بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدّمة المحقّق

الحمد لله رب العالمي. والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد ، بن عبد الله ، وعلى آل بيته الأطهار ، وأصحابه الأخيار ، والتابعين لهم بالخير ، إلى يوم الدين.

وبعد

فهذا هو كتاب : «المطالب العالية ، من العلم الإلهي» للإمام الجليل : محمد بن عمر بن الحسين : الشهير بفخر الدين الرازي ، المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍. وهو كتاب في علم الكلام ، لم يطبعه أحد من قبل أن نطبعه. ومخطوطاته تحتوي على تسعة أجزاء :

الجزء الأول : في الدلائل الدالة على إثبات الإله لهذا العالم المحسوس ، وبيان أنه واجب الوجود لذاته.

والجزء الثاني : في الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه.

والجزء الثالث : في ذكر الصفات الإيجابية. وهي : كونه سبحانه قادرا ، عالما ، حيا ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ، باقيا ، حكيما.

والجزء الرابع : في مباحث الحدوث والقدم ، وأسرار الدهر والأزل.

والجزء الخامس : في الزمان والمكان.

والجزء السادس : في الهيولى.

والجزء السابع : في الأرواح العالية والسافلة [النفس]

والجزء الثامن : في النبوات. وما يتعلق بها.

والجزء التاسع : في الجبر والقدر ، أو القضاء والقدر.

موضوع الكتاب

وموضوع «المطالب العالية» هو الكلام في ذات الله تعالى وصفاته. ففي مقدمة الكتاب في الفصل الأول يقول المؤلف : «الوجه الأول من الوجوه الموجبة للشرف : شرف الأمر المبحوث عنه في ذلك العلم. وذلك في هذا العلم. هو ذات الله تعالى وصفاته».

وعلماء المسلمين يسمون العلم الذي يبحث عن «الله. وصفاته» : ١ ـ علم العقيدة. ٢ ـ أو علم التوحيد. ٣ ـ أو علم الكلام. وهو يسمى بعلم العقيدة. لأن البحث فيه عن وجود الله. ومن اعتقد في وجود الله ، يلزمه القول بإثبات النبوات ، والملائكة ، والبعث من الأموات ، وسائر الأمور السمعية التي ورد بها الوحي. وهو يسمى بعلم التوحيد. لأن أبرز مسألة تبحث فيه. هي دلائل وحدانية الله عزوجل. وهو يسمى بعلم الكلام. لأن أشهر مسألة كثر فيها الجدل بين المسلمين ، هي مسألة «كلام الله تعالى» فالمعتزلة قالوا : إن الكلام مخلوق محدّث. لقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ ، إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء ٢] والأشاعرة قالوا : «الذكر الذي عناه الله ـ عزوجل ـ ليس هو القرآن. بل هو كلام الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ووعظه إياهم» (١).

__________________

(١) الإبانة في أصول الديانة. لأبي الحسن الأشعري.

ومن علماء المسلمين من سمى العلم الذي يبحث عن الله وصفاته بالفلسفة الإسلامية. والسبب في ذلك : أن الفلسفة في أصل نشأتها كان غرضها : «تفسير نظام الكون ، بأسره. والبحث عن العلل الأولى ، لجميع الموجودات» وهذا الغرض تكلم فيه المسلمون.

يقول (١) الأستاذ الدكتور حسين آتاي ، عميد كلية الإلهيات بجامعة أنقره :

«ومن خلال اطلاعنا على ما كتب عن هذا العالم الكبير ـ فخر الدين الرازي ـ وعلى ضوء ما توصلنا إليه من نتائج ، نستطيع أن نقول : إن «الرازي» قد لعب دورا كبيرا في علم الكلام ، والفلسفة الإسلامية. ويمكن إيجاز ذلك في نقطتين :

الأولى : إنه استوعب فلسفة «أرسطو» التقليدية ، ثم كان أول من أدخل هذه الفلسفة في علم الكلام. ونتيجة لما قام به «الرازي» أصبح علم الكلام : فلسفة ، ويمكن أن نقول بعبارة أخرى : إنه جعل تلك الفلسفة : كلاما. وهكذا امتزج علم الكلام بالفلسفة ...

والثانية : وإذا كان «الرازي» قد أدخل الفلسفة في علم الكلام. فإنه على ضوء فلسفة «أرسطو» التقليدية ، قد اعطى اتجاها جديدا لعلم الكلام. فأثر بذلك على الفكر الإسلامي. وقد ظهر تأثير «الرازي» جليا في غيره من خلال بقاء العديد من العلماء والمفكرين ؛ أسرى اتجاهه ، ومنهجه بعد ذلك.

ويبدو واضحا لمن يقارن «المحصل» مع متن «طوالع الأنوار» للقاضي «عبد الله بن عمر البيضاوي» المتوفى سنة ٦٨٥ ه‍ : أن أول من اقتفى أثر «المحصل» هو «القاضي البيضاوي» في متنه المذكور. وهو لم يكتف بالسير على نهج «المحصل» فحسب ، بل اقتبس منه العبارات والتعاريف والتعابير والاصطلاحات. ومع ذلك لم يشر ـ لا من قريب ولا من بعيد ـ للرازي. ولكن

__________________

(١) تقديم الدكتور حسين آتاي لكتاب «محصل أفكار المتقدمين» للرازي.

الشارح «شمس الدين بن محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني» المتوفى سنة ٧٤٩ ه‍ قد ذكر لفظ «الإمام» مشيرا إلى «الرازي» وبذلك مهد الإمام «الرازي» طريقا ومنهجا جديدا في علم الكلام ، لمن أتى من بعده ، مثل «عضد الدين ، عبد الرحمن ، بن أحمد الإيجي ، القاضي» المتوفى سنة ٧٥٢ ه‍.».

مؤلّف الكتاب

«٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه‍»

حياته :

هو ـ الإمام الجليل ـ محمد ، بن عمر ، بن الحسين ، بن الحسن ، بن علي ، ويكنى بأبي عبد الله ، وأبي المعالي ، وأبي الفضل ، واشتهر بين الناس بابن الخطيب ، ويلقب بفخر الدين ، وبشيخ الإسلام. وأكثر المؤرخين ينسبونه (١) إلى «أبي بكر» الصديق ـ رضي الله عنه ـ وقد ولد في مدينة «الري» وموقعها الآن شرقي «طهران» عاصمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة من الهجرة (٢). وذكر المستشرق «براون» أن مولده كان في سنة أربع وأربعين وخمسمائة. وهي توافق سنة ألف ومائة وتسعة وأربعين من الميلاد (٣). ويقول «القفطي» : إنه انتقل الى الدار الآخرة في ذي الحجة من سنة ست وستمائة من الهجرة. وكثيرون يقولون : إنه انتقل إلى الدار الآخرة في غرة شوال من سنة ست وستمائة في مدينة «هراة».

ثناء العلماء عليه :

١ ـ يقول صاحب «الوافي بالوفيات» عن الإمام فخر الدين : «اجتمع له

__________________

(١) محقق الكتاب «مصري» ينتسب إلى «خالد بن الوليد» رضي الله عنه.

(٢) البداية لابن كثير ج ١٣ ص ٥٥.

(٣) تاريخ الأدب في إيران ص ٦١٥.

خمسة أشياء ما جمعها الله في غيره ـ فيما علمته من أمثاله ـ وهي : سعة العبارة في القدرة على الكلام ، وصحة الذهن ، والاطلاع الذي ما عليه من مزيد. والحافظة المستوعبة. والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير الأدلة والبراهين».

٢ ـ ويقول صاحب «طبقات الشافعية» : إنه «إمام المتكلمين»

٣ ـ ويقول الشاعر ابن عنين عنه :

ماتت به بدع تمادى عمرها

دهرا ، وكان ظلامها لا ينجلي

وعلا به الإسلام أرفع هضبة

ورسا سواه في الحضيض الأسفل

٤ ـ ويقول صاحب «روضات الجنات» : إنه «مجدد المائة السادسة» ٥ ـ ويقول الإمام السيوطي عنه في منظومته التي يذكر فيها كبار العلماء :

والسادس : الفخر : الإمام الرازي

والشافعي مثله يوازي

٦ ـ ويقول صاحب «تاريخ الحكماء» : «كان من أفاضل أهل زمانه. بذّ القدماء في الفقه وعلم الأصول والكلام والحكمة. ورد على «أبي علي بن سينا» واستدرك عليه ، وكان عظيم الشأن. وسارت مصنفاته في الأقطار ، واشتغل بها الفقهاء».

٧ ـ وجامعة الأزهر تعد كتاب «المطالب العالية» من أمهات الكتب. يقول الاستاذ الشيخ صالح موسى شرف. عضو هيئة كبار العلماء وعضو مجمع البحوث الإسلامية: «ولما كان علم التوحيد ـ ويسمى علم الكلام ـ له هذه المنزلة العظيمة في تأصيل هذه العقيدة والدفاع عنها : عني المتكلمون قديما وحديثا بالتأليف فيه ، وتباروا في ذلك. فمنهم المقتصد ومنهم المتعمق ومنهم المتوسط. وكان من أشهر الكتب المتعمقة والمشتملة على الأمور العامة التي يحتاج إليها المستدل على حدوث العالم ، ومنه على وجود الصانع : كتاب «المطالب العالية» لفخر الدين الرازي. و «العقائد النسفية» للنسفي. وكتاب «المواقف» للإيجي ـ

شيخ السعد التفتازاني ـ وكتاب «طوالع الأنوار» للبيضاوي. وكتاب «المقاصد» للعلامة السعد التفتازاني» (١).

٨ ـ وشارح المقاصد ـ وهو سعد الدين التفتازاني ، مسعود بن عمر بن عبد الله ـ يشير إلى الإمام فخر الدين أثناء شرحه بلقب «الإمام» ومن عباراته : «ذهب الإمام الرازي إلى أن تصور العلم : بديهي» ـ «وصرح الإمام» ـ «وقد أطنب الإمام فيها بتكثير الأمثلة»

ويقول الأستاذ الشيخ صالح موسى شرف : «إن السعد في «مقاصده» ينقل كثيرا من كتاب «المواقف» ومن «المطالب العالية» ومن كتاب «الشفاء» و «النجاة» و «القانون» لابن سينا ، وغير ذلك. وأنه تارة ينقلها بالمعنى وتارة يزيد أو ينقص منها» (٢).

٩ ـ ومن الكتب المعتبرة عند الإمامية في علم الكلام : كتاب اسمه : «تجريد الاعتقاد» للشيخ «الطوسي» المتوفى سنة ٦٧٢ ه‍. ولهذا الكتاب شرح اسمه : «كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد» للعلامة «الحلى» المتوفى سنة ٧٢٦ ه‍. وقد علق على الكتابين المذكورين ، الشيخ السيد هاشم الحسيني الطهراني» وسمى التعليق «توضيح المراد. تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد» ومن ينظر في هذه الكتب يجد فيها آراء الإمام الرازي ، كما يجدها في «مقاصد السعد» رحمه‌الله فالشارح العلامة «الحلى» يقول : «أقول : ذكر فخر الدين في إبطال تعريف الوجود : وجهين» (٣). والمعلق الشيخ «الطهراني» يقول : «قول الشارح : وهي : إن الوجود والعدم ، لا يمكن تحديدهما : هذه القضية نتيجة لمقدمتين ، هما : إن الوجود ، وكذا العدم : بديهي. والبديهي لا يمكن تحديده. أما الصغرى. فقد قال الرازي بعد اعترافه ببداهة الوجود تصورا : إنها غير بديهية التصديق ، وسيأتي كلامه ... الخ»

__________________

(١) شرح المقاصد ـ مكتبة الكليات الأزهرية ـ التقديم.

(٢) المرجع السابق ص ١٣.

(٣) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص ١٣ طبعة بيروت ١٣٩٩ ه‍.

وعلق على قول الشارح : «ذكر فخر الدين» بتعريف للإمام فخر الدين ، نقله عن «القفطي» والقفطي ذكر في نهايته : «والرازي هذا : أشعري الأصول ، وشافعي الفروع» ثم قال المعلق عن الإمام فخر الدين «لم يكن الرجل مشتهرا بالنصب» (١) أي ليس من أئمة الشيعة المشهورين.

من مؤلفات الإمام فخر الدين الرازي

أجمع العلماء على أن للإمام فخر الدين الرازي : كتبا كثيرة. يقول ابن كثير عنها : «إنها تقرب من مائتي مصنف» ومن كتبه :

١ ـ التفسير الكبير ٢ ـ الأربعين في أصول الدين ٣ ـ أساس التقديس ٤ ـ محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين ٥ ـ شرح عيون الحكمة لابن سينا ٦ ـ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين.

وقد عدت له كتب كثيرة ، على أنها مستقلة. وتبين أنها أبواب أو أجزاء ، من كتبه الكبيرة. مثل كتاب النبوات. فإنه جزء من المطالب العالية. ومثل كتاب النفس. وإنه الجزء السابع من المطالب. ومثل القضاء والقدر. وهو الجزء التاسع من المطالب.

__________________

(١) توضيح المراد ـ تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد طبعة ١٣٨١ ه‍ مطبعة المصطفوي ج ١ ص ٦ ـ ٧.

توثيق الكتاب

١ ـ يقول ناسخ مخطوطة دار الكتب المصرية عن كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» :

لمحمد الرازي : كتاب «مطالب»

جمعت عبارته : جميع غرائب

بدقائق وحقائق ورقائق

ولطائف ومعارف وعجائب

هو فخر دين ، حافظ ومفسر

ولكل فن قد أجاد لطالب

فعليه من فيض الإله : عواطف

بمراحم ومكارم ومواهب

وبجنة الفردوس في دار البقاء

بتنعم ومآكل ومشارب

الله نافع قارئ بعلومه

ومعلم. ولسامع ولكاتب

وصلاة ربي دائما وسلامه

للمصطفى ولآله وأقارب

ما قيل قولا في الجواب لسائل

لمحمد الرازي كتاب «مطالب»

ويرد الناسخ بهذه الأبيات : إن عبارة : «لمحمد الرازي كتاب مطالب» تدل على تاريخ نسخ المخطوطة ـ بحساب الجمّل ـ على حسب التأريخ بالشعر ، الشائع في عصره. ومجموع أرقام العبارة : ثمانمائة وأربعة وستون.

٢ ـ وجاء في بعض مخطوطات الكتاب : تاريخ انتهاء تأليف كل جزء.

٣ ـ وقد شرح المؤلف كتاب «عيون الحكمة» لابن سينا. وقال في شرحه في الفصل السابع ما نصه :

«الحجة الثالثة : لو كانت الإنسانية كلية لكان التعيّن زائدا على الماهية. وذلك محال. لأن التعين من حيث إنه تعين ، يكون أيضا صفة ماهية كلية ، وكان يجب افتقاره الى تعين آخر. ولزم التسلسل. وهنا وجوه كثيرة في الإشكالات ذكرناها في الكتاب المسمى : «المطالب العالية» إذا عرفت هذا فنقول : إن الشيخ ـ ابن سينا ـ شرع في هذا الموضع في بيان أن الصورة الذهنية ، كيف تكون كلية؟ فذكر فيه وجهين ... الخ (١).

٤ ـ وذكر ابن أبي أصيبعة في «عيون الأنباء» أن كتاب المطالب العالية من تأليف الإمام فخر الدين الرازي. وهو في ثلاثة مجلدات.

٥ ـ وقال ابن تيمية الحراني عنه في كتاب : بيان موافقة صريح المعقول : «كتاب المطالب العالية : آخر ما صنفه الإمام وجمع فيه غاية علومه».

٦ ـ والشيخ ابن قيم الجوزية في كتابه : الروح. نقل عبارات مطولة للإمام فخر الدين الرازي من كتابه «الأرواح العالية والسافلة» وهو الجزء السابع من المطالب العالية.

٧ ـ وقد ادعى (٢) باحث من كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة. بأن الجزء الثامن وموضوعه «النبوات وما يتعلق بها» هو آخر اجزاء «المطالب العالية» ودعواه مردودة عليه بما يلي :

أولا : إن المؤلف أشار في مقدمة المطالب العالية إلى أنه سيتكلم في القضاء والقدر. قال : إن القسم الرابع في أفعال الله تعالى على ثلاثة أقسام. و «القسم الثالث : الكلام في القضاء والقدر».

ثانيا : المؤلف قال في الفصل الثاني من القسم الأول من «النبوات وما يتعلق بها» ما نصه :

أ ـ «المقدمة الأولى في بيان أن القول بالجبر حق. أعلم : ان الكلام في

__________________

(١) ص ٨٧٥ شرح عيون الحكمة رقم ٥٤١ فلسفة وحكمة ـ مخطوطة الأزهر.

(٢) فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية ـ محمد صالح الزركان ـ رحمه‌الله.

تقريره سيأتي بالاستقصاء في كتاب مفرد».

ب ـ فثبت بهذه الوجوه الخمسة عشر : أن القول بالجبر حق. وتمام الكلام في هذا الباب سيأتي في الكتاب التاسع إن شاء الله تعالى»

ومعنى هذا : أن الكتاب التاسع ، وموضوعه : «الجبر والقدر» أو «القضاء والقدر» هو آخر «المطالب العالية» وليس «النبوات».

ثالثا : إن مخطوطات «المطالب العالية» الموجودة في «مصر» منها مخطوطات كاملة الأجزاء ، ومنها مخطوطات ناقصة الأجزاء. وكتاب «الجبر والقدر» موجود في مخطوطات أربعة في مصر ، وموجود في «تركيا» منفردا في مخطوطة لأسعد أفندي.

١ ـ مخطوطة «لا له لي» وتشتمل على ثلاثة اجزاء فقط. تشتمل على المجلد الثالث. وفيه : ١ ـ الأرواح العالية والسافلة [جزء ٧] ٢ ـ النبوات. وما يتعلق بها [ج ٨] ٣ ـ الجبر والقدر [ج ٩]

٢ ـ مخطوطة (م) دار الكتب المصرية.

٣ ـ مخطوطة (طا) مكتبة طلعت. رقم ٥٨١.

٤ ـ مخطوطة (و) دار الكتب القومية. رقم ١٩٨٣.

٥ ـ مخطوطة أسعد أفندي.

ومن الادعاءات : أن المؤلف لم يتم كتاب «النبوات» وسبب هذا الادعاء أنه جاء في آخر مخطوطة ـ نقل النساخ عنها ـ ما نصه : «الفصل الرابع في تحقيق الكلام في السحر المرتب على الصور. اعلم : أن «تنكلوشا» قد أكثر في كتابه من هذا النوع. ولا بدّ من تحقيق الكلام فيه». وهذا النص يوحي بأن الكتاب ناقص. لعدم وجود الفصل. والحق: أن هذا النص مقحم على الاصل من سهو الكاتب. والدليل على ذلك :

١ ـ إن بعض المخطوطات لم تذكر هذا النص. منها مخطوطة طلعت [ط] رقم ٤٩٢ ومخطوطة تيمور [ت] والمخطوطات المشابهة لها.

٢ ـ إن الكلام عن «تنكلوشا» مذكور داخل القسم الثالث من كتاب النبوات.

٣ ـ إن المخطوطات التي ذكرت هذا النص ذكرت قبله : علامة [انتهى] وهي واضحة تمام الوضوح في مخطوطة «أسعد» التي يقول كاتبها : «وقع الفراغ من نقل هذا الكتاب من نسخة نقلت من خط المصنف في الخامس من شوال سنة أربعين وستمائة»

٤ ـ إن كتاب «الجبر والقدر» جاء في بعض المخطوطات بعد كتاب «النبوات» ولو أن المدعي على علم بما في المخطوطات ، لما قال بالنقص في النبوات. وإنما كان يقول : أ ـ بالنقص في «الجبر والقدر» ذلك لأن المؤلف قال في مقدمته : إنه سيرتبه على ثلاث مسائل. والكتاب كله في مسألة «خلق الأفعال» ب ـ وبأن المؤلف انتقل إلى رحمة الله تعالى من قبل أن يتكلم في : المعاد. وفي الأخلاق.

مخطوطات الكتاب

أما عن مخطوطات «المطالب العالية من العلم الإلهي ، فهي :

١ ـ مكتبة «لا له لي». رقم ٢٤٤١ ويوجد في «مصر» منها صورة المجلد الثالث ويحتوي على : الأرواح العالية والسافلة ـ النبوات ـ الجبر والقدر. ورمزها [ل] في التحقيق.

٢ ـ دار الكتب المصرية. رقم ٤٥ ورمزها [م]

٣ ـ طلعت. رقم ٥٨١ وهي تحتوي على الأجزاء التسعة. ورمزها [ط] وفي الجزء السابع والثامن والتاسع يكون رمزها [طا]

٤ ـ طلعت. رقم ٤٩٢ وهي تحتوي على الجزء السابع والثامن. ورمزها [ط]

٥ ـ دار الكتب القومية. رقم ١٩٨٣ ورمزها [و]

٦ ـ تيمور. رقم ٩ ورمزها [ت]

٧ ـ مكتبة الأزهر. رقم ١٩٦١ ورمزها [ز]

٨ ـ مكتبة أسعد أفندي رقم ١٢٨٤ ورمزها [س] وكتاب الجبر والقدر منفصل عن الأجزاء الثمانية.

٩ ـ مكتبة راغب باشا. رقم ٨١٠

١٠ ـ مكتبة عاشر أفندي. رقم ٥٥٨

١١ ـ مكتبة عاطف. رقم ١٣٦٨

١٢ ـ مكتبة يني. رقم ٧٥٥

والمخطوطات التي اعتمدنا عليها في التحقيق. هي المخطوطات الثمانية الأول. وقد عرفنا أن :

أ ـ لا له لي ـ طلعت رقم ٥٨١ ـ طلعت رقم ٤٩٢ ـ أسعد أفندي. هذه المخطوطات : نسخ متشابهة.

ب ـ المصرية ـ القومية ـ تيمور ـ الأزهر. هذه المخطوطات : نسخ متشابهة. فإذا رمزنا مثلا بالرمز (م) فإننا نعني مجموع النسخ المتشابهة ، التي منها مخطوطة (م) وإذا ورمزنا بالرمز (ط) فإننا نعني مجموع النسخ المتشابهة ، التي منها مخطوطة (ط)

وطريقة التحقيق كانت هكذا :

في الجزء الأول. كانت مخطوطة (ز) هي الأصل. وفي الثاني (و) هي الأصل. والثالث (م) هي الأصل. وفي الرابع (ت) هي الأصل. وفي الخامس (ت) هي الأصل. وفي السادس (م) هي الأصل. وفي السابع (م) هي الأصل. وفي الثامن (ت ، و) هما الأصل. وفي التاسع (م) هي الأصل. ثم روجع كل جزء على بعض النسخ المشابهة للأصل ، وهذه هي المرحلة الأولى. وكل الأجزاء قد حققت على (ط) أولا ، ثم حققت ثانيا على (س) والمجلد الثالث قد حقق أيضا على (طا ، ل) وهذه هي المرحلة الثانية. وأحيانا نشير إلى رمز نسخة من النسخ المتشابهة ، ونكتفي به عن ذكر ما يشابهه.

ونقدم الشكر للأستاذ الدكتور «حسين آتاي» عميد كلية الإلهيات

بجامعة أنقرة. في «الجمهورية التركية» لأنه صوّر لنا مخطوطة «أسعد أفندي» من «المطالب» وسلمنا إياها لنراجع عليها.

والله أسأل أن يوفقنا إلى خدمة العلم والدين.

د أحمد. حجازي. أحمد. علي السّقا

الحائز على درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر

في موضوع : «البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل»

«الكويت» في رمضان ١٤٠٤ ه‍

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(قال مولانا الإمام الداعي إلى الله. أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي ـ رضي الله عنه (١)) :

هذا كتابنا في العلم الإلهي ، وهو المسمى في لسان اليونانيين : باثولوجيا. وهو مرتب على مقدمة وكتب (٢).

__________________

(١) من (ز).

(٢) سنسمي كل كتاب : جزءا ، لمنع اللبس.

المقدّمة وفيها أربعة فصول

الفصل الأوّل : في بيان أنّ هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق.

الفصل الثاني : في أنّه هل للعقول البشريّة سبيل إلى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم أم يكتفى في بعض مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟

الفصل الثالث : في أن تحصيل هذه المعارف المقدّسة ، هل الطريق إليه واحد أم اكثر من واحد؟

الفصل الرابع : في ضبط معاقد هذا العلم.

الفصل الأول

في

بيان أن هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق

أعلم. أن شرف العلم (إنما يظهر من وجوه :

الوجه الأول من الوجوه الموجبة للشرف (١)):

شرف الأمر المبحوث عنه في ذلك العلم. وذلك في هذا العلم ، هو ذات الله تعالى ، وصفاته. وهو أشرف الموجودات على الإطلاق. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنه غني عن الفاعل والقابل. وغيره محتاج إليه.

والثاني (٢) : إنه فرد على الاطلاق ، فهو غني عن الجزء المقوّم.

والثالث : إن الواجب لذاته ليس إلا هو ، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته ، محتاج إلى المؤثر ، فيلزم أن كل ما سواه فهو محتاج إليه ، وهو غني عن كل ما سواه ، فوجب أن يكون هو أشرف الموجودات.

والرابع : إنه ثبت أن الممكن كما أنه محتاج إلى المؤثر حال حدوثه ، فهو محتاج إليه أيضا حال بقائه (٣) ، وكل ما سواه فهو محتاج إليه في جميع أوقاته ،

__________________

(١) من (س).

(٢) والثاني : أنه منزه على الإطلاق ، فهو غني عن المميز والمقوم (س).

(٣) عبارة (س) : حال البقاء. وكما أنه محتاج إليه في جميع أوقاته ، سواء كان ذلك الوقت حال الحدوث ، أو حال البقاء. وكما أنه محتاج إليه في جانب الوجود ، ففي جانب العدم أيضا .. الخ.

سواء كان ذلك حال الحدوث ، أو حال البقاء. وكما أنه محتاج إليه في جانب الوجود ففي جانب العدم أيضا كذلك لما ثبت أن الممكن ليس معدوما لذاته ، بل علة العدم عدم العلة فثبت بما ذكرنا : أن الحق سبحانه وتعالى أشرف من غيره بحسب هذه الاعتبارات.

والخامس : هو أن الوجود أشرف من العدم ، والواجب لذاته لا يقبل العدم البتة فهو موجود لذاته ، وبوجوده يحصل (١) الوجود لكل موجود ، بل وجوده كالمنافي للعدم ، وأما كل ما سواه فإنه ممكن لذاته ، والممكن لذاته إذا نظر إليه من حيث هو هو ، وجد غير موجود ، وكل ما سواه فإنه إذا اعتبر من حيث هو هو ، لم يكن موجودا. وهو سبحانه إذا اعتبر من حيث هو هو ، فهو الموجود.

فلهذا المعنى قلنا : إنه حق ، وما سواه باطل ، بل الحق أنه لا يليق لفظ الحق إلا له ، ولا يليق وصف الاعتقاد بأنه حق ، إلا باعتقاد وجوده (٢). وأن كل ما سواه فهو الفناء المحض ، والهلاك المحض ، كما قال في الكتاب (الإلهي) (٣) : (كل شيء هالك إلا وجهه) (٤) فثبت بهذه الاعتبارات أنه تعالى أشرف الموجودات وأكملها (٥) ، بل إنه تعالى أشرف وأكمل من أن يقاس هو إلى غيره ، فإنه أشرف وأكمل منه. فكلما كان المعلوم أشرف ، كان العلم به أشرف [ولما كان أن أشرف] (٦) المعلومات.

الوجه الثاني في بيان شرف هذا العلم ، وشدة الحاجة إليه وكمال الانتفاع به :

أشرف العلوم بحسب هذا الوجه هو العلم الإلهي ، وذلك لأن الأمر المقصود بالذات هو الفوز بالسعادة والخلاص من الشقاوة. والسعادات إما جسمانية وإما روحانية وقد دلت الدلائل الفلسفية والمعالم الحقيقة على أن

__________________

(١) يحتمل (س).

(٢) باعتقاده (س).

(٣) من (س).

(٤) آخر سورة العنكبوت.

(٥) وأكمل من أن يقاس هو إلى غيره ، فإنه أشرف وأكمل منه إذا ثبت ... الخ (س).

(٦) من (س).

السعادات الجسمانية خسيسة ، وأقل ما فيها : أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها بل الاستقراء يدل على أن تلك الحيوانات الخسيسة أقوى وأكمل في جانب تلك اللذات من الإنسان. وأيضا فالحدس والاستقراء يدلان على أن الخوض في جلب تلك اللذات يجذب النفس من أعالي عالم الأرواح المقدسة إلى أسافل عالم البهيمية. وأيضا فهذه اللذات سريعة الانقضاء والانقراض ، واللذات الروحانية آمنة من الزوال ، مصونة عن الفناء. وأيضا فالاستكثار من اللذات الجسمانية مشهود عليه بفطرة جميع الخلق أنه خسيس فإن الانسان الذي يكون كل أوقاته مصروفا إلى الأكل والوقاع يكون محكوما عليه عند كل أحد بخساسة الذات ودناءة الهمة وعلى أنه بهيمة محضة. وأما الانسان الذي يعتقد فيه التقليل من هذه الأحوال فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة. ولذلك فإن العوام من الخلق إذا اعتقدوا في إنسان قلة الرغبة في الأكل والشرب والنكاح اعتقدوا فيه كونه مستوجبا للتعظيم والخدمة وعدوا أنفسهم بالنسبة إليه كالعبيد إلى الأرباب ، وكل ذلك يدل على أن هذه السعادات الجسمانية خسيسة نازلة ، فأمّا السعادات الروحانية فإنها باقية دائمة عالية شريفة تجذب النفس من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ، ومن ظلمات عالم الأجسام إلى أعالي عوالم المقدسات المطهرات. فلهذه البراهين القاهرة ، قال في الكتاب الإلهي : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) (١) وقال صاحب الوحي والشريعة حكاية عن رب العزة تعالى : (أنا جليس من ذكرني) (٢) فقد ظهر بما ذكرناه : أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ولا شك أن رأس السعادات الروحانية ورئيسها (وزبدتها) (٣) وخلاصتها : معرفة المبدأ الأول ومعرفة صفات جلاله ونعوت كماله وكبريائه. وأيضا قد دلت الشواهد النبوية والمعالم الحكمية على أن الجهل بهذا الباب يوجب العذاب الدائم ، والخسار المطلق ، وأن الفوز بهذه المعرفة

__________________

(١) الكهف ٤٦.

(٢) هذا من حديث قدسي.

(٣) من (ز).

يوجب السعادة الأبدية والسيادة السرمدية. فوجب أن يكون هذا العلم رأس جميع العلوم ورئيسها ، وأشرف أقسامها وأجلها.

والوجه الثالث في بيان شرف هذا العلم :

إن الانسان الكامل يجد من نفسه أنه كلما كان استغراق (١) روحه في هذه المعارف أكمل ، وكان خوضه فيها أعظم ، وانجذابه إليها أتم ، وانقطاعه عما سواها أوفى ، كان ابتهاجه بذاته أفضل ، وقوة روحه أكمل ، وفرحه بذاته أوفى. وكلما كان الأمر بالعكس كانت الأحوال الروحانية والآثار النفسانية (بالعكس) (٢) مما ذكرناه. وكل ذلك يدل على أن كل السعادات مربوطة بهذه العلة وكل الكمالات والخيرات طالعة من هذا الافق. كما قال في الكتاب الإلهي : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٣).

والوجه الرابع :

إن المصالح المعتبرة إما مصالح المعاش ، أو مصالح المعاد أما مصالح المعاش فلا تنتظم إلا بمعرفة المبدأ والمعاد وذلك لأنه لو لا استقرار الشرائع الحقة لزال النظام ، واختلت المصالح وحصل الهرج ولم يأمن أحد على روحه ومحبوبه ، وأما مصالح المعاد فلا يتم شيء منها إلا بمعرفة الله تعالى وبمعرفة ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وذلك لا يحصل إلا بهذا العلم.

فظهر بهذه المباحث التي قررناها : أن مبدأ الخيرات ومطلع السعادات ، ومنبع الكرامات ، هو هذا العلم. فمن أحاط به على ما ينبغي كان في آخر مراتب الإنسانية ، وأول مراتب الملكية.

__________________

(١) استغراقه في هذه المعارف (س).

(٢) من (ز).

(٣) الرعد ٢٨.

الفصل الثاني

في

انه هل للعقول البشرية سبيل إلى تحصيل

الجزم واليقين في هذا العلم

أم يكتفى في بعض مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟

رأيت في بعض الكتب : أنه نقل عن عظماء الحكمة وأساطين الفلسفة أنهم قالوا : الغاية القصوى في هذا الباب : الأخذ (بالأولى والأخلق) (١) والتمسك بالجانب الأفضل الأكمل وأما الجزم المانع من النقيض فقد لا يمكن تحصيله في بعض المباحث.

وللقائلين (٢) بهذا القول أن يحتجوا بوجوه :

الحجة الأولى : إن أظهر المعلومات لجميع العقلاء : هو علم الإنسان بذاته (٣) المخصوصة ومعرفته بنفسه المخصوصة ، ثم هذا العلم مع أنه أظهر العلوم وأجلى المعارف قد بلغ في الصعوبة والخفاء إلى حيث عجزت العقول عن الوصول إليه ، وإذا كان الحال في أظهر المعلومات كذلك ، فالحال في أبعد الأشياء عن مناسبة الأمور المعلومة للخلق كيف يكون؟ وهذه الحجة إنما تتم بتقرير مقدمات.

المقدمة الأولى : إن أظهر المعلومات لكل أحد : ذاته المخصوصة. والذي يدل على أن الأمر كذلك : أن كل من علم شيئا فلا بد وأن يعلم كونه عالما

__________________

(١) من (س).

(٢) القائل (س).

(٣) علمه بذاته (س).

بذلك الشيء ، ولذلك فإنه يقول : أدركت هذا الشيء وعرفته ، إلا أن علمه بكونه عالما بذلك الشيء ، مسبوق بعلمه بذاته المخصوصة (لأن من لا يعلم ذاته ، كيف يمكنه أن يحكم عليها بكونها عالمة بذلك المعلوم) (١)؟ وكذلك فإنهم قالوا : كل تصديق فإنه مسبوق بتصور ، ومن الظاهر أن الشرط سابق (٢) بالرتبة على المشروط وهذا يدل على أن علم كل أحد بأي معلوم كان ، مشروط بعلمه بذاته المخصوصة (ومسبوق بعلمه بذاته المخصوصة) (٣) فيثبت أن علم كل أحد بذاته سابق على علمه بكل ما يغاير ذاته ، سواء كان ذلك العلم من البديهيات الجليات ، أو من الكسبيات ، والسابق على جملة الجليات (٤) أولى بكونه جليا بديهيا. فثبت بهذا البرهان : أن علم كل أحد بذاته المخصوصة ، أجلى العلوم وأجلها وأظهرها وأقواها.

المقدمة الثانية في تقرير أن علم كل أحد بذاته المخصوصة علم في غاية الصعوبة والخفاء : والذي يدل عليه أن المشار إليه لكل أحد بقوله : أنا إما أن يكون هو هذا الهيكل المشاهد ، أو يكون جسما من الأجسام الموجودة داخل هذا الهيكل ، أو يكون صفة من صفات هذا الهيكل ، أو يكون جوهرا مجردا عن هذا البدن وعن علائقه. وهذه الأقسام الأربعة قد حارت عقول العقلاء فيها ، ودارت رءوسهم في تعيينها ، ومن تأمل في مباحث كلام النفس يجد أن هذه المسألة قد بلغت في الصعوبة إلى الغاية القصوى. فثبت أن هذا العلم صعب غامض.

المقدمة الثالثة : إنا قد بينا أن أظهر المعلومات هو علم كل أحد بذاته المخصوصة ونفسه (المعينة) (٥) وبينا أنه مع كونها أظهر المعلومات ، فقد بلغ العلم بها إلى الغاية (القصوى) (٦). في الصعوبة والخفاء والغموض. وإذا ثبت

__________________

(١) من (ز).

(٢) يتقدم (س).

(٣) من (ز).

(٤) البديهيات (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

هذا فنقول : إن ذات الحق سبحانه مخالفة بالماهية والحقيقة لجميع أقسام الممكنات والمحدثات فإذا كان العلم بأظهر المعلومات قد بلغ (١) في الخفاء والغموض إلى الحد الذي ذكرناه ، فالعلم الذي بصفات الموجود الذي لا يشابه شيئا (من الممكنات ، ولا يناسب شيئا) (٢) مع أنه في غاية البعد عن مناسبة المعقولات ، ومشابهة ما يصل إليه الفكر والذكر والوهم والخيال ، لو كان صعبا عسرا ، كان ذلك أولى. فيثبت أن هذا العلم الشريف أعلى وأجل من أن يحيط به العقل إحاطة تامة فلا سبيل للعقول البشرية فيه إلا الأخذ بالأولى والأخلق والأكمل والأفضل. واعلم أن لتقرير هذه الحجة شرحا آخر وهو : أن الاستقراء يدل على أن أظهر المعلومات عند الخلق أشياء معدودة مثل علم كل أحد بنفسه ، ومثل علمه بزمانه ومكانه ومثل علمه بجسميته. ثم إن العقل إذا خاض في معرفة النفس والجسم ومعرفة المكان والزمان تحير ولم يقدر على الخلاص ، فإذا كان حاله في معرفة أظهر الأشياء كذلك ، فكيف يكون حاله في معرفة أخفى الأشياء. ولنبين صحة ما ذكرناه فنقول :

أولها : ذاته المخصوصة وقد كشفنا حقيقة الحال فيه

وثانيها : علمه بالمكان والزمان فإن كل أحد يحكم ببديهة عقله أنه كان في ذلك المكان وانتقل منه إلى مكان آخر ، وبقي في ذلك المكان الأول ، والعلم بالمكان جزء من أجزاء ذلك العلم. وأيضا كل أحد يحكم ببديهة عقله أن هذا الوقت الخاص وقت كذا ، ثم بعده يقول : إنه مضى ذلك الوقت ، وحضر وقت آخر والعلم بحقيقة الوقت والمدة جزء من العلم بأنه مضى الوقت الأول ، وحضر الوقت الثاني. ثم إن العقلاء دارت رءوسهم وحارت عقولهم في معرفة حقيقة المكان والزمان. أما المكان فأصحاب أفلاطون وكل من كان قبله من الحكماء المعتبرين : اتفقوا على أنه عبارة عن البعد الممتد. وأما اصحاب ارسطاطاليس (٣) : فقد اتفقوا على أنه عبارة عن السطح المحيط ، وأن القول

__________________

(١) قد يكون (س).

(٢) من (س).

(٣) أرسطو (س).

بالبعد باطل. وصعوبة هذه المسألة تظهر في مباحث مسألة المكان. وأما الزمان فقد حارت العقول ودارت الرءوس في معرفته ، وإذا تأملت في مسألة الزمان وأحاط عقلك بما في تلك المسائل من الدقائق العميقة (١) ، والمباحث الدقيقة ، علمت أن هذه المسألة قد بلغت إلى أقصى الغايات ، وأبلغ النهايات في الصعوبة (والخفاء) (٢).

وثالثها : العلم بحقيقة الجسم ، وقد حارت العقول أيضا في أنه هل هو مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ ، أو ليس الأمر كذلك ، بل هو قابل للقسمة إلى غير النهاية؟

ومن خاض في تلك المسألة وعرف قوة الدلائل من الجانبين ، علم أنه لا حاصل عند العقل إلا الحيرة والدهشة والأخذ بالأولى والأخلق ، فيثبت بهذا الاستقراء : أن حاصل العقل في (معرفة) (٣) أظهر المعلومات ليس إلا محض الحيرة والدهشة ، والأخذ بالأولى والأخلق ، فما ظنك بالعقل عند العروج الى (باب) (٤) كبرياء الله تعالى ، وعند ما يحاول الخوض في البحث عن كنه عزته وصمديته وصفات جلاله وإكرامه من علمه وقدرته وحكمته؟ فهذا جملة الكلام في هذا الباب.

ومما يزيد هذا الكلام تقريرا (٥) : أن أقوى المباحث العقلية باتفاق جمهور العقلاء : المباحث الهندسية ، فليتأمل في كتاب أقليدس. يقول : إن أقسام المضلعات تبتدئ من المثلث وتمر إلى غير النهاية. ثم إن أقليدس أقام الحجة على إثبات المثلث والمربع في المقالة الأولى ، ولما احتاج إلى اثبات المخمس احتاج إلى تقديم مقدمة عليه ، وهو أنه عمل مثلثا يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين

__________________

(١) بما في المسائل العميقة (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) هذا البحث (س).

فوق القاعدة منعطفا إلى الزاوية (١) الفوقانية ثم قسم كل واحدة من الزاويتين إلى نصفين ، وبهذه الطريقة قدر على عمل المخمس ، ثم لما أقام البرهان (٢) على أن نصف قطر كل دائرة يساوى وتر سدس تلك الدائرة ، لا جرم قدر بهذا الطريق على عمل المسدس ثم (٣) إنه طفر منه إلى شكل ذي خمسة عشر ضلعا ، والسبب في هذه الطفرة أنه احتاج في عمل المسبع إلى تقديم مثلث يكون كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة ثلاثة أمثال الزاوية الفوقانية.

وأعمال كتاب أقليدس لا تفي بإقامة البرهان على هذا المطلوب ، بل لا يمكن إثبات هذا المطلوب إلا بقطوع المخروطات ، فلا جرم عجز عنه وتركه. وأيضا لا يمكنه إثبات عمل المتسع (٤) إلا بطريقين : أحدهما : أن يعمل مثلثا متساوي الأضلاع ، ثم يقسم كل واحدة من زواياه الثلاث ثلاثة أقسام متساوية. وقد بينا أن هذا لا يتم إلا بقطوع المخروطات. (والطريق) (٥) الثاني : أن يعمل مثلثا يكون كل واحدة من الزاويتين (اللتين) (٦) فوق القاعدة أربعة أمثال الزاوية الفوقانية وهو عاجز عنه.

وأما الشكل الذي يحيط به أحد عشر ضلعا ، فهو إنما يتم بتقديم عمل مثلث ، تساوي كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة خمس مرات للزاوية الفوقانية ، وهو عاجز عنه ، وكذا القول في مضلع محيط به ثلاثة عشر مضلعا ، فإنه إنما يتم بعمل مثلث يساوي كل واحدة من الزاويتين اللتين فوق القاعدة للزاوية الفوقانية ست مرات. وهو عاجز عنه. وأما المضلع الذي يحيط به خمسة عشر مضلعا فإنه قدر على عمله بمقدمات أثبتها في كتابه، وذلك أنه أوقع في الدائرة مثلثا متساوي الأضلاع فانقسمت الدائرة ثلاثة أقسام متساوية ، ثم أوقع

__________________

(١) ضعفا للزاوية (ز).

(٢) الدليل (س).

(٣) طفر إلى عمل شكل (س).

(٤) المسبع (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

في القسم الواحد منها نصف قطر (١) الدائرة ، وهو وتر المسدس ، ثم قسم ما بقي نصفين ، فبهذا الطريق قسم كل قوتين بخمسة أقسام متساوية ، فخرج له مضلع أحاط به خمسة عشر ضلعا. وعند هذا وقف عمله ، ولم يقدر على الزيادة.

فالحاصل أن أقليدس قدر على إقامة البرهان على إثبات خمسة أنواع من المضلعات : المثلث والمربع والمخمس والمسدس وذو خمسة عشر ضلعا. وأما بقية الأقسام التي لا نهاية لها فقوانينه (قاصرة عن إثباتها ، ومقدماته) (٢) غير وافية (٣) بتقريرها.

وأما أصحاب علوم المخروطات ، فقد تكلفوا طريقة في إثبات المسبع والمتسع وأما البقية فقد بقيت في موقف العجز والقصور فقد ظهر بما ذكرنا : أن العقول البشرية قاصرة ، والأفهام الإنسانية غير وافية بإدراك حقائق الأشياء إلا في القليل القليل من الكثير الكثير في معرفة هذه المحسوسات فما ظنك بالعقل عند طلوع نور الالهية (وسطوع) (٤) الأضواء الصمدية؟

الحجة الثانية في هذا الباب : إن قوة البصر ، وقوة البصيرة متساويتان. وليعتبر أن حال القوة الباصرة ، مع المبصرات أحوال (٥) ثلاثة :

الحالة الأولى : المبصرات الحقيرة الضعيفة كالذرات والهباءات ، والمبصرات الخفيّة (٦) الضعيفة ، فمن المعلوم أن القوة الباصرة عاجزة عن إدراك أمثال هذه المبصرات وغير واقفة عليها (٧) ، ولا قادرة على ضبط تلك المراتب.

والحالة الثانية : المبصرات القوية القاهرة المستعلية مثل قرص الشمس عند

__________________

(١) طول (ز).

(٢) كل وتر تحته أقسام (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) الخفية (ز).

(٧) وعسير وقوفها (ز).

غاية لمعانه وإشراقه. فإن القوة الباصرة قاصرة عن إدراكه على سبيل التمام والكمال. ألا ترى أن من تكلف النظر إلى قرص الشمس عند غاية لمعانه وإشراقه ، فإنه يتخيل ظلمة وسوادا في وسط قرص الشمس ، وكأنه يتخيل أن الأنوار إنما تفيض من أطراف قرص الشمس ، كأنه طست تفيض الأنوار من أطرافه ، فأما نفس القرص التي هي كالطست فإن الإنسان يراها كالظلمة السوداء ، إلا أن العقل السليم يحكم بأن تلك الظلمة ليست حاصلة في جوهر الشمس ، فإنه منبع الأنوار ، ومظهر الأضواء ، لكن القوة الباصرة للبشرية تصير مقهورة من كمال ذلك النور ، فيعجز عن إدراكه ، فلما عجز عن إدراكه تخيل فيه ظلمة وسوادا. أو (رأى) (١) النور كالأمر القابض من أطراف قرص الشمس وجوانبه.

والحالة الثالثة : المبصرات المعتدلة في القوة والضعف والكمال والنقصان وهي مثل الكيفيات القائمة بأجسام هذا العالم فإن القوة الباصرة يمكنها الوقوف عليها والإحاطة بها والوصول إلى تمام إدراكاتها ، فظهر بهذا البيان الذي قررناه : أن القوة الباصرة قاصرة عن إدراك (٢) المبصرات القاهرة ، وقاصرة عن إدراك المبصرات الضعيفة أيضا ، ولكنها قادرة على إدراك المبصرات المتوسطة في القوة والضعف والكمال والنقصان وإذا عرفت هذه المراتب الثلاثة في قوة الابصار ، فاعرف مثلها في مراتب قوة البصيرة والعقل. وذلك لأن المعلومات على ثلاثة أقسام :

أحدها : المعلومات الضعيفة الحقيرة : وهي مثل مراتب الأمزجة والتغيرات والاختلافات الحاصلة عند درجات الاستمالات الواقعة في الأجسام الكائنة الفاسدة ، فإن العقول البشرية لا تقوى على إدراك تلك المراتب ، وضبط تلك الدرجات ، لأنها أحوال ضعيفة سريعة الزوال قريبة الانقراض والانقضاء ، فهي لضعفها وحقارتها لا تقوى العقول البشرية على إدراكها على سبيل الكمال والتمام.

__________________

(١) من (ز).

(٢) إبصار (س).

وثانيها : المعلومات القاهرة العالية المقدسة وهي الجواهر القدسية. والماهيات المجردة عن علائق الأجسام وأشرفها وأعلاها هو ذات الله تعالى وصفات جلاله ونعوت كبريائه (١).

فهو سبحانه لغاية إشراق جلاله ، عجزت العقول عن إدراكه وضعفت الأوهام والأفهام عن الوصول إلى ميادين إشراق كبريائه ، وإليه الاشارة بقول صاحب الشريعة [صلوات الله عليه] (٢) : «إن لله سبعين حجابا من نور ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما في السموات والأرض» وكان بعض الصالحين يقول (٣) : «سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره ، واختفى عنها بكمال نوره» وإذا عرفت هذا ، فحينئذ صار العقل عاجزا عن إدراكه وعرفانه ، لغاية قوته ، وكماله ، واستعلائه.

