تدل على المماثلة في الماهية ، فكل واحد من جواهر النفوس [البشرية (٢)] مخالف بالماهية والذات المخصوصة لسائر النفوس ، وإن كانت متساوية في الصفات.

فهذا شرح هذه المذاهب في هذا الباب :

أما القائلون بتماثل النفوس في تمام الماهية. فقد احتجوا على صحة قولهم : بأن قالوا : لا شك أن النفوس الناطقة متساوية في كونها نفوسا ناطقة بشرية. وبعد حصول الاستواء في هذا المفهوم. إما أن يقال : إنها مختلفة باعتبار آخر ، وإما أن لا تكون كذلك. والأول باطل. وإلا لكان ما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فحينئذ يلزم كون كل واحدة من تلك النفوس مركبة من جزءين ، وذلك على النفوس التي هي [جواهر (٣)] مجردة : محال. ولما بطل هذا القسم ، بقي الثاني. وهو أن النفوس الناطقة البشرية ، كما أنها متساوية في هذا المعنى ، فهي متساوية في تمام الماهية.

وإذا ثبت هذا ، فحينئذ يجب أن يكون مجال اختلاف النفوس في إدراكاتها وأفعالها ، على اختلاف الأمزجة.

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ل ، طا).

(٣) سقط (ط).

هذا هو الوجه الذي تكلفناه للقوم. وإن كنا ما رأينا للشيخ البتة ، في هذا الباب : كلاما.

واعلم أن هذه الحجة ضعيفة جدا من وجوه :

الأول : إن المراد من كونها نفوسا : كونها مدبرة لهذه الأبدان. والمراد من كونها ناطقة : كونها قابلة للعلوم الكلية ، والإدراكات المجردة العقلية. وهذا يقتضي اشتراك هذه النفوس في كونها مدبرة للأبدان [وفي كونها (١)] قابلة للعلوم. وقد ثبت : أنه لا يمتنع في العقول أن تكون الماهيات البسيطة المختلفة بحسب ذواتها المخصوصة ، تكون متساوية في بعض الآثار واللوازم. وعلى هذا التقدير فقد سقطت هذه الحجة.

السؤال الثاني : إن كونها مدبرة للأبدان ، وكونها قادرة على تدبير الأبدان : أحكام. إنما تحصل بعد تمام الماهية ، لأنه ما لم تتم ذاته ، امتنع أن يصير موصوفا بالقدرة على تدبير الأبدان ، وامتنع أن يصير موصوفا بكونه قابلا للعلوم الكلية ، والمعارف القدسية. فثبت بهذا البرهان : أن هذه المعاني : أمور خارجة عن الماهية ، وغير مقومة لها ، ولا داخلة فيها. وإذا كان كذلك ، لم يلزم من وقوع المشاركة فيها حصول المشاركة في جزء من الأجزاء المقومة للماهية.

السؤال الثالث : هب أن هذا يقتضي وقوع التركب في هذه الماهية ، إلا أن هذا النوع من التركب لا يقتضي الجسمية. ألا ترى أن السواد والبياض يتشاركان في اللونية ، ويتخالفان في بعض أجزاء الماهية ، فوجب أن تكون ماهية البياض والسواد مركبتين من الجنس والفصل ، ومع ذلك ، فلم يلزم من حصول هذا النوع من التركب ، كونهما جسمين : فكذا هاهنا. فثبت : أن هذه الحجة : ضعيفة [باطلة (٢)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) سقط (طا ٢ ، ر ل).

وأما القائلون باختلاف جواهر النفوس. فقد احتجوا عليه بوجوه اعتبارية قوية.

الحجة الأولى : إن الإنسان الواحد قد ينتقل من المزاج الحار ، إلى المزاج البارد ، وكذا القول في الرطب واليابس ، وأما قوة الإدراك ، وقوة الأخلاق ، فهي باقية بحالها من أول العمر إلى آخره ، من غير تفاوت أصلا ، مثل إنسان صفراوي المزاج استولى عليه [الحمى البلغمية أو الاستسقاء أو الفالج. ومثل انسان بلغمي المزاج استولى عليه (١)] حمى الغب والسرسام الحار ، فإن كل واحد من هؤلاء ؛ يبقى على المقدار الأول الذي كان له من الإدراك والخلق ، ولو كان الاختلاف الحاصل في قوة الإدراك والفعل ، معللا باختلاف الأمزجة ، لوجب أن يحصل اختلاف حال الإدراك والخلق ، عند اختلاف [أحوال (٢)] الأمزجة. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن ذلك ليس لأجل الأمزجة ، بل لاختلاف ماهيات النفوس.

الحجة الثانية : إنا نرى إنسانين يختلفان في التركيب البدني ، والتأليف المزاجي جدا ، مع أنهما يتشابهان في قوة الإدراك (٣) والخلق جسدا. ولما رأينا : أن المساواة في المزاج ، قد تنفك عن المساواة في الأحوال النفسانية ، والاختلاف في المزاج قد ينفك عن الاختلاف في الأحوال النفسانية ، علمنا : أن كل واحد من هذين البابين : أصل بنفسه ، ولا تعلق لأحدهما بالآخر.

الحجة الثالثة : إن الأعضاء البدنية آلات للنفوس في الأعمال المختلفة ، وكون الآلة صالحة لا يقتضي حصول ملكة تلك الأفعال في ذوات الفاعلين [ألا ترى (٤)] أن «النجار» إذا كان «قدومه» شديد الصلاحية للنحت ، وكان «منشاره» شديد الصلاحية للنشر ، وكانت «مثقبته» شديدة الصلاحية

__________________

(١) سقط (م ٢ ، ر ط).

(٢) من (ل).

(٣) الإدراك جدا (ل).

(٤) سقط (طا ، ل).

للثقب. فإن كون هذه الآلات صالحة لهذه الأعمال ، لا يوجب حصول ملكات هذه الأعمال في ذات النجار. فثبت بما ذكرنا : أن اختلاف نفوس الناس في الرغبة والنفرة في بعض الأشياء دون البعض ، لا يمكن أن يكون لأجل اختلاف الأمزجة البدنية والأعضاء الآلية فوجب أن يكون ذلك الاختلاف في جواهرها وماهياتها.

ولا يمكن أن يقال : إن تلك الرغبة والنفرة ، إنما حصلت لأجل تعليم المعلمين ، وإرشاد الأساتذة ، ومجالسة الأقران ، ومخالطة الأصحاب. وذلك لأنا نشاهد كثيرا : أن الأمر يقع في هذه الأحوال بالضد ، فقد يكون الإنسان بحيث يكون أبواه من أهل الشر والفساد والدعارة ، ويتربى فيما بينهم ويخالط تلك الطوائف ، ولا يلقى أحدا من أهل الخير ، ثم إنه في أول النشوء يميل إلى الخير والطاعة ، ويظهر منه أعمال عجيبة من أعمال الخير والفهم. وقد يكون بالضد منه. واعتبر ذلك بنوح عليه‌السلام وولده ، وإبراهيم عليه‌السلام ووالده. وإذا كان هذا المعنى مشاهدا ، علمنا : أن حصول هذه الأحوال لا تمكن إحالته إلى هذا السبب.

الحجة الرابعة : إنا نرى الصبيان الصغار يختلفون في الأخلاق والأفعال ، فقد يكون الواحد منهم رحيما حبيبا سخيا مطيعا ، سلس القياد. ومنهم من يكون شريرا بخيلا ، نماما ، شرها ، وقحا ، شكس الأخلاق. والسبب لهذه الأحوال المختلفة : إما جواهر النفوس ، وإما اختلاف أمزجة الأبدان. وإما الأسباب الخارجية ، وهي التعلم من المعلمين [والاستفادة (١)] من القرناء والشركاء. والقسمان الأخيران باطلان ، فبقي الأول. وهو المطلوب.

وإنما قلنا إنه لا يمكن أن يكون ذلك بسبب الأمزجة المختلفة ، وذلك لأن الفاعل هو النفس ، والأعضاء المختلفة البدنية آلات للنفس في الفعل ، والآلة منفعلة قابلة. والمنفعل القابل من حيث هو كذلك ، لا يوجب تغير حال الفاعل. نعم ربما ظن أن الآلة المعينة إذا كانت لا تصلح إلا للعمل الواحد ،

__________________

(١) من (م).

فالفاعل الذي لا يجد إلا تلك الآلة ، لا بد وأن يبقى مواظبا على ذلك الفعل ، وتكرر ذلك الفعل يوجب حصول الملكة الراسخة لذلك الفاعل ، إلا أن هذا الخيال إنما يحصل بعد المواظبة على ذلك الفعل زمانا طويلا. أما الصبيان فإنهم أول ما يشرعون [في الفعل. يشرعون (١)] على هذه الوجوه المختلفة ، فامتنع أن تكون تلك الأخلاق ، بسبب اختلاف الأمزجة والأبدان. وإنما قلنا : إنه لا يمكن أن يكون ذلك الاختلاف بسبب القرناء والمعلمين ، لأن الصبيان لم توجد في حقهم هذه الأحوال. ولما ظهر فساد هذين القسمين ، بقي القسم الأول وهو أن يكون ذلك الاختلاف ، لأجل اختلاف جواهر النفوس. وهو المطلوب.

الحجة الخامسة : إنا نرى أن النفوس تختلف في أحوال كثيرة ، ولا يمكن تعليل ذلك الاختلاف ، باختلاف الأمزجة مثل : إن بعض النفوس قد تقوى على تحصيل علم دقيق غامض ، وتعجز عن تحصيل علم سهل ، كالنحو والتصريف ، بل قد يختلف حال الفهم في مسائل العلم الواحد ، فقد يسهل تعلم الباب الواحد من علم ، ويصعب تعلم الباب الثاني. ومن تأمل في أحوال الناس ، عرف أن الأمر كذلك. والنفس هي الأصل ، والبدن محل تصرفها ، ومنزل عملها. وإحالة هذه الأحوال المختلفة على المبدأ الأصلي ، أولى من إحالتها على اختلاف الآلات والأدوات ، لا سيما والعلم الضروري حاصل بأنه يبعد أن يقال : السبب في كون الإنسان بحيث يفهم المنطق ، أسهل ، والإلهي أصعب : هو وقوع التفاوت في الأمزجة.

الحجة السادسة : إنا نرى الاختلاف العظيم في الحيوان الذي ليس بناطق ، فبعضها آنسة نافعة كالأنعام والخيل والبغال والحمير ، وبعضها مفسدة مؤذية كالأسد والنمر والذئب، وبعضها ذو مكر وخداع كالقرد والثعلب [وبعضها يحب الانفراد كالذئب والأسد (٢)] وبعضها يحب الاجتماع كالخيل والبقر والغنم ، وبعضها يجمع الغذاء ويدخره لنفسه كالنمل والنحل ، وبعضها

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

يحصل الغذاء يوما فيوما [كالحمام (١)] وبعضها يسرق ما لا ينتفع به ويخبئه كالعقعق فإنه يسرق الفصوص والخواتيم والدنانير ويخبئها. وكذلك أحوال الناس مختلفة في هذه الصفات. ففي الناس من يكون كريما كثير النفع ، وبعضهم يكون مؤذيا والمؤذي قد يقبل الرياضة سريعا ، وقد لا يقبل إلا قليلا ، وقد يكون بحيث لا يقبل الرياضة لا بالكثير ولا بالقليل ، وقد يكون كثير المكر والخداع ، وقد يكون محبا للخلوة والانفراد ، وقد يكون محبا للمخالطة والاجتماع ، ونرى الاختلاف في هذه الأحوال باقيا من أول العمر إلى آخره [وقد رأيت كثيرا : الأخوين كانا يتباغضان من غير سبب أصلا ، ويبقيا على تلك الحالة إلى آخر العمر (٢)] واستقراء هذه الأحوال يدل على أن اختلاف الصفات النفسانية قد يكون من مقتضيات جواهر النفوس. وذلك يدل على أنها قد تكون مختلفة. بحسب الماهية. فهذا جملة ما نذكره في [تقرير (٣)] هذا المطلوب. [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (ل).

(٤) سقط (م ، ط).

الفصل الثاني

في

ذكر جملة الأسباب

الموجبة لاختلاف النفوس في الصفات

اعلم : أنها على نوعين (١) :

أحدها : السبب الذاتي الجوهري ، وهو الذي ذكرناه من أن النفوس تكون مختلفة في الماهيات والذوات.

والنوع الثاني : الأمور الخارجة عن الذات والجوهر ، وهي أربعة أمور :

الأول : اختلاف طوالع مسقط الماء وظهور الطوالع.

والثاني : اختلاف أحوال الكواكب المسامتة لتلك البلدة والتربة. فإن البلدة التي يمر على سمت رءوس أهلها : كوكب سعد ، تكون أحوالهم حسنة فاضلة ، والتي يمر على سمت رءوسهم كوكب نحس تكون أحوالهم مذمومة.

الثالث : اختلاف أحوال الأسباب الستة الموجودة في تلك البلدة ، ومن جملتها كيفية حال الرضاع.

والرابع : اختلاف أمزجة الأعضاء ، واختلاف أحوال الأعضاء الآلية في هيآتها وتركيباتها يوجب اختلاف أحوال الصفات والأفعال.

قال «جالينوس» في تفسيره لكتاب «بقراط» في الأخلاط : «إن فعل

__________________

(١) قسمين : الأصل.

مزاج الأخلاط في النفس ، مساوي لفعل اختلاف النفس (١)» وتفسيره : إن من كان الغالب عليه هو المزاج الصفراوي ، فإنه يغضب كثيرا وأيضا : إذا غضب مرارا كثيرة ، غضبا شديدا ، فإنه يجتمع في بدنه شيئا كثيرا من الصفراء. وهذا يدل على أن النفس والبدن ، كل واحد منهما مؤثر في الآخر.

واعلم : أن الحكماء بينوا في كتب الأخلاق : أن القوى الأصلية النفسانية : ثلاثة. أشرفها : القوة النطقية الدماغية ، وأوسطها القوة الغضبية القلبية ، وأدونها القوة الشهوانية الكبدية وجميع الأخلاق والصفات إنما تتشعب من هذه الثلاثة.

[ونحن نشير إلى بعض أنواع الاختلافات الواقعة في كل واحدة من هذه الثلاثة (٢)] ونذكر منها ما يصلح أن يكون سببا مزاجيا. فنقول : أما القوة الإدراكية فعلى قسمين : أحدهما كالأصل. والثاني كالفرع. وهو العلوم المكتسبة.

أما الأول : وهو العقل ، فمراتب الناس فيه مختلفة بالقوة والضعف والكثرة والقلة. وهو ظاهر.

وأما العلوم المكتسبة. فهي قسمان.

أحدهما : العلم بأنواع العلوم العقلية والنقلية.

والثاني : العلم بإصلاح أمر المعاش ، والإنسان قد يكون كاملا فيهما. وهو نادر ، وقد يكون ناقصا فيهما ، وقد يكون كاملا في تحصيل العلوم ، إلا أنه يكون ناقصا في علم إصلاح المعيشة ، وقد يكون بالضد منه.

فأما مراتب العلوم النظرية : فهي كثيرة من وجوه :

الأول : إن الإنسان قد يكون قادرا كاملا في جميع أنواع العلوم ، وهو نادر جدا ، وقد يكون مقصرا في الكل ، وهو غالب جدا ، وقد يكون كاملا في

__________________

(١) اختلاف النفس (م) أخلاط النفس في الأخلاط (ل).

(٢) من (طا ، ل).

البعض ، ناقصا في البواقي ، وهذا أيضا مختلف الحال. فقد يكون الإنسان كامل القدرة على تحصيل نوع دقيق غامض من العلوم ، وقد يكون عاجزا عن تحصيل نوع آخر [خسيس ضعيف (١)] وقد رأيت أقواما كانوا أقوياء في المنطق والهندسة ، فلما خاضوا في النحو والتصريف ضعفت عقولهم ، وتبدلت أذهانهم ، بل قد رأيت جماعة كانوا أقوياء في الهندسة وضعفاء في الحساب ، مع شدة القرب بينهما.

والنوع الثاني من الاختلاف في هذا الباب : أن فيهم من يكون السريع الحفظ بطيىء النسيان. وهذا هو القسم الأشرف. وفيهم من يكون بطيء الحفظ سريع النسيان ، وهو القسم الأخس ، ومنهم من يكون سريع الحفظ سريع النسيان ، أو بطيء الحفظ بطيء النسيان. وهذان القسمان متوسطان.

والنوع الثالث : الاختلاف الحاصل بحسب الفهم. فإن الإنسان إما أن يفهم الشيء فهما صحيحا. وإما أن لا يكون كذلك. أما الذي يفهم فهما صحيحا. فيعتبر حاله من وجهين :

أحدهما : أن هذا الفاهم قد يقدر على الاستنباط ، وقد لا يقدر. والقادر على الاستنباط قد يقدر عليه في الأشياء العالية ، وقد يقدر عليه في الفروع الخسيسة الضعيفة.

وثانيهما : أن الإنسان قد يكون بحيث إذا علمته مسألة تعلمها سريعا ، إلا أن تلك المسألة التي تعلمها ، إذا اختلطت بالكلمات الأجنبية ، وامتزجت بالمقدمات التي لا تناسبها ، فإن ذلك الإنسان لا يعرف أن هذه المسألة هي [تلك المسألة (٢)] التي تعلمها وأحكمها ، وقد يكون بحيث إذا تعلّم مقدمة وعرفها ، ثم اختلطت تلك المقدمة بألف مقدمة أجنبية غريبة عنها ، فإنه في الحال يعرفها ، ويعلم أنها هي تلك المقدمة التي عرفها أولا ، وكنت أسمي القسم الأول بالخاطر الضعيف ، والثاني بالخاطر القوي.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م) ، (ط).

وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يفهم الشيء فهما صحيحا. فهذا الخلل إما أن يقع بسبب التشويش ، أو بسبب النقصان ، أو بسبب البطلان والخلل الحاصل بسبب التشويش أردأ من الخلل الحاصل بسبب النقصان والبطلان لأن الخلل الحاصل بسبب التشويش يفيد الجهل المركب وأما الخلل الحاصل بسبب النقصان والبطلان فإنه لا يفيد إلا الجهل البسيط. ثم لكل واحد من هذه المراتب الثلاثة أعني التشويش والنقصان والبطلان : مراتب لا نهاية لها.

النوع الرابع من أقسام هذا الباب : الاختلاف الحاصل بحسب الحفظ والفهم. فالإنسان قد يكون قويا فيهما وهو نادر. لأن الفهم يستدعي لطافة روح الدماغ ، والحفظ يستدعي كثافته ، فإن اجتمعا كان ذلك السبب المستفاد من جوهر النفس ، لا بسبب المزاج البدني ، وقد يكون مقصرا فيهما ، وقد يكون قويا في أحدهما ، ضعيفا في الثاني ، ثم الناسي قد يكون قادرا على التذكر والاستعادة على سبيل السهولة ، وقد يكون متوسطا ، وقد يكون عاجزا جدا.

فهذا هو التنبيه على اختلاف الناس في هذا المقام.

وأما العلوم العملية المعتبرة في إصلاح المعاش : فالناس مختلفون فيها جدا. فقد يسهل عليه تعلم حرفة صعبة ، مع أنه يشق عليه تعلم حرفة خسيسة.

وقد يكون قادرا على إصلاح مهمات السوق والبيع والتجارة ، وعاجزا عن إصلاح مهمات البيت ، وقد يكون بالضد من ذلك. فهذا هو الإشارة إلى اختلاف [أحوال (١)] الناس في الصفات الحاصلة بحسب القوة النطقية الدماغية.

واعلم : أن السبب المزاجي لهذه الأحوال المختلفة : اختلاف حال الدماغ. وذلك من وجوه :

الأول : إن الدماغ له ثلاث تجويفات :

__________________

(١) من (ل).

فالأول : موضع التخيل. والثاني : موضع التفكر. والثالث : موضع التذكر.

فالتجويف [الأول (١)] يجب أن يكون مائلا إلى الرطوبة ، لتنطبع فيها [صور الأشياء (٢)] بسهولة ، فإن كان هذا البطن ، عظيم الرطوبة ، ضعفت تخيلاته ، لأن الرطب يكون سريع الأخذ ، سريع الترك. وإن كان مائلا إلى اليبس ، ضعفت أيضا هذه التخيلات ، لأن اليابس بطيء الأخذ ، بطيء الترك. أما إذا كان معتدلا ، كان جيد التخيل ، سريع التعلم لما يسمعه ويقرؤه ، وتورده عليه حواسه. ولذلك صار التعليم في وقت الصبا أحسن من غيره ، لأن في وقت الصبا تكون الأرواح الدماغية رطبة فيسهل قبولها لتلك الصور. ثم كل ما ازداد السن ، ازداد اليبس المانع من زوال الصور. وأما الأرواح الحاصلة في التجويف الأوسط ، فيجب أن تكون مائلة إلى الحرارة ، لأن الفكر إنما يتأتى بإلحاق شيء بشيء وذلك نوع حركة. والحركة إنما تتم بالحرارة ، فالفكر لا يتم إلا بالحرارة.

ثم نقول : إن كانت هذه الحرارة كثيرة ، كان ذلك الروح شديد الالتهاب ، فكانت تلك الأفكار مشوشة [وإن كانت تلك الحرارة (٣)] ناقصة قليلة ، كان الفكر في النقصان أو البطلان ، وكان صاحبه بليدا ، غليظ الطبع. وأما إن كان معتدلا في الحرارة والبرودة ، كان صاحبه مستقيم الفكر ، سريع الجواب ، حسن الاستنباط. وأما الأرواح الحاصلة في التجويف المؤخر ، فيجب أن تكون مائلة إلى اليبس ، لأن الحفظ لا يتم إلا باليبس. فإن قلت هذه الصفة ضعف الحفظ ، وغلب النسيان.

والسبب الثاني : إنه قد يحصل في المجرى الذي بين التجويف المقدم ، إلى التجويف المتوسط : جسم شبيه بالدودة ، وله قوة أن يمتد تارة ويقصر

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) (م).

أخرى. فإذا امتد ودق ، انفتح المجرى الذي بين التجويف المقدم وبين التجويف المتوسط ، فنفذت الروح من التجويف المقدم إلى التجويف المتوسط ، وتأدت ، الصور المتخيلة إلى القوة الفكرية ، وأما إذا انقبض هذا الجسم الشبيه بالدودة ، فحينئذ يقصر. ويغلظ ويسد المجرى ، فلم تنفذ الروح من التجويف المقدم إلى التجويف المتوسط ، فحينئذ يمتنع وصول (١) الصور الخيالية إلى القوة المفكرة.

إذا عرفت هذا ، فنقول : حركة هذا الجسم الشبيه بالدودة في الامتداد والانقباض : مختلفة في الناس ، على قدر أمزجة الأدمغة. فإن كان جوهره غليظا باردا ، كانت حركته بطيئة فلم ينفتح المجرى بسرعة ، فلم تتأد الروح من التجويف المقدم إلى التجويف المتوسط بسرعة ، فيكون هذا الإنسان بطيء الفهم قليل الفطنة متأخر الجواب. وإن كان هذا الجسم سريع الحركة حادها ، كان هذا الإنسان سريع الفطنة ، سريع الجواب ، حاد الفهم.

السبب الثالث من الأسباب الدماغية : شكل قحف الرأس ، فإن الشكل الجيد أن يكون القحف شبيها بكرة غمز عليها من الجانبين ، حتى يظهر نتوء في القدام وفي الخلف ، ولطاء من الجانبين. فهذا الشكل موافق لحال الدماغ ، فأما إذا فقد نتوء القدام ، ضعف التخيل. وإن فقد نتوء الخلف ضعف التذكر ، وإن فقد النتوءان جميعا ، فقد التخيل والتذكر.

السبب الرابع : [الرأس والبدن. إما أن يكونا كبيرين أو صغيرين ، أو يكون الرأس صغيرا والبدن كبيرا ، أو بالعكس. أما الأول وهو (٢)] أن يكون الرأس والبدن كبيرين ، فحينئذ يكون القلب قويا والدماغ قويا. وهاهنا يحصل الكمال.

وأما إن كانا صغيرين فههنا يحصل النقصان ، وأما إن كان الرأس صغيرا والبدن كبيرا ، فحينئذ يكون القلب قويا حادا ويكون الدماغ صغيرا ، لا يقوى

__________________

(١) حصول (ل).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

على مقاومة القلب. فحينئذ يكثر الطيش والغضب.

وأما إذا كانت الرأس كبيرة ، والبدن صغيرا ، فحينئذ يكون كبر تلك الرأس ، بسبب الرطوبات الفصلية ، وهذا الإنسان يكون قليل الفهم ضعيف القلب ، مختل الأفعال.

فهذه الوجوه الأربعة هي الأسباب المزاجية الموجبة لاختلاف حال النفوس في كيفية الإدراكات.

وأما القسم الثاني وهو القوة الحيوانية القلبية : فاعلم أنه كما حصل في الدماغ بطون ثلاثة [فكذلك حصل في القلب بطون ثلاثة (١)] فالبطن الأيسر منه يتولد فيه أجسام لطيفة روحانية ، تسري في الشريانات ، إلى أقاصي البدن ، وتلك الأرواح تفيد الأعضاء قوة الحياة ، والحرارة الغريزية. وبهذه القوة يحصل الفرح والغم والغضب.

وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الحرارة. إن كانت قوية حصل التهور ، وإن كانت ناقصة حصل الجبن ، وإن كانت معتدلة حصلت الشجاعة التي هي الصفة المحمودة ، وهكذا القول في النشاط والكسل ، والسرعة والإبطاء في الأفعال والأقوال.

واعلم : أن هذه القوة حاصلة للسباع ، إلا أنها خالية عن القوة النطقية المانعة ، فلا جرم إذا حصلت هذه الأحوال للسباع ، أقدمت على الفعل بأقصى الوجوه. أما الإنسان فله العقل الوازع من مقتضيات الطبيعة.

وإذا عرفت هذا ، فنقول : إنه إذا كان القلب والدماغ معتدلين ، حصلت هذه الأفعال على أصوب الوجوه وأحسنها ، خالية عن الزيادة والنقصان. وإن كانا غير معتدلين. فإن كان ذلك لأجل استيلاء الحر عليهما : عظم الطيش والشطط ، وإن كان بسبب استيلاء البرد عليهما عظم الجبن والخوف وقلّت الحمية. وأما إن كان القلب قوي الحرارة ، وكان الدماغ

__________________

(١) سقط (م).

معتدلا ، فعند استيلاء الغضب على القلب قوي الحرارة ، وكان الدماغ معتدلا ، فعند استيلاء الغضب على القلب ، فإن الدماغ المعتدل يمنعه عن الإفراط في العمل ، وإما إن كان القلب ، ضعيف الحرارة ، فصاحبه يكون جبانا. إلا أنه إذا كان الدماغ معتدلا ، فالعقل قد يحمله على أفعال الشجاعة ، وإن كان الجبن حاصلا في القلب.

والقسم الثالث : وهو القوة الشهوانية الكبدية :

فاعلم أن الشهوة. إما في المأكول والمشروب ، أو في الفرج (١) أما الشهوة في المأكول والمشروب. فنقول : البدن ، إما أن يكون كبيرا ، وإما أن يكون صغيرا ، وكذلك المعدة إما أن تكون كبيرة أو صغيرة ، وأيضا : فإن الإحساس بالجوع إنما يحصل بسبب أن بين الطحال ، وبين فم المعدة مجرى ينصب فيه قسط من السوداء الطبيعية إلى فم المعدة ، فيحصل هناك لذع ودغدغة. وذلك هو الإحساس بالجوع.

إذا عرفت هذا فنقول : ذلك المجرى إما أن يكون واسعا أو ضيقا. وإذا عرفت هذا فنقول : إن كان البدن كبيرا ، والمعدة كبيرة ، وكان ذلك المجرى واسعا ، فإنه يكثر جوع هذا الإنسان ، لأن البدن الكبير يتحلل منه أجزاء كثيرة ، والمعدة الكبيرة متسعة للغذاء الكثير ، والسوداء الكثيرة المنصبة في ذلك المجرى الواسع توجب الإحساس العظيم بالجوع ، فلما اجتمعت هذه الأسباب ، عظم الجوع.

فهذا الإنسان يأكل مقدارا كبيرا في المرة الواحدة ، ويكفيه ذلك زمانا (٢) مديدا ، وإما إن كان البدن صغيرا ، والمعدة صغيرة ، والمجرى ضيقا. فههنا يقل الجوع. لأن البدن لما كان صغيرا ، كان المتحلل منه قليلا ، ولما كانت المعدة صغيرة لم تتسع للطعام الكثير ، ولما كان المجرى ضيقا لم ينصب إلى فم المعدة إلا القليل من السوداء ، فعند اجتماع هذه الأسباب يقل الجوع.

__________________

(١) الجماع (م).

(٢) أياما (م).

وإذا عرفت هذين الطرفين ، عرفت الحال في سائر الأقسام. وأيضا يجب اعتبار حال الكبد في الحرارة [والبرودة (١)] والرطوبة واليبوسة ، واعتبار حاله في الصغر والكبر ، واعتبار حاله في كون الأوردة الناشئة منه. واسعة أو ضيقة؟ وأيضا يجب اعتبار حال الأغذية والأشربة في كيفياتها البسيطة والمركبة.

وإذا اعتبرت مجموع هذه الأحوال البسيطة والمركبة : كثرت جدا ، وأما اختلاف الناس في الشهوات. فمن كانت البلاغم اللزجة غالبة على معدته ، كان ميله إلى الأشياء الحارة والحريفة والقابضة والعفصية ، ومن كان التيبس غالبا على معدته ، كان ميله إلى الدسم والحلو. وقس الباقي عليه.

وأما اختلاف الناس في شهوة الباه. فالمزاج الحار الرطب ، يناسبه (٢) من كل الوجوه ، والبارد [اليابس يضاده من كل الوجوه. وأما الحار اليابس والبارد (٣)] الرطب فكالمتوسط.

فهذا هو الضبط الكلي في بيان أن أحوال النفوس كيف تصير مختلفة ، بسبب اختلاف الأمزجة [والله أعلم (٤)]

__________________

(١) من (ل).

(٢) يناسب ذلك (م).

(٣) سقط (م ، ط).

(٤) من (ل ، طا).

الفصل الثالث

في

بيان أن النفس واحدة

ذهب «أرسطاطاليس (١)» أصحابه : إلى أن النفس واحدة وتنبعث منها قوى مختلفة كثيرة ، بحسب الأفعال المختلفة. وهذا هو الحق الذي لا شك فيه.

وقال «جالينوس» : النفوس الثلاثة :

النفس النطقية. ومتعلقها الدماغ. والنفس الغضبية. ومتعلقها القلب. والنفس الشهوانية. ومتعلقها الكبد.

والذي يدل على أن لكل إنسان نفسا واحدة وجوه :

الحجة الأولى : إن المراد بالنفس ما يشير إليه كل أحد بقوله «أنا» والعلم البديهي حاصل بأن ذلك الشيء واحد ، ليس فيه تعدد البتة. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال (٢) : المشار إليه لكل أحد بقوله «أنا» وإن كان واحدا ، إلا أن ذلك الواحد يكون مركبا من أشياء كثيرة؟

قلنا : إنه لا حاجة بنا في هذا المقام إلى إبطال هذا السؤال. بل نقول : المشار إليه بقولي «أنا معلوم بالضرورة : أنه شيء واحد. فأما أن ذلك

__________________

(١) أرسطو (م).

(٢) يكون (م).

الواحد ، هل هو واحد متركب من أشياء كثيرة ، أو هو في نفسه واحد ، وحدة حقيقية ، فلا حاجة إليه في هذا المقام.

الحجة الثانية : إن الغضب حالة نفسانية تحدث عند محاولة دفع المنافي ، والشهوة حالة نفسانية تحدث عند طلب الملائم ، ثم من المعلوم بالضرورة [أن دفع المنافي ، وطلب الملائم مشروط بحصول الشعور بكون ذلك الشيء (١)] منافيا أو ملائما. فالقوة الغضبية التي هي قوة دافعة للمنافي إن لم يكن لها شعور ، بكون ذلك الشيء منافيا ، امتنع كونها دافعة لذلك المنافي على سبيل الاختيار والقصد. لأن القصد إلى الجلب تارة وإلى الدفع أخرى ، مشروط بالشعور بذلك الشيء. فثبت : أن الذي يغضب لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا. والذي يشتهي لا بد وأن يكون هو بعينه مدركا. فثبت بهذا البرهان القاطع : أن الإدراك والغضب والشهوة : صفات ثلاثة لذات واحدة ، ويمتنع كونها صفات ثلاثة لذوات ثلاثة [متباينة (٢)].

الحجة الثالثة : إنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين ، بكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص به ، امتنع أن يكون اشتغال أحدهما بفعله الخاص به مانعا للآخر من الاشتغال بفعله الخاص به. إذا ثبت هذا فنقول : لو كان محل الفكر جوهرا ، ومحل الغضب جوهرا ثانيا ، ومحل الشهوة جوهرا ثالثا ، وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية [من الاشتغال (٣)] بفعلها ، ولا بالعكس. لكن التالي باطل. فإن اشتغال الإنسان بالشهوة ، وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب والانصباب إليه ، فعلمنا : أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادي مستقلة ، بل هي صفات مختلفة لجوهر واحد ، فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال مانعا له عن الاشتغال بالفعل الآخر.

الحجة الرابعة : إنا إذا أدركنا شيئا ، فقد يكون الإدراك سببا لحصول

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (ل ، طا).

(٣) سقط (ل).

الشهوة ، وقد يصير سببا لحصول الغضب. فلو كان الجوهر مدركا شيئا مغايرا للجوهر الذي يغضب ، وللجوهر الذي يشتهي ، فحين أدرك صاحب الإدراك ، لم يكن [شيئا (١)] من هذا الإدراك له أثر ولا خبر عند صاحب الشهوة ، ولا عند صاحب الغضب ، [فوجب أن لا يترتب على ذلك الإدراك ، لا حصول الشهوة ولا حصول الغضب (٢)] وحيث حصل هذا التأثير واللزوم ، علمنا : أن صاحب الإدراك هو بعينه صاحب الشهوة وصاحب الغضب.

الحجة الخامسة : إن حقيقة الإنسان : إنه جسم ، ذو نفس ، حساس ، متحرك بالإرادة. فشرط النفس أن تكون حساسة وأن تكون متحركة بالإرادة ، فصاحب الحس هو بعينه صاحب تلك الإرادة. والإرادة إن كانت إرادة الجذب فهي الشهوة ، وإن كانت إرادة الدفع فهي الغضب. فهذا يدل على أن الإدراك والشهوة والغضب صفات ثلاثة (٣) لذات واحدة. وهو المطلوب.

الحجة السادسة : إنا بينا بالبرهان القاطع : أنّ المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع المدركات ، والقادر المريد الفاعل يجب أن يكون نفسا (٤) واحدة. وذلك برهان قاطع على بطلان قول من يقول بتوزيع هذه الصفات على الذوات المتباينة [والله أعلم (٥)].

واحتج القائلون بتعدد النفوس : بأن قالوا : إنا وجدنا النفس المدبرة لأمر الغذاء حاصلة في النبات ، وهي خالية عن النفس الغضبية. ورأينا النفس الشهوانية والغضبية حاصلة [في الحيوان ، وهي خالية (٦)] عن النفس النطقية ، والقوة الفكرية. ثم رأينا هذه الثلاثة حاصلة للإنسان. فعلمنا : أن

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) ثابتة (م).

(٤) شيئا (ط).

(٥) سقط (م) ، (ط).

(٦) سقط (م).

كل واحدة من هذه الثلاثة [جوهر (١)] مستقل بنفسه ، منفرد بذاته ، إلا أنها اجتمعت في الإنسان. والجواب : إنه ثبت في مباحث الماهيات : أن الحقائق المختلفة لا يمتنع اشتراكها في آثار متساوية.

وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : النفس النباتية مخالفة للنفس الإنسانية في الماهية ، إلا أن النفس الإنسانية مشاركة للنفس النباتية في تدبير الغذاء ، وإن كانت مخالفة لها في الذات والماهية ، وفي سائر الآثار؟ فإن النفس الإنسانية تقوى على تدبير الأحوال النطقية ، والنفس النباتية لا تقوى على ذلك.

وهذا الجواب في القوة الغضبية.

فإن قالوا : فإن النفس الواحدة. كيف تكون مصدرا للأفعال المختلفة؟.

فنقول : لم لا يجوز أن يصح ذلك بسبب الآلات المختلفة؟ فهذا تمام الكلام في إثبات وحدة النفس.

__________________

(١) من (ل).

الفصل الرابع

في

بيان أن المتعلق الأول للنفس هو

القلب وأن العضو الرئيسي المطلق هو القلب

[مذهب جمهور المحققين من الأنبياء والأولياء والحكماء : أن القلب هو العضو الرئيسي المطلق (١)] لسائر الأعضاء ، وأن النفس متعلقة به أولا ، وبواسطة ذلك التعلق تصير متعلقة بسائر الأعضاء.

وهذا هو مذهب «أرسطاطاليس» وأتباعه من القدماء والمتأخرين. ومذهب «جالينوس» وأتباعه من الأطباء : أن الإنسان عبارة عن مجموع نفوس ثلاثة : النفس الشهوانية ، وتعلقها الأول بالكبد. والنفس الغضبية ، وتعلقها الأول بالقلب. والنفس النطقية الحكيمة ، وتعلقها الأول بالدماغ. وهذه الأعضاء الثلاثة ، كل واحد منها مستقل بنفسه ، منفرد بخواصه وأفعاله.

والمختار : أن هذا باطل. والحق هو القول الأول. ويدل عليه وجوه : الحجة الأولى : [إنا قد بينا بالدلائل اليقينية (٢)] أن النفس واحدة. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون العضو الرئيسي : هو القلب ، ويدل عليه التجربة والقياس ، أما التجربة : [فهي أن أكثر أصحاب التجارب ، يشهدون

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) سقط (ط).

بأن أول عضو يتخلق من البدن ، هو القلب.

وأما القياس (١)] فمن وجهين (٢) :

الأول : إن المني جسم مركب من الطبائع الأربعة ، والهوائية والنارية غالبة عليه. والدليل عليه : أن بياض الرطوبات ، إنما يحصل بسبب اختلاط [الأجزاء (٣)] الهوائية بها ، كما يكون في البرد ، فوجب أن يكون بياض المني لهذا السبب. ويتأكد ما ذكرناه : بأن المني إذا ضر به البرد رق ، وزال بياضه ، مع أن البرد أولى بالتكثيف. وذلك يدل على أن بياضه ، إنما كان لأجل أنه اختلط به أجزاء كثيرة من الأجزاء النارية والهوائية ، فلما ضر به البرد ، فارقته تلك الأجزاء النارية والهوائية ، فزال بياضه.

وإذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى قدر بحكمته : أن الأجزاء الأرضية والمائية الموجودة في المني ، تصير مادة للأعضاء ، وأما الأجزاء الهوائية والنارية التي في المني ، فإنه تعالى يجعلها مادة للأرواح [الإنسانية (٤)] إلا أن تلك الأجزاء الكثيفة واللطيفة تكون مختلطة بعضها بالبعض في أول الأمر ، لكن الجنسية علة الضم ، فلا جرم تنضم الأجزاء اللطيفة بعضها إلى البعض ، والأجزاء الكثيفة بعضها إلى البعض. ولما كان اللطيف سريع التحلل ، اقتضت الحكمة الإلهية جعل تلك الأجزاء اللطيفة في وسط ذلك الجسم ، وجعل تلك الأجزاء الكثيفة محيطة بها ، وصونا لها. وعند هذا يصير جرم المني كالكرة المستديرة ، ويكون باطن تلك الكرة مملوءا من تلك الأجزاء اللطيفة الهوائية والنارية ، ويكون ظاهرها متولدا من تلك الأجزاء الكثيفة. وذلك الموضع الذي صار موضعا لتلك الأجزاء اللطيفة ، هو الموضع الذي إذا استحكم ، صار قلبا. فلهذا السبب قال أهل التشريح : «أول الأعضاء حدوثا ، هو القلب ، وآخرها موتا هو القلب».

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) وجوه : الأصل.

(٣) من (م).

(٤) سقط (ل).

والوجه الثاني في بيان أن أول الأعضاء حدوثا هو القلب : إن البدن (١) لا يتكون ولا يتولد إلا بواسطة الحرارة الغريزية ، وهذه الحرارة إنما تقوى وتكمل إذا كانت مجتمعة ، ومجمعها هو القلب. فوجب أن يكون [تكوّن (٢)] القلب سابقا على تكون سائر الأعضاء. فثبت : أن النفس واحدة ، وثبت : أن أول الأعضاء حدوثا هو القلب. ودلت التجارب الطبية : على أن المتعلق الأول للنفس هو الروح ، فوجب أن يكون تعلق النفس بالقلب ، قبل تعلقها بسائر الأعضاء ، فوجب أن يكون العضو الرئيسي المطلق ، هو القلب.

الحجة الثانية : إن العقلاء يجدون الفهم والإدراك والعلم من ناحية القلب. فعلمنا : أن القلب محل للعلم بواسطة تعلق النفس بالقلب ، وإذا كان محل [العلم هو القلب وجب أن يكون محل (٣)] الإرادة هو القلب [لأن المريد للشيء يجب أن يكون عالما به ، وذلك الذي هو المريد يجب أن يكون بعينه عالما. وإذا كان محل الإرادة هو القلب ، وجب أن يكون محل القدرة هو القلب. لأن (٤)] ذلك الذي هو القادر يجب أن يكون بعينه هو المريد. فثبت : أن مجموع كل هذه الصفات هو القلب. قال «جالينوس» : «مسلم : أن القلب محل الغضب. فأما أنه محل الإدراك والشعور ، فباطل» وجوابه : أن الغضب عبارة عن دفع المنافي ، ودفع المنافي لا يصح إلا بعد الشعور بكونه منافيا ، فلما سلم أن القلب محل الغضب ، لزمه تسليم أن القلب محل العلم والإدراك.

الحجة الثالثة : لا نزاع في أن النفس الحيوانية يجب كونها حساسة (٥) متحركة بالإرادة، فإذا تعلقت النفس الحيوانية بالقلب ، وجب أن تكون تلك النفس حساسة متحركة الإرادة ، وذلك يقتضي أن يصير القلب منبعا للإدراك

__________________

(١) الحيوان (م).

(٢) من (ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) من (ل) ، طا).

(٥) جسمانية (ل ، طا).

والشعور وللقوة المحركة أيضا. وذلك يبطل قول «جالينوس» إن منبع الإدراك والحركة بالإرادة هو الدماغ.

الحجة الرابعة : إن الحس والحركة الإرادية ، إنما تحصل بالحرارة : وأما البرودة فعائقة عنهما ، ويدل على صحة ما ذكرناه : التجارب الطبية ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : القلب منبع للحرارة ، والدماغ منبع للبرودة. فجعل القلب منبعا للحس والحركة الإرادية أولى من جعل الدماغ مبدأ لهما.

الحجة الخامسة : كل أحد إذا قال «أنا» فإنه يشير إلى صدره ، وإلى ناحية قلبه. وهذا يدل على أن [كل أحد يعلم بالضرورة (١)] أن المشار إليه بقوله «أنا» حاصل في القلب ، لا في سائر الأعضاء.

الحجة السادسة : إن أظهر آثار النفس الناطقة هو النطق ، فوجب أن يكون معدن النفس الناطقة ، هو الموضع الذي منه تنبعث آلة النطق ، لكن آلة النطق هو الصوت ، والصوت إنما يتولد من إخراج النفس ، وإخراج النفس إنما يحصل بفعل القلب لأن القلب يستدخل النسيم الطيب للروح (٢) فإذا تسخن ذلك النسيم واحترق ، أخرجه إلى الخارج. وإذا كان إدخال النسيم وإخراجه مقصودا للقلب ، ومصلحة له ، كان إسناد هذا الفعل إلى القلب ، أولى من إسناده إلى الدماغ ، الذي لا حاجة به البتة إلى النفس.

أجاب «جالينوس» عن هذه الحجة : بأن الصوت لا ينبعث من القلب ، بل من الدماغ. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الآلة الأولى للصوت هي الحنجرة. والدليل عليه : أنك إذا خرقت (٣) قصبة الرئة أسفل من الحنجرة ، لم تسمع لهذا الحيوان صوتا لأنك إذا فعلت بهذا الحيوان هذا الفعل ، لم يصل الهواء الخارج إلى الحنجرة بل تفرق وانتشر. وإذا لم يصل الهواء إلى الحنجرة ، وكانت الحنجرة هي الآلة للصوت.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) للترويح (ل).

(٣) حرفت (ط).

لا جرم يبطل الصوت. فثبت : أن الآلة لحدوث الصوت هي الحنجرة. والحنجرة مؤلفة من ثلاثة غضاريف ، وهذه الغضاريف إنما تتحرك [بعضلات كثيرة ، وتلك العضلات إنما تتحرك (١)] بالأعصاب والأعصاب ثابتة من الدماغ. فثبت : أن فاعل الصوت هو الدماغ.

والوجه الثاني في بيان أن فاعل الصوت هو الدماغ : إنا نشاهد عضل البطن يتمدد عند التصويت بالصوت العنيف. وأما القلب ، فإنه لا يناله التعب عند التصويت.

الثالث : إن القلب إذا كشف عنه ثم قبض عليه ، فإنه لا يبطل من الحيوان صوته ، وإن كشف عن الدماغ ثم ضغط ، بطل في الحال صوت ذلك الحيوان.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن مبدأ الصوت هو الدماغ ، لا القلب. وعند هذا البيان يصير هذا الكلام حجة [واضحة (٢)] على صحة أن محل القوة الناطقة هو الدماغ.

والجواب : إنا بينا أن سبب حدوث الصوت : خروج النفس. وبينا : أن سبب خروج النفس هو القلب ، فلزم القطع بأن السبب الحقيقي [لحدوث الصوت (٣)] هو القلب. وأما الوجوه التي ذكرتم ، فهي تدل على أن الدماغ محتاج إليه في حدوث الصوت ، وفي تكوين آلات حدوث الصوت ، وذلك لا يقدح في قولنا.

الحجة السابعة : إن القلب موضوع في موضع يقرب أن يكون وسطا من البدن ، وهذا هو اللائق بالرئيس المطلق ، حتى يكون ما ينبعث [منه (٤)] من القوى وأصلا إلى جميع أطراف البدن ، على القسمة العادلة. والدماغ موضوع

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) ظاهرة (م) وهي ساقطة من (ل).

(٣) من (ل).

(٤) من (ل).

في أعلى البدن ، فكان القلب أولى [من الدماغ في (١)] أن يكون ملكا للبدن على الإطلاق.

الحجة الثامنة : إن الناس يصفون القلب بالذكاء والبلادة. فيقولون : لفلان قلب ذكي ، ولفلان قلب بليد.

قال «جالينوس» : الناس إذا وصفوا إنسانا بأن له قلبا قويا ، فمرادهم منه الشجاعة، وإذا قالوا : فلان لا قلب له ، فالمراد : «هو الجبن».

والجواب : إن الذي ذكره «جالينوس» يدل على أن القلب مكان للغضب ، ولا يدل على أنه يمتنع أن يكون القلب موضعا للفهم. [والله أعلم (٢)].

ولنذكر هاهنا الآيات والأخبار الدالة على أن موضع الفهم والشعور ، هو القلب.

أما الآيات فكثيرة :

الأولى : قوله تعالى : (قُلْ : مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) (٣) وقال في سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ) (٤) فهاتان الآيتان تدلان بصريحهما على أن التنزيل والوحي كان على القلب.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى ، لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ، أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٥) وهذه الآية دالة بصريحها على أن أن محل الذكر والفهم هو القلب واعلم : أن في هذه الآية لطيفة عجيبة ، وبيانها : إنما يتم

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) البقرة ٩٧.

(٤) الشعراء ١٩٢ ـ ١٩٤.

(٥) ق ٣٧.

بتقديم (١) سؤال. فإنه يقال : إن الواو العاطفة أليق بقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) لأن القلب عبارة عن محل إدراك الحقائق ، وإلقاء السمع عبارة عن الجد والاجتهاد في تحصيل تلك الإدراكات والمعارف ، ومعلوم : أنه لا بد من الأمرين معا ، فكان ذكر «الواو» العاطفة هاهنا ، [أولى (٢) من ذكر «أو».

والجواب : إنا نقول : بل «أو» القاسمة أولى هاهنا من «الواو» العاطفة ، وبيانه: أن القوى العقلية قسمان : منها ما يكون في غاية الكمال [والشرف (٣)] والإشراق ، ويكون مخالفا لسائر القوى العقلية بالكم والكيف. أما الكم فلأن حصول المقدمات البديهية والحسية والتجريبية بها أكثر ، وأما الكيف فلأن تركيب تلك المقدمات على وجه ينساق إلى تلك النتائج الحقة ، أسهل وأسرع.

إذا عرفت هذا ، فنقول : مثل هذه النفس القدسية تستغني في معرفة حقائق الأشياء عن التعلم والاستعانة بالغير ، إلا أن مثل هذا يكون في غاية الندرة.

وأما القسم الثاني : وهو الذي لا يكون كذلك ، فهو يحتاج في اكتساب العلوم النظرية إلى التعلم ، والاستعانة بالغير ، والتمسك بالقانون الصناعي الذي يعصمه عن الزلل.

إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) : إشارة إلى القسم الأول ، وإنما ذكر القلب بلفظ التنكير ليدل ذلك على الكمال التام ، بدليل قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى

__________________

(١) بتقديم مقدمة وهو الواو وأن القاطعة التي بقوله : (أَوْ أَلْقَى ...) الخ (م) وفي تفسير القرطبي : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي عقل يتدبر به. فكنى بالقلب عن العقل ، لأنه موضعه ، قال معناه : مجاهد وغيره. وقيل : لمن كان له حياة ونفس مميزة. فعبر عن النفس الحية بالقلب ، لأنه وطنها ومعدن حياتها (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي: استمع القرآن (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي قلبه حاضر فيما يسمع» واعلم : أن الآيات التي ذكرها المؤلف لبيان غرضه. لها أكثر من تأويل. في كتب المفسرين. وعلى ذلك فلا يكون رأيه بها قاطعا.

(٢) سقط (طا).

(٣) من (م).

حَياةٍ) (١) أي حياة عظيمة طويلة المدة ، فكذا هاهنا قوله : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أي لمن كان له قلب كامل في قوة الإدراك ، عظيم الدرجة في الاستعداد والوقوف على عالم القدس. وأما قوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) : فهو إشارة إلى القسم الثاني ، وهو الذي يفتقر إلى الكسب والاستعانة بالغير ، وهذا من الأسرار التي عليها بناء علم المنطق. وقد لاح في درج هذه [الآية (٢)] ولما كان القسم الأول نادرا جدا ، وكان الغالب هو القسم الثاني ، لا جرم أمر الكلّ في أكثر الآيات بالطلب والاكتساب فقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ، أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (٣).

وقال صاحب المنطق : إن القسم الأول ، وإن كان غنيا عن الاستعانة بالمنطق ، إلا أنه نادر جدا ، والغلبة للقسم الثاني ، وكلهم محتاجون إلى المنطق. فانظر إلى هذه الأسرار العميقة ، كيف تجدها في الألفاظ القرآنية.

الحجة الثالثة : الآيات الدالة على أن استحقاق الجزاء ليس إلا على ما في القلب من السعي. قال الله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ، وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) (٤) وقال : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها ، وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (٥) ثم بين في آية أخرى : أن محل التقوى ما هو؟ فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) (٦).

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٧) ومعلوم : أن السمع والبصر ، لا فائدة فيهما إلّا بما يؤديانه إلى القلب ، فكان السؤال عنهما في الحقيقة : سؤالا عن القلب.

__________________

(١) البقرة ٩٦.

(٢) من (م).

(٣) الحج ٤٦.

(٤) البقرة ٢٢٥.

(٥) الحج ٣٧.

(٦) الحجرات ٣.

(٧) الإسراء ٣٦.

ونظيره قوله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١) ومعلوم : أن خائنة الأعين لا تكون إلا بما تضمره القلوب.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ ، قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٢) فخص هذه الثلاثة بإلزام الحجة بسببها ، واستدعاء الشكر عليها. وقد ذكرنا : أنه لا طائل في السمع والبصر ، إلّا بما يؤديان إلى القلب ليكون القلب قاضيا ، وحاكما فيه.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ ، وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً ، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣) فجعل هذه الثلاثة تمام ما ألزمهم من حجته. والمقصود من الكل : هو الفؤاد ، القاضي على كل ما يؤدي إليه السمع والبصر.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَعَلى سَمْعِهِمْ. وَعَلى أَبْصارِهِمْ: غِشاوَةٌ) (٤) فجعل العذاب لازما لهذه الثلاثة ، ونظيره قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها) (٥).

الحجة الثامنة : إنه تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن ، أضافه إلى القلب. كقوله تعالى : (مِنَ الَّذِينَ قالُوا : آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ ، وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٦) وقال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ ، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٧) وقال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) غافر ١٩.

(٢) السجدة ٩.

(٣) الأحقاف ٢٦.

(٤) البقرة ٧.

(٥) الأعراف ١٧٩.

(٦) المائدة ٤١.

(٧) النحل ١٠٦.

الْإِيمانَ) (١) وقال : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٢) فثبت : أن محل هذه المعارف : هو القلب.

الحجة التاسعة : إن محل العقل ، هو القلب لقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٣) وقال : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها) (٤).

وأيضا : فإنه تعالى أضاف أضداد العلم إلى القلب ، فقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٥) وقال : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) (٦) وقال : (وَقَوْلِهِمْ : قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (٧) وقال : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ، تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ) (٨) وقال : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) (٩). وقال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) (١٠). وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (١١) وقال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١٢).

الحجة العاشرة : قوله عليه‌السلام : «ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله. ألا وهي القلب» وهذا تصريح بأن العاقل المطلق : هو القلب. وأن سائر الأعضاء تبع له. وروى أن «أسامة بن زيد» لما قتل الكافر الذي قال : «لا إله إلا الله» قال له [النبي (١٣)] عليه‌السلام : «لم قتلته؟» فقال : لأنه قال هذه الكلمة عن خوف. فقال عليه‌السلام : «هلا شققت عن قلبه؟» وهذا يدل على أن محل المعرفة: هو القلب. وكان عليه‌السلام يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك».

__________________

(١) المجادلة ٢٢.

(٢) الحجرات ١٤.

(٣) الحج ٤٦.

(٤) الأعراف ١٧٩.

(٥) البقرة ١٠.

(٦) البقرة ٧.

(٧) النساء ١٥٥.

(٨) التوبة ٦٤.

(٩) الفتح ١١.

(١٠) المطففين ١٤.

(١١) محمد ٢٤ والتكملة من (ل ، طا).

(١٢) الحج ٤٦.

(١٣) من (ط).

وقال عليه‌السلام : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» وعنى به : أن صدور الفعل تارة ، والترك أخرى من العبد ، متوقف على أن يحصل في القلب داعي الفعل ، أو داعي الترك وحصول هذه الدواعي من الله تعالى. فعبر النبي عليه‌السلام عن تينك الداعيتين بالإصبعين. يعني : كما أن الرجل إذا أخذ شيئا بين إصبعين ، فإنه يقلبه كيف يشاء ، فكذلك القلب مسخر بين هاتين الداعيتين اللتين يخلقهما الله تعالى فيه. فهو تعالى يتصرف في قلوب العباد بواسطة خلق هذه الدواعي فيها. وهذا يدل على أن محل الدواعي والبواعث: هو القلب.

فإن قال قائل من الجهال (١) : كيف تمسكتم في المباحث الحكمية العقلية. بالآيات والأخبار؟ قلنا : هذا جهل. لأن الحكيم «أرسطاطاليس» ملأ كتبه من الاستشهاد بقول «أو ميروس (٢)» الشاعر ، فإذا لم يبعد منه ذلك ، فكيف يعاب علينا ، إن تمسكنا بهذا الكتاب العالي الشريف [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) قال المؤلف في كتاب القضاء والقدر ـ وهو الجزء التاسع من كتاب المطالب العالية ـ : إن الاعتماد على الآيات القرآنية في إثبات مذهب الجبر لا يلزم الخصوم ، القائلين بالاختيار. وإنما الملزم لهم هو الحجج العقلية. وهو لا يلزم الخصوم ـ عنده ـ لأن ظني الدلالة. وقوله باطل. لأن الحجج العقلية ليست ملزمة لتفاوت العقول في الفهم.

(٢) أبقرس (ط).

(٣) من (ل ، طا).

الفصل الخامس

في

حكايات شبهات «جالينوس»

على مذهبه. والجواب عنها

اعلم : أنه احتج بوجوه :

الحجة الأولى : على أن معدن الإدراك هو الدماغ.

قال : إن الدماغ منبت العصب ، والعصب آلة للإدراك ، (١) وما كان منبتا للآلة التي بها الإدراك ، وجب أن يكون معدنا لقوة الإدراك.

وهذه الحجة مبنية على مقدمات ثلاثة :

أما المقدمة الأولى : وهي أن الدماغ منبت للعصب. فالدليل عليه : أن الأعصاب الكثيرة لا توجد إلا في الدماغ ، وأما القلب فلا يحصل فيه إلا عصبة صغيرة ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الدماغ هو المنبت للأعصاب.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : إن الأعصاب هي الآلات للحس والحركة. فالدليل عنه : أنك إذا كشفت عن عصبة وشددتها ، وجدت ما كان أسفل من موضع الشد ، فإنه يبطل عنه الحس والحركة ، وما كان أعلى منه مما يلي جانب الدماغ ، فإنه لا تبطل عنه قوة الحس والحركة الإرادية ، وهذا يدل على أن آلة الحس والحركة الإرادية : هي العصب.

__________________

(١) آلة الإدراك (ل).

وأما المقدمة الثالثة : وهي أنه لما كان الدماغ منبتا لآلة الحس والحركة الإرادية ، وجب أن يكون معدنا لهذه المعاني. فالدليل عليه : أنه لما كانت قوتا الحس والحركة ، إنما تصلان [من الدماغ (١)] إلى جميع أجزاء البدن ، بواسطة هذه الأعصاب ، وجب أن يكون المنبع والمعدن لهذه المعاني : هو الدماغ.

وهذا الكلام أحسن دلائل «جالينوس» على إثبات مذهبه.

واعلم : أن أصحاب «أرسطاطاليس» أجابوا عن هذه الحجة على مقامين (٢) :

المقام الأول : [لا نسلم : أن الدماغ هو المنبت للعصب. وأما دليل «جالينوس» عليه ، وهو أن الأعصاب كثيرة وقوية عند الدماغ ، وقليلة وصغيرة عند القلب. فقد أجابوا عنه من وجهين :

الأول (٣)] : قالوا : إن المقدمة الواحدة لا تنتج المقصود. بل هذه المقدمة التي ذكرتموها لا بد من ضم مقدمة أخرى إليها. وهي أن يقال : [القوة (٤)] والكثرة لا يحصلان إلا عند المبدأ ، [والقلة (٥)] والصغر ، لا يحصلان إلا عند البعد من المبدأ.

إلا أن هذه المقدمة غير برهانية ، بل هي منقوضة بأمور ثلاثة :

أولها : إن العصبة المجوفة الحاملة للقوة الباصرة ، تكون دقيقة جدا عند المنبت ، فإذا دخلت النقرة التي تكون فيها الحدقة ، غلظت تلك العصبة واتسعت ، وهذا نقض على تلك المقدمة التي عول عليها «جالينوس».

وثانيها : إن الحبة التي يتولد منها ساق الشجرة ، تكون أصغر بكثير من ساق الشجرة. فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن العصبة الصغيرة التي في

__________________

(١) من (م).

(٢) بوجهين (م).

(٣) سقط (م ، ط) واعلم : أن الوجه الثاني أوله : سلمنا أن ... إلخ.

(٤) القلة (م).

(٥) من (ل) ، (طا).

القلب ، تكون كالحبة التي منها انشعبت الأعصاب الكثيرة في الدماغ؟

وثالثها : لو صح ما ذكره «جالينوس» لوجب أن يقال : إن أصل العروق الضوارب هي النسيجة الشبيهة بالشبكة التي في الدماغ ، لا القلب. لأن في تلك النسيجة من العروق والضوارب ، عدد لا يحصى. وهي في غاية المشابهة لعروق الشجرة.

واعلم أن هذه النقوض التي ذكروها على «جالينوس» : وجوه متكلفة. ول «جالينوس» أن يجيب عنها. ولو لا ظهورها لأوردناها.

والوجه الثاني : سلمنا أن الكثرة والقوة لا يحصلان إلا عند المبدأ. إلا أنا نقول : لا نزاع أن القلب منبت الشرايين. ثم إن اجرام الشرايين من جنس أجرام الأعصاب. وإذا كان كذلك ، أمكن أن تكون الأعصاب متولدة من تلك الشرايين. وبهذا التقدير يكون القلب منبتا ومنشأ للعصب.

فيفتقر في تقرير هذا الكلام إلى إثبات مقدمات.

المقدمة الأولى : إن العروق من جنس الأعصاب. فالدليل عليه : أن أجرام العروق تتفشى وتنقسم إلى الشظايا الليفية التي لا حس لها ، وهي بيض لدنة ، عديمة الدم ، صلبة غير حساسة في أنفسها ، والأعصاب كذلك في جميع الصفات. والدليل على أن الأعصاب غير حسّاسة في أنفسها : إنك إذا شددت العصبة برباط قوي ، شدا قويا ، صار ما هو أسفل من موضع الشد : عديم الحس. وذلك يدل على أن العصب غير حساس في نفسه ، وإنما يجري إليه الحس من موضع آخر. فثبت : أن الشرايين والأعصاب من جنس واحد.

وأما المقدمة الثانية : وهي في بيان أن الأعصاب والشرايانات ، لما كانت من جنس واحد ، أمكن تولد الأعصاب من الشرايانات : فهو أنا نقول : إن هذا الشرايانات لما انقسمت وتشعبت ، ودقت وصغرت ، ونفدت في الدماغ ، التفّ بعضها على بعض ، وانضمت أجزاؤها واتصلت. فصارت على صورة الأعصاب. وتمام الكلام فيه : أن هذه الشرايين حين انفصلت عن القلب ،

كان يحتاج إليها في أن تكون حاملة للدم والروح الحيواني إلى [جوهر (١)] الدماغ ، فلما صغرت ونفذت في جوهر الدماغ ، وحصل هذا المقصود ، حصل الاستغناء عنها في هذا العمل ، فلا جرم صرفت إلى بعض وصارت على صورة الأعصاب ؛ وبهذا الطريق صارت الشريانات أعصابا. وإذا ثبت هذا ، فنقول : القلب هو المنبت للشريانات ، وهذه الشريانات هي التي تولدت الأعصاب منها ، فحينئذ يكون المنبت للأعصاب ، هو القلب. وهذا قول ذكره «خروسيس (٢)» وكان من أفاضل الحكماء وكان شريكا ل «أرسطاطاليس (٣)» في العلم. ونصرناه نحن بهذه البيانات. وبهذا الطريق يسقط كلام «جالينوس» بالكلية.

واعلم : أن «جالينوس» أجاب عن هذا الكلام من وجهين :

الأول : قال : الدليل على أن الأعصاب ليست من جنس الشريانات.

وجوه :

الأول : إن الشريانات نابضة ، والأعصاب ليست نابضة.

الثاني : إن الشريانات مجوفة ، والأعصاب ليست كذلك.

الثالث : إن الشريانات محتوية على الدم. بدليل أنها إذا ثقبت ، جلب ذلك الثقب على صاحبه من انفجار الدم أمرا صعبا ، والعصب كله لا دم فيه.

الرابع : إن الشريانات مؤلفة من طبقتين : إحداهما : تتحلل إلى أجزاء ذاهبة في العرض على الاستدارة ، والأخرى تتحلل إلى أجزاء تذهب على الاستقامة في الطول. وأما الأعصاب فهي تتحلل إلى ليف أبيض عديم الدم ، ذاهب على الاستقامة في الطول.

الخامس : إنك إذا شددت العصبة ، حصل عدم الحس والحركة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) مروستيس (م).

(٣) أرسطو (م).

الإرادية ، ولا يبطل منه حركة النبض. وإن شددت الشريانات ، بطل النبض ، ولم يبطل الحس والحركة.

السادس : إن العصب قد يمسك عن فعله كثيرا. والشريانات أفعالها دائمة. وهي النبض.

فثبت بهذه الوجوه : أن الشريانات [ليست من جنس الأعصاب.

والوجه الثاني في الجواب عن ذلك الكلام : قال «جالينوس» : إن أصل الشريان (١)] المتشعب من القلب ينقسم إلى قسمين :

قسم يصعد إلى جانب الرأس ، وقسم ينزل إلى أسفل البدن ، والقسم النازل إلى أسفل البدن ، لا شك أنه ينقسم ويتفرق إلى الشعب الصغار الدقاق ، ثم إنها بعد دقتها ، ما صارت أعصابا. فوجب أن يكون الحال كذلك في الشريانات الصاعدة إلى أعلى البدن.

هذا حاصل كلام «جالينوس» في إبطال قول «خروسيس» على ما ذكره في كتابه المسمى ب «آراء بقراط وأفلاطون» في أوراق كثيرة.

واعلم : أن هذين الجوابين عندي في غاية الضعف.

أما الجواب الأول : فبيان ضعفه : أن الصفات التي ذكرها «جالينوس» للشريانات: صفات حاصلة لها من وقت انشعابها عن القلب ، إلى وقت تشعبها إلى الأقسام الدقيقة ، ونفوذها في جوهر الدماغ.

فلم قلتم : إن هذه الصفات تبقى في تلك الشظايا الدقيقة بعد هذه الحالة؟ والدليل عليه : أن الروح الدماغي ، لا شك أنه كان متولدا في القلب ، ثم إنه تصاعد من القلب ، وبقي في النسيجة المتولدة تحت الدماغ مدة ، ثم إنه ينفذ في الدماغ ، فيحدث له حال كونه في الدماغ ، أحوال وصفات ، غير الأحوال والصفات التي كانت حاصلة ، حين كان في القلب.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

فإذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الحال في الشرايين كذلك؟ فإن تلك الصفات التي ذكرها «جالينوس» كانت حاصلة للشرايين من وقت انشعابها من القلب إلى وقت نفوذها في جرم الدماغ. أما بعد ذلك فقد حدثت لها صورة أخرى ، وخلقة أخرى ، بخلاف الصورة الأولى.

وهذا الاحتمال لا يبطل بما ذكره «جالينوس» والدليل عليه : أن الفلاسفة اتفقوا على أن الطبيعة ، متى أمكنها الاكتفاء بالآلات القليلة ، لم تعدل عنه إلى إعداد الآلات الكثيرة. فههنا هذه الأجسام المسماة بالشريانات ، صورت بصور موافقة لتحصيل مطلوب معين ، وهو إيصال الدم والروح إلى الدماغ ، فلما حصل هذا المقصود ، فحينئذ تركب الطبيعة تلك الأجسام على صورة أخرى ، صالحة لمقصود آخر ، وهي صبورة الأعصاب. فثبت : أن الكلام الذي ذكره جالينوس لا يمكن جعله طعنا في مذهب «خروسيس».

وأما جوابه الثاني : فضعيف أيضا. وذلك لأن الروح القلبي ، كما صعد إلى الرأس في الشرايين الصغيرة ، فقد صعد أيضا إلى أسفل البدن في الشرايين الصغيرة. ثم إن القسم الصاعد إلى الرأس ، تغير عن حالته بسبب وصوله إلى جرم الدماغ ، وصار روحا دماغيا حاملا لقوة الحس والحركة.

وأما القسم النازل من الأرواح القلبية ، لما وصلت إلى الرجلين ، فلم يتغير عن حالته البتة. فلم لا يجوز أن يكون الحال في أجرام الشريانات كذلك؟ وتمام التقرير فيه : أنا ذكرنا أن الطبيعة تسعى في تقليل الآلة (١) ففي الدماغ احتاجت الطبيعة إلى إعداد آلة حاملة لقوة الحس والحركة ، فلا يبعد تكوين تلك الآلة من تلك الشظايا الشريانية. ولم توجد هذه الحاجة(٢) في الرجلين. فظهر الفرق ، وثبت بهذا البيان الذي ذكرناه : أن الكلام الذي ذكره «جالينوس» في إبطال الاحتمال ، الذي ذكره «خروسيس» في غاية الضعف والسقوط.

__________________

(١) الحاجة (م).

(٢) الحالة (ل).

وهاهنا آخر الكلام في الجواب عن دليل (١) «جالينوس» على أن منبت العصب هو الدماغ.

واعلم : أن «أرسطاطاليس» احتج على أن منبت العصب هو القلب. بأن قال : الحركة الإرادية لا بد وأن تكون بآلة صلبة قوية ، والدماغ ليس بجرمه شيء من الصلابة والقوة، فامتنع كونه منبتا للعصب. وأما القلب ففيه أنواع من الصلابة. منها أن لحمه قوي [شديد صلب (٢)] من سائر اللحوم. ومنها : أنه فيه من الرباطات العصبية مقدارا كثيرا. ومنها : أنه بسبب كثرة حركته ، لا بد وأن يكون أقوى جرما ، وإذا كان كذلك فقد ظهر أنه جعل القلب منبتا للأعصاب ، التي هي آلات للحركات القوية ، أولى من جعل الدماغ منبتا لها.

وأجاب «جالينوس» عن هذه الحجة بوجهين :

الأول : قال : إن هذا المستدل بنى كلامه على المقدمة القياسية. والحس دل على أن منبت الأعصاب هو الدماغ ، والقياس لا يلتفت إليه في معارضة الحس.

الثاني : إن المباشر لتحريك الأعضاء ، ليس هو العصب فقط ، بل والعضلات. ومعلوم : أن العضلات مركبة من الأعصاب والرباطات والأغشية واللحوم ، وهي مستندة إلى الأعضاء الصلبة ، والأعصاب يفيدها الحس والقوة على الحركة ، وأما ما يختلط بها من الرباطات والأغشية ، فيفيدها القوة والشدة والأمن من الانقطاع.

وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يكون الدماغ منبتا للأعصاب.

واعلم : أن هذا الجواب عندي ضعيف.

أما الجواب الأول : فجوابه : إن الحس لم يدل إلا على كثرة الأعصاب

__________________

(١) كلام (م).

(٢) من (ل).

وقوتها عند الدماغ. وقد بينا أن هذا القدر (١) لا يدل على كون الدماغ منبتا للأعصاب.

وأما الجواب الثاني : فضعيف أيضا. لأن «جالينوس» استدل بغلظ العصب وكثرته عند الدماغ ، على أن المنبت هو الدماغ. وأصحاب «أرسطاطاليس» قالوا : هذا الوجه الثاني الذي ذكره (٢) إن دل على قوله (٣) فكون الدماغ في غاية اللين وكون العصب في غاية القوة ، يمنع من كون الدماغ ، منبتا للعصب ، ولما حصل التعارض فيه سقط كلام جالينوس» فهذا تمام الكلام في أن منبت العصب هو القلب أو الدماغ.

أما المقام الثاني في الجواب عن شبهة «جالينوس» : فهو أن نقول : سلمنا أن الدماغ هو المنبت للعصب ، الذي هو آلة للقوة الحساسة ، والحركة الإرادية. فلم قلتم : إنه يلزم من هذا المعنى كون الدماغ ، معدنا لقوة الحس والحركة؟.

بيانه : أنه لا يبعد أن تكون قوة الحس والحركة ، متولدة في القلب. إلا أن الدماغ يرسل إليه آلة ثابتة منه إلى القلب ، فيستفيد بتلك الآلة قوة الحس والحركة من القلب. وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، فقد سقطت الحجة التي ذكرها «جالينوس» [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية ل «جالينوس» على فساد القول بأن معدن القوة المدركة هو القلب إنه لو كانت قوة الحس والحركة تنفذ من القلب إلى الدماغ ، لكنا إذا شددنا العصب بخيط شدا قويا ، وجب أن تبقى قوة الحس والحركة في الجانب الذي يلي القلب ، وأن تبطل من الجانب الذي يلي الدماغ ، لكن الأمر بالضد منه. فعلمنا : أن قوة الحس والحركة تجري من الدماغ إلى القلب ، ولا تجري

__________________

(١) القول (م).

(٢) ذكرتم (م).

(٣) قولكم بكون (م).

(٤) سقط (م) ، (ط).

من القلب إلى الدماغ. وهذه الحجة أحسن من الحجة الأولى ، ولا نحتاج فيها إلى المقدمات الكثيرة المذكورة في الحجة الأولى.

والجواب : لم لا يجوز أن يقال : الروح القلبي يكون في غاية الحرارة. فإذا كان بينه وبين الدماغ منفذ مفتوح ، وصل تبريد الدماغ إلى القلب ، فاعتدل واستعد لقبول قوة الحس والحركة. فأما إذا انسد ذلك المسلك ، انقطع عن القلب أثر الدماغ ، فلا جرم لم يبق مستعدا لقبول قوة الحس والحركة ، فبطلت هذه القوة من الجانب الذي يلي القلب؟

الحجة الثالثة ل «جالينوس» : إن الحكماء والأطباء اتفقوا على أن الحامل لقوة الحس والحركة : جسم لطيف نافذ في الأعضاء (١) وهو الروح. وإذا كان كذلك ، فالدماغ أن يكون مبدأ لهذه الروح ، أولى من القلب. وذلك لأنا نجد في الدماغ مواضع خالية ، وتلك المواضع الخالية تصلح لأن تتولد فيها تلك الأرواح ، وأما القلب فليس كذلك ، لأن التجويف الأيمن منه مملوء من الدم. وإنما الشبهة في التجويف الأيسر ، فإنه يعتقد أنه مملوء من الروح.

قال «جالينوس» : وليس الأمر كذلك فإن القلب إذا كشف عنه وأبرز من غير أن تثقب وتخرق أغشيته ، لم يمت الحيوان بهذا السبب ، بل قد يلبث مدة طويلة ، تلمسه بيدك، وتنظر إليه بعينك ، وهو مكشوف ، فتعرف كيف أن نبضه في هذه الحالة ، يساوي نبضه قبل أن تكشف عنه ، ولكن بشرط أن يقع هذا التشريح في موضع ، لا يكون هواؤه باردا ، لئلا يتبرد القلب. فإنه لو برد لصار النبض ضعيفا بطيئا متفاوتا.

إذا عرفت هذا فنقول : إنا إذا غرزنا إبرة في غشاء هذا التجويف الأيسر ، سال في الحال منه : دم ، ولو كان هذا التجويف [مملوءا من الروح ، لوجب أن لا يسيل منه الدم البتة ، ولو كان هذا التجويف (٢) في بعضه روح ، وفي بعضه دم ، لوجب أن أن تخرج الروح أولا ، ثم يسيل الدم بعده. وعلى

__________________

(١) الأعصاب (م).

(٢) سقط (م).

هذا التقدير ، فكان يجب أن لا يسيل الدم في الحال ، ولما سال في الحال ، علمنا : أن التجويف الأيسر مملوء من الدم. وأيضا : الحيوان الذي مات تجد في التجويف الأيسر من تجويفي قلبه : علق الدم وأما الدماغ فإن جرمه مزرد ، فلا يمتنع أن يحصل في تلك الغضون(١) أجزاء الروح.

والجواب : إن هذه الحجة في غاية الضعف لأنها إن صحت ، فهي تدل على أنه ليس في القلب روح أصلا ، و «جالينوس» لا ينازع في كون القلب معدنا للأرواح الحيوانية، ويسلم أن الروح الدماغي هو الذي صعد من القلب إلى الدماغ ، وصار هناك روحا حاملا لقوة الحس والحركة.

الحجة الرابعة ل «جالينوس» : إن العقل أشرف القوى ، فوجب أن يكون مكانه أشرف الأمكنة. وأشرف الأمكنة أعلاها ، فوجب أن يكون مكان العقل هو الدماغ ، وهو بمنزلة الملك العظيم الذي يسكن القصر الأعلى. وأيضا : الحواس محيطة بالرأس ، كأنها خدم الدماغ ، وواقفة حوله على مراتبها اللائقة بها. وأيضا محل الرأس من البدن محل (٢) السماء من العالم ، فكما أن السماء منزل الروحانيات. فكذلك الدماغ ، وجب أن يكون منزل العقل ، الذي هو روحاني هذا البدن.

والجواب : إن ما ذكرناه من الدلائل اليقينية ، لا يعارضها هذه الإقناعيات. ثم إنا قد ذكرنا لنصرة ذلك القول وجوها إقناعية أقوى من هذا الوجه [وهذا آخر الكلام في هذا المطلب (٣)].

__________________

(١) العصوب (ط).

(٢) مكان (م).

(٣) سقط (ل).

الفصل السادس

في

تلخيص مذهب أصحاب «أرسطاطاليس»

في كيفية الأرواح القلبية والدماغية

اعلم : أن الشيخ الرئيس تكلم في هذا البحث في مواضع كثيرة من كتبه ، على وجوه مختلفة. ونحن ننقل تلك الكلمات.

قال في أول كتاب «الأدوية [القلبية (١)] : وقوم من أصحاب الحكيم الأجل ، قالوا في القوى النفسانية : إنها كلها تفيض من الأرواح من غير حاجة للروح إلى الأعضاء الأخرى ، كالدماغ والكبد في الاستعداد لقبولها لكن الإنصاف لم يسوغ هذا المذهب وأبطله. وأقول : هذا تصريح بأن الروح قبل انتقاله إلى الدماغ [لم تكن القوى النفسانية موجودة. وإنما تحدث فيه بعد انتقاله إلى الدماغ (٢)] وتكيفه بكيفيته.

وقال في الفصل السابع من المقالة الثانية عشرة من كتاب الحيوان من «الشفاء» : إن الروح الذي يأتي الدماغ ، فإنه يصلح في جوهره الأول أيضا لأعمال أخرى. مثل التغذية والتنمية ، وغير ذلك. فاذا اعتدل بطل استعداده لتلك القوى ، وصار غير مغذي (٣) ، وانفرد بفعل واحد ، ولم تترادف عليه الأفعال ، فيشتغل بعضها عن بعض. وكذلك إذا صار إلى الكبد ، أبطل مزاج

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (ل).

(٣) وصار عارية (م). وصار غير غاذية (طا ، ل).

الكبد عند الاستعداد لفعل الحس والحركة ، وتركه خاصا لفعل التغذية. فهذه الأعضاء التي تغذي (١) القلب ، إنما تغير المزاج ، فتصير الروح عديمة القوة. وهذا بالذات ، وتصير الروح أقوى قوة من القوة الباقية. وهذا بالعرض. لأن تلك القوة إنما ازدادت قوتها ، لأن القوة التي زالت كانت كالعائق لهذه القوة الباقية عن الفعل [فلما زال العائق ، كملت القوة ، لا لأنه حدث أمر زائد ، بل لأنه زال العائق. ثم قال (٢) :] وعلى هذه الحجة يصح أن يطرد القول بأن النفس واحدة.

أقول : هذا تصريح بأن جميع القوى موجودة في الروح عند ما يكون حاصلا في القلب ، وأنه لا أثر لسائر الأعضاء إلا في إزالة بعض تلك القوى.

وقال في الفصل الثامن من المقالة الخامسة من علم النفس من طبيعيات «الشفاء» : القلب مبدأ أول وتفيض منه إلى الدماغ قوى. فبعضها تتم أفعالها في الدماغ ، وأجزائه كالتخيل والتفكر ، ثم تفيض منه إلى سائر الأعضاء. وأيضا يفيض من القلب إلى الكبد قوة التغذية ، ثم منها إلى سائر الأعضاء.

أقول : هذا تصريح بأن القوى الطبيعية والنفسانية موجودة في الخارج قبل انتقال الروح إلى الدماغ والكبد ، وأن الحاجة إلى حصول الروح فيه (٣) [وفي الكبد] لظهور أفعال القوى عنها ، لا لحدوثها في أنفسها.

وهذا الوجه هو الذي اختاره في فصل الأعضاء من كتاب «القانون» فإنه قال فيه : القلب يعطي سائر الأعضاء كلها : القوى التي تغذي والتي تنمي والتي تدرك والتي تحرك.

واعلم : أنه قد تلخص من هذه الكلمات احتمالات ثلاثة في هذه المسألة لا مزيد عليها. وذلك لأن الكل اتفقوا على أن الروح الحامل للقوى النفسانية ،

__________________

(١) تفيد (م).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) فيهما (طا ، ل).

إنما انتقل من القلب إلى الدماغ. [والكبد (١)] فإما أن يقال : القوة النفسانية كانت موجودة في ذلك الروح قبل انتقاله إلى الدماغ ، أو ما كانت موجودة فيه.

أما القسم الثاني : وهو أنها ما كانت موجودة فيه قبل انتقالها إلى الدماغ ، فهو الذي اختاره في الأدوية القلبية.

وأما القسم الأول وهو أن هذه القوى كانت موجودة في ذلك الوقت. فلا نزاع في أن الأفعال النفسانية لا تصدر عنها إلا بعد حصولها في الدماغ. فالحاجة إلى الدماغ ، إما أن تكون لأجل حصول حالة وصفة ، أو لأجل زوال حالة وصفة.

فالأول : وهو أن يقال (٢) : انتقالها إلى الدماغ شرط لا لحدوث تلك القوى في أنفسها ، بل لصيرورتها بحيث تصدر عنها أفعالها ، على معنى أن حصول تلك الأرواح الحاملة لتلك القوى [في الدماغ (٣)] شرط لصدور (٤) آثارها عنها.

وأما الثاني : فهو أن يقال : القوى الكثيرة كانت موجودة في ذلك الروح ، وتلك القوى متدافعة متمانعة ، فلما انتقل ذلك الروح إلى الدماغ ، بطل سائر القوى ، وبقيت هذه القوة سليمة عن المعارض ، فلا جرم صدر عنها الفعل.

واعلم : أن هذا البحث كما وقع في هذا الموضع ، قد وقع في أن الروح الدماغي ، متى توجد فيه القوة الباصرة مثلا. عند ما تصل إلى الجليدية. أو يقال : إن القوة الباصرة كانت موجودة فيه ، إلا أن ظهور فعلها عنها ، موقوف على انتقالها إلى الجليدية؟.

وبالجملة : فكل شيء لزم على «أرسطاطاليس» في قوله : القلب هو

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) صححنا على (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) لحصول (ل).

الرئيس المطلق. فهو أيضا لازم على «جالينوس» في قوله : الدماغ هو رئيس الحواس الخمسة [الظاهرة (١)] والباطنة.

والأقرب عندي : أن يقال : هذه القوى كانت موجودة في القلب. والدماغ شرط لظهور (٢) الأفعال عن تلك القوى. والدليل على صحة ما قلناه : أنه متى تعلقت النفس الناطقة بالقلب ، فقد حصلت الإنسانية ، ومتى حصلت الإنسانية فقد حصلت الحيوانية لا محالة ، لأن حصول النوع مع عدم الجنس محال ، والفصل المقوم لماهية الحيوان ، هو قوة الحس والحركة [فإذن كما تعلقت النفس بالقلب ، فقد حصلت قوة الحس والحركة (٣)] الإرادية ، فلم يبق إلا أن يكون الدماغ شرطا يحتاج إليه في ظهور الفعل عن تلك القوى. فهذا ما نقوله [في هذا الباب (٤)] والعلم بحقائق الأشياء على التمام والكمال ، ليس إلا لله تعالى.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) حصول (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) سقط (ط).

الفصل السابع

في

أن النفوس الناطقة محدثة أو قديمة؟

وفيه أقوال : وضبطها : أن يقال : إنها [إما قديمة أو حادثة. فإن كانت قديمة فإما أن يقال (١) إنها] واجبة لذواتها غنية عن السبب والمؤثر. وإما أن يقال : إنها [ممكنة لذواتها واجبة بإيجاب ، سببها وعلتها. وأما إن قلنا : إنها محدثة. فإما أن يقال إنها (٢)] وإن كانت محدثة إلا أنها كانت موجودة قبل هذه الأبدان ، كما ورد في بعض الأخبار : «إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» وإما أن يقال : إن هذه الأرواح ما كانت موجودة قبل أبدانها. وهذا هو قول «أرسطاطاليس» وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين.

واحتج القائلون بحدوث النفس بوجهين :

الحجة الأولى : هي أن قالوا : لو كانت النفوس قديمة ، لكانت في الأزل ، إما أن تكون واحدة ، أو متعددة. والقسمان باطلان ، فبطل القول. بكونها قديمة. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يقال : إنها كانت واحدة ، لأنها لو كانت واحدة في الأزل ، فعند تعلقها بالأبدان ، إما أن يقال : إنها تبقى على تلك الوحدة ، وإما أن يقال : إنها عند تعلقها بالأبدان تتعدد. والقسمان باطلان.

أما الأول : فلأن على هذا التقدير ، يلزم أن يكون الحاصل لجميع

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

أشخاص الناس : نفسا واحدة بالعدد. ولو كان الأمر كذلك ، لكان ما علمه إنسان ، فقد علمه كل إنسان ، وما جهله إنسان فقد جهله كل إنسان. ومعلوم أنه باطل.

وأما الثاني : وهو أن يقال : النفوس كانت واحدة قبل تعلقها بالأبدان. ثم إنها عند تعلقها بالأبدان : صارت متعددة. فهذا محال. لأن هاتين النفسين المتشخصتين. إما أن يقال : إنهما كانتا موجودتين في الأزل [أو ما كانت موجودتين في الأزل. فإن كانتا موجودتين في الأزل ، فقد كان التعدد حاصلا في الأزل (١)] وقد فرضنا أنه ما كان حاصلا. هذا خلف. وإن قلنا : إنهما ما كانتا موجودتين في الأزل ، كان وجودهما حاصلا بعد العدم. وهذا يوجب القول بحدوثهما ، ويمنع من القول بقدمهما وهو المطلوب. وإنما قلنا : إنه يمتنع القول بأنها كانت متعددة في الأزل ، لأن التعدد لا يحصل إلا إذا امتازت كل واحدة منها عن الأخرى في أمر من الأمور. وذلك الامتياز إما أن يكون حاصلا بالماهية أو بلوازمها [أو بعوارضها (٢)] والأول باطل. لأنه ثبت أن النفوس الناطقة البشرية متساوية في الماهية. وإن نازع منازع في هذه المقدمة ، إلا أنه لا أقل من أن توجد نفسان متساويتان في الماهية. وهذا القدر يكفينا في تقرير هذا الدليل. والثاني أيضا باطل. لأن لوازم الماهية مشترك فيها بين أفراد الماهية. والوصف المشترك فيه يمتنع أن يفيد (٣) الامتياز. والثالث أيضا باطل. لأن اختلاف الأمثال (٤) بسبب العوارض المفارقة ، لا يحصل إلا بسبب التغاير في المادة. ومواد النفوس هي الأبدان فقبل حصول الأبدان كانت المواد مفقودة ، فوجب أن يمتنع حصول التغاير بينها بسبب الأعراض المفارقة. فثبت : أن حصولها في الأزل على نعت الوحدة محال وعلى نعت التعدد أيضا : محال. فوجب القطع بأنه يمتنع حصولها في الأزل.

__________________

(٢) سقط (م).

(٣) يقبل (م).

(١) الماهيات (م).

(٤) الماهيات (م).

الأول : أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : إنها في الأزل كانت واحدة ، ثم صارت عند التعلق بالأبدان متعددة؟ قوله : «هاتان النفسان المعينتان. إما أن يقال : إنهما كانتا موجودتين في الأزل ، أو ما كانتا موجودتين في الأزل» قلنا : هذا الدليل جيد في نفسه ، إلا أنه لا يستقيم على أصولكم. وذلك لأنكم تقولون : إن هذا الماء ، كان واحدا في ذاته ، وعند القسمة يحصل ماءان. فيقال لكم هذان الماءان. هل كانا موجودين قبل حصول هذه القسمة ، أو ما كانا موجودين؟ فإن كان الأول فذلك الماء ، قبل هذه القسمة ما كان ماء واحدا في ذاته ، بل كان مركبا مؤلفا من الأجزاء. وحينئذ يبطل قولكم إن الجسم البسيط واحد من نفسه. وإن قلتم : إن هذين الماءين الحاصلين بعد القسمة ، ما كانا موجودين من قبل القسمة ، فيلزم أن يقال : إن هذين الماءين حدثا الآن ، وذلك الماء الذي كان واحدا قبل القسمة ، فيلزم أن يقال : إن هذين الماءين حدثا الآن ، وذلك الماء الذي كان واحدا قبل القسمة : قد فني وعدم عند حصول هذه القسمة. فيكون التقسيم إعداما للماء الأول ، وإيجادا للماء الثاني. وذلك لا يقوله عاقل. فثبت بهذا : أن الدليل الذي ذكرتم في امتناع أن تتعدد النفوس بعد وحدتها : قائم بعينه في الأجسام. مع أنكم لا تقولون به ، فكان الإلزام واردا.

فإن قالوا : نحن لا نذكر في إبطال هذا القسم : هذا الدليل الذي ذكرتم. بل تذكر كلاما آخر ، وهو أن نقول : كل ما انقسم بعد أن كان واحدا ، فهو جسم. ونحن قد بينا : أن النفس ليست بجسم. فنقول : هذا الكلام ضعيف. لأنه يصدق أن يكون الجسم واحدا ، ثم يتعدد. ولا يلزم من صدقة أن كل ما كان واحدا ثم تعدد ، فإنه يكون جسما [لأن الموجبة الكلية لا تنعكس مثل نفسها ، فلعله يكون الجسم (١)] بهذه الصفة. وغير الجسم قد يكون أيضا بهذه الصفة. فما لم تذكروا الدليل لم يتم هذا الكلام.

الاعتراض الثاني : لم لا يجوز أن يقال : النفوس كانت متعددة في الأزل؟

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

قوله : «إنه لا يحصل التعدد إلا لأجل معنى يوجب الامتياز» قلنا : هذا ممنوع. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنه لو كان التعين أمرا زائدا على الذات والتعينات متساوية في ماهية أنها تعين، وجب أن يكون تعين كل تعين زائدا عليه. ويلزم التسلسل. ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال: ماهية السواد ، وماهية التعين ، إذا انضمت كل واحدة منهما إلى الأخرى ، فإن كل واحدة منهما تقتضي تعين الأخرى؟ لأنا نقول : ماهية السواد ماهية كلية ، وماهية التعين أيضا ماهية كلية ، والكل إذا تقيد بالكلي يبقى كليا ، ولا يصير شخصيا. فثبت : أن القدر الذي ذكرتموه لا يوجب التعين.

الثاني : إن اختصاص هذا التعين بهذا المتعين دون ذاك ، واختصاص ذلك التعين [بذلك المتعين (١)] دون هذا : مشروط بامتياز هذا التعين عن ذلك التعين. فلو كان ذلك الامتياز معللا بحصول هذه الصفة في هذا ، وحصول تلك الصفة في ذلك ، لزم الدور ، وهو محال.

ا لثالث : لو كان تعين هذا المتعين زائدا عليه ، لكان هذا المتعين (٢) : موجودين ، لا موجودا واحدا. ثم يكون لكل واحد منهما تعين آخر ، فتصير أربعة لا واحدا. [وبهذا الطريق يلزم (٣)] : أن يكون الموجود الواحد غير واحد ، بل موجودات غير متناهية. وهو محال.

الاعتراض الثالث : سلمنا : أنه لا بد من معنى يفيد الامتياز. فلم لا يجوز أن يكون ذلك الامتياز بنفس الماهية؟ قوله : «النفوس البشرية متساوية في الماهية» قلنا : ليس لكم على صحة هذه المقدمة دليل. ولنا : دلائل كثيرة على إبطالها. قوله : «هب أن النفوس الناطقة أنواع ، إلا أنه لا أقل من أن

__________________

(١) من (م).

(٢) المعنى (م).

(٣) ويظهر من هذا (م).

يوجد من كل نوع فردان ، وحينئذ يتم البرهان».

قلنا : وأي دليل على صحة هذه المقدمة؟ أقصى ما في الباب أن يقال : إنه لا بد من أن توجد نفس أخرى ، تشبه النفس الأولى في العلوم والأخلاق ، وسائر الصفات. إلا أن هذا لا يدل على التماثل ، لما ثبت : أن الماهيات المختلفة لا يمتنع اشتراكها في اللوازم الكثيرة.

الاعتراض الرابع : لم لا يجوز أن يقال : إن كل واحد منها يمتاز عن الآخر بسبب [عارض غير (١)] لازم للماهية؟ قوله : «الاختلاف في العوارض إنما يكون بسبب المادة» قلنا : هذا محال. لأنه لو كان [كذلك ، لكان (٢)] امتياز هذا الجزء ، عن ذلك الجزء [الآخر ، منه (٣)] لأجل الامتياز في المادة ، ولو كان كذلك ، لكانت مادة هذا الجزء ، إما أن تكون مخالفة لمادة الجزء الآخر إما في الماهية أو في العوارض. فإن كان الأول ، كان هذا الامتياز حاصلا قبل القسمة. والحال في كل مادة غير الحال فيما يخالفها. فيلزم أن يكون الجسم مؤلفا من أجزاء لا نهاية لها بالفعل. وهو محال.

وإن كان الثاني : وهو أن يقال إن مادة هذا الجزء [تمتاز عن مادة الجزء (٤)] الآخر بسبب عارض مفارق ، فحينئذ يلزم افتقار تلك المادة إلى مادة أخرى ، ولزم إما التسلسل وإما الدور [وهما محالان (٥)].

الاعتراض الخامس : سلمنا : أن الامتياز بالعوارض لا يحصل إلا بالمادة. فلم قلتم : إنه لم توجد قبل هذا البدن مادة أخرى؟ [وبيانه : أنه يحتمل أن يقال : هذه النفس كانت قبل تعلقها بهذا البدن متعلقة ببدن آخر (٦)] لا إلى أول (٧) وعلى هذا التقدير ، فإنه لا يمكنكم إبطال هذا الاحتمال ، إلا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

(٤) سقط (م) ، (ط).

(٥) سقط (م) ، (ط).

(٦) سقط (ل).

(٧) نهاية وأول (م).

بإبطال القول بالتناسخ ، فيكون هذا الدليل مبنيا على الدليل الدال على إبطال القول بالتناسخ. لكن دليلكم في إبطال القول بالتناسخ متفرع على القول. بحدوث النفس على ما سيأتي شرحه. وحينئذ يقع الدور ، وهو باطل.

الاعتراض السادس : هب أنه قبل هذا البدن ، لا يجوز أن يقال : إن هذه النفس كانت متعلقة ببدن آخر. لكن لم يلزم من هذا القدر ما ذكرتموه. وبيانه أنكم ذكرتم أنه لا يبعد أن يقال : النفوس الناقصة إذا فارقت أبدانها ، فإنها تتعلق بضرب من الأجسام السماوية ، وتتخذها جارية مجرى الآلات الجسمانية. فإذا جوزتم هذا ، فلم لا يجوز أن يقال أيضا : إنها كانت قبل الأبدان متعلقة بجزء من أجزاء السموات ، أو بجزء من أجزاء كرة الأثير، أو كرة أخرى ، وبسبب هذا القدر حصل الامتياز؟

الاعتراض السابع : إن دل ما ذكرتم على أن النفوس لا يمكن كونها أزلية ، فهو بعينه يمنع من كونها أبدية ، مع أن مذهبكم إنها أبدية. وبيانه هو أن النفوس المفارقة لأبدانها ، كل واحدة منها ، تبقى ممتازة عن الغير ، بسبب ما حصل لها من العلوم والأخلاق [فنقول : نفترض الكلام في النفوس التي فارقت أبدانها حال ما كانت تلك الأبدان أجنة في بطون الأمهات ، فههنا لم يحصل لتلك النفوس من العلوم والأخلاق شيء (١)] فوجب أن تحكموا ، إما بأنها تفسد وتفنى ، أو بحصول الامتياز من غير سبب. وكل ذلك عندكم باطل.

فإن قالوا : كل واحدة منها قد حصل لها شعور بهويتها [المعينة (٢)] وذاتها المخصوصة. وهذا القدر يكفي في حصول الامتياز. فنقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : أن نقول : وإن جاز هذا ، فلم لا يكفي هذا القدر في حصول الامتياز في جانب الأزل؟

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) سقط (طا).

الثاني : إن عندكم : علم النفس بذاتها المخصوصة ، عين ذاتها المخصوصة. وتقولون : إن هذه الصورة : العقل والعاقل والمعقول : واحد. وإذا كان كذلك ، فالقول بأن كل واحدة منها تمتاز عن الأخرى ، بسبب شعورها بذاتها المخصوصة ، يقتضي [امتياز كل واحدة منها بنفس (١)] ذاتها المخصوصة ، وهذا يقتضي أن تكون ماهية كل واحدة منها ، مخالفة لماهية الأخرى. وإذا ثبت هذا ، فقد بطل [أصل (٢)] هذا الدليل. فهذا تمام الكلام في الاعتراض على هذا الدليل.

الحجة الثانية : قالوا : هذه النفوس ، لو كانت موجودة في الأزل ، لكانت إما أن تكون متعلقة بأبدان أخرى ، أو كانت خالية عن التعلق [بأبدان أخرى (٣)] والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونها أزلية.

أما القسم الأول : وهو القول بأنها كانت متعلقة (٤) بأبدان أخرى ، فهذا باطل بالدلائل المذكورة في إبطال التناسخ.

وأما القسم الثاني : وهو أنها كانت خالية عن التعلق بأبدان أخرى ، فعلى هذا التقدير تكون معطلة. ولا معطل في الطبيعة.

والاعتراض عليه : أما الكلام على الدلائل المذكورة في إبطال التناسخ فسيأتي.

وأما قولكم (٥) : إنها لو لم تكن متعلقة بالأبدان ، لكانت معطلة ، ولا معطل في الطبيعة.

فنقول : يجب البحث في كل واحدة من هاتين المقدمتين. فما المراد من قولكم : إنها تكون معطلة؟ إن عنيتم أنها تكون خالية عن الإدراك والشعور ،

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) خالية متعلقة (م).

(٥) قوله (م).

فلا نسلم ، لأنها لما كانت موصوفة بالحياة ، وجب أن يحصل لها إدراك وشعور ببعض الأشياء ، ولعلها تلتذ بذلك القدر من الإدراك ، وحينئذ لا تكون معطلة. ألا ترى أنا نجد البق والبعوض وحيوانات أخرى أصغر منها بكثير موجودة. ولا نقول : بأنها لما قلت انتفاعاتها ولذاتها ، كانت معطلة. بل نقول : إنها لما فازت بذلك القدر الحقير من الخير والمنفعة ، خرجت عن أن تكون معطلة. فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟

الاعتراض الثاني : لم لا يجوز أن يقال : إنها قبل الأبدان ، كانت متعلقة بجزء معين من السموات ، أو بجزء من أجزاء العناصر ، كانت تنال الخيرات واللذات بسبب تلك الآلات؟.

الاعتراض الثالث : أليس من مذهبكم : أن نفوس الأجنة ، إذا فارقت أبدانها ، فإنها تبقى أبد الآباد من غير أن يحصل لها لذة وخير ومنفعة؟ وذلك يبطل قولكم : إنه لا معطل في الطبيعة.

الاعتراض الرابع : سلمنا أن تلك النفوس كانت معطلة. فلم قلتم : إنه لا معطل في الطبيعة؟ فإن هذه المقدمة ذكروها ، وما رأيت أحدا منهم قوّاها بشبهة ، فضلا عن حجة.

واعلم : أنه لم يصل إلينا كلام آخر في إثبات حدوث النفوس البشرية. ويمكن ذكر دليلين آخرين فيه ، إلا أنهما يوجبان القول. بحدوث الأجسام.

الوجه الأول : أن نقول : لا شك أن هذه النفوس قابلة للصفات الحادثة ، فإنها تصير عالمة بأشياء ، بعد ما أنها ما كانت عالمة بها ، وتصير موصوفة [بأخلاق ، بعد أنها ما كانت موصوفة (١)] بها. إذا ثبت هذا فنقول : إن قابلية الصفات الحادثة ، يجب أن يكون من لوازم ذواتها. وقابلية الصفات الحادثة حادثة ، فيلزم أن يقال : إنها لا تخلو عن الحوادث ، وكل ما لا يخلو عن

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

الحوادث فهو حادث. فهذه النفوس حادثة. فيفتقر في تقرير هذه المقدمات [إلى مقدمتين (١)].

المقدمة الأولى : في أن قابلية هذه الحوادث من لوازم ذواتها. والدليل عليه : أن تلك القابلية إن لم تكن من اللوازم ، كانت من العوارض المفارقة ، فتكون تلك الذوات قابلة لتلك القابلية. فقابلية تلك القابلية ، إن كانت من اللوازم فهو المقصود ، وإن كانت من العوارض ، افتقرت كل قابلية إلى تقدم قابلية أخرى. ولزم التسلسل في أسباب ومسببات توجد دفعة واحدة. وهو محال. فثبت : أن قابلية هذه الصفات من لوازم [ذوات (٢)] هذه النفوس.

والمقدمة الثانية : في بيان أن قابلية الصفات الحادثة : حادثة. والدليل عليه : أن كون تلك الحوادث مقبولة للغير ، صفة عارضة لذواتها. وإمكان الصفة موقوف على إمكان الموصوف. ولما كان حصول الحادث في الأزل محالا. كان كون الصفة الحادثة مقبولا للغير ، أولى بأن يمتنع كونه أزليا. وهذا يدل على أن قابلية الصفات الحادثة : حادثة.

وعند تقرير هاتين المقدمتين ، ظهر أن هذه النفوس لا تنفك عن الحوادث ، [فنقول: وكل (٣)] ما لا ينفك عن الحوادث فهو حادث ، بالوجوه المذكورة في مسألة حدوث الأجسام وقد ذكرناها هناك.

فظهر بهذا الدليل : أن كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه يمتنع أن يكون قديما ، لكن الأجسام والنفوس البشرية قابلة للحوادث ، فيمتنع كونها قديمة [ثم نقول (٤) :] والإله تعالى قديم فيمتنع كونه قابلا للحوادث. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل.

والوجه الثاني : أن نقول : لا شك أن الله تعالى قديم ، فلو حصل قديم

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

آخر ، لزم القول بوجود قديمين. وذلك محال.

والدليل عليه : أن القدم عبارة عن نفي العدم السابق ، فيكون صفة موجودة. والقديمان لما اشتركا في القدم ، فقد اشتركا في أمر موجود. فإما أن يختلفا باعتبار آخر ، وإما أن لا يكونا كذلك ، فإن اختلفا باعتبار آخر [كان القدم الذي به المشاركة (١)] مغاير لذلك الاعتبار ، الذي به المخالفة. فيكون ذلك القديم مركبا من جزءين ، وكل واحد من جزئي القديم : قديم ، فذانك الجزءان بعد اشتراكهما في القدم ، لا بد وأن يختلفا باعتبار آخر ، وإلا لم يكن أحدهما بكونه جهة [الاشتراك ، والآخر بكونه جهة (٢)] الامتياز أولى من العكس. والكلام فيه كما في الأول فيلزم كون ذلك القديم مركبا من أجزاء غير متناهية. وذلك محال.

ولما ثبت [هذا ثبت (٣)] أن القديم الثاني ، يجب أن لا يخالف الأولى ، في جزء من أجزاء الماهية. فوجب أن يتماثلا مطلقا ، فيلزم كون الأرواح البشرية مماثلة للإله تعالى في جميع الصفات. وظاهر أنه محال. فهذا بيان أنه يمتنع وجود موجودين قديمين.

واحتج القائلون بقدم النفوس بوجهين :

الحجة الأولى : إنه ثبت في الفلسفة : أن الأدوار الفلكية غير متناهية. فالأبدان البشرية غير متناهية. فلو كانت النفوس البشرية حادثة ، لكان حدوثها ، لأجل أن حدوث البدن شرط في فيضانها عن العلل العالية. فلما كانت الأبدان غير متناهية ، وجب أن تكون النفوس البشرية غير متناهية. لكنه ثبت أن النفوس لا تقبل الفساد ، فوجب أن [يوجد الآن عدد لا نهاية له من النفوس (٤)] وذلك محال لأن كل عدد فإنه يحتمل الزيادة والنقصان وكل ما كان كذلك ، فهو متناه.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م)

(٣) سقط (م).

(٤) أن تكون النفوس غير متناهية (م).

واعلم : أن قولنا : إن كل عدد يحتمل الزيادة والنقصان ، فإنه يجب أن يكون متناهيا : تقدم ، بحثنا عنها في مسألة «تناهي الأبعاد» فلا فائدة في الإعادة.

الحجة الثانية : قالوا : النفوس الناطقة أبدية. فتكون أزلية.

أما الأول فهو ثابت بالاتفاق ، وبالدليل أيضا الذي سيجيء ذكره.

وأما الثاني : فالدليل عليه : أنها لو كانت حادثة لكانت ماهيتها قابلة للعدم. وتلك القابلية من لوازم الذات ، فوجب أن تكون قابلة للعدم أبدا. وإذا كان كذلك ، كانت قابلة للعدم بعد الوجود. وقد فرضنا أنها غير قابلة للعدم [بعد الوجود (١)] هذا خلف. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : هذه النفوس [قابلة (٢)] للعدم ، نظرا إلى ذواتها وحقائقها ، إلا أنها تصير واجبة الوجود لوجوب عللها؟.

قلنا : إن كانت عللها قديمة ، وما كان تأثيرها فيها موقوفا على شرط [حادث (٣)] أو كان موقوفا على شرط قديم ، فحينئذ يلزم قدمها. وإن كانت عللها حادثة ، أو إن كانت قديمة إلا أن تأثيرها في وجودها يكون موقوفا على شرط حادث ، فتلك العلة الحادثة ، وذلك الشرط الحادث : يكون جائز الزوال لذاته. فإن كان واجب البقاء نظرا إلى علته ، عاد التقسيم الأول فيه ، ولزم التسلسل. وهو محال. وإن كان جائز الزوال فحينئذ لزم من جواز زواله ، جواز زوال النفوس بعد وجودها. فثبت بهذا البيان : أن النفوس لو لم تكن أزلية ، لم تكن أبدية ، لكنها أبدية ، فوجب كونها أزلية.

وأجيب عنه : بأن علة وجود النفوس البشرية هي العقل الفعال. إلا أن فيضان هذا المعلول عن تلك العلة القديمة مشروط بحدوث البدن ، المستعد

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) غير قابلة (طا).

(٣) سقط (ل).

لقبول تصرفه. فعند حدوث البدن ، يجب حدوثه (١) ثم إنه في ذاته غني عن هذا البدن ، فلم يلزم من موت البدن موته. فوجب بقاؤه أبد الآباد ، لوجوب بقاء علته ، التي هي العقل الفعال.

__________________

(١) حدوثها (م).

الفصل الثامن

في

التناسخ

اعلم : أن التناسخ ، أثبته بعضهم. وأنكره الباقون.

أما مثبتو التناسخ : فقد اختلفوا من وجوه.

الأول : إن كل من قال بالتناسخ قال بجواز انتقال النفوس البشرية إلى أبدان البهائم والسباع وبالضد. وهل يجوز انتقالها إلى أجسام النبات والمعادن أم لا؟ اختلفوا فيه.

والثاني : إن أهل التناسخ. فريقان : منهم من يقول بقدم العالم. ومنهم من يقول بحدوثه.

أما القائلون بقدم العالم فقالوا : إن هذه النفوس كانت قبل كل بدن ، في بدن آخر ، لا إلى أول.

وأما القائلون بحدوث العالم ، فقد أقروا بأن تتعلق النفوس بالأبدان أولا. ثم اختلفوا. فقال «محمد بن زكريا الرازي» : النفوس كانت مباينة عن الهيولى وغافلة عنه ، ثم اتفق لها التفات إلى الهيولى ، وعشق إليه ، فتعلقت به. فإذا فسد البدن ، وكان ذلك العشق باقيا ، فهي تعود إلى بدن آخر ، ولا تزال تنتقل من بدن إلى بدن آخر ، إلى الوقت الذي يزول ذلك العشق ، وتحصل النفرة. فحينئذ تفارق ذلك البدن ، ولا تعود إلى بدن آخر. وقد

استقصينا في شرح مذهبه ، في كتاب «الحدوث والقدم وقال آخرون : إن هذه النفوس كانت كلفت بالطاعات ، ومنعت عن المعاصي. فمن أطاع نقل روحه إلى بدن أشرف [من بدنه (١)] وأعلى مما كان ، ليكون ذلك ثوابا له على تلك الطاعات ، ومن عصى نقل روحه إلى بدن شقي ، ليكون ذلك عقابا له على ما كان عليه [من المعاصي (٢)] واحتج الشيخ الرئيس «أبو علي بن سينا» على فساد القول بالتناسخ بدليلين (٣) :

الحجة الأولى : قال : إنه ثبت : أن النفوس البشرية حادثة ، وثبت أن علتها قديمة ، والموجود القديم لا يكون علة للشيء المحدث ، إلا إذا كان تأثيره فيه ، موقوفا على شرط حادث وذلك الشرط الحادث وهو حدوث البدن. فعلى هذا إذا حدث بدن ، وجب أن يفيض عن واجب الصور نفس ، فلو تعلق بذلك البدن نفس على سبيل التناسخ وتعلقت به هذه النفوس الحادثة أيضا ، لزم أن يتعلق بذلك البدن الواحد نفسان ، وهذا محال. لأن كل أحد يجد نفسه نفسا واحدة لا نفسين.

والاعتراض عليه من وجوه :

الأول : لا نسلم أن النفس حادثة. وذلك لأن الدليل الذي ذكرتم في إثبات حدوث النفس ، كان موقوفا على إبطال التناسخ ، ثم إنكم بنيتم دليلكم في إبطال التناسخ على حدوث النفس. فيقع الدور ، وهو باطل.

والاعتراض الثاني : سلمنا : أن النفس حادثة ، فلم قلتم : إن المؤثر في وجود النفس علة موجبة؟ ولم لا يجوز أن يكون المؤثر فيها فاعلا مختارا ، فيخلق تلك النفوس والأرواح في أي وقت شاء وأراد؟ وعلى هذا التقدير [فلا يمكنكم أن

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ل).

(٣) واحتج الرئيس على إبطاله بدليلين (أ).

تقولوا : إن حدوث البدن يقتضي حدوث النفس وعند هذا (١)] ينتقل هذا الكلام من هذه المسألة إلى مسألة [أخرى. وهي مسألة (٢)] الموجب والقادر.

والاعتراض الثالث : هب أن النفس حادثة ، وأن المؤثر في وجودها علة قديمة موجبة بالذات ، وأن فيضان هذه النفس عن تلك العلة القديمة مشروط بشرط حادث. فلم قلتم : إن ذلك الشرط الحادث ليس إلا المزاج الحادث؟ وما الدليل على هذا التعيين؟

بل هاهنا احتمالات أخرى سوى ذلك.

فأحدها : أن يقال : إنه حصل نفس أو عقل ، وله تعقلات منتقلة من معقول إلى معقول. ومن إدراك إلى إدراك. والشرط في فيضان هذه النفس الحادثة عن تلك العلة القديمة: حدوث تعقل خاص [وإدراك خاص (٣)] في ذلك العقل أو النفس. وعلى هذا التقدير تكون النفس حادثة ، لا لحدوث الأمزجة.

وثانيها : أن يقال : الشرط لحدوث تلك النفوس عن تلك العلة القديمة ، وصول الشمس أو سائر الكواكب إلى دقائق أو درجات معينة من الفلك.

وثالثها : [أن يقال (٤)] الشرط لحدوث تلك النفوس طالع المسقط ، أو شيء آخر يشبه ذلك.

وبالجملة : فعليكم (٥) إقامة الدليل على أنه لا سبب لفيضان النفس المعينة عن تلك العلة القديمة ، إلا حدوث هذه الأمزجة.

والاعتراض الرابع :سلمنا أن ذلك السبب الحادث هو المزاج الحادث.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) فعليهم (ل).

إلا أنا نقول : الأمزجة مختلفة. ولم يثبت بالدليل كون النفوس متساوية في الماهية. وإذا كانت الأمزجة مختلفة ، وكانت النفوس مختلفة ، لم يلزم من كون هذا المزاج الحادث ، قابلا للنفس التناسخية : كونه قابلا للنفس الحادثة الأخرى. وحينئذ يبطل هذا الدليل.

والاعتراض الخامس : سلمنا : أن النفوس الناطقة متساوية في أصل الماهية ، إلا أن على هذا التقدير لا يحصل التعدد فيها ، إلا لأجل اختصاص كل واحد منها بأمر ، لأجله حصل الامتياز والتعدد. فهذه النفس المعينة : عبارة عن المجموع الحاصل من جهة المشاركة ، ومن جهة المخالفة. وكذلك القول في النفس الثانية. وعلى هذا التقدير فكل واحدة من النفوس المعينة تكون مخالفة للنفس الأخرى ، فلم يلزم من كون المزاج المعين ، قابلا لإحداهما ، كونه قابلا للثانية. فسقط هذا الدليل.

والاعتراض السادس : سلمنا تساوي النفسين المعينتين بحسب الذوات. فلم لا يجوز أن تختص النفس التناسخية بأمور ، لأجلها تصير هي أولى بذلك البدن؟ وبيانه من وجوه :

الأول : إن النفس التناسخية ، لما كانت مدبرة للأبدان السابقة ، وبقيت مواظبة على ذلك التدبير ، مدة (١) متطاولة ، حصلت لها ملكة راسخة في تدبير الأبدان.

وأما هذه النفس الحادثة ، فلم تحصل لها هذه الحالة ، فتكون النفس التناسخية كالرجل القوي الماهر في الصنعة والنفس الحادثة [لم تحصل لها هذه الحالة. فتكون النفس الحادثة (٢)] كالطفل الضعيف الجاهل بالصنعة ولا شك أن الأول أولى وأقوى.

الثاني : إن النفس الحادثة لا تحدث إلا بعد حصول المزاج وحدوثه على سبيل التمام والكمال. فيكون حدوث هذه النفس متأخرا عن حدوث هذا

__________________

(١) سنين (ل).

(٢) سقط (طا ، ل).

المزاج. وأما النفس التناسخية. فإنها متقدمة في الوجود على حدوث ذلك المزاج ، فلا يمتنع أن يقال : إن النفس لما أحست بأن ذلك [المزاج (١)] في طريق التكوين ، فقبل تمامه وكماله تعلقت به ، واشتغلت بتدبيره ، فلا جرم كان تعلق هذه النفس التناسخية بتدبير ذلك البدن أولى. لأن الدفع أسهل من الرفع.

الثالث : لا يمتنع أن يقال : حصلت نفوس كثيرة مشاكلة لهذه النفس التناسخية في الصفات والأحوال ، وتكون تلك النفوس لهذه النفس التناسخية كالأعوان والأنصار على التعلق بذلك البدن المعين ، فكان تعلقها بذلك البدن أولى من تعلق النفس الحادثة به. فهذه احتمالات لا يمكن دفعها. فلا جرم ضعفت هذه الدلالة.

والاعتراض السابع : هب أنه تعلق بذلك البدن (٢) نفسان. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ قوله : «الدليل على امتناعه : أن كل إنسان فإنه يجد نفسه نفسا واحدة لا نفسين» قلنا : هذا الكلام في غاية الضعف. لأن الذي يحصل له الشعور بذاته وبأحواله هو النفس لا البدن. فإذا اجتمع في البدن الواحد نفسان فكل واحدة من تينك النفسين تحس نفسها نفسا واحدة. ومثاله إذا اجتمع في بيت واحد رجلان. فإن اجتماعهما فيه لا يمنع من أن يحس كل واحد منهما بنفسه ، وبأنه شيء واحد. فكذا هاهنا.

والاعتراض الثامن : أن نقول : هذا الإشكال الذي ألزمتموه على القائلين بالتناسخ، هو بعينه وارد عليكم أيضا. وتقريره : أن النفوس الناطقة. إما أن تكون مختلفة في الماهية ، أو متساوية فيها. فإن كان الأول فقد سقط هذا الدليل. لأنه لا يلزم من كون المزاج الحادث قابلا للنفس التناسخية ، كونه قابلا للنفس الحادثة ، وإن كان الثاني وهو أن النفوس متماثلة، وكل مزاج يقبل نفسا واحدة ، وجب أن يكون قابلا لجميع النفوس.

__________________

(١) من (م).

(٢) المزاج (ل).

فإذا حدث مزاجان دفعة [واحدة (١)] وجب أن يحدث نفسان متعلقتان بهما. ثم نسبة كل واحد من ذينك المزاجين إلى تينك النفسين على السوية ، فلم يكن تعلق إحدى النفسين ، بأحد المزاجين ، أولى من العكس. فيلزم تعلق كل واحدة [من النفسين (٢)] بكل واحد من البدنين ، وذلك يوجب القول بحصول النفسين في البدن الواحد ، وبحصول النفس الواحدة في البدنين (٣) فثبت : أن ما ألزموه من المحال فضعفه ، لازم عليهم.

فإن قالوا : هذا بناء على أنه يمكن حدوث مزاجين متساويين دفعة واحدة ، وهو ممنوع. قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إن هذا الإلزام لا يتوقف على بيان أن المزاجين الحادثين في الوقت الواحد مثلان أو مختلفان. وذلك لأن هذا الدليل مفرع على أن النفوس الناطقة متماثلة ، وحكم الشيء حكم مثله. فكل مزاج يقبل نفسا ، وجب أن يكون قابلا لسائر النفوس. وحينئذ يعود الإلزام ، سواء قلنا : إن تلك الأمزجة متماثلة أو مختلفة.

الثاني : إن المزاج المخصوص. إنما حدث بناء على شرطين :

أحدهما : حصول أجزاء مخصوصة من العناصر الأربعة ، مقدرة بمقادير معينة.

والثاني : امتزاج تلك الأشياء واختلاطها على وجه خاص مدة معينة ، وإذا عرفت هذا فنقول : حصول أجزاء أخرى من العناصر الأربعة متقدرة بالمقادير المعينة ومختلطة على ذلك الوجه المعين : ممكن. والموقوف على الممكن ممكن. فوجب القطع بأنه يمكن حدوث مزاجين متساويين في وقت واحد. وهو المطلوب.

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) من (ل).

(٣) البدن (ط).

الحجة الثانية لمنكري التناسخ : قالوا : النفوس المفارقة لأبدانها. إما أن يصح عليها : أن تبقى مجردة مدة ، من غير أن تكن متعلقة بأبدان أخرى ، وإما أن لا يصح ذلك. والأول باطل. لأنها تكون فيما بين الوقتين : معطلة ولا معطل في الطبيعة (١).

والثاني يوجب أن يكون عدد الهالكين ، مساويا لعدد الكائنين ، حتى يقال : إنه عند ما فسد بدن ، وفارقته نفسه. ففي تلك الحالة يكون قد استعد بدن آخر لتتعلق به تلك النفس. ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، فإن في الطوفانات العامة التي عندها ينقطع النسل ، نعلم أن عدد الهالكين أكثر من عدد الكائنين.

والاعتراض على هذا الكلام من وجهين :

الأول : إن قولكم : لا معطل في الطبيعة : كلام لم يذكروا في تقريره شبهة. فضلا عن حجة.

ثم إنه منقوض على أصولكم بأشياء.

أولها : إن «ثامسطوس» (١) زعم : أن النفوس الباقية بعد مفارقة الأبدان هي النفوس الفاضلة الكاملة ، وأما نفوس الأطفال والجهال فإنها تفسد ، وإلا لبقيت معطلة ، ولا معطل في الطبيعة. ثم إنكم ما التفتم إلى هذا الكلام ، وما أقمتم له وزنا. وحكمتم ببقاء نفوس الأجنة والأطفال والمعتوهين ، أبد الآباد ودهر الداهرين : معطلة ، خالية عن الفعل والانفعال. ومعلوم : أن ذلك التعطيل : أكمل لأن هذه النفوس التناسخية ، قد حصل لها شيء كثير من العلوم والأخلاق ، فهي منتفعة بتلك الصفات. ثم إنها عن قريب تتعلق بأبدان أخرى ، وتتخلص عن تلك المعطلة وأما نفوس الأطفال فليس معها شيء من العقائد والأخلاق ، فتبقى عطلتها أبدا سرمدا. ثم إنكم جوزتم هذا ، ومنعتم من ذلك. وهذا في غاية البعد.

وثانيها : إن بقاء الشيء أبد الآباد في العذاب الشديد ، أبعد في العقول من بقاء الشيء في العطلة مدة قليلة. ثم إنكم حكمتم بحصول الأول ، ومنعتم من الثاني وهو أيضا بعيد.

وثالثها : إنكم [إذا (١)] أردتم بهذه العطلة ، كونها خالية عن الآلام واللذات ، فليس الأمر كذلك ، لأن هذه النفوس التناسخية معها شيء كثير من العلوم والأخلاق ، وإن أردتم به كونها غير قادرة على تحصيل الزيادة ، فهذه العطلة لازمة على جميع التقديرات. لأن كل نفس وإن بلغت الغاية في المعارف والأخلاق ، [الفاضلة (٢)] فعند الموت تبقى عاجزة عن تحصيل الزيادة.

والاعتراض الثاني : لم لا يجوز أن يقال : عدد الهالكين يكون (٣) على قدر عدد الكائنين؟ وأما الطوفانات العامة. فالجواب عنها : إن عدد الحيوانات المتولدة في قعور البحور ، وشقوق الصخور ، وأعداد البق والبعوض غير معلومة. ومن الذي يمكنه إحصاء هذا العدد؟

وبالجملة : فذكر مثل هذا الدليل غير لائق بفضل الشيخ [الرئيس البتة (٤)].

الحجة الثالثة لمنكري التناسخ. وعليه تعويل الجمهور من المتكلمين :

قالوا : (٥) لو كانت نفوسنا مدبرة لأبدان أخرى قبل هذا البدن ، لعرفنا الآن تلك الحالة [وحيث (٦)] لم نعرفها. وجب القطع بأنها ما كانت موجودة. أما نقيض التالي : فظاهر. وإنما الشأن في إثبات الشرطية. فنقول : الدليل عليه هو أن تكرر الأفعال. سبب لحدوث الملكات الراسخة ، وهذا مشاهد

__________________

(١) من (ل ، طل).

(٢) يزيد (م).

(٣) سقط

(٤) سقط (ط).

(٥) أن نقول (ل ، طا).

(٦) ولم نعرفها [الأصل].

معلوم بعد الاستقراء. فإن من قرأ الدرس الواحد مائة مرة ، بقي ذلك الدرس على حفظه. وكلما كان التكرار عليه أكثر ، كان ذلك الحفظ أتم. هذا إذا حصل ذلك التكرار يوما ويومين. فأما إذا ابتدأ بذلك التكرار من أول عمره إلى آخره ، ولم يغفل لحظة ولا لمحة ، وكان مشتغل الهم متعلق الخاطر في كل هذه المدة ، وجب القطع بأنه نسيان مثل هذه الحالة.

إذا ثبت هذا فنقول : لو أنا قبل هذا البدن ، كنا في بدن آخر ، وكنا في ذلك الوقت متصرفين في ذلك البدن ، وفي الدنيا ، وكنا مشاهدين لأهلها عارفين بأحوالها لوجب أن يكون علمنا الآن بأنا كنا على هذه الحالة علما راسخا في نفوسنا ، متأكدا في عقولنا ، رسوخا وتأكدا ، لا يقبل الزوال [والتأكد (١)] وإن لم يحصل هذا الرسوخ والتأكد ، فلا أقل من نوع من أنواع التذكر لتلك [الأحوال (٢)] أو بعضها. وحيث لم يوجد شيء من ذلك البتة ، كان القول بالتناسخ باطلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : [إن بقاء (٣)] العلم بأحوال كل بدن ، مشروط ببقاء النفس في تدبير ذلك البدن ، وعند زوال الشرط يزول المشروط؟ ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : الإنسان في هذه الحياة ، يكون شديد الاهتمام [بإصلاح مصالح هذه الحياة شديد الاهتمام (٤)] بدفع مفاسدها فلشدة اهتمامه بهذه المهمات ، نسي أحوال تلك الأبدان [السالفة (٥)] ومثاله : أن الإنسان إذا وقع في حرق ، أو غرق قد يصير لأجل شدة اهتمامه بتخليص نفسه عن تلك الآفات ، إلى حيث ينسى أباه وأمه وولده وبلده ووطنه. فكذا هاهنا.

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : إن الذي يشير إليه كل أحد بقوله «أنا» إما أن يكون هو هذا البدن. وإما أن يكون شيئا آخر. إلا أنه

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) سقط (طا).

(٣) سقط (طا).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (طا) ، (ل).

يكون محتاجا في وجوده إلى وجود هذا البدن. وإما أن يكون شيئا [آخر (١)] مغايرا لهذا البدن ، ويكون (٢) غنيا في وجوده عن هذا البدن. فإن كان الحق هو الأول أو الثاني ، فالقول بالتناسخ باطل قطعا. وإن كان الحق هو الثالث فنقول : لا شك أن ماهية النفس قابلة للعلوم وإلا لما كانت عالمة بتلك الأحوال في تلك الأزمنة ، ولما صارت عالمة بأحوال هذا البدن في هذا الزمان ، وتلك القابلية من لوازم ماهيتها. وقد بينا : أن المواظبة على هذه الأحوال توجب رسوخ تلك المعارف في جوهر النفس. وغاية ما في الباب : أنه مات ذلك البدن ، إلا أن موت البدن عبارة عن خراب محل العمل ، وخراب محل العمل لا يوجب النسيان ، ولا يوجب زوال العلم بالأشياء التي كانت معلومة.

وإذا ثبت هذا ، وجب القطع ببقاء تلك العلوم.

وأما قوله : «إن شدة الاهتمام بمصالح الوقت ، أوجب نسيان الأحوال [النفسانية (٣)] السابقة» فنقول : هذا بعيد جدا. لأنا في أكثر الأحوال نجد أنفسنا فارغين ساكنين بحيث يمكننا أن نستنبط في تلك الفراغة أنواعا كثيرة من العلوم الدقيقة ، والمطالب العالية الغامضة. ثم إنا نجرب أنفسنا في تلك الأحوال ، فلا يخطر ببالنا أنا كنا موجودين في أبدان أخرى ، لا بالقليل ولا بالكثير. وذلك يدل على فساد القول بالتناسخ. [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (ل)

(٢) لهذا البدن ، وإما أن يكون غنيا (م).

(٣) سقط (ط) ، (ل).

(٤) سقط (م).

الفصل التاسع

في

بيان أن النفس باقية بعد موت البدن

اعلم : أنك لا ترى في الدنيا مسألة أهم للعاقل من هذه المسألة ، فوجب على كل من عنده شيء من العقل ، أن يكون عظيم الاهتمام بمعرفتها. فنقول أهل العلم (١) لهم في النفس مذهبان :

أحدهما : إنها عبارة عن جسم مخصوص ، موصوف بمزاج مخصوص.

والثاني : إنها جوهر قائم بذاته ، مغاير لهذا البدن ، ولجميع أجزائه. سواء قلنا : إنه جسم مخالف للأجسام العنصرية البسيطة أو المركبة ، أو قلنا : إنه جوهر ليس بجسم ولا بجسماني.

أما القائلون بالقول الأول. فهم فريقان :

[أحدهما : أهل البحث والنظر.

وثانيهما : أهل التقليد والأثر. أما (٢)] أهل البحث والنظر فالجمهور منهم اتفقوا على أن النفس بهذا التفسير يمتنع بقاؤها بعد موت البدن ، بناء على أن القول بالبعث والقيامة غير ممكن. وذلك لأنه بعد الموت قد فني هذا المزاج ، وبطل هذا التركيب. والمعلوم يمتنع عوده بعينه.

__________________

(١) العالم (ل).

(٢) سقط (ل).

وأما أهل التقليد والأثر. فهم قد اعتقدوا أنه لا حقيقة للإنسان إلا هذا الهيكل. وسمعوا من الأنبياء والعلماء : إثبات القول بالبعث والقيامة ، فاعتقدوا كلا القولين ولم تصل خواطرهم إلى أن الجمع بين هذين القولين ، هل هو ممكن أم لا؟ ثم إن جماعة من المتكلمين لما أرادوا أن يجمعوا بين هذين القولين ، ذكروا فيه طريقين :

الأول : قال بعضهم : إن إعادة المعدوم بعينه جائز.

والثاني : قال آخرون : إنه محال. إلا أنه إذا مات الإنسان ، فإنه لا تفنى تلك الأجزاء أو تلك الذوات ، وإنما يفنى المزاج والصفات. فإذا أعيد التركيب والمزاج إلى تلك الأجزاء ، كان الإنسان العائد ، عين الإنسان الذي كان موجودا في الدنيا.

وهذا في غاية البعد ، لأنا نقول : الإنسان المعين إما أن يكون عبارة عن تلك الأجزاء كيف كانت ، أو عينها بشرط كونها موصوفة بصفات مخصوصة. والأول باطل. لأن تلك الأجزاء حال ما كانت خالية عن العلم والحياة والقدرة والمزاج والتأليف ، كانت موجودة ، مع أن هذا الإنسان [ما كان موجودا. فإذا مات هذا الإنسان وزالت هذه الصفات. فإن تلك الأجزاء تكون باقية مع أن ذلك الإنسان قد لا يكون باقيا. وهذا يدل على أن هذا الإنسان (١)] ليس عبارة عن تلك الأجزاء [كيف كانت ، بل إن كان ولا بد ، فالإنسان المعين عبارة عن تلك الأجزاء (٢)] المخصوصة بشرط قيام صفات مخصوصة بها فإذا عدمت تلك الصفات ، فقد عدم أحد الأجزاء المقمومة لماهية ذلك الإنسان المعين ، وحينئذ يحصل الجزم بأن ذلك الإنسان قد عدم وفني. ثم عند هذا نقول : إن كانت إعادة المعدوم ممكنة ، فلا حاجة إلى القول ببقاء تلك الذوات ، وإن كانت غير ممكنة لم يكن القول ببقاء تلك الذوات كافيا في القول بصحة عود ذلك الإنسان بعينه.

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) سقط (ط).

فهذا تفصيل قول من يقول : الإنسان عبارة عن الجسم الموصوف بالمزاج المخصوص.

وأما الذين يقولون : الإنسان عبارة عن جوهر مجرد مغاير لهذا البدن. فالكل أطبقوا على أن النفس باقية بعد موت البدن [ولما بينا بالدليل : أن النفس جوهر مجرد ، كان قولنا : النفس باقية بعد موت البدن (١)] مفرعا على هذا الأصل [والله أعلم (٢).

واعلم : أن هذه المسألة لما كانت أهم المهمات ، لا جرم عزمنا على أن نذكر فيها كل ما يمكن ذكره. سواء كان من الوجوه البرهانية ، أو من الوجوه الإقناعية :

فالحجة الأولى على بقاء النفس بعد موت البدن : أن نقول : قد ثبت أن النفس الناطقة : جوهر ليس بجسم ولا في جسم البتة. ويمتنع أن يحصل بينه وبين الأجسام قرب أو بعد أو مناسبة. وليس بينها وبين هذا البدن ، إلا أن هذا البدن محل تصرف ذلك الجوهر في منزل عمله ودار مملكته. كما أن الرجل المعين يكون ساكنا في دار ومتصرفا فيها ، فإذا خرجت تلك الدار وخرجت عن الصلاح والسداد ، لم يلزم موت ذلك المتصرف وبطلانه. وهذا يجري مجرى العلوم الضرورية. والشك والشبهة إنما يتولد بسبب أن الوهم يسبق إلى أن ذلك الشيء حال في هذا البدن ، وساري فيه. فيسبق حينئذ إلى الوهم أنه يجب موتها بموت البدن.

وأما إن قدرنا جوهرا مجردا ليس بينه وبين هذا البدن مناسبة ، لا بالقرب ولا بالبعد ، ولا بوجه من وجوه المناسبة. إلا من وجه واحد ، وهو أن ذلك البدن كان دار مملكة ذلك الجوهر ومحل تصرفه ، ثم إنه خربت هذه الدار. فالعلم الضروري حاصل بأن هذا القدر لا يقتضي عدم ذلك الجوهر ، ولا يغير حالا من أحواله (٣) فهذا لبيان أنه لا يلزم من موت البدن موته.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) أجزائه (طا).

الحجة الثانية : لما كان المدبر لهذا الجسد ، والمتولي لإصلاح حاله هو النفس ، ومن المعلوم أن النفس إنما تتولى ذلك بسبب كونها حية عالمة قادرة ، فحينئذ يتوقف صلاح هذا الجسد على كون النفس موصوفة [بالحياة والعلم والقدرة. فلو كانت النفس موصوفة (١)] بهذه الصفات [وهذه الصفات (٢)] موقوفة على صلاح حال البدن ، لزم توقف كل واحد منهما على الآخر (٣) وذلك دور. والدور باطل.

ومثاله : إنه لما كان حدوث العالم ، وصلاح حاله موقوفا على كون الإله (٤) حيا عالما قادرا ، امتنع أن يكون حصول هذه الصفات للإله ، موقوفا على صلاح هذا (٥) العالم ، وإلا لزم الدور. فكذا هاهنا. فإن النفس لا تعلق لها بالبدن ، إلا تعلقا شبيها بتعلق الإله بالعالم. وذلك من أظهر الدلائل على أن النفس لا تموت [بموت البدن ، ولا يفسد شيء من صفاتها بفساد البدن (٦)].

الحجة الثالثة : إنه (٧) لو ماتت النفس بموت البدن ، لضعفت بضعف البدن ، وهي [لما كانت (٨)] لا تضعف بضعفه ، وجب أن لا تموت بموت البدن. أما بيان الشرطية : فبالاستقرار الظاهر. فإنه متى وقع الخلل في الأصل ، لزم منه وقوع الخلل في الفرع. ثم نقول : إن الدليل عليه (٩) : إن كل شيء يفسد بفساد غيره ، فإنه يكون محتاجا في ذاته إلى ذلك الغير (١٠) إذ كل

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) زيادة.

(٣) الأجزاء (ل).

(٤) الله (طا ، ل).

(٥) حال (م).

(٦) سقط (طا).

(٧) لو كانت النفس تموت (م).

(٨) من (ط).

(٩) على (م).

(١٠) عبارة (ل) هكذا : ثم نقول : الدليل عليه : أن كل ما فسد بفساد غيره ، فإنه يكون محتاجا في ذاته إلى ذلك الغير ، وكل شيء احتاج إلى شيء آخر ، فضعف المحتاج إليه ، يوجب ضعف المحتاج. إذ لو بقي بحال المحتاج حال نقصان المحتاج إليه ، لكانت ... إلخ.

محتاج إلى شيء آخر ، يضعف حال الاحتياج إليه [فضعف المحتاج إليه] يوجب ضعف المحتاج ، إذ لو بقي كمال المحتاج ، حال نقصان المحتاج إليه ، لكانت صفة المحتاج غنية عن المحتاج إليه. والصفة أضعف من الموصوف ، وإذا حصل الاستغناء في الصفة مع ضعفها ، فبأن يحصل الاستغناء في الذات مع قوتها كان أولى. فثبت : أن كل شيء يفسد بفساد غيره ، وجب أن يظهر فيه النقصان ، بسبب نقصان غيره. فلو كانت تفسد بفساد البدن ، لوجب أن يظهر النقصان في [النفس عند ظهور النقصان في (١)] البدن.

وإنما قلنا : إنه ليس الأمر كذلك ، لوجوه :

الأول : إن المواظبة على الأفكار الغامضة ، والاستغراق فيها يوجب نقصانا شديدا في البدن ، ولم يلزم منه حصول النقصان في النفس البتة ، بل يوجب الكمال العظيم في النفس.

الثاني : إن المواظبة على الرياضة ، وتجويع النفس (٢) والانقطاع عن المحسوسات والجسمانيات ، يوجب النقصان الشديد في البدن ، وذلك لا يوجب نقصان النفس ، بل يوجب حصول الكمال الشديد للنفس.

الثالث : إن النوم يوجب نقصان حال البدن ، فإنه يزول عنه حس السمع والبصر ، والقدرة على المشي والأخذ ، ولا يوجب نقصان حال النفس ، بل يوجب كمال حال النفس. فإنها في هذا الوقت قدرت على الاتصال بعالم الغيب.

الرابع : إن جسد الإنسان من أول الكهولة يأخذ في الانتقاص والذبول ، وعقله [من هذا الوقت (٣)] لا يأخذ في الانتقاص والذبول ، بل كمال عقله ، يبتدئ في التزايد (٤) من هذا الوقت. ولهذا السبب قيل : إن بعثة أكثر الأنبياء

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) والتجويع (م).

(٣) من (ل).

(٤) متزايد (م).

إنما وقعت في هذا الوقت. وكان ملوك العجم لا يختارون الرجال للمحادثات (١) المهمة ، إلا الذين يكونون بين الأربعين وبين الخمسين قالوا : لأنه في هذا الوقت يتكامل العقل ولم يحصل في البدن نقصان ظاهر. فثبت : أن النفس لو ماتت بموت البدن ، لوجب أن يظهر النقصان فيها ، بسبب نقصان البدن. لكن لم يظهر النقصان فيها بسبب نقصانه (٢) بل قد بينا في هذه المواضع الأربعة : أنه يحصل الكمال فيها ، بسبب نقصان البدن. فوجب القطع بأن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة الرابعة : على أن النفس لا تموت بموت البدن : أن الأعراض القائمة بالأجسام ، أضعف وجودا من تلك الأجسام. والأجسام أضعف وجودا من الموجود المجرد القائم بالنفس ، فيلزم أن تكون الأعراض أضعف بكثير من الموجود المجرد. وإذا كان كذلك ، وجب القطع بأن موت البدن لا يوجب موت النفس. فتفتقر هاهنا إلى بيان (٣) مقدمات :

المقدمة الأولى : إن الأعراض القائمة بالأجسام ، أضعف في الوجود من تلك الأجسام. وهذا يقرب من أن يكون بديهيا ، لأن الأعراض محتاجة إلى تلك الأجسام ، [ويمتنع دخولها في الوجود ، إلا في تلك الأجسام (٤)] وأما تلك الأجسام (٥)] فإنها قائمة بأنفسها وغنية عن تلك الأعراض. وهذا يوجب القطع بأن الأعراض أضعف وجودا من الأجسام.

وأما المقدمة الثانية في بيان أن الأجسام أضعف وجودا من الجوهر المجرد : فبيانها من وجوه :

الأول : إن المتحيزات محتاجة إلى الأمكنة والأحياز والجهات ، والجوهر المجرد غني عنها.

__________________

(١) للمحاربات (طا ، ل).

(٢) نقصان البدن (ل).

(٣) إثبات (م).

(٤) سقط (ل).

(٥) سقط (م).

والثاني : إن كل جسم فهو مركب من [جزءين ، فصاعدا (١)] وكل مركب فإنه يحتاج إلى كل واحد من أجزائه ، والجوهر المجرد لا يجب أن يكون منقسما إلى جزءين. فكان هذا النوع من الحاجة زائلا عن الجوهر المجرد.

الثالث : إن النفس تفعل في البدن. أما البدن فإنه لا يفعل البتة في النفس أثرا. والفعل يناسب القوة ، والانفعال يناسب الضعف.

الرابع : إن الأجسام متماثلة في ذواتها ، وفي تمام ماهياتها. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون لها أثر في الغير. فإن أثّر جسم (٢) في جسم فذلك التأثير إنما كان لأجل الأعراض القائمة به. وقد عرفت : أن أضعف المراتب هو الأعراض ، فلما كان تأثير الجسم في غيره بواسطة الأعراض ، وجب أن يكون تأثير الجسم في غيره تأثيرا ضعيفا. وأما تأثيرات النفوس ، فهي تأثيرات قوية ، قاهرة فوجب أن تكون النفس أقوى من الجسم.

الخامس : إن البدن بعد مفارقة النفس ، بقي ما فيه من الجسم وما فيه من العرض. ثم إنه يصير بعد الموت فاسدا باطلا عفنا. وأما حال تعلق النفس بالبدن ، فإنه بقيت تلك الأجزاء مصونة عن العفونة والفساد ، موصوفة بالنقاء والنظافة والطهارة. فثبت بما ذكرناه : أن النفس أقوى حالا من الجسم ، وأن الجسم أقوى حالا من العرض. وهذا يدل على أنه لا مناسبة لقوة النفس إلى قوة العرض الحال في الجسم بوجه من الوجوه.

المقدمة الثالثة وهي في بيان أن هذا الاعتبار يدل على أن النفس لا تموت بموت البدن: والدليل عليه : إن موت البدن ليس عبارة عن فناء تلك الأجسام ، فإنها باقية بتمامها ، وإنما موت البدن عبارة عن زوال الأعراض التي كانت قائمة به [حال اعتدال المزاج قبل موتها (٣)] وفنائها. والمزاج المعتدل عبارة عن كيفية

__________________

(١) من الهيولى والصورة (م).

(٢) الجسم (م).

(٣) سقط (ط).

متوسطة بين الأضداد ، فهو عرض مخصوص. فإذا ماتت ، فلا معنى لذلك الموت إلا زوال هذه الكيفية. فثبت : أنه لا معنى للموت إلا زوال بعض أنواع الأعراض عن الأجسام المخصوصة (١). وقد دللنا على أن الأعراض أضعف أقسام الممكنات [وعلى أن النفوس المجردة أقوى أقسام الممكنات (٢) والعلم الضروري حاصل بأن زوال الشيء الذي يكون وجوده (٣)] في غاية القوة. وهذا يفيد الجزم بأن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة الخامسة في بيان أن النفس لا تموت بموت البدن : نقول : إن النفس لا تمرض بمرض البدن ، فوجب أن لا تموت بموت البدن. إنما قلنا : إنها لا تمرض بمرض البدن ، وذلك لأن الشواهد الطبية دالة على أنه لا معنى للبحران إلا حصول المقاومة بين الطبيعة وبين العلة ، فهذه الطبيعة التي تقاوم العلة ، إما أن تكون هي مزاج البدن ، أو كيفية [من الكيفيات (٤)] القائمة بالبدن ، وإما أن تكون هي النفس.

والأول باطل لوجهين :

أحدهما : إن جسم البدن موصوف بالكيفيات المرضية المنافية للصحة. فلو كان هو بعينه موصوفا بالكيفيات الصحية الملائمة للصحة ، لزم كون الجسم الواحد [في الوقت الواحد (٥)] موصوفا بصفتين متضادتين. وهو محال.

وثانيهما : إن البدن حصل في حقه أسباب ثلاثة ، كل واحد منها يوجب الضعف. فأحدها : الحرارة الغريزية العرضية ، الموجبة لتحلل الرطوبات الكثيرة. وثانيها : إن الحرارة الغريزية أيضا موجبة لتحلل الرطوبات على قياس ما كان حال الصحة. وثالثها : إن في وقت البحران تنقطع الطبيعة عن

__________________

(١) أجسام (ل).

(٢) سقط (م ، ط).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (ط) ، (ل).

الاغتذاء ، وقد يبقى المريض منقطعا عن الاغتذاء أياما كثيرة ، وهو سبب عظيم لحصول الضعف. فثبت : أن البدن في غاية الضعف ، والطبيعة في غاية القوة على الدفع ، فلو كانت هذه الطبيعة هي البدن ، أو جزء من أجزاء البدن ، لزم كون الشيء الواحد موصوفا بغاية الضعف ، وبغاية القوة. وهو محال. فثبت : أن الشيء الذي يقاوم العلة هو النفس.

فنقول : النفس في تلك الحالة ، إما أن تكون مريضة ضعيفة وإما أن تكون خالية من المرض والضعف. والأول باطل. لأن النفس في هذه الحالة ، لو كانت مريضة ضعيفة ، لما قدرت على مقاومة العلة الغالبة ، والمادة القاهرة المبطلة. لأن المغلوب لا يمكنه مقاومة الغالب [والمقهور لا يمكنه مقاومة القاهر (١)] فثبت بهذا البيان الظاهر : أن النفس في تلك الحالة قوية قاهرة ، سليمة عن الضعف والمرض. وظاهر أن البدن في غاية الضعف والمرض.

وذلك يدل على أن النفس لا تمرض بمرض البدن ولا تضعف بضعفه البتة. وإذا ثبت هذا ، وجب أن لا تموت بموته. وذلك لأن النفس لما لم تمرض بمرض البدن ، ولم تضعف بضعفه ، ظهر أن النفس غنية في ذاتها وفي كمال قدرتها وقوتها عن هذا هذا البدن. فإذا مات البدن ، فقد مات شيء كانت النفس غنية في ذاتها وفي قدرتها وفي علمها عنه. ومتى كان كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون موت البدن ، موجبا لموت النفس.

وهذا كلام قوي مناسب. وهو بعينه يدل على أن النفس غير البدن ، وغير جميع أجزائه وأبعاضه.

الحجة السادسة في بيان أن النفس لا تموت بموت البدن : إنا قد دللنا على أن جوهر النفس من جنس جوهر الملائكة ، ودللنا على أن المؤثر في وجوده ، لا بد وأن يكون جوهرا عقليا مجردا [ودللنا على أن المقتضى لحدوث العلوم والمعارف في ذاته جوهر عقلي مجرد (٢)] فالنفس في ذاتها جوهر مجرد [وهو معلول

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (طا ، ل).

جوهر مجرد (١)] وصفاته معلولات الجوهر المجرد. وأما تعلقها بهذا البدن ، فليس إلا على سبيل التدبير والتصرف. وهذا التدبير والتصرف من باب النسب والإضافات ، وهي أضعف أنواع الموجودات. ومع ذلك فهي من العوارض العارضة لذات النفس.

إذا عرفت هذا فنقول :

[الحاصل عند موت البدن زوال هذه الإضافة وأما العلل العالية المؤثرة في ذات النفس وفي جميع صفاتها الحقيقية باقية. وبقاؤها يقتضي بقاء جوهر النفس ، وبقاء جميع صفاتها العالية. فلو قلنا : بأنها تعدم عند زوال هذه الإضافة لكنا قد رجحنا مقتضى الأمر العرضي ، البالغ في الضعف إلى أقصى الغايات على مقتضى الأمر الذاتي الأصلي ، البالغ في الكمال والقوة إلى أقصى الغايات. ومعلوم أن ذلك باطل في بديهة العقل ، فوجب القطع بأن النفس لا تموت بموت البدن. ثم هاهنا دقيقة أخرى. وهي : إنا قد ذكرنا في أول هذا الكتاب الذي سميناه بكتاب «الأرواح العالية والسافلة» أن الموجودات لها ثلاثة مراتب. فأشرفها عالم الإله ، وأخسّها عالم الجسم ـ وهو عالم الهيولى ـ وأوسطها عالم الأرواح. فإنها تقبل إشراق عالم الإله. وبواسطة ذلك الإشراق تقوى على التأثير في عالم [الهيولي (٢)].

إذا عرفت هذا فنقول (٣)] : تعلق النفس بالبدن على سبيل التدبير والتصرف. عبارة عن تعلق النفس بالجانب الأخس الأدون العاري عن التأثير والفعل. وكون النفس مستنيرة بأنوار معارف عالم الإله ، عبارة عن تعلقها بالجانب الأفضل الأكمل ، الذي هو ينبوع القوة والبقاء والدوام. فلو قلنا : إن عند زوال العلاقة الخسيسة ـ أعني تدبير البدن ـ تبطل ذاتها ومعرفتها. لكنا قد حكمنا بأن الجانب الأخس الأضعف ، هو الجانب الأشرف الأقوى. وذلك محال

__________________

(١) من كلمة الحاصل إلى إذا عرفت هذا فنقول : ساقط من (م ، ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) إلى هنا من (طا ، ل). من أول كلمة الحاصل.

[فوجب أن لا تموت النفس بموت البدن (١)].

الحجة السابعة في بيان أن النفس لا تموت بموت البدن : هو أن النفس لها قوتان : نظرية : وهي القوة التي باعتبارها تقوى على استفادة العلوم التصورية والتصديقية من عالم المجردات. وقوة عملية : وهي القوة التي باعتبارها تقوى على تدبير هذا البدن ، وعلى التصرف فيه.

فأما القوة النظرية فهي غير مشروطة البتة بالبدن. وذلك لأن محل التصورات ليس إلا النفس. فإذا حصل في جوهر النفس استعداد لقبول تلك التصورات ، فاضت تلك التصورات عن العلل العالية على جوهر النفس وإذا حصل تصور الموضوع وتصور المحمول ، كان ذانك التصوران محال. يلزم من مجرد حصولها حصول التصديق. فحينئذ تحصل القضايا البديهية لا محالة. وإذا حصلت القضايا البديهية ، واتفق أن حصل فيها قضيتان مشتركتان في الحد الأوسط فحينئذ يكون حصول هاتين القضيتين في العقل ، موجبا لحصول العلم بتلك النتيجة. ثم إذا انضافت تلك النتيجة إلى نتيجة أخرى على الشرط المذكور ، حصلت نتيجة ثانية. وظاهر أن شيئا من هذه المراتب والدرجات لا يتوقف على اعتبار حال البدن وجودا وعدما. فثبت : أن النفس في قوتها النظرية غنية عن البدن ، وأما قوتها العملية فهي غنية أيضا عن البدن. وذلك لأن البدن محل لنفاذ تلك القدرة ، وما يكون محلا لنفاذ القدرة ، لا يكون علة لتلك القدرة.

وأيضا : البدن قابل للتصرف [عن النفس (٢)] فيمتنع أن يكون فاعلا في النفس ، لأن القابل من حيث إنه قابل ، لا يكون فاعلا. فثبت : أن النفس غنية في قوتها النظرية ، وفي قوتها العملية عن البدن.

أما أنها غنية في ذاتها عن البدن ، فلأنا سنقيم الدلالة على أن المؤثر في وجود الجوهر المجرد ، يمتنع أن يكون جسما أو حالا في جسم. فثبت بهذا البيان

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

الظاهر : أن النفس غنية في ذاتها وفي صفاتها عن البدن. والغني مطلقا عن الشيء ، لا يجب فساده عند فساد ذلك الشيء. فوجب الجزم بأن النفس لا تموت بموت البدن ، ولا تضعف بضعفه. وهو المطلوب.

الحجة الثامنة : إنا قد ذكرنا في باب إثبات النفس : أنه لو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن لكان [أخس الحيوانات هو الإنسان والتالي باطل فالمقدم باطل. بيان الملازمة : إن بتقدير أن لا تكون النفس باقية بعد موت البدن ، كان (١)] كمال السعادة ونهايتها هو الفوز بهذه اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية. وحصول العقل يوجب تنقيض هذه [الحالة. وهي تنقيض هذه (٢)] اللذات ، وتنقيض هذه الراحات والسعادات.

وأما عدم العقل فإنه يوجب تكميل هذه الراحات ، وقوة هذه السعادات. فإذا كان لا كمال ولا سعادة إلا هذه اللذات البدنية والخيرات الجسمية. وكان العقل سببا لنقصانها تارة ، ولبطلانها أخرى ، وجب أن يكون العقل أخس الصفات وأدونها ، وأن يكون العاقل أخس ممن ليس بعاقل [فثبت : أنه لو لم تكن النفس باقية ، لكان الإنسان أخس الحيوانات ، لكن التالي باطل (٣)] فإن بديهة العقل حاكمة بأن الإنسان كالملك ، وسائر الحيوانات كالعبيد [له. وإن الإنسان العاقل كالملك ، والجهال كالعبيد له (٤)] وذلك يدل على أن النفس باقية بعد موت البدن.

الحجة التاسعة : إن العقول كلها حاكمة بأنه كلما كان الخوض في اللذات البدنية والخيرات الجسمية أقل ، كان ذلك الإنسان أكمل. وكلما كان الخوض فيها أكثر ، كان ذلك الإنسان أخس. والدليل عليه : أن الناس إذا اعتقدوا في إنسان أنه معرض عن اللذات الجسمية ، كالأكل والشرب والوقاع ، ومعرض

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (ل ، طا).

(٤) من (ل ، طا).

عن طلب الرئاسة [في الدنيا (١)] والتفوق على الأقران ، فإنه يعظم قدر هذا الإنسان في عقولهم. وترى الطالبين لهذه اللذات يخدمون ذلك الإنسان ، المعرض عنها ، خدمة العبيد للأرباب ، ويعدون أنفسهم بالنسبة إلى أولئك المعرضين ، كالبهائم بالنسبة إلى الملائكة.

حتى إن المزور إذا أراد استتباع الخلق ، أظهر من نفسه ـ على سبيل التزوير ـ قلة الرغبة في هذه الخيرات البدنية ، والراحات الجسمية ، ويتوصل بها إلى استخدامهم ، والأمر والنهي عليهم. وهذا يدل على أن تقرر في عقول جميع الخلق : أن التقليل من هذه اللذات ، يوجب الكمال ، وأن التكثير منها يوجب النقصان. والمقدمة التي شهدت بصحتها بدائه العقول ، وصرائح الأفكار ، لا بد وأن تكون مقدمة حقة يقينية.

إذا ثبت هذا فنقول : لو لم تكن النفس باقية ، لكان كمال السعادة في الاستكثار من هذه اللذات ، وكمال الشقاوة في التقليل منها. والتالي كاذب ، فالمقدم كاذب مثله. بيان الشرطية : إن السعادة والبهجة لا معنى لها ، إلا ما يوجب اللذة والسرور. وهذه اللذة والسرور إما أن تحصل بعد الموت ، أو قبل الموت. فإن كانت النفس لا تبقى بعد موت البدن ، امتنع حصول اللذة والبهجة والسرور بعد موت البدن ، فلم يبق للسعادة حصول إلا قبل الموت ، فوجب أن يكون الاستكثار من هذه اللذات والخيرات ، استكثارا من السعادة ، والتقليل منها تقليلا من السعادة. وذلك يدل على صحة ما قلنا : إنه لو لم تكن النفس باقية ، لكان كمال الإنسان (٢) : من الاستكثار من هذه اللذات البدنية ، والراحات الجسمانية. وقد بينا في المقدمة [الأولى (٣)] أن هذا باطل ، فوجب أن يكون القول بأن النفس غير باقية باطلا قطعا.

واعلم : أنا نكتب فصلا طويلا في بيان أن السعادات النفسانية ـ أعني

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) السعادة (ل).

(٣) سقط (طا ، ل).

العلوم ـ أفضل من السعادات البدنية. وكل دليل نذكره هناك ، فإنه يقوي هذا الدليل على كون النفس باقية.

الحجة العاشرة : ما ذكرنا : أن الإنسان يجب أن يكون مخلوقا للخير والراحة ، وإلا لكان إما أن يكون مخلوقا للشر والإيذاء ؛ أو لمحض العبث. وكلاهما لا يليق بالحكيم الرحيم. فثبت : أنه مخلوق للخير والرحمة. ثم ذلك الخير والرحمة ، إما أن يكون حاصلا قبل الموت أو بعده ، والأول باطل ، لأن الدنيا مملوءة من الشرور والآفات والمكروهات والمخافات ، فوجب أن يكون محل تلك الخيرات ما بعد الموت ، وذلك يوجب القطع بأن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة الحادية عشر : إن الدلائل العقلية والنقلية متطابقة على أنه لا بد من البعث والقيامة. والقول [بأن البعث والقيامة إنما يحصل لهذه الأبدان باطل. لأن ذلك لا يصح إلا مع القول (١)] بإعادة المعدوم على ما بيناه : وهو محال. فوجب أن يحصل البعث والقيامة للنفس ، وذلك يقتضي إعادة المعدوم ، وهو محال. فثبت بما ذكرناه : أن القول ببقاء النفس بعد موت الجسد هو القول الصحيح.

الحجة الثانية عشر : الآيات والأخبار الكثيرة الدالة على أن النفس تبقى بعد موت الجسد (٢) وقد سبق ذكرها [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) البدن (م).

(٣) سقط (م).

الفصل العاشر

في

تقرير الوجوه الاقناعية في بيان

أن النفس باقية بعد موت الجسد

الحجة الأولى : إن جمهورا من العقلاء أطبقوا على أن أفضل أقسام البشر : الأنبياء والأولياء والحكماء الإلهيون. أما الحكماء الطبيعيون والرياضيون فالفائدة في وجودهم : لأجل مصالح الحياة العاجلة. ولما كانت هذه الحياة خسيسة ، كان الخادمون لها غير موصوفين بالشرف.

وإذا ثبت هذا فنقول : أجمع الأولياء والأنبياء والحكماء الإلهيون : على أن النفس باقية بعد موت البدن ، وذلك لأن هؤلاء الفرق الثلاثة حرفتهم وطريقتهم : الإعراض عن الدنيا والإقبال على عالم الآخرة ، كما قال تعالى :(وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً ، وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١) وما كانوا يلتفتون إلى أحوال هذه الحياة ، وما كانوا يسعون في إصلاحها ، بل كأنه لا حرفة لهم إلا تزييف هذه الطريقة وتهجينها. ومن أراد [تحقيق (٢)] ذلك ، فليطالع الكتب المشتملة على شرح أحوال الأنبياء ، في الزهد في الدنيا ، والإقبال على [عبادة (٣)] الله تعالى.

وأما الحكماء. فمن أراد معرفة أحوالهم وسيرهم [في هذه الطريقة ،

__________________

(١) الكهف ٤٦ والتكملة من (طا ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

فليطالع الكتب المشتملة على شرح أحوالهم (١)] ولا سيما طريقة «سقراط» و «أفلاطون» وأما «أرسطاطاليس» فلأجل أنه كان وزيرا ل «الإسكندر» وأستاذا له ، كثرت الدنيا عنده ، فجعلوه عيبا عليه. وذلك يدل على إطباق أكابر الحكماء على أن طلب الدنيا : مذموم ، والإقبال على الآخرة هو الطريق المحمود. ولو لم تكن النفس باقية بعد الموت (٢) ، لكانت طريقة الأنبياء والحكماء في تهجين حب الدنيا ، وتحسين طلب الآخرة : طريقة باطلة فاسدة. ولكانت طريقة الفسقة والكفرة في طلب الدنيا هي الطريقة الحقة. ولما كان ذلك معلوم الفساد بالضرورة ، وجب القطع بأن النفس باقية بعد موت البدن.

الحجة الثانية : طريقة الاحتياط. فنقول : إن هذا البدن كان معدوما من الأزل إلى يوم الولادة ، وسيبقى معدوما من يوم الموت إلى الأبد. ومن المعلوم : أن هذا الزمان الواقع فيما بين الأزل والأبد : قليل قليل ، بالنسبة إلى الكثير الكثير. فإن اعتقدنا أن النفس باقية بعد موت البدن ، واعتقدنا أن لها سعادة وشقاوة بعد ذلك ، ثم احترزنا عن اللذات الجسمانية ، وأقبلنا على طلب الخيرات الروحانية ، فإن أصبنا في هذا الاعتقاد ، فقد تخلصنا من العذاب المؤبد ، ووصلنا إلى الثواب المؤبد. وإن أخطأنا في هذا الاعتقاد لم يفتنا إلا الفوز بهذه اللذات البدنية ، في هذه المدة القليلة ، المتوسطة بين الأزل والأبد.

وأما إن اعتقدنا : أن النفس فانية (٣) وأنه ليس لها سعادة ولا شقاوة بعد الموت. فإن أصبنا في هذا الاعتقاد ، وصلنا إلى (٤) هذه اللذات القليلة المنغصة في هذه الأيام القليلة. وإن أخطأنا في هذا الاعتقاد ، وصلنا إلى العذاب المؤبد ، والشقاء المخلد.

وإذا عرفت هذا ، فقد ظهر أن اعتقاد أن النفس باقية بعد موت البدن ، أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) البدن (م).

(٣) غير باقية (طا ، ل).

(٤) إلى وجدان هذه (م).

وهذا هو الذي قاله الإمام الأجل «علي بن أبي طالب» ـ رضي الله عنه وأرضاه :

قال المنجم والطبيب كلاهما

لا تحشر الأموات. قلت : إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي ، فالخسار عليكما

والحجة الثالثة من الوجوه الإقناعية في بقاء النفس بعد موت البدن : إنا نرى أهل المشرق والمغرب من الزمان الأقدم ، إلى الآن : مطبقين على ذكر موتاهم. تارة بالصلاة والرحمة والخير ، إن اعتقدوا فيهم الظلم والجور. ولو لم تكن النفس باقية بعد موت البدن ، لكان هذا الكلام باطلا. لأن الصلاة والدعاء والرحمة تضرع إلى إله (١) العالم في إيصال خير إليه ، واللعن والشتم طلب من إله العالم إيصال شر وعذاب إليه. ولو كانت النفس تموت بموت البدن وتعدم عند عدمه ، لكان إيصال الخير والشر إليه محالا. فيلزم أن يقال : إن جميع أهل العالم من الزمان الأقدام ، قد أطبقوا على الباطل [ومعلوم : أن ذلك بعيد (٢)].

فإن قالوا : إن هذا الدعاء وهذا الشتم ، إنما يذكره أرباب الملل والنحل لجهلهم بحقائق الأشياء ، وأما الحكيم العاقل الكامل فإنه لا يفعله البتة.

فنقول : إن ذلك الذي نسميه بالحكيم الفاضل الكامل إذا غفل عن شبهاته وضلالاته ، وعاد إلى أصل فطرته ، ومقتضى طبيعته (٣) الأصلية ، فإن كان قد ناله خير كثير من إنسان ، ومات ذلك الإنسان ، فإنه إذا تذكر ما وصل إليه من الخيرات ، فلا بد وأن تحمله فطرته الأصلية على أن يذكره بالرحمة والدعاء. وإن كان قد ناله منه شر كثير ، فإذا تذكر تلك الأحوال ، فلا بد وأن يذكره باللعن والشتم. وذلك يدل على أن مقتضى الفطرة الأصلية هو الإقرار

__________________

(١) إلى الله في (ل).

(٢) سقط (ل ، طا).

(٣) جبلته (م).

ببقاء النفس ، وإن العدول عنه ليس إلا بسبب الشبهات العارضة.

الحجة الرابعة : إن الإنسان قد يرى أباه وأمه في المنام ، ويسألهما عن أشياء ، وهما يذكران أجوبة صحيحة ، وربما أرشداه إلى دفين دفنه في موضع لا يعلمه أحد.

وأقول (١) : «إني حين كنت صبيا في أول التعلم ، وكنت أقرأ مسألة حوادث لا أول لها. فرأيت في المنام أبي ، فقال لي : أجود الدلائل : أن يقال : الحركة انتقال من حالة إلى حالة أخرى. فهي تقتضي بحسب ماهيتها : كونها مسبوقة بالغير. والأول ينافي كونه مسبوقا بالغير. فوجب أن يكون الجمع بينهما محالا».

وأقول : «والظاهر : أن هذا الوجه ، أحسن من كل ما قيل في هذه المسألة».

وأيضا : سمعت أن «الفردوسي» الشاعر ، لما صنف كتابه المسمى ب «شاهنامه» على اسم السلطان «محمود بن سبكتكين» وأنه ما قضى حقه كما يجب وما راعاه كما يليق بذلك الكتاب ، ضاق قلب «الفردوسي» فرأى في المنام «رستم» فقال له : إنك قد مدحتني في هذا الكتاب كثيرا ، وأنا في زمرة الأموات ، فلا أقدر على قضاء حقك. ولكن اذهب إلى الموضع الفلاني ، واحفر فيه ، فإنك تجد فيه دفينا ، فخذه. فكان «الفردوسي» الشاعر يقول : إن «رستم» بعد موته أكثر كرما من «محمود» حال حياته.

وأيضا : سمعت أن أصحاب «أرسطاطاليس» كل ما أشكل عليهم بحث موضوع ، ذهبوا إلى قبره ، وبحثوا في تلك المسألة فكانت المسألة تنفتح ، والإشكال يزول. وهذه الأحوال مما تفيد ظنا غالبا (٢) أن نفوس الأموات باقية بعد موت أبدانها.

الحجة الخامسة : إنا نشاهد أن كل بناء بني للخير والدين ، فإنه يبقى

__________________

(١) قال المصنف (م).

(٢) قال المصنف (م).

زمانا طويلا مع ضعفه ورخاوته ، وكل بناء بني للدنيا مثل قصور الملوك والأكابر ، فإنه ينهدم في أسرع مدة مع غاية قوته [وإنا نرى أهل الزهد والطاعة والعلم ، يبقى ذكرهم بعد موتهم دهرا داهرا وزمانا طويلا (١)] وأيضا : نرى أن ثياب أهل الزهد والطاعة والعلم تبقى بعد موتهم دهرا داهرا وزمانا طويلا [وتبقى آثارهم وبلياتهم زمانا طويلا (٢)] مع أنها تكون في غاية الرخاوة والضعف. ولقد رأيت سجادة متخذة من الخرق الضعيفة ، بقيت بعد موت صاحبها مائة وعشرين سنة ، بل نقول : بقاء ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بقي نيفا وستمائة سنة. وأما ثياب الملوك والسلاطين فإنها مع غاية شرفها وصفاقتها ، تفنى في أقل مدة. وأيضا : نرى الرجل العالم أو الزاهد مع فقره وغاية ضعفه وعدم التفات الناس إليه ، يبقى ذكره [بعد موته مئات وألوفا من السنين ، وأما الجبابرة والسلاطين فإنه لا يبقى ذكرهم (٣)] في الدنيا إلا أياما قلائل. ثم إنها تنقرض وتزول ، ولا يبقى منهم في الدنيا لا أثر ولا خبر.

إذا عرفت هذا فنقول : هذا الاستقراء يدل على أن كل ما له تعلق بحضرة الجلال ، فإنه يبقى بحسب قوة ذلك التعلق ، وكل ما له تعلق بعالم الجسم والهيولى (٤) ، فإنه يكون سريع الدثور والفناء. إذا ثبت هذا فنقول : إن النفس الناطقة إذا أشرقت بنور معرفة واجب الوجود ، وتقوت بتلك القوة التي لا نهاية لها في العدة والشدة والمرة ، وجب أن تبقى بقاء مصونا عن الفساد ، دائما بدوام السبع الشداد. وتمام التقريب : إني لما رأيت نظرت تلك السجادة المركبة من تلك الخرق السخيفة ، وأنها بقيت مدة مائة وعشرين سنة ، قلت في نفسي : امتياز هذه الخرق السخيفة بهذا البقاء عن سائر الثياب الصفيقة النفيسة ، إنما حصل لأجل أنه اتفق أنه وقع عليها رجل ذلك الرجل الذي كان مدبر بدنه : نفسا أشرقت بنور معرفة الله تعالى فلأجل هذا التعلق البعيد ،

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) سقط (م).

(٤) والقبول (م).

وجدت هذه الخرق الضعيفة : هذا البقاء الطويل. فإذا صار هذا التعلق البعيد سببا لحصول هذا البقاء ، فما ظنك بجوهر النفس الناطقة ، مع أنها هي الظرف والوعاء لنور الجلال ، وضوء عالم الإله.

الحجة السادسة : إنا نرى أن كل إنسان ، كان مقبلا على التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله تعالى ، فإنه يكون عمره طويلا ، ويبقى طول عمرة مصونا عن الآفات والبليات. وكل من كان كثير الإقدام على القتل والإضرار ، فإنه يكون عمره قصيرا ، ولا بد وأن يقع في نوع من أنواع الآفات. وهذا هو الاستقراء الغالب. بل نقول : الحيوانات السليمة تطول أعمارها ، والحيوانات المؤذية تقصر أعمارها. ومعنى التعظيم لأمر الله : هو تكميل القوة النظرية التي للنفس. ومعنى الشفقة على خلق الله : تكميل القوة العملية التي للخلق. فهذا الاستقراء يدل على أن الاشتغال بتكميل هاتين القوتين يوجب إبقاء البدن بحسب الإمكان ، فلأن يوجب إبقاء جوهر النفس ، مع أن محل هاتين القوتين هو جوهر النفس كان أولى.

الحجة السابعة : إن أحوال الإنسانية على ثلاثة أقسام : فأدونها : الأحوال الجسمانية المحضة. مثل : الأبنية التي تبنى للخيرات ، كالمساجد والمدارس والخانقاهات ، وأوسطها : الأحوال التي تكون من جهة جسمانية ومن جهة روحانية [وهو الكلام. فإنه من حيث إنه صوت يتولد عن الآلات الجسمانية فهو من الجسمانيات (١)] ومن حيث إنه يدل على المعاني الروحانية النفسانية كان من الروحانيات. وأعلاها الأحوال النفسانية المحضة ، وهي العلوم الحقيقية والمعارف الصادقة.

إذا عرفت هذا فنقول : من الظاهر : أن الجسمانيات أقل قبولا للبقاء من الروحانيات. ثم إنا نرى كل ما ينسب إلى أصحاب الروحانيات من الجسمانيات ، فإنه ينتهي في البقاء إلى أقصى الغايات الممكنة. وإن شئت

__________________

(١) من (ل ، طا).

فتعرف أحوال المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، فإنك لا تجد في الدنيا بناء يساويهما في البقاء.

وأما المرتبة الثانية : فكل كلام يتعلق بالمعاني الروحانية ، مثل : صفات الإله سبحانه وتعالى ، وأفعال الخيرات. فإنه يبقى إلى أقصى الإمكان. وإن شئت فتعرف كتب الله تعالى المنزلة. كالتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. ومثل : كتب الحكمة. على اختلاف أصنافها فإنها باقية على وجه الدهر ، فلما رأينا أن الجسمانيات لما تعلقت بالروحانيات بقيت بقاء عظيما ، مع أن الأصل في الجسمانيات هو الفناء والانقراض والانقضاء. فالنفس التي هي جوهرة روحانية محضة ، بحسب الذات ، وبحسب جميع الصفات ، ثم إنها محل معرفة الله تعالى ، التي هي الإكسير الأعظم الموجب للبقاء الدائم ، لأن تكون موصوفة [بالبقاء والنقاء مبرأة (١)] عن التغير والفناء ، كان أولى.

الحجة الثامنة : الاستقراء يدل على أن الإنسان ، كلما تجلى في قلبه نور معرفة الله تعالى ، وانكشفت له صفات جلاله وكبريائه ، فإنه تقوى نفسه وتكمل قوته ، ويصير بحيث لا يبالي بأعظم سلاطين العالم ، ولا يقع في عينه منصب أحد البتة.

وأما إذا زال ذلك الكشف والتجلي ، فإنه يعود إلى حالته الأولى بحيث يخاف من أقل الأشياء ، ويحذر أصغر الموجبات. يحكى أن «إبراهيم الخواص» كان في البادية ، ومعه بعض مريديه فاتفق في بعض الليالي ، أن وقع في مقام الكشف. فاضطجع هناك ، وأحاطت به السباع ، وأنه لم يلتفت إلى شيء منها. وأما المريدون فخافوا من تلك السباع ، فصعدوا بعض الأشجار خوفا منها ، وفي الليلة الثانية زالت تلك الحالة ، فاضطجع ، فوقعت بعوضة على يده ، فأظهر التوجع من وقع تلك البعوضة. فقال له بعض المريدين (٢) : لم

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) ذلك المريد (م).

تلتفت في الليلة الماضية إلى السباع التي أحاطت بك ، وفي هذه الليلة أظهرت التوجع من هذه البعوضة.

فقال : أما الليلة الماضية فقد جاءني ضيف كريم ، وسلطان عظيم [من عالم الغيب (١)] فلأجل قوته ما كنت أبالي بتلك السباع. وأما في هذه الليلة فأنا وحدي مع نفسي ، فلا أطيق تحمل إيذاء هذه البعوضة.

فثبت بما ذكرنا : أن ظهور نور عالم الغيب يقوي جوهر الروح ، ويفيد النفس استيلاء على عالم الجسم. وإذا ثبت هذا ، فجوهر النفس عند القرب من الموت ، لا بد وأن يلتجئ إلى الله تعالى ، فتحصل المكاشفة ، فيقوى جوهر النفس قوة لا تبالي بخراب كل العالم ، فكيف تبالي بخراب البدن الضعيف.

الحجة التاسعة : لو فنيت النفس بفناء الجسد ، لكانت النفس محتاجة إلى البدن ، في بقاء ذاتها ، وأما الجسد فهو محتاج إلى النفس لا في بقاء ذاته ، بل في بقاء صفاته. وهي : الكيفيات المزاجية وعلى هذا التقدير فيكون احتياج النفس إلى البدن ، أكثر من احتياج البدن إلى النفس. وما كان أكثر حاجة ، كان أخس مما هو أقل حاجة. فلو ماتت النفس بموت البدن ، لزم كون النفس أخس من البدن. وهذا باطل. لأن الجسد مع النفس يكون شريفا ، وبدون النفس يكون في غاية الخساسة. فثبت : أن النفس لا تموت بموت البدن.

الحجة العاشرة : إن موت البدن عبارة عن تغير الصفات القائمة بتلك الأجسام ، فإن موت البدن لا معنى له إلا زوال تلك الكيفية المزاجية ، وزوال تلك الأعراض المعتدلة. فنقول: تعلق تلك الأعراض بتلك الأجسام ، أكمل وأقوى من تعلقها بالنفس المتصرفة في تلك الأجسام. ولما لم يكن زوال تلك الأعراض فناء تلك الأجسام (٢) مع ما بينهما من التعلق القريب فلأن لا يكون موجبا فناء النفس مع ما بينهما من التعلق البعيد ، كان ذلك أولى.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) فناء النفس (ط).

فهذه مجموع الوجوه التي خطرت بالبال ، وحضرت في الخيال في أقل من ثلاث ساعات في هذا الباب وليس لأحد أن يعيب ذكر هذه الإقناعيات علينا. فإنا قد ذكرنا أن المطلوب إذا كان مهما جدا ، وكان شريفا عاليا ، وكان مشكلا ، كان التوصل إلى تحصيله ، تارة باليقينيات ، وتارة بالإقناعيات القوية والضعيفة من مقتضيات العقول السليمة [والله أعلم (١)».

__________________

(١) من (طا ، ل).

الفصل الحادي عشر

في

بيان أن النفس لا تقبل الهلاك والعدم

اتفق المتأخرون من الفلاسفة عليه. وذكر الشيخ الرئيس في تقريره حجة مشوشة مذكورة بعبارات معقدة. وأنا أذكرها مشروحة ملخصة بتوفيق الله مع المباحث الدقيقة ، والمضائق العميقة ، ثم أذكر عقيبها حجة أخرى ، أوضح وأكمل من الأولى :

الحجة الأولى : أن نقول : لو كانت النفس الناطقة قابلة للفساد ، لكانت مركبة من المادة (١) والصورة. وهذا محال. فذاك محال.

بيان الشرطية موقوف على مقدمات :

المقدمة الأولى : إن كل ما يكون قابلا للفساد ، [فإن قبول الفساد (٢)] يجب أن يكون مغايرا لحصول الفساد. بدليل أن قبول الفساد حاصل قبل حصول الفساد ، والحاصل قبل حصول شيء ، يجب أن يكون مغايرا لذلك الشيء ، فثبت : أن قبول الفساد [مغاير للفساد.

والمقدمة الثانية : قبول الفساد ، لا بد وأن يكون حاصلا حال حصول الفساد. وذلك معلوم بالضرورة.

__________________

(١) هيولى وصورة (م).

(٢) من (طا ، ل).

والمقدمة الثالثة : إن قبول الفساد (١)] مفهوم غير مستقل بنفسه. بل لا بد من فرض شيء آخر. يكون ذلك الشيء موصوفا بذلك القبول.

وإذا ثبتت هذه المقدمات. نقول : الموصوف [بقبول الفساد (٢)] إما أن يكون هو عين ذلك الشيء أو جزء من أجزائه. والأول باطل ، لأن قابل الفساد لا بد وأن يكون حاصلا حال حصول الفساد ، ووجود الشيء يمتنع أن يكون حاصلا حال حصول فساده. وإذا بطل هذا القسم ، تعين القسم الثاني ، وهو أن تكون تلك الماهية (٣) لها جزء ، ويكون ذلك الجزء موصوفا بقبول الفساد. وإمكان الفساد هو بعينه إمكان الحصول ، فكل ما يصح عليه الفساد ، وله جزء ، يكون ذلك الجزء محلا لإمكان وجوده ، ولإمكان عدمه. وذلك الجزء هو المادة. كالطين الذي هو المادة للكوز ، بسبب أن الطين محل لإمكان حدوث صورة الكوز ، ولإمكان عدمها. فثبت : أن النفس لو كانت قابلة للفساد ، لكانت مركبة من المادة والصورة.

وبيان أن كونها مركبة من المادة والصورة محال : هو أن تلك المادة ، إن كانت قابلة للفساد ، افتقرت إلى مادة أخرى ، ولزم إما الدور وإما التسلسل. وهما محالان. وإما الانتهاء إلى مادة لا مادة لها ، وحينئذ لا يكون قابلا للفساد. لما بينا : أن كل ما يقبل الفساد ، فله مادة. فالذي لا مادة له ، وجب أن لا يقبل الفساد. وعلى هذا التقدير فتلك المادة جوهر مجرد قائم بذاته. ولا معنى للنفس إلا ذلك. فلما كانت تلك المادة غير قابلة للفساد ، ثبت : أن النفس لا تقبل الفساد.

فإن قيل : الكلام عليه من وجوه :

السؤال الأول : إن قولكم لو كانت النفس قابلة للفساد ، لكانت مركبة من المادة والصورة [منقوص بصور :

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) الماهية مركبة لها ... إلخ (م).

إحداها : الأعراض. مثل : السواد والبياض. فإنها قابلة للعدم (١)] وليست مركبة من المادة والصورة.

[وثانيها : الصورة قابلة للعدم. وليست مركبة من المادة والصورة (٢)] وإلا لزم أن تحصل للصورة صورة أخرى إلى غير نهاية.

وثالثها : إن العقول والنفوس الفلكية ، والنفوس الناطقة ، والهيولى : كلها ممكنات ، وليس لشيء منها مادة.

السؤال الثاني : لا نسلم أن قبول الفساد ، لا بد له من محل ، فإن هذا بناء على أن الإمكان والقبول صفة موجودة ، ولا بد لها من محل. وقد سبق بيان أن الإمكان لا يمكن أن يكون صفة موجودة.

السؤال الثالث : النفوس عندكم حادثة. وكما أن كل ما يقبل الفساد ، فإن إمكان فساده حاصل قبل (٣) وجوده ، فكذلك ما يكون حادثا ، يكون إمكان حدوثه حاصلا قبل وجوده ، فإن لزم من أحد الإمكانين كونه مركبا من المادة والصورة ، لزم من الإمكان الثاني ، كونه كذلك ، فكان يجب أن يلزم من كون النفس محدثة ، كونها مركبة من الهيولى والصورة. وحينئذ يبطل دليلكم.

السؤال الرابع : إن بتقدير أن تكون النفس مركبة من المادة والصورة ، فإنه يجب بقاء المادة ، لكن لا يجب بقاء الصورة ، وبتقدير أن تكون تلك الصورة شرطا لقيام الحياة والعلم والقدرة [بتلك المادة (٤)] وحينئذ لا يحصل للنفس سعادة ولا شقاوة ، وحينئذ يبطل ما هو الغرض الأصلي من بقاء النفس.

والجواب :

أما السؤال الأول : وهو النقيض بالصور المذكورة. فجوابه : أن نقول :

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) بعد (م).

(٤) سقط (م) ، (ط).

الصور والأغراض قائمة بالمواد ، فيكون محل إمكاناتها هو تلك المادة. ألا ترى أن صورة الكوز ، قائمة بالطين فإنك تحكم بأن هذا الطين يمكن اتخاذ الكوز (١) منه. فثبت : أن محل إمكانات هذه الصور والأعراض تلك المواد. وهذا يدل على صحة قولنا : إن كل ما يقبل الفساد ، فلا بد له من مادة. وأما إمكانات العقول والنفوس الفلكية والهيولى. فنقول : إن هذه الأشياء باقية أبدا وأزلا ، فلا يمنع قيام (٢) إمكاناتها بها. أما الشيء إذا عدم بعد وجوده فإمكان عدمه ، حاصل عند عدمه ، وهو غير حاصل عند عدمه فيمتنع أن يكون إمكانه قائما به ، فوجب قيامه بغيره. فظهر الفرق.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «إن هذا الكلام مبني على أن الإمكان صفة موجودة مفتقرة إلى المحل» فنقول : لا حاجة في تقرير هذا الدليل إلى إثبات أن الإمكان صفة موجودة. بل نقول : إمكان الفساد ، سواء كان موجودا أو معدوما ، فهو حاصل عند حصول الفساد. والمفهوم من هذا الإمكان ، سواء كان موجودا أو معدوما ، مفهوم غير مستقل بنفسه ، فلا بد من فرض شيء آخر يحكم العقل بجعل ذلك الإمكان صفة له ، وذلك الشيء لا بد وأن يكون حاصلا عند حصول ذلك الإمكان ، ولما امتنع (٣) أن يكون الذي عدم باقيا عند عدمه ، وثبت : أن إمكان الفساد حاصل عند حصول ذلك الفساد ، وجب القطع بأن محل ذلك الإمكان شيء آخر. والذي هو محل إمكان ذلك الشيء هو الهيولى. فثبت : أن النفس لو كانت قابلة للفساد ، فسواء قلنا : إن هذا القبول صفة موجودة ، أو معدومة. فإنه يجب كون النفس مركبة من الهيولى والصورة.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «إذا كانت النفس محدثة ، فالإمكان السابق على حدوثها ، وجب أن يفتقر إلى المادة» فجوابه : إن ذلك الإمكان مفتقر إلى مادة ، ومادته هي البدن ، والبدن باق حال ذلك الحدوث ، فلم

__________________

(١) الطين (ط).

(٢) فلا يمنع لزوم إمكانها (م).

(٣) ولما امتنع أن يكون ذلك الشيء باقيا عند عدمه (م).

تحصل الحاجة إلى إثبات مادة لجوهر النفس. وأما الإمكان الحادث بعد الفساد ، فلا بد له من محل ومادة. وذلك المحل والمادة ، يمتنع أن يكون هو البدن. لأنه غير باق ، بعد الفساد [فوجب إثبات مادة لذات النفس ولجوهرها ، حتى يصير محلا لإمكان الفساد (١)] فظهر الفرق.

وأما السؤال الرابع : وهو قوله : «لم لا يجوز أن تكون الصورة الزائلة عند موت البدن ، شرطا لكون ذلك الجوهر القائم بالنفس موصوفا بالحياة والعلم والقدرة؟» فجوابه : إن كون النفس موصوفة بالحياة والعلم والقدرة ، لا يجوز أن يكون شرطا لتعلقها بالبدن. وذلك لأن تعلقها مشروط بكونها في ذاتها حية عالمة قادرة. فلو كان اتصافها بهذه الصفات ، مشروط بتعلق (٢) النفس بالبدن ، لزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر (٣) وذلك دور. وهو باطل. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الدليل [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية في بيان أن النفس الناطقة لا تقبل الفساد : إنها لو عدمت بعد وجودها ، لكان عدمها لا بد وأن يكون ، إما لوجود شيء ، كانت النفس محتاجة إلى عدمه ، أو لعدم شيء كانت النفس محتاجة إلى وجوده. والقسمان باطلان ، فبطل القول بعدمها. أما الحصر فظاهر ، وأما بيان فساد القسم الأول وهو أن النفس تعدم لوجود شيء كانت النفس محتاجة إلى عدمه.

فهو أن نقول : إن ذلك الشيء يجب أن يكون ضدا لجوهر النفس ، ويجب أن يقال: إن ذلك الضد ما كان موجودا حال بقاء النفس ، وإنما حدث بعد ذلك. وهو محال لوجوه:

الأول : إن المضادة حاصلة من الجانبين ، فلم يكن فناء النفس لأجل حدوث ذلك الضد ، أولى من اندفاع ذلك الضد ، لأجل قيام النفس ، بل هذا

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) بتعلقها بالبدن (ل).

(٣) الأجزاء (م).

(٤) من (طا ، ل).

الثاني أولى لما قيل : إن الدفع أسهل من الرفع.

والثاني : إن طريان ذلك الضد الأول. فلو عللنا زوال الضد الأول ، بطريان الثاني. لزم الدور.

والثالث : إن الذي يفرض مضادا لوجود [هذه النفس (١)] إما أن يكون عرضا أو متحيزا ، أو جوهرا (٢) مجردا. والأولان باطلان. لأنا بينا : أن العرض والجسم أضعف حالا من الجوهر المجرد ، والأضعف لا يقوى على إعدام الأقوى ، ولأن الأجسام والأعراض موجودة مع هذه النفوس الحاضرة. وذلك يدل على انتفاء المضادة بينها وبين النفوس. والثالث أيضا محال. لأنا إن قلنا : النفوس الناطقة متماثلة ، فقد زال هذا الخيال ، لأن المضادة والمعاندة لا تحصل إلا عند اختلاف الطبائع والماهيات. وإن قلنا : إنها مختلفة في الماهيات. فالمضادة أيضا غير حاصلة. لأنا نعلم بالضرورة : أن جواهر النفوس غير متدافعة (٣) ولا متمانعة. بدليل : الاستقراء التام. فإن نفوس الناس الحاضرين لا يضاد بعضها بعضا. والاستقراء يفيد الظن الغالب.

وأما بيان فساد القسم الثاني : وهو القول بأن هذه النفوس عدمت لعدم شيء كانت النفوس محتاجة إليه. فهو أنا سنقيم الدلالة على أن العلل الموجدة لجواهر النفوس : موجودات مجردة دائمة مبرأة عن الحدوث والزوال. وكذلك العلل الموجدة للمعارف الحاصلة في جواهر النفوس : موجودات مجردة مصونة عن الفناء والزوال. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إن هذه النفوس تعدم بعدم عللها. فلم يبق إلا أن يقال : إنه لا شك أن تأثير تلك العلل في وجود هذه النفوس [الحادثة قد كان موقوفا على شرط حادث ، وإلا لدام (٤)] المعلوم بدوام العلة ، فزالت هذه النفوس ، [لزوال (٥)] تلك الشرائط.

__________________

(١) لوجودها (م).

(٢) موجودا : غير (م).

(٣) مضادة (م).

(٤) النفوس يعدم لعدم عللها ، وإلا لزم المعلول .. (م).

(٥) سقط (ط).

فنقول : هذا أيضا باطل. لأن تلك الشرائط ، إما أن تكون باقية ، وإما أن لا تكون باقية. فإن كانت [باقية عاد التقسيم المذكور في كيفية عدمها بعد بقائها (١)] وإن لم تكن باقية امتنع كونها شرائط لوجود النفوس. لأن النفوس باقية وتلك الأشياء غير باقية. وكون الباقي مشروط الوجود بما لا يبقى : محال. فثبت بهذا البيان والتقرير : أن النفوس الناطقة غير قابلة للعدم والفساد. وهو المطلوب.

واحتج القائلون بأنها قابلة للفساد : بأن قالوا : ثبت أنها حادثة ، فوجب كونها قابلة للعدم. فقابلية العدم ، إن كانت من اللوازم ، وجب بقاؤها أبدا ، فوجب كونها قابلة للعدم بعد وجودها. فتكون قابلة للفساد. وإن لم تكن تلك القابلية من [لوازم تلك الماهيات كانت صفة عارضة لها. فقابلية تلك القابلية ، إن كانت من اللوازم عاد الإلزام ، وإن لم تكن من (٢)] اللوازم كانت مسبوقة بقابلية أخرى إلى غير النهاية. وهو محال. والجواب : هذا الكلام بناء على أن النفوس حادثة ، والبحث فيه ما تقدم. ثم نقول : الفرق بين إمكان الحدوث وبين إمكان الفساد بعد الوجود : قد ذكرناه. فلا فائدة في الإعادة [والله أعلم(٣)].

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) من (طا ، ل).

الفصل الثاني عشر

في

أنه هل يعقل وجود نفس واحدة ،

تكون متصرفة في بدنين. ووجود نفسين

يكونان متصرفتين في بدن واحد؟

اعلم : أن هذه المباحث غامضة. ولقائل أن يقول : أما تعلق النفس الواحدة بالأبدان الكثيرة ، يجب أن لا يكون ممتنعا. وذلك لأن تعلق النفس بالبدن ، ليس إلا على سبيل التصرف والتدبير. وكون الشيء الواحد متصرفا في مملكتين وفي بيتين غير ممتنع ، فوجب أن لا يمتنع ذلك. والذي يزيده تقريرا : أن السبب لعشق النفس على التعلق بالبدن : هو أن تستعمل هذه الآلات البدنية في تحصيل اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية. ومعلوم أن استعمال بدنين أكثر وأقوى في إفادة هذا المعنى ، فوجب أن يكون تعلق النفس بالأبدان الكثيرة واجبا. فإن لم يجب ذلك ، فلا أقل من الإمكان على سبيل الندرة.

وأما تعلق النفوس الكثيرة بالبدن الواحد فهذا [أيضا (١)] محتمل من وجوه :

الأول : هو أن النفوس الكثيرة إذا كانت متماثلة في تمام الماهية ، وكانت متشابهة في الأخلاق والصفات ، فحينئذ تكون متشاركة في جميع الأمور التي لأجلها تعلقت بذلك البدن ، فلم يكن تعلق بعضها به ، أولى من تعلق الباقي به ، فوجب تعلقها بأسرها بذلك البدن.

__________________

(١) سقط (ل).

والثاني : إنه لا يمتنع أن يقال : إن طائفة من النفوس المفارقة لأبدانها ، تكون مساوية لهذه النفوس الحاضرة ، مساواة في الجوهر وفي الصفات ، وكان هذا البدن الحاضر عظيم المشابهة بأبدان تلك النفوس المفارقة ، وكانت تلك النفوس المفارقة مشتاقة إلى تلك الأبدان المنقوصة (١) المنقضية ، فإذا دخل هذا البدن في الوجود ، تعلقت تلك النفوس المفارقة بهذا البدن ، ضربا من التعلق ، وصارت معينة لهذه النفوس القائمة في الحال ، على أحوالها وصفاتها ومهماتها. فإن كانت خيرة كانت تلك النفوس أعوانا للخير ، وهو المراد بملائكة الأرض ، وإن كانت شريرة كانت تلك النفوس أعوانا للشر ، وهو المراد بالشياطين ، الذين هم الأرواح الخبيثة الأرضية.

وأما القسم الثالث : وهو أن يحصل نفسان في بدن واحد. وتحصل نفس في أبدان كثيرة. فقد ذكرنا كيفية تقريره في الفصول السالفة.

واعلم : أن هذه المباحث إنما تتوجه على من يقول : النفس جوهر مجرد قائم بذاته (٢) لا تعلق لها بذلك البدن ، إلا على سبيل التصرف والتدبير.

ومن المباحث اللائقة بهذا الباب : أن يقال : إذا قلنا : إن النفس جوهر ليس بجسم ولا بجسماني ، ولا تعلق لها بهذا البدن ، إلا تعلق التصرف والتدبير. مثل تصرف الملك في البلدة ، والمالك في البيت. وثبت أيضا : أنه لا داعي للنفس على التصرف في هذا البدن ، إلا لأجل أن تستعمل هذه الأعضاء وهذه الآلات ، في تحصيل اللذات الجسمانية ، والراحات البدنية ، والشهوات النفسانية. فحينئذ جرى تعلق هذه النفس بهذا البدن ، مجرى من أراد أن يعمل عملا ، ولا يمكنه الإتيان بذلك العمل إلا بواسطة آلة مخصوصة. فهو يحب تلك الآلة ، ليتوصل بها إلى تحصيل ذلك العمل ، إلا أنه لا تكون محبته مقصورة على تلك الآلة بعينها ، بل إذا وجدت هذه الآلة صحيحة صالحة لذلك المقصود ، استعملها [فإن رأى آلة أصلح من الأولى ، ترك الأولى واستعمل

__________________

(١) المفروضة فإذا (م).

(٢) قائمة بذاتها (م).

الثانية. فإذا انقضى (١) زمان ، واتفق أن صارت الآلة الثانية مختلة ، والآلة الأولى صالحة ، ترك الثانية ورجع إلى استعمال الأولى. وإذا عرفت هذا فنقول : لو كانت النفس جوهرا مجردا مباينا عن البدن ، لكان يجب أن يصح عليها أن تنتقل من هذا البدن إلى بدن آخر ، ثم بعد حين تعود إلى هذا البدن ، كما بيناه في استعمال الآلات. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، صار قولنا : النفس جوهر مجرد ليس بجسم ولا بجسماني : مشكلا.

واعلم : أنه لا يمتنع في العقل أن يكون لكل نفس خاصية ، ولكل بدن خاصية. لا تصلح تلك النفس [إلا لذلك البدن ، ولا يصلح ذلك البدن إلا لتلك النفس (٢)] ووصول العقول [البشرية (٣)] إلى أسرار مخلوقات الله سبحانه وتعالى على سبيل التمام والكمال : محال [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) سقط (ل).

(٤) من (طا ، ل).

الفصل الثالث عشر

في

بيان أن النفوس الناطقة مدركة

للكليات والجزئيات معا. وأنها هي المباشرة

لجميع الأفعال بنفسها ، وإن كانت

تلك المباشرة موقوفة على استعمال الآلات

ظاهر كلام الشيخ الرئيس : مشعر بأن النفس الناطقة ، لا تقوى إلا على إدراك الكليات والمجردات (١) وأما الإدراكات الجزئية ، فإنها موزعة على الحواس الظاهرة والباطنة.

واحتجوا على أن النفس لا تدرك الجزئيات بوجوه عامة ووجوه خاصة. أما الوجوه العامة فأربعة :

الأول : إن العقلاء ببداءة عقولهم يعلمون أن رؤية المرئيات [حاصلة (٢)] في البصر لا غيره ، وسماع الأصوات حاصل في الأذن لا في غيرها ، بل نقول : كما أن البديهة حاكمة بأن اللسان غير مبصر ، والعين غير ذائق ، فهي أيضا حاكمة بأن اللسان ذائق ، والعين مبصرة. ولو قلنا : إن الموصوف بإدراك هذه المحسوسات هو النفس ، لزم بطلان هذه الاختصاصات المعلومة.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : القوة المدركة ، وإن كانت غير موجودة في هذه الأعضاء ، لكنها آلات لها. فإذا وقع للنفس التفات إلى العين [أبصرت (٣)] أو إلى الأذن: سمعت؟ قلنا : قلنا : النفس إذا التفتت إلى

__________________

(١) والجزئيات (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م) ، (ط).

اللسان ، فهذا اللسان هل يدرك الطعم أم لا؟ فإن أدرك فقد حصل المطلوب ، وإن لم يدرك فحينئذ نسبة اللسان إلى إدراك المذوقات ، كنسبة سائر الأعضاء إليه. وذلك يبطل هذا الاختصاص.

الثاني : إن التجارب الطبية دلت على أن الآفة ، إذا حلت في عضو من هذه الأعضاء ، اختلت تلك الأفعال ، وهذا ظاهر في الحواس الخمسة الظاهرة. وأما في الإدراكات الباطنة ، فالآفة إذا وقعت في البطن المقدم من الدماغ ، فسد التخيل. وإن وقعت في البطن الأوسط فسد التفكر. وإن وقعت في البطن الأخير ، فسد التذكر. ولو لا أن هذه القوى جسمانية ، وإلا لما كان الأمر كذلك.

الثالث : إن هذه الإدراكات الجزئية (١) حاصلة لسائر الحيوانات. فلو كان الموصوف بهذه الإدراكات نفسا مجردة ، لزم أن تكون نفوس الحيوانات : نفوسا مجردة. وهو بعيد.

الرابع : إنا إذا تخيلنا «الكرة» وجب أن يرتسم في هذا المدرك ، صورة الكرة بناء على أن الإدراك صورة مساوية للمدرك ، تحصل في المدرك. لكن من المحال أن ترتسم صورة الكرة ، فيما لا وضع له ولا مقدار.

وأما الوجوه الخاصة : فقد احتجوا على أن الإدراكات الظاهرة : جسمانية. بأن قالوا : لو كان المدرك للمحسوسات الظاهرة هو النفس ، لوجب أن لا يتوقف إحساس النفس بها ، على حضورها. وكان يجب أن يكون إدراك الإنسان للقريب والبعيد والغائب [والحاضر (٢)] واحدا. لأن النفس جوهر غير جسماني ، فيمتنع أن يكون لها قرب وبعد من الأجسام.

فإن قالوا : النفس إنما تدرك هذه المحسوسات بمعاونة (٣) هذه الآلات التي يصح عليها القرب والبعد. قلنا : العين إذا لم تكن فيها قوة باصرة ، لم يكن

__________________

(١) الجسدانية (م).

(٢) من (ل).

(٣) المفارقة لهذه (م).

القرب والبعد حاصلا بالنسبة إلى الرائي ، بل بالنسبة إلى غيره. وذلك لا فائدة فيه.

واحتجوا على أن التخيل لا يحصل إلا بقوة جسمانية : بوجوه ثلاثة :

الأول : إنا إذا تخيلنا مربعا مجنحا [بمربعين متساويين (١)] فلا شك أنه يتميز أحد هذين الجناحين عن الثاني في الفهم والإدراك. والنفي المحض والعدم الصرف ، يمتنع وقوع الامتياز فيه. فهذان المربعان لا بد وأن يكونا موجودين ، وظاهر أنه قد يكون (٢) ذلك غير موجود في الخارج ، فهو في الذهن. فإما أن يكون محل أحد هذين المربعين متساويان في الماهية ، وفي جميع لوازم الماهية ، فلو حصلا (٣) في محل واحد ، لارتفع الامتياز بالصفات العرضية أيضا ، فوجب أن لا يبقى الامتياز أصلا. وذلك باطل. وأن العلم الضروري حاصل بأنا نميز أحدهما عن الآخر. ولما بطل هذان القسمان تعين الثاني ، وهو أن يكون محل أحد هذين المربعين مباينا عن محل المربع الثاني. وهذا لا يعقل إلا إذا كان محل هذا الخيال جسما [حتى يحصل (٤)] في أحد جزئي ذلك الجسم ، إحدى الصورتين. وفي الجزء الثاني منه ، الصورة الثانية.

الثاني : إن الصورة الخيالية متفاوتة في المقادير. فإن تخيل البحر (٥) أعظم من تخيل الذرة. وهذا التفاوت إما أن يكون بسبب المأخوذ عنه أو بسبب الآخذ. والأول باطل. لأنا قد نتخيل ما لا وجود له في الخارج. فبقي الثاني ، وهو أن تكون الصورة ، تارة ترتسم في جزء كبير ، فتكون تلك الصورة أكبر ، وتارة في جزء صغير فتكون [تلك الصورة (٦)] أصغر.

الثالث : إنه لا يمكننا أن نتخيل السواد والبياض في شبح خيالي واحد ،

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) لا يكون ذلك الخارج (م).

(٣) حصلت المربعات (م).

(٤) سقط (طا).

(٥) الجبل العظيم (م).

(٦) من (ل).

ويمكننا ذلك في شبحين. ولو كان الشبحان لا يتميزان في الوضع ، لوجب أن لا يبقى فرق بين الممكن والمتعذر.

واحتجوا على أن القوة الوهمية جسمانية : بأن قالوا : إنا إذا حكمنا على هذا الشخص ، بأنه صديق أو عدو. فالحاكم بهذا الحكم يجب أن يكون هو بعينه مدركا لهذا الشخص ، ولمعنى الصداقة والعداوة ، وإلا لكان ذلك التصديق حاصلا قبل التصور ، وهو محال. ولما ثبت أن المدرك لصورة هذا الشخص ، يجب أن يكون جسمانيا (١) وجب أن يكون ذلك الحاكم أيضا جسمانيا.

واحتجوا على أن القوة المحركة جسمانية : بأن قالوا : لو كان المحرك لهذه الأجسام هو النفس ، لكان ذلك التحريك حاصلا من غير توسط آلة جسمانية ، ومن غير مماسة آلة. لأن ما لا يكون جسما ، يمتنع أن يكون مماسا للجسم. ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يكون الإنسان قادرا على تحريك سائر الأجسام من غير حاجة إلى شيء من الآلات الجسمانية ، ولما كان ذلك باطلا ، ثبت أن محل القوة المحركة ، هو البدن ، لا جوهر النفس.

فهذه حكاية الوجوه التي ذكروها في هذا الباب على أحسن الوجوه ، وأقربها إلى العقل، وأبعدها عن الحشو والفضول.

والجواب عما ذكروه أولا : وهو قولهم : «إنا نجد الإبصار مختصا بالعين ، والسماع مختصا بالأذن» من وجوه :

الأول : إنا نقول : كما أنا نجد هذه الحالة ، فكذلك نجد الإدراك والعلم من ناحية القلب أو الدماغ ، على اختلاف المذهبين فيه. فإن دل ما ذكرتم على أن محل القوة الباصرة هو العين ، وعلى أن محل القوة السامعة هو الأذن ، وجب أن يدل ما ذكرناه على أن محل العلم والإدراك هو القلب. وحينئذ يبطل القول بإثبات النفس.

__________________

(١) جسما (م).

الثاني : إن العقلاء ببدائه عقولهم [يعلمون (١)] أنه ليس المبصر هو العين ، ولا السامع هو الأذن ، ولا المتكلم هو الحنجرة. بل الإنسان هو المبصر بالعين ، وهو السامع بالأذن ، وهو المتكلم بالحنجرة. فعلمنا : أنه ليس الأمر كما زعموا من أن العلم البديهي حاصل بأن الرائي هو العين ، والسامع هو الأذن. بل العلم البديهي حاصل بأن للعين اعتبارا في حصول الإبصار. فأما إنها هي المبصرة ، أو هي آلة للإبصار ، فذلك متوقف فيه إلى قيام الدليل.

والجواب عما ذكروه ثانيا من أن الآفة إذا حلت (٢) في عضو ، اختل ذلك الفعل : فهو أن نقول : كما يختل الفعل لاختلال الفاعل ، فقد يختل أيضا لاختلال الآلة ولاختلال ما يجري مجرى الشرط لحصول الفعل. فالاستدلال بما ذكرتم على كونه فاعلا : خطأ.

والجواب عما ذكروه ثالثا من أنه يلزم من أن تكون نفوس سائر الحيوانات نفوسا مجردة: من وجهين :

الأول : إنهم ما ذكروا دليلا على أنه يمتنع أن تكون نفوس الحيوانات نفوسا مجردة. ثم لا يلزم من هذا القدر ، كونها مساوية للنفوس البشرية في تمام الماهية. لأن التجرد قيد عدمي والاستواء فيه لا يوجب التماثل في تمام الماهية.

الثاني : لم لا يجوز أن يقال : نفوس سائر الحيوانات قوى جسمانية ونفوس البشر نفوس مجردة. ثم إنهما وإن كانتا مختلفين بالماهية إلا أنهما يتشاركان في بعض اللوازم والآثار. لما ثبت : أن الاستواء في الصفات والآثار ، لا يدل على التماثل في الماهية؟.

والجواب عما ذكروه رابعا من أن النفس التي هي جوهر مجرد ، يمتنع أن ترتسم فيها صورة الكرة هو أن هذا بناء على أن الإدراك لا يتم إلا بارتسام صورة المعلوم في العالم [وقد بان بطلانه. وأيضا : فهذا الإشكال وارد عليهم

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) وقعت (م) حصلت (ط).

في إدراك الكرة الكلية ، والمخروط الكلي (١).

والجواب عما ذكروه خامسا : من أنه لو كان الرائي هو النفس ، لوجب أن لا يختلف حال الرؤية ، بحسب القرب والبعد : أن نقول : العين وإن لم تكن هي الرائية ، إلا أنها آلة في حصول الإبصار ولا يبعد أن يختلف حال الإبصار بسبب اختلاف الحال في القرب والبعد بالنسبة إلى الآلة.

والجواب عما ذكروه سادسا : من تخيل المربع المجنح بالمربعين : من وجوه :

الأول : إنه كما يمكننا أن نتخيل مربعا مجنحا بمربعين متساويين على سبيل التعيين فكذلك يمكننا تخيل مثل هذا المربع على سبيل الكلية ، فيلزم أن يكون المدرك للكليات أيضا جسما وعلى هذا التقدير فصاحب الإدراكات الكلية الجزئية هو البدن ، فيلزمكم نفي النفس.

الثاني : إن موضع التخيل من الدماغ شيء صغير. فإذا انطبعت فيه صورة الجبل (٢) فقد انطبع في ذلك [الجسم (٣)] الصغير ، جزء من أجزاء تلك الصورة الكبيرة ، فالذي يبقى من الصورة الكبيرة ، إن لم يرتسم في شيء أصلا فقد جوزتم أن لا ترتسم الصورة الخيالية في شيء أصلا. وإذا جاز ذلك فجوزوا (٤) في كل جزء من أجزاء تلك الصورة مثله. وحينئذ يبطل دليلكم؟ وإن قلتم : إن بقية أجزاء تلك الصورة الكبيرة ترتسم في ذلك الموضع بعينه ، فحينئذ قد اجتمعت خيالات أجزاء تلك الصورة الكبيرة في المحل الواحد ، مع أنا نميز بينها بحسب الخيال. وهذا يدل على أن اجتماع الصورة الكبيرة في المحل الواحد ، لا يمنع من اقتدار الخيال على التمييز بينها. وإذا جاز هذا ، فلم لا يجوز ارتسام المربعين المجنحين (٥) في محل واحد ، مع أنه يبقى الامتياز في الإدراك؟

__________________

(١) من (ل).

(٢) الجسد (ط).

(٣) سقط (طا).

(٤) فلم لا يجوز في كل أجزاء (م).

(٥) الجناحين (ل).

الثالث : إن الإنسان ربما طاف في العالم ، ورأى البلاد والجبال والبحار والمفاوز ، فلو وجب أن يحصل لكل جزء من أجزاء هذه الصورة جزء معين من الدماغ ، فهذا بعيد. لأن الجزء الصغير من الدماغ لا يفي بذلك ، وإن لم يجب هذا الامتياز فقد بطل قولكم (١).

والجواب عما ذكروه سابعا من أن اختلاف الصور الخيالية [في المقادير يجب أن يكون لاختلاف الآخذين في المقدار. فنقول : إن كان صغر المحل (٢)]. يقتضي صغر الصورة الحالة فيه ، وجب أن لا يقدر الإنسان على تخيل شيء ، إلا بمقدار ما يساوي جزءا من أجزاء دماغه.

وإن كان صغر المحل لا يوجب صغر الصورة ، ولا يمنع من كبرها ، فقد بطل دليلكم.

والجواب عما ذكروه ثامنا من أنه لا يمكننا أن نتخيل السواد والبياض في شبح جسم واحد ، ويمكننا ذلك في شبحي جسمين (٣) : فنقول : هذا وارد في القوة العقلية أيضا. فإنه لا يمكننا تعقل حصول السواد والبياض في جسم واحد ، ويمكننا ذلك في جسمين ، ثم لم يلزم منه كون [الصورة العقلية حالة في الجسم. فكذا هاهنا.

والجواب عما ذكروه تاسعا من أنه إذا ثبت كون (٤)] الخيال جسمانيا ، وجب أن يكون الوهم المتعلق به جسمانيا. أن نقول : بل نقلب هذا ، فنقول : لما كان إدراك معنى الصداقة والعداوة ، لا يمكن حصوله للجسماني ، كان إدراك الصورة الخيالية المتعلقة به ، وجب أن يكون بقوة جسمانية.

والجواب عما ذكروه عاشرا من أن القادر على تحريك البدن ، ليس هو النفس : أن نقول : إنه لا معنى لتدبير البدن وللتصرف فيه إلا تحريكه على وفق

__________________

(١) قولهم (م).

(٢) من (ل).

(٣) شبحين من جسمين (ل).

(٤) من (ل).

الأغراض والمصالح ، فإن لم تقدر النفس على تحريك هذا البدن ، لم يبق لقولنا : النفس مدبرة للبدن ومتصرفة فيه : إلا اللفظ الخالي عن الفائدة.

فثبت بهذه البيانات : أن هذه الوجوه التي عولوا عليها في هذا الباب : في غاية الضعف [والسقوط. والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ل ، طا).

الفصل الرابع عشر

في

اقامة الدلالة القاهرة على أن الموصوف

بجميع أقسام الادراكات ، والمباشر لجميع

التحريكات والتدبيرات لهذا البدن : هو النفس

نقول : الذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه :

الحجة الأولى : ما ذكرناه في إثبات (١) «النفس» ولا بأس بإعادة (٢) ذلك. فنقول : إنا إذا رأينا العسل حكمنا بأنه حلو ، والقاضي على الشيئين لا بد وأن يحضره المقضي عليهما. فههنا شيء واحد يدرك جميع المحسوسات. ثم إذا تخيلناها [ثم أحسسنا بها. حكمنا بأن ذلك المتخيل هو هذا المحسوس. فلا بد من شيء واحد ، هو المدرك ، وهو المتخيل. ثم إذا أحسسنا (٣)] تلك الصور ، أو تخيلنا تلك الخيالات حكمنا عليها تارة بالعداوة ، وأخرى بالصداقة. فلا بد من شيء واحد هو المدرك لتلك الصور ولتلك المعاني. ثم إن القوة الفكرية تقوى على تركيب تلك الصور ، وتلك المعاني ، بعضها بالبعض ، فيكون ذلك الشيء قادرا على التركيب والتحليل ، وعلى إدراك الصور والمعاني. ثم إن الإنسان يمكنه أن يحكم على كل واحد من الأشخاص بإدخاله (٤) تحت الماهية الكلية ، فلا بد من شيء واحد يكون بعينه موصوفا بالإدراكات الكلية والجزئية. ثم إن الفعل الاختياري عبارة عما إذا اعتقد في

__________________

(١) كتاب (م).

(٢) بإعادتها (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) بأنه داخل (م).

شيء كونه نافعا ، يتولد من ذلك [الاعتقاد (١)] ميل وإرادة. ويترتب على ذلك الميل : صدور الفعل عن القادر. فلا بد من شيء واحد يكون موصوفا بجميع تلك الإدراكات [الكلية والجزئية (٢)] ويكون موصوفا بالميل والإدراكات ويكون هو الموصوف بالتحريك والتدبير.

فهذا برهان قطعي يقيني [لا مرية فيه (٣)] في أن الموصوف بجميع هذه الصفات ، يجب أن يكون شيئا واحدا ، وأن توزيع هذه القوى ، وهذه الإدراكات على المحال المختلفة ، والمواضع المتباينة : قول (٤) ضد مقتضى العقل.

الحجة الثانية في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات : أن نقول : لما ثبت أن النفس جوهر ليس حالا في الجسم. فذلك الجوهر ، إما أن يكون متصرفا في هذا البدن ومدبرا له ، وإما أن لا يكون. فإن لم يوجد هذا التصرف والتدبير كان ذلك الموجود (٥) مباينا لهذا البدن بالكلية ، ولا تعلق بينهما أصلا. وأما إن كانت النفس مدبرة للبدن ، فإما أن يكون قصد النفس تدبير مطلق البدن ، أو تدبير هذا البدن. فإن كان الأول لم يكن ظهور أثرها في هذا البدن ، أولى من ظهور ذلك الأثر في بدن آخر. فحينئذ يكون حال جميع النفوس مع جميع الأبدان على السوية. وذلك باطل قطعا. وإما إن كان قصد النفس المعينة تدبير هذا البدن [من (٦) حيث إنه هذا البدن المعين. فنقول : القصد إلى تدبير هذا البدن من حيث إنه هذا البدن المعين ، مشروط بالعلم بهذا البدن ، ولما كانت النفس تريد تدبير هذا البدن ، وجب أن تكون عالمة بهذا البدن من حيث إنه هذا البدن. فتكون النفس عالمة بالجزئيات. فإن قالوا : النفس تعلم الجزئيات

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) من (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) قول لا على مقتضى (ل).

(٥) الواحد (م).

(٦) من أول «من حيث إنه هذا البدن» إلى «فليس إلا هذا البرهان وما يشبهه» ساقط من (طا ، ل). في هذا الموضع. والناسخ وضعها في الحجة التاسعة من الفصل السادس.

لكن بواسطة الاستعانة بآلة جسمانية. فنقول : إن كلامنا الآن ليس في كيفية الآلات والأدوات ، بل في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات وشاعرة بها ، من حيث إنها هي. فإن نازعتم فيه ، أوردنا عليكم الدليل المذكور. وإن سلمتموه فهو المطلوب.

والعجب من هؤلاء الفلاسفة : كيف غفلوا عن أمثال هذه الدلائل الظاهرة ، واشتغلوا بتركيب تلك الوجوه الضعيفة ، وملئوا الكتب منها ، واستمروا عليها في الأدوار المتطاولة ، والأعصار المتباعدة.

الحجة الثالثة في إثبات ما ذكرناه : إن العلوم إما نظرية وإما ضرورية. وقد ذكرنا مرارا : أنه لا بد من الاعتراف بالعلوم الضرورية ، وإلا لزم التسلسل والدور ، وهما محالان. فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بالعلوم الضرورية والبديهية. وأجلى العلوم البديهية وأقواها وأكملها ما يحكم به صريح الفطرة ، وبديهة العقل. إذا عرفت هذا ، فنقول : كل واحد يعلم بالضرورة : أنه (١) هو الذي رأى المبصرات ، وسمع المسموعات ، وذاق المطعومات ، ولمس الملموسات ، وأدرك المشمومات ، وتصور المتخيلات ، واستحضر المذكورات والمنسيات ، وأنه هو الذي يحرك يده إلى الأخذ ، ويحرك رجله إلى المشي. ولو نازع منازع في كون الإنسان موصوفا بهذه الصفات ، وآتيا بهذه الأفعال ، لكان ذلك النزاع واقعا في أظهر العلوم الضرورية. وذلك يدل على أن صريح الفطرة شاهدة بأن الإنسان هو الموصوف بهذه الصفات ، وهو الفاعل لهذه الأفعال. ولما كان الإنسان عبارة عن النفس ، وجب أن تكون النفس هي الموصوفة بهذه الصفات ، وهي الآتية بهذه الأعمال.

فإن قالوا : فلم لا يجوز أن يكون المراد من قول القائل : أبصرت كذا ، وسمعت كذا ، هو أن قوة من القوى التابعة لذاتي أبصرت كذا. وقوة أخرى سمعت كذا؟ قلنا : فعلى هذا التقدير لم يكن الإنسان مبصرا للمبصرات ، ولا

__________________

(١) أن هذا الذي (ط).

سامعا للمسموعات ، بل شيء (١) من الأشياء المضافة إليه : [أبصر المبصرات ، وشيء آخر من الأشياء المضافة إليه : سمع المسموعات (٢)] فيصير هذا جاريا مجرى ما إذا قيل : إن عندي رأى فلانا ، وولدي سمع الكلام الفلاني. وإن العلم الضروري حاصل بالفرق بين ما سمعته أنا ، ورأيته أنا. وبين ما إذا رآه عبدي. وبالفرق بين ما إذا سمعت ذلك الكلام ، وبين ما إذا سمعه ولدي. لكن العلم الضروري حاصل بأني رأيت هذه المبصرات ، لكن بعيني. وذقت هذه المطعومات ، لكن بلساني.

وفي الجملة : فالعلم بأن الإنسان هو الموصوف بهذه الصفات والأحوال لا غيره : بلغ مبلغا لا يمكن حصول علم أجلى ولا أقوى منه ، حتى يتوسل (٣) بذلك العلم إلى تقرير هذه القضية. وليس يمكن إلا التنبيه على أن هذه القضية بديهية أولية. فأما تقريرها بقضايا أظهر وأوضح منها. فذلك من المحالات.

الحجة الرابعة على أن النفس مدركة للجزئيات : إن أهل المنطق اتفقوا على أن المحمولات والموضوعات على أربعة أقسام :

الأول : حمل الجزئي على الجزئي. كقولك : «زيد هو الذي عمل العمل الفلاني» فههنا الموضوع والمحمول جزئيان.

والثاني : حمل الكلي على الكلي. كقولك : «الإنسان حيوان».

والثالث : حمل الجزئي على الكلي (٤) كقولك [«بعض الإنسان هو زيد» فإن قولك : بعض الإنسان» مفهوم كلي.

الرابع : حمل الكلي على الجزئي. كقولك (٥)] «زيد إنسان» أو «زيد

__________________

(١) بل من الأشياء (ط).

(٢) من (ط).

(٣) يتوسل به إلى ذلك (م).

(٤) الجزئي (م).

(٥) من (ط).

ليس بفرس» وأطبقوا على أن أكمل الأقسام في الحمل والوضع هو هذا القسم. وأيضا : أطبقوا على أن من حمل شيئا على شيء ، فإنه لا بد وأن يكون قد حضر عنده تصور الطرفين.

إذا ثبت هذا فنقول : الذي حكم بحمل الكلي على الجزئي ، لا بد وأن يكون قد حضر عنده تصور ذلك الجزئي ، وتصور ذلك الكلي. لكن صاحب التصورات الكلية هو النفس ، فيجب أن يكون صاحب هذه التصورات الجزئية أيضا هو النفس.

واعلم : أنه إن حصل في الدنيا برهان يجب قبوله والرجوع إليه فليس إلا هذا البرهان ، وما يشبهه (١)].

الحجة الخامسة في إثبات أن النفس مدركة للجزئيات : أن نقول : النفس إما أن تدرك نفسها المعينة المشخصة ، من حيث هي هي ، أو إنما تدرك الأمر الكلي المشترك فيه بين النفوس الكثيرة. فإن كان الأول ، كانت النفس مدركة للجزئي ، من حيث إنه شخص معين. وإن كان الثاني كانت النفس غافلة عن ذاتها المعينة. وإنما علمت ماهية النفس من حيث إنها نفس ، إلا أن هذا محال. لأن كل من علم شيئا ، أمكنه أن يعلم كونه عالما به [وإذا علم كونه عالما (٢)] فقد علم نفسه المعينة. فثبت : أن القول بأن النفس لا تدرك الجزئيات : قول باطل.

الحجة السادسة : إن النفس إذا حاولت تحريك جسم أو جذبه أو دفعه ، فإما أن يكون متعلق قصدها : هو الأمر الكلي أو الجزئي. فإن كان الأول كانت نسبة ذلك القصد إلى جميع الجزئيات بالسوية ، فلم يكن تخصيصه ببعض الجزئيات ، أولى من تخصيصه بالبواقي. وإن كان الثاني وجب أن يكون عالما بذلك الجزئي ، من حيث إنه هو هو. وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) من أول «من حيث إنه هذا البدن» إلى «فليس إلا هذا البرهان وما يشبهه» ناسخ (طا ، ل) وضعه في الحجة التاسعة من الفصل السادس.

(٢) سقط (طا ، ل).

الفصل الخامس عشر

في

بيان أن النفس بعد مفارقة

البدن تبقى عالمة مدركة للجزئيات

والذي يدل عليه (١) : إنّ إدراكات البدن وأفعاله. إما أن تكون موقوفة على الآلات الجسمانية ، وإما أن لا تكون. فإن كان الحق هو الثاني ، فحينئذ تكون النفس بعد مفارقة الآلات البدنية (٢) تتقوى على إدراكات الجزئيات ، وعلى الأفعال المخصوصة.

وأما القسم الأول وهو أن يقال : إن الإدراكات الجزئية الحاصلة للنفس ، موقوفة على الآلات الجسمانية. فهذا باطل قطعا وذلك لأن إدراكها لتلك الآلة ، إما أن يكون إدراكا كليا أو جزئيا. فإن كان كليا اختصاصها بهذا البدن المعين ، وبهذه الآلة المعينة ، أولى من اختصاصها بسائر الأبدان ، وبسائر الآلات. وإن كان ذلك [الأمر إدراكا (٣)] جزئيا ، فحينئذ لا يكون إدراكها لتلك الآلة الشخصية ، من حيث إنها هي بواسطة استعمال تلك الآلة. لأن استعمالها (٤) لتلك الآلة ، يتوقف على إدراكها لها. فإن كان إدراكها لها متوقفا على استعمالها لها ، لزم الدور. وإنه محال. فثبت بما ذكرنا : إن كون النفس مدركة للجزئيات ، غير موقوف على الآلات الجسمانية ، وإذا كان الأمر

__________________

(١) والذي يدل عليه وجوه الحجة الأولى ... إلخ [الأصل].

(٢) الجسمانية (م).

(٣) ذلك الإدراك (ل).

(٤) استعماله لها يتوقف (م).

كذلك ، وجب القطع بأن النفس بعد مفارقة البدن ، تبقى مدركة للجزئيات. وهذا أصل شريف منتفع به في علم المعاد.

وبهذا يظهر صدق قوله عليه الصلاة والسلام : «حتى إذا حمل الميت على نعشه ، رفرفت روحه [فوق النعش. وتقول : يا أهلي ويا ولدي. لا تلعبن بكم الدنيا ، كما لعبت بي. جمعت المال من حله ومن غير حلّه. فالمهنأ لغيري ، والتبعة عليّ. فاحذروا مثل ما حلّ بي (١)].

وهذا الفصل ، وإن كان صغير الحجم ، إلا أنه عظيم النفع.

[والله أعلم (٢)].

__________________

(١) في (م ، ط) روحه.

(٢) الحديث. ونص الحديث من (ل ، طا).

الفصل السادس عشر

في

البحث عن علل النفوس الناطقة

اعلم : أن هذه النفوس البشرية. فيها ثلاث (١) مراتب في الاحتمالات :

أحدها : [أن نقول (٢)] إنها ليست محدثة. وليست أيضا ممكنة. بل هي أشياء واجبة الوجود لذواتها.

وثانيها : أن يقال إنها ليست واجبة الوجود لذواتها ، إلا أنها قديمة أزلية. كما يقول الفلاسفة في العقول الفلكية [والنفوس الفلكية (٣)].

وثالثها : أن يقال : إنها لا واجبة ولا أزلية ، بل هي ممكنة لذواتها ، محدثة حدوثا زمانيا.

أما القول الأول : فالدليل على بطلانه : الدلائل المذكورة في أن واجب الوجود لذاته، ليس إلا الواحد.

وأما القول الثاني : وهي أنها قديمة. فالقول فيه قد سبق.

وأما القول الثالث : وهو أنها ممكنة لذواتها ، محدثة زمانيا (٤)] فنقول : لما

__________________

(١) ثلاثة احتمالات (م ، ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) زيادة.

ثبت أنها ممكنة لذواتها. فسواء قلنا : إنها قديمة أو محدثة. فإنه لا بد لها من مؤثر وموجود ، وذلك الموجد إما أن يكون متحيزا ، أو حالا في المتحيز [أو لا متحيزا ولا حالا في المتحيز (١)] لا جائز أن يكون متحيزا لوجوه :

الأول : إنا بينا : أن المتحيزات متماثلة في تمام الماهية. فلو كان واحد منها علة لشيء ، لكان كل واحد منها علة لمثل ذلك الشيء. وذلك باطل.

والثاني : إن الفلاسفة يقولون : إن الشيء الواحد ، لا يكون قابلا وفاعلا معا. والأجسام قابلة ، فوجب أن لا تكون فاعلة.

والثالث : إن المتحيز أضعف وجودا من الجوهر المجرد لأن المتحيز محتاج إلى المكان والجهة ، والمجرد غني عنهما. والأضعف لا يكون علة للأقوى.

والرابع : إن النفوس البشرية عالمة بالحقائق ، قادرة على الأفعال. والجسم من حيث إنه جسم ، ليس كذلك. فالنفوس أشرف من الأجسام ، والأشرف لا يكون معلولا للأخس.

والخامس : إن الأجسام إنما تؤثر بمشاركة الوضع. والمراد من هذا الوضع : أن المؤثر الجسماني يؤثر في القريب [منه (٢)] أولا. ثم يؤثر ثانيا فيما اتصل بذلك القريب. ثم يؤثر ثالثا فيما اتصل بذلك الثاني. وهذا هو المراد من قولنا : إن المؤثر الجسماني إنما يؤثر (٣) بواسطة الوضع.

والدليل على أن الأمر كذلك : [هو أنه لو لم يكن الأمر كذلك (٤)] لكان تأثير هذا المؤثر الجسماني في القريب والبعيد سواء. ولما لم يكن الأمر كذلك علمنا : أنه إنما يؤثر بمشاركة الوضع.

وإذا ثبت هذا فنقول : الذي يمكن وصفه بالبعد والقرب من الجسم ،

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) يفعل (م).

(٤) من (طا ، ل).

ليس إلا الجسم. ولما كان قبول الأثر من الجسم مشروطا بكون القابل قريبا منه ، فما يمتنع وصفه بالقرب والبعد ، وجب أن لا يكون للجسم فيه أثر. لكن النفس جوهر مجرد ، فيمتنع كونه معلولا للجسم.

والسادس : إن الاستقراء يدل على أن المجانسة والمشاكلة [بين العلة وبين المعلول معتبرة ، والمشاركات المجانسة مفقودة (١)] بين الجسم وبين النفوس المجردة ، فامتنع كون الجسم علة.

واعلم : أن أكثر هذه الوجوه يدل على أن النفس يمتنع كونها معلولة (٢) للأعراض الجسمانية. وإذا بطل هذان القسمان ، ثبت : أن النفس الناطقة معلولة لجوهر مجرد عن الجسمية. ثم نقول : إن هذا الموجود المجرد قسمان : النفس ـ وهو الذي يفعل بواسطة آلة جسمانية والعقل ـ وهو الذي لا يتوقف تأثيره في الغير على اختيار آلة جسمانية ـ والأول باطل. لأنا بينا : أن كون الآلة الجسمانية معتبرة ، إنما يعقل في حق الجسم ، الذي يحصل لتلك الآلة الجسمانية. قرب منه تارة ، وبعد منه أخرى. ولما لم تكن النفس الناطقة جسما ، علمنا : أنه لا يمكن [أن يقال (٣)] : إن موجدها ، أوجدها بواسطة آلة جسمانية. فثبت : أن موجدها (٤) ليس من جنس النفوس ، بل من جنس العقول. وإذا ثبت هذا فنقول : إن ذلك العقل هو العقل الأخير المدبر لما تحت كرة القمر ، وهو العقل الفعال [والدليل عليه : أنه لا يمكن أن تكون هذه النفوس معلولات واجب الوجود. لما ثبت أنه فرد منزه من جميع جهات الكثرة ، فيمتنع أن يصدر عنه معلولات واجب الوجود. لما ثبت أنه فرد منزه عن جهات الكثرة ، فيمتنع أن يصدر عنه معلولات كثيرة ، ولا يمكن أيضا أن يكون من معلولات شيء من العقول المدبرة للأفلاك التسعة (٥) وإلا فقد صدر

__________________

(١) سقط (م).

(٢) محلا (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) موجد النفس (م).

(٥) السبعة (م).

عن الواحد أكثر من الواحد. ولما بطل الكل ، ثبت : أن الموجد لهذه النفوس ، ليس إلا العقل الأخير ، المدبر لما تحت كرة القمر. وهو العقل الفعال (١)].

هذا غاية الكلام في تقرير هذه الطريقة. وهي مبنية على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. وقد عرفت ضعفه وفساده. وإذا ثبت هذا ، ظهر أنه لا يمتنع أن تكون الأرواح المدبرة للأجسام الفلكية ، والأجرام الكوكبية ، هي المؤثرة في وجود هذه النفوس الناطقة.

وإذا قلنا : إن هذه الأرواح البشرية أنواع مختلفة ، لم (٢) يمتنع أن يكون بعضها من معلولات [نفس (٣)] فلك «زحل» وبعضها (٤) من معلولات نفس فلك «المشتري» وعلى هذا الترتيب فقس. ولا يمتنع أيضا أن يكون طائفة من معلولات الروح المدبرة ل «الشعري» اليمانية ، وطائفة ثانية من معلولات الروح المدبرة لكوكب آخر من الكواكب الثابتة.

واعلم : أن كل كمال يحصل للحيوان (٥) فهو أثر من آثار تلك العلة. فيكون كمال تلك الحالة حاصلا لتلك العلة ، ويكون الحاصل [منه عند المعلول (٦)] كالأثر الضعيف ، بالنسبة إلى [اعتبار ذلك الكمال (٧)] فلهذا السبب سمي أصحاب الطلسمات تلك الأرواح التي هي المبدأ لهذه الطائفة من النفوس البشرية ، بالطباع التام. لأن تلك الصفة في ذلك الشيء ، الذي هو الأصل تامة كاملة. وفي هذه النتائج [والفروع قليلة ناقصة. وذلك الجوهر

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) لم يكن بعضها (م).

(٣) سقط (ل).

(٤) وطائفة ثانية من (م).

(٥) للمعلول (ط) للحصول (م).

(٦) الحاصل مع المعلول كالأثر (ل).

(٧) الاعتبار في تلك العلة (م).

الذي هو العلة يكون بالنسبة إلى هذه النتائج (١)] كالأب بالنسبة إلى الأولاد ، والأصل [بالنسبة إلى الفرع. وكما أن الأب انجذابه إلى أولاده أكثر من انجذابه إلى أولاد غيره. فكذلك (٢)] لا يمتنع أن يكون اهتمام حال كل روح من الأرواح الفلكية بالنفوس البشرية ، التي هي كالأولاد ، أتم من اهتمامها بنتائج سائر الأرواح.

ولهذا السبب يقول أصحاب الطلسمات : أخبرني طباعي التام بكذا ، وأرشدني إلى كذا.

واعلم : أن [الحق : أن هذا النوع من الكلام ليس فيه إلا بيان مجرد الاحتمال. ثم إن اتفق (٣)] لأرباب المكاشفات وأصحاب المشاهدات ، تجارب تقوي هذا الاحتمال : قوي الاعتقاد فيه. وإلا فهي باقية في بقعة الإمكان (٤).

واعلم : أن هذا البرهان الذي ذكرناه في أن العلل الموجبة لذوات النفوس ، لا بد وأن تكون شيئا من العقول الفلكية [أو النفوس الفلكية (٥)] فهو بعينه برهان على أن السبب لحدوث العلوم والأخلاق في جوهر النفوس البشرية [يجب أن يكون شيئا من العقول الفلكية ، أو النفوس (٦)] الفلكية ، ولما كان منهاج الكلام فيه واحدا ، لا جرم اقتصرنا على المذكور ، وتركنا الإطناب فيه. والله أعلم.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (م).

(٤) هو لا يتفق. وما يحدث هو من وساوس الشياطين. وقد بينا في تعليقاتنا على كتاب النبوات ـ وهو الجزء الثامن من المطالب العالية ـ أن الطلاسم لا أصل لها. وإنما هي من المعميات والألغاز التي ابتدعها اليهود في زمان الأسر البابلي. وبينا : أن أرباب المكاشفات لا يدرون ما يفعل بهم ، فكيف يدرون ما يفعل بغيرهم؟

(٥) سقط (م).

(٦) سقط (م). وكلمة البشرية : سقط (ل).

الفصل السابع عشر

في

بيان أن اشتغال النفوس البشرية

بالدعاء والتضرع. هل يعقل أن يكون فيه

فائدة أم لا؟

من الناس من أنكر هذه التأثيرات ، واحتج على صحّة ذلك الإنكار بوجوه :

الحجة الأولى : إن الممكنات بأسرها منتهية إلى ذات الوجود ، فإن اقتضى شيء من لوازم ذات واجب الوجود ، حدوث ذلك الشيء. وجب أن يحصل ، سواء وجد ذلك الدعاء ، أو لم يوجد. وإن لم يوجد في لوازم ذات واجب الوجود ما يوجب حصول ذلك الأثر ، لم ينتفع بالدعاء أصلا.

الحجة الثانية : إن المعترفين بنفاذ علم الله تعالى في جميع المحدثات. قالوا : ذلك الشيء إن كان معلوم الوقوع : وقع. ولا حاجة إلى الدعاء. وإن كان معلوم اللاوقوع : لم يقع. ولا فائدة في الدعاء.

الحجة الثالثة : إن مبادي حدوث الحوادث في هذا العالم ، ليس إلا العلل العالية الفلكية. فلو قلنا : إن قبل الدعاء ما كانت تلك الحوادث : توجد. وبعد الدعاء : تدخل في الوجود. لكنا قد أثبتنا للنفوس البشرية على ضعفها نوعا من التأثير في العلل العالية [وذلك بعيد جدا (١)

الحجة الرابعة : إن الأسباب العالية. إما أن يكون تأثيرها بالإيجاب [والطبع (٢)] أو بالقصد والاختيار. فإن كان الأول ، لم يكن في الدعاء فائدة.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (ل).

وإن كان الثاني ، فعلم تلك الأسباب العالية الفعالة العالمة بمصالح هذا العالم : أكمل وأتم وأوفى من علم البشر. فإن كان الأصلح حصول ذلك الشيء ، فتلك العلل العالية لا تبخل بها البتة. وإن كان الأصلح عدم ذلك الشيء ، كان طلب تحصيله بالدعاء : جهلا. وحكمة العلل العالية تمنعها عن الإقدام على فعل ما لا ينبغي.

الحجة الخامسة : إن الأسباب العالية الفلكية إن كانت فاعلة لذلك الفعل ، لم يكن في هذا الدعاء فائدة. وإن كانت ممتنعة من ذلك الفعل ، كان اشتغال هذا الإنسان بطلب تحصيل ذلك الفعل ، يجري مجرى المنازعة مع الأسباب الفلكية. والضعيف إذا قاوم القوي ، لم يستفد منه إلا المقت والرد والحرمان.

الحجة السادسة : إن المشتغل بالدعاء. إما أن يكون قد حصل في قلبه نوع من المكاشفات الروحانية ، أو لم يحصل ذلك. فإن لم يحصل ذلك ، كان ذلك الدعاء مجرد تحريك اللسان ، ولا فائدة فيه إلا تكثير الهذيان. وإن حصل فيه ذلك الكشف. فإن كان الكشف قويا تاما ، صارت النفس مستغرقة في تلك الأضواء والأنوار ، تبقى النفس مع ذلك المقدار من ذلك الكشف ، طالبة لهذه الأغراض الجسمانية (١) راغبة في تحصيلها. كانت تلك القوة الحاصلة من تلك المكاشفة ضعيفة جدا. وحينئذ لا تفيد شيئا.

الحجة السابعة : إن الدعاء يجري مجرى تنبيه الغافل وإعلام الجاهل. فكأنه يقول لمعبوده : تركت الجود والفضل والرحمة. فأنا أعلمك أن الأولى فعله. ولا شك أن هذا مبالغة في سوء الأدب.

الحجة الثامنة : إن من حضر في مجلس السلطان القاهر ، فإن الأدب يقتضي أن لا يشافهه بالطلب. ورعاية هذا الأدب (٢) في حضرة ذي الجلال أولى.

__________________

(١) الخسيسة (ل).

(٢) الطلب (ل).

الحجة التاسعة : إن العلل العالية منزهة عن البخل ، موصوفة بالجود ، وإفادة الرحمة فامتناعها عن ذلك (١) قبل الدعاء ، يدل على امتناعها في أنفسها. إما بحسب الامتناع الذاتي ، أو لأجل أنها على ضد المصلحة الملائمة (٢) للعالم.

الحجة العاشرة : اتفق جمهور أرباب الرياضيات : على أن الرضا بالقضاء : باب الله الأعظم. والإقدام على الدعاء : خوض في التصرف من غير الإذن. والسكوت بالقلب وباللسان. هو الرضا. فوجب أن يكون هذا هو المنهج الأكمل ، والطريق الأفضل.

فهذا بيان شبهات المنكرين للدعاء.

وأما المعترفون بأن الاشتغال بالدعاء : طريق نافع ، ومنهج مستقيم. فقد ذكروا فيه فوائد :

الفائدة الأولى : إن النفس بمقتضى جوهرها [وموجب فطرتها (٣)] : مجبولة على حب اللذات الجسمانية ، والأغراض العاجلة. وأما الإعراض عن هذه الطريقة ، والإقبال على الله بالكلية ، فعلى خلاف عادتها ، وعلى مناقضة فطرتها.

إذا عرفت هذا فنقول : الداعي إذا اعتقد أن له في الدعاء غرضا. فلأجل تحصيل ذلك الغرض تتوجه النفس إلى جانب جلال الله تعالى ، وتصر وتلح [في ذلك الطلب (٤)] وذلك الإصرار والإلحاح يوجب استغراق النفس في الإقرار بكمال قدرة الله تعالى ، ونفاذ (٥) قدرته ومشيئته في جميع أجزاء العالم الأعلى والأسفل. وبهذا الطريق يحصل للنفس هذه السعادة ، وكلما كانت المواظبة على هذه الطريقة أكثر ، كان الانقطاع عن العالم الأسفل أكثر ،

__________________

(١) ذلك الفعل (م).

(٢) مصلحة العالم (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) سقط (ل).

(٥) ونفاذ مشيئته (ل).

والانجذاب إلى العالم أتم وأكمل. ولا شك أن في هذه الحالة منفعة عظيمة شريفة [عالية مرغبة (١)] في الاشتغال بالدعاء.

الفائدة الثانية : لا شك أنه كما يعتبر في حصول الأثر ، حال الفاعل ، فكذلك يعتبر حال القابل. وأيضا : فتأثيرات تلك العلل العالية في حوادث هذا العالم ، لا شك أنها موقوفة على شرائط حادثة ، وإلا لدامت الآثار لدوام تلك المؤثرات.

إذا عرفت هذا فنقول : إنه لا يمتنع أن يكون تكيف نفس الداعي بالكيفية الحاصلة عند الدعاء كان شرطا لفيضان تلك الآثار عن تلك العلل العالية ، فعند حصول هذه الحالة ، تحدث تلك الآثار عن تلك العلل العالية. ولا يمتنع أيضا أن يقال : إن نفس الداعي عند الاستغراق في الدعاء ، يظهر فيها نور من أنوار عالم الغيب ، وأثر من آثار تلك الأرواح القاهرة. وحينئذ تقوى جوهر النفس البشرية ، ويحصل لها استعلاء في تلك الحالة ، وبواسطة تلك القوة [والقدرة (٢)] يحصل ذلك الحادث المطلوب.

الفائدة الثالثة : إنا قد ذكرنا : أن لكل واحدة من هذه النفوس البشرية روحا من الأرواح العالية الفلكية ، وتكون هذه النفوس البشرية بالنسبة إلى تلك الروح (٣) كالأولاد بالنسبة إلى الأب. وكالعبيد بالنسبة إلى المولى ، فإذا أخذت النفس في التصفية عن العلائق الجسدانية ، ثم بالغت في الدعاء والتضرع ، انجذبت هذه النفوس إلى تلك الروح الفلكي ، الذي هو الأصل والمعدن والمنبع. وبسبب ذلك الانجذاب والاتصال يحصل في جوهر هذه النفس البشرية : قوة وقدرة وسلاطة على هيولى العالم العالم الأسفل ، فحينئذ تحصل آثار عجيبة وأحوال غريبة.

إذا عرفت هذا فنقول : اجتماع الجمع العظيم على الدعاء الواحد في

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (س).

(٣) الأرواح (م ، س).

المقصود الواحد : أقوى تأثيرا من إقدام الشخص الواحد على ذلك العمل لأن عند الاجتماع تنضم المؤثرات الكثيرة ، بعضها إلى البعض فيكون التأثير أقوى لا محالة ، وقد ضرب العلماء لهذا مثالا ، فقالوا القرانات مرتبة على أربع مراتب : القران الأصغر ، والأوسط ، والأكبر ، والأعظم.

والسبب في هذا التفاوت : أنه كلما كانت الكواكب أكثر ، وكان قرب بعضها من البعض أتم. كان التأثير أقوى. فلهذا السبب أمرت الشريعة الحقة بترتيب الاجتماعات على أربع مراتب.

فأولها : [أداء (١)] الصلوات الخمس في الجماعات. لأن القوم إذا اجتمعوا حصلت من تلك الجمعية آثار لا تحصل عند الانفراد.

وثانيها : صلاة الجمعة [في الأسبوع (٢)] فإن الجمعية هناك أكثر وأتم [مما في غيرها (٣)] فلا جرم تكون قوتها أكمل وأفضل.

وثالثها : صلاة العيد. فالجمعية فيها أتم وأكمل. وأكثر مما في صلاة الجمعة.

ورابعها : وهو القرآن الأعظم اجتماع العالم في موقف الحج. فإن الجمع العظيم من أهل المشرق والمغرب ، يجتمعون في ذلك الموقف ، ويوجهون أفكارهم وأذهانهم إلى استنزال الرحمة ، وطلب المعونة (٤) من الله تعالى. فلا جرم يحصل فيه من التأثير ، ما لا يحصل من سائر الوجوه. ولهذا الباب شرائط كثيرة سنذكرها في شرح السحر المبني على الأوهام ، وتصفية النفوس.

فهذا ما يمكن شرحه باللسان. ومن خاض في هذا الطريق وجد فيه من أنواع الفوائد ما لا يمكن ذكره باللسان ، ولا شرحه بالأقلام. والهادي إلى الحق ليس إلا الملك العلام.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (م).

(٣) من (م).

(٤) المغفرة (س).

الفصل الثامن عشر

في

بيان كيفية الانتفاع بزيارة الموتى والقبور

[قال المصنف (١)] : سألني بعض أكابر الملوك عن هذه المسألة. وهو الملك «محمد بن سام بن الحسين الغوري» وكان رجلا حسن السيرة ، مرضي الطريقة ، شديد الميل إلى العلماء ، قوي الرغبة في مجالسة أهل الدين والعقل. فكتبت له فيه رسالة ، وأنا أذكر هاهنا ملخص ذلك الكلام. فأقول : الكلام فيه مبني على مقدمات :

المقدمة الأولى : إنا قد دللنا على أن النفوس البشرية ، باقية بعد مفارقة الأبدان.

[والمقدمة الثانية :] (٢) إن تلك النفوس التي فارقت أبدانها أقوى من هذه النفوس المتعلقة بالأبدان من بعض الوجوه. وهذه النفوس أقوى من تلك من وجه آخر. أما أن النفوس المفارقة أقوى من هذه النفوس من بعض الوجوه : فهو أن تلك النفوس لما فارقت أبدانها ، فقد زال الغطاء والوطاء. وانكشف لها عالم الغيب ، وأسرار منازل الآخرة. فصارت العلوم التي كانت برهانية عند التعلق بالأبدان : ضرورية بعد مفارقة الأبدان. وكانت تلك

__________________

(١) من (م).

(٢) من (س) وفي (م) : «الأبدان وتلك النفوس ... إلخ».

النفوس الروحانية حين كانت النفوس (١) بدنية كانت تحت غبار وبخار ، فلما زال البدن أشرقت تلك النقوش ، وتجلت وتلألأت ، فحصل للنفوس المفارقة عن الأبدان ، بهذا الطريق: نوع من الكمال.

وأما أن النفوس المتعلقة بهذه الأبدان ، أقوى من تلك النفوس المفارقة من وجه آخر : فلأن آلات الكسب والطلب باقية لهذه النفوس. فهذه النفوس بواسطة الأفكار المتلاحقة ، والأنظار المتعاقبة ، تستفيد في كل يوم علما جديدا ، وبحثا زائدا.

وهذه الحالة غير حاصلة (٢) للنفوس المفارقة.

والمقدمة الثالثة : (٣) إن تعلق النفوس بأبدانها ، تعلق يشبه العشق الشديد والحب التام. ولهذا السبب فإن كل شيء يطلب تحصيله في الدنيا. فإنما يطلب ليتوصل به إلى إيصال الخير والراحة إلى هذا البدن. وإذا ثبت هذا ، فإذا مات الإنسان ، وفارقت النفس هذا البدن. فذلك الميل يبقى ، وذلك العشق لا يزول إلا بعد حين. وتبقى تلك النفس عظيمة الميل إلى ذلك البدن ، عظيمة الانجذاب إليه. لا سيما على المذهب الذي نصرناه من أن النفوس الناطقة مدركة للجزئيات. ، وأنها تبقى موصوفة بهذا الإدراك بعد موت البدن (٤)] وإذا عرفت هذه المقدمات ، فنقول : إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان ، قوي النفس ، كامل الجوهر شديد التأثير ، ووقف هناك ساعة ، وتأثرت نفسه من تلك التربة. حصل لنفس هذا الزائر تعلق بتلك التربة. وقد عرفت : أن لنفس ذلك الميت ، تعلق بتلك التربة. أيضا. فحينئذ يحصل لنفس هذا الزائر ، الحي ، ولنفس ذلك [الإنسان (٥)] الميت : ملاقاة ، بسبب اجتماعهما على تلك التربة. فصارت هاتان النفسان شبيهتان بمرآتين ،

__________________

(١) النفس (س).

(٢) زائلة (طا).

(٣) من هنا إلى موت البدن مكرر في الفصل التاسع عشر في (م) والنسخ المشابهة لها. وبدل المقدمة الثالثة : المرتبة الثانية.

(٤) موتها (م) ومن المقدمة الثانية إلى هنا : مكرر في الفصل التاسع عشر.

(٥) من (س)

صقيلتين ، وضعتا بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى. فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي من المعارف البرهانية ، والعلوم الكسبية ، والأخلاق الفاضلة من الخضوع لله تعالى ، والرضا بقضاء الله تعالى ، ينعكس منه نور إلى روح ذلك [الإنسان (١)] الميت ، وكل ما حصل في نفس ذلك الإنسان من العلوم المشرفة والآثار القوية الكاملة فإنه ينعكس منها نور إلى روح هذا الزائر الحي. وبهذا الطريق تصير تلك الزيارة سببا لحصول المنفعة الكبرى ، والبهجة العظمى لروح الزائر ، ولروح المزور.

فهذا هو السبب الأصلي في شرعية الزيارة. ولا يبعد أن يحصل فيها أسرار أخرى أدق وأغمض (٢) مما ذكرناه.

وتمام العلم بحقائق الأشياء ليس إلا عند الله سبحانه وتعالى.

__________________

(١) من (س).

(٢) وأحق (س).

الفصل التاسع عشر

الفصل التاسع عشر

في

مراتب النفوس في المعارف والعلوم

[التقسيم الأول : المراتب] (١)

اعلم : أن الحكماء ضبطوا تلك المراتب في أربع مراتب :

المرتبة الأولى : العقول الهيولانية. وهي نفوس الأطفال الخالية عن جميع المعارف والعلوم. إلا أنها قابلة للعلوم ، لا محالة. فسميت بالهيولانية لهذا المعنى.

والمرتبة الثانية : (٢) العقل بالملكة وذلك لأنا بينا : أن العلوم الكسبية لا يمكن تحصيلها إلا بواسطة العلوم البديهية. وهذه العلوم البديهية تحصل في العقول أولا ، ثم إن الإنسان يركب بعضها مع البعض ، فتصير تلك التركيبات موجبة لصيرورة المجهولات معلومة. ثم في هذه الدرجة يقع التفاوت من وجهين :

الأول : في كثرة تلك العلوم البديهية وقلتها.

والثاني : في أن صاحبها قد يكون بحيث يسهل عليه تركيب العلوم

__________________

(١) زيادة.

(٢) في الفصل الثامن عشر : أشرنا إلى عبارات مكررة. في (م) والتكرير هنا من : والمرتبة الثانية إلى قوله : العقل بالملكة. والكلام منضبط تماما في (س ، طا ، ل).

البديهية ، بحيث تتأدى تلك التركيبات إلى حصول العلوم بالنتائج ، وقد يكون بحيث يصعب عليه ذلك. وقد يكون بحيث يتيسر عليه ذلك.

واعلم : أن مراتب السهولة والصعوبة غير مضبوطة ، بل كأنها غير متناهية. وكما أنه لا يبعد انتهاؤها في طرف النقصان ، إلى الغبي الذي لا يتيسر عليه الكسب والطلب أصلا ، فكذلك لا يبعد انتهاؤها في طرف الزيادة إلى الكامل ، الذي تحصل له تلك التركيبات على أكمل الوجوه ، وأحسن الترتيبات من غير سعي في الطلب. وأصحاب هذا الكمال هم الأنبياء المعظمون ، والحكماء الكاملون. ومن الصوفية من يسمى هذا النوع من العلم بالعلم اللدني. أخذا من قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) (١).

والمرتبة الثالثة : فهي العقل بالفعل (٢) وهو أن يحصل العلوم الكسبية تحصيلا تاما وافرا ، إلا أنها لا تكون حاضرة في عقله. ولكنها تكون بحيث متى شاء استحضارها ، قدر عليه من غير حاجة إلى مزيد عناء وتكلف.

والمرتبة الرابعة : أن تكون تلك العلوم حاضرة بالفعل ، مشرقة تامة كاملة مضبوطة (٣) وهذا هو المسمى بالعقل المستفاد ، وإذا بلغت النفس البشرية إلى هذا الحد ، فقد وصلت إلى آخر الدرجات البشرية ، وأول منازل الملائكة. فهذا هو شرح حال المعارف والعلوم ، بحسب التقسيم.

التقسيم الثاني : الإدراكات :

قالوا : الإدراك إما أن يكون إدراكا للجزئيات ، أو إدراك للكليات. فإذا كان إدراكا للجزئيات. فإما أن يكون ذلك الإدراك [مشروطا بكونه ذلك المدرك حاضرا وهو الحس أو لا يكون (٤)] مشروطا به ، وهو الخيال. وأما

__________________

(١) الكهف ٦٥.

(٢) الفعال (م).

(٣) : مضيئة (م.

(٤) سقط (ط).

إدراك الكليات ، فهو العقل. ثم زعموا : أن الحس يدرك المحسوس ، مع مادته المعينة.

وأما الخيال فإنه يجرد بعض التجريد عن تلك المادة. ولذلك فإن تخيل الإنسان للأشياء ، لا يتوقف على حضورها في الأعيان. وأما العقل فإنه يجردها عن المادة تجريدا تاما.

واعلم : أن هذه كلمات مألوفة معهودة ، ولم يبحثوا عنها البتة. والبحث فيها من وجوه :

الأول : إن الصورة العقلية عرض شخصي ، حال في نفس شخصية. وتلك النفس قامت بها علوم كثيرة وميول وإرادات وأخلاق. فهذه الصورة العقلية مقارنة لها بأسرها ، ومصاحبة لها.

فكيف يمكن أن يقال : إنها صورة مجردة؟ فإن قالوا : [المراد من كونها مجردة أنه إذا حذفت عنها هذه المقارنات (١)] كانت مجردة. قلنا : فلم لا يقال (٢) أيضا : إن الصورة الحسية صورة مجردة بهذا التأويل.

الثاني : إن القول بإثبات الصور المجردة : قول متناقض. لأن كونها مجردة : قيد زائد على ماهياتها ، مقارن لها. فالقول بكونها مجردة يمنع من كونها مجردة.

الثالث : إنهم بينوا في المنطق : أن الكلي له أنواع خمسة : الجنس والفصل والنوع والخاصة والعرض العام.

أما الجنس والفصل فهما جزءا قوام الماهية. والعرض الحال في نفسي ، يمتنع كونه جزءا من قوام الماهية الموجودة في الخارج.

وأما النوع فهو الماهية ، والماهية الموجودة في الخارج ، كالفلك والشمس

__________________

(١) سقط (م) و ، (ط).

(٢) فلم قلتم إن (م).

والقمر : يمتنع أن تكون هي عين العرض الحال في نفسي ، أو أن يكون مساويا له.

وأما الخاصة والعرض العام فهما من الصفات القائمة بالماهيات الخارجية ، فيمتنع أن تكون تلك الصفات عين العرض الحال في نفسي. فثبت : أن القول بأن الصورة الحالة في النفس ماهية كلية مجردة : كلام ليس له البتة حقيقة ولا أصل. بل الحق : أن الحال في النفس: هو العلم بهذه الماهيات والشعور بها وهذا العلم عرض معين وصفة معينة حالة في نفس معينة في زمان معين فكان القول بأن تلك الصورة : صورة كلية مجردة : كلاما فارغا عن المعنى.

والتقسيم الثالث : أن نقول : الإبصار يتوقف على شرائط فكذا البصيرة.

والشرط الأول : [للإبصار (١)] أن لا يكون المبصر في غاية الجلاء. كالشمس. فإن البصر يتحير فيها لقوتها. ولا في غاية الخفاء. كالذرات ، ومراتب الممتزجات. وكذا المعقول إذا كان في غاية الجلاء مثل المفارقات. فإن العقل يعجز عن إدراكه. وإن كان في غاية الخفاء ، كمراتب الأنواع الأخيرة من الكيفيات البسيطة والمركبة ، فالعقول عاجزة عن الوقوف عليها بالتمام.

فأما المرتبة المتوسطة. وهي الكميات والكيفيات الظاهرة. فالعقول تقدر على الوصول إليها.

والشرط الثاني : إن المبصر إذا كان حاضرا ، فلما لم يحرك الإنسان حدقته من جانب إلى جانب ، تحريكات كثيرة : لم ير المبصر. فكذلك النفس الناطقة ، ما لم تحرك عينها الروحانية من معقول إلى معقول : لم تتمكن من الإبصار ، وتلك التحريكات هي المسماة بالفكر والروية ونظر العقل. وكما أن نظر العين عبارة عن تقليب الحدقة ، من جهة إلى جهة طلبا للرؤية فكذلك نظر العقل عبارة عن تقليب حدقة العقل (٢) من جانب إلى جانب طلبا لإدراك المعقول.

__________________

(١) مضيئة (م).

(٢) العين (ط).

والشرط الثالث : إن القوة الباصرة لا يمكنها إدراك المبصرات ، إلا عند صيرورة الهواء مضيئا ، بسبب طلوع الأشياء النيرة. فكذلك العقل لا يقدر على الإبصار إلا عند طلوع النيرات الروحانية. ثم نيرات العالم الجسماني أربعة : الشمس والقمر والكواكب والنار. وأعظمها : الشمس ، ثم القمر ، ثم الكواكب ، ثم النار. فكذلك نيرات العالم الروحاني أربعة: المبدأ (١) الأول ـ تعالى وتقدس ـ وبعده الروح الأعظم ، الذي هو أشرف الأرواح المقدسة ، وبعده درجات الملائكة ، مثل : مراتب الكواكب ، وبعده العقل البشري وهو بمنزلة النار.

ومراتب الأرواح البشرية على نوعين : منها ما يكون إشراقها وقوتها بسبب التصفية وتطهير النفس عن غير الله تعالى ، وبعضها بسبب تركيب البراهين اليقينية. والأولون هم [الملائكة (٢)] والأنبياء والأولياء. والثاني هم الحكماء.

واعلم : أن نور العقل له عيوب (٣) كما أن النار لها عيوب.

فالأول : [إن نور النار ممزوج بدخان كثير يسود الثوب ، ويجفف الدماغ ، وكذلك نور العقل ممزوج بدخان الشبهات.

والثاني : إن نور النار فيه إشراق وإحراق ، وكذلك (٤)] نور العقل فيه إشراق ، وهو إذا وقع على الدلائل ، وإحراق إذا وقع على الشبهات.

والثالث : إن نور السراج ينطفئ بأدنى سبب ، وكذلك سراج العقل ينطفئ بأدنى شبهة.

والرابع : إن السراج إنما يضيء إذا وضع في بيت صغير ، وإما إذا وضع في صحراء واسعة فإنه يقل ضوؤه ، ويصير كالمظلم. وكذلك سراج العقل ،

__________________

(١) المدبر (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) عيون (م).

(٤) سقط (م).

إنما يظهر نوره إذا استعمل في المطالب الحقيرة ، كالحساب (١) والهندسة. فأما إذا استعمل (٢) في المطالب العالية ، فإنه ينطفئ. بل نقول : إن الروح لما طلب معرفة نفسه ، صار كالمنطفئ ، وحصلت له هذه الشبهات المشروحة في هذا الكتاب.

والخامس : ظهور نور السراج ، مشروط بأن يحصل بينه وبين قرص الشمس حائل. فإذا وضع في مقابلة قرص الشمس : انطفأ. وكذلك سراج العقل ، إذا وضع في مقابلة عالم الأرواح المطهرة : انطفأ.

والسادس : إن نور السراج وإن طال بقاؤه ، ولكنه بالآخرة ينطفئ. وإن قدرنا أنه يستمر ، لكنه إذا طلعت الشمس تبطل ضوءه. وكذلك نور سراج العقل. إما أن ينطفئ لطريان الغفلات والشبهات ، أو إن بقي إلى آخر العمر (٣) لكنه عند موت البدن تتجلى له من عالم الغيب أنوار ، لا يبقى لنور عقله في مقابلتها أثر.

__________________

(١) كالحسابيات والهندسيات (ل).

(٢) وضع (م).

(٣) الأمر (م).

الفصل العشرون

في

نسبة الأعضاء والقوى إلى جوهر النفس

اعلم : أن الحكماء ذكروا في هذا الباب أمثلة كثيرة.

فالمثال الأول : هو أن جوهر النفس كالملك ، والبدن كالمملكة له. ولهذا الملك جندان: جند يرى بالبصر [وهو : الأعضاء الظاهرة والباطنة : وجند يرى بالبصيرة (١) وهو القوى المركوزة في تلك الأعضاء.

واعلم : أن لوجود هذه القوى معونة في تكميل مصالح النفس تارة ، وفي تكميل مصالح البدن أخرى.

أما النوع الأول من المعونة : فهو أن كمال النفس الناطقة في أن تعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به. لكن عمل الخير مشروط بتقدم العرفان ، ولكنها خلقت في أول الفطرة خالية عن معرفة أكثر الأشياء ، فأعطيت الحواس الظاهرة والباطنة ، حتى أن النفس إذا أحسست بالمحسوسات ، تنبهت لمشاركات بينها ، ومباينات. فيتميز عند الحس (٢) ما به حصلت المشاركة من الأشياء ، عما به حصلت المباينة بينها. ثم إن تلك الصور على قسمين:

منها : ما يكون مجرد تصوراتها ، موجبا جزم الذهن بإسناد بعضها إلى

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) النفس (م).

البعض ، بالنفي أو بالإثبات. ومنها : ما لا يكون كذلك. فالأول : هو البديهيات. والثاني : هو النظريات. فهذا بيان معونة الحواس ، في تكميل جوهر النفس. وأما معونتها في تكميل جوهر البدن فهو أنا بينا : أن البدن حار رطب ، فيكون أبدا في التحلل والذبول. ولهذا السبب يحتاج إلى إيراد بدل ما تحلل عنه ، ولا بد من التميز بين ما يكون ملائما ، وبين ما يكون منافيا. فهذا البيان معونة الحواس في تكميل جوهر البدن.

واعلم : أن السعي في إصلاح مهمات البدن ، يفيد السعي في إصلاح مهمات جوهر النفس إنما دخلت هذا (١) العالم الجسماني ، لتكتسب العلم النافع والعمل الصالح. لكن آلة النفس في هذا الكسب هو هذا البدن ، وما لم تكن الآلة صالحة لم يقدر المكتسب على الاكتساب بها. فثبت : أن الاشتغال بإصلاح مهمات البدن ، سعي في إصلاح مهمات النفس.

المثال الثاني : قالوا : القلب في البدن يشبه الوالي في مملكته ، وقواه وجوارحه بمنزلة الصناع ، والقوة العقلية المفكرة كالمشير الناصح ، والشهوة كالعبد (٢) الذي يجلب الطعام إلى المدينة ، والغضب كصاحب الشرطة. ثم إن الشهوة التي كالعبد الجالب للطعام إلى المدينة قد يكون خبيثا مكارا ، مخادعا ، يتمثل بصورة الناصح ، إلا أن تحت نصحه : كل شر هائل ، وسم قاتل ، وتكون عادته منازعة الوزير الناصح ، في كل تدبير يدبره.

وكما أنه يجب على الملك العاقل ، أن يسلط وزيره الناصح ، على عبده الجالب للطعام ، وعلى صاحب الشرطة ، وأن لا يلتفت إلى تخليطهما في حق الوزير ، ليستقيم أمر المدينة. فكذلك النفس الناطقة متى استعانت بنور العقل ، واستضاءت بضوء العلم والحكمة ، وجعلت الشهوة والغضب مقهورين ، استقام أمر هذه الحياة الجسمانية. ومن عدل عن هذه الطريقة ،

__________________

(١) على (ل).

(٢) والشهوة كالذي يجلب (ل).

كان كمن قال الله في حقه : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) (١).

المثال الثالث : البدن كالمدينة ، والنفس الناطقة كالملك ، والحواس الظاهرة والباطنة كالجنود ، والأعضاء كالرعية ، والشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ، ويسعى في إهلاك رعيته. فإن قصد الملك قهر ذلك العدو ، استقامت المملكة ، وارتفعت الخصومة. وإن لم ينازع عدوه ضيع مملكته ، واحتلت بلدته ، وصارت عاقبة أمره إلى الهلاك.

المثال الرابع : مثل النفس الناطقة ، مثل : فارس ركب لأجل الصيد. فشهوته فرسه ، وغضبه كلبه. فإن كان الفارس حاذقا ، وفرسه مرتاضا منقادا ، وكلبه معلما ، كان جديرا بالنجح. ومتى كان هو في نفسه أخرق ، وكان الفرس في نفسه جموحا ، والكلب غير معلم (٢) فلا فرسه تنبعث تحته على حسب إرادته ، ولا كلبه يسترسل بإشارته. فهو خليق بأن يعطب ، فضلا عن أن ينال ذلك الذي طلب.

المثال الخامس : اعلم : أن هذا البدن يشبه الدار الكاملة ، التي بنيت ، وأكملت بيوتها وخزائنها ، وأقيمت أبوابها ، وأعد فيها كل ما يحتاج إليه صاحب الدار.

أ ـ فالرأس كالغرفة في أعلا الدار. ب ـ والثقب في الرأس كالروازن في غرفة الدار. ج ـ ووسط دماغه كالأبواب في الدار. د ـ والفم كباب الغرفة. ه ـ والأنف كالطاق الذي فوق باب الدار. و ـ والشفتان كمصراعي الباب. ز ـ والأسنان كالبوابين. ح ـ واللسان كالحاجب. ط ـ والظهر كالجدار القوي ، الذي هو حصن الدار. ى ـ والوجه كصدر الدار. يا ـ والرئة التي هي الجاذبة للنفس البارد كالبيت الصيفي. يب ـ وجريان النفس فيها ، كالهواء الذي يجري في البيت الصيفي. يج ـ والقلب مع حرارته الغريزية كالبيت الشتوي. يد ـ وبيت المعدة مع نضج الغذاء فيها كالمطبخ. يه ـ والكبد مع حصول الدم فيها

__________________

(١) الجاثية ٢٣.

(٢) عقورا (م).

كبيت الشراب. يو ـ والعروق التي يجري فيها الدم كمسالك الدار. يز ـ والطحال بما فيه من السوداء كالخوابي التي تصب فيها الدرديات. يح ـ والمرارة بما فيها من الصفراء الحادة كبيت السلاح. يط ـ والأمعاء بما فيها من ثقل الطعام كبيت الخلاء. ك ـ والمثانة بما فيها من البول كبيت البئر. كافي ـ والسبيلان في أسفل البدن كالمواضع التي تخرج منها القاذورات من الدار. كب ـ والرجلان كالمركوب المطيع. كج ـ والعظام مع بناء الجسد عليها كالخشب التي عليها بناء الدار. كد ـ واللحم في خلال العظام كالطين. كه ـ والعصب الذي ربط بعض العظام ببعض كالرسن الذي تربط به بعض الأشياء من بعض. كو ـ والتجويفات في جوف العظام كالصناديق في الدار. كز ـ والمخ فيها كالجواهر والأمتعة المخزونة في الصناديق.

فهذا ما يتعلق ببيوت هذه الدار.

ثم إن النفس الناطقة في هذه الدار ، كالملك [المتصرف (١)] فيبصر بالعين ، ويسمع بالأذن ويشم بالمنخرين ، ويذوق باللسان وينطق أيضا باللسان ويلمس باليدين ، ويعمل الصنائع بالأصابع ، ويمشي بالرجلين ، ويبرك على الركبتين ، ويقعد على الأليتين وينام على الجنبين ويستند بالظهر ويحمل الأثقال على الكتفين ، ويتخيل بمقدم الدماغ ويتفكر بوسط الدماغ ، ويتذكر بمؤخر الدماغ ، ويصوت بالحنجرة ، ويستنشق الهواء بالخيشوم ، ويمضغ بالأسنان ، ويبتلع بالمريء.

والمقصود من كل هذه الآلات : والأدوات : أن يكتسب حلية العلم ، وتصير هذه النفس منتقشة ، بنقش عالم الملكوت ، متحلية بحلية اللاهوت [الحي الذي لا يموت (٢)] [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) سقط من (م).

(٢) من (م).

(٣) سقط (م).

الفصل الحادي والعشرون

في

تعديد خواص النفس الانسانية

ونحن نذكر منها ستة (١) :

النوع الأول من الخواص : النطق. وفيه أبحاث :

البحث الأول : إن الإنسان الواحد ، لو لم يكن في الوجود إلا هو. وإلا الأمور الموجودة في الطبيعة ، لهلك أو ساءت معيشته. بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة. مثل : الغذاء المعمول. فإن الأغذية الطبيعية لا تلائم الإنسان ، والملابس أيضا لا تصلح للإنسان ، إلا بعد صيرورتها صناعية. فلذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات. حتى تنتظم أسباب معيشته. والإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات ، بل لا بد من المشاركة ، حتى يخبز هذا لذاك ، وينتج ذاك لهذا.

فلهذه الأسباب احتاج الإنسان ، إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه ، بعلامة وضعية. وهي أقسام :

فالأول : وهو أصلحها وأشرفها : الأصوات المركبة. والسبب في شرفها : أن بدن الإنسان لا يتم ولا يكمل إلا بالقلب ، الذي هو معدن الحرارة الغريزية. ولا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة بعد ساعة حتى يبقى

__________________

(١) عشرة. القسم الأول ... إلخ [الأصل].

على اعتداله ولا يحترق. فخلقت آلات في بدنه ، بحيث يقدر الإنسان بها على الغريزية. ولا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة بعد ساعة ، حتى يبقى استدخال النسيم البارد في قلبه. فإذا مكث ذلك النسيم لحظة ، تسخن وفسد ، فوجب إخراجه. فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سببا لحدوث [الخروق (١) فلا جرم سهل تحصيل (٢)] الصوت بهذا الطريق.

ثم إن الصوت يسهل تقطيعه في المحابس (٣) المختلفة ، فحصلت هيآت مخصوصة ، بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس (٤) وتلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف والأصوات بهذا الطريق [ثم ركبوا الحروف (٥)] فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثم جعلوا كل كلمة مخصوصة ، معرفة لكل معنى مخصوص. فلا جرم صار تعريف المعاني [المخصوصة بهذا الطريق (٦)] في غاية السهولة. من وجوه :

الأول : إن إدخالها في الوجود في غاية السهولة.

والثاني : إن تكوّن الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة.

الثالث : إنه عند الحاجة إلى التعريف ، تدخل في الوجود ، وعند الاستغناء عن ذكرها تعدم. لأن الأصوات لا تبقى.

والقسم الثاني من طرق التعريف : الإشارة [إلا أن النطق أفضل من الإشارة لوجوه (٧)].

__________________

(١) الحروف (ط).

(٢) سقط (س ، ل ، طا).

(٣) المخارج فحصلت (م).

(٤) المخانق (م).

(٥) سقط (ط).

(٦) سقط (ط).

(٧) سقط (ط).

الأول : إن الإشارة لا تتناول إلا المرئي الحاضر. وأما النطق فإنه يتناول المعدوم ، ويتناول ما لا تصلح الإشارة إليه. ويتناول ما تصح الإشارة إليه أيضا.

والثاني : إن الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معين. فالإشارة نوع واحد أو نوعان. فلا تصلح لتعريف الأشياء المختلفة ، بخلاف النطق. فإن الأصوات والحروف البسيطة والمركبة كثيرة.

والثالث : (١) إنه إذا كانت الأصوات والحروف إشارة إلى شيء ، فلا بد أن ذلك الشيء قامت به صفات كثيرة ، فلا يعرف بسبب تلك الإشارة : أن المراد تعريف الذات وحدها ، أو الصفة الثانية (٢) أو الصفة الثالثة. أو الرابعة ، أو المجموع؟ أما النطق فإنه واف بتعريف كل واحدة من هذه الأحوال بعينها.

والقسم الثالث : الكتابة. وظاهر أن المئونة في إدخالها في الوجود صعبة ، ومع ذلك فإنها مفرعة عن النطق. وذلك لأنا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كل معنى من المعاني البسيطة والمركبة : نقشا ، لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية ، وذلك غير ممكن. فدبروا فيه طريقا لطيفا : وهو أنهم وضعوا بإزاء كل واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشا خاصا. ثم جعلوا النقوش المركبة في مقابلة الحروف المركبة. فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق. إلا أن على هذا التقدير صارت الكتابة مفرعة على النطق ، إلا أنه حصل في الكتابة منفعة عظيمة. وهي أن عقل الإنسان الواحد يفي باستنباط العلوم الكثيرة. فالإنسان الواحد إذا استنبط مقدارا من العلم ، وأثبته في الكتاب بواسطة الكتابة ، فإذا جاء بعده إنسان آخر ، ووقف عليه ، قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على

__________________

(١) عبارة غير (م) والثالث : إنه إذا أشار إلى شيء. فذلك الشيء ذات ، قامت بها صفات كثيرة ، فلا يعرف ... إلخ.

(٢) الفلانية (طا ، ل).

ذلك الأول. فظهر أن العلوم إنما كثرت بإعانة الكتبة. فلهذا قال عليه‌السلام : «قيدوا العلم بالكتابة» فهذا بيان طريقة (١) النطق ، والإشارة ، والكتابة.

البحث الثاني فيما يتعلق بهذا الباب : إن المشهور أن يقال في حد الإنسان : إنه حيوان ناطق. فقال بعضهم : إن هذا التعريف باطل ، طردا وعكسا.

أما الطرد فلأن بعض الحيوان ينطق (٢) وأما العكس فهو أن بعض الناس لا ينطق ، ولما أجيب عنه : بأن المراد منه : النطق العقلي ، لم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيرا ملخصا. ونقول : الحيوان (٣) نوعان :

منه ما إذا عرف شيئا ، فإنه لا يقدر على أن يعرف غيره ، حال نفسه. مثل : البهائم وغيرها. فإنها إذا وجدت من أنفسها أحوالا مخصوصة. فإنها لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال. وأما الإنسان فإنه إذا وجد من نفسه حالة مخصوصة ، قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه. فالناطق الذي جعل فصلا مقوما ، هو هذا المعنى. والسبب فيه : إنا بينا : أن أكمل طرق التعريف هو النطق ، المعبر (٤) عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالة عليها. وبهذا [الطريق (٥) و] التقدير ، فإن تلك السؤالات لا تتوجه [والله أعلم (٦)].

البحث الثالث (٧) : إن هذه الألفاظ والكلمات ، لها أسماء كثيرة :

فالأول : اللفظ وفيه وجهان :

__________________

(١) حقيقة : غير (م).

(٢) قد ينطق (م).

(٣) الجواب (م ، ط).

(٤) فعبر (م ، ط).

(٥) من (طا ، ل).

(٦) من (طا ، ل).

(٧) الرابع (م).

أحدهما : إن هذه الألفاظ. إنما تولدت بسبب أن ذلك الإنسان ، لفظ ذلك الهواء من حلقه. ولما كان سبب حدوث هذه الأصوات ، هو لفظ ذلك الهواء ، لا جرم سميناه باللفظ.

والثاني : إن تلك المعاني كانت كامنة [في قلب ذلك الإنسان فلما ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة (١)] معلومة فكأن ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج.

والاسم الثاني : الكلام. واشتقاق هذه اللفظة من الكلم ، وهو الجرح. والسبب فيه: أن الإنسان إذا سمع [تلك (٢)] اللفظة ، فقد تأثر حسه بسماعها ، وتأثر عقله بفهم معناها. فلهذا السبب سمي بالكلمة (٣).

والاسم الثالث : العبارة. وهي مأخوذة من العبور والمجاوزة. وفيه وجهان :

الأول : إن ذلك النفس لما خرج منه ، فكأنه جاوزه وعبر عليه.

والثاني : إن ذلك المعنى عبر من القائل ، إلى فهم المستمع.

الاسم الرابع : القول. وهذا التركيب يفيد الشدة والقوة. ولا شك أن تلك اللفظة لها قوة. إما بسبب خروجها إلى الخارج ، وإما بسبب أنها تقوى على التأثير في السمع ، وعلى التأثير في العقل [والله أعلم (٤)].

النوع الثاني من خواص الإنسان : قدرته على استنباط الصنائع العجيبة ولهذه القدرة : مبدأ ، وآلة.

أما المبدأ : فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها بالبعض.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ل).

(٣) فلأجل هذا المعنى سمي بالكلام (م).

(٤) من (طا ، ل).

وأما الآلة : فهي البدن. وقد سماها الحكيم «أرسطاطاليس (١)» الآلة المباحة. وسنذكر تفسير هذه اللفظة في علم التشريح. إن شاء الله. وقد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخس (٢) كالنحل. في بناء البيوت المسدسة ، إلا أن ذلك لا يصدر عن استنباط وقياس ، بل عن إلهام وتسخير ، ولذلك لا تختلف ولا تتنوع. هكذا قاله الشيخ. وهو منقوض بالحركة الفلكية. وسنفرد لهذا البحث فصلا على الاستقصاء.

النوع الثالث من خواص الإنسان : الأعراض النفسانية المختلفة (٣) وهي على أقسام :

فأحدها : أنه إذا رأى شيئا لم يعرف سببه ، حصل له حالة مخصوصة في نفسه ، سماها بالتعجب.

وثانيها : إنه إذا أحس بحصول الملائم ، حصلت له حالة مخصوصة [تتبعها أحوال جسمانية. وهي : تمدد في عضلات الوجه ، مع أصوات مخصوصة (٤)] وهي : الضحك. وإن أحس بحصول المنافي والمؤذي ، حزن. فانعصر دم قلبه في الداخل ، فينعصر أيضا دماغه ، وتنفصل عنه قطرات من الماء. ويخرج من العين ما يسمى بالبكاء (٥)

وثالثها : ان الإنسان إذا اعتقد في غيره ، أنه اعتقد فيه أنه أقدم على شيء من القبائح ، حصلت حالة مخصوصة تسمى بالخجل.

ورابعها : إنه إذا اعتقد في فعل مخصوص أنه قبيح ، فامتنع عنه لقبحه ، حصلت هناك حالة مخصوصة وهي الحياء.

__________________

(١) أرسطو (م).

(٢) الأخس (ط). الآخر (م ، وغيرها).

(٣) النفسانية الإنسانية المختلفة (طا).

(٤) سقط (ط).

(٥) وتخرج من العين. وهي البكاء.

وبالجملة : فاستقصاء القول في [تعديد (١)] الأحوال النفسانية : مذكور في باب الكيفيات النفسانية.

والنوع الرابع من خواص الإنسان : الحكم بحسن بعض الأشياء ، وقبح بعضها إما لأن صريح العقل يوجب ذلك عند من يقول به ، وإما لأجل أن المصلحة الحاصلة بسبب المشاركة الإنسانية ، اقتضت تقريرها ، لتبقى مصالح العالم مرعية. وأما سائر الحيوانات ، فإنها إن تركت بعض الأشياء مثل الأسد [المعلم (٢)] فإنه لا يفترس صاحبه. وليس ذلك مشابها للحالة الحاصلة للإنسان ، بل هيئة أخرى. لأن كل حيوان فإنه يحب بالطبع كل من ينفعه. فلهذا السبب يكون الشخص الذي يطعمه محبوبا عنده ، فيصير ذلك مانعا له عن افتراسه.

والنوع الخامس من خواص الإنسان : تذكر الأمور الماضية قيل : إن هذه الحالة لا تحصل لسائر الحيوانات. والجزم في هذا الباب ـ بالنفي والإثبات ـ مشكل.

والنوع السادس : الفكر والروية وهذا الفكر على نوعين : أحدهما : أن يتفكر لأجل أن يعرف حالة في نفسه ـ وهذا النوع من الفكر : ممكن في الماضي والمستقبل والحاضر ـ والنوع الثاني : التفكر في كيفية إيجاده وتكوينه. وهذا النوع من الفكر لا يمكن في الواجب والممتنع ، وإنما يمكن في الممكن. ثم لا يمكن في الممكن الماضي ، والحاضر وإنما يمكن في الممكن الاستقبالي. وإذا حكمت هذه القوة ، تبع حكمها حصول الإرادة الجازمة ، ويتبعها تأثير القوة والقدرة في تحريك البدن.

وهل لشيء من الحيوانات [إدراك (٣)] شيء من الكليات؟ المشهور :

__________________

(١) تقرير هذه (م).

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) سقط (ل).

إنكاره. وفيه موضع بحث. فإنها راغبة في كل ما يكون لذيذا عندها ، نافرة عن كل ما يكون مؤلما عندها. فوجب أن يتقرر عندها : أن كل لذيذ مطلوب ، وأن كل مؤلم مكروه. وأجيب عنه : بأن رغبتها إنما تكون في هذا اللذيذ. فكل لذيذ حضر عندها فإنها ترغب فيه ، من حيث إنه ذلك الشيء. فأما أن تعتقد أن كل لذيذ ، فهو مطلوب. فهذا ليس عندها.

واعلم : أن الحكم في هذه الأشياء بالنفي والإثبات : حكم على الغيب. والعلم بها ليس إلا لله العلي العليم (١).

__________________

(١) سبحانه وتعالى وتقدس (م ، ط).

الفصل الثاني والعشرون

في

بيان أن اللذات العقلية

أشرف وأكمل من اللذات الحسية

اعلم (١) أن الغالب على الطباع العامية : [الحكم (٢)] بأن أقوى اللذات ، وأكمل السعادات : لذة المطعم والمنكح. ولذلك فإن جمهور الناس لا يعبدون الله تعالى إلا ليجدوا المطاعم اللذيذة في الآخرة ، وإلا ليجدوا المناكح الشهية [هناك (٣)].

وهذا القول مرذول عند المحققين من أهل الحكمة ، وأرباب الرياضة. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بقضاء الشهوة ، وإمضاء الغضب. لكان الحيوان الذي يكون هو أقوى في هذا الباب من الإنسان : أشرف منه. لكن الجمل أكثر أكلا من الناس ، والذئب أقوى في الإيذاء من الإنسان. والعصفور أقوى على السفاد من الإنسان ، فوجب كون هذه الأشياء أشرف من الإنسان. لكن التالي معلوم البطلان بالضرورة ، فوجب الجزم بأن سعادة الإنسان غير متعلقة بهذه الأمور.

الحجة الثانية : كل شيء يكون سببا لحصول الكمال والسعادة. فكل ما

__________________

(١) في (ل) عنوان الفصل هو : في بيان أن اللذات الحسية ليست من الكمالات.

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) من (ل).

كان ذلك الشيء أكثر حصولا ، كانت السعادة [والكمال (١)] أكثر حصولا. فلو كان قضاء شهوة البطن والفرج سببا لكمال حال الإنسان ولسعادته ، لكان الإنسان كلما كان أكثر اشتغالا بقضاء شهوة البطن والفرج ، وأكثر استغراقا فيه ، كان أعلى درجة وأكمل فضيلة. لكن التالي باطل. لأن الإنسان الذي جعل عمره وقفا على الأكل والشرب والسفاد، يعد من البهائم ، ويقضي عليه بالدناءة والخساسة. وكل ذلك يدل على أن الاشتغال بقضاء هاتين الشهوتين ، ليس من باب السعادات والكمالات ، بل من باب دفع الحاجات والآفات.

الحجة الثالثة : إن الإنسان يشاركه في [لذة (٢)] الأكل والشرب ، جميع الحيوانات الخسيسة. فإنه كما أن الإنسان يلتذ بأكل السكر ، فكذلك يلتذ الجعل بأكل السرجين (٣) فلو كانت هذه اللذات البدنية ، هي السعادة الكبرى للإنسان ، لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة على هذه الحيوانات [الخسيسة ، بل نزيد فنقول : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بهذه اللذات الحسية ، لوجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات (٤)] والتالي باطل ، فالمقدم مثله.

وبيان وجه الملازمة : أن الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان في هذه اللذات الحسية البدنية ، إلا أن الإنسان تنتقص عليه هذه المطالب بسبب العقل. فإن العقل سمي عقلا ، لكونه عقالا له ، وحبسا له عن أكثر ما يشتهيه ، ويميل طبعه إليه. فإذا كان التقدير أن كمال السعادة ليس إلا في هذه اللذات الحسية. ثم بينا : أن هذه اللذات الحسية حاصلة على سبيل التمام [والكمال (٥)] للبهائم والسباع من غير أن يكون الإنسان أخس الحيوانات. ولما كان هذا معلوم الفساد بالبديهة ، ثبت : أن هذه اللذات الحسية ، ليست موجبة للبهجة والسعادة.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) فكذلك الجمل يلتذ بتناول السرقين (طا ، ل). وفي (ل) تعليق في الهامش وهو : «لعله البرسيم».

(٤) من (طا ، ل).

(٥) سقط (طا).

الحجة الرابعة : إن هذه اللذات الحسية ، إذا بحث عنها ، فهي في الحقيقة ليست لذات. بل حاصلها يرجع إلى دفع الآلام.

والدليل عليه : أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا ، كان التذاذه بالأكل أكمل ، وكلما كان الجوع أقل ، كان التذاذه بالأكل أقل. وأيضا : إذا طال عهد الإنسان بالوقوع ، اجتمع المني الكثير في أوعية المني ، فحصلت في تلك الأوعية دغدغة (١) شديدة ، وتمدد وثقل ، وكلما كانت هذه الأحوال المؤذية أكثر ، كانت اللذة الحاصلة عند اندفاع ذلك المني أقوى. ولهذا السبب فإن لذة الوقاع في حق من طال عهده الوقاع ، تكون أكمل منها في حق من قرب عهده به. فثبت : أن هذه الأحوال ، التي يظن أنها لذات جسمانية ، فهي في الحقيقة ليست إلا دفع الآلام. وهكذا القول في اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب ، فإنه لا حاصل لتلك اللذة ، إلا دفع ألم الحر والبرد. وإذا ثبت أنه لا حاصل لهذه اللذات ، إلا دفع الآلام. فنقول : ظهر أنه ليس فيها سعادة. لأن الحالة السابقة هي حصول الألم ، والحالة الحاضرة عدم الألم. وهذا العدم كان حاصلا عند العدم الأصلي. فثبت : أن هذه الأحوال ليست سعادات ولا كمالات البتة.

الحجة الخامسة : إن الإنسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذي ، يشارك سائر الحيوانات. وإنما يمتاز عنها بالإنسانية ، وهي مانعة من تكميل تلك الأحوال ، وموجبة لنقصانها ولتقليلها. فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة ، لكان الإنسان من حيث إنه إنسان ، ناقصا شقيا خسيسا. ولما حكمت البديهة بفساد هذا التالي ، ثبت فساد المقدم.

الحجة السادسة : إن العلم الضروري حاصل بأن بهجة الملائكة وسعاداتها أكمل وأشرف من بهجة الحمار وسعادته. ومن بهجة الديدان والذبان وسائر الحشرات. ثم لا نزاع : أن الملائكة ليس لها لذة الأكل والشرب

__________________

(١) دعدعة (ط).

والوقاع. وهذه الحيوانات الخسيسة حصلت لها هذه اللذات. فلو كانت السعادة القصوى ، ليست إلا هذه اللذات ، لزم كون هذه الحيوانات الخسيسة أعلى حالا ، وأكمل درجة من الملائكة المقربين. ولما كان هذا التالي باطلا ، كان المقدم مثله. بل هاهنا ما هو أعلى وأقوى مما ذكرنا. وهو أنه لا نسبة لكمال واجب الوجود [وجلاله وشرفه (١)] وعزته إلى أحوال غيره ، مع أن هذه اللذات الخسيسة ممتنعة عليه. فثبت : إن الكمال والشرف قد يحصلان بأحوال سوى هذه اللذات الجسمية.

فإن قالوا : ذلك الكمال ، لأجل حصول الإلهية. وذلك في حق الخلق محال ، فنقول: لا نزاع : في أن حصول الإلهية في حق الخلق محال ، إلا أنه عليه‌السلام قال : «تخلقوا بأخلاق الله» والفلاسفة قالوا : «الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله ، بقدر الطاقة البشرية» فيجب أن نعرف تفسير هذا التخلق ، وهذا التشبه. ومعلوم : أنه لا معنى لهما إلا تقليل الحاجات ، وإفاضة الخيرات والحسنات. لا بالاستكثار من الشهوات واللذات.

الحجة السابعة : إن هؤلاء الذين حكموا بأن سعادة الإنسان ، ليست إلا في تحصيل هذه اللذات البدنية ، والراحات الجسمية. إذا رأوا إنسانا أعرض عن طلبها ، مثل أن يكون مواظبا على الصوم. مكتفيا بما جادت الأرض به ، عظم اعتقادهم فيه. وزعموا : أنه ليس من جنس البشر (٢) بل هو من زمرة الملائكة. ويعدون أنفسهم بالنسبة إليه أشقياء أراذل. وإذا رأوا إنسانا مستغرق الفكر والهمة في طلب الأكل والشرب والوقاع ، مصروف الهمة إلى تحصيل أسباب هذه الأحوال ، معرضا عن العلم والزهد والعبادة ، قضوا عليه بالبهيمية والخزي والنكال. فلو (٣) أنه تقرر في عقولهم : أن الاشتغال بتحصيل هذه اللذات الجسدانية نقص ودناءة ، وأن الترفع عن الالتفات إليها كمال وسعادة. وإلا لما كان الأمر على ما ذكرناه ، ولكان يجب أن يحكموا على المعرض عن

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) الإنس (ل ، طا).

(٣) ولأنه (ل).

تحصيل هذه اللذات بالخزي والنكال ، وعلى المستغرق فيها بالسعادة والكمال. وفساد التالي، يدل على فساد المقدم.

الحجة الثامنة : كل شيء يكون في نفسه كمالا وسعادة ، وجب أن لا يستحي من إظهاره. ويتبجح بفعله. ونحن لا نعلم بالضرورة : أن أحدا من العقلاء لا يفتخر بكثرة الأكل، ولا بكثرة المباشرة ، ولا بكونه مستغرق الوقت والزمان في هذه الأعمال ، [وأيضا : (١)] فالناس لا يقدمون على الوقاع إلا في الخلوة ، وأما عند حضور الناس فلا. فإن أحدا من العقلاء لا يجد من نفسه تجويز الإقدام عليه ، وذلك يدل على أنه تقرر في عقول الخلق أنه فعل خسيس ، وعمل قبيح ، فيجب إخفاؤه عن العيون. وأيضا : فقد جرت عادة السفهاء بأنه لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر ألفاظ الوقاع ، وذلك يدل على أنه مرتبة خسيسة ، ودرجة قبيحة. وأيضا : لو أن واحدا من السفهاء أخذ يحكي عند حضور الجمع العظيم : أن فلانا كيف يواقع زوجته؟ فإن ذلك الرجل يستحي من ذلك الكلام ، ويتأذى من ذلك القائل. وكل هذا يدل على أن ذلك الفعل ليس من الكمالات والسعادات ، بل هو عمل باطل وفعل قبيح.

الحجة التاسعة : كل فرس أو حمار ، كان ميله إلى الأكل والشرب والإيذاء أكثر ، وكان قبوله للرياضة أقل : كانت قيمته أقل. وكل حيوان كان أقل رغبة في الأكل والشرب ، وكان أسرع قبولا للرياضة : كانت قيمته أكثر. ألا ترى أن الفرس الذي يقبل الرياضة والعدو الشديد ، فإنه يشترى بثمن رفيع. وكل فرس لا يقبل هذه الرياضة ، فإنه يوضع على ظهره الإكاف ، ويسوى بينه وبين الحمار ، ولا يشترى إلا بالثمن القليل. فلما كانت الحيوانات التي هي غير ناطقة ، لا تظهر فضائلها بسبب الأكل والشرب والوقاع ، بل بسبب تقليلها منه ، وبسبب قبول الأدب وحسن الخدمة لمولاه ، فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل.

الحجة العاشرة : إن سكان أطراف الأرض ، لما لم تكمل معارفهم

__________________

(١) سقط (ط).

وأخلاقهم وعقولهم ، لا جرم كانوا في غاية الخسة والدناءة. ألا ترى أن سكان [الإقليم الأول، وهم الزنوج ، وسكان (١)] الإقليم السابع وهم الصقالبة ، لما قل نصيبهم من المعارف [الإلهية (٢)] الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، لا جرم تقرر في عقول العقلاء : خسة درجاتهم، ودناءة مراتبهم ، وأما سكان وسط المعمورة ، لما فازوا بالمعارف الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة ، لا جرم أقر كل واحد ، بأنهم أفضل طوائف البشر وأكملهم. وذلك يدل على أن فضيلة الإنسان وكماله ، لا تظهر إلا بالعلوم الحقيقية ، والأخلاق الفاضلة.

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) من (ل).

الفصل الثالث والعشرون

في

البحث عن نفوس سائر الحيوانات

أما الفلاسفة المتأخرون فقد اتفقوا على أنها قوى جسمانية ، وأنه يمتنع أن يكون لها نفوس مجردة. ولم يذكروا في تقرير هذا حجة ولا شبهة. وليس لأحد أن يقول : لو كانت نفوسها نفوسا مجردة ، لوجب كونها مساوية للنفوس البشرية في تمام الماهية. ويلزم وقوع الاستواء في العلوم والأخلاق ، وذلك محال.

فإنا نقول : الاستواء في التجرد (١) استواء في قيد سلبي. وقد عرفت أن الاستواء في القيود السلبية لا يوجب الاستواء في تمام الماهية. وأما سائر الناس. فقد اختلفوا في أنه : هل لها نفوس مجردة؟ وهل لها شيء من القوى العقلية أم لا؟ فزعمت طائفة من أهل النظر (٢) ومن أهل الأثر : أن ذلك ثابت. واحتجوا على صحته بالمعقول والمنقول. أما المعقول فهو أنهم قالوا : إنا نشاهد من هذه الحيوانات أفعالا لا تصدر إلا من أفاضل العقلاء ، وذلك يدل على أن معها قدرا من العقل. وبينوا ذلك بوجوه :

الأول : إن الفأرة تدخل [ذنبها (٣)] في قارورة الدهن ، ثم تلحسه. وهذا الفعل لا يصدر إلا لعلمها بمجموع مقدمات :

__________________

(١) في عدم التحيز (م).

(٢) العلم (م).

(٣) سقط (طا).

فإحداها : أنها محتاجة إلى الدهن.

وثانيها : أن رأسها لا تدخل في القارورة.

وثالثها : أن ذنبها يدخل.

ورابعها : أن المقصود حاصل بهذا الطريق ، فوجب الإقدام عليه.

والثاني : إن النحل يبني البيوت المسدسة. وهذا الشكل فيه منفعتان لا تحصلان إلا من المسدس. وتقريره : أن الأشكال على قسمين : منها أشكال متى ضم بعضها إلى بعض ، امتلأت القرصة منها ، ومنها : أشكال ليست كذلك.

فالقسم الأول : كالمثلثات والمربعات فإنهما وإن امتلأت القرصة منهما ، إلا أن زواياهما ضيقة ، فتبقى معطلة. وأما المسبع والمثمن وغيرهما ، فزواياهم وإن كانت واسعة ، إلا أنه لا تملأ القرصة منهم ، بل يبقى بينهم فضاء [معطل (١)] وأما الشكل المستجمع لكلتا المنفعتين ، فليس إلا المسدس. وذلك لأن زواياه واسعة ، فلا يبقى شيء من الجوانب فيه معطلا ، وإذا ضمت المسدسات بعضها إلى بعض ، لم يبق فيما بينها فرجة ضائعة. وإذا ثبت أن الشكل الموصوف بهاتين الصفتين هو المسدس ، لا جرم اختارت النحل بناء بيوتها على هذا الشكل ، ولو لا أنه تعالى أعطاها من الإلهام والذكاء ، وإلا لما حصل هذا الأمر. وفيه أعجوبة ثانية. وهي : أن البشر لا يقدرون على بناء البيت المسدس إلا بالمسطر والفرجار. والنحل يبني تلك البيوت من غير حاجة إلى شيء من الآلات والأدوات.

واعلم : أن عجائب أحوال النحل في رئاسته ، وفي تدبيره لأحوال الرعية ، وفي كيفية خدمة الرعية لذلك الرئيس : كثيرة ، مذكورة في كتاب «الحيوان».

الثالث : إن النملة تسعى في إعداد الذخيرة لنفسها ، وما ذاك إلا لعلمها

__________________

(١) من (م).

بأنها قد تحتاج في الأزمنة المستقبلة إلى الغذاء ولا تكون قادرة على تحصيله في تلك الأوقات، فوجب السعي في تحصيله في هذا الوقت ، الذي حصلت فيه القدرة على تحصيل الذخيرة.

ومن عجائب أحوالها أمور ثلاثة :

أحدها : إنها إذا أحست بنداوة المكان ، فإنها تشق الحبة نصفين لعلمها بأن الحبة لو بقيت سليمة ، ووصلت إليها النداوة لنبت منها النبات فتفسد الحبة على النملة. أما إذا صارت مشقوقة نصفين لم تنبت.

وثانيها : إنه إذا وصلت النداوة إلى تلك الأشياء ، ثم طلعت الشمس ، فإنها تخرج تلك الأشياء من جحرها ، وتضعها [في الشمس (١)] حتى تجف.

وثالثها : إن النملة إذا أخذت في نقل متاعها إلى داخل الجحر أنذر ذلك بنزول الأمطار وهبوب الرياح. وهذه الأحوال تدل على حصول ذكاء عظيم ، لهذا الحيوان الصغير.

الرابع : إن العنكبوت ، تبني بيوتها على وجه عجيب. وذلك لأنها ما نسجت [الشبكة التي هي (٢)] مصيدتها ، إلا بعد أن تفكرت أنه كيف ينبغي [أن يكون (٣)] وضعها ، حتى تصلح لاصطياد الذباب بها. وهذه الأفعال (٤) فكرية ، وليست أقل من الأفكار الإنسانية.

الخامس : إن الجمل والحمار إذا سلكا طريقا في الليلة الظلماء ففي المرة الثانية يقدر على سلوك ذلك الطريق من غير إرشاد مرشد ، أو تعليم معلم. حتى أن الناس إذا ضلوا في ذلك الطريق ، وقدموا الجمل وتبعوه ، يجدون الطريق المستقيم عند متابعته. وأيضا : فإن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (ل).

(٤) أحوال (ل).

إلى بلد ، إلا عند الاستدلال بالعلامات المخصوصة. إما الأرضية كالجبال والرياح ، أو السماوية كأحوال الشمس والقمر والكواكب. وأما القطا ، فإنه يطير في الهواء من بلد إلى بلد طيرانا سويا من غير غلط ولا خطأ. وكذلك الكراكي ، تنتقل من طريق من أطراف العالم ، إلى طرف آخر ، لطلب الهواء الموافق من غير غلط ولا خطأ البتة. وهذا فعل يعجز عنه أفضل البشر ، وهذا النوع من الحيوان قادر عليه.

السادس : إن الدب إذا أراد أن يفترس الثور ، علم أنه لا يمكنه أن يقصده ظاهرا. فيقال : إنه يستلقي في ممر ذلك الثور ، فإذا قرب ذلك الثور ، جعل قرنيه فيما بين ذراعيه ، ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه. وأيضا : إنه يأخذ العصا ويضرب الإنسان ، حتى يتوهم أنه مات فيتركه. وأيضا : يصعد الشجر أخف صعود ، ويأخذ الجوز بين كفيه ، ويضرب ما في أحد كفيه على ما في الكف الآخر ، ثم ينفخ فيه ، ويزيل القشور ويأكل اللب.

السابع : يقال : إن الثعلب إذا اجتمع البق الكثير ، والبعوض الكثير في جلده. أخذ بفيه قطعة من جلد حيوان ميت ، ثم إنه يضع يديه ورجليه في الماء ، ولا يزال يغوص فيه قليلا قليلا ، [فإذا أحس البق والبعوض بالماء أخذت تصعد إلى المواضع الخارجة من الثعلب من الماء ، ثم إن الثعلب لا يزال يغوص قليلا قليلا (١)] وتلك الحيوانات ترتفع قليلا قليلا. فإذا غاص كل بدنه في الماء وبقي رأسه خارج الماء ، تصاعدت كل تلك الحيوانات إلى رأسه ، ثم إنه يغوص برأسه في الماء قليلا قليلا ، فتنتقل تلك الحيوانات إلى الجلدة الميتة ، وتجتمع فيها. فإذا أحس الثعلب بانتقالها إلى تلك الجلدة ، رماها في الماء ، وخرج من الماء سليما فارغا عن تلك الحيوانات المؤذية. ولا شك أنها حيلة عجيبة في دفع تلك المؤذيات.

الثامن : يقال : إن من خواص الفرس (٢) أن كل واحد منها يعرف

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) الخيل (م).

صوت الفرس الذي قابله ، والكلاب تتعالج بالعشبة (١) المعروفة بها. والفهد إذا سقي الدواء، المعروف بخانق الفهد ، طلب زبل الإنسان فأكله. والتماسيح تفتح أفواهها لطائر مخصوص يدخل في أفواهها ، وينظف ما بين أسنانها ، وعلى رأس ذلك الطائر ، شيء كالشوك. فإذا هم التمساح بالتقام ذلك الطائر ، تأذى من ذلك الشوك ، فيفتح فاه ، فيخرج ذلك الطائر. والسلحفاة تتناول بعد أكل الحية صعترا جبليا ، ثم تعود. قد شوهد ذلك.

وحكى بعض الثقات المحبين للصيد : أنه شاهد الحباري تقاتل الأفعى وتنهزم عنها إلى بقلة تتناول منها ، ثم تعود. ولا تزال تفعل ذلك وكان ذلك الشخص قاعدا في كنّ غائر ـ كما يفعله الصيادون ـ وكانت البقلة قريبة من ذلك الموضع ، فلما اشتغلت الحبارى بالأفاعي ، قلع الرجل تلك البقلة ، فعادت الحبارى إلى منبتها ، وأخذت تدور حول منبتها دورانا متتابعا ، ثم سقطت ، وماتت. فعلم ذلك الرجل أنها كانت تتعالج بأكلها من لسعة الأفعى ، وتلك البقلة هي الخس البري.

وأما ابن عرس فإنه يستظهر في قتال الحية بأكل السذاب. فإن النكهة السذابية مما تكرهها الأفعى. والكلاب إذا تدور بطونها أكلت سنبل الحنطة. وإذا جرحت اللقالق بعضها بعضها ، عالجت تلك الجراحات بالصعتر الجبلي.

فتأمل من أين حصل لهذه الحيوانات هذا الطلب ، وهذا العلاج؟

التاسع : إن القنافذ قد (٢) تحس بريح الشمال والجنوب قبل الهبوب ، فتغير المدخل إلى أجحرتها.

يحكى أنه كان بالقسطنطينية : رجل قد جمع مالا كثيرا ، بسبب أنه كان ينذر بالرياح قبل هبوبها ، وينتفع الناس بذلك الإنذار ، وكان السبب فيه : قنفذ في داره يفعل الفعل المذكور.

__________________

(١) بالعسة (ط).

(٢) يد (م).

العاشر : إن الخطاف ، صناع حسن في إيجاد العش لنفسه من الطين ، وقطع الخشب ، فإذا أعوزه الطين ، ابتل وتمرغ في التراب ، لتحمل جناحاه قدرا من الطين ، وإذا أفرخ بالغ في تعهد الفراخ ، ويأخذ ذرقها بمنقاره ، ويرميه عن العش ، ثم يعلمها إلقاء الذرق بالتولية نحو طرف العش [وترابط أرجلها في العش بالشعور ما دامت صغارا ، حتى لا يتحرك فتسقط من العش (١)].

الحادي عشر : إذا قرب الصائد من مكان فراخ البجعة (٢) ظهرت له البجعة ، وقربت منه ، تطمعة ، لأجل أن يتبعها ثم تذهب إلى جانب آخر سوى جانب فراخها.

الثاني عشر : ناقر الخشب. قل ما يجلس على الأرض ، بل يجلس على الشجر ، وينقر الموضع الذي يعلم أن فيه دودا.

الثالث عشر : الغرانيق. تصعد في الجو جدا عند الطيران. فإن حصل ضباب أو سحاب يحجب بعضها عن بعض ، أحدثت عن أجنحتها حفيفا مسموعا ، ويصير ذلك الصوت سببا لاجتماعها ، وعدم تفرقها ، وإذا نامت نامت على فرد رجل ، وقد اضطبعت الرءوس ، إلا (٣) القائد فإنه ينام مكشوف الرأس ، فيسرع انتباهه. وإذا أحس أحدها بآفة أو صوت ، صاح منبها الباقين.

الرابع عشر : النعامة. إذا اجتمع لها من بيضها عشرون أو ثلاثون. قسمتها إلى ثلاثة أثلاث ، فتدفن ثلثا منها في التراب ، وثلثا تتركه في الشمس ، وثلثا تختضنه. فإذا خرجت الفراريج ، كسرت ما كان في الشمس ، وسقت تلك الفراريج ما فيها من الرطوبات التي ذوبتها الشمس ، ورققتها ، فإذا قويت تلك الفراريج ، أخرجت الثلث الثالث الذي دفنته في الأرض [وثقبتها (٤)]

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) القبجة (ل ، طا).

(٣) إلى (ل).

(٤) من (ل).

وقد اجتمع فيه النمل والذباب والديدان والحشرات ، فتجعل تلك الأشياء طعمة لتلك الفراريج ، فإذا تم ذلك ، صارت تلك الفراريج ، قادرة على الرعي والطلب. ولا شك أن هذا الطريق حيلة عجيبة في تربية الأولاد.

ولنكتف من هذا النوع ، على هذا القدر الذي ذكرنا. فإن الاستقصاء فيه مذكور في كتاب «الحيوان»

وقد ظهر منها أن هذه الحيوانات قد تأتي بأفعال يعجز أكثر الأذكياء من الناس. ولو لم تكن عاقلة فاهمة ، وإلا لما صح منها شيء من ذلك. فهذا ما يتعلق بالعقل.

وأما النقل : فقد تمسكوا في إثبات قولهم بآيات :

الأولى : قوله تعالى حكاية عن سليمان (يا أَيُّهَا النَّاسُ : عُلِّمْنا : مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١) وسمعت بعض تلامذتي يقول : لا يبعد أن يكون [المراد من (٢)] تعلم منطق الطير : هو دعوة عطارد (٣).

الثانية : قوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ. قالَتْ نَمْلَةٌ : يا أَيُّهَا النَّمْلُ : ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) (٤) الآية.

الثالثة : قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ، فَقالَ : ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ ، أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ؟ لَأُعَذِّبَنَّهُ) (٥) وهذا التهديد لا يليق إلا مع العقلاء.

الرابعة : قوله تعالى حكاية عن الهدهد : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) (٦).

__________________

(١) النمل ١٦ والتكملة من (ل ، طا).

(٢) من (م ، ط).

(٣) كان يجب على الأستاذ أن يراجع تلميذه ويوبخه. وحكى المؤلف في موضع آخر أن هذا الرأي سمعه من بعض الفلاسفة.

(٤) النمل ١٨.

(٥) النمل ٢٠ ـ ٢١.

(٦) النمل ٢٢.

الخامسة : قوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ. وَالطَّيْرَ) (١).

السادسة : قوله تعالى : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ. كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) (٢) [قيل: معناه : كل من الطير قد علم صلاته وتسبيحه (٣)].

قال بعضهم : كنت جالسا عند «أبي جعفر الباقر» فقال لي : أتدري ما تقول هذه العصافير عند طلوع الشمس ، وبعد طلوعها؟ قلت : لا أدري. قال : فإنها تقدس ربها ، وتسأله قوت يومها.

وأقول (٤) : رأيت في بعض الكتب : أن في بعض الأوقات ، اشتد القحط ، وعظم حر الصيف. والناس خرجوا للاستسقاء [فلما فلجوا (٥)] قال : خرجت إلى بعض الجبال ، فرأيت ظبية جاءت إلى موضع ، كان في الماضي من الزمان مملوءا من الماء. ولعل تلك الظبية كانت تشرب منه. فلما وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئا من الماء ، وكان أثر العطش الشديد ظاهرا على تلك الظبية ، فوقفت وحركت رأسها إلى جانب السماء [مرارا (٦)] فأطبق الغيم وجاء الغيث الكثير.

ثم إن أنصار هذا القول : قالوا : لما بينا بالدلائل : أن هذه الحيوانات تهتدي إلى الحيل اللطيفة ، فأي استبعاد في أن يقال : إنها تعرف أن لها ربا مدبرا وخالقا؟.

فهذا تمام القول في دلائل هذه الطائفة.

واحتج المنكرون بكونها عاقلة عارفة (٧) : بأن قالوا : لو كانت عاقلة ، لوجب أن تكون آثار العقل ظاهرة في حقها. لأن حصول العقل لها ، مع أنه لا

__________________

(١) سبأ ١٠ والآية سقطت من (ل ، طا).

(٢) النور ٤١.

(٣) من (طا ، ل).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) قال المصنف (م).

(٦) من (طا ، ل).

(٧) سقط من (ل).

يمكنها الانتفاع البتة بذلك العقل : عبث. وهذا لا يليق بالفاعل الحكيم. وآثار العقل غير ظاهرة فيها ، لأنها لا تحترز عن الأفعال القبيحة ، ولا تميز بين ما ينفعها وبين ما يضرها. فوجب القطع بأنها غير عاقلة.

ولمجيب أن يجيب فيقول : إن درجات العلوم والمعارف كثيرة ، واختلاف النفوس في ماهياتها : محتمل. فلعل خصوصية نفس كل واحد منها ، لا تقتضي إلا لنوع معين من العقل ، وإلا لقسم مخصوص من المعرفة. فإن كان المراد بالعقل جميع العلوم الحاصلة للإنسان ، فحق أنها ليست عاقلة. وإن كان المراد بالعقل معرفة نوع من هذه الأنواع. فظاهر أنها موصوفة بهذه المعرفة.

وبالجملة : فالحكم عليها بالثبوت والعدم : حكم على الغيب. ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى.

وليكن هاهنا آخر كلامنا في النفوس الحيوانية [والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ل ، طا).

المقالة الرابعة

في

البحث عن أحوال الأرواح

السفلية المسماة بالجن والشياطين

الفصل الأول

في

أن القول بالجن

والشياطين هل هو ممكن أم لا؟

البحث الأول (١) :

ذهب جمهور أرباب الملل والنّحل إلى أن فرق (٢) العقلاء المكلفين أربعة : الملائكة ، والبشر ، والجن ، والشياطين. واختلفوا في أنه : هل الجن نوع والشياطين نوع آخر؟ فقال قوم (٣) : الأمر كذلك. وقال آخرون : الجن هم الأرواح الطاهرة الخيرة ، والشياطين هم الأرواح المؤذية الشريرة.

وأما المجوس : فلهم غلو شديد في هذا الباب ، إلا أنهم قالوا : العالم له إلهان : أحدهما : خيّر كريم سخي رحيم. والثاني : شرير بخيل قاسي مؤذي. والإله الخيّر له أعوان وجنود ، وهم الملائكة. والإله الشرير المؤذي له أعوان وجنود ، وهم الشياطين والأرواح الخبيثة. والإله الخير : له السماء ، وجنده في السماء ، والإله الشرير [في الأرض ، وجنده أيضا في الأرض ، وهذا الذي يسمونه بالإله الشرير هو الذي يسميه المسلمون بإبليس. والمسلمون متى وقع في هذا العالم شر ، أو فتنة ، أو محنة. فإنهم ينسبونه إلى إبليس ،

__________________

(١) زيادة.

(٢) أكثر فرق (م).

(٣) بعضهم (م).

ويتضرعون إلى الله خوفا منه. وبالغوا في هذا الغلو إلى [درجة (١)] أن أول كلمة يذكرونها ، هي قولهم : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فيستعيذون من شره. ثم يقولون من بعده : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وهذه درجة عظيمة موهمة للمقابلة.

إذا عرفت هذا [فنقول (٢)] قد اتفق أرباب الملل والنحل على وجود روح قوي من الأرواح المؤذية الخبيثة [الداعية إلى (٣)] الشرور. والاختلاف ليس إلا في الأسماء والألقاب.

وأما الثنوية : فهم أيضا مفرطون في هذا الاعتقاد. لأنهم يقولون : إله العالم هو النور والظلمة. وفي عالم الأنوار موجود هو النور المطلق ، وهو الإله الخير الرحيم ، وأنوار أخرى مختلفة بالعظم والصغر ، والقوة والضعف ، وهم الملائكة ، وهم أعوان النور الأعظم. وفي عالم الظلمات موجود ، هو الظلمة التامة الكاملة. وهو الإله المؤذي الشرير. وأرواح أخرى مختلفة بالعظم والصغر ، والقوة والضعف ، وهم الشياطين. وهم أعوان الظلام الأعظم. وهذا بعينه مذهب المشبهة من هذه الأمة.

فهذا تفصيل مذاهب أرباب الملل والنّحل في هذا الباب.

وأما الفلاسفة : فالمتأخرون منهم اتفقوا على إنكاره.

وأما المتقدمون : فلا أعرف مذهبهم في هذا الباب. إلا أني رأيت في كتاب «الأهوية والبلدان» ل «بقراط» أنه ذكر فيه : أن المياه الواقفة تورث من العلل والأمراض كذا وكذا. ومن جملتها : الصرع. ثم قال : «لا أريد به الصرع الذي يعالجه أصحاب الهياكل ، بل الصرع الذي يعالجه الأطباء» وهذا تصريح بأن الصرع قد يكون روحانيا وقد يكون جسمانيا.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) زيادة.

(٣) سقط (م).

والبحث الثاني :

إن القائلين بإثبات الجن والشياطين. يحتمل أن يذكروا فيه وجهين (١) :

الأول : أن يقال : الجن أجسام هوائية ، تقدر على أن تتشكل بأشكال مختلفة ، وتقدر على أن تتولج في بواطن الحيوانات ، وتجري في منافذها الضيقة. ولا بعد فيه. فإن الهواء المستنشق يصل في الهواء (٢) إلى أعماق الأعضاء. فكيف يبعد مثله من حيوان هوائي الذات.

والثاني : أن يقال : إنها نفوس مجردة ، ليست أجساما ، ولا حالة في الأجسام. وعلى هذا التقدير فههنا احتمالات.

الأول : أن يقال : إنها عالمة قادرة سامعة مبصرة ، من غير أن يكون لها حاجة في حصول هذه الصفات إلى آلات جسمانية. وتلك النفوس بنوعياتها (٣) مخالفة للنفوس البشرية.

والثاني : أن يقال : إنها تحتاج في كونها عالمة ، فاعلة إلى آلات جسمانية. إلا أن تلك الآلات جزء مخصوص من الهواء أو جزء (٤) معين من كرة الأثير. وتبدد أجزاء تلك الأجسام وتحللها [لا (٥)] يوجب موت تلك الأرواح. كما أن النفوس الإنسانية إنما تسمع وتبصر وتتفكر وتتخيل بواسطة أجسام لطيفة روحانية ، تتولد في القلب أو في الدماغ. ثم إن تلك الأجزاء تبدأ في التحلل والتفرق. ولم يلزم منه الطعن في كون الإنسان باقيا ، فكذا هاهنا.

الثالث : أن يقال : إن النفوس الناطقة التي فارقت أبدانها (٦) وبقيت دهرا داهرا ، وزمانا طويلا في إشراق المعارف القدسية. لا شك أنها قويت

__________________

(١) وجوها [الأصل].

(٢) الحال (م).

(٣) بعينها (م) بنوعها (ط).

(٤) وجزء (ل).

(٥) من (ل).

(٦) أجسامها (م).

[وكملت. فإذا اتفق حدوث بدن قريب الشبه من أبدان تلك النفوس المفارقة (١)] وتعلقت نفس بهذا البدن. كاملة المشابهة [في جوهرها (٢)] بتلك النفوس المفارقة ، لم يبعد أن يحصل لتلك النفوس نوع من أنواع التعلق بهذا البدن ، وبهذه النفس. وهذا أيضا محتمل.

والبحث الثالث من المباحث المتعلقة بهذا الباب :

أن هذه الأرواح المسماة بالجن والشياطين ، يجب أن تكون من [نتاج (٣)] الأرواح الفلكية ، ومن آثارها وشعبها. فالأرواح المتولدة المتشعبة من جوهر نفس «زحل» و «المريخ» هي المسماة بالنفوس الشريرة المؤذية. وأما الأرواح الخيرة السعيدة الطاهرة النقية ، فهي الأرواح المتولدة من أرواح السعديين. وعلى هذا الباب فقس.

وأما أرباب الملل والنحل فقانون قولهم يقتضي أن الروح الأعظم الشرير ، موجود برأسه ، ولا تعلق له بالأرواح الفلكية. والجن والشياطين شعبه ونتاجه وأولاده وأنصاره.

واحتج القائلون بإنكار الجن والشياطين من وجوه :

الحجة الأولى : إنها لو كانت موجودة ، لكانت إما أن تكون من الأجسام الكثيفة ؛ أو من الأجسام اللطيفة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بوجودها. أما بيان أنه يمتنع كونها من الأجسام الكثيفة ، فلأنها لو كانت كذلك ، لوجب في كل من كان سليم الحس ، أن يبصرها. إذ لو جوزنا حضور مثل هذه [الموجودات ، مع (٤)] أنا لا نراها ، لم يمتنع أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ، وشموس مشرقة ، ورعود قاصفة ، ورياح عاصفة ، مع أنا لا نحس بشيء منها. وذلك يوجب القول بالسفسطة.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط) ، (م).

(٣) نتائج (م) والكلمة ساقطة في البواقي.

(٤) سقط (ل).

وأما بيان أنه يمتنع كونها من الأجسام اللطيفة فذلك لأنها لو كانت كذلك ، لتفرقت وتمزقت عند هبوب الرياح القوية العاصفة ، فكان يجب أن تموت بأسرع الأسباب ، وأقل الموجبات. وأيضا : فالأجسام اللطيفة لا تكون قادرة على الأفعال الشاقة. والناس يصفونها بالقدرة على الأعمال الشاقة. ولما ثبت فساد القسمين ، ظهر أن القول بإثبات الجن والشياطين : باطل.

الحجة الثانية : إنا نرى المسلمين مطبقين على لعن الشياطين ، وإساءة القول فيهم ، ولو كانوا موجودين لتأذوا منهم. فإذا كانوا قادرين على الإضرار ، وجب أن يكون وقوع أهل الخير والدين في الضرر من جانبهم ، أكثر وأعظم من وقوع أهل الفساد فيه ، وحيث لم يظهر من هذا الباب أثر ولا خبر ، علمنا : أنه لا أصل لهذا الحديث.

الحجة الثالثة : إن أرباب الملل والنحل أطبقوا على تصديق الأنبياء عليهم‌السلام في دعواهم : أنهم مبعوثون إلى الخلق من قبل الله تعالى. والقول بالجن يوجب فساد دعواهم. لأنا لا نعرف الجن. وإذا كنا لا نعرفهم ، لم نعرف مقادير علومهم ، ولا مقادير قواهم وقدرهم. وعلى هذا التقدير ، فلا نوع من أنواع المعجزات ، إلا ويحتمل أن يكون ذلك النوع ، من هؤلاء الجن والشياطين. وحينئذ لا يبقى دليل على صحة قولهم في ادعاء الرسالة. فثبت : أن الإقرار بالجن والشياطين ، يوجب الطعن في النبوة.

فإن قالوا : هذا كلام ضعيف في دفع ذلك الإشكال القوي ، إذ لا يمتنع ممن يريد الإغواء والإضلال : أن يتحمل ذلك القدر من الطعن واللعن في تحصيل مراده.

الحجة الرابعة (١) : إنا نرى أرباب العزائم والتنجيمات واقعين في الفقر والجوع والعري ، والذلة والمسكنة. ولو كان لهذا الحديث أصل ، لكان الظاهر من حال أولئك الجن أن يخصوا أنصارهم وأحباءهم ـ وهم هؤلاء المعزّمون ـ

__________________

(١) الحجة الأولى : إنها لو كانت موجودة لكانت. إنا نرى .. إلخ (م).

بنوع من النعمة والكرامة. ولما لم نر شيئا من ذلك ، علمنا : أنه لا أصل لهذا الحديث.

وبالجملة : فالاستقراء يدل على أنه لا يتفاوت الحال البتة. لا بسبب الغلو في عداوتهم ، ولا بسبب الغلو في صداقتهم. وذلك يدل على أنه خيال محض.

الحجة الخامسة : إن هؤلاء الجن إن كانوا غير موصوفين بشيء من العقل البتة. فلا فائدة في التقرب إليهم ، وفي طلب الاتصال بهم. لأن المجنون المعتوه لا اعتماد على صداقته ولا على عداوته. وإن كانوا موصوفين بالعقل والفهم والإدراك ، وجب أن يكونوا باحثين عن مسائل الإلهيات والطبيعيات ، متفكرين في الدلائل [والشبهات (١)] وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن [يكون (٢)] ميلهم إلى المخالطة [بالعقلاء الأذكياء من البشر أكثر من ميلهم إلى المخالطة (٣)] بالجهال والأغمار. لكنا لا نرى أحدا من العقلاء المحقين المحققين يدعي ظهور الجن له البتة. وإنما يدعي هذه الواقعة : المجانين والأغمار من الناس [وذلك يدل على أن مدار هذا الباب ، إما على ترويج الأكاذيب على الأغمار ، وإما على الخلل والحيل في الخيالات والأفكار (٤)].

فهذا مجموع ما يمكن أن يقال في إنكار الجن والشياطين.

والجواب عن الحجة الأولى : أن يقال : إن قولكم : «لو كانت الجن والشياطين موجودة لكانت [إما أن تكون جسما كثيفا أو جسما لطيفا : مفرع على أنه لو كان موجودا لكان (٥) جسما. فلم قلتم : إن الأمر كذلك؟ ولم لا يجوز أن يكون جوهرا مجردا قائما بذاته ، وليس بجسم ولا حال في جسم؟ فإنكم ما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا القسم ، لم يتم كلامكم.

__________________

(١) فضائل (طا ، ل).

(٢) أن لا يكون (م).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) سقط (طا ، ل).

السؤال الثاني : سلمنا أنه جسم. فلم لا يجوز أن يكون جسما كثيفا؟ قوله : «لو كان كذلك ، لوجب أن يراه كل أحد ممن له حس سليم» قلنا : هذه المسألة قوية ، سبق الاستقصاء فيها في كتاب «الحس والمحسوس».

السؤال الثالث : سلمنا أنه جسم. فلم لا يجوز أن يكون جسما لطيفا؟ قوله : «لو كان كذلك ، لتمزق وتفرق عند هبوب الرياح الشديدة».

قلنا : هاهنا احتمالات :

أحدها : لم لا يجوز أن يقال : إنها لطيفة. بمعنى أنها شفافة غير ملونة؟ فلا جرم لا تجب رؤيتها عند الحضور ، إلا أنها صلبة في ذواتها قوية في تركيبها ، فلا جرم تبقى مصونة عن التفرق والتمزق.

وثانيها : إن الإنسان. إما أن يكون عبارة عن النفس ، أو عن الجسم. فإن كان الأول فجوزوا مثله في الجن وسقطت هذه الشبهة. وإن كان الثاني ، فحينئذ يجب أن يقال : إنه جسم محفوظ باق من أول العمر إلى آخره ، في داخل هذا البدن المتفرق المتحلل. وبالطريق الذي عقلتم ذلك ، فاعقلوا مثله في بقاء الجن والشياطين مدة طويلة ، مع كونها كثيفة.

وثالثها : أليس أن من المتكلمين من قال : «الإنسان جزء لا يتجزأ في القلب ، وأما سائر أجزاء البدن ، فهي كالآلات» وعلى تقدير أن يكون الإنسان جسما ، فهذا القول أقوى الأقوال. فلم لا يجوز أن يكون الحال في الجن [والشياطين (١)] كذلك؟.

وأما الجواب عن الشبهة الثانية : فهو أن مراتب القدر مختلفة ، فلا يبعد أن يقال : إنهم وإن قدروا على الأفعال الشاقة ، إلا أنه لا قدرة لها على التصرف في أبدان البشر ، إلا بشرط خاص. وعند فقدان ذلك الشرط لا تحصل تلك القدرة.

الجواب عن الشبهة الثالثة : إن ما ذكرتموه معارض بوجه آخر. وهو أن

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

الأنبياء عليهم‌السلام ، أطبقوا على إثبات الجن والشياطين. فالطعن في عدمهم (١) يوجب الطعن في نبوءة الأنبياء.

فإن قالوا : إذا كان القول بوجودهم ، يوجب الطعن في نبوتهم ، فالقول بعدمهم يوجب الطعن أيضا. فهذا الطعن لازم على كلا التقديرين. فنقول : لنا في إثبات النبوءة طريق عجيب نذكره في باب النبوات ، ولا يتوجه عليه شيء مما ذكرتموه.

وأما الجواب عن الشبهة الرابعة والخامسة : فإنهما من باب الإقناعيات الضعيفة. وكل من له عقل سليم ، أمكنه التقصي عنهما.

__________________

(١) وجودهم (م).

الفصل الثاني

في

الطرق الدالة على إثبات الجن والشياطين

اعلم : أنا بينا : أنه لم يوجد دليل يدل على نفيهم (١) وفساد القول بهم. وظاهر أيضا : أنه لم يوجد دليل عقلي يوجب الجزم بوجودهم. فيبقى الكلام فيهم في حيز التوقف. إلا أنا رأينا الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مطبقين على إثباتهم ، وعلى القول بوجودهم ـ وذلك حجة قوية من المقدمات المقبولة ـ ورأينا المعزمين مطبقين متفقين على وجودهم ، حتى وضعوا لكل رئيس من رؤسائهم : عزيمة معينة. وزعموا : أنهم ينتفعون بهم ، ويجدون منهم آثارا صالحة. ورأينا أكثر الزهاد وأرباب المجاهدات والمكاشفات ، يزعمون : أنهم شاهدوا الجن ، وتكلموا معهم. فإن اتفق لإنسان أن يعتبر هذه الأحوال ، ويشاهد شيئا منها ، فذاك هو البغية الأسنى ، والمقصد الأقصى.

ومن الناس من يحتج عليهم بوجوه أخرى :

الحجة الأولى : إن الإنسان إذا ألف الخلوة والوحدة ، واشتغل بالتصفية والرياضة ، وجد في نفسه ، كأن مناجيا يناجيه بكلمات مرتبة منظومة معلومة ، ورأى أشخاصا موصوفة بصور مخصوصة وصفات مخصوصة. فنقول : هذه الكلمات وهذه الأشخاص. إما أن تكون عدما محضا ونفيا صرفا ، وإما أن

__________________

(١) نفيها (م).

تكون أمورا موجودة في الذهن والخيال ، وإما أن تكون أشياء موجودة في الأعيان كائنة في الجود. والقسمان الأولان باطلان ، فيبقى الثالث. وذلك هو الجن والشياطين. تناجيه وتناديه في سره وفي قلبه وباطنه.

وإنما قلنا : إن القول بأن تلك الكلمات الواردة في الخواطر ، وأن تلك الصور المشاهدة في الباطن ، يمتنع أن تكون عدما محضا ونفيا صرفا. وذلك لأنا نسمع تلك الحروف من القلب والباطن ، ونفهم معانيها ، ونميز بينها وبين غيرها. فلو (١) جاز القول بأنها مع اتصافها بهذه الصفات المعينة والخواص المعينة عدم محض ، ونفي صرف. لم يمتنع أيضا في كون هذه الصور المخصوصة (٢) بهذه الحواس (٣) كونها عدما محضا ونفيا صرفا. وكل ذلك باطل محال.

وأما القسم الثاني : وهو أنها موجودات في الأذهان ، لا في الأعيان. فهذا باطل قطعا. ويدل عليه وجهان (٤) :

الأول : إنا لو جوزنا أن تكون هذه الألفاظ المترتبة المتعاقبة ، وأن تكون هذه الصور المخصوصة المتميزة عما يغايرها ، بألوانها وأشكالها : موجودات في الأذهان لا في الأعيان ، فلنجز في هذه الصور [المحسوسة (٥)] : كونها كذلك. ويلزم منه السفسطة.

والثاني : إن محل هذه الصور. إما أن يكون جسما مخصوصا كدماغ أو قلب ، وإما أن يكون جوهرا مجردا. والأول باطل. [لأن الصور العظيمة يمتنع انطباعها في المحل الصغير. والثاني أيضا (٦) باطل]. لأن الجوهر المجرد لا يحصل فيه جوانب مختلفة ، ولا أجزاء متباينة. وإذا كان كذلك ، كانت الصورة

__________________

(١) فلو كانت عدما محضا مع اتفاقها بهذه ... إلخ (م).

(٢) المحسوسة (م).

(٣) الحواس (س) الخواص (ل).

(٤) وجوه [الأصل].

(٥) من (ل).

(٦) سقط (طا ، ل).

المنطبعة فيه ، يمتنع أن يحصل فيها الجوانب المختلفة ، والأجزاء المتباينة بحسب الأحياز والجهات. وإذا كان كذلك ، كانت الصورة الحالة في الجوهر المجرد يمتنع أن يكون لها شكل ، وجوانب متميزة. بحسب الجهات. وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ما كان موصوفا بهذه الصفات ، يمتنع حلوله في الجوهر المجرد. فثبت بهذا البيان الذي لخصناه : أن هذه الألفاظ الذهنية ، وهذه الصور المتخيلة ، إما أن تكون عدما محضا ، ونفيا صرفا. وإما أن تكون موجودات [إلا أنه لا وجود لها إلا في الأذهان. وإما أن تكون موجودات (١)] في الأعيان ، وثبت بطلان القسمين الأولين. فبقي القسم الثالث. وهو أنها أشخاص موجودة في الأعيان ، وأنها تتراءى للناس وتخاطبهم. ثم هاهنا دقيقة أخرى : وهي أنه كلما كان اشتغال الإنسان بالمحسوسات (٢) أكثر ، كانت تلك الخيالات أضعف. وكلما كان انقطاعه عن المحسوسات أكثر ، كان بقاؤه في الفكر والخلوة أكثر ، فكان ظهور هذه الأحوال أكثر. فهذا يقوى في العقل وفي الخواطر : أنه لا يزال يتزايد ذلك الظهور ، ويقوى ذلك التجلي ، حتى ينتهي إلى الانكشاف التام لتلك الأشخاص الروحانية. وهذا كلام قوي في هذا الباب.

الحجة الثانية : إن هذه الوساوس التي تخطر بالبال والكلمات التي تقع في القلوب ، لا بد لها من فاعل. وفاعلها. إما ذلك الإنسان ، وإما غيره. والأول باطل. لأن ذلك الإنسان قد يكون في غاية النفرة والكراهية لتلك الخواطر حتى إنه قد يحتال بالحيل الكثيرة في أن يدفعها عن نفسه فلا يقدر عليها البتة. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون فاعلها هو هذا الإنسان ، فوجب أن يكون المتكلم بتلك الخواطر ، والناطق بها : فاعل آخر غير الإنسان ، وأن ذلك الفاعل يقدر على إيصال نطقه إلى باطن الإنسان. ولا نعني بالجن إلا هذا الفاعل.

__________________

(١) من (س ، ل).

(٢) كلما كان اشتغال الناس بالمحسوسات أقل ، وكان بقاؤهم في الفكر وفي الخلوة أكثر ، كان ظهور ... الخ (ل ، س).

قالت الفلاسفة : «لم لا يجوز أن يكون فاعل تلك الكلمات ، وتلك الألفاظ : هو القوة المفكرة ، المنتقلة من صفة إلى صفة ، ومن حالة إلى حالة؟ ونقول : هذا الكلام طال عهد الإنسان بسماعه ولهذا السبب تمكن في قلوبهم».

وهو باطل قطعا ويدل عليه وجهان :

الأول : إنا بينا في المقالات المتقدمة : أن الموصوف بجميع أنواع الإدراكات [والمتصرف (١)] بجميع أنواع التصرفات [في هذا البدن يجب أن يكون شيئا (٢)] واحدا. وهو الإنسان. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يقال : الفكر عمل شيئا آخر سوى الإنسان. لأنا قد دللنا على أن الإنسان لم يفعل هذه الألفاظ ، لأنه لا يريدها. بل يكرهها. فبطل هذا الكلام.

الثاني : إن هذا الذي سميتموه بالقوة المفكرة. إما أن يكون هو الإنسان ، وإما أن يكون صفة من صفاته وحالة من أحواله ، وإما أن يكون فاعلا مستقلا بنفسه ، قد تقدم على الأفعال باختيار نفسه. والأول باطل. لأنا بينا أن الإنسان لا يريد هذه الحالة. والثاني باطل. لأن الصفة القائمة بذات الإنسان ، لا يمكنها أن تقدم على فعل ، على خلاف إرادة الإنسان. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أن الفاعل لتلك الكلمات فاعلا آخر غير الإنسان ، وغير مجموع صفاته. فنقول : ذلك الفاعل لا يمكنه أن يأتي بتلك الكلمات ، إلا إذا كان عالما قادرا. فإنه إن لم يكن عالما بأحوال تلك الكلمات ، يمتنع منه القصد إلى تكوينها. لأن القصد إلى ما يكون معلوما محال. فذلك الفاعل عالم بحقائق الأشياء ، وقادر على تكوين تلك الكلمات. وهو شيء مغاير لذات الإنسان ، ولمجموع صفاته. فذلك الشيء إما أن يكون عرضا حالا في جسم ، وإما أن يكون جوهرا قائما بذاته. والأول باطل. لأن العلم الضروري حاصل بأن العرض القائم بالغير ، لا يكون حيا عالما قادرا فاعلا للأفعال الشاقة. ولما بطل

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

هذا ، ثبت أنه ذات قائمة بالنفس ، عالمة ، قادرة على الإتيان بأفعال على خلاف إرادة الإنسان ، وقادرة على إيصال تلك الكلمات إلى باطن قلب الإنسان. ولا نريد بالجن والشياطين إلا هذا. فنحن سميناه بهذا الاسم ، وأنتم سميتموه بالقوة المفكرة. فالنزاع ليس إلا في اللفظ. وأما المعنى فمتفق عليه. فهذا تمام الكلام في هذا الباب.

الحجة الثالثة : إن أصحاب التجارب قد جربوا عمل الترآبي (١) والصبيان يشاهدون حضور صور مخصوصة. والرجل يأمر الصبي ، حتى يسأل تلك الصور عن أمور مخفية ، وأحوال مكنونة. ثم إن ذلك الصبي يقول : إنهم قالوا : كذا وكذا. فإذا جرب ، وجد الأمر على وفق تلك الإنذارات. وذلك يدل على ما قلناه [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) قد جربوا أعمالا ، والصبيان ... الخ (م).

(٢) سقط (م).

الفصل الثالث

في

البحث عن حقيقة الالهام

والوسوسة واستقصاء القول فيهما

اعلم : أن الأفعال الإنسانية لها مبادي ثلاثة ، مرتبة بعضها على بعض. فأعلاها وأبعدها عن وقوع الفعل : العلم والإدراك. وذلك لأنه ما لم يقع في قلبه : أن الفعل الفلاني راجح [النفع ، أو خالص النفع ، فإنه لا يفعله. وما لم يقع في قلبه أن الفعل الفلاني راجح الضرر (١)] أو خالص الضرر أو معادل الضرر ، فإنه لا يتركه. وقد بالغنا في تقرير هذه القاعدة في باب «الدواعي والصوارف» من هذا الكتاب. ولأجل أن الإنسان لا يفعل فعلا ، إلا لطلب الخير ، سمي هذا الفاعل فاعلا مختارا. والمرتبة الثانية ـ وهي المرتبة المتوسطة ـ أنه إذا حصل اعتقاد النفع الخالص أو الراجح ، ترتب عليه على سبيل اللزوم : حصول ميل قوي متأكد [في الفعل. وإذا حصل اعتقاد الضرر الخالص أو الراجح ترتب عليه على سبيل اللزوم حصول ميل قوي متأكد في الترك (٢)].

والمرتبة الثالثة ـ وهي المرتبة الأخيرة القريبة المتصلة بالفعل ـ أن الأعضاء إذا كانت سليمة قوية على الفعل والترك. فإذا انضم ذلك الميل المتعين إلى تلك القدرة القائمة بالعضو ، صار مجموع ذلك الميل وتلك القدرة : مؤثرا في حصول الفعل وهذا كلام ملخص معلوم قد سبق تقريره في باب الدواعي والصوارف».

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) العبارة من (طا ، ل).

وإذا ثبت هذا ، فنقول : وسوسة الشياطين وإلهام الملك. إما أن يقعا في المرتبة الأخيرة ، أو في المرتبة المتوسطة ، أو في المرتبة الأولى. لا جائز وقوعها في المرتبة الأخيرة ، لأن تأثير مجموع القدرة مع الميل في الفعل : أمر ضروري لازم. والواجب لذاته ، يمتنع أن يكون لغيره فيه أثر. ولا جائز أيضا أن يحصل للإلهام والوسوسة أثر في المرتبة المتوسطة. لأن تأثير اعتقاد أنه مشتمل على النفع الخالص أو الراجح في وجود إرادة الفعل : تأثير ذاتي ضروري [وكذلك تأثير اعتقاد أنه مشتمل على الضرر الخالص أو الراجح في وجود كراهية الفعل تأثير ضروري (١)] والأشياء الضرورية ، يمتنع أن يكون لغيرها فيها أثر. ولما بطل هذان القسمان ، تعين أن يكون تأثير الوسوسة والإلهام في المرتبة الأولى فقط مثل : أنه كان ناسيا [لما في المعصية الفلانية من اللذة والطيب والراحة ، فالشيطان يذكره بهذه الحالة. أو كان ناسيا لما (٢)] في الطاعة الفلانية من البهجة والسعادة والآثار التامة الكاملة ، فالملك يذكره ذلك.

ولما تلخص هذا البحث الشريف العالي ، ظهر بهذا صدق ما ورد في الكتاب الإلهي. حيث أخبر عن الشيطان أنه قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ ، فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ، فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (٣) وهذا بحث شريف في غاية الجلالة. ولما شرفنا الله بفضله ورحمته بالإرشاد إلى هذه الأسرار الروحانية. فلنفرع عليها ما يليق بها من التفاريع :

الفرع الأول : إن الشيطان لا يقوى على إلقاء الوسوسة ، إلا بإعانة من القوى المزاجية ، والقوى النفسانية. وذلك لأنا قد بينا : أن الناس مختلفون في الميل إلى بعض الأشياء ، والنفرة عن بعض الأشياء. فالذي يريده هذا ، يبغضه ذاك ، وبالعكس. وأقسام هذه الاختلافات بحسب الرغبة في المال والجاه ، وبحسب أقسام المطعومات والمشروبات والمنكوحات. والتفرجات : مختلفة غير مضبوطة. فإذا أراد الشيطان حمله على فعل من الأفعال القبيحة ،

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) إبراهيم ٢٢.

ذكره ما فيه من اللذات والراحات بما يميل طبعه إليه. وإذا أراد الملك منعه عنه ذكره ما فيه من المكروهات التي ينفر طبعه عنها.

والفرع الثاني : وهو أن أصحاب المكاشفات اضطربوا في ذكر الفرق المضبوط بين الخواطر الشيطانية ، وبين الخواطر الرحمانية (١) ، وطالت كلماتهم فيه. وأنا أقول : إنا قد بينا : أن السعادات العقلية المتعلقة بعالم المفارقات ، أكمل وأفضل من السعادات المتعلقة بعالم الجسمانيات. فكل ما دعاك إلى شيء من الروحانيات ، فهو الداعية الرحمانية ، وكل ما دعاك إلى شيء من لذات هذا العالم وخيراته ، فهو الداعية الشيطانية. إلا أن هاهنا مغلطة يجب التنبه لها. فإنه ربما ظن في الفعل في أول الأمر أنه من الداعية الرحمانية ، ولا يكون كذلك ، بل يكون من الداعية الشيطانية. وربما كان بالضد منه. ومثاله : أن من واظب على العلوم الحقيقية والزهد الخالص في الدنيا ، فهذا قد يظن به أنه داعية رحمانية ، لكن قد لا يكون الأمر كذلك ، وذلك إذا كان مقصوده من ذلك العلم المباهاة على الأقران ، وطلب الرئاسة في عالم الجسمانيات ، ومن واظب على ترك الالتفات إلى الأمور المعتبرة في العرف والعادة ، فهذا قد يظن به أنه داعية شيطانية. لكن قد لا يكون كذلك. إذا كان مقصوده منه : فطم النفس عن الالتفات إلى هذه الدنيا وطيباتها.

فيجب في كل فعل في القلب ميل إليه [أن ينظر فيه (٢)] فإن كان المقصود الأخير منه : التوجه إلى عالم الغيب فهو الداعية الرحمانية ، وإن كان المقصود منه رعاية مصلحة من مصالح هذا العالم الجسماني ، فهو الداعية الشيطانية. وهذه أبحاث عميقة ، ينتفع بها في الدين (٣) والدنيا. ونسأل الله [التوفيق (٤)] والخير والرحمة والكرم والنعمة.

__________________

(١) الروحانية (م).

(٢) زيادة.

(٣) الدنيا والآخرة (ل ، طا).

(٤) من (ل).

المقالة الخامسة

في

تفاصيل الكلام في

الأرواح العالية الفلكية

الفصل الأول

في

اقامة الدلالة على أن

الأفلاك والكواكب : أحياء ناطقة

اعلم : أن أهل الظاهر إذا سمعوا هذا الكلام استبعدوه. وهذا الاستبعاد مستبعد منهم جدا. وذلك لأنهم يروون خبرا (١) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه قال : «إن الشمس عند الغروب ، يذهب بها ، إلى ما تحت العرش ، وعند الطلوع تسجد لله تعالى سجدة ، ثم تطلع» ومعلوم أن السجود لا يصح منها إلا إذا كانت عارفة بربها. وذلك يقتضي إثبات الحياة والقدرة والعلم ، فوجب بمقتضى هذا الخبر : كون الشمس حيوانا مطيعا لله عزوجل. وسنذكر في فصل مفرد : أن الآيات الكثيرة من القرآن تدل على أن الأمر كذلك. إذا عرفت هذا فنقول : اختلف أهل البحث والنظر فيه :

أما الفلاسفة : فقد أطبقوا على أن الأفلاك والكواكب : أحياء عاقلة.

__________________

(١) إن هذا الخبر تصوير لحالة خضوعها لله تعالى. ولا يدل على أن الأفلاك والكواكب : أحياء ناطقة. وإنما يدل على ما يدل عليه قوله تعالى : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ : ائْتِيا ـ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ـ قالَتا : أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت ١١] وقول الله تعالى لهما فيه وجهان. أحدهما : أنه قول تكلم به. والثاني : أنها قدرة منه ظهرت لهما ، فقامت القدرة مقام الكلام في بلوغ المراد «وقالتا : أتينا طائعين» فيه أيضا وجهان. أحدهما : أنه ظهور الطاعة منهما حيث انقادا وأجابا ، فقام مقام قولهما. والثاني : بل خلق الله فيهما الكلام ، فتكلمتا كما أراد تعالى [انظر تفسير القرطبي] والصحيح : أن نقول : ليست الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة ، لتنتفي شبه العابدين للقمر والكواكب. فإنهم يدعون أن للقمر والكواكب حياة كحياة البشر ، وإذا كانت الآيات تحتمل أكثر من معنى ، فالمعنى المناسب لعظمة الله أحق بالقبول من غيره.

وأما أهل الكلام فبالغوا في إنكاره.

والذي يدل على أن الأفلاك والكواكب أحياء عاقلة : وجوه بعضها برهانية ، وبعضها إقناعية وقد ذكرنا مرارا : أن هذه المطالب العالية الشريفة الرفيعة ، يجب أن يبالغ الإنسان في معرفتها بأي طريق كان ، سواء كان برهانيا أو إقناعيا.

الحجة الأولى : وهي الحجة الفلسفية القديمة ـ قالوا : ثبت إما بالحس وإما بالبرهان: أن الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة ، وكل متحرك فحركته إما أن تكون طبيعية أو قسرية أو إرادية. والأولان باطلان ، فتعين الثالث. وذلك يقتضي كون الأفلاك أحياء. أما بيان الحصر : فهو أنه قد ثبت في باب خواص الواجب والممكن : أن كل جسم يصدر عنه أثر مخصوص ، لا بالقسر ولا بالعرض ، فإنه يجب أن يكون ذلك لقوة موجودة فيه ، تناسب ذلك الأثر. إذ لو لم يكن ذلك ، لكان حال ذلك الجسم بالنسبة إلى ذلك الأثر كحال سائر الأجسام بالنسبة إليه ، وكان ذلك التخصيص رجحانا لأحد طرفي الممكن المتساويين على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال. فنقول : ذلك الأثر ، إذا لم يكن بالقسر ، فلا بد وأن يكون لقوة موجودة فيه. وتلك القوة إما أن يكون لها شعور بما صدر عنها ، وهي القوة الحيوانية الإرادية ، أو لا يكون لها شعور بذلك الأثر ، وهي القوة الطبيعية المحضة. وأما إذا صدر عنه ذلك الأثر بالقسر ، فهو الذي يكون بالقسر. فقد ثبت : أن كل جسم يختص بأثر ، فذلك الأثر إما أن يكون طبيعيا أو قسريا أو إراديا. وذلك يدل على صحة الحصر المذكور. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن تكون حركة الفلك طبيعية ، لأن الحركة تقتضي إزالة حالة حاصلة. فتلك الحالة ، إما أن تكون طبيعية أو لا تكون ، فإن كانت طبيعية مع أنا فرضنا أن الطبيعية تقتضي إزالتها ، فحينئذ يلزم أن يكون وجود تلك الحالة [طبيعيا (١)] وأن يكون زوالها طبيعيا ، وذلك

__________________

(١) سقط (ل).

يوجب الجمع بين النقيضين. وهو محال. فثبت : أن الطبيعة (١) لا توجب الحركة ، إلا عند حصول حالة منافرة للطبيعة. فلا جرم أن الطبيعة توجب إزالتها. وإذا كان كذلك ، فلو كانت حركة الفلك طبيعية [لكانت تلك الحركة هربا عن حالة منافرة بالطبع. وذلك محال لوجهين :

الأول : إنه لو كان الأمر كذلك (٢)] لكانت تلك الحركة مستقيمة. لأن الخط المستقيم أقصر من المستدير. ومتى أمكن اتصال الجسم إلى الحالة الطبيعية بالطريق الأسهل ، امتنع العدول إلى الطريق الأصعب. فثبت : أن كل حركة طبيعية ، فهي مستقيمة بالطبع. فينعكس انعكاس النقيض : أن ما لا يكون مستقيما ، لا يكون طبيعيا.

الثاني : إنه على التقدير الذي ذكرناه ، تكون الحركة هربا طبيعيا عن تلك الحالة ، والهرب الطبيعي عن الشيء يمتنع أن يكون عين الطلب الطبيعي لذلك الشيء ، لكن الحركة المستديرة عن النقطة المعينة ، عين الطلب لها ، فيمتنع كون الحركة المستديرة طبيعية. وإنما قلنا : إنه يمتنع كون الحركة الفلكية قسرية لوجوه :

الأول : إنه يمتنع انتهاء كل قسر إلى قسر آخر ، لغير نهاية ، بل يجب الانتهاء في هذه الحركة الدورية إلى ما لا يكون بالقسر.

والثاني : إن القسر لا يكون دائما ، ولا أكثريا. وهذه الحركة دائمة على نهج واحد.

الثالث : إن القسر هو الذي يكون على خلاف الطبيعة (٣) ولما ثبت أن حركات الأفلاك يمتنع كونها طبيعية ، ظهر أنه يمتنع أيضا كونها قسرية. فظهر بما ذكرنا : أن حركات الأفلاك إما أن تكون طبيعية أو قسرية [أو إرادية ويمتنع

__________________

(١) الطبيعية (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) الطبع (م).

كونها طبيعية أو قسرية (١)] فبقي أن تكون إرادية ، وهو المطلوب. فإن قيل : هذا الحصر ممنوع. ولم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى يحركها بقدرته ابتداء ، من غير اعتبار حال شيء من الوسائط والقوى؟ أما قوله : «لو لم يختص ذلك الجسم بخاصية ، لأجلها صار أولى بقبول الأثر الخاص ، وإلا لكان اختصاصه من بين سائر الأجسام ، بذلك الأثر المعين : رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. وهو محال» فنقول : كما أن ذلك الجسم اختص بذلك الأثر المعين ، فكذلك اختص بتلك القوة [المخصوصة التي جعلتموها مبدأ لذلك الأثر. فيلزم أن يكون اختصاص ذلك الجسم بتلك القوة (٢)] لأجل قوة أخرى. ويلزم إما الدور وإما التسلسل. وهو محال. وإن عقل أن يختص ذلك الجسم المعين بتلك القوة ، دون سائر الأجسام ودون سائر القوى ، لا لقوة أخرى. فلم لا يعقل مثله في اختصاص ذلك الجسم بذلك الأثر؟

السؤال الثاني : سلمنا الحصر. فلم لا يجوز أن يكون المحرك قوة طبيعية؟ قوله (٣) : «لأنه يقتضي كون الشيء الواحد مطلوبا مهروبا معا. وهو محال» قلنا : لا نسلم أن ذلك محال. ألا ترى أن الحجر حال نزوله يكون ثقله موجبا وصوله إلى نقطة معينة ، ثم عند وصول الحجر إليها ، ثقله يوجب انتقاله عنها. فتلك النقطة قد كانت مطلوبة لتلك الطبيعة. ثم إنها بعينها صار مهروبا عنها. فإذا كان هذا حاصلا في الحركة المستقيمة الواحدة ، فلم لا يجوز مثله في الحركة المستديرة؟ ثم نقول : هذا الذي الزمتموه في الحركة الطبيعة الواحدة ، قائم أيضا في الحركة الإرادية ، فإن الشيء كما أنه يمتنع أن يكون مطلوبا ومهروبا بحسب الطبيعة الواحدة ، فكذلك يمتنع أن يكون مطلوبا مهروبا بحسب الإرادة الواحدة. لأن الهرب الإرادي عن الشيء يمتنع أن يكون هو بعينه نفس الطلب الإرادي لذلك الشيء. فثبت : أن الإشكال الذي ذكرتموه في الطبيعة ، وارد عليكم في الإرادة.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) أما قوله لأنه يقتضي (م).

والجواب أن نقول : اختصاص جسم الفلك بالقوة المعينة ، إنما كان لأجل أن هيولى ذلك الفلك مخالفة بالماهية لهيوليات سائر الأفلاك. فتلك الهيولي لما هي هي ، ما كانت مستعدة إلا لتلك القوة المخصوصة. وبهذا الطريق حصل الاستغناء عن قوة أخرى. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المقتضى للحركة الفلكية هو تلك الهيولى ، من غير حاجة إلى إثبات قوة أخرى وطبيعية أخرى؟ فنقول : هب أن الأمر كذلك ، إلا أن تأثير تلك الهيولى في تلك الحركة ، إما أن يكون مع الشعور ، أو لا مع الشعور. فإن كان مع الشعور فهو الإرادة. وإن كان لا مع الشعور فهو الطبيعة. ويعود التقرير بتمامه كما تقدم.

وأما قوله : «إن في الحركة المستقيمة أيضا يقتضي كون النقطة الواحدة مطلوبة بالطبع ، ثم تصير متروكة بالطبع» قلنا : هذا بعيد لأن الحجر النازل حال كونه متوجها إلى نقطة واحدة معينة ، لم يكن توجهه إلى تلك النقطة عين هربه عنها [وحال وصول الحجر إلى تلك النقطة يصير هاربا عنها. وهو حال هربه عنها ، غير متوجه إليها (١)] فثبت : أن في الحركة المستقيمة : ليس التوجه إلى الشيء ، عين الهرب منه ، ولا كذلك بالعكس ، بل هو قبل وصوله إلى تلك النقطة ، يكون طالبا لها وغير هارب عنها ، وعند وصوله إليها يكون هاربا عنها ، وغير طالب لها. بخلاف الحركة المستديرة ، فإن بتقدير كونها طبيعية يكون [عين (٢)] الهرب عن تلك النقطة عين الطلب لتلك النقطة المعينة ، وحينئذ يلزم المحال. فظهر الفرق بين الصورتين.

وأما قوله : «ما ذكرتموه في الطبيعة ، فهو لازم عليكم في الإرادة» فنقول : الفرق بين الصورتين : أن الطبيعة قوة واحدة ، ولا يعرض (٣) لها اختلاف أحوال ، وتبدل اعتبارات ، بخلاف الإرادة ، فإنها تابعة لتصورات

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ل).

(٣) ويعرض (ل).

مختلفة. فإذا اختلفت تلك التصورات ، اختلفت تلك الإرادات. فظهر الفرق بين الصورتين. فهذا هو الحجة البرهانية في المسألة. وما سواها وجوه إقناعية. وما بها بأس.

الحجة الثانية : إنا رأينا أن أكثف الأجسام وأشدها ظلمة هو الأرض. فلا جرم كانت في غاية البعد عن قبول الحياة. فلما امتزجت بسائر العناصر ، حصل فيها نوع من اللطافة والاعتدال. وبسبب حصول ذلك القدر من اللطافة والاعتدال استعدت لقبول قوة الحياة. ثم إن الماء ألطف من الأرض ، فلا جرم صارت الطبيعة المائية ، أقرب إلى قبول الحياة من الطبيعة الأرضية. ولهذا السبب فإنه أينما حصل الماء وامتزج بالأرض ، تولد منه أنواع النبات وأنواع الحيوان.

وأما الهواء فإنه أرق من الماء وألطف منه ، فلذلك صار مادة للحياة ، حتى أن قوما ظنوا أنه لا معنى للروح والنفس إلا هذا الهواء المتردد.

وأما النار الصرفة البسيطة الجارية مجرى الحرارة الغريزية ، فلا شك أنها هي السبب الكامل لحصول الحياة. ولذلك قالت الأطباء : أن القوة الحيوانية والحرارة الغريزية متلازمتان. فهذا الاستقراء يدل على أن الجسم كلما صار أبعد عن الكثافة العنصرية ، وأقرب إلى اللطافة ، والحرارة المعتدلة : صار أولى بقبول الحياة. ومعلوم : أن الأجرام الفلكية في غاية اللطافة والشفافية ، والنور والاعتدال. فوجب أن تكون تلك الأجسام ، أولى الأجسام بقبول الحياة والإدراك.

الحجة الثالثة من الوجوه الإقناعية : إن النفس الحيوانية لها قوتان : قوة الحس ، والحركة الإرادية.

أما قوة الحس : فإنها تحصل بواسطة أجرام لطيفة نورانية ، تنزل من القلب والدماغ في الشرايين والأعصاب ، فتفيدها قوة الحس والحياة. فذلك

القدر القليل من تلك البخارات التي هي الأرواح (١) لما حصل لها ذلك القدر من الصفاء والنورانية ، صار المتعلق الأول للنفس الناطقة تلك الأجسام ، وصارت الأعضاء إنما تجد قوة الحياة وقوة الإحساس ، لأجل وصول تلك الأرواح إليها. فالأجرام الفلكية مع غاية صفائها وإشراقها وجلالة جوهرها ، أولى أن تكون متعلقة للنفوس العالية المشرقة الإلهية.

وأما القوة الثانية من قوى النفس وهي الحركة الإرادية : فإنا نرى أن القلب كلما كان في الحركة ، كانت القوة النفسانية باقية. فلما صار القلب مع كثافته مستعدا لقبول الحياة ، بواسطة كونه دائم الحركة. فالأجرام الفلكية مع نهاية سرعتها في الحركات ، أولى بأن تكون موصوفة بالحياة. وبالجملة : فالنور يناسب الإدراك ، والعلم والحركة يناسب الفعل. فإذا كان لا مناسبة [لأنوار تلك الأجسام إلى أنوار هذا العالم ، ولا مناسبة (٢)] لحركات تلك الأجرام إلى حركات هذه الأجرام ، وجب الجزم بأنه لا مناسبة لحياة تلك الأجسام في الشرف والجلالة ، إلى حياة هذه الأجسام.

الحجة الرابعة : قد دلت الشواهد (٣) الرياضية : على أن جميع العناصر الأربعة ، بالنسبة إلى كلية الأفلاك ، كالمركز بالنسبة إلى الدائرة العظيمة. وبديهة العقل حاكمة : بأن الحياة أفضل من الجمادية. فلو كانت الأجرام الفلكية خالية عن الحياة ، لكان معظم مخلوقات الله تعالى ناقصة خالية عن آثار رحمة الله تعالى وحكمته ، وذلك بعيد. وأيضا : فالأجسام الفلكية لا نسبة لها في البقاء والنقاء والصفاء إلى هذه الأجسام الخسيسة العنصرية. والحياة والعقل ، لا نسبة لهما في الشرف والفضيلة إلى الجمادية والموت. فتخصيص الأجرام الخسيسة بالصفات الشريفة العالية ، وإخلاء الأجرام الشريفة العالية عن الصفات الشريفة على مضادة الرحمة والحكمة. وذلك في غاية البعد.

__________________

(١) للأرواح (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) الدلائل (م).

الحجة الخامسة : أجسام العالم بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام : لأنها إما أن تكون موصوفة بالحكمة والحياة الشريفة [الباقية وتكون خالية عن الشهوة والغضب والموت. وإما أن تكون موصوفة بالشهوة والغضب وتكون خالية عن الحكمة والحياة الشريفة (١)] وإما أن تكون موصوفة بالأمرين معا. وإما أن تكون خالية عن الأمرين معا.

أما القسم الثاني : وهو الجسم الموصوف بالشهوة ، الخالي عن الحكمة. فهو موجود. وهو البهائم والسباع والطيور [والحشرات (٢)].

وأما القسم الثالث : وهو الموصوف بالأمرين معا. فهو أيضا موجود. وهو الإنسان.

وأما القسم الرابع : وهو الخالي عن الأمرين معا. فهو أيضا موجود. وهو النبات والمعادن والجمادات.

فبقي القسم الأول : وهو الجسم الموصوف بالحياة الشريفة ، والحكمة التامة ، والمعرفة المشرفة. فليس هاهنا جسم يمكن وصفه بهذه الصفات إلا الأجرام (٣) العالية الفلكية. فلو لم تكن موصوفة بهذه الصفات ، لصار هذا القسم من أقسام الأجسام مفقودا. ولا شك أن هذا القسم أشرف الأقسام ، وأعلاها درجة ، وأعظمها مرتبة. فلو لم يوجد هذا القسم ، لخلت أقسام مخلوقات الله تعالى عن أشرف الأقسام وأجلها. ولوقع الاقتصار على تخليق الأجسام الخسيسة ، والامتناع عن تخليق القسم الأشرف الأعلى ، لكان ذلك يوجب فساد النظم في تدبير هذا العالم. والإله الحكيم المقدس. متعالي عن ذلك. فوجب القطع بدخول هذا القسم في الوجود وذلك لا يحصل إلا مع القول بأن الأفلاك والكواكب أحياء عاقلة.

الحجة السادسة : إنا قد بينا في كتاب «القدم والحدوث» في صفات

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) أجرام الأفلاك (ل).

السموات : أن بحركاتها تنتظم مصالح هذا العالم. وهي المبادي لحدوث الصور والأعراض في هذا العالم. ثم قد ثبت في أول العقل : أن كل كمال حصل في معلول عن علة ، فتلك العلة بذلك الكمال أولى من ذلك المعلول. ولا شك أن الحياة والإدراك والعلوم كمالات ، فوجب أن تكون الأجرام الفلكية أولى بهذه الكمالات من هذه الأجسام الرخوة الخسيسة. والذي يزيل الشبهة عن هذا الباب : أن من مارس علم الأحكام ، ووقف على أسرارها : علم أنه متى وقع كوكب من الكواكب المناسبة لحالة من الأحوال ، في موضع قوي مناسب من طالع مولد إنسان. فإن ذلك الإنسان يصير وحيد عصره ، وفريد دهره في تلك الحالة. فإذا كان هذا التعلق البعيد لتلك الكواكب بهذه الأجرام الرخوة ، يوجب الكمال. فالقول بأن تلك الذوات المقدسة النيرة الطاهرة الشريفة ، أولى بهذه الكمالات مما ينادى [بصحته (١)] صريح العقل ، وأصل الفطرة.

الحجة السابعة : قال صاحب كتاب «إخوان الصفاء» : «إنه سبحانه وتعالى ما ترك قعور البحور مع شدة ملوحتها إلا وخلق فيها أجناسا من الحيوان ، وأنواعا من السمك والحيتان ، وما ترك جو الهواء فارغا خاليا ، حتى خلق فيه أجناسا من الطير يسبح فيها ، كما يسبح السمك في الماء. وما ترك هذه المفاوز اليابسة ، وهذه الجبال الحجرية الصلدة ، حتى خلق فيها أجناسا من الوحوش والحشرات ، وما ترك شطوط الأنهار وبطون الأودية ، حتى ملأها من الحيوانات الخسيسة ، كالبق والبعوض والديدان والذباب. وما ترك لب النبات وثمر الشجر ، وداخل الحب ، إلا وملأها من الحيوانات. فكيف يليق بحكمته أن يترك هذه الأفلاك المضيئة المشرقة الواسعة ، مع شدة مناسبتها للحياة : خالية عن الحياة والإدراك والشعور : بل الحق هو ما ذكره صاحب الشريعة الحقة. وهو قوله عليه‌السلام : «أطّت السماء ، أطا ، وحق لها أن تئط. فما منها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد».

__________________

(١) من (م).

الحجة الثامنة : أطبق جمهور العقلاء : على أن السموات منازل الملائكة ومساكنهم. ولا شك أن الملائكة ليسوا أجساما كثيفة ـ على ما ستأتي براهين ذلك ـ فوجب كونها أرواحا مدبرة لتلك الأجساد ، فتكون الأفلاك بالنسبة إليها ، كالأجساد بالنسبة إلى الأرواح ، وتكون الكواكب بالنسبة إليها ، كالقلوب. وهذا تمام ما أردنا ذكره في هذا الباب.

واحتج المانعون من كون الأفلاك أحياء عاقلة بوجهين :

الأول : إن هذه الأفلاك والكواكب تتحرك على نهج واحد ، لا يتغير البتة. والمتحرك بالإرادة لا يكون كذلك.

الثاني : إن جرم الشمس في غاية السخونة ، ولما كانت السخونة النارية مانعة من الحياة ، فالسخونة العظيمة التي في جرم الشمس أولى أن تكون مانعة من الحياة.

والجواب عن الحجة الأولى من وجوه :

الأول : إنه حق (١) أن كل ما كان طبيعيا ، فإنه يبقى على نهج واحد ، لكن لا يلزم منه أن كل ما بقي على نهج واحد ، فإنه يكون طبيعيا. لما ثبت : أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.

والثاني : إن محرك هذه الأفلاك هو الله تعالى عند الكل ، فهي حركات صادرة عن الفاس المختار ، مع أنها باقية على نهج واحد ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك ، مع أنها صادرة عن إرادة ذلك الفاعل (٢)؟.

والثالث : إن المريد إذا فعل فعلا مخصوصا ، فإنما فعل ذلك الفعل ، لأجل حصول تلك الإرادة [فلو قدرنا بقاء تلك الإرادة (٣)] بحالها ، لوجب بقاء

__________________

(١) الأولى : قوله أن كل ما ... الخ (م).

(٢) الفلك (م).

(٣) سقط (طا).

ذلك الفعل بحاله. ضرورة أنه لم يلزم من دوام المؤثر ، دوام ذلك الأثر ، لكن بقاء تلك الإرادة بحالها ، أمر ممكن. وإلا لانتهت تلك الإرادة إلى وقت ، يمتنع بقاؤها. فيلزم انتقالها من الإمكان الذاتي ، إلى الامتناع الذاتي. وهو محال. فثبت : أن بقاء تلك الإرادة ممكن. وثبت : أنه يلزم من بقائها بقاء ذلك الأثر ، والموقوف على الممكن. ممكن. فيلزم القطع بأن بقاء الفعل الاختياري على حالة واحدة : ممكن من غير تغير وتبدل. وهو المطلوب.

والوجه الرابع في الجواب : ما ذكره «بطليموس» في كتاب «الثمرة» فقال : «إن المختار إذا طلب الأفضل ، لم يبق بينه وبين الطبيعة فرق» وتفسيره : إن الأفضل [في كل شيء لا يكون إلا واحدا. فإذا كان الفاعل المختار حكيما وطلب الأفضل (١)] لم يجد إلا ذلك الواحد فلا جرم وجب بقاؤه على ذلك الفعل. وذلك يمنع من وقع التغير في فعل الفاعل الحكيم.

والجواب عن الحجة الثانية : أن نقول : قد بينا في الطبيعيات : أن أجرام الأفلاك والكواكب غير موصوفة بالحرارة والبرودة. ولا يلزم من خلوها في ذاتها عن الحرارة والبرودة. أن لا تكون في التسخين والتبريد مؤثرة. ألا ترى أن الحركة توجب السخونة ، مع أن اتصافها بالسخونة محال. والغضب الشديد يوجب السخونة ، مع أن اتصاف الصفة المسماة [بالغضب (٢)] بالسخونة محال.

والوجه الثاني في الجواب : [أن نقول (٣)] هب أنها موصوفة بالسخونة الشديدة. فلم قلتم : إن ذلك يمنع قبول الحياة؟ فإنا نشاهد أن السمندر يتكون في النار ، والنعامة تبتلع الحديدة المحماة. وأمثال هذه الدلائل ، لو لا أنه ذكرها بعض الناس ، وإلا لكان يجب على العاقل أن لا يلتفت إليها.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ل).

وليكن هاهنا آخر كلامنا في إثبات أن السموات والكواكب : أحياء ناطقة.

ويتفرع عليها بحثين (١) : البحث الأول : إن الحكماء لما أقاموا الدلالة على إثبات هذا المطلوب ، قالوا : ثبت أن أكثر العالم بكليته حيوان واحد مطيع لله سبحانه وتعالى. قالوا : وليس لأحد أن يقول بأن هذه العناصر موجودة في داخل السموات ، مع أنها ليست موصوفة بالحياة. فكيف يقال : العالم كله حيوان واحد؟ وأجابوا عنه : بأن نسبة جملة العناصر إلى ثخن السموات ، أقل من نسبة المدرة الصغيرة إلى كل الأرض. ومن نسبة القطرة إلى كل البحر. ثم إنا لو قدرنا أن إنسانا ابتلع مدرة صغيرة. فوجود تلك المدرة الصغيرة في جوفه لا يمنع من القول بأن هذا الإنسان حيوان ، فكذا هاهنا.

بل نقول : أكثر أجزاء هذا البدن المحسوس خالي عن الحس والحركة والإدراك. فإن العظام والرباطات خالية عن هذه الحالة. والأخلاط والرطوبات خالية عن هذه الحالة. وإذا كان خلو هذه الأجرام الكثيرة ، لا يمنع من القول بأن هذه الجثة (٢) حيوان. فخلو جملة العناصر ، مع أنها بالنسبة إلى جملة الأفلاك كالعدم ، بأن لا يمنع منه القول بأن جملة العالم حيوان واحد : أولى.

البحث الثاني : إن الكتاب الإلهي ناطق بكون الأجرام الفلكية موصوفة بالحياة. ويدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣) والجمع بالواو والنون لا يليق إلا بالعقلاء.

الثاني : قوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ، رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (٤)

__________________

(١) أبحاث (الأصل)

(٢) هذا البدن (م).

(٣) يس ٤٠ واستدلال المؤلف خطأ. فإن سبحها مماثل لسبح الآلات الميكانيكية والآلات لا تعقل.

(٤) يوسف ٤ والآية لبيان حلم ، لا لبيان حال في يقظة.

وهذه الضمائر لا تليق إلا بالعقلاء.

والثالث : قوله تعالى : (وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) (١) والأمر لا يتوجه إلا على الأحياء (٢).

فهذا تمام الكلام في هذا الباب.

__________________

(١) فصلت ١٢.

(٢) الأمر ليس كالأمر الموجه للعقلاء. ولكن الأمر كما قال قتادة والسدى : «خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها وأفلاكها».

الفصل الثاني

في

بيان صفة النفس الفلكية

كلام (١) الشيخ الرئيس في أكثر كتبه ، يدل على أن النفس الفلكية المباشرة لتحريك جسم السماء : قوة جسمانية سارية في ذلك الجسم. فإنه قال في «النجاة» وفي «الشفاء» : «نسبة النفس الفلكية إلى جسم الفلك ، كنسبة النفس الحيوانية التي لنا إلينا» وذكر في «الإشارات» : «إن له مع ذلك نفسا ناطقة. نسبتها إلى جسم الفلك ، كنسبة النفس الناطقة التي لنا إلينا» وأيضا : أثبت أن لكل فلك عقلا على حدة ، فعلى هذا الطريق وجب أن يحصل لكل فلك أمور ثلاثة : النفس الحيوانية ، والنفس الناطقة ، والعقل المجرد. أما النفس الحيوانية ، فقد احتج على إثباتها بأن قال : المبدأ القريب لهذه الحركة : إرادة جزئية ، وإذا كان كذلك وجب أن يحصل لذلك المبدأ : علوم جزئية. وإذا كان كذلك ، وجب أن تكون تلك القوة جسمانية».

فهذه مقدمات ثلاث :

المقدمة الأولى : في إثبات قوله (٢) : «المبدأ القريب لهذه الحركة : إرادة جزئية» فالدليل عليه وجهان :

الأول : إن الماهية الكلية ، مشترك فيها بين الجزئيات. والقصد إلى

__________________

(١) عنوان الفصل في (م) في صفة النفس الملكية الفلكية.

(٢) قولنا (ل) قوله (م).

القدر المشترك بين الجزئيات لا يفيد القصد إلى واحد من تلك الجزئيات. وإذا كان كذلك ، امتنع وقوع شيء منها.

أما قولنا : «الماهية [الكلية : ماهية (١)] مشترك فيها بين الجزئيات» فالأمر فيه ظاهر ، لأن الحركة مثلا ماهية مشترك فيها بين الحركة من هذه النقطة ، إلى تلك. وبين سائر الحركات. وأما أن القصد إلى القدر المشترك فيه لا يكون قصدا إلى شيء من تلك الجزئيات : فلأن ما به المشاركة مغاير لما به الممايزة ، وغير مستلزم له. فالقصد إلى ما به المشاركة ، لا يكون قصدا إلى ما به الممايزة. وإذا كان كذلك ، فلو وقع جزء واحد من جزئيات ذلك الكلي ، لكان ذلك وقوعا من غير المرجح والمخصص. وهو محال. فثبت : أن الحركة الجزئية [المعينة (٢)] إذا كانت إرادية ، فإن المؤثر في وقوعها : إرادية جزئية معينة.

والثاني : إن الإرادة الكلية باقية. وبقاء العلة يوجب بقاء المعلول ، فلو كان المقتضي لهذه الحركة المعينة إرادة باقية ، لزم من بقاء تلك الإرادة ، بقاء الجزء المعين من الحركة. وبقاء الجزء المعين من الحركة : محال. إذ لو بقي ذلك الجزء ، لانقطعت الحركة وصارت سكونا. ولا يمكن أن يقال : المؤثر في حصول ذلك الجزء المعين من الحركة ، هو تلك الإرادة الباقية ، لكن بشرط زوال الجزء السابق (٣) من الحركة. لأن على هذا التقدير ، يلزم جعل عدم الحادث السابق ، جزءا من علة وجود الحادث اللاحق. وذلك محال. ولما بطل هذا ، ثبت : أن العلة لحصول هذه الحركات المتعاقبة : إرادات جزئية متعاقبة. وهو المطلوب.

والمقدمة الثانية : إن صاحب الإرادات الجزئية ، لا بد وأن يكون صاحب التصورات الجزئية ، والإرادات (٤) الجزئية. وهذا حق. لأن القصد إلى تكوين

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) السابق لأنه يلزم أن يكون العدم جزءا من علة ... الخ (م).

(٤) والإدراكات (م).

الشيء ، مشروط [بالعلم. فالقصد إلى تحريك الجسم من هذا الحد ، إلى ذلك الحد ، يجب أن يكون مشروطا (١)] بتصور هذا الحد بعينه ، وتصور ذلك الحد بعينه. وذلك يدل على أن صاحب الإرادات الجزئية (٢) لا بد وأن يكون صاحب التصورات الجزئية.

[والمقدمة الثالثة : قولنا : صاحب التصورات الجزئية (٣)] يجب أن يكون قوة جسمانية ويمتنع أن يكون موجودا مجردا. تقريره : ما سبق ذكره من أن النفس المجردة عن الجسمية : يمتنع كونها مدركة للجزئيات بل المدرك للجزئيات هو القوة الجسمانية.

وإذا ظهرت هذه المقدمات الثلاث ، لزم القول (٤) بأن النفس الفلكية : قوة جسمانية. وهو المطلوب. وهذا تمام الكلام في تقرير هذا الكلام. والاعتراض عليه من وجهين (٥) :

الأول : لا نسلم أن المبدأ (٦) القريب للحركات الجزئية ، يجب أن يكون إرادة جزئية.

أما قوله : «القصد الكلي مشترك فيه بين الجزئيات ، فيمتنع كونه علة لجزئي بعينه» فنقول : الكلام عليه من وجوه :

السؤال الأول : أن نقول : هب أنكم عللتم تلك الحركات الجزئية بتلك الإرادات الجزئية ، وعللتم تلك الإرادات الجزئية ، بتلك التصورات الجزئية. فبم تعللون تلك التصورات الجزئية؟ فإن عللتموها بأشياء أخرى جزئية

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) الإدراكات لا بد (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) الجزم (م).

(٥) وجوه [الأصل].

(٦) المحرك (م).

حادثة ، عاد الطلب فيها ، ويلزم إما الدور وإما التسلسل [وهما محالان (١)] وإما القول بأن الحادث المتقدم : علة لحدوث الحادث المتأخر [وإما طريق رابع (٢)] وكيف ما كان فليعقل مثله في نفس تلك الحركات.

وأقول (٣) : وحق الله : أني لشديد التعجب من هذا الشيخ الرئيس. كيف غفل (٤) عن أمثال هذه الأمثلة الظاهرة الجليلة ، المتبادرة إلى فهم كل عاقل.

السؤال الثاني : هب أن القصد الكلي مشترك فيه. إلا أنه لم لا يجوز أن يتخصص تأثير ذلك الكلي ، لأجل تخصص القابل؟ وبيانه : إن جوهر الفلك لما انتهى إلى نقطة معينة في حركته ، فإن الوقوف عليه ، والرجوع من تلك النقطة ، إلى ما وراءها محال. والانتقال منها إلى جانب آخر محال. فلم يبق إلا أن تتحرك من تلك النقطة على سبيل تتميم تلك الدورة إلى نقطة أخرى. فثبت : أن جوهر الفلك لا يقبل إلا تلك الحركة المعينة ، فلم لا يجوز أن يقال : الفاعل ، وإن كان صاحب القصد الكلي ، إلا أنه يخصص الأثر ، لأجل أن القابل ما كان قابلا إلا له؟ وهذا هو عين مذهبهم. فإنهم قالوا : العقل الفعال عام الفيض. وإنما تتخصص الآثار والصفات لأجل تخصص القوابل ، فكذا هاهنا.

السؤال الثالث : إن القصد إلى الشيء ، مشروط بالعلم به. فعلى هذا. القصد إلى الحركة المعينة [مشروط (٥)] بالعلم بها [والعلم بها (٦)] من حيث إنها تلك [مشروط بتحقق تلك ، من حيث إنها هي. فلو جعلنا حصول تلك الحركة من حيث إنها تلك (٧)] الحركة المخصوصة [معللا بالقصد إليها (٨)] من حيث إنها هي. وقع الدور. وهو محال. فثبت بهذه الأسئلة الثلاثة : ضعف ما ذكروه في الوجه الأول.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) قال المصنف وأقول (طا ، ل).

(٤) من (ل).

(٥) سقط (طا).

(٦) سقط (م).

(٧) سقط (م).

(٨) فلو كان العلم بها (م).

وأما الوجه الثاني وهو قوله : «القصد الكلي باق. والباقي لا يكون علة للمتغير».

فنقول : لا نسلم أن القصد الكلي باق. وهذا السؤال ذكره الشيخ فقال : «لم لا يجوز أن يكون مبدأ هذه الحركة المتعاقبة : إرادات كليه متعاقبة ، وتصورات كلية متعاقبة؟ مثلا : إنه يريد الانتقال من أحد الحدين إلى الثاني [ومن الثاني إلى الثالث وهكذا ، حتى تتم الدائرة. وكونه مريدا للانتقال من أحد الحدين إلى الثاني (١)] إرادة كلية.

والجواب الصحيح عن هذا السؤال عندي : أن يقال : إنه لا يخلو إما أن يريد الانتقال من هذا الحد إلى ذلك الحد ، أو يريد الانتقال من حد إلى حد من غير تعيين ذلك الحد. فإن كان الأول ، كانت تلك الإرادة جزئية. وكان ذلك التصور جزئيا. وهو المطلوب.

وإن كان الثاني : فالقصد إلى الانتقال من مطلق الحد إلى مطلق الحد الآخر ، لا يقتضي أن يكون ذلك الانتقال واقعا من هذا الحد بعينه ، إلى ذلك الحد الآخر بعينه. لأن الانتقال من «الحمل» إلى «الثور» يصدق عليه أنه انتقال من حد إلى حد ، والانتقال من «الثور» إلى «الحمل» يصدق عليه أيضا : ذلك المفهوم. وكذا الانتقال من نقطة «الحمل» إلى جانب الشمال تارة ، وإلى جانب الجنوب أخرى. كل ذلك انتقال من حد إلى حد. فثبت : أن إرادة الانتقال من حد إلى حد ، نسبتها إلى جميع الحركات على السوية. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن تصير تلك الإرادة ، سببا لتعين البعض دون البعض. فثبت : أن هذا السؤال مدفوع. لأنه يتوجه عليه الأسئلة الثلاثة ، التي أوردناها على الوجه الأول. فظهر بهذا البيان : أن هذا الكلام ضعيف جدا.

السؤال الثاني : سلمنا : أن المباشر لتحريك جسم السماء ، يجب أن يكون صاحب الإرادات (٢) الجزئية. وسلمنا : أن صاحب الإرادات الجزئية

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) الإرادة (ل).

يجب أن يكون صاحب الإدراكات الجزئية. لكن لم قلتم : إن صاحب الإدراكات الجزئية. يجب أن يكون قوة جسمانية؟ فإنا بينا في المقالات السالفة : أن المدرك للكليات والجزئيات هو النفس. ولنذكر هاهنا وجوها.

الأول : إن غرض النفس عندكم من تحريك الفلك هو التشبه بالعقل ، على ما سيأتي تفسير هذا التشبه. وإرادة التشبه بالغير ، مشروطة بمعرفة صفة ذلك الغير ، فوجب أن تكون النفس المحركة لجسم السماء ، عالمة بالعقل المجرد. فثبت : أن الشيء الذي يباشر تحريك جسم الفلك ، هو الذي يكون مدركا لذلك العقل المجرد. [ولكمالاته. وإدراك المجردات لا يصح إلا من الجوهر المجرد (١)] فيلزم : أن تكون النفس الفلكية لكونها صاحبة الإدراكات الجزئية : قوة جسمانية ، ولكونها مدركة للعقل المجرد : جوهرا مجردا. فالشيء الواحد جسماني ومجرد. وذلك باطل قطعا.

واعلم أنه لا خلاص عن هذا الكلام ، إلا بالقدح في إحدى مقدمات ثلاث : إما أن يقولوا : صاحب الإدراكات الجزئية ، لا يجب أن يكون جسمانيا ، أو يقولوا : ليس الغرض للنفس من تحريك الفلك هو التشبه بالعقل ، أو يقولوا : القوة الجسمانية يصح عليها إدراك المجردات. [وأي واحد (٢)] من هذه الثلاثة ، قالوا به : فقد تركوا أصلا من أصولهم المشهورة ، وقاعدة من قواعدهم المعتبرة.

الثاني : إنا نعلم بالضرورة : أنه يمكننا أن نقول : «زيد إنسان» والحاكم بهذا الحكم يجب أن يكون مدركا لزيد ، من حيث إنه هو. وللإنسان الذي هو مفهوم كلي. وإلا لحصل التصديق من غير تصور. وهو محال. لكن صاحب الإدراكات الكلية : هو النفس المجردة. فوجب أن يكون صاحب الإدراكات الجزئية أيضا : هو النفس. وإذا كان كذلك. فحينئذ يبطل قولهم : إن صاحب الإدراكات الجزئية يجب أن يكون قوة جسمانية.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) وشيء (م).

الثالث : إن النفس الناطقة جوهر مجرد. وهي مدبرة لهذا البدن المعين. فإما أن تدبر هذا البدن بإدراكات كليه وقصد كلي. وإما أن تدبره بإدراكات جزئية وقصد جزئي. فإن كان الأول ، فقد بطل قولكم : إن القصد الكلي لا يصدر عنه أفعال جزئية. وإن كان الثاني ، فقد بطل قولكم : إن الجوهر المجرد لا يكون صاحب الإدراكات الجزئية. وعلى كلا التقديرين ، فإنه يبطل كلامكم.

وأقول : حقا إني شديد التعجب من غفلة هؤلاء الأقوام عن هذه الكلمات الظاهرة. فهذا هو الكلام على دليلهم.

والمختار عندي : أن النفس الفلكية جوهر مجرد عن الجسمية وعلائقها. ومع هذا ، فإنها موصوفة بالإدراكات الجزئية ، والإرادات الجزئية. وكذلك أيضا موصوفة بالإدراكات الكلية ، والإرادات الكلية. فهي عارفة بربها ، وقاصدة بهذه الحركات : عبادة ربها وخالقها ومدبرها. وعلى هذا التقدير ، فقد زالت الشكوك والشبهات. ويتفرع على ما ذكرنا : فروع. وهي : أن المسمى بنفس الكل (١) هي نفس الفلك الأعظم. وذلك لأن سائر الأفلاك موجودة في باطن الفلك الأعظم. فهي كالأجزاء من الفلك الأعظم. ونفوسها كالقوى المتشعبة من نفس الفلك الأعظم ، كما أن القوى المتشعبة عن النفس الناطقة الموجودة في كل واحد من الأعضاء المخصوصة كالنتائج والآثار والشعب لجوهر النفس الناطقة. فثبت بما ذكرنا : أن تدبير الحق سبحانه لعالم الأجسام ، إنما ابتدأ من الفلك الأعظم ، الذي هو العرش. وذلك الابتداء إنما حصل بواسطة تلك النفس التي هي النفس الفلكية. وأما سائر النفوس الفلكية والعنصرية ، فهي نتائجها وشعبها وأولادها. وإليه الإشارة في الدعاء المشهور وهو قوله عليه‌السلام : «اللهم إني أسألك بمعاقد عزك؟؟؟ على أركان عرشك» فالمراد من معاقد العز : هو جوهر تلك النفس الكلية وشعبها ، المنبثة منها في أجزاء العرش.

__________________

(١) الفلك (م).

الفصل الثالث

في

تعديد مذاهب الناس في السبب

الموجب ، لكون الفلك متحركا بالاستدارة

الناس فريقان : منهم من يقول : إنه يتحرك حركة مستديرة على سبيل الطبيعية. ومنهم من يقول : إنه يتحرك حركة مستديرة بالقصد والإرادة.

أما الذاهبون إلى القول الأول. فقد ذكروا فيه وجوها كثيرة. فالقول الأول قول من يقول : ثبت بالدليل وجود خلاء خارج العالم ، لا نهاية له. والجسم الثقيل الذي لا علاقة فوقه ، ولا دعامة تحته ينزل. والجسم النازل بهذه الصفة ، لا بد وأن يستدير على نفسه حال نزوله. فسبب كون الفلك متحركا بالاستدارة ، هذا المعنى.

واعلم : أن بناء هذا المذهب على مقدمات :

إحداها : إثبات الخلاء. وأنه لا نهاية له خارج العالم. وقد عرفت الكلام فيه.

والثانية : إن أجرام الأفلاك ثقيلة.

وقد دللنا فيما تقدم على فساد هذا الرأي.

والثالثة : إنا قد بينا : أن الخلاء المتشابه الذي لا نهاية له ، لا يتميز فيه جانب عن جانب بشيء من الخواص ، فلم يكن كون بعضها فوقا ، وبعضها تحتا ، أولى من العكس. وإذا تساوت الجهات في جميع الصفات ، امتنع أن يقال : إن الفلك ينزل من جانب إلى جانب آخر نزولا أبديا.

القول الثاني : إنه ثبت : أنه لا بداية لحركات الأفلاك ، وثبت أيضا : أن انقطاع تلك الحركات محال ، وأن رجوعها عن مجاريها إلى جانب آخر محال ، وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لا جزء من أجزاء الحركة الفلكية ، إلا وقد حصل قبله جزء آخر من الحركة. وانتهاء الفلك بذلك الجزء السابق من الحركة ، إلى ذلك الحد المعين : أوجب حركته من ذلك الحد ، إلى حد آخر بعده. وإذا كان كذلك ، فكل جزء من أجزاء الفلك ، إنما حصل لأن الجزء المتقدم عليه ، أوجب وقوعه على ذلك الوجه [وعلى هذا التقدير فيكون وقوع هذه الحركة على هذا الوجه (١)] أمرا واجب الوجود لذاته (٢) والواجب لذاته لا يجوز تعليله بعلة منفصلة ، فامتنع تعليل كون الفلك متحركا بعلة منفصلة.

والقول الثالث : إن الفلك قديم المادة ، محدث الصورة. ومادته إنما هي الأجزاء التي لا تتجزأ. وتلك الذرات والهباءات. وعلى هذا القول ، ففي سبب حركته بالاستدارة قولان :

الأول : إن تلك الأجزاء. كان بعضها حارا ، وبعضها باردا ، فلما اختلطت وامتزجت اختلاطا محكما ، بحيث تعذر انفصال بعضها عن البعض ، صار ذلك سببا لحصول الحركة الدورية. ومثاله : أن الذهب إذا ذوب في البوتقة. فإنه بعد الذوب يستدير على نفسه. والسبب فيه : أن الجزء الذي يلاصق البوتقة تقوى سخونته جدا. ولأجل قوة السخونة يصعد ، والجزء المرتفع تضعف سخونته ، فيميل إلى أسفل. وأجزاء الذهب متلاحمة متصلة ، التحاما واتصالا ، يمنع انفكاك بعضها عن البعض. ولما طلب بعض تلك الأجزاء الصعود ، وبعضها الهبوط ، وتعذر انفصال البعض عن البعض ، صار ذلك سببا لحصول الحركة الدورية في جرم الذهب الذائب. فلا يمتنع أن يكون سبب استدارة الفلك هذه الحالة ، أو ما يشبهها ويناسبها.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) أمرا واجبا لذاته (م).

والقول الثاني : قول «ديمقراطيس» وذلك لأن مذهبه أن هذه الهباءات والذرات كانت متحركة ، حركة دائمة في الخلاء الذي لا نهاية له. ثم اتفق في بعضها أن تصادمت على وجه خاص ، وتعارضت في حركاتها وتمانعت. فتولد جرم الفلك لهذا السبب. ثم اتفق لبعض تلك الأجزاء أن كانت قوة حركاتها إلى بعض الجوانب ، أقوى من قوة الأجزاء التي تمانعها وتعارضها ، فلا جرم تحرك جسم الفلك إلى ذلك الجانب ، فاستدار على ذلك الوجه الخاص. ثم إن المغلوب لا يعود غالبا ، والمقهور لا يصير قاهرا. فلا جرم بقي الفلك على الحركة الخاصة إلى آخر الأبد.

فهذه الوجوه الأربعة مفرعة على قول من يقول : حركات الأفلاك طبيعية.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن حركاتها إرادية. فالقائلون بهذا القول فريقان :

منهم من قال : إنه ليس للأفلاك غرض معين في اختيار هذه الحركات. ومنهم من أثبت لها غرضا معينا.

أما الفريق الأول : فتقرير قولهم : إن الأجرام الفلكية بسائط وجميع النقط المفترضة فيها متشابهة في تمام الحقيقة ، ومتساوية في تمام الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون وقوع تلك الحركات على جميع المدارات المختلفة التي لا نهاية لها : ممكنا. إذ لو أمكن البعض ، وامتنع البعض ، لزم أن تكون الأشياء المتماثلة في تمام الماهية ، مختلفة في اللوازم والآثار. وذلك محال. فثبت : أن الكل (١) ممكن وأنه ليس للبعض رجحان على البعض لا في أصل الإمكان ولا في السهولة ، ولا في أثر من الآثار البتة. ومتى تشابهت الأفعال ، وتساوت على الوجه الذي ذكرناه لم يمتنع أن يختار الفاعل المختار أحد تلك الأقسام دون الأخرى لا لعلة. ومثاله : أن الجائع إذا خير بين أكل

__________________

(١) التمثل (ط).

رغيفين ، والعطشان إذا خير بين شرب قدحين ، فإنه يختار أحدهما دون الآخر لا لمرجح. وكذلك النفس التي للفلك الأعظم ، ولسائر الأفلاك ، اختار كل واحد منها نوعا معينا من الحركة ، لا لغرض ولا لمرجح البتة.

والقول الثاني : قول من يقول : إن للفلك في حركته غرضا معينا معتبرا. وهؤلاء فرق ثلاث : منهم من يقول : ذلك الغرض : كمالات عالية ، يستفيدها من المبادي العالية لنفسه. ومنهم من يقول : ذلك الغرض عمارة هذا العالم ، وحصول نظامه. ومنهم من جمع بين الطرفين فقال : أصل حركاتها لأجل استفادة الكمالات من المبادي العالية. وأما جهات حركاتها ومقادير بطئها وسرعتها ، فلأجل مصالح هذا العالم العنصري.

وذكروا لهذا مثالا. وهو : أن رجلا كريم النفس ، كثير الخير. إذا أراد الذهاب إلى موضع لمهم له فيه. وكان إلى ذلك الموضع طريقان متساويان بالنسبة إليه من كل الوجوه. إلا أن ذهابه في أحد الطريقين ، يوجب حصول المنافع الكثيرة لطائفة من الضعفاء ، والعاجزين ، واندفاع الشرور الكثيرة عنهم. وذهابه في الطريق الثاني يوجب بطلان تلك الخيرات والمصالح ، فإن كونه في ذاته خيرا رحيما ، يقتضي أن يختار الطريق الأنفع للضعفاء ، ويترك الطريق العاري عن النفع.

فهذه أقوال ثلاثة مضبوطة.

أما القول الأول : وهو أن الغرض للفلك من هذه الحركات استفادة الكمالات وتحصيل السعادات.

فأقول : التقسيم الصحيح في هذا المقام. أن يقال : تلك الكمالات إما أن تكون جسمانية أو نفسانية. أما القسم الأول فهو المختار عند الحكماء المتأخرين. ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا». وذلك لأنهم قالوا : إن جوهر الفلك كامل في ذاته وفي جميع صفاته. ولم يبق فيه شيء بالقوة ، إلا وقد خرج إلى الفعل إلا في إيوانه وأوضاعه. فإن خروج كلها من القوة إلى الفعل محال. وإلا لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة ، في أمكنة كثيرة ،

وذلك محال. فلهذا السبب بقيت الأيون والأوضاع فيه بالقوة ، ولم تخرج بكليتها إلى الفعل [فهو يتحرك لأجل استخراجها من القوة إلى الفعل (١)] هذا هو القول المختار عند هذين الرجلين الفاضلين ، ونقلاه عن الحكيم «أرسطاطاليس» وهو عندي بعيد جدا ، ولا يليق بالرجل العاقل الفاضل أن يميل عقله إليه. والقسم الثاني من القسمين المذكورين في التقسيم : أن يقال : إن مقصود الفلك من تلك الحركات [استفادة (٢)] كمالات نفسانية.

واعلم : أن الكمالات النفسانية أحد أمور ثلاثة :

إما الحياة ، وإما الإدراك ، وإما العقل ، وكل واحد من هذه الأقسام الثلاثة محتمل هاهنا.

أما الاحتمال (٣) الأول : وهو أن يقال : المقصود من هذه الحركة إبقاء قوة الحياة. فتقريره : أن يقال : الاستقراء دل على أن اللطافة والشفافية والنورانية والحركة وقوة الحياة والعقل : أمور متلازمة. إما دائما وإما في الأكثر.

وأما الكلمة والسكون [والموت (٤)] والجهل. فهي أمور متلازمة. إما دائما ، وإما في الأكثر. ألا ترى أن القلب لما كان ينبوع الحياة ، لا جرم كان دائم الحركة. فكذا هاهنا الفلك لما كان ينبوع الحياة ، لا جرم كان دائم الحركة ، ولما كان حياة الفلك أكمل وأشرف من هذه الأجسام ، لا جرم كانت حركاته أشرف الحركات. وهي المستديرة الخالية عن التفاوت والاختلاف ، الموصوفة بكل ترتيب ونظام. وأما جرم الأرض. فلما كان معدن الظلمة والكثافة ، لا جرم كان معدن السكون والجمود. فالموت والسكون متلازمان ، والحياة والحركة متلازمتان. ولما كانت الحياة في عالم الأفلاك ، أبقى وأشرف ، كانت الحركات هناك أكمل وأشرف.

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (طا).

(٣) القول (م).

(٤) سقط (طا ، ل).

وأما البحث عن أن الحركة الموجبة للحياة ، أو الحياة هي الموجبة للحركة ، أو هما معلولا علة منفصلة فذلك غير معلوم.

وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يقال : المقصود للأفلاك من تلك الحركات : اكتساب العلوم والمعارف ، والمبالغة في تكميلها. فهذا أيضا محتمل. وتقريره : إنا نعلم أن الإنسان حال ما يحاول تحصيل المعارف الكسبية ، فإنه يستعين بالفكر والتأمل ، وذلك لا يمكن إلا بتحريك الأرواح الدماغية على وجوه مخصوصة. وإذا كان ذلك كذلك ، لم يمتنع أيضا أن يقال : إن مراتب العلوم غير متناهية. واللذة الحاصلة من تحصيل العلوم والمعارف : أقوى اللذات وأكمل السعادات. فهذه النفوس الفلكية مستغرقة (١) بتحصيل هذا النوع من السعادات ، وأنه لا يمكنها تحصيل هذا المطلوب إلا بواسطة هذه الحركات المخصوصة ، فكانت مواظبة الأفلاك على هذه الحركات ، لأجل أن يتوصل بها إلى استفادة المعارف والعلوم. ولما كان لا نهاية للعلوم والمعارف ، فلا جرم لا نهاية لحركاتها ، لأجل أنه تحصل الوصلة بها ، إلى تحصيل تلك المطالب. فهذا احتمال ممكن ، وهو أقرب إلى العقول من استخراج الأيون والأوضاع.

وأما الاحتمال الثالث : وهو أن تكون حركاتها لطلب الكمال في القوة العقلية (٢) فهذا الاحتمال ممكن. وتقريره من وجوه :

الأول : وهو قول أصحاب الأحكام. وهو أنه ثبت أن للكواكب في هذه المدارات خصوصيات (٣) مختلفة. فبعض تلك البروج لها شرف ، وبعضها هبوط. وكذا القول في البيت والمثلثة والحدود والوجوه [والفرج (٤)] وسائر الأقسام المذكورة في علم الأحكام. وأيضا : فإن الأحكاميون ذكروا أن بين تلك الكواكب صداقة وعداوة ، وأن كل واحد منها يحاول إعانة غيره على فعله تارة ،

__________________

(١) مشغوفة (م).

(٢) الفعلية (ل).

(٣) حصصا (ل ، طا).

(٤) من (ل).

وينازعه في فعله أخرى. وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن تكون أفعالها ، لأجل طلب تلك الزوائد في القوة والقدرة.

الوجه الثاني : قالوا : لا شك أن واجب الوجود لذاته : المبدأ المفيض لجميع أقسام الخير والرحمة ، على جميع أجزاء العالم الروحاني والجسماني. ولا شك أن الحركات الفلكية : أسبابا لنظام هذا العالم. وعند هذا قالوا : «كمال حال الممكنات التشبه بالإله (١) بقدر الطاقة البشرية» ولهذا المعنى قال صاحب الشريعة : «تخلقوا بأخلاق الله تعالى» ونقل عن أوائل الفلاسفة (٢) أنهم قالوا : «الفلسفة [عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية» ولا شك أن هذا التشبه (٣)] حالة عالية شريفة. ولما كانت الأفلاك أكمل حالا من البشر ، في علومها ومعارفها ، وأنواع فضائلها ، كانت أولى بتحصيل هذا التشبه ، بقدر ما يليق بها من الطاقة. فهي تتحرك حركات مشتملة على تحصيل مناظم هذا العالم الأسفل. إلا أن مقصودها الأصلي ليس هو العناية بهذه السافلات ، بل مقصودها الأصلي : هو التشبه بالإله تعالى في كونه مبدأ لحصول النظام والخير والرحمة.

الوجه الثالث : إنا بينا : أن الفلك حيوان. وهو مطيع لمعبوده ولخالقه. والعبادة عبارة عن مجموع أمور ثلاثة :

الاعتقاد بالقلب. والذكر باللسان. والخدمة بالبدن (٤). فالنفس الكلية لما كانت مواظبة على عبادة خالقها ومعبودها ـ وبدنها هو الفلك ـ كانت هذه الحركات جارية مجرى الركوع والسجود لله سبحانه وتعالى. فهذا هو القول في تعديد الوجوه الممكنة في أن الغرض للفلك من الحركة : استفادة الكمالات والسعادات من الأسباب العالية.

__________________

(١) بالإله (ل) بالله تعالى (م).

(٢) الحكماء (م).

(٣) سقط (م).

(٤) بالجسد (م).

القسم الثاني : قول من يقول : غرضها من هذه الحركات : العناية بالسافلات. وهذا قول ذهب إليه عالم من الناس. الذين قالوا : إن الكواكب السبعة إذا صعدت إلى أوجاتها ، استفادت القوى الشريفة من العرش والكرسي ، فإذا نزلت إلى حضيضاتها أدت تلك القوى إلى العالم العنصري [وأفراد العالم العنصري (١)] داخلون في هذا التقسيم ..

وأما القسم الثالث : وهو [قول من يقول (٢)] : إن وصول الحركات ، لأجل الاستكمال بالعاليات. وأما جهاتها وكيفياتها ، فللعناية بالسافلات. وهذا قول اختاره «ثارمسطيوس» وفي المسألة قول آخر عجيب : وهو أن خارج الفلك الأقصى عوالم مملوءة من النور ، وتلك الأنوار مختلفة في درجات الكمال. فالفلك الأقصى يتحرك ليستفيد الكمالات المختلفة ، والقوى المتباينة من تلك الأنوار.

فهذا ضبط الأقوال الممكنة في هذا الباب.

__________________

(١) زيادة.

(٢) قولهم (طا ، ل).

الفصل الرابع

في

تتبع هذه المذاهب

ونحن نرتبها على مسائل :

المسألة الأولى : اعلم : أن الأقوال الأربعة المبنية على أن هذه الحركات : طبعية ، قد سلف إبطالها.

وأما القول الخامس : وهو أنها إرادية ، إلا أنه ليس للأفلاك في تلك الحركات غرض معين. فاعلم : أن هذا بناء على أن القادر يمكنه أن يفعل فعلا معينا ، لا لغرض أصلا. والكلام المستقصى في إبطاله [قد سبق (١)] في باب «الدواعي والصوارف (٢)» ولا بأس بإعادة بعضها فنقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إنها إذا كانت متساوية بالنسبة إلى ذلك الفاعل ، كان إقدامه على البعض دون البعض : رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال.

الثاني : أن بتقدير أن يكون ذلك جائزا ، إلا أنه أمر اتفاقي. والأمور الاتفاقية ، لا تكون دائمة ولا أكثرية [فوجب أن لا تكون هذه الحركات دائمة ولا أكثرية (٣)] فإن قيل : الحركات العبثية كثيرة. مثل : عبث الإنسان بشعرة

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) هو باب من الجزء الثالث من المطالب العالية.

(٣) سقط (م) ، (ط).

واحدة من شعرات لحيته ، وعبثه بتبنة يأخذها من الطريق من غير غرض صحيح ، ويعبث بها. فهذه حركات إرادية ، مع أنه ليس فيها أغراض صحيحة. وأيضا : النائم ينقلب من أحد جنبيه إلى الثاني ، فتلك الحركة : حركة إرادية ، وليس فيها أغراض معينة. لأن النوم ضد العلم ، وعند عدم العلم ، لا يبقى الغرض.

وأيضا : الجائع إذا وضع عنده رغيف ، فإنه يبتدئ بكسر جانب معين منه ، دون سائر الجوانب. لا لغرض يتعلق بذلك الجانب بعينه.

والجواب : أما العبث. فنقول : إن القوة المحركة لها مراتب :

فالمرتبة القريبة هي القوة المركوزة في الأوتار والعضلات : وهي صالحة للفعل ولضده ، وما دامت هذه الصلاحية من الجانبين باقية ، امتنع أن تصير مصدرا للفعل المعين. فإذا انضاف إليها ميل جازم ، حصل الرجحان. وذلك الميل مرتب على أن يعتقد الإنسان أن له في ذلك الفعل مصلحة ومنفعة. فإذا حصل هذا الاعتقاد ، حصل الميل. وليس من شرط ذلك الاعتقاد : أن يكون مطابقا [بل سواء كان مطابقا (١)] أو لم يكن. فإنه إذا حصل الاعتقاد الجازم ، ترتب عليه الميل. وأيضا : فتلك المنفعة قد تكون منفعة خسيسة ، وهي نفس التذاذه بذلك الفعل ، وقد تكون منفعة شريفة تحصل بها آثار كاملة ، ونتائج شريفة.

إذا عرفت هذا فنقول : المقدم على الفعل العبثي إنما يقدم عليه ، لو انضاف إلى القوة العضلية تلك الإرادة المترتبة على ذلك الاعتقاد. ومعلوم أن ذلك الاعتقاد يكون مقدّرا بمقدار معين ، وتلك الإرادة أيضا محدودة بحد معين فمجموع تلك القدرة مع تلك الإرادة ، ومع ذلك التصور ، يوجب تلك الحركة المقدرة بالمقدار المخصوص. فذلك المجموع له في ذلك الفعل غاية معينة [وهي الانتهاء إلى ذلك الحد المعين. فالحركة حصلت لها هاهنا غاية معينة] (٢).

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م) ، (ط).

إلا أنه بقي هاهنا أمران :

أحدهما : إن ذلك الذي تخيله خيرا ، قد لا يكون في نفس الأمر كذلك ، وحينئذ يسمى ذلك الفعل باطلا ، لا بمعنى إنه ليس له غاية بحسب ذلك الاعتقاد ، بل بمعنى أنه ليس له غاية تستحق في نفسها جعلها غاية.

الثاني : إنه ربما كانت الغاية في تلك الحركة ، ليست إلا الوصول إلى ذلك الحد المعين. فهذا يكون غاية لتلك الحركة ، بمعنى أنه ما أريد من تلك الحركة إلا الوصول إلى تلك الغاية المعينة. وقد يقال : إن هذه الحركة عبث ، بمعنى أن هذه الغاية لما كانت خسيسة لم يكن بين وجودها وعدمها فرق معتبر ، إجراء للحقير مجرى المعدوم.

وأما النائم فنقول : إنه ما لم يتخيل النائم مكروها أو مطلوبا [لم يترك شيئا ولم يفعل شيئا. وأقصى ما في الباب : إنا بعد الانتباه لا نتذكر ذلك المطلوب وذلك المهروب (١)] إلا أنه لا يلزم من حصول ذلك التخيل في ذلك الوقت ، علمنا بعد النوم بأنه كان ذلك التخيل حاصلا في ذلك الوقت. وأما قوله : «الجائع يبتدئ بكسر الرغيف من أحد الجوانب ، لا لغرض معين» فنقول : إنه ما لم يتخيل أمرا صالحا لذلك الترجيح ، لم يحصل ذلك التعين. وهو كونه ألذ وأوفق أو كونه أقرب. أو شيء آخر ، يكون حاصلا في الذهن. إلا أنه يزول عن الذهن في الحال ، فلا يمكن التعبير عنه لهذا السبب.

المسألة الثانية في الرد على من يقول : المقصود من تلك الحركات : إصلاح هذه السافلات : فنقول : الذي يدل على فساد هذا القول وجهين (٢) :

الحجة الأولى : إن كل من كان أكثر أفعاله لرعاية حال الغير ، كان كالخادم لذلك الغير. والخادم أخس من المخدوم. ثم إذا كان المخدوم خسيسا ، كان خادمه بالغا إلى النهاية القصوى في الخساسة. وأشرف موجودات

__________________

(١) سقط (م).

(٢) وجوه [الأصل].

هذا العالم العنصري ، هو في نهاية الضعف ، في علومه ، وفي أفعاله الفاضلة. فجعل تلك الأجسام العالية المقدسة الشريفة خادمة لهذه الأجسام الخسيسة ، مما لا يقبله العقل. فإن قيل : أليس المقصود من النبي رعاية مصالح الأمة [ومن السلطان رعاية مصلحة الرعية (١)] ومن الراعي رعاية الغنم. ولم يلزم كون النبي أدون حالا من الأمة. فكذا هاهنا؟ قلنا : لا نسلم أنه لا فائدة في وجود النبي إلا رعاية مصالح الأمة ، بل في وجوده فوائد عالية رفيعة (٢) فإنه لأجل نبوته تستكمل ذاته بالمعارف القدسية ، والأنوار الإلهية. من جملتها : إرشاد الخلق إلى الحق. ونظيره في مسألتنا : أن يقال : إن للأفلاك في حركاتها : فوائد كثيرة. ومن جملتها : مصالح السافلات. وبهذا التقدير [سيندفع السؤال (٣)] وهذا هو القول الذي اختاره «ثامسطيوس» وهو أن الفلك يستفيد من المبادي العالية أنواعا من البهجة والسعادة ، ثم إنه يختار الجهة المعينة ، لكونها أنفع للسافلات. وذلك عين (٤) المذهب الذي نحن فيه الآن.

الحجة الثانية : إن كل من فعل فعلا لغرض. فهو مستكمل بذلك الغرض. فلو فعلت الأجرام العالية أفعالها ، لمصالح السافلات [لكانت مستكملة بهذه السافلات. ومعلوم أنها أشرف وأعلى من هذه السافلات (٥)] فيلزم كون الأكمل مستكملا بالأخس والأنقص. وهو محال. ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الكامل الشريف العالي ، قد يستكمل في بعض الأحوال بالخسيس النازل؟ ألا ترى أن السلطان قد ينتفع برعيته ، والمولى قد ينتفع بعبده ، والإنسان قد ينتفع بالخبز والماء ، مع أنه أشرف منهما.

واعلم : أن هذين الدليلين ، لا شك أنهما من باب الإقناعيات. إلا أنه ثبت أن [الأرض (٦)] بالنسبة إلى الأفلاك والكواكب [العلوية (٧)] كالمركز في

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) شريفة (ل).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) غير (ل ، طا).

(٥) سقط (م) ، (ط).

(٦) العالم العنصري (م).

(٧) سقط (طا ، ل).

الدائرة. وأنه لا يبقى لها وجود بالنسبة إليها. ويبعد في العقل : أن يقال : الفلك الأعظم على جلالته ، وفلك الثوابت على عظمته ، وجملة الثوابت على غاية جلالتها ، وجميع الأفلاك السبعة مع ما فيها من السيارات الرفيعة ، والشمس على غاية جلالتها ، كلها دائمة الحركة والفعل لأجل مصالح هذا العالم ، الذي أشرف أقسامه هو الإنسان. ثم إن حاصل الإنسان من العلم والفضائل ليس إلا القليل. فهذا في العقل نفرة شديدة عنه. [والله أعلم بالحقائق (١)].

المسألة الثالثة في إبطال قول من يقول : المقصود [للأفلاك (٢)] من الحركات إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل :

اعلم : أن هذا الوجه كأنه [أضعف (٣)] الوجوه وأبعدها عن العقل ، ثم الذي يدل على فساده وجوه :

الأول : إنه لو كان مقصود الفلك من الحركة إخراج تلك الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، لوجب أن تكون تلك الحركات واقعة على أسرع الوجوه. وهذا باطل فذاك باطل.

وبيان الملازمة : أنه إذا كان مقصود [فلك الثوابت (٤)] من الحركة : إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل فلم لا يخرجها [فلك الثوابت (٥)] وفي مقدار اليوم الواحد. فإن القادر إذا أمكنه تحصيل مقصوده في زمان قليل ، فإنه لا يعدل عنه ولا يوقف تحصيله على زمان طويل؟ فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إن هيولى كل فلك لا يقبل إلا ذلك النوع [من الحركة. ولأجل أن تلك الهيولى لا يقبل إلا ذلك النوع ، من الحركة (٦)] وجد ذلك النوع دون

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) سقط (ل).

(٤) الفلك (م).

(٥) من (م).

(٦) سقط (م) ، (ط).

غيره؟ فنقول : فإذا جاز هذا ، فقولوا : إن هيولى كل فلك مستلزمة لذاتها ، حصول ذلك النوع من الحركة. فلهذا السبب وقعت تلك الحركة ، دون سائر الحركات. وعلى هذا التقدير، فيبطل كل ما ذكرتموه.

الحجة الثانية : إن الحركة من المشرق إلى المغرب كما أنها تفيد إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، فكذلك الحركة المضادة لها ، تفيد هذا المقصود. وإذا كان جميع أنواع الحركات يفيد هذا المقصود ، لم يكن بعضها أولى من بعض ، ولا يمكن الجمع بينهما. فلم يبق إلا تركها [بأسرها (١)] فما ذكرتموه يوجب نفي الحركة ، لا حصولها.

الحجة الثالثة : إنا لو فرضنا إنسانا أخذ يعدو في [جميع (٢)] مشارق الأرض ومغاربها. ويقول : لا غرض لي في هذه الحركة : إلا إخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، لقضى كل عاقل عليه بالجنون. فإن قالوا : الفرق بين البابين : أن هذا الإنسان خالي عن أكثر الكمالات المهمة ، فكان اشتغاله باستخراج الأيون والأوضاع ، مانعا له من تلك الكمالات ، بخلاف الفلك فإنه كامل في جميع الصفات ، إلا في هذا المعنى ، فكان اشتغاله بتحصيلها كمالا ، بالنسبة إليه.

قلنا : أنتم ما ذكرتم برهانا يقينيا في أن نفس الفلك وجسده كاملة في جميع الصفات، إلا في هذا المعنى. فكان كلامكم باطلا. بل قد بينا : أنه لا يمتنع أن يكون مقصوده من هذه الحركة : سائر الوجوه التي عددناها.

الحجة الرابعة : وهي إن استخراج الأيون والأوضاع. إما أن يكون كمالا ، لا يصلح أن يكون مقصودا للعاقل ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول وجب أن يكون مقصود الفلك من الحركة : نفس الحركة. ولو كان الأمر كذلك ، لبطل قولكم : إن مقصود الفلك من الحركة التشبه بالعقل المفارق. وإن كان الثاني ، وهو أن هذه الاستخراجات أمور لا تصلح أن تكون مطلوبة

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) من (ط).

للعقلاء. فهذا يقدح في كون الفلك طالبا لها. وكل ذلك (١) يبطل قولهم.

الحجة الخامسة : إن الفلك إن كان معتوها مجنونا لا يعرف الحقائق ، فلا عبرة بحركته ولا بفعله ، فلعله تخيل تخيلات فاسدة ، لأجلها بقي مواظبا على الحركة. وإن كان عاقلا فنقول : إنه يعلم : أنه لا يمكنه استخراج شيء من باب الأيون والأوضاع ، من القوة إلى الفعل : إلا الواحد فقط. ولا يمكنه [أن يجمع بين اثنين منها (٢)] وإلا لزم حصول الجسم الواحد في مكانين. ونعلم أيضا : أن جميع تلك الأيون والأوضاع متماثلة في تمام الماهية ، ومتساوية في كلية الحقيقة. وإذا كان الأمر كذلك ، لم يكن في إبدال بعضها بالبعض فائدة البتة. وإذا عرفت هذا ، وجب أن يكتفي بالأين الواحد والوضع الواحد ، وإن يريح نفسه من المواظبة على هذه الأعمال الفاسدة. وذلك يوجب بقاء الفلك عن السكون ، وإعراضه عن الحركة بالكلية.

الحجة السادسة : لو كان المقصود من الحركة استخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل ، فلأي سبب بقي مواظبا على استخراج الأيون والأوضاع الحاصلة في هذا المدار أبدا ، وبقي معرضا عن الأيون والأوضاع الحاصلة في سائر المدارات التي لا نهاية لها؟ إنه إذا حصل للمقصود الواحد طرق كثيرة ، وكان كل واحد منها مساويا للآخر في تمام الإفضاء إلى المطلوب ، كان البقاء على الواحد منها أبدا ، والإعراض عن البواقي : ممتنعا محالا. فلو كان [المقصود (٣)] ما ذكرتم ، لكان البقاء على هذه الحالة : محالا. وحيث حصل هذا البقاء ، ثبت أن ما ذكرتموه باطل.

الحجة السابعة : إنه إما أن يكون مقصود الفلك : طلب كلها ، أو طلب واحد منها بعينه ، أو طلب الواحد منها بغير عينه. والأول باطل. وإلا لكان ذلك طلبا للمحال ، وطلب المحال لا يوجد ، أو إن وجد لكنه لا يدوم.

__________________

(١) وذلك يبطل قولكم (ل).

(٢) الزيادة منها (م).

(٣) من (ل).

والثاني يقتضي أنه إذا وجد ذلك الواحد ، أن يقف. لأن كل من فاز بالمطلوب ترك الطلب. والثالث أيضا يقتضي أن يقف ، لأنه إذا كان مقصوده تحصيل واحد من تلك الأيون ـ أي واحد منها ـ فإذا فاز بالواحد منها ، فقد فاز بمقصوده. فوجب أن يقف [فثبت : أن هذا القول فاسد على جميع التقديرات.

الحجة الثامنة : إن الفلك جسم بسيط. فالنقط المفترضة فيه تكون متساوية في تمام الماهية. فالانتقال من نقطة إلى نقطة أخرى. يكون انتقالا من الشيء إلى ما يماثله من كل الوجوه. ومثل هذا لا يمكن أن يكون مطلوبا للعاقل الكامل (١) فثبت : أن هذا القول باطل. وبالجملة فضعفه وبطلانه أظهر من أن يحتاج فيه إلى الدليل والبرهان [والله أعلم (٢)].

المسألة الرابعة في الرد على «ثامسطيوس» في قوله : «إن أصل الحركة معلل بالاستكمال بالأسباب العالية. إلا أن جهات تلك الحركات ، لأجل العناية (٣) بالسافلات».

واحتج «الشيخ» على فساده بوجهين :

الحجة الأولى : قال : إن جاز أن يقال : الحركات إلى الجوانب المختلفة متساوية ، بالنسبة إلى الفلك. فاختيار الحركة المعينة ، لأجل أنها أنفع للسافلات ، جاز أن يقال : إن الحركة والسكون بالنسبة إليه على السوية. فاختاروا أصل الحركة ، لأنه أنفع للسافلات. ولمجيب أن يجيب ويقول : أنتم تقولون : الحركة كمال أول ، وأما السكون فهو عدم [الحركة ، وهو عدم (٤)] لذلك الكمال. والعقل حاكم بأنه يمتنع أن يكون وجود الكمال أو عدمه بالنسبة إلى الفلك على السوية. فأما الحركة إلى جهة مع الحركة إلى جهة أخرى ، فهما متساويان في كون كل واحد منهما كمالا ، فحينئذ لا يمتنع أن يكون رجحان

__________________

(١) من (ل ، طا).

(٢) من (ل ، طا).

(٣) مختل (م) محتمل (ط).

(٤) مختل (م) محتمل (ط).

إحداهما على الأخرى ، لأجل العناية بالسافلات [فظهر الفرق.

الحجة الثانية : قال : الدليل الذي دل على أنه يمتنع أن يكون أصل الحركة لأجل العناية بالسافلات (١)] هو أنه لا يمكن أن يستكمل العالي بالسافل. فكل من فعل فعلا لغرض ، فهو مستكمل بذلك الغرض. وهذا الدليل بعينه قائم في تعيين الجهات ، وفي اختيار الكيفيات. وكما بطل الأصل بالعناية بالسافلات ، فكذا القول في الكيفية.

ولمجيب أن يجيب ويقول : إن صريح العقل شاهد بأن كل من كان أكثر أفعاله لأجل رعاية مصالح الغير ، فإنه يكون كالخادم لذلك الغير. وذلك محال في الأفلاك ، بالنسبة إلى عالم العناصر. أما من كانت أفعاله لأجل أغراض عائدة إليه ، ومقاصد راجعة إليه ، ثم إنه اختار منها واحدا ، لأجل أنه أنفع للضعفاء والعاجزين ، فإنه لا يكون هذا الفاعل خادما لأولئك الضعفاء والعاجزين. فظهر الفرق.

فهذا بيان أن هذين الدليلين اللذين ذكرهما الشيخ الرئيس في إبطال قول «ثامسطيوس» في غاية الضعف.

المسألة الخامسة : قد حكينا عن بعضهم : أنهم قالوا : إنه سبحانه وتعالى مبدأ الخير ، وينبوع الرحمة على جميع الممكنات. وهذه الحركات المعينة للأجرام الفلكية ، سبب لنظم هذا العالم [ولعمارته (٢)] فمقصود الأفلاك والكواكب من حركاتها : التشبه بالإله تعالى ، في كونه مبدأ لحصول النظام والخير والرحمة.

واعلم : أن الشيخ أبطل هذا القول. فقال : «الحق الأول لا يقصد شيئا ، بل هو منفرد بذاته ـ باتفاق الفلاسفة ـ فوجب أن يكون التشبه به في أن لا يقصد شيئا. فأما القصد إلى فعل معين. فهذا مباين للشبه به ، إلا أن يقال : المقصود بالقصد الأول : فعل شيء آخر. وهذا النفع إنما حصل

__________________

(١) لا يمكنه (م).

(٢) هذا الكلام (ل).

بالقصد الثاني ، على جهة الاستتباع ، وذلك لا نزاع فيه».

واعلم : أن هذا الكلام يحمل (١) على أنه ليس المراد من التشبه بالمبدإ الأول هو أنه يحاول أن يجعل نفسه مثل ذات واجب الوجود ، فإن ذلك محال. بل المراد : أنه يسعى في أن يحصل لنفسه ما يليق به من صفات الكمال والجلال. إذا عرفت هذا فنقول : الفلك لا يمكنه أن يتشبه بالمبدإ الأول في عدم القصد ، إلا أنه يمكنه (٢) أن يتشبه به في كونه مبدأ لفيضان الخيرات على المحتاجين. ولا يلزم من امتناع التشبه به في بعض الصفات ، امتناع التشبه به ، فيما يمكن. فظهر : أن هذه الكلمات (٣) : فاسدة [والله أعلم (٤)].

المسألة السادسة في ترتيب الأقوال (٥) المذكورة ، ونظمها على تقسيم صحيح معلوم :

اعلم : أنه ثبت أن الفلك متحرك بالإرادة. فهذا الفلك إما أن يكون له في هذا الفعل غرض ، وإما أن لا يكون. أما القسم الثاني وهو أنه ليس له فيه غرض. فهذا قد سبق الكلام فيه. فثبت القسم الأول. فنقول : ذلك الغرض إما أن يكون هو العناية بالسافلات ، وإما أن يكون استفادة الكمال من الأسباب العالية. والأول باطل. لما ثبت أنه لا يجوز أن تكون حركاتها لأجل العناية بالسافلات. فثبت : أن حركته لأجل استفادة الكمالات من الأسباب العالية. فنقول : تلك الكمالات إما أن تكون عائدة إلى جسم الفلك ، أو إلى نفس الفلك.

أما القسم الأول : فهو قول من يقول : المقصود من الحركة الفلكية استخراج الأيون والأوضاع من القوة إلى الفعل. وقد سبق إبطاله ، فبقي

__________________

(١) مختل (م) محتمل (ط).

(٢) لا يمكنه (م).

(٣) هذا الكلام (ل).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) الأفعال (م).

القسم الثاني وهو أن يكون المقصود من تلك الحركة استفادة الكمالات النفسانية. إذا عرفت هذا ، فنقول : نفس الفلك موجود ، ممكن لذاته. والكمالات [النفسانية (١)] الحاصلة فيها أيضا : موجودات ممكنة الوجود لذواتها. فلا بد لجوهر النفس الفلكية ، والكمالات القائمة بها من مؤثر ، وذلك المؤثر إما الأعراض وإما الأجسام ، وإما جوهر مجرد يفعل [بآلة جسمانية ، وإما جوهر مجرد يفعل (٢)] من غير آلة جسمانية. والأقسام الثلاثة الأول باطلة بالدليل (٣) الذي ذكرناه في النفوس البشرية. بل هاهنا أولى. لأنه لما ثبت أن المؤثر في النفوس البشرية على حقارتها وضعفها ، يجب أن يكون جوهرا عقليا مجردا. فهذا القول في النفوس الفلكية العالية المقدسة : أولى. ثم إذا قلنا : إن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، فحينئذ يمتنع أن يكون المؤثر في وجودها هو الله سبحانه وتعالى. وحينئذ يثبت : أن هذه النفوس الفلكية معلولات في ذواتها ، وفي جميع الكمالات القائمة بها ، بجواهر (٤) مجردة في ذواتها وفي أفعالها عن عوائق الأجسام. ولما كانت جميع الكمالات الحاصلة للنفس الفلكية ، إنما حصلت من فيض ذلك الجوهر العقلي المجرد ، والنفس عالمة بأنه لا يمكنه اكتساب تلك الكمالات من ذلك الجوهر العقلي المجرد إلا بواسطة هذه الحركات ، كانت هذه الحركات شوقية لا محالة ، وكانت أيضا تشبيهية على [معنى (٥)] أن هذه النفس تحاول التشبه بذلك العقل في تمكين (٦) العلوم الحقيقية ، والمعارف القدسية. كما أن التلميذ الذي يعتقد في أستاذه كونه كاملا ، مكملا وأنه لا يمكنه اكتساب الكمالات إلا بالذهاب إليه ، وإلا بالاستفادة منه. فإنه يكون ذهاب ذلك التلميذ إلى ذلك الأستاذ : حركة شوقية. ورغبته في تحصيل تلك العلوم تشبيهية.

__________________

(١) سقط (ط ، ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) بالدلائل (م).

(٤) فعلها جواهر (م).

(٥) من (ل).

(٦) تكثير (ل).

فهذا ما وصل [إليه عقلي (١)] في هذه المباحث الضيقة مع الاعتراف بأنا إنما ذكرناها على سبيل الظن والحسبان ، لا على سبيل الجزم والبرهان. وكيف يستبعد ذلك ، والعقول البشرية قاصرة عن معرفة [أنفسها عرفانا كما ينبغي ، فبأن تكون قاصرة عن معرفة (٢)] هذه الأجرام البعيدة ، كان أولى.

وأما كلام الشيخ الرئيس في هذا الباب فموجود في كتبه. وما نقلناه : لأنا ما وجدنا فيه تقسيما مضبوطا ولا كلاما منظوما. والله [أعلم (٣)] بحقائق الأمور.

__________________

(١) إلينا (ل).

(٢) سقط (طا).

(٣) هو العالم (ل).

الفصل الخامس

في

تعديد الطرق المذكورة

في اثبات العقول الفلكية

اعلم أن الوجوه المذكورة لهم في هذا الباب ثمانية :

الحجة الأولى : وهي الحجة المبنية على أن حركات الأفلاك [شوقية تشبيهية. وقد سبق تقريرها.

الحجة الثانية : أن قالوا قد ثبت أن حركات الأفلاك (١)] لا بداية لها [ولا نهاية (٢)] ولا بدّ لها من فاعل. وفاعلها إما أن يكون قوة جسمانية ، أو ذاتا مجردة. والأول باطل. لأن كل قوة جسمانية فإنها تنقسم بسبب انقسام محلها بناء على نفي الجوهر الفرد فبعض تلك القوة لا بد وأن يكون فعلها أقل من فعل كل القوة [وفعل بعض القوة متناه. فيجب أن يكون فعل كل تلك القوة متناهيا. فثبت : أن كل قوة جسمانية (٣)] ففعلها متناه. وما يكون فعله غير متناه ، وجب أن لا يكون قوة جسمانية. فوجب أن يكون جوهرا مجردا ، ولما ثبت : أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. وجب أن يكون كل فلك مبدأ عقلي مجرد. وهو المطلوب [والكلام على هذا الدليل قد سبق مرارا كثيرة (٤)].

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

الحجة الثالثة : إن الإله تعالى واحد فرد. فيكون معلوله واحدا فقط. وذلك المعلول ، إما أن يكون عرضا أو جسما ، أو هيولى ، أو صورة ، أو نفسا ، أو عقلا. والكل باطل إلا العقل. فوجب أن يكون المعلول الأول عقلا محضا. وقد سبق ذكر هذه الطريقة مع ما فيها من السؤالات الكثيرة.

الحجة الرابعة : قد دللنا على أن النفوس الناطقة : موجودات مجردة. ودللنا على أن المؤثر فيها يجب أن يكون جوهرا عقليا مجردا. فهذا الطريق أيضا يدل على وجود العقول.

الحجة الخامسة : إن العلوم الحادثة في جواهر النفوس الناطقة ، لأن لها من علل. وتلك العلل لا يجوز أن تكون من باب الأعراض والأجسام والجواهر المجردة ، التي تتوقف أفعالها على استعمال الآلات الجسمانية. فوجب أن يكون المؤثر فيها جوهرا مجردا عن الجسمية ، وعن لواحق الجسمية ، في ذاتها وفي صفاتها ، وفي كيفية تأثيراتها. وهو المطلوب.

الحجة السادسة : ذكروا في باب الهيولى والصورة : أن الأجسام مركبة من الهيولى والصورة. وبينوا أن الصورة يمتنع خلوها عن الهيولى. وأن الهيولى يمتنع خلوها عن الصورة. فوجب الحكم بكونهما متلازمتين. ثم بينوا : أنه لما كان الأمر كذلك ، وجب الحكم بكون الهيولى ، وبكون الصورة ممكنين في ذاتيهما. وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، وذلك المؤثر يمتنع أن يكون جسما ، أو ما يكون قائما بالجسم. لأن البحث إنما وقع عن علة مقومات الأجسام. وعلة مقوم الشيء سابق على ذلك الشيء بمراتب. والسابق على الشيء بمراتب يكون مغايرا له. فعلة هيولى الأجسام وصورها موجود مجرد في ذاته وفي تأثيراته عن الأجسام. وذلك يمتنع أن يكون هو الله سبحانه وتعالى ، وما ذاك إلا العقول المجردة.

الحجة السابعة : هذه الأجسام الفلكية ممكنة الوجود. فلا بد لها من علل. ويمتنع أن يكون الحاوي علة للمحوى. وذلك لأن وجود المحوى وعدم

الخلاء معا في الرتبة. والعلة متقدمة [على المعلول (١)] بالرتبة. فلو كان الحاوي علة للمحوى ، لكان متقدما عليه بالرتبة لكن وجود الحاوي متقدما على عدم الخلاء بالرتبة. وهذا محال. لأن الخلاء ممتنع لذاته. والحكم الثابت بالذات لا يمكن أن يتقدمه غيره. فثبت : أن الحاوي لا يمكن أن يكون علة للمحوى [وأما أن المحوى لا يمكن أن يكون علة للحاوي (٢)] فهو بعيد. هكذا قاله الشيخ. ولا أدري أي بعد فيه. فإن القلب وإن كان داخلا في البدن ، إلا أنه هو المدبر لكل البدن. فثبت : أن الأجسام الفلكية ليس شيء منها علة للباقي (٣) فوجب أن يكون عللها شيئا غير الأجسام ، ويمتنع أن يكون هو الله سبحانه وتعالى. لأن الواحد لا يكون علة إلا للواحد ، فلا بد من الإقرار بوجود الجواهر العقلية. وهو المطلوب.

ولقائل أن يقول : هذه الحجة مبنية على مقدمات :

الأولى : إن الخلاء ممتنع لذاته والكلام فيه قد تقدم.

والثانية : أنا نقول : هب أن الفلك المحوي ، ليس معلولا للفلك الحاوي. إلا أنه معلول للعقل الذي هو مع الفلك الحاوي. فإذا كان الفلك المحوي متأخرا [بالرتبة عن العقل الذي هو مع الفلك الحاوي ، وجب أن يكون متأخرا (٤)] عن الفلك الحاوي. لأن المتأخر عن المعلول (٥) متأخر.

فإن زعموا : أن المتأخر عن المعلول (٦) لا يجب أن يكون متأخرا بالرتبة.

فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن وجود المحوي وعدم الخلاء معا. ولا يلزم من كون المحوي متأخرا بالرتبة عن الحاوي ، أن يكون عدم الخلاء متأخرا

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) سقط (م) ، (ط).

(٣) للثاني (م).

(٤) من (طا ، ل).

(٥) المنع (م).

(٦) الممتنع (م).

بالرتبة عن الحاوي. فإنا لا نجد في العقل تفاوتا بين البابين؟

والعجب من الشيخ : أنه بعد ما أطنب في تقرير هذه الحجة في كتاب «الإشارات» وأورد عليه الأسئلة الكثيرة ، لم يورد عليه هذا السؤال الظاهر ، القريب من جميع الأفهام (١) السليمة.

والثالثة : قوله : «المحوي لا يمكن أن يكون علة للحاوي» هو ضعيف. لما بينا أن القلب محوي البدن مع أنه هو المدبر له. فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟.

والرابعة : إن هذا الدليل لا يتم في [آخر الأمر (٢)] إلا بالبناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. وفيه ما قد سبق تقريره.

الحجة الثامنة : قالوا : الجسم يمتنع أن يكون علة للجسم. قالوا : لأن الجسم مركب من الهيولى والصورة. فلو كان جسم علة لجسم ، لكان إما أن يكون له بهيولاه أو بصورته. ويمتنع أن يكون علة له بهيولاه. لأن الهيولى قابل. والشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا. ويمتنع أن يكون علة لذلك المعلول ، بحسب صورته. لوجهين :

الأول : إن تأثير تلك الصورة في ذلك المعلول. إما أن يكون بمشاركة من هيولاها ، أو لا بمشاركة من [هيولاها (٣)] والأول باطل. وإلا لحصل للهيولى [تأثر بنوع ما (٤)] فيعود الأمر إلى ما ذكرناه من كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا. وهو محال. والثاني باطل. لأن الصورة لو كانت غنية في فعلها عن الهيولى ، لكانت غنية في ذاتها عن الهيولى. لأن الموجودية فرع على الموجودية.

__________________

(١) الأذهان (م).

(٢) هذا اللزوم (م).

(٣) هذا الهيولي (م).

(٤) تأثير (ل).

فإذا كان الفرع غنيا عن الهيولى ، فبأن يكون الأصل الذي هو الموجودية غنيا عنها أولى. وحينئذ يلزم أن تكون الصورة الهيولانية ، غنية عن الهيولى ، وذلك محال.

الوجه الثاني : إن الصورة الهيولانية إنما تؤثر بمشاركة الوضع. ومعناه أنها تؤثر أولا فيما

يقرب من محلها.

وثانيا : فيما يتصل بذلك القريب. وعلى هذا الترتيب ، فتنتقل من القريب إلى البعيد.

إذا عرفت هذا فنقول : تأثير الجسم في تكوين جسم آخر ، لا بد وأن يكون مسبوقا بتأثيره في هيولى ذلك المعلول وفي صورته. لكنا بينا أن الهيولى جوهر مجرد ، وحصول القرب والبعد بالنسبة إليه محال. فيمتنع أن يكون للصورة الجسمية تأثير في [وجود الهيولى. وذلك امتنع أن كون لها تأثير في (١)] وجود الجسم. فثبت بهذه البيانات : أن كون الجسم مؤثرا في جسم آخر : محال. فوجب أن يحصل لهذه الأجسام علل سوى الأجسام. ولما امتنع أن يكون المؤثر في وجودها هو [الله سبحانه ، وجب أن يكون المؤثر في وجودها هو (٢)] الجواهر العقلية المجردة.

وهذه الحجة مبنية على مقدمات :

إحداها : أن الجسم مركب من الهيولى والصورة.

وثانيها : أن الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا.

وثالثها : أن ما يكون غنيا في تأثيره عن المادة كان غنيا في وجوده عن المادة.

ورابعها : أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) سقط (م) ، (ط).

وهذه المقدمات قد سبق الكلام فيها على سبيل الاستقصاء. فمن قدر على تقريرها بالبيانات الجلية ، سلمت له هذه الدلالة [وإلا فلا (١)] والله أعلم.

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

الفصل السادس

في

البحث عن فرعين من

فروع القول بهذه العقول والنفوس

الفرع الأول : المشهور أن عدد العقول : عشرة : العقل الأول والعقول التسعة بعدد الأفلاك. ومنهم من يقول : إنها أحد عشر. لأنه أثبت لمجموع العالم العنصري : عقلا [آخر (١)] وهو المدبر لأحوال هذا العالم ، وسماه بالعقل الفعال.

وأما المتأخرون فقالوا : إنه وإن كان عدد الكرات الكلية (٢) تسعة ، إلا أن كل واحد منها ينقسم إلى عدد من الكرات ، وهي الحوامل والتدويرات. ويجب أن يكون لكل واحد منها : نفس على حدة ، وعقل على حدة [بالاستدارة (٣)].

ومنهم من زاد فقال : الدليل الذي يدل على أن هذه الكرات الفلكية متحركة بالاستدارة ، هو أيضا يدل على أن الكواكب متحركة بالاستدارة. فوجب أن يثبت لكل واحد منها أيضا عقل ونفس.

وأيضا : قال الشيخ الرئيس [أبو علي بن سينا (٤)] لم يظهر لي أن فلك

__________________

(١) من (ل).

(٢) العالية (م).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) سقط (م) ، (ط).

الثوابت كرة واحدة ، أو كرات منطوي بعضها على بعض. فإن كان الحق : أنه كرات بحسب عدد الثوابت أو أكثر ، أو أقل ، وجب أن يثبت لكل واحد منها نفس وعقل على حدة.

وأيضا : زعم الشيخ الرئيس : أنه لا يبعد أن يقال : إنه حصل فوق فلك الثوابت ، وتحت الفلك الأعظم ، كرة أخرى. وبسبب حركاتها تتفاوت أحوال الميل (١) فإن ثبت القول بوجود تلك الكرة ، وجب أن يثبت لها نفس وعقل على حدة.

وحكى «أبو الوفاء البوزجاني» في «مجسطيه» : أن قدماء البابليين. زعموا : أن القطبين يحصل لهما ارتفاع وانخفاض في كل كذا وكذا من السنين. فإن ثبت ذلك ، وجب أن يثبت لتلك الكرة أيضا : نفس وعقل على حدة. وإذا عرفت هذا ، فقد ظهر لك أن حصر عدد العقول والنفوس في العشرة أو في الخمسين (٢) : قول لا يليق بأهل التحقيق.

بل نقول : الاحتمالات بعد ما ذكرناه باقية من وجوه :

الأول : إن الحال فيما وراء الفلك الأعظم غير معلوم. فلعله أحاط به كرات كثيرة ، بعضها محيط بالبعض. وأحوالها غير معلومة لنا. وبهذا التقدير ففي العقول والنفوس كثرة.

والثاني : إنا قد ذكرنا : أنه لا يمتنع في العقل وجود فلك عظيم الثخن ، ويكون هذا الفلك الأعظم الذي نعرفه نحن ، موجودا في ثخن تلك الكرة. ويحصل أيضا في ثخنه ألف ألف كرة ، مثل هذا الفلك الأعظم. وبهذا التقدير ففي العقول والنفوس كثرة.

الثالث : إنا ذكرنا : أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، ولم يدل دليل خيالي فضلا عن دليل يقيني ، على أن العالم واحد. وبتقدير أن تكون

__________________

(١) المثل (م).

(٢) الخمسة (م).

العوالم كثيرة ، وجب أن يكون في العقول والنفوس كثرة.

الرابع : إنهم قالوا : إن العقل الأول حصل فيه أربع اعتبارات : إمكانه ، ووجوده ، وعلمه بكونه واجب الوجود بسبب علته ، وعلمه بعلته. ثم صدر عن هذه الاعتبارات الأربعة : أشياء : هيولى الفلك الأعظم ، وصورته وعقله ، ونفسه. ثم على هذا الترتيب يصدر عن كل عقل : هذه الأمور الأربعة. حتى استوفت الكرات السماوية عددها. وحينئذ انقطعت مراتب العقول. فلما قيل لهم : أليس هذه الاعتبارات الأربعة حاصلة في العقل الأخير ، فكان يجب أن يحصل له تلك الأربعة. وهكذا إلى ما لا آخر له؟

أجابوا عنه : بأن العقول مختلفة ، بحسب ماهياتها المخصوصة ، وحقائقها المعينة. وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يلزم من حصول هذه الاعتبارات الأربعة في العقل الأخير ، كونه علة لهذه الأشياء الأربعة. إذا عرفت هذا ، فنقول : إن هذا اعتراف من القوم بأنه لا يلزم من حصول هذه الاعتبارات في جوهر عقل من العقول : كونه علة لهذه المعلولات الأربعة. وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يلزم من حصول هذه الاعتبارات الأربعة في ذات العقل الأول : كونه علة لهيولى الفلك الأعظم ، ولصورته ، ولنفسه ، ولعقله. فلعل العقل الأول كان علة لعقل واحد ، وذلك الثاني كان علة للعقل الثالث. وهكذا. كان يصدر عن كل واحد واحد. إلى عدد ومرتبة لا يعلمها إلا الله تعالى. ثم حصل بعد ذلك عقل. وصارت الجهات الأربع الموجودة فيه ، علة للمعلولات الأربعة ، وحينئذ حصل الفلك الأعظم بهيولاه ، وصورته ، وعقله ، ونفسه. فثبت بهذه البيانات التي ذكرناها : أن حصر ملائكة الله تعالى في عدد معلوم ، مما لا يليق بالقوة العقلية البشرية.

والحق في هذا الباب : ما جاء في الكتاب الإلهي حيث قال : (وَمَا أُوتِيتُمْ‌ مِنَ‌ الْعِلْمِ‌ إِلاَّ قَلِيلاً) وقال : (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ).

__________________

(١) الإسراء ٨٥.

(٢) المدثر ٣١.

الفرع الثاني : قالوا : كل واحد من هذه العقول ، يجب أن يكون نوعه في شخصه. لأنا لو فرضنا [وجود شخصين (١)] منها تحت نوع واحد ، فامتياز أحدهما عن الآخر. لا يكون بالماهية ولا بلوازمها ، فوجب أن يكون بسبب اختلاف المواد. فيلزم : أن يصير المجرد عن المادة متعلقا بالمادة. هذا خلف. وأما الذي جاء في الكتاب الإلهي. في أن بعضها «صافات» وبعضها «زاجرات» وبعضها «تاليات» فلا يخالف ذلك الكلام. لما بينا : أن الاشتراك في اللوازم والآثار ، لا يدل على الاشتراك في الماهيات [وبالله التوفيق (٢)].

__________________

(١) سقط (طا).

(٢) من (طا ، ل).

الفصل السابع

في

نقل كلمات أصحاب الطلسمات

في صفات الأرواح الفلكية العالية

اعلم : أن كلام القوم مشعر بأنهم أثبتوا لكل فلك روحا كليا ، يدبر ذلك الفلك. وأثبتوا أيضا : أرواحا كثيرة متشعبة من ذلك الأصل. ومثاله : أنهم أثبتوا للعرش روحا ، هو النفس الكلية التي يسري أثرها في جميع الأجسام الموجودة في داخل هذا الفلك. وهو المسمى بالروح الأعظم.

ثم أثبتوا أرواحا كثيرة متشعبة منها ومتعلقة بأجزاء الفلك الأعظم ، وبأطرافه. كما أن النفس الكلية المدبرة للبدن شيء واحد ثم إنه انشعبت عنها قوى كثيرة ، كل واحدة منها يتعلق بجزء من أجزاء البدن. مثل : أنه حصل في كل عضو جاذبة تليق به ، وماسكة تليق به [ورعاية تليق به (١)] وكذا القول في سائر القوى. والقرآن العظيم مشعر بهذا المعنى ، حيث قال تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ، وَالْمَلائِكَةُ : صَفًّا) (٢) فالمراد بالروح : النفس [الفلكية (٣)] المدبرة لكل جسم العرش ، وأما الشعب المنفصلة منها ، المتعلقة بأجزاء العرش وأبعاضها ، فهي المراد من قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ

__________________

(١) سقط (ط) ، (ل).

(٢) النبأ ٣٨ وفي تفسير القرطبي أن للعلماء في الروح ثمانية أقوال هي : ١ ـ ملك من الملائكة ٢ ـ جبريل عليه‌السلام ٣ ـ جند من جنود الله ليسوا بملائكة ٤ ـ أشراف الملائكة ٥ ـ حفظه على الملائكة ٦ ـ بنو آدم ، أي ذوو الروح ٧ ـ أرواح بني آدم تقوم

(٣) سقط (ط) ، (ل).

الْعَرْشِ ، يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (١) وإذا عرفت هذا البحث في الفلك الأعظم ، فاعرف مثله في سائر الأفلاك.

ثم إن أصحاب الطلسمات : أثبتوا لكل درجة من الدرجات الثلاثمائة والستين : روحا ، يختص بها ، إلا أن أثر ذلك الروح إنما (٢) يقوى ويظهر ، عند نزول الشمس في تلك الدرجة. وأثبتوا أيضا : أرواحا تدبر الأيام ، وأرواحا أخرى تدبر الساعات. وأثبتوا لكل واحد منها نوعا من التأثيرات. وأيضا : إن كرة الأرض مقسومة بأربعة أقسام : البحار ، والجبال ، والمفاوز ، والعمرانات. وزعموا : أن المدبر لكل واحد من هذه الأقسام : روح من الأرواح [الفلكية (٣)] ثم زعموا : أن لكل واحد من البحار مدبرا على حدة. وكذا القول في الجبال والمفاوز. وكذا القول أيضا في البلاد. فإنهم زعموا : أن لكل واحد منها مدبرا خاصا من الأرواح الفلكية. وزعموا : أن للنبات مدبرا ، وللطير مدبرا ، وللحشرات مدبرا. وكذا القول في السباع وفي البهائم. وهؤلاء زعموا : أن الملل والأديان دالة على هذا المعنى. ألا ترى في لسان صاحب الشريعة عليه‌السلام ، أنه قال : «جبريل صاحب الوحي والعلم ، وميكائيل صاحب الأرزاق ، وعزرائيل ملك الموت» «وملك الجبال فلان ، وملك البحار فلان». ثم إن أصحاب الطلسمات زعموا : أن الواجب على الإنسان أن يشتغل بطاعة ذلك الروح ، وبعباداته ، وأن يتخذ له هيكلا ، ويشتغل بعبادته. ورأيت أكثر أهل الهند مطبقين على هذا المذهب. ويليق بهذا الموضع : أن نشرح مذاهب عبدة الأصنام. فنقول : إن العلم الضروري حاصل بأن الحجر المنحوت ، والخشب المنحوت : لا يصلح لإلهية العالم. وما كان معلوم الفساد بالبديهة (٤) امتنع إطباق الجمع العظيم عليه زمانا طويلا ودهرا مديدا. وعبادة

__________________

(١) الزمر ٧٥.

(٢) لا يقوى ولا يظهر إلا عند ... الخ (م).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) بالضرورة (ل).

الأصنام كانت موجودة قبل مجيء نوح عليه‌السلام. بدليل : أنه تعالى حكى عن كفار زمانه قولهم: (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ. وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا ، وَلا سُواعاً ، وَلا يَغُوثَ ، وَيَعُوقَ ، وَنَسْراً) (١).

ثم إن ذلك الدين بقي من ذلك الوقت مستمرا في أكثر أطراف الأرض ، إلى هذا الزمان. وذلك يدل على أنه ليس مرادهم منه : اعتقادهم في أن مبر العالم : هو ذلك الخشب والحجر والصورة المفرغة في القالب ، بل لهم فيه تأويلات.

التأويل الأول : الأعظم الأقوى ـ أنّ المنجمين وأصحاب الأحكام : زعموا أن المدبر لهذا العالم : هو الكواكب السبعة السيارة. لأجل أنهم شاهدوا أحوال هذا العالم مرتبطة باختلاف أحوال الشمس والقمر. فاعتقدوا إلهية هذه الكواكب. ثم إنها تغيب عن العيون تارة لأجل غروبها ، وتارة لأجل أن الغيم يحجب عن رؤيتها ، وتارة لأجل أن سائر الكواكب تختفي ، بسبب وقوعها (٢) في شعاع الشمس. فلأجل هذا السبب اتخذوا أصناما على صور تلك الكواكب ، وزينوها بالأشياء المناسبة لتلك الكواكب ثم واظبوا على عبادتها. فهذا هو السبب الأعظم للاشتغال بعبادة الأصنام. ومما يدل عليه : أنه تعالى لما حكى عن الخليلعليه‌السلام ، أن قال لأبيه آذر : أتتخذ أصناما آلهة؟ إني أراك وقومك في ضلال مبين (٣). ثم إنه بعد ذكر هذا الكلام : اشتغل بإقامة الدلالة على أن لا يجوز اتخاذ الكواكب والقمر والشمس آلهة. وذلك من أصدق الدلائل الدالة على أن دين عبدة الأوثان : فرع هذا المذهب.

التأويل الثاني : ما نقلنا عن الهند وغيرهم. أنهم قالوا : ثبت بالاستقراء وبالوحي أن لكل طرف من أطراف الأرض ولكل طائفة من طوائف الناس : روح فلكي ، يدبرهم ، ويعتني بإصلاح أحوالهم. وإذا كان الأمر كذلك كان

__________________

(١) نوح ٢٣.

(٢) قوة (م).

(٣) الأنعام ٧٤.

الواجب على أهل ذلك الطرف. الاشتغال بعبادة ذلك الروح ، والإقبال على طاعته. ثم إن ذلك الروح يشتغل بعبادة الروح الذي هو أعلى شأنا منه ، وأقرب منزلة إلى الله تعالى منه ، وهكذا كل مرتبة سافلة فإنها تكون مشغولة بعبادة المرتبة العالية ، حتى ينتهي التصاعد إلى العباد المقربين ، في حضرة واجب الوجود. وهم يعبدونه حق عبادته ، ويذكرونه بالثناء اللائق به ، ويصفونه بالصفات المناسبة لكماله وجلاله. ثم إن هؤلاء الأقوام لما اعتقدوا هذا الاعتقاد : صنعوا تماثيل تناسب تلك الأرواح على وفق عقائدهم. وتقربوا إليها. وكان غرضهم من تلك العبادة : التقرب إلى ذلك الروح المدبر لذلك الطرف من الأرض. فهذا مذهب هذه الفرقة.

وسمعت من أصحاب هذا المذهب في الهند : حججا عليه :

الحجة الأولى : قالوا اعتقاد البشر بأن لهم ، أهلية عبادة الله تعالى [تيه شديد ، وصلف (١)] فإن عبوديته تعالى ، إنما تليق بمن يعرفه حق المعرفة ، ويقدر على القيام بحقوق آلائه ونعمائه كما ينبغي ، لكن العقول البشرية ضعيفة ، وتفنى في أقل الأشياء ولذلك فإن لا مسألة يبحث العقل فيها حق البحث ، إلا ويبقى فيها كالمتحير التائه الواله. وذلك يدل على نقصان عقله ، وضعف فهمه. وإذا كان كذلك ، فالواجب على البشر ، واللائق بأحوالهم : أن يشتغلوا بعبادة الملائكة. وهم يشتغلون بعبادة أكابر الملائكة والملائكة المقربون هم الذين يشتغلون بعبادة الله تعالى. فهذا أقرب إلى التواضع وحسن الأدب.

الحجة الثانية : قالوا : الغائب إنما يعرف بالقياس على الشاهد. ولو أن الرجل الضعيف يقول : إني لا أشتغل إلا بخدمة السلطان الأعظم ، لبقي محروما عن كل الخيرات. إنما اللائق بحاله : أن يخدم واحدا من الأوساط. وذلك الرجل يخدم الحاجب أو غيره. وذلك الحاجب يخدم السلطان. وحينئذ يحصل النظم والترتيب ، ويمكنه أن ينتفع به نفعا لائقا به.

__________________

(١) من ز ل ، وفي ، م ، خطأ عظيم.

وأيضا إن ملك أرضا بمقدار جريب فإذا أراد أن يسقيها ، فاللائق به أن يطلب شعبة صغيرة ، تنفصل من جدول صغير ، ويجريها إلى تلك الأريضة. فأما إن أراد إجراء [النهر العظيم الذي في (١)] الوادي إلى تلك الأريضة ، غرقت وفسدت. فكيف إذا قال : إني أجري إليها البحر الأعظم. فكذا هاهنا روح البشر ، تجري مجرى الأريضة الصغيرة. فإذا أراد سقيها ببحار أنوار جلال الله تعالى ، غرقت. بل الأولى أن يغلق فكره بروح من الأرواح الفلكية حتى يمكنه الانتفاع بها.

الحجة الثالثة : إنه لما كان المتولي لرعاية مصالح ذلك الطرف ، هو ذلك الروح المعين ، كان الإعراض عن طاعته ، إعراضا عن المنعم. فيستحق المقت والحرمان.

واعلم : أني لما سمعت هذه الوجوه من القوم قلت : إنها كلمات لا بأس بها في ظاهر الأمر ، إلا أن فيها عيبا عظيما ، وفحشا تاما. فقالوا لي : وما ذلك العيب؟ فقلت : إن وجود موجود واجب الوجود لذاته ، يدبر هذا العالم : معلوم. وأما إثبات هذه الأرواح ، وكونها مدبرة لهذا الطرف من الأرض فهو غير معلوم بل أمر مظنون غير متأكد بحجة قوية ، وبرهان تام. وإذا كان كذلك ، فالاشتغال بعبادة هذه الأرواح : إعراض عن المعبود الذي علم كونه معبودا ، وإقبال على عبادة شيء لم يعلم وجوده البتة. والعقل يقتضي الإعراض عن المجهول ، والإقبال على المعلوم. فأما ضده فهو على مضادة مقتضى العقل.

وهذا هو الدليل المذكور في القرآن ، في قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ. فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) (٢) وتقريره : إن وجود الإله : معلوم لأنه لما دل الدليل على وجوب انتهاء الممكنات إلى موجود واجب الوجود لذاته فحينئذ حصل الجزم بوجوده. ولما فسد دليل من

__________________

(١) العبارة ملفقة من (م ، ل).

(٢) المؤمنون ١١٧.

قال : الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. فحينئذ لا يمتنع كونه سبحانه مبدأ لجميع الممكنات. والعلم بأن هذا الموجود : إله واجب التعظيم : حاصل قطعا. أما سائر الأسباب ، فوجودها غير معلوم بالبرهان [وبتقدير كونها موجودة ، لكن لا يعلم كونها مؤثرة في هذا العالم بالبرهان (١)] وإذا ثبت هذا ، كان الاشتغال بعبادتها إعراضا عن المعلوم ، وإقبالا على ما لم يثبت وجوده بالبرهان [فهذا معنى قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٢)]. ثم قال : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) أي من جحد المعلوم ، وأثبت غير المعلوم : لم يفلح البتة. ثم قال بعده : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ. وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) وهذا فيه لطيفة عجيبة : لأن المقصود بالعبادات (٣) : إما دفع المؤذي ، وإما الفوز بالراحة. ودفع المؤذي أهم من الوصول إلى الراحة ، فيكون مقدما عليه في الرتبة. ودفع المؤذي هو المغفرة والفوز بالراحة هو الرحمة. فلهذا قال : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ) فقدم طلب المغفرة والفوز بالراحة ، على طلب الرحمة. ثم قال : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

وفيه دقيقة أخرى : وهي أن هذه الأرواح الفلكية بتقدير كونها قادرة على دفع البلاء ، وإيصال الآلاء والنعماء. إلا أن قدرة المبدأ الأول عليه : أكمل وأفضل. لأنها محتاجة إلى واجب الوجود [لذاته (٤)] في ذواتها ، وفي صفاتها والمحتاج إليه أكمل وأفضل وأعلى وأقوى من المحتاج. وبتقدير ثبوت هذه الأرواح وتقدير كونها مدبرة لهذا العالم ، إلا أن الرجوع إلى واجب الوجود في طلب هذه الأشياء ، أولى من الرجوع إلى تلك الأرواح. لأنه فوق الكل في الكمال والرحمة والفضل والجود والكرم. ولهذا ختم الكلام بقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) بالذات (م).

(٤) من (م).

التأويل الثالث لعبدة الأصنام : إن أصحاب الأحكام والطلسمات ، كانوا يطلبون الأوقات الصالحة للطلسمات التي تقوي آثارها وفوائدها. وذلك الوقت لا يوجد في الألوف من السنين إلا لواحد. فإذا وجده عمل عليه طلسما لذلك المطلوب الخاص. ثم إنهم يعظمونه ويرجعون إليه عند طلب تلك المنافع والفوائد.

التأويل الرابع : ما ذكره «أبو معشر ، جعفر بن محمد البلخي (١)» فقال : إن كثيرا من أهل الصين والهند ، كانوا يقولون بالله والملائكة. إلا أنهم اعتقدوا : أن الله تعالى جسم ، وأن له صورة كأحسن ما يكون من الصور. وهكذا حال الملائكة أيضا في صورهم الحسنة. وكانوا يعتقدون أنهم محتجبون عنا بالسماوات. فلهذا السبب اتخذوا صورة حسنة وتماثيل أنيقة المنظر ، حسنة الرؤيا (٢) فجعلوا أحسنها وأعظمها على صورة الإله ، وزينوه بالذهب والجواهر النفيسة. ثم صوروا صورا ، دون تلك الصور الأولى ، على اعتقاد أنها صور الملائكة ، وأخذوا يعبدونها ، ويواظبون على خدمتها وعلى هذا التقدير فدين عبدة الأوثان فرع على القول بالتجسيد والتشبيه.

التأويل الخامس : إنه كلما مات لهم رجل يعتقدون في علو درجته ، وكمال مرتبته عند الله : اتخذوا تمثالا على صورته. وغرضهم منه : تعظيم ذلك الرجل الميت. وزعموا : أنه يوم القيامة يكونون شفعاؤهم عند الله. وقد أخبر الله تعالى عنهم في قوله تعالى : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣) وقوله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٤).

التأويل السادس : إن جماعة من المجسمة يجوزون حلول الإله تعالى في أبدان الحيوانات والنباتات. فلما شاهدوا من تلك الأصنام آثارا مخصوصة. إما

__________________

(١) المنجم (م).

(٢) الرواء (ط).

(٣) الرمز ٣.

(٤) يونس ١٨.

على سبيل الحقيقة ، وإما على سبيل المكر والخداع : وقع في قلوبهم : أن الإله تعالى حلّ فيها. فلهذا السبب اشتغلوا بعبادتها.

التأويل السابع : لعل المتقدمين اتخذوها محاريب لصلواتهم وطاعتهم ، ويسجدون إليها ، لا لها. كما نسجد إلى القبلة [لا للقبلة (١)] ولما طالت المدة في هذا العمل (٢) ظن الجهال من القوم : أنه يجب عبادتها.

فهذا جملة التأويلات المذكورة في هذا الباب.

واعلم أن اليونانيين كانوا قبل خروج «الإسكندر» عمدوا إلى بناء هياكل لهم ، معرفة بأسماء القوى الروحانية ، والأجرام المنيرة ، واتخذوها منازل للطاعة والعبادة. فواحد منها هيكل (٣) العلة الأولى وهو عندهم الأمر الإلهي. ثم هيكل العقل الصريح ، وهيكل السياسة المطلقة ، وهيكل النفس والصورة. وهي بأسرها مدورات ، وكان هيكل «زحل» مسدسا ، وهيكل «المشتري» مثلثا ، وهيكل «المريخ» مستطيلا ، وهيكل «الشمس» مربعا ، وكان هيكل «الزهرة» مثلثا في جوفه مربع ، وهيكل «عطارد» مثلثا في جوفه مستطيل ، وهيكل «القمر» كان مثمنا. ولهم في هذه الأشكال المخصوصة أسرار واجبة الرعاية بحسب أقوالهم [والله أعلم (٤)].

__________________

(١) سقط (طا ، ل).

(٢) العمر (م).

(٣) علة هيكل (ط).

(٤) من (طا ، ل).

الفصل الثامن

في

شرح صفات الملائكة

بحسب ما وجدنا في الكتاب الكريم

اعلم : أنه لا خلاف بين العقلاء في أن أشرف أقسام [الحسن والكمال للعالم العلوي هو وجود الملائكة فيه. كما أن أشرف أقسام (١)] الزينة في العالم الأسفل ، هو وجود الإنسان العاقل فيه. إلا أن الناس اختلفوا في ماهية الملائكة. وطريق ضبط الأقوال أن نقول :

إنها إما أن تكون متحيزة ، أو لا تكون متحيزة.

أما القسم الأول. ففيه أقوال :

الأول : إنها أجسام لطيفة هوائية نورانية ، تقدر على التشكل بأشكال مختلفة [وأنها ذوات باقية ، مبرأة عن الذبول والانحلال والضعف والاختلال (٢)] ومسكنها السموات. وهذا قول أكثر المسلمين.

الثاني : قول طوائف من عبدة الأصنام. وهو أن الملائكة في الحقيقة هي هذه الكواكب ، الموصوفة بالإسعاد والإنحاس. فإنها أحياء ناطقة. فالسعود ملائكة الرحمة ، والنحوس ملائكة العذاب.

الثالث : قول الثنوية. وهو أن هذا العالم مركب من أصلين قديمين.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

وهما النور والظلمة. وهما جوهران حساسان مختاران قادران ، متضادان في النفس والصورة ، مختلفان قادران ، في الفعل والتدبير. فجوهر النور فاضل خير نقي طيب الريح كريم النفس ، يسر (١) ولا يضر ، وينفع ولا يمنع ، ويحيى (٢) ولا يبلى. وأما جوهر الظلمة فهو على ضد ذلك. ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء. وهم الملائكة ، لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولد الحكمة من الحكيم ، والضوء من المضيء. وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء [وهم الشياطين (٣)] لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولد السفه من السفيه. فهذه الأقوال الثلاثة هي أقوال من جعل الملائكة أشياء متحيزة جسمانية.

والقسم الثاني : وهو ان الملائكة ذوات قائمة بأنفسها. وليست متحيزة ولا حالة في المتحيزات ، ففيه (٤) قولان :

الأول : قول طوائف من النصارى : وهو أن الملائكة في الحقيقة : هي الأنفس الناطقة ، المفارقة لأبدانها مع الصفاء والخيرية. وذلك لأن هذه النفوس المفارقة ، إن كانت صافية خيرة ، فهي الملائكة. وإن كانت خبيثة كدرة ، فهي الشياطين.

والثاني : وهو قول جمهور الفلاسفة : إن الملائكة عبارة عن جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها. وإنها بالماهية مخالفة للنفوس البشرية [ولا نسبة لعلومها إلى علوم النفوس البشرية الناطقة ولا لقدرها إلى قدر النفوس الناطقة البشرية. وأنها أكمل منها قوة وأكثر علما. وأنها بالنسبة إلى النفوس البشرية جارية مجرى الشمس بالنسبة (٥)] إلى الضوء القليل ، والبحر الأعظم بالنسبة إلى القطرة. ثم إن هذه الجواهر على قسمين : منها ما هي مستقلة بتدبير أجسام الأفلاك

__________________

(١) ييسر ولا يعسر (م).

(٢) ويحيى الذليل (ل).

(٣) سقط (ل).

(٤) المتحيزات. وعلى هذا التقدير ففيه [الأصل].

(٥) من (طا ، ل).

[والكواكب. كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا (١)] وهي المسماة بالنفوس الفلكية. ومنها ما هو أعلى شأنا من أن يكون لها تعلق بعالم الأجسام. وهي العقول المجردة. وقد ذكر دلائل الفلاسفة في إثبات هذه الموجودات على سبيل الاستقصاء.

واعلم : أن الأخبار الكثيرة واردة في شرح كثرتها قال عليه‌السلام : «أطت السموات. وحق لها أن تئط. ما فيها موضع قدم ، إلا وفيه ملك ساجد أو راكع».

وروى أن «بني آدم : عشر الجن. ثم إن الجن وبني آدم : عشر حيوانات البر (٢) والطير. وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر. وكلهم عشر ملائكة الأرض. وكلهم عشر ملائكة السماء الدنيا. وكلهم عشر ملائكة السماء الثانية».

وعلى هذا الترتيب إلى «ملائكة السماء السابعة» ثم الكل في مقابلة «ملائكة الكرسي» شيء قليل جدا. ثم كلهم عشر ملائكة «السرادق الواحد» من سرادقات العرش ، ثم إنه ما من مقدار من أجزاء السموات السبع والكرسي والعرش. إلا وفيه ملك ساجد ، أو راكع ، أو قائم.

ولهم زجل بالتسبيح والتقديس. ثم كل هؤلاء في مقابلة الملائكة ـ الذين هم سكان سائر العوالم الموجودة خارج هذا العالم ـ كالقطرة في البحر ، والذرة في الأرض. ولا يعلم عددهم إلا الله عزوجل.

واعلم : أن الله تعالى ذكر في القرآن : أصنافهم وأوصافهم.

أما الأصناف : فأعلاهم درجة : حملة العرش وهو قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) (٣).

__________________

(١) من طا ، وفي (ل). زيادة بعد أبداننا. هي : التي هي الأفلاك والأجرام.

(٢) البحر (م).

(٣) الحاقة ١٧.

والمرتبة الثانية : الحافون حول العرش. وهو قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (١)

والمرتبة الثالثة : أكابر الملائكة. ومنهم جبريل ـ عليه‌السلام ـ وصفاته في القرآن كثيرة.

إحداها : إنه صاحب الوحي إلى الأنبياء [عليهم‌السلام (٢)] قال : الله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٣).

وثانيها : إنه تعالى : قدمه في الذكر على ميكائيل ، فقال : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) (٤) والسبب فيه : أن جبريل صاحب الوحي والعلم. وميكائيل صاحب الأغذية ، والأرزاق الجسمانية. والخيرات النفسانية [أفضل من الخيرات الجسمانية (٥)] فلا جرم كان جبريل أفضل من ميكائيل.

وثالثها : إنه تعالى جعل جبريل ثاني نفسه. فقال : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٦)

ورابعها : إنه سماه «روح القدس» فقال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٧).

وخامسها : إنه ينصر أولياء الله ، ويقهر أعداء الله. مثل : قصة «بدر» (٨).

وسادسها : إنه مدحه بصفات ست. فقال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ ، عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ ، مَكِينٍ ، مُطاعٍ ، ثَمَّ أَمِينٍ) (٩) ورسالته : أنه

__________________

(١) آخر الزمر.

(٢) سقط (طا ، ل).

(٣) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٤) البقرة ٩٨.

(٥) من (طا ، ل).

(٦) التحريم ٤.

(٧) المائدة ١١٠.

(٨) آل عمران ١٢٣.

(٩) التكوير ١٩ ـ ٢١.

رسول الله إلى جميع الأنبياء. والرسل والأنبياء كلهم من البشر. وكرمه على عباد الله تعالى : أن جعله واسطة بينه وبين أشرف عباده في الأرض. وهم الأنبياء والحكماء. وقوته : أنه ما أخل بشيء من طاعات ربه أصلا. ومكانته عند الله : أنه مستغرق في تلك العبودية ، غير ملتفت إلى شيء آخر من الأغراض. وكونه مطاعا : أنه إمام الملائكة وأستاذهم. وكونه أمينا : فهو قوله (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (١).

ومن جملة أكابر الملائكة : إسرافيل وعزرائيل عليهما‌السلام. والأخبار الكثيرة دلت عليها. وثبت في الأخبار : أن عزرائيل هو ملك الموت. قال تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٢) ويجب أن يكون له شعب ونتائج وأعوان. كما قال تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ) (٣) وقال تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا. الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٤) وأما إسرافيل عليه‌السلام فقد دلت الأخبار على أنه صاحب الصور ، كما قال : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ، فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ، وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى. فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٥).

وسمعت (٦) أن بعض الفلاسفة كان يقول : «المراد من عزرائيل : النفس الكلية لفلك «زحل»

وأما أتباع عزرائيل فهي النفوس المتشعبة من تلك النفس السارية آثارها في هذا العالم الجسماني. وأما إسرافيل فهو : النفس الكلية لفلك «الشمس» والدليل عليه : «أن ثبت أن لإسرافيل ثلاثة أنواع من نفخ الصور وهي نفخة

__________________

(١) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٢) السجدة ١١.

(٣) الأنعام ٦١.

(٤) الأنفال ٥٠.

(٥) الزمر ٦٨.

(٦) قال المصنف : وسمعت (م).

الفزع ، ونفخة القيام ونفخة الصعق. وهذه الثلاثة حاصلة للشمس فإن عند غروبها يستولي الفزع على جميع الحيوانات ، فترجع كلها إلى أماكنها [وعند غروب الشفق تحصل نفخة الصعق ، لأن الحيوانات بأسرها تبقى في مساكنها (١)] مستلقية كأنها الأموات. وعند طلوعها من المشرق تقوم الحيوانات بأسرها ، وتقوى بعد ضعفها وتصير أحياء بعد موتها».

والمرتبة الرابعة من الملائكة المذكورين في القرآن : ملائكة الجنة وملائكة النار. أما ملائكة الجنة فقوله : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (٢) وأما ملائكة النار فقوله : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ. وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣) وكان بعض الفلاسفة يقول : «المراد بملائكة الجنة : أرواح فلك «المشتري» والمراد بملائكة النار : أرواح فلك «المريخ».

والمرتبة الخامسة : من الملائكة : الموكلون ببني آدم. لقوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (٤) وقوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)(٥).

وقال بعض الفلاسفة : «قد سبق تفسير الطباع التام لكل طائفة من طوائف النفوس البشرية. فتلك الأرواح المسماة بالطباع التام : هي التي تحفظها عن الآفات والمخافات. وأما أضداد تلك الجواهر المسماة بالطباع التام ، فهي التي تلقيها في المعاطب والمهالك».

والمرتبة السادسة : الملائكة الموكلون بأطراف هذا العالم. قال الله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا. فَالزَّاجِراتِ زَجْراً. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٦) فالمراد بقوله :

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) الرعد ٢٣ ـ ٢٤.

(٣) التحريم ٦.

(٤) ق ١٧.

(٥) الرعد ١١.

(٦) الصافات ١ ـ ٣.

«الصافات صفا» : الأرواح المقدسة الواقفة في مقام الهيبة والجلال على درجات مرتبة ، ومراتب مختلفة.

وقال بعض الفلاسفة : المراد بقوله : «والصافات صفا» أرواح فلك «الشمس» لأن الشمس سلطان عالم الجسمانيات ، وروحها أعظم الأرواح. وأما أرواح سائر الأفلاك ، فإنها عبيده وخدمه. وكأنها واقفة عنده صفا صفا [وقوله : (فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) هو أرواح فلك المريخ (١)] وقوله : (فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) هو أرواح فلك «المشتري» وكذا قوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) (٢) إلى قوله : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً).

وقوله : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (٣) إلى قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) والكلام المستقصى في تفسير هذه الآيات مذكور في «التفسير الكبير».

وأما الكلام في صفات الملائكة :

فمن وجوه :

الأول : إن الملائكة رسل الله. قال الله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) (٤).

الثاني : قربهم من الله تعالى ، قال تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٥) وليس هذا القرب بالمكان ، فلم يبق إلا أن يكون القرب بالدرجة والرتبة.

الثالث : وصف طاعاتهم. وهو من وجهين :

أحدهما : قوله تعالى : حكاية عن الملائكة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) الذاريات ١ ـ ٤.

(٣) النازعات ١ ـ ٥.

(٤) فاطر ١.

(٥) الأنبياء ١٩.

وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١) وقال تعالى في آيتين أخريين : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (٢).

وثانيهما : إنهم لا يفعلون إلا بأمره. قال تعالى في حكاية عنهم : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا) (٣) وقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٤).

والرابع : إنه وصف قدرتهم وكيف يشتبه ذلك ، وهم المدبرون لأجرام السموات على عظمتها؟ قال تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (٥) ثم إن العرش أعظم من الكرسي ، بحيث لا نسبة له إليه ، ثم إن الكرسي مع صغره محيط بجميع السموات ، كما قال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٦).

والخامس : وصف خوفهم فإنهم مع كثرة عبادتهم وشدة بعدهم عن الزلات يكونون [خائفين (٧)] وجلين. قال تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (٨) وقال : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٩) وقال : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ، قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَّ : وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (١٠).

وأقول : (١١) يحتمل أن يكون المراد من فزعهم الشديد : عرفانهم بكونهم موصوفين بإمكان الوجود والعدم. والإمكان إذا اعتبر من حيث [هو هو (١٢)] كان عدما. والمراد بقوله : (قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : الْحَقَ) : فيض نور وجوده ، وإيجاده عليهم ، فيصيرون عند ذلك واجبي الوجود بغيرهم ، فيحصل الأمن عن الهلاك والعدم (١٣).

__________________

(١) البقرة ٣٠.

(٢) الصافات ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) مريم ٦٤.

(٤) الأنبياء ٢٧.

(٥) الحاقة ١٧.

(٦) البقرة ٢٥٥ والآية مكررة (م).

(٧) سقط (طا).

(٨) النحل ٥٠.

(٩) الأنبياء ٣٨.

(١٠) سبأ ٢٣.

(١١) وأقول (طا ، ل) قال المصنف يحتمل (م).

(١٢) هو ممكن (م).

(١٣) تغلب على المؤلف النزعة الفلسفية في التفسير.

واعلم : أنه ليس بعد كلام الله تعالى ، وكلام رسوله عليه‌السلام كلام أعلى وأجلى في وصف الملائكة ، من كلام الإمام الأجل «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه.

قال في بعض خطبه : «ثم فتق ما بين السموات العلى ، فملأهن أطوارا من ملائكته. منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون ، وصافون لا يتزايلون. يسبحون لا يسأمون ، لا يغشاهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا فترة الأبدان ، ولا غفلة النسيان.

ومنهم أمناء على وحيه إلى رسله. ومختلفون بقضائه وأمره. ومنهم الحفظة لعباده. والسدنة لأبواب جناته. ومنهم الثابتة في الأرض السفلى أقدامهم ، والمارقة من السماء العليا أعناقهم ، والخارجة من الأقطار أركانهم ، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ماسكة دونه أبصارهم. وهم متلففون [تحته (١)] بأجنحتهم ، مضروبة بينهم وبين من دونهم : حجب العزة وأستار القدرة. لا يتوهمون ربهم بالتصوير ، ولا يجوزون عليه صفات المخلوقين ، ولا يجدونه بالأماكن ، ولا يشيرون إليه بالنظائر».

[والله أعلم (٢)].

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (طا ، ل).

الفصل التاسع

في

الكلام في أن الملائكة أفضل أم البشر؟

اعلم (١) : أن من عرف أن الملك ما هو؟ وكيف صفاته؟ لم يأذن له عقله في أن يخوض في هذا البحث إلا أن أكثر الناس ظنوا : أن الملائكة طيور تطير في السموات. فلهذا السبب وقعوا في هذا البحث.

واحتج القائلون بأن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أفضل من الملائكة.

بوجوه :

الحجة الأولى : قصة آدم عليه‌السلام. واحتجوا بها في إثبات كونه أفضل من الملائكة من وجوه :

الأول : إنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم. وثبت : أن آدم عليه‌السلام ما كان كالقبلة. بدليل : أنه تعالى أخبر عن إبليس ، أنه قال : (أَرَأَيْتَكَ. هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (٢) ولو كانت السجدة لله تعالى ، وآدم كالقبلة. لما حصل هذا التكريم.

وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون آدم أفضل منهم. لأن السجود نهاية

__________________

(١) عنوان الفصل في (م) في الكلام. في أن الملائكة ... الخ.

(٢) الإسراء ٦٢.

التواضع. وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون : قبيح في العقول [فإنه يقبح أن يؤمر «أبو حنيفة» بخدمة أقل الناس في الفقه (١)] فدل هذا : على أن آدم عليه‌السلام كان أفضل منهم.

والوجه الثاني في هذا الاستدلال : إنه تعالى جعل آدم خليفة لنفسه. والمراد منه : خلافة الولاية. وخليفة السلطان أعظم من سائر أقوامه. فوجب أن يكون آدم أشرف الخلق.

والوجه الثالث : إن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان أعلم ، فوجب أن يكون أفضل. وإنما قلنا : إنه أعلم من الملائكة. لأنهم قالوا : (سُبْحانَكَ. لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٢) إلى قوله : (يا آدَمُ. أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [فدل على أنه كان عالما بما لم يكونوا عالمين به (٣)] وإنما قلنا : إن الأعلم أفضل. لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٤)؟

والوجه الرابع : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ. وَنُوحاً. وَآلَ إِبْراهِيمَ. وَآلَ عِمْرانَ. عَلَى الْعالَمِينَ) (٥) والاستدلال (٦) : أن الملائكة من العالمين ، فوجب كونهم أفضل من الملائكة.

الحجة الثانية : إن عبادات البشر أشق ، فوجب أن يكونوا أفضل [من الملائكة (٧)].

بيان الأول : إن البشر لهم شهوة مانعة من الطاعات ، والملائكة ليس لهم

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) البقرة ٣٢.

(٣) من (طا ، ل).

(٤) الزمر ٩.

(٥) آل عمران ٣٣.

(٦) ولا شك (م).

(٧) من (م).

ذلك. والإتيان بالطاعة ، مع قيام المانع ، أشق من الإتيان [بالطاعة (١)] مع السلامة عن المانع.

وبيان الثاني : إن زيادة المشقة إن لم تصر مقابلة لزيادة الثواب ، صار ذلك السعي ضائعا. وإنه لا يليق بالحكيم الرحيم.

الحجة الثالثة : إنه تعالى خلق للملائكة عقولا بلا شهوة ، وللبهائم والسباع شهوات بلا عقل ، وخلق للآدمي العقل والشهوة معا. فإن مال الآدمي إلى الشهوة ، كان أخس من البهائم. لقوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) (٢) فوجب أن يقال : إنه إن مال إلى العقل والطاعة ، وجب أن يكون أفضل من الملك ، قياسا لأحد الجانبين على الآخر.

هذا آخر (٣) دلائل القوم في هذه المسألة.

والجواب عن الحجة الأولى : إنا لا نسلم أن ملائكة السموات ، كانوا مأمورين بالسجود لآدم عليه‌السلام. وغاية ما في هذا الباب : أنكم تتمسكون بعموم قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٤) إلا أنا نقول : تخصيص عموم القرآن بنص القرآن جائز بإجماع العقلاء. وقد قال تعالى في آخر سورة الأعراف : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَيُسَبِّحُونَهُ ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٥) وعلماء العربية يعلمون أن قوله : (وَلَهُ يَسْجُدُونَ) يفيد الحصر. ومعناه : أنهم لا يسجدون إلا لله.

وأما الوجه الثاني : وهو التمسك بلفظ «الخليفة» فجوابه : إنه كان خليفة الله تعالى في الأرض. فمن أين يدل هذا على أنه أفضل من سلاطين عالم

__________________

(١) بها (ل).

(٢) الأعراف ١٧٩.

(٣) أحسن (طا ، ل).

(٤) البقرة ٣٤.

(٥) الأعراف ٢٠٦.

السموات؟ مع أنه ثبت في العلوم الرياضية : أن الأرض بالنسبة للسماوات كالعدم.

وأما الوجه الثالث : وهو أن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان أعلم من الملائكة فنقول : مسلم أنه كان أعلم من الملائكة الأرضية. فلم قلتم إنه كان أعلم من الملائكة السماوية؟ وسنقيم البرهان اليقيني (١) على أن ذلك محال.

وأما الوجه الرابع : وهو قوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ. وَنُوحاً. وَآلَ إِبْراهِيمَ. وَآلَ عِمْرانَ. عَلَى الْعالَمِينَ) (٢) فنقول : يجب حمل لفظ «العالمين» على أهل الأرض ، توفيقا بين هذه الآية وبين دلائلنا.

وأما قوله : «إن عباداتهم أشق ، فيجب أن يكونوا أفضل» فنقول مثل هذا الكلام: مثل ما إذا قيل : إن الخباز والقصاب : تحصيلهم للقوت واللباس أشق ، فوجب أن يكونوا أفضل من سلاطين المشرق والمغرب. ولما كان هذا الكلام لا يلتفت إليه العاقل. فكذا هاهنا.

وأيضا : فلو فرضنا رجلا شديد الاستعداد لحصول المرض ، بحيث يقع بأدنى سبب في الأمراض الشديدة. ورجلا آخر ، خلق على أكمل أنواع الصحة ، وأفضل أقسام الجمال [فهل نقول : هما فاضلان (٣)] إلا أن الأول أفضل من الثاني ، في الصحة والجمال. لأنه إنما يحفظ صحته بتعب شديد ، وهذا ليس كذلك؟ ولما كان هذا الكلام باطلا ، فكذلك هاهنا.

وأما قوله : «الانسان إذا مال إلى الشهوة ، كان أخس من البهيمة [فكذلك إذا مال : إلى جانب العقل ، كان أفضل من الملك» فنقول : أما قوله : [إذا مال إلى جانب الشهوة ، صار أخس من البهيمة (٤)] فهذا باطل. وعموم الآية على المبالغة في الزجر [والله أعلم (٥)].

__________________

(١) الدلالة النقلية (م).

(٢) آل عمران ٣٣.

(٣) فنقول فضولي [الأصل].

(٤) من (طا ، ل).

(٥) من (طا ، ل).

واعلم : أن دلائل القائلين بأن الملك أفضل من البشر. نوعان : بعضها سمعية ، وبعضها عقلية.

أما السمعية فوجوه :

الأول : قوله تعالى : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١) والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

الأول : إنه ليس المراد من هذه العندية : عندية المكان والجهة. فإنه محال. بل عندية القرب والشرف. ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة ، علمنا : أن هذا النوع من الشرف حاصل لهم لا لغيرهم.

والثاني : إنه سبحانه وتعالى احتج لعدم استكبارهم ، على أن غيرهم أولى بأن لا يستكبروا. ولو كان البشر أفضل من الملائكة لما تم هذا الاحتجاج. فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته أنه يجب عليهم خدمته وطاعته ، فإنه يقول : الملوك لا يستكبرون عن طاعتي. فكيف هؤلاء المساكين.

وبالجملة : فالمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأكمل على الأدون. ونظير هذه الآية في الدلالة على هذا المطلوب ، قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ، وَيُسَبِّحُونَهُ ، وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (٢)

فإن قيل : الاعتراض على الوجه الأول : أن نقول : إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين. وهو قوله : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وأما في الدنيا فقال عليه‌السلام ، حاكيا عن الله تعالى : «أنا عند

__________________

(١) الأنبياء ١٩ ـ ٢٠.

(٢) آخر الأعراف. وفي سورة فصلت : (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ. وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ).

(٣) القمر ٥٥.

المنكسرة قلوبهم لأجلي» وهذا أكثر إشعارا بالتعظيم ، لأن هذا الخبر يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكسرين. والآية التي تمسكتم بها : تدل على أن الملائكة عند الله. ولا شك أن كون الله عند العبد ، أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله.

أما الاعتراض على الوجه الثاني : فهو أن نقول : لا نزاع في أن الملائكة أشد قدرة وقوة من البشر ، ويكفي في صحة هذا الدليل : هذا القدر من التفاوت. فإنه يقال : إن الملائكة ، مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض ، وأمنهم من الضعف والعجز [والهرم والمرض وطول أعمارهم (١)] لا يتركون العبودية لحظة واحدة. فالبشر مع نهاية ضعفهم [مع ما يصيبهم من الأمراض والآفات (٢)] أولى أن لا يتمردوا. فهذا يدل على أن الملائكة أكثر قوة من البشر [وهذا القدر كاف في صحة الاستدلال. ولا نزاع في حصول التفاوت في هذا المعنى (٣)] أما لم قلتم : إن ذلك يدل على أن الملائكة أفضل من البشر؟.

والجواب عن الأول : أن نقول : إن قوله : «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» مشعر بأن المراد بتلك العندية : الحفظ والحراسة والرحمة. فإن السلطان إذا قال يا مسكين أنا معك. فهم كل أحد منه : أن المراد أن لا يهمله ولا يضيع مهمه. أما إذا قيل لبعض الأكابر أو العظماء : إنه من المقربين عند السلطان. فإنه يفهم منه كمال الدرجة والمنقبة. فعلم أنه لا تعلق لأحد البابين بالآخر.

والجواب عن السؤال الثاني : إن الاستدلال بأفعال الملائكة إنما يتم إذا قلنا : الملائكة موصوفون بالكمال في القوة والقدرة والعلم. لأنهم لو لم يكونوا أعلم من البشر ، لم يكن فعلهم حجة على البشر لأن فعل الجاهل لا يمكن جعله حجة على العالم.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

فثبت : أن ذلك الاستدلال ، لا يتم إلا إذا كانت الملائكة زائدين على البشر [في قوة الإدراك ، وفي قوة العمل. ولا معنى للفضيلة إلا هذا. فإذا ثبت كونهم زائدين على البشر (١)] فقد ثبت أنهم أفضل من البشر.

الحجة الثانية : طاعات الملائكة أدوم ، فكانت أفضل بيان الأول وهو أنها أدوم : قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢) وعلى هذا التقدير ، فلو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر ، لكانت طاعتهم أدوم. وأما أنه لا نسبة له ، إلى طاعات البشر. فكيف ، ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة.

وبيان أنها لما كانت أفضل : لأن الفضيلة ليست إلا في الاستغراق في عبودية الله ، والمواظبة على ذكره ، والابتهاج بمحبته. فإذا كانت هذه المعاني في حقهم أدوم ، وجب أن تكون فضائلهم أكثر. ويؤكده قوله عليه‌السلام : [«أفضل العباد من طال عمره ، وحسن عمله» والملائكة (٣)] أطول العباد عمرا وأحسنهم عملا ، فوجب أن يكونوا أفضل العباد. ولأنه عليه‌السلام قال : «الشيخ في قومه ، كالنبي في أمته» وهذا يقتضي أن تكون الملائكة بالنسبة إلى البشر ، كالنبي بالنسبة إلى القوم (٤) وذلك يوجب فضلهم على البشر.

الحجة الثالثة : إنهم أسبق السابقين في خصال الخير ، فوجب أن يكونوا أفضل من غيرهم.

بيان الأول : إنه لا خصلة من خصال الدين ، إلا وهم أئمة متقدمون فيها ، بل هم العامرون لطرق الدين ، لأنهم كانوا موجودين قبل أولاد آدم بل قبل آدم بأعصار عظيمة ، وأدوار متباعدة ، وكانوا من أول العمر مواظبين على الطاعات والمعارف.

__________________

(١) سقط (م) ، (ط).

(٢) الأنبياء ٢٠.

(٣) سقط (طا ، ل).

(٤) الأمة (م).

وبيان أن السبق يوجب مزيد الفضيلة : وجهان :

الأول : قوله (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١).

والثاني : [قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سن سنة حسنة. فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فهذا (٢)] يقتضي أن يكون كلما حصل للأنبياء من الثواب والفضيلة ، فمثله حاصل للملائكة مع زيادة الفضائل التي فازوا بها في الأزمنة السالفة.

الحجة الرابعة : إن الملائكة رسل الله تعالى إلى الأنبياء. والرسل أفضل من الأمة. فالملائكة أفضل من الأنبياء. أما الأول ، فلقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) وقوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) (٤) وأما إن الرسول أفضل من الأمة ، فلأن الأنبياء والرسل ، إنما وصلوا إلى كل الخيرات بإرشادهم. وإنما فازوا بكل الدرجات بتعليمهم [وتوفيقهم (٥)] وفضل الأنبياء والرسل على الأمة ، ما كان إلا لهذا المعنى. فإذا كان هذا المعنى حاصلا هناك ، وجب كون الملائكة أفضل من الأنبياء.

فإن قالوا : إن السلطان قد يرسل واحدا من العبيد إلى الوزير ، لأجل أن يعلمه بمهم من المهمات. وذلك لا يوجب كون العبد أفضل من ذلك الوزير. فنقول : إنك ستعلم عند الدلائل [العقلية (٦)] أن من تخيل هذا المعنى في حق نزول الملائكة على الأنبياء ، فهو محروم جدا من معرفة الملائكة ومعرفة الأنبياء.

الحجة الخامسة : الملائكة أتقى من البشر ، فوجب أن يكونوا أفضل من البشر.

__________________

(١) الواقعة ١٠ ـ ١١.

(٢) من (طا ، ل).

(٣) النجم ٥.

(٤) الشعراء ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٥) سقط (ل).

(٦) سقط (ل).

بيان الأول : إنهم مبرءون من الزلات ، ومن الميل إليها ، لأن خوفهم دائم. قال تعالى: (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (١) وإشفاقهم دائم. قال تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢) والخوف والإشفاق ينافيان العزم على المعصية.

وأما الأنبياء عليهم‌السلام : فلم يخل واحد منهم عن نوع زلة. قال عليه‌السلام : «ما منا إلا من عصى ، أو هم بمعصية ، غير يحيى بن زكريا» فيثبت : أن تقوى الملائكة أكمل فوجب أن يكونوا أفضل. لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٣) رتب مزيد الكرامة ، على مزيد التقوى ، فوجب أن يكون مزيد التقوى علّة لمزيد الكرامة ، فأينما حصل مزيد التقوى ، وجب أن يحصل مزيد الكرامة.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٤) فقوله : (وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) : مذكور في معرض الاحتجاج. يعني : أن الملائكة لما لم يستنكفوا. فبأن لا يستنكف المسيح أولى. وهذا الاستدلال إنما يتم إذا كانت الملائكة أفضل من المسيح. فإن قالوا (٥) : لم لا يجوز أن يكون المراد [من هذا (٦)] أن الملائكة مع قدرهم القاهرة الغالبة ، لما لم يستنكفوا عن عبادة الله تعالى ، فبأن لا يستنكف المسيح عنها ، مع ضعفه كان أولى؟.

فنقول : هذا كما يدل على أن الملائكة أعلى من البشر في القوة والقدرة ، فكذلك يدل على أنهم أعلى من البشر في العلم. وإلا فالاستدلال بفضل الجاهل على العالم لا يصح. فلما صح هذا الاستدلال ، وجب كون الملائكة

__________________

(١) النحل ٥٠.

(٢) الأنبياء ٢٨.

(٣) الحجرات ١٣.

(٤) النساء ١٧٢.

(٥) قيل (م).

(٦) من (م).

أعلى حالا من المسيح ، في كمال القدرة وفي كمال العلم. ولا معنى للفضيلة إلا ذلك.

الحجة السابعة : قوله تعالى حكاية عن إبليس : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ. إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (١) ولو لم يكن متقررا عند آدم وحواء : أن الملك أفضل من البشر ، وإلا لما قدر إبليس أن يغرهما بهذا الكلام.

الحجة الثامنة : قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ، وَلا أَقُولُ لَكُمْ : إِنِّي مَلَكٌ) (٢) فإن قالوا : الكفار طالبوه بالإخبار عن الغيوب ، وبالإتيان بالأعمال الشاقة. وهي المذكورة في قوله تعالى : (وَقالُوا : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) (٣) فقال [ليس عندي من علم الغيب شيء (٤)] وليس عندي من القدرة على هذه الأعمال العظيمة التي يقدر عليها الملائكة : شيء. فهذا يدل على أن قدرة الملائكة أكمل من قدرة البشر [إلا أنه (٥)] لا يدل على الزيادة في الفضيلة. فنقول في الجواب : إن الرجل إذا طولب بأشياء فوق حده وطاقته ، فيقول [في الجواب (٦)] إني ما قلت لكم : إني صاحب الخزائن. ما قلت لكم : إني علام الغيوب. ما قلت لكم : إني سلطان. فهذا [لا (٧)] يفيد كونه أقل مرتبة من السلطان على الإطلاق. فإن الرجل العالم إذا قال هذا الكلام ، قيل له : بل أنت أفضل من السلطان ، بسبب علمك وزهدك وتقواك. فدل هذا النفي المطلق ، على أن حاله أنقص من حال الملائكة.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (ما هذا بَشَراً ، إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ

__________________

(١) الأعراف ٢٠.

(٢) الأنعام ٥٠.

(٣) الإسراء ٩٠.

(٤) سقط (طا ، ل).

(٥) لكن (ل).

(٦) سقط (طا ، ل).

(٧) زيادة.

كَرِيمٌ) (١) فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه وقوع التشبيه في الصورة [والجمال (٢)]؟ قلنا الأولى حمل هذا التشبيه في السيرة ، لا في الصورة. لأنه قال : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) فشبه بالملك الكريم. والملك إنما يكون كريما بسيرته المرضية ، لا بمجرد صورته. فثبت : أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دعاوي الشر من الشهوة والحرص على المشتهى ، وإثبات ضد ذلك ، وهي صفة الملك ، وهي غضّ البصر ، وقمع النفس عن الميل إلى الحرام. فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء ، والمؤمن والكافر ، على اختصاص الملائكة بالدرجات الفائقة (٣) في جميع الخيرات على درجات البشر.

فإن قالوا : إن قول المرأة : (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) (٤) كالصريح في أن مراد النساء بقولهن : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) : تعظيم حال يوسف في الصورة ، لا في السيرة. قلنا : هذا غير لازم. فلعل مراد المرأة : إني عشقت إنسانا مثل هذا الذي رأيتن ، كأنه ملك لا يميل طبعه البتة إلى الشهوات واللذات. ومعلوم : أنه كلما كان امتناع المعشوق أشد ، كان عشق العاشق أشد [والله أعلم (٥)].

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٦) وجه الاستدلال : أن المخلوق (٧) إما مكلف وإما غير مكلف. ولا شك أن المكلف أفضل مما لا يكون مكلفا (٨) أما المكلفون فهم أربعة أنواع : الملائكة ، والبشر ، والجن ، والشياطين. ولا نزاع في أن البشر أفضل من الجن والشياطين. فلو كانوا أفضل من الملائكة أيضا. لزم أن يكونوا أفضل من جميع

__________________

(١) يوسف ٣١.

(٢) من (ل).

(٣) العالية (م).

(٤) يوسف ٣٢.

(٥) من (طا ، ل).

(٦) الإسراء ٧٠.

(٧) المخلوقات (ل).

(٨) من غير المكلف (م).

الخلائق (١)) وحينئذ لا يبقى لقوله : (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) فائدة بل كان يجب أن يقال : وفضلناهم على جميع المخلوقات.

الحجة الحادية عشرة : الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ما استغفروا لأحد ، إلا وبدءوا بالاستغفار لأنفسهم ، ثم بعد ذلك لغيرهم من المؤمنين. قال آدم وزوجه : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (٢) وقال نوح : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً) (٣) وقال إبراهيم : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ) (٤) وقال : (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) (٥) [وقال موسى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي) (٦) وقال الله لمحمد : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٧)] وأما الملائكة فإنهم لم يستغفروا [لأنفسهم. ولكنهم طلبوا المغفرة (٨)] للمؤمنين من البشر ، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ. وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٩) ولو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدءوا في ذلك بأنفسهم لأن دفع الضرر عن النفس [واجب (١٠)] ومقدم على دفع الضرر عن الغير. قال عليه‌السلام : «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول».

الحجة الثانية عشرة : قوله تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ) (١١) وهذا عام في حق المكلفين من بني آدم ، فدخل فيه الأنبياء وغيرهم. وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر من وجهين :

الأول : إن الذي يحفظ غيره عن المعصية ، يجب أن يكون بعده عن المعصية أكمل من بعد المحفوظ.

والثاني : إنه تعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات ، وعليهم في

__________________

(١) الملائكة (م).

(٢) الأعراف ٢٣.

(٣) نوح ٢٨.

(٤) إبراهيم ٤١.

(٥) الشعراء ٨٣.

(٦) الأعراف ١٥١.

(٧) محمد ١٩.

(٨) من (طا ، ل).

(٩) غافر ٧.

(١٠) سقط (ل).

(١١) الانفطار ١٠ ـ ١١.

المعاصي. وذلك يوجب أن تكون أقوالهم (١) أولى بالقبول من أقوال البشر.

الحجة الثالثة عشرة : قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا. لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَقالَ صَواباً) (٢) وجه الاستدلال به : أنه تعالى لما أراد أن يقرر عند الناس كمال عظمته ونهاية جلاله. قال في المرتبة الأولى (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وَما بَيْنَهُمَا : الرَّحْمنِ. لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) (٣) ومعلوم أن السموات والأرض وما بينهما إشارة إلى جملة عالم الأجسام [فبين أن جملة عالم الأجسام (٤)] منقادة خاضعة له ، وأن قدرته ومشيئته نافذة في أعماقها سارية في أجزائها وجزئياتها. ثم إنه لما ذكر ذلك ، قال بعده : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا. لا يَتَكَلَّمُونَ ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ ، وَقالَ صَواباً) (٥) فانتقل من الاستدلال بعالم الأجسام على عظمته ، إلى الاستدلال بعالم الأرواح على عظمته. وهذا يدل على أن عالم الروحانيات أشرف وأعلى وأكمل وأفضل من عالم الجسمانيات. ثم لما ذكر الاستدلال على تقرير هذه العظمة بعالم الروحانيات ، لم يذكر بعد ذلك دليلا آخر ، بل قال : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) (٦) وهو النتيجة فهذا يدل على أن أعظم مخلوقات الله تعالى : عالم الروحانيات ، وأنه لا نسبة لها في الكمال والجلالة إلى عالم الجسمانيات (٧).

الحجة الرابعة عشرة : قوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ. بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) (٨) فبين تعالى أنه لا بد في صحة الإيمان. بهذه الأشياء الأربعة. فبدأ بنفسه ، وثنى بملائكته ، وثلث

__________________

(١) أفعالهم (م).

(٢) النبأ ٣٨.

(٣) النبأ ٣٧.

(٤) سقط (م) ، (ط).

(٥) النبأ ٣٨.

(٦) النبأ ٣٩.

(٧) الروحانيات (م).

(٨) البقرة ٢٨٥.

بالكتب ، وربع بالرسل. وهذا الترتيب في غاية الصحة والفائدة. لأن منبع النور والكمال والرحمة هو الله تعالى. والوسائط هم الملائكة. والقابل لتلك الرحمة هم الأنبياء والرسل. فلا بد أولا من الأصل ، وثانيا من الواسطة وثالثا من حصول تلك الرحمة ، ورابعا من وصولها إلى القابل ، وهم الأنبياء والرسل. وهذا يدل على أن أفضل الموجودات في الشرف [والرتبة هو الله تعالى ، وبعده في المرتبة درجات الملائكة ، وبعدهم في الشرف (١)] تلك الفوائد والأنوار [التي هي الكتب. وفي آخر الدرجات : الأرواح البشرية التي لما وصلت إليها تلك الفوائد والأنوار (٢)] سعدت بها ، وكملت فضائلها بسببها.

الحجة الخامسة عشر : قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ : لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. وَالْمَلائِكَةُ. وَأُولُوا الْعِلْمِ) (٣) فقدم (الْمَلائِكَةُ) على أولي العلم : تنبيها على أن علم الأنبياء من زمرة البشر ، إنما حصل من فيض أنوار الملائكة. فهم الأصول ، والبشر كالفروع. ويقرب منه قوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (٤) وهذا تنبيه على أن أنوار السعادات ، إنما تظهر من بحار رحمة الله تعالى ، ولكنها لا تصل إلى النفوس البشرية ، إلا بواسطة الملائكة ، فكل فضيلة ومنقبة إلى البشر فبحارها ومعادنها عند الملائكة وقطراتها المختصرة وصلت إلى البشر.

الحجة السادسة عشرة : إنا نتكلم في جبريل ومحمد عليهما‌السلام.

فنقول : إن جبريل أفضل من محمد ، لقوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ. ثَمَّ أَمِينٍ. وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٥) وصف الله تعالى جبريلعليه‌السلام بستة من صفات الكمال.

إحداها : كونه رسولا من الله إلى غيره. وثانيها : كونه كريما على الله.

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) آل عمران ١٨.

(٤) الأحزاب ٥٦.

(٥) التكوير ١٩ ـ ٢٢.

وثالثها : كونه ذا قوة عند الله [على أداء الطاعات ، والبعد عن المحظورات ، بحيث لا يقوى عليها غيره. ورابعها : كونه مكينا عند الله (١)] وخامسها : كونه مطاعا في عالم السموات. وسادسها : كونه أمينا في تبليغ الوحي والرسالة. ثم إنه سبحانه بعد أن وصف جبريل عليه‌السلام بهذه الصفات [العالية (٢)] وصف محمدا عليه‌السلام بقوله : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) (٣) ولو كان محمد مساويا في صفات الفضل أو مقاربا لجبريل ، لكان وصف محمد بهذه الصفة ، بعد وصف جبريل بتلك الصفات تحقيرا لشأن محمد ، وإبطالا لحقه. وذلك غير جائز.

فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد عند جبريل من المنزلة ، إلا مقدار أنه يقال : إنه ليس بمجنون. وذلك على أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الفضل والدرجة.

الحجة السابعة عشر : قوله تعالى : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ : إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ. فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) (٤) وهذه الآية تدل على أنهم بلغوا في الرفعة والجلالة ، إلى أنهم لو خالفوا الله في أمر من الأمور ، لما حصلت تلك المخالفات ، إلا بادعاء الإلهية ، لا بشيء آخر من متابعة الشهوات. وذلك يدل على غاية جلالتهم ورفعتهم.

الحجة الثامنة عشر : قول الله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ. قالُوا : ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَ) (٥) وهذا الاستدلال بحصول الفزع في قلوبهم يدل على أن حصول هذا الفزع بالبشر أولى. وذلك يدل على الفضيلة.

الحجة التاسعة عشر : قوله عليه‌السلام حكاية عن الله تعالى «وإذا

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) التكوير ٢٢.

(٤) الأنبياء ٢٩.

(٥) سبأ ٢٣.

ذكرني عبدي في ملأ ، ذكرته في ملأ خير من ملأه» وهذا يدل على أن الملائكة أشرف وأعلى.

الحجة العشرون : الملك أعلم من البشر ، والأعلم أفضل.

بيان أنه أعلم : وجهان :

الأول : إن محمدا عليه‌السلام إنما تعلم من جبريل عليه‌السلام. لقوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (١) والمعلم أكثر علما من المتعلم.

الثاني : إن العلوم الدينية قسمان :

علم الأصول ، وعلم الفروع :

أما علم الأصول : فيمتنع التقصير فيه بالنسبة إلى جبريل ومحمد عليهما‌السلام لأن ذلك التقصير يوجب الجهل بالله ، وهو في حقهما : محال. وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى ، وحصول ما فيها من العجائب والغرائب ، فهذا العلم لجبريل عليه‌السلام ـ أكمل. لأنه شاهد العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار ، وأطباق السموات وأجرام الكواكب ، وشاهد طبقات (٢) العناصر وأحوال البحار والجبال والمفاوز ومراتب المعادن والنبات والحيوان. وذلك لأن مسكنه في السموات ، فهو قد شاهدها. ولأنه أيضا : مطاع في عالم السموات ، والملائكة لا موكلون على هذه المواضع يطيعونه ، فيكون عالما بأحوال هذه الأشياء. لا محالة.

فثبت : أن علمه بهذه الأشياء لا نسبة له إلى علم البشر.

وأما علم الفروع : فهذا العلم لا يحصل إلا بالوحي. وبالضرورة : إن هذا العلم لم يحصل لمحمد ، ولا لأحد من الأنبياء ، إلا بطريق الاستفادة من جبريل. وأيضا : فإن محمدا كان عالما بشريعة نفسه. وما كان [عالما بسائر

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) أطباق (م).

شرائع الأنبياء المتقدمين : وأيضا : فهو ما كان عالما (١)] بشرائع عالم السموات والعرش والكرسي. وجبريل عالم بكل هذه العلوم. فثبت : أنه لا مناسبة في [علم (٢)] الأصول والفروع بين جبريل وبين محمد عليهما‌السلام. فوجب أن يكون أفضل لقوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ، وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٣)؟

فإن قالوا : أليس أن آدم ـ عليه‌السلام ـ كان عالما بالأسماء. والملائكة ما علموا تلك الأسماء؟ قلنا : يجب حمل لفظ الملائكة على الملائكة الأرضية ، توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان.

فهذا جملة الدلائل السمعية.

وأما الدلائل العقلية الفلسفية : فاعلم : أن المراد بالملائكة : العقول الفلكية ، والنفوس الفلكية التي هي لأجرام الأفلاك.

وكل هذا العالم الأسفل بالنسبة إليها ، كالمركز بالنسبة إلى الدائرة ، وكالقطرة بالنسبة إلى البحر ، وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس. فكيف يليق بالعاقل أن يجعل هذه المقدمة موضع البحث والنظر؟

إلا أنا على سبيل التنبيه نقول : إنه لا مناسبة بينها وبين البشر في الذوات ، وفي صفة العلم ، وفي صفة القدرة ، وفي البراءة عن النقائص [والتنبيه على مطلوبات ثلاثة (٤)] :

المطلوب الأول : قولنا : «إنه لا مناسبة بينها وبين البشر في الذوات» فالذي يدل عليه وجوه :

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (م) ، (ط).

(٣) الزمر ٩.

(٤) زيادة.

الأول : إن النفوس والعقول ذوات مجردة عن الجسمية وعلائقها ، فتكون أفضل من هذه الأجسام ، ومن الجسمانيات. إما أنها مجردة. فقد علمت. وإما أن المجرد أفضل ، فلأن المجرد غني عن المكان والحيز. والجسم والجسماني محتاج إليه. والغني عن الشيء أفضل من المحتاج إليه.

والثاني : إن الملائكة ذوات بسيطة مبرأة عن الكثرة الحاصلة بسبب المادة والصورة ، وعن الكثرة الحاصلة بسبب اجتماع الوحدات. وأما الإنسان فإنه مركب من النفس والبدن. والنفس محتاجة إلى قوى كثيرة ، وإلى آلات كثيرة ، حتى تقدر أن تفعل بواسطة كل آلة فعلا آخر. وأما البدن فهو مركب من الأجزاء الكثيرة. والبسيط جزء من المركب. لأن أسباب العدم للمركب ، أكثر منها للبسيط.

والثالث : إن تركيب الإنسان تركيب رخو ، مستعد لقبول التفرق والتمزق بأدنى سبب ، فهو كالشيء الموضوع على مرتعة الآفات ، وممر المخافات. تؤذيه البقة. وتقتله الشرقة. أوله نطفة قذرة ، وآخره جيفة مذرة. وفيما بين الحالين حمال عذرة.

وأما أبدان تلك الأرواح. فهي السموات الباقية الدائمة المبرأة عن الفطور والتفاوت. فأي عقل يجوز إثبات المناسبة بينهما؟

والرابع : إنا قد بينا في باب [«النفس (١) أن هذه النفوس (٢)] الناطقة معلولات لتلك العلل العالية في ذواتها وفي كمالاتها. والمعلول الضعيف ، كيف يمكن أن يقابل بالعلة القاهرة القوية؟ وأيضا : فالموجود لا يصل إلى المعلول ، إلا بعد أن يصل إلى العلة. ثم يفيض منها إلى المعلول. فتلك العلة كالبحار الآمنة عن التغير والفناء. وهذه المعلولات كالقطرات التي تكون في معرض الجفاف والذهاب ، بحسب كل لحظة ولمحة. فكيف يقابل أحدهما بالآخر؟.

__________________

(١) للمؤلف «رسالة في إثبات النفس وبقائها وفائدة الزيادة» موجودة في تركيا [نور عثمانية رقم ٢٧٦٤].

(٢) سقط (ل).

والخامس : إن المشابهة بين الجواهر الملكية المقدسة ، وبين واجب الوجود في الصفات السلبية ، الدالة على الاستغناء : أكثر ، فوجب أن تكون أفضل وأكمل.

ومن جملتها : أنها لا تحتاج إلى الأغذية ، ولا إلى الملابس والمناكح.

وبالجملة : فالحاجات هناك قليلة ، بل لا لحاجة هناك إلا إلى الله. وهاهنا جهات الحاجات ، كأنها غير متناهية. فثبت : أنه لا مناسبة البتة بينها وبين البشر في الذوات (١).

والمطلوب الثاني في بيان أن علوم الملائكة أفضل من علوم البشر : ويدل عليه وجوه :

الأول : إن علومهم فعلية. وعلوم البشر انفعالية.

والثاني : أنها هي العلل الفياضة لعلوم البشر ، والعلة أكمل من المعلول.

والثالث : أن علومها مبرأة عن السهو والنسيان والغلط ، وعلوم البشر مخلوطة بذلك.

والرابع : أن علومها عقول مستفادة حاضرة [دائما ، وعلوم البشر ليست كذلك ، بل الغالب في أكثر الأحوال أنها لا تكون (٢)] حاضرة ، بل هي متدافعة متمانعة. وعند توجه الذهن إلى بعض العلوم تكون البواقي زائلة ذاهبة.

والخامس : إنه يحدث في كل يوم عالم من النفوس ، وستصير كلها مساوية للنفوس الحاضرة في العلوم والمعارف. وأما تلك الأرواح المقدسة الفلكية ، فليست كذلك.

__________________

(١) العبارة مصححة من (م ، ل).

(٢) بل هي نفس العقول ، وعلم البشر غير (م).

والسادس : إن الروحانيات السماوية محيطة بالمغيبات ، عالمة بالأحوال المستقبلة. لأنهم في لسان الشريعة : مطالعون للوح المحفوظ. وفي لسان الحكمة : [إنها علل (١)] لحوادث هذا العالم. فذواتها علل لهذه الأحوال. وهي عالمة بذوات أنفسها. والعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول.

والمطلوب الثالث : إن قدرتها (٢) على الأفعال ، لا تناسب قدرة البشر. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنهم مواظبون على الخدمة دائما. قال تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٣) لا يلحقهم نوم العيون ، ولا سهو العقول ، ولا غفلة الأبدان. فطعامهم التسبيح ، وشرابهم [التقديس (٤)] والتهليل ، وأنسهم. بذكر الله ، وفرحهم بخدمة الله. متجردون عن العلائق البدنية مبرءون عن العوائق (٥) الشهوانية والغضبية. [التي هي منشأ سفك الدماء والفساد. والأرواح مصروفة عنه. والخالي عن منبع الشر ، أشرف من المبتلي به (٦)] فأي مناسبة بين البابين؟

والثاني : إن الروحانيات ، لهم القوة الشديدة على تصريف أجسام هذا العالم ، وتقليب أجرامه. والقوة التي لهم ليست من جنس القوى المزاجية ، حتى يعرض لها الكلال واللغوب. ثم إنك ترى أن الشطأة من النبات ، في أول نموها ، مع غاية لطافتها ، تفتق الحجر وتشق الصخر. وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية. فما ظنك بتلك القوى السماوية؟ فالروحانيات هي التي تتصرف في تلك الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا؟ لا يستثقلون حمل الثقال ، ولا يستصعبون نقل الجبال. فالرياح تهب بتحريكاتها

__________________

(١) الفاعلة (م).

(٢) قدرها (م).

(٣) الأنبياء ٢٠.

(٤) من (ل).

(٥) الحجب (طا ، ل).

(٦) من (طا).

والسحاب تعرض وتزول بتصريفاتها ، وكذا الزلازل تقع في الجبال بتأثيراتها.

[والشرائع (١) الإلهية ناطقة بذلك. قال تعالى : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٢) والعقول أيضا دالة عليه. فأين أحد القسمين من الآخر؟.

والثالث : إن الروحانيات لها اختيارات فائضة عن أنوار جلال الله تعالى ، متوجهة إلى الخيرات الفائضة على مادة هذا العالم. لا يشوبها شائبة الضعف ، بخلاف اختيارات البشر ، فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة ، وطرفي الخير والشر. وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة وإرشادهم [كما ورد (٣)] في الأخبار : «أن لكل إنسان ملكا يسدده ويهديه».

والرابع : إن الروحانيات مختصة بالهياكل الشريفة. فالأفلاك كالأبدان لها ، والكواكب النيرة كالقلوب لها ، والخطوط الشعاعية التي تمتد من بعضها إلى بعض ، كالأرواح المتولدة في القلب وفي الدماغ ، السارية منها إلى سائر الأعضاء.

ثم إنا نعلم : أن اختلاف أحوال الأفلاك والكواكب : مبادي لحصول الاختلاف في هذا العالم. فلما وقع حضيض الشمس في جانب الجنوب ، لا جرم قربت الشمس هناك من الأرض ، فقويت السخونة هناك ، وجدبت الرطوبات إلى ذلك الجانب ، فحصلت البحار هناك ، وصار ذلك سببا لانكشاف الماء عن الربع الشمالي ، فصار الربع الشمالي ، مقرا للحيوانات الأرضية. فانظر أن بهذا القدر من التفاوت في حال الشمس. كيف حصلت العمارة الكلية في هذا العالم؟ وأيضا : فيحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التثليث والتسديس ، والمقابلة والتربيع ، والمقارنة. وكذلك مناطق الأفلاك ، تارة تصير منطبقة بعضها على البعض ، وذلك هو الرتق. فحينئذ تبطل عمارة هذا العالم. وتارة ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من

__________________

(١) والرابع : الكتب (م).

(٢) الذاريات ٤.

(٣) من (ل).

جانب إلى جانب [فلما رأينا هياكل العالم العلوي ، مستولية على هياكل هذا العالم السفلي فكذا أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح هذا العالم السفلي. لا سيما(١)] وقد دلت المعالم الفلسفية : على أن أرواح هذا العالم : معلولات أرواح العالم الأعلى. وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح. ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح ، كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس ، وكالقطرة الحقيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم. فههنا القطرات والآثار ، وهناك المنابع والبحار. فكيف يليق بالعقل إثبات مناسبة بين البابين؟.

والخامس : إنا بينا : أن الروحانيات الفلكية : مبادي لروحانيات هذا العالم. ومعلولها. والمبدأ أشرف من ذي المبدأ. لأن كل كمال يحصل لذي مبدأ ، فهو إنما يحصل للمبدإ الأول. ثم يفيض القدر القليل منه على ذي المبدأ. وأيضا : سعادات هذه النفوس البشرية بعد الموت بأن تتصل بها [وتستعد بذرة من ذرات أنوارها (٢)] فثبت : أن كل كمال لهذه الأرواح البشرية في أولها وآخرها ، ومبدئها ومعادها ، متوقف على فيضان ذرة من ذرات الكمال عليها من ذلك العالم.

والسادس : إن الأنبياء والرسل عليهم‌السلام اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي قال الله تعالى [(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) وقال (٤)] في صفة القرآن : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (٥) فهذا اعتراف من الأنبياء عليهم‌السلام بأن علومهم مستفادة من الملائكة. وأيضا : اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على الأعداء. كما في قلع بلاد لوط. وهم الذين يرشدونهم إلى مصالحهم ، كما نجد في عمل السفينة ،

__________________

(١) سقط (م).

(٢) وتسر بأنوارها (م).

(٣) النجم ٥.

(٤) سقط (م ، ط).

(٥) التكوير ١٩.

في قصة نوح ـ عليه‌السلام ـ ولما اتفق الأنبياء والرسل على ذلك. فمن أين وقع لهذه الطائفة : أن فضلوا الأنبياء على الملائكة. مع تصريح الأنبياء. عليهم‌السلام [بافتقارهم إليهم في كل الأمور (١)] وبأنهم لا يقتبسون الخيرات [والكمالات (٢)] إلا منهم؟

والسابع : إن الإنسان ، وإن حصلت له القوة العاقلة المدركة ، إلا أنها معارضة بتسعة عشر نوعا من القوى [الجسمانية (٣)] وكلها تضاد القوة العقلية في تحصيل الكمالات الروحانية. فالحواس الظاهرة متوجهة إلى كيفية الجسمانيات ، ومعرضة عن الروحانيات. وأما الحواس الخمسة الباطنة ، فهي مشتغلة بضبط تلك الأحوال التي اكتسبتها الحواس الظاهرة بالتصرف فيها.

وأما الشهوة والغضب ، فالحال بكونهما مانعين من الأحوال الروحانية في غاية الظهور. وأما القوى السبعة النباتية. وهي : الجاذبة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة فظاهر أنها مانعة من الالتفات إلى عالم الروحانيات.

ولهذا السبب جاء في الكتاب الإلهي : إن جهنم لها تسعة عشر عددا من الزبانية [فقد قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٤)] والمراد منه : جهنم البدن. وهي مستولية على البدن من أول التكوين والحدوث إلى آخره. وإما القوة العقلية فهي إنما تلوح بعد البلوغ ، وبعد رسوخ القوى الجسمانية في البدن. واستيلائها عليه. ثم إنها مجردة عن الأعوان والأنصار.

وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ يظهر أن نور القوة العاقلة في جواهر النفوس الناطقة: يكون ضعيفا. وأما النفوس الفلكية والعقول المجردة ، فهي في ذواتها ، أعلى من أن يقال : إنها أنوار. وأما معارفها. فهي التعقلات

__________________

(١) من (طا ، ل).

(٢) من (م).

(٣) من (س).

(٤) المدثر ٣٠ وما بين القوسين : زيادة.

الكاملة المشرقة المتعالية عن ظلمات القوى الجسمانية ، وأوضار القوى الطبيعية الغاذية والهاضمة والدافعة.

فكيف يخطر ببال العاقل : إثبات مناسبة بين البابين؟

وهاهنا آخر الكلام في هذه المقالة. والله أعلم.

[تمت المقالة الخامسة. والحمد لله كما هو أهله. والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه (١)] وليكن هاهنا آخر كلامنا في شرح الأحوال العالية والسافلة.

ونختم الكتاب بهذا التضرع فأقول : «أنت المتعالي عن علائق العقول والفهوم ، وأنت المقدس عن مناسبات الأعراض والجسوم ، وأنت الموصوف بأنك أنت الحي القيوم. فلا نهاية لجنودك من الروحانيات ولا غاية لأحوال عبادك من الجسمانيات. وأنت مقدس عن الاعتضاد بهذه الجنود والعساكر. وأنت الغني عن الكل في الأول وفي الآخر. فإذا كنت غنيا عنهم مع جلالة أحوالهم ، وحسن أفعالهم. فمن أين يحصل لهذه الذرة الضعيفة والنسمة النحيفة ، عند طلوع نور كبريائك؟ وكيف يمكن أن يكون له ذكر عند إشراق صفاتك وأسمائك؟ فإذا اعتبرت هذه الحالة ، ضعف رجائي ونفذ دعائي. وأما إذا اعتبرت أنك عاملت الكل بالرحمة مع الاستغناء عنهم ، وأمطرت عليهم سحائب الرحمة مع عدم الاحتياج إليهم. فعند هذا أقول : يا أيها الموصوف بالأزلية والقدم. ويا أيها المتعالي عن قبول الفناء والعدم : إن أعطيت أحدا ، لأجل أنه استحق منك تلك النعمة والرحمة ، فلا تلتفت إلى دعائي وندائي. وأما إن كان كل من فاز بنوع من الرحمة ، ووصل إلى قسط من النعمة ، فإنما وصل إليه بمحض فضلك بالخير والرحمة قبل الموت ، وعند الموت ، وبعد الموت. يا أكرم الأكرمين ، ويا أرحم الراحمين ، ويا إله الأولين والآخرين».

قال مصنف الكتاب رضي الله عنه : تم هذا الكتاب بكرة يوم الاثنين.

__________________

(١) من (ط).

الرابع من رجب ، سنة خمس وستمائة. والحمد لله حمدا كثيرا دائما أبدا ، طيبا مباركا. والصلاة على الملائكة المقربين ، ثم على الأنبياء والمرسلين ، وعلى جميع عباد الله الصالحين ، خصوصا على محمد وآله أجمعين (١)].

[تم الجزء السابع من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» ويليه الجزء الثامن. في : النبوات ، وما يتعلق بها].

__________________

(١) من أول : وليكن هاهنا إلى أجمعين : ساقط من (م ، ط).

فهرس الجزء السابع

المقالة الأولى

في المقدمات.................................................................. ٥

الفصل الأول :

في تفصيل مذاهب الناس فيها................................................... ٧

الفصل الثاني :

في ذكر شرح اخر في تقسيم الأرواح............................................ ١٣

الفصل الثالث :

في حكاية شبهات المنكرين للموجودات الروحانية والجواب عنها..................... ٢٥

الفصل الرابع :

في ذكر الدلائل الدالة على ثبوت هذا القسم من الموجودات على سبيل الاجمال...... ٢٩

المقالة الثانية

في بيان أن النفس الانسانية هل هي جوهر مجرد عن الحجمية والحلول في الحجمية. أم لا؟ ٣٣

الفصل الأول :

في تفصيل مذاهب الناس فيه.................................................. ٣٥

الفصل الثاني :

في حكاية دلائل القائلين بأن النفس يجب أن تكون جوهرا جسمانيا................ ٤٣

الفصل الثالث :

في حكاية الحجة التي هي أقوى الوجوه في اثبات تجرد النفس....................... ٥٧

الفصل الرابع :

في حكاية الدلائل التي عوّل عليها «الشيخ» في اثبات أن النفس الناطقة : مجردة..... ٦٩

الفصل الخامس :

في حكاية الدلائل الاقناعية التي ذكروها في أن النفس الناطقة مجردة عن الجسمية..... ٩١

الفصل السادس :

في الدلائل القوية المعتبرة في اثبات النفس...................................... ١٠١

الفصل السابع :

في الدلائل السمعية على أن النفس غير البدن.................................. ١٢٩

المقالة الثالثة

في صفات النفوس البشرية................................................... ١٣٩

الفصل الأول :

في أن النفوس هل هي متحدة في الحقيقة والماهية أم لا؟......................... ١٤١

الفصل الثاني :

في ذكر جملة الأسباب الموجبة لاختلاف النفوس في الصفات..................... ١٤٩

الفصل الثالث :

في بيان أن النفس واحدة.................................................... ١٥٩

الفصل الرابع :

في بيان أن المتعلق الأول للنفس هو القلب وأن العضو الرئيسي المطلق هو القلب.... ١٦٣

الفصل الخامس :

في حكايات شبهات «جالينوس» على مذهبه. والجواب عنها.................... ١٧٥

الفصل السادس :

في تلخيص مذهب أصحاب «أرسطاطاليس» في كيفية الأرواح القلبية والدماغية.... ١٨٥

الفصل السابع :

في أن النفوس الناطقة محدثة أو قديمة؟........................................ ١٨٩

الفصل الثامن :

في التناسخ................................................................ ٢٠١

الفصل التاسع :

في بيان أن النفس باقية بعد موت البدن....................................... ٢١١

الفصل العاشر :

في تقرير الوجوه الاقناعية في بيان أن النفس باقية بعد موت الجسد................ ٢٢٥

الفصل الحادي عشر :

في بيان أن النفس لا تقبل الهلاك والعدم....................................... ٢٣٥

الفصل الثاني عشر :

في أنه هل يعقل وجود نفس واحدة ، تكون متصرفة في بدنين. ووجود نفسين يكونان متصرفتين في بدن واحد؟      ٢٤٣

واحتجوا على أن النفس لا تدرك الجزئيات بوجوه عامة ووجوه خاصة. أما الوجوه العامة فأربعة :    ٢٤٧

الفصل الثالث عشر :

في بيان أن النفوس الناطقة مدركة للكليات والجزئيات معا. وأنها هي المباشرة لجميع الأفعال بنفسها ، وإن كانت تلك المباشرة موقوفة على استعمال الآلات....................................................... ٢٤٧

الفصل الرابع عشر :

في إقامة الدلالة القاهرة على أن الموصوف بجميع أقسام الادراكات ، والمباشر لجميع التحريكات والتدبيرات لهذا البدن : هو النفس......................................................................... ٢٥٥

الفصل الخامس عشر :

في بيان أن النفس بعد مفارقة البدن تبقى عالمة مدركة للجزئيات.................. ٢٦١

الفصل السادس عشر:

في البحث عن علل النفوس الناطقة........................................... ٢٦٣

الفصل السابع عشر :

في بيان أن اشتغال النفوس البشرية بالدعاء والتضرع. هل يعقل أن يكون فيه فائدة أم لا؟       ٢٦٩

الفصل الثامن عشر :

في بيان كيفية الانتفاع بزيارة الموتى والقبور.................................... ٢٧٥

الفصل التاسع عشر :

التاسع عشر في مراتب النفوس في المعارف والعلوم............................ ٢٧٩

الفصل العشرون :

في نسبة الأعضاء والقوى إلى جوهر النفس.................................... ٢٨٥

الفصل الحادي والعشرون :

في تعديد خواص النفس الانسانية............................................ ٢٨٩

الفصل الثاني والعشرون :

في بيان أن اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذات الحسية................... ٢٩٧

الباب الثالث والعشرون :

في البحث عن نفوس سائر الحيوانات......................................... ٣٠٣

المقالة الرابعة :

في البحث عن أحوال الأرواح السفلية المسماة بالجن والشياطين............... ٣١٣

الفصل الأول :

في أن القول بالجن والشياطين هل هو ممكن أم لا؟........................... ٣١٥

الفصل الثاني :

في الطرق الدالة على إثبات الجن والشياطين.................................. ٣٢٣

الفصل الثالث :

في البحث عن حقيقة الالهام والوسوسة واستقصاء القول فيهما.................. ٣٢٩

المقالة الخامسة

في تفاصيل الكلام في الأرواح العالية الفلكية................................... ٣٣٣

الفصل الأول :

في إقامة الدلالة على أن الأفلاك والكواكب : أحياء ناطقة...................... ٣٣٥

الفصل الثاني :

في بيان صفة النفس الفلكية................................................. ٣٤٩

الفصل الثالث :

في تعديد مذاهب الناس في السبب الموجب ، لكون الفلك متحركا بالاستدارة...... ٣٥٧

الفصل الرابع :

في تتبع هذه المذاهب....................................................... ٣٦٥

الفصل الخامس :

في تعديد الطرق المذكورة في اثبات العقول الفلكية............................... ٣٧٧

الفصل السادس :

في البحث عن فرعين من فروع القول بهذه العقول والنفوس....................... ٣٨٣

الفصل السابع :

في نقل كلمات أصحاب الطلسمات في صفات الأرواح الفلكية العالية............. ٣٨٧

الفصل الثامن :

في شرح صفات الملائكة بحسب ما وجدنا في الكتاب الكريم..................... ٣٩٥

الفصل التاسع :

في الكلام في أن الملائكة أفضل أم البشر؟..................................... ٤٠٥

فهرس مواضيع الجزء السابع.................................................. ٤٣١

المطالب العالية من العلم الإلهي - ٧

المؤلف: محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
الصفحات: 435
  • المقالة الأولى
  • في المقدمات 5
  • الفصل الأول :
  • في تفصيل مذاهب الناس فيها 7
  • الفصل الثاني :
  • في ذكر شرح اخر في تقسيم الأرواح 13
  • الفصل الثالث :
  • في حكاية شبهات المنكرين للموجودات الروحانية والجواب عنها 25
  • الفصل الرابع :
  • في ذكر الدلائل الدالة على ثبوت هذا القسم من الموجودات على سبيل الاجمال 29
  • المقالة الثانية
  • في بيان أن النفس الانسانية هل هي جوهر مجرد عن الحجمية والحلول في الحجمية. أم لا؟ 33
  • الفصل الأول :
  • في تفصيل مذاهب الناس فيه 35
  • الفصل الثاني :
  • في حكاية دلائل القائلين بأن النفس يجب أن تكون جوهرا جسمانيا 43
  • الفصل الثالث :
  • في حكاية الحجة التي هي أقوى الوجوه في اثبات تجرد النفس 57
  • الفصل الرابع :
  • في حكاية الدلائل التي عوّل عليها «الشيخ» في اثبات أن النفس الناطقة : مجردة 69
  • الفصل الخامس :
  • في حكاية الدلائل الاقناعية التي ذكروها في أن النفس الناطقة مجردة عن الجسمية 91
  • الفصل السادس :
  • في الدلائل القوية المعتبرة في اثبات النفس 101
  • الفصل السابع :
  • في الدلائل السمعية على أن النفس غير البدن 129
  • المقالة الثالثة
  • في صفات النفوس البشرية 139
  • الفصل الأول :
  • في أن النفوس هل هي متحدة في الحقيقة والماهية أم لا؟ 141
  • الفصل الثاني :
  • في ذكر جملة الأسباب الموجبة لاختلاف النفوس في الصفات 149
  • الفصل الثالث :
  • في بيان أن النفس واحدة 159
  • الفصل الرابع :
  • في بيان أن المتعلق الأول للنفس هو القلب وأن العضو الرئيسي المطلق هو القلب 163
  • الفصل الخامس :
  • في حكايات شبهات «جالينوس» على مذهبه. والجواب عنها 175
  • الفصل السادس :
  • في تلخيص مذهب أصحاب «أرسطاطاليس» في كيفية الأرواح القلبية والدماغية 185
  • الفصل السابع :
  • في أن النفوس الناطقة محدثة أو قديمة؟ 189
  • الفصل الثامن :
  • في التناسخ 201
  • الفصل التاسع :
  • في بيان أن النفس باقية بعد موت البدن 211
  • الفصل العاشر :
  • في تقرير الوجوه الاقناعية في بيان أن النفس باقية بعد موت الجسد 225
  • الفصل الحادي عشر :
  • في بيان أن النفس لا تقبل الهلاك والعدم 235
  • الفصل الثاني عشر :
  • في أنه هل يعقل وجود نفس واحدة ، تكون متصرفة في بدنين. ووجود نفسين يكونان متصرفتين في بدن واحد؟      243
  • واحتجوا على أن النفس لا تدرك الجزئيات بوجوه عامة ووجوه خاصة. أما الوجوه العامة فأربعة :    247
  • الفصل الثالث عشر :
  • في بيان أن النفوس الناطقة مدركة للكليات والجزئيات معا. وأنها هي المباشرة لجميع الأفعال بنفسها ، وإن كانت تلك المباشرة موقوفة على استعمال الآلات 247
  • الفصل الرابع عشر :
  • في إقامة الدلالة القاهرة على أن الموصوف بجميع أقسام الادراكات ، والمباشر لجميع التحريكات والتدبيرات لهذا البدن : هو النفس 255
  • الفصل الخامس عشر :
  • في بيان أن النفس بعد مفارقة البدن تبقى عالمة مدركة للجزئيات 261
  • الفصل السادس عشر:
  • في البحث عن علل النفوس الناطقة 263
  • الفصل السابع عشر :
  • في بيان أن اشتغال النفوس البشرية بالدعاء والتضرع. هل يعقل أن يكون فيه فائدة أم لا؟       269
  • الفصل الثامن عشر :
  • في بيان كيفية الانتفاع بزيارة الموتى والقبور 275
  • الفصل التاسع عشر :
  • التاسع عشر في مراتب النفوس في المعارف والعلوم 279
  • الفصل العشرون :
  • في نسبة الأعضاء والقوى إلى جوهر النفس 285
  • الفصل الحادي والعشرون :
  • في تعديد خواص النفس الانسانية 289
  • الفصل الثاني والعشرون :
  • في بيان أن اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذات الحسية 297
  • الباب الثالث والعشرون :
  • في البحث عن نفوس سائر الحيوانات 303
  • المقالة الرابعة :
  • في البحث عن أحوال الأرواح السفلية المسماة بالجن والشياطين 313
  • الفصل الأول :
  • في أن القول بالجن والشياطين هل هو ممكن أم لا؟ 315
  • الفصل الثاني :
  • في الطرق الدالة على إثبات الجن والشياطين 323
  • الفصل الثالث :
  • في البحث عن حقيقة الالهام والوسوسة واستقصاء القول فيهما 329
  • المقالة الخامسة
  • في تفاصيل الكلام في الأرواح العالية الفلكية 333
  • الفصل الأول :
  • في إقامة الدلالة على أن الأفلاك والكواكب : أحياء ناطقة 335
  • الفصل الثاني :
  • في بيان صفة النفس الفلكية 349
  • الفصل الثالث :
  • في تعديد مذاهب الناس في السبب الموجب ، لكون الفلك متحركا بالاستدارة 357
  • الفصل الرابع :
  • في تتبع هذه المذاهب 365
  • الفصل الخامس :
  • في تعديد الطرق المذكورة في اثبات العقول الفلكية 377
  • الفصل السادس :
  • في البحث عن فرعين من فروع القول بهذه العقول والنفوس 383
  • الفصل السابع :
  • في نقل كلمات أصحاب الطلسمات في صفات الأرواح الفلكية العالية 387
  • الفصل الثامن :
  • في شرح صفات الملائكة بحسب ما وجدنا في الكتاب الكريم 395
  • الفصل التاسع :
  • في الكلام في أن الملائكة أفضل أم البشر؟ 405
  • فهرس مواضيع الجزء السابع 431