المقالة الأولى

في

الكلام في الزمان

بسم الله الرحمن الرحيم

[قال مولانا ، أفضل [أهل (١)] العالم [في زمانه (٢)] خاتم المحققين ، مكمل علوم الأولين والآخرين ، الإمام الداعي إلى الله ، أبو عبد الله ، محمد بن عمر بن الحسين ، الرازي. رضى الله عنه (٣) :].

الكتاب الخامس من إلهيات كتاب «المطالب العالية» في : «البحث عن الزمان والمكان. وفيه مقالتان :

__________________

(١) زيادة.

(٢) زيادة.

(٣) سقط من (س).

الفصل الأول

في

تقرير دلائل القائلين بنفي الزمان

للناس في الزمان قولان : الأول : قول من أنكر وجوده. والثاني : قول من أثبت وجوده (١).

أما المنكرون لوجوده. فقالوا : الموجودات على قسمين : منها ما يكون بقاؤها بسبب أفرادها وتتالي آحادها ، وبغير كونها متعاقبة متتالية ، أن كل واحد منها وجد بعد العدم ، ثم عدم بعد الوجود ، وهذا المفهوم لا يقتضي إثبات موجود زائد على تلك الموجودات ، والعدمات.

ومنها ما يكون بقاؤها بمعنى كونها مستمرة دائمة بأعيانها. وهذا المفهوم [أيضا (٢)] لا يقتضي إثبات موجود زائد. (ويدل على ما ذكرناه وجوه من الدلائل :).

الحجة الأولى : هذا الشيء المسمى بالزمان والمدة ، لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون مستمر الوجود ، أو منقضي الوجود ، والأول محال ، وإلا

__________________

(١) نص (س) الكتاب الخامس من إلهيات كتاب المطالب العالية في البحث عن الزمان والمكان. وفيه مقالتان. المقالة الأولى في الزمان وفيها فصول ، هي أحد عشر فصلا. الفصل الأول في تقرير دلائل القائلين بنفي الزمان ... الخ وفي (ت) : الفصل الأول في شرح دلائل القائلين بنفي الزمان.

(٢) من (س).

[لوجب أن يكون (١)] هذا اليوم بعينه ، هو يوم الطوفان [فيلزم على هذا التقدير] (٢) أن يكون الحادث في هذا اليوم ، حادثا في يوم الطوفان ، بل قبله ، بل أزلا. هذا خلف. [محال] (٣) وأيضا : فبتقدير كونه دائم الوجود بعينه ، فلا بد وأن يصدق عليه أنه كان موجودا قبل ، وسيبقى موجودا بعد. فلو كان هذا المفهوم يقتضي إثبات مدة وزمان لذلك الشيء ، فحينئذ يلزم افتقار المدة والزمان إلى مدة أخرى ، وزمان آخر. ويلزم التسلسل وهو محال. والثاني (٤) أيضا باطل ، لأنه يقتضي أن تكون الأجزاء المفترضة فيه متعاقبة متوالية ، وحينئذ يصح في كل واحد من تلك الأجزاء أن يقال : إنه حدث الآن ، لا قبل ولا بعد. فلو كان الحكم على الشيء بأنه حدث الآن ، أو كان حادثا قبل ذلك ، أو سيحدث بعد ذلك ، يقتضي شيئا آخر يكون ظرفا له ، ويكون لأجل وقوع هذا الشيء في ذلك الظرف ، يصدق عليه بأنه حصل الآن ، أو في الماضي ، أو سيحصل في المستقبل ، فحينئذ يلزم أن يكون للزمان زمان آخر إلى غير النهاية ، وذلك محال.

الحجة الثانية : إنا نعلم بالضرورة أن الأجزاء المفترضة في الزمان لا تحصل معا ، بل حصولها لا يعقل إلا على سبيل التعاقب والتقضي. فنقول : إما أن يكون لشيء من تلك الأجزاء حضور وحصول ، أو لا يكون ، فإن كان الأول كان واحد من تلك الأجزاء حال حضوره غير منقسم [وإلا لحصل له نصفان ، ويكون النصف الأول سابقا على النصف الثاني (٥)] وحينئذ لا يكون الحاضر حاضرا. هذا خلف.

وإذا ثبت أن كل واحد من تلك الأشياء غير قابل للقسمة ـ ولا شك أن الزمان إنما يمتد بسبب تعاقب تلك الأشياء الحاضرة ـ لزم كون الزمان مركبا من

__________________

(١) لكان (ت).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) والقسم الثاني (س).

(٥) من (س ، ط).

الآنات المتتالية التي يكون كل واحد منها [غير قابل للقسمة (١)] ولو كان الأمر كذلك لزم كون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، لأن القدر الذي يتحرك عليه المتحرك من المسافة في الآن الواحد ، الذي لا يقبل القسمة ـ إن كان منقسما ـ كانت الحركة إلى نصفه واقعة في نصف ذلك الآن ، [والحركة الواقعة في النصف الثاني من ذلك الآن ، فحينئذ ينتصف ذلك الآن] (٢) وكنا قد فرضنا أنه لا ينتصف. هذا خلف. فثبت أن القول بكون الزمان مركبا من أشياء حاضرة ، كل واحد منها لا ينقسم ، يفضي إلى إثبات الجوهر الفرد ، وهو باطل. فكان القول بوجود الزمان باطلا. وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إنه ليس لشيء من الأجزاء المفترضة في الزمان حضور ولا حصول البتة ، فهذا تصريح بنفي الزمان بالكلية ، لأن الماضي هو الذي كان حاضرا ثم انقضى ، والمستقبل هو الذي يتوقع حضوره وهو بعد لم يحضر. فكونه ماضيا ومستقبلا يتوقف على كونه حاضرا. فإذا كان كونه حاضرا ممتنعا ، كان وجوده في الماضي والمستقبل محالا. وإذا كان لا يتقرر له وجود ، لا في الحال ، ولا في الماضي ، ولا في المستقبل ، امتنع القول بوجوده.

الحجة الثالثة : إن هذا الزمان. إما أن يكون حادثا ، أو قديما. فإن كان حادثا كان عدمه قبل وجوده ، وهذه القبلية لا تكون بالزمان ، لأن هذا الكلام إنما وقع في العدم الذي هو متقدم على وجود كل (٣) الزمان ، وعند حصول هذا العدم لا يكون للزمان وجود فقد حصل معنى القبلية والتقدم من غير حصول الزمان ، فعلمنا أن حصول القبلية والتقدم ، لا يتوقف على وجود الزمان. وأما إن قلنا : الزمان قديم. فنقول : هذا باطل. وبتقدير تسليمه ، فالمقصود حاصل. أما أنه باطل فلأن وجود الزمان لا يتقرر إلا عند توالي القبليات [والبعديات] (٤) وهذا التوالي والتعاقب هو التغير [والتغير (٥)] ماهيته ،

__________________

(١) لا يقبل القسمة (ت).

(٢) من (ط ، س).

(٣) من (س).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (ط ، س).

تقتضي أن تكون مسبوقة بالغير ، والأزلي [ماهيته (١)] تنافي المسبوقية بالغير ، والجمع بينهما محال ، فكان الجمع بين حقيقة الزمان ، وبين حقيقة الأزلية (٢) محالا (٣).

وأما بيان أن بتقدير تسليمه. فالمقصود حاصل. فتقريره : أن القديم هو المستمر أزلا وأبدا ، وكما أن الحدث يوهم إثبات زمانين متعاقبين ، حصل في أولهما عدم الشيء ، وفي ثانيهما وجوده ، فكذلك القديم يوهم وجود زمان مستمر من الأزل إلى الأبد ، حصل فيه ذلك القديم ، ولو حكمنا على الزمان بالقدم ، لأوهم ذلك الحكم وقوع ذلك الزمان في زمان آخر ، فإن كان هذا الوهم كاذبا ، فليكن مثل هذا الوهم كاذبا أيضا في جانب الحدوث ، فإنه لا فرق في العقل بين البابين ، وحينئذ يرجع حاصل الكلام إلى أن كون الشيء مستمرا ، وكونه متغيرا ـ وإن كان يوهم وجود زمان يكون ظرفا ووعاء لذلك الاستمرار تارة ، ولذلك التغير أخرى ـ إلا أن ذلك الوهم فاسد ، وذلك الخيال باطل ، وذلك يوجب القطع بنفي الزمان. وهو المطلوب.

الحجة الرابعة : إنا كما نعلم بالضرورة : أن الحادث الأمسي متقدم على الحادث اليومي ، فكذلك نعلم بالضرورة أن الأمس متقدم على اليوم ، تقدما. ولا يمكن أن يوجد المتقدم مع المتأخر ، فإن كان هذا النوع من التقدم يحوج إلى وجود ظرفي ووعاء ، لأجله يحصل هذا التقدم ، وهذا التأخر ، فليكن لهذا الظرف ظرف آخر ، ولهذا الوعاء ، وعاء آخر ، إلى غير النهاية. وإن كان لا يحوج البتة ، فليكن الأمر كذلك في سائر الحوادث.

لا يقال : هب أنه يلزمنا إثبات أزمنة لا نهاية لها ، يحيط بعضها بالبعض. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ لأنا نقول : فعلى هذا التقدير لا يكون اليوم الحاضر يوما واحدا ، بل أياما غير متناهية يحيط بعضها بالبعض ويكون

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) الأزل (س).

(٣) محالا ممتنعا (ت).

مجموعها حاضرا في هذا اليوم ، ولا يكون الأمس أمسا واحدا ، بل أياما غير متناهية يحيط بعضها بالبعض ، مع أن مجموعها كان حاضرا بالأمس.

إذا عرفت هذا فنقول : مجموع تلك الأيام الغير المتناهية الأمسية ، متقدم على جميع الأيام الغير التناهية [اليومية (١)] وذلك التقدم يجب أن يكون بزمان آخر (٢) يكون ظرفا

لها ، ووعاء لها ، إلا أن القول بذلك محال ، وذلك لأن ذلك الزمان الذي هو ظرف لمجموع الأيام الأمسية لكونه ظرفا لها ، يجب أن يكون خارجا عنها ، لوجوب كون الظرف مغايرا للمظروف. [ولكونه (٣)] أحد الأيام الأمسية يجب أن يكون داخلا في مجموع الأيام الأمسية وحينئذ يلزم كون ذلك الظرف خارجا عن ذلك المجموع ، لكونه ظرفا له ، وكونه داخلا فيه ، لكونه أحد تلك الأزمنة ، فيكون ذلك الواحد داخلا في مجموع تلك الأزمنة ، وخارجا عنها ، وكون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد خارجا عنه ، وداخلا فيه محال. فكان هذا القول محالا.

الحجة الخامسة : لا شك أن الباري سبحانه يجب أن يكون متقدما على الحوادث اليومية ، ولا شك أن ذاته (٤) ممتنعة الانفكاك عن هذا التقدم. فهذا التقدم إما أن يتوقف حصوله على حصول الزمان أو لا يتوقف ، فإن كان الأول ، فحينئذ تكون ذات واجب الوجود لذاته ، ممتنعة الخلو عن هذا التقدم ، وهذا التقدم متوقف الحصول على حصول الزمان ، والموقوف على الموقوف على الشيء موقوف على الشيء ، فيلزم افتقار ذات واجب الوجود لذاته إلى الزمان ، والمفتقر في وجوده إلى الغير ممكن لذاته ، فواجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته [هذا خلف (٥)] وأيضا : فإذا كان واجب الوجود لذاته مفتقرا في وجوده إلى وجود الزمان ، فمن المعلوم بالبديهة : أن ما يحتاج واجب

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) بأزمان الاخر (س ، ط).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) ذاته وحقيقته (ت).

(٥) من (ط ، س).

الوجود لذاته إليه ، [كان (١)] أولى بأن يكون واجبا لذاته ، فيلزم أن يكون الزمان واجب الوجود لذاته ، مع أنه مركب من أجزاء [متشافعة (٢)] متتالية متعاقبة حادثة ، وكل ذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن تقدم وجود الباري تعالى على هذه الحوادث اليومية لا يتوقف على وجود الزمان ، لكن تقدم وجود الباري تعالى على هذا الحادث اليومي ، مساوي لتقدم كل متقدم زماني على [كل] (٣) متأخر زماني ، وليس في العقل بين البابين تفاوت أصلا (٤) فوجب أن لا يعتبر في حصول هذه التقدمات وجود مدة ولا زمان. وهو المطلوب.

الحجة السادسة : لا شك أن الباري تعالى دائم الوجود. وكما أن الحدوث لا يعقل إلا مع توهم : المدة والزمان. فكذلك الدوام لا يعقل إلا مع توهم [المدة (٥)] والزمان الدائم. لأن المعقول من الدائم هو الذي لا أول [لمدة] (٦) وجوده ، فإن كانت هذه القضية الوهمية صادقة ، فحينئذ يفتقر دوام وجود الله تعالى إلى وجود هذا الزمان ، والموقوف (٧) على الغير ، ممكن لذاته. فالواجب لذاته ممكن لذاته. هذا خلف. فإن كانت هذه القضية الوهمية كاذبة ، وكان الحق هو أن دوام الشيء لا يتوقف على وجود مدة وزمان ، فليكن الأمر كذلك في جانب الحدوث والتغير ، وحينئذ يحصل لنا أن كون الشيء قبل غيره ، أو بعد غيره ، أو مع غيره ، لا يتوقف على وجود شيء آخر ، يكون ظرفا ووعاء لذلك المتقدم ، ولذلك المتأخر. وذلك هو المراد من نفي الزمان.

الحجة السابعة : هذه المدة ممكنة لذاتها. بدليل : أنها مركبة من الأجزاء المتعاقبة ، وكل واحد من تلك الأجزاء المتعاقبة المتتالية حادث ، وكل حادث

__________________

(١) من (ت).

(٢) سقط (ت).

(٣) من (ت).

(٤) البتة (ط ، س).

(٥) سقط (س).

(٦) لامتداد وجوده (ط ، س).

(٧) والموقوف في وجوده على وجود غيره ممكن بالذات فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف (م).

ممكن ، فإذن كل واحد من أجزاء الزمان ممكن [الوجود (١)] لذاته ، ومجموعه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، والمفتقر (٢) في وجوده إلى ما يكون ممكن الوجود لذاته ، كان أولى أن يكون ممكن الوجود لذاته. فثبت : أن المدة والزمان ـ بتقدير أن يكون موجودا ـ كان ممكن الوجود لذاته ، وكل ما [كان (٣)] ممكن [الوجود لذاته (٤)] ، فإنه لا يلزم من فرض عدمه بعد وجوده محال.

إذا ثبت هذا فنقول : لو كانت هذه البعدية لا يعقل تقررها ، إلا بسبب الزمان ، فحينئذ يلزم كون الزمان موجودا ، حال ما فرض معدوما ، لأن عدمه بعد وجوده لما لم يتقرر إلا بالزمان ، فلو فرضنا أنه عدم بعد وجوده ، فحينئذ يلزم من فرض كون هذا العدم حاصلا ، بعد ذلك الوجود ، أن يكون الزمان موجودا ، حال ما فرضناه معدوما ، فثبت : أنه لو كان الزمان موجودا ، لكان يلزم من مجرد فرض عدمه ، فرض وجوده ، وهذا محال. فثبت : أن فرض عدم الزمان يوجب المحال لذاته ، وكل ما كان كذلك كان واجبا لذاته ، فالزمان بتقدير كونه موجودا ، يلزم بحسب الاعتبار الأول أن يكون ممكنا ، وبحسب الاعتبار الثاني أن يكون واجبا لذاته. ولما كان ذلك محالا ، ثبت : أن حصول هذه القبليات ، والبعديات لا يتوقف على وجود [المدة (٥)] والزمان. وهو المطلوب.

الحجة الثامنة : إن الحكماء قالوا : المحدث له عدم سابق ، وله وجود لاحق ، وله آن وجوده حصل بعد عدمه. ثم قالوا : إن كونه بعد العدم ، يمتنع أن يكون مستفادا من سبب منفصل ، لأن كون هذا الوجود مسبوقا بذلك العدم ، أمر واجب الثبوت لذاته ، [ولعينه (٦)] ، فإنه من المحال فرض هذا

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (ط) ، (س).

(٦) سقط (ط) ، (س).

الوجود ، إلا مسبوقا بالعدم ، ولما كانت هذه المسبوقية أمرا واجب الثبوت [لهذا المحدث لذاته (١)] ولعينه ، امتنع أن يكون مستفادا من سبب منفصل. وأقول (٢) : هذا اعتراف من هؤلاء الأفاضل بأن كون هذا الوجود موصوفا بأنه بعد العدم ، [أمر (٣)] لا يمكن أن يكون معللا بغيره ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف قالوا [هاهنا (٤)] : إن هذه القبلية وهذه البعدية لا يتقرر واحد منها ، إلا لأجل شيء مغاير يسمى بالمدة والزمان؟ وتمام تقريره : أن الشيء المحكوم عليه بأنه [قبل غيره يمتنع تقرر وجوده إلا مع هذه القبلية. والشيء المحكوم عليه بأنه] (٥) بعد غيره ، يمنع تقرره إلا مع هذه البعدية.

فثبت : أن حصول هذه القبليات ، وهذه البعديات ، أمور ثابتة لهذه الأشياء لذواته ولأعيانها. ثم ثبت في خواص الواجب لذاته (٦) ، وخواص الممكن : أن الواجب لذاته ، يمتنع أن يكون واجبا لغيره ، وهذا ينتج أن حصول هذه القبليات والبعديات ، يمتنع أن تكون موقوفة على موجود آخر مغاير [والله أعلم (٧)].

الحجة التاسعة [في هذا الباب] (٨) : لو كان للزمان والمدة ماهية وحقيقة ، لوجب أن تكون ماهيته هو الكم. وذلك لأنه قابل للمساواة ، واللامساواة [والتجزي (٩)] ويمكن فرض جزء فيه ، ويقدره (١٠) وهذا هو خاصية الكم ، ولو كان كما ، لكان إما أن يكون كما متصلا ، أو كما منفصلا ، والقسمان باطلان ، فبطل [القول (١١)] بوجوده. وإنما قلنا: إنه لا يمكن أن يكون كما متصلا ، وذلك لأن الكم المتصل هو الذي ينقسم إلى جزءين مشتركين في حد واحد [بعينه (١٢)] لكن الزمان منقسم إلى الماضي ، وإلى المستقبل، وهما

__________________

(١) سقط (ط).

(٧) من (ط ، س).

(٢) فأقول (ط) ، (س) قال مولانا رضى الله عنه (ت).

(٨) سقط (ط ، س).

(٣) سقط (س).

(٩) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(١٠) جزء فيه يعده ويقدره (ت).

(٥) من (س ، ط).

(١١) من (ط ، س).

(٦) الوجود (ت).

(١٢) من (ط ، س).

يشتركان في حد واحد بعينه ، وهو الآن الحاضر ، فإن الآن الحاضر نهاية للماضي ، وبداية للمستقبل ، لكن الماضي والمستقبل كل واحد منهما معدوم ، والآن الحاضر موجود ، فيلزم أن يكون أحد المعدومين وهو الماضي ، متصلا بالمعدوم الثاني ، وهو المستقبل بطرف موجود مشترك بينهما ، وهو الآن الحاضر. وذلك مما [لا يقبله (١)] العقل لأن كون أحد المعدومين متصلا بالمعدوم الآخر غير معقول ، وكون المعدوم موصوفا بطرف موجود غير معقول أيضا. وإنما قلنا : إنه لا يمكن أن يكون كما منفصلا ، لأن الكم المنفصل مركب من الوحدات ، والوحدة لا تكون قابلة للقسمة ، فوجب أن يكون الزمان مركبا من الآفات المتتالية [التي (٢)] يكون كل واحد منها غير قابل للقسمة ، لكن ذلك محال ، لأن القول به يوجب القول بكون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ. وقد ثبت أن القول به محال.

الحجة العاشرة في هذا الباب : إن الزمان لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون من لواحق الحركة ، وإما أن لا يكون كذلك. والقسمان باطلان فكان القول بوجوده باطلا.

إنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون من لواحق الحركة لوجهين :

الأول : كان الله تعالى في الأزل موجودا ، وكان عدم هذا الشيء الذي حدث في هذا اليوم حاصلا في الأزل. فقولنا : كان ، إشارة إلى الزمان. فههنا قد حصل الزمان مع أنه لا حركة ولا تغير ، لأن وجود الله تعالى منزه عن الحركة [والتغير (٣)] ، وعدم هذا الحادث اليومي كان مبرأ [أيضا (٤)] عن التغير في الأزل.

والثاني : وهو أن الحركة مفتقرة في تقررها وتحققها إلى الزمان ، لأن الحركة عبارة عن حدوث أمر بعد أن كان بخلافه ، وهذه البعدية إشارة إلى

__________________

(١) يقبله (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) من (ط ، س).

الزمان. فثبت : أن الحركة مفتقرة في تحققها إلى وجود الزمان ، ولو كان [وجود (١)] الزمان مفتقرا إلى تقرر الحركة ، لزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر ، وهو دور ، والدور محال. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن لا يكون الزمان من لواحق الحركة ، لأن الزمان والمدة ، لا يعقل ثبوته إلا حيث حصلت قبليات متوالية ، وبعديات متوالية. وحصول القبلية بعد البعدية ، [والبعدية (٢)] بعد القبلية ليس إلا التغير والتبدل. وذلك يقتضي أن لا تتقرر ماهية الزمان إلا عند حصول التغير والحركة. فثبت : أنه لو كان الزمان موجودا ، لكان إما أن يكون من لواحق الحركة ، وإما أن لا يكون. ولما ثبت فساد القسمين ، وجب أن يكون القول بوجود الزمان [باطلا (٣)]

الحجة الحادية عشر : لو كان الزمان موجودا ، لكان إما أن يكون مقدارا للحركة وإما أن لا يكون. والقسمان باطلان ، فالقول بوجوده باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون مقدارا للحركة لوجوه كثيرة سيأتي تفصيلها. لكن الذي نذكره الآن : أن الزمان لو كان موجودا ، لكان عبارة عن مقدار امتداد الحركة. وامتداد الحركة لا وجود له في الأعيان ، لأن الحاصل في الأعيان هو حصول الجوهر المعين ، في الحيز المعين ، فأما تعاقب حصولات الجوهر المعين في الأحياز المتعاقبة ، فذاك لا حصول له في الأعيان.

فثبت : أن امتداد وجود الحركة ، لا حصول له [في الأعيان (٤)] ، وإذا كان هذا الامتداد لا حصول له في الأعيان ، كان مقدار هذا الامتداد ، يمنع أن يكون موجودا في الأعيان ، لأن مقدار هذا الامتداد ، صفة لهذا الامتداد.

فإذا كان هذا الامتداد معدوما في الأعيان ، امتنع أن يكون مقدار هذا الامتداد موجودا في الأعيان ، لأن صفة المعدوم يمتنع أن تكون موجودة. وإنما قلنا : إنه يمتنع كون الزمان شيئا آخر غير مقدار الحركة ، لأنا نتكلم في هذا

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) سقط (م).

(٤) من (س ، ط).

المقام مع «أرسطاطاليس» وأصحابه ، وهم قد أطبقوا على أنه يمتنع أن يكون الزمان شيئا آخر ، غير مقدار الحركة.

الحجة الثانية عشر : إن بديهة العقل شاهدة بأن عدم كل محدث سابق على وجوده ، ومن نازع فيه فقد نازع في أجلى العلوم البديهية ، وإذا ثبت هذا فنقول : السبق صفة للعدم (١) وصفة المعدوم لا تكون موجودة بل تكون معدومة ، فهذا السبق والتقدم والتأخر ، أمور لا وجود (٢) لها في الأعيان [البتة (٣)] والعدم المحض لا يستدعي محلا موجودا ، فهذا السبق والتقدم والتأخر لا يحتاج شيء منها إلى موصوف [موجود (٤)] والزمان لا حقيقة له إلا الأمر الذي يعرض له هذا السبق وهذا التقدم ، وهذا التأخر. وذلك ينتج : أن الزمان والمدة لا يجب أن يكون أمرا موجودا.

فهذا مجموع هذه الدلائل الاثني عشر ، التي استنبطناها للقائلين بأنه لا معنى لوجود الزمان ، إلّا كون بعض الموجودات دائمة الوجود بأعيانها ، وكون بعضها [أمورا محدثة (٥)] متوالية متعاقبة. وهي بأسرها حسنة قوية معلومة. وبالله التوفيق] (٦).

__________________

(١) المعدوم (ت ، ط) العدم (س).

(٢) نهاية (ط).

(٣) من (س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) من (ط ، س).

(٦) سقط (ط ، س).

الفصل الثاني

في

تقرير قول من يقول :

العلم بكون المدة والزمان موجودان :

علم بديهي أولي. لا يحتاج فيه

الى الحجة والدليل

اعلم أن المثبتين للمدة فريقان : منهم من يدعى أن العلم بوجوده علم بديهي ضروري ، غني عن البيان والبرهان. ومنهم من حاول إثباته بالبينة والبرهان. أما الفريق الأول فمنهم «محمد بن زكريا الرازي» وقوم آخرون.

أنا (١) وإن كنت ما وجدت لهم إلا ادعاء البديهة والضرورة ، إلا أنّي أقرر تقريرا [أحسن وأكمل ، مما ذكروه (٢)]. وأقول : لهم أن يحتجوا على صحة قولهم بوجوه :

الحجة الأولى : إنا لو فرضنا شخصا غافلا عن وجود الأفلاك والكواكب وعن طلوعها وغروبها ، بأن كان أعمى ، كان جالسا في بيت مظلم ، وقدرنا أنه قصد تسكين الحركات بأسرها حتى الطرف والنفس ، فإن هذا الإنسان يجد المدة أمرا سيالا (٣) يحدث ، ويمر دائما بلا وقوف ولا انقضاء. والعلم بذلك ضروري حتى أنه إذا اعتبر هذه الحالة من البكرة إلى الضحوة ، ثم اعتبرها من الضحوة إلى وقت الظهر ، فإنه مع غفلته عن حركة الشمس والقمر وسائر الكواكب والأفلاك ، يعلم بالبديهة : أن الذي انقضى من البكرة إلى الضحوة ، نصف ما

__________________

(١) آخرون [وقال مولانا الإمام الداعي إلى الله] وأنا ... الخ (ت).

(٢) كاملا تاما (ط ، س).

(٣) مثبتا لا يحدث (ت).

انقضى من البكرة إلى الظهر. ويعلم بالبديهة : أن علمه بهذا الاعتبار لا يتوقف على علمه بأن فلكا تحرك ، أو كوكبا تحرك. وهذه الاعتبارات تدل على أن العلم بوجود المدة والزمان : [علم بديهي (١)] أولى ، غني عن البيان والبرهان.

الحجة الثانية : إن كل أمر يشير العقل إليه ، سواء كان موجودا أو معدوما ، فإن ذلك الأمر إما أن يعتبر حال حدوثه [وتبدله (٢) أو حال دوامه [واستمراره (٣)]. فإن اعتبرناه حال حدوثه فههنا العقل حكم بإثبات حيز (٤) وزمان ، جعله ظرفا لحدوثه ، [فإن العقل لا بد وأن يقول : إنه إنما حدث في ذلك الزمان الفلاني (٥)] وإن اعتبرناه حال دوامه ، فهذا الدوام لا يعقل منه إلا أنه كان موجودا في الأزمنة المتقدمة مع أنه موجود في الزمان الحاضر. [فأما إذا (٦)] رفعنا اعتبار الزمان والمدة من العقل (٧) فههنا يعجز العقل عن تصور معنى الحدوث ، [وتصور معنى (٨)] الدوام ولما كان هذان المعنيان متصوران [تصورا (٩)] بديهيا وثبت أن تصورهما لا يتقرر إلا عند الاعتراف بوجود الزمان [ثبت أن الاعتراف بوجود الزمان (١٠)] من العلوم البديهية الأولية.

والذي يزيد هذا الكلام تقريرا أن المتكلمين قالوا : العرض لا يبقى زمانين ، والباقي هو الذي [استمر وجوده (١١)] زمانين وأكثر ، فهم لم يعقلوا [البتة (١٢)] معنى الحدوث ، ومعنى البقاء [إلا بسبب (١٣)] المدة والزمان. وهذا يدل على أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي غني عن الحجة والبرهان (١٤).

__________________

(١) من (ت).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) حال وحيز وزمان (ت).

(٥) من (س ، ط).

(٦) سقط (م).

(٧) من العقل عجز العقل حينئذ عن تصور (ت).

(٨) سقط (س).

(٩) من (س ، ط).

(١٠) من (س ، ط).

(١١) وجد في (س ، ط).

(١٢) من (ت).

(١٣) بالقياس إلى (ت).

(١٤) البينة والتقرير (ط ، س).

الحجة الثالثة : على أن العلم بوجود المدة علم بديهي هي : أن نقول : إنا إذا قلنا : إن آدم عليه‌السلام كان قبل محمد عليه‌السلام. فإنا لا نعقل من هذه القبلية إلا أن بينهما مدة مخصوصة وزمانا مخصوصا. وإذا قلنا : الأخوان التوأمان وجودا معا ، لم نعقل من هذه المعية إلا أنهما حصلا في زمان [واحد (١)] ولو رجعت إلى جميع العقلاء الذين بقوا على فطرتهم الأصلية وسلامة عقولهم [الغريزية (٢)] لم يفهموا من هذه القبلية ولا من هذه المعية إلا ما ذكرناه. فعلمنا : أن العلم بوجود المدة والزمان : علم مقرر في بدائه العقول [وغرائز الأذهان (٣)] فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من هذه المعية والقبلية نفس ذاتيهما؟ قلنا : لأنا جعلنا ذاتيهما ووجوديهما موردا للتقسيم لهذه المعية ولهذه القبلية. ومورد التقسيم لما به حصل ذلك التقسيم ، وذلك معلوم بالضرورة.

الحجة الرابعة : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الجسم [إما أن يكون متحركا ، وإما أن يكون ساكنا ، والمعقول من كونه متحركا (٤)] إنما يكون متحركا إذا حصل في مكان، بعد أن كان حاصلا في غيره ، وهذه البعدية إشارة إلى أن هذا الجسم كان حاصلا في غيره ، ثم حصل في زمان آخر في حيز آخر ، وهذا يدل على أنه لا يمكن تعقل معنى الحركة والتغير إلّا بعد الاعتراف بوجود المدة والزمان. وأما السكون فالمعقول منه هو استمرار الجسم في الحيز الواحد زمانا طويلا. وهذا أيضا إشارة إلى وجود المدة والزمان ، ولما كان العلم بحقيقة الحركة وبحقيقة السكون علما بديهيا أوليا وثبت أن العلم بهما لا يتقرر إلا عند التسليم بوجود المدة والزمان ، وثبت أن الذي يتوقف عليه [التصديق البديهي (٥)] أولى أن يكون أوليا ، ثبت : أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) من (ت).

(٤) سقط (ط ، س).

(٥) من (س ، ط).

الحجة الخامسة : إن كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الموجود ، إما أن يكون قديما أو محدثا ، ثم إنه لا نعقل من القديم إلا أنه الذي لا أول لوجوده ، ولا نعقل من الحادث إلا أنه الذي يحصل لوجوده أول ، ثم إذا فسرنا قولنا : بأنه لا أول لوجوده : وهو أنا إذا اعتبرنا حالة في الأزمنة السالفة ، فإنا لا نصل عقولنا إلى زمان إلا وقد كان موجودا قبله. وإذا فسرنا الحادث : بأنه الذي لوجوده أول لم نفهم منه ، إلا أن عقولنا تنتهي إلى وقت ، يحكم عقلنا بأنه حدث فيه. فثبت : أن صريح العقل حاكم بأن الشيء إما أن يكون قديما ، وإما أن يكون محدثا ، وثبت أنه لا يمكن تصور معنى القديم ومعنى المحدث إلا عند الحكم بوجود [المدة (١)] والزمان ، وذلك يفيد أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

الحجة السادسة : إن صريح العقل حاكم بأنه يمكن قسمة الزمان إلى السنين ، وقسمة السنين إلى الشهور ، وقسمة الشهور إلى الأيام ، وقسمة الأيام إلى الساعات ، ويعلم بالضرورة أن الساعة جزء من اليوم ، [الذي هو جزء من الشهر (٢)] ، الذي هو جزء من السنة ، التي هي جزء من المدة. والعلم بحصول هذه التقديرات والتقسيمات ، علم ضروري. والعلم بكون بعضها أقل من بعض ، أو أكثر من بعض علم ضروري. ومن المعلوم بالضرورة: أن المحكوم عليه بقبول هذه التقسيمات مغاير للسواد والبياض والحجر والمثلث ، وأن ذلك الأمر ما لم يكن متحققا في الأعيان ، امتنع كونه موردا لهذه التقسيمات [في الأعيان (٣)] ، فثبت : أن العلم بوجود الزمان ، [والمدة (٤)] علم بديهي.

الحجة السابعة : إن كل أحد يعلم بأن هذه المدة قصيرة ، وأن تلك المدة طويلة. فإنه يقال بقي إلى وقت الظهر زمان طويل ، ثم يقال بعد ذلك : إنه لم

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط) ، (س) ..

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (س).

يبق من تلك المدة إلا القليل. والعلم بحصول هذه الأحوال علم بديهي ، ومتى كان العلم بصفة الشيء بديهيا ، كان العلم بأصل وجوده أولى أن يكون بديهيا. فثبت : أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي. ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : هذه القلة ، وهذه الكثرة ، أمران اعتباريان لا حصول لهما إلا في الأذهان [والخيال (١)؟ لأنا نقول : هذا الفرض الذهني ، إن كان مطابقا للأمر الخارجي ، فقد حصل المطلوب ، وإن لم يكن مطابقا كان فرضا كاذبا ، وحكما باطلا ، وكان جاريا مجرى ما إذا فرضنا هذا الحجر ياقوتا ، مع أنه في نفسه ليس كذلك ، ومعلوم أن تقسيم الزمان بالأجزاء العظيمة والصغيرة ، ليس من هذا الباب. فبطل قول من قال : إنه محض الفرض والاعتبار.

الحجة الثامنة : إن جميع الجهال [والعوالم (٢)] ، يؤرخون ويعلمون أن السنين تتوالى وتتعاقب ، ويميزون ببدائه عقولهم بين الماضي المستقبل والحال ، وهذه فالصفات لا شك أنها صفات المدة [والصفة (٣)] إذا كانت معلومة بالضرورة ، كان الموصوف أولى أن يكون كذلك.

واعلم أن هذه الوجوه [التي ذكرناها (٤)] متقاربة ، وهي بأسرها دالة على أن العلم بوجود المدة ضروري.

الحجة التاسعة : إنا قد نحكم على حركتين بأنهما ابتدأتا معا ، وانقطعتا معا ، ويكون علمنا بهذه المعية في الابتداء وفي الانقطاع : علما ضروريا. وقد نقول في حركتين أخريين : إن إحداهما ابتدأت قبل الأخرى ، وانقطعت قبلها وبعدها. وعلمنا بهذا التقدم والتأخر علم ضروري ، ثم لا نعقل من هذه المعية إلا أنهما حصلا في زمان واحد ، ولا نعقل من هذا التقدم والتأخر إلا أن أحدهما حصل في الزمان السابق على زمان حدوث هذا المتأخر. وكل ذلك يدل على أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

__________________

(١) سقط (ط) ، (س) والأذهان (س) والذهن (ت).

(٢) سقط (ط) ، (س) ويعرفون (ت).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (م).

الحجة العاشرة : إنا نحكم حكما بديهيا بأن هذه الحركة أبطأ من [تلك (١)] الأخرى. مثل قولنا : إن دبيب النملة أبطأ من طيران الطائر ، ثم إنه [لا (٢)] يمكننا تفسير الحركة البطيئة ، والحركة السريعة ، إلا بأنا نقول : السريعة هي التي تقطع مسافة مساوية لمسافة البطيئة في زمان أقل من زمانها ، أو التي تقطع مسافة أطول من مسافة البطيئة في زمان مساوي لزمانها ، فلما ثبت أن العلم بكون الحركة بطيئة وسريعة علم بديهي ، وثبت أنه لا يمكن فهم تصور ماهية الحركة السريعة وماهية الحركة البطيئة ، إلا بعد الاعتراف بوجود المدة والزمان ، علمنا : أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي.

واعلم أنا قد نبهنا بهذه الوجوه العشرة التي ذكرناها على كثير من الوجوه المغايرة لها ، مع أن في الواحد منها كفاية في إثبات هذا المطلوب.

[ولما ثبت أن العلم بوجود المدة والزمان علم بديهي أولى. نقول (٣)] : هذه المدة لا يجوز أن تكون عبارة عن حركة الفلك ، ولا عبارة عن صفة من صفات شيء من حركات الفلك ، ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن الإنسان الأعمى الجالس في البيت المظلم ، المراقب لكيفية انقضاء المدة والزمان ، يعلم أن مقدار ما مضى من المدة من الوقت الفلاني ، كم هو بالتقريب؟ من غير اعتبار حال حركة الشمس والقمر والكواكب والأفلاك ، وهذا العاقل يجد المدة تمضي وتمر مرورا دائما من غير وقوف البتة. وأنه كالنهر الجاري ، والعاقل إذا اعتبر حال نفسه ، وجد أن الأمر كما ذكرناه ، وجدانا ضروريا ، إلا إذا كان نائما أو مصروف الفكر إلى غير هذا الاعتبار ، ولو أنه توهم الفلك معدوما ، وتوهم الشمس والقمر وجميع الكواكب

__________________

(١) سقط (س).

(٢) من (ت).

(٣) ما بين القوسين من (ت) وفي (ط ، س) إذا ثبت هذا الأصل فنقول :

معدومة ، وتوهم جميع المتحركات ساكنة ، وفرضنا أن هذا الإنسان غفل عن جميع المتحركات ، لوجد عقله جازما بمرور هذا الشيء الذي سميناه بالمدة. بل نقول : لو فرضنا رجلا أصم أعمى من أول الخلقة ، بحيث ما أبصر شيئا من الكواكب والأفلاك ولم يسمع أن الله خلق هذه الأشياء البتة. ثم فرضنا أن هذا الإنسان تكلف تسكين النفس والطرف والحدقة فإنه عند هذه الأحوال يجد هذه المدة أمرا ثابتا مستمرا في الذهن والعقل ، وكل ذلك يدل على أن العلم بوجود هذه المدة : علم ضروري وأن العلم بأن هذه المدة موجودة أمر مغاير لحركات الأفلاك والكواكب أيضا : علم ضروري (١).

الحجة الثانية : إن العقل بحكم الفطرة الأصلية ، لا يستبعد أن ينقلب الجزء المتقدم من الحركة الفلكية متأخرا ، والجزء المتأخر متقدما ، فإن الفلك لما تحرك (٢) من المشرق إلى المغرب كانت حركته في الربع الشرقي متقدمة على حركته في الربع الغربي ، ولو أنا فرضنا أن هذا الفلك بعينه ، كان يتحرك من المغرب إلى المشرق ، لكانت حركته في الربع الغربي متقدمة على حركته في الربع الشرقي. فعلمنا : أن العقل بفطرته الأصلية لا يستبعد أن يفرض الجزء المتقدم من الحركة الفلكية متأخرا ، والجزء المتأخر متقدما.

وأما الجزء المتقدم من الزمان ، فإن العقل بفطرته الأولية البديهية ، يستبعد أن يفرضه متأخرا ، والجزء المتأخر يستبعد أن يفرضه متقدما. فثبت : أن هذه المدة ليست نفس الحركة ، ولا عارضا من عوارضها ، ولا لاحقا من لواحقها.

الحجة الثالثة : إنه يمكننا أن نتشكك في أن هذه الحركة الفلكية ، هل كانت حاصلة قبل هذا الوقت بمائة ألف سنة؟ فإن القائلين بحدوث العالم يمكنهم أن يتشككوا في حصول الحركات الفلكية قبل هذا [الوقت (٣)] بمائة

__________________

(١) العبارة مصححة من (ط) ، (س) وأمر ساقطة من س.

(٢) كانت حركته (ت).

(٣) من (س).

ألف سنة ، أو أقل أو أكثر. وأما المدة فإنه لا يمكننا أن نتشكك في أنه هل [حصل (١)] قبل هذه الساعة الحاضرة مدة متقدمة عليها بمائة ألف سنة؟ ولما أمكن التشكك في الحركة، ولم يمكن التشكك في المدة علمنا أن المدة غير الحركة ، وغير جميع الصفات الفلكية.

الحجة الرابعة : إن أعظم الدوائر الفلكية هي المنطقة ، وأما الدوائر الموازية لها فكل ما كان منها أقرب إلى المنطقة ، كانت حركته أسرع ، وما كان منها أبعد من المنطقة كانت حركته أبطأ. فظهر أن الحركات اليومية الحاصلة في الدوائر الفلكية (٢) المتوازية ، والموازنة للمنطقة الفلكية كثيرة ومختلفة بالسرعة والبطء ، فلو كان الزمان عبارة عن حركة الفلك ، لما كان جعله عبارة عن حركة بعض تلك الدوائر ، أولى من جعله عبارة عن حركات سائر الدوائر. فإما أن يكون عبارة [عن الكل (٣)] فحينئذ يلزم أن يكون هذا اليوم الواحد لا يكون يوما واحدا بل أياما كثيرة حصلت معا ، بحسب تلك الدوائر المتوازية ، وذلك لا يقوله عاقل. أو يقال : إنه ليس شيء منها نفس المدة والزمان ، بل المدة والزمان أمر مغاير لها ، مقدر لها بأسرها. وذلك هو المطلوب.

ومما يقوى هذا الكلام : أن صريح العقل ناطق بأن حركات كل تلك الدوائر واقعة في زمان واحد ، فالعقل حكم بأن تلك الحركات بأسرها واقعة في زمان واحد ، وإن ذلك الزمان ظرف لها بأسرها ، [ووعاء لها بأسرها (٤)] ، وذلك يوجب القطع بأن الزمان مغاير للحركة.

الحجة الخامسة : إن الحركة توصف بالسرعة والبطء ، والزمان لا يوصف [بذلك (٥)] ، فإنه لا يقال : هذا الزمان أبطأ من ذلك الزمان ولا أسرع منه.

__________________

(١) من (ت).

(٢) الحركة (ط ، س).

(٣) الدوائر المتوازية الموازية ... الخ (س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) سقط (م).

وأيضا : فإن سرعة الحركة وبطأها ، إنما يعقلان بسبب المدة والزمان ، فإنه يقال : الأبطأ هو الذي يقطع مثل ما قطعه السريع في زمان أطول ، أو يقطع أقل مما قطعه السريع في [مثل (١)] زمان السريع ، والأسرع ما يكون بالضد منه ، وكل ذلك يدل على أن الزمان غير الحركة.

الحجة السادسة : إنه يمكننا تعقل أفلاك كثيرة في الخلاء الذي لا نهاية له ، بحيث يكون كل واحد منها خارجا عن الآخر ، وغير متعلق به. فعلى هذا التقدير يمكننا تصور حركات كثيرة [معا (٢)] بحيث لا تكون منها تبعا للأخرى. ونعلم بالبديهة : أنه لا يمكننا تعقل حصول زمانين معا ، فالحركة غير الزمان.

الحجة السابعة : يمكننا أن نقول : هذه الحركة بجميع صفاتها ، حصلت في هذا الزمان ، ولم تحصل في الزمان المتقدم. ولا يمكننا أن نقول : حصلت هذه الحركة في نفسها ، أو في صفة من الصفات القائمة بها ، [أو في حركة أخرى ، أو في صفة من الصفات [القائمة (٣)] بها [أو في حركة أخرى (٤)] ، وكل ذلك يدل على أن الزمان غير الحركة ، وغير جميع الصفات القائمة بالحركة.

الحجة الثامنة : إنه يمكننا أن نتصور زمانا خاليا عن الحركة. مثلا : إذا توهمنا أن الله سبحانه أعدم الفلك ، وأعدم جميع الكواكب عند قيام القيامة ، ثم إنه تعالى ترك [هذه الأشياء (٥)] على العدم المحض مدة مديدة إلى أن يعيدها ، ويعيد الخلائق في موقف القيامة. فالمدة المتوسطة بين أول زمان الإعدام ، وأول زمان الإعادة لا شك أنها تكون مدة مخصوصة ، والعقل يمكنه فرض تلك المدة أقل ، أو أكثر ، أو أنقص ، أو أزيد ، ففي هذا الفرض قد فرضنا جميع الحركات معدومة ، وهذا الفرض ليس فرضا معلوم الامتناع بالبديهة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (ط) ، (س) وفيهما : تركها على العدم.

بل هو أمر ممكن بحسب العقل ، ولذلك فإن جمهور أرباب الملل والأديان جازمون به. ومن المعلوم أن الذي يكون معلوم البطلان بالبديهة ، لا يمكن إطباق الخلق العظيم عليه. فثبت : أن رفع كل الحركات [عن العقول والأذهان غير ممتنع (١)] فوجب الجزم بأن المدة أمر مغاير للحركة ، ولجميع صفات الحركة. وهو المطلوب.

الحجة التاسعة : إنا لا نعقل ماهية الحركة ، إلا إذا عقلنا كون المتحرك حاصلا في حيز ، [بعد أن كان حاصلا في حيز (٢)] آخر. ولذلك فإن جميع العقلاء لا يفهمون من الحركة : [إلا (٣)] الانتقال من حيز إلى حيز آخر ، فيكون الحصول في الحيز الثاني واقعا بعد الحصول في الحيز الأول. وهذه البعدية ليست إلا البعدية الزمانية. فثبت : أنه لا يمكن تعقل ماهية الحركة ، إلا بعد تعقل ماهية المدة والزمان. وأما تعقل المدة والزمان فإنه غني عن تعقل ماهية الحركة. بدليل : أنا لما فرضنا أن الله تعالى أعدم الفلك ، وأعدم الكواكب ، وأعدم كل الحركات ، ففي هذه الحالة لم يقدر عقلنا وفكرنا أن يحكم ببطلان المدة ، بل حكمت الفطرة الأصلية ، بأنه لا بد وأن يكون وقت الإعدام مغاير لوقت الوجود. وأيضا : فقد بينا أن حالنا نكون غافلين عن الفلك والشمس والقمر ، وسائر الكواكب فإنا نجد في عقلنا أمرا ممتدا مستمرا ، يحدث منه شيء فشيء ، كأنه الماء السيّال الجاري ، أو كأنه خيط ألقي على طرف سيف ، ثم جرّ. فإن الخيط يلاقي حدّ السيف جزءا فجزءا ، فكذا هاهنا.

الحجة العاشرة : إن القائلين بحدوث الفلك ، بل القائلين بحدوث جميع الأجسام ، سلموا أن حدوثه قبل أن حدث : ممكن. وهذا يدل على شهادة فطرتهم الأصلية بأنه لا يعقل حدوث شيء ، إلا في مدة وزمان.

وتمام التقرير في هذا الوجه : إن من القائلين بحدوث العالم ،

__________________

(١) على العقول والأذهان يمنع (ت).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (س).

[منهم (١)] من قال : إن العالم قبل حدوثه كان ممكن الوجود. ومنهم من قال : كان ممتنع الوجود. وعلى التقديرين فقد عقلوا قبل حدوث الفلك والكواكب والعالم قبلا وبعدا ، وذلك يدل على أن جزم العقل بوجود هذه المدة جزم بديهي ، وإن هذا القبل والبعد إنما يحصل بشيء سوى الحركة الفلكية (٢).

الحجة الحادية عشر : إنا إذا فرضنا أوّلا للحركة ، فإنه لا يلزم من مجرد فرض أول للحركة ، حصول حركة قبل تلك الحركة ، لأنه لا يستبعد في العقل أن يكون الشيء ساكنا ثم يتحرك. وأيضا : إذا فرضنا آخرا (٣) للحركة ، فإنه لا يلزمنا من مجرد هذا الفرض إثبات حركة بعد تلك الحركة ، لأنه لا يستبعد في العقل أن يكون الشيء متحركا ، ثم يصير ساكنا.

أما إذا فرضنا المدة أولا ، لزمنا من مجرد هذا الفرض ، إثبات مدة قبل تلك المدة ، لأن المدة لا يكون لها أول ، إلا إذا كان عدمها قبل وجودها ، وتلك القبلية لا يمكن حصولها ولا تعقلها ، إلا بسبب المدة. فثبت : أنا متى فرضنا للمدة أوّلا ، فإنه يلزم من مجرد هذا الفرض كونها موجودة قبل ذلك الأول ، وكذلك إذا فرضنا للمدة آخرا فإنه يلزم من مجرد فرض انقطاع المدة ، كونها موجودة بعد ذلك الانقطاع ، لأنه لا يحصل لها انقطاع ، إلا إذا حصل عدمها بعد وجودها ، وهذه البعدية لا يمكن تعقلها إلا عند حصول المدة ، فثبت : أن فرض أول وآخر للحركة ، لا يوجب إثبات حركة قبل ذلك وبعد ذلك الآخر ، وذلك يدل على أن المدة شيء مغاير للحركة ولجميع صفاتها وأحوالها.

فظهر بهذه البراهين القاهرة : أن الزمان والمدة لا يمكن أن يكون عبارة عن [مقدار (٤)] الحركة الفلكية ، وإذا بطل هذا بطل أيضا : أن يكون الزمان عبارة عن صفة من صفات تلك الحركة ، وحالة من أحوالها. وبهذا يظهر فساد

__________________

(١) (م).

(٢) حركة الفلك (م).

(٣) أجزاء (ت).

(٤) من (ط) ، (س).

قول من يقول : إنه عبارة عن مقدار حركة فلك معدل النهار ، لأن مقدار تلك الحركة عبارة عن صفة من صفاتها ، وحالة من أحوالها وذلك مما أبطلناه. فثبت بهذا : أن المدة موجود قائم بنفسه مستقل بذاته ، وأنه لا تأثير للحركة الفلكية في وجود المدة والزمان البتة ، وإنما تأثيرها في تقدير هذه المدة بالأجزاء والأبعاض. ومثاله : تقدير الليل والنهار بالفنجانات ، وصندوق الساعات ، فإن تلك الآلات لا تأثير لها في إيجاد الزمان والمدة ، وإنما تأثيرها في تقسيم الليل والنهار بالساعات والأجزاء ، فكذلك تأثير الحركة الفلكية ليس في تكوين المدة وإيجادها ، بل في تقسيمها بالأجزاء والأبعاض ، وهي : السنون والشهور والأيام والساعات.

فهذا تقرير مذاهب هؤلاء الذين يقولون : العلم بوجود المدة وبكونها أمرا مغايرا للحركة الفلكية ، ولجميع أحوال هذه الحركة : [علم ضروري] (١).

__________________

(١) أمر بديهي ضروري (ت).

الفصل الثالث

في

تقرير الدلائل التي عول عليها من قال :

العلم بوجود الزمان : كسبي استدلالي

اعلم أن الذي حصلناه في هذا الباب من كلام المتقدمين ، ومن أنفسنا حججا (١) أربعة :

الحجة الأولى (٢) : وهو دليل الإمكانات ، وهو الذي ذكره الشيخ في الشفاء والنجاة، وعليه تعويل الأكثرين.

وتقريره : أن نقول : كل حركة تفرض في مسافة ، على مقدار من السرعة [وأخرى معها على مقدارها من السرعة (٣)] وابتدأتا معا ، وتركتا معا ، فإنهما يقطعان المسافة معا. وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى [معها فإن (٤)] إحداهما تقطع من المسافة أقل مما تقطعه الأخرى ، وإن ابتدأ معها بطيء واتفقا في الأخذ والترك ، وجد البطيء قد قطع أقل ، والسريع قد قطع أكثر ، وإذا كان كذلك ، كان بين أخذ السريع الأول وتركه : إمكان قطع مسافة بعينها ، بسرعة معينة ، أو أقل منها ببطء معين ، وبين أخذ السريع الثاني وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة بحيث يكون هذا الإمكان جزءا

__________________

(١) طرقا : الأصل.

(٢) الطريق الأول : الأصل.

(٣) من (ط).

(٤) معها ولكن تركتا معا فإن (م).

من الإمكان [الأول (١)] وإذا كان كذلك كان هذا الإمكان قابلا للزيادة والنقصان ، فوجب كونه أمرا [موجودا لا محالة] (٢).

فإن قال قائل : إنكم في مشرع هذا الاستدلال فرضتم ثلاثة أشياء :

أولها : الحركتان المتساويتان في السرعة والبطء ، المتساويتان في الأخذ والترك. وزعمتم: أنهما لا بد وأن يتساويا في مقدار المسافة.

وثانيهما : الحركتان المتساويتان في السرعة والبطء ، المختلفتان في وقت الأخذ ، المتساويتان في وقت الترك. زعمتم : أن هذا السريع الثاني لا بد وأن يقطع مسافة أقل مما قطعه السريع الأول.

[وثالثها : الحركتان المتساويتان في الأخذ والترك المختلفتان في السرعة (٣)] والبطء. زعمتم : أن البطيء لا بد وأن يقطع أقل مما قطعه السريع. فما الفائدة في هذا البرهان من الوجوه الثلاثة [من الفرض (٤)؟] قلنا : الفائدة فيها : هي أن بالفرض الأول ، ثبت وجود هذا الأمر الذي سميناه بالزمان ، وبالفرض الثاني ثبت أن هذا الإمكان [مساوي (٥)] لنفس الحركة ، ولنفس بطئها وسرعتها ، ولنفس مقدار المتحرك (٦). وبالفرض الثالث ثبت أن هذا الإمكان أمر مغاير لمقدار المتحرك ، ولمقدار المسافة. وعند هذا يحصل تمام المقصود.

وبيان هذا الكلام : أنا إذا فرضنا أولا (٧) وجود حركتين متساويتين في البطء والسرعة ، متساويتين في الأخذ والترك. وزعمنا : أنه متى كان الأمر كذلك ، وجب حصول التساوي في مقدار المسافة ، فعند هذا يظهر أنه حصل

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) وجوديا (ت) لا محالة سقط (ط ، س).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) مساوي (ت) مغاير (س ، ط).

(٦) الحركة (ت) المتحرك (س).

(٧) من (س).

بين أخذ هذا السريع وتركه ، إمكان قطع مثل هذه المسافة بمثل هذه السرعة ، وأن في مثل هذا القدر من الإمكان ، وبمثل هذه السرعة ، لا يمكن أن يزاد على هذه المسافة ، ولا أن ينقص منها ، فهذا الإمكان له في نفسه خصوصية ، ولا يقبل حركة بهذا القدر من السرعة ، إلا في مثل هذا القدر من المسافة (١) ، ولا يقبل الأزيد منها ، [ولا بمثلي الأقل منها (٢)] ، فهذا الإمكان له في حد ذاته خصوصية وحقيقة ، باعتبارها حصل له هذا الامتياز والاختصاص. وأما الفرض الثاني وهو [وجود (٣)] حركتين متساويتين في السرعة والبطء ، مختلفتين في الأخذ ، متساويتين في الترك ، فههنا السريع الثاني (٤) يقطع من المسافة ، أقل.

وغرضنا منه أمران :

الأول : إن الإمكان الذي يحصل فيه هذا السريع الثاني ، جزء من الإمكان الذي يحصل فيه السريع الأول ، فيكون هذا الإمكان قابلا للتطبيق وللزيادة والنقصان ، فوجب كونه موجودا قابلا للمساواة والمفاوتة.

والثاني : إن هذا السريع الأصغر مشارك للسريع الأكبر في كونه حركة ، وفي كونها سريعة ، وفي مقدار المتحرك. وخالفها في مقدار هذا الإمكان. وما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيثبت أن هذا الإمكان يجب أن يكون أمرا مغايرا لنفس ماهية الحركة ، ومغايرا لبطء الحركة ولسرعتها ، ومغايرا لمقدار جوهر المتحرك.

وما الفرض الثالث وهو وجود حركتين مختلفتين في السرعة والبطء ، متساويتين في الأخذ والترك. فاعلم : أن غرضنا من هذا الفرض : بيان أن هذا الإمكان مغاير لمقدار المتحرك ، ولمقدار المسافة ، وذلك لأنه ظهر بهذا

__________________

(١) السرعة (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

(٤) الثاني (ط) الأصغر (ت).

الفرض أن البطيء والسريع ، إن اشتركا في مقدار المسافة ، اختلفا في مقدار هذا الإمكان. وإن اشتركا في مقدار هذا الإمكان اختلفا في مقدار المسافة ، وذلك يوجب القطع بأن مقدار هذا الإمكان أمر مغاير لمقدار المسافة. فثبت أن بسبب هذه الأمور الثلاثة من الفرض ، ظهر أن هذا الإمكان [أمر (١)] موجود مقداري ، وأنه مغاير لنفس مقدار المتحرك ، ولنفس مقدار المسافة ، ولنفس الحركة ، ولكون الحركة سريعة أو بطيئة. وذلك هو المقصود. وهذا تقرير تمام هذه الحجة.

والاعتراض عليها من وجوه :

السؤال الأول : (٢) إنكم بنيتم هذه الحجة على أمور ثلاثة :

فأحدها : أن هاهنا حركة سريعة وحركة بطيئة.

وثانيها : أن هاهنا حركتين يبتدئان معا ، وينقطعان معا.

وثالثها : أن هاهنا حركتين تبتدئ إحداهما بعد الأخرى. ومن المعلوم : أن هذه الأمور الثلاثة لا يمكن اعتقاد حصولها إلا بعد الجزم بوجود الزمان. أما الأول : فلأن السريع هو الذي يقطع مثل ما قطعه البطيء في زمان أقل أو أزيد مما قطعه البطيء في زمان مساوي، وأما البطيء فبالعكس من هذا الذي قلناه. ومعلوم : أن هذه الأحوال لا يتقرر ثبوتها إلا بعد تسليم وجود الزمان. وأما الثاني : وهو قولنا : في الحركتين إنهما يبتدئان معا ، وينتهيان معا. فمعناه : أن ابتداء وجودهما ، وانتهاء وجودهما يكون في آن واحد ، لكن الآن لا يعقل ، ولا يوجد إلا بعد تعقل الزمان. وأما الثالث : وهو أن تبتدئ إحدى الحركتين بعد الأخرى ، فمعلوم أنه لا يمكن تصور معنى القبلية والبعدية ، إلّا بعد وجود الزمان.

إذا عرفت هذا فنقول : وجود الزمان إما أن يكون غنيا عن الاستدلال ،

__________________

(١) سقط (س).

(٢) زيادة.

أو محتاجا إلى الاستدلال. فإن كان الأول كان الخوض في هذا الدليل غنيا عنه ، وإن كان الثاني فنقول : إنكم إنما بينتم وجود الزمان بهذه المقدمات.

وقد بينا أنه لا يمكن إثبات هذه المقدمات إلا بعد العلم بوجود الزمان ، فيلزم الدور ، ومعلوم أنه باطل.

لا يقال : وجود أصل الزمان معلوم بالبديهة ، فأما بيان ماهيته على التفصيل فذاك معلوم بالاستدلال ، ونحن إنما أثبتنا بهذا الدليل تفصيل ماهيته ، وحينئذ يسقط الدور. لأنا نقول : إن هذا القدر الذي سبق ذكره من الاستدلال ، لا يدل على بيان ماهيته المعينة وحقيقته المخصوصة ، بل لا دلالة فيه إلّا على كونه أمرا موجودا في الأعيان ، وحينئذ يعود الدور المذكور.

والسؤال الثاني على هذا الدليل : إن من مذهبكم أن المحكوم عليه بالزيادة والنقصان، لا بد وأن يكون موجودا. وبه أجبتم عن دليل من استدل على أن للحركات أولا بسبب كونها قابلة للزيادة والنقصان ، ثم إن من المعلوم من الأمور المنقضية ، التي لا ثبات لأجزائها ، ولا استقرار لأقسامها ، وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يصح الحكم عليه بالزيادة والنقصان في نفس الأمر. بل غاية ما في الباب : أن الأمر الممتد المرتسم منه في الوهم ، يمكن الحكم عليه بالزيادة والنقصان ، وأما الأمر الممتد من الزمان ، فلا وجود له البتة في الأعيان. وإذا ثبت هذا فنقول : الأمر الذي تريدون إثباته وهو وجود الزمان في الأعيان فإنه لا يمكن الحكم عليه بكونه قابلا للزيادة والنقصان. والذي صدق عليه هذا الحكم ، وهو الأمر المفروض في الذهن فإنه لا يدل على كون الزمان موجودا في الأعيان. فثبت أن هذه الحجة مغالطة.

والسؤال الثالث : هذا الدليل معارض بأمور :

أحدها : إن ما ذكرتموه معارض بنفس الزمان (١) ، فإن بين ابتداء كل زمان وبين انتهائه ، إمكانا يتسع بمثل ذلك المقدار ، ولا يمتلئ بما هو أصغر

__________________

(١) الإتيان (ت) الزمان (ط) ، (س) ويمكن أن تقرأ الإمكان.

منه ، ولا يتسع لما هو أعظم منه ، وإمكانا آخر أقل منه ، ولا يتسع لذلك الزمان ، ولا لما هو أعظم منه ، ويمتلئ ببعضه ، وإذا كان كذلك لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، إلى غير النهاية. فإن قلتم : إن ذلك من عمل الوهم وحكم الخيال. فقولوا بمثله في الحركة إذا لا فرق.

وثانيها : إن ما ذكرتموه معارض بجانب المستقبل ، وذلك لأن من هذه الساعة الحاضرة إلى الغد ، حصل إمكان (١) يتسع لمقدار من الحركة الموصوفة بمقدار معين من السرعة أو البطء ، ولا يمتلئ بالأقل منه ولا يتسع للأعظم منه ، وإمكان آخر أصغر منه. فهذا يقتضي أن يكون الزمان الذي سيجيء غدا ، حاصلا الآن ، وحاضرا في هذا الوقت. ومعلوم أن ذلك باطل. فإن قالوا : الحاضر في الحال إنما هو إمكان وجود تلك الحركات المستقبلية ، لا وجود شيء آخر يكون وعاء لها وظرفا لها. فنقول : فلم لا يجوز أن يكون الحال في الماضي مثل ما ذكرتموه في المستقبل؟

وثالثها : أن نقول : إن بين طرفي الطاس ، إمكانا يتسع لمقدار معين من الأجسام ولا يمتلئ بأقل من ذلك القدر ، ولا يتسع للأزيد منه ، فوجب أن يكون ذلك الإمكان الذي يتسع لذلك القدر من الجسم أمرا موجودا. وذلك يوجب عليكم الاعتراف بوجود أبعاد قائمة بذواتها تكون هي أمكنة لهذه (٢) الأجسام. فإن قالوا : ذلك الإمكان عبارة عن إمكان وجود تلك الأجسام في أنفسها ، لا عن إمكان وجود شيء يكون ذلك الشيء ظرفا لتلك الأجسام ووعاء لها. فنقول : فلم لا يجوز أن يكون الحال فيما ذكرتم ، كالحال هاهنا؟

وهو أن يقال : الإمكان الذي ذكرتم إشارة إلى إمكان وجود تلك الحركات المختلفة في أنفسها ، فأما إثبات أمر آخر ظرفا لتلك الحركات ووعاء لها. فهذا ممنوع.

الحجة الثانية لهم في إثبات الزمان : التمسك بطريقة القبلية والبعدية ،

__________________

(١) حصل المكان يتسع المقدار (ت).

(٢) من (س).

واعلم (١) أن القوم ما لخصوا هذه الطريقة تلخيصا شافيا مرتبا ، وأنا أقررها على الوجه الصحيح المعلوم ، فأقول : لا شك أن الأب موجود قبل وجود الابن ، فهذه القبلية إما أن تكون نفس وجود الأب وعدم الابن ، أو أمرا زائدا على ذلك. والأول باطل لوجوه :

أحدها : أنه يصح تعقل ذات [كل (٢) واحد منهما مع الذهول عن هذه القبلية ، وهذه البعدية وهذه المعية. والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم.

وثانيها : إن هذه القبلية والبعدية : نسبة مخصوصة بين هاتين الذاتين. والنسبة بين الشيئين مغايرة لهما.

وثالثها : إن المحكوم عليه بأنه قبل (٣) قد وجد قبل المحكوم عليه بأنه بعد ، والقبل من حيث إنه قبل ، لا يبقى بعد البعد ، من حيث إنه بعد.

ورابعها : إن الأشياء المختلفة [في الماهية (٤)] قد تكون متشاركة في كون كل واحد منها قبل أشياء ، فإن والد الفرس قبل ولده ووالد الحمار قبل ولده ، ووالد الإنسان قبل ولده. فالفرس والحمار والإنسان ماهيات مختلفة ، وهي مع اختلافها متشاركة في كون كل واحد منها قبل ولده.

وإذا ثبت هذا فنقول : اختلافها في الماهية ، مع اشتراكها في المفهوم من القبلية ، يدل على أن كونها قبلا وبعدا [أمور (٥)] مغايرة لتلك الماهيات المخصوصة. وأيضا : فالأشياء المتشاركة في تمام الماهية قد تكون مختلفة في القبلية والبعدية ، وذلك مثل الأب والابن ، فإنهما مع اشتراكهما في تمام الماهية قد اختلفا بحسب القبلية والبعدية. والتقريب معلوم.

وخامسها : أن القبل من حيث هو قبل ، مضاف إلى البعد من حيث هو

__________________

(١) واعلم أنهم (ت ، م).

(٢) من (س).

(٣) قبل قد يبقى بعد المحكوم (ط) ، (س).

(٤) من (ط) ، (س).

(٥) سقط (م).

بعد ، والشيء المحكوم عليه بهذه القبلية جوهر قائم بنفسه غير معقول الماهية بالقياس إلى غيره ، والشيء الذي يكون محكوما عليه بأنه مقول بالماهية بالقياس إلى غيره ، مغاير للشيء الذي يكون محكوما عليه بأنه غير معقول الماهية بالقياس إلى غيره ، وذلك يقتضي أن تكون القبلية والبعدية أمورا مغايرة لتلك الذوات.

وسادسها : أن الإله تعالى كان موجودا قبل هذا الحادث اليومي ، ويكون أيضا موجودا عند دخول هذا الحادث اليومي في الوجود ، وسيبقى أيضا بعد انقضائه وفنائه. إذا ثبت هذا فنقول : ذات واجب الوجود لذاته قد تواردت عليها هذه القبليات والبعديات والمعيات. فلو كانت هذه المفهومات نفس الذات ، لزم وقوع التبدل في ذاته (١). وذلك محال.

فثبت بهذه الوجوه الستة : أن المفهوم من القبلية والبعدية والمعية أمور مغايرة لنفس الذات والحقيقة. وإذا ثبت هذا فنقول : هذا المفهوم الزائد إما أن يكون عدما محضا ، وإما أن يكون أمرا موجودا. والأول باطل لأن كونه قبل غيره نقيض لقولنا : إنه ليس قبله ، والمفهوم من عدم القبلية عدم محض ، ونقيض العدم ثبوت. فظهر أن القبلية والبعدية : أمران زائدان على الذات ، وهما وصفان ثابتان موجودان. وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن تكون هذه المعاني من الأمور الثابتة التي لا حصول لها إلا في الذهن ، وإما أن يقال : إنها موجودة في الأعيان. والأول باطل ، لأن الذي لا ثبوت له إلا في الذهن يكون جاريا مجرى [قولنا (٢)] الخمسة زوج ، فإن هذا المعنى وإن كان يوجد في الفرض الذهني ، والاعتبار الفكري ، إلا أن العقل جازم بأنه لا وجود له في الخارج البتة ، لكن كون الأب قبل الابن ، ليس من هذا الباب. فثبت : أن هذه القبلية والمعية والبعدية مفهومات زائدة على الذوات ، ومعان موجودة في الأعيان ، كما أنها موجودة في الأذهان. ثم نقول : هذه القبليات والبعديات إما أن تكون من الأمور التي توجد مستقلة بأنفسها ، قائمة بذواتها ، غنية عن

__________________

(١) قديم (ت).

(٢) من (س).

المعروض والموصوف ، وإما أن لا تكون كذلك ، بل تكون محتاجة إلى المعروض وإلى الموصوف. والأول باطل بالبديهة ، لأن القبلية والبعدية من باب النسب والإضافات ، وما كان كذلك امتنع كونها جواهر قائمة بأنفسها ، مستقلة بذواتها. فبقي القسم الثاني وهو أنه لا بد من أشياء تكون هذه القبليات والبعديات معارضة (١) لها من حيث إنها هي هي. ثم نقول : إن كل شيء فإنه لا يقبل هذا النوع من النسب والإضافات من حيث هو هو ، فإن الأب من حيث هو جوهر جسماني ، ليس قبل الابن ، ولا من حيث إنه طويل وأبيض وعالم وزاهد. فإذن لا بد من الجزم بوجود أمر تلحقه هذه القبليات والبعديات ، لحوقا بالذات. وذلك الشيء ليس هو الحركة للوجوه الكثيرة التي ذكرناها في الفصل المتقدم.

ونزيد هاهنا كلاما آخر فنقول : إن الجزء (٢) المتقدم من الحركة يمكن تعقله متأخرا وبالعكس. وأما الجزء المتقدم من الزمان فإنه لا يمكن تعقله متأخرا وبالعكس. فثبت : أن هذا الشيء الذي هو المعروض بالذات لهذه القبليات والبعديات موجود ، سيال منقضي لذاته ، وهو شيء مغاير للحركة. ولا نعني بالزمان إلّا ذلك.

والاعتراض عليه :

[السؤال الأول (٣)] لا نسلم أن القبلية والبعدية من المعاني الموجودة. أما قوله : «القبلية نقيض القبلية ، ثم إن اللاقبلية عدم ، ورافع العدم ثبوت». قلنا : يشكل هذا بالإمكان فإنه رافع للامتناع ورافع للوجوب. والامتناع عدم ، والوجوب ثبوت. فيلزم في الإمكان أن يقال : إنه لكونه رافعا للامتناع الذي هو عدم أن يكون (٤) وجودا ، ولكونه رافعا للوجوب الذي هو

__________________

(١) عارضة (س).

(٢) الجزم (م).

(٣) زيادة.

(٤) لا يكون (ت).

وجود ، أن يكون عدما ، فيلزم في الشيء الواحد أن يكون عدما ووجودا ، وهو محال.

ثم نقول : الذي يدل على أن القبلية والبعدية لا يمكن أن يكونا من الأمور الموجودة : وجوه :

الأول : إن صريح العقل يحكم بأن كل محدث ، فإنه مسبوق بعدمه ، وأن عدمه سابق على وجوده. وهذا يقتضي كون القبلية والسبق والتقدم وصفا للعدم ، وما كان وصفا للعدم ، امتنع أن يكون صفة موجودة ، لامتناع قيام الصفة الموجودة بالمعدوم المحض [والنفي الصرف (١)]. فثبت : أن القبلية والبعدية [ليست (٢)] من الصفات الموجودة.

الثاني : لو كانت القبلية صفة موجودة ، لكانت تلك الصفة الموجودة بالنسبة إلى غيرها ، إما أن تكون قبلا أو معا أو بعدا ، ويلزم التسلسل. لا يقال : لم لا يجوز أن تكون القبلية بالنسبة إلى غيرها ، وإن كانت قبلا ، إلا أن كونها كذلك عين ذاته. لا أنه صفة زائدة على الذات؟ لأنا نقول : إذا حكمنا على القبلية بأنها قبل شيء آخر ، فههنا ذات القبلية هي الموضوع. ثم حكمنا عليها بأنها قبل شيء آخر هو [المحمول (٣)] ، ومحمول القضية غير موضوعها لا محالة. فثبت : أن القبلية لو كانت صفة موجودة لكان كونها قبلا بالنسبة إلى غيرها ، يمتنع أن يكون عين ذاتها ، بل لا بد وأن يكون أمرا [مغايرا (٤)] لذاتها.

الثالث : إن القبلية والبعدية إضافتان. وكل واحدة منهما مقولة بالقياس إلى الأخرى وقد ثبت : أن المضافين يوجدان معا في الأعيان وفي الأذهان. فلو كانا موجودين ، لوجب أن يوجدا معا ، ولو وجدا معا ، لحصل معروضاهما

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (ط).

(٣) زيادة.

(٤) من (ط) ، (س).

معا ، ضرورة أن الإضافة لا توجد وحدها ، بل إنما توجد عند وجود موصوفها [ومعروضها (١)] ، وحينئذ يلزم أن يقال : والبعد يوجب كونهما موجودين معا. فيلزم أن يقال : الشيء من حيث هو قبل غيره ، يجب أن يكون موجودا معه ، وهو محال.

الرابع : أن نقول : لما ثبت أن المضافين يوجدان معا ، فهذه المعية إن كانت وصفا زائدا عليهما ، كان ذلك الزائد أيضا معهما ، فتكون هذه المعية الثانية زائدة ، ولزم التسلسل. وإن لم يكن وصفا زائدا ، فلم لا يجوز مثله في سائر المعيات والقبليات؟ لا يقال : إن كون المضافين معا ، نفس ذاتيهما. لأنا نقول : إذا قلنا : المضافان يوجدان معا. فهو قضية موضوعها : قولنا المضافان. ومحمولها قولنا يوجدان معا. والمحمول [في كل قضية (٢)] غير الموضوع [لامتناع حمل الشيء الواحد بالاعتبار الواحد على نفسه (٣)]. وعلى هذا التقدير فإنه يبطل هذا العذر. فثبت بهذه الوجه : أن القبلية والبعدية لا يمكن أن يكونا من الصفات الموجودة في الأعيان.

السؤال الثاني : إن هذا الدليل الذي ذكرتم يقتضي إثبات زمان للزمان. وبيانه : وهو أن بعض أجزاء الزمان سابق على البعض ، وظاهر أن ذلك السبق ليس بالعلية ولا بالذات ، لأن السبق الذي يكون بالعلية وبالذات يجوز أن يوجد المتقدم فيه مع المتأخر. والجزء السابق من الزمان يمتنع أن يوجد مع الجزء المتأخر ، بل تقدم الأمس على اليوم كتقدم الجزء السابق من الحركة على الجزء اللاحق منها ، فإن كان هذا النوع من التقدم لا يتقرر إلا مع الزمان ، لزم أن يكون للزمان زمان آخر ، وإلا فجوزوا مثله فيما ذكرتم.

الحجة الثالثة في إثبات الزمان : وهو دليل ، رتبناه للقائلين بإثبات الزمان. فنقول : إنا نعلم بالضرورة : أن هاهنا شيئا ينقسم إلى السنين تارة وإلى

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

الشهور أخرى ، وإلى الأيام تارة ، وإلى الساعات أخرى ، والعلم بذلك أجلى العلوم البديهية وأظهرها ، ونعلم أن ذلك الشيء يعد بالسنين ، وأن السنة تعد بالشهور ، وتقدر بها [وأن الشهر يعد بالأيام ويقدر بها. وأن اليوم يعد بالساعات ويقدر بها (١)] وكيف لا نقول ذلك. وكل من له سمة من العقل ، فإنه يعلم أن له من السنين كذا؟ وأن الشهور المنقضية من هذه السنة التي نحن فيها كم هي؟ [وأن الشهور الباقية كم هي؟ وأن الأيام من الشهر كم هي؟ والباقية (كم هي؟] (٢) وأن الساعات المنقضية من هذا اليوم كم هي؟ والباقية كم هي؟.

وإذا ثبت هذا فنقول : قضت بدائه العقول بصحة هذه التقسيمات ، وكل من تشكك في صحتها ، قضى عليه بالجنون التام [والعته الشديد (٣)] ثم نقول : هذا الذي حكم عليه العقل بكونه موردا لهذه التقسيمات. إما أن يكون عدما محضا ، ونفيا صرفا ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون موجودا وثابتا ومتحققا ، والأول باطل ، لأن العدم المحض لا يمكن تقسيمه إلى الأجزاء والأبعاض [ولا يمكن وصف تلك الأبعاض والأجزاء (٤)] بأنه أزيد من غيره ، أو أنقص من غيره. ومعلوم أن صريح العقل يحكم بأن السنة أطول من الشهر ، والشهر أطول من اليوم ، واليوم أطول من الساعة. وأيضا : فصريح العقل يقضي على هذا الشيء بأن منه ما مضى ، ومنه ما هو مستقبل. وصريح العقل يقضي بأن الماضي هو الذي كان حاضرا ، وقد انقضى. والمستقبل هو الذي يتوقع حضوره ، ولم يحضر بعد. فلو لم يكن لهذا الشيء حضور وحصول البتة ، لامتنع أن يحكم العقل عليه بكونه ماضيا ومستقبلا ، وحيث حكم صريح العقل عليه بذلك. علمنا أنه ليس عدما محضا [ونفيا صرفا (٥)] ، بل لا بد وأن يكون موجودا. ثم نقول : الموجودات على قسمين : منها ما هو قار

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ت).

(٥) سقط (ط ، س).

الوجود ، ومنها ما لا يكون كذلك ، والمراد من قولنا : فإن الوجود : هو الذي تكون أجزاؤه حاصلة معا. والمراد من قولنا : غير قار الوجود : ما لا يكون كذلك. فنقول : هذا الشيء الذي يمكن تقسيمه إلى السنين ، والشهور والأيام والساعات ليس من الموجودات التي تكون قارة الوجود ، بدليل أن بديهة العقل حاكمة بأنه لا يوجد جزءان منه [معا (١)] فلا يمكن حصول سنتين معا ولا [حصول (٢)] شهرين ، ولا حصول يومين ، ولا حصول ساعتين معا. ولا يمكن أيضا أن يجتمع في الوجود منها جزءان ، وإن كانا أصغر الأجزاء ، بل كل اثنين يفرضان ، فإنه لا بد وأن يكون أحدهما متقدما على الآخر ، وإنه لا بد عند حصول أحدهما ، أن لا يكون الآخر حاصلا ، وكل ذلك معلوم في البديهة ، بشرط [حصول (٣)] التأمل الصافي ، واستحضار مفهومات هذه الألفاظ في الذهن. فيثبت : أن هذا الشيء المسمى بالمدة والزمان موجود ليس قار الوجود ، لكن ثبت أن الجسم وكمه وكيفه وأينه ووضعه ومضافه وسائر مقولاته ، أمور قارة ، فوجب القطع بأن هذا الشيء المسمى بالمدة والزمان أمر مغاير لهذه الأشياء بأسرها. ثم نقول : هذا الشيء إما أن يكون هو الحركة أو صفة من صفات الحركة ، أو شيء مغاير للحركة ولجميع صفات الحركة. والأول باطل للوجوه الكثيرة التي شرحناها وقررناها في الفصل المتقدم.

والذي نزيده الآن أن نقول : لا معنى للحركة إلا حصولات متعاقبة في أحياز متعاقبة متلاصقة ، ولا معنى لتعاقب تلك الحصولات ، إلا حصول بعضها عقيب البعض في الأزمنة المتوالية ، لكن تواليها في تلك الأزمنة إضافة بينها وبين تلك الأزمنة [والإضافة بينها وبين الأزمنة متأخرة عن تقرر حصول تلك الأزمنة (٤)] فثبت : أن الحركة مفتقرة في تحقق ماهيتها إلى الزمان ، وأما الزمان فإنه غني في ذاته عن الحركة ، لأنه يمكننا فرض مدة خالية عن جميع الحركات

__________________

(١) من (س).

(٢) من (م).

(٣) سقط (س).

(٤) من (ط) ، (س).

وجميع التغيرات ، وهذا يوجب القطع بأن الزمان أمر مغاير للحركة.

وأما بيان أنه (١) لا يجوز أن يكون الزمان عبارة عن صفة من صفات الحركة : فهو أن صفة الحركة مفتقرة في تحققها إلى حصول الحركة ، فلو كان الزمان عبارة عن صفة من صفات الحركة ، لكان الزمان مفتقرا في تحقق ماهيته إلى تحقق الحركة. لكنا قد بينا : أن الحركة مفتقرة في تحقق ماهيتها إلى تحقق الزمان ، فيلزم الدور وهو محال. وأيضا : فقد بينا : أن الزمان غني [في تحقق ماهيته (٢)] عن الحركة ، لكن كل ما كان من صفات الحركة ، فهو مفتقر في تحقق حقيقته إلى الحركة. ينتج : أن الزمان والمدة يمتنع أن يكون عبارة عن صفة من صفات الحركة. فثبت : أن الزمان موجود غير قار الذات (٣) وثبت : أنه ليس بحركة ولا صفة من صفات الحركة ، بل هو كالظرف [والوعاء (٤)] للحركات والتغيرات. ولا نريد بالزمان الذي حاولنا إثباته إلا ذلك.

واعلم أنا كنا ألزمنا على الدليلين الأوليين افتقار الزمان إلى زمان آخر ، إلى غير النهاية ، فيجب أن يعلم هاهنا : أن ذلك السؤال غير لازم على هذا الدليل. وذلك لأنا هاهنا ادعينا حصول العلم الضروري ، بحصول شيء يقسم إلى السنين والشهور والأيام والساعات ، ثم بينا أن ذلك الشيء ليس كذا ولا كذا ، فثبت أنه شيء آخر وهذا الكلام إنما يلزم عليه إثبات زمان للزمان ، لو حكمت فطرة العقل بأن الشيء الذي سميناه بالزمان له ظرف آخر ، ولما لم يحصل هذا المعنى في بداءة العقول ، بل بديهة العقل دافعة لذلك ، علمنا : أن هذا السؤال غير لازم على هذا الوجه.

الحجة الرابعة في إثبات الزمان : [أن نقول : اعلم (٥)] أنا قبل الخوض في المقصود نقدم مقدمة نافعة لنا في هذا المطلوب ، وهي في البحث عن حقيقة

__________________

(١) أن الزمان لا يجوز (س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) الوجود (س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) سقط (س).

التوقيت. فإن الرجل قد يقول لغيره : آتيك إذا طلعت الشمس ، وآتيك إذا جاء الربيع. وتحقيق هذا المعنى : إن مجيء الرجل مجهول ، وطلوع الشمس معلوم ، فيقرن هذا المجهول بذلك المعلوم ليصير ذلك المجهول بسبب هذا الاقتران معلوما ، ولهذا المعنى قال أهل التحقيق: «التوقيت عبارة عن قرن متجدد موهوم ، بمتجدد معلوم ، إزالة للإيهام».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إن البديهة الصحيحة ، والفطرة الأصلية حاكمة بصحة هذا التوقيت ، وعليه مدار الأمر في التواريخ المستقبلة ، فإنها عبارة عن تعريف وجود الأشياء التي تكون مجهولة الوقوع ، بالأوقات المعلومة المستقبلة. وكذا القول في التواريخ الماضية ، فإنها عبارة عن تعريف وقوع الأشياء (١) التي يكون وقوعها مجهولا بالأوقات المعلومة الماضية.

إذا عرفت هذا فلنبحث عن معنى قولهم : آتيك إذا طلعت الشمس. فإنه لا معنى (٢) لهذا الكلام إلا أن القائل يقول : آتيك في الوقت الذي تطلع فيه الشمس ، وهذا تصريح بإثبات وقت واحد بعينه يحصل فيه مجيء هذا القائل ، ويحصل فيه طلوع الشمس. فنقول : ذلك الوقت الذي حكمت الفطرة السليمة. بجعله ظرفا لهذا المجيء ، ولطلوع الشمس. إما أن يكون شيئا باقيا ثابتا ، أو شيئا سيالا منقضيا ، والأول باطل ، وإلا لكان حاصلا في الحال ، فوجب أن لا يكون منتظرا ولا مستقبلا. وبديهة العقل حاكمة بأن ذلك الوقت غير حاضر في الحال بل هو منتظر الوجود. فثبت أنه أمر سيّال. ثم ذلك السيال إما أن يكون [شيئا (٣)] من جنس حركات الأفلاك والكواكب ، أو صفة من صفاتها ، أو يكون موجودا مغايرا لهذين القسمين. والأول باطل ، لأن ذلك الوقت شيء حكمت الفطرة السليمة بكونه ظرفا للحركة الفلكية ، وظرف الحركة الفلكية لا يكون نفس الحركة الفلكية ، فإنه لما قال : آتيك إذا طلعت الشمس. فمعناه : آتيك في الوقت الذي يكون ظرفا لطلوع الشمس. وأما

__________________

(١) الأشياء المجهولة الوقوع (م ، ت).

(٢) لا نفهم (ط) ، (س).

(٣) سقط (س).

القسم الثاني : وهو أن يكون ذلك الشيء صفة من صفات الحركة الفلكية ، فهو أظهر فسادا ، لأن ذلك الشيء ظرف للحركة الفلكية ، والحركة الفلكية [جارية مجرى الظرف (١)] بجميع صفاتها ونعوتها ، فلو كان الظرف شيئا من صفات تلك الحركة ، لزم كون (٢) الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد ظرفا له ومظروفا له. وهو محال. وأيضا : فلو قال قائل : إنه تعالى يفعل الفعل الفلاني عند وقوف الأفلاك والكواكب عن حركاتها ، لم يكن هذا الكلام كلاما معلوم الفساد والبطلان في بديهة العقل. فلو كان هذا الظرف شيئا من الحركات الفلكية (٣) أو شيئا من أحوال تلك الحركات. لكان هذا الكلام مقطوع الفساد في بديهة العقل. لأن حصول الحادث لا في وقت معين : معلوم الامتناع في البديهة. وأيضا : فلا حال من أحوال الحركة الفلكية ، ولا صفة من صفاتها ، إلا وصريح العقل يحكم بأنها وقعت في الوقت الفلاني. في الماضي ، أو سيقع في الوقت الفلاني في المستقبل.

فثبت بما ذكرنا : أن ذلك الظرف ليس هو الحركة الفلكية ، ولا صفة (٤) من صفاتها. فثبت : وجود موجود سيّال ، ليس هو الحركة الفلكية ولا صفة من صفاتها. وذلك هو الزمان.

فإن قيل : إنكم بنيتم هذا على أن المراد من قول القائل : آتيك عند طلوع الشمس ، هو آتيك في الوقت الذي تطلع فيه الشمس. ونحن لا نرضى بهذا التفسير ، بل نفسره بوجه آخر فنقول : المراد منه آتيك إتيانا مقارنا لطلوع الشمس ، أو مع طلوع الشمس. وعلى هذا التقدير فإنه يبطل ما ذكرتم. وأيضا : فهذه الحجة مبنية على كلام يذكره أهل العرف ، ومثل هذا مما لا يلتفت إليه.

والجواب عن الأول : إن تلك المقارنة والمعية [ليست في الماهية (٥) ولا في

__________________

(١) من (س).

(٢) لزم كون كل واحد منهما ظرفا للآخر (م ، ت) وفي (ط) ظرفا للآخر.

(٣) الفلكية حاصلة حال كونها معدومة محال في العقول وأيضا ... (ت ، م).

(٤) شيء (س).

(٥) سقط (ط).

أمر آخر ، بل لا معنى لتلك المقارنة والمعية ، إلا حصولهما في وقت واحد وزمان واحد ، وحينئذ [يرجع (١) كل ما ذكرناه.

والجواب عن السؤال الثاني : أن نقول : المناظرات لا معنى لها إلّا تركيب علوم ضرورية ، لغرض استنتاج المطالب المجهولة الفطرية (٢) منها ، وذلك لا يتم إلا عند الاعتراف بصحة القضايا البديهية. وهذه المسألة لما تأملنا علمنا : أن صحة هذا التوقيت أمر تحكم به جميع العقول السليمة ثم لما تأملنا ، علمنا : أن صحة هذه المقدمة البديهية ، توجب القول بوجود الزمان بالطريق الذي لخصناه. فكان هذا الكلام من أظهر الدلائل ، وأقوى البراهين في إثبات هذا المطلوب. وبالله التوفيق.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) النظرية (س)

الفصل الرابع

في

البحث عن ماهية الزمان

الذي ذهب إليه «أرسطاطاليس» وارتضاه المعتبرون [من أتباعه (١)] كأبي نصر الفارابي ، وأبي علي بن سينا : أنه مقدار حركة الفلك الأعظم. وقال : [الشيخ (٢)] أبو البركات البغدادي [صاحب المعتبر (٣)] : إنه مقدار امتداد الوجود. وقال قوم [آخرون (٤)] : إنه عبارة عن نفس حركة الفلك الأعظم. وقال آخرون : إنه لا معنى للزمان إلا مجرد التوقيت على ما فسرناه وكشفنا عن معناه. وقال آخرون : كما أن النقطة تفعل بحركتها الخط فكذلك الآن يفعل بحركته الزمان. وكما أن النقطة إذا فعلت بحركتها الخط كانت واصلة [لأحد قسمي ذلك الخط بالقسم الثاني. وإذا وقفت تلك النقطة كانت فاصلة لذلك الخط وقاطعة له (٥)] فكذلك الآن ، إذا فعل بحركته الزمان ، كان آنا واصلا (٦) وإذا فرض حدوثه في الزمان المتصل كان آنا فاصلا. وقالت طائفة (٧) عظيمة من قدماء الحكماء : الزمان جوهر أزلي واجب الوجود لذاته ، ولا تعلق

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) من (ط) ، (س).

(٦) فاصلا (ت ، م).

(٧) وقال قوم عظيم (س).

له في ذاته ، ولا في وجوده ، لا بالفلك ولا بالحركة ، وإنما الفلك بحركته يقدر أجزاؤه كما أن الفنجانة تقدر بسبب أحوالها المختلفة أجزاء الليل والنهار. ثم قالوا : هذا الجوهر القائم بالنفس ، إن حصل فيه شيء من الحركات ، ويقدر امتداد دوامه بسبب تلك الحركات سمي زمانا ، وأما إن خلى عن مقارنة الحركات ولم يحصل فيه شيء من التغيرات فهو المسمى بالدهر والأزل والسرمد.

فهذا تفصيل مذاهب الناس في هذا الباب.

ولنتكلم الآن في أن الزمان هل يعقل أن يكون مقدارا للحركة الفلكية كما هو قول «أرسطاطاليس» وأتباعه؟.

فنقول : هذا المذهب عندنا باطل. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن الحركة الفلكية الأولى ، لما افتقرت إلى الزمان. فذلك الافتقار إما أن يكون لا لأجل كونها حركة ، وإما أن يكون لأجل كونها حركة ، [والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون الزمان مقدارا للحركة. وإنما قلنا : (١) إن] القسم الأول باطل ، لأن الحركة من حيث إنها حركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال [آخر (٢)] وإذا كان كذلك فالحركة من حيث إنها حركة لا تقرر ماهيتها ، ولا تحصل حقيقتها ، إلا عند حصول تعاقب القبليات والبعديات. وهذا المعنى لا يحصل إلا بسبب الزمان [فثبت أن الحركة (٣)] من حيث هي حركة مفتقرة إلى الزمان ، وإذا ثبت هذا ، فحينئذ لم يكن حصول الزمان لبعض الحركات ابتداء ، وللباقي بالتبعية ، أولى من العكس. لأن جهة الاقتضاء لما لم تكن إلا [مجرد (٤)] كونها حركة ثم إن هذا المعنى أمر مشترك فيه بين الكل على السوية ، كانت جهة الاقتضاء ، حاصلة في الكل على السوية ،

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م) ، (ت).

(٤) من (ط) ، (س).

وعلى هذا التقدير فيمتنع أن يتخصص به بعض الحركات دون البعض ، وحينئذ إما أن [يجب أن (١)] يحصل لكل حركة زمان على حدة ، أو يحصل للكل زمان [واحد (٢)] بعينه ، أو لا يحصل الزمان لشيء منها. والقسم الأول باطل من وجهين :

أحدها (٣) : إن على هذا التقدير يلزم أن لا تكون هذه الساعة الواحدة ساعة واحدة ، بل تكون ساعات كثيرة بعد الحركات الموجودة في العالم الأعلى ، والعالم الأسفل ، ومعلوم أن ذلك باطل ، فإنا نعلم [بالضرورة (٤)] أن هذه الساعة ليست إلّا ساعة واحدة.

والثاني : إن تلك الأزمنة لما وجدت معا ، فمعيتها لا بد وأن تكون لزمان آخر محيط بها ، وذلك محال ، لأنه يؤدي إلى (٥) التسلسل. وأيضا : فبتقدير تسليم جواز التسلسل فالمحال لازم ، لأن الأمر الذي لأجله حصل اجتماع كل الأزمنة ، لا بد وأن يكون محيطا بجميعها ، والمحيط بجميع الأزمنة ، وجب أن لا يكون زمانا. لأنا قد حصرنا الأزمنة بأسرها في ذلك المجموع ، فالمحيط بها الخارج عنها ، لا بد وأن يكون (٦) زمانا ، لكن [قد ثبت أن الشيء (٧) الذي يقتضي المعية والقبلية والبعدية هو الزمان ، فذلك الخارج يجب أن يكون زمانا [وأن لا يكون زمانا (٨) وهذا خلف. محال.

وأما القسم الثاني وهو أن يحصل زمان واحد قائم بجميع الحركات. فهذا أيضا محال. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن حلول العرض الواحد في المحال الكثيرة محال.

والثاني : إنه إذا عدمت حركة ، فقد عدم مقدارها ، والحركة الثانية التي هي باقية موجودة ، يكون مقدارها أيضا موجودا ، فلو كان مقدار جميع الحركات

__________________

(١) من (س).

(٥) يلزم (ت ، م).

(٢) من (م).

(٦) وأن لا يكون (ت).

(٣) أحدها (ت ، م).

(٧) من (ط) ، (س).

(٤) من (ط) ، (س).

(٨) من (ط).

مقدارا واحدا بالعدد ، لزم كون الشيء الواحد موجودا معدوما معا. وهو محال.

والثالث : إن الحركات المختلفة تكون مقاديرها مختلفة. فلو كان مقدار جميع الحركات شيئا واحدا مع أنها مقادير مختلفة لزم أن يكون الشيء الواحد وحده بحسب الشخص. تكون له حقائق مختلفة. وذلك محال. وأما القسم الثالث : وهو أن [يقال : إن (١)] الشيء الذي هو زمان لجميع الحركات ، لا يكون عارضا لشيء من الحركات ، بل يكون مباينا عنها بأسرها [إلا أن الحركات تقع فيها وتتقدر بها. فهذا هو المطلوب. وعند هذا يظهر فساد (٢)] قول من يقول : الزمان عرض قائم بحركة الفلك الأعظم ، بل هو تصريح بأن الزمان غني عن كل الحركات. وهو المطلوب.

وهذا الكلام قوي في إثبات هذا المطلوب.

واعلم أن الشيخ الرئيس ذكر هذه الحجة في الشفاء لا على هذا الوجه [التام في التقرير والتحرير ، لكن] (٣) ذكرها ناقصة مشوشة. ثم إنه أجاب عنها ، [في فصل آخر(٤)] ونحن ننقل جوابه بلفظه ، ثم ننظر فيه على سبيل الإنصاف : [أنه هل يكفي في دفع هذا الكلام أم لا؟ (٥)] قال : في [كتاب (٦)] الشفاء : «والذي قيل : أنه إن كان للزمان وجود ، وجب أن تتبع كل حركة [زمان فتكون كل حركة (٧)] تستتبع زمانا. فالجواب عن ذلك : أنه فرق بين أن يقال : إن الزمان مقدار لكل حركة ، وبين أن يقال : إن ذات الزمان البتة (٨) متعلقة بكل حركة ، وأيضا فرق بين أن يقال : إن ذات الزمان متعلقة بالحركة على سبيل العروض لها ، وبين أن يقال : إن ذات الحركة متعلق بها الزمان على سبيل أن الزمان يعرض لها. أما الأول فلأنه ليس من شرط ما تقدر الشيء أن يكون عارضا له وقائما به ، بل ربما قدر المباين بالموافاة والموازاة لما

__________________

(١) من (س).

(٥) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (س ، ط).

(٦) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (س ، ط).

(٧) من (ط) ، (س).

(٤) من (ط ، س).

(٨) إن آنيته متعلقة (م ، ت) وإن البتة (س).

هو مباين له ، وأما الثاني فلأنه ليس أمر إذا تعلق ذات شيء بطبيعة شيء ، يجب أن لا تخلو طبيعة الشيء عنه. ونحن إنما تبرهن لنا من أمر الزمان أنه متعلق الحركة وهيئة لها. ومن أمر الحركة : أن كل حركة فإنها متقدرة بزمان ، وليس يلزم من هذين أن تكون كل حركة ، فإنه يتعلق بها زمان يخصها ، ولا أن كل ما قدر شيئا فهو عارض له ، حتى يكون لكل حركة زمان عارض لذاتها بعينه ، بل الحركات التي لها ابتداء وانتهاء لا يتعلق بها الزمان. نعم إن وجد الزمان لحركة على صفة يصلح أن يتعلق بها وجود الزمان تقدر به سائر الحركات ، وهذه الحركة يجب أن تكون حركة يصح عليها الاستمرار ، ولا يحصل لها بالفعل أطراف» ثم [إن الشيخ الرئيس (١)] أطنب في الكلام [وطول (٢)] إلى أن قال : «فالزمان وجوده متعلق بحركة واحدة يقدرها ، ويقدر أيضا سائر الحركات ، وذلك كالمقدار الموجود في جسم ، فإنه يقدره ويقدر أيضا ما يحاذيه ويوازيه» هذا نص كلامه.

وأقول : [حاصل (٣)] هذا التطويل (٤) يرجع إلى حرف واحد ، وهو أنه : لم لا يجوز أن يقال : الزمان عبارة عن مقدار حركة معينة ، ثم إن تلك الحركة تتقدر بذلك المقدار ابتداء، ثم بواسطة تقدر تلك الحركة بذلك المقدار تتقدر أيضا سائر الحركات بذلك الزمان؟ فهذا هو الحاصل من هذه الكلمات الطويلة.

واعلم أنا حررنا ذلك الدليل بحيث لا يتوجه عليه هذا السؤال ، وذلك لأنا بينا أن افتقار الحركة إلى الزمان ، ليس لكونها حركة مخصوصة ، بل لكونها حركة فقط. وهذا المعنى أمر مشترك فيه بين جميع الحركات. وحينئذ يلزم أن يقال : إن جهة الاقتضاء والافتقار حاصلة في جميع الحركات على السوية من غير

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) سقط (م) ، (ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) التأويل (ط).

تفاوت أصلا ، ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إن ذلك الزمان حصل لبعض تلك الحركات دون البعض.

واعلم أن غرضنا من نقل كلام الشيخ أن نبين : أنا إنما حررنا ذلك الدليل على وجه لا يتعلق به كلام الشيخ ولا يقدح فيه. ثم إنا بعد التنبيه على هذا المقصود ، نبين أن هذا الكلام الذي ذكره مختل من وجه آخر. وتقريره : أن المعقول من مقدار الحركة [هو مقدار امتداد الحركة (١)] لأنا إن لم نفسر مقدار الحركة بهذا المعنى ، لم يتلخص من قولنا : مقدار الحركة مفهوم ملخّص معين ، وإذا عرفت هذا فنقول : [المفهوم من امتداد وجود الشيء بقاؤه واستمراره ودوامه. إذا ثبت هذا فنقول (٢) :] من المعلوم بالضرورة أن دوام وجود الشيء يمتنع أن يكون موجودا مباينا عنه ، حاصلا في غيره. وذلك لأن الناس اختلفوا في أن بقاء الشيء واستمراره ، هل هو صفة زائدة على وجوده أم لا؟ فمنهم من نفى كونه صفة زائدة ، ومنهم من أثبتها. وكل من قال بذلك قال : إن تلك الصفة حاصلة في ذلك الشيء ، ويمتنع كونها حاصلة في شيء آخر ، وليس في العقلاء واحد يجوز أن يقول : إن دوام وجود الشيء لا يكون حاصلا فيه بل في غيره ، وإذا ثبت أن دوام وجود الشيء يجب أن يكون فيه لا في غيره ، فمقدار هذا الدوام لا معنى له إلا كيفية من كيفيات هذا الدوام ، فكانت هذه الكيفية ـ بامتناع المباينة ـ أولى.

فثبت بما لخصناه : أنا متى فسرنا الزمان بمقدار الحركة (٣) كانت بديهة العقل حاكمة بأن مقدار كل حركة يجب أن يكون قائما بتلك الحركة ، وأنه يمتنع أن يحصل هناك مقدار واحد يكون قائما بواحد منها ، وتكون سائر الحركات في أنفسها خالية عن مقاديرها. أما قول الشيخ : «إن المقدار الموجود في جسم يقدره [ثم تتقدر (٤)] سائر الأجسام بواسطته» فنقول : هذا مغالطة محضة ،

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م). (س).

(٣) العبارة من (ط).

(٤) من (ط).

وذلك لأنه [لما كان (١)] لكل كل واحد من تلك الأجسام مقدار على حدة ، فكذلك هاهنا وجب أن يكون لكل واحد من هذه الحركات مقدار على حدة.

وعلى هذا التقدير : إذا قلنا : الزمان عبارة عن مقدار الحركة ، لزم القطع بحصول الأزمنة الكثيرة دفعة واحدة ، وحينئذ تعود المحاولات المذكورة.

فإن قال قائل : هذا الكلام إنما يلزم ، إذا قلنا : الزمان نفس مقدار الحركة ، ونحن لا نقول [بذلك بل نقول إن (٢)] لكل واحد من الحركات مقدار خاص بها على حدة. وهاهنا شيء آخر مباين عن الكل ، هو المقتضى لحصول تلك المقادير ، وذلك الشيء هو الزمان. فنقول : هذا مدفوع من وجهين :

الأول : إن مذهبكم أنه لا حقيقة للزمان إلّا مقدار الحركة ، فلما أبطلنا عليكم هذا الكلام ، تركتم في هذا السؤال ، ذلك المذهب ، وقلتم : الزمان عبارة عن [المعنى (٣)] المقتضي لمقدار الحركة. ومن المعلوم أنه فرق بين مقدار الحركة وبين المعنى المقتضي لمقدار الحركة. فإن قلتم : الزمان معنى يقتضي مقدار الحركة ، كان هذا تركا لقولكم : إن الزمان هو مقدار الحركة.

والوجه الثاني في دفع هذا الكلام : هو أنا قلنا : إنه لا معنى لمقدار حركة الفلك ، إلا امتداد دوامها وامتدادها. ومعلوم (٤)] أن دوام الشيء الذي يكون ممكن الوجود لا يكون إلّا لدوام علّته الموجدة له ، فيلزمكم على قولكم أن تقولوا : إن الزمان عبارة عن الموجود الواجب لذاته الذي هو السبب الأول ، والعلة الأولى. وذلك باطل. والله أعلم.

الحجة الثانية في إبطال قول من يقول : الزمان عبارة عن مقدار حركة الفلك :

أن نقول : إنا قد ذكرنا أنه لا يعقل من قولنا : الزمان مقدار الحركة ، إلا

__________________

(١) سقط (س).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) سقط (ط ، (س).

أنه مقدار امتداد الحركة. إذا عرفت هذا. فنقول : امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان ، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون مقدار ذلك الامتداد أمرا موجودا في الأعيان ، أما بيان أن امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان فهو أن الحركة عبارة عن حصولات متعاقبة في أحياز معاقبة ، ومن المعلوم بالبديهة أنه لا وجود لمجموع تلك الحصولات في الأعيان ، وإنما الموجود منها حصول واحد في آن واحد ، ثم ينقضي ويحصل بعده مثله. فثبت : أن امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان.

فإن قالوا : الحركة عبارة عن كون الجسم متوسطا بين المبدأ والمنتهى ، بحيث لا يكون حاله في آن من الآنات المفروضة في تلك المدة مشابها لحاله قبل ذلك ولا بعده ، وهذه الحالة باقية مستمرة. وذلك يدل على أن امتداد الحركة أمر موجود في الأعيان فنقول : الذي يحصل في الأعيان هو الحصول في هذا المعين ، ثم في حد آخر معين. وهكذا على التعاقب والتوالي ، وذلك يدل على أن امتداد الحركة لا حصول له في الأعيان ، وأما بيان أنه متى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون لمقدار ذلك الامتداد وجود في الأعيان ، فالدليل عليه : أن مقدار هذا الامتداد صفة من صفات هذا الامتداد ، والموصوف إذا كان ممتنع الوجود في الأعيان ، فالصفة أولى بأن تكون ممتنعة الوجود في الأعيان ، فثبت بهذا الذي بيناه : أن مقدار الحركة يمتنع أن يكون موجودا في الأعيان. لكن الشيخ بين بالدلائل : أن الزمان موجود في الأعيان. ينتج أنه لا شيء من الزمان عبارة عن مقدار الحركة.

الحجة الثالثة في إبطال هذا المذهب : أن نقول : الزمان لو كان عبارة عن مقدار الحركة ، لكان الزمان صفة من صفات الحركة [وكل صفة فهي (١)] محتاجة إلى الموصوف ، [ينتج أن الزمان يجب أن يكون محتاجا إلى الحركة (٢)] لكن الحركة محتاجة إلى الزمان ، لأن كل حركة فهي انتقال من حالة إلى حالة

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) من (س).

أخرى وزمان الحالة المنتقل عنها يجب أن يكون مغايرا لزمان الحالة المنتقل إليها ومتى كان الأمر كذلك ، لم تتقرر ماهية الحركة إلا عند تقرر الزمان ، وتعاقب أجزائه. وحينئذ يلزم احتياج كل واحد منهما إلى الآخر ، وذلك هو الدور الباطل [المحال (١)].

الحجة الرابعة : إن كل عاقل يعلم بالبديهة أن الحركة اليومية ، سواء كانت حركة فلكية أو عنصرية ، فإنها إنما حصلت بذاتها ، وبجميع صفاتها في هذا اليوم ، فلو كان هذا اليوم عبارة عن صفة من صفات بعض هذه الحركات ، لكان ذلك حكما بأن تلك الصفة حصلت في نفس تلك الصفة ، وكان ذلك قولا بحصول الشيء في نفسه ، وأنه باطل [محال] (٢).

الحجة الخامسة : لو كان الزمان مقدارا للحركة ، لكنا متى فرضنا عدم الحركة ، وجب أن يتعذر علينا فرض وجود الزمان ، لكن التالي باطل ، فالمقدم مثله [باطل (٣)] بيان الشرطية : أن فرض وجود مقدار الحركة ، مع أنه لا وجود للحركة : محال في العقول. كما أن فرض وجود مقدار الجسم ، مع أنه لا جسم : محال في العقول.

وبيان بطلان التالي من وجهين :

أحدهما : إنا بينا أنا متى فرضنا كون الفلك والشمس والقمر [وسائر الكواكب واقفة (٤)] ساكنة وبالغنا في تسكين كل الحركات حتى النفس والطرف [وغيرهما (٥)] ، فإنا نجد في صريح العقل وجود شيء يمر كالماء السيّال ، والعلم به ضروري بعد الاعتبار.

وثانيهما : إنا إذا فرضنا عدم الفلك والشمس والقمر ، وعدم حركاتها فلا بد وأن يقع عدمها بعد وجودها ، وهذه البعدية بالزمان ، فالذهن حال ما فرض

__________________

(١) من (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (س).

عدم جميع الحركات ، [فإنه قد (١)] تعذر عليه الانفكاك من الاعتراف بوجود الزمان.

الحجة السادسة : الزمان واجب الوجود لذاته ، وذلك يمنع من كونه متعلقا بالحركة ، [ويمنع من كونه (٢)] صفة من صفات الحركة. بيان الأول : أنه لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لصح طريان العدم عليه ، وكل ما صح عليه ذلك فإن بتقدير طريان العدم عليه ، يكون عدمه بعد وجوده. وهذه البعدية ، هي البعدية الزمانية. فثبت : أن الزمان موجود ، يلزم من فرض عدمه ، من حيث إنه هو : محال. وذلك لأن فرض عدمه يوجب فرض وجوده ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين. وهو محال. وكل ما كان كذلك فهو واجب [الوجود (٣)] لذاته ، ينتج : أن الزمان واجب الوجود لذاته.

وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان الزمان صفة للحركة ، ومقدارا لها ، لكان الزمان مفتقرا إلى الحركة ، والمفتقر إلى الغير ، ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته ، ممكنا لذاته. وذلك (٤) محال. وأيضا : فالذي يفتقر إليه الواجب [لذاته (٥)] أولى أن يكون واجبا لذاته ، فيلزم أن تكون الحركة واجبة الوجود لذاتها ، فوجب كونها غنية عن المحل والموضع. وذلك محال.

الحجة السابعة : إن بديهة العقل كما حكمت بصحة أن يقال : الجسم [تحرك من هذه الساعة الفلانية ، فكذلك حكمت بصحة أن يقال : الجسم (٦)] سكن من هذه الساعة إلى الساعة الفلانية ، وذلك يقتضي الجزم بأن نسبة الزمان إلى الحركة وإلى السكون على السوية ، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يقال : الزمان مقدار الحركة. فإن قالوا : السكون إنما يتقدر بالزمان على

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) وهذا خلف (ت ، م).

(٥) من (ط).

(٦) سقط (م).

سبيل الفرض ، بمعنى أن الشيء الذي هو الآن ساكن ، لو فرضنا أنه كان متحركا ، بدلا عن كونه ساكنا ، لكانت تلك الحركة واقعة في هذا القدر من الزمان. فنقول : إن هذا باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا ذكرنا أن الشخص الغافل عن جميع الحركات التي في العالم الأعلى ، [والعالم (١)] الأسفل يجد المدة [والزمان أمرا مستمرا باقيا. وذلك يدل على أنه سواء كان الحاصل هو الحركة والسكون فإن هذه المدة (٢)] تكون باقية.

الثاني : إن ماهية الحركة مفتقرة في تحققها إلى حصول الزمان ، فلو كان الزمان مفتقرا في تحققه إلى حصول الزمان (٣) لزم الدور.

والثالث : إن العقل كما حكم بأن الحركة لا يمكن وقوعها ، إلا في زمان مخصوص ، فكذلك حكمه بكون الزمان ظرفا للسكون ، لا يتوقف على استحضار معنى الحركة. بل حكم العقل بكون الزمان ظرفا للحركة تارة ، وللسكون أخرى على السوية ، ولا نجد في العقل بين البابين تفاوتا أصلا. وإذا كان الأمر كذلك ، كان القول بأن كون الزمان مقدارا للسكون ، تابعا لكونه مقدارا للحركة [حكما محضا (٤)].

الحجة الثامنة : لو حصل لمقدار امتداد الحركة وجود ، لكان ذلك المقدار إما أن يكون حاصلا في الحال ، أو في الماضي أو في المستقبل ، والكل باطل. أما أنه يمتنع أن يكون حاضرا في الحال ، فلأن الحال الحاضر لا يقبل الانقسام ، ومقدار امتداد الحركة أمر منقسم ، وحصول المنقسم في غير المنقسم محال.

وأما الثاني والثالث فهما أيضا باطلان لوجهين :

الأول : إن الماضي والمستقبل معدومان ، ولا شيء من المعدوم بموجود

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (ط).

(٣) إلى الحركة (م ، ت).

(٤) سقط (ط) ، (س).

[ينتج (١)] : فلا شيء من الماضي والمستقبل بموجود.

الثاني : وهو أن الماضي هو الذي كان حاضرا ثم انقضى ، والمستقبل هو الذي يتوقع حضوره إلا أنه بعد لم يحضر ، لكن الحاضر ليس إلا الآن ، الذي لا يقبل القسمة ، فالماضي والمستقبل على هذا التقدير ليس إلا الآنات الحاضرة ، التي صارت ماضية ، وذلك يوجب كون الزمان مركبا من الآنات المتتالية ، وهو عند القوم محال. فثبت : أن مقدار الحركة لو كان موجودا ، لكان وجوده إما أن يحصل في الحال ، أو في الماضي ، أو في المستقبل. وثبت أن كل هذه الأقسام باطلة ، فوجب الجزم بأن مقدار امتداد الحركة لا وجود له في الأعيان البتة.

الحجة التاسعة : إنا كما نحكم بأن هذه الحركة حصلت في هذا الزمان ، فكذلك نحكم بأن هذا الجسم ، حصل في هذا الزمان ، ولا نجد في العقل تفاوتا بين قولنا : حصلت هذه الحركة في هذا الزمان ، وبين قولنا : حصل هذا الجسم في هذا الزمان ، وإذا كان كذلك ، كانت نسبة وجود الزمان إلى الحركة ، كنسبته إلى الجسم ، وذلك يمنع من كون الزمان مقدارا للحركة.

أجاب الشيخ عنه. وقال : إنما يقال : «الجسم في الزمان ، بمعنى أنه في الحركة [والحركة (٢)] في الزمان» وهذا هو الذي نص عليه في كتاب عيون الحكمة. وذكره أيضا في كتاب الشفاء.

واعلم أنه ضعيف جدا ، وذلك لأن الزمان لما كان مقدارا للحركة ، كان عرضا موجودا في الحركة ، والحركة عرض موجود في الجسم ، وذلك يقتضي كون الزمان موجودا في الجسم ، فبهذا الطريق يظهر كون الزمان موجودا في الجسم ، ولا يظهر منه معنى كون الجسم موجودا في الزمان. والبحث إنما وقع عن معنى قولنا : الجسم موجود في الزمان. فأين أحد الكلامين من الآخر؟.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (ط) ، (س).

الحجة العاشرة : [ذات (١) الحق سبحانه منزه عن الحركة والتغير ، ثم إنا نعلم بالضرورة : أن الله سبحانه كان موجودا قبل [وجود (٢)] هذا اليوم ، وأنه الآن موجود مع هذا اليوم ، وأنه سيبقى [موجودا (٣)] بعد [انقضاء (٤)] هذا اليوم ، ولما صدق عليه سبحانه أنه كان ، وأنه الآن كائن ، وأنه سيكون [بعد ذلك (٥)] ثبت أن هذه المفهومات لا تعلق لها البتة بالحركة والتغير. وأيضا : فالجواهر العقلية موجودات مجردة عن الحركة ولواحقها. ثم إنه يصدق عليها إنها موجودة مع الباري تعالى ، ودائمة الوجود بدوامه. وكيف لا نقول ذلك ، ومدار دليل الفلاسفة في إثبات واجب الوجود لذاته : على أن العلة لا بد وأن تكون موجودة مع المعلول؟ فيثبت : أن مفهوم المعية حاصل هاهنا مع أن الحركة والتغير ممتنع الحصول هاهنا ، وذلك يدل على أن الأمر الذي لأجله يحصل معا القبلية والبعدية والمعية لا تعلق له بالحركة.

واعلم أن للشيخ هاهنا فصلا مشهورا وذلك أنه يقول : «نسبة المتغير إلى المتغير هو الزمان ، ونسبة المتغير إلى الثابت هو الدهر ، ونسبة الثابت إلى الثابت هو السرمد».

وسنتكلم على هذا الكلام في فصل مفرد ، إن شاء الله تعالى.

الحجة الحادية عشر : بدائه العقول شاهدة بأن الزمان ظرف للحركة ، وبدائه العقول شاهدة بأن صفة الشيء لا يكون ظرفا للموصوف ، فوجب أن لا يكون الزمان صفة من صفات الحركة. ثم نقول : مقدار الشيء ، صفة من صفات ذلك الشيء ، ولا شيء من صفات الشيء زمانا لذلك الشيء. ينتج : أنه لا شيء مما يكون مقدارا للشيء : زمانا له وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية عشر : لا شك أنه غير ممتنع في بديهة العقل ، أن يتصور أن

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) من (ط) ، (س).

الفلك كان معدوما قبل هذا الوقت ، بألف ألف سنة. ولا شك أن هذا الحكم ليس بديهي البطلان والفساد. وإذا ثبت هذا فنقول : معنى قولنا : إن الفلك كان معدوما قبل هذا الوقت بألف ألف سنة : هو أن الوقت المتقدم على هذا الوقت الحاضر ، بمقدار ألف ألف سنة ، كان الفلك معدوما فيه. وهذا يقتضي إضافة عدم الفلك ، وإضافة عدم حركة الفلك إلى ذلك الوقت المعين. فلو كان الزمان عبارة عن حركة الفلك ، لصار معنى هذا الكلام : أن حركة الفلك كانت معدومة ، عند ما كانت حركة الفلك موجودة. ومعلوم أن هذا الكلام أولى بالفساد ، وبديهي البطلان. فلما كان قولنا : الحركة الفلكية كانت معدومة قبل هذا الوقت بألف ألف سنة ليس بديهي البطلان ، وكانت إضافة عدم الحركة إلى نفس وجودها ، وإلى [نفس (١)] وجود مقدارها بديهي البطلان ، علمنا : أن الزمان شيء مغاير للحركة الفلكية ولمقدارها. وذلك هو المطلوب.

الحجة الثالثة عشر : قال أصحاب «أفلاطون» : دل البرهان على أن الزمان قديم ، ودل البرهان على أن الحركة يمتنع أن تكون قديمة. وهذا (٢) يدل على أن الزمان مغاير للحركة، ومغاير لجميع صفات الحركة. أما بيان أن الزمان قديم : فلأنه لو كان مسبوقا بالعدم ، لكان عدمه سابقا على وجوده سبقا بالزمان ، وذلك يوجب أن يكون كونها موجودا حال كونه معدوما ، وهو محال.

وأما بيان أن الحركة يمتنع أن تكون قديمة : فذلك لأن الحركة انتقال من حال إلى حال ، فحقيقة الحركة تقتضي كونها مسبوقة بالغير ، وحقيقة الأزلية والقدم تنافي المسبوقية بالغير ، والجمع بينهما محال. فثبت : أن الزمان قديم ، وثبت : أن الحركة يمتنع كونها قديمة ، فيلزم أن يقال : الزمان غير الحركة ، وغير مقدار الحركة ، وهو المطلوب.

الحجة الرابعة عشر : مقدار كل شيء إما عين ذاته ، وإما صفة حاصلة في ذاته ، وكون الشيء حاصلا في نفسه محال ، وكون الشيء حاصلا فيما هو

__________________

(١) من (س).

(٢) وهذا مع (م).

حاصل فيه أيضا محال ، لامتناع الدور ، وإذا كان كذلك ، امتنع كون الحركة حاصلة (١) في نفسها ، ولا في مقدار نفسها. وإذا ثبت هذا فنقول : كل حركة فهي حاصلة في الزمان ، ولا شيء من الحركات [حاصلة (٢)] في نفسها ولا في مقدار نفسها ، ينتج : فلا شيء من الزمان بحركة ، ولا بمقدار الحركة. وهو المطلوب.

الحجة الخامسة عشر. الزمان لا يرتفع بارتفاع الحركة ، وكل ما كان مقدارا للحركة ، فإنه يرتفع بارتفاع الحركة ، ينتج : فلا شيء من الزمان بمقدار الحركة. ولنكتف بهذا القدر من الدلائل في هذا المطلوب.

واحتج القائلون بأن الزمان عبارة عن مقدار حركة الفلك بوجوه :

الحجة الأولى : إن الزمان عبارة عن المعنى الذي باعتباره يحصل تعاقب القبليات والبعديات ، وذلك لا يتحقق إلا عند حصول التغير ، والتغير هو الحركة ، فيثبت : أن الزمان متعلق بالحركة.

والجواب : إن كون الزمان متعلقا بالحركة مجرد [وهم (٣)] كاذب ، وخيال فاسد. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا نصف الله سبحانه وتعالى بأنه كان موجودا قبل العالم ، وأنه الآن موجود مع العالم ، وسيبقى موجودا بعد انقراض العالم. وقولنا كان وكائن وسيكون : فإنه وإن أشعر بتبدل الأحوال ، وتغير الصفات ، لكنه لا يعقل حصول التبدل والتغير في حق الله تعالى ، لا بحسب ذاته ولا بحسب صفاته. فثبت : أن الزمان لا يستلزم حصول التغير.

الثاني : إنا نقول : هذه الحوادث كانت معدومة في الأزل ، فيحكم على هذه العدمات الأزلية بالأحكام الزمانية ، مع أن وقوع التغير في العدم المحض محال.

__________________

(١) حاصلة في مقدار نفسها. وإذا ثبت ... الخ (س).

(٢) سقط (م).

(٣) من (ط) قول (م).

الثالث : إنا قد ذكرنا أن الدلائل القاهرة على أن القبلية والمعية والبعدية لا وجود لها في الأعيان ، وأنها مجرد نسب يعتبرها الذهن ، ويتصورها العقل.

الحجة الثانية لهم : قالوا : إنا قد بينا في دليل الإمكانات : أن الزمان قابل للمساواة ، والمفاوتة (١) ثم نقول : وكل ما كان كذلك فهو كم. ينتج : فالزمان كم. ثم نقول : وكل كم إما أن يكون قار الذات أو لا يكون ، والأول باطل ، وإلا كان الوقت الحاضر عين الماضي وعين المستقبل. هذا خلف. فثبت : أنه كم غير قار الذات ، وإذا كان كذلك وجب أن تكون أجزاؤه على التقضي والمرور ، وكل ما كان كذلك فله مادة ، يكون هو صفة من صفاتها ، وحالة من أحوالها بناء على أنه لا بد لكل محدث من مادة. فالزمان لا بد له من مادة ، ومادته إما مادة الجسم ، وإما أن تكون مادته صفة من صفات الجسم (٢) والأول باطل. لأن الزمان إن جعل مقدارا لمادة المسافة فهو محال ، لأن المختلفين في هذا المقدار قد يستويان في المسافة ، وإن جعل مقدارا لمادة المتحرك فهو أيضا محال ، وإلا لكان كلما كان الزمان أعظم ، كان المتحرك أعظم. هذا خلف. فثبت : أن الزمان مقدار لهيئة حالة [في الجسم (٣)] وتلك الهيئة (٤) إما قارة وإما غير قارة. والأول باطل لأن مقدار الهيئة القارة يجب أن يكون قارا ، وهذا المقدار غير قار ، فبقي أن الزمان مقدار لهيئة غير قارة ، وهي الحركة. فثبت : أن الزمان مقدار [الحركة (٥).

والجواب : لا نسلم أن كل ما كان قابلا للمساواة والمفاوتة كان كما بالذات. بل كل ما قبل المساواة والمفاوتة لذاته ، لا لأجل غيره ، كان كما بالذات. وأنتم ما أقمتم الدلالة على أن الزمان قابل للمساواة والمفاوتة لذاته. فإنه ليس يمتنع أن يقال : الزمان له في ذاته حقيقة مستقلة بنفسها قائمة بذاتها ،

__________________

(١) والمقامة (ت) والمفارقة (م) والمفاوتة (س).

(٢) صفاتها (ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) المادة (م ، ت).

(٥) من (ط).

ثم تعرض لها نسب وإضافات إلى الحركات ، فيعرض لها بسبب تلك النسب والإضافات قبولها للمساواة والمفاوتة. وهذا القدر لا يوجب كون الزمان كما بالذات ، ولا يقضي عليه بكونه سببا لا في ذاته ، منقضيا بحسب أجزاء ماهيته. والذي يحقق هذا الكلام تجسّم مادة هذا الخيال. فإنا نعلم بالضرورة أن دوام ذات الله تعالى ألف سنة ، أطول من دوام [ذاته (١)] مائة سنة ، ومن أنكر ذلك لم يلتفت إليه. فثبت : أن دوام ذاته قابل للمساواة [واللامساواة (٢)] لا يلزم منه كون ذاته [جسما (٣)] متحركا (٤). فكذا هاهنا.

الحجة الثالثة لهم : قالوا : الدليل على أن الزمان من لواحق الحركة : أنه كلما كان الشعور بالحركة أتم ، كان الشعور بالزمان أتم. ولهذا السبب فإن المغتم بمرور الزمان قد يستطيله ، والمستغرق بالطرب قد يستقصره. لأجل أن الأول شاعر بالحركات ، والثاني غافل عنها. وأما في حق النائم فهو مثل ما بما يذكر في قصة أصحاب الكهف ، فإنه لما لم يكن لهم شعور بالحركة ، لا جرم لم يكن لهم شعور بالزمان.

فالجواب : إن النائم إنما لم يشعر بالزمان ، لأن النوم مانع من الشعور مطلقا ، لا لما قالوه من أن عدم شعوره بالحركة ، اقتضى عدم شعوره بالزمان. ثم نقول : هذا بالعكس أولى، فإنا بينا : أن الأعمى الجالس في البيت المظلم الذي لا يحس بشيء من الحركات ، فإنه يكون شاعرا بمرور المدة والزمان.

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) ومن نازع فيه (س).

(٣) والمفاوتة (س).

(٤) سقط (ط ، س).

الفصل الخامس

في

التفحص عما قيل من أن الزمان

كم متصل. وبيان أن ذلك ليس بحق

احتج (١) القائلون بأن الزمان كمّ متصل بأن قالوا : قد ذكرنا أن الزمان قابل للمساواة والمفاوتة ، وكل ما كان كذلك فهو كم ، فالزمان كم ، وكل كم فهو إما متصل أو منفصل ، لا جائز أن يكون [الزمان (٢)] كما منفصلا ، لأن كل كم منفصل فهو مركب من الوحدات ، فلو كان الزمان كما منفصلا ، لكان مركبا من آنات متلاصقة ، ودفعات متعاقبة ، ولو كان الأمر كذلك ، لزم كون الحركة مركبة من أمور متتالية ، كل واحد منها لا يقبل القسمة ، لأن الواقع من الحركة في الآن الواحد ، إن كان منقسما كان وقوع النصف الأول من تلك الحركة ، متقدما على وقوع النصف الثاني منها ، فحينئذ ينتصف ذلك الآن ، لكنا فرضنا أن ذلك الآن غير منقسم [هذا خلف. فثبت أن القدر الحاصل من الحركة في الآن الواحد غير منقسم (٣)] فلو كان الزمان مركبا من الآنات المتتالية ، لكانت الحركة مركبة من أمور غير منقسمة ، ولو كان الأمر كذلك لكان الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ ، لأن المقدار من المسافة الذي يتحرك عليه في الآن ، الذي لا ينقسم ، بالجزء الذي لا يتجزأ من الحركة ، إن

__________________

(١) وبيان أن ذلك حق (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ط ، س).

كان [منقسما (١)]. فحينئذ يلزم أن تكون الحركة إلى نصفه متقدمة في الوجود على الحركة من نصفه إلى آخره ، فحينئذ تنقسم الحركة ، وينقسم ذلك الآن. وقد فرضنا أنه ليس كذلك. هذا خلف. فيلزم : أن يكون ذلك القدر من المسافة غير منقسم ، فيثبت : أن الزمان لو كان مركبا من الآنات المتعاقبة ، والدفعات المتتالية ، لزم أن تكون المسافة مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ ، إلا أن هذا مشهور البطلان عند الحكماء. فيلزم : أن لا يكون الزمان مركبا من الآنات المتتالية ، والدفعات المتعاقبة. وإذا ثبت هذا وجب أن لا يكون الزمان كمّا منفصلا ، فوجب أن يكون كما متصلا. وهو المطلوب. هذا تقرير كلام القوم.

واعلم أنا نذكر وجوها في بيان أنه يمتنع أن يكون الزمان كمّا متصلا ثم نجيب عن حجتهم فنقول : الذي يدل على أنه يمتنع كون الزمان كما متصلا وجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : هذا الآن الحاضر الذي هو نهاية الماضي وبداية المستقبل ، يمتنع أن يكون قابلا للانقسام إلى جزءين يكون أحدهما سابقا على الآخر ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لكان عند حضور النصف الأول منه ، لا يكون النصف الثاني حاصلا ، وعند مجيء النصف الثاني منه يكون النصف الأول منه فائتا [زائلا (٢)].

فيثبت : أن كل ما كان قابلا للانقسام على وجه يكون أحد قسميه واجب التقدم على الآخر ، فإنه يمتنع أن يكون حاضرا ، وهذا ينعكس انعكاس النقيض : أن كل ما كان حاضرا ، فإنه يمتنع أن يكون منقسما. فيثبت : أن هذا الآن الحاضر ، غير قابل للقسمة على الوجه المذكور. إذا ثبت هذا فنقول : آن (٣) عدمه يجب أن يكون دفعة ، إذ لو كان على التدريج ، لكان منقسما. لكنا بينا أنه غير منقسم ، وإذا كان عدمه دفعة ، كان الآن الذي هو أول عدمه يكون

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (م).

(٣) إن عدمه يكون (م).

متصلا بوجوده ، فقد تتالى هذان الآنان (١) ثم الكلام في الآن الثاني ، كما في الأول ، وهذا يوجب القطع بتتالي الآنات ، وهو المطلوب.

فإن قيل : قولكم عدم الآن ، إما أن يقع دفعة ، أو على التدريج. قلنا : هاهنا قسم ثالث وهو أن يقع عدم الآن في جميع الزمان الذي بعده. لا يقال : ليس كلامنا في عدم الآن ، بل كلامنا في أول عدمه ، ومن المعلوم أن أول عدمه لا يحصل في جميع الزمان الذي بعده ، فإن أول عدمه لا يكون حاصلا في جميع الزمان الذي بعده ولما بطل هذا القسم ثبت أن أول عدمه ، إما أن يحصل دفعة ، وإما أن يحصل على التدريج ، وحينئذ يعود الكلام المذكور. لأنا نقول : ما المراد بأول عدم الآن؟ إن أردتم به أن لعدمه أولا ، فهذا مسلم. لكن لم لا يجوز أن يقال : إن أول عدمه هو وجوده ، فحصول ذلك الآن وثبوته هو بعينه أول الزمان عدمه ، وعلى هذا التقدير لا يلزم تتالي الآنات. وإن أردتم به أن لعدمه أولا يكون هو فيه معدوما [فهذا ممنوع. فما الدليل على أن لعدمه أولا ، هو فيه معدوما؟] (٢) وذلك [باطل (٣)] لأن هذا الكلام إنما يصح على القول بتتالي الآنات ، فلو أثبتنا تتالي الآنات بناء على هذه المقدمة ، لزم الدور ، وأنه باطل. فهذا أقصى ما يمكن إيراده من السؤال على الحجة [التي ذكرناها على إثبات تتالي الآنات (٤)].

والجواب : إنا ندعى أن عدم الآن ، لا بد وأن يحصل له [أول يكون ذلك الآن معدوما فيه والدليل عليه : أن هذا الآن كان موجودا ثم صار معدوما. فعدمه حدث بعد أن لم يكن (٥)] فهذا العدم له أول لا محالة ، وذلك العدم يكون حاصلا في ذلك الأول لا محالة. وإلا فهو بعد لم يتبدل من الوجود إلى العدم. لكنا فرضنا أنه حصل هذا التبدل ، فيثبت أن الآن الموجود إذا عدم فلا بد وأن

__________________

(١) الآن (م).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) من (س ، ط).

يكون لعدمه أول ، يكون هو فيه معدوما ، وإذا ثبت هذا اندفع السؤال المذكور ، وظهر لزوم الحجة المذكورة ، بحيث لا تقبل الدفع [والله أعلم (١)]

الحجة الثانية على أن القول بتتالي الآنات هو الحق : أن نقول : قد دللنا على أن الآن الحاضر لا يقبل القسمة. فنقول : إذا عدم ذلك الآن ، فهل حصل عقيبه شيء آخر يكون هو أيضا حاضرا أو لم يحصل؟ فإن كان الأول فالذي حصل عقيبه يكون [هو أيضا (٢)] حاضرا ، فيكون غير منقسم ، فيلزم تتالي الآنات وهو المطلوب. وإن كان الثاني فحينئذ لم يحصل عقيب ذلك الآن شيء آخر البتة ، فكان هذا قولا بانقطاع الزمان وانتهائه إلى العدم ومعلوم أن ذلك باطل. فالزمان غير منقطع. واعلم أن الفرق بين هذا الدليل وبين ما قبله : أنا في الدليل الأول قلنا : عدم الآن الأول لا بد وأن يقع في آن آخر ، ملاصق للآن الأول. وفي هذا الدليل ما تعرضنا لكيفية عدم الآن الأول ، بل ادعينا أن عقيب انقضاء الآن الأول ، لا بد وأن يحضر آن آخر من غير حاجة إلى بيان [أن الأول (٣)] كيف عدم.

الحجة الثالثة : إن أحد قسمي الزمان هو الماضي. والقسم الثاني هو المستقبل. ولا شك في أن الماضي والمستقبل معدومان. فلو قلنا : إن هذا الآن الحاضر يوجب اتصال أحد قسمي الزمان بالقسم الآخر ، لكان هذا القول معناه أحد المعدومين متصل بالمعدوم الثاني بطرف موجود. وهذا الكلام بعيد عن العقل. أما إذا قلنا : الزمان مركب من آنات متتالية ، ودفعات متعاقبة ، فالإشكال زائل. لأن الذي وجد لا تعلق به بما عدم إلا بمعنى كونه حاصلا بعد زوال الأول وفنائه. وذلك محال. استبعاد فيه [والله أعلم (٤).

الحجة الرابعة : كل جزءين يفرضان في الزمان ، فإن أحدهما لا بد وأن

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) سقط (م).

يكون متقدما على الآخر ، ولم لا يجوز أن يكون تقدم الجزء المتقدم على الجزء المتأخر أمرا حصل له بسبب غيره ، وإلا لزم التسلسل أو الدور. بل لا بد وأن يكون [الجزء المحكوم عليه بكونه متقدما [يكون متقدما (١)] لذاته. والجزء المحكوم عليه بكونه متأخرا [يكون متأخرا (٢)] لذاته (٣)] وإذا كان كذلك كان كل جزءين يمكن فرضهما في الزمان ، فإنه حصل لكل واحد منهما لازم يلزمه لذاته ، وذلك اللازم يكون ممتنع الحصول في حق الجزء الآخر ، لكن من المعلوم أن اختلاف اللوازم يدل على اختلاف ماهيات الملزومات [وإذا كان الأمر كذلك وجب أن تكون الأجزاء المفترضة في الزمان مختلفة في الحقائق والماهيات(٤)] وإذا كان الأمر كذلك ، لم يعقل من اتصالها إلا تواليها وتعاقبها بحيث يكون كل واحد منفصلا في نفسه عن الآخر ، ولا معنى لتتالى الآنات إلا ذلك.

[هذه جملة الوجوه الدالة على أنه لا بد من الاعتراف بتتالي الآنات. وعند ذلك ثبت: أن الزمان كم منفصل ، مركب من آنات متتالية ، ودفعات متعاقبة. وهو المطلوب(٥)].

الحجة الخامسة في إثبات تتالي الآنات : أن نقول : إنا قد دللنا على أن كل ما صدق عليه حكم العقل بأنه ماضي أو مستقبل ، فإنه لا بد وأن يصدق حكم العقل على مجموعه ، أو على كل واحد من أجزاء ذلك المجموع بأنه كان حاضرا [لأن الشيء الذي لم يكن حاضرا (٦)] لا بمجموعه ولا [بأجزاء مجموعه كان ذلك (٧)] عدما محضا. والباقي على العدم المحض لا يمكن أن يحكم عليه بكونه ماضيا ، فالزمان الماضي والمستقبل لا بد وأن يصدق عليه حكم العقل بأنه كان حاضرا ، أو سيصير حاضرا ، إما بمجموعه ، أو بكل واحد من

__________________

(١) زيادة.

(٢) من هامش (س).

(٣) من (ط ، س).

(٤) سقط (ط ، س).

(٥) سقط (ط) ، (س).

(٦) سقط (م).

(٧) من (س).

أجزائه ، لكن كون الزمان حاضرا بحسب مجموعه محال. فلم يبق إلا أن يكون حاضرا بحسب كل واحد من أجزائه ، وكل ما كان حاضرا فهو الآن الذي لا ينقسم ، ينتج : أن الزمان الماضي والمستقبل مركب من حضورات غير منقسمة ، وتلك الحضورات آنات لا تنقسم ، [فالزمان مركب من آنات لا تنقسم (١)]. وهو المطلوب.

واعلم أنه سيظهر في باب الحركة [أن الحركة (٢)] سواء كانت في الأين أو في الكيف ، فإنها مركبة من أمور متعاقبة كل واحد منها لا ينقسم. ومتى ثبت هذا ، ثبت أن الزمان يجب أن يكون مركبا من آنات لا تنقسم ، وكل دليل نذكره في تقرير أن الحركة كذلك ، فإنه يدل على أن الزمان أيضا كذلك (٣).

وأما الذي احتجوا به من أنه لو كان (٤) الزمان مركبا من آنات متتالية ، لزم كون الجسم مركبا من الأجزاء التي لا تتجزأ : فهذا كلام حق لا غبار عليه ، إلا أنا لا نسلم أن القول بإثبات الجزء الذي لا يتجزأ باطل. والاستقصاء (٥) فيه سيأتي في موضوعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (س).

(٣) لا يدل (م).

(٤) لو كان الأمر كذلك لزم ... الخ (م).

(٥) والاستقصاء في هذه المسألة قد مر (م).

الفصل السادس

في

تتبع سائر المذاهب والأقوال في ماهية الزمان

أما مذهب من يقول : الزمان عبارة عن الحركة الفلكية. فقد [بالغنا في تقرير الوجوه الدالة على فساده. وأما مذهب من يقول : إنه عبارة عن مقدار الحركة الفلكية فقد (١)] كشفنا عن فساده كشفا لا يبقى للعاقل فيه شبهة. وأما قول أبي البركات إن الزمان (٢) عبارة عن مقدار الوجود. فهذا كلام مبهم [مجمل (٣)] وأحسن أقواله أن يقال : المراد منه : أن الزمان مقدار امتداد الوجود. فإن كان المراد ذلك فهو باطل. وذلك لأن امتداد الوجود عبارة عن بقاء الشيء ودوامه واستمراره ، وهذا البقاء والدوام إما أن لا يكون أمرا زائدا على ذات الباقي. أو إن كان زائدا عليه ، لكن بقاء كل شيء ودوامه صفة قائمة به. وأيضا : فبقاء كل شيء ودوامه غير بقاء الآخر ، وغير دوامه. فلو كان الزمان عبارة عن هذا المعنى (٤) لزم أن يكون عدد الأزمنة المجتمعة في هذه الساعة الواحدة ، بحسب عدد الأشياء الباقية في هذه الساعة. لكنا [قد دللنا (٥)] على أن القول باجتماع الأزمنة الكثيرة دفعة واحدة : محال.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) إنه عبارة (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) المعنى (ط) البقاء (م).

(٥) سقط (م).

وأما قول قدماء (١) الحكماء ، وهو أنه جوهر قائم بنفسه ، مستقل بذاته ، فالمتأخرون أبطلوا ذلك بأن قالوا : الزمان شيء سيال (٢) متجدد الوجود. وما يكون كذلك ، فإنه يمتنع أن يكون جوهرا قائما بذاته ، مستقلا بنفسه.

هذا غاية الإلزام في إبطال هذا المذهب.

ولمجيب أن يجيب عنه فيقول : لا نسلم أنه في ذاته وماهيته سيال متبدل منقض. ولم لا يجوز [أن يقال (٣) :] إنه جوهر باقي أزلي أبدي إلا أنه إذا حدثت الحوادث ، صارت تلك الحوادث المتعاقبة مقارنة له ، وحينئذ يلزم من وقوع التغير والتبدل ، وقوع التغير والتبدل في نسب ذلك الجوهر إلى تلك الحوادث. والحاصل : أن السيلان (٤) والتبدل ما وقعا في ذات الزمان ، وفي جوهره. بل وقعا في نسبته إلى الحوادث المتعاقبة. ومما يدل عليه : أن ذات واجب الوجود لذاته ، تكون بالنسبة إلى كل شيء ، إما قبله أو معه أو بعده. ثم إنه بحسب تغير المتغيرات ، تتغير (٥) تلك النسب المسمّاة بالقبلية والمعية والبعدية في ذات واجب الوجود ، ولم يلزم من تبدل تلك النسب والإضافات ، وقوع التبدل والتغير في ذاته وفي صفاته الحقيقية فإنه واجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود من جميع جهاته. فإذا عقل هذا المعنى في حق واجب الوجود ، فلم لا يعقل مثله في ذات الزمان وجوهره؟ فظهر أن هذه الحجة التي ذكرها المتأخرون في إبطال مذهب القدماء في ماهية الزمان : حجة ضعيفة ساقطة. بل عندي : أن هذا القول أقرب الأقوال المذكورة في ماهية الزمان وفي حقيقته. وهو مذهب الإمام أفلاطون.

وظهر بهذه المباحث الغامضة التي أوردناها ، والبينات الكاملة التامة التي

__________________

(١) القدماء إنه (س ، ط).

(٢) متتالي (م).

(٣) سقط (م).

(٤) التغير (م).

(٥) تتبدل (م).

قررناها : أن الحق في حقيقة المكان والزمان ما قاله أفلاطون الإلهي ، لا ما اختاره أرسطاطاليس المنطقي.

ولما تلخص هذا الكلام فنقول : القائلون بأن الزمان جوهر قائم بنفسه مستقل بذاته فريقان : منهم من قال : إنه وإن كان كذلك لكنه ممكن بذاته واجب بغيره ، للدلائل الدالة على أن واجب الوجود لذاته ليس إلا الواحد. ومنهم من قال : بل الزمان جوهر واجب الوجود لذاته ممتنع العدم لعينه. وهؤلاء احتجوا على صحة قولهم بوجوه :

الحجة الأولى : إنا إذا أردنا أن نعرف أن واجب الوجود لذاته ما هو؟ قلنا : إنه الذي يلزم من مجرد فرض عدمه محال ، سواء كان ذلك اللزوم مما يعرف ببديهة العقل ، أو بنظر العقل. لكن [من الظاهر أنه لو كان لزوم المحال عليه معلوما بالبديهة ، كان وجوب الاعتراف (١)] بكونه واجب الوجود لذاته أولى [لكن أولى (٢)] الأشياء بهذا المعنى هو الزمان ، لأنك لو فرضت له عدما ، لوجب أن يكون عدمه بعد وجوده ، وكون عدمه بعد وجوده ليس إلا بالزمان. فههنا لزم من مجرد فرض عدم الزمان ، فرض وجوده ، لزوما بديهيا أوليا. وإذا كان الأمر كذلك ، كان الأمر الذي هو أظهر خواص واجب الوجود لذاته ، وأقوى آثاره ، وأكمل لوازمه ، لم يحصل إلا في الزمان. فكيف يعقل أن يقال : إنه ليس واجب الوجود لذاته؟.

الحجة الثانية : إن العقل كلما حاول أن يحكم بارتفاع الزمان وبعدمه ، فإنه لا بد مع ذلك [وأن يحكم (٣)] بوجوده. لأنه إنما يرفعه إما قبل شيء ، أو مع شيء ، أو بعد شيء. فحصول تلك القبلية والمعية والبعدية شاهد على كذب من نفاه ، وعلى فساد دعوى من أبطله. ومناد بإثبات الزمان ، وناطق بكونه موجودا بريئا عن قبول العدم والزوال. وكل ذلك من خواص واجب

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (ط).

الوجود [لذاته (١)] بل لا صفة لواجب الوجود [لذاته (٢)] أعلى شأنا وأكمل أثرا من هذا المعنى [والله أعلم (٣)].

الحجة الثالثة : إنا إذا أثبتنا شيئا واجب الوجود [لذاته (٤)] فما لم نعقل أنه موجود دائم الوجود أزلا وأبدا ، فإنه لا يمكننا الاعتراف بكونه واجب الوجود لذاته. ثم إنا لا نعقل من دوام الوجود إلا أنه الموجود الذي لا أول له ، ولا آخر له. فيثبت : أن شيئا من الأشياء لا يعقل أن نحكم عليه بكونه واجب الوجود لذاته إلا بسبب المدة والزمان. فلما كان هو السبب في وجوب وجود كل ما عداه ، فلأن يكون هو في نفسه واجب الوجود لذاته كان أولى.

الحجة الرابعة : إن كل ما سوى المدة والزمان ، فإنه لا يعقل دوامه إلا بدوام المدة والزمان ، لكن دوام المدة والزمان غني عن دوام شيء آخر (٥) يكون ظرفا لهما. وإذا كان كذلك ، كان وجود الزمان غنيا عن كل ما سواه [ووجود كل ما سواه (٦)] مفتقرا إلى وجود المدة والزمان. فهذا يقتضي أن لا يحصل في الوجود موجود واجب الوجود لذاته ، سوى الزمان. فإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن يكون هو أيضا واجب الوجود لذاته.

واعلم : أن القائلين بأن الزمان موجود [واجب الوجود (٧) لذاته فريقان : منهم من بالغ وأفرط وزعم : أنه هو الموجود الذي هو إله العالم ، وهو المدبر لكل الممكنات. واحتجوا عليه : بأنه ثبت أن [كل (٨)] ما سوى المدة [والزمان (٩)] فإنه لا يتقرر [دوامه (١٠)] إلا بدوام المدة [والزمان ، وثبت أن (١١)] دوام المدة [والزمان (١٢)] غني عن دوام كل ما سواه، وهذا يوجب

__________________

(١) سقط (ط).

(٧) سقط (ط).

(٢) سقط (م).

(٨) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٩) سقط (ط).

(٤) سقط (م).

(١٠) من (م).

(٥) آخر يصير مظروفا لزمان. وإذا كان .. الخ (م).

(١١) سقط (ط).

(٦) سقط (م).

(١٢) سقط (ط).

كون كل ما عداه مفتقرا إليه في الوجود ، وكونه غنيا عن كل ما عداه في الوجود. فيثبت أن المدة هي الشيء الذي يصدق عليه أنه واجب الوجود لذاته فقط. وذلك يوجب ما قلناه. ثم نقول : وصريح العقل شاهد بأن المدة [والزمان (١)] ليست إلا الواحد فقط. فإني أعلم أن هذه الساعة ليست إلا ساعة واحدة وأنها ليست ساعات كثيرة ، فعلى هذا التقدير يكون توحيد واجب الوجود لذاته : معلوما [بحكم (٢)] بديهة العقل من هذا الوجه.

ثم نقول : صريح العقل ناطق بأن الزمان والمدة ليس شيئا مختصا بجانب دون جانب ، ولا حاصلا في جهة دون جهة. فكان صريح العقل ناطقا من هذا الاعتبار بأن إله العالم غني عن [الجهة (٣)] والحيز ، ومنزه عن أن يكون جسما أو جسمانيا. ثم نقول : ثبت في العقول والشرائع : أنه سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن. وهذه الصفات لا تليق إلا بالمدة. وذلك لأن كل موجود يفرض وجوده فالمدة كانت سابقة عليه ، وأولا له ، وتكون [المدة أيضا (٤)] باقية بعده ، وآخرا له. وكون الشيء آخرا وأولا ، لا يليق إلا بالمدة. وأيضا: فالعلم بوجود المدة والزمان من أظهر العلوم الجلية كما قررناه. والعلم بماهيته المخصوصة ، وحقيقته المعينة من أخفى العلوم ، لأن عقول (٥) الخلق قاصرة عن الإحاطة بكنه ماهيته ، فكون الشيء ظاهرا وباطنا ، لا يليق إلا بالمدة (٦) وأيضا [فالمدة (٧)] أقرب من كل قريب ، لأن كون الواحد منا موجودا في هذه الساعة ، وفي هذه المدة ، من [أقرب الأشياء إليه (٨)] وهو أيضا أبعد من كل بعيد. لأن من أراد وجدان حقيقته المخصوصة [وماهيته المعينة (٩)] كان ذلك في غاية البعد. فهذا الموجود بحسب حقيقته المخصوصة واجب الوجود لذاته ، والعلم به بديهي ، لشهادة الفطرة بأن رفع المدة والزمان

__________________

(١) سقط (ط).

(٦) إلا بالمدة (ط) إلا به (م).

(٢) سقط (ط).

(٧) إلا به ، وهو أيضا أقرب ... الخ (م).

(٣) سقط (م).

(٨) من (م).

(٤) من (ط) ، (س).

(٩) من (ط).

(٥) علوم (ط) ، (س).

ممتنع في العقول. وبحسب تأثيره في إيجاد الممكنات ، ونظم المكونات : إله للعالم وبحسب أحواله مع الباقيات تارة ، ومع المتغيرات أخرى تسمى بالدهر والأزل والأبد والسرمد. وأيضا: صريح العقل شاهد بأن المدة والزمان لا يمكن أن يقال : إن وجوده حاصل في داخل العالم ، أو في خارج العالم [بل صريح العقل شاهد بأن [وجوده (١)] متعال عن أن يحكم عليه بأنه حصل في داخل العالم أو في خارج العالم (٢).

ثم] قالوا : ولهذا جاء في بعض الأخبار النبوية : «لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر» وجاء أيضا في بعض الكلمات (٣) العالية : «يا هو. يا من لا هو ، إلا هو. يا من لا يدري أحد كيف هو ، إلا هو. يا من لا إله ، إلا هو. يا أزل. يا أبد. يا دهر. يا سرمد. يا دهر. يا ديهار. يا ديهور. يا من هو الحي الذي لا يموت».

فهذا قول قال به طائفة من الخلق ، ومذهب ذهب إليه قوم. وقال الأكثرون : جلّ وتعالى إله العالم عن أن يكون هو الدهر والزمان. قالوا : بل القدماء الواجبة الوجود خمسة : مؤثر لا يتأثر وهو إله العالم ، ومتأثر لا يؤثر وهو الهيولى ، وشيء يؤثر ويتأثر وهو النفس ، فإنها تؤثر في الهيولى ، وتتأثر عن واجب الوجود [لذاته (٤)] وشيء آخر لا يؤثر ولا يتأثر وهو [شيئان (٥)] الدهر والفضاء. وهذا المذهب منسوب إلى قدماء الفلاسفة. ثم قالوا : وكل (٦) ما شرحتموه من صفات الرفعة والجلال فهو حاصل للدهر والمدة والزمان ، فكان [حصولها للمدة والزمان دليلا على أن (٧)] حصولها لإله أتم وأكمل وأعلى وأشرف.

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (ط).

(٣) الأدعية (م).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) وكل مؤثر حقوق (م).

(٧) من (ط).

[والأقرب (١)] من هذه الأقوال : أن يقال : دلت الدلائل على أن واجب الوجود لذاته واحد [وثبت (٢)] أن واجب الوجود لذاته ، واجب [الوجود (٣)] من جميع جهاته ، وذلك ينافي كونه سبحانه موردا للتغيرات والتبدلات [لكن (٤)] المدة [والزمان (٥)] مورد للتغيرات [والتبدلات (٦)] بحسب توارد القبليات والبعديات عليه ، فلم يكن واجب الوجود لذاته [من جميع جهاته ، فلم يكن واجب الوجود بحسب ذاته (٧)] بل كان ممكن الوجود لذاته. وأما الإله فهو الموجود المقدس عن التغيرات ، العالي عن أن يلحقه [شيء (٨)] [ما (٩)] بالقوة. فهذا هو الذي به نقول ، وعليه نعوّل. والله الهادي (١٠)

__________________

(١) والأصوب (م).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) سقط (ط).

(٦) من (ط).

(٧) سقط (ط) ، (س).

(٨) زيادة.

(٩) من (س).

(١٠) بعدها : المسألة الأولى في تحقيق الكلام في الآن. وفيه مسائل (سقط (ت).

الفصل السابع

في

تحقيق الكلام في الآن

وفيه مسائل :

المسألة الأولى : في إثبات وجود الآن :

اعلم : أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون حاضرا في الحال. ويدل عليه وجوه:

الأول : إن الماضي والمستقبل كل واحد منهما عدم محض ، فلو كان الحاضر أيضا عدما محضا ، لما تقرر الحصول والوجود أصلا (١) فكان هذا قولا بأنه لا وجود لشيء من الأشياء ، ولا حصول [لأمر من الأمور (٢)] وذلك جهالة.

الثاني : إنه لا شك في حصول أمور يحكم العقل عليها بكونها ماضية وبكونها مستقبلة ، والمعقول من الماضي هو الذي كان حاضرا ثم مضى ، والمعقول من المستقبل هو الذي يتوقع حضوره ، ولكنه لم يحضر. فلو كان حضوره ممتنعا ، لكانت صيرورته ماضيا ومستقبلا أيضا ممتنعا. ولما لم يكن كذلك ، علمنا أنه لا بد من الاعتراف بالحال الحاضر.

__________________

(١) أيضا (ط).

(٢) من (ط) ، (س).

الثالث : إنه لا نزاع في أنا نشاهد أشياء ، مشاهدة حقيقية. ونجد من أنفسنا آلاما ولذّات. فهذا الذي نشاهده إنما نشاهده في الحال ، لأن الذي مضى ولم يبق تمتنع مشاهدته، والذي هو مستقبل ولم يحضر تمتنع أيضا مشاهدته. فعلمنا أن هذه الوجدانيات والمشاهدات إنما حصلت في الحال ، لا في الماضي ولا في المستقبل.

واعلم : أن القول بأنه لا بد من الاعتراف بكون [الحال (١)] الحاضر موجودا ، أظهر وأجلى من أن يفتقر فيه إلى بيان وبرهان. وإنما ذكرنا هذه الوجوه مبالغة في البيان.

المسألة الثانية : في بيان أن الآن الحاضر لا يقبل القسمة :

وقبل الخوض في تقرير المطلوب ، لا بد من تقديم مقدمة. وهي في بيان أن كون الشيء منقسما [يقع (٢)] على وجهين :

الأول : أن ينقسم الشيء بحيث يحصل لجميع أجزائه [وأقسامه (٣)] وجود معا. وذلك مثل انقسام الجسم ، فإنه حال انقسامه ، يكون كل واحد من أجزائه حاصلا مع حصول الجزء الآخر.

والثاني : أن ينقسم الشيء بحيث يمتنع أن يحصل بعض أجزائه حال حصول الجزء الآخر. وهذا مثل انقسام الزمان والحركة. وذلك لأن الزمان الممتد من أول اليوم إلى آخره يقبل القسمة إلى الأجزاء. ولكن أي جزء فرض ، فإنه [يمتنع حصوله ، حال حصول الجزء الآخر منه (٤)] والعلم بذلك ضروري بعد التأمل واستحضار تصورات هذه الألفاظ.

إذا عرفت هذا فنقول : الآن الحاضر غير قابل للقسمة بالوجه الثاني

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط).

(٣) أحدهما (م ، ت).

(٤) سقط (ط).

[وذلك لأن خاصية القسمة بالوجه الثاني (١)] هو أن لا يكون أحد الجزءين موجودا عند وجود الجزء الآخر منه ، فلو كان الآن الحاضر منقسما على هذا الوجه ، لكان عند دخول نصفه الأول في الوجود ، لم يكن النصف الثاني منه موجودا ، وعند دخول النصف [الثاني (٢)] منه في الوجود يكون (٣) النصف الأول قد فات وزال. فعلى هذا التقدير لا يكون لذلك المجموع وجود البتة. فيثبت : أن كل ما كان منقسما على هذا الوجه لم يكن لمجموعه وجود [البتة (٤)] وهذا ينعكس انعكاس النقيض ، أن كل ما كان لمجموعه وجود ، فإنه لا يكون منقسما على هذا الوجه [والله أعلم (٥)].

المسألة الثالثة في أن الآن كيف يكون فاصلا (٦) باعتبار ، وواصلا باعتبار آخر؟

اعلم : أنا ذكرنا أن مذهب أرسطاطاليس وأصحابه : أن الزمان كم متصل. وإذا كان كذلك فنقول : كل كم متصل فإنه يقبل الفصل. ولا معنى للفصل إلا حصول طرف بالفعل لذلك الشيء ، وهذا يقتضي أن الزمان شيء يمكن أن يحصل له طرف (٧) بالفعل [لذلك الشيء. وهذا يقتضي أن الزمان شيء يمكن أن يحصل له طرف بالفعل (٨)] ثم إن هذا الطرف قد يكون واصلا وقد [يكون فاصلا (٩)] وهذا الكلام إنما ينكشف بالمثال. فنقول: [كل نقطة تحدث في الخط ، فإنها تكون فاصلة ، ثم بعد ذلك قد تكون واصلة ، وقد لا

__________________

(١) فرض وأنه يكون ممتنع الحصول والوجود عند كون الجزء الآخر حاصلا وموجودا والعلم ... الخ (م ، ت).

(٢) سقط (ط).

(٣) زيادة.

(٤) سقط (ط).

(٥) من (ط).

(٦) حاصلا (م ، ت).

(٧) ظرفا بالفعل (م) ظرفاه (ت).

(٨) سقط (س).

(٩) وقد لا يكون (م ، ت).

تكون. أما القسم الأول (١)] فإذا حدثت نقطة في خط بحيث لا ينفصل بسببها أحد قسمي ذلك الخط عن القسم الآخر منه ، فإنه ليس هناك إلا أنه حدثت نقطة بالفعل. وتلك النقطة كما أنها نهاية لأحد قسمي ذلك الخط ، فهي بعينها بداية للقسم الآخر منه. فهذه النقطة تكون فاصلة لذلك الخط باعتبار ، وواصلة باعتبار آخر. أما أنها فاصلة فذلك لأن ذلك الخط كان قبل حدوث هذه النقطة فيه : خطا واحدا ، وعند حدوث هذه النقطة فيه : انقسم بقسمين. وأما أنها واصلة. فلأن تلك النقطة أوجبت اتصال أحد قسمي هذا الخط بالقسم الثاني منه. فهذا هو بيان كون النقطة [المعينة (٢)] الواحدة فاصلة باعتبار ، وواصلة باعتبار آخر.

وأما القسم الثاني : [وهو أن تكون النقطة فاصلة ولا تكون واصلة (٣)] فمثاله : إذا انقطع أحد نصفي الخط عن النصف الآخر. فإن تلك النقطة التي هي نهاية أحد القسمين لم توجب اتصال ذلك القسم بالقسم الآخر.

وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول : [قد دللنا على (٤)] أن الآن الحاضر [لا بد وأن (٥)] يفصل الماضي [عن المستقبل. لأنه نهاية للماضي وبداية (٦)] للمستقبل ، فيكون هذا الآن فاصلا (٧) [لكنك قد عرفت أن الطرف الفاصل قد يكون واصلا وقد لا يكون. فنقول: هذا الآن الفاصل يستحيل أن (٨)] لا يكون واصلا ، لأنه إنما لا يكون واصلا لو انقطع الزمان ولم يكن بعده شيء آخر. وذلك محال. لأنه لو عدم [الزمان (٩)] لكان عدمه بعد وجوده : بعدية

__________________

(١) من (ط) ، (س).

(٢) من (ث).

(٣) وهو الطرف الذي يكون فاصلا ولا يكون واصلا البتة (م ، ت).

(٤) سقط (ط).

(٥) حد (م ، ت).

(٦) من (ط).

(٧) فهذا الآن فاصل ويجب أن يكون واصلا لأنه إنما لا يكون واصلا (س).

(٨) من (ت).

(٩) سقط (ط).

بالزمان. والبعدية بالزمان لا تحصل إلا عند حصول الزمان. وذلك محال. وإذا ثبت هذا ظهر أن كل آن يحدث ، فإنه فاصل باعتبار وواصل باعتبار. أما إنه فاصل [فلأنه (١)] فصل الماضي عن المستقبل ، وأما إنه واصل فلأنه أوجب اتصال الماضي منه بالمستقبل. فيثبت : أن كل آن يفرض في الزمان ، يكون فاصلا باعتبار ، وواصلا باعتبار آخر [والله أعلم (٢)].

المسألة الرابعة في الفرق بين الآن المتأخر عن وجود الزمان وبين الآن المتقدم على وجود الزمان :

هذا [البحث (٣)] أيضا من تفاريع مذهبهم في أن الزمان كم متصل [فنقول : الزمان كم متصل (٤)] وكل كم متصل فإنه قابل لانقسامات لا نهاية لها ، وتلك الانقسامات غير حاصلة بالفعل ، وإلا لزم أن يحصل في الزمان المحدود الطرفين أجزاء غير متناهية بالفعل ، وذلك محال. بل [نقول (٥)] الزمان متصل واحد [في نفسه (٦)] فإذا عرض له سبب [يوجب انفصاله (٧)] حدث الانفصال فيه بالفعل. وذلك الانفصال هو الآن. فهذا الآن شيء يوجد بعد وجود الزمان ، فيكون هذا الآن متأخرا في الوجود عن الزمان.

وأما الآن المتقدم في الوجود على وجود الزمان. فتقريره أن نقول : كما أن النقطة تفعل بحركتها وميلانها الخط ، فكذلك الآن يفعل بسيلانه الزمان ، فهذا الآن يكون متقدما في الوجود على وجود الزمان. وأقول : إن قولهم : إن الآن شيء غير منقسم ، وإنه يفعل بسيلانه الزمان : تسليم لكون الآن شيئا قائما بنفسه ، مستقلا بذاته. ثم إنه يفعل بسيلانه الزمان ، وذلك بعينه رجوع الى

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (م).

(٦) سقط (ط).

(٧) سبب منفصل (ت ، م).

مذهب أفلاطون من أن الزمان جوهر قائم بذاته ، ثم إنه تحصل له نسب متعاقبة متوالية إلى الحوادث. فيكون هذا (١) اعترافا بأن الحق في تقرير المدة والزمان : ما ذكره أفلاطون. لا ما ذكره أرسطاطاليس.

__________________

(١) هذا اختيارا لقول أفلاطون ، واعترافا بسقوط قول أرسطاطاليس (م ، ت).

الفصل الثامن

في

تحقيق الكلام في الدهر والسرمد.

والفرق بينهما وبين الزمان

ذكر الشيخ الرئيس في أكثر كتبه : أن اعتبار أحوال التغيرات [مع المتغيرات (١)] هو

الزمان ، واعتبار أحوال الأشياء الثابتة مع الأشياء المتغيرة هو الدهر ، واعتبار أحوال الأشياء الثابتة (٢) هو السرمد. وهذا هو الذي رأيناه في كتبه ، وما وجدنا له مزيد بيان ، وشرح لهذه الأقسام. ويجب البحث هاهنا عن سؤالين (٣) :

[السؤال (٤) الأول : أن الشيخ لم يبين أن هذا الذي سماه بالدهر والسرمد ، هل هو نفس هذه النسب المخصوصة أو هو أمر [آخر (٥)] يقتضي حصول هذه النسب؟ فإن كان الأول ، فلم لا نقول في الزمان [بمثل هذا القول؟] (٦) وهو أنه لا معنى للزمان إلا نفس هذه القبليات والبعديات والمعيات من غير إثبات أمر آخر؟ ولم زعم : أن الزمان موجود يقتضي حصول هذه النسب ، ولم يقل : الدهر موجود يقتضي حصول هذه النسبة المخصوصة؟ وما

__________________

(١) من (ط).

(٢) الفانية (م ، ت) والأشياء سقط (م).

(٣) أمور [الأصل].

(٤) زيادة.

(٥) سقط (ط).

(٦) بمثله (م ، ت).

الفرق بين البابين؟ وإن كان الثاني وهو أن يقال : إن المسمى بالدهر والسرمد موجود مخصوص ، يقتضي حصول هذه النسب. فكان من الواجب عليه أن يبين أن ذلك الشيء جوهر أو عرض؟ وإن كان جوهرا ، فهو من الجواهر الجسمانية أو من الجواهر [الروحانية (١)] المجردة؟ وإن كان عرضا فهو من أي أجناس الأعراض؟ فإن هذه الكلمات لا تصير معلومة مفهومة ، إلا بهذا الطريق.

السؤال الثاني : أن يقال : إنك زعمت : أن نسبة الثابت إلى المتغير هو الدهر. فنقول : هذا الذي سميته بالدهر ، هل هو في نفسه ثابت مستقر ، أو هو في نفسه متغير سيال؟ فإن كان ثابتا فالثابت هل يجوز جعله سببا لحصول النسب المتغيرة أو لا يجوز؟ فإن جاز فلم لا يجوز أن يقال : المقتضى لحصول نسب بعض المتغيرات إلى بعض شيء ثابت في ذاته ، كما هو قول «أفلاطون» وإن لم يجز هذا ، فكيف جعلتم هذا الشيء المسمى بالدهر مع كونه [ثابتا (٢)] سببا لحصول النسب الواقعة بين الأشياء الثابتة ، وبين الأشياء المتغيرة؟ وذلك لأن هذه النسب تكون متغيرة [لا محالة (٣)] فإذا كان الدهر ثابتا ، والثابت لا يجوز جعله سببا للنسب المتغيرة ، لزم امتناع كون الدهر سببا لحصول الأشياء المتغيرة؟ وذلك لأن هذه النسب تكون متغيرة [لا محالة (٤)] فإذا كان الدهر ثابتا ، والثابت لا يجوز جعله سببا للنسب المتغيرة ، لزم امتناع كون الدهر سببا لحصول هذه النسب المتغيرة ، وأما ان المسمى بالدهر أمرا متغيرا في ذاته ، فالشيء المتغير في ذاته ، هل يمكن جعله سببا لحصول النسبة مع الأشياء الثابتة ، أو لا يمكن؟ فإن أمكن فلم لا يكون الزمان كافيا في ذلك حتى لا يحتاج إلى إثبات هذا [الشيء المسمى (٥)] بالدهر ، وإن لم يمكن فكيف جعلتم الدهر المتغير في ذاته ، سببا لحصول النسبة إلى الأشياء الثابتة؟

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (س).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط ، س).

قال الشيخ في كتاب عيون الحكمة : «الدهر في ذاته من السرمد ، وهو بالقياس إلى الزمان دهر» وأقول : معناه : إن الدهر في ذاته شيء ثابت غير متغير إلا أنه إذا نسب إلى الزمان الذي هو موجود متغير في ذاته ، سمي دهرا. وهذا تصريح بأن الدهر ثابت في نفسه وذاته ، إلا أنه مع كونه كذلك ، فإنه يقتضي حصول هذه النسب المتغيرة.

وفي هذا اعتراف بأن الشيء قد يكون ثابتا في ذاته ، ومع ذلك فإنه يقتضي تقدير الأحوال المتغيرة بالمقادير المخصوصة. إذا عرفت هذا فنقول : إن هذا عين مذهب أفلاطون ، وهو أن الزمان جوهر قائم بنفسه مستقل بذاته ، إلا أنه يقتضي تقدير هذه الأحوال المختلفة ، وقد ثبت أن الناصرين لمذهب أرسطاطاليس في أن الزمان مقدار الحركة ، لا يمكنهم التوغل في شيء من مضايق المباحث المتعلقة بالزمان ، إلا عند الرجوع إلى قول أفلاطون.

وأقول : قد ذكرنا : أن الأقرب عندنا في المدة والزمان هو مذهب أفلاطون. وهو أنه موجود قائم بنفسه مستقل بذاته ، فإن اعتبرنا نسبة ذاته إلى ذوات الموجودات [القائمة المبرأة (١)] عن التغير ، سميناه بالسرمد ، وإن اعتبرنا نسبة ذاته إلى ما قبل حصول الحركات والتغيرات ، فذاك هو الدهر الداهر ، وإن اعتبرنا نسبة ذاته إلى كون المتغيرات مقارنة [له حاصلة (٢)] معه فذاك هو الزمان [وبالله التوفيق (٣)].

__________________

(١) الدائمة المبرأة (م ، ت).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط) ، (س).

الفصل التاسع

في

شرح خواص الماضي والحاضر والمستقبل

وهي أمور عشرة :

الخاصية الأولى : من الناس من قال : الماضي متقدم على الحال ، والحال متقدم على المستقبل. ومنهم من قال : بل المستقبل متقدم على الحال ، ثم الحال على الماضي.

واعلم أن كل واحد من هذين القولين صواب باعتبار [وخطأ باعتبار (١)] آخر. وشرح هذا الكلام يستدعي تقديم مقدمة :

فنقول مثلا : الماضي يعتبر من وجهين :

الأول : أنه ذلك الشيء الذي حكم عليه بكونه ماضيا.

والثاني : مجرد وصف كونه ماضيا. ولا شك في أن أحد هذين المفهومين ، مغاير للآخر. إذا عرفت هذا فنقول : إما أن نعتبر الماهية المحكوم عليها بكونها ماضية أو حاضرة أو مستقبلة ، وإما أن نعتبر نفس هذا الوصف. أعني مجرد كونه ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، فإن اعتبرنا الأول كان السابق هو الماضي ، ثم الحال ، ثم المستقبل. لأن الداخل في الوجود أولا

__________________

(١) من (ط).

هو (١) الماضي. ثم الحال ثم المستقبل. وأما إن اعتبرنا وصف كونه ماضيا وحاضرا. ومستقبلا. فههنا ينعكس الأمر ، فالمتقدم هو وصف كونه مستقبلا ، ثم يتلوه صيرورته حاضرا ، ثم يتلوه كونه ماضيا.

والدليل عليه : وهو أن الشيء الذي لم يوجد ، وكان بفرضية أنه سيوجد ، فعند كونه كذلك يكون مستقبلا ، فإذا حصل صار حاضرا ، فإذا انقضى وانقرض فإنه يصير ماضيا. فيثبت : أن الشيء في المرتبة الأولى يكون مستقبلا [ثم يصير حالا (٢)] ثم بالأخيرة يصير ماضيا.

الخاصية الثانية : المستقبل يصير حالا أولا ، ثم يصير ماضيا ، وأما الماضي فإنه لا يصير حالا البتة ولا مستقبلا ، وأما الحال فإنه يمكن أن يصير ماضيا لكنه لا يمكن أن يصير مستقبلا. وأما المستقبل فإنه يصير حالا أولا ، ثم [يصير (٣) ماضيا ثانيا.

الخاصية الثالثة : إن الماضي يصير في كل وقت أبعد مما كان قبله و[والمستقبل يصير في كل وقت أقرب مما كان قبله (٤)] والعلم بذلك بديهي ، ونظم بعض الشعراء هذا المعنى في مدح [واحد (٥)] فقال :

فلا زال (٦) ما تهواه أقرب من غد

ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس

الخاصية الرابعة : إن كل ما كان متقدما في الماضي ، فهو أبعد عن الماضي مما كان متأخرا [وفي المستقبل بالعكس. لأن كل ما كان متقدما في المستقبل ، فإنه أقرب إلى الحال مما كان متأخرا (٧)].

الخاصية الخامسة : أن نقول : المناسبة بين الحال وبين المستقبل ، أشد

__________________

(١) في الوجود أولا (ت).

(٢) فإذا حصل صار حاضرا (م ، ت).

(٣) من (ط).

(٤) من (م) ، (س).

(٥) سقط (ط).

(٦) ما هو آت [الأصل].

(٧) سقط (ط) ، (س).

من المناسبة بين الحال وبين الماضي. وذلك لأن الحال موجود بالفعل. والمستقبل [وإن كان غير موجود بالفعل إلا أنه (١)] موجود بالقوة. أما الماضي فإنه غير موجود لا بالفعل ولا بالقوة ، لا سيما إذا قلنا : إعادة المعدوم ممتنعة. ولهذه الدقيقة وضع أهل اللغة العربية لفظ المضارع مشتركا بين الحال والاستقبال ، وما أثبتوا هذا الاشتراك بين الحال وبين الماضي.

الخاصية السادسة : إن المتقدم بالذات وبالعلية ، لا يصير متأخرا البتة. وبالعكس. أما المتقدم بالزمان فإنه قد يصير [هو بعينه (٢)] متأخرا بالزمان ، كالأب فإنه متقدم على الابن بالزمان ، ثم إنه قد يبقى بعد موته ، فيصير متأخرا عنه بالزمان [أما المتأخر بالزمان (٣)] فإنه يمتنع أن يصير متقدما بالزمان على ما كان متقدما عليه. وذلك ظاهر.

الخاصية السابعة : [أن نقول (٤)] التقدم بالعلية والتقدم بالزمان لا يجتمعان البتة ، لأنه لما ثبت أن العلة التامة في جميع الأمور المعتبرة في العلية ، يمتنع تخلف المعلول عنها ، لزم أن يقال : إنه حيث حصل التخلف لم تكن العلة علة تامة في العلية. فيثبت : أن التقدم بالعلية ، والتقدم بالزمان لا يجتمعان البتة. أما المتقدم بالطبع مع التقدم بالزمان ، فقد يجتمعان فإن الواحد متقدم على الاثنين بالطبع ، وقد يكون متقدما عليه أيضا في الزمان.

الخاصية الثامنة : قالوا : الزمان متحرك لا يسكن البتة ، والمكان ساكن لا يتحرك البتة ، ولما كانت الحركة أشرف من السكون ، لا جرم كان الزمان أشرف من المكان. ولهذا السبب قال الشيخ في خطبته المشهورة : «والمكان يلي الزمان وجودا ، ويجده أوائل علل الزمان تحديدا».

الخاصية التاسعة : الفرق بين المكان والزمان : أن الجزء الواحد من

__________________

(١) وإن لم يكن موجودا بالفعل. لكنه (م ، ت).

(٢) سقط (س).

(٣) من (ط) ، (س).

(٤) من (ط) ، (س).

المكان لا يحصل فيه متمكنان البتة ، وأما الجزء الواحد من الزمان ، فإنه يمكن أن يحصل فيه حوادث غير متناهية.

الخاصية العاشرة : إن الحركة لها تعلق بالمكان ، وتعلق بالزمان. وذلك لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حيز إلى حيز آخر. وأيضا : فلا بد وأن يكون وقت حصول الجسم في الحيز الأول ، مغايرا لوقت حصوله في الحيز الثاني. فيثبت : أن ماهية الحركة لها تعلق شديد بالمكان والزمان. فيجب أن يعتبر : أن أيهما أقدم؟ فنقول : يشبه أن يكون تعلقها بالزمان أقدم. وذلك لأن جميع أنواع الحركة متعلق بالزمان ، فإن الحركة في الكيف لا تنفك عن الزمان. وهي غنية عن المكان. فيثبت : أن تعلق الحركة بالزمان أشد من تعلقها بالمكان.

[ونقول (١)] اعلم أنه بقي من مباحث هذا الباب سؤالات :

السؤال الأول : إن المتقدم بالزمان هو الذي يكون موجودا في زمان ، ولا يكون المتأخر عنه موجودا في ذلك الزمان ، ثم يجيء زمان آخر يحصل فيه كل واحد منهما معا ، وإذا عرفت هذا فلقائل أن يقول : هذا الشيء المحكوم عليه بالتقدم [الزماني (٢)] إما أن يصير موصوفا بهذا التقدم الزماني في الزمان [الأول ، وهو الزمان الذي كان موجودا فيه مع عدم هذا المتأخر ، أو يصير موصوفا بهذا التقدم الزماني في الزمان (٣)] الثاني وهو الزمان الذي حصل فيه المتقدم والمتأخر معا. والأول محال ، لأن التقديم من باب المضاف ، فما لم يوجد الغير ، لم يكن هو متقدما عليه. فالزمان الذي لم يحصل فيه التأخر ، امتنع أن يصير الشيء موصوفا بكونه متقدما فيه. والثاني أيضا محال ، لأن الزمان الذي حصل فيه المتأخر يكون ذلك المتقدم حاصلا مع ذلك المتأخر ، في ذلك الزمان. فعلى هذا التقدير يكون حصولهما في ذلك الزمان موجبا للمعية والاعتبار ،

__________________

(١) ثم اعلم (م ، ت).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

[والذي يكون موجبا للمعية (١)] يمتنع أن يكون هو بعينه موجبا للتقدم ، لأن المعية منافية للتقدم. فيثبت : أنه لم يحصل لهذا المتقدم إلا هذا الزمان ، ويثبت : أن كل واحد منهما ينافي حصول التقدم ، فوجب أن لا يصح الحكم على الشيء بكونه متقدما على الغير بالزمان.

فهذا هو تقرير هذا الشك.

وجوابه : أن التقدم بالزمان لا حصول له إلا في الأذهان. وذلك لأن عند حصول الابن يعتبر الذهن أن الأب كان موجودا قبله. فمن هذا الاعتبار يحصل التقدم الزماني.

السؤال الثاني : إن التقدم والتأخر مضافان ، والمضافان معا. فالتقدم مع التأخر والمعية ينافي التقدم. والحاصل أن كونه متقدما على الغير ، يوجب كونه مع ذلك الغير ، [وكونه معه (٢)] ينافي كونه متقدما عليه. ينتج أن كونه متقدما على الغير ، ينافي كونه متقدما على الغير. وذلك باطل.

والجواب : إن ذات الأب متقدمة على ذات الابن. أما كونه متقدما على الابن فإنه مقارن لكون الابن متأخرا عنه. ولما حصل التغاير في الاعتبار ، زال التنافي.

السؤال الثالث : المعدوم قبل دخوله في الوجود يصدق عليه أنه سيوجد ، ثم إذا صار موجودا ، فإنه يزول عنه وصف أنه سيوجد ، فهذا وصف قد عدم بعد حصوله ، فيكون وصفا موجودا. لكنه إنما حصل قبل دخوله في الوجود ، فيلزم قيام الصفة الموجودة بالموصوف المعدوم ، وأنه محال. وأيضا : أنه إذا وجد وحضر ، ثم فني وعدم بعد ذلك ، فإنه يحصل له وصف كونه ماضيا. وهذا الوصف مغاير لتلك الماهية المخصوصة. بدليل : أن الماهيات المختلفة قد تكون متشاركة في صيرورتها ماضية ، والشيء الواحد يتوارد عليه وصف كونه مستقبلا وحاضرا وماضيا. وكل ذلك يدل على أن وصف كونه ماضيا مغاير لتلك الذات

__________________

(١) والاعتبار الموجب للمعية (س).

(٢) سقط (ط ، س).

المخصوصة. وهذا الوصف لا شك أنه وصف موجود [بدليل (١)] أنه حصل بعد أن لم يكن حاصلا ، لكن هذا الوصف إنما يحصل للشيء بعد صيرورته معدوما ، فيلزم قيام الصفة الموجودة بالمعدوم المحض ، وهو محال.

والجواب : من الناس من قال : المحكوم عليه بأنه سيوجد ، أو بأنه كان موجودا : هو الصورة الذهنية الحاضرة في العقل. وهي موجودة لا معدومة. ولقائل أن يقول : الصورة الذهنية حاضرة ، والحاضر من حيث إنه حاضر لا يكون ماضيا ولا مستقبلا. والحاصل : أن المحكوم عليه بأنه ماضي وبأنه مستقبل ، إما أن يكون موجودا حاضرا أو لا يكون. فإن كان حاضرا لم يكن ماضيا ولا مستقبلا ، وإن لم يكن حاضرا كان معدوما في الحال. ووصف كونه ماضيا ومستقبلا موجود (٢) في الحال. فيلزم قيام الصفة الموجودة بالمعدوم المحض والنفي الصرف. وهو محال. والأقرب أن يقال : كونه ماضيا ومستقبلا ليسا صفتين موجودتين [والله أعلم (٣).

__________________

(١) لأجل (م) بدليل (ط) ، (س).

(٢) حاضرا (م) موجود (ط).

(٣) من (ط).

الفصل العاشر

في

أن الزمان محدث أو قديم

اتفق جمهور الفلاسفة على قدم الدهر والمدة. واتفق المتكلمون على حدوثه. أما الأولون فهم فريقان : منهم من زعم أن العلم الضروري حاصل بأنه لا يقبل العدم البتة ، ولا يتمكن العقل من تصور رفعه وعدمه. ومنهم من أثبت قدمه بالحجة والدليل.

أما الطائفة الأولى : فقالوا : إنما قلنا : إن العلم الضروري حاصل بامتناع عدمه [وارتفاعه (١)] لوجوه :

الأول : إنا متى اعتقدنا أنه كان معدوما ثم حدث ، فلا بد وأن نعتقد عدما مستمرا من الأزل إلى وقت حدوثه ، وتعقل الدوام والاستمرار لا يمكن إلا عند إثبات مدة مستمرة ، لأنه لا معنى لذات المدة إلا ذلك الدوام السيال المتحرك (٢) فيثبت : أنه لا يمكن تصور عدمه إلا مع فرض وجوده ، وما كان كذلك ، كان عدمه ممتنعا في العقول لذاته.

الثاني : إنا متى تصورنا أنه كان معدوما. فقد تصورنا أن عدمه سابق على وجوده ، وذلك السبق لا معنى له إلا المدة والزمان. فيثبت : أن العقل لا يتمكن من تصور عدمه.

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) المستمر (م ، ت).

الثالث : إنا متى قلنا : إنه كان معدوما أو سيصير معدوما. فلفظ كان ، وسيكون ، لا بد وأن يشير إلى مدة ماضية ، وإلى مدة [لاحقة] (١) آتية. وقول من يقول : إن هذا لضيق العبارة كلام فاسد ، بل هذا لأجل أن العقل لا يتمكن من فرض عدمه ، والفهم لا يمكنه التعبير عن تقدير عدمه. وكل ذلك لأجل ما ادعينا أن تقدير عدمه (٢) وفرض رفعه ، مما يأباه صريح العقل والفهم.

وأما الطائفة الأخرى : وهم الذين يثبتون كون المدة قديمة بالحجة والبينة ، فقد ذكرنا في كتاب القدم والحدوث : الوجوه التي ذكروها وعولوا عليها. فلا فائدة في الإعادة.

واعلم أن القائلين بقدم الدهر فريقان : منهم من يقول : المدة جوهر قائم بالنفس ، ولا يتوقف وجوده على وجود الحركة. ومنهم من يقول : المدة عبارة عن مقدار الحركة. أما الأولون فإنهم قالوا : إنه لا يلزم من قدم [الدهر قدم (٣)] الحركة البتة ، بل الدهر جوهر ثابت في ذاته ، فإن لم يقارنه شيء من الحركات والتغيرات والحوادث لم يحصل هناك إلا الدوام الواحد ، والاستمرار الواحد. ثم إن العقول البشرية قاصرة عن تصور كيفية ذلك الدوام ، وذلك لأن الذي وجدناه من عقولنا وأفهامنا أمران : أحدهما : الدوام بحسب تعاقب الحوادث ، ومجيء الحادث بعد الحادث وحضور الوقت [بعد الوقت (٤). وهذا إنما يتحقق بسبب [تغير (٥)] القبليات بالبعديات. فالدوام الخالي عن شوائب التغير مما لا يصل العقل إليه. والثاني : إن كل دوام نعقله ، فإنما نعقله في وقت معين ، وكل ما كان كذلك فهو محدود متناهي ، فالذي لا نهاية له لا يتصوره العقل البتة ، وأما إذا حصل في المدة أحوال متلاصقة ، وتغيرات

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) تقدير دفعه وعدمه مما يأباه (م ، ت).

(٣) من (م).

(٤) من (ط).

(٥) من (س).

متلاحقة ، فحينئذ تكون المدة (١) مقارنة لواحد منها [ثم (٢)] للثاني منها ، ثم للثالث منها ، فيظن لهذا السبب أن جوهر المدة والزمان شيء سيال في نفسه متغير في ذاته. وليس الأمر كذلك وإنما التغير [واقع (٣)] في أحواله الخارجة عن ماهيته ، وفي الإضافات العارضة [لذاته ، بسبب مقارنته (٤)] لتلك الحوادث.

أما القائلون بأن المدة والزمان من لواحق الحركة. فهؤلاء يستدلون بقدم المدة على قدم الحركة ، وبقدم الحركة على قدم الأجسام. وهذا الوجه هو طريقة أصحاب أرسطاطاليس ، وهو ضعيف من وجهين :

الأول : إنا بينا بالبراهين [القاهرة (٥)] القاطعة : أن المدة [والزمان (٦)] لا يمكن أن يقال : بأنه مقدار الحركة ولاحق من لواحقها ، ولما فسدت هذه المقدمة بطل هذا الكلام بالكلية.

الثاني : هب (٧) أنا سلمنا أن الزمان مقدار الحركة ، لكن الحركة عبارة عن التغير من صفة إلى صفة ، سواء أن ذلك تغيرا من أين ، إلى أين. أو من كيف إلى كيف. وإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إنه حصل موجود مجرد عن العلائق الجسمانية ، وحصلت في ذاته صفات متغيرة ، أو تعقلات منتقلة أبدا من حال إلى حال ، ويكون الزمان عبارة عن مقدار الحركة الواقعة في تلك الصفات الروحانية. وعلى هذا التقدير فإنه لا يلزم من قدم المدة والزمان ، قدم الجسم وقدم الحركة في الأين وفي الوضع.

__________________

(١) يكون ذلك الشيء مقرنا (م ، ت).

(٢) من (س).

(٣) من (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (ط).

(٦) سقط (ط).

(٧) من (ط).

الفصل الحادي عشر

في

تفسير الألفاظ المذكورة في هذا الباب

وهي : المدة ، والزمان ، والوقت ، والسرمد ، والازل

والأبد ، والنهار ، والليل ، واليوم ، والساعة ، والحين ، والأجل ،

اعلم. أن إيضاح الفرق بين مفهومات هذه الألفاظ مبني على مباحث دقيقة غامضة في المعقولات.

فاللفظ الأول :

المدة : وقد ذكرنا أنها في ذاتها وفي جوهرها موجود باقي دائم مستمر ، إلا أن شعور العقل بها إنما يحصل بسبب توالي الآنات الحاضرة ، وتعاقبها. فهذا التعاقب والتوالي يشبه كأن بعضها مدد للبعض في الوجود ، أو يقال كأن الزمان يمتد بسبب تعاقبها وتواليها. فلهذا السبب سميت بالمدة.

واللفظ الثاني :

الزمان : واعلم أنا بينا أن الزمان موجود غني في ذاته وفي وجوده عن الحركة ، بل هو حاصل ، سواء حصلت الحركة أم لا ، على هذا التقدير نقول : إنه لا تأثير للحركة في وجود المدة والزمان. إنما تأثير الحركة في تقديرها وتحديدها ، كما أن البنكانات وسائر الآلات ، قد تقدر مدة اليوم بالأجزاء والأبعاض ، ثم إن البنكان لا تأثير له في تكوين اليوم وإيجاده ، وإنما تأثيره في تقدير أجزائه وأبعاضه. فكذلك هاهنا حركة الفلك لا تأثير لها في إيجاد المدة وإنما

تأثيرها في تقدير المدة ، وإنما تقدرت المدة بالحركة الفلكية لا بسائر الحركات ، لأنها أسرع الحركات وأبعدها عن الاختلافات ، فلا جرم جعلت هذه الحركة مقدرة للمدة. إذا عرفت هذا فنقول : يتفرع على ما ذكرناه فرعان :

الأول : إن الزمان والحركة يقدر كل واحد منهما بالآخر ، لكن لا من وجه آخر بل [بحسب وجهين (١)] مختلفين : وذلك لأن الزمان ظرف ، والحركة مظروف ، ويجوز تقدر كل واحد منهما بالآخر ، فتارة يقال : هذا المكيل خمسة أمناء ، وذلك إذا عرفت أولا : أن ذلك الكيل لا يحتمل إلا خمسة أمناء ، وأخرى يقال : هذا الكيل لا يحتمل إلا خمسة أمناء ، إذا عرفت أن هذا المكيل خمسة أمناء ، فكذا هاهنا. تارة يقال : هذا الزمان زمان غلوة ، وذلك إذا كان قدر الزمان مجهولا وكان قدر الحركة معلوما [وتارة يقال مسيرة ساعة ، وذلك إذا كان الزمان معلوما ، وكان قدر الحركة مجهولا] (٢).

الفرع الثاني : من الناس من جعل المدة (٣) اسما لجوهر هذا الموجود ، وأما الزمان فإنه جعله اسما للمدة المتقدرة بالحركة ، والذي حمله على هذا القول ما ورد في كلام المتقدمين أن المدة والدهر لا أول له ، ثم قالوا : الزمان محدث. فلما أراد هذا القائل إزالة التناقض قال المدة والدهر (٤) اسمان لذات هذا الشيء (٥) وجوهره ، وهي قديمة. وأما الزمان فهو اسم للمدة حال كونها متقدرة بالحركة ، ولما كانت الحركة حادثة كان كون المدة متقدرة بها حادثا ، فحينئذ صح قولهم : الزمان محدث وله أول.

واللفظ الثالث :

الوقت : وهو الجزء المفرد الذي عرف امتيازه عن غيره بسبب حدوث حادث ، معين معلوم الوقوع. كقولك : آتيك وقت طلوع هلال شوال. فالمدة

__________________

(١) باعتبار (م ، ت).

(٢) باعتبار (م ، ت).

(٣) من (س).

(٤) جعل اسم المدة (ت).

(٥) هذا الجوهر بجوهره (س).

اسم لذات هذا الشيء ، والزمان [اسم له (١)] بشرط صيرورته مقدرا بالحركة ، والوقت [اسم له (٢)] بشرط أن يصير جزء معين فيه (٣) معرّفا لحدوث حادث معلوم الوقوع.

اللفظ الرابع :

النهار : وهو مدة طلوع الشمس. والليل فهو مدة غروبها. ولما ثبت أن الشمس طالعة أبدا على أحد نصفي الأرض ، وغاربة عن النصف الثاني منها أبدا ، إلا أن أحوال طلوعها وغروبها بالنسبة إلى نصفي الأرض مختلفة ، بسبب كون الأرض كرة. لا جرم كان نهار كل موضع من الأرض غير نهار الموضع الآخر ، وليل كل موضع ، غير ليل الموضع الآخر.

اللفظ الخامس :

الدهر والسرمد : فهما اسمان لجوهر هذا الشيء حال كونه خاليا عن مقارنة الحادثات والتغيرات. فصار المفهوم منها كالمضاد للمفهوم من الزمان.

واللفظ السادس :

الأزل : وهو الدهر المتقدم ، الذي لا أول له. وأما الأبد فهو الدهر المتأخر الذي لا آخر له. وهاهنا بحث وهو أن مسمى الأزل هل له تحقق ووجود أم لا؟ أما الأول : فهو باطل (٤) لأن كل وقت يكون موجودا في نفسه فله تعين ، وامتياز عما عداه ، وكل ما كان كذلك فهو متأخر عما قبله ، ومتقدم على ما بعده ، وكل ما كان كذلك فهو ضد الأزل ، ولا يصدق عليه كونه أزليا. وأما الثاني فهو أيضا مشكل (٥). لأن مسمى الأزل ، إذا لم يكن له في

__________________

(١) لهذه الذات م ، ت).

(٢) اسم له (ط).

(٣) جزء منها (م).

(٤) مشكل (م ، ت).

(٥) باطل (ط) مشكل (ت).

نفسه تحقق (١) فذلك محال. لأنه لا بد من الاعتراف بتحقق اللاأولية ، إما في وجود العالم أو في عدمه.

واعلم أن الحق أنه لا بد من الاعتراف بتحقق اللاأولية إما في الوجود (٢) أو في عدمها. إلا أن الحق أن تصوره من حيث إنه هو ، أعلى شأنا من العقول البشرية ، والأفكار الإنسانية (٣).

ولنختم هذا الفصل بذكر تمثيلات ذكرها الناس لتقريب ماهية المدة والزمان من الأفهام. وهي أربعة :

فالأول : قالوا : النقطة إذا امتدت ، فعلت بحركتها الخط ، وكذلك الآنات التي لا تنقسم إذا امتدت وسالت ، فعلت بامتدادها وسيلانها : الزمان. وهذا التشبيه فيه بعض الصعوبة ، لأن حركة النقطة على السطح أمر مشاهد. وأما حركة الآن فغير معقولة. لأن الآن ليس موجودا مشارا إليه بحسب الحس ، بل هو أمر معقول. فكيف يعقل كونه متحركا؟ وبتقدير أن يتحرك ، فعلى أي شيء يتحرك؟ أعلى [جرم من أجرام (٤)] الأفلاك أم على العناصر؟ فهذا أمر [غير (٥)] معلوم التصور.

واعلم أن هذا الكلام لا يليق بقول أصحاب أرسطاطاليس ، لأن ذلك يقتضي حصول الزمان من الآنات المتتالية وهم لا يقبلون به (٦). وأيضا فيرجع البحث الأول وهو أن الآن كيف تحرك مع أنه ليس من الموجودات ذوات الوضع والإشارة؟ وعلى أي شيء؟ أعلى الأفلاك أم على العناصر؟

الوجه الثالث : شبهوا ذلك بخيط ألقي على طرف حد السيف ، ثم جر

__________________

(١) إذا لم يكن له في نفسه تحقق لمسمى نفى الأولية تحقق في نفسه وذلك محال (س ، ط).

(٢) وجود الأشياء أو في عدمها (ت ، م).

(٣) سقط (ط ، س).

(٤) الآن (م ، س).

(٥) سقط (م).

(٦) لا يقبلون هذا القول (م).

[فإنه يلاقي (١)] ذلك الخيط حد السيف [جزءا فجزءا (٢)] ثم يحصل منه أمر ممتد مستمر [على ذلك التجدد الدائم (٣)].

الوجه الرابع في التمثيل : شبهوه بالماء السيال الذي يتوالى جزءا فجزءا ، على طرف الأنبوبة.

فهذا مبلغ ما حصلناه من علم المدة والزمان. والله ولي الإحسان [والغفران (٤)].

__________________

(١) فههنا لا يلاقي (م).

(٢) إلا بجزء واحد لا يتجزأ (م).

(٣) سقط (ط ، س).

(٤) من (ط ، س).

المقالة الثانية

في

تحقيق القول في المكان

الفصل الأول

في

تفصيل مذاهب الناس فيه

اعلم أنا نشاهد أن الجسم ينتقل ويتحرك ، ونعلم بالبديهة أنه ينتقل من جهة إلى جهة ، ومن جانب إلى جانب. والناس يسمون المنتقل عنه والمنتقل إليه تارة بالحيز ، وتارة بالجهة ، وتارة بالمحاذاة (١) وتارة بالجنب ، وتارة بالجانب ، وتارة بالمكان ، وتارة بأسماء أخرى، لا حاجة لنا إلى الاستقصاء في ذكرها. وبالجملة فمكان الشيء هو الذي يكون فيه الشيء ، ويفارقه بالحركة ولا يسعه معه غيره وتتوارد المتحركات عليه على سبيل البدل. فهذا القدر أمر معلوم بالضرورة. ثم نقول : إن هذا الشيء إما أن يكون أمرا ينفذ فيه ذات الجسم ويسري فيه ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون هو السطح الباطن من الجسم الحاوي ، المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي ، والأول : هو القول بأن المكان هو البعد ، والفضاء ، وهو مذهب أفلاطون وأكثر العقلاء. والثاني : هو القول بأن المكان هو السطح الحاوي. فالمذهب المحصل المعقول في المكان والحيز ليس إلا هذان القولان.

إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بأن المكان هو البعد والفضاء. تارة يسمونه بالهيولى ، وتارة يسمونه بالصورة. وإنما سموه بالهيولى من حيث إن خاصية الهيولى أن تكون ذاته باقية ، وتكون ذاتها موردا للأحوال المتعاقبة ،

__________________

(١) بالمحاذاة وتارة بالجنب وتارة بالجانب (م) وتارة بالجنب : سقط (ط).

والصفات المتلاحقة. وهاهنا هذا الفضاء أمر واقف لا يتغير ولا يتبدل البتة. ثم إنه تتوارد عليه الأجسام ، وهذا الفضاء يقبلها ، فكأن هذا الفضاء مشابها للهيولى من هذا الوجه ، فلا جرم سموا هذا الفضاء بالهيولى بحسب هذا التأويل. وإنما سموه بالصورة ، وذلك لأن الجوهر الجسماني إنما امتاز عن الجواهر المجردة العقلية لأجل كونه قابلا لهذه الأبعاد الثلاثة ، فهذه الأبعاد [الثلاثة (١)] هي كالجزء الصوري لماهية الجسم. فلما كان هذا الفضاء عبارة عن هذه الأبعاد المجردة الواقعة سموه بالصورة. بحسب هذا التأويل. فهذا هو التفسير الصحيح لما نقل عن أفلاطون ، أنه كان تارة يقول : المكان هو الهيولى ، وتارة كان يقول : المكان هو الصورة.

ثم إن جماعة ممن أرادوا تقبيح قوله في أعين الناس ، نقلوا عنه : أنه يقول : المكان عبارة عن الهيولى أو عن الصورة ، ثم أخذوا يحتجون على إبطاله بأن الجسم إذا انتقل من مكان إلى مكان ، فهو إنما انتقل بمجموع أجزائه التي هي الهيولى والصورة ، فكيف يمكن [أن يقال (٢)] المكان هو الهيولى والصورة؟ إلا أنه على الوجه الذي لخصناه ، ظهر أنه إنما أطلق اسم الهيولى تارة ، واسم الصورة أخرى على المكان. بناء على التأويل الذي شرحناه ، والتفسير الذي لخصناه [فأما إجراء الكلام الذي قصد به الرمز على ظاهره ، ثم الاشتغال بالطعن فيه ، فذلك مما لا يليق بالعقلاء الكاملين] (٣) وبالجملة : فقد ظهر بالبيان الذي لخصناه : أن القول المعتبر في حقيقة المكان هو أنه إما الفضاء ، وإما السطح.

أما القائلون بأن المكان هو الفضاء [والخلاء (٤)] فهم فرقان : أحدهما

__________________

(١) من (س).

(٢) مع ذلك أن يكون (م).

(٣) فأما الكلام الذي قصد به الرمز والألغاز إذا أجرى على ظاهرة ، ثم اشتغل بنقضه وإبطاله كان ذلك بعيدا عن انصاف المنصفين ، وتحقيق المحققين (ط ، س).

(٤) سقط (ط ، س).

المتكلمون. فإنهم يقولون : هذا الفضاء وهذا الخلاء محض ونفي صرف. وليس [له وجود (١)] البتة.

والفرقة الثانية : الفلاسفة. وهم يقولون : هذا الخلاء أبعاد موجودة قائمة بأنفسها ، وهي أمكنة للأجسام. وهذا القول هو اختيار أفلاطون [الإلهي (٢)] وأكثر من تقدمه من الحكماء المعتبرين. وهؤلاء فريقان : منهم من يقول : لا امتناع في بقاء هذا الفضاء خاليا عن الأجسام. ومنهم من يقول : إن ذلك ممتنع. وأما القائلون بأن المكان هو السطح الحاوي فقط. فهذا قول أرسطاطاليس وجمهور أتباعه كأبي نصر الفارابي ، وأبي علي بن سينا.

فهذا تفصيل المذاهب في هذا الباب.

__________________

(١) من الموجودات (م).

(٢) من (م).

الفصل الثاني

في

ابطال قول من يقول :

الخلاء والفضاء عدم محض ونفي صرف

اعلم أنا ندعي أن هذا الخلاء لو حصل لكان موجودا ، له مقدار وامتداد في الجهات، ولم يكن عدما محضا ، ونفيا صرفا. كما يقوله المتكلمون.

والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنا نعلم بالبديهة أن الخلاء الذي يكون بمقدار ذراع ، نصف الخلاء الذي يكون بمقدار ذراعين ، وثلث ما يكون بمقدار ثلاثة [أذرع ، وربع ما يكون بمقدار أربعة أذرع (١)] وكل ما يكون له نصف وثلث وربع يكون ممسوحا مقدرا ، فإنه لا يكون نفيا محضا وعدما صرفا. فإن من المعلوم بالضرورة أن العدم المحض لا يكون له نصف وثلث وربع ولا يكون موصوفا بالأقل والأكثر والزائد والناقص ، والمساحة والتقدير.

والثاني : إن الفضاء يمكن أن يشار إليه بالحس. فيقال : الخلاء من هاهنا الى هناك طوله كذا وكذا ، وما كان متعلق الإشارة الحسية يمتنع أن يكون نفيا محضا ، وعدما صرفا. وأيضا : فقولنا : من هاهنا إلى هناك إشارة إلى المقدار والطول. وهذا حكم عليه بكونه في نفسه موجودا له مقدار وامتداد.

الثالث : إن هذا الفضاء ، وهذا الخلاء ، يحكم عليه بأن الجسم حصل

__________________

(١) من (س).

فيه. ثم [يقال (١)] : خرج [ذلك الجسم (٢)] عنه. وانتقل إلى خلاء آخر (٣). والمحكوم عليه بأنه خلاء للجسم ومفر له ، وبأن الجسم قد حصل فيه تارة ، وانتقل عنه أخرى. كيف يكون عدما محضا ونفيا صرفا؟ فإن حصول الجسم في العدم المحض غير معقول ، وانتقاله من عدم إلى عدم آخر غير معقول.

الرابع : إنا إذا قلنا : الخلاء الذي من هاهنا إلى هناك. فقولنا : هنا وهناك ، فصل مشترك بينه وبين الخلاء الذي يكون خارجا عنه ، كما أنا إذا قلنا : هذا السطح من هاهنا إلى هناك. فإن قولنا : هاهنا وهناك ، إشارة إلى الفصل المشترك الذي بين هذا السطح ، وبين ذلك السطح الخارج عنه ، المتصل به ، وكما أن إيقاع الفعل المشترك في السطح يدل قطعا على كون ذلك السطح أمرا موجودا ، فكذلك إيقاع الفصل المشترك في الخلاء ، وجب أن يدل قطعا على كون ذلك الخلاء : موجودا له مقدار وامتداد في الجهات.

الخامس : إن المتكلمين يحكمون عليها بأنها أمور متغايرة بالعدد ، ومتباينة بالشخص. فإنهم يقولون : الحركة عبارة عن خروج الجسم من الحيز الأول ، ودخوله في الحيز الثاني [وزعموا أنه ليس بين الحيز الأول وبين الحيز الثاني (٤)] واسطة أصلا ، وأنه حصل بين الحيز الأول وبين الحيز الثالث واسطة. فحكموا على بعض هذه الأحياز بأنها متصلة وعلى بعضها بأنها منفصلة ، وعلى بعضها بأنها متقاربة ، وعلى بعضها بأنها متباعدة ، فإن البعد بين الحيز المعين وبين الحيز الخامس منه. أقل من البعد [بين الحيز المعين (٥)] وبين الحيز العاشر منه. وما كان عدما محضا فكيف يعقل وصفه بهذه الأحوال؟.

السادس : إن هذه الأحوال موصوفة بالصفات المختلفة. فإن بعضها فوق ، وبعضها تحت ، وبعضها يمين ، وبعضها يسار ، وكون الشيء فوق

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (س).

(٣) مكان (م).

(٤) من (س ، ط).

(٥) بينه (س).

وتحت ليس عدما محضا ، لأنه ليس جعل الفوقية عبارة عن عدم التحتية ، أولى من العكس. فإن جعلنا كل واحد منهما عدما للآخر ، مع أن كل واحد منهما في نفسه عدم ، كان كل واحد منهما عدما للعدم ، فيكون كل واحد منهما أمرا موجودا [وإن جعلنا كل واحد منهما وصفا موجودا (١)] فحينئذ يلزم أن تكون هذه الأحياز الموصوفة بهذه الصفات الموجودة [موجودة (٢)] لامتناع قيام الصفة الموجودة بالنفي المحض والعدم الصرف. فهذه الدلائل وأمثالها دلائل ظاهرة جلية في إثبات أن هذه الأحياز لا بد وأن تكون موجودة.

وأجاب المتكلمون فقالوا : هذه الأحياز أمور يفرضها الذهن ، ويقدرها العقل ، ويحكم بكون الأجسام حاصلة فيها [ونافذة فيها (٣)] وأما في [الوجود الخارجي (٤)] فلا وجود لها البتة. والذي يدل على أنه لا وجود لها البتة : أنها لو كانت موجودة ، لكانت إما أن يكون وجودها وجودا مشارا إليه [أو غير مشار إليه (٥)] والقسمان باطلان فبطل القول بكونها موجودة.

إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون موجودا مشارا إليه. لأن كل ما كان موجودا مشارا إليه ، فإما أن يكون كذلك بالاستقلال أو بالتبعية. فإن كان [موجودا مشارا إليه بالاستقلال فذلك (٦)] هو الجسم ، فحينئذ (٧) يكون الشيء المسمى بالحيز جسما. لكن كل جسم فهو محتاج إلى حيز آخر ، فيلزم افتقار كل جسم إلى جسم آخر ، لا إلى نهاية ، وهو محال. وأيضا : فهذا الجسم الذي سميناه بالحيز ، إذا حصل فيه جسم آخر ، فهذا الحصول إما أن يكون مفسرا بأن أحد الجسمين يماس (٨) الآخر ، أو يكون مفسرا بأنه ينفذ فيه ويسري فيه.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٤) الخارج (س).

(٥) سقط (م).

(٦) الأول (س ، ط).

(٧) فحينئذ يلزم أن يكون هذا الحيز جسما لكن كل جسم فهو محتاج ... الخ (ت).

(٨) يباين (س).

فإن كان الأول فحينئذ يصير معنى الحيز والمكان [والجهة (١)] هو السطح الحاوي ، وهذا رجوع إلى قول [أرسطاطاليس (٢)] واعتراف بأن المكان ليس عبارة عن الفضاء والخلاء. وإن كان الثاني : فحينئذ يلزم نفوذ أحد الجسمين في الآخر ، لكن القول بتداخل الأجسام باطل ، فكان هذا القول باطلا.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : هذا الحيز موجود ، مشار إليه بتبعية الغير. فنقول: لا معنى للعرض إلا ذلك. فلو كان المكان عبارة عنه ، لزم كون المكان عرضا حالا في الجسم. لكن المتمكن حال في المكان ، فيلزم أن يكون ذلك الجوهر وذلك العرض ، يكون كل واحد منهما حالا في الآخر [ومحلا له (٣)] وذلك محال.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : المكان موجود غير مشار إليه بحسب الحس. فهذا أيضا باطل. لأنا نشير بالحس إلى أن هذا الجسم انتقل من هذا الحيز [إلى الحيز (٤)] الثاني. وذلك يقتضي كون الحيز المنتقل عنه ، والحيز المنتقل إليه أمرا مشارا إليه بالحس ، وذلك يقتضي أن يكون القول بأن المكان موجود ، غير مشار إليه بحسب الحس باطلا. فيثبت بما ذكرنا : أن هذا المكان لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون موجودا مشارا إليه بحسب الحس ، وإما أن لا يكون كذلك. وثبت فساد كل واحد من القسمين ، فيلزم القطع بأن المكان [والحيز (٥)] ليس شيئا موجودا في نفسه ، بل أمر يفرضه ويقدره الوهم ، وأن المشار إليه بحسب الحس ليس إلا الجسم. وإذا كان جسم يماس (٦) جسما ، ثم انتقل عنه ، وصار يماس جسما آخر ، فهذا هو المشار إليه بحسب الحس ، وليس هاهنا شيء آخر سواه.

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) من (ط ، س).

(٦) يباين (م).

قالت الحكماء : أما قولكم : إن هذه الأحياز أمور يفرضها العقل (١) ويقدرها الوهم ويحكم بكون الأجسام حاصلة فيها. مع أنه لا وجود لها في نفس الأمر. فهذا الكلام مدفوع في بديهة العقل. وذلك لأن حكم الذهن والعقل بأن هذه الأجسام حاصلة في هذه الأحياز. إما أن يكون حكما مطابقا للوجود الخارجي ، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الأول كان الجسم في نفسه حاصلا في الحيز ، إلا أن كون الحيز ظرفا للجسم يعتمد (٢) كون الحيز في نفسه أمرا موجودا. لأن العدم المحض يمتنع كونه ظرفا للجسم ، ويمتنع كونه مشارا إليه بحسب الحس ، ويمتنع وصفه بالصغر والكبر ، والطول والقصر ، والقرب والبعد ، والاتصال والانفصال. وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون الحيز في نفسه أمرا موجودا [وأما (٣)] إن كان هذا الحكم الذهني غير مطابق للأمر الخارجي في نفسه ، فحينئذ يكون هذا الحكم حكما كاذبا وفرضا باطلا ، وجاريا مجرى ما إذا فرضنا أن هذا الجدار ياقوت ، مع أنه ليس في نفسه كذلك. ومعلوم أن هذا باطل. لأن الجسم في نفسه موصوف بأنه متحرك ، وبأنه ساكن. ولا معنى لكونه متحركا إلا أنه انتقل من حيز إلى حيز ، ومن جهة إلى جهة. ولا معنى لكونه ساكنا إلا أنه استقر في حيز [واحد (٤)] زمانا طويلا. فيثبت : أن قول المتكلمين : إن هذه الأحياز الفارغة أمور لا حصول لها إلا بحسب الوهم والفرض والخيال : كلام باطل.

وأما التقسيم الذي ذكروه من أنه لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون موجودا مشارا إليه بحسب الحس ، أو لا يكون [كذلك (٥)] فنقول : إنه عندنا موجود مشار إليه بحسب الحس. وإنه بعد قائم بنفسه ، مستقل بذاته. والأجسام إذا حصلت فيها نفدت أبعاد المتمكن في هذه الأبعاد المسماة بأنها هي الأمكنة والأحياز. فقولهم : إن نفود البعد في البعد محال. فهذا محض الدعوى. وسنتكلم في هذه المسألة بالاستقصاء إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) الوهم ويقدرها العقل (ت ، م).

(٤) من (ط ، س).

(٢) يعقد (م) يعقل (ت).

(٥) من (ط ، س).

(٣) من (س).

الفصل الثالث

في

أن المكان هل يعقل أن يكون

في أن المكان هل يعقل أن يكون بعدا قائما بنفسه أم لا؟

احتج (١) «أرسطاطاليس» وأتباعه على فساد هذا المذهب بوجوه ونحن نذكرها ، ونبحث فيها على سبيل الإنصاف :

فالحجة الأولى : أنهم قالوا : إن كان المكان بعدا ، لزم من حصول المتمكن في المكان، تداخل البعدين ، ولكن تداخل البعدين محال ، فالقول بأن المكان هو البعد يجب أن يكون محالا. أما بيان الشرطية : فهو أن المتمكن إذا حصل في المكان ، ففي هذه الحالة إما أن يبقى البعدان معا ، أو يعدما معا ، أو يبقى أحدهما ، ويعدم الآخر.

أما القسم الثاني : وهو أنهما يعدمان معا ، فهذا باطل. وإلا لزم أن يكون المتمكن المعدوم حاصلا في المكان المعدوم (٢) وأنه محال.

وأما القسم الثالث : فهو أيضا باطل ، وإلا لزم أن يكون المتمكن المعدوم ، حاصلا في مكان موجود أو بالعكس. وذلك أيضا باطل [ولم بطل (٣)] هذان القسمان ، بقي القسم الأول وهو أن يكون كل واحد منهما

__________________

(١) هل يعقل أن يكون أبعادا مستقلة بأنفسها ... الخ (م ، ت).

(٢) مكان معدوم (م).

(٣) سقط (م).

موجودا. ثم نقول : إما أن يقال : إنهما في هذه الحالة صارا متحدين ، أو ليس الأمر كذلك. والأول باطل ، لأنهما حال الاتحاد ، إن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد. وإن عدما وحدث شيء ثالث ، فلم يكن هذا اتحادا ، بل عدما للأولين ، وحدوثا للثالث. وإن بقي أحدهما وعدم الثاني ، فالاتحاد هاهنا أيضا محال. لأن المعدوم والموجود لا يكونان شيئا واحدا. ولما بطل القول بالاتحاد ، ثبت أن كل واحد من ذينك البعدين ، أعني بعد المتمكن وبعد المكان ، يكون باقيا حال ذلك النفود. فصح ما ذكرنا : أنه لو كان المكان بعدا ، لزم من حصول المتمكن في المكان تداخل البعدين.

وأما بيان المقام الثاني وهو أن القول بتداخل البعدين محال. فقد احتجوا عليه بوجوه خمسة :

الوجه الأول : قالوا : إذا كان البعدان موجودين فهما أزيد من البعد الواحد ، وكل ما هو أزيد من الواحد ، فهو أعظم ، فذلك المجموع أعظم من الواحد ، فيلزم أن يكون مجموع البعدين [المتداخلين أعظم من الواحد ، لكن ليس الأمر كذلك ، لأن مجموع هذين البعدين (١)] ليس إلا الذي بين النهايات ، وذلك هو بعينه قدر كل واحد منهما ، فليس المجموع أعظم من الواحد. هذا خلف.

ولقائل أن يقول : هل تزعمون أن القول بتداخل البعدين معلوم الامتناع بالبديهة ، أو تزعمون أنه لا يعلم امتناع ذلك إلا بالدليل؟ فإن كان الحق هو الأول ، فاتركوا ذكر هذه الدلائل ، واقتصروا على ادعاء البديهة ويرجع حاصل هذا الكلام إلى ادعاء أن مذهب القائلين بأن المكان هو البعد ، مذهب معلوم البطلان ببديهة العقل ، ومعلوم أن ذلك باطل. لأن المعلومات البديهية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء. وأيضا : فالقائلون بالبعد ، يقولون : مذهبنا معلوم الصحة ببديهة العقل ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن بين طرفي الطاس

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

فضاء ممتدا ، وأن الماء حيث حصل في داخل الطاس ، فإنما حصل واستقر في ذلك الفضاء. قالوا : ومن نازع في ذلك ، فقد نازع في أجلى العلوم الضرورية. إذا عرفت هذا فنقول : فحينئذ دعواكم في حصول العلم الضروري بفساد (١) هذا المذهب يصير معارضا لدعواكم في حصول العلم الضروري بصحة (٢) هذا المذهب ، وإذا تعارضا تساقطا ، فحينئذ يجب ترك دعوى الضروري ، ويجب الرجوع فيه إلى الاستدلال. وإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن القول بتداخل البعدين لا يعلم امتناعه إلا بالدليل. فنقول : فعلى هذا التقدير تصير الحجة التي ذكرتموها ساقطة ضعيفة. وذلك لأن قولكم : البعدان المتداخلان ، لا بد وأن يكونا أزيد من البعد الواحد. إن عنيتم به : أنه لا بد وأن يكونا أزيد من الواحد في العدد. فهذا مسلم. وكيف لا نقول ذلك ، وعندنا : أن البعدين المتداخلين بعدان؟ ومن المعلوم بالضرورة : أن البعدين أزيد من البعد الواحد في العدد. وإن عنيتم به : أنه لا بد وأن يكون المجموع أزيد من الواحد في المقدار. فهذا غير مسلم ، لأن الزيادة في المقدار إنما تحصل عند عدم المداخلة بالكلية ، لأن المعقول من التداخل هو أن تصير ذات كل واحدة منهما سارية في ذات الأخرى [سريانا (٣)] بالتمام ، بحيث [تكون (٤)] الإشارة إلى كل واحدة منهما عين الإشارة إلى الأخرى. وحصول هذا المعنى يمنع من حصول الزيادة في المقدار. فيثبت أن قولهم: البعدان المتداخلان لا بد وأن يكونا أزيد من البعد الواحد في المقدار ، مما لا يمكن إثباته ، إلا بعد بيان أن تداخل البعدين ممتنع. فلو بينا امتناع تداخل البعدين ، بقولهم : المتداخلان لا بد وأن يكونا أزيد من البعد الواحد في المقدار ، لزم الدور. وأنه باطل قطعا (٥).

السؤال الثاني : وهو أن مثل هذا الإشكال لازم على أصحاب

__________________

(١) بصحة (م).

(٢) بفساد (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (س).

(٥) ساقط (م).

أرسطاطاليس ، فإنهم قالوا : «المتماسان [هما اللذان (١)] طرفاهما معا في الوضع» أي في الإشارة الحسية.

قال الشيخ في الشفاء : «المتماسان هما اللذان تقع الإشارة الحسية على طرفيهما معا» فأقول : لنفرض سطحا ماسّ سطحا ، فههنا يلزم أن يكونا طرفاهما (٢) معا ، يعني : الخطان اللذان هما نهايتهما يكونان معا في الوضع. فنقول : هذان الخطان إما أن يكونا باقيين حال حصول هذه المماسة أو لا يكونان باقيين. فإن لم يبقيا بل حدث خط واحد يكون هو بعينه مشتركا فيه بين ذينك السطحين. فهذا يكون اتصالا لا مماسة. وقد فرضنا أن الحاصل هو المماسة لا الاتصال. وأيضا فقول الشيخ : «المتماسان هما اللذان طرفاهما معا في الوضع» يقتضي أن يكون طرفاهما باقيين [حال التماس (٣)] وذلك يمنع من القول بأنهما عدما وحصل طرف واحد مشترك فيه بين السطحين.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الطرفان باقيان. فإما أن يقال : نفد أحدهما بالكلية في الآخر أو لم ينفد. فإن لم ينفد أحدهما في الآخر كان أحدهما مباينا عن الآخر. فيلزم أن لا تكون (٤) الإشارة إلى أحدهما ، عين الإشارة إلى الآخر ، مع أنّا قد فرضناهما متماسين. هذا خلف. وأما إن قلنا : إن أحد هذين الخطين قد نفد بكليته في كلية الخط الآخر. فإما أن يكون مقدار هذا المجموع أزيد من مقدار الواحد أو لا يكون. فإن كان الأول فحينئذ لا تكون كلية أحد هذين الخطين نافدة في كلية الخط الآخر ، وقد فرضنا الأمر كذلك. وهذا خلف.

وإن كان الثاني فقد حصل هاهنا مقداران ونفد أحدهما في كلية الآخر. مع أنه لم يصر مقدار المجموع أزيد من مقدار الواحد ، وإذا عقلنا ذلك في هذه الصورة ، فلم لا يجوز مثله في بعد المتمكن وبعد المكان؟ وهذا سؤال قوي على

__________________

(١) سقط (س).

(٢) طرفاهما ، وهما الخطان (م).

(٣) من (ط ، س).

(٤) فلا تكون (م).

قانون قولهم. ولهم عنه عذر سيأتي ذكره بعد ذلك مع الجواب. إن شاء الله تعالى.

الوجه الثاني من الوجوه التي استدلوا بها على أنه يمتنع تداخل البعدين : قالوا : المشاهدة دلت على أن هذه الأجسام المحسوسة متمانعة من التداخل ، فهذا الامتناع إما أن يكون لأجل المادة أو لأجل البعد ، أو لأجل المركب. والقسم الأول وهو أن يكون هذا الامتناع بسبب المادة. هو باطل لوجهين :

الأول : إن معنى قولنا : الجسمان يمتنعان من التداخل ، هو أنه يجب أن يكون كل واحد منهما متفردا (١) بحيز آخر. وهذا المعنى إنما يعقل فيما يكون لذاته المخصوصة يقتضي الاختصاص بحيز معين وجهة معينة. والمادة من حيث هي هي ليس لها امتداد ولا وضع ولا حيز ، وإلا لكانت مادة الجسم [نفس الجسم (٢)] وهو محال. وإذا لم يكن للمادة حيز البتة ، امتنع كونها علة. لوجوب أن يكون حيزها [غير حيزها (٣)] وإذا ثبت هذا ، ظهر أن علة امتناع التداخل ليست هي المادة ، وظهر بهذا أن علة امتناع التداخل ليست إلا الحجمية والمقدار. فإنها هي التي يكون لها اختصاص بالوضع والحيز.

الوجه الثاني : إنا إذا أخذنا جسما يكون هو في نفسه متصلا واحدا مثل الماء الواحد فهو لا محالة ذو مادة بالفعل ، فإذا انفصل ذلك الجسم فإنه يحصل لكل واحد من ذينك القسمين مادة على حدة ، ثم إذا اتصلا مرة أخرى فإنه لا بد وأن تصير المادتان واحدة. إذ لو بقيت مادة كل واحد منهما ممتازة عن مادة القسم الآخر ، لكانت الصورة الحالة في إحدى المادتين ، مغايرة بالفعل للصورة الحالة في المادة الأخرى. وعلى هذا التقدير يكون كل واحد من القسمين ممتازا عن الآخر امتيازا بالفعل. وذلك يمتنع من القول بأنهما بعد الاتصال صارا شيئا واحدا. مع أنا قد فرضنا أن الأمر [صار (٤)] كذلك. وإذا ثبت هذا ،

__________________

(١) مفردا لحيز (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) من (س ، ط).

(٤) سقط (ط) ، (س).

فنقول : إن قولنا : إن ذينك الجسمين صارا جسما واحدا ، إنما يصح القول به إذا اعتقدنا أن مادة كل جسم (١) صارت ملاقية بالأثير (٢) لمادة الجسم الآخر ، وزال التباين بينهما. وذلك يدل على أن المادة ليست علة لامتناع التلاقي بالأثير. وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : المقتضي لامتناع التداخل هو البعد مع المادة. فهذا أيضا باطل. لأنا بينا أنه لا [يجوز أن (٣)] يكون للمادة أثر في هذا الباب.

ولما بطل هذا ثبت أن المقتضى لهذا الامتناع ليس إلا طبيعة البعد. وذلك يوجب القول بأن الأبعاد متمانعة من التداخل لمجرد أنها أبعاد. وذلك هو المطلوب.

ولقائل أن يقول : هذه الحجة أيضا ضعيفة من وجهين :

الأول : إنكم إنما علمتم امتناع التداخل في هذه الأجسام الكثيفة. فنقول : الأجسام بأسرها متساوية في طبيعة البعد والامتداد ، ومتباينة في الرقة والكثافة. وما به المشاركة غير ما به المباينة. فكثافتها أمر زائد على طبيعة البعد والمقدار. إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : المانع من المداخلة ومن النقود ومن التلاقي بالأثير ، هو كونها كثيفة. وإذا كان كذلك، فالبعد المسمى بالفضاء المحض ليس فيه شيء من الكثافة أصلا ، فلا جرم لم يكن النفوذ فيه ممتنعا؟

وحاصل الكلام : بأن التقسيم الذي ذكرتم. وهو أن المانع من المداخلة. إما المادة أو البعد أو مجموعها : تقسيم منتشر غير منحصر في النفي والإثبات. فلم يلزم من بطلان بعضها أن يكون الباقي صحيحا ، بل لعل الصحيح قسم ثالث غير ما ذكروه وهو الكثافة التي ذكرناها؟ ثم نقول : الذي يدل على أن تعليل هذا الامتناع بالكثافة غير مستبعد. هو أنا نشاهد أن الجسم

__________________

(١) جسم (م).

(٢) بالأسر (م) ويمكن نطقها الأثير في (س).

(٣) سقط (ط).

كلما كان أكثف ، كان أقوى وأكمل في ممانعة النافد ، فيغلب على الظن أن المانع من النفود هو الكثافة. فالفضاء المجرد لما يحصل فيه شيء من الكثافة أصلا. وجب أن لا يمنع من المداخلة والنفود البتة.

والثاني : إنا بينا أن السطحين إذا تماسا ، فطرف كل واحد منهما صار بكليته نافدا في طرف الآخر. ولو كانت طبيعة البعد مانعة من النفود والتداخل لما كان الأمر كذلك. [والله أعلم (١)].

الوجه الثالث من الوجوه التي استدلوا بها على امتناع تداخل الأبعاد أن قالوا : إذا نفد [بعد (٢)] المتمكن في [بعد (٣)] الفضاء. فهذان البعدان ماهيتان متساويتان في تمام الماهية. لأنه لا ماهية للبعد والامتداد سوى أنه كذلك. وهذا القدر أمر مشترك فيه بين جميع الأبعاد [والامتدادت (٤)] إذا ثبت هذا فنقول : إنهما حال التداخل إما أن يبقى كل واحد منهما ممتازا عن الآخر (٥) بهويته المعينة. أو لا يبقى هذا الامتياز. والقسمان باطلان. فالقول بتداخل الأبعاد باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع بقاء كل واحد منهما [ممتازا (٦)] عن الآخر [بهويته المعينة وشخصيته المعينة (٧)] وذلك لأن ذلك الامتياز إما أن يحصل بنفس الماهية ، أو بلوازم الماهية أو بعوارض الماهية. والكل باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع أن يحصل الامتياز بنفس الماهية. لأنا بينا : أن الماهية ماهية واحدة في جميع الصور. وما يحصل به التساوي لا يكون سببا لحصول الامتياز. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول الامتياز بلوازم الماهية [لأن لوازم الماهية (٨)] مشترك فيها بين جميع أفراد الماهية ، والأمر المشترك فيه بين جميع الأفراد يمتنع أن يكون سببا

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (س).

(٤) سقط (ط).

(٥) عن الآخر بهويته المعينة ، أو لا يكون كذلك والقسمان ... الخ (م).

(٦) سقط (س).

(٧) سقط (س).

(٨) سقط (م).

لامتياز بعض الأفراد عن بعض. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول الامتياز بالعوارض ، وذلك لأن هذين البعدين لما نفدت كلية [أحدهما (١)] في كلية الآخر ، وكان كل واحد منهما مساويا [للآخر (٢)] في تمام الماهية [لماهية الآخر (٣)] فكل عارض يفرض كونه عارضا لأحدهما ، فإنه لا بد وأن [يكون (٤)] ممكن العروض للآخر ، لكونهما متساويين في تمام الماهية. وأيضا : فكل عارض يفرض كونه عارضا لأحدهما [فإن نسبته إلى أحدهما كنسبته إلى الآخر ، لكون كل واحد منهما مساويا للآخر في تمام الماهية ، ولكون كل واحد منهما مساويا بتمامه في تمام الآخر. وإذا كان كذلك فكل عارض يفترض كونه عارضا لأحدهما (٥)] فهو بعينه يكون عارضا للآخر. وإذا كان كذلك فحينئذ يكون ذلك العارض مشتركا بينهما ، وكل ما كان مشتركا بين شيئين ، فإنه يمتنع كونه سببا لامتياز أحدهما عن الآخر. فيثبت أنه لو امتاز بعد المتمكن عن بعد المكان ، لكان ذلك الامتياز إما بالماهية أو بلوازمها أو بعوارضها. وثبت أن الكل محال ، فبطل القول بحصول الامتياز بين هذين البعدين المتداخلين.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : المتمكن إذا حصل في المكان ، ونفد بعده في بعد المكان ، فإنه لا يبقى أحد البعدين ممتازا عن الثاني. فنقول : هذا أيضا باطل. لأن بتقدير أن لا يبقى الامتياز ، وجب أن لا يحصل التغاير ، لأن كل غيرين فلا بد وأن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر ، بكونه هو هو ، وذلك الامتياز في أمر ما ، وفي مفهوم ما ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور في أن ذلك الأمر إما الماهية أو لوازمها أو عوارضها ، والكل قد أبطلناه. فيثبت : أنه لو ارتفع الامتياز لارتفع التغاير ، وحينئذ يلزم إما القول بعدم أحد ذينك البعدين ، أو القول بحصولهما مع القول باتحادهما ، وكل ذلك مما قد أبطلناه. فيثبت أن نفود بعد المتمكن في بعد المكان : قول باطل ، ومذهب فاسد. وهذا

__________________

(١) كل واحد مهما (س ، ط).

(٢) من (ط ، س).

(٣) سقط (س).

(٤) من (س).

(٥) سقط (س).

الوجه أحسن الوجوه التي يمكن ذكرها في هذا الباب.

ولقائل أن يقول : السؤال على هذا الدليل من وجوه (١) :

الأول : لا نسلم أن الأبعاد متساوية في تمام الماهية ، وما الدليل عليه؟ وتقريره (٢) : أن الفضاء الذي ندعي كونه مكانا للجسم ، أمر يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، والجسم (٣) أيضا أمر يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، فطبيعة الفضاء وطبائع الجسم يشتركان [في كون كل واحد منهما قابلا (٤)] لفرض الأبعاد الثلاثة فيه ، لكن قابلية فرض الأبعاد الثلاثة لازم من [لوازم هذه الماهية (٥)] وحكم من أحكامها ، والاشتراك في اللوازم والأحكام لا يدل على الاشتراك في ماهيات الملزومات. لما ثبت أن الأشياء المختلفة في تمام الماهية ، لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم. وإذا ثبت هذا فنقول : هب أن طبيعة الفضاء الذي ادعينا أنه هو المكان ، وطبيعة الجسم الذي ادعينا أنه هو المتمكن ، يتشاركان في كونهما قابلين لفرض الأبعاد الثلاثة ، لكن لا يلزم من هذا القدر استواؤهما بين الحقيقتين في تمام الماهية والحقيقة. وعلى هذا التقدير فإنه يبطل قولكم : إنه يمتنع أن يمتاز أحد البعدين عن الآخر بالماهية ، وإذا بطلت هذه المقدمة ، فقد بطل الدليل الذي عولتم عليه.

لا يقال : البعد امتداد (٦) لا ماهية له إلا مجرد كونه بعدا وامتدادا. وهذا القدر مفهوم واحد والأبعاد بأسرها متساوية في تمام الماهية. فلو كان بعضها مخالفا لبعض ، لكانت تلك المخالفة حاصلة في مفهوم آخر (٧) سوى كونه بعدا.

__________________

(١) وجهين (م).

(٢) وتقرير هذا الكلام (س).

(٣) والأجسام (م).

(٤) متشاركة في كونها قابلة لفرض الأبعاد ... الخ (م).

(٥) لوازمها (م).

(٦) والامتداد (م).

(٧) في مفهوم آخر ، وراء هذا المفهوم ، ثم ذلك المفهوم الآخر لما كان شيئا. مغايرا لطبيعة البعد والامتداد ولم ... الخ (م ، ت).

ولما كان ذلك المفهوم شيئا مغايرا لطبيعة البعد والامتداد ، لم يقدح ذلك في قولنا : إن الأبعاد من حيث إنها هي أبعاد متشاركة في تمام الماهية ، وحينئذ يتم الدليل الذي ذكرناه.

لأنا نقول : السواد والبياض يتشاركان في اللونية ، ويتباينان بخصوص كونه سوادا أو بياضا ، ثم إن هذا لا يوجب أن يصح على لونية السواد ، ما يصح على لونية البياض حتى يلزم صحة أن ينقلب السواد بياضا وبالعكس. فكذا هاهنا.

السؤال الثاني : سلمنا أن الأبعاد متساوية في تمام الماهية. لكن لم لا يجوز أن يقال : إن أعدادها تكون مختلفة في اللوازم؟ أما قوله : «الأشياء المتساوية في الماهية ، يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر» قلنا : هذه المقدمة منقوصة بصور كثيرة.

إحداها : إنه قد ثبت بالبرهان أن قول الموجود. على (١) لذاته ، وعلى الممكن لذاته بحسب مفهوم واحد. فإن الوجود من حيث إنه وجود لا تختلف حقيقته في الواجب [والممكن (٢)] وإذا ثبت هذا فنقول : وجود الله تعالى يكون مساويا [لوجود الممكن ، في مجرد كونه وجودا ، ثم لم يلزم من هذا أن يصح على وجود الله تعالى كل ما يصح على (٣) وجود الممكنات ، وذلك يوجب القدح في قولكم : كل ما صح على الشيء صح على مثله.

وثانيها : إن الجسمية على ما قررتموه طبيعة واحدة. ثم الأشياء التي يصح كونها مقارنة لجسمية العناصر ، لا يلزم صحة كونها مقارنة لجسمية الأفلاك. على أصول الفلاسفة. فكذا هاهنا.

وثالثها : إن النفوس الإنسانية متساوية في تمام الماهية ، ثم لم يلزم من هذا أن يقال : النفس المتعلقة بهذا البدن يصح عليها أن ينقطع [تعلقها (٤)]

__________________

(١) واجب الوجود لذاته (س).

(٢) سقط (س).

(٣) سقط (ت).

(٤) سقط (م).

عن هذا البدن ، وتصير متعلقة بالبدن الآخر ، وكذلك القول في النفس المتعلقة بتدبير البدن الآخر. فكذا هاهنا.

ورابعها : إن الرأس المتصل (١) بهذا البدن الإنساني. مساو للرأس المتصل بالبدن الإنساني الثاني في تمام الماهية. إنما المخالفة لو حصلت ، فإنما حصلت بسبب العوارض الخارجية ، ثم لم يلزم أن يصح على كل واحد من الرأسين ما يصح على الرأس الثاني ، حتى يقال : إنه يصح أن ينفصل كل رأس عن البدن المخصوص ، ويتصل بالبدن الثاني. فيثبت : أنه لا يلزم أن يصح على الشيء ما يصح على مثله.

وخامسها : إن طبيعة الجنس واحدة في الأنواع ، ثم إنه لم يلزم من كون الحيوانية التي في الإنسان قابلة للناطقية ، كون الحيوانية التي في الفرس قابلة للناطقية. لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : الحيوانية من حيث [هي حيوانية (٢)] قابلة لجميع الفصول ، إلا أن الفصل المعين وهو الناطق ، لما أوجب تلك الحيوانية [صارت تلك الحيوانية (٣)] من لوازم الناطق ، لا لأجل أن منشأ اللزوم ، جاء من جانب المعلول ، بل إنما جاء من جانب العلة ، فبهذا الطريق يعقل أن الأشياء المتماثلة في تمام الماهية مختلفة في اللوازم. لأنا نقول : إذا عقلتم هذا المعنى ، بالطريق الذي ذكرتم ، فلم لا يجوز مثله في مسألتنا هذه؟

وسادسها : إن الجسم له وجود ، فإذا حل فيه السواد والحلاوة والحركة ، فلكل واحد من الجسم ، وهذه الأعراض الثلاثة وجود على حدة. فإذا حلت هذه الأعراض في الجسم ، فقد حلت هذه الوجودات الكثيرة في ذات ذلك الجسم ، فيلزمكم هناك اجتماع المتماثلات. فإن قلتم : إن تلك الوجودات وإن كانت متساوية في كونها وجودات ، إلا أنها متباينة بتعيناتها وتشخصاتها ، فلم يلزم حصول الاتحاد وارتفاع الامتياز. فنقول : لم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك في هذه المسألة؟

__________________

(١) المتصلة (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إنه يحصل الامتياز بسبب الأمور العارضة؟ قوله : «كل عارض يفرض فإن حصوله بالنسبة إلى أحدهما كحصوله بالنسبة إلى الثاني» قلنا : لا نسلم ، وما الدليل على أن الأمر كذلك؟ والذي يؤكد هذا السؤال : أن مذهب الحكماء : أن النفوس الناطقة واحدة بالنوعية وبتمام الماهية. ومذهبهم : أنها باقية بعد المفارقة ، ثم إنهم أوردوا على أنفسهم سؤالا فقالوا : النفوس الهيولانية العارية عن اكتساب المعارف والأخلاق ، إذا فارقت أبدانها ، فهناك لا امتياز بينها وبين غيرها لا في الماهية ولا في لوازمها ، ولا في عوارضها ، وذلك يوجب زوال (١) المغايرة ثم أجابوا عنه ، فقالوا : إنها بعد أن دخلت في الوجود ، وحصل لكل واحد منها تعين وتشخص ، فذلك التعين حصل له لا لغيره ، فهذا القدر كاف في حصوله الامتياز بينها.

إذا عرفت هذا [فنقول (٢)] : نحن نذكر هاهنا أيضا الفضاء الذي هو المكان ، لا شك أن له تعينا وتشخصا باعتباره كان قابلا لتوارد الأجسام عليه ، وهذه الأجسام التي هي الأشياء القابلة للحركة والسكون لا شك أنه حصلت له تعينات وتشخصات ، باعتبارها ، كانت قابلة للحركة والسكون. وإذا كان كذلك فعند نفود أحدهما في الآخر ، لم لا يجوز أن يقال : إنه بقي مع كل واحد منهما ، [تعينه (٣)] الخاص ، وتشخصه الخاص؟ ثم من المعلوم أن تشخصه لا يصير هو بعينه تشخص غيره ، فهذا القدر كاف في حصول الامتياز والمغايرة بين البعد الذي هو المكان ، وبين البعد الذي هو المتمكن ، وعلى هذا التقدير فإنه يسقط ما ذكروه من الحجة.

السؤال الرابع : هب أن أحد البعدين لم يختص بشيء لأجله يمتاز عن الآخر ، فلم قلتم : إن ذلك يمنع من حصول المغايرة والامتياز؟ وبيانه : وهو أنه لو كان تعين الشيء زائدا عليه ، لكانت التعينات متساوية في هذا المفهوم وهو كونها تعينات ، ثم يمتاز كل فرد منها على الفرد الآخر بأمر آخر زائد على

__________________

(١) تمام (م).

(٢) تمام (م).

(٣) سقط (م).

[تلك الماهية (١)] و[حينئذ] يلزم (٢) التسلسل.

السؤال الخامس : إنه ينتقض دليلكم بتداخل النقطتين حال تماس الخطين ، وبتداخل الخطين حال تماس السطحين ، وبتداخل السطحين حال تماس الجسمين. فكل ما هو عذر لكم في هذه المواضع ، فهو عذر لنا في هذا المقام. إلا أنا نقول (٣) : إن عند حصول التماس يعدم الطرفان ، ويحدث طرف واحد مشترك بينهما ، إلا أن هذا يوجب نفي التماس أصلا. وذلك مما لم يقولوا به أصلا [والله أعلم (٤)]

الوجه الرابع من الوجوه التي احتجوا بها على امتناع (٥) أن تداخل البعدين ممتنع. قالوا: لو كان القول بتداخل الأبعاد جائزا ، لم يمتنع نفود عالم الأجسام بكليته في حيز الخردلة الواحدة. ومعلوم أن ذلك باطل. ولقائل أن يقول : أتلزمون علينا إثبات الجواز الخارجي الذي معناه القطع بعدم الامتناع ، أم تلزمون علينا إثبات الجواز الذهني الذي معناه بقاء الذهن مترددا في أنه في نفسه هل هو ممتنع أم لا؟ فإن كان مقصود كم هو الأول ، فما الدليل على أنه لما جاز نفود البعد المتمكن في بعد الفضاء ، الذي هو الحيز والمكان ، وجب القطع بجواز ما ذكرتم؟ والذي يقرر ما ذكرناه. إنكم تحتاجون في [إثبات (٦)] هذه المقدمة إلى بيان أن الأبعاد بأسرها ، متساوية في تمام الماهية ، ثم تحتاجون إلى بيان أن كل ما يصح على شيء ، فإنه [يجب أن (٧)] يصح على مثله ، ثم إلى أنه لم يوجد في أحد الجانبين شرط ، لأجله صح هذا الحكم ، ولم يوجد في الجانب الثاني أمر يمنع من صحة هذا الحكم. والكلام على المقامين الأولين قد سبق في الاعتراض على الوجه الثاني فلا فائدة في الإعادة. وأما إن كان مقصود

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) (ط) ، (س) أن تقولوا (ت ، م).

(٣) يكون نفيا للتماس وذلك ... الخ (ت ، م).

(٤) سقط (م ، ت).

(٥) على أن تداخل الأبعاد ممتنع (م ، ت).

(٦) سقط (ط).

(٧) سقط (ط).

كم إثبات الجواز الذهني ، فهذا أيضا باطل. لأن نفود الأجسام في الأبعاد الكثيفة إما أن يكون معلوم الامتناع بالبديهة [أو لا يكون كذلك. فإن كان معلوم الامتناع بالبديهة (١)] كان حصول كل العالم في حيز الخردلة معلوم الامتناع بالبديهة ، ونفود الأجسام في الفضاء والخلاء غير معلوم الامتناع بالبديهة. وعلى هذا التقدير فإنه لا يلزم [من وقوع الشك في هذه المقدمة الثانية ، وقوع الشك في المقدمة الأولى ، لأن هذه الثانية غير بديهية ، والأولى بديهية.

وأما إن كان نفود الأجسام الكثيفة في الأجسام الكثيفة غير معلوم الامتناع بالبديهة ، فعلى هذا لم يلزم من تجويزه ولا تكونه (٢)] من وقوع الشك في مقدمة كسبيّة نظرية (٣) وقوع الشك في مقدمة [بديهية (٤)] فطرية [وأما إن كان نفود الأجسام الكثيفة غير معلوم الامتناع بالبديهة. فعلى هذا لم يلزم من تجويزه محال. إلا بدليل منفصل وأنتم ما ذكرتموه (٥)] فيثبت : أن هذا النوع من الاستدلال في غاية السقوط.

السؤال الثاني : أن نقول : قد بينا أنه إذا لقى سطح سطحا ، فإن الخط الذي هو طرف أحدهما ، يكون نافدا في الخط الذي هو طرف السطح الثاني ، فإن لزم من نفود بعد في بعد ، ما ذكرتم من المحال ، كان ذلك أيضا لازما عليكم.

السؤال الثالث : أن نقول : إنكم وإن كنتم لا تجوزون نفود بعد في بعد ، لكنكم تجوزون القول بالتخلخل والتكاثف. والمراد من التخلخل هو أن يصير مقدار الجسم أعظم مما كان من غير أن ينضم إليه شيء من خارج ، ومن غير أن يحصل في داخله شيء من الفرج. والمراد من التكاثف هو أن يصير

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) سقط (ط).

مقدار الشيء أصغر مما كان من غير أن ينفصل عنه شيء من الأجزاء ، أو من غير أن يحصل لشيء من أجزائه المنفوشة اكتناز. إذا عرفت هذا ، فنقول : إذا جوزتم هذا ، فجوزوا أن يتخلخل جرم الخردلة ، حتى يصير في العظم مثل كرة الفلك الأعظم [أو أعظم (١)] وجوزوا أيضا أن يتكاثف الفلك الأعظم حتى يصير في الصغر مثل الخردلة أو أصغر ، فإن التزموا تجويز ذلك ، فنحن أيضا نلتزم ما الزموه علينا ، وإن أبوا ذلك أبينا نحن أيضا ما ألزموه علينا. [والله أعلم (٢)].

الوجه الخامس من الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أن تداخل الأبعاد : ممتنع. وهو أنهم قالوا : لا معنى للبعد الشخصي إلا البعد الذي بين طرفي هذا الإناء. فلو جاز في العقل أن يقال : البعد الموجود بين طرفي هذا الإناء ، بعدان لا بعد واحد ، مع أن المشار إليه بالحس ليس إلا الواحد ، فلم لا يجوز أن يحصل الشك في أن هذا الشخص الذي هو بحسب الإشارة الحسية واحد. هل هو في نفسه واحد أم لا؟ وحينئذ يلزمنا تجويز أن يقال : هذا الإنسان الذي نراه واحدا بحسب الحس ، لعله لا يكون [في نفسه (٣)] واحدا ، بل يكون ألف إنسان أو أكثر ، ومعلوم أن تجويز ذلك دخول في العته والجنون. ولقائل أن يقول : الاعتراض على هذا الوجه [مثل الاعتراض على الوجه (٤)] الرابع من غير تفاوت أصلا ، فلا فائدة في الإعادة. فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الحجة نفيا وإثباتا. وهي قولهم : لو كان المكان بعدا ، لزم من حصول المتمكن في المكان ، تداخل البعدين. وهذا محال ، فذا محال [والله أعلم (٥)].

الحجة الثانية على إبطال القول بأن المكان هو البعد : أن قالوا : البعد المسمى بالفضاء ، إما أن يكون حالا في مادة ، أو لا يكون حالا في مادة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بأن المكان هو البعد.

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (م).

أما بطلان القسم الأول. فالدليل عليه : وهو أنه لا معنى للجسم إلا البعد الحال في المادة ، فإن كان الفضاء والخلاء كذلك ، كان جسما. فالقول بأن المتمكن ينفد فيه قول بتداخل الجسمين. وهو محال.

وأما بطلان القسم الثاني. فهو أن على هذا التقدير تكون طبيعة البعد مع جميع ذاتياتها ولوازمها غنية عن المادة ، والغني عن المادة يمتنع أن يعرض له ما يحوجه إلى المادة ، فكان يجب أن لا يكون شيء من الأبعاد حالا في المادة ، فوجب أن لا يكون الجسم الذي هو المتمكن ذا بعد. هذا خلف. ولقائل أن يقول : هذه الحجة إنما تتم لو ثبت أن الأبعاد بأسرها متساوية في الماهية ، ثم ثبت أن كل ما صح على الشيء ، وجب أن يصح على مثله ، وقد تقدم الكلام على هاتين المقدمتين.

الحجة الثالثة في إبطال القول بأن المكان هو البعد : أن قالوا : البعد من حيث إنه بعد ، إما أن يقبل الحركة أو لا يقبل الحركة. فإن كان قابلا للحركة ، فالبعد الذي هو الفضاء ، والمكان ، يجب أيضا أن يكون قابلا للحركة ، وكل ما تحرك فإنما يتحرك من مكان إلى مكان ، فللمكان مكان آخر. والكلام في الثاني كما في الأول ، فيلزم القول بإثبات أمكنة غير متناهية ، يكون كل واحد منها نافدا في الآخر. وذلك محال. لوجوه : أقواها [وأقربها إلى الأفهام (١)] : أن مجموع تلك الأمكنة الغير المتناهية ، والأبعاد المتداخلة الغير المتناهية : أبعاد. وكل بعد فهو قابل للحركة ، فذلك المجموع قابل للحركة. وكل ما كان قابلا للحركة ، فحركته إنما تكون من مكان إلى مكان ، فلمجموع تلك الأبعاد الغير المتناهية مكان. فذلك المكان إما أن يكون بعدا ، وإما أن لا يكون. والأول باطل. لأن ذلك المكان لكونه مكانا لكل الأبعاد يجب أن لا يكون من جنس الأبعاد. لأن كل ما كان ظرفا [ووعاء (٢)] لمجموع أشياء ، كان خارجا عنها ، والخارج عن الشيء لا يكون منه. ولكونه فردا من أفراد الأبعاد ، يجب أن يكون داخلا في جملة الأبعاد ، فلو كان مكان جملة الأبعاد

__________________

(١) وأظهرها (ت) ، م).

(٢) سقط (م).

بعدا ، لزم كونه داخلا في جملة تلك الأبعاد ، وكونه خارجا عن جملتها. وذلك محال. وإما إن كان مكان جملة [تلك (١)] الأبعاد ليس بعدا ، بل شيئا مغايرا للبعد ، فحينئذ يكون المكان الحقيقي أمرا مغايرا للبعد ، وذلك هو المطلوب. وأما إن كان [البعد (٢)] من حيث إنه بعد ، غير قابل للحركة [فنقول : الجسم له بعد ، وبعده غير قابل للحركة (٣)] فوجب أن لا يكون [الجسم (٤)] قابلا للحركة. وذلك باطل فاسد. فيثبت : أن القول بكون المكان بعدا ، يفضي إلى هذين القسمين الباطلين. فكان القول به باطلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : البعد المجرد وهو الفضاء غير قابل للحركة ، والبعد الذي يكون في المادة ، وهو بعد الجسم يكون قابلا للحركة لأجل أن الشرط في كون البعد قابلا للحركة ، كونه في المادة؟ نقول : هذا السؤال باطل. من وجهين الأول : سنقيم الدلالة على أن البعد يمتنع أن يقال : إنه حال في محل ، وأنه صفة لشيء آخر. [والثاني (٥)] وهو أنا نقول : هب أن البعد يعقل كونه حالا في محل ، إلا أنا نقول : ذلك المحل من حيث إنه هو ، إما أن يكون [شاغلا للحيز والجهة (٦)] وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون من الموجودات المجردة عن الوضع والإشارة. والأول باطل لأنه يقتضي أن يكون محل البعد بعدا ، فإن افتقر البعد إلى محل ، فليفتقر ذلك المحل لكونه بعدا إلى محل آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال. وأما الثاني فهو باطل أيضا ، لأن كل موجود يكون مجردا عن الإشارة والحيز والجهة ، فإنه يمتنع عليه الانتقال والحركة. لأن الانتقال والحركة عبارة عن الحصول في حيز ، بعد أن كان حاصلا في حيز آخر ، وهذا إنما يعقل في حق الشيء الذي يصح عليه كونه حاصلا في الحيز والجهة ، أما الشيء الذي يمتنع كونه حاصلا في الحيز والجهة ،

__________________

(١) سقط (س).

(٢) من (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) من (س).

(٥) سقط (م).

(٦) ممتدا في الجهات ، شاغلا للأحياز (م ، ت).

فإنه يمتنع كونه قابلا للحركة. فيثبت : أن هذه المادة غير قابلة للحركة [أصلا (١)] وإذا كان كذلك ، فحينئذ يمتنع أن يقال : إن كون البعد حالا في المادة ، شرط لكون البعد قابلا للحركة ، لأن حلول البعد في المادة معناه : أنه قارنه شيء لا يقبل الحركة ، ومقارنة مثل هذا الشيء ، يجب أن يكون مانعا من الحركة ، ولا يعقل كونه شرطا لصحة الحركة. فقد زال هذا السؤال.

واعلم أن [هذه الحجة كلام حسن رتبناه (٢)] نحن للقوم نصرة لمذهب «أرسطاطاليس» وطعنا في قول «أفلاطون» إلا أنها مبنية أيضا على أن الأبعاد متساوية في تمام الماهية ، وأن كل ما صح على الشيء ، فإنه يصح أيضا على مثله. [والله أعلم (٣)]

الحجة الرابعة : هذا البعد المسمى بالفضاء والمكان والحيز ، لا شك أنه يكون قابلا للقسمة ، بحسب الفرض والإشارة. فإنا نقول : من هاهنا [إلى هناك (٤)] ذراع ، ثم من هناك إلى موضع آخر ذراع آخر. ولا معنى للقسمة بحسب الفرض والإشارة إلا ذلك. إذا ثبت هذا ، فنقول : هذه الأجزاء المفترضة في هذا البعد بحسب الإشارة ، إما أن تكون متساوية في تمام الماهية ، وإما أن لا تكون كذلك. فإن كان الأول وجب أن يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر ، وإذا كان كذلك فالجزء الذي حصل فوق ، وجب [صحة (٥)] حصوله تحت ، وبالعكس. وذلك يوجب صحة الحركة والانتقال عليها ، وكل ما يصح عليه الحركة والانتقال ، فله مكان ، فللمكان مكان. وحينئذ تعود المحالات المذكورة. وأما إن كانت تلك الأجزاء المفترضة فيها غير متساوية في تمام الماهية ، فحينئذ يكون هذا الفضاء مركبا من أجزاء مختلفة بحسب الماهية فيكون مركبا ، وكل مركب فإنه ينتهي تحليل تركيبه إلى البسائط ،

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) لهذه الحجة كلاما ، وبيناه (م ، ت).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (م).

فهناك أجزاء بسيطة ، وكل جزء بسيط فإن يمينه غير يساره ، فيكون منقسما ، فيكون هذان النصفان [من ذلك الجزء البسيط (١)] متساويين في تمام الماهية ، فحينئذ يصح أن ينتقل كل واحد منهما إلى وضع الآخر وموضعه ، فحينئذ يعود ما ذكرناه من افتقار المكان إلى مكان آخر ، وحينئذ يلزم المحال.

واعلم أن هذه الحجة [قد وضعناها (٢)] للقوم ، إلا أنا نقول : إنها إن صحت فهي توجب جواز الخرق والتفرق والتمزق على جملة الأفلاك ، وذلك يوجب إثبات مكان خارج الفلك المحدب للجهات ، وذلك يوجب إثبات الخلاء خارج العالم ، وذلك يوجب كون المكان بعدا. فهذه مقدمات لا بد من تقريرها.

[أما المقدمة الأولى (٣)] : وهي قولنا : إن هذا الكلام يوجب صحة الخرق والتفرق والتمزق ، على الأفلاك. فتقريرها أن نقول : هذا الفلك المحدد للجهات ، إما أن يكون بسيطا ، وإما أن يكون مركبا. فإن كان بسيطا ، كانت كل قطعة تفرض فيه مساوية في تمام الماهية للقطعة الأخرى ، وذلك يقتضي جواز أن ينتقل كل واحد من تلك [القطع إلى وضع القطعة الأخرى ، وإلى موضعها (٤)] ، وذلك يقتضي جواز التفرق والتمزق [على الفلك (٥)] وهو المطلوب. وأما إن كان هذا الفلك مركبا (٦) [من أجزاء مختلفة الطبائع فنقول : إنه لا بد وأن ينتهي تحليل تركيبها إلى أجزاء بسيطة ، فنقول : وكل واحد من تلك البسائط فإن يمينه مغايرة ليساره ، وطبيعة كل واحد من هذين القسمين واحدة ، فحينئذ يلزم صحة أن ينقلب كل واحد من ذينك القسمين إلى موضع الآخر ، وإلى وضعه. وذلك يوجب قبول الخرق والتفرق

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) قد تكلفناها نحن (م).

(٣) سقط (م).

(٤) الأجزاء إلى موضع غيره (س ، ط).

(٥) سقط (س ، ط).

(٦) مركبا. ففيه لا محالة أجزاء بسيطة ، ويعود ما ذكرناه. وأما المقدمة الثانية ... الخ (س) وفي (س) بياض. ومن أول : من أجزاء إلى آخر على الفلك : محذوف من (س ، ط).

والتمزق ، فيثبت : أن هذه الحجة توجب صحة الخرق والتمزق على الفلك (١)].

وأما المقدمة الثانية وهي أن صحة الانخراق [على الفلك (٢)] توجب كون أجزائه قابلة للحركة المستقيمة. فهذه أيضا مقدمة جلية. لأن الانخراق لا يتم إلا بتباعد كل واحد من تلك الأجزاء المفترضة في الفلك [عن الآخر (٣)] على نعت الاستقامة.

وأما المقدمة الثالثة وهي في بيان أن ذلك يوجب كون المكان بعدا. فهو أنا نقول : تلك الأمكنة الحاصلة خارج العالم. إن كانت أجساما فحينئذ يعود التقسيم فيها ، وذلك يوجب وجود أجسام لا نهاية لها ، وهو محال. وإن لم تكن أجساما ، وجب كون تلك الأمكنة أبعادا خالية ، وذلك هو المطلوب.

فيثبت : أن الحجة المذكورة إن صحت ، دلت على أن المكان هو البعد.

الحجة الخامسة على أن المكان لا يجوز أن يكون هو البعد :

أن نقول : لو ثبت هذا الفضاء ، لكان إما أن يكون غير متناهي ، وإما أن يكون متناهيا ، والقسمان باطلان ، فكان القول بإثبات هذا الفضاء باطلا. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه غير متناهي ، وذلك لأنا سنقيم الدلائل [القاهرة (٤)] على أن القول بوجود بعد لا نهاية له : محال. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه متناهيا ، وذلك أن كل متناه فإنه يحيط به حد [أو حدود (٥)] وكل ما كان كذلك فهو شكل. ينتج : أن كل بعد متناه ، فله شكل. فنقول : المقتضى لذلك الشكل ، إما أن يكون [هو نفس طبيعة البعد. أو أمرا حالا فيها. أو ما يكون محلا لها. أو ما لا يكون حالا فيها ولا يكون محلا لها. والأقسام

__________________

(١) سقط (س ، ط).

(٢) من (س).

(٣) سقط (س).

(٤) سقط (ط).

(٥) من (س).

بأسرها باطلة. إلّا قولنا : المقتضى لذلك الشكل المعين ما يكون (١)] محلا لذلك البعد. فنقول : إنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون المقتضى لذلك الشكل ، هو نفس طبيعة البعد والمقدار. وذلك لأن الجزء [المفروض من (٢)] ذلك البعد ، مساو للكل في الطبيعة والماهية (٣) فيلزم أن يكون شكل الجزء مساويا لشكل الكل [وذلك باطل (٤)] وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون المقتضى لذلك [الشكل (٥) أمرا حالا في ذلك البعد. وذلك لأن ذلك الحال إن كان من لوازم الطبيعة المقدارية ، عاد ما ذكرناه من أنه يلزم كون الجزء مساويا للكل في الشكل ، وإن لم يكن من لوازمها ، امتنع كونها علة للشكل الذي هو من لوازمها ، لأن المفارق يمتنع كونه علة للصفة اللازمة. وإنما قلنا : إن المقتضى لذلك الشكل [يمتنع أن يكون (٦)] أمرا مغايرا لنفس المقدار ، ولما يكون [حالا فيه ولما يكون (٧)] محلا له. وذلك لأن المباين إما أن تكون نسبته إلى هذا البعد المسمى بالفضاء ، وإلى جميع أجزائه على السوية ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول فحينئذ يكون اختصاص هذا البعد ، بهذا الشكل [المعين (٨)] دون سائر الأبعاد رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح ، وهو محال. وإن كان الثاني فحينئذ اختصاص هذا البعد المسمى بالفضاء. بما لأجله صار أولى بقبول هذا الشكل من ذلك المفارق؟ إن كان لأجل مفارق آخر عاد الكلام فيه. ولزم التسلسل. وإن كان لا لهذا السبب ، فحينئذ يعود الأمر إلى أن اختصاصه بتلك الأولوية ، إما أن يكون لذاته ، أو لما يكون حالا فيه ، أو لما يكون محلا له ، أو للمباين. ولما بطلت هذه الأقسام الثلاثة ، ثبت أن اختصاص ذلك البعد المخصوص ، بذلك الشكل المخصوص ، إنما كان لأجل

__________________

(١) سقط (م) ، (ت) وفي النص : لذلك الشكل المعين ما يكون.

(٢) سقط (ط).

(٣) الطبيعة المقدارية (م).

(٤) هذا خلف (م).

(٥) سقط (م).

(٦) من (س ، ط).

(٧) من (س ، ط).

(٨) من (س ، ط).

ما يكون محلا له ، ومادة له. وهو المطلوب. فإن قالوا : فمادة الكل مساوية لمادة [الجزء (١)] فيعود الاشتراك المذكور. فنقول في الجواب : إن ذلك البعد لما كان حالا في تلك المادة ، وكانت تلك المادة موصوفة بصفات ، لأجلها كانت مستعدة لقبول ذلك الشكل من واهب الصور ، لا جرم حصل ذلك الشكل دون سائر الأشكال. فيثبت بمجموع ما ذكرنا : أن كل بعد فهو متناهي [وكل متناهي (٢)] مشكل ، وكل متشكل فإنما حصل له شكله المعين بسبب المادة ، وهذا ينتج أن كل بعد فإنه لا يوجد إلا إذا كان حاصلا في المادة. وإذا ثبت هذا كان القول بوجود البعد المجرد محالا [وذلك هو المطلوب (٣)].

ولقائل أن يقول : أما دليلكم على وجوب تناهي الأبعاد فسيأتي البحث عنه [على الاستقصاء. ثم لئن (٤)] سلمنا ذلك ، لكنا نقول : لم لا يجوز أن يكون متناهيا؟ قوله : «إن كان متناهي فهو مشكل ، وكل مشكل فتشكله لا بد وأن يكون لأجل مادته» قلنا : لا نسلم. ولو كان الأمر كذلك ، لعاد الاشتراك المذكور ، لأن مادة الجزء ، مساوية لمادة الكل. أما قوله : «سبب الشكل المعين صفات قائمة بالمادة ، أعدت تلك المادة لقبول ذلك الشكل المعين» فنقول : فإذا عقلتم ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : الطبيعة المقدارية وحدها من غير أن يكون لها مادة ، كانت موصوفة بصفات مخصوصة ، لأجلها صارت مستعدة لقبول ذلك الشكل المعين ، وعلى هذا التقدير فتستغني الطبيعة المقدارية عن الحلول في المادة. وحينئذ يبطل قولكم : «إن كل ما كان بعدا ومقدارا ، فإنه لا بد وأن يكون حالا في محل».

وليكن هاهنا آخر كلامنا في نقل دلائل الطاعنين في أن المكان هو البعد. والله أعلم(٥).

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) وليكن هاهنا آخر الكلام في البحث عن دلائل الطاعنين (م ، ت).

الفصل الرابع

في

تقرير الوجوه التي عليها

يعول من يعتقد أن المكان هو البعد

اعلم (١) : أن القائلين بهذا المذهب فريقان : منهم من يدعي العلم الضروري بأن المكان ليس إلا هذا الفضاء ، وإلّا هذه الأبعاد المجردة. ومنهم من يثبت هذه الدعوى بالحجة والبرهان.

أما الفريق الأول : فتقرير كلامهم أن يقال : إنا نعلم بالضرورة أن الجسم. يمكن أن يشار إليه بأنه حصل هاهنا ، ويمكن أن ينتقل من هناك إلى هاهنا ، وبالعكس. فوجب علينا أن نبحث أن المشار إليه بأنه هاهنا [وهناك (٢)] هل هو نفس الجسم (٣) [الحاصل هاهنا وهناك ، أو هو أمر مغاير لذات ذلك الجسم؟ أما القسم الثاني فهو المطلوب (٤)] وأما القسم الأول فهو باطل [وتقريره (٥)] من وجوه :

الأول : إنا نشاهد أن هذا الجبل حاصل هاهنا بعينه ، فإذا فرضنا أن ذلك الجبل انقلع من تلك الجهة ، ومن ذلك الحيز ، فبعد انقلاع ذلك الجبل

__________________

(١) التي عليها يعول من قال إن المكان (ط ، س).

(٢) سقط (م ، ت).

(٣) نفس الجسم ، أو أمر زائد عليه؟ وأما القسم الأول ... الخ (س ، ط).

(٤) أو أمر زائد عليه؟ (س ، ط).

(٥) من (م ، ت).

من هناك ، بقيت تلك الجهة ، وتلك المكانات ، كما كانت ، وما بطلت وما عدمت. حتى إنهم لو بنوا دارا في ذلك الحيز ، صار يحكم كل عقل سليم ، بأن هذه الدار حصلت في الجهة التي كان ذلك الجبل ، حاصلا فيها. وذلك يدل على أن الحيز والجهة ، أمر مغاير للجسم ، الذي كان حاصلا فيه.

الثاني : إنه لما ثبت أن القبلة هي الكعبة ، فعند هذا قالت الفقهاء : لو انهدمت الكعبة ، ونقل من هناك [ما كان (١)] من الخشب والحجر والتراب بالكلية ، ولم يبق إلا الفضاء الصرف ، كانت القبلة ليست إلا ذلك الفضاء. ولو اعتقد معتقد بتجويز حصول الخلاء في داخل العالم ، لقال بأن القبلة هو ذلك القدر من الخلاء المعين ، ومن الفضاء المعين. ومن اعتقد أن الخلاء محال ، وأن الملاء واجب فإنه لا بد ، وأن يعتقد أن عند [خراب (٢)] ذلك البناء ، لا بد أن ينتقل إليه هواء ، حتى لا يحصل الخلاء. ثم إن القبلة ليست هي (٣) ذلك الهواء [لأن ذلك الهواء (٤)] قد ينتقل عن ذلك الحيز. ويتبدل بهواء آخر ، والقبلة ليست إلا تلك الجهة ، وإلا ذلك الحيز. وهذا يدل على أن العقول السليمة ، والفطرة الصحيحة ، شاهدة بأن الجهة والحيز ، أمر مغاير للأجسام المنتقلة المتحركة.

الوجه الثالث في بيان أن الأبعاد الممتدة التي هي الأحياز والجهات مغايرة لذوات الأجسام هو : أن المشار إليه بأنه هاهنا أو هناك ، أمر معلوم الثبوت بالضرورة ، وحصول الجسم هاهنا وهناك غير معلوم الثبوت بالضرورة ، لأنه ما لم يدل الدليل على امتناع الخلاء ، لم يجب حصول الجسم هاهنا وهناك ، وما كان معلوم الثبوت بالضرورة مغاير لما ليس معلوم الثبوت بالضرورة. وذلك يقتضي أن الأبعاد الممتدة التي هي الأحياز والجهات أمور مغايرة لأبعاد الأجسام [وامتداداتها (٥)].

__________________

(١) من (م).

(٢) من (م).

(٣) ليست إلا ذلك (م).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (س).

الوجه الرابع : وهو أنه يمكننا أن نتصور جسما لا يماسه جسم ، ولا يحيط به جسم ، ولا يمكننا أن نتصور جسما لا يصدق عليه أنه هاهنا أو هناك. فوجب أن يكون المعنى المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : أمر مغاير لكون الجسم ممسوس جسم آخر ، أو كونه بحيث يحيط به جسم آخر.

الوجه الخامس : هو أنا نقول : بأن الماء في الكوز ، لا بمعنى كون الماء ساريا في جسم الكوز ، بل بمعنى كون الماء مماسا (١) بسطحه سطح الكوز. وصريح العقل حاكم بأن الماء حاصل في الفضاء المفترض بين طرفي الكوز بدليل : أن ذلك الفضاء باقي بعينه [واحد بشخصه (٢)] ثم تارة يحصل فيه الماء ، وأخرى يخرج منه الماء ، وينتقل إليه الهواء ، وثالثا يبقى الفضاء خاليا عن كل الأجسام عند من كانت الدلائل القطعية عنده على صحة القول بالخلاء ، وذلك يدل على أن ذلك الامتداد أمر مغاير لامتداد الأجسام الحاصلة في ذلك الفضاء (٣).

الوجه السادس : هو أن المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : لا يقبل الانتقال والحركة. فإنه من المستحيل في بديهة العقل أن ينتقل هاهنا إلى هناك ، وأن ينتقل هناك إلى هاهنا. أما الجسم الحاصل هاهنا والجسم الحاصل هناك ، فإنه قابل للانتقال. فلما كان المعنى المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : لا يقبل الانتقال البتة ، وكان الجسم الحاصل هاهنا [والجسم الحاصل (٤)] هناك ، قابلا للانتقال. علمنا : أن المشار إليه بقولنا هاهنا وهناك : مغاير للجسم الذي يقبل الانتقال.

فهذه تنبيهات دالة على أن العلم الضروري حاصل بأن هذه الأحياز والجهات والمحاذيات أبعاد ممتدة ، وأنها مغايرة لأبعاد الأجسام المتحركة المتنقلة

__________________

(١) مماسا لسطح الكوز (س).

(٢) سقط (س ، ط).

(٣) البعد (م ، ت).

(٤) سقط (س).

ولو عرضت هذه الوجوه على جميع العقلاء لقضت عقولهم السليمة بأن الأمر كما ذكرناه ، ولخصناه [والله أعلم (١)].

وأما الفريق الثاني وهم القائلون بأن العلم بوجود هذه الأبعاد علم استدلالي :

فقد احتجوا عليه من وجوه :

الحجة الأولى : لو لم يكن المكان عبارة عن البعد ، بل كان عبارة عن السطح ، لزم الحكم على الساكن حال كونه ساكنا بأنه متحرك ، ولزم الحكم على المتحرك حال كونه متحركا ، بأنه ساكن. ولما كان ذلك باطلا ، وجب أن يكون المكان : عبارة عن البعد القائم بنفسه ، لا عن السطح الحاوي.

أما بيان أنه يلزم الحكم على الساكن حال كونه ساكنا بأنه متحرك. فتقريره : أنا لو فرضنا طائرا واقفا في الهواء ، والهواء يجري عليه ، أو حجرا واقفا في الماء ، والماء يجري عليه. فههنا [لا شك (٢)] أن هذا الطير واقف في الهواء ، وهذا الحجر واقف في الماء ، مع أنه في كل آن ، ينتقل من مماسة سطح إلى سطح آخر. فلو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي ، لكانت الحركة عبارة عن الانتقال من سطح إلى سطح آخر ، ولما حصل هذا الانتقال في هذه الصورة من سطح إلى سطح آخر ، لزم أن يكون هذا الجسم متحركا مع أنه ساكن في الحقيقة.؟؟؟ ما ذكرنا : أنه لو كان المكان عبارة عن السطح ، لزم الحكم على الجسم الساكن ، حال كونه ساكنا بأنه متحرك. ومعلوم أن ذلك باطل. فعلمنا : أن المكان لا يجوز أن يكون عبارة عن السطح. أما إذا قلنا : إن المكان عبارة عن البعد الخالي ، والفضاء الصرف ، لم يلزم ذلك. لأن ذلك الجسم لما كان واقفا في ذلك الفضاء ، وفي ذلك الخلاء ، لا جرم كان ساكنا لا متحركا. فإن قيل : إن عنيت بكون ذلك الطير ساكنا في الهواء ، وكون ذلك الحجر واقفا في الماء : أن مسامتته مع الأجسام الساكنة باقية. فالأمر كذلك.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

إلا أن السكون بهذا التفسير غير مشروط بكونه في نفسه ساكنا. ألا ترى أن الصندوق إذا وضع فيه جسم ، وفرضنا هوى ذلك الصندوق مع كل ما فيه ، فإن مسامتة تلك الأجسام الموضوعة في الصندوق مع جوانب ذلك الصندوق باقية غير متغيرة ، مع أن ذلك الصندوق، وكل ما فيه متحرك. فعلمنا : أن مسامتة ذلك الطير ، وذلك الحجر مع سائر الأجسام ، لا يمنع من كونه في نفسه متحركا. وإن عنيت بكونه ساكنا أنه بقي في ذلك الفضاء الذي هو حاصل فيه ومداخل له. فهذا الكلام إنما يتم بعد ثبوت القول بالفضاء ، فلو أثبتنا القول بالفضاء بهذه المقدمة لزم الدور وهو محال.

والجواب : أما أن الطير قد يقف في الهواء ، مع أن الهواء يمر عليه ، والحجر قد يقف في الماء مع أن الماء يجري عليه. فذلك معلوم بالضرورة ، والمنع من كونه ساكنا في هذه الحالة مكابرة في البديهيات.

وأما تفسير السكون ببقاء المسامتات فهو باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الجسمين المتساويين في الثقل والحجم والشكل ، إذا ابتدا بالنزول من رأس الجبل في هواء صاف لا تفاوت فيه البتة ، فههنا يبقى سمت كل واحد منهما مع الآخر ، من أول هذه الحركة إلى آخرها. فههنا المسامتة باقية مع كون كل واحد منهما متحركا ، فعلمنا : أنه لا يمكن تفسير كون الجسم ساكنا ببقاء مسامتته مع غيره.

الثاني : إن الفلك الحاوي ، والفلك المحوي ، إذا كانا يتممان الدورة في مدة واحدة ، فهناك لا يتغير شيء من المسامتات الحاصلة بين الأجزاء المفترضة في كل واحد منهما ، مع كون كل واحد منهما متحركا في نفسه.

الثالث : إن الجسمين متى بقيا في ذاتيهما [على السكون. كان سكونهما في ذاتيهما(١)] علة لبقاء المسامتة الحاصلة بينهما ، وذلك لأن سكونه في ذاته أمر حاصل له في ذاته ، وأما مسامتته مع غيره فهي أمر يحصل له بالنسبة إلى غيره.

__________________

(١) سقط (م) ، (ت).

وما [ثبت (١)] للشيء [بذاته (٢)] قبل ما يثبت له بسبب غيره ، كان سكونه في ذاته أمرا مغايرا لبقاء مسامتاته مع غيره.

الرابع : إنه يمكننا أن نعقل كون الشيء ساكنا في ذاته ، مستقرا في حيزه الذي هو فيه ، حال كوننا غافلين عن كل ما سواه. وأما بقاء مسامتته مع غيره ، فهذا لا يمكن [تعقله إلا (٣) مع] تعقل غيره. فعلمنا : أن كونه ساكنا في ذاته أمر مغاير لبقاء مسامتاته مع غيره.

وأما قوله (٤) : إنه لو كان المكان عبارة عن السطح ، لزم أن نحكم على المتحرك حال كونه متحركا بكونه ساكنا. فتقريره : أنا إذا وضعنا شيئا من الدقيق في جراب. فعند القائلين بأن المكان هو السطح [يكون مكان ذلك الدقيق هو السطح (٥)] الباطن من ذلك الجراب ، المماس للسطح الظاهر من ذلك الدقيق. فإذا فرضنا أنه نقل ذلك الجراب من «الريّ» إلى «خراسان» فقد انتقل ذلك الدقيق من بلد إلى بلد ، مع أن المماسة الحاصلة بين ذينك السطحين باقية ثابتة غير متغيرة. فلو لم يكن المكان إلا السطح ، لوجب الحكم على ذلك الدقيق بأنه بقي ساكنا ، مع أنا نعلم بالضرورة أنه انتقل من «الري» إلى «خراسان» وذلك باطل.

فإن قالوا (٦) : إن ذلك الدقيق الذي في ذلك الجراب ، لا نقول : إنه متحرك بالذات، بل نقول : إنه متحرك بالفرض. فالجواب أن نقول : إن قول القائل هذا الجسم متحرك بالفرض : لفظة [مبهمة (٧)] لا بد من البحث عن معناها. فنقول : لا شك أنا حين جعلنا هذا الدقيق في الجراب ، حين كنا في «الري» فقد كان هذا الدقيق حاصلا في الري ، فإذا جئنا بذلك الجراب إلى «خراسان» فلا شك أن ذلك الدقيق حصل في «خراسان» فذلك الدقيق الذي كان في «الري» إما أن يقال : إنه في نفسه لم ينتقل ولم يتحرك ، بل بقي

__________________

(١) من (س ، ط).

(٥) سقط (ط ، س).

(٢) من (س ، ط).

(٦) فإن قيل (س).

(٣) سقط (ط).

(٧) من (س).

(٤) قولنا (م).

كما كان. وإما أن يقال : إنه انتقل وتحرك. والأول مكابرة ، فإن هذا الدقيق كان حاصلا في «الري» والآن حصل في «خراسان» فكيف يعقل أن يقال : لم ينتقل ولم يتحرك؟ فيثبت : أنه انتقل في نفسه وتحرك في ذاته ، وظاهر أنه لم ينتقل عن ذلك السطح الذي كان محيطا به في «الري» لأنه حال ما حصل في «خراسان» يقع السطح من ذلك الدقيق ، مماسا للسطح الباطن من الجراب. فعلمنا : أن المكان الحقيقي الذي يسكن فيه ذات الجسم ، ويتحرك عنه وإليه : هو الفضاء المذكور ، والخلاء الموصوف (١) حتى يقال : إن ذات الدقيق انتقل من ذلك الفضاء الذي كان في «الري» إلى الفضاء الحاصل ب «خراسان» وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية : إنا نعلم بالضرورة : أن بين طرفي الطاس امتدادا مخصوصا ، وبعدا معينا. فذلك البعد والامتداد ، إما أن يكون هو بعد الجسم الحاصل بين طرفيه ، وإما أن يكون بعدا آخر مغايرا له.

والأول باطل لوجوه :

أحدها : إنا سنقيم الدلالة على أن الخلاء ممكن الوقوع ، وبتقدير وقوع الخلاء يكون ذلك البعد والامتداد حاصلا ، مع عدم الأجسام التي يصح عليها الحركة والسكون. وذلك يدل على أن ذلك البعد مغاير للبعد الحاصل في الأجسام.

وثانيها : هب أن الملاء واجب الحصول ، إلا أن حصوله غير معلوم بالبديهة ، بل هو معلوم الثبوت بالدلائل الدقيقة ، والوجوه الغامضة فقبل العلم بتلك الدلائل يكون وجود تلك الأجسام غير معلوم ، لكنا بينا أن وجود البعد الممتد بين طرفي الطاس [معلوم بالبديهة ، والشيء الواحد لا يصدق عليه كونه معلوما بالبديهة ، وغير معلوم بالبديهة. وهذا يدل على أن ذلك البعد الممتد بين طرفي الطاس (٢)] العلوم ثبوته بالضرورة ، مغاير للأجسام الحاصلة بين طرفي الطاس.

__________________

(١) المذكور (س).

(٢) سقط (ط) ، (س).

وثالثها : إن البعد الممتد بين طرفي الطاس المعين ، بعدا واحدا بالشخص لا يتبدل ولا يتغير. وأما الأجسام الحاصلة في داخل الطاس ، فإنها أجسام مختلفة متعاقبة. فإن الطاس تارة يكون مملوءا بالماء ، ثم إن الماء يخرج ويدخل فيه الهواء ، ثم إن ذلك الهواء قد يخرج ويحصل عقيبه هواء آخر. فالحاصل أن البعد الممتد بين طرفي الطاس بعد واحد بالشخص ، باقي بعينه ، لا يتبدل ولا يتغير. وأما الأجسام التي تحصل في داخل ذلك الطاس ، فإنها أجسام [متبدلة متعاقبة (١)] والشيء الواحد بالشخص المصون عن التبدل والتغير ، مغاير للشيء الذي لا يكون باقيا ، بل يكون متبدلا متغيرا. وذلك يدل على أن ذلك البعد الممتد بين طرفي الطاس ، مغاير للأجسام الشاغلة لتلك الأحياز.

الحجة الثالثة : لو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي ، لزم القول بأن المكان قد يزداد حال بقاء المتمكن في ذاته بحاله ، ويلزم أيضا أن يقال : المكان يبقى كما كان حال انتقاص ذلك المتمكن ، ويلزم أيضا أن يقال المكان قد يزداد حال ما ينتقص المتمكن ، وكل ذلك باطل ، فالقول بأن المكان هو السطح باطل.

فهذه إلزامات ثلاثة : أما الإلزام الأول : فبيانه في صورتين :

الصورة الأولى : إن الجسم الواحد إذا جعل قطعا كثيرة ، فمقدار مجموع هذه القطع يكون مساويا لمقدار كله قبل القطع والتفريق. لكن السطوح المحيطة بهذه القطع تكون أكثر من السطح المحيط بمجموع ذلك الجسم قبل التقطيع والتفريق. فههنا مقدار المتمكن واحد في حالتي الاتصال والتقطيع ، مع أن مكانه حال ما كان متصلا ، أقل بكثير من مكان عند حصول التقطيع فيه.

الصورة الثانية : إنه ثبت في الهندسة : أن أوسع الأشكال هو الدائرة. فالشمعة إذا جعلت كرة ، فإن السطح المحيط بها أصغر (٢) من السطح المحيط

__________________

(١) منتقلة (م ، ت).

(٢) أكثر (م).

بها عند ما تجعل مكعبة (١) فههنا المتمكن باقي بحاله ، مع أن المكان ازداد عند التكعيب.

أما الإلزام الثاني : وهو أن يبقى المكان بحاله مع انتقاص المتمكن فنقول : الماء الذي في القربة. مكانه هو السطح الداخل من القربة ، فإذا عصرنا القربة حتى فاض بعض ما كان فيها من الماء ، بقي سطح القربة محيطا بما بقي فيها من الماء. فههنا المتمكن قد انتقص مع أن المكان باقي كما كان.

وأما الإلزام الثالث : [وهو قولنا (٢)] المتمكن قد ينتقص والمكان يزداد. فنقول : تقريره : إنا إذا فرضنا مكعبا متساوي السطوح ، فإن مكانه هو السطح المحيط به ، فإذا أحدثنا في كل واحد من جوانبه نقرا عميقة واسعة ، فههنا انتقص جرم المتمكن ، ولزم من انتقاصه ازدياد السطوح المحيطة به. فلو كان المكان عبارة عن السطوح المحيطة بالشيء ، لزم في هذه الصورة أن يقال : انتقاص ذات (٣) المتمكن أوجب ازدياد مكانه. ومعلوم أن كل هذه اللوازم باطلة فاسدة. أما إذا قلنا : المكان هو البعد الذي [ينفد فيه ذات (٤)] الجسم [لم يلزم عليه (٥)] شيئا من هذه المنكرات (٦) والمحالات.

الحجة الرابعة : إنا إذا تخيلنا جسما واحدا ، وتخيلنا أنه وجد وليس معه غيره ، فإنه لا بد وأن يحكم العقل عليه بأنه هاهنا أو هناك فيثبت : أن المعنى [المعقول (٧)] من قولنا : الجسم هاهنا أو هناك : أمر لا يقدر الذهن على تصور وجود الجسم ، إلا مع تصور حصوله. وأما كون الجسم ، ممسوس جسم آخر ، أو محاط جسم آخر ، فأمر يتمكن العقل من تصور الجسم جسما مع الذهول عنه. وهذا القياس ينتج إنتاجا ضروريا : أن المعقول من كون الجسم هاهنا أو

__________________

(١) يحصل تكعيبه (م).

(٢) من (س ، ط).

(٣) وجوب (ت) وجود (م) ذات (ط ، س).

(٤) بداخله (م).

(٥) فإن (م).

(٦) المنكرات لا تتوجه إليه (م ، ت).

(٧) سقط (م ، ت).

هناك : مغاير للمعقول من كونه بحيث يحيط به غيره. فيثبت : أن الحيز الذي حكم العقل بكون الجسم حاصلا فيه : مغاير للسطح الحاوي [والله أعلم (١)].

ومما يؤكد ذلك : أن صريح العقل يحكم بأن الجسم حال وجوده لا بد وأن يكون إما متحركا وإما ساكنا. وصريح العقل لا يحكم بأنه يجب أن يكون [إما (٢)] مماسا لسطح واحد ، أو منتقلا من مماسة سطح آخر. لأن العقل يمكنه تصور الجسم بحيث لا يماسه شيء من السطوح أصلا.

فيثبت : أن المعقول من كونه متحركا وساكنا ، مغاير للمعقول من كونه مماسا لسطح واحد ، أو منتقلا من مماسة سطح إلى مماسة سطح آخر.

وإذا ثبت هذا فنقول : المعقول من الحركة هو الانتقال من [الحيز إلى الحيز الذي يليه (٣)] والمعقول من السكون هو الاستقرار في الحيز الواحد ، وهذا يقتضي أن سكون هذا الحيز الذي يستقر الجسم فيه تارة ، وينتقل منه إلى غيره أخرى : مغايرا للسطح الحاوي. وذلك هو المطلوب.

الحجة الخامسة : إن الأجسام متناهية. فمجموع الأجسام يجب أن يكون له حيز وجهة ، ومجموع الأجسام يمتنع أن يحيط به سطح آخر. ينتج : أن الحيز والجهة أمر مغاير للسطح الحاوي. لا يقال : مجموع الأجسام ليس لها حيز ولا جهة البتة ، وإنما حصل له وضع بالقياس إلى الأجسام الموجودة في داخله. نعم لا شك أنه يتعذر علينا إثبات جسم لا يكون له حيز ولا جهة. إلا أن الحاكم بهذا الحكم هو الوهم والخيال ، لا العقل. وقد ثبت أن حكم الوهم والخيال باطل كاذب. لأنا نقول : إنا نجد صريح العقل والفطرة شاهدان بأن كل جسم فإنه لا بد وأن يكون حاصلا في حيز وفي جهة.

والذي يؤكد هذا وجوه :

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (س).

(٣) حيز إلى حيز (س).

الأول : إنا ببداهة عقولنا نعلم أن الخط الذي هو محور العالم ، لو خرج من جانبيه إلى ما لا نهاية له ، فإن أحد جانبي ذلك الخط ، مغاير للجانب الآخر منه. ومن أنكر هذا التغاير ، فقد نازع في أقوى البديهيات.

الثاني : إنا لو فرضنا إنسانا واقفا على طرف القطب الشمالي ، فإنه لا بد وأن يميز قدامه عن خلفه. والعلم بهذا الامتياز ضروري.

الثالث : إن النقطة المفروضة في السطح الأعلى من الفلك ، لا شك أنها تكون متحركة [حال استدارة (١)] الفلك ، ولا معنى لتلك الحركة ، إلا أن تلك النقطة انتقلت من حيز إلى حيز [آخر (٢)] وذلك هو المطلوب.

وأما قوله : «إن هذا الحكم عمل الوهم والخيال. وذلك كاذب».

فنقول : هذا الكلام باطل من وجوه :

الأول : وهو أنا نجد الجزم بصحة هذه القضية جزما قاطعا غير قابل للشك والشبهة ، ولا نجد في القلب تفاوتا بين قوة هذه القضية وبين سائر البديهيات. وإذا كان كذلك فنقول : لو جوزنا أن تكون القضية مع هذا القدر من القوة كاذبة فحينئذ يرتفع الأمان عن البديهيات ، ويحتاج في تصحيح ما يصح منها إلى النظر والاستدلال ، لكن الاستدلال موقوف على صحة البديهيات ، فيلزم الدور. وهو فاسد.

والثاني : وهو إنا نجد في فطرة النفس السليمة عن الآفات ، وغريزة القلب المبرأة عن المشوشات : أحكاما يقينية قاطعة ، ثم أنتم تقولون : الحاكم ببعضها هو العقل ، [وهو صادق (٣)] والحاكم [بالبعض الآخر (٤)] هو الوهم وهو كاذب. فعلى هذا التقرير ما لم يعرف الفرق بين العقل وبين الوهم ، وما لم يعرف ثانيا أن هذا الحكم هو حكم العقل لا حكم الوهم ، وما لم يعرف ثالثا

__________________

(١) باستدارة (م).

(٢) من (س ، ط).

(٣) الصادق (س).

(٤) بالبقية (ت ، م).

أن العقل صادق ، وأن الوهم كاذب. فإنه لا يمكننا أن نحكم بصحة تلك القضية التي جزمنا بصحتها.

ونقول : العلم بهذه الأمور الثلاثة إن كان بديهيا ، امتنع حصول الجزم في القضايا الكاذبة ، مع حصول العلم البديهي بكونه كاذبا. وإن كان استدلاليا ، لزم توقف البديهيات على الدلائل [لكن الدلائل (١)] موقوفة على البديهيات. فيلزم الدور [وتبطل كل العلوم (٢)] وتلزم السفسطة.

[الثالث (٣)] : وهو أنه لا معنى للعلوم البديهية الأولية إلا القضايا التي أراد العاقل تشكيل نفسه فيها لما قدر [عليه لكن (٤)] العلم بأنه لا بد وأن يمتاز جانب القطب الشمالي عن جانب القطب الجنوبي ، علم لو أراد العاقل تشكيك نفسه فيه [لما قدر عليه (٥)] فوجب أن يكون ذلك من العلوم البديهية.

فهذا مجموع الدلائل الدالة على أن المكان عبارة عن البعد القائم بذاته ، لا عن السطح الحاوي. والله أعلم.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) سقط (ط).

الفصل الخامس

في

بيان أن الخلاء

ممتنع الوقوع أو ممكن الوقوع؟

مذهب «أرسطاطاليس» : أنه ممتنع الوقوع. وبه قال جميع (١) أتباعه.

ومذهب جمهور الأقدمين من الحكماء ، وجمهور المتكلمين : أنه جائز الوقوع. وهو المختار. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن بديهة العقل حاكمة بأن الجسم الذي هو المتمكن مفتقر إلى الفضاء الذي هو المكان ، فلو كان وجود الفضاء الذي هو المكان ممتنع الوجود ، إلا مع المتمكن ، لزم افتقار كل واحد منهما إلى الآخر ، فيكون دورا ، وهو محال. فيثبت : أن الفضاء غني في وجوده وفي ذاته عن المتمكن. وهو أيضا غير موجب (٢) لذات المتمكن وإلا لامتنع أن يفارق المتمكن. فيثبت : أن المكان غني في ذاته عن المتمكن ، وغير موجب له ، وما كان كذلك لم يمتنع وجوده منفكا عنه ، فيلزم القطع بأنه لا يمتنع وجود الحيز والفضاء خاليا عن المتمكن. ولا معنى للخلاء إلا ذلك. فإن قيل : يشكل ما ذكرتم بالجوهر والعرض. فإن كل واحد منهما غني في وجوده عن الآخر. وإلا وقع الدور ، وأحدهما غير موجب للآخر ، وإلا لامتنع وجود الجسم بدون ذلك العرض ، مع أنه يمتنع حصول الجسم إلا مع العرض.

__________________

(١) جمهور (س).

(٢) واجب (م).

والجواب : الأعراض عندنا على قسمين : منها ما يجري مجرى المعلول لذات الجسم ، ومنها ما لا يكون كذلك.

أما القسم الأول : فهو كالحصول في الحيز. فإن ماهية الجسم تقتضي كونها حاصلة في الحيز ، فلا جرم يمتنع خلو ذات الجسم عن الحصول في الحيز. ثم إن كان ذلك الحصول حاصلا عقيب [حصول (١)] آخر ، فهو الحركة. وإن لم يكن كذلك فهو السكون. وفي الحقيقة : يرجع حاصل القول في الحركة والسكون إلى الحصول في الحيز ، لكنا بينا أن الحصول في الحيز كالمعلول لماهية الجسم ، وكالموجب عنها ، فلا جرم [قلنا : إنه (٢)] يمتنع خلو ذات الجسم عن الحركة والسكون ، وأما سائر الأغراض فهي كالألوان والطعوم والروائح [وغيرها (٣)] وعندنا يجوز خلو الجسم عنها.

إذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن الجسم مفتقر إلى الحيز ، فيمتنع [كون الجسم (٤)] علة لحصول الحيز [وأيضا : الحيز (٥)] يمتنع كونه علة لوجود الجسم. وإذا ثبت هذا ظهر أنه ليس واحد منهما علة لحصول الآخر ، فلما ثبت أن الجسم محتاج إلى الحيز ، وجب كون الحيز غنيا عن الجسم ، فوجب جواز حصول الحيز ، خاليا عن الجسم. وهذا بخلاف الجسم مع الحصول في الحيز فإنا بينا : أن ماهية الجسم علة للحصول في الحيز ، فظهر الفرق. وأما سائر الأعراض فقد ذكرنا أنه لا يمتنع خلو الجسم عنها بأسرها. فقد زال النقض.

الحجة الثانية على صحة القول بالخلاء : أنه لو امتنع الحيز عن المتمكن ، لكان [إمساك (٦)] الحاصل ، أسهل من تحصيل المفقود ، فكان يلزم أن لا يمكن الحيز (٧) من خروج المتمكن منه ، فكان يلزم أن يمتنع على الجسم أن يتحرك عن مكانه ، وحيث لم يمتنع، علمنا أن ذلك لأجل أن ذات الحيز ممكن

__________________

(١) الحصول في حيز (م).

(٥) سقط (م).

(٢) من (س).

(٦) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٧) المكان (ت ، م).

(٤) كونه (س).

الوجود (١) بدون المتمكن. وذلك يوجب القول بجواز الخلاء [والله أعلم (٢)].

الحجة الثالثة : إذا تحرك الجسم. فالموضع المنتقل إليه. إما أن يقال : إنه كان خلاء قبل انتقال هذا المنتقل إليه ، أو كان ملاء. والأول هو المطلوب. والثاني على قسمين. لأن عند انتقال هذا المنتقل إليه ، إما أن يقال : إنه بقي ذلك الخلاء هناك ، أو انتقل عنه إلى موضع آخر. والأول يقتضي تداخل الأجسام ، وهو محال. والثاني على قسمين. لأنه إما أن يقال : إن ذلك الملاء انتقل إلى مكان هذا المنتقل ، وهذا المنتقل انتقل إلى مكان ذلك الملاء. أو يقال : إن ذلك الملاء انتقل إلى مكان جسم آخر. والأول يوجب الدور ، لأن صحة انتقال هذا المنتقل إلى مكان الملاء ، مشروط بانتقال ذلك الملاء عن ذلك المكان ، وذلك الانتقال مشروط بفراغ هذا المكان عن هذا المنتقل ، وهذا الفراغ مشروط بانتقال [هذا المنتقل (٣)] إلى مكان ذلك الملاء. فيصير دورا. والثاني وهو القول بأن ذلك الملاء انتقل إلى مكان جسم آخر. فيكون الكلام فيه كما في الأول ، فيلزم أن تتدافع جملة العالم عند حركة [البقة (٤)] وهذا قول لا يقبله العقل. فيثبت : أن القول بأن العالم ملاء يفضي إلى أحد هذه الأقسام الباطلة ، فكان القول به باطلا.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الجسم إذا انتقل من جانب إلى جانب ، فإنه يحدث في الحيز [المنتقل عنه جسم ويفنى عن الحيز (٥)] المنتقل إليه آخر و[حينئذ لا يحصل الخلاء. ويفنى من الجانب المنتقل إليه جزء ، ليصير ذلك الحيز حيزا لهذا المنتقل (٦)] وحينئذ لا يلزم [القول بالخلاء (٧)] وهذا الذي ذكرناه غير مستبعد [البتة (٨)] إما لأجل أنا نقول : بالفاعل المختار [فإنه تعالى (٩)] يحدث جزءا في [أحد (١٠)] الحيزين ، ويفنى(١١) جزءا عن الحيز الآخر

__________________

(١) التحقق (م ، ت).

(٧) شيء مما ذكرتموه (ت ، م).

(٢) من (ط ، س).

(٨) من (س).

(٣) سقط (م).

(٩) من (س).

(٤) عند قول البتة (م ، ت).

(١٠) من (س).

(٥) سقط (م)

(١١) ويعدم (م ، ت).

(٦) سقط (ط).

[وعلى هذا التقدير فالأشكال زائل (١)] لأجل أنا نقول : الأجسام قابلة للتخلخل والتكاثف ، فإذا انتقل الجسم عن حيز ، ازداد مقدار الجسم في الجانب المنتقل عنه ، وانتقص مقداره في الجانب المنتقل إليه ، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.

ثم نقول : هذا الدليل ينتقض بحركة السمكة في الماء ، فإنه لا يعقل حصول الخلاء في داخل الماء (٢) وذلك لأن الماء جرم سيّال بالطبع إلى المواضع الخالية. فلو حصل هناك خلاء ، لسال الماء إليه. فيثبت : أنه ليس في داخل الماء شيء من الخلاء. وإذا ثبت هذا فنقول : إن السمكة إذا تحركت في قعر البحر ، لزمكم أن تقولوا : إنه يتموج بكليته [ويتدافع (٣)] بسبب حركة تلك السمكة (٤) فإن التزمتم ذلك ، فنحن أيضا نلتزم تدافع أجزاء (٥) العالم بسبب حركة البقة.

والجواب عن الأول : أن نقول : صحة إحداث الله الجسم في الحيز المنتقل عنه : مشروط بكون ذلك الحيز خاليا. لامتناع تداخل الأجسام. فلو جعلنا صحة (٦) خلوه مشروطا بخلق الله تعالى ذلك الجزء فيه ، لزم الدور ، وهو باطل [وكذا القول في إعدام الحيز عن الجانب المنتقل إليه ، لأن هذا الإعدام مشروط بعدم الخلاء ، وعدم الخلاء مشروط بحصول الجسم المنتقل في ذلك الحيز ، فلو جعلنا صحة حصوله فيه مشروطا بإعدام ذلك الحيز ، لزم الدور (٧)] وهذا الجواب لا يختلف سواء قلنا : إنه يحدث أحد الجسمين ويعدم الثاني بإيجاد الله تعالى وبإعدامه ، أو قلنا : إنه يزداد مقدار الجسم من أحد الجانبين ، وينتقص من الجانب الآخر بسبب التخلخل والتكاثف على أنا قد بينا

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) في (س ، ط).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) تلك السمكة كل البحر فإن ... الخ (م ، ت).

(٥) جملة (س).

(٦) صحة ذلك الخلق مشروطا (س ، ط).

(٧) سقط (ط) ، (س).

في باب الحركة : أن القول بالتخلخل والتكاثف : قول باطل محال.

والجواب عن الثاني : أنا نقول : مذهبنا أنه حصل في داخل الماء خلاء كثير ، وذلك هو السبب في كون الماء لطيفا متموجا ، وذلك لأن الماء ثقيل سيال بالطبع ، وكلما انصب بعض أجزاء الماء إلى بعض الأحياز الخالية ، صارت سائر الأحياز خالية. فتنصب أجزاء الماء مرة أخرى من تلك الأحياز [إلى هذه الأحياز (١)] وهكذا أبدا. ولهذا السبب يكون جسم الماء متموجا [متحركا (٢)] أبدا. وعلى هذا التقدير فقد سقط السؤال.

الحجة الرابعة : إذا فرضنا سطحا لقي سطحا آخر بكليته ثم ارتفع عنه دفعة ، فإنه يجب وقوع الخلاء بينهما في أول زمان حصول ذلك الارتفاع.

فلنبين إمكان هذه الأمور (٣) :

أما المقدمة الأولى فهي في بيان أنه يصح أن يلقى سطح سطحا آخر بكليته. وبرهانه : أنه لو امتنع أن يلقى سطح سطحا لبقيت الفرج خالية بينهما. وذلك يوجب القول بالخلاء. وأيضا فالبديهة حكمت بصحته. لأنا إذا وضعنا باطن إصبعنا على الإصبع الثاني ، من اليد الثانية ، علمنا بالضرورة أنه صار سطح هذا الإصبع ملاقيا لسطح الإصبع الثانية بالكلية. وإنه (٤) من المحال أن يقال : إنه لم تحصل الملاقاة إلا على نقط متفرقة متباينة.

وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أنه يصح أن يرتفع أحد السطحين عن الآخر دفعة. وبرهانه : أن الجزء الأول من السطح الأعلى ، إذا ارتفع عن السطح الأسفل ، فلو بقي الجزء الثاني من السطح الأعلى ، مماسا لجزء من السطح الأسفل ، لزم وقوع التفكك بين أجزاء السطح الأعلى. لأن الجزء الأول إذا ارتفع فقد تحرك إلى فوق ، فلو بقي الجزء الثاني مماسا (٥) للشيء الذي

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط) ، (س).

(٣) الأحوال (س).

(٤) وإنه لا يمكن أن يقال : تحصل الملاقاة ... الخ (م ، ت).

(٥) مماسا لما كان مماسا (م ، ت).

كان مماسا له قبل ذلك ، فهو حينئذ لم يتحرك أصلا. والجسم إذا تحرك أحد جانبيه ، ولم يتحرك منه الجانب الآخر البتة ، فإنه يلزم وقوع التفكك في أجزائه. وهذا هو الذي عوّل عليه الحكماء في إبطال الجزء الذي لا يتجزأ ، حيث قالوا : لو تحرك بعض أجزاء الرحى مع سكون البعض ، لزم وقوع التفكك [لكن القول بالتفكك (١)] باطل. فالقول بأن السطح الأعلى يرتفع عن الأسفل دفعة واحدة حق. وأيضا : فلنفرض وقوع التفكك فنقول : اللامماسة من الأمور التي تحصل في الآن ، فالسطحان المفروضان لا شك أنهما كانا متماسين، فإذا حصلت اللامماسة فهذا الذي صار لا مماسا دفعة. إما أن يكون سطحا أو نقطة. فإن كان الأول فقد حصل المطلوب. وإن كان الثاني لزم تشافع (٢) النقط وتتالي الآنات ، وهما باطلان عند القوم.

وأما المقدمة الثالثة فهي في بيان أنه لما ارتفع أحد السطحين عن الآخر فإنه يلزم حصول الخلاء في وسطها. وبرهانه : أنه لو حصل بينهما جسم ، فإما أن يقال : كان ذلك الجسم حاصلا بينهما قبل ذلك أو يقال : إنه انتقل إليه حين رفعنا الأعلى من الأسفل. والأول باطل. لأنا بينا : أن من الممكن أن ينطبق سطح على سطح ، وكل ما كان ممكنا فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فليفرض وقوعه ، لأن المبني على الممكن ممكن. والثاني باطل أيضا. لأن الانتقال إلى ذلك الوسط ، إما أن يكون من مسام الأعلى والأسفل ، أو من الجوانب. والأول باطل. لأن الأجسام (٣) التي تحصل فيها المنافذ والمسام ، فإنه لا بد وأن يحصل بين كل منفدين : سطح متصل ، وإلا لزم أن لا يحصل في السطح ذي المنافذ وذي المسام سطح متصل ، وحينئذ يكون الجسم عبارة عن نقط متفرقة ، وذلك باطل. وإذا حصل في السطح ذي المنافذ سطح متصل ، ثم إنا نجد السطح ذا المنافذ يرتفع عما تحته دفعة ، علمنا أن كل واحد من تلك

__________________

(١) سقط (م ، ت).

(٢) تدافع (م).

(٣) الأجسام وإن حصلت المنافذ والمسام فيها إلا أنه لا بد وأن يحصل بين كل مقدمتين سطح منعقد وإلا لزم ... الخ (م ، ت).

السطوح المتصلة ، قد ارتفع عنا تحته دفعة [واحدة (١)] فإذا لم يكن في ذلك السطح الصغير شيء من المنافذ امتنع أن يقال : الجسم دخل في منافده ، والثاني أيضا باطل. لأن انتقال تلك الأجسام من الجوانب إلى الوسط ، إما أن لا يعتبر فيها مرورها بالطرف ، وهو ظاهر الفساد ، أو يعتبر فيه ذلك. وحينئذ لا يخلو إما أن يقال إنه : حين يكون في الطرف يكون في الوسط أيضا ، وهو ممتنع. لأن الجسم الواحد لا يحصل دفعة واحدة في حيزين ، أو يقال : إنه حين يكون حاصلا في الطرف ، لا يكون حاصلا في الوسط. وحينئذ يلزم أن يقال : إن حين كان ذلك الجسم حاصلا في الطرف ، كان الوسط خاليا. وهو المطلوب.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه كلما (٢) ارتفع أحد السطحين عن الآخر ، فإن الفاعل المختار يخلق في ذلك الوسط جسما. وحينئذ لا يلزم القول بالخلاء؟ أو يقال : إنه كلما ارتفع أحد السطحين عن الآخر فإن الأجسام المحيطة بهما تتخلخل ويزداد عظمها ، ويمتلئ الوسط بها في الحال؟

والجواب. أما الأول فمدفوع من وجهين :

الأول : إن الفاعل المختار لا يقول به الفلاسفة.

والثاني : يلزم الدور المذكور ، وذلك لأن صحة إحداث الجسم هناك ، مشروط بارتفاع أحد ذينك السطحين عن الآخر ، لئلا يلزم تداخل الأجسام ، فلو جعلنا صحة ارتفاع أحد ذينك السطحين عن الآخر مشروطة بإحداث ذلك الجسم ، لزم الدور. وأما القول بازدياد مقادير الأجسام المحيطة بذينك السطحين فهو باطل. لوجهين :

الأول : هذا المذهب باطل على ما بيناه في باب الحركة.

والثاني : هو أنا نقول : هب أن هذا الازدياد ممكن ، إلا أن طرف ذلك

__________________

(١) سقط (س).

(٢) كما كان (م).

الجسم المتخلخل ، لا بد وأن يمتد (١) من الخارج إلى الداخل ، فحين يكون طرفه متصلا بطرف ذينك السطحين ، يكون الوسط خاليا عنه ، وحينئذ يحصل المطلوب[والله أعلم(٢)].

الحجة الخامسة : إن الإنسان قد ينفخ في الزقّ نفخا شديدا بحيث لا يمكنه أن يزيد على ذلك النفخ ، ثم يسد رأس ذلك الزق سدا وثيقا ، ثم إنه بعد ذلك لو حاول غرز المسلّة الواحدة فيه أو الأعداد الكثيرة من المسلات في ذلك الزق ، أمكنه ذلك. ولو لا أنه حصل في داخل ذلك الزق [المنفوخ (٣)] خلاء كثير ، وإلا لما أمكن ذلك ، لأنه [يلزم (٤)] تداخل الأجسام. فإن قيل : لعل المسلة إنما نفدت في ذلك الزق ، لأن عند حصول ذلك الغرز ، يتمدد جرم الزق [ويتسع ، فيحصل لتلك المسلة مكان في داخل ذلك الزق (٥)] المنفوخ ، أو يقال : لعله حصل عند غرز المسلة في الزق ، خروج بعض أجزاء الهواء المنفوخ فيه من مسام ذلك الزق. وحينئذ يتسع داخل ذلك الزق لنفوذ المسلة فيه. أو يقال : ثبت أن الأجسام قابلة للتخلخل والتكاثف ، فلعل عند غرز المسلة تكاثف ذلك الهواء المنفوخ في الزق وانقبض ، فحصل للمسلة المغروزة في ذلك الداخل مكان. وإذا كانت هذه الاحتمالات قائمة ، امتنع الاستدلال بإمكان غرز المسلة في الزق المنفوخ على حصول الخلاء داخل ذلك الزق.

والجواب عن الأول. إنا نفرض الكلام فيما إذا بالغ الإنسان في تمديد الزق ، قبل أن ينفخ فيه ، ثم بالغ في النفخ مبالغة لا يمكنه أن يزيد عليها. فههنا لا شك أن أجزاء الزق قد تمددت بسبب المبالغة في التمديد أولا ، والنفخ ثانيا. فلو حصل بسبب غرز المسلة فيه تمدد أزيد مما كان ، لما حصل ذلك إلا بعد قوة شديدة وتكلف عظيم. لكنا نعلم بالضرورة أنه لا يحتاج في هذا الغرز إلى قوة شديدة ، فبطل هذا الاحتمال.

__________________

(١) يكون (س).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (س).

(٥) سقط (ط) ، (س).

وأما قوله ثانيا : لعل عند غرز هذه المسلة ، خرج بعض أجزاء الهواء من مسام الزق.

فجوابه : أن تلك الأجزاء لما لم تخرج عند المبالغة الشديدة في النفخ ، وجب أن لا تخرج أيضا عند هذا الغرز ، إلا عند القوة الشديدة في هذا الغرز.

ومعلوم أن هذا الغرز مما لا يحتاج إلى هذه القوة الشديدة. فصار هذا الاحتمال مدفوعا.

وأما قوله ثالثا : إن الهواء المحصور في داخل الزق المنفوخ ، لعله يصير متكاثفا منقبضا. فجوابه : أن القول بالتكاثف والتخلخل (١) باطل على ما قررناه في باب الحركة [والله أعلم (٢)].

الحجة السادسة : إن القارورة قد تمص ، ثم تكب على الماء ، فيتصاعد الماء إليها ، ولو كانت بعد المص مملوءة كما كانت قبل ذلك المص ، لوجب أن لا يتصاعد الماء إليها بعد المص ، كما لا يتصاعد الماء إليها قبل المص. فإن قالوا : إن بسبب المص خرج بعض ما كان في القارورة من الهواء ، ثم ازداد حجم البقية ازديادا امتلأت القارورة منه ، إلا أن ذلك الازدياد كان قسريا ، حاصلا بسبب المص ، فلما كبت القارورة على الماء ، زال القاسر فعاد ذلك الهواء إلى مقداره الطبيعي ، الذي كان حاصلا أولا فتصاعد الماء إلى داخل القارورة ، لأجل ضرورة الخلاء.

قلنا (٣) هذا باطل من وجوه :

الأول : إن القول بالتخلخل والتكاثف باطل محال على ما قررناه (٤).

والثاني : [هب (٥)] أن ذلك ممكن إلا أنا نقول : إن عند حصول هذا

__________________

(١) والانقباض (م ، ت).

(٢) سقط (م).

(٣) والجواب (م ، ت).

(٤) سبق تقريره (م ، ت).

(٥) سقط (س).

التخلخل [لزم القول (١)] بحدوث الذات ، وليس هذا عبارة عن حدوث [الصفة فقط(٢)] لأن الجسم إذا ازداد حجمه ومقداره. فكل جزء من أجزاء ذلك [المنبسط (٣)] المتخلخل [فهو ذات (٤)] قائمة بالنفس كسائر الأجزاء. وأيضا : فجميع تلك الأجزاء المفترضة في ذلك الجسم متشابهة بالماهية والطبيعة والحقيقة ، فعند زوال القاسر ، أو التقلص والقبض (٥) كان ذلك إشارة إلى عدم بعض تلك الأجزاء دون البعض. وهذا باطل. لأن تلك الأجزاء لما كانت متساوية (٦) في تمام الماهية لم يكن [عدم بعضها أولى من عدم الباقي (٧)] فإما أن يفنى الكل وهو محال ، أو يبقى الكل ، وحينئذ يلزم أن تبقى القارورة مملوءة كما كانت [وحينئذ (٨)] يجب أن لا يتصاعد الماء إليها بعد المص كما كان لا يتصاعد الماء إليها قبل المص.

والوجه الثالث في دفع هذا السؤال : أن نقول : ذكر الشيخ الرئيس أن «الهيولى ليس لها في حد ذاتها [وحقيقتها (٩)] : حجمية ولا مقدار فكانت نسبتها إلى جميع المقادير على السوية» هذا كلامه.

ونحن نقول : إذا كان الأمر كذلك امتنع أن يقال : إن بعض المقادير بالنسبة إلى تلك المادة ، طبيعي لها ، وبعضها قسرى لها. لأن نسبة جميع المقادير إليها على السوية. وإذا كان الأمر كذلك ، فهذه الحجمية الحاصلة عند المص وعند التخلخل تكون طبيعة لتلك المادة ، فوجب أن تبقى وأن لا تنتقص عند إكباب القارورة على الماء [والله أعلم (١٠)].

__________________

(١) كان ذلك عبارة عن (م ، ت).

(٢) الصفات (م ، ت).

(٣) من (م ، ت).

(٤) أسير إليه كان ذاتا (م ، ت).

(٥) لو تقلص وانقبض (س ، ط).

(٦) متشابهة متساوية (م ، ت).

(٧) اختصاص بعضها بالعدم وبعضها بالبقاء أولى من العكس (م ، ت).

(٨) من (م ، ت).

(٩) سقط (ط).

(١٠) سقط (م).

الحجة السابعة : إن الآنية الصلبة النحاسية إذا أملئت من الماء ، ثم سد رأسها سدا وثيقا ، ثم سخنت بالنار القوية فإنها تنشق. وما ذاك إلا أنه أزداد حجم ذلك الماء ، فلم يتسع داخل ذلك الإناء [له (١)] فانشقت الآنية.

ونقول : ذلك الازدياد إما أن يكون لأجل أن نفد فيه شيء من الخارج [وانضاف إلى ما كان فيه فصار المجموع زائدا ، أو يقال : إنه لم ينضم إليه من الخارج (٢)] بل صار حجمه ومقداره أزيد مما كان ، أو يقال : إنه وقعت الفرج والخلاءات في داخله ، فصار حجم المجموع بهذا السبب أزيد مما كان. والقسمان [الأولان (٣)] باطلان ، فبقي الثالث وهو المطلوب. أما القسم الأول وهو أنه نفد فيه من الخارج جسم آخر ، فهذا لا يوجب الانشقاق. وذلك لأن داخل الآنية إن كان متسعا لتلك الزيادة ، فحينئذ لا يلزم الانشقاق ، وإن لم يكن متسعا لتلك الزيادة فحينئذ لا يحصل النفود البتة ، وإذا لم يحصل النفود لم يحصل الانشقاق.

وأما القسم الثاني وهو القول بازدياد الحجم ، فهو باطل كما سبق تقريره فيما تقدم [ولما فسد (٤)] هذان القسمان بقي الثالث. وهو أنه إنما حصل الانشقاق ، لأنه وقعت الفرج الخالية في داخل ذلك الماء ، فصار حجم ذلك المجموع بهذا السبب أزيد مما كان. وذلك يوجب القول بالخلاء (٥).

الحجة الثامنة : إنا نأخذ قارورة ضيقة الرأس ، وننفخ فيها نفخا شديدا ، ثم نضع الإبهام بعد قطع النفخ على فمها سريعا ، لئلا يخرج منها الريح الذي نفخناه فيها ، فإذا غمسناها في الماء [وأزلنا الإبهام (٦)] عن رأسها ، ظهرت في الماء نفاخات وبقابق. وذلك لأن الريح الذي أدخلناه في

__________________

(١) من (س).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

(٤) وإذا ظهر فساد (م ، ت).

(٥) وذلك القول باطل (م ، ت).

(٦) ونزيل الإصبع (م ، ت).

القارورة بسبب النفخ الشديد ، يخرج عنها ، ويشق سطح الماء [عند الصعود (١)] فلا جرم تظهر النفاخات والبقابق. وذلك يدل على أنا أدخلنا في تلك القارورة عند النفخ من الهواء ، ما لو لا النفخ لما دخل فيه ، ولو كانت القارورة مملوءة من الهواء لما أمكن إدخال هواء أزيد فيه.

والجواب الذي يذكرونه من حيث التخلخل والتكاثف ، فقد عرفت ضعفه وسقوطه. [والله أعلم (٢)].

الحجة التاسعة : وهي في غاية القوة [أن نقول (٣)] : إنا سنقيم الدليل اليقيني على أن الأجسام المحسوسة ، مركبة من أجزاء ، كل واحد منها يقبل القسمة الوهمية ، ولا يقبل القسمة الانفكاكية البتة. ونقيم الدلالة أيضا على أنه يجب أن يكون شكل كل واحد منها الكرة. وإذا ثبت بالبرهان اليقيني صحة هاتين المقدمتين ، لزم أن يقال : إن تلك الأجزاء الكرية عند ائتلافها وتلاقيها ، يحصل فيما بينها : الخلاء لأن الكرات المضمومة بعضها إلى بعض ، لا بد وأن يحصل فيما بينها : الفرج والمنافذ والخلاءات. وهذا البرهان يقيني ، بعد إثبات تينك المقدّمتين المذكورتين. وسيأتي إن شاء الله تعالى تقريرها بالوجوه اليقينية ، في مسألة الجوهر الفرد. والله أعلم.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (م).

الفصل السادس

في

حكاية دلائل

نفاة الخلاء والجواب عنها

احتجوا بوجوه :

الحجة الأولى : إن الخلاء الذي يفترض بين طرفي الطاس ، أصغر من الخلاء الذي يفترض بين جداري (١) الصفة ، وهذا الخلاء أصغر من الخلاء الذي يفترض بين جدارى المدينة ، وهذا الخلاء أصغر من الخلاء الذي يفترض بين السماء والأرض. فهذا الخلاء قابل للمساواة والمفاوتة (٢) فهو : موجود ، وبعد ، ومقدار. وذلك المقدار إما أن يكون [مقدارا (٣)] قائما بنفسه ، مستقلا بذاته مغايرا لمقدار المتمكن ، بحيث ينفذ فيه مقدار المتمكن ويداخله ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل ليس ذلك المقدار [إلا مقدار (٤)] المتمكن والأول يوجب تداخل الأبعاد ، وذلك محال. فبقي الثاني ، وإذا ثبت هذا ، ظهر أن الذي يظن أنه خلاء ، فهو ليس بخلاء ، بل هو جسم. فيكون الخلاء : ملاء ، ولهذا المعنى قال الحكيم أرسطاطاليس : «الخلاء كاسمه خلاء» يعني : أنه لفظ خالي عن مفهوم (٥).

__________________

(١) طرفي (م).

(٢) واللامساواة (م).

(٣) سقط (ط ، س).

(٤) من (س).

(٥) عن المعنى الصحيح (م ، ت).

الحجة الثانية : إنه لو حصل الخلاء ، لكان كون الجسم ساكنا فيه : محالا. ولكان كونه متحركا فيه : محالا. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع كون الخلاء مكانا للجسم. إنما قلنا: إن الخلاء يمتنع كونه مكانا للجسم المتحرك وللجسم الساكن. وذلك لأن الخلاء إما أن يكون عدما محضا ، ونفيا صرفا ، على ما يقوله المتكلمون. أو يكون بعدا متشابه [الأجزاء والجوانب (١)] على ما هو قول القدماء من الحكماء. وعلى التقديرين فلا اختلاف بين أجزائه وأبعاضه البتة ، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يسكن الجسم [في جزء من أجزائه (٢) و] جانب من جوانبه. [لأن الجسم لو بقي مستقرا فيه طالبا له لازما للبقاء فيه (٣)] مع كونه مساويا لسائر الجوانب والأطراف ، يلزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إن الفاعل المختار يخصص ذلك الجسم بذلك الحيز المعين بقصده واختياره؟ فنقول : إن كان ذلك الحيز المعني موصوفا بأمر ، لأجله صار أولى بتخصيص ذلك الجسم به ، عاد الطلب في أن ذلك الحيز ، كيف اختص بذلك المرجح؟ وإن لم يوجد هذا المرجح ، كان رجحان القصد إلى تخصيص ذلك [الجسم به (٤)] دون سائر الجوانب ترجيحا للممكن من غير مرجح [وأيضا (٥)] فيمتنع أن يتحرك الجسم فيه. لأن الحركة عبارة عن ترك حيز ، وطلب حيز آخر. وذلك لا يتم إلا بأن يكون ذلك الحيز مخالفا لذلك الحيز ، في أمر من الأمور ، وإلا لكان تخصيص أحد [الجانبين بالهرب ، والآخر بالطلب ، رجحانا (٦)] للممكن من غير مرجح. وهو محال. فثبت : أن بتقدير حصول الخلاء يمتنع كون الجسم ساكنا فيه ، ويمتنع كونه متحركا

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) لأن اختصاصي الجسم بالسكون فيه مع كونه ... الخ (م).

(٤) سقط (م ، ت).

(٥) من (س).

(٦) أحد الحيزين بتركه ، وتخصيص الحيز الآخر بطلبه ، ترجيحا للممكن ... الخ (ت ، م).

فيه. وإذا كان كذلك ، وجب القطع بأنه يمتنع أن يكون الخلاء مكانا للجسم [والله أعلم(١)].

الحجة الثالثة : [لو قدرنا وجود (٢)] الخلاء ، لكانت حركة الجسم فيه ، إما أن [تكون واقعة (٣)] في زمان ، أو لا في زمان. والقسمان باطلان ، فالقول بحصول الخلاء باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع وقوعها في زمان ، لأن الجسم إذا تحرك في مسافة ، فكلما كان الجسم الحاصل في تلك المسافة أرق ، كانت الحركة فيها أسرع. ويدل عليه : التجربة والقياس. فأما التجربة فظاهرة ، لأن رسوب الحجر في الماء ، أسهل وأسرع من رسوبه في الدهن والدبس. وأما القياس فلأن انخراق الرقيق ، أسهل من انخراق الغليظ.

وإذا ثبتت هذه المقدمة فنقول : لنفرض أن المتحرك قطع عشرة أذرع من الخلاء ، في ساعة واحدة ، وقطع عشرة أذرع من المسافة المملوءة من الماء في عشر ساعات. فعلى هذا التقدير يكون زمان الحركة في الخلاء ، عشر زمان الحركة في الماء. ثم لنفرض ملاء آخر ، أرق من الماء. بحيث تكون رقته أزيد من رقة الماء عشر مرات. فإذا كان صغر زمان الحركة بحسب زيادة رقة الملاء الحاصل في المسافة وجب أن يكون في هذا الملاء الرقيق ، عشر زمان الحركة في الماء. وقد كان زمان الحركة في الخلاء ، عشر زمان الحركة في الماء. فيلزم : أن يكون زمان الحركة في هذا الملاء الرقيق ، مثل زمان الحركة في الخلاء ، فتكون الحركة مع العائق ، كهي لا مع العائق.

وأيضا : إذا فرضنا ملاء آخر أرق من ذلك ، كان زمان الحركة فيه أقل من زمان الحركة في الخلاء ، فتكون الحركة مع العائق أسرع منها [حال عدم (٤)] العائق. هذا خلف.

فيثبت بما ذكرنا : أنه لو صح القول بوجود الخلاء ، لامتنع أن تكون

__________________

(١) سقط (م ، ت).

(٢) لو صح القول بوجود (ت ، م).

(٣) تقع (م ، ت).

(٤) من غير (م ، ت).

الحركة الواقعة (١) فيه ، واقعة في زمان. وإنما قلنا : إنه يمتنع وقوع تلك الحركة [إلا (٢)] في زمان ، لأن كل حركة فعلى مسافة منقسمة ، فيكون وقوع [النصف الأول منها (٣)] قبل وقوع النصف الثاني منها. وذلك لا يتقرر إلا مع الزمان. فيثبت : أنه لو صح القول بوجود الخلاء ، لكانت حركة الجسم فيه ، إما أن تقع في زمان أو لا في زمان ، وثبت فساد القسمين ، فوجب أن يكون القول بالخلاء : باطلا.

الحجة الرابعة : إنه ثبت بالبرهان : أن الحجر إذا رمى قسرا [إلى فوق (٤)] فهو إنما يتحرك ، لأن (٥) المحرك القاسر أوجد فيه قوة محركة إلى فوق. وثبت : أن تلك القوة إنما تبطل بمصادمات الهواء الذي في تلك المسافة. إذا ثبت هذا فنقول : لو كانت تلك المسافة خالية لما حصلت المصادمات ، فكان يجب أن لا تفتر تلك القوة [ولا تبطل (٦)] وكان يجب أن لا يرجح الحجر المرمي ، إلا بعد وصوله إلى سطح الفلك. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا : أن هذه المسافة غير خالية.

الحجة الخامسة : الإناء الذي يكون ضيق الرأس ، وكان في أسفله ثقبة ضيقة. إذا جعل مملوءا من الماء ، فإن فتح رأسه نزل الماء ، وإن سد لم ينزل. وليس ذلك إلا لامتناع الخلاء. (٧)

الحجة السادسة : الأنبوبة إذا غمس أحد طرفيها في الماء ، ومص الطرف الآخر منه ، صعد الماء ، مع أنه ليس من شأن الماء الصعود ، وما ذاك إلا لأن سطح الهواء ، ملازم لسطح الماء. فإذا مص الهواء ، انجذب ، فتبعه الماء. وكذلك اللحم يرتفع [عند المص في محجمة الحجام (٨).

الحجة السابعة : إنا إذا أدخلنا رأس أنبوبة في داخل قارورة ، وأحكمنا

__________________

(١) الحاصلة (م).

(٥) لأن المحرك إفادة قوة تحركه إلى فوق (م ، ت).

(٢) سقط (ت ، م).

(٦) سقط (م) وفي (م) تضعف بدل تفتر.

(٣) نصفها (م).

(٧) ليس ذلك لامتناع الخلاء (م ، ت).

(٤) سقط (م).

(٨) يرتفع في الرأس بحجمة الحجامة (ت).

الخلل الذي بين عنق الأنبوبة وعنق القارورة ، بشيء يسد الخلل. فإن جذبنا هذه الأنبوبة بحيث لا يدخل الهواء الغريب في القارورة ، انكسرت القارورة إلى داخل ، وذلك لأجل امتناع الخلاء ، وإذا أدخلنا الأنبوبة في باطن القارورة إدخالا أكثر مما كان. انكسرت القارورة إلى خارج. وذلك لأن القارورة كانت مملوءة ، فإذا أدخلنا الأنبوبة فيها ، لم تحتملها ، فانشقت القارورة إلى الخارج.

الحجة الثامنة : لو كان الخلاء ممكنا ، لجاز في بعض القوارير والأواني أن تكون خالية ، فكان يجب إذا نكسناها وغمسناها في الماء ، واعتمدنا عليها ، أن يتصاعد الماء إليها من غير أن يخرج منها شيء من الهواء ، حتى لا تظهر البقابق والنفاخات ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن الخلاء غير حاصل في داخل العالم [والله أعلم (١)].

والجواب عن الحجة الأولى : إنها بناء على أن الحيز ، والمكان يمتنع أن يكون عبارة عن أبعاد قائمة بأنفسها ، مستقلة بذواتها. إلا أن الكلام في هذا الباب قد سبق على الاستقصاء ، فلا فائدة في الإعادة.

والجواب عن الحجة الثانية : أن نقول : إن هذه الحجة مبنية على مقدمات :

فأولها : أنه لو حصل الخلاء ، لكان ذلك الخلاء غير متناه. ولقائل أن يقول : ألستم قلتم : إنه ليس خارج العالم لا خلاء ولا ملاء؟ فلم لا يجوز أن يقال أيضا : الخلاء الموجود مقدار متناه ، وهو المقدار الذي يحصل فيه جسم العالم ، وأما الخارج عنه فلا خلاء ولا ملاء؟ [وعلى هذا التقدير فإنه (٢)] لا يمكنكم أن تقولوا : لم حصل العالم في هذا الجز من الخلاء دون سائر الأجزاء؟ فإن قالوا : كل من أثبت الخلاء قال : إنه غير متناه. فنقول: فعلى هذا التقدير يخرج هذا الكلام عن أن يكون حجة برهانية. بل يصير قصاراه : أن يكون إلزاما على قول الخصم.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) وعند هذا (م ، ت).

المقدمة الثانية : إن الأجزاء المفترضة في هذا الخلاء : متشابهة. فنقول : ولم قلتم : إن الأمر كذلك؟ ولم لا يجوز أن يقال : بعض أجزاء هذا الخلاء مخالف بالماهية للبعض] فلا جرم (١) [كان حصول هذا العالم في بعض تلك الأجزاء ، أولى من حصوله في الباقي؟ [وتقريره (٢)] : أن الخلاء موجود يمكن فرض الأبعاد الثلاثة فيه ، ولا يلزم من اشراك أجزاء الخلاء في قابلية الأبعاد ، اشتراكها في تمام الماهية. لما ثبت أن الاشتراك في [الأحكام (٣)] واللوازم لا يدل على الاشتراك في [ماهيات (٤)] الملزومات.

المقدمة الثالثة : هب أن أجزاء الخلاء متشابهة في تمام الماهية. لكن لم لا يجوز أن يقال : الفاعل المختار خصص (٥) العالم ببعض أجزاء الخلاء دون البعض ، بمجرد الإرادة؟ وحينئذ يرجع هذا الكلام إلى البحث عن المقدمة المشهورة المذكورة في مسألة [الفرق بين القادر وبين الموجب. وقد تقدم ذلك بالاستقصاء (٦)].

المقدمة الرابعة : هب أن القول بالفاعل المختار باطل [عندكم (٧)] إلا أنا نشاهد أن كل واحد من الأجسام الحيوانية والنباتية والمعدنية مختص بصورة معينة وحيز معين [ومقدار معين (٨)] مع أنه لا يمتنع في العقل حصول خلاف ما وقع. فاختصاص كل واحد من هذه الأجسام [بصفاته المعينة (٩)] إما أن يكون (١٠) [لأنه وقع ذلك من غير مرجح. أو إن كان لا بد من مرجح ، إلا أن

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) وتمام الكلام فيه (س).

(٣) سقط (ط) ، (س).

(٤) سقط (ط) ، (س).

(٥) خصص تحصل العالم (م).

(٦) القدم وتمام الكلام فيه سيأتي في تلك المسألة (م ، ت).

(٧) من (س ، ط).

(٨) من (س).

(٩) بصفاتها الحاصلة (م ، ت).

(١٠) إما أن يكون لا لمرجح أو لمرجح هو الفاعل المختار (س ، ط).

ذلك] المرجح هو الفاعل المختار. أو إن كان ذلك المرجح موجبا [بالذات (١)] إلا أن كل حادث ، فإنه مسبوق بحادث آخر ، وكأن الحادث المتقدم ، أعد المادة لقبول الحادث المتأخر. وعلى هذا الترتيب يكون قبل كل حادث ، حادث آخر (٢) لا إلى أول. [وبالجملة (٣)] فإذا عقلنا هذه الاختصاصات في هذه الأجسام ، لأحد هذه الأقسام ، فلم لا يجوز مثله في اختصاص كل العالم الجسماني لموضع معين من الخلاء ، الذي لا نهاية له؟ وذلك أن يقال : إنه حصل في ذلك الحيز المعين ، لا لمرجح [أو لمرجح هو الفاعل المختار (٤)] أو لأجل أن هذا العالم كان قبل أن حصل في هذا الحيز ، حاصلا في حيز آخر من الخلاء ، وكأن حصوله في ذلك الحيز من الخلاء ، أعد له لأن يتنقل منه إلى هذا الحيز الثاني من الخلاء وهكذا لا إلى أول (٥) : أن كل ما يقولونه في الأعراض المعينة ، الحاصلة في الأجسام السفلية ، فنحن [نقول مثله (٦)] في اختصاص كلية العالم بالجزء المعين من الخلاء.

والجواب عن الحجة الثالثة : من وجوه :

الأول : أن نقول : الحركة لما هي هي ، إما أن تكون مفتقرة إلى الزمان ، أو لا تكون كذلك ، بل يكون افتقارها إلى الزمان ، ليس إلا لأجل ما حصل في المسافة من المقاومة. والثاني باطل لوجوه :

أحدها : إن الحركة من حيث إنها حركة ، لا يمكن حصولها إلا على مسافة منقسمة ، فيكون وجود النصف الأول منها ، سابقا في الوجود على النصف الثاني منها. وإذا كان الأمر كذلك ، ثبت : أن الحركة من حيث هي هي مفتقرة إلى الزمان.

__________________

(١) من (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

(٤) أو يقال : حصل فيه مخصص الفاعل المختار (م ، ت).

(٥) وهكذا لا إلى (س ، ط) وبدل العبارة الأولى في (م ، ت) والصحيح : وهكذا ، لا إلى أول.

(٦) سقط (م).

والثاني : إن حركات الأفلاك لا عائق لها في مسافاتها ، فوجب وقوعها لا في زمان.

والثالث : إن (١) من شرط تحقق ماهية الشيء ، أن لا يحصل معها ما يكون عائقا عنها ، وإذا كان كذلك ، فلنفرض الحركة خالية عن كل العوائق ، فيلزم على هذا التقدير وقوعها لا في زمان. وذلك محال. فثبت بهذه الوجوه : فساد القسم الثاني ، فتعين أن يكون الحق هو القسم الأول ، وهو أن الحركة من حيث إنها حركة ، تستدعي قدرا من الزمان.

وإذا ثبت هذا [الأصل (٢)] فنقول : الحركة الواقعة في مسافة عشرة أذرع تستدعي قدرا من الزمان ، بسبب كونها حركة ، ثم إن حصل في تلك المسافة شيء من العوائق ، فحينئذ تستدعي تلك الحركة قدرا آخر من الزمان ، بسبب ما في تلك المسافة من العائق. ثم إن الزمان المستحق بسبب ما في المسافة من العائق هو الذي يقصر [بسبب (٣)] لطافة ذلك العائق ، ويعظم بسبب كثافته. وإذا ظهر هذا فنقول : الحركة الواقعة في الخلاء : واقعة في ساعة واحدة ، وهي الزمان الذي يستحقه هذا القدر من الحركة ، لأجل أنها حركة فقط. وأما الملاء الذي رقته أزيد من رقة الماء عشر مرات ، فإن الحركة تقع فيه [في ساعة واحدة وتسعة أعشار ساعة (٤)] أما الساعة الواحدة فبسبب أصل الحركة ، وأما تسعة أعشار الساعة فبسبب ما في المسافة من العائق الضعيف.

وبالجملة : فالمحال الذي ألزموه ، إنما يتم لو جعلنا الزمان كله في مقابلة العائق ، أما إذا جعلنا بعض الزمان في مقابلة أصل الحركة ، وبعضه في مقابلة العائق ، كانت الحركة الواقعة في الخلاء الصرف ، واقعة في ذلك الزمان تستحقه الحرة ، لما هي هي. وأما الحركة الواقعة في الملاء ، فإنها واقعة في ذلك الزمان مع مقدار آخر من الزمان ، الذي يستحق بسبب ما في المسافة من

__________________

(١) إنه ليس من شرط (م ، ت).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (ط).

(٤) في ساعة وعشر ساعة (م ، ت).

المعاوقة. فيثبت : أن الإلزام الذي أوردوه غير لازم.

السؤال الثاني على هذه الحجة : أن نقول : إنهم ذكروا أن الحركة الواقعة في الخلاء تقع في قدر معين من الزمان ، والحركة الواقعة أيضا في الماء ، تقع في قدر آخر من الزمان ، ولا شك أن لزمان الحركة في الخلاء ، إلى زمان الحركة في الماء نسبة ، فلنفرض وجود معوقة نسبتها إلى المعاوقة الحاصلة في الماء ، كنسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمان الحركة في الماء. فنقول : إنهم مطالبون ببيان أن حصول معاوقة على هذه النسبة ، أمر ممكن الحصول. فما الدليل عليه؟ وتقريره : أن الحكماء أقاموا الدلالة على أن المسافة قابلة للقسمة. إلى غير النهاية. وإذا كان الأمر كذلك ، لزم منه أن تكون الحركة قابلة للقسمة إلى غير النهاية. وإذا كان كذلك فلا زمان ، إلا ويمكن فرض زمان آخر ، أصغر منه.

وأما مراتب المعاوقة بسبب الشدة والضعف ، فهم ما أقاموا برهانا على أنها غير متناهية ، وما أقاموا برهانا على أنه لا معاوقة ، إلا وجود معاوقة أخرى أضعف من الأولى إلى غير النهاية. وإذا لم تثبت هذه المقدمة بالبرهان ، فحينئذ لا يثبت لهم بالبرهان [إمكان (١)] وجود معاوقة نسبتها إلى المعاوقة الحاصلة في الماء كنسبة زمان الحركة التي في الخلاء إلى زمان الحركة التي في الماء. فيثبت : [أن القوم تسلموا هذه المقدمة (٢)] من غير حجة ولا برهان. فكان الكلام المبني عليها مختلا (٣).

فإن قالوا : الدليل على أن مراتب المعاوقة بحسب الشدة والضعف غير متناهية : هو أن المعنى الموجب لهذه المعاوقة ، صفة حالة في الجسم. والجسم منقسم أبدا ، فالحال فيه يكون منقسما أبدا. ولا شك أن قوة المعاوقة القائمة بالجزء ، أضعف من قوة المعاوقة القائمة بالكل. وبهذا الطريق ثبت أن مراتب المعاوقات في القوة والضعف غير متناهية. فنقول : لم لا يجوز أن يكون تأثير تلك الصفة في اقتضاء حصول المعاوقة موقوفا على مقدار معين ، بحيث لو

__________________

(١) سقط (س).

(٢) هذه المقدمة يسلمونها (م ، ت).

(٣) سقط (ط ، س).

انتقص ذلك المقدار ، لم يبق ذلك الاقتضاء البتة؟ ومع هذا الاحتمال يسقط ما ذكروه.

والذي يحقق ما ذكرنا : أن الرياح العاصفة تهدم الجبال ، وتقلع الأشجار ، ثم لم يلزم من [حصول (١)] الرياح الضعيفة [اللينة (٢)] أن يحصل منها قلع شيء من الأشجار ، وهدم شيء من الأحجار. فكذا هاهنا.

السؤال الثالث : هب أنه يلزم في تلك الحركة أن يكون حالها عند الخلو عن المعاوق ، مساويا لحالها عند حصول المعاوق الضعيف. فلم قلتم : إن ذلك باطل؟ [وبيانه : أن المعاوق (٣)] إذا ضعف جدا ، صار وجوده كعدمه ، ألا ترى أن الحجر الذي يقدر العشرون على تحريكه ، لا يلزم أن يقدر الواحد على تحريكه بوجه ما. فههنا جزء المؤثر لم يبق مؤثرا ، لا في القليل ولا في الكثير [فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن جزء العائق لا يبقى عائقا لا في القليل ولا في الكثير (٤)؟ وهذا السؤال كأنه عند التقرير لا يتم ، إلا بالاستعانة بالسؤالين المتقدمين.

والجواب عن الحجة الرابعة من وجهين :

الأول : أن نقول : المسافة التي بين السماء والأرض ، كلها خالية عن جميع الأجسام. بل نقول : أكثر هذه المسافة مملوءة من الأجسام الهوائية ، والأجسام النارية. وذلك يكفي في أن تصير مصادماتها سببا لفتور القوة القسرية.

والوجه الثاني : أن هذه الحجة [إن دلت فإنما (٥) تدل على حصول الملاء ، لا على أن الملاء واجب الحصول [وأن الخلاء ممتنع الخلاء (٦)].

والجواب عن الوجوه الأربعة الباقية : إن تلك الوجوه ، إنما تفيد هذا

__________________

(١) القوة (ت ، م).

(٥) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٦) لو صحت فهى إنما (م ، ت).

(٣) سقط (م).

(٤) وذلك لأن (م ، ت).

المطلوب ، لو أقاموا البرهان القاطع على أنه لا سبب لتلك الأحوال العجيبة ، إلا امتناع الخلاء. والقوم ما فعلوا ذلك. فكان ذلك الوجه ضعيفا. ثم إنا نعارضها بالوجوه المناسبة لها ، الدالة على حصول الملاء (١) وقد ذكرناها في دلائل المثبتين للخلاء. وهذا آخر الكلام في هذه المسألة. والله أعلم.

__________________

(١) الخلاء (م ، ت).

الفصل السابع

في

تفاريع القول بالخلاء

وهي فروع (١) :

[الفرع الأول : اتفق جمهور القدماء على أن الخلاء لا يقبل العدم البتة.

واحتجوا عليه بوجهين :

الأول : إن كل ما كان ممكنا ، فإنا لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فلنفرض أن الخلاء قد عدم ، فنقول عند وقوع هذا الفرض : هل يتميز جانب اليمين عن جانب اليسار ، وجانب الفوق عن جانب التحت ، أو لا يتميز؟ والثاني باطل بالبديهة ، لأن القول بحصول حالة ، وفرض أخرى لا يبقى معها هذا الامتياز : أمر لا يقبله العقل ، ولا يتصوره الخيال [وقول من يقول : إنه من حكم الوهم ، ومن عمل الخيال : فقد أبطلناه فيما تقدم (٢)] ولما بطل هذا القسم (٣) ثبت أن الحق هو القسم الأول ، وهو أن عند فرض عدم هذا الخلاء ، لا يكون امتياز اليمين عن اليسار ، والفوق عن التحت : حاصلا. وإذا كان كذلك ، فهذه الأبعاد الخالية أمور يلزم من فرض عدمها ، فرض

__________________

(١) وهي أمور : (س) فرعان (ت).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) القسم الثالث (م).

وجودها. وكل ما كان كذلك ، كان فرض عدمه محالا. فيثبت : أن فرض عدم هذا الفضاء (١)] وهذا الخلاء أمر لا يقبله العقل البتة ، فكان ذلك موجودا واجب الوجود لذاته.

الوجه الثاني في تقرير هذا القول : وهو أن العقل لا يستبعد زوال الجبال والبحار عن أحيازها ، ولا يستنكر أيضا عدمها وفناءها في أنفسها. فإما أن يقال : إن هذه الأحياز الخالية والفضاء الخالي يفنى ويبقى. وهذا أمر لا يتصوره العقل ، ولا يقبله الخاطر. فيثبت : أن الأمر كما ذكرناه. وأما أهل التحقيق من العلماء فإنهم قالوا : هذه الأبعاد ممكنة الوجود لذواتها ، وكل ما كان كذلك [فإنه من حيث إنه هو (٢)] يكون قابلا للعدم.

أما بيان أنها ممكنة الوجود لذواتها ، فلوجهين :

الأول : إنه ثبت بالبرهان أن واجب الوجود لذاته ، لا يكون إلا واحدا.

والثاني : أن هذا الخلاء منقسم ، وذلك لأنه يمكن أن يقال : الخلاء من هاهنا إلى هناك : ذراع ، ومن هاهنا إلى موضع آخر أبعد من الأول : ألف ذراع. فثبت : أن الخلاء قابل للقسمة والتجزئة. وكل منقسم : ممكن. على ما قررنا في الفصول السالفة. فيثبت : أن هذه الأبعاد ممكنة الوجود. ولا شك أن كل ممكن ، فإنه قال للعدم.

الفرع الثاني : القائلون بأن العالم محدث لا بد وأن يقروا بأن هذا الفضاء قبل حدوث العالم : كان فضاء متشابها. أعني أنه ما كان جانب منه فوقا ، وجانب آخر تحتا. لأن الفوقية والتحتية لا يعقل حصولهما إلا عند حصول جسم آخر. فإذا لم يوجد شيء من الأجسام البتة ، امتنع اختلاف أجزاء الفضاء بالفوقية والتحتية ، بل كان متشابه الأحوال بالكلية [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) سقط (ط) ، (س).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (م).

الفرع الثالث : اتفق القائلون بإثبات هذا الخلاء ، على أن حصول هذا الخلاء خارج العالم غير متناه.

وزعم «أرسطاطاليس» [وأصحابه (١)] أن ذلك محال. واحتج الأولون بأنه لو تناهى هذا الخلاء ، لما بقي في الخارج عنه امتياز طرف عن طرف ، وجانب عن جانب. وذلك محال. وحجة «أرسطاطاليس» : أن القول بوجود أبعاد غير متناهية : محال.

واعلم أن الكلام في تلك الدلائل سيأتي بالاستقصاء.

الفرع الرابع : ظهر من المباحث المذكورة في أمر المكان والحيز والجهة : أن إله العالم يمتنع أن يكون مختصا بشيء من الأمكنة. وتقريره من وجوه :

الأول : أنه لو وجب حصول الإله في حيز وجهة ، لكان وجود الإله مفتقرا إلى ذلك الحيز ، لكنا بينا أن الخلاء متشابه الأجزاء ، وحصول الحيز خاليا عن الجسم : معقول. فعلى هذا يكون ذات الإله محتاجا إلى ذلك الحيز ، وذلك الحيز يكون غنيا عنه وعن سائر الممكنات ، فيكون الإله ممكنا لذاته ، مفتقرا إلى غيره ، ويكون ذلك الحيز واجبا لذاته ، غنيا عن الغير. وكل ذلك : محال.

الثاني : أنه لو حصل في هذا الفضاء ، وفي هذا الخلاء ، لكان إما أن يقال : إنه حصل في جميع جوانب هذا الخلاء ، أو في جانب معين منه. والأول : محال. لأنه يقتضي كونه منقسما (٢) مركبا. وأيضا : فيلزم أن تكون ذاته مخالطة لجميع المحدثات [والممكنات (٣)] وهو باطل. والثاني محال. لأنا بينا أن هذا الخلاء متشابه الأجزاء ، وما كان في الأزل جانب منه موصوفا بالفوقية ، وجانب آخر [موصوفا (٤)] بالتحتية. وحينئذ يكون حصول ذاته في

__________________

(١) سقط (م).

(٢) منقسما متحركا منقضا وأيضا ... الخ (م ، ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (م).

بعض جوانب هذا الخلاء [دون البعض (١)] رجحانا لأحد طرفي الممكن من غير مرجح. وهو محال.

الوجه الثالث : [وهو أنا نقول (٢)] : المكان والجهة والحيز ، إما أن يكون عبارة عن البعد ، أو عن السطح. فإن كان الحيز عبارة عن البعد ، فحينئذ يلزم افتقار ذات الله تعالى إلى [ذلك البعد مع كون ذلك البعد غنيا عن ذات الله (٣)] وتلزم المحالات المذكورة. وإن كان [الحيز والجهة (٤)] عبارة عن السطح [المحيط (٥)] فحينئذ لا يتقرر خارج العالم لا خلاء ولا ملاء ولا حيز ولا جهة. وحينئذ يمتنع حصول ذات الله فيه ، فيبقى أنه سبحانه لو كان في حيز وجهة ، لكان حاصلا داخل العالم ، ولكان جسما ممدودا متناهيا ، أحاطت به كرة العالم. وذلك محال [والله أعلم (٦)].

الفرع الخامس : من الناس من قال : امتياز اللطيف عن الكثيف ، إنما حصل بسبب مخالطة الخلاء. فالأجزاء التي يتولد منها الجسم المخصوص ، إن كانت بحيث تخالطها أجزاء الخلاء ، فهو الجسم اللطيف ، وإن كان لا يخالطها أجزاء الخلاء فهو الكثيف. ثم كلما كانت مخالطة الخلاء أكثر ، كانت اللطافة أكثر. والأرض لم تخالطها أجزاء الخلاء ، فلا جرم كانت في غاية الكثافة. والماء يخالطه أجزاء الخلاء ، فلا جرم حصلت اللطافة فيه. وأما الأجزاء الهوائية فمخالطة الهواء (٧) لها أكثر ، فلا جرم كان الهواء ألطف من الماء. وكذلك القول في النار. ثم في الأفلاك.

الفرع السادس : من الناس من قال : إن الخلاء حصل فيه قوة جاذبة للأجسام. قال: ولهذا السبب يكون الثقل هاويا نازلا ، لأن القوة الجاذبة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (ط).

(٣) إلى تلك الجهة ، واستغناء تلك الجهة عن ذات الله (م ، ت).

(٤) سقط (م).

(٥) من (س).

(٦) سقط (م).

(٧) الخلاء (م ، ت).

الحاصلة في الخلاء تجذب ذلك الجسم إلى نفسها فإذا وصل إليه ، فالقوة الجاذبة الموجودة في الخلاء [المتصل بالخلاء (١)] الأول تجذبه إلى نفسه. وهكذا إلى آخر المرتبة. وهذا القول : باطل. لأن الخلاء لو حصل فيه قوة جاذبة للجسم إلى نفسه ، لكان عند وصول الجسم إليه ، وجب أن يمسكه عند نفسه ، وأن لا يمكنه من أن يفارقه وينفصل عنه. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، بطل هذا الكلام.

وليكن هاهنا آخر كلامنا في الزمان والمكان.

ولنختم هذا الفصل بتحميد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضوان الله عليه (٢)] قال : «لم يخل منه شيء فيدرك بأبنيته ، ولا له شبح مثال فيوصف بكيفيته ، ولم يغب عنه شيء فيعلم بحيثيته. مباين لجميع ما أحدث في الصفات ، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرف الحالات. محرم على نوازع ثاقبات الفطن تحديده ، وعلى غوامض ثاقبات الفكر تكييفه ، وعلى غوائص سانحات النظر تصويره. لا تحويه الأماكن لعظمته ، ولا تذرعه المقادير لجلالته. ممتنع على الأوهام أن تكتنهه وعلى الأفهام أن تستغرقه ، وعلى الأذهان أن تمثله. قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول ، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم ، ورجعت بالصغر عن السمو إلى وصف قدرته لطائف الفهوم. واحد لا من عدد ، دائم لا بأمد ، قائم لا بعمد. ليس بجنس فتعادله الأجناس ، ولا بشبح فتصارعه الأشباح. ولا كالأشياء ، فتقع عليه الصفات. قد ضلت العقول في أمواج تيار إدراكه ، وتحيرت الأوهام عن الإحاطة بذكر أزليته ، وحصرت الأوهام عن استشعار وصف قدرته ، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته ، مقتدر بالآلاء ، ممتنع بالكبرياء ، متملك على الأشياء. فلا دهر يخلقه ، ولا وصف يحيط به. قد خضعت له الرقاب الصعاب في محل تخوم

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (م) وفي (ت) فقال عليه‌السلام يا من لا يخلو ... الخ.

قرارها ، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها. يستشهد بكلية الأجناس على ربوبيته ، وبعجزها على قدرته ، وبفطورها على قدمه ، وبزوالها على بقائه. فلا إليه حد منسوب ، ولا له مثل مضروب ، ولا شيء عنه محجوب. تعالى عن ضرب الأمثال ، وصفات المخلوقات ، علوا كبيرا».

[قال (١) مولانا الداعي إلى اللّه ، رحمة اللّه عليه] : يا إله العالمين. إنك ذكرت في كتابك الكريم :(قُلْ : لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْ : لِلَّه) (٢) فيثبت بهذا البرهان الباهر ، والدليل القاهر : أن المكان والمكانيات منقادة لك بالخضوع والخنوع ، معترفة لك بالفقر والخشوع ، منادية على أنفسها بالذل والصغار والعجز والافتقار. ثم قلت :(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) (٣) فأظهرت بهذا السر المكتوم ، والأصل المعلوم : أن الزمان والزمانيات [تحت خلقك وتقديرك وإبداعك وتدبيرك. فالمكان والمكانيات والزمان والزمانيات (٤)] كلها ناطقة بشواهد مجدك وعظمتك ، معترفة بوجوب وجودك وقدمك. فالزمان بحركته دل على أنك منزه عن الحركات ، والمكان بسكونه اعترف بأنك متعالي عن السكنات ، فتعاليت في كنه أزلك عن لواحق الأضداد ، وعلائق الأنداد. لأنك فرد لا كالأفراد ، وواحد لا كالآحاد ، ومتعالي عن علائق عالم الكون والفساد. يا سابق الفوت ، ويا سامع كل صوت ، ويا محيي العظام الرميمة بعد الموت. أسألك بحق وجوب وجودك ، وكمال جودك : أن لا تجعلني من جنات رحمتك من المحرومين والمردودين ، وأن تفيض على جسدي وروحي قطرة من قطرات فيض فضلك. يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين [والحمد للّه رب العالمين. وصلوات اللّه على سيدنا محمد النبي ، وعلى آله الطيبين الطاهرين أجمعين (٥)].

__________________

(١) ويقول العبد الضعيف ، مصنف هذا الكتاب : محمد الرازي ـ غفر اللّه له (ط ، س).

(٢) الأنعام ١٢.

(٣) الأنعام ١٣.

(٤) سقط (م ، ت).

(٥) من (م ، ت).

[قال مصنف الكتاب ـ قدس الله روحه ـ في آخر هذا المكتوب : تم هذا الكتاب ليلة السبت السابع عشر من جمادى الأولى سنة خمس وستمائة. والحمد لله كما يستحقه(١)].

تم الجزء الخامس من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» ويليه الجزء السادس وهو «في الهيولى».

__________________

(١) من (س).

الجزء الخامس فهرس

المقالة الأولى

في الكلام في الزمان............................................................ ٥

الفصل الأول :

في تقرير دلائل القائلين بنفي الزمان.............................................. ٩

الفصل الثاني :

في تقرير قول من يقول : العلم بكون المدة والزمان موجودان : علم بديهي أولي. لا يحتاج فيه إلى الحجة والدليل      ٢١

الفصل الثالث :

في تقرير الدلائل التي عول عليها من قال : العلم بوجود الزمان : كسبي استدلالي..... ٣٣

الفصل الرابع :

في البحث عن ماهية الزمان................................................... ٥١

الفصل : الخامس :

في التفحص عما قيل من أن الزمان كم متصل. وبيان أن ذلك ليس بحق............ ٦٩

الفصل السادس :

في تتبع سائر المذاهب والأقوال في ماهية الزمان................................... ٧٥

الفصل السابع :

في تحقيق الكلام في الآن...................................................... ٣

الفصل الثامن :

في تحقيق الكلام في الدهر والسرمد. والفرق بينهما وبين الزمان..................... ٩

الفصل التاسع :

في شرح خواص الماضي والحاضر والمستقبل....................................... ٩٣

الفصل العاشر:

في أن الزمان محدث

الفصل الحادي عشر :

في تفسير الألفاظ المذكورة في هذا الباب وهي : المدة ، والزمان ، والوقت ، والسرمد ، والأزل ، والأبد ، والنهار ، والليل ، واليوم ، والساعة ، والحين ، والأجل ،................................................ ١٠٣

المقالة الثانية

في تحقيق القول في المكان................................................. ١٠٩

الفصل الأول :

في تفصيل مذاهب الناس فيه................................................ ١١١

الفصل الثاني :

في ابطال قول من يقول : الخلاء والفضاء عدم محض ونفي صرف................. ١١٥

الفصل الثالث :

في أن المكان هل يعقل أن يكون بعداً قائماً بنفسه ام لا؟........................ ١٢١

الفصل الرابع :

في تقرير الوجوه التي عليها يعول من يعتقد أن المكان هو البعد.................... ١٤٣

الفصل الخامس :

في بيان أن الخلاء ممتنع الوقوع أو ممكن الوقوع؟................................ ١٥٥

الفصل السادس :

في حكاية دلائل نفاة الخلاء والجواب عنها احتجوا بوجوه......................... ١٦٧

الفصل السابع :

في تفاريع القول بالخلاء...................................................... ١٧٩

فهرس المواضيع............................................................. ١٨٧

المطالب العالية من العلم الإلهي - ٥

المؤلف: محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
الصفحات: 189
  • المقالة الأولى
  • في الكلام في الزمان 5
  • الفصل الأول :
  • في تقرير دلائل القائلين بنفي الزمان 9
  • الفصل الثاني :
  • في تقرير قول من يقول : العلم بكون المدة والزمان موجودان : علم بديهي أولي. لا يحتاج فيه إلى الحجة والدليل      21
  • الفصل الثالث :
  • في تقرير الدلائل التي عول عليها من قال : العلم بوجود الزمان : كسبي استدلالي 33
  • الفصل الرابع :
  • في البحث عن ماهية الزمان 51
  • الفصل : الخامس :
  • في التفحص عما قيل من أن الزمان كم متصل. وبيان أن ذلك ليس بحق 69
  • الفصل السادس :
  • في تتبع سائر المذاهب والأقوال في ماهية الزمان 75
  • الفصل السابع :
  • في تحقيق الكلام في الآن ۸3
  • الفصل الثامن :
  • في تحقيق الكلام في الدهر والسرمد. والفرق بينهما وبين الزمان ۸9
  • الفصل التاسع :
  • في شرح خواص الماضي والحاضر والمستقبل 93
  • الفصل العاشر:
  • في أن الزمان محدث
  • الفصل الحادي عشر :
  • في تفسير الألفاظ المذكورة في هذا الباب وهي : المدة ، والزمان ، والوقت ، والسرمد ، والأزل ، والأبد ، والنهار ، والليل ، واليوم ، والساعة ، والحين ، والأجل ، 103
  • المقالة الثانية
  • في تحقيق القول في المكان 109
  • الفصل الأول :
  • في تفصيل مذاهب الناس فيه 111
  • الفصل الثاني :
  • في ابطال قول من يقول : الخلاء والفضاء عدم محض ونفي صرف 115
  • الفصل الثالث :
  • في أن المكان هل يعقل أن يكون بعداً قائماً بنفسه ام لا؟ 121
  • الفصل الرابع :
  • في تقرير الوجوه التي عليها يعول من يعتقد أن المكان هو البعد 143
  • الفصل الخامس :
  • في بيان أن الخلاء ممتنع الوقوع أو ممكن الوقوع؟ 155
  • الفصل السادس :
  • في حكاية دلائل نفاة الخلاء والجواب عنها احتجوا بوجوه 167
  • الفصل السابع :
  • في تفاريع القول بالخلاء 179
  • فهرس المواضيع 187