وكما أن البصر عاجز (٤) عن إدراك قرص الشمس لكمال نوره ، وكما أن البصر لا يتخيل من (قرص) (٥) الشمس إلا السواد والظلمة ، ولا يتخيل فيضان النور إلا من أطراف قرص الشمس ، فكذا هاهنا العقل إذا حاول النظر إلى كنه كبريائه (٦) غشيته حالة كالدهشة والحيرة فلا يبصر البتة شيئا ، بل يمكنه أن يرى نور كرمه وفيض جوده ورحمته ، واصلا إلى خلقه كما نرى نور قرص الشمس فائضا من أطرافه وجوانبه.

وثالثها : المعلومات المعتدلة التي لا تكون في غاية القوة والجلالة ولا في غاية الضعف والحقارة ، وأمثال (٧) هذه المعلومات مما تقدر القوة العاقلة على إدراكها والإحاطة بها ، فظهر بهذا الاعتبار الذي قررناه : أن العقول مدفوعة ،

__________________

(١) كماله (س).

(٢) من (س).

(٣) الصديقين (س).

(٤) قاصر (س).

(٥) من (ز).

(٦) إلى كبرياء جلاله (س).

(٧) ولا يقال (س).

والأفكار مقهورة والخواطر مزجورة ، وحقيقة الحق لا يمكن الوصول إليها بخطرات العقول والأفكار ، وكبرياء الإلهية يمتنع الوقوف عليها بأجنحة الأقيسة والأنظار. فظهر أنه لا حاصل عند العقول إلا الإقرار بإثبات الكمال المطلق له ، وتنزيه النقائص بأسرها عنه ، على سبيل الإجمال ، أما سبيل التفصيل فذاك ليس من شأن القوة العقلية البشرية.

الحجة الثالثة في هذا الباب : إن العلوم إما تصورية وإما تصديقية. أما التصويرية فنحن نجد من أنفسنا وجدانا بديهيا ، بعد الاختبار التام والاستقراء الكامل أنه لا يمكننا أن نشير بعقولنا ووهمنا وخيالنا إلا إلى أحد أنواع أربعة من التصورات.

فأحدها : الماهيات التي ادركناها بأحد الحواس الخمس ، وهي : المبصرات ، والمسموعات ، والمشمومات ، والمذوقات ، والملموسات.

وثانيها : الماهيات التي ندركها من نفوسنا إدراكا ضروريا كالألم واللذة والجوع والشبع والفرح والغضب وأمثالها.

وثالثها : الماهيات التي ندركها بحكم فطرة عقولنا كتصورنا (لمعنى) (١) الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان والامتناع.

والنوع الرابع : الماهيات التي يركبها العقل والخيال من (هذه) (٢) البسائط ، أما تركيب الخيال فهو كما إذا تصورنا بحرا من زئبق وإنسانا له ألف رأس (فإنا بحس البصر أدركنا البحر ، وأدركنا الزئبق ، فالخيال يركب صورة البحر مع صورة الزئبق) وكذا القول في سائر الأمثلة ، وأما تركيب العقل فهو أنا إذا قلنا : شريك الاله ممتنع الوجود ، فما لم يتصور العقل (معنى) (٣) شريك الإله يمتنع أن يحكم عليه بالامتناع ، ثم إن العقل إنما يمكنه تصور معنى شريك الإله ، لأنه قد تصور معنى الشريك في بعض المواضع ، وتصور أيضا معنى الإله في

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

الجملة. فلما حصل عنده تصور هذين المفهومين (١) لا جرم ركبهما ، فحصل عنده تصور معنى شريك الإله ، فلا جرم قدر على أن يحكم عليه بالامتناع فنقول : لما عقلنا الشريك في حق الواحد منا ، فهذا المعنى الذي تعقلناه في حقنا نضيفه إلى الله تعالى فنقول : ثبوت شيء لله تعالى ، نسبته إليه كنسبة شريكنا إلينا : محال الوجود.

فثبت بهذا البيان : أن تصورات العقول البشرية لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة ، وإذا كانت التصورات الحاصلة عندنا محصورة في هذه الأقسام كانت التصديقات أيضا محصورة فيها ، لما ثبت أن التصديقات مشروطة بالتصورات ، فيثبت أن تصورات الخلق وتصديقاتهم محصورة في هذه الأقسام الأربعة.

وإذا ظهرت هذه المقدمة فنقول : ثبت بالبرهان : أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مخالفة لجملة هذه الماهيات التي هي محسوسة لنا ، وحاضرة في عقولنا حضورا بالتفصيل ، وأنه سبحانه لا يناسب شيئا منها ، وهو مخالف لها بأسرها مخالفة من جميع الوجوه ، فإنه لو شاركها من بعض الوجوه ، وخالفها في سائر الوجوه ، لكان ما به المشاركة غير ما به المخالطة ، فتكون حقيقته مركبة وذلك محال. وإذا كان كذلك وجب ألا تكون حقيقة متصورة للخلق بوجه من الوجوه (وإذا لم تكن حقيقة متصورة للخلق) (٢) كان الحكم عليها بالسلب والإيجاب البسطين أو المركبين ممتنعا ، لما ثبت أن التصديق موقوف على التصور.

فالعقول قاصرة عن معرفته ، والإدراكات غير منتهية إليه ، وإنما الغاية القصوى أنا إذا تصورنا معنى الكمال والنقصان (في حق أنفسنا بحسب ما يليق بنا وبمقدار ما يناسبنا وجب أن نفهم معنى الكمال والنقصان) (٣) لأن المطلق ، جزء من ماهية المقيد ، وبهذا الطريق يتصور معنى الكمال والنقصان ، وإذا تصورنا هذا المعنى اعترفنا بإثبات مسمى الكمال له بشرط تنزه (٤) ذلك المسمى

__________________

(١) الأمرين (س).

(٢) نقض (س).

(٣) من (س).

(٤) براءة (س).

عن اللواحق اللاحقة له ، بسبب حصوله فينا ، فليس عند جملة الخلق من معارف جلاله (١) ، إلا هذا القدر. فظهر بهذا البيان : أن عقول الخلق لم يحصل عندها من المعارف الإلهية إلا هذه الأمور المجملة ، المشار إليها على سبيل الأولى والأخلق وأما على سبيل التفصيل فلا.

الحجة الرابعة لهم في هذا الباب : إن الانتقال من المعلوم إلى المجهول لا يعقل إلا بأحد ثلاثة أوجه :

أحدها : الاستدلال بالعلة على المعلول.

وثانيها : الاستدلال بالمساوى على المساوى.

وثالثها : الاستدلال بالمعلول على العلة.

والطريقان الأولان في حق الحق مفقودان فبقي الطريق الثالث وهو أن يصعد من الأثر إلى المؤثر ، وينتقل من المخلوق إلى الخالق. وإذا عرفت هذا فنقول : النفس الناطقة الإنسانية واقعة في المرتبة الآخرة من الموجودات المجردة المقدسة ، على ما ستعرف حقيقة هذه المقدمة عند وقوفك على معرفة درجات الملائكة ومراتبها ، وإذا كان كذلك فهذه النفس الإنسانية تترقى من علمها بنفسها إلى علمها بعلتها ، ومن علمها بعلتها إلى علمها بعلة علتها ، وهكذا تترقى مرتبة فمرتبة حتى تصل بالآخرة إلى حضرة واجب الوجود لذاته. كما قال في الكتاب الإلهي.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٢) وقال : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٣) وقال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٤) فالحق هو الأول عند النزول من الحق (٥) إل الخلق ، والآخر عند الصعود من الخلق إلى الحق ، ولما كانت درجات الوسائط

__________________

(١) جلال الله (س).

(٢) النجم ٤٨.

(٣) الشورى ٥٣.

(٤) الحديد ٣.

(٥) من الخلق إلى الحق (س).

كثيرة ، ومراتبها خفية عن العقول البشرية ، وكانت (١) أحوال تلك الوسائط مختلفة ومراتب أضوائها وقهرها وقوتها مختلفة ، وكانت قوة النفس الناطقة البشرية عند الترقي في هذه المراتب ضعيفة ، لا جرم بقيت أكثر النفوس البشرية في (درجة من) (٢) درجات هذه المتوسطات بل نقول : أكثر الخلق بقوا في حضيض عوالم المحسوسات ، والشاذ القليل منهم تخلص من عالم الحس ، مترقيا عن عالم المحسوسات إلى عالم الخيالات ، و (القليل) (٣) من أصحاب الخيالات انتقل إلى عالم المعقولات. ثم في عالم المعقولات مراتب الأرواح المقدسة كثيرة ، فلا جرم أكثر العقول الفاضلة (لما وصلت) (٤) إلى عوالم أنوار المعقولات تلاشت وفنيت واضمحلت في أنوار تلك الأرواح (٥) المقدسة. إلا من أيّد بقوة قاهرة ، ونفس إلهية تترقى من زنجبيل المريخ إلى سلسبيل المشتري ومنه إلى كافور زحل (ثم استعلى على الكل وترقى على الكل) (٦) ووصل الى الحضرة المقدسة ، عن لواحق عالم الإمكان وغيار الحدوث ، واستسعد بقوله : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٧) أي ذلك الشراب الطهور ، يطهره عن علائق الإمكان والحدوث ، ويجليه على عتبة الوجوب بالذات. وإذا عرفت ذلك ظهر أن القليل من الأرواح البشرية يستسعد لقبول ذرة من ذرات (أنوار) (٨) عالم الجلال. وهذه تلويحات وتنبيهات ذكرناها في مقدمة هذا العلم ، ليعلم الإنسان أن القليل من مباحث هذه المعالم الشريفة كثير كثير بالنسبة إلى الأرواح. ولذلك قال في الكتاب الإلهي (حكاية عن الحق سبحانه أن قال) (٩) (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١٠) وقال حكاية عن إبليس : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (١١).

ولنكتف بهذا القدر من البيان ، في هذا المقام فإنه بحر لا ساحل له.

__________________

(١) وكانت درجات ابواب (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) الأنوار (س).

(٦) بدل هذا الكلام في (س) : ثم انتقل إلى الكل.

(٧) الإنسان ٢١.

(٨) من (س).

(٩) من (ز).

(١٠) سبأ ١٣.

(١١) الأعراف ١٧.

الفصل الثالث

في

أن تحصيل هذه المعارف المقدسة. هل الطريق

إليه واحد ، أم أكثر من واحد؟

اعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر : أن الطريق إليه من وجهين :

أحدهما : طريق أصحاب النظر والاستدلال.

والثاني : طريق أصحاب الرياضة والمجاهدة.

أما الطريق الأول ، وهو طريق الحكماء الإلهيين : فهو الاستدلال بأحوال (١) الممكنات على اثبات موجود واجب الوجود لذاته (٢) ، وذلك لأنه لما ثبت أن هذه الموجودات المحسوسات ممكنة ومحدثة ، وثبت أن الممكن محتاج إلى المرجح ، وثبت أن المحدث محتاج إلى المحدث ، وثبت أن التسلسل والدور محالان ، فحينئذ يجب انتهاء هذه الموجودات إلى موجود قديم (أزلي) (٣) واجب الوجود لذاته. واعلم أن الشيخ الرئيس (أبا علي بن سينا) (٤) ذكر في كتاب الإرشادات : أن هاهنا طريقا يدل على إثبات واجب الوجود لذاته ، بحسب اعتبار حال الوجود من حيث إنه وجود. قال : «ولا حاجة فيه إلى اعتبار حال وجود غيره فإنا نقول لا شك أن في الوجود موجودا. فنقول ذلك الموجود إن كان واجبا

__________________

(١) بأحكام (س).

(٢) إثبات وجود واجب لذاته (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

لذاته فهو المقصود ، وإن كان ممكنا لذاته فلا بد له من الواجب لذاته فثبت أن اعتبار حال الموجود من حيث إنه موجود ، يشهد بوجود موجود ، هو واجب الوجود لذاته» فهذا ما قاله ثم رجح هذا الطريق (على الطريق) (١) الذي يستدل فيه بإمكان ما سواه على وجوده.

واعلم ان البحث المستقصى (يدل) (٢) على أن هذا الكلام ليس بقوي (وذلك) (٣) لأنا إذا قلنا : الموجود إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته ، فإن كان ممكنا لذاته ، امتنع رجحان وجوده على عدمه إلا لمرجح ، فهذا استدلال بوجود الممكن على وجود الواجب ، فثبت أنه لا سبيل إلى إثبات واجب الوجود إلا بهذه المقدمة. وأيضا : فهب أن الطريق الذي ذكره يدل على إثبات واجب الوجود لذاته ، إلا أنه (يبقى) (٤) الشك في أن ذلك الموجود الواجب لذاته ، هل هو هذه الأجسام أو غيرها؟ فما لم يقم البرهان على أن هذه الأجسام ممكنة لذواتها ، لم يقدر على الحكم باحتياجها في وجودها إلى المؤثر (٥) والمرجح.

فيثبت بما ذكرنا : أن معرفة واجب الوجود لذاته ، لا تحصل (٦) إلا إذا اعتبرنا أحوال وجود هذه المحسوسات ، فإنا إذا بينا أنها ممكنة لذواتها ، ثم بينا أن الممكن لذاته لا بدّ له من المرجح ، ثم بينا أن التسلسل والدور باطلان ، فعند ذلك يمكننا الجزم بإثبات موجود واجب الوجود لذاته. فهذا حاصل الكلام في الاستدلال بوجود غير الله على وجود الله تعالى.

وأما الطريق الثاني ، وهو طريق أصحاب الرياضة : فهو طريق عجيب (٧) أكيد قاهر فإن الإنسان إذا اشتغل بتصفية قلبه عن ذكر غير الله وداوم بلسان جسده ، ولسان روحه على ذكر الله ، وقع في قلبه نور وضوء (٨) وحالة قاهرة وقوة عالية. ويتجلى لجوهر النفس أنوار عالية علوية وأسرار إلهية ، وهي مقامات ما لم يصل الإنسان إليها ، لا يمكنه الوقوف عليها على سبيل

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) يقع (س).

(٥) المدبر (س).

(٦) نحتاج (س).

(٧) عجيب لذيذ قوي ماهر (ز).

(٨) صبر ونور (س).

التفصيل ، وأنا أنبه على مقامات لا بد من الوقوف عليها ، ليصير ذلك التنبيه (١) سببا للاحتراز عن الأغلاط الواقعة فيها.

فالمقام الأول (٢) من المقامات المعتبرة في هذا الباب :

إنه قد ثبت عندنا : أن النفوس الناطقة البشرية ، مختلفة بالماهية والجوهر. فبعضها مشرفة إلهية علوية ، وبعضها ظلمانية كدورية سفلية. وقد بالغنا في تقرير هذه المعاني في كتاب «النفس».

وإذا ثبت هذا ، فنقول : إن في النفوس ما يكون في أصل الجوهر ، والماهية : نفسا إلهية قابلة إلى حضرة القدس ، كثيرة الحب لها ، متوغلة في درجات معرفتها. ومنها ما قد حصل لها شيء من هذه الأحوال إلا أنها تكون ضعيفة ، ومنها نفوس كدرة ظلمانية خالية عن هذه الجواذب الإلهية ، والنوازع الروحانية ، غريقة في بحر الهوى (٣) ، وظلمات عالم الحس والخيال. ولأجل المبالغة في إيضاح هذه المعاني أضرب له مثلا فأقول : (إن جبال العالم وتلاله على قسمين : منها ما يتولد فيه شيء من المعادن ، ومنها ما لا يكون كذلك. والاستقراء يدل على) (٤) أن الجبال الخالية عن المعادن أكثر بكثير من الجبال التي تتولد فيها المعادن. ثم نقول : الجبال التي تتولد فيها المعادن ، منها ما يتولد فيه المعدنيات الخسيسة مثل معادن النفط والكبريت والنورة والملح. ومنها ما يتولد فيها المعدنيات الشريفة كالذهب والفضة والياقوت ، واللعل وغيرها. ثم الاستقراء يدل على أن الجبال التي يحصل فيها هذه المعادن الشريفة النفيسة ، أقل بكثير من الجبال التي تحصل فيها هذه الخسيسة. ثم نقول : (هذه) (٥) الجبال التي تحصل فيها هذه المعادن الشريفة ، وهي الأجساد السبعة الذاتية ، نرى أن كل ما كان منها أخس ، كانت معادنها أكثر ، وكل ما كان أشرف كانت معادنها

__________________

(١) لتصير تلك الفضية (ز).

(٢) في هذه الجملة تقديم وتأخير في (س).

(٣) الهيولي (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

أقل وذلك لأن الاستقراء يشهد بأن معادن الحديد والنحاس والرصاص والابوت أكثر بكثير من معادن الذهب والفضة ، ثم نقول أن معادن الذهب (والفضة) (١) أيضا مختلفة فمن الجبال ما يحتاج فيها إلى العمل الكثير الشاق حتى يحصل منه ذهب قليل ، ومنها ما لا يكون كذلك ، بل العمل القليل السهل قد يوصل إلى وجدان المال الكثير ، وبين هذين الطرفين أوساط متباينة الدرجات في القلة والكثرة ، ثم لا يزال يزداد الخير والكمال ، حتى أنه ربما انتهى الأمر إلى جبل يجد الانسان فيه غارا مملوءا من الذهب (والفضة) (٢) (إذا عرفت هذه المراتب ظهر عندك : أن مثل هذا الجبل المشتمل على مثل هذا الغاز. يكون نادرا جدا ولا ينفق الوصول إليه ولا الفوز به إلا في الأدوار المتباعدة جدا) (٣) وإذا عرفت هذا فنقول :

لتكن الأرواح البشرية جارية مجرى الجبال والتلال ، ولتكن أنوار معرفة الله ، ومحبته جارية مجرى الذهب الإبريز الخالص ، وكما أن أكثر جبال الدنيا وتلالها خالية عن المعادن ، فكذلك أرواح أكثر الخلق خالية عن الميل إلى عالم الروحانيات ، ثم إن هذا القسم لو بالغ في الرياضة الجسدانية فإنه يقل انتفاعه بها ، كما أن الجبل الخالي عن المعدن لو أتعب الإنسان نفسه في علاجه فإنه لا يجد فيه شيئا البتة.

وأما القسم الثاني : وهو الأرواح التي حصلت فيها هذه المعادن فكما أن الجبال المشتملة على معادن الذهب والفضة مختلفة ، فبعضها يحتاج فيه إلى العمل الكثير ليحصل الفوز بالنفع القليل ، فكذلك هذا القسم من الأرواح منها ما يحتاج إلى الرياضة الشديدة الكثيرة ، ليحصل له القدر القليل من هذه المكاشفات ، ومنها ما لا يكون كذلك ، بل العمل القليل يوصله الى الفوز بالنعم العظيمة.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

وكما أن مراتب الجبال (المشتملة على المعادن) (١) مختلفة في القلة والكثرة ، اختلافا لا يمكن ضبطه ، فكذلك مراتب درجات الأرواح مختلفة بالقوة والضعف والقلة والكثرة ، اختلافا لا يمكن ضبطه ، وكما أنه لا يبعد أن يوجد في النوادر جبل مشتمل على غار مملوء من الذهب (٢) ، فكذلك لا يمتنع أن يوجد في الاعصار المتباعدة إنسان يكون غار روحه ، مملوءا من أنوار جلال الله.

وإذا وقفت على هذا المثال ، عرفت أنه ليس كل من خاض في الرياضة ، وإن كانت على أصعب الوجوه ، وجب أن يصل إلى شيء.

وأيضا فليس كل من وصل إلى شيء ، فقد وصل إلى الغاية ، بل الغاية في هذا الطريق ممتنعة ، فكما أنه لا نهاية لجلال الله ، ولعلو كبريائه ، فكذلك لا نهاية لمراتب السعادات في هذا الباب.

فليكن هذا المثال نصب عينيك ، وقائما عند خيالك ، لئلا تغتر ، فتظن أن كل من سلك وصل ، وكل من طلب وجد ، ونقول : لا ننكر أن لتلك الرياضات آثارا من بعض الوجوه ، فإن للمواظب على العمل أثرا من بعض الوجوه. إلا أنه من الظاهر أنه ليس التكحل في العينين كالكحل.

ونعم ما قاله حكيم الشعراء :

يراد من القلب نسيانكم

وتأبى الطباع على الثاقل

وقال أرسطاطاليس : «من أراد أن يشرع (٣) في طلب هذه المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى» والمراد منه أن يبالغ الإنسان في تجريد عقله من علائق الحس (والوهم) (٤) والخيال. هذا ما في هذا المقام.

__________________

(١) من (ز).

(٢) ذهبا إبريزا (س).

(٣) الشروع (س).

(٤) من (ز).

وأما المقام الثاني :

فهو أن حاصل هذا الطريق : إخلاء القلب عن ذكر غير الله. فإن جوهر النفس ، كأنها بالجبلة الأصلية والغريزة الفطرية ، عاشقة (١) على حضرة جلال الله ، إلا أنها (لما) (٢) تعلقت بهذا البدن واشتغلت بهذه اللذات الجسدانية والطيبات الخسيسة (صار) (٣) استغراقها في هذا الجانب ، مانعا لها من الانجذاب الى الوطن (٤) الأصلي ، والمركز الذاتي ، فإذا بالغ الإنسان في إزالة هذه العوارض ، بقيت جوهرة النفس مع لوازمها الأصلية ، وارتفع الغبار الحاجب ، والغطاء المانع. فحينئذ يظهر فيه نور (٥) جلال الله. فليجتهد الانسان في هذا الباب بمقدار ما يحصل له الالتذاذ بالوقوف على ذرة من أنوار ذلك العلم ، فإنه إذا حصلت تلك السعادة قويت اللذة وعظم الابتهاج ، ويصير ذلك من أعظم الجواذب له إلى الانصراف إليه والإقبال عليه.

وأما المقام الثالث من المقامات المعتبرة في هذا الباب :

أن صاحب الرياضة ، إن كان خاليا عن طريق النظر والاستدلال ، فربما لاحت له في درجات (٦) الرياضات ، مكاشفات قوية (واحوال) (٧) عالية قاهرة ، يتيقن بها أنها أحوال نهايات المكاشفات ، وغايات الدرجات ، ويصير ذلك عائقا له عن الوصول إلى المطلوب ، أما إذا كان قد مارس طريقة النظر والاستدلال ، وميز مقام ما يمتنع عن مقام ما لا يمتنع ، كان آمنا من هذه المغالطة ، ولو اتفق لإنسان كان كاملا في طريقة الاستدلال الفكري ، ثم رزق الكمال في طريقة التصفية والرياضة ، وكانت نفسه في مبدأ الفطرة ، عظيمة

__________________

(١) مناسبة لحضرة (س).

(٢) من (ز).

(٣) وصار (س).

(٤) القطر (س).

(٥) نعت (س).

(٦) حركات (س).

(٧) من (س).

المناسبة ، لهذه الأحوال ، كان ذلك الإنسان واصلا في هذه المدارج والمعارج إلى أقصى الغايات ونقل عن أرسطاطاليس ، أنه قال : «كنت أشرب فلا أروى. فلما شربت من هذا البحر ، رويت ريا لا ظمأ بعده». وهذه الأحوال لا يشرحها المقال ، ولا يصل إليها الكلام ، ومن لم يذق لم يعرف ، ومن لم يشاهد لم يصدق. والله أعلم بالمغيبات.

الفصل الرابع

في

ضبط معاقد هذا العلم

أعلم ان الإنسان له أحوال ثلاثة : الماضي والحاضر والمستقبل.

أما الماضي : فهو يريد أن يعرف أن هذه الأحوال كيف كانت في الماضي؟ وذلك لا يحصل إلا بأن يعرف المبدأ الأول ويعرف صفاته ، ويعرف أنه كيف صدر عنه هذه الأحوال؟ فهذه مقدمات ثلاث. وعلى طريق كل واحد منها عقدة هائلة.

أما معرفة الذات فهي أنا لو حكمنا بكون ذاته مساوية لشيء من هذه الأشياء التي أدركناها بحواسنا ووجدانات نفوسنا ، ووجدانات عقولنا ، لزم كونه ممكنا لذاته ، وهو محال. وإن حكمنا بكون تلك الذات المخصوصة مخالفة لجميع هذه الموجودات التي عقلناها وعرفناها بقي العقل متحيرا والها ، لا يهتدي الى شيء. فالحاصل أن العقل إذا أثبت تلك الحقيقة على وجه يصل إدراكه إليه لم يعرفه البتة ، لأن كل ما كان كذلك فهو ممكن الوجود ، لا واجب الوجود ، وإن أثبته بحيث يكون مخالفا لحكمة هذه الحقائق ، فحينئذ يعجز عن معرفته من حيث هو هو ، وإذا عجز عن معرفته ، وعن تصوره فكيف يمكنه أن يصفه بصفات الجلال والعظمة والتقديس؟ فهذا موقف مهيب في معرفة الذات.

وأما معرفة الصفات ففيها مقامان مهيبان جدا جدا :

المقام الأول :

إن تلك الصفات إن كانت مغايرة للذات ، كانت (١) حقيقة الإله مركبة من ماهيات كثيرة ، وكل مركب ممكن ، فالواجب لذاته ، ممكن لذاته ، وهو محال ، وإن كانت الصفات عين الذات فهو أيضا مشكل لوجهين :

الأول : إن كل واحد من ماهيات هذه الصفات ، قد يعرف مع الذهول عن حقيقة الذات (المخصوصة) (٢) ولو كانت (الذات) (٣) عين الصفة ، لامتنع ذلك.

الثاني : إن لكل واحدة من الصفات ماهية غير ماهية الصفة الأخرى ، فلو كانت الصفات عين الذات الواحدة ، لكان (الشيء) (٤) الواحد لا يكون واحدا ، بل ماهيات مختلفة. وهو محال.

المقام الثاني من المقامين المهيبين :

إن علم الله تعالى لا بد وأن يكون محيطا بما لا نهاية له من الكليات والجزئيات ، وقدرة الله تعالى لا بد وأن تكون نافذة في كل الممكنات ، وإحاطة الصفة الواحدة بأمور لا نهاية لها على سبيل التفصيل مع أنه لا يشغله شأن عن شأن أمر ما وجدناه من نفوسنا وعقولنا ، فكان تصور إدراك هذه المعاني صعبا على العقول البشرية.

وأما معرفة الأفعال : ففيه موقف حارت فيه العقول وضلت الأفهام ، وهو أن إسناد الأثر المعين إلى مؤثر لا يتعين البتة ، (كيف يعقل؟) (٥) فإنه ما لم يحدث

__________________

(١) كانت معان مركبة من ماهيات كثيرة (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

له إرادة (أو تغير وقت) (١) أو حدوث مصلحة أو زوال عائق فإنه يمتنع أن يصير فاعلا بعد أن لم يكن كذلك. وأما القائلون بحدوث العالم :

فقد احتاجوا إلى دفع هذه العقدة.

وأما القائلون بقدم العالم :

فقد ظنوا أنهم تخلصوا من هذه العقدة ، وليس الأمر كذلك ، فإنه لا شك في حدوث الصور والأعراض في هذا العالم ، وأن هذه الأحوال قد توجد بعد عدمها وتعدم بعد وجودها ، فإن أسندنا كل حادث إلى حادث آخر من غير استنادها إلى موجود قديم فهو محال ، وإن وجب انتهاؤها واستنادها بالآخرة إلى موجود هو واجب الوجود لذاته ، منزه عن جهات التغير ، فقد عاد الإشكال.

واعلم أن هذه الإشكالات التي نذكرها هاهنا ، الغرض منها : التنبيه على هذه الإشكالات وأما (٢) تقرير كل واحد منها فسيجيء على سبيل التمام والكمال في موضعه من هذا الكتاب (إن شاء الله تعالى) (٣) ، فهذا هو الإشارة إلى معرفة الماضي.

وأما البحث عن الأحوال الحاضرة : فهو أن الإنسان محتاج إلى أن يعرف : أي الاعتقادات ، وأي الأعمال يسوقه إلى الفوز بالسعادة الكبرى والدرجة العظمى ، وأي الاعتقادات والأعمال بالضد من ذلك؟

وأما البحث عن المستقبل : فهو أن يعرف أن له معادا. ثم ذلك المعاد يحتمل أن يكون روحانيا فقط (أو أن يكون جسمانيا فقط) (٤) أو أن يحصل القسمان معا. وأن يعرف أحوال سعادته وشقاوته في ذلك المعاد.

__________________

(١) من (س).

(٢) تعريف (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

فهذا ضبط أبواب العلم الإلهي

وعند هذا ، يظهر على سبيل الاستقراء : أن هذا العلم يشتمل على عشرة أقسام :

القسم الأول : تقرير الدلائل (الدالة) (١) على وجود موجود واجب الوجود لذاته.

والقسم الثاني : الكلام في صفاته السلبية وهي صفات الجلال ، ويدخل فيه أنه فرد مطلق (٢) ، مبرأ (٣) عن جميع جهات (٤) الكثرة (وصفاته السلبية) (٥) ، ويلزمه كونه منزها عن الضد والند ويلزمه كونه منزها عن الجسمية والحيز والمكان.

والقسم الثالث : الكلام في صفات الإكرام وهي العلم والقدرة والإرادة والرحمة.

والقسم الرابع : الكلام في أفعاله وهو على ثلاثة أقسام.

أحدها : أنه هل هو دائم في كونه فاعلا وجوادا؟

الثاني : في الكلام في كيفية صدور الأفعال عنه ، ويدخل في هذا الباب.

ضبط مذاهب أهل العالم ، وإيراد ما في كل مذهب من تلك المذاهب من الدلائل القاصرة ، ومن الشبهات الطاعنة.

الثالث : الكلام في القضاء والقدر.

والقسم الخامس : الكلام في شرح كلمته في تخليق العالم الأعلى والأسفل

__________________

(١) من (ز).

(٢) مجرد (س).

(٣) منزه (س).

(٤) علائق (س).

(٥) من (س).

بحسب القوة العقلية البشرية ، والتنبيه على أن الوصول الى كنه هذا الباب ، مما لا سبيل للخلق ، إلى معرفته.

ويدخل فيه : بيان أن العالم الجسماني ، هل هو واحد ، أم لا؟

والقسم السادس : الكلام في مراتب الأرواح المقدسة وبيان درجات الملائكة الروحانيين والكروبيين على اختلاف درجاتها.

والقسم السابع : الكلام في حقيقة المكان والزمان وتفصيل القول فيهما.

والقسم الثامن : الكلام في النبوة وشرح حقيقتها. واختلاف مذاهب الناس فيها. وتقرير ما في كل واحد من تلك المذاهب من الوجوه المقوية والوجوه الطاعنة.

والقسم التاسع : (الكلام) (١) في كيفية اكتساب الصفات الفاضلة التي معها تصير النفس من جملة السعداء الأبرار ، لا من زمرة الأشقياء الفجار.

والقسم العاشر : الكلام في المعاد الروحاني والجسماني. وشرح صفات كل واحد من هذين القسمين.

وهاهنا آخر الكلام في العلم الإلهي.

ونسأل الله المعونة والتوفيق في الوصول إلى هذه المطالب العالية ، والمقاصد المقدسة بحسب القوة البشرية ، والطاقة الإنسانية.

وهذا تمام الكلام في المقدمة.

__________________

(١) من (ز) واعلم : أن القسم التاسع هو في علم الأخلاق. والقسم العاشر هو في المعاد الروحاني والجسماني. والمؤلف انتقل إلى رحمة الله تعالى من قبل أن يكتب في الأخلاق وفي المعاد.

الجزء الأوّل

في الدّلائل الدّالّة على إثبات الإله لهذا العالم

المحسوس. وإثبات كونه واجب الوجود لذاته.

تمهيد :

اعلم أن هذا الكتاب مرتب على ثلاثة أقسام (١) :

القسم الأول : في ذكر الدلائل القطعية اليقينية.

والقسم الثاني : في ذكر الدلائل الإقناعية القوية.

[والقسم الثالث : في الكلام في الوجوب والوجود ، والإرادات والتعين والماهية ، وما يشبهها من المطالب والمباحث] (٢).

__________________

(١) قسمين : في الأصل.

(٢) هذا القسم مذكور بعد الفصل الثالث من القسم الثاني.

القسم الأوّل

من الجزء الأوّل

من علوم هذا الكتاب

في ذكر الدّلائل القطعيّة اليقينيّة

المقدمة

في

بيان معاقد ضبط هذا الباب

اعلم أنا إذا أردنا إثبات موجود لا تحكم بوجوده حواسنا ، ولا تحكم بوجوده أيضا فطرة (١) نفوسنا وعقولنا ، فهذا مما لا سبيل إليه إلا بطريق واحد ، وهو أن يحكم عقلنا الصريح بأن هذه الموجودات التي نحكم بوجودها بحسب حواسنا ، وعقولنا ، محتاجة إما في وجودها ، أو في وجود صفة من صفاتها إلى وجود موجود غائب عن حواسنا وأوهامنا ، وبهذا الطريق يتمكن العقل من إثبات ذلك الموجود الغائب. إذا عرفت هذا فنقول : منشأ الحاجة إما الإمكان ، وأما الحدوث ، وإما مجموعهما ، فهذه أحوال ثلاثة وهي إما أن تعتبر في الذوات أو في الصفات ، فللمجموع طرق ستة :

أولها : إمكان الذوات.

وثانيها : إمكان الصفات.

وثالثها : حدوث الذوات.

ورابعها : حدوث الصفات.

وخامسها : مجموع الإمكان والحدوث في الذوات.

وسادسها : مجموع الإمكان والحدوث في الصفات.

فهذه هي الطرق التي يمكن الاستدلال بها على إثبات موجود واجب الوجود لذاته وهذا تمام الكلام في هذه المقدمة.

__________________

(١) فطرتنا وعقولنا (س).

الفصل الأول

في

مراتب مقدمات هذه الدلائل

على الوجه المشهور عند الحكماء

(١) نقول : لا شك في وجود موجود ، وكل موجود فإما أن تكون حقيقته مانعة من قبول العدم ، وإما أن لا تكون. فالأول هو الواجب لذاته. والثاني هو الممكن (لذاته) (٢). فثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود موجود ، وثبت أن كل موجود ، فهو إما واجب لذاته (وإما ممكن لذاته) (٣) ينتج أن في الوجود ، إما موجود واجب الوجود (٤) لذاته ، وإما موجود لذاته ممكن لذاته ، كان الأول فهو المطلوب ، وإن كان الثاني فنقول الممكن لذاته لا يترجح أحد طرفيه على الآخر ، (إلا بمرجح) (٥) وذلك المرجح إن كان واجب لذاته فهو المطلوب.

وإن كان ممكنا لذاته عاد التقسيم الأول فيه ، فإما أن يتسلسل أو يدور ، وهما محالان، وإما أن ينتهي إلى أن ينتهي إلى موجود واجب الوجود لذاته وهو المطلوب.

واعلم أن هذا الدليل مبني على مقدمات : أولها : أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح. وثانيها : بيان (٦) أن هذه الحاجة حاصلة في

__________________

(١) التنظيم على وفق (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) أن يقال (س).

حال الحدوث أو في حال البقاء؟. وثالثها : أن ذلك المرجح يجب أن يكون موجودا. ورابعها : [أنه يجب] (١) أن يكون موجودا حال حصول الأثر. وخامسها : أن الدور باطل. وسادسها : أن التسلسل باطل. وعند تمام الكلام في تقرير هذه المقدمات الست يحصل الجزم بأنه لا بد من الاعتراف بوجود [موجود] (٢) واجب الوجود لذاته. [ثم إذا بينا بعد ذلك أن هذا العالم المحسوس يمتنع أن يكون واجب الوجود لذاته] (٣) ، فعند ذلك نعلم أن هذا العالم المحسوس يحتاج في وجوده إلى وجود موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب. فلنفرد لتقرير كل مقدمة واحدة من هذه المقدمات : فصلا.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

الفصل الثاني

في

بيان ان الممكن لا يترجّح أحد طرفيه على الآخر

الّا لمرجح

اعلم أن العقلاء لهم في هذا الموقف قولان :

الأول : أن هذه المقدمة بديهية.

والثاني : أنها برهانية.

أما القائلون بالقول الأول فقد احتجوا على صحة مذهبهم بأن قالوا : إنا رأينا جمهور العقلاء مطبقين على أنهم إذا أحسوا بحدوث حادث طلبوا له سببا ، وإذا سمعوا صوت إنسان اضطروا إلى العلم بحضور ذلك الإنسان ، وإذا رأوا حدوث بناء قطعوا بوجود باني ، بل نزيد ونقول : إن هذا العلم حاصل في نفوس الأطفال الذين لم يبلغوا إلى كمال العقل ، وذلك لأن الطفل إذا كان له مكان وموضع يختص هو به بالتصرف فيه ، فإذا وجد فيه طعاما لم يضعه فيه ، أو غاب عنه شيء [وضعه (١)] فيه ، فإنه يصيح ، ويقول : من الذي أخذه؟ ومن الذي وضعه؟ وذلك يدل على أن فطرة ذلك الطفل تشهد بأن الممكن لا بد له من مرجح ، [والحادث لا بد له من محدث (٢)] وإذا كان هذا العلم مركوزا في [غريزة(٣)] نفس ذلك الطفل ، علمنا أنه أقوى العلوم البديهية ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

بل نقول : إن هذا النوع من الإدراك مركوز في نفوس البهائم ، وذلك لأن البهيمة إذا سمعت صوت الحية ، فرت. وليس فرارها إلا لأن شعورها بصوت الحية يقتضي شعورها بوجود الحية، فدل هذا على أن انتقال الفطرة والنفس من الأثر إلى المؤثر حاصل في نفوس الأطفال (١) [بل هو أمر (٢)] حاصل في نفوس البهائم.

فإن قيل الكلام على ما ذكرتم من وجوه :

الأول : إن هذه الاعتبارات التي ذكرتم إن صحت ، فإنها إنما تدل على أن العلم بافتقار المحدث إلى المؤثر [علم ضروري (٣)] ولكنها لا تدل على أن العلم بافتقار الممكن إلى المؤثر علم ضروري ، فأين أحد البابين عن الآخر؟

فإن قال قائل : إنا نجد العلم البديهي حاصلا بأن الوجود والعدم لما استويا استحال رجحان أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، فعلمنا أن العلم البديهي كما حصل في افتقار المحدث إلى المؤثر (٤) ، فهو أيضا حاصل في افتقار الممكن إلى المرجح.

فنقول في الجواب عن هذا السؤال : إن قولكم الوجود والعدم لما استويا بالنسبة إليه لم يترجح أحدهما على الآخر إلا لمرجح ، إنما جزم العقل به ، لأن قولكم يترجح أحد الطرفين على الآخر يوهم حدوث [ذلك (٥)] الرجحان ، وإنه أمر حصل بعد أن لم يكن. فهذا الجزم إنما حصل من تخيّل [معنى (٦)] الحدوث لا من نفس الإمكان المجرد ، والدليل عليه : أنا إذا أزلنا وهم الحدوث بالكلية ، واعتبرنا معنى الإمكان خاليا عن توهم الحدوث ، وذلك في الممكن الباقي في حال بقائه [لا نجد في العقل جزما بافتقار الممكن حال بقائه إلى المؤثر، بل الغالب على الأوهام استغناء الباقي في حال بقائه (٧)] عن المؤثر ،

__________________

(١) الأطفال والبهائم (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) المدير (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

(٧) من (س).

وأنه يبقى بذاته إلى وقت طريان المزيل المعدم ، فعلمنا أن ذلك الجزم لا يحصل إلا عند حصول الحدوث ، أو عند تخيل معنى الحدوث ، وأما الإمكان إذا عرى عن خيال (١) الحدوث فإن صريح العقل لا يحكم بكونه سببا لاحتياجه إلى الغير.

السؤال الثاني على أصل الكلام : أن نقول : لا نسلم أن العقلاء يجزمون بافتقار الممكن إلى المرجح ، والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إن القائلين (٢) بحدوث العالم أكثر عددا من القائلين بقدمه ، ثم إنهم مع كثرتهم يلتزمون أنه تعالى صار فاعلا للعالم بعد أن لم يكن فاعلا له ، ثم اتفقوا على أن تجدد هذه الفاعلية ليس بسبب ، فهؤلاء قد اتفقوا على حصول معنى الحدوث والتجدد في هذه الصورة لا لسبب ، ولو كان امتناع ذلك معلوما بالضرورة لامتنع إطباق العقلاء عليه.

الثاني : إنهم يقولون : الهارب من السبع إذا عن له طريقان متساويان من كل الوجوه فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، لا لمرجح ، [وكذلك من خير بين الشرب من قدحين من الماء متساويين ، فإنه يختار أحدهما دون الثاني لا لمرجح] (٣) وفي أمثلة هذا الباب كثرة مشهورة. فههنا اتفق الأكثرون على أنه يحصل الرجحان لا لمرجح ، ولو كانت هذه المقدمة معلومة الامتناع بالبديهية ، لما ذهب إلى القول بصحتها طائفة عظيمة من العقلاء.

الثالث : إن طائفة عظيمة من المتكلمين ذهبوا إلى أن الذوات متساوية في كونها ذوات [قالوا] (٤) ويدل عليه وجهان :

الأول : إن الذات يمكن تقسيمها إلى الواجب والممكن والمجرد والمادي ، فمورد التقسيم مشترك بين الأقسام.

__________________

(١) حال (س).

(٢) القائل (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

الثاني : إنا إذا عقلنا الذوات. فإن عقلنا بعد ذلك : كونه واجبا لذاته ، بقي المعتقد الأول. وإن اعتقدنا كونه ممكنا [لذاته] (١) زال اعتقاد كونه واجبا لذاته ، ولكن لا يزول اعتقاد كونه ذاتا [فثبت أن كونه ذاتا] (٢) قدر مشترك بين الواجب والممكن والمادي (٣) والمجرد ، إذا ثبت هذا فنقول : لا شك أن ذات واجب (٤) الوجود ممتازة عن سائر الذوات بقيد من القيود ، [وكذلك ذات العقل ممتازة عن ذات الجسم بقيد من القيود] (٥) إذ لو لم يحصل أمر من الأمور ، به يحصل الامتياز ، لما حصل الامتياز البتة ، إذا ثبت هذا فنقول : ثبت أن الذوات من حيث إنها ذوات أمور متساوية ، ثم إن كل واحد منها اختص بأمر لأجله امتاز عن غيره ، فاختصاص كل واحد منها بذلك المميز ، إن كان لأمر آخر لزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان ، فوجب أن يكون ذلك الاختصاص حاصلا ، لا لأمر ولا لمرجح ، فثبت بهذا الدليل : وقوع الممكن لا عن مرجح. وأيضا : فهو قول قال به طائفة عظيمة من العقلاء. وكل ذلك يبطل القول بأن افتقار الممكن إلى المرجح مقدمة معلومة بالبديهة.

السؤال الثالث : إنا كما رأينا أن أكثر العقلاء أطبقوا على أن الحادث لا بد له من محدث ، والبناء لا بد له من باني ، فكذلك نراهم مطبقين على مقدمات أخرى ، مع أن المتكلمين يزعمون أنها [غير] (٦) صحيحة.

فالأول : إنهم كما استبعدوا حدوث البناء من غير باني ، فكذلك استبعدوا حدوث البناء من غير مادة سابقة ، مثل أن يحدث البناء من غير سبق تراب ولا حجر ولا خشب ، فلو صار جزم العقلاء بافتقار البناء إلى الفاعل حجة (٧) [في صحة هذه المقدمة ، وجب أن يكون] جزمهم بافتقار البناء إلى مادة سابقة حجة في صحة هذه المقدمة ، إلا أن المتكلمين يزعمون أنه لا يحتاج حدوث الشيء إلى مادة سابقة وذلك يدل على أن إطباق جمهور العقلاء بحكم

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) والمفارق (ز).

(٤) إن ذات واجب (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

(٧) حجة لصار جزمهم ... الخ (س).

الفطرة الأصلية لا يدل على كون ذلك الحكم صحيحا. فإن قالوا إنهم مطبقون بحكم الفطرة الأصلية على افتقار البناء إلى الباني ، وليسوا مطبقين على افتقار البناء إلى المادة السابقة بدليل أن المتكلمين يخالفونهم في صحة هذه المقدمة.

فنقول في الجواب عن هذا السؤال : إنا إذا أردنا تمييز القضايا الفطرية الأصلية (١) عن غيرها ، فالمعتبر في ذلك التمييز حكم الفطر الأصلية (٢) التي لم تتعود المشاغبات والمجادلات ولم تألف التزام المكابرات ، ومن المعلوم أن حكم جمهور الخلق في إحدى القضيتين مثل حكمهم في القضية الأخرى. بقي أن يقال : إن افتقار البناء إلى المادة السابقة يخالف فيه طائفة من المتكلمين.

فيقال : وافتقار البناء إلى الباني يخالف فيه قوم آخرون ، فإن كان ظهور (٣) المخالفة من الجمع القليل قادحا في كون القضية بديهية ، فهذا المعنى حاصل في الطرفين ، وإن كان لا عبرة بموافقة أهل الجدل والشغب وبمخالفتهم ، وإنما العبرة بحكم الفطرة الأصلية والنفوس الخالية عن النقوش الباطلة ، فهذا المعنى حاصل في البابين فظهر أنه لا سبيل إلى الفرق.

والثاني : إنا نرى العقلاء مطبقين على أن الشيء لا يحدث إلا في زمان معين [ومكان معين] (٤) ثم (٥) إن المتكلمين زعموا أن حدوث الشيء لا يتوقف على سبق زمان معين ومكان معين ، وإلّا لزم القول بقدم الزمان والمكان ، وإذا ثبت هذا فنقول : إطباق العقلاء على افتقار الحادث [إلى الفاعل ليس أقوى عند العقل الأول من إطباقهم على افتقار الحادث] (٦) إلى الزمان والمكان ، فإن جاز التكذيب في أحد البابين جاز في الباب الثاني (٧) ، وإن وجب التصديق في أحد البابين ، وجب في الباب [الثاني] (٨) فثبت أن الفرق باطل.

__________________

(١) البديهية (س).

(٢) فإنا نعتبر في ذلك تمييز الفطرة الأصلية (س).

(٣) طريق (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) الآخر (س).

(٨) من (س).

والثالث : وهو أن العقلاء يجزمون بأن البناء المعين في الدار والمدرسة لا يحصل إلا من إنسان يتولى إصلاح حال ذلك البناء [فأما أن يحدث ذلك البناء] (١) من غير أن يتولاه إنسان ، فذلك مستبعد عند الكل ، حتى إن إنسانا لو ادعى أنه غاب بالأمس عن الصحراء المعينة ، ثم عاد إليها في اليوم الثاني ، فوجد الدور والبساتين قد حدثت من غير أن يحضر هناك إنسان يتولى إصلاحها ، فإن جمهور العقلاء يكذبون هذا القول ، فهذا الجزم حاصل في عقول الجمهور ، ثم إن هذا الجزم باطل عند المتكلمين فإنهم يجوزون أن يخلق الله تعالى ذلك البناء ابتداء من غير واسطة إنسان ، ويجوزون أيضا أن ملكا من الملائكة تولى إصلاحه ، أو واحدا من الجن والشياطين تولى إصلاحه ، فثبت بهذا : أن المتكلمين أطبقوا على أنه ليس كل ما يحكم به جمهور الخلق بحسب ما لهم من الفطرة الأصلية والغريزة السليمة ، وجب أن يكون ذلك الحكم حقا ، وإذا ثبت هذا وثبت أنه لا تعويل لكم على صحة قولكم : «إن الحادث لا بد له من محدث» إلا على أن جمهور الخلق يحكمون بصحة هذه المقدمة بمقتضى الفطرة الأصلية ، ثبت أن هذه المقدمة ضعيفة.

السؤال الرابع : أن نقول : إن دل ما ذكرتم على أن العلم بافتقار الممكن والمحدث إلى المؤثر علم ضروري ، فههنا وجوه تدل على أن هذا العلم ليس بضروري وبيانه من وجوه :

الأول : إنا إذا عرضنا على عقولنا : أن الواحد نصف الاثنين ، وعرضنا أيضا على عقولنا : أن الممكن لا بدّ له من مرجح ، وجدنا حكم العقول بالقضية الأولى أظهر من حكمها بالثانية والتفاوت بين الحكمين في القوة يدل على أن احتمال النقيض حاصل في المرجوحية ، وذلك يدل على أن هذه المرجوحية ظنية لا يقينية.

فإن قيل : لا نسلم وقوع التفاوت في جزم العقل بهاتين القضيتين ، فما الدليل عليه؟ سلمنا أنه قد يقع التفاوت بين هذين الحكمين في بعض

__________________

(١) من (س).

الأوقات ، إلا أنه قد يحصل التساوي بينهما في القوة في بعض أوقات ، فإن من سمع صوت إنسان ، فإنه يعلم بالضرورة حضور ذلك الإنسان ، ويكون هذا العلم مساويا في القوة للعلم بأن الواحد نصف الاثنين. سلمنا حصول التفاوت مطلقا ولكن لا نسلم أن ذلك التفاوت عائد إلى التصديق ، بل هو عائد إلى التصور وبيانه : وهو أن التصديق يتوقف على تصور طرفي القضية ، وتصور أن قولنا : الواحد نصف الاثنين : تصورات جلية غنية عن التعريف [لأنه ليس فيها إلا تصور الواحد والاثنين والنصف ، وهذه التصورات جلية غنية عن التعريف] (١) بخلاف قولنا : الممكن يفتقر إلى المؤثر ، فإن هذا التصديق يتوقف على تصور ماهية الممكن وعلى تصور ماهية الافتقار ، وعلى تصور [ماهية] (٢) المؤثر ، وهذه الأمور الثلاثة تصوراتها تصورات غامضة خفية ، فالتفاوت الحاصل في عقول الخلق من هذين الحكمين ، إنما وقع بسبب حصول التفاوت بين تصوراتها ، فأما أن يقال ؛ إن ذلك التفاوت وقع في نفس تلك التصديقات ، فهذا ممنوع.

فما الدليل عليه؟ سلمنا حصول التفاوت بين التصديقات. فلم قلتم : إنه لما كان أحد التصديقين أقوى من الثاني لزم كون التصديق المرجوح ظنيا ، ويمتنع كونه يقينيا ، وما الدليل على أن الأمر كذلك؟ والجواب : ـ أما قوله : «لا نسلم وقوع التفاوت بين حكمنا بأن الواحد نصف الاثنين وبين حكمنا بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلّا لمرجح».

فنقول : هذا التفاوت معلوم ببديهية العقل ، فإنكاره إنكار للبديهي ، ولو جاز لكم أن تصروا على هذا الإنكار ، على سبيل المكابرة ، جاز لغيركم أيضا أن يقول : إني لا أجد من نفسي ، جزم العقل بأن المحدث ، لا بدّ له من محدث.

وبالجملة : فالأصل المعتبر في الفرق بين البديهيات وبين غيرها : ما يجده

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

العقلاء من نفوسهم وعقولهم ، وجدانا ظاهريا جليا. فإن فتحتم باب الإنكار ، على سبيل المكابرة ، انفتحت تلك الأبواب في الكل. وحينئذ يفسد الكل.

وأما الجواب عن السؤال الثاني : وهو أن العقل ، وإن حكم بحصول التفاوت في بعض الأوقات ، فقد يحكم بينها بالاستواء في سائر الأوقات.

فنقول : إن وقوع التفاوت في بعض الصور يكفي في القدح ، وأما حصول المساواة في الصور الكثيرة فإنه لا يفيد الصحة. وبيانه : وهو أن القضية البديهية هي التي يكون [مجرد] (١) تصور موضوعها ، ومحمولها كافيا في جزم الذهن بنسبة أحدهما إلى الآخر ، إما بالنفي أو الإثبات.

فنقول : لو كانت هذه القضية بديهية لكان تصور موضوعها ومحمولها كافيا في إيقاع ذلك التصديق ، ولو كان الأمر كذلك لامتنع خلو حصول هذين التصورين عن حصول ذلك الجزم في التصديق ، وحيث خلا هذان التصوران عن الجزم الحاصل في التصديق ولو في صورة واحدة ، كفي ذلك في العلم ، بأن هذين التصورين لا يوجبان ذلك التصديق ، فإن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم ، أما لو حصل هذا الجزم في ألف ألف صورة ، فإنه لا يفيد البتة شيئا لأن استثناء عين التالي لا ينتج شيئا البتة. وأما الجواب عن السؤال الثالث: فمن وجهين :

الأول : إنا لا نسلم أن شيئا من التصورات ، يمكن أن يكون كسبيا. وقد مر تقرير هذا الأصل ، في أول علم المنطق.

والثاني : سلمنا أن التصور يمكن أن يكون كسبيا نستحضر ماهية الممكن ، وماهية الاحتياج ، وماهية المؤثر على أقصى الوجوه في عقولنا وأذهاننا ، فإن الممكن ، لا تفسير له، إلا الذي يقبل الوجود والعدم ، من حيث هو هو. أو أنه الذي لا يلزم من فرض وجوده وفرض عدمه ، من حيث

__________________

(١) من (ز).

هو هو محال. وأما الافتقار ، فلا تفسير له ، إلا أنه هو الاحتياج والتوقف. وأما المؤثر فلا تفسير له ، إلا الأمر الذي به ، ولأجله يحصل ذلك الشيء.

إذا عرفت هذا فنقول : إنا بعد استحضارنا هذه التصورات الثلاثة في عقولنا على أقصى الوجوه. إذا نظرنا إلى جزم العقل بصحة قولنا : الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، ثم نظرنا إلى جزم العقل بأن الواحد نصف الاثنين ، علمنا بالضرورة أن الجزم الأول أضعف من الجزم الثاني. [بكثير ، وهذا التفاوت ليس لأجل التفاوت في التصورات ، فأما في هذه الحالة فقد استحضرنا هذه التصورات على أبلغ الوجوه ، فعلمنا أن هذا التفاوت إنما وقع في الحكم والتصديق] (١).

وأما الجواب عن السؤال الرابع : وهو قوله : «ما الدليل على أن أحد الجزءين ، لما كان أقوى من الثاني كان المرجوح ظنيا لا يقينيا؟».

فنقول : الدليل على أنه يجب كون القضية المرجوحة ظنية لا يقينية : هو أن جزم العقل بهذه القضية المرجوحة ، إما أن يكون مع المنع من نقيضها منعا كليا ، وإما أن يقال : المنع من النقيض على سبيل الجزم غير حاصل ، فإن كان المنع الجازم من النقيض حاصلا [امتنع وقوع التفاوت. وإن كان المنع الجازم من النقيض غير حاصل بل كان احتمال النقيض حاصلا] (٢) من بعض الوجوه سواء كان ذلك الاحتمال قريبا أو بعيدا ، كان ذلك التصديق ظنا غالبا ، فإن احتمال النقيض يوجب هذا المعنى ، وحينئذ لا يكون ذلك الجزم علما ويقينا ، بل يكون ظنا. فهذا جملة الكلام في الجواب عن السؤالات التي أوردوها على هذا الدليل.

الحجة الثانية : في بيان أن افتقار الممكن إلى المرجح ليست مقدمة بديهية ، إنا قد ذكرنا أن جماعة عظيمة من العقلاء ذهبوا إلى أنه لا يجوز (٣)

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) يجوز (ز).

رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إلا لمرجح ، ولو كانت هذه القضية بديهية لامتنع إطباق الطوائف العظيمة على إنكارها.

الحجة الثالثة : لو كانت هذه المقدمة بديهية ، لكان العلم بافتقار الممكن الباقي حال بقائه إلى المؤثر علما بديهيا لأن الإمكان حاصل فيه ، لكن الأمر ليس كذلك ، فإن أكثر العقلاء يقولون ببطلانه ، ويقولون : إن تحصيل الحاصل محال في بديهة العقول ، فعلمنا : أن العلم (١) بافتقار الممكن إلى المؤثر ليس حكما بديهيا. فهذا تمام الكلام في طرق السؤال والاعتراض.

والجواب : قوله في السؤال الأول : «إن الشبهات التي ذكرتموها ، إنما تدل على أن العلم بافتقار المحدث إلى المؤثر علم ضروري ولا تدل على أن العلم بافتقار الممكن إلى [المؤثر] (٢) المرجع ضروري».

فنقول في الجواب (٣) عنه طريقان :

الطريق الأول : أن نقول إنه لما ثبت بالوجوه المذكورة أن العلم باحتياج المحدث إلى المؤثر (٤) أمر (٥) ضروري بديهي.

فنقول : إنه يلزم منه كون الإمكان محوجا إلى المؤثر ، والدليل عليه : أنا إذا فرضنا الشيء قديما أزليا ومع كونه كذلك ، فإذا فرضناه واجب الوجود لذاته [فههنا إذا حصل اعتقاد كونه أزليا وحصل أيضا اعتقاد كونه واجب الوجود لذاته (٦)] فمع حصول هذين الاعتقادين ، يستحيل منا أن نعتقد فيه كونه محتاجا في وجوده إلى مرجح ومؤثر ، وهذا يدل على أن منشأ الحاجة إما الحدوث وإما الإمكان ، لأنا عند فرض زوال هذين المفهومين لما امتنع الحكم علينا بالحاجة ، ثبت أن المقتضي للحاجة إما مجموع هذين القيدين أو أحدهما ، وإذا ثبت هذا. فنقول : الحدوث يمتنع أن يكون علة للحاجة ، أو أن يكون جزء العلة ، أو أن يكون شرط العلة ، وإذا سقط الحدوث عن درجة الاعتبار ، بقي

__________________

(١) الحكم (س).

(٢) من (س).

(٣) فنقول : لنا عنه (س).

(٤) المحدث (س).

(٥) علم بديهي (س).

(٦) من (ز).

أن المؤثر في هذه الحاجة ليس إلا الإمكان ، وبهذا الطريق يظهر لنا أن الإمكان علة الحاجة إلى المؤثر [وأما بيان أن الحدوث يمتنع كونه معتبرا في هذا الباب فسيأتي في تقريره فصل مفرد] (١).

والثاني : أن نترك الوجه الذي ذكرناه ، ونقول إن الممكن هو الذي يكون نسبة الوجود إليه كنسبة العدم ، ومتى اعتقدنا أن نسبة الوجود ونسبة العدم إليه على التساوي ، حكم صريح العقل بأنه يمتنع رجحان أحد الجانبين على الآخر إلا لأمر منفصل ، والعلم بأن الأمر كذلك علم بديهي ضروري ، ومن أنكر ذلك فقد فارق مقتضى عقله (٢) لسانا ، ويعود إليه ضميرا ، وإذا عولنا على هذا الطريق فلا حاجة بنا إلى ذكر تلك الشبهات وتقرير تلك الأمثلة. فهذا هو الجواب عن السؤال الأول.

وأما السؤال الثاني : قولهم : «ان العقول كما جزمت بأنه لا بدّ للحادث من فاعل ، فكذلك جزمت بأنه لا بدّ للحادث من سبق مادة [ذهبت] (٣) ومدة ومكان».

فنقول : هذا السؤال غير وارد على الفلاسفة ، فإنهم يلتزمون [أن الحادث] (٤) كما أنه لا بدّ له من فاعل [سابق] (٥) فكذلك لا بدّ له من مادة سابقة ، ومن مدة سابقة [وبهذا الطريق] (٦) فهذا السؤال غير وارد عليهم. وأما القائلون بحدوث المادة والمدة ، فقالوا : الفرق بين البابين ظاهر ، أما المادة فلأنه لا نزاع أن الصور والأعراض تحدث عن محض العدم، [وإذا عدلنا حدوث بعض الأشياء عن محض العدم] (٧) فكيف يمتنع في [أول] (٨) العقل حدوث الذوات أيضا عن محض العدم؟ وأما المدة فقالوا لا شك أن بعض أجزائها سابق على البعض ، لا لأجل مدة أخرى وإلّا لزم وقوع المدة في مدة

__________________

(١) من (س).

(٢) فارق علمه (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

أخرى ، ولزم التسلسل وهو محال. فثبت أن سبق الجزء (١) في المدة ، على الجزء المتأخر منها ليس لأجل مدة اخرى.

وإذا عقل هذا ، فلم لا يعقل سبق عدم الحادث على وجوده من غير مدة؟ فثبت بهذين الطريقين : أن صريح العقل لا يقتضي افتقار الحادث في حدوثه إلى سبق مادة ومدة ، لأنه حكم في هاتين الصورتين بالحدوث من غير سبق مادة ولا مدة ، أما في حق الفاعل ، فقد حكم صريح العقل بالافتقار الى الفاعل ، ولم يوجد شيء حدث ، ولا عن الفاعل فظهر الفرق.

أما قوله في المعارضة الأولى : «إن جزم العقل بقولنا : الواحد نصف الاثنين ، أقوى من جزمه بأن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح».

فالجواب الحق : أن هذا التفاوت ممنوع وذلك لأن من أزال عن عقله تعود الجدال والمنازعة في كل شيء ، واستحضر في عقله أن نسبة الوجود إليه كنسبة العدم إليه ، وأنه لا رجحان لأحد الجانبين على الآخر البتة ، جزم جزما بديهيا : أنه ما دام يبقى (٢) هذا الاستواء فإنه يمتنع حصول الرجحان ، فإن حصل الرجحان فقد زال الاستواء وانضم إلى الطرف الراجح شيء آخر ، فإذا اعتبر العقل هذه القضية على هذا الوجه ، لم يبق بينها وبين القول الواحد نصف الاثنين تفاوت.

وأما المعارضة الثانية وهي قوله : «إن جمعا من العقلاء جوزوا رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، ولو كانت هذه القضية بديهية لما اختلفوا فيها».

فنقول : لا نسلم أنهم يلتزمون رجحان الممكن لا عن مرجح (٣) نعم ربما

__________________

(١) جزء المتقدم (س).

(٢) مع (س).

(٣) مؤثر (س).

لزمهم ذلك على بعض مذاهبهم ، لكن الفرق بين الإلزام وبين الالتزام معلوم.

وأما المعارضة الثالثة (١) وهي قولهم : «لو كانت هذه القضية بديهية ، لكان العلم بافتقار الممكن الباقي إلى المؤثر ، علما بديهيا. وليس كذلك».

فنقول : إن كل من تصور في الموجود الباقي كونه متساويا ، اضطر إلى العلم بافتقاره إلى المؤثر [نعم قد لا يحكم بافتقاره إلى المؤثر] (٢) لاعتقاد أنه لأجل كونه باقيا صار أولى بالوجود ، فأما إذا أزال عن قلبه هذه الشبهة ، وعلم أنه حال البقاء بقي متساوي الطرفين ، كما كان حال الحدوث ، اضطر إلى العلم بافتقاره إلى المؤثر.

فهذا كله هو الكلام في تقرير (٣) قولنا : إن العلم بافتقار الممكن إلى المؤثر علم بديهي [والله ولي الهداية والإرشاد] (٤).

__________________

(١) الثانية (ز).

(٢) من (ز).

(٣) تفسير (س).

(٤) من (ز).

الفصل الثالث

في

تقرير قول من يقول : هذه المقدمة استدلالية

أعلم أن الشيخ الرئيس أبا علي [ابن سينا] (١) مضطرب القول في هذا الموضوع ، وذلك لأنه أينما يذكر هذه المقدمة في كتبه الطويلة والمختصرة فإنه يدعي إقامة البرهان على صحتها ، ثم إنه يذكر تقسيمات طويلة خارجة عن المقصود ، ثم إذا انتهى إلى هذا القسم الذي هو المطلوب والمقصود فإنه يدعي فيه البديهة. وكل من طالع كتبه بالتأمل التام عرف أن الأمر كما ذكرناه. فهو في أول الأمر يدعي كونها استدلالية ، وفي آخر الأمر عند ضيق الكلام عليه يدعي كونها بديهية ، ورأيت أبا الحسين محمد بن علي البصري ـ وهو كان من أذكياء المعتزلة ـ احتج على صحة هذه المقدمة في الكتاب الذي سماه بالتصفح ، فقال : «الممكن هو الذي استوى طرفاه فلو حصل الرجحان من غير مرجح ، لزم أن يحصل الرجحان حال حصول الاستواء وذلك جمع بين النقيضين وهو محال ، ولقائل أن يقول : هذا التناقض غير لازم ، وذلك لأن الممكن هو الذي تكون ماهيته غير مقتضية لرجحان أحد الطرفين على الآخر [ونقيض القضية أن يقال : إن تلك الماهية مقتضية لرجحان أحد الطرفين على الآخر] (٢) فأما أن يقال : إن حقيقته لا تقتضي الرجحان ، ثم إنه حصل الرجحان لا لذاته ولا لغيره ، فعلى هذا التقدير لا يلزم التناقض».

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

وكان هذا الرجل قد ظن أن هذا الرجحان لما لم يكن بسبب أمر مغاير ، وجب أن يكون لذاته ، فحينئذ تكون ذاته مقتضية لهذا الرجحان ، وذلك يناقض قولنا : إن هذه الذات غير مقتضية للرجحان ، إلا أن هذا الكلام إنما يصح لو ثبت أن حصول الرجحان [إذا لم يكن لغيره وجب أن يكون لذاته ، وهذا إنما يصح لو ثبت أن حصول الرجحان] (١) لا لذاته ولا لغيره محال ، فإذا ادعى العلم البديهي بهذه المقدمة ، كان ذلك تركا للاستدلال وإن ادعى تقريرها بالدليل. فنقول : قد ثبت أن صحة الدليل [الذي ذكرتموه (٢)] موقوف على صحة هذا المطلوب ، فلو وقفنا صحة هذا المطلوب على ذلك الدليل لزم الدور ، وأنه باطل. إذا عرفت هذا فنقول : الذي يعول عليه في إثبات هذا المطلوب وجوه :

الأول : أنا قد بينا أن العلم البديهي حاصل بافتقار المحدث إلى المؤثر ، وبينا أيضا : أن علة تلك الحاجة إما الحدوث أو الإمكان أو مجموعهما ، وبينا أيضا أن الحدوث ليس علة تامة ولا شطر العلة ولا شرطا لها ، فكان ساقطا عن درجة الاعتبار بالكلية ، وإذا سقط الحدوث عن درجة الاعتبار لم يبق إلا الإمكان وهذا يدل على أن علة الحاجة هي الإمكان.

الحجة الثانية في تقرير هذا المطلوب : أن نقول : لا شك أن الممكن هو الذي تكون نسبة الوجود إليه كنسبة العدم إليه ، وما دام يبقى هذا الاستواء ، فإنه يمتنع حصول الرجحان ، لأن الاستواء التام يناقض [حصول] (٣) الرجحان. فثبت : أن دخوله في الوجود موقوف على حصول الرجحان وهذا الرجحان لما حصل بعد أن لم يكن ، كان أمرا وجوديا ثبوتيا ، والصفة الوجودية الثابتة لا بدّ لها من موصوف موجود ، ويمتنع أن يكون [الموصوف بهذه الصفة الوجودية هو وجود ذلك الشيء ، لأنا بينا أن حصول هذا] ٤ الرجحان سابق على وجود الممكن سبقا بالرتبة [لكن المحل سابق على ما يحل فيه سبقا بالرتبة] ٥. فلو قلنا : إن

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

محل هذا الرجحان هو أن تلك الذات حال صيرورتها موجودة : لزم كون هذا الرجحان سابقا على ذلك الرجحان من حيث أن المحل سابق على الحال. وذلك دور والدور باطل ، فثبت أنه ليس محل هذا الرجحان هو ذلك الممكن الذي هو الأثر ، فلا بد من شيء آخر يغايره ، ويكون محلا لهذا الرجحان ويكون بحيث يلزم من حصول الرجحان فيه حصول الوجود لهذا الأثر ، ولا نريد بالفاعل والمؤثر إلا الموجود الذي من شأنه وصفته ما ذكرناه. فثبت أن الممكن لا يمكن دخوله في الوجود إلا لأجل مؤثر منفصل وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية : لو كان رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر غنيا عن المؤثر والمرجح [لامتنع توقف هذا الرجحان في موضع من المواضع على حصول المؤثر والمرجح] (١) وهذا الثاني باطل ، فذلك المقدم أيضا [باطل] (٢) أما بيان الملازمة فهو أنه لما كان ذلك الرجحان غنيا عن المؤثر امتنع افتقاره إلى المؤثر في شيء من المواضع أصلا ، لأن مقتضيات الحقائق والماهيات لا تتغير البتة ، فإذا كان رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر غنيا عن المؤثر من حيث هو هو كان هذا الاستغناء حاصلا في جميع الصور والغني لذاته عن الشيء يمتنع أن يكون محتاجا إليه ، وأما بيان أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر قد يتوقف على حصول المؤثر ، فلأن العلم البديهي حاصل بأن [حصول (٣) الكتابة في هذا الكاغد تتوقف على حصول الكاتب ، وعلى حصول كل ما لا بد منه في كونه كاتبا ، وكذا القول في القطع والضرب والكسر وأمثالها من الأفعال.

الحجة الرابعة : وهي إنما تتم على قول القائلين بقدم المدة ، وتقريره أن نقول : القول بقدم المدة لازم ، ومتى كان كذلك وجب افتقارها في وجودها إلى المؤثر ، أما بيان أنه لا بد من القول بقدم المدة ، فهو أن كل جزء من أجزاء المدة حادث ، وكل حادث فقدمه سابق على وجوده ، وذلك السبق أمر زائد على

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

مجرد العدم لأن العدم المتأخر يشارك العدم المتقدم في مفهوم كونه عدما ، ويخالفه في كونه متقدما ومتأخرا ، وما به المخالفة غير ما به المشاركة ، فهذا السبق والتقدم أمر زائد على مجرد العدم ، فيكون صفة موجودة. ثم تلك القبلية أيضا حادثة فهي مسبوقة بقبلية اخرى ، والكلام فيها كما في الأول.

وهذا يوجب أن يكون كل قبل ، مسبوقا بقبل آخر لا إلى أول. فثبت بهذا الكلام : أن المدة لا أول لها ، ثم نقول : وإنها مركبة [من هذه الأجزاء المتعاقبة المتتالية ، وكل واحد منها حادث وكل حادث فهو ممكن ، فالزمان مركب] (١) من أجزاء ، وكل واحد منها ممكن لذاته ، والمجموع مفتقر إلى تلك الأجزاء ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فمجموع المدة أمر ممكن [لذاته] (٢) فإما أن يكون رجحان وجوده على عدمه بسبب منفصل ، أو لا بسبب منفصل ، بل بمحض الاتفاق [فإن كان لمحض الاتفاق] (٣) من غير سبب أصلا ، فكل ما كان بمحض الاتفاق من غير سبب أصلا لم يمتنع في العقل ، أن لا يوجد أصلا ، وعلى هذا التقدير يكون الانقطاع على المدة جائز ، لكنا بينا أن الانقطاع والابتداء عليهما محالان ، فوجب أن يقال : إنها واجبة الوجود ، لأجل وجوب سببها ، ولأجل وجوب علتها ، وهذا يدل على أن المدة ممكنة لذاتها ، واجبة لوجوب مؤثرها ، وإذا ثبت أن الأمر كذلك في هذه الصورة وجب أن يكون في سائر الصور كذلك ، ضرورة أن صريح العقل يقضي باستواء كل الممكنات في هذا المعنى [والله الهادي إلى الحقائق] (٤).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

الفصل الرابع

في

حكاية شبهات القائلين بأن رجحان

الممكن ، لا يتوقف على المرجح

الشبهة الأولى : لو افتقر الممكن إلى المؤثر ، لافتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر ، وهذا باطل ، فذاك باطل. بيان الشرطية أن الممكن ممكن لذاته ، فالشيء حال بقائه يجب أن يكون ممكنا ، لو كان الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر ، لزم حصول الحاجة إلى المؤثر حال البقاء ، ولا يقال : لم لا يجوز [أن يقال] (١) إنه حال البقاء صار الوجود به أولى ، فلأجل حصول هذه الأولوية يستغنى عن المؤثر؟ لأنا نقول : هذا العذر باطل.

وذلك لأن هذه الأولوية الغنية عن المؤثر إما أن يقال : إنها كانت حاصلة [حال الحدوث ، أو ما كانت حاصلة] (٢) فإن كان الأول لزم الاستغناء حال الحدوث ، وهو محال.

وإن كان الثاني فقد حدثت هذه الأولوية ، وهذا الحادث المسمى بالأولوية ، هو العلة لوجود الباقي حال بقائه ، فيكون الباقي مفتقرا حال بقائه إلى هذا الشيء المسمى بالأولوية ، وهذه الأولوية لأجل كونها (٣) أمرا حادثا ، تكون مفتقرة إلى السبب المنفصل ، والمفتقر إلى المفتقر إلى الشيء يكون مفتقرا إلى ذلك الشيء ، فالباقي حال بقائه ، يجب أن يكون مفتقرا إلى السبب المنفصل ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) تحققها (س).

فيثبت بما ذكرنا : إنه لو افتقر الممكن إلى المؤثر ، لافتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر ، وإنما قلنا : إن الباقي حال بقائه لا يفتقر إلى المؤثر ، لأنا لو فرضنا مؤثرا يؤثر فيه في حال بقائه ، فذلك المؤثر ، إما أن يكون له أثر أو لا يكون له أثر ، فإن لم يكن له أثر ، امتنع وصفه بكونه مؤثرا ، وإن كان له أثر فذلك الأثر إما أن يكون شيئا يصدق عليه ، أنه كان حاصلا قبل هذا التأثير ، أو يصدق عليه أنه ما كان حاصلا قبل هذا التأثير ، فإن كان الأول لزم إيجاد الموجود وهو محال. وإن كان الثاني كان ذلك الأثر أثرا يصدق عليه أنه كان موجودا قبل ذلك الوقت ، وكل ما كان كذلك فهو حادث ، فهذا المؤثر لا تأثير له إلا في الحادث فلا يكون له أثر في الباقي ، وقد فرضناه مؤثرا في الباقي. هذا خلف.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال (١) إن أثره هو بقاء ذلك الشيء الذي كان موجودا؟ لأنا نقول : بقاء ذلك الشيء إما أن يكون نفسه أو غيره ، فإن كان بقاؤه نفسه ، ونفسه كانت حاصلة قبل هذا الوقت ، فحينئذ يكون تأثير هذا المؤثر في تحصيل الحاصل ، وهو محال ، وإن كان بقاؤه غيره فحينئذ يكون المسند إلى المؤثر هو هذه الحالة الزائدة الحادثة ، فحينئذ لم يصدر عن المؤثر إلا ما كان حادثا ، فحينئذ لا يكون لهذا المؤثر تأثيرا في الباقي. وقد فرضناه كذلك. هذا خلف.

الشبهة الثانية : إن تأثير المؤثر في الأثر إما أن يكون حال وجود الأثر ، أو حال عدمه.

والقسمان باطلان ، فكان القول بالتأثير باطلا ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يؤثر المؤثر في الأثر حال وجود الأثر : لامتناع إيجاد الموجود ، وتحصيل الحاصل. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يؤثر في الأثر حال عدم الأثر لأن الأثر حال عدمه باقي كما كان ، وإذا بقي الأثر كما كان على العدم المحض ، والنفي الصرف ، فحينئذ لم يصدر عن هذا الشيء المسمى بالمؤثر ، أثر في هذا الوقت البتة.

__________________

(١) أن يكون أثره (س).

فثبت : أن الأثر ما دام يكون باقيا على عدمه ، فإن المؤثر يمتنع كونه مؤثرا فيه ، وإذا صار الأثر موجودا ، فإنه يمتنع كون المؤثر مؤثرا فيه. وإذا كان لا واسطة بين كون الأثر معدوما وبين كونه موجودا ، وثبت أن القول بالتأثير ممتنع في كلتا الحالتين ، ثبت أن القول بأصل التأثير محال.

ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال إنه في الآن الأول يجعله موجودا في الآن الثاني؟ لأنا نقول : إنه في الآن الأول ، هل صدر عنه أثر أم لا؟ فإن لم يصدر عنه أثر البتة ، كان حاله في الآن كما كان قبل ذلك ، وكما أنه قبل ذلك الآن ، صدق عليه أنه ما كان [أثر] (١) مؤثرا في أثر. كذلك في هذا الآن ، وجب أن يصدق عليه أنه غير مؤثر فيه ، وأما إن صدر عنه في الآن الأول أثر ، فهو (٢) في ذلك الآن مؤثر لوجود ذلك الأثر ، وذلك الأثر موجود في ذلك الآن. فيعود الإلزام المذكور ، وهو أنه يلزم إيجاد الموجود ، وهو محال.

الشبهة الثالثة : لو صدق على الشيء كونه مفتقرا إلى المؤثر ومحتاجا إليه ، لكان هذا الافتقار والاحتياج. إما أن يكون عن ذلك الشيء المحكوم عليه بالافتقار والاحتياج ، وإما أن يكون مغايرا له. والقسمان باطلان فالقول بالافتقار والاحتياج باطل.

أما بيان أنه يمتنع أن يكون نفس ذلك الشيء. فالوجوه : أحدها : إنه قد يعقل ذات السماء والأرض ، من يجهل (٣) كونهما مفتقرين ومحتاجين إلى المؤثر ، والمحكوم عليه بكونه معلوما ، ليس عين الشيء المحكوم عليه ، بكونه غير معلوم. وثانيها : إن الجسم ذات قائمة بالنفس غير مقول بالقياس إلى الغير ، [والافتقار والاحتياج نسبة وماهيات مقولة بالقياس إلى الغير] (٤) وذلك يوجب التغاير. وثالثها : إنا إذا قلنا : الجسم محتاج في وجوده إلى الغير، كان

__________________

(١) (س).

(٢) فهو في وجود الآية قد آثر ذلك الآثر .. الخ (س).

(٣) تجويز (س).

(٤) من (ز).

هذا الكلام قضية مفيدة ، وتشهد الفطرة بكون موضوعها مغايرا لمحمولها (١). وإن قلنا : الجسم جسم لم يكن كذلك ، وذلك يدل على المطلوب.

وأما بيان أنه يمتنع أن يكون ذلك الاحتياج والافتقار أمرا مغايرا للذات ، فلأن ذلك المغاير ، إما أن يكون مفهوما عدميا أو وجوديا. والقسمان باطلان. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه عدميا. فلأنا إذا قلنا هذا الشيء لا يفتقر إلى الغير ، ولا يحتاج إليه ، كان صريح العقل حاكما بأن هذا المفهوم سلبي ، وإذا كان نفي الافتقار والاحتياج مفهوما عدميا ، امتنع أن يكون ثبوت الافتقار والحاجة مفهوما عدميا ، ضرورة أن أحد طرفي النقيض يجب أن يكون ثبوتيا ويكون الآخر عدميا.

وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون المفهوم من الافتقار والاحتياج أمرا ثبوتيا فلوجهين :

الأول : إنه لو كان أمرا ثبوتيا : لكان إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته ، والأول باطل ، لأنه صفة للموجود الذي يكون ممكنا لذاته ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان. والثاني أيضا باطل ، لأن الاحتياج لما كان موجودا ممكنا [لذاته] (٢) كان [محتاجا] (٣) إلى الموجد ، فيكون حاجة الحاجة زائدة عليه ، ولزم التسلسل ، وهو محال.

والثاني : إن الموصوف بهذا الافتقار والاحتياج إلى الموجد ، إما أن يكون موجودا ، [أو لا يكون ، فإن كان موجودا] (٤) كان الموجود موصوفا بالافتقار والاحتياج [إلى الموجد والمؤثر ، فيلزم تحصيل الحاصل وهو محال ، وإن كان معدوما لزم اتصاف العدم المحض، والنفي الصرف بالصفة الموجودة ، وهو

__________________

(١) للذات (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

محال. فثبت بما ذكرنا ، أن الافتقار والاحتياج (١)] لو حصل لكان ذلك إما عين تلك الذات وإما أمرا مغايرا لها ، والقسمان باطلان ، فالقول بثبوت الافتقار والاحتياج باطل.

الشبهة الرابعة : لو صدق على شيء كونه مفتقرا إلى الموجد والمؤثر ، لزم كون تلك الماهية متقدمة بالرتبة على حصول هذه الحاجة ، وكونها متأخرة عن هذه الحاجة محال ، فوجب أن يكون القول بثبوت الاحتياج : محال.

إنما قلنا : إنه يقتضي التقدم لوجهين :

الأول : إن افتقاره إلى المؤثر واحتياجه إليه صفة (٢) من صفاته ، وحكم من أحكامه، وصريح العقل يقتضي بتقدم الموصوف على الصفة بالرتبة.

والثاني : إن افتقار الشيء واحتياجه إلى الغير ، نسبة مخصوصة بينه وبين ذلك الغير، وتحقق النسبة بين الشيئين يتوقف على تحقق الشيئين (٣) ، فوجب أن يكون الافتقار والاحتياج متأخرا بالرتبة عن تحقق الذات المحكوم عليها بالافتقار والاحتياج.

وإنما قلنا : إنه يقتضي التأخر ، وذلك لأن الافتقار إلى الفاعل إنما يحصل لأجل أن يجعله الفاعل متحققا وحاصلا وكائنا وإذا كان كذلك وجب أن يكون تحقق الأثر وتكونه ، متأخرا عن تأثير الفاعل فيه ، لكن تأثير الفاعل فيه متأخر عن افتقاره واحتياجه إلى الفاعل ، والمتأخر عن المتأخر عن الشيء متأخر عنه. فثبت : أن تحقق تلك الحقيقة المحكوم عليها بالافتقار والاحتياج إلى المؤثر يجب أن يكون متأخرا بالرتبة عن احتياجه إلى المؤثر ، فيثبت بما ذكرنا : أنه لو صدق على شيء كونه مفتقرا إلى المؤثر ، ومحتاجا إليه ، فإنه يلزم كون تلك الحقيقة متقدمة بالرتبة ، على حصول تلك الحاجة ، وكونها متأخرة عنه ، ومعلوم أن ذلك محال ، فوجب أن يكون القول بثبوت الاحتياج والافتقار باطلا ومحالا. ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال الموصوف بالافتقار والاحتياج الى المؤثر ، هو الماهية ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) إليه لا تفتقر صفاته .. الخ (س).

(٣) النسبتين (س).

وهي متقدمة على حصول هذا الاحتياج والافتقار [وأما الواقع بالفاعل والمؤثر فهو الوجود ، وهو متأخر بالرتبة عن حصول هذا الافتقار] (١)؟ لأنا نقول : الماهية من حيث هي هي ، إما أن تكون مفتقرة الى المؤثر ، أو لا تكون ، فإن كانت مفتقرة إلى المؤثر لزم تقدمها على الافتقار وتأخرها عنه على ما بيناه ، فيعود الخلف ، وإن لم تكن مفتقرة إلى المؤثرة ، كان المفتقر إلى المؤثر هو الوجود فقط ، أو موصوفية الماهية بالوجود ، وعلى التقديرين فيلزم منه حصول التقدم والتأخر معا وهو محال.

الشبهة الخامسة : المفتقر إلى المؤثر يمتنع [أن يكون] (٢) هو الماهية ، [ويمتنع أن يكون هو الوجود] (٣) ويمتنع أن يكون هو موصوفية الماهية بالوجود ، وإذا امتنعت الأقسام الثلاثة ، امتنع كون الماهية مفتقرة إلى المؤثر. فيفتقر في تقرير هذا الكلام إلى إثبات أقسام (٤) أربعة :

الأول : قولنا : إنه يمتنع أن يكون المفتقر إلى المؤثر هو الماهية. وبيانه من وجهين :

الأول : إن كل ما [كان بالغير ، فإنه يجب أن يرتفع عند ارتفاع عدم ذلك الغير. فلو كانت الماهية من حيث هي هي ، مفتقرة إلى المؤثر ، لزم من فرض عدم ذلك الغير (٥)] بطلان الماهية ، من حيث هي هي [لكن بطلان الماهية من حيث هي هي] (٦) محال. لأن السواد يمتنع أن ينقلب غير سواد ، والبياض يمتنع أن ينقلب غير بياض.

والوجه الثاني : إن المفتقر إلى المؤثر ما يكون ممكنا ، والإمكان حالة نسبة إضافية بين الماهية وبين صفة من صفاتها ، لأنا إذا قلنا : إن كذا ممكن أن يكون كذا ، فهذا المعنى إنما يعقل إذا كان المفهوم من الموضوع مغايرا للمحمول. فإنه يمتنع أن يقال : السواد يمكن أن يكون سوادا. أما ما لا يمتنع أن يقال : السواد يمكن أن يكون موجودا. فثبت أن المحوج إلى المؤثر [هو الإمكان ، وثبت : أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز ، س).

(٤) الأصل : أمور.

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

الإمكان حال نسبية ، وثبت في بديهة العقل : أن الشيء الواحد] (١) من حيث إنه هو فقط ، فإنه لا يعرض له شيء من الأحوال النسبية الإضافية ، فيثبت : أن الإمكان يمتنع كونه عارضا للحقيقة من حيث هي هي ، وإذا كان المقتضى للحاجة ليس إلا الإمكان ، وثبت أن الماهية من حيث هي هي يمتنع أن يعرض لها الإمكان ثبت أن الماهية من حيث هي هي يمتنع كونها محتاجة الى المؤثر.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال المحتاج الى المؤثر والجاعل [يمتنع أن يكون] (٢) هو الوجود. فهذا أيضا باطل لأن الوجود من حيث إنه وجود : ماهية من الماهيات ، وحقيقة من الحقائق ، والدليلان المذكوران في امتناع كون الماهية مجعولة يجريان بعينهما في امتناع كون الوجود مجعولا.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال المحتاج إلى الفاعل ، والجاعل والمؤثر هو موصوفية الماهية بالوجود فنقول : هذا أيضا باطل من وجهين :

الأول : إن موصوفية الماهية بالوجود ليس أمرا زائد على الماهية وعلى الوجود ، وإذا كان كذلك امتنع الحكم عليها بكونها مجعولة. بيان الأول : إنه لو كانت موصوفية الماهية بالوجود أمرا [زائدا] (٣) مغايرا لهما ، لكانت موصوفية الماهية بتلك الموصوفية مغايرة ، ولزم التسلسل.

[وبيان الثاني] (٤) : إن هذه الموصوفية لما لم تكن أمرا ثبوتيا مغايرا ، فإنه يمتنع القول بكونها أثرا للفاعل والجاعل ، وذلك باطل ، (٥) لأن ما لا ثبوت له في نفسه ، كيف يعقل جعله أثرا للمؤثر والفاعل؟

الوجه الثاني : في إبطال قوله : (٦) «الواقع بالفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود» أن نقول : هذه الموصوفية إما أن تكون أمرا وجوديا ، وإما أن لا تكون ، فإن كان أمرا وجوديا فحينئذ يكون له ماهية ، ويكون له وجود ، وحينئذ يعود التقسيم المذكور فيه من أن الواقع بالفاعل ، إما ماهيته أو وجوده ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) زيادة.

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) ظاهر (س).

(٦) قولنا (ز).

وإن لم يكن له وجود البتة ، استحال القول بأن الواقع بالفاعل والجاعل هو هو ، فثبت بما ذكرنا : أنه يمتنع القول بأن تأثير الفاعل في الماهية ممتنع ، ويمتنع القول بأن تأثيره في الوجود ، ويمتنع القول بأن تأثيره في موصوفية الماهية بالوجود.

وأما القسم الرابع : (١) وهو بيان أنه لما ظهر بطلان الأقسام كان القول بالتأثير والمؤثر باطلا ، فتقريره : أن ذلك الأثر لما كان غنيا في ماهيته عن المؤثر ، وكان غنيا في وجوده عن المؤثر ، وكان غنيا في اتصاف ماهيته بوجوده عن المؤثر ، كانت هذه الماهية الموجودة غنية عن المؤثر والفاعل. لأنه متى حصلت الماهية ، وحصل الوجود ، وحصلت موصوفية الماهية بالوجود ، فقد حصلت الماهية الموجودة بدون هذا المؤثر ، وهذا الفاعل. وإذا كان كذلك كانت هذه الماهية الموجودة غنية عن المؤثر. وذلك هو المطلوب.

الشبهة السادسة : المحكوم عليه بالافتقار والحاجة ، إما أن يكون بسيطا ، وإما أن يكون مركبا ، والقسمان باطلان ، فالقول بالحاجة باطل ، أما الحصر فظاهر ، وإنما قلنا : إنه ممتنع أن يكون المحكوم عليه بالافتقار والحاجة بسيطا ، وذلك لأن البسيط حقا لا يعرض له الإمكان ، لأن من المعلوم بالضرورة أنه يستحيل الحكم على الشيء بأنه يمكن أن يكون هو هو ، فيستحيل أن يقال السواد يمكن أن يكون سوادا ، بل يقال السواد يمكن أن يبقى ، ويمكن أن يحدث ، إلا أن ذلك إنما يصح لأن المفهوم [من السواد] (٢) مغاير للمفهوم من كونه باقيا وحادثا ، فأما أن يقال : السواد يمكن أن يكون سوادا ، فهذا غير معقول. فثبت أن الإمكان لا يعرض البتة للحقائق البسيطة ، ولما ثبت أنه لا علة للحاجة إلا الإمكان ، وثبت أن حصول الإمكان في البسائط ممتنع [بذلك] (٣) ، ثبت أن حصول الحاجة في البسائط ممتنع. وإنما قلنا : إن

__________________

(١) القسم الرابع (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

المحكوم عليه بالافتقار والحاجة يمتنع أن يكون هو المركب ، وذلك لأن المركب مركب من البسائط ، فإذا كان كل واحد من تلك البسائط غنيا عن الفاعل والمؤثر ، ثم ثبت بمقتضى بديهة العقل أن عند حصول جميع المفردات ، يجب حصول المركب ، وعند فقدانها أو فقدان واحد منها يمتنع حصول المركب ، فحينئذ يلزم امتناع استناد المركبات إلى الفاعل والجاعل ، ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المفتقر إلى المؤثر هو هيئة التركيب؟ لأنا نقول : هيئة التركيب أحد أجزاء ماهية المركب ، فتلك الهيئة إما أن تكون مفردة أو مركبة. ويعود التقسيم الأول فيه.

الشبهة السابعة : لو أثر شيء في شيء لكان تأثير ذلك المؤثر في ذلك الأثر ، إما أن يكون نفس ذات المؤثر [أو ذات] (١) الأثر ، أو يكون مفهوما مغايرا لهما ، والأقسام كلها باطلة. فالقول بالتأثير باطل ، وإنما قلنا : إن تأثير المؤثر في الأثر يمتنع أن يكون عين ذات المؤثر ، أو ذات الأثر. لوجوه :

الأول : إنه يمكننا أن نعقل ذات المؤثر وذات الأثر مع الشك ، في أن هذه الذات [هل هي] (٢) مؤثرة في تلك الذات؟ مثلا : تعقل موجودا واجب الوجود لذاته ، وتعقل ماهية هذا العالم المحسوس ، ثم تشك في أن هذا العالم ، هل وجد بتأثير ذلك الموجود الواجب لذاته؟ ومعلوم أن المعلوم مغاير لغير المعلوم ، فوجب أن تكون هذه المؤثرية ، مغايرة لذات المؤثر ، ولذات الأثر.

الثاني : إن مؤثرية شيء في شيء ، نسبة مخصوصة لأحدهما إلى الآخر ، والنسبة بين الشيئين يتوقف تحققها على تحقق ذات كل واحد من الشيئين ، والمتوقف على الأمرين مغاير لهما ، فمؤثريّة أحد الذاتين في الأخرى يجب أن تكون مغايرة لذات المؤثر وذات الأثر.

الثالث : إن النار تؤثر مثلا في التسخين ، والماء يؤثر في التبريد ، فالماء والنار يتشاركان في كون كل واحد منهما مؤثرا في أثر مخصوص ، والحرارة

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

والبرودة يتشاركان في كون كل واحد منهما أثرا لمؤثر مخصوص ، فثبت أن المشاركة في مفهوم المؤثرية وفي مفهوم الأثرية حاصلة. وأما المشاركة في خصوص ذات المؤثر وخصوص ذات الأثر فغير حاصلة ، فإن ذات النار مخالفة لذات الماء ، وحقيقة الحرارة مخالفة لحقيقة [البرودة ، وإذا ثبت هذا ، لزم القطع بأن كون النار مؤثرة غير ، وكونها نارا غير ، وكذلك] (١) كون الحرارة أثرا لمؤثر غير ، وكونها حرارة غير.

الرابع : إنا إذا قلنا : قدرة الله ، قدرة الله. فهذا الكلام عبث لا يفيد فائدة ، أما إذا قلنا : قدرة الله مؤثرة في وجود العالم ، كان هذا الكلام مفيدا. فلو كان المفهوم من كون القدرة قدرة ، غير المفهوم من كونها مؤثرة في وجود العالم ، وجب أن لا يبقى البتة فرق بين الكلامين ، فظهر بهذا البرهان : أن التأثير مفهوم مغاير لذات المؤثر.

بقي أن نقيم البرهان على أن تأثير المؤثر في الأثر ليس عين ذات الأثر ، فنقول : الذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنا إذا قلنا قدرة الله مؤثرة في وجود العالم ، كنا قد وصفنا قدرة الله تعالى بهذه المؤثرية ، ومعلوم بالضرورة أن العالم ليس صفة لقدرة الله ، ويلزم من مجموع هاتين المقدمتين القطع بأن قدرة الله تعالى في العالم ليست نفس العالم.

الوجه الثاني في إبطال هذا الكلام : أنه إذا قيل لنا : لم وجد العالم؟ كان جوابنا : إن قدرة الله تعالى اقتضت إيجاد العالم في الوجود ، [فعللنا وجود العالم في الوجود] (٢) بأن الله تعالى أوجده ، فلو كان إيجاد الله للعالم عين العالم ، لكان قولنا : العالم إنما وجد بإيجاد الله تعالى معناه : أن العالم إنما وجد بنفسه ، ولو وجد العالم بنفسه لامتنع أن يقال : إنه وجد بإيجاد الله تعالى ، فثبت أنا لو فسرنا تأثير المؤثر في الأثر ، بنفس وجود ذلك الأثر ، لزم نفي المؤثر ونفي

__________________

(١) من (ز ، س).

(٢) من (س).

الأثر ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان باطلا فوجب أن يكون القول بأن تأثير المؤثر في الأثر [نفس] (١) ذلك الأثر : قولا باطلا.

والوجه الثالث في إبطال هذا الكلام : إما أن نفسر إيجاد الله تعالى للعالم بنفس العالم، وإما أن نفسره لا بنفس العالم ، بل بصدور العالم من قدرة الله تعالى ، والأول باطل ، لأن بتقدير أن يوجد العالم لذاته ، أو يوجد بإيجاد موجود آخر غير الله ، لم يصح القول بأن العالم حصل بإيجاد الله تعالى ، فثبت أن إيجاد الله تعالى [للعالم] (٢) لا يمكن تفسيره بنفس العالم ، وإنما يمكن تفسيره بوقوع العالم من قدرة الله [تعالى ، وعند هذا نقول : ظهر أن كون العالم من قدرة الله تعالى ، مغاير لذات العالم ، ولذات القدرة] (٣) فوجب أن يكون مفهوما ثالثا ، فثبت أن تأثير المؤثر في الأثر ، لا يجوز أن يكون نفس ذات المؤثر ، ولا يجوز أن يكون نفس ذات الأثر ، فوجب أن يكون أمرا مغايرا لهما.

والوجه الرابع (٤) في بيان أن تأثير الشيء في الشيء ، يمتنع أن يكون عين ذات المؤثر وعين الأثر : هو أن كون المؤثر مؤثرا في الأثر ، وكون الأثر أثرا للمؤثر من مقولة المضاف ، وأما ذات المؤثر وذات الأثر فليسا كذلك. لأنا إذا قلنا : إن الله تعالى خلق العالم ، فذات المؤثر هي ذات واجب الوجود ، وذات الأثر هو ذات العالم.

فثبت بهذه البراهين الأربعة (٥) : أنه لو أثر شيء في شيء ، لكانت مؤثرية أحدهما في الآخر ليست عين ذات المؤثر ، ولا عين ذات الأثر ، بل كانت مفهوما ثالثا مغايرا لهما.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال المفهوم من المؤثرية مفهوم ثالث مغاير لذات المؤثر ولذات الأثر.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) في الأصل : الخامس.

(٥) في الأصل : الخمسة.

فنقول : هذا أيضا فاسد ، لأن ذلك المفهوم المغاير إما أن يكون سلبيا أو ثبوتيا ، والقسمان باطلان ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون سلبيا لوجهين :

الأول : إن قولنا : إن الشيء الفلاني مؤثر في كذا ، نقيض لقولنا : إنه ليس بمؤثر في كذا ، لكن قولنا : إنه ليس مؤثرا في كذا مفهوم سلبي ، لأنا لا نعقل من قولنا للشيء المعين: إنه لم يؤثر في كذا ، ولم يفعل فعلا ، ولم يوجد أثرا إلا النفي المحض والعدم الصرف ، وإذا ثبت أن المفهوم من قولنا : إنه لم يؤثر في كذا هو العدم المحض ، وجب أن يكون المفهوم من قولنا : إنه أثر في كذا أمرا ثابتا موجودا. ضرورة أن أحد النقيضين لما كان سلبيا ، وجب كون النقيض الآخر ثبوتيا.

الثاني : إنا إذا قلنا المؤثرية مفهوم عدمي ، كان المعنى أنه لا وجود للمؤثرية ، ولا حصول لها ولا معنى لهذا الكلام ، إلا التصريح بنفي المؤثرية والأثر.

وأما الوجه الثاني : وهو أن يقال : إن المؤثرية مفهوم ثبوتي [مغاير لذات المؤثر ، ولذات الأثر. فنقول :

هذا الموجود. إما أن يكون موجودا في الأعيان ، وإما أن يقال : إنه] (١) لا وجود له في الأعيان ، وإنما هو من الاعتبارات الذهنية ، التي لا يكون لها وجود في الأعيان. والقسم الثاني باطل. لأن العقل إذا حكم على الشيء بكونه مؤثرا في شيء آخر. فهذا الحكم [الذهني] (٢) إما أن يكون مطابقا للأعيان ، وإما أن لا يكون. فإن كان هذا الحكم الذهني مطابقا لما في الأعيان ، فحينئذ يكون الشيء في الأعيان : أثرا ، ومؤثرا ، وفاعلا ، ومفعولا. وحينئذ يبطل قولهم بأن هذه المفهومات : اعتبارات حاصلة في الأذهان ، ولا وجود لها في الأعيان.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

يكون هذا الحكم الذهني كذبا وجهلا ، وحينئذ لا يكون الشيء في نفس الأمر أثرا ولا مؤثرا ولا فاعلا ولا مفعولا ، وذلك يوجب القول بنفي التأثير والمؤثر.

وأما القاسم الثاني : وهو أن يقال : كون المؤثر مؤثرا ، أو كون الأثر أثرا : مفهومان مغايران للذات ، وهي أمور ثابتة في الأعيان. فنقول : هذا القسم أيضا باطل ، وذلك لأن ذلك الأمر الوجودي ، إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه ، وإما أن يكون صفة عارضة لذات المؤثر ولذات الأثر ، والأول باطل لوجوه :

أحدها : إن المؤثرية صفة لذات المؤثر ، والجوهر القائم بنفسه لا يكون صفة لذات المؤثر.

وثانيها : إن المؤثر والأثر من مقولة المضاف ، والجوهر القائم بنفسه ليس كذلك.

وثالثها : إن هذا الجوهر القائم بنفسه ، إن لم يكن له أثر في ذلك المفعول كان أجنبيا عنه (١) ، وإن كان له فيه أثر فحينئذ يعود التقسيم المذكور في مؤثرية ذلك الجوهر في ذلك الأثر.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال المؤثرية والأثر صفتان قائمتان بذات المؤثر ، وبذات الأثر. فهذا أيضا محال لأن الصفة القائمة بالغير مفتقرة إلى الغير [والمفتقر إلى الغير] (٢) ممكن لذاته والممكن لذاته لا بد له من مؤثر ، فهذه المؤثرية مفتقرة أيضا إلى مؤثر يؤثر فيه فيكون تأثير ذلك المؤثر في وجود هذه المؤثرية مفهوما زائدا عليها ، ولزم التسلسل وهو باطل لوجهين :

الأول : البراهين الدالة على أن القول بالتسلسل باطل.

والثاني : إن على تقدير أن يكون القول بالتسلسل صحيحا ، فالمحال لازم هاهنا أيضا ، وذلك لأن المعقول من التسلسل أن يستلزم شيء شيئا ،

__________________

(١) بالتعيين. (ز).

(٢) من (س).

ويكون الثاني مستلزما [لثالث ، ويكون الثالث مستلزما] (١) لرابع ، وهكذا إلى غير النهاية. إلا أن (٢) هذا المعنى إنما يتقرر عند وجود أمور متلاصقة ، يكون كل واحد منها متصلا بالآخر إلى غير النهاية ، إلا أنا إذا قلنا : إن مؤثرية الشيء في الشيء صفة زائدة عليهما ، فلا يمكننا أن نشير إلى الشيئين يتصل أحدهما بالآخر إلا ويكون كون أحدهما مستلزما للآخر [أمرا] ثالثا متوسطا بينهما. وهذا يقتضي أن لا يتصل شيء بشيء آخر البتة ، وإذا بطل [هذا ، بطل] (٣) القول بالتسلسل ، فثبت : أن القول بثبوت التسلسل في هذا المقام يفضى ثبوته إلى عدمه ، فوجب أن يكون القول بثبوته باطلا. فقد ظهر من جملة ما قررنا : أنه لو أثر شيء في شيء لكان تأثير ذلك المؤثر في الأثر إما أن يكون عين ذات المؤثر أو ذات الأثر ، وأما أن يكون مفهوما ثالثا لهما ، وثبت أن كلا القسمين باطل فاسد ، فوجب أن يكون القول بثبوت المؤثر والتأثير باطلا.

فإن قال قائل : إن هذا التقسيم الذي ذكرتموه قائم في مواضع قد علم صحتها. ووجودها بالضرورة ، فوجب أن يكون هذا التقسيم فاسدا ، وبيانه من وجهين :

الأول : [أن يقال] (٤) لو حصلت هذه الدار ، وهذا الجدار في هذه الساعة ، لكان حصولهما في هذه الساعة ، إما أن يكون نفس هذا الشيء ، أو نفس هذه الساعة ، أو يكون مفهوما ثالثا مغايرا ، والأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول [بحصول هذا الشيء في هذه الساعة باطلا ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون] (٥) حصول هذه الدار وهذا الجدار في هذه الساعة ، غير وجود هذه

__________________

(١) من (ز).

(٢) لأن هذا (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

الدار وهذا الجدار ، لأنه في الساعة [الثانية] (١) لا يبقى حصوله في هذه الساعة ، عين هذه الساعة ، لأنه [لا] (٢) يمكن وجود هذه الساعة في الخارج وفي الذهن ، منفكا عن حصول هذا الشيء في هذه الساعة. وأيضا : فحصول هذا الشيء في هذه الساعة من مقولة المضاف ، وهذه الساعة وهذا الشيء ليسا من مقولة المضاف.

وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون حصول هذا الشيء في هذه الساعة ، مفهوما زائدا ، لأن ذلك الزائد يكون أيضا حاصلا في تلك الساعة ، فيكون حصول ذلك المفهوم المغاير في تلك الساعة أمرا مغايرا له ، ويلزم التسلسل وهو محال.

الوجه الثاني : في بيان أن ما ذكرتموه [من التقسيم] (٣) باطل ، هو أنا نشير إلى جسم حاصل في مكان ، ونقول : إنه ليس حاصلا في هذا المكان ، لأنه لو كان حاصلا فيه فحصوله فيه ، إما أن يكون عين ذاته ، أو زائدا على ذاته ، والأول باطل [لأنه إذا خرج عن ذلك المكان فذاته باقية ، وحصوله في ذلك المكان غير باقي والثاني أيضا باطل] (٤) لأن ذلك الزائد يكون صفة لذلك الجسم ، والصفة حاصلة في الموصوف ، فيلزم أن يكون حصول تلك الصفة في ذات الموصوف زائدا عليه ، وذلك يوجب (٥) التسلسل وهو محال ، فثبت بهذين الوجهين : أن ما ذكرتموه من التقسيم قائم في أمور قد علمنا صحتها ببديهة العقل ، فوجب أن يكون التقسيم الذي ذكرتموه باطلا.

والجواب : أن نقول : إن التقسيم الذي ذكرناه تقسيم دائر بين النفي والإثبات ، والدلائل الدالة على إبطال كل واحد من تلك الأقسام وجوه قطعية يقينية ، وإذا ثبت هذا ، فنقول : هذا التقسيم الذي ذكرناه ، برهان صحيح

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) ولزم التسلسل (س).

بحسب الصورة وبحسب المادة ، فإن كان البرهان الذي هذا شأنه يحتمل أن يكون فاسدا ، فحينئذ لا يمكنكم القطع (١) بصحة شيء من الدلائل والبينات [فإن الغاية القصوى فيها أن تكون (٢)] صحيحة بحسب الصورة والمادة ، فإذا جوزتم (٣) مع هذين الشرطين أن يكون فاسدا ، فحينئذ لا يبقى الوثوق بشيء من الدلائل ، ويسقط الاعتماد بالكلية عن جميع الدلائل ، ويسقط الاعتماد عن الدليل الذي ذكرتموه في إثبات واجب الوجود. وهذا آخر الكلام في تقرير هذه الشبهة ، وهي أقوى الشبهات في الحقيقة.

الشبهة الثامنة في نفي التأثير والمؤثر : أن نقول : لو كان الإمكان علة لحاجة الأثر إلى المؤثر ، لافتقر المعدوم حال عدمه إلى المؤثر ، وهذا محال فذاك محال ، بيان الشرطية أن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان الخاص لا العام ، لكن الإمكان الخاص تعلقه [بطرف الوجود مثل تعلقه] (٤) بطرف العدم على السوية من غير تفاوت أصلا ، وإذا كانت نسبة هذا الإمكان إلى الطرفين على السوية ، وإن كان علة الحاجة في طرف الوجود ، وجب أن يكون علة للحاجة في طرف العدم ، وإلا لزم رجحان أحد الطرفين المتساويين على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، وبتقدير صحته فذلك يقدح في قولكم : (٥) إن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح. فثبت أنه لو كان الإمكان علة للحاجة ، لكان المعدوم حال عدمه مفتقرا إلى المرجح والمؤثر. وإنما قلنا : إن هذا محال ، لأن العدم المستمر إشارة إلى النفي المحض ، والسلب الصرف ، وكونه باقيا إشارة إلى أن ذلك السلب المحض بقي مستمرا ، أو كل واحد من هذين المفهومين ينافي حصول التأثير. أما أن كونه سلبا محضا ينافي كونه أثرا ، فلأن التأثير (٦)

__________________

(١) الاستدلال (س).

(٢) من (ز).

(٣) حققتم مع حصول هذين (س).

(٤) من (س).

(٥) قولك (س).

(٦) التغاير (س).

يقتضي حدوث حالة وحصول أمر ، والنفي المحض ، والسلب الصرف ليس كذلك ، وأما أن كونه باقيا يمنع من كونه أثرا لمؤثر ، فلما بينا فيما تقدم [أنه يمتنع القول ، بأن الباقي حال بقائه يصير أثرا لمؤثر وفعلا لفاعل ، فثبت (١)] أنه لو كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لزم افتقار المعدوم حال بقائه إلى المؤثر ، وثبت أن هذا محال ، فيلزم أن لا يكون الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر.

الشبهة التاسعة : لو افتقر الممكن إلى المرجح لما كان الإنسان مختارا في أفعاله ، وهذا باطل ، فذاك باطل ، بيان الشرطية : أن الإنسان حال كونه قادرا [على الفعل ، إما أن يكون قادرا] (٢) على الترك ، أو لا يكون ، فإن لم يقدر على الترك في حال الفعل ، فكذلك لا يقدر على الفعل (٣) ، وحينئذ لا يكون البتة متمكنا من الفعل ومن الترك في شيء من الأحوال ، فوجب أن لا يكون فاعلا مختارا البتة ، وأما إن كان قادرا على الترك ، فترجح الفعل على الترك ، إما أن يتوقف على مرجح أو لا يتوقف ، فإن توقف على مرجح فذلك المرجح إما أن يكون منه أو من غيره ، فإن كان منه عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان من غيره ، فعند حصول ذلك المرجح من ذلك الغير ، إما أن يكون ذلك الفعل واجبا أو ممكنا أو ممتنعا ، فإن كان واجبا لم يكن البتة متمكنا من الفعل والترك ، لأنه قبل حصول ذلك المرجح ، كان صدور الفعل عنه واجبا ، وعلى هذا التقدير لا يكون العبد متمكنا في شيء من الأحوال ، وإذا كان عند حصول ذلك المرجح ، يصير صدور الفعل عنه ممكنا لا واجبا. فذلك باطل لوجوه ستة قطعية يقينية سنذكرها في مسألة القضاء والقدر. فثبت بما ذكرناه : أنه لو توقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر على انضمام مرجح إليه ، لامتنع كون الحيوان مختارا في فعله.

وإنما قلنا : إنه لا بدّ من الاعتراف بحصول الفاعل المختار ، وذلك لأنا نعلم تفرقة بديهية كون العبد متحركا باختياره ، تارة يمنة ، وتارة يسرة ، وبين

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) فكذلك لا يقدر حال الترك على الفعل (س).

كون المرتعش متحركا بالاضطرار. وأيضا. : فمن رمى حجرا إلى وجه إنسان ، فإنه يعرف الفرق بين حركة الحجر وبين يد ذلك الرامي ، فإن العقلاء ببدائه عقولهم يعلمون : أنه لا يجوز مدح ذلك الحجر وذمه في تلك الحركة ، وأنه يحسن مدح ذلك الرامي وذمه في تلك الحركة ، ولو لم يكن العبد مختارا في فعله ، لما بقيت هذه التفرقة ، فثبت : أنه لو توقف رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر بلا (١) مرجح ، لزم أن لا يكون العبد مختارا في فعله ، وثبت أنه مختار في فعله ، فوجب أن لا يفتقر الممكن إلى المرجح.

الشهية العاشرة : إن الهارب من السبع إذا ظهر له طريقان متساويان من كل الوجوه ، فإنه يختار أحدهما لا لمرجح ، والعطشان إذا خير بين شرب قدحين متساويين ، والجائع إذا خير بين أكل رغيفين متساويين ، وكذا القول في أشباهها من الأمثلة. ولا يقال : إن ذلك الفاعل لما خصص أحد الجانبين بالترجيح فذلك الترجيح والتخصيص : مرجح ، لأنا نقول : إن ذلك القادر إن لم يصح منه ترجيح الجانب المرجوح على الجانب الراجح ، بدلا عن الترجيح ، فهو موجب لا مختار ، وإن صح منه كل واحد من القسمين بدلا عن الآخر ، فإن توقف ترجيح أحد الجانبين على الآخر على مرجح ، صار موجبا ، وخرج عن كونه مختارا ، وإن لم يتوقف على المرجح فقد حصل رجحان الممكن لا لمرجح.

الشبهة الحادية عشر : القول بافتقار الممكن إلى المؤثر يقدح في كونه ممكنا ، فوجب أن لا يتحقق الافتقار. بيان الشرطية : إن الممكن إن حصل معه وجود السبب ، كان واجب الوقوع ، وإن حصل معه عدم ذلك السبب كان ممتنع الوقوع ، وإذا كان لا واسطة بين حصول السبب وبين عدمه ، كان كل واحد منهما مانعا من الإمكان ، فوجب أن لا يحصل الإمكان أصلا ، فيثبت أن القول بافتقار الممكن إلى السبب ينافي كونه ممكنا ، ومعلوم أن ما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان ثبوته باطلا ، فوجب أن يكون القول بثبوت هذا الافتقار باطلا.

فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال : إنه ممكن نظرا إلى ذاته وماهيته ،

__________________

(١) من (ز).

بمعني أنه من حيث إنه هو ، مع قطع النظر عن وجود السبب وعن عدمه ، فإنه يقبل الوجود والعدم أو يقول : إنه صار واجب الوجود في الحال لحضور سبب وجوده ، لكنه ممكن الوجود بالنظر إلى الزمان المستقبل.

والجواب : أن نقول : أما الوجه الأول فباطل ، لأن ماهية الشيء إما أن تكون عين وجوده أو غيره ، فإن كان الأول امتنع أن يقال : إنه من حيث إنه هو ممكن الوجود ، لأن على هذا القول لا هوية له سوى الوجود ، لكن الوجود من حيث إنه وجود ينافي العدم ، والمنافي للشيء لا يكون قابلا له ، فوجب أن يمتنع كون تلك الماهية قابلة للعدم.

وأما الاحتمال الثاني : (١) وهو أن تكون الماهية غير الوجود ، فنقول : فعلى هذا التقدير المحكوم عليه بالإمكان ، إما الماهية ، أو الوجود ، أو موصوفية الماهية بالوجود ، ومحال أن يكون المحكوم عليه بالإمكان هو الماهية [لأن الماهية] (٢) من حيث هي هي ، لا تقبل الانتفاء والتبديل ، بل هي واجبة التحقق لعينها ولذاتها فلا تكون ممكنة البتة. ومحال أن يكون المحكوم عليه بالإمكان هو الوجود من حيث إنه وجود ، لأن الوجود من حيث إنه وجود [لا يقبل العدم ، فيمتنع أن يكون الوجود من حيث إنه وجود] (٣) قابلا للعدم ، ومحال أن يكون المحكوم عليه بالإمكان هو موصوفية الماهية بالوجود ، لأن تلك الموصوفية إن لم تكن أمرا وجوديا فقد بطل الحديث ، وإن كان أمرا وجوديا عاد التقسيم الأول. فثبت أن هذا العذر الذي ذكرتموه باطل.

وأما السؤال الثاني : وهو أن الإمكان إنما يتحقق بالنسبة إلى الزمان المستقبل.

فنقول : إما أن يكون المراد منه : أن عند حصول الاستقبال ، يحصل هذا الإمكان [وإما أن يكون المراد منه : أن الإمكان] (٤) حصل [في

__________________

(١) الوجه (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

الحال] (١) بالنسبة إلى الاستقبال ، والأول باطل ، لأن الاستقبال ينقلب حالا عند الحضور، فيعود السؤال المذكور.

والثاني أيضا باطل ، لأن حصول الشيء في الاستقبال مشروط بحصول الاستقبال ، والاستقبال محال الحصول في الحال ، والموقف على المحال محال ، فالشيء بشرط حصوله [في الاستقبال] (٢) مستحيل الحصول في الحال ، وإذا كان هو بهذا الاعتبار ممتنع الحصول ، امتنع أن يقال : إنه بهذا الاعتبار يكون ممكن الحصول ، لأن الإمكان الخاص والامتناع لا يجتمعان في الشيء الواحد بالاعتبار الواحد.

الشبهة الثانية عشر : لو افتقر الحادث الى المؤثر لكان ذلك المؤثر مع كل القيود المعتبرة في تلك المؤثرية ، إما أن يقال : إنه كان موجودا قبل ذلك الأثر ، أو ما كان موجودا قبله ، فإن كان الأول فحينئذ يكون حصول ذلك الأثر في أحد الوقتين دون الثاني ، يكون رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يقدح في قولنا الممكن يفتقر إلى المؤثر ، اللهم إلا أن يقال : إن حضور هذا الوقت كان شرطا لأن يصدر الأثر عن المؤثر ، لو كان زوال الوقت الأول شرطا ، إلا أن على هذا التقدير يلزم أن يقال : إن المؤثر مع كل ما لا بد منه في المؤثرية ، ما كان موجودا قبل هذا الأثر ، لأن زوال الوقت الأول وحضور الوقت الثاني ، كان أحد الأمور المعتبرة في تلك المؤثرية ، مع أنه ما كان [حاضرا] (٣) قبل ذلك ، مع أنا في هذا التقسيم فرضنا أن كل تلك الأمور كانت حاضرة. هذا خلف. وأما أن قلنا : إن المؤثر مع كل ما لا بد منه في حصول المؤثرية ، ما كان حاصلا قبل ذلك ، وإنما حدث في هذا الوقت كان الكلام في حدوث ذلك المجموع كالكلام في حدوث ذلك الأثر ، فإن حدث لا لمؤثر كان هذا قولا باستغناء الأثر الحادث عن المؤثر ، وإن افتقر إلى مؤثر آخر،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

لزم إما التسلسل أو الدور ، وهما باطلان عندكم.

الشبهة الثالثة عشر : الممكن حين صدر عن الواجب ، إما أن يكون قد صدر مع أنه كان صدوره عنه ممكنا ، أو مع أنه كان صدوره عنه واجبا ، فإن كان الأول ، فقد ترجح الممكن لا لمؤثر ، وإن كان الثاني فحينئذ يصدق أن هذا المعلول من لوازم وجود تلك العلة ، وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم ، فيلزم من ارتفاع هذا المعلول ارتفاع علته ، ويلزم من ارتفاع علته ارتفاع علة علته. وهكذا القول في أنه يلزم من ارتفاع كل [معلول ارتفاع علته. حتى ينتهي هذا إلى المبدأ الأول ، فيلزم أن يقال : إنه يلزم من ارتفاع] (١) هذه الممكنات ، وهذه الحوادث ، ارتفاع واجب الوجود لذاته ، وهو محال.

فإن قال قائل : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إن ارتفاع الأثر لا يوجب ارتفاع المؤثر ، بل يدل على أن المؤثر ارتفع أولا ، حتى لزم من ارتفاعه ارتفاع هذا الأثر.

الثاني : لم لا يجوز أن يقال : إن ارتفاع المعلول ، دل على أن شرطا من الشرائط المعتبرة في تأثير واجب الوجود لذاته ، في حصول هذا المعلول [قد ارتفع (٢)] وبهذا التقدير لا يلزم من ارتفاع هذا المعلول ارتفاع ذات العلة ، لأنا نقول :

أما الجواب الأول فضعيف لأنه لو كان الأمر كذلك [لكان (٣)] متى ارتفع الأثر فإن المؤثر قد ارتفع أولا ، لكنا نشاهد عدم الصور والأعراض في عالمنا هذا ، فيلزم أن يكون عدمها ، دالا على عدم عللها ، وحينئذ يلزم المحال (٤) المذكور.

وأما الجواب الثاني : فضعيف أيضا ، لأن الكلام في ارتفاع ذلك

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) المحذور (ز).

الشرط ، كالكلام في ارتفاع ذلك المعلول فإن كان ذلك لارتفاع شرط آخر لزم أن يكون كل حادث لأجل حادث آخر إلى غير النهاية. ثم إن هذه الأسباب والمسببات الغير المتناهية ، لو كانت موجودة معا ، فقد لزم وجود أسباب ومسببات غير متناهية دفعة واحدة [وهو محال] (١) وإن كان بعضها سابقا على البعض ، فحينئذ قد جوزتم استناد الحادث الموجود في الحال إلى سبب كان موجودا قبل ذلك وهو غير موجود في الحال ، وإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال المقتضى لوجود هذا الشيء الموجود في الحال شيء كان موجودا قبله ، ثم فني عند طريان هذا الحادث ، وهذا عين (٢) ما ذكرتموه في الشرائط المتعاقبة وحينئذ لا يمكنكم الاستدلال بوجود هذه الممكنات على وجود موجود واجب الوجود لذاته.

الشبهة الرابعة عشر : العالم إما أن يكون له مؤثر أو لا يكون ، فإن لم يكن له مؤثر ، مع أن العالم ممكن لذاته ، فقد وقع الممكن لا عن مؤثر. وإن كان له مؤثر فذلك المؤثر ، إما أن يكون واجبا أو مختارا. فإن كان موجبا فاختصاص النقطة المعينة ، بأن تكون قطبا للفلك دون سائر النقط المتساوية لها : رجحان للممكن لا لمرجح ، وكذلك القول في اختصاص كل واحد من الكواكب لجانب معين من الفلك ، دون سائر الجوانب ، وكذا القول في اختصاص بعض جوانب المتمم (٣) بالرقة دون سائر الجوانب وكذا القول في حصول كرة العالم في جانب معين من الخلاء الذي لا نهاية له عند من يقول بذلك الخلاء. وإما إن كان مختارا كان تخصيص إحداث العالم بالوقت المعين دون [سائر] (٤) ما قبله ، وما بعده ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح فثبت : أن القول باستغناء الممكن عن المؤثر لازم على كل التقديرات.

الشبهة الخامسة عشر : لو أثر شيء في شيء لكان تأثير المؤثر في الأثر ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) يقرأ : المحتم.

(٤) من (س).

إما أن يكون باعتبار كونه مؤثرا ، أو كان ذلك التأثير حاصلا باعتبار آخر سوى كونه مؤثرا. والقسمان باطلان ، فالقول بالتأثير باطل وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يؤثر فيه باعتبار كونه مؤثرا ، وذلك لأن كون الشيء مؤثرا في غيره نسبة مخصوصة بين ذات المؤثر ، وذات الأثر ، والنسبة الحاصلة بين الشيئين متأخرة بالرتبة عن الذاتين (١) ، فيلزم من هذا أن يقال : إن كون المؤثر مؤثرا في ذات الأثر نسبة متأخرة بالرتبة عن ذات الأثر ، فلو حكمنا بأن ذات الأثر إنما وجد (٢) بسبب تلك المؤثرية ، لزم أن تكون هذه المؤثرية متقدمة بالرتبة على ذات الأثر ، وحينئذ يلزم تقدم كل واحد منهما على الآخر ، أعني (٣) المؤثرية ، وذات الأثر وذلك محال ، وأما بيان فساد القسم الثاني ، وهو أن يؤثر المؤثر في الأثر لا باعتبار كونه مؤثرا فيه [فهذا أيضا باطل ، لأنه لو أثر فيه لا باعتبار كونه مؤثرا فيه] (٤) فحينئذ يصير ذلك لا باعتبار المؤثرية ، وحينئذ يلزم الجمع بين النقيضين وهو محال.

الشبهة السادسة عشر : الأثر ما لم يجب وجوده عن المؤثر ، امتنع دخوله في الوجود ، فإن قيل (٥) إن [مؤثر الأثر واجب الصدور عن المؤثر فيكون ممكن الصدور عنه ، وما دام يكون الشيء باقيا على إمكانه] امتنع دخوله [في الوجود] ، فيثبت أن الأثر ما لم يصر واجب الصدور عن المؤثر امتنع دخوله في الوجود ، وإذا ثبت هذا لزم أن يقال : إن صيرورة واجب الصدور عن المؤثر متقدم بالرتبة على دخوله في الوجود ، لكن وجوب صدوره عن المؤثر صفة من صفات وجوده ، والصفة متأخرة بالرتبة عن الموصوف ، فهذا يقتضي تقدم كل واحد من هذين الاعتبارين على الآخر ، وتأخره عنه ، وذلك محال.

الشبهة السابعة عشر : المؤثر يمتنع كونه مؤثرا في الشيء ، إلا إذا كان

__________________

(١) الذات (س).

(٢) وجد (س).

(٣) على (س).

(٤) من (ز).

(٥) عبارة (س) : فإن قيل : أن يعتبر الأثر : ويصير واجبا ، امتنع دخوله في الوجود. فثبت : أن الأثر .. الخ.

ذلك الشيء في نفسه ممكن الوجود محتاجا إلى الغير ، فثبت أن عند عدم الإمكان والحاجة يمتنع كون الشيء مؤثرا فيه فلو صار (١) مؤثرا فيه عند حصول الإمكان والحاجة لزم أن يكون هذا الإمكان ، وهذه الحاجة علّة لكون ذلك المباين (٢) علة لوجوده ، وهذا محال لوجهين :

الأول : إنه يلزم أن يحصل لغير واجب الوجود لذاته تأثيرا [في ذات واجب الوجود لذاته (٣)] وهو محال.

الثاني : إنا قد دللنا على أن هذا الإمكان وهذه الحاجة أمران (٤) عدميان ، ولو جعلناهما علة لكون العلة الفاعلة [مؤثرة في وجود الأثر لكانت العلة الأولى (٥)] لهذه الموجودات أمرا عدميا (٦) وحينئذ يلزم كون العدم علة الوجود [و] هذا محال (٧).

الشبهة الثامنة عشر : إن المؤثر ما كان مؤثرا بالفعل قبل دخول (٨) الأثر ، فإذا صار مؤثرا بالفعل عند وجود الأثر ، فقد حدثت تلك المؤثرية ، فإن كان حدوثها لأجل هذا الأثر لزم الدور ، وإن كان حدوثها لشيء آخر لزم التسلسل ، وإن حدثت هذه المؤثرية لا لسبب أصلا ، كان ذلك قولا ، بأن المحدث الممكن (٩) غني عن المؤثر والفاعل ، فهذا تمام شبهات القائلين بنفي التأثير والأثر.

__________________

(١) فرضنا (س).

(٢) الممكن (س).

(٣) من (ز).

(٤) قيدان (س).

(٥) من (س).

(٦) امران عدميان (ز).

(٧) هذا خلف (س).

(٨) وجود (س).

(٩) من (ز).

الفصل الخامس

في

تقرير الجواب عن هذه الشبهات

الشبهة الأولى : وهي قولهم : «لو كان الإمكان محوجا إلى المؤثر ، لكان الباقي في حال بقائه محتاجا ، إلى المؤثر».

نقول في الجواب عنها : لا نزاع في المقدمة الأولى : لكن لم قلتم : إن الباقي غير مفتقر إلى المؤثر؟ قوله : «لأنه يلزم منه تحصيل الحاصل وهو محال» قلنا : إن عنيتم بهذا الكلام (أنه يلزم أن يحصل للحاصل حصول آخر ، فهذا غير لازم ، لأن على هذا التقدير يكون هذا الحصول الثاني حصولا جديدا ، فيكون تأثير المؤثر في الحادث لا في الثاني ، وكلا منا فيما إذا كان المؤثر في نفس الثاني ، وإن عنيتم بهذا الكلام) (١) أن يكون عين (٢) ذلك الحصول واقعا بتأثير ذلك المؤثر ، وتكوينه من غير توهم أن يحصل لذلك الحاصل حصول ثان ، فهذا حق ، وصدق عندنا ، فلم قلتم : إن الأمر ليس كذلك؟

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم (٣) : «تأثير المؤثر ، إما أن يكون حال وجود الأثر أو حال عدمه» قلنا : بل حال وجوده. قوله : «فيلزم إيجاد الموجود ، وهو محال» قلنا : إن عنيت بإيجاز الموجود جعله موجودا من

__________________

(١) من (ز).

(٢) غير (س).

(٣) قوله (س).

شيئين (١) ، فهذا غير لازم ، وإن عنيت أن هذا الوجود الحاصل (إنما حصل) (٢) بتأثير هذا المؤثر فيه ، فهذا مذهبنا الذي لا حق إلا هو ، فلم قلتم إنه محال؟

والجواب عن الشبهة الثالثة : وهي قولهم : (٣) «افتقار الأثر إلى المؤثر ، إما أن يكون وصفا ثبوتيا أو عدميا» قلنا : لم لا يجوز أن يكون مفهوما عدميا؟ قوله : «كونه مفتقرا نقيض لقولنا : إنه غير مفتقر».

قلنا : هذا الكلام يوجب عليكم (٤) كون العدم وجودا ، وذلك لأن كون العدم مناقضا للوجود ومقابلا له وصف وجودي ، بدليل أن كونه غير مناقض له ، وغير مقابل له ، وصف عدمي وإذا كان اللامناقض واللامقابل وصفا عدميا ، وجب أن يكون كونه مناقضا ومقابلا وصفا وجوديا ، وإذا كان لهذا الوصف وصفا وجوديا (وهو محمول العدم ، لأنه لا نزاع أن العدم مناقض للوجود) (٥) ومقابل له ، فيلزم أن يكون العدم موصوفا بصفة موجودة، والموصوف بالصفة الموجودة موجود ، فيلزم كون العدم موجودا ، وهو محال. وكل ما ذكروه في الجواب عن هذا الكلام ، فهو عين جوابنا عن هذه الشبهة المذكورة.

والجواب عن الشبهة الرابعة : وهي قولكم : (٦) «الحكم على الشيء بالافتقار يقتضي أن يكون المحكوم عليه بالافتقار مقدما على ذلك الافتقار ومتأخرا عنه» قلنا : هب أن الافتقار إلى الشيء معنى وقع في محل الشك والشبهة ، إلا أن كون الشيء حادثا بعد العدم أمر معلوم بالضرورة ، فإنا نشاهد أن النور يحدث بعد الظلمة ، وأن الحر يحدث بعد البرد ، ونقول : ما ذكرتموه في تقرير هذه الشبهة ، فهو بعينه قائم في الحدوث ، وذلك لأن ذلك الشيء موصوف بالحدوث ، والموصوف متقدم بالرتبة على الصفة ، ويقتضي أيضا ، أن يكون متأخرا عنه ، لأنه وجد بعد أن لم يكن ، وكما أن هذه الشبهة

__________________

(١) مرتين (ز).

(٢) من (س).

(٣) قوله (س).

(٤) علم (س).

(٥) من (ز).

(٦) قولهم (س).

لا تمنع من الإقرار بالحدوث في الجملة (١) ، لكونه معلوم الثبوت بالحس ، فكذلك يجب أن لا تمنع من الإقرار بحصول الحاجة والافتقار.

والجواب عن الشبهة الخامسة : وهي قولهم : «المفتقر إلى المؤثر إما الماهية ، أو الوجود أو اتصاف الماهية بالوجود» فنقول : هذا الإشكال وارد في الحدوث ، فإنه يقال : لو حدث شيء لكان الحادث إما الماهية أو الوجود ، أو موصوفية الماهية بالوجود ، والكل باطل للوجوه التي ذكرتموها في تقرير هذه الشبهة ، وهذا يقتضي أن لا يضيء الجو (٢) بعد أن كان مظلما ، وأن لا يقوم الإنسان بعد أن كان جالسا ، وكما أن هذا باطل فكذلك ما ذكرتم.

والجواب عن الشبهة السادسة : وهي قولهم : (٣) : «المحكوم عليه بالحاجة ، إما أن يكون بسيطا أو مركبا (٤) فنقول : لم لا يجوز أن يكون بسيطا؟ فإن عندنا السواد إنما صار سوادا بالفاعل ، والجوهر إنما صار جوهرا بالفاعل ، قوله : «علة الحاجة هي الإمكان ، والإمكان صفة نسبية ، والنسبة لا يمكن حصولها في المفردات» قلنا المراد عندنا : هو أنه لا يمتنع (بقاؤه ولا يمتنع) (٥) زواله ، ولا نسلم أن الإمكان بهذا التفسير لا يعترض البسائط ، فإن قالوا : قول القائل السواد من حيث إنه (سواد لا) (٦) يمتنع بقاؤه ولا يمتنع زواله : لا يفيد غرضكم. وذلك لأن ما ذكرتم يقتضي الحكم على السواد بإمكان البقاء تارة وبإمكان الفناء أخرى ، والمفهوم من كون السواد سوادا مغايرا للمفهوم من البقاء والفناء ، فما ذكرتم يدل على أن الإمكان يمتنع حصوله في الماهية البسيطة.

قلنا : هذا تمسك بمحض اللفظ ، والمراد من الإمكان كون الشيء في نفسه ، بحيث يصح أن تبقى هويته وأن لا تبقى ، ولا شك أن المحكوم عليه بهذا المفهوم بالإمكان مفرد لا مركب.

__________________

(١) الحكمة (س).

(٢) الهواء (س).

(٣) قوله (س).

(٤) شرطا (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

والجواب عن الشبهة السابعة : وهي قولهم : «القول بثبوت شيء ، يؤثر في شيء آخر ، يقتضي كون ذلك التأثير مغايرا لذات المؤثر ، ولذات الأثر ، وهو يوجب التسلسل».

فنقول (١) في الجواب : قد ذكرنا أن مثل ذلك التقسيم الذي ذكرتم قائم فيما علم وجوده بالضرورة فيكون باطلا. قوله : «فإذا سلمتم وجود كلام صحيح الشكل ، صحيح المادة ، مع أن نتيجته تكون باطلة ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بشيء من الدلائل على صحة شيء من المطالب» قلنا : نحن لا نسلم صحة الوجوه المذكورة في ذلك التقسيم ، بل نحن إنما أوردنا (٢) هذه المعارضات لتدل على اشتمال التقسيم الذي ذكرتم على مقدمات فاسدة.

والجواب عن الشبهة الثامنة : وهي قولهم : «لو كان الإمكان علة للحاجة لافتقر المعدوم حال عدمه إلى المؤثر» فنقول : لم لا يجوز أن يقال : الإمكان علة لاحتياج وجود الممكن إلى المؤثر ، وإذا كان كذلك. لم يلزم من هذا الكلام احتياج عدم الممكن إلى المؤثر؟ سلمنا : أن الإمكان علة للحاجة في الطرفين (٣) ، فلم لا يجوز أن يقال علته عدم العلة؟ (٤) قوله «العلية صفة ثبوتية» قلنا : لا نسلم قوله لأنها مناقضة للمفهوم من قولنا : إنه ليس بعلة ، قلنا : ينتقض هذا بقولنا : العدم مناقض للوجود ، ومقابل له. فإن ما ذكرتموه إن دل على قولكم لزم أن يقال : إن كون العدم مناقضا للوجود صفة موجودة ، فيكون العدم موصوفا بصفة موجودة ، وما كان كذلك كان موجودا ، فيلزم كون العدم محض الوجود ، وهو محال.

والجواب عن الشبهة التاسعة : وهي قولهم : «لو افتقر الممكن إلى المؤثر لم يكن الإنسان مختارا في فعله» فنقول : لم لا يجوز أن يقال إنه مضطر في ذلك الاختيار ، وتفسيره: أن الله تعالى يخلق ذلك الاختيار فيه ، ثم يكون ذلك

__________________

(١) قلنا (س).

(٢) ذكرنا (س).

(٣) في الظن (س).

(٤) علة العدم العلة (ز).

الاختيار موجبا لذلك الفعل أو جزءا من الموجب ، أو شرطا للموجب.

قوله : «فعلى هذا التقدير يلزم الجبر ، ويلزم بطلان الأمر والنهي ، والثواب والعقاب» قلنا : لا نسلم أنه يلزم ما ذكرتم ، فإن الثواب والعقاب عند الحكماء أحوال لازمة، من حصول الأعمال السابقة على ما سيأتي في تحقيق (هذا) (١) الكلام في أبواب المعاد.

والجواب عن الشبهة العاشرة : وهي قولهم : الهارب من السبع يختار أحد الطريقين لا لمرجح.

فنقول : لا نسلم أنه لم يحصل المرجح هنا ، وبيانه من وجهين :

أحدهما : حركته في أحد المكانين دون الثاني ، والسبب الثاني : إرادته لإحدى الحركتين دون الثانية ، ثم لا نقول إن تلك الإرادة حصلت لإرادة اخرى من قبله ، وإلا لزم التسلسل ، بل إنما حدثت تلك الإرادة في قلبه لأسباب علوية لا اطلاع لنا على تفاصيلها.

والجواب عن الشبهة الحادية عشر : وهي قولهم : إن [القول] (٢) بافتقار الممكن إلى المؤثر يقدح في كونه ممكنا. فنقول : إن الكلام الذي ذكرتم يقدح في وجود الممكن ، سواء قلنا : بافتقاره إلى المؤثر أو لم نقل به ، وبيانه : وهو أن المحكوم عليه بالإمكان ، إما أن يكون موجودا أو معدوما ، فإن كان موجودا كان وجوده منافيا لعدمه ، وكان منافيا لإمكان عدمه ، وكذلك القول في جانب العدم ، فكل ما يصلح عذرا (عن هذا يصلح عذرا) (٣) عما ذكرتم.

والجواب عن الشبهة الثانية عشر : «المؤثر في كل ما لا بد منه في حصول المؤثرية إما أن يقال إنه كان حاصلا قبل حدوث ، هذا الحادث أو ما كان حاصلا» فنقول : لم لا يجوز أن يقال : ذات المؤثر كانت حاصلة ، إلا أن انقضاء الموجود ، الذي كان حاصلا قبل، كان شرطا لفيضان هذا الحادث

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

عنه؟ وهكذا يكون فيضان كل حادث مشروطا بانقضاء الحادث الذي كان موجودا قبله ، كما هو قول الحكماء.

والجواب عن الشبهة الثالثة عشر : وهي قولهم : «إنه يلزم من عدم الأثر عدم المؤثر، فيلزم أن يكون المبدأ الأول ممكنا لذاته».

فنقول : حق إنه يلزم عدم عند عدم الأثر ، (عدم المؤثر) (١) أما ما ليس بحق : فهو : أن عدم المؤثر إنما حصل من عدم الأثر ، لأن الأثر تابع ، والتابع لا يصير متبوعا ، لا في جانب الوجود ، ولا في جانب العدم ، قوله «هب أن الأمر كذلك ، إلا أن هذا الكلام يقتضي أنه كلما ارتفع الأثر فقد ارتفع المؤثر أولا ، وذلك يقتضي كون المؤثر قابلا للارتفاع» قلنا : ارتفاع الأثر قد يكون لارتفاع المؤثر ، وقد يكون لارتفاع حالة من أحوال ذلك المؤثر ، كانت تلك الحالة شرطا لصدور الأثر عن المؤثر. وعند الحكماء : إن صدور كل (أثر) (٢) حادث عن المؤثر القديم مشروط بانقضاء حادث آخر وجد قبله ، وهكذا لا إلى أول.

والجواب عن الشبهة الرابعة عشر : وهي قولهم «اختصاص النقطة المعينة بالقطبية عند الحكيم ، واختصاص الوقت المعين بحدوث العالم فيه عند المتكلم ، يوجب رجحان أحد طرفي الممكن لا لمرجح» فنقول : إن تعين النقطة المعينة للقطبية تابع للحركة المعينة ، وأما حصول تلك الحركة بعينها ، فيحتمل أن يكون السبب فيه أن المادة الفلكية المعينة لا تقبل إلا ذلك النوع المعين من الحركة. هذا على قول الحكيم.

والجواب عن الشبهة الخامسة عشر : وهي قولهم : «لو أثر شيء في شيء ، لكان المؤثر في ذلك الأثر باعتبار كونه مؤثرا فيه (أولا باعتبار كونه مؤثرا فيه» فنقول : الحق أنه يؤثر لا باعتبار كونه مؤثرا فيه) (٣) بل يؤثر

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

باعتبار ذاته المخصوصة ، فذات الأثر توجب حصول الأثر ، ثم عند حصول ذات الأثر تحصل الإضافتان العارضتان للذات أعني : كون أحدهما مؤثرا في الآخر ، وكون الآخر أثرا للأول.

والجواب عن الشبهة السادسة عشر : وهي قولهم : «الممكن ما لم يصر واجب الصدور عن المؤثر لم يوجد» فنقول : هذا حق : إلا أن ذلك الوجوب يكون صفة لذات المؤثر لا لذات الأثر ، وتفسير هذا الكلام : أنه ما لم يصر المؤثر بحيث يجب تأثيره في ذلك الأثر (١) لم يصدر عنه ذلك الأثر ، وبهذا التفسير يسقط ما ذكروه من الشبهة.

والجواب عن الشبهة السابعة عشر : أن نقول كون الأثر ممكن الوجود ومحتاجا ، شرط لتأثير المؤثرية فيه ، والفرق بين الشرط وبين العلة معلوم.

والجواب عن الشبهة الثامنة عشر : وهي قولهم : «المؤثر إذا صار مؤثرا في الأثر فتلك المؤثرية حكم حادث» فنقول : لو كان المؤثر صفة زائدة للزم التسلسل ، وهو محال ، فظهر أنها ليست صفة موجودة في الأعيان. فهذا جملة الكلام (في الجواب) (٢) عن هذه الشبهات (والله ولى الإرشاد والهداية والعصمة بفضله) (٣).

__________________

(١) أن يصدر ذلك (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

الفصل السادس

في

إيراد نوعين آخرين من السؤال على قولنا :

الممكن لا بدّ له من مرجح

أما تقرير السؤال الأول : فهو أن نقول : الممكن هو الذي يقبل الوجود ، ويقبل العدم ، إلا أنا نقول : الذي يكون كذلك على قسمين :

أحدهما : أن يكون قبول الماهية للوجود والعدم على السوية من غير تفاوت (أصلا) (١).

والثاني : أن يكون قابلا (لهما) (٢) ، إلا أن أحد الطرفين يكون أولى بتلك الماهية من الطرف الآخر ، إذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن هذه الممكنات وأن كانت موصوفة بالإمكان ، بمعنى أن صفاتها قابلة للعدم وللوجود ، إلا أنها غنية عن السبب وعن المؤثر ، وذلك لأجل أن الوجود أولى بها من العدم ، فهذه الماهيات لأجل كونها قابلة للوجود وللعدم ، تكون من جملة الممكنات ، إلا أنها لأجل أن الوجود أولى بها من العدم تكون غنية عن السبب ، فما لم تقيموا البرهان على فساد هذا الاحتمال ، لم يتم ما ذكرتموه من الحجة والبرهان ، ثم نقول : الذي يدل على أن حصول هذه الأولوية معقول جملة وجوه:

الأول : الموجودات السيالة ، كالزمان والحركة والصوت ، لا شك أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

العدم أولى بها ، والمراد من كونها سيالة أنها توجد وتنقضي ، ويمتنع بقاؤها بأعيانها.

فنقول : الدليل على أن الأمر كذلك ، أن هذا الآن (١) الحاضر ، وهذا الجزء الحاضر من الصوت لا شك أنه قابل للوجود ، إذ لو لم يكن قابلا للوجود ، لما دخل (٢) في الوجود ، ولا شك (٣) أن العدم أولى بها ، إذ لو لم تحصل هذه الأولوية لما كان واجب الانقراض والانقضاء ، فثبت في هذه الأشياء أنها قابلة للوجود ، وقابلة للعدم ، ثم إن العدم أولى بها من الوجود ، فإذا عقلنا حصول هذه الأولوية في جانب العدم ، فلم لا نعقل حصولها في جانب الوجود؟

الوجه الثاني : في تقرير هذا الكلام : أنه قد تكون العلة المؤثرة في حصول الأثر بحيث يتوقف تأثيرها في ذلك الأثر على حصول شرط مخصوص ، مثل الثقل ، فإنه إنما يوجب النزول بشرط عدم المانع ، إذا عرفت هذا فنقول : لا شك أن الأولى بالثقل ، اقتضاء (٤) النزول (٥) والسقوط (إلا أن) (٦) عند فوات ذلك (الشرط ، قد يتخلف عند ذلك) الأثر. فهذا يدل على أن الأولوية قد تحصل في جانب الوجود مع أنها لا تنتهي إلى حد الوجوب.

الثالث : إن الفلاسفة اتفقوا على أن الممكنات على ثلاثة أقسام : منها أكثرية ومنها أقلية ومنها متساوية ، ولا معنى للأكثري إلّا ما يكون الوجود أولى به ، مع أنه لا يمتنع أن يبقى على العدم ، ولا معنى للأقلي ، إلا ما يكون العدم أولى به ، مع أنه لا يمتنع أن يصير موجودا ، وإذا كان هذا حكما متفقا عليه بين الفلاسفة كان كافيا في تقرير ذلك السؤال ، ألا ترى أنهم قالوا : طبيعة الأرض تقتضي الحصول في الوسط على سبيل الأكثرية ، لا على سبيل الدوام ، لأنها قد تصير ممنوعة عن إيجاد ذلك ، على سبيل القسر ، مثل المدرة المرمية إلى فوق.

الرابع : إن الماهيات الممكنة لا شك أنها قابلة للوجود والعدم ، فهذه

__________________

(١) الأول (س).

(٢) حصل (س).

(٣) وأن العدم (س).

(٤) الزوال (ز) افتقار (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

الماهيات إما أن لا تكون مقتضية لحصول (هذين الأمرين ، وإما أن تكون مقتضية لحصول أحدهما لا بعينه ، وإما أن تكون [مقتضية (١)] لحصول أحدهما بعينه (٢) ، والأول باطل ، وإلا لزم خلو هذه الماهيات عن الوجود والعدم معا وهو محال ، والثاني أيضا باطل لأن أحدهما لا بعينه يمتنع دخوله (٣) في الوجود ، لأن من المحال أن يحصل في الوجود شيء ، مع أنه في نفسه لا يكون شيئا معينا ، بل يكون هو في نفسه إما هذا وإما ذاك ، وما يكون ممتنع الوجود في نفسه ، يمتنع أن يكون وجوده معلولا لوجود غيره ، ولما بطل هذان القسمان ثبت أن هذه الماهيات الممكنة تقتضي إما الوجود بعينه ، وإما العدم بعينه ، مع أن الطرف الثاني يكون غير ممتنع الحصول فثبت بهذا البرهان : أنه لا بدّ من الاعتراف بحصول هذه الأولوية (ولما ثبت بهذه الوجوه الأربعة أنه لا بد من الاعتراف بحصول هذه الأولوية (٤) في الجملة فنقول : هذا الذي يكون الوجود أولى به من العدم ، وجب أن يكون غنيا في وجوده عن السبب المؤثر والفاعل الموجد ، والدليل عليه : أن عند (فرض) (٥) عدم المؤثر المنفصل، إما أن يحصل أولا يحصل. فإن حصل الرجحان فقد كفت ماهيته في حصول هذا الرجحان ، وما حصل بالذات امتنع استناده إلى الغير ، وإن لم يحصل الرجحان فحينئذ لا تكون ذاته مقتضية لحصول أولوية الوجود ، مع أنا فرضناه ، كذلك. هذا خلف. فثبت بما ذكرنا : أن القول بحصول أولوية الوجود معقول ، وثابت أن بتقدير حصول هذه الأولوية ، فإنه يجب حصول الاستغناء عن العلة ، فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الشبهة.

وأما السؤال الثاني : على قولكم (٦) «الممكن مفتقر إلى المؤثر» فهو أن نقول هذه الأجرام العلوية والسفلية بتقدير أن يقوم البرهان على كونها ممكنة الوجود في أنفسها. قابلة للوجود وللعدم ، إلا أن بتقدير كونها دائمة أزلية (٧)

__________________

(١) من (س).

(٢) مكررة في (س).

(٣) حصوله (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) قولهم (س).

(٧) الأثر (س).

باقية ، فإنه يمتنع الحكم عليها بالافتقار إلى المؤثر ، لأنه ثبت أن الباقي في حال بقائه يمتنع افتقاره إلى المؤثر والفاعل ، فعلى هذا (التقدير) (١) ما لم تقيموا الدلالة على كونها محدثة ، امتنع الحكم عليها بالاحتياج إلى المؤثر ، إلا أنكم لو أثبتم حدوثها ، فحينئذ يسقط هذا الدليل بالكلية ، ويصير هذا الدليل (هو الدليل الذي) (٢) يعول المتكلمون عليه في إثبات العلم بالصانع ، فإنهم يقيمون الدليل على أن العالم محدث ، ثم يقولون : وكل محدث فله محدث ، فحينئذ يحصل لهم العلم بافتقار هذا العالم إلى الصانع ، فيفتقر في تقرير هذا السؤال إلى (بيان أن) (٣) الباقي حال بقائه يفتقر (٤) إلى المؤثر. والذي يدل عليه وجوه :

الأول : إنه لو افتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر لزم إيجاد الموجود ، وهو محال.

الثاني : إنه لو كان الأمر كذلك لزم افتقار البناء حال بنائه إلى الباني ، وأيضا من خضب يده بالحناء فإنه يبقى اللون بعد زوال الحناء ، ومن رمى الحجر ، فحركة الحجر باقية بعد زوال مدافعة الرامي.

الثالث : إنه يلزم افتقار العدم الباقي حال استمراره إلى المؤثر.

الرابع : إن كل عقل سليم يشهد بأن الشيء إذا حصل على وصفه وحاله ، فإنه يبقى على تلك الصفة والحالة إلى وقت طريان المبطل المزيل ، وكذلك فإنا إذا خرجنا من الدار ، كان ظن بقاء تلك الأشياء التي رأيناها أقوى من ظن زوالها ، ولهذا السبب فإنا نقصد للعود إليها ، ولا نقصد العود إلى الدار التي يجوز حدوثها ، وإذا غبنا عن بلد فإنا نكتب الكتب إلى أصحاب تلك البلدة لأجل ما حصل في عقولنا ، من أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) لا يفتقر (ز).

فهذا تمام الكلام في تقرير هذين السؤالين.

واعلم أن الجواب على السؤال الأول : إنما يظهر إذا أقمنا (١) البرهان القاطع على أن الماهية ، إذا كانت قابلة للعدم والوجود ، فإنه يجب أن تكون نسبة كل واحد منهما إلى تلك الماهية (على السوية) (٢) وأنه يمتنع أن يكون أحد الطرفين أولى بها ، والذي يدل على أن الأمر كما ذكرناه (٣) وجوه : ـ

الأول : إنا نقول الماهية إذا اعتبرناها مع جميع الأمور المعتبرة في حصول تلك الأولوية، فإما أن يكون العدم عليها حال حصول تلك الأولوية صحيحا ، أو لا يكون العدم عليها ، حال حصول تلك الأولوية صحيحا ، فإن لم يصح العدم مع حصول تلك الأولوية الذاتية ، كان ذلك واجبا لذاته لا ممكنا لذاته ، وإن صح طريان العدم عليها ، فطريان العدم عليها حال حصول تلك الأمور المعتبرة في حصول تلك الأولوية ، إما أن يتوقف على حصول (٤) السبب المعدم المبطل ، أو لا يتوقف على حصوله (٥) فإن توقف عليه فحينئذ لا تحصل أولوية الوجود إلا مع عدم ذلك السبب المعدم ، وعلى هذا التقدير فالحاصل قبل هذا القيد ما كان كافيا في حصول تلك الأولوية ، وقد فرضنا أن الأمر كذلك. هذا خلف.

وأما القسم الثاني : وهو أن لا يتوقف عدم ذلك الشيء على حصول (٦) السبب المعدم المبطل ، فعلى هذا التقدير تكون تلك الأولوية حاصلة تارة مع الوجود ، وأخرى مع العدم ، فنسبة تلك الأولوية إلى الوقتين على السوية ، واختصاص أحد ذينك الوقتين بالوجود والآخر بالعدم ، يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر من غير مرجح ، وهو محال.

الحجة الثانية : على فساد القول بهذه الأولوية : إنا قد دللنا على أن الممكن المتساوي، يمتنع رجحان أحد طرفيه على الآخر من غير مرجح ، إذا

__________________

(١) اقيم (ز).

(٢) من (ز).

(٣) كذلك (س).

(٤) حضور (س).

(٥) حضور (س).

(٦) حضور (س).

ثبت هذا. فنقول : بتقدير أن يكون أحد الطرفين راجحا كان الطرف الثاني مرجوحا ، ولما كان حصول الرجحان حال الاستواء ممتنعا ، كان (حصوله) (١) حال حصول المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا كان الطرف المرجوح حال كونه مرجوحا (٢) ممتنع الحصول ، كان الطرف الراجح واجب الحصول ، ضرورة أنه لا خروج عن طرف النقيض ، ولما أقمنا البرهان القاطع على فساد الاحتمال الذي ذكرتموه ، فلنذكر الجواب على الوجوه التي عولوا عليها :

الجواب عن الشبهة الأولى : وهي قولهم : «إن من الأعراض ما يكون ممتنع البقاء».

فنقول : من الناس من قال كل عرض فإنه يجوز بقاؤه ، قال : لأن تلك الماهية قابلة للوجود ، وإنها لو لم تكن قابلة للوجود لما وجدت تلك القابلية من لوازم الماهية ، ولازم الماهية يكون واجب الدوام بدوام الماهية ، فتلك القابلية باقية أبدا ، فكان ذلك الشيء ممكن البقاء والدوام ، وعلى هذا المذهب فالإشكال زائل وأما الذين سلموا : أن من الأعراض ما يمتنع بقاؤه.

فنقول : جواب هذه الشبهة عندهم : أن كونه باقيا كيفية حادثة ، فالممتنع هو حصول تلك الكيفية ، وهي غير قابلة للوجود أصلا (٣).

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم : «العلة إذا كان تأثيرها في معلولها موقوفا على شرط فقبل حصول ذلك الشرط يكون التأثير بها أولى ، مع أنه لم ينته إلى حد الوجوب».

فنقول : لا نسلم أن التأثير بها أولى ، فإن العلة مهما اختل قيد من القيود المعتبرة في كونها علة ، امتنع كونها مؤثرة ، ومهما حصل كل القيود المعتبرة في العلية ، وجب كونها مؤثرة.

__________________

(١) من (س).

(٢) موجودا (س).

(٣) أبدا (س).

والجواب عن الشبهة الثالثة : وهي قولهم : «اتفق الحكماء على أن الممكن قد يكون أكثريا ، وقد يكون أقليا» فنقول : المراد من الأكثري هو الذي يكون سبب وجوده في أكثر الأحوال موجودا ، وإذا فسرنا الأكثرية بهذا الوجه سقط كلامكم.

والجواب عن الشبهة الرابعة : إن قولكم : «الماهية تقتضي أحد الطرفين بعينه مع أن طريان النقيض على ذلك الطرف ممكن».

فنقول : الماهية تقتضي أن تكون إما موجودة ، وإما (أن تكون ((١) معدومة ، قوله: «هذا المعنى أمر مبهم ، والمبهم لا وجود له في الأعيان ، وما لا وجود له في الأعيان امتنع جعله معلولا (٢) ، لما لا يكون (٣) موجودا في الأعيان» ، قلنا : مقتضى الماهية عدم الخلو عن الوجود والعدم معا ، وعدم الخلو عنهما أمر معين ، فهذا تمام الكلام في السؤال الأول.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «افتقار الممكن إلى المؤثر مشروط بكون ذلك الممكن محدثا» فنقول : هذا الشرط غير معتبر (٤) ، بل ندعي إن مجرد ذلك الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر ، ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا بينا أن الممكن هو الذي تكون نسبة الوجود والعدم إليه على السوية ، وكل ما كان كذلك ، قضى العقل بأنه لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، فعلمنا أن هذا القدر كاف في تحقق الحاجة إلى المؤثر ، فيبقى قيد الحاجة (٥) ، محذوفا عن درجة الاعتبار.

الثاني : إن الحدوث لا يجوز أن يكون علة للحاجة ، ولا جزءا من العلة ولا شرطا لها ، والدليل عليه أن الحدوث كيفية في الوجود ، فهي متوقفة على الوجود ، المتوقف على تأثير المؤثر فيه ، المتوقف (٦) على احتياج الأثر إلى

__________________

(١) من (ز).

(٢) مجعولا (س).

(٣) لما يكون (س).

(٤) معين (س).

(٥) الحدوث (س).

(٦) من (س).

المؤثر ، المتوقف على علّة تلك الحاجة ، وعلى جزء تلك العلة ، وعلى شرط تلك العلة ، فلو كان الحدوث نفس العلة أو جزءها أو شرطها ، لزم تأخر الشيء الواحد عن نفسه بمراتب وهو محال ، فيثبت مما ذكرنا : أن الممكن مفتقر إلى المؤثر سواء كان ذلك الممكن حادثا أو باقيا. ولنذكر (١) الآن الجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في إثبات أن الباقي لا يحتاج إلى المؤثر :

فالجواب عن الشبهة الأولى : وهي قولهم : «لو افتقر الباقي حال بقائه إلى المؤثر لزم إيجاد الموجود» فنقول : الجواب (٢) عنه قد تقدم في الفصول السالفة ، وكذا الجواب عن قوله : «يلزم (٣) افتقار العدم حال بقائه الى المؤثر».

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم : «يلزم افتقار البناء حال بنائه إلى البناء» فنقول : انتقال تلك الأجسام إلى تلك الأحياز غير ، وبقاء تلك الأحياز غير ، فالمفتقر إلى البناء هو انتقالها إلى تلك الأحياز ، فلا جرم (٤) لم يبق ذلك الانتقال بعد مفارقة البناء ، أما استقرارها في تلك الأحياز ، فليس معلول تحرك البناء بل معلول طبائع تلك الأجرام.

والجواب عن الشبهة الثالثة : وهي قولهم : «العلم بوجوده (في الحال) (٥) يوجب ظن بقائه في المستقبل ، وذلك يقتضي استغناء الباقي عن المؤثر».

فنقول : لا نزاع في أن هذا الظن حاصل ، لكن لا نسلم أن هذا الظن إنما حصل لأجل أن الباقي حال بقائه غني عن المؤثر ، فما الدليل على أن الأمر كذلك؟ فهذا جملة الكلام المعلوم (٦) في هذا الموضوع [وبالله التوفيق] (٧).

__________________

(١) من (ز).

(٢) أما الجواب (س).

(٣) فيلزم (س).

(٤) من (ز).

(٥) عن الحال (س).

(٦) الكلمات المعلومة (س).

(٧) من (ز).

الفصل السابع

في

بيان أن هذا البرهان المذكور في إثبات معرفة واجب الوجود

لا يتم على أصول الحكماء إلا بعد إقامة الدلالة على

أن العلة واجبة الحصول حال حصول المعلول.

أعلم أنه لو لم يجب كون العلة المؤثرة موجودة حال وجود المعلول ، لم يمتنع [أن يكون(١)] هذا الممكن إنما وجد لأجل شيء كان موجودا قبله ، ولم يبق معه ، ولو جاز ذلك ، لجاز أن يقال : إن كل ممكن فإنه مستند إلى ممكن آخر قبله ، لا إلى أول ، والتسلسل على هذا الوجه ليس باطلا عند الحكماء ، بل هو حق. لأن مذهبهم ، أن كل دورة فإنها مسبوقة بدورة أخرى ، لا إلى أول ، وإذا كان التسلسل على هذا الوجه ليس ممتنعا عند القوم ، فحينئذ لا يمكنهم [بيان (٢)] انتهاء الممكنات إلى موجود واجب الوجود ، أما إذا ثبت أن العلة المؤثرة يجب كونها موجودة حال وجود المعلول ، فعند هذا نقول : لو استند كل ممكن إلى ممكن آخر ، إلى غير النهاية ، لحصل أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة ، وحينئذ [لا (٣)] يتمكن الفيلسوف من إثبات واجب الوجود لذاته ، فظهر أنه لو لا صحة هذه المقدمة ، لم يقدر أحد من الفلاسفة على إثبات واجب الوجود لذاته ، [ولأجل هذه الدقيقة فإن الشيخ الرئيس لما شرع في كتاب النجاة في إثبات واجب الوجود لذاته] (٤) اشتغل باقامة الدلالة على أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

العلة المؤثرة يجب أن تكون موجودة ، حال وجود المعلول ، أما في [كتاب الإشارات وسائر الكتب ، فلم يذكر هذه المقدمة ، والحق ما ذكره (١) في] كتاب النجاة بالبيان الذي ذكرناه.

وإذا عرفت هذا فنقول : لو لم تكن العلة واجبة الحصول حال حصول المعلول ، لكانت إما أن تكون علة لهذا المعلول ، حال ما كانت تلك العلة موجودة ، أو بعد (٢) أن صارت معدومة ، والأول [باطل (٣)] لأن في تلك الحالة المتقدمة لم يصدر (٤) عنها شيء أصلا ، فامتنع كونها علة ومؤثرة. والثاني باطل ، لأنها في الزمان الثاني قد صارت معدومة ، والمعدوم لا يكون علة للموجود. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : العلة حال وجودها أوجبت وجود المعلول في الزمان الثاني منه؟ فنقول : هذا باطل ، لأن في الزمان الثاني (٥) إن لم يصدر عنه أثر البتة ، لم يكن في ذلك الزمان علة ولا مؤثرا [البتة. وإذا لم يكن في ذلك الزمان علة ولا مؤثرا (٦)] فلو صار علة في الزمان الثاني ، مع أنه في الزمان الثاني صار معدوما ، لزم كون المعدوم علة للموجود ، وهو محال ، وإن لم يصر علة أيضا في الزمان الثاني ، كان هذا تصريحا بأنه ليس علة ولا مؤثرا البتة ، وأما إن قلنا : إنه في الزمان الأول قد صدر عنه أثر ، وكان هذا الأثر حاصلا في ذلك الزمان ، فحينئذ يكون المؤثر موجودا حال حصول الأثر ، وذلك عين (٧) المطلوب. واحتج من خالف في وجود هذه المعية بأمور :

الأول : إن هذه المعية لو كانت معتبرة ، لكانت إما أن تكون عبارة عن المعية بالذات، أو عن المعية بالزمان ، والأول باطل ، باتفاق العقلاء على أن العلة لا تكون مع المعلول بالذات ، والثاني باطل لأن المعية الزمانية لا تصدق إلا على ما كان زمانيا ، وكل زماني فهو متحرك متغير ، وما لا يكون كذلك كانت المعية الزمانية ممتنعة ، في حقه.

__________________

(١) من (ز).

(٢) حال (س).

(٣) من (س).

(٤) لا يغنى (س).

(٥) الأول (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

الثاني : إن العلة لو أثرت في المعلول حال كون المعلول حاضرا ، كان ذلك إيجادا للموجود وهو محال ، فوجب أن يقال : العلة متقدمة على المعلول ، حتى يعقل كونها مؤثرة في نقل ذلك المعلول ، من العدم إلى الوجود.

الثالث : إنا إذا رمينا السهم فلا يزال [يكون (١)] كل واحد من المدافعات السابقة علة لاندفاع آخر ، يحصل بعده على الترتيب والولاء ، ولو لا ذلك ، لوجب سقوط السهم عند انفصاله عن اليد.

الرابع : إن الفكر يوجب العلم بالمطلوب ، مع أن الفكر يجب تقدمه على العلم بالنتيجة ، لأن الفكر في الشيء حال حصول العلم به محال.

الخامس : إن الثقيل النازل يكون كل جزء من أجزاء حركته علّة لحصول الجزء الذي يليه إما بأن يكون علة مؤثرة كما هو عند بعض المعتزلة ، أو يكون علة معدة ، كما هو عند الفلاسفة.

السادس : إنا نعلم بالضرورة أن المؤثر ما لم يوجد بتمامه ، استحال أن يصدر عنه الأثر ، وتمام وجود المؤثر متقدم على وجود الأثر ، فالمؤثر التام يجب أن يكون متقدما على الأثر.

السابع : إنه يقال حركت (٢) يدي فتحرك المفتاح ، أو ثم تحرك المفتاح ، وصريح العقل شاهد بحصول هذا الترتيب ، وذلك يدل على أن العلة يجب تقدمها على المعلول.

والجواب عن الشبهة الأولى : وهي قولهم : (٣) «إن هذه المعية ، إما أن تكون معتبرة بالذات أو بالزمان» فنقول : هذا بناء على قولكم : إن المدة من لواحق الحركة والتغير ، وهذا عندنا باطل ، بل نقول : الدليل القاطع على بطلانه : أنا نعلم بالضرورة أن الله تعالى في هذا الوقت موجود ، مع حدوث كل حادث ، وذلك يبطل قولكم.

__________________

(١) من (س).

(٢) شيء (س).

(٣) قوله (س).

والجواب عن الشبهة الثانية : وهي قولهم : «لو كانت العلة موجودة مع المعلول لزم إيجاد الموجود» فنقول : إن كنت تريد بهذا الكلام إيجاد الموجود مرة أخرى ، فهذا باطل ، وإن كنت تريد كونه موجدا لذلك الموجود بمعنى أنه لو لا ذلك الإيجاد ، لما حصل ذلك الموجود ، فهذا حق عندنا ، فلم قلتم : إنه محال؟

والجواب عن الشبهة الثالثة : إن الرامي يفعل في السهم قوة باقية هي الموجبة لتلك الحركات ، إلا أن إيجابها لكل جزء من أجزاء الحركة ، مشروط بانقضاء الجزء المتقدم. وهذا هو الجواب عن نزول الثقيل. وأما قوله : «الفكر يوجب العلم بالمطلوب ، مع أن الفكر يجب حصوله قبل حصول العلم بالنتيجة» [فنقول : الفكر عبارة عن مجموع العلم بالمقدمتين ، وهما حاصلان مع العلم بالنتيجة] (١).

أما قوله : «المؤثر ما لم يوجد بتمامه ، لم يصدر عنه الأثر».

فنقول : إن كان المراد من قوله «وجدت العلة بتمامها» : التقدم الزماني ، فهذا هو عين المطلوب ، وإن كان المراد به التقدم بالذات ، فهو مسلم لكنه لا يقدح في غرضنا. وأما التمسك بما يقال في العرف : حركت يدي فتحرك الكم ، [أو ثم تحرك الكم] (٢) فنقول : هذا تمسك في المضائق العقلية بالألفاظ ، وهو ضعف ، ثم بتقدير الصحة فإنا نحمله على التقدم بالذات والعلية [والله ولي التوفيق] (٣).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

الفصل الثامن

في

إيراد هذا البرهان على وجه آخر. ويظن أن

إيراده على ذلك الوجه ، يوجب سقوط أكثر هذه

الأسئلة عنه. وبيان أن ذلك الظن : خطأ من الناس

من الناس من قال : إن هذه الأسئلة إنما توجهت ، وهذه المضائق إنما لزمت. لأنا في أول الكلام فسرنا واجب الوجود بذاته ، بأنه : الموجود الذي تكون حقيقته غير قابلة للعدم البتة. وفسرنا ممكن الوجود لذاته ، بأنه : الموجود الذي تكون حقيقته قابلة للعدم. ولما فسرنا الواجب والممكن بهذين التفسيرين ، جاءت هذه السؤالات ، وتوجّهت هذه المباحث. فعظم الخطب ، وضاق البحث.

وهاهنا طريق آخر ، أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط مما تقدم ، وهو أن تفسير الواجب لذاته ، بأنه الذي يكون غنيا في وجوده عن السبب ، وتفسير الممكن لذاته بأنه الذي يكون محتاجا في وجوده إلى السبب ، على هذا التفسير بكون (١) القول بإثبات واجب الوجود لذاته من أظهر المطالب ، ومن أوضح المقاصد ، ولا يتوجه عليه شيء من السؤالات المذكورة ، فإنا نقول : لا شك أن في الوجود موجود ، فذلك الموجود ، إما أن يكون غنيا في وجوده عن السبب ، وإما أن يكون محتاجا [في وجوده] (٢) إلى السبب ، فإن كان الأول فقد ثبت القول بوجود موجود واجب الوجود لذاته ، وإن كان الثاني فلا بد له

__________________

(١) يصير القول (س).

(٢) من (ز).

من سبب ، لأن التقدير هو تقدير كونه محتاجا إلى السبب ، ثم يعود التقسيم الأول في سببه، والدور والتسلسل محالان ، فوجب الانتهاء (١) بالآخرة إلى وجود موجود غني عن السبب ، وذلك هو الموجود الواجب لذاته ، وهو المطلوب فظهر بهذا الكلام : أنا إذا فسرنا الواجب والممكن بهذا التفسير ، سقطت عنا تلك السؤالات ، وصار الكلام في غاية الاختصار ، وكان إيراد الحجة على هذا الوجه أولى. ولقائل أن يقول : إن المباحث العقلية ، لا تختلف باختلاف الألفاظ والعبارات.

فنقول : هب أنكم فسرتم الواجب لذاته بما يكون غنيا في وجوده عن السبب المنفصل، إلا أنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن هذا الوجود الغني في وجوده عن السبب تكون ماهيته وحقيقته قابلة للعدم وللوجود قبولا على التساوي ، إلا أنه ترجح وجوده على عدمه ، لا لمرجح أصلا لا لذاته ولا لغيره؟ وأيضا : لم لا يجوز أن يقال : إن تلك الحقيقة ، وإن كانت قابلة للعدم إلا أن الوجود بها أولى ، فلأجل حصول هذه الأولوية يستغنى عن المؤثر المنفصل؟ فيثبت بما ذكرنا : أنه لا يمكن الجزم بوجود موجود لا تقبل حقيقته العدم البتة إلا بتقدير تلك المقدمات.

واعلم أن المباحث اللفظية لا تدفع الحقائق العقلية ، وإنما يكون تأثيرها في انتقال البحث من مقام إلى مقام آخر ، وذلك قليل الفائدة.

__________________

(١) لذاتها بالآخر (س).

الفصل التاسع

في

إقامة البرهان على أن القول بالدور باطل

احتجوا على فساد القول بالدور ، بأن قالوا : ثبت أن العلة متقدمة على المعلول ، فلو كان كل واحد منهما علة للآخر لكان كل واحد منهما متقدما على الآخر ، وإذا كان هذا متقدما على ذاك ، وكان ذاك متقدما على هذا ، لزم في هذا ، كونه متقدما على المتقدم على نفسه ، والمتقدم على المتقدم على الشيء يجب كونه متقدما على ذلك الشيء ، فيلزم كون الشيء الواحد متقدما على نفسه. وهو محال.

فإن قيل : ما المراد بقولكم : «العلة متقدمة على المعلول»؟ إن أردتم به التقدم الزماني ، فهذا باطل ، لأنا بينا : أن هذا التقدم محال. وأيضا فقد بينا أنه لو صح القول بالتقدم الزماني ، فإنه يسقط هذا الدليل ، وأما إن أردتم به التقدم بالذات والعلية.

فنقول : القول بإثبات التقدم بالذات والعلية وكلام وقع في ألسنة الفلاسفة ، فيجب البحث عنه.

فنقول : مرادكم من التقدم بالعلية : كون هذا مؤثرا في ذاك وعلة له وموجبا ، أو تريدون به أمرا آخر غير هذا التأثير؟ فإن كان المراد هو الأول كان قولكم : «العلة متقدمة على المعلول» معناه : أن العلة علة للمعلول ، وحينئذ لا يبقى [لهذا التقدم مفهوم سوى العلية ، وعلى هذا التقدير فقولكم : لو كان

كل واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما علة للآخر ، وحينئذ لا يبقى] (١) بين مقدمة هذه الشرطية ، وبين تاليها فرق البتة فيكون كلاما فاسدا ، وأما إن عنيتم بالتقدم مفهوما آخر سوى العلية والمؤثرية ، فلا بد من بيانه ، فإنه غير معقول. فإن قالوا : «التقدم بالعلية له مفهوم مغاير للتقدم الزماني ولنفس العلية» أما أنه مغاير للتقدم بالزمان ، فلأنك حين حركت إصبعك فقد تحرك الخاتم ،. ويمتنع أن تكون حركة الإصبع متقدمة بالزمان على حركة الخاتم ، وإلا لزم تداخل الجسمين ، وهو محال ، فههنا قد حصل التقدم بالعلية ، ولم يحصل التقدم بالزمان ، فقد ظهر التغاير ، وأما بيان أن التقدم بالعلية مفهوم مغاير لنفس العلية.

فنقول : العقل قاطع بأنه ما لم يتم وجود العلة في نفسها ، فإنه يستحيل أن يصدر عنها المعلول. ومعلوم : أن حصول العلة بتمامها أمر مغاير لكونها علة لذلك المعلول ، وهذا يدل على أن التقدم بالعلية أمر مغاير لنفس تلك العلية.

فنقول : في الجواب عن هذا السؤال : لا نزاع في أن حركة الإصبع وحركة الخاتم. ، وجدتا معا ، ولا نزاع في أن العقل يقضي بترتيب أحدهما على الآخر ، إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك الترتيب هو نفس العلية والتأثير؟ فإن العقل حكم بأن حركة [الإصبع مؤثرة في حركة الخاتم ، وأن حركة الخاتم] (٢) حاصلة عن حركة الإصبع ، إلا أن هذا المعنى الذي ذكرناه ليس إلا لنفس العلية والافتقار والتأثير ، وليس هاهنا مفهوم سوى ذلك. فظهر بهذا البيان الذي لخصناه : أنه لا يحصل عند العقل من التقدم بالعلية إلا نفس تلك العلية ، وإذا ثبت هذا ، [فنقول] (٣) قولكم : لو كان كل واحد منهما علة لوجود الآخر ، لكان كل واحد منهما علة للآخر (٤) ، فيصير معناه : لو كان كل

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) متقدما على الآخر (ز).

واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما علة للآخر ، فيصير هذا إلزاما للشيء على نفسه ، وهو فاسد. وأيضا : فلأن القول بكون كل واحد منهما علة للآخر ، إن كان معلوم الامتناع بالبديهة. فحينئذ لا حاجة إلى ذكر هذا الدليل ، وإن كان محتاجا إلى الإثبات [بالحجة] (١) والبينة لم يكن الكلام الذي ذكروه مفيدا فائدة ، لأنه لم يحصل فيه إلا تبديل اللفظ باللفظ ، ومعلوم أنه لا يسمن ولا يغني من جوع.

الحجة الثانية على فساد الدور : قالوا (٢) : «لو كان كل واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما علة لعلة نفسه ، وعلة العلة علة ، فيلزم كون كل واحد منهما علة لنفسه ، وذلك محال» ولقائل أن يقول : مدار هذه الحجة على قولهم : «إن علة علة الشيء علة لذلك الشيء» [وهذا كلام مبهم يجب البحث عنه.

فيقال : إن أردتم بقولكم : «علة علة الشيء ، يجب كونها علة لذلك الشيء] (٣) ويجب كونها مؤثرة في ذلك الشيء ، وموجدة له» فهذا باطل قطعا ، لأن على هذا التقدير تكون علة العلة علة قريبة للشيء ، وكونها علة قريبة (٤) لذلك الشيء [يمنع من كونها علة للعلة ، فقولكم : علة علة الشيء يجب كونها علة قريبة لذلك الشيء] (٥) كلام متناقض ، وإن أردتم به أنها علة لعلة الشيء ، فهذا مسلم ، إلا أنه يرجع حاصل الكلام فيه ، إلى أن علة علة الشيء يجب كونها علة لعلة ذلك الشيء ، ومعلوم أن هذا الكلام عبث ولا فائدة فيه.

الحجة الثانية : وهي الأقوى ، أن يقال : لو كان كل واحد منهما علة للآخر ، لكان كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر ، والمفتقر إلى المفتقر إلى

__________________

(١) إنه (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) مرتبة (س).

(٥) من (ز).

الشيء ، يجب كونه مفتقرا إلى ذلك الشيء فيلزم كون كل واحد منهما مفتقرا إلى نفسه ، وذلك محال لوجهين» (١) :

الأول : إن المفتقر إلى الشيء محتاج إليه ، والمفتقر إليه غير محتاج إلى المفتقر ، فلو كان الشيء الواحد مفتقرا إلى نفسه ، لزم كون الشيء الواحد بالنسبة الواحدة ، محتاجا وغنيا ، وذلك جمع بين النقيضين ، وهو محال.

الثاني : وهو أن الافتقار إلى الشيء نسبة مخصوصة ، بين المفتقر والمفتقر إليه ، والنسبة لا يمكن حصولها إلا بين أمرين (٢) ، فالأمر الواحد بالاعتبار الواحد ، يمتنع حصول النسبة فيه. واحتج من قال : الدور غير ممتنع بوجوه :

الأول : إن الهيولي والصورة كل واحد منهما محتاج إلى الآخر ، وهو دور ، والجوهر والعرض يحتاج كل واحد منهما إلى الآخر ، وهو دور.

الثاني : إن المضافين يتوقف كل واحد منهما على الآخر وهو دور ، ولا يقال : إن وجوب مقارنتهما لأجل أن العلة الواحدة [موجبة] (٣) لهما معا ، لأنا نقول : هذا لا يصح على قول الفلاسفة ، لأن عندهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

الثالث : إن العلية والمعلولية من باب المضاف ، والمضافان يوجدان [معا] (٤) ، فالعلية والمعلولية يوجبان المعية [والمعية] (٥) ، تنافى حصول التقدم ، فوجب أن يمتنع حصول (٦) التقدم بين العلة وبين المعلول. والجواب عن الأول : إنا لا نقول بالهيولى والصورة. أما الجسم فإنه مستلزم للحصول في الحيز ، إلا أن ذات الجسم توجب الحصول في الحيز المطلق ، وعلى هذا التقدير فالملازمة [بينهما] (٧) إنما حصلت [بينهما] (٨) لأن ذات الجسم توجب الحصول في الحيز المطلق.

__________________

(١) من وجوه (س).

(٢) إلا من آخرين (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) أن يحصل (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

والجواب عن الثاني : إن المضافين يجب حصولهما معا ، وكون كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر أمر محال.

والجواب عن الثالث : إن ذات العلة وذات المعلول شيء ، وكون هذا علة لذاك ، وكون ذاك معلولا لهذا ، شيء آخر ،. ، فالتضايف والمعية إنما حصلت بينهما باعتبار كونهما علة ومعلولا ، إما إذا اعتبرنا الحقيقة المخصوصة التي لكل واحد منهما ، فبهذا الاعتبار يحصل التقدم والتأخر (١) [والله ولي التوفيق] (٢).

__________________

(١) والتأثير (ز).

(٢) من (ز).

الفصل العاشر

في

إبطال التسلسل

اعلم أنه حصل في هذه المسألة أنواع من الدلائل :

البرهان الأول : إنا لو فرضنا كون كل ممكن ، معلولا لممكن آخر ، [لا (١)] إلى نهاية ، لزم كون تلك الأسباب والمسببات موجودة [دفعة واحدة بأسرها ، بناء على المقدمة التي بيناها ، وهي أن السبب لا بد وأن يكون موجودا] (٢) حال وجود المسبب ، وإن ثبت هذا ، فنقول : مجموع تلك الأسباب والمسببات : ممكن الوجود ، والدليل عليه : إن ذلك المجموع مفتقر في تحققه إلى تحقق كل واحد من تلك الآحاد [وكل واحد من تلك الآحاد] (٣) ممكن ، فالمجموع مفتقر إلى الأسباب (٤) الممكنة ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ، فثبت أن ذلك المجموع ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن فله مؤثر ، فذلك المجموع له مؤثر.

فنقول : المؤثر في ذلك المجموع ، إما يكون نفس ذلك المجموع ، أو أمرا داخلا فيه ، أو أمرا خارجا عنه ، فهذه أقسام ثلاثة لا مزيد عليها.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) الأشياء (س).

[أما القسم (١) الأول] : وهو أن يقال إن ذلك المجموع علة لنفسه ، فهذا باطل من وجوه :

الأول : إنه لا معنى لقولنا إنه علة لوجود نفسه ، إلا أنه غير محتاج إلى الغير ، وقد دللنا على أن ذلك المجموع ممكن لذاته ، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى أن الممكن غني عن السبب ، فيكون هذا رجوعا إلى المقدمات السالفة ، من أن الممكنات ، هل تتوقف على السبب أم لا؟ ونحن إنما نتكلم في هذا المقام بعد إثبات أن الممكن لا بد له من سبب.

الثاني : إن المحتاج إلى الشيء ممكن بالنسبة إلى المحتاج إليه ، والمحتاج إليه غني بالنسبة إلى المحتاج فلو كان [الشيء] (٢) الواحد علة لنفسه لزم كون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد محتاجا وغنيا ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين.

الثالث : إن المعلول مفتقر إلى العلة ، فلو كان الشيء الواحد علة لنفسه لزم كونه مفتقرا إلى نفسه. والافتقار إلى الشيء نسبة ، والنسبة لا تحصل إلّا بين الأمرين ، فأما الشيء الواحد بالاعتبار الواحد ، فيمتنع كونه منسوبا إلى نفسه.

[وأما القسم الثاني] (٣) وهو أن يقال : علة ذلك المجموع فرد من أفراد ذلك المجموع، فهذا أيضا باطل ، لأن كل ما كان علة للمجموع ، وجب كونه علة لجميع آحاد ذلك المجموع ، ولا شك أن [أحد] (٤)] آحاد ذلك المجموع هو ذلك الواحد ، الذي فرض كونه علة لذلك المجموع ، فحينئذ يلزم في ذلك الواحد كونه علة لنفسه ، وقد بينا أن ذلك محال ، ويلزم منه أيضا أن يكون علة [لعلة] (٥) نفسه وذلك يوجب الدور ، وقد بينا أنه محال ، فثبت أن هذا القسم

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

أيضا باطل ، ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أن علة ذلك المجموع يجب أن يكون أمرا خارجا عن ذلك المجموع ، والخارج عن مجموع الممكنات لا يكون ممكنا ، والموجود الذي لا يكون ممكنا لذاته يكون واجبا لذاته. ، فثبت بهذا البرهان [وجوب] (١) انتهاء جميع الممكنات في سلسلة الحاجة إلى موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب ، هذا تمام تقرير هذا (٢) البرهان. فإن قيل : السؤال على هذا الدليل من وجوه :

الأول : إن هذا الدليل الذي ذكرتموه في إبطال التسلسل منقوض بأشياء : أحدها : إن عند الحكماء كل دورة مسبوقة بدورة أخرى ، لا إلى أول ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون كل سبب مسبوقا بسبب آخر ، لا إلى أول.

وثانيهما : إن النفوس الناطقة [الباقية] (٣) غير متناهية. وإذا جاز [وجود] (٤) ما لا نهاية له من النفوس [فلم لا يجوز وجود ما لا نهاية له] (٥) من الأسباب والمسببات؟

وثالثها : إن المتكلمين (٦) يثبتون حوادث لا آخر (٧) لها في أحوال أهل القيامة ، والفلاسفة [يقولون بذلك في أدوار هذا العالم]. (٨)

ورابعها : [المتكلمون يقولون معلومات الله لا نهاية لها ، وإن مقدورات الله لا نهاية لها فلم لا يجوز مثله في الأسباب والمسببات؟

وخامسها] (٩) وهو وارد على الفلاسفة والمتكلمين معا ، وهو إن صحة حدوث الحوادث لا أول لها ، إذ لو حصلت لتلك الصحة أول ، لكان قبل ذلك المبدأ ممتنعا لعينه ، ثم انقلب ممكنا لعينه ، وهو محال ، فثبت أنه لا أول للإمكان

__________________

(١) من (ز).

(٢) هذان (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) المتكلم بثبوت (س).

(٧) لا أثر (ز).

(٨) من (ز).

(٩) من (ز).

والصحة ، وكان التسلسل حاصلا في ثبوت هذا الإمكان.

وسادسها (١) : وهو أن مراتب الأعداد لا نهاية لها ، فكان التسلسل حاصلا فيها.

وسابعها (٢) : إنه تعالى (٣) عالم بالشيء ، وكل من علم شيئا أمكنه أن يعلم كونه عالما به ، وإذا ثبت هذا الإمكان ، وجب أن يكون حاصلا بالفعل في حق الله تعالى ، لكونه منزها عن طبيعة القوة والإمكان ، وعلى هذا التقدير فهو سبحانه وتعالى عالم بالشيء، وعالم بكونه عالما به ، وهكذا في المرتبة الرابعة ، والخامسة إلى ما لا نهاية له ، فقد حصلت هناك [مراتب غير متناهية ، وكل مرتبة أخيرة منها فإنها متفرعة على المرتبة التي قبلها ، فقد حصلت هناك (٤)] أمور غير متناهية ، وهي مرتبة بالطبع ، وهي بأسرها موجودة دفعة واحدة ، فهذا نقض قوي على قولكم : التسلسل في الأسباب والمسببات محال. لا يقال هذا السؤال ، لا يتوجه إلى الحكماء ، لأنهم يقولون : إنه تعالى عقل وعاقل ومعقول ، والكل واحد ، ولا يتوجه أيضا عن المتكلمين ، لأنهم يقولون : العلم بالعلم بالشيء نفس العلم بالشيء ، لأنا نقول : أما الكلام الذي حكيتم عن الفلاسفة فهو محض الطامات ، وذلك لأن العلم بالسواد مثلا عندهم صورة متساوية لذات السواد في الماهية ، وذات الله تعالى مخالفة للسواد في الماهية ، فلزم القطع بأن علمه تعالى بالسواد مغاير لذاته المخصوصة ، وكذلك القول في جميع المعلومات ، وأيضا فقد دللنا بالبراهين القاطعة في أول هذا الكتاب على أن العلم حالة نسبية [إضافية] (٥) وإذا كان كذلك ، فنقول : علم الله تعالى بالسواد عبارة عن نسبة مخصوصة ، بين ذاته وبين السواد. وعلمه بكونه عالما بالسواد نسبة مخصوصة بين ذاته وبين النسبة الأولى ، والنسبة إلى أحد الشيئين

__________________

(١) وخامسها (س).

(٢) وسادسها (س).

(٣) سبحانه (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

مغايرة للنسبة إلى الشيء الآخر ، فيثبت : أن العلم بالعلم بالشيء مغاير للعلم بذلك الشيء ، وأيضا : لو كان العلم بالشيء نفس العلم بالشيء ، لكان العالم بالشيء عالما بتلك المراتب التي لا نهاية لها على التفصيل ، ومعلوم أنه باطل ، وأيضا : فإنه يمكننا أن نعتقد كون الرجل الفلاني عالما بالعلم (١) الفلاني ، مع أنا نشك في كونه عالما بذلك العلم ، وأيضا فإنا ندرك تفرقة بديهية بين قولنا : إن زيدا عالم بالسواد ، وبين قولنا : إنه عالم بكونه عالما بالسواد ، ولو كان أحد العلمين نفس الثاني ، لما بقيت هذه التفرقة ، فهذا تمام الكلام في توجيه هذا النقض.

وثانيها : وهو النقض بالنسب ، فإن كل مقدار فإنه يقبل التنصيف ، ثم إذا نصّف كل واحد من نصفيه فإنه يقبل التربيع ، ولما كان المقدار قابلا للتنصيف إلى غير النهاية ، فحينئذ حصلت هناك نسب غير متناهية ، وكل مرتبة آخرة فإنها متفرعة على النسب الحاصلة قبلها ، فهذا تمام الكلام في تقرير هذه النقوض.

السؤال الثاني : على البرهان الذي ذكرتم : أن نقول قولكم تلك الجملة المركبة غير تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها ، إما أن تكون واجبة ، أو ممكنة ، إنما يصح ويظهر إذا صح وصف تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها ، بكونها جملة ومجموعا ، فلم قلتم إن ذلك صحيح؟ وتقريره : وهو أن وصف الشيء بكونه جملة ومجموعا مشعر بامتياز ذلك المجموع عن غيره ، وامتيازه عن غيره مشروط بكونه متناهيا ، فثبت أنه لا يمكن وصفه بكونه مجموعا وجملة [إلا بعد أن ثبت كونه متناهيا ، وأنتم أثبتم كونه متناهيا على وصفه بكونه كلا وجملة] (٢) وحينئذ يلزم الدور.

السؤال الثالث : هب أنه يصح وصفها بكونها كلا وجملة ومجموعا ، فلم قلتم إنه يجب انتهاؤها إلى واجب الوجود لذاته ، أما قوله : «إن ذلك المجموع

__________________

(١) المعلوم (ز).

(٢) من (ز).

[لما كان] (١) ممكنا فله سبب ، وسببه إما أن يكو هو هو ، أو ما يكون داخلا فيه أو ما يكون خارجا عنه» قلنا : لم لا يجوز أن يكون شيئا داخلا فيه؟ قوله : «يلزم كون ذلك الواحد علة لنفسه ، وعلة لعلة نفسه» قلنا : هذا إنما يلزم لو عللنا تلك الجملة ، بواحد من تلك الجملة ، أما لو عللنا تلك الجملة بكون كل واحد منها مستندا إلى واحد آخر بغير نهاية ، لم يلزم ما ذكرتم من المحال ، والحاصل : أنهم أبطلوا كون تلك الجملة معللة بنفسها ، وأبطلوا كونها معللة بواحد من تلك الجملة ، وعند هذا قالوا : يجب كونها معللة بشيء خارج [عن مجموع الممكنات ، وللسائل أن يقول : هاهنا قسم رابع ، وهو كون تلك الجملة معللة بكون كل واحد من آحادها معللا بواحد آخر لا إلى نهاية ، فمن المعلوم بالضرورة أن هذا القسم قسم مغاير للأقسام الثلاثة التي ذكرتموها ، فإن هذا القسم مغاير لكون تلك الجملة معللة بنفسها ، ومغاير لكون تلك الجملة معللة بواحد معين متناه ، ومغاير لكون تلك الجملة معللة بشيء خارج] (٢) عنها ، فثبت أن هذا القسم مغاير للأقسام [الثلاثة] (٣) التي ذكرتم فأنتم اشتغلتم بتلك الأقسام ، التي هي خارجة عن المقصود ، وأما هذا القسم الرابع فهو القسم الذي وقع الشك فيه ، وإنما شرعتم في هذا البحث لأجل إبطاله ، ثم تركتموه وأهملتموه ، وما تعرضتم له.

فالحاصل : أن الدليل الذي ذكرتموه : ذكرتموه في إبطال أقسام ، لا حاجة لها. وإبطال القسم الذي تعلقت الحاجة به [أهملتموه (٤) فكان هذا من باب التمويه.

فإن قالوا : التقسيم الذي ذكرناه صحيح ، فإنا قلنا : علة تلك الحاجة ، إما نفسها [أو شيء داخل فيها] (٥) أو شيء خارج عنها ، ومعلوم أنه لا مزيد

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

على هذه الأقسام الثلاثة ، فلما تكلمنا على كل واحد منها كان القسم الذي ذكرتموه داخلا فيها ، وعلى هذا التقدير فلا حاجة بنا إلى أن نتكلم على ذلك القسم بعينه ، وأيضا : فتعليل الجملة بكون كل واحد منها معللا بواحد آخر لا إلى نهاية ليرجع حاصله إلى تعليل تلك الجملة بنفسها ، وقد بينا أن ذلك محال. فنقول في الجواب عن هذا السؤال : أما قولكم إن القسم الذي ذكرناه داخل [في تلك] (١) الأقسام الثلاثة ، فنقول : إن صريح العقل يدل على أن هذا القسم الذي ذكرناه قسم معتبر (٢) بلى المقصود من [ذكر] (٣) هذا الدليل ليس إلا إبطاله ، فإذا بينا أن الأقسام الثلاثة التي ذكرتموها مغايرة لهذا القسم ، فحينئذ يظهر أن الدليل الذي ذكرتم لا يفيد المطلوب ، أما قوله : «إن تعليل كل واحد منها بالآخر يقتضي تعليل الجملة بنفسها» فنقول : هذا [أيضا] (٤) باطل ، لأن [كون] (٥) حال المجموع من حيث إنه ذلك المجموع غير ، وحال كل واحد من آحاد [ذلك المجموع بالنسبة إلى واحد آخر غير ، وبالجملة فالفرق بين الكل من حيث هو كل وبين كل كل واحد من آحاد] (٦) الكل معلوم في المنطق. وصريح العقل أيضا يدل عليه ، فالقول بأن الجملة إنما وجدت لأنها تلك الجملة غير ، والقول بأن تلك الجملة وجدت (٧) لكون كل واحد من آحادها معلل بواحد [آخر (٨)] منها إلى غير النهاية غير. فأين أحد البابين من الآخر؟ والحاصل : أنكم أبطلتم تعليل تلك الجملة بنفسها ، وأبطلتم تعليلها بواحد من آحاد تلك الجملة ، وبقي هاهنا [احتمال (٩)] آخر ، وهو كون تلك الجملة معللة بكون كل واحد منها معللا بواحد آخر لا إلى غير (١٠) النهاية ، وهذا القسم مغاير للقسمين الأولين ، والمقصود من هذا البحث ليس إلا (١١) إبطال هذين القسمين ، فكان الاشتغال بذكر القسمين

__________________

(١) من (س).

(٢) معين (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

(٧) وجبت (س).

(٨) من (ز).

(٩) من (س).

(١٠) لا إلى نهاية (س).

(١١) ليس إبطال (س).

الأولين واهمال هذا القسم ، الذي هو المطلوب غفلة عظيمة [والله الهادي (١)].

والجواب عن هذه السؤالات : أن نقول أما النقض الأول : فجوابه : إن كل واحد منها مسبوق بآخر لا إلى أول ، فلم يحصل بمجموعها وجود في شيء من الأوقات ، بل ما كان ذلك المجموع معدوما أزلا وأبدا ، والمعدوم يمتنع الحكم عليه بأنه لا بد له من مؤثر ، بخلاف هذه العلل ، فإنا بينا أن العلة لا بد وأن تكون موجودة مع المعلول ، فلو تسلسلت الأسباب والمسببات لوجدت بأسرها معا ، فيكون المجموع موجودا ، فحينئذ يصح الحكم عليه بالافتقار والحاجة إلى المؤثر ، فظهر الفرق ، ولأجل هذا الفرق ذكرنا أن هذا البرهان لا يتم إلا إذا بينا العلة يجب أن تكون موجودة حال وجود المعلول.

وأما النقض الثاني : وهو النفوس الناطقة.

فالجواب : أن ذلك المجموع وإن كان موجودا معا ، ولكن ليس شيء منها علة للآخر، بخلاف ما نحن فيه.

وأما النقض الثالث : وهو الحوادث التي لا آخر لها ، والمعلومات والمقدورات. فنقول: الفرق أن مجموع تلك الأعداد غير موجودة ، فيكون الفرق ما تقدم.

وكذا الجواب عن مراتب الأعداد ، ومراتب صحة حدوث الحوادث ، وأما المراتب التي لا نهاية لها ، فنقول : هب أنه لا آخر لها ، ولكن لها أول ، فإن أول تلك المراتب هو العلم بالشيء ، ثم يترتب عليه المرتبة الثانية ، وهو العلم بذلك العلم ، ثم يترتب على [المرتبة الثانية] (٢) والمرتبة الثالثة وهلم جرا إلى ما لا نهاية (٣) فههنا لا آخر لهذه المراتب ، إلا (٤) أن لها أول ، ونحن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) ما لا آخر له (س).

(٤) ولكن لها (س).

إنما ادعينا أنه لا بد للأسباب والمسببات من أول ، وما ادعينا أنه لا بد لها من آخر. فظهر الفرق.

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «تلك الأسباب والمسببات ، إنما يعقل وصفها بكونها مجموعا وجملة وكلّا ، لو ثبت كونها متناهية».

فالجواب : لا نسلم أن الأمر كما ذكرتم ، والدليل عليه وجهان :

الأول : إنا حيث قلنا : الأسباب والمسببات لا نهاية لها ، فقد جعلنا اللانهاية محمولا ، ومعلوم أنه [ليس (١)] موضوع هذا المحمول كل واحد من تلك الأسباب ، بل ليس إلا المجموع ، فثبت أنه يمكن وصفه بكونه مجموعا وجملة ، سواء فرضناه متناهيا أو غير متناه.

الثاني : إنا إذا قلنا ما لا نهاية له موجود ، فقد حكمنا على تلك الأمور التي لا نهاية لها بأنها موجودة ، ونحن لا نريد بالكل والجملة والمجموع إلا تلك الموجودات بأسرها.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «لم لا يجوز أن يقال إن تلك الجملة إنما وجدت لأجل أن كل واحد من آحادها استند إلى واحد آخر ، إلى غير النهاية».

فالجواب : عنه : أن نقول : هذا أيضا باطل لأنا إذا قلنا : الجملة إنما وجدت لاستناد كل واحد من آحاد تلك الجملة إلى واحد آخر ، فقد حصل هاهنا مفهومان : ـ

أحدهما : مجموع ذوات تلك الآحاد.

الثاني : كون كل واحد منها مستندا إلى الآخر ، ولا شك في تغاير هذين المفهومين ، إذا عرفت هذا ، فنقول : هذا الذي جعلتموه علة لتلك الجملة ، إما أن يكون هو تلك الآحاد أو تلك الاستنادات العارضة لتلك الآحاد ،

__________________

(١) من (س).

والأول باطل لأن مجموع تلك (الآحاد) (١) هو عين ذلك المجموع ، فتعليل ذلك المجموع بتلك الآحاد يقتضي تعليل الشيء بنفسه ، وهو محال. والثاني أيضا باطل ، لأن تلك الاستنادات أحوال عارضة لتلك الآحاد ، ولو جعلنا هذه الاستنادات علل لتلك الآحاد ، لزم جعل العوارض عللا للمعروضات ، وذلك محال ، لأن المعروض متقدم بالرتبة على العارض ، فلو جعلنا العارض علة للمعروض ، لزم تقدم كل (واحد) (٢) منهما على الآخر وهو محال ، فيثبت سقوط هذا السؤال ، وهاهنا آخر الكلام في تقرير هذا البرهان (والله ولي الرحمة والغفران) (٣).

البرهان الثاني في إبطال التسلسل : اعلم أنه يمكن ذكر البرهان الذي قدمنا ذكره بحيث يصير أشد اختصارا مما سبق ذكره.

فنقول : لو تسلسلت الأسباب والمسببات إلى غير النهاية ، لكانت تلك الجملة (من حيث إنها جملة) (٤) ممكنة ، ولكان (٥) كل واحد من آحاد تلك الجملة أيضا ممكنا (وكل ممكن) (٦) ، فلا بد له من سبب مغاير له ، فلهذه الجملة سبب مغاير لها من حيث إنها تلك الجملة ، ومغاير لكل واحد من آحاد تلك الجملة ، وكل ما كان مغايرا لجملة الممكنات ، وكان مغايرا لكل واحد من آحاد الممكنات ، فهو ليس بممكن ، وكل موجود (ليس ممكنا ، فهو) (٧) واجب لذاته (وهو المطلوب) (٨) ، فثبت. بهذا الطريق : وجوب انتهاء جملة الممكنات إلى موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب ، ويظهر من هذا البيان : أنه يمكن ذكر هذا البرهان من غير أن يحتاج فيه إلى تلك التقسيمات الكثيرة التي ذكرناها (٩).

البرهان الثالث : إذا فرضنا الأسباب والمسببات متسلسلة ، إلى غير

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) بحسب كونها تلك الجملة (س).

(٥) وبحسب كل (س).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

(٩) ذكروها (ز).

النهاية ، فالموجود هناك ليس إلّا آحاد تلك الذوات ، وإلّا كون بعضها متعلقا بالبعض ، أما آحاد الذوات ، فهي بأسرها ممكنة الوجود ، فلو دخلت في الوجود من غير مؤثر يؤثر فيها ، كان هذا قولا بوقوع الممكن (لا) (١) لمؤثر ، وهو محال ، وأما تعلق بعضها بالبعض فهي أحوال اعتبارية عارضة لتلك الذوات ، والعارض للشيء مفتقر إلى المعروض ، ومعروضات هذه الأحوال ليست إلا تلك الآحاد ، وهي بأسرها ممكنة ، فهذه الأحوال الاعتبارية والإضافية مفتقرة إلى أمور هي ممكنة الوجود ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالامكان ، فهذه الأحوال الاعتبارية بأسرها ممكنة الوجود ، إذا عرفت هذا فنقول : إن تلك الآحاد بأسرها ممكنة الوجود لذواتها ، واستناد بعضها إلى بعض أحوال اعتبارية عارضة لتلك الآحاد ، وهي بأسرها أيضا ممكنة (الوجود) (٢) فجملة هذه الموجودات ممكنة الوجود في ذواتها ، وممكنة الوجود في جميع اعتباراتها ، والممكن لا بدّ له من مؤثر (يؤثر فيه ، ويجب كون ذلك المؤثر مغايرا لها ، على ما ثبت أن كل ممكن فلا بد له من مؤثر) (٣) فيثبت أن جملة هذه الممكنات مفتقرة إلى مؤثر (مغاير لها ، والمغاير لكل الممكنات لا يكون ممكنا ، فثبت افتقار جملة الممكنات إلى) (٤) موجود يؤثر فيها ويكون (٥) ذلك مغايرا لمجموعها ، ولكل واحد من آحادها ، وذلك هو الموجود الواجب لذاته ، وهو المطلوب.

البرهان الرابع : إنا إذا اعتبرنا هذا المعلول الآخر (ثم اعتبرنا علته) (٦) ثم اعتبرنا علة علته إلى ما لا نهاية له ، فهذه جملة. فإذا حذفنا من هذا الجانب المتناهي عشر مراتب ، واعتبرناها بعد حذف هذه العشرة عنها ، كانت جملة أخرى. ثم طبقنا في الوهم كل واحد من آحاد إحدى الجملتين ، على واحدة

__________________

(١) الممكن المؤثر (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

من آحاد الجملة الأخرى ، بحسب مراتب التطبيق. والمراد من قولنا بحسب مراتب التطبيق : أن الأخير من هذه الجملة بتقابل بالأخير من الجملة الثانية ، والثاني من هذه الجملة ، يتقابل بالثاني من تلك الجملة ، والثالث من هذه بالثالث من هذه ، وقس على هذا الترتيب فنقول: إما أن يظهر التفاوت بين الجملتين أو لا يظهر (فإن لم يظهر) (١) ، لزم كون الزائد مساويا للناقص ، وهو محال. وإن ظهر التفاوت فذلك التفاوت ، إما أن يظهر من الجانب الذي يلينا ، وهو محال. لأنا فرضنا التطبيق بحسب مراتب الأعداد حاصلا من هذا الجانب ، فوجب أن يظهر التفاوت من الجانب الآخر ، وذلك يوجب التناهي من الطرف الآخر. وذلك يمنع من القول بكونها أمورا غير متناهية ، فإن قالوا : هذا الدليل يوجب على الفلاسفة أن يحكموا بتناهي الحوادث ، وأن يحكموا بتناهي (أعداد النفوس الناطقة ، مع أنهم لا يقولون بها. فنقول : الفرق بين هذه المسألة ، وبين) (٢) هاتين الصورتين قد ذكرناه في باب تناهي الأبعاد.

البرهان الخامس : إذا فرضنا موجودا واحدا من الممكنات ، فهو مع جملة علله أعداد غير متناهية ، ثم إذا اعتبرنا واحدا آخر فهو أيضا مع جملة علله أعداد أخرى غير متناهية ، وإذا كان كذلك فعدد الجملتين أكثر لا محالة من عدد الجملة الواحدة ، وكل ما كان أقل من غيره ، فهو متناه فعدد الجملة الواحدة متناه ، وقد فرضناه غير متناه. هذا خلف.

البرهان السادس : إن المعلول الآخر له علة ، ولعلته علة ، فالمعلول الآخر خاصيته أنه معلول ، وليس بعلة ، والعلة الأولى لو حصلت ، لكان خاصيتها أنها علة ، وليست بمعلولة، وأما المتوسطات فهي مشتركة في صفة واحدة ، وهي كون كل واحدة منها علة لما تحتها ، ومعلولا لما فوقها. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو فرضنا ذهاب العلل (والمعلولات) (٣) إلى غير النهاية ، لكان الكل في حكم الوسط ، ولم يحصل لشيء منها خاصية الطرق البتة ، ثم نقول:

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

هذا الوسط إن استند إلى شيء ليس له خاصية الوسط ، فذاك هو المطلوب ، وإن لم يستند إلى شيء بهذه الصفة ، كان الوسط غنيا عن الاستناد إلى الطرف ، وما لم يستند إلى غيره فهو طرف وليس بوسط ، فالوسط ليس بوسط ، وإذا كان كذلك فعلّة المعلول الآخر وجب أن لا تستند إلى غيرها ، لأن التقدير (تقدير) (١) الوسط لا يجب استناده إلى غيره ، وإذا كانت هذه العلة غنية عن الاستناد إلى شيء ثالث ، كانت ظرفا ، فكانت واجبة الوجود لذاتها ، فيثبت أن نفي الطرف يوجب إثباته ، فوجب أن (يكون) (٢) هذا النفي باطلا ، وأن يكون إثبات طرف الممكنات أمرا واجبا ، وهو المطلوب.

البرهان السابع : أن نقول : إنا قد بينا في باب خواص الواجب والممكن أن الممكن لذاته ، ما لم يصر واجب الوجود عن سببه ، امتنع أن يدخل في الوجود ، وإذا كان كذلك كانت ضرورة الممكن لذاته أمرا واجبا لا يحصل له أمر إلّا بتبعية الغير ، إذا عرفت هذا فنقول : لو فرضنا أسبابا ومسببات لا نهاية لها ، لكان وجوب كل واحد منها تابعا ، لا أصليا ، إذ لو فرضنا واحدا منها يكون أصليا في الوجود ، لكان ذلك الواحد واجبا لذاته ، وقد فرضنا أنه ليس كذلك ، وإذا كانت وجوباتها بأسرها تابعة لوجوب شيء آخر ، فلا بد من متبوع ، لأن حصول التابع من حيث هو تابع بدون المتبوع محال ، فيثبت أنه لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون واجب الوجود ، على سبيل الأصالة ، لا على سبيل التبعية (للغير) (٣) وكل ما كان كذلك فهو واجب الوجود لذاته ، فيثبت أنه لا بد في الموجودات من موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب. فهذه جملة البراهين المعتبرة في إبطال التسلسل (وبالله التوفيق) (٤).

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

الفصل الحادي عشر

في

إبطال التسلسل سوى ما تقرر ذكره

اعلم أنا في الفصل المتقدم إنما افتقرنا إلى إبطال التسلسل ، لأنا جوزنا أن تكون علة وجود الممكن ممكنا آخر ، فلما جوزنا هذا في الجملة افتقرنا إلى إبطال التسلسل ، ومن الناس من يقول : إن ما كان ممكن الوجود لذاته ، فإنه لا يصلح للعلية والتأثير ، واحتجوا على صحة هذه المقدمة بوجوه : ـ

الحجة الأولى : إن الممكن هو الذي ماهيته مقتضية لقبول الوجود والعدم ، وثبت أن ماهية الممكن علة لهذه القابلية ، فلو كانت مؤثرة في وجود شيء آخر ، لكانت الماهية الواحدة مقتضية للقبول وللتأثير ، فيكون الواحد صدر عنه أكثر من الواحد ، وذلك باطل للوجوه التي يذكرها الفلاسفة ، في أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد (فإن) (١) ، قالوا : لم لا يجوز أن يقال (إن ذلك) (٢) الممكن المؤثر (٣) في وجود الغير تكون ماهيته مركبة ، وهو بأحد الجزءين يقتضي القبول ، وبالجزء الثاني (٤) يقتضي التأثير؟ فنقول : فعلى هذا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) المعتبر (س).

(٤) الآخر (س).

التقدير الجزء الذي يقتضي القابلية ليس بمؤثر ، والجزء الذي يقتضي التأثير ليس بممكن ، فالذي هو ليس (١) بممكن ليس بمؤثر ، والذي هو مؤثر ليس بممكن ، وهو المطلوب.

الحجة الثانية : إن الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر ، فإما أن يكون علة الحاجة إلى مؤثر مبهم لا بعينه ، وإما أن يكون علة الحاجة إلى مؤثر متعين في نفسه ، والأول باطل ، لأن غير المعين من حيث إنه غير معين لا وجود له في الخارج ، لأن كل ما كان موجودا في الخارج فهو معين ، فما لا يكون معينا يمتنع أن يكون موجودا في الخارج ، وكل ما لا يكون موجودا في الخارج امتنع تحقق الحاجة إليه في الخارج ، ولما بطل هذا القسم ، ثبت أن ماهية الإمكان ، علة للحاجة إلى شيء معين ، وماهية الإمكان واحدة ، من حيث إنها ماهية الإمكان ، فوجب احتياج الممكنات إلى ذلك المعين ، لأن التساوي في العلة ، يوجب التساوي في المعلول. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان ذلك الشيء المعين ممكنا في نفسه ، لزم كونه محتاجا إلى نفسه ، وكونه علة لنفسه. وذلك محال. فثبت أن جميع الممكنات محتاجة إلى شيء واحد بعينه وثبت أن ذلك الشيء (٢) المعين يمتنع كونه ممكنا في نفسه ، والموجود الذي لا يكون ممكن الوجود لذاته ، يكون واجب الوجود لذاته. فثبت أن جميع الممكنات مستندة إلى موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : الإمكان علة للحاجة إلى السبب من حيث (إنه سبب ، والأسباب الكثيرة إذا أخذت من حيث) (٣) إنها أسباب ، كان المفهوم من مجرد كونها أسبابا مفهوما واحدا. والإمكان ، وإن كان مفهوما واحدا إلا أنه يحوج إلى السبب من حيث إنه سبب (٤) ، فلم يلزم إسناد كل الممكنات إلى سبب واحد؟ قلنا : السبب إما أن تعتبر ذاته المخصوصة ، أو يعتبر مجرد كونه سببا ومؤثرا في الغير ، أما الاعتبار الثاني (فمن

__________________

(١) فالذي هو ممكن (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) حيث انتهت.

المستحيل) (١) أن يكون الإمكان سببا للحاجة إليه (٢) ، ويدل عليه وجهان : ـ

الأول : إن المفهوم من السبب حالة ، نسبية إضافية. والأحوال النسبية تكون من اللواحق والعوارض (وكل ما كان من اللواحق والعوارض) (٣) فهو معلول ، وكونه سببا ومؤثرا ، معلول فيعود الإلزام فيه.

الثاني : إنا (قد دللنا على أن السبب لا يوجب المعلول من حيث إنه سبب ومؤثر ، لأن السببية والمؤثرية) (٤) من مقولة المضاف والمضافات معا ، فالسببية والمؤثرية متأخرة بالرتبة عن ذات الأثر ، فيمتنع كونها مؤثرة في ذات الأثر ، بل المؤثر في ذات المعلول إنما هو الذات المخصوصة التي للسبب ، وإذا كان كذلك كان الإمكان علة للحاجة إلى تلك الذات المخصوصة ، وعلة للاستناد إلى تلك الذات المخصوصة ، وحينئذ يجب أن يكون كل ممكن مستندا إليه. وهذا برهان حسن في إثبات واجب الوجود.

الحجة الثالثة : إن كل ممكن فهو مركب ، ولا شيء من المركب بمؤثر ، ينتج لا شيء من الممكن بمؤثر. إنما قلنا : إن كل ممكن مركب ، فلأن كل ممكن ، فإنه لا بد وأن يصح الوجود والعدم على ماهيته ، وكل ما كان كذلك فإن وجوده عين ماهيته ، فالموجود الممكن يجب كونه مركبا من الماهية والوجود ، وإنما قلنا : إن المركب لا يكون مؤثرا ، وذلك لأنه لو كان مؤثرا. كان إما أن يكون كل واحد من جزئيه مستقلا بالتأثير ، أو يكون أحدهما مستقلا بالتأثير دون الآخر ، أو لا يكون واحد منهما مستقلا بالتأثير ، فإن كان الأول لزم اجتماع العلتين المستقلتين ، على الأثر الواحد ، وهو محال ، وإن كان الثاني كانت العلة ليست إلا الجزء الواحد ، فلم تكن العلة مركبة ، وإن كان الثالث ، فنقول : لما

__________________

(١) من (ز).

(٢) سبب البتة (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

كان كل واحد من الجزءين ليس له أثر أصلا ، فهذه الأجزاء عند اجتماعها ، إما أن يقال : إنها بقيت كما كانت قبل الاجتماع ، أو ما بقيت كذلك ، بل حدث بسبب الاجتماع حالة زائدة ، فإن كان الأول يجب أن يبقى المجموع عند الاجتماع غير مؤثر (١) ، كما أنها كانت قبل الاجتماع غير مؤثرة ، وإن كان الثاني وهو أنه حدث عند الاجتماع أمر زائد ، فنقول : المقتضى حدوث هذه الحالة الزائدة. إن كان كل واحد من تلك الأجزاء ، فحينئذ يعود ما ذكرنا من اجتماع المؤثرات المستقلة على الأثر الواحد ، وإن كان المقتضى لها أحد تلك الأجزاء بعينه ، فحينئذ يكون الموجب والمؤثر هو ذلك المفرد فقط ، وإن كان المقتضى لحدوث تلك الحالة الزائدة هو المجموع عاد التقسيم الأول فيه ، وهو أنه هل حدث عند الاجتماع حالة زائدة ولو إلى غير نهاية؟ وهو محال ، وقد لا يظن توجيه النقوض على هذه الحجة ، إلا أن التأمل التام يدل على أنها ليست صحيحة (وبالله الهداية والإرشاد) (٢).

__________________

(١) عند الاجتماع مؤثر (س).

(٢) من (ز).

الفصل الثاني عشر

في

إيراد سؤال على القائل المذكور في إثبات

واجب الوجود لذاته ، وتحقق الجواب

الحق عنه

اعلم أن الدليل الذي ذكرناه هو أنا قلنا : لا شك في وجود موجود. وذلك الموجود ، إن كان واجبا لذاته ، فهو المطلوب ، وإن كان ممكنا لذاته ، افتقر إلى مرجح (وذلك المرجح) (١) يجب أن يكون موجودا معه ، ثم ذلك الموجود الآخر إن كان ممكنا ، عاد الكلام فيه ، والدور والتسلسل باطلان ، فلا بد من الانتهاء إلى موجود (واجب الوجود) (٢) لذاته، وهو المطلوب. إذا عرفت هذا ظهر أن هذا الدليل لا يتم إلا عند صحة مقدمات خمسة : ـ

أحدها : أن الممكن لا بد له من مرجح. وثانيها : أن العلة المؤثرة لا بد وأن تكون موجودة حال وجود المعلول. وثالثها : أن علة الموجود يجب أن تكون شيئا موجودا. رابعها : أن الدور باطل (وخامسها : أن التسلسل باطل. وعند صحة هذه المقدمات يجب الاعتراف) (٣) بوجود موجود واجب الوجود لذاته ، وهو المطلوب ، إذا عرفت هذا فنقول : لسائل أن يسأل فيقول : هذا الدليل منقوض بالحوادث اليومية ، وتقريره : أن هذه الحوادث اليومية إما أن تكون مفتقرة إلى المقتضى ، أو لا تكون مفتقرة ، فإن كان الحق

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

هو الثاني فقد حصل الممكن المحدث لا عن مؤثر ، وذلك يبطل قولكم : إن الممكن المحدث لا بدّ له من مرجح ، وإن كان الحق هو الأول ، وهو أن هذه الحوادث مفتقرة إلى المؤثر ، فنقول : ذلك المؤثر ، إما أن يكون محدثا أو قديما ، فإن كان محدثا ، فإما أن يقال : إن ذلك المحدث كان موجودا قبله ، بمعنى أن كل جزء من أجزاء هذه الحوادث ، فإنه معلول للجزء السابق عليه ، وإما أن يقال : إن ذلك المؤثر المحدث يكون موجودا مع هذا الأثر (أو لا يكون ((١) فإن كان الحق هو القسم الأول ، فقد جوزتم أن يكون المؤثر في وجود هذا الحادث شيئا كان موجودا قبل هذا الحادث ولم يبق معه ، وإذا جوزتم ذلك ، فجوزوا استناد كل ممكن إلى موجود آخر كان (موجودا) (٢) قبله ، ولم يبق معه ، لا إلى أول ، وعلى هذا التقدير فلا يمكنكم إثبات واجب الوجود لذاته ، ولا يمكنكم أن تقولوا : إن إثبات حوادث لا أول لها محال ، لأن هذا صريح قول الفلاسفة ، فكيف يمكنهم (٣) إنكاره؟ وإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن علة وجود هذا الحادث شيء آخر حدث معه ، فنقول : علة وجود هذا الحادث ، إما أن يكون هو الحادث الذي هو معلوله ، وإما أن يكون حادثا آخر ، والأول يوجب الدور ، والآخر (٤) يوجب التسلسل ، فثبت أنا إذا أسندنا هذه الحوادث إلى علل حادثة ، لزمنا هدم مقدمة من المقدمات المذكورة في أصل الدليل ، وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : المقتضى لحدوث الحوادث اليومية (٥) قديم أزلي ، فنقول : ذلك القديم إما أن يقال: إنه كان تاما في الأزل في جميع الأمور المعتبرة في تأثيره في هذا الحادث اليومي ، أو ما كان كذلك ، فإن كان الأول فنقول : فذلك المؤثر التام كان موجودا (قبل حدوث هذا الحادث مع أن هذا الحادث ما كان موجودا) (٦) وقد وجد الآن مع وجود هذا الحادث ، فاختصاص حدوث هذا الحادث بهذا الوقت ، مع أن نسبة ذلك المؤثر التام إلى الوقتين على السوية ، يكون (ذلك) (٧) رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) يمكنكم (س).

(٤) والثاني (س).

(٥) الحادث اليومي (ز).

(٦) من (ز).

(٧) من (س).

وأما إذا قلنا : إن ذلك المؤثر ما كان تاما في جميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا في هذا الحادث ، ثم حدث مجموع تلك الأمور بحدوث ذلك المجموع. إن كان لا سبب. فقد وقع الممكن لا عن مرجح ، وإن كان عن سبب عاد التقسيم الأول فيه ، فيقتضي إما إلى إسناد المعلول الحاضر إلى علة سابقة ، وإما إلى وقوع الدور ، وإما إلى وقوع التسلسل ، فثبت أن حدوث هذه الحوادث اليومية ، يقتضي إفساد مقدمة واحدة من المقدمات المذكورة في ذلك الدليل. واعلم أن الفلاسفة أجابوا عن هذا السؤال بجواب يناسب مذهبهم ، والمتكلمون أجابوا عنه بجواب آخر يناسب مذهبهم.

أما الفلاسفة فقد قالوا : هذا إشكال قاهر قوي ، ولا جواب عنه إلا بحرف واحد ، وذلك الحرف إنما يستقيم على قولنا : إن كل حادث مسبوق بحادث آخر ، لا إلى أول ، وتقريره ، أن يقال : المؤثر في وجود هذه الحوادث موجود قديم أزلي ، إلا أن شرط فيضان هذا الحادث. عند زوال ذلك الحادث السابق. فكل حادث مسبوق بحادث آخر ، فإن انقضاء الحادث (المتقدم) (١) شرط في كون ذلك الموجود القديم علة لحدوث الحادث المتأخر. وعلى هذا الطريق قيل : كل حادث حادث لا إلى أول.

وأما المتكلمون فقالوا : هذا السؤال (إنما) (٢) صعب على الفلاسفة لأنهم جوزوا حدوث حادث قبل حادث ، لا إلى أول ، وأما نحن فلا نقول به ، وهو عندنا من المحالات ، وإذا كان كذلك وجب انتهاء الحوادث كلها إلى مؤثر قديم.

قال السائل الأول :

أما جواب الفلاسفة فضعيف. وبيانه من وجوه :

الأول : إن التقسيم الذي ذكرناه في السؤال لا يندفع بهذا الكلام ، لأنا قلنا : إن ذلك المؤثر القديم ، إما أن يقال : إنه كان تاما في الأمور المعتبرة في

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

كونه مؤثرا في وجود ذلك الحادث ، أو ما كان كذلك ، فإن كان الحق هو الأول ، فنقول : إن ذلك المؤثر التام كان حاصلا في الأزل ، وما ما كان هذا الحادث موجودا ، ثم حدث هذا الحادث بعد ذلك ، مع أنه لم يتغير أمر من الأمور المعتبرة (في حدوث هذا الحادث) (١) البتة ، فحينئذ يلزم رجحان الممكن لا لمرجح ، وأما القسم الثاني : وهو أن كل الأمور المعتبرة في كون ذلك القديم علة لهذا الحادث (ما) (٢) كان موجودا في الأزل ، ثم إنه حدث ذلك المجموع ، فحدوث ذلك المجموع ، إما أن يكون لا لسبب أو يكون لسبب سابق ، أو يكون عليّة معلول ، وهو الدور ، أو يكون عليّة حادث آخر ، وهو التسلسل فيثبت أنه لا بد في الجواب من التزام أحد هذه الوجوه الأربعة ، وعلى كل التقديرات فإنه يفسد مقدمة من المقدمات المعتبرة في أصل ذلك الدليل.

والوجه الثاني في بيان ضعف هذا الجواب : إن تلك العلة القديمة حال ما كان الحادث المتقدم موجودا. إما كانت مؤثرة في وجود الحادث المتأخر ، ثم بعد انقضاء الحادث المتقدم ، صار مؤثرا في وجود الحادث المتأخر؟ فيكون ذلك الموجود القديم ، ثمّ مؤثرا في وجود هذا الحادث المتأخر حكم حادث ، فإن لم يفتقر إلى المؤثر ، فقد فسد قولكم : الحادث لا بد له من مؤثر ، وإن افتقر إلى المؤثر فالمؤثر فيه ، إن كان هو وجود الحادث المتقدم ، فقد أسندتم المتأخر : إلى (عدم) (٣) المتقدم ، وإن أسندتموه إلى معلوله لزم الدور، وإن أسندتموه إلى حادث آخر ، لزم التسلسل ، والكل يهدم دليلكم.

الوجه الثالث في بيان ضعف هذا الجواب : أن نقول الحادث المتقدم ، إما أن يكون فناؤه وانقضاؤه لذاته أو لغيره ، فإن كان الأول كان ممتنع الوجود لذاته ، فوجب أن لا يوجد البتة ، وإن كان الثاني فليس هاهنا سبب يزيله ويوجب عدمه ، إلا طريان (الحادث المتأخر فعلى هذا يكون زوال المتقدم موقوفا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

على طريان) (١) هذا الحادث المتقدم ، (وأنتم جعلتم فيضان هذا الحادث المتأخر عن العلة القديمة مشروطا باقتضاء الحادث) (٢) وذلك يوجب الدور ، فيثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن الجواب الذي عوّل الفلاسفة عليه في دفع هذا الإشكال ضعيف.

وأما جواب المتكلمين. فهو أيضا ضعيف لوجوه :

الأول : إن صحة حدوث الحوادث ، إما أن يكون لها أول ، (وإما أن لا يكون لها أول) (٣) فإن كان لها أول ، فقد كان قبل حضور ذلك (المبدأ) (٤) ممتنعا لذاته ، ثم انقلب ممكنا لذاته ، وهذا محال ، وبتقدير تسليمه فاختصاص هذا الانقلاب بذلك المبدأ يكون رجحانا للممكن لا لمرجح ، وأما إن قلنا : إنه لا بذاته لصحة حدوث الحوادث ، فحينئذ سقط قولكم : إن حدوث حوادث لا أول لها : محال.

والوجه الثاني في بيان ضعف هذا الجواب : إن المؤثر القديم ، هل كان مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا في وجود العالم ، أو ما كان كذلك؟ فإن كان الأول فحينئذ مع حصول كل تلك الأمور في الأزل ، ما كان العالم حاصلا في الأزل ، ثم حصل فيما لا يزال ، فقد وقع الممكن ، لا عن مرجح ، وإن كان (الثاني) (٥) فمجموع الأمور المعتبرة في المؤثرية : حكم حادث. ويعود التقسيم فيه.

فهذا جملة الكلام في تقرير هذا السؤال (الهائل) (٦) : والجواب عنه.

أما الفلاسفة فقد أجابوا عنه : بأن غاية هذا السؤال : أن كون المؤثر القديم مؤثرا في وجود هذا الحادث ، حكم حادث فلا بد له من سبب ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

فنقول : مؤثرية المؤثر في الأثر (١) ليس موجودا زائدا ، وإلا لكان ممكنا ، ولكان مفتقرا إلى المؤثر ، فحينئذ يلزم افتقاره إلى مؤثر آخر ، وهو (محال) (٢) ، فيثبت أن المؤثرية ليست موجودا حادثا ، فلم يلزم افتقاره إلى السبب ، وأما جواب المتكلمين فالبحث المستقصى عنه مذكور في مسألة القدم والحدوث (وبالله التوفيق) (٣).

__________________

(١) الأثر في المؤثر (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

الفصل الثالث عشر

في

حكاية شبهات من يقدح في إثبات

واجب الوجود لذاته

الشبهة الأولى : لو حصل في الوجود موجود واجب الوجود لذاته ، لكان ذاتا قائما بالنفس ، وكل ذات فإنه يساوي سائر الذوات في كونه ذاتا ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن الوجود لذاته ، فواجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته. هذا خلف فيفتقر إلى تقرير هذه المقدمات : ـ

أما المقدمة الأولى : فهي أنه لو وجد موجود واجب الوجود لذاته ، لكان ذاتا ، والدليل عليه : أنه لو وجد واجب لذاته ، لكان موجودا مستقلا بنفسه قائما بذاته ، ولا معنى للذات إلا ذاك.

وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا : كل ذات فإنها تساوي سائر الذوات ، في كونها ذوات ، والدليل عليه وجهان :

الأول : إن الذات يمكن تقسيمها إلى الواجب ، وإلى الممكن ، والمقارن (١) فمورد التقسيم مشترك بين الأقسام.

والثاني : إنا إذا اعتقدنا ذاتا ، وشككنا بعد ذلك في أن تلك الذات واجبة ، أو ممكنة ، وجسمانية أو مفارقة. فإن شكنا في هذه الأمور ، لا يزيل

__________________

(١) والمقارن (ز).

عنا اعتقاد كونه ذاتا. فعملنا : أن المفهوم من كون الذات ذاتا : مفهوم مشترك بين كل الأقسام.

وأما المقدمة الثالثة : فهي قولنا : الذوات لما تساوت بأسرها في الذاتية ، كانت الذوات بأسرها ممكنة ، والدليل عليه : أن حكم الشيء حكم مثله ، فلما تساوت الذوات (بأسرها) (١) في الذاتية ، وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، وإذا كان كذلك كان اختصاص ما به حصل الامتياز بينه وبين الممكنات ، أمرا جائزا للزوال ، ومتى كان الأمر كذلك كان ممكنا لذاته لا واجبا لذاته.

الشبهة الثانية : قالوا : لو فرضنا موجودا واجب الوجود لذاته ، لكان ذلك (٢) الوجود إما أن يكون تمام ماهيته (أو جزء ماهيته) (٣) أو مفهوما خارجا عن ماهيته ، والأول محال لوجوه :

الأول : إن المفهوم من الوجوب الذاتي معلوم ، والحقيقة المخصوصة التي لتلك الذوات غير معلومة ، والمعلوم مغاير لغير المعلوم (٤).

الثاني : إنا إذا قلنا : واجب الوجود ، لم يفد شيئا ، وإذا قلنا : إن الذات الفلانية واجبة الوجود ، كان الكلام مفيدا.

الثالث : إن أهل المنطق قالوا : وجوب الوجود جهات ، ومعناه : أنه لا بد في القضية من موضوع ومن محمول ومن رابطة. ومعناه : اتصاف ذلك الموضوع بذلك المحمول ، ثم إن الوجوب والامتناع كيفيات عارضة لهذه الرابطة ، وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : بأن الوجوب تمام تلك الماهية.

__________________

(١) واجب الوجود (ز).

(٢) من (ز).

(٣) المفهوم الذاتي (ز).

(٤) من المعلوم (س).

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الوجوب الذاتي جزء من أجزاء تلك الماهية ، فهذا أيضا باطل ، لأن على هذا التقدير يكون واجب الوجود مركبا (١) ، وكل مركب ممكن، ينتج أن واجب الوجود لذاته ممكن (الوجود) (٢) لذاته ، وهو محال.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : وجوب الوجود صفة خارجة عن الذات فنقول: هذا أيضا باطل ، لأن كل ما كان صفة خارجة عن الذات لاحقة لها فهو مفتقر إلى تلك الماهية ، وكل ما كان مفتقرا إلى غيره (٣) فهو ممكن لذاته ، فالوجوب بالذات ممكن بالذات ، وكل ما كان ممكنا بذاته ، فإنه لا يجب إلا بوجوب علته ، فقبل هذا الوجوب وجوب آخر ، وذلك (يوجب) (٤) الذهاب إلى ما لا نهاية له. فثبت أن هذه الأقسام الثلاثة : (باطلة) (٥).

الشبهة الثالثة : لو وجد موجود واجب الوجود لذاته ، لكان إما أن يكون وجوده نفس ماهيته ، أو مغايرا لها. والأول باطل ، لأنه لو كان وجوده نفس ماهيته ثم إن ماهيته مخالفة لماهية سائر الماهيات ، ولجميع صفات تلك الماهيات ، فيلزم أن يكون لفظ الموجود واقعا عليه وعلى غيره ، لا بحسب مفهوم واحد ، وقد ثبت أن ذلك باطل. والثاني أيضا باطل ، لأن بتقدير أن يكون الوجود صفة قائمة به ، كانت مفتقرة إلى ذلك الموصوف ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا بد له من علة ، ولا علة له إلا تلك الماهية ، فتكون علة ذلك الموجود ، هو تلك الماهية ، لكن كل علة فهي متقدمة على معلولها بوجودها ، فيلزم كون تلك الماهية متقدمة بوجودها على وجودها ، فيلزم أن يكون ذلك الوجود متقدما على نفسه ، وهو محال.

__________________

(١) ممكنا (س).

(٢) من (ز).

(٣) إليه فهو (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

الشبهة الرابعة : لو وجد واجب الوجود (لذاته) (١) لكان مركبا ، وهذا محال فذاك محال. بيان الملازمة : أن واجب الوجود ، يجب أن يكون وجوده (٢) مغايرا لذاته ، بدليل أنه يصح أنه واجب الوجود لذاته ، والوصف مغاير للموصوف ، وإذا كان كذلك ، فواجب الوجود عبارة عن مجموع تلك الذات (مع تلك الصفة) (٣) وكل مركب ممكن فواجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته ، وهو محال.

الشبهة الخامسة : لو حصل واجب الوجود لذاته ، لكان مفتقرا في دوام وجوده إلى المدة والزمان ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته.

بيان الأول : أن واجب الوجود لذاته لا بد وأن يكون دائم الوجود ، والمقول من الدائم (٤) ما يكون موجودا فيما مضى وفي الحاضر وفي المستقبل ، ولكن الوجود في الماضي والحاضر والمستقبل مشروط بوجود الماضي والحاضر والمستقبل ، لأن كون الشيء [مظروفا لشيء] (٥) مشروط بوجود ذلك الظرف ، فيثبت أن دوام (٦) الوجود لا يتقرر إلا مع المدة والزمان ، لا يقال : إنا لا نقول : إن واجب الوجود لذته موجود الآن وفي الماضي والمستقبل. بل نقول : إنه موجود لا يقبل العدم ، ولا نزيد على ذلك. لأنا نقول : لا عبرة في هذا الباب ، بأن يذكر هذا القول باللسان [أو لا يذكر] (٧) وإنما العبرة بالعقل ، ونحن نعقل (٨) بالضرورة أن الشيء الذي يصح حكم العقل عليه بأنه ما كان موجودا في الماضي ، وهو غير موجود في الحال الحاضر ، ولا يكون موجودا في المستقبل ، فإنه يكون معدوما محضا ، ونفيا صرفا.

وإنما قلنا : إن افتقار واجب الوجود لذاته ، إلى المدة والزمان محال لوجهين : ـ

الأول : إن كل مفتقر إلى الغير فهو ممكن لذاته. والثاني : إن الزمان

__________________

(١) من (ز).

(٢) وجوبه (س).

(٣) من (س).

(٤) الدوام (س).

(٥) من (س).

(٦) ذات (س).

(٧) من (ز).

(٨) نعلم (ز).

مركب من أجزاء متعاقبة منقضية ، فيكون ممكنا لذاته ، فالمفتقر في وجوده إليه أولى بالامكان (فهذا تمام الكلام في الشبهات المذكورة في هذا الباب) (١).

والجواب عن الشبهة الأولى : أن نقول : أما قوله (٢) «لو وجب واجب الوجود لذاته ، لكانت ذاته مساوية لسائر الذوات ، في كونه ذاتا» فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن كونه ذاتا ، معناه أنه مستقل بنفسه ، ومعنى الاستقلال أنه لا حاجة به إلى الغير؟ وهذا المعنى مفهوم سلبي (٣) ، وهو صفة مشتركة (٤) فيما بين الحقائق المختلفة التي هي الذوات المخصوصة ، وتحقيق الكلام : أن الماهيات المختلفة لا يمتنع اشتراكها في لوازم متساوية (وأما الماهيات المتساوية فإنه يمتنع اختلافها في الصفات اللازمة. والذي يحقق ما ذكرناه : أنه) (٥) كما يصح تقسيم الذوات إلى الواجب وإلى الممكن (٦) ، فكذلك يصح تقسيم الصفات إلى الصفات ، التي تكون من الممكنات ، وإلى الصفات التي تكون من الكيفيات ، وغيرها فيلزم أن تكون الصفات كلها متساوية ، وإذا كانت الذوات بأسرها متساوية ، وكانت الصفات كلها بأسرها متساوية ، فمن أين حصل الاختلاف؟

وأما الشبهة الثانية : وهي قوله : «لو حصل واجب الوجود ، لكان وجوده (٧) ، إما أن يكون تمام ذاته ، أو جزء ذاته ، أو خارجا عنه» فنقول : هذا بناء على أن الوجود مفهوم ثبوتي ، وهو ممنوع فلم لا يجوز أن يقال : إنه مفهوم عدمي؟ وبهذا التقدير لا يصح ما ذكرتموه من التقسيم.

أما الشبهة الثالثة : وهي قوله : «وجود واجب الوجود ، إما أن يكون نفس حقيقته، أو مغايرا لحقيقته» فنقول : هذه المسألة ستأتي بعد ذلك على سبيل الاستقصاء.

وأما الشبهة الرابعة : وهي قوله : «لو وجد واجب الوجود لكان مركبا»

__________________

(١) من (ز).

(٢) قولكم (س).

(٣) نسبي (س).

(٤) تشترك في تأير الحقائق (س).

(٥) من (ز).

(٦) في أن الممكن كذلك (س).

(٧) وجوب (ز).

فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوجوب مفهوما ثبوتيا.

وأما الشبهة الخامسة : فجوابها : أنه لو افتقر الوجود (١) الدائم إلى مدة وزمان ، لكان ذلك الزمان دائما ، فكان يلزم افتقاره إلى زمان آخر ، ولزم التسلسل وهو محال (فهذا تمام الشبهات) (٢).

__________________

(١) الوجوب (ز).

(٢) من (ز).

الفصل الرابع عشر

في

بيان أن العالم المحسوس ليس

واجب الوجود لذاته.

اعلم أن الدليل الذي ذكرناه ، أفاد أنه حصل في الوجود موجود واجب الوجود لذاته فقط. فأما إنّ ذلك الواجب (شيء) (١) مغاير لهذا العالم المحسوس ، فذلك لا يحصل من ذلك الدليل ، بل يجب علينا إقامة الدلالة على أن هذا العالم المحسوس ممكن الوجود لذاته ، فحينئذ يحصل لنا بعد ذلك أنه لا بد من موجود آخر ، غير هذا العالم المحسوس ، يكون واجب الوجود لذاته ، ونقول : الذي يدل على أن هذا العالم المحسوس ، ممكن الوجود لذاته وجوه : ـ

(الحجة) (٢) الأولى : (إن كل جسم مركب من الهيولي والصورة ، (وكل مركب ممكن ، ينتج : أن كل جسم ممكن أما قولنا) (٣) كل جسم مركب من الهيولي والصورة (فقد تقدم ذكره في باب الهيولى والصورة) (٤) على سبيل الاستقصاء ، وأما قولنا : كل مركب فهو ممكن لذاته ، فتقريره : أن كل مركب فهو مفتقر (إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ، وكل مركب ممكن ، فهو مفتقر إلى غيره. فهو ممكن لذاته) (٥) فإن قالوا : لم لا يجوز

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) عبارة (س). هي : فتقريره : إن كل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ، فهو ممكن لذاته. فإن قالوا ... الخ.

أن يقال الجسم وإن كان ممكنا لذاته ، إلا أنه يجب لوجوب جزئه ، وهو الهيولي والصورة؟ أجاب الحكماء عنه : بأنه ثبت الدليل بأنه يمتنع خلو الهيولي عن الصورة ، ويمتنع خلو الصورة عن الهيولي ، فيثبت كونهما متلازمين (١) ، فنقول : هذا التلازم ، إما أن يكون بين ماهيتهما كما في المضافين أو بين وجوديهما. والأول باطل ، وإلا لامتنع أن نعقل أحدهما مع الذهول عن الآخر ، فكان يجب أن يفتقر في إثبات تلازمهما إلى برهان منفصل ولما بطل هذا ، ثبت أنهما متلازمين في الوجود ، ثم نقول يستحيل كون الهيولى علة للصورة ، لأن الهيولى من حيث هي هي قابلة للصورة ، فلو كانت مؤثرة فيها ، لكان الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا ، وهو محال ، ويستحيل كون الصورة علة للهيولى ، لأن الصورة حالة في الهيولى ، فتكون مفتقرة إليها ، والمفتقر إلى الشيء ، يمتنع كونه علة لوجوده ، فثبت أنه لا الهيولى علة لوجود الصورة ، ولا الصورة علة لوجود الهيولى ، وقد ثبت كونهما متلازمين في الوجود (وكل شيئين متلازمين في الوجود) (٢) لا في الماهية ولا يكون أحدهما علة للآخر ، فلا بد وأن يكونا معلولي علة واحدة ، إذ لو لم يكن كذلك لكان كل واحد منهما غنيا عن صاحبه ، وعن كل ما يفتقر إليه صاحبه (٣) وذلك يمنع من القول (بثبوت الملازمة) (٤) فثبت أن الهيولى والصورة معلولا علة منفصلة ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته ، فثبت أن الجسم كما أنه ممكن الوجود بحسب تمام ماهيته ، فهو أيضا ممكن الوجود بحسب كل جزء من أجزاء ماهيته (وذا تمام الكلام في هذا الدليل) (٥).

والاعتراض عليه : أن يقال : أما القول بأن الجسم مركب من الهيولى والصورة ، فقد سبق البحث فيه. (سلمنا ذلك ، لكن لا نسلم كون الهيولى

__________________

(١) كونها متلازمة (س).

(٢) من (س).

(٣) خاصيته (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

والصورة متلازمين ، والكلام على دلائلهم في إثبات هذا التلازم قد سبق) (١) سلمنا ذلك ، فلم لا يجوز كون الهيولى علة للصورة؟ قوله : «لأنها قابل والقابل لا يكون فاعلا» قلنا : الكلام في أن الشيء الواحد البسيط ، لا يكون قابلا وفاعلا معا ، سبق بالاستقصاء سلمنا ذلك ، فلم لا يجوز أن تكون الصورة علة للهيولى؟ قوله : «الصورة مفتقرة إلى الهيولى والمفتقر إلى الشيء لا يكون علة له» ، قلنا : قد أجبنا عن هذا الحرف في باب مباحث الهيولى والصورة سلمنا أنه لا يجوز أن يكون واحد منهما علة للآخر ، فلم قلتم بأنه لما كان (الأمر) (٢) كما ذكرتم وجب كونهما معلولي علة منفصلة؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن المضافين كما تلازما في الماهية لذاتيهما ، من غير أن يكون لأحدهما تقدم على الآخر (البتة ، فكذلك الهيولى والصورة تلازما في الوجود لذاتيهما ، من غير أن يكون لأحدهما تقدم على الآخر البتة) (٣)؟ ثم نقول : قولكم إنهما تلازما لكونهما معلولي علة واحدة : كلام ضعيف. وبيانه من وجهين : الأول : إن عندكم أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وعلى هذا التقدير يمتنع كونهما معلولي علة واحدة (دفعة واحدة) (٤) ، بل يجب كون أحدهما واسطة بين العلة وبين الثاني ، وحينئذ يرتفع القول بكون أحدهما علة للثاني من بعض الوجوه.

الثاني : إنكم زعمتم بأن الصورة شريكة للعلة في المؤثرية (٥) ، ولا معنى لهذا الشريك ، إلا ما يكون جزء العلة ، والدليل الذي ذكرتم في إبطال كون الصورة علة للهيولى قائم بعينه في إبطال كون الصورة جزء لعلة الهيولى وهذا تمام القول في هذا الباب.

الحجة الثانية للفلاسفة في إثبات كون الأجسام ممكنة الوجود لذواتها :

قالوا : كل جسم فإن وجوده غير ماهيته وكل ما وجوده غير ماهيته ، فهو ممكن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) للعلة المؤثرة (ز).

الوجود لذاته ، ينتج : فكل جسم ممكن الوجود لذاته. أما الصغرى : وهي قولنا : كل جسم، فإن وجوده غير ماهيته ، فالكلام المستقصى فيه ، قد سبق في باب الوجود وأما الكبرى : وهي أن كل ما وجوده غير ماهيته فهو ممكن الوجود لذاته ، فالدليل عليه أن ذلك الوجود ، إما أن يكون غنيا عن تلك الماهية ، وإما أن يكون محتاجا إليها ، فإن كان الأول لزم أن لا يكون ذلك الوجود عارضا لتلك الماهية (بل يكون وجودا قائما بنفسه ، لا تعلق له بتلك الماهية ، لكنا فرضنا أن ذلك الوجود عارض لتلك الماهية (١) وإن كان الثاني فنقول: كل ما كان محتاجا إلى الغير فهو ممكن لذاته (وكل ممكن لذاته) (٢) لا بد له (من سبب (٣)) ، وذلك السبب إما (تلك) (٤) الماهية أو غيرها ، لا جائز أن يكون السبب هو تلك الماهية ، لأن كل علة فهي متقدمة بوجودها (عل المعلول ، فلو كانت الماهية علة لوجود نفسها ، لكانت تلك الماهية متقدمة بوجودها) (٥) على وجود نفسها ، وذلك محال ، فبقي أن يكون سبب ذلك الوجود شيئا غير تلك الماهية ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن (الوجود) (٦) لذاته (مفتقر في الوجود إلى غيره ، فيثبت أن كل جسم فوجوده غير ماهيته ، وثبت أن كل ما كان كذلك فهو ممكن الوجود لذاته) (٧) ، ينتج أن كل جسم فهو ممكن الوجود لذاته واعلم أن الكلام في أنه هل يعقل أن تكون ماهية الشيء علة لوجود نفسه؟ سيأتي بالاستقصاء (٨) في باب : إن وجود الله ، هل هو نفس ماهيته أم لا؟

الحجة الثالثة في بيان أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : إن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا ، والأجسام ليست واحدة ، فواجب الوجود لا يمكن أن يكون جسما ، فالجسم لا يمكن أن يكون واجب الوجود (لذاته ، أما بيان أن واجب الوجود يمتنع أن يكون أكثر من واحد ، فالدليل عليه سيأتي في

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) بالتفصيل (س).

باب إثبات أن واجب الوجود) (١) لذاته واحد ، وأما بيان أن الأجسام ليست واحدة بل كثيرة ، فهذا أمر مشاهد ، فلا حاجة في إثباته إلى الحجة. واعلم أن المباحث على الدليل المذكور ، في أن واجب الوجود يمتنع أن يكون أكثر من واحد كثيرة ، وهي مذكورة في موضعها (اللائق بها) (٢).

الحجة الرابعة في بيان أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : إن الأجسام متساوية في الجسمية ، ومتباينة في التعين ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، وكل واحد منها مركب من الجسيمة التي بها يشارك سائر الأجسام ، ومن التعين الذي به يمتاز عن سائر الأجسام. إذا ثبت هذا فنقول : إما أن تكون الجسمية مستلزمة لذلك التعيين ، وإما أن يكون ذلك التعين مستلزما للجسمية ، وإما أن لا يكون كل واحد منهما مستلزما للآخر. والأول باطل ، وإلا لزم أن يكون كل جسم موصوفا بذلك التعيين ، فيكون كل جسم ذلك المعين ، هذا خلف. والثاني أيضا باطل ، وذلك لأن تعين ذلك الجسم نعت من نعوته ، وصفة من صفاته ، ونعت الشيء يفتقر إلى ذلك الشيء ، والمفتقر إلى الشيء لا يكون علة له ، فثبت أنه لا الجسمية علة لذلك التعين ، ولا ذلك التعين علة للجسمية ، ولما بطل هذان القسمان وجب أن يكون اجتماع (هذين) (٣) القيدين معلول علة منفصلة ، وإذا كان (كذلك) (٤) وجب أن يكون كل جسم معين معلولا لعلة منفصلة ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته واعلم أن هذه الحجة ، مبينة على أن التعين مفهوم ثبوتي ، والكلام فيه قد تقدم في هذا الباب.

الحجة الخامسة في إثبات أن الأجسام ممكنة لذواتها : أن نقول : إن كل متحيز (٥) منقسم بالدلائل المذكورة في مسألة نفي الجزء الذي لا يتجزأ ، وكل منقسم فهو مركب ، وكل مركب فهو ممكن الوجود لذاته بالدليل الذي سبق

__________________

(١) م (ز).

(٢) من (ز).

(٣) أن يكون (س).

(٤) من (ز).

(٥) متحرك (س).

ذكره مرارا ، ينتج أن كل جسم ممكن (الوجود) (١) لذاته ، وفي كل واحد من هذه المقدمات (الثلاثة) (٢) مباحث عميقة.

الحجة السادسة في (٣) إثبات أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : أن نقول : لا شك أن ماهيات الأجسام قابلة للصفات والأعراض ، فهذه الماهيات مقتضية لهذا القبول ، فلو كانت مقتضية لوجوب الوجود أيضا ، لزم كون تلك الماهيات مقتضية لأمرين :

أحدهما : قبول الصفات. والثاني : وجوب الوجود. وهذا محال لما ثبت أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، وهذا الدليل مبني على أن القبول صفة وجودية (وعلى أن الوجوب صفة وجودية) (٤) وعلى أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

الحجة السابعة (في بيان أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها : أن تقول) : (٥) كل جسم فإنه يمتنع خلوه عن نقص (٦) في الأعراض ، وهي المقادير ، والحصول في الأحياز ، والمقتضى لحصول هذه الأعراض ليست هي الجسمية ، وإلا لزم مساواة (الجسمية) (٧) للأجسام في هذه الصفات ، فالمقتضى لها غير ذواتها. فنقول : الجسم ممتنع الخلو عن هذه الصفات ، وحصول هذه الصفات متوقف على الغير ، فالجسم ممتنع الخلو عما يفتقر إلى السبب المنفصل ، وما كان كذلك كان مفتقرا إلى سبب منفصل ، فيكون ممكنا لذاته. فهذا مجموع الطرق التي يقدر الفيلسوف على التمسك بها في إثبات أن الأجسام ممكنة الوجود لذواتها.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) في بيان (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) عن بعض الأعراض (س).

(٧) من (س).

الحجة الثامنة وهي طريقة المتكلمين : وذلك أنهم يقيمون الأدلة على أن الأجسام محدثة. ثم يقولون : وكل محدث فإنه ممكن الوجود لذاته. فهذه جملة الوجوه التي يمكن الرجوع إليها في إثبات كون الأجسام ممكنة الوجود لذواتها [وهاهنا آخر الكلام في شرح إثبات العلم بواجب الوجود ، بالاستدلال بإمكان الذوات ، والله ولي التوفيق] (١).

__________________

(١) من (ز).

الفصل الخامس عشر

في

إثبات إله العالم عزوجل بناء على التمسك

بامكان الصفات

اعلم : أن مدار هذا الدليل على إثبات أن الأجسام متساوية في تمام ماهياتها (١) ، وهذا مطلوب صعب الإلزام (٢). فإن لقائل أن يقول : كما أن الصفات متساوية في كونها صفات ، ثم إنها مختلفة بحسب ماهياتها المخصوصة ، مثل كونها سوادا وبياضا وحلاوة وحموضة ، فكذلك لا يبعد كون الأجسام [متساوية] (٣) في عموم الحجمية والتحيز ، ثم إنها تكون مختلفة بحسب ماهياتها المخصوصة ، فجسمية النار مخالفة لجسمية الأرض ، وجسمية كل واحد منهما مخالفة لجسمية الفلك ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، فإنه يلزم استواء الأجسام في عموم الجسمية استواؤها في ماهياتها المخصوصة ، والذي يقوي هذا السؤال : أن المقادير من باب الأعراض [عند الفلاسفة] (٤) ، والجسم عبارة عن الذات القابلة لهذه المقادير. وإذا ظهر هذا فنقول : حصل هاهنا أمور ثلاثة : المقبول وهو المقدار ، وكون ذات الجسم قابلة لذلك المقدار ، وهذه القابلية نسبة مخصوصة بين ذات القابل وبين هذا المقدار ، وتلك الذات المحكوم عليها بكونها قابلة لهذا المقدار. فنقول : أما المقادير فلا شك أنها

__________________

(١) الماهية (س).

(٢) المرام (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

ماهيات متساوية ، في كونها مقادير ، وأما كون ذوات الأجسام قابلة لهما. فهذا أيضا معقول مشترك فيها بين الكل ، إلا أنه ثبت في علوم العقل أن الأشياء المختلفة لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم ، فيمتنع كون ذات الأجسام مختلفة بحقائقها المخصوصة ، ومتباينة بماهياتها المعينة ، ومع ذلك فإنها تكون مشتركة في هذه القابلية ، فثبت بهذه [الدلالة] (١) أنه لا يلزم تساوي في الأجسام في القبول الذي هو الحجمية والمقدار ، وفي كونها بأسرها قابلة له ، وكون ذواتها المعينة وحقائقها المخصوصة متساوية. إذا عرفت هذا فنقول : المعلوم عندنا من الجسم أنه شيء يلزمه قبول المقادير الثلاثة ، فأما أن ذلك بحسب [ماهيته المخصوصة] (٢) ما هو؟ فغير معلوم عندنا ، وإن لم يكن معلوما عندنا لم نقدر على أن نحكم بمقتضى الفطرة الأصلية بكونها متماثلة ومختلفة. فيثبت بهذا البيان : ان إثبات كون الجسم متماثل في تمام حقائقه المخصوصة ، أمر في غاية الصعوبة. والذي حصلناه في هذا الباب : أن نقول : لا شك أن الأجسام متساوية في طبيعة الحجمية والمقدار ، وهذا القدر أمر معلوم (٣) بالبديهة ، ثم نقول : هذه الأجسام التي علمنا كونها متساوية في طبيعة الحجمية نعلم أيضا من حالها كون كل واحد منها مغاير للآخر ، ومخالفا له في تعينه الشخصي ، وهذا أيضا معلوم. ثم نقول : هذه الأشياء المتساوية في الحجمية ، المتباينة في التعين والتشخص ، إما أن تكون مختلفة بالماهية ، [أو لا تكون. فإن لم تكن مختلفة بالماهية] (٤) فحينئذ يصح قولنا : إن الأجسام متماثلة في تمام ماهياتها وحقائقها. وذلك هو المطلوب. وأما إن قلنا : إنها مختلفة بالماهية ، فنقول : فعلى هذا التقدير حصل الاستواء. بينهما في الحجمية ، والاختلاف في الحقيقة ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن تكون بحجميتها وبحيزها مغايرة لتلك الحقائق المخصوصة التي لأجلها حصل الاختلاف. فنقول : فعلى هذا التقدير ينقسم ذلك إلى ثلاثة أقسام ، لا مزيد عليها ، لأنه إما أن يقال:

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) مغاير (س).

(٤) من (س).

إن تلك الأمور التي حصل بها الاختلاف : ذوات ، فتكون الحجمية التي بها حصل الاشتراك صفات. وإما أن يقال بالعكس منه ، وهو : أن تكون الحجمية التي بها حصل الاشتراك ذوات ، وتكون الأمور التي بها حصل الاختلاف صفات.

وإما أن يقال : إن كل واحد من هذين الاعتبارين مباين عن الآخر ، لا صفة له ولا

موصوف به. فهذا تقسيم صحيح دائر بين النفي والإثبات. ثم نقول : والقسم الأول باطل ، ولما بطل ذلك بقي الحق : إما الثاني وإما الثالث ، وعلى كلا التقديرين فالمقصود حاصل ، وإنما قلنا : إن القسم الأول باطل ، وذلك لأن الحجمية والمقدار لا شك أنه حاصل في الحيز والجهة ، لأنه لا معنى للمقدار ، إلا الأمر الممتد في الجهات والأحياز ، فهذه الحقيقة تكون لا محالة حاصلة في الأحياز (والجهات) (١) فإذا قلنا : إن هذه الحجمية صفة حالة في تلك الأشياء التي بها حصل الاختلاف. فنقول : تلك الأشياء إما أن تكون حاصلة في الأحياز والجهات ، وإما أن تكون كذلك ، والقسمان باطلان ، أما الأول فلأنه يلزم منه التناقض ، وتقريره : أنا إذا قلنا : الأجسام متساوية في الحجمية وكانت مختلفة باعتبار آخر. فالحجمية التي حصل بها (الاستواء تكون لا محالة مغايرة لتلك الاعتبارات التي حصل بها) (٢) الاختلاف ، وإن كان كذلك فتلك الاعتبارات المتباينة للحجمية ، وتلك الحقائق المغايرة لها ، وجب أن لا يكون لها (٣) في حد ذاتها حجمية ولا تحيز البتة.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو حكمنا بكونها حاصلة في الأحياز والجهات ، فحينئذ يكون لها امتدادات في تلك الأحياز ، وفي تلك الجهات ، فيلزم أن يقال : الشيء الذي ليس له في حد ذاته امتداد وحجمية ، يكون له في حد ذاته امتداد وحجمية ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال. وأما القسم

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) لا يكون لها (س).

الثاني : وهو أن يقال : إن تلك الأشياء مجردة عن الحصول في الحيز والجهة ، مبرأة عن أن تكون بحيث (يمكن أن (١)) يشار إليها بحسب الحس ، فنقول : إن هذا الشيء يمتنع أن تكون الحجمية حالة فيه ، وذلك لأن الحجمية واجبة (٢) الحصول في الحيز المعين وفي الجهة المعينة ، وذلك الشيء ممتنع الحصول في الحيز المعين ، والجهة المعينة ، وحلول الشيء الذي يجب حصوله في الحيز والجهة ، في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة : معلوم الامتناع في بديهة العقل. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كانت الحجمية حالة في تلك الحقائق المخصوصة ، لكانت تلك الحقائق [المخصوصة] (٣) ، إما أن تكون حاصلة في الأحياز والجهات ، وإما أن لا تكون ، وثبت فساد كل واحد من هذين القسمين ، فيلزم القطع بأن القول بأن الحجمية تصير حالة في محل : قول فاسد ، ومذهب باطل.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الحجمية التي بها حصل الاشتراك : ذوات. والأحوال التي بها حصل الاختلاف : صفات. فهذا يفيد مقصودنا ، لأنه إذا كانت الحجمية هي الذات القائمة بالنفس ، وقد ثبت أن الأحجام والمقادير متشاركة في هذه الماهية ، فحينئذ تكون الذوات متساوية في تمام حقائقها ، وإذا كان كذلك ، امتنع كونها مستلزمة للصفات المختلفة والنعوت المتضادة ، لأن الأشياء المتساوية يمتنع أن يلزمها لوازم مختلفة. بل يجب أن يقال : كل صفة صح حصولها لجسم ، فإنه يصح حصولها في سائر الأجسام ، وكل صفة خلا عنها جسم ، فإنه يصح خلو سائر الأجسام عنها ، وإذا كان كذلك فجسم الفلك يصح أن تزول عنه الصفات التي باعتبارها صار الفلك فلكا ، وتحصل فيه الصفة الأرضية ، وجسم الأرض يصح أن تزول عنه الصفة التي باعتبارها كان أرضا ، وتحصل فيه الصفة الفلكية ، وذلك هو المطلوب.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : كل واحد من هذين الاعتبارين مباين عن الآخر ، لا صفة له ولا موصوف به ، فنقول : هذا باطل ، وبتقدير

__________________

(١) من (س).

(٢) وجب لها (ز).

(٣) من (س).

أن يكون حقا فالمقصود حاصل. أما أنه باطل فلأنا نعلم بالضرورة حصول المخالفة بين جسم النار وبين جسم الأرض ، في الأحوال والصفات ، فالقول بأن الجسمية التي بها الاشتراك ، وهذه الصفات التي بها الاختلاف. موجودان متباينان لا تعلق لأحدهما بالآخر لا بكونه صفة له ، ولا بكونه موصوفا به : هو مكابرة. وأما أن بتقدير أن يكون حقا (١) فالمقصود حاصل ، وذلك لأن على هذا التقدير تكون الحجميات ذوات قائمة بأنفسها ، متساوية في تمام ماهياتها ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يصح على كل واحد منها كل ما صح على الآخر. فهذا برهان قوي ظاهر في أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية.

واحتج القائلون : بأن الأجسام لا يمكن أن تكون متماثلة في تمام الماهية بوجوه :

الأول : إن الأجسام لو كانت متماثلة في تمام الماهية ، لكان تغير كل واحد منها زائدا عليه ، وهذا محال ، فذاك محال. بيان الشرطية : أن الأجسام لما كانت متساوية في الجسمية ، وكانت مختلفة في التعين ، فمن المعلوم أن ما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيلزم كون التعينات مغايرة لتلك الذوات. وبيان أن القول ، بأن التعين زائد على الذات باطل : أن التعينات مشتركة في كونها تعينات ، ويمتاز كل واحد منها عن الآخر بكون ذلك التعين. فيلزم أن يحصل للتعين تعين آخر ، ويلزم التسلسل ، وهو محال ، فيثبت أنا لو قلنا : بأن الأجسام متماثلة [في تمام] (٢) الماهية ، فإنه يلزمنا هذا المحال ، أما إذا لم نقل بهذا القول لا يلزمنا هذا المحال ، لأنا نقول : إن تعين كل جسم عبارة عن حقيقته المخصوصة ، وتلك الحقيقة بتمام ماهيتها مغايرة للحقيقة الأخرى ، فلا يلزم كون التعين زائدا على الذات.

الشبهة الثانية : قالوا : لو كانت الأجسام متساوية في الجسمية. ولا شك أنها مختلفة بحسب ما لكل واحد منها من التعين ، فحينئذ يلزم أن يكون تعين كل واحد منها زائدا على ذاته المخصوصة. وإذا كان كذلك فاختصاص كل واحد بتعينه المعين ، إما أن يكون لا لأمر وهو محال ـ لأن الممكن لا يستغني عن

__________________

(١) وأما أن لا يكون حقا (ز).

(٢) من (ز).

المرجح ـ أو لذاته ، وهو محال ، لأن الجسمية مشترك فيها بين الكل ، والتعين المعين غير مشترك فيه ، وما به الاشتراك لا يكون علة لما به الاختلاف ، أو للفاعل المباين وهو محال. لأن الأجسام لما كانت بأسرها متساوية في الماهية المسماة بالجسمية ، كان اختصاص بعضها بقبول ذلك الأثر الخاص من الفاعل المباين حصولا لأحد طرفي الممكن (١) لا لمرجح ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك بسبب القابل وهو أن ذلك القابل [كان قبل حصول هذا التعين موصوفا بأحوال مخصوصة ، لأجلها استعد ذلك القابل] (٢) لقبول هذا الأثر الخاص ، وعلى هذا التقدير ، فالأشياء المتساوية في تمام الماهية ، يمتنع حصول التغاير فيها لا بسبب القابل. فيثبت أن الأجسام لو كانت متساوية في تمام الماهية ، لما كانت ذوات قائمة بأنفسها ، بل كانت صفات حالة في القوابل ، والمحال. وأنتم قد دللتم على أن كون الجسم حالا في المحل أمر محال ، فيثبت أن الأجسام يمتنع كونها متساوية في تمام الماهية.

الشبهة الثالثة : لو كانت الأجسام متساوية (٣) في الجسمية ، لكان اختصاص كل منها بصفته المعينة رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، لأن المقتضى لحصول تلك الصفة لا يمكن أن يكون ذاتا ، لأن سائر الذوات مساوية (٤) لذاته في تمام الماهية مع أن هذه الذوات مختلفة في هذه الصفات ، ولا يمكن أن يكون المقتضى لتلك الصفة المعينة (٥) قوة حالة في ذلك الجسم ، لأن الكلام في اختصاص ذلك الجسم (٦) ، بتلك القوة ، كالكلام في اختصاصه بذلك العرض ، فإن كان ذلك لقوة (٧) أخرى لزم التسلسل ، وهو محال. ولا يمكن أن يكون للفاعل المباين (٨) لأن الذوات لما كانت متساوية في تمام الماهية ، امتنع كون بعضها أولى ببعض الصفات بل كانت نسبة كل الذوات إلى كل الصفات على السوية ، فالقول بأن الفاعل المباين (٩) خصص هذه

__________________

(١) لأحد الطرفين (س).

(٢) من (ز).

(٣) متماثلة في الماهية (س).

(٤) متساوية في تمام الماهية (س).

(٥) المعتبر (س).

(٦) تلك الجسمية (س).

(٧) فإن كانت تلك القوة (ز).

(٨) المتأثر (س).

(٩) المتأثر (س).

الذات بهذه الصفة دون سائر الذوات ، ودون سائر الصفات [يكون] (١) رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، فيثبت أن القول بتماثل الأجسام يفضي إلى هذا المحال. أما إذا قلنا : إنها ذوات مختلفة لذواتها ولحقائقها ، زال هذا الإشكال ، فكان هذا القول أولى.

والجواب عن الشبهة : أن نقول : لم لا يجوز أن يقال [ماهية الجسم] (٢) وماهية التعين ، إذا اتصل كل واحد منهما بالآخر ، صار كل واحد منهما علة لتعين الآخر؟ وبهذا الطريق ينقطع التسلسل.

والجواب عن الشبهة الثانية : أن نقول : إن التعين ، وإن كان قيدا زائدا لكن لم لا يجوز أن يكون قيدا عدميا؟ وعلى هذا التقدير يستغنى عن العلة.

والجواب عن الشبهة الثالثة : إن الفلاسفة يقولون : كل حالة حاصلة في محل (٣) فهي مسبوقة بحصول حالة أخرى ، وبكون الحالة السابقة توجب استعداد المادة لقبول الحالة المتأخرة على التعين.

وأما المتكلمون فإنهم يقولون : الفاعل المختار لا يمتنع أن يخصص بعض الذوات ببعض الصفات لا لمرجح. فهذا منتهى الكلام في هذا الباب [والله ولي النعم والإحسان] (٤).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) المحل فإنه (ز).

(٤) من (ز).

الفصل السادس عشر

في

بيان كيفيّة الاستدلال بإمكان الصفات

على وجود الإله القادر

وتقرير هذه الطريقة أن يقال : الأجسام متساوية في الجسمية ومختلفة في الكيفيات والأحياز ، والمقادير ، فاختصاص كل واحد منها بحالته المعينة ، (وصفته المعينة) (١) إما أن يكون لأمر ، أو لا لأمر.

والقسم الثاني باطل ، لأن الأجسام لما كانت متساوية في تمام الماهية ، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي ، لما ثبت أن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب كونها متساوية في قابلية الصفات والأعراض ، ولما ثبت استواء الكل في القبول ، فلو اختص كل واحد منها بصفته المعينة دون الباقي لا لأمر ، لزم وقوع الممكن لا لمرجح ، وهو محال ، وقد ثبت فساده. ولما ثبت فساد هذا القسم وجب أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة بسبب. فنقول :

وذلك السبب أن يكون (٢) شيئا حالا في الجسم ، أو شيئا يكون محلا له ، أو شيئا لا يكون حالا فيه ولا محلا له ، وهذا القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام : لأنه إما أن يكون جسما ، أو جسمانيا ، أو لا (يكون) (٣) جسما ولا

__________________

(١) من (س).

(٢) فلو كان (س).

(٣) من (ز).

جسمانيا ، فهذه بأسرها سوى القسم الأخير باطلة. فبقي أن يكون الحق هو هذا القسم.

وأما القسم الأول : وهو أن يقال : المقتضى (لحصول) (١) هذه الصفات قوى حالّة في هذه الأجسام : فنقول : هذا محال. لأن الأجسام كما أنها بعد تماثلها في ماهياتها قد اختلفت في الأعراض ، فكذلك قد اختلفت في القوى الموجبة لتلك الأعراض وذلك يوجب أن تكون تلك القوى (موجبة) (٢) لقوى أخرى إلى غير النهاية. وهو محال.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الموجب : لهذه الصفات المختلفة مواد الأجسام وقوابلها ، فهذا أيضا محال. لأنا أقمنا البرهان اليقيني على أن الجسم يمتنع أن يكون حالا في محل ، وحاصلا في قابل.

والقسم الثالث : وهو أن يقال : المقتضى لهذه الصفات جسم آخر مباين. فهذا أيضا محال. لأن هذا الجسم يكون لا محالة مخصوصا بالصفات التي لأجلها صار مؤثرا في سائر الأجسام ومدبرا لها ، والتقسيم الأول يعود في سبب اختصاص ذلك الجسم بتلك الصفات.

والقسم الرابع : وهو أن يقال : المقتضى لحصول هذه الصفات في هذه الأجسام صفات أخرى حالة في الأجسام الأخر (٣) ، فهذا : أيضا باطل لعين الدليل المذكور ، ولما بطل القول بهذه الأقسام ، ثبت أن الحق هو القسم الثاني ، وهو أن اختصاص كل جسم بصفته المعينة ، إنما كان لأجل موجود مباين ، ليس بجسم ولا جسماني.

ثم قال المتكلمون في هذا المقام (٤) : ذلك المؤثر ، إما أن يكون موجبا بالذات أو فاعلا بالاختيار ، والأول باطل ، لأن ذلك الموجود لما لم يكن جسما

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) أجسام أخرى (س).

(٤) المعنى (س).

، ولا جسمانيا كانت نسبة حقيقته إلى جميع الأجسام نسبة واحدة ، ولما كانت الأجسام بأسرها متساوية (في تمام الماهية كانت بأسرها متساوية) (١) في قبول الأثر عن ذلك المباين (وإذا كان الأمر كذلك كان قبول كل واحد من تلك الأجسام ، لأثر خاص من ذلك المباين) (٢) المفارق (٣) رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال ، ولما بطلت (٤) هذه الأقسام ، ثبت : أن إله العالم موجود ، ليس بجسم ولا بجسماني ، وأنه فاعل مختار وليس موجبا بالذات. فهذا تمام تقرير هذه الحجة. (واعلم أن مدار هذه الحجة) (٥) على إثبات تماثل الأجسام ، وقد أحكمنا القول فيه. وهذه المقدمة مقدمة شريفة عظيمة المنفعة في أصول الدين ، وذلك لأن المتكلمين يفرعون عليها القول بالإله ، والقول بالنبوة ، والقول بأحوال الآخرة ، والقيامة فأما إثبات الإله المختار فالوجه فيه ما ذكرناه ، وأما في إثبات النبوات ، فلأن هذه المقدمة تدل على أن انخراق العادات أمر ممكن ، وذلك يدل على إمكان المعجزات ، وأما في إثبات القيامة فلأن هذه المقدمة تدل على أن تحريك السموات أمر ممكن ، وتكوير الشمس والقمر أمر ممكن ، وكل ما ورد به القرآن في أحوال القيامة ، فإنه ممكن. فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الطريقة. واعلم أنه بالبيان الذي ذكرناه ، يظهر أن تركيب العالم الأعلى والأسفل يدل على وجود إله قادر على ذلك التركيب ، إلا أنه تبقى مطالب كثيرة ، لا يفي بإثباتها هذا البرهان.

فالمطلب الأول : هذا الدليل لا يدل على حدوث ذوات الأجسام ، ولا على إمكان ذواتها. فإن لقائل أن يقول : إن هذه الأجسام واجبة الوجود لذواتها ، إلا أن إله العالم قادر على تركيب العالم الأعلى ، والأسفل منه.

والمطلب الثاني : إن هذا الدليل لا يدل على أن ذلك المدبر (٦) المركب

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) المقارب (س).

(٤) بطل هذا القسم (س).

(٥) من (س).

(٦) المؤثر (س).

لهذا العالم واجب الوجود لذاته ، بل يبقى (١) احتمال أنه ممكن الوجود لذاته ، فمن أراد إثبات واجب الوجود لذاته ، وجب عليه أن يقيم (٢) الدليل على أن ممكن الوجود حال بقائه يحتاج إلى المؤثر ، ثم يقيم الدليل على بطلان الدور والتسلسل ، وحينئذ يحصل له القطع بوجود موجود واجب الوجود لذاته.

والمطلب الثالث : إن هذا الدليل لا يدل على أن واجب الوجود لذاته قادر مختار فإن لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : هذا الموجود الذي تولى إمكان تركيب هذا العالم وتأليفه ، موجود ممكن الوجود لذاته ، وهو معلول موجود واجب الوجود لذاته ، وذلك الواجب أوجب هذا الفاعل المختار إيجابا بالذات؟ وعلى هذا التقدير ، فهذا الدليل لا يفيد كون المبدأ الأول فاعلا مختارا. فهذه جملة ما يجب التنبيه عليه في معرفة هذا الدليل ، والله أعلم.

فإن قيل : السؤال على الدليل الذي ذكرتم من وجوه :

الأول : لم قلتم : إن الذوات الجسمانية متساوية بأسرها في قبول الصفات؟ قوله : «المتساويات في تمام الماهية يجب استواؤها في قابلية الصفات» قلنا : هذا ممنوع : وبيانه : أن بتقدير أن تكون الأجسام بأسرها متساوية في الجسمية ، فإنه يجب كون كل واحد منها ممتازا عن الآخر بتعينه وبتشخصه ، ضرورة أن ما به المغايرة مغاير لما به المشاركة ، وإذا كان كذلك لم يبعد أن يكون ذلك القيد الزائد ، أعني التعين الخاص ، معتبرا في المقتضى من أحد الجانبين ، وكان مانعا من الجانب الآخر ، وإذا كان الأمر كذلك لم يلزم من الاستواء في تمام الماهية (حصول) (٣) الاستواء في القابلية.

السؤال الثاني : إن الذي ذكرتموه من أن المتساويات في تمام الماهية يجب استواؤها في كل اللوازم (منقوض) (٤) بصور كثيرة :

__________________

(١) يقرع (س).

(٢) يقدم (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

أحدها : أن الشيء في الزمان الأول من أزمنة وجوده ، واجب الاتصاف بكونه حادثا (١) ، وممتنع الاتصاف بكونه باقيا (٢) (وفي الزمان الثاني من أزمنة وجوده ينقلب الأمر فيصير واجب الاتصاف بكونه حادثا) (٣) ومعلوم أن التفاوت بين الشيء الواجب بحسب حصوله في زمانين مختلفين ، أقل من التفاوت الحاصل بين الشيئين المتغايرين ، فإذا كان التفاوت القليل الحاصل في الشيء الواحد بسبب حصوله في وقتين ، قد يصير مانعا من الاستواء في كل الأحكام. فهذا التفاوت الكبير ، أولى بكونه مانعا من وجوب الاستواء في كل الأحكام.

وثانيها : إنكم قد دللتم على أن مسمى الوجود في حق واجب الوجود لذاته ، وفي حق ممكن الوجود لذاته ، مفهوم واحد. أعني من حيث أنه مسمى الوجود (ثم إن وجود) (٤) واجب الوجود لذاته ، ممتنع الحصول في ذوات الممكنات ، ووجود الممكنات ممتنع الحصول في ذات واجب الوجود لذاته (فهذان الوجودان متساويان في تمام الماهية ، مع أنهما مختلفان في بعض اللوازم ، وهو الذي ذكرناه) (٥).

وثالثها : إن الذوات ، والماهيات ، والحقائق متساوية في كونها ذوات (٦) في حقائق وماهيات. ثم إن كل واحد منها اختص بالصفة التي باعتبارها امتاز عن سائر الحقائق والماهيات اختصاصا على سبيل اللزوم.

ورابعها : الحيوانية التي في الإنسان مساوية للحيوانية التي في الفرس من حيث إنها حيوانية ، فلو كان ما ذكرتموه صحيحا ، فحينئذ يلزمكم صحة أن تبقى حيوانية الفرس بعينها مع زوال الفرسية عنها وتبدلها بالإنسانية ، وكذلك

__________________

(١) باقيا (س).

(٢) حادثا (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) ذواتا وحقائق (س).

القول في حيوانية الإنسان ، وأيضا اللونية التي في السواد مساوية للونية التي في البياض ، فيلزمكم أن تحكموا بجواز بقاء اللونية التي في السواد مع زوال السوادية عنها ، وتبدلها بالبياضية ، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقول به أحد.

وخامسها : وهو أن الأجسام حال حدوثها (مقدورة) (١) وحال بقائها غير مقدورة لأن تحصيل الحاصل محال مع أن الجسم الحادث مساو للجسم الباقي. فهذه نقوض لا بدّ من الجواب عنها ليتم دليلكم.

السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن كل جسم إنما اختص بالصفة المعينة لأنه حصل في ذلك الجسم قوة وطبيعة ، أوجبت ذلك العرض.

قوله : «السؤال عائد في اختصاص ذلك الجسم بتلك الطبيعة فيلزم التسلسل» قلنا : يلزم التسلسل. فلم قلتم : إنه محال؟ والذي يدل على جوازه وجوه :

الأول : إن الواحد نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة ، وهكذا إلى غير النهاية.

الثاني : إن الصفات الاضافية ، قد ثبت بالدليل أنها موجودات حاصلة في الأعيان ، ثم إنها من قبيل الأعراض ، وكون حصولها في محالها إضافات مغايرة لذواتها ، وذلك يوجب التسلسل.

الثالث : إنا بينا أنه تعالى (عالم) (٢) بالمعلومات (٣) ، وعالم بكونه (عالما بها) (٤)) ، وكذلك في الدرجة الثالثة والرابعة إلى ما لا نهاية له ، وذلك غير التسلسل.

السؤال الرابع : لم لا يجوز أن يكون اختصاص كل جزء بصفته المعينة ،

__________________

(١) من (ز) وفي (ض) معدودة.

(٢) من (ز).

(٣) بالمعلوم (ت).

(٤) من (س).

لأجل مادة ذلك الجسم؟ (قوله : «الجسم) (١) يمتنع أن يكون حالا في محل» قلنا. الكلام في هذا الباب ما تقدم في مسألة الهيولى ، والصورة.

السؤال الخامس : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في حصول هذه الصفات المعينة في هذه الذوات المعينة موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار؟ قوله : «نسبة ذلك الموجب إلى الكل واحدة ، فيمتنع حصول الرجحان» قلنا : هذا أيضا بعينه لازم في الفاعل المختار ، فإن تلك القوابل إما أن تكون متساوية في قابلية الصفات من غير أن يكون لبعضها رجحان على الباقي في قابلية (تلك) (٢) الصفات ، وإما أن يكون بعضها أولى ببعض تلك الصفات من بعض ، والثاني باطل لأن الأجسام متساوية في تمام الماهية ، وكونها كذلك يمنع من الاختلاف في هذه الأولوية ، وإن جاز ذلك : فلم لا يجوز اختلافها في سائر الصفات مع كونها متساوية في الماهية؟ ولما بطل هذا القسم (٣) ، تعين الأول ، وإذا كان كذلك كانت نسبة الفاعل المختار إلى كل تلك الأجسام بالسوية ونسبة كل تلك الأجسام إليه بالسوية ، وحينئذ يكون تخصيص ذلك الفاعل على بعض تلك الأجسام ببعض تلك الصفات رجحانا لأحد طرفى الممكن من غير مرجح ، وهو محال. فيثبت أن الذي أوردتموه على الفلاسفة في القول بالموجب ، وارد بعينه على القائلين بالمختار.

والجواب : قوله : «لم لا يجوز أن يكون التعين جزءا من المقتضى في أحد الجانبين ، أو مانعا من القبول في الجانب الثاني؟» قلنا : لأن التعين قيد عدمي ، والقيد العدمي لا يكون داخلا في المقتضى. أو نقول : إنه إما أن يكون عدميا أو ثبوتيا ، فإن كان عدميا ، فالسؤال زائل ، وإن كان ثبوتيا عاد البحث في أنه : لم اختص هذه الذات بهذا التعيين ، والذات الثانية بالتعين الثاني ، ولم يحصل الأمر بالعكس منه؟ وأما النّقوض فمدفوعة. وأما الحدوث

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) هذين القسمين (س).

والبقاء فهما ليسا صفتين زائدتين على الذات ، ولو كان الحدوث صفة زائدة ، لكانت حادثة ، فيكون حدوثها زائدا عليها. ولزم التسلسل.

وكذا القول في البقاء ، وأما (وجود) (١) واجب الوجود ، ووجود ممكن الوجود. فهما وإن كانا متساويين في مجرد كونه وجودا ، إلا أن الاختلاف في اللوازم إنما حصل بسبب الماهية التي هي كالمحل لذلك الوجود ، فإن ماهية الحق ـ سبحانه ـ لما اقتضت ذلك الوجود، امتنع زوال ذلك الوجود عن تلك الماهية ، فهذا التفاوت إنما حصل بسبب الاختلاف في المحل والقابل. وأما هاهنا فقد دللنا على أن الجسم يمتنع أن يكون حالا في المحل (٢) ، فظهر الفرق. قوله : «لم قلتم إن التسلسل باطل»؟ قلنا : لما سبق في الدليل الأول. قوله : «الإشكال الذي أوردتموه في الموجب ، قائم بعينه في القادر» فنقول : الكلام المستقصى في الفرق بين الموجب وبين المختار ، سيجيء في مسألة القدم والحدوث (وهذا آخر الكلام في تقرير هذا الدليل) (٣).

__________________

(١) من (س).

(٢) الممكن (س).

(٣) التعليل (م).

الفصل السابع عشر

في

تعديد الدلائل المستنبطة من إمكان الصفات

اعلم أن العلماء تارة استعملوا هذه المقدمة في الأجرام الفلكية (والكوكبية ، وأخرى في الأجرام العنصرية.

أما القسم الأول : وهو استعمال هذه المقدمة في الأجرام الفلكية) (١) : فتقريره من وجوه :

الأول : إن كل فلك اختص بعدد معين ، وثخن معين ، مع جواز أن يكون الحاصل. إما أن يكون أزيد منه ، أو أنقص منه. مثاله : زعموا : أن ثخن فلك المريخ أعظم من قطر فلك الشمس بالكلية ، وأما ثخن الفلك الأعظم ، فغير معلوم.

الثاني : إن كل فلك فإنه مركب من الأجزاء ، بناء على المقدمة التي قررناها في مسألة الجوهر ، وهو أن كل ما يقبل القسمة الوهمية يجب أن تكون الأجزاء حاصلة فيه ، قبل حصول ذلك الوهم. وإذا ثبت هذا فنقول : الجزء الداخل كان يمكن وقوعه خارجا ، وبالعكس ، فوقوع كل واحد منهما في حيزه الخاص ، أمر جائز.

الثالث : إن الحركة والسكون يجوز كل واحد منهما على كل واحد من

__________________

(١) من (ز).

الأجسام ، على سبيل البدل ، فاختصاص الجسم الفلكي بالحركة ، والجسم الأرضي بالسكون من الجائزات.

الرابع : إن كل حركة (قائمة) (١) يمكن وقوعها أسرع مما وقع (وأبطأ مما وقع) (٢) فذلك الحد المعين من السرعة والبطء ، من الجائزات ، وإنه إن تتحرك كرة الثوابت مرة واحدة، تتحرك كرة الشمس ستة وثلاثين ألف مرة.

(وأعجب من هذا : أن الفلك الأعظم ، أعظم من تلك الثوابت ، بما لا يعلمه إلا الله تعالى ، ثم إن الفلك الأعظم على غاية عظمته ، يتحرك كل يوم مرة واحدة ، وتلك الثوابت لا تتمم دورية [إلا] في ستة وثلاثين ألف سنة) (٣).

الخامس : كل حركة قد وقعت متوجهة إلى جهة معينة ، دون سائر الجهات ، فتكون من الجائزات.

السادس : كل فلك يعرض ، فإنه يوجد فلك آخر ، إما أعلى منه ، أو أسفل منه ، وذلك في الحيز من الجائزات.

السابع : اتصاف الأجرام الفلكية بالصورة الفلكية ، واتصاف الأجرام العنصرية بالصورة العنصرية يكون من الجائزات.

الثامن : أجرام الأفلاك مخالفة لأجرام الكواكب في الصفات ، فتكون من الجائزات.

التاسع : حصول كل واحد من الكواكب في نقطة متعينة من الفلك ، يكون من الجائزات.

العاشر : اختصاص كل كوكب بكون معين ، وطبيعة معينة ، من الجائزات.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) سقط (س). وإلا : زيادة.

الحادي عشر : اختصاص (١) كل برج بطبيعة معينة ، وأمر معين من الجائزات.

الثاني عشر : ثبت بالدليل وجود خلاء لا نهاية له ، خارج العالم ، فوقوع كرة العالم في الجزء المعين من ذلك الخلاء ، دون سائر الأجزاء من الجائزات.

الثالث عشر : زعموا : أن كل كرة من كرات الأفلاك فهو بسيط وهذا يوجب عليهم الإمكان من وجوه كثيرة :

أحدها : أنه لما كان جميع أجزاء (تلك) (٢) الكرة متساوية في الطبيعة والماهية ، كان(٣) حصول النقرة التي حصل فيها الكوكب في جانب معين من ذلك الفلك دون سائر الجوانب ، من الجائزات.

وثانيها : لما كانت طبائع الكرات بسائط (٤) كانت طبيعة كل واحد من المتممين اللذين ينفصلان عن الفلك المميل بسبب انفصال الفلك الخارج المركب عنه : طبيعة بسيطة. مع أن أحد الجانبين ، اختص بالرقة ، والجانب الثاني ، اختص بالثخن. فيكون ذلك من الجائزات.

وثالثها : إن طبيعة السطح الأعلى من كل فلك تكون مساوية لطبيعة السطح الأسفل منه ، وكل ما جاز على الشيء ، جاز على مثله.

إذا ثبت هذا فنقول : كما جاز على كرة عطارد أن تماس كرة القمر (٥) بمقعرها ، وجب أن يجوز عليها أن تماسها بمحدبها ، ومتى ثبت هذا الجواز كان جواز الخرق والتفرق ، والتمزق لازما (٦).

ورابعها : زعموا أن فلك التدوير مركوز في ثخن الفلك الخارج عن

__________________

(١) ثبت أن اختصاص (س).

(٢) من (ز).

(٣) وكان (ز).

(٤) تساقط (ز).

(٥) العالم (س).

(٦) من (ز ، س).

المركز ، كما يكون الفص في الخاتم ، وحينئذ يعود السؤال : إنه لم حصلت كرة (١) التدوير في ذلك الموضع دون سائر المواضع مع أن جميع الأجزاء المفروضة في كرة الفلك متساوية في الطبيعة؟

واعلم أن الاستقصاء في شرح هذه الأحوال سيأتي في باب الاستدلال على الصانع الحكيم بحدوث الصفات. فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل المأخوذة من أجرام الأفلاك بحسب إمكان صفاتها.

وأما القسم الثاني : وهو الدليل المأخوذ من إمكان صفات العناصر.

فنقول : كرة الأرض محفوفة بالماء ، والماء بالهواء ، والهواء بالنار. فاختلاف هذه الأجرام العنصرية بهذه الصفات وبهذه الأحياز من الجائزات ، فوجب أن تكون بتقدير الفاعل المختار. فإن قيل : السؤال على هذا الدليل يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة ، وهي أن للناس في وجود هذا العالم المحسوس قولان : منهم من قال : إن هذه السموات ، وهذه الكواكب ، وهذه العناصر قديمة بحسب ذواتها ، وبحسب أشكالها ، وترتيب أمكنتها. ومنهم من قال : إنها محدثة. أما القائلون بالقول الأول فهم فريقان : منهم من يقول : إنها واجبة الوجود لذواتها ، وهي غنية عن السبب والمؤثر ، ومنهم من يقول : إنها ممكنة الوجود (بذواتها ، واجبة الوجود) (٢) بسبب تأثير علة قديمة في وجودها ، وزعم هؤلاء : أن ذلك المؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار ، ويسمون ذلك المؤثر بأنه أثر (٣) بعلة. وأما القائلون بأن هذا العالم المحسوس محدث ، فلهم قولان : منهم من يقول : إن هذا العالم (المحسوس) (٤) محدث بحسب الذات والصفات فهذه الذوات (المتميزة) (٥) محدثة ، وتركيب السموات والعناصر منها أيضا محدث. وهؤلاء هم أكثر أهل الملل والنحل. ومنهم من

__________________

(١) كرة كرة (ز).

(٢) من (س).

(٣) أثبته (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

يقول : إن ذوات الأجسام قديمة ، أما التركيبات فهي محدثة.

والقائلون بهذا القول أيضا. فريقان : منهم من يقول : إن تلك الأجزاء كانت في الأزل متحركة بالطبع في الخلاء الذي لا نهاية له ، ومنهم من يقول : إنها كانت ساكنة واقفة، أما القائلون بكونها متحركة فهم أصحاب (١) ديمقراطيس ، زعموا : أن عنصر العالم الجسماني له أجزاء لا تتجزأ بحسب الوقوع ومتجزئة بحسب الوهم ، وزعموا : أنها على صور الكرات ، والكرة إذا وقعت على الخلاء المتساوي (المتشابه) (٢) فإنه يمتنع بقاؤها ساكنة ، لأنه لما كانت جميع الأحياز بالنسبة (إليه) (٣) على التساوي كان إبقاؤه على الوضع الواحد رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وإذا ثبت هذا ظهر أن تلك الأجزاء يجب كونها متحركة لذواتها حركات مضطربة غير مناسبة ، ثم اتفق لتلك الأجزاء (المضطربة) (٤) أن تصادمت على وجه خاص فيما بعد ، وتدافعت في حركاتها ، فالتوى البعض على البعض ، واعتمد البعض على البعض فتولد من تصادمها وتدافعها ، والتواء بعضها على البعض هذه الأجرام الفلكية. وهذا هو السبب في تولد الأجرام الفلكية. فما لم تقيموا الدلالة على بطلان هذا الاحتمال ، لا يحصل مقصودكم من إسناد تخليق هذا العالم إلى القادر الحكيم.

ولا يقال : ولم حصل كل واحد من تلك الأجزاء الكروية في حيزه (٥) المعين؟ لأنا كنا قد ذكرنا : أن كل واحد منها كان متحركا من الأزل إلى الأبد ، فحصول كل حالة لاحقة ، إنما كان لأجل أن الحالة السابقة ، أعدت المادة لحصول تلك الحالة اللاحقة. فهذا تقرير قولهم في كيفية تولد الأفلاك.

وأما كيفية تولد العناصر ، فقالوا : إنه لمّا تولد جرم الفلك بالطريق

__________________

(١) شيعة (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) جزء معين (س).

المذكور واستدار. كان باطنه مملوءا من الأجسام ، والحركة موجبة للسخونة ، والفلك لأجل حركته القوية يوجب غاية السخونة واللطافة ، فيما يلاصقه من الأجسام ، ويوجب غاية البرودة والكثافة في الأجسام التي تكون في غاية البعد منه ، وهي الأجسام الحاصلة عند القرب من المركز (١) فلهذا السبب صار الجسم العنصري المماس لجرم الفلك في غاية اللطافة والحرارة ، وهو النار ، وصار الجسم العنصري الذي (يكون) (٢) في غاية البعد من الفلك في غاية الكثافة والبرودة ، وهو الأرض ، والجسم المتصل بالنار ، وهو الهواء لكونه شبيها بالنار مع أنه أقل لطافة من النار ، والجسم المتصل بالأرض ، هو الماء لكونه شبيها بالأرض في الكثافة والبرودة ، مع أنه أقل كثافة وبردا من الأرض ، فهذا هو السبب في ترتيب هذه العناصر ، ثم لما استدارت الأفلاك بحركاتها المختلفة على هذه العناصر المختلفة ، اقتضت حركات الأفلاك تمزيج بعض (أجزاء) (٣) هذه العناصر ببعض ، فتولدت المواليد الثلاثة من المعادن والنباتات (٤) (والحيوان) (٥) فهذا تفصيل مذهب دميقراطيس في هذا الباب. قالوا : وما لم تبطلوا بالدليل فساد هذا الاحتمال لم يحصل مقصودكم البتة من الاستدلال بأحوال الأفلاك والعناصر ، على وجود الصانع (الحكيم) (٦).

والجواب : أن أرسطاطاليس قد أبطل هذا القول من وجوه (٧) : أحدها : إنه بين أنكون الجسم متحركا لذاته محال ، وقد سبقت هذه على سبيل الاستقصاء (في العلم الطبيعي) (٨) (وثانيها : إن هذا بناء على إثبات الخلاء خارج العالم وقد سبقت هذه أيضا على سبيل الاستقصاء ، ثالثها : إن هذا بناء على أن هذه الأجسام المحسوسة مركبة من أجزاء لا تتجزأ وقد سبقت هذه المسألة أيضا على سبيل الاستقصاء) (٩). ولما كانت هذه القواعد الثلاثة باطلة عند أرسطاطاليس ، لا جرم حكم بفساد هذا المذهب. ورابعها : إن

__________________

(١) الحركة (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) والنار (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) الأول (س).

(٨) من (ز).

(٩) من (ز).

بتقدير صحة هذه الأصول الثلاثة ، فإنه يجب أن لا تتحرك تلك الأجزاء البتة. لأن الأجزاء المعترضة في الخلاء ، إذا كانت متشابهة ، لم يكن بأن تقتضي طبيعة ذلك الجزء بأن تنتقل إلى حيز ، أولى من أن تنتقل إلى حيز آخر. ولما تساوت الانتقالات وتعارضت وتدافعت ، وجب في كل واحد من تلك الأجزاء ، أن يبقى في حيزه (١) المعين.

وأما المتكلمون : فقد أبطلوا هذا المذهب بناء على أن القول بثبوت حركات لا أول لها محال. ودلائلهم في هذا الباب مشهورة وسنذكرها في القدم والحدوث. فهذا هو الإشارة إلى القواعد الأصلية التي يتفرع (٢) إبطال قول ديمقراطيس عليها.

ثم إن العلماء أبطلوا ذلك القول من وجوه أخرى :

الأول : إن على تقدير الذي ذهب إليه ديمقراطيس ، يكون حدوث الأفلاك (لأجل)(٣) أسباب اتفاقية غريبة نادرة ، وأما حدوث المواليد الثلاثة من المعادن والنبات والحيوان فهو لأجل أشياء طبيعية أصلية جوهرية ، ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن تكون تركيبات الأفلاك والكواكب ، أقل شرفا ، وأدون كمالا ، من تركيبات المواليد الثلاثة ، ولما دلّ الحس على فساد هذا القول ، ثبت فساد ذلك القول.

الثاني : إن مقعر فلك القمر ، ومحدب كرة النار ، أيضا : سطح أملس. وإذا انزلق الأملس على الأملس لم يلزم من حركة إحداهما حركة الآخر ، وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن يقال : إن الفلك لأجل حركته يسخن جدا ، فإذا تسخن في ذاته ، صارت سخونته سببا (لسخونة) (٤) جوهر (٥) الجرم الملاصق له ، ولهذا السبب تحصل السخونة في جوهر النار. وإما أن يقال : الفلك إذا استدار لزم

__________________

(١) مع جزء (س).

(٢) تتفرع على قول ديمقراطي ، ثم ... الخ (س).

(٣) من (ز).

(٤) (ز).

(٥) من (س).

من استدارته ، حركة استدارة كرة النار وحركتها ، فلأجل شدة حركة كرة النار تسخن وتصير نارا والأول باطل ، لما ثبت أن الأفلاك لا حارة ، ولا باردة. والثاني أيضا باطل لما ثبت أنه لا يلزم من حركة كرة الفلك ، حركة النار التي في جوف الفلك.

الثالث : أن نقول : لو لزم من حركة الفلك أن ينقلب الجسم الملاصق له نارا ، لزم أيضا أن ينقلب الجسم الملاصق للنار نارا ، فعلى هذا التقدير يلزم من كون النار ملاصقا للهواء أن يصير الهواء نارا ، ثم يلزم من كون (الملاصق للهواء أن يصير) (١) الماء نارا على هذا التقدير ، فيلزم عند تمادي الدهور والأعصار ، أن تنقلب كل العناصر نارا. ومعلوم أنه باطل (فهذا جملة الكلام في هذا الباب. والله أعلم بحقائق الأمور) (٢).

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

الفصل الثامن عشر

في

إثبات العلم بوجود الإله ـ تعالى ـ بناء

على التمسك بحدوث الذوات

أعلم : أن جمهور المتكلمين ، لا يعولون ، إلا على هذا الطريق. وذلك لأنهم يقيمون الدلالة على كون الأجسام محدثة. وحينئذ يقولون : كل جسم محدث ، وكل محدث فله علة وصانع. ينتج : أن كل جسم فله فاعل وصانع.

ثم هذا الدليل إنما يتم إذا قلنا : وذلك الفاعل ، إن كان محدثا ، لزم التسلسل أو الدور ، وإن كان قديما ، فهو واجب الوجود لذاته. وهو المطلوب. فأما الكلام في إثبات حدوث الأجسام ، فسيأتي على سبيل الاستقصاء. وأما الكلام في قولنا : كل محدث فلا بد له من فاعل وصانع. فموضعه هاهنا.

وهو : أن يقال : كل محدث فهو ممكن الوجود لذاته ، وكل ما كان ممكن الوجود لذاته ، فله فاعل وصانع ، ينتج أن كل محدث فله فاعل. وفي هذا الطريق يستدل بحدوث الأجسام على كونها ممكنة الوجود ، ثم يستدل بامكانها هذا ، على افتقارهما الى الفاعل.

ونحن نذكر في هذا الفصل : كيفية تقرير (١) هذا الوجه فنقول : كل محدث فهو ممكن الوجود ، وكل ممكن الوجود فهو مفتقر إلى المؤثر وإنما قلنا : إن

__________________

(١) فموضعه هاهنا. وللناس فيه قولان : أحدهما : أن يقال : كل محدث ... الخ (س).

كل محدث فهو ممكن الوجود (لذاته) (١) وذلك لأن كل ما كان محدثا فهو في الحال موجود ، وقد كان قبل وجوده معدوما. ونقول : لو لم تكن حقيقته قابلة للوجود لما وجد في الحال ، ولو لم تكن الحقيقة قابلة للعدم ، لما كانت معدومة في الماضي. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان محدثا ، فإن ماهيته قابلة للعدم ، وقابلة للوجود ، ولا معنى للممكن إلا ذلك فيثبت : أن كل محدث فإنه ممكن الوجود لذاته وأما بيان أن كل ما كان ممكنا لذاته فلا بد له من المؤثر : فلمّا مرّ تقريره في البرهان الأول. فإن قيل : لا نسلم أن كل محدث فإنه ممكن الوجود لذاته. قوله : «إنه كان معدوما ثم وجد ، وهذا يدل على أن حقيقته قابلة للعدم والوجود» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : إنه كان واجب العدم لذاته في الزمان الأول ، ثم انقلب واجب الوجود لذاته في الزمان الثاني؟

والذي يدل على أن الذي ذكرناه محتمل : وجوه :

الأول : إن العرض عند كثير من الناس مستحيل البقاء ، وإذا كان كذلك فوجوده في الوقت الأول جائز ، ثم إن عدمه في الوقت الثاني واجب ، فإذا عقل أن يكون عدمه بعد وجوده عدما واجبا لذاته ، بحيث يستحيل أن لا يصير (معدوما. فلم لا يجوز أن يصير وجوده بعد عدمه واجبا لذاته ، بحيث يستحيل عقلا ، أن لا يصير) (٢) موجودا؟

الثاني : وهو (أن هذا) (٣) الآن الذي هو آخر الماضي ، وأول المستقبل كما وجد ، يمتنع بقاؤه ، لأن الحاضر يمتنع أن يكون غير المستقبل فإذا هذا الآن الحاضر كان معدوما قبل حضوره ، ثم صار واجب الحدوث بعد أن كان معدوما ، وبعد حدوثه يمتنع بقاؤه ، فصار واجب العدم ، بعد أن كان موجودا (٤) فإذا عقل هذا في الآنات ، التي هي آخر الزمان ، فلم لا يعقل مثله في جميع الحوادث؟

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) معدوما من (ز).

الثالث : العالم بشرط كونه مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، ممتنع الحصول في الآن (١) ، لأن الجمع بين النقيضين محال ، ثم فيما لا يزال (٢) حدث ذلك الإمكان ، وحدوث ذلك الإمكان ليس بالفاعل ، لأن كل ما بالغير فإنه واجب الارتفاع عند ارتفاع ذلك الغير ، وكون العالم صحيح الوجود فيما لا يزال (٣) ، أمر ثابت لذاته ، لا لأجل (٤) سبب منفصل. فعلمنا : أن هذه الصحة حدثت وتجددت لا لفاعل بل لذاته ، فثبت بما ذكّرنا : أن حدوث الشيء لذاته معقول في الجملة.

سلمنا : أن كل ما ذكرتم يدل على أن كل محدث ممكن ، لكنه معارض بوجوه دالة على أن القول بوجود شيء ممكن الوجود محال :

الحجة الأولى : إنا إما أن نقول : الوجود نفس الماهية ، وإما أن نقول : الوجود غير الماهية. وعلى كل واحد من القولين فالقول بالإمكان باطل. أما على القول بأن الوجود نفس الماهية ، فنقول : الإمكان غير معقول. وذلك لأن الشيء الموصوف بإمكان الوجود والعدم ، هو الذي يكون تارة موصوفا بالوجود ، وأخرى موصوفا بالعدم. والوجود يمتنع بقاؤه حال العدم. فيثبت : أن بتقدير أن تكون الماهية عين (٥) الوجود ، يستحيل الحكم على الماهية بإمكان الوجود والعدم. وأما على القول بأن الوجود غير الماهية ، فنقول : إن على هذا القول (٦) الموصوف بالإمكان. إما أن يكون هو الماهية أو الوجود ، أو كون الماهية موصوفة بالوجود. والكل باطل (٧). أما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالإمكان هو الماهية. فلأنا إذا قلنا : «السواد يمكن أن يكون سوادا» ـ «يمكن أن لا يكون سوادا» [كان معناها : أن السواد يمكن أن يحكم عليه بأنه غير سواد. وذلك محال. لأنه يقتضي أن يكون حال كونه سوادا ، يمكن أن لا يكون سوادا (٨)] وذلك جمع بين النقيضين. وهو محال. وأما أنه لا يجوز أن

__________________

(١) من الأزل (ز).

(٢) في الآن (س).

(٣) في الأبدال (س).

(٤) لذاته لأجل (س).

(٥) من (س).

(٦) التقدير (س).

(٧) محال (س).

(٨) من (س).

يكون الموصوف بالإمكان هو الوجود ، فلأنه يرجع حاصله إلى أن الوجود يمكن أن يصير لا وجود. وهذا ظاهر الفساد. وأما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالإمكان هو موصوفية الماهية بالوجود ، فلأن الذي ذكرناه في الماهية ، وفي الوجود : عائد بعينه في موصوفية الماهية بالوجود. فيثبت : أن القول بإمكان الوجود غير معقول. سواء قلنا : الوجود عين الماهية أو قلنا : إنه [غير الماهية] (١).

الحجة الثانية : لو فرضنا شيئا من الأشياء ممكن الوجود فذلك الإمكان إما أن يكون موجودا أو معدوما. لا جائز أن يكون موجودا لأنه لو كان موجودا ، لكان إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وهو محال. لأن الإمكان صفة للممكن ومفتقرة إليه [والمفتقر إلى الممكن : إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإما أن يكون ممكن الوجود لذاته. وحينئذ يكون الإمكان (٢)] زائدا عليه ويلزم التسلسل. ولا جائز أن يكون الإمكان معدوما. لأنه إذا كان الإمكان معدوما ، فحينئذ لا يكون الإمكان حاصلا. وأيضا : فالإمكان [بتقدير ثبوته يكون واقعا. لأن الامتناع عدم ، ورافع العدم ثبوت. فوجب أن يكون الإمكان (٣)] موجودا. فيثبت : أنه لو فرض شيء من الأشياء ممكن الوجود ، [لذاته] (٤) لكان إمكانه، إما أن يكون وصفا وجوديا ، أو عدميا. والقسمان باطلان ، فكان القول بكون الشيء ممكن الوجود : باطلا.

الحجة الثالثة : الحكم على الشيء بأنه يجوز أن يكون موجودا ، ويجوز أن يكون معدوما : يقتضي بقاء تلك الماهية حال طريان العدم. لأن الشيء الذي يمكن اتصافه بشيء، يجب أن يكون متقررا حال حصول تلك الصفة ، فإذا وصفنا هذا الشيء بأنه ممكن العدم ، فهذا يقتضي [أن لا يمتنع حصول ماهيته حال طريان العدم. وهذا يقتضي] (٥) كون المعدوم شيئا. وأنتم لا تقولون

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

به. وأيضا : القائلون بأن المعدوم (١) شيء لا يمكنهم القول بالإمكان. وذلك لأن على هذا المذهب ، إما أن يكون وصفا للماهية أو للوجودية ، ولا جائز أن يكون وصفا للماهية (٢) ، لأن الماهيات يستحيل عليها الانقلاب والتغير. فلا نعقل كون الإمكان وصفا لها ، ولا جائز أن يكون وصفا للوجود ، لأن الإمكان حاصل قبل الحدوث. فالموصوف بذلك الإمكان ، يجب أن يكون حاصلا قبل حصول الوجود [والوجود] (٣) يمتنع كونه حاصلا قبل نفسه. وإذا كان كذلك ، امتنع القول بكون الإمكان صفة للوجود.

الحجة الرابعة : إن الإمكان إما أن يحصل بالنسبة ، إلى الماضي أو الحاضر أو المستقبل. والقسمان الأولان ، لأن في هذين القسمين ، أحد الطرفين قد وجد ، وحصل. ومع حصول أحد الطرفين كان الطرف الثاني ممتنع الحصول. وأما المستقبل فنقول : حصول الإمكان بالنسبة إلى المستقبل محال أيضا.

ويدل عليه :

إنا إذا قلنا : «زيد يخرج إلى السوق غدا» ـ «زيد لا يخرج إلى السوق غدا» فإما أن يكونا صادقين معا. وهو محال. لاستحالة الجمع بين النقيضين. وإما أن يكونا كاذبين معا. وهو محال. لامتناع ارتفاع النقيضين معا. ولما بطل هذان القسمان ، بقي (٤) أن يقال : إما أن أحدهما صادق بعينه ، والآخر كاذب بعينه ، وإما أن يكون أحدهم لا على التعيين صادقا ، ويكون الثاني لا على التعيين كاذبا. والقسم الثان باطل. لأن كون القضية (٥) صادقة وكاذبة :

__________________

(١) من العدم (س).

(٢) للماهيات (س).

(٣) من (س).

(٤) بقي أن يقال : أحدهما صادق ، والآخر كاذب. إما أن يكون أحدهما صادقا بعينه ، والآخر كاذبا بعينه. وإما أن يكون أحدهما ، لا على التعيين صادقا ، أو يكون الثاني ، لا على التعيين صادقا ، أو يكون الثاني ، لا على التعيين كاذبا. والقسم الثاني .. الخ (ز). والتصحيح من (س).

(٥) القضيتين (س).

صفة حقيقية. والصفة الحقيقية الموجودة في الأعيان لا بدّ لها من محل موجود في الأعيان. وكل ما كان موجودا في الأعيان ، فهو متعين في نفسه. فإن كل ما كان موجودا في نفسه ، فهو من حيث إنه هو : متعين [فيثبت : أن كل ما كان موجودا في الأعيان فهو متعين في نفسه فوجب أن يقال أن كل ما لا يكون متعينا] (١) في نفسه فإنه لا يكون موجودا في الأعيان ، وما لا يكون موجودا في الأعيان امتنع كونه محلا ، لصفة موجودا في الأعيان. وقد بينا : أن كون الخبر [في نفسه] (٢) مطابقا [أو كونه غير مطابق] (٣) للمخبر في نفسه : أمر ثابت في نفس الوجود فيثبت بما ذكرنا : أن قول من يقول : إن الصادق أحدهما لا بعينه باطل. ولما بطل هذا ، ثبت : أن أحدهما في نفس الأمر صادق بعينه ، وأن الثاني في نفس الأمر كاذب بعينه. ومتى كان الأمر كذلك ، كان الطرف المطابق للجانب الصادق ، يكون واجب الحصول. والطرف المطابق للجانب الكاذب [يكون] (٤) ممتنع الوقوع. فيثبت : أن الشيء في نفسه لا يكون ممكن الوجود البتة ، بل يكون إما واجب الحصول ، أو ممتنع الحصول. إلا أن العقل لما كان لا يعرف الجانب الواقع ، والجانب الممتنع : بقي متوقفا مترددا. فهذا الإمكان حاصل في الأذهان. فأما في الأعيان ، فإنه ممتنع الحصول.

فهذه جملة الوجوه الدالة على نفي الإمكان. وهو آخر الكلام في السؤال.

والجواب : إن مرادنا من لفظ الإمكان ، هو كون الشيء بحيث يجوز أن يستمر على ما كان عليه قبل ذلك ويجوز أن لا يبقى على ما كان عليه قبل ذلك. وإذا ظهر مرادنا من لفظ الإمكان ، زالت الشبهات المذكورة. لأنا نعلم أن الإنسان الجالس لا يمتنع بقاؤه على الجلوس ، ولا يمتنع زوال ذلك الجلوس. والعلم به ضروري. إذا عرفت هذا فنقول : الذي حدث بعد العدم الأزلي :

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

فإن العلم الضروري حاصل بأنه كان يجوز بقاؤه على ذلك العدم الأصلي ، وكان يجوز تبدل ذلك العدم بالوجود ، ولما تساوى الأمران ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر ، لا لمرجح.

فهذا هو المراد من هذا الدليل. وعند الوقوف عليه يظهر أن السؤالات المذكورة ساقطة.

الفصل التاسع عشر

في

تقرير طريقة للحدوث لا يحتاج فيها

إلى ضم الامكان

أعلم : أن جمهور المتكلمين اتفقوا على أن مجرد الحدوث يكفي في صحة الاستدلالات به على وجود الفاعل. إلا أن القائلين (١). بهذا القول فريقان :

أحدهما : الذين قالوا : العلم بافتقار المحدث [إلى المحدث] (٢) علم ضروري. وهذا قول «أبي القاسم الكعبي» [من المعتزلة] (٣) وقول طائفة عظيمة من أهل الإسلام.

والثاني : قول من يقول : العلم بافتقار المحدث إلى الفاعل والصانع : علم استدلالي. لا يتم إلا بعد الدليل. وهو قول «أبي علي» و «أبي هاشم» وأصحابهما من المعتزلة. أما «الكعبي» فكان يقول : «إنا نرى العقلاء متى أحسوا بحدوث حادث ، طلبوا له سببا وعلة ، من غير توقف ولا تأمل. فعلمنا : أن العلم بافتقار المحدث إلى المؤثر والمرجح : علم بديهي ، مركوز في عقول العقلاء» ولقائل أن يقول : بديهة العقل تحكم بأن الحادث لا بد له من سبب حادث. ولا يكتفي باستناد حدوث الحادث ، إلى سبب كان موجودا قبل ذلك بشهور وسنين. ألا ترى أن من سمع حدوث صوت ، فإنه يطلب له علة

__________________

(١) القائل (س).

(٢) من (س).

(٣) ليس (س).

وسببا. فلو قيل : السبب في حدوثه : كون السماء فوقنا ، والأرض تحتنا ، حكم صريح العقل بفساد هذا التعليل. وكل عاقل يقول : إن كون السماء فوقنا ، والأرض تحتنا : كان حاصلا قبل هذا الوقت. فكيف يمكن جعله سببا لحدوث الصوت في هذه الساعة. بل لا بدّ لهذا الصوت [الحادث] (١) من سبب حادث؟

فإن قالوا : أليس أن إنسانا مبغضا لإنسان آخر من قديم [الدهر] (٢) ثم إنه يوقعه في بلاء ومحنة. فإنه يقال : إن وقوعه في هذه المحنة ، ليس لهذا السبب الحادث ، بل إنما كان، لأجل البغض القديم؟ فنقول : لا بدّ وأن يقولوا : إن البغض القديم كان موجب اتصال الآفة إليه. أما وقت القدرة والمكنة ، فإنما حصل في هذه الساعة. فقد اعترفوا هاهنا بحدوث هذا الأثر لهما ، وكان لأن شرائط التأثير إنما حصلت في هذا الوقت فقط.

وإذا عرفت هذه المقدمة. فنقول : إنا إن قلنا (٣) بافتقار الحكم الحادث إلى سبب حادث ، لزمنا الاعتراف باستناد كل حادث إلى [حادث] (٤) آخر قبله. و «الكعبي» لا يرضى بهذا القول البتة. [وإن حكمنا بأن استناد كل حادث إلى مؤثر ، كان موجودا قبله ، من غير أن يحصل لذلك المؤثر ، تغير حال وتبدل البتة] (٥) فهذا مما يستبعده كل العقلاء. فثبت : أن الذي يحكم به [صريح عقل] (٦) جمهور العقلاء ، فالكعبي لا يرتضيه ولا يقول به ، والذي يريده «الكعبي» ويقول به ، فالعقل لا يحكم به.

والسؤال الثاني : إن العقل كما يستبعد الحدوث من غير فاعل ، فكذلك يستبعد الحدوث من غير سبق مادة ومدة. فإنه كما أن حدوث البناء من غير الباني مستبعد ، فكذلك حدوث البناء من غير تقديم الخشب والحجر واللبن مستبعد. وليس أحد الاستبعادين أقوى من الثاني. وأيضا : حدوث الحادث لا

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (س).

(٣) حكمنا (س).

(٤) سقط (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

في وقت ولا في زمان مخصوص : مستبعد أيضا. فإن كان الاستبعاد في أحد البابين (١) حجة، فليكن في جميع المواضع [حجة] (٢) وإن جاز الإعراض عنه في بعض الصور ، فكذلك في سائر الصور.

فإن قالوا : إن حكم العقل بأن المحدث لا بد له من فاعل ، أقوى من حكمه بأن المحدث لا بد له من مادة ومدة. قلنا : نحن نرى الجمهور الأعظم من العقلاء ، لا يختلف حكم عقولهم في هذه الصورة. أما المتكلمون فإنهم يصححون ذلك الحكم في الحاجة إلى الفاعل ، ويبطلونه في الحاجة إلى المادة والمدة. فنقول : أما أقاويل أرباب الجدل والتعنت فغير معتبرة. فإنهم قد تعودوا إنكار البديهيات. إذا احتاجوا إلى إنكارها ، وتعودوا ادعاء البديهة في غير موضعها ، إذا احتاجوا إليها. فثبت : أنه لا عبرة في هذا الباب بقولهم ، وإنما العبرة بالأحكام الجازمة المذكورة في عقول أهل السلامة. ونرى بحكمهم في هذه الأبواب على السوية. فكان الفرق محض التحكم ..

فهذا ما في هذا المقام من البحث.

__________________

(١) البناءين (ت).

(٢) من (س).

الفصل العشرون

في

تقرير قول من يقول : الاستدلال بالحدوث

على الفاعل ، لا يتم إلا بدليل منفصل

قد حكينا : أن هذا القول هو مذهب «أبي علي» وأبي هاشم» و «القاضي عبد الجبار بن أحمد» وأصحابهم (١) من المعتزلة. قالوا : نظم هذا الدليل. أن يقال : العالم محدث ، فوجب أن يفتقر إلى الفاعل. قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا في حدوثها. قالوا : وكل قياس فلا بد فيه من أركان (٢) أربعة : الأصل والفرع والعلة والحكم. فالأصل هو كون العبد محدثا لأفعال نفسه ، والفرع هو العالم ، والحكم هو الاحتياج إلى الفاعل ، والعلة هي الحدوث.

فنفتقر إلى إثبات هذه المقامات الأربعة :

أما الأصل فهو قولنا : إن أفعالنا محتاجة في الحدوث إلينا. وهذا المقام لا بد فيه من تقرير أمرين : أحدهما : إثبات الأعراض [أعني] (٣) إثبات أن حركاتنا وسكناتنا : أمور موجودة. الثاني : بيان أن أفعالنا واقعة بنا ، بمعنى أن محدثها نحن لا غير. أما المقام الأول. فقد ذكروا فيه الدلائل الدالة على إثبات الأعراض. وأما المقام الثاني فقد احتجوا عليه بأن هذه الأفعال (٤) ، يجب

__________________

(١) وأصحابه (س).

(٢) أربعة أركان (س).

(٣) من (س).

(٤) أفعالنا (ت).

وقوعها عند دواعينا الخالصة ، ويجب انتفاؤها عند قيام الصوارف. وإذا كان [الأمر (١)] كذلك ، وجب القطع بكونها واقعة بنا لا بغيرنا.

والدليل على وجوب وقوعها عند حصول الدواعي القوية : أن الصائم في الصيف [الصائف] (٢) إذا اشتدت شهوته لشرب الماء والشارع يأمره بالشرب ، والطبيب يأمره بالشرب (٣) ، وعلم هذا الإنسان أنه لا مضرة في هذا الشرب ، لا في دينه ولا في دنياه : فإنه يحصل له عند هذا الشرب أعظم اللذات. فإن عند حضور هذه الاعتقادات في قلبه : يستحيل أن لا يشرب الماء. فثبت : أن الفعل عند توفر الدواعي الخالصة عن الصوارف واجب الوقوع. والدليل على أن الفعل ممتنع الوقوع عند حصول الصوارف الخالصة : أن من علم ما في دخول النار من الضرر العظيم ، وعلم أنه لا منفعة له في دخولها البتة. لا في الحال ولا في الاستقبال ، ولا يتوسل بذلك الدخول إلى دفع ضرر أعظم [ضررا] (٤) منه فإن عند حضور هذه الاعتقادات في قلبه ، يمتنع منه دخول النار.

فيثبت بهذا البيان : أن عند خلوص الدواعي ، يجب حصول الأفعال ، وعند خلوص الصوارف ، يمتنع حصولها. وإذا ثبت هذا ، فنقول : وجب القطع بأن هذه الأفعال واقعة بنا لا بغيرنا. لأنه لو لم يكن وقوعها بنا ، لكان وقوعها إما أن يكون لا لمؤثر ، أو لمؤثر غيرنا. وعلى التقديرين فكان لا يمتنع أن تقع وإن كرهناها ، ولا أن لا تقع وإن أردناها. كما أن فعل زيد ، لما لم يمكن واقعا بعمرو ، لا جرم ربما وقع وإن كرهه عمرو ، وربما لا يقع وإن أراده عمرو. وذلك يقدح فيما بيناه من أن تلك الأفعال واجبة الوقوع عند توفر الدواعي ، وممتنعة الوقوع عند توفر الصوارف. فيثبت بهذا البيان الذي ذكرناه : أن أفعالنا واقعة بنا. وهذا هو إثبات أصل القياس المذكور.

__________________

(١) من (س).

(٢) سقط (س).

(٣) به (س).

(٤) من (س).

وأما إثبات العلة : فهو أنا ندعي أن احتياج أفعالنا إلينا ، إنما كان لأجل حدوثها. والدليل عليه : أن احتياج أفعالنا إلينا. إما أن يكون لقدمها السابق ، أو لحدوثها ، أو لبقائها. والأول باطل. لأن العدم السابق لا تعلق له بالفاعل. والثالث أيضا باطل. لوجهين: الأول : إنه لو احتاج [الباقي] (١) إلى الفاعل ، لكان هذا (٢) تحصيلا للحاصل. وهو محال. والثاني : إن البناء قد يبقى بعد فناء الباني ، والنقش قد يبقى بعد فناء النقاش. ولما بطل هذان القسمان ، علمنا : أن علة الحاجة [هي الحدوث. فثبت : أن أفعالنا محتاجة إلينا ، لأجل حدوثها ، وثبت : أن علة الحاجة هي الحدوث. ولما ثبت أن الأجسام محدثة ، كانت علة الحاجة] (٣) إلى الفاعل حاصلة فيها ، فوجب القطع بافتقارها إلى الفاعل. هذا تمام تقرير هذا الدليل.

والاعتراض عليه من وجوه :

الأول : لا نسلم وقوع أفعالنا بنا. قوله : «الدليل عليه : أنه يجب وقوعها عند دواعينا ، ويجب بقاؤها على العدم عند صوارفنا. وذلك يقتضي وقوعها بنا» قلنا : القول بأن أفعالنا يجب وقوعها عند دواعينا ، ويمتنع وقوعها عند عدم دواعينا : لا يستقيم (٤) على قول المعتزلة. والدليل عليه : أن تلك الأفعال إذا كانت [واجبة] (٥) الوقوع عند حصول هذه الإرادات ، وكانت ممتنعة الحصول عند حصول الكراهات ، فحصول تلك الإرادات والكراهات ، إن كان من العبد ، افتقر العبد في إحداثها إلى إرادات أخرى ، ولزم التسلسل وهو محال. وإن لم يكن حدوثها من العبد ، بل من الله [تعالى ، فعند ما] (٦)

__________________

(١) من (س).

(٢) قيدا (ت).

(٣) من (ت).

(٤) فاسد (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

يحدث الله تلك الدواعي في العبد : كان الفعل (١) واجب الصدور عنه وعند ما (٢) لا يحدثها فيه ، كان الفعل ممتنع الصدور عنه. وحينئذ لا يكون مستقلا بفعل نفسه. وذلك ضد مذهب المعتزلة.

السؤال الثاني : سلمنا وقوع تصرفاتنا عند دواعينا ، وامتناع وقوعها عند صوارفنا. فلم قلتم : إن ذلك يدل على كونها واقعة بنا؟ قوله : «لو لم تكن واقعة بنا ، لجاز أن تقع حال ما نكره وقوعها ، وأن لا تقع حال ما نريد وقوعها» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : إنها تقع عند حصول إرادتنا ، لا لمؤثر ولا لمرجح ، بل لمحض الاتفاق. وتقدير هذا السؤال : أن يقال: إن حدوث الحادث لمحض الاتفاق من غير سبب ومرجح ، إما أن يكون معلوم البطلان بالبديهة ، أو ليس كذلك ، فإن كان الحق هو الأول ، فحينئذ متى علمنا أن العالم محدث ، علمنا بالضرورة افتقاره إلى الفاعل ، كما هو قول «الكعبي» وحينئذ يصير هذا القياس الذي ذكرتموه ضائعا. وإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن امتناع حدوث الحادث لا بسبب لا يعلم ، إلا بالدليل. فحينئذ يبقى للسائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : إن أفعالنا وإن وقعت عند حصول إرادتنا إلا أنها وقعت على سبيل الاتفاق من غير مؤثر أصلا؟ فإن أثبتنا هذه المقدمة بقياس آخر ، لزم التسلسل وهو محال.

فإن قالوا : الدليل على فساد هذا الاحتمال : أنه لو كان وقوع أفعالنا عند حصول إرادتنا ، وقوعا لمحض الاتفاق من غير تأثير مؤثر ولا حصول مرجح أصلا ، وجب أن لا يطرد على نسق واحد. لأن الأحوال الاتفاقية لا تطرد ، بل تختلف أحوالها. فكان يلزم أنه قد (٣) يتفق حدوثها عند كراهاتنا ، وأن لا يتفق حدوثها عند إرادتنا.

فنقول في الجواب عن هذا السؤال : لم لا يجوز أن يقال : أنها وإن حدثت

__________________

(١) العبد (ت ، س).

(٢) وعنده أن ثبوتها (ت).

(٣) لا يتفق (ت).

على سبيل الاتفاق ، إلا أنه اتفق في هذه الصورة الواحدة من الاتفاقيات أنها بقيت دائمة على نسق واحد؟ وذلك لأن بتقدير أن لا يكون الحدوث على سبيل الاتفاق (١) ممتنعا في أول العقل [لم (٢)] يكن كون بعض الاتفاقيات دائما على نسق (واحد] (٣) ممتنعا أيضا في أول العقل. وحينئذ يسقط هذا الدليل. وهذا السؤال واقع على هذا الدليل.

السؤال الثالث : سلمنا أن أفعالنا واقعة بنا. فلم قلتم : إن علة هذه الحاجة هي الحدوث؟ وتقريره : إنا سنقيم الدلائل الكثيرة في مسألة الحدوث والقدم ، على أن الحدوث لا يجوز أن يكون علة للحاجة إلى المؤثر ، ولا جزءا من هذه العلة ، ولا شرطا لها.

السؤال الرابع : سلمنا أن حدوث أفعالنا علة لاحتياج أفعالنا إلينا. فلم قلتم : إنه يلزم منه أن يكون حدوث العالم علة لاحتياج العالم إلى الفاعل؟ وتقريره : إن حدوث أفعالنا عبارة عن حدوث مقيد ، بقيد كونه حاصلا في أفعالنا. ولا يلزم من كون هذا المجموع علة للحاجة ، كون الحدوث فقط علة للحاجة.

فإن قلتم : إنا نعلم بالضرورة : أن ذلك الحدوث ما كان علة لتلك الحاجة لكون ذلك الحدوث الخاص ، بل لمجرد كونه حدوثا. فنقول : فهذا إنما يتم لو ثبت لكم : أن الحدوث من حيث هو حدوث ، علة للحاجة. وإن كان ذلك معلوما بالبديهة ، فقد ضاع سعيكم في تقرير هذا الدليل الطويل. وإن كان ذلك محتاجا إلى الحجة. فأنتم ما ذكرتم إلا هذا القياس. وقد ظهر في هذا السؤال : أن هذا القياس لا يصح ، إلا إذا ثبت أن الحدوث من حيث هو حدوث ، علة للحاجة. وحينئذ يتوقف الدليل على المدلول ، والمدلول على الدليل. فيلزم الدور.

[وهذا تمام الكلام في هذا الموضع. وبالله التوفيق] (٤).

__________________

(١) الانقلاب (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) سقط (س).

الفصل الحادي والعشرون

في

إثبات العلم بالصانع بطريقة حدوث الصفات

اعلم : أنا قبل العلم بإمكان [ذوات] (١) الأجسام وقبل العلم بحدوثها : نشاهد حدوث أحوال وصفات ، لا يقدر البشر عليها. فلا جرم يمكننا أن نستدل بها على وجود الصانع.

فاعلم : أن الأجسام التي هي المحال لهذه الحوادث المشاهدة المحسوسة : إما أن تكون هي الأجسام الفلكية ، أو الأجسام العنصرية. أما الأجسام الفلكية فهي الأفلاك والكواكب. والبحث عنها إما أن يقع في كيفية حركاتها ودورانها وطلوع الكواكب وغروبها (٢). وإما أن تقع بحسب الليل والنهار ، واعتبار أحوال الأضواء والإظلال (٣) وأما تقع بحسب الأحوال المختلفة التي تعرض للكواكب بسبب قربها أو بعدها من سمت الرءوس ، وبسبب المصالح الحاصلة من الفصول الأربعة.

وأما الأجسام العنصرية فهي إما بسائط أو مركبات. أما البسائط فالبحث [عن أحوال العناصر الأربعة] (٤) وتركيباتها وصفاتها وكيفية ما أودع الله تعالى

__________________

(١) من (ت).

(٢) في غروبها (ت).

(٣) والأظلال والظلمات (ت).

(٤) سقط (س).

فيها من العجائب والمنافع. وأما المركبات فهي أربعة : الآثار العلوية والمعادن والنبات والحيوان. والإنسان داخل في الحيوان. والبحث عن الإنسان ، إما عن تشريح بدنه [لمعرفة] (١) ما أودع الله فيه من [الأسرار] (٢) والعجائب والغرائب. وإما عن تشريح القوى النفسانية وأحوالها العجيبة من أنواع إدراكاتها وأفعالها.

واعلم : أن هذا النوع من الدلائل أوقع في القلوب وأكثر تأثيرا في العقول ، وأبعد عن جهات الشبهات.

[والسبب فيه. وجوه :

الأول : إن في هذا النوع من الدلائل الحس والخيال معا ضدان العقل فتزول] (٣) الشبهات. والثاني : إنها كثيرة متعارضة بسبب الكثرة ، والتوالي يفيد القوة والجزم (٤) والثالث: إن هذه الأشياء إن كانت دلائل من بعض الوجوه ، فإنها منافع من وجه آخر. والإنسان مجبول على حب المنافع. فكان حبه لها ، وميل طبعه إليها يمنعه من إنكارها ، ومن إلقاء الشبهات فيها. والرابع : إنه لا ينفك في شيء من أحواله عن مشاهدة شيء فيها ، ومباشرة قسم من أقسامها. وكثرة الممارسة تفيد الملكة الراسخة.

وإذا عرفت هذه الوجوه المقتضية لرجحان هذه الطريقة على سائر الطرق. فنقول : لما كان الأمر كذلك ، كانت الكتب الإلهية مملوءة من هذا النوع من الدلائل. لا سيما القرآن العظيم. وكذلك فإنك متى أوردت أنواعا كثيرة من هذه الدلائل ، طابت القلوب ، وخضعت(٥) النفوس ، وأذعنت الأفكار ، للإقرار بوجود الإله الحكيم. ومن أراد الاستقصاء فيه. فكأنه لا يتم

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) سقط (س).

(٤) والحرية (ت).

(٥) وصغيت (ت).

مقصوده إلا بشرح أسرار حكمة الله تعالى في جميع مخلوقاته ، وكل مبدعاته (١) في عالمي الخلق والأمر ، وحشر (٢) الأجساد ، والأرواح. إلا أنا ننبه على معاقد هذه الأجناس [والأنواع] (٣) بحيث يصير الإنسان منها قادرا على التفريع والتفصيل. [ومن الهداية والتوفيق] (٤).

__________________

(١) مدته (ت).

(٢) وحدسي (ت ، س).

(٣) من (س).

(٤) سقط (س).

الفصل الثاني والعشرون

في

الاستدلال على وجود الإله الحكيم الرحيم

بكيفية تولد الانسان من النطفة

وتقرير هذا الدليل أن نقول : نرى أن بنية الأبدان مركبة من أعضاء مختلفة في المقدار والشكل ، والترتيب ، والصلابة ، والرخاوة. ثم إن هذه البنية مع اختلاف أجزاءها في الصفات والأحوال ، نراها متولدة من النطفة.

ثم نقول : هذه النطفة إما أن تكون جسما متشابه الأجزاء في نفس الأمر ، وإما [أن يقال] (١) إنه وإن كان متشابه الأجزاء بحسب الحس ، إلا أنه مختلف الأجزاء في الحقيقة وذلك لأن المني جسم ينفصل من ذوبان الأعضاء ، فينفصل من اللحم جزء [حصلت] (٢) فيه الطبيعة اللحمية (٣) ، ومن العظم جزء حصلت فيه الطبيعة العظيمة ، وكذا القول في جميع الأجزاء والأبعاض.

واعلم أن كثيرا من الطبيعيين ذهبوا إلى هذا القول ، واحتجوا على صحته بوجوه : ـ

الأول : عموم اللذة في جميع الأعضاء عند انفصال النطفة.

والثانية : مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين في النقصان والزيادة

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) الجسمية (ز).

والكيفية. لأن المني لما انفصل من كل البدن كانت المشابهة حاصلة في كل البدن ، ولو كان المني لا ينفصل إلا من بعض الأعضاء ، وجب أن لا تحصل المشابهة إلا في تلك الأعضاء.

والثالث : إنه لو حصل الخلل في عضو من أعضاء الوالدين ، فقد يحصل مثله في الولد ، وكذا القول في الشامات والعلامات الموجودة في جلد الوالدين ، فإنه يحصل في جلد الولد مثله ، فهذه الأحوال أمارات قوية ، توهم أن المني إنما انفصل من كل البدن ، لا من بعض أجزائه ، وعلى هذا القول فالجزء الذي ينفصل من اللحم ينعقد لحما ، والجزء الذي ينفصل من العظم ينعقد عظما ، وإذا عرفت هذا ظهر أن جرم المني ، وإن كان متشابه الأجزاء بحسب الحس ، إلا أنه مختلف الأجزاء في الحقيقة.

وإذا عرفت هذا ، فاعلم أنا نذكر كيفية الاستدلال بتكون البدن من المني على وجود الصانع الحكيم ، على كل واحد من القولين. أما على القول بأن جسم المني مشابه للأجزاء في الحقيقة [فتقرير الدليل : أن نقول : إن جسم المني متشابه الأجزاء في الحقيقة] (١) ونسبة حرارة الرحم ، والقوة الطبيعية [وتأثيره بالطبائع] (٢) والأنجم والأفلاك إلى جميع أجزاء ذلك المني على السوية. والقابل إذا كان متشابه الأجزاء كانت نسبة تأثير الفاعل إلى جميع تلك الأجزاء على السوية ، فعلى هذا التقدير يجب أن يكون الأثر متشابها [وأن يكون الفعل متساويا] (٣) وكان يجب أن يكون بدن الإنسان جسما متشابه الأجزاء من الطبع والصفة والخاصية ، ومعلوم أنه ليس كذلك.

وأيضا : فمذهب الحكماء أن القوة الواحدة إذا عملت في المادة الواحدة ، وجب أن يكون الشكل الحاصل هو الكرة ، فكان يلزم أن يكون بدن الإنسان من جسم واحد متشابه الأجزاء في الطبيعة ، وأن يكون شكله هو الكرة ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

وحيث لم يكن [الأمر] (١) كذلك علمنا أن المؤثرية في تكوين بدن الإنسان ليس هو القوة الطبيعية ، بل الإله الحكيم الرحيم.

وأما على القول بأن جسم المني جسما مركبا من أجزاء مختلفة الطبائع [فنقول : تقرير هذا الدليل بناء على هذا القول من وجهين :

الأول : كل مركب فإنه ينتهي تحلل تركيبه إلى البسائط ، فإذا كان جسم المني مركبا من أجسام مختلفة الطبائع] (٢) فكل واحد من تلك الأجسام يجب أن يكون [جسما] (٣) بسيطا في نفسه ، والقوة العاملة في تلك المادة البسيطة لا تقبل إلا شكلا متشابها ، وهو الكرة ، وحينئذ يلزم أن يكون جسم الإنسان مشكلا بشكل كرة ، مضموم بعضها إلى البعض ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، فقد فسد هذا القول.

والوجه الثاني : إن جسم المني جسم رطب ، والجسم الرطب لا يحفظ وضع الأجزاء وترتيبها ، فالجزء الذي يكون مادة للدماغ جزء مخصوص ، والجزء الذي يكون مادة للقلب جزء آخر. وإذا كان الجسم الرطب لا يحفط الوضع والترتيب ، فلعل الجزء الذي هو مادة للقلب ، يحصل فوق الجزء الذي هو مادة للدماغ ، يحصل في الوسط. وحينئذ يجب أن يتولد ذلك الإنسان بحيث يصير قلبه فوق ، ودماغه في الوسط ، وحيث لم يكن الأمر كذلك [البتة] (٤) علمنا : أن حصول جواهر هذه الأعضاء ، وحصول ما بها من الترتيب ، إنما كان بتخليق إله قدير حكيم عليم ، لا بتأثير الطبائع والأفلاك. فإن من لا يكون عليما حكيما امتنع أن تصدر عنه الأفعال المحكمة المتقنة [الموافقة للمصالح] (٥) وهذا دليل قوي كامل. ولقوة ظهوره ، ذكره الله تعالى في

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

القرآن العظيم ، في أكثر من ثمانين موضعا (١).

فإن قيل : السؤال عليه من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : إن كل واحد من أجزاء الرحم مخصوص بخاصية لأجلها ، توجب حدوث الكيفية المخصوصة في الجزء الذي يتصل به من المني ، فيكون تولد الأعضاء المختلفة لهذا السبب؟

السؤال الثاني : لم لا يجوز أن يقال : حلّ في جسم المني قوة مخصوصة ، وهي المسماة بالقوة المولدة ، وتلك القوة المولدة هي التي أفادت هذه الآثار المختلفة وفعلت هذه الآثار العجيبة؟ فإن قالوا : هذا محال لأن هذه القوة الحالة في جسم المني ، المسماة بالقوة المولدة ، إما أن يكون لها علم بوجود المنافع والمصالح وقدرة على تحصيل الوجه الأصلح الأصوب من التركيبات الموافقة ، وإما أن يقال : هذه القوة قوة لا شعور لها [بشيء] (٢) ولا قدرة لها على تحصيل شيء ، بل هي قوة خالية عن الشعور والإدراك.

أما القسم الأول : فهو باطل. إذ لو كان الأمر كذلك ، لكانت تلك القوة عالمة بوجود المنافع والمصالح ، والمضار ، والمفاسد ، وقادرة على تحصيل المنافع ، ودفع المضار ، ولكانت هي التي خلقت هذا البدن ، وركبت هذه البنية على هذا التركيب العجيب ، والتأليف الغريب ، لكنا نعلم بالضرورة أنه ليس الأمر كذلك لأن القوى البدنية ، والنفس الإنسانية [في حال كمال العقل ، وفي حال كمال البدن أكمل حالا مما كانت في أول الأمر حال ما كان البدن نطفة ، فلما لم تقدر النفس الإنسانية] (٣) حال كمالها على شيء من هذه الأحوال ، ففي الحالة التي كانت في غاية النقصان والتصور. كيف يعقل أن يقال : إنها

__________________

(١) من ذلك قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون ١٢ ـ ١٤].

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

قدرت على هذه الأفعال [العجيبة] (١)؟ وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : القوة المولدة قوة خالية عن الشعور ، والإدراك ، والفهم. فنقول : فعلى هذا [التقدير] (٢) تكون قوة موجبة لذاتها ، أثرا من الآثار من غير شعور ، ولا إدراك ، ولا قصد ، والمادة بسيطة متشابهة ، وحينئذ ترجع الإلزامات المذكورة من كون ذلك الإنسان كرة واحدة ، أو كرات مضموم بعضها إلى بعض ، من غير أن يكون وضع الأعضاء وترتيبها معتبرا ، بل يكون متعسر الترتيب ، واقعا كما تقع الأشياء الاتفاقية (٣) وكل ذلك باطل.

أجاب السائل عنه : إن كثيرا من الأطباء ، والفلاسفة يقولون : إن الطبيعة حكيمة [وإنها] (٤) كاملة الحكمة ، والقدرة ، والمعرفة. وإذا كان هذا قولا قاله بعض الناس ، فما الدليل على فساده؟ سلمنا : أنها ليست موصوفة بالعلم والقدرة ، لكن لم لا يجوز صدور الأفعال المحكمة المتقنة عنها؟

ويدل على أن الذي ذكرناه محتمل وجهين (٥) :

الأول : إن الأفعال الصناعية ، إذا صارت ملكات راسخة في النفس ، وبلغت إلى حد الكمال والتمام ، فإن العقلاء إذا أرادوا وصفها بالتمام والكمال شبهوها بالطبيعة ، فيقولون : إن هذا العمل صار طبيعيا له ، وهذه الحرفة صارت طبيعة له ، ولو لا أنه تقرر في عقولهم : أن أفعال الطبيعة أكمل وأقوى وأتم ، لما شبهوا الصناعة بالطبيعة ، حال محاولة وصفها [بالكمال والتمام].

والثاني : إن من لم يعلم حرفة الكتابة ، أو حرفة ضرب الطنبور ، فإنه ما دام يحتاج في الإتيان] (٦) بتلك الأعمال إلى الرؤية في نقش نقش ، ونقر نقر ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) المتعاقبة وذلك باطل (ز).

(٤) من (ز).

(٥) الأصل : وجوه.

(٦) من (ز).

فإنه لا يكون كاملا في تلك الحرفة ، ولا ماهرا في تلك الصنعة ، أما إذا بلغ [حد] (١) الكمال ، والتمام في الحرفة ، فذاك إنما يكون إذا استغنى عن التأمل في حرف حرف ، ونقر نقر ، ويصير متمرسا على الإتيان بذلك العمل بمقتضى الطبيعة. وهذا يدل على أن عمل الطبيعة في غاية الكمال والتمام.

السؤال الثالث : أن نقول : إن دلّ ما ذكرتم على أن هذا التركيب لم يصدر إلا من إله العالم ، فههنا ما يدل على فساده ، وذلك لأن هذه التركيبات العجيبة كما أنها حاصلة في تركيب بدن الإنسان ، فهي أيضا حاصلة في تركيب بدن البعوض ، والبق ، والنمل ، والدود ، فلو قلنا : بأن هذه التركيبات لا تحصل إلا بإيجاد خالق العالم. ألزمناه بأن نقول : بأن تولد الدود في النجاسة لم يحصل إلا بإيجاد (٢) إله العالم ، وكذلك القول في تولد جميع الحيوانات الخسيسة القذرة ، وذلك بعيد ، لأن إله العالم على جلالة قدرة ، يبعد أن يتولى إيجاد هذه الحيوانات الخسيسة.

السؤال الرابع : سلمنا أن بدن الخلق (٣) لا يتكون إلا بتخليق فاعل حكيم ، فلم لا يجوز أن يقال : ذلك الخالق هو فلك من الأفلاك ، وكوكب من الكواكب ، وهي أحياء ناطقة عالمة حكيمة ، تامة الحكمة كاملة العلم؟ فما لم تبطلوا هذا الاحتمال ، لم يتم دليلكم في إثبات الإله الحكيم.

السؤال الخامس : إن خالق أبدان الحيوانات شيء آخر سوى الأفلاك والكواكب ، فلم لا يجوز أن يقال : خالقها روح من الأرواح الفلكية ، مثل نفس ، أو عقل ، أو ملك من الملائكة ، على ما هو مذهب الهند. فإنهم يعتقدون أن المدبر (٤) لكل طرف [من أطراف] (٥) الأرض ولكل بقعة من

__________________

(١) من (س).

(٢) بتخليق (س).

(٣) الحيوانات (س).

(٤) المؤثر (س).

(٥) من (س).

بقاع العالم : روح سماوي (١) على التعيين ، ثم إنهم لأجل هذا الاعتقاد بنوا لكل واحد من تلك الأرواح ، [هياكلا وصورا ، وزعموا : أنها تجري مجرى التمثال لذلك الروح (٢)] ثم يبالغون في تعظيم [ذلك] (٣) ويزعمون : أن تلك الملائكة بأسرها عباد الله ، وأن البشر ليس لهم أهلية عباد الله [تعالى] (٤) بل الغاية القصوى في حقهم عبودية الملائكة ، الذين هم عباد الله. فما لم تبطلوا بالدليل هذا الاحتمال ، لم يحصل مقصودكم [والله أعلم] (٥).

والجواب : قوله : «لم لا يجوز أن يختص كل واحد من أجزاء الرحم بخاصة ، لأجلها يفيد الأثر المخصوص»؟ قلنا : إن الحس يدل على أن الرحم متشابه الأجزاء في الطبيعة والخاصية ، وأيضا : فأكثر الأعضاء المختلفة في القوة (٦) والصفة إنما تتكون في داخل البدن وأجزاء الرحم لا تلاقى شيئا منها.

قوله : «لم لا يجوز أن يكون المؤثر في حدوث هذه الأبدان [أن يكون] (٧) هو القوة الطبيعية المولدة؟

قلنا : نحن نعلم بالضرورة أن القوى الطبيعية الموجودة في أعضائنا ليس لها الحكمة التامة ، والقدرة التامة ، ونعلم بالضرورة أن الخالي عن العلم والقدرة لا يمكنه إيجاد مثل هذه البنية المشتملة على هذه المنافع العجيبة ، وكل ما يذكر في تقرير هذه المقدمة ، فهو يجري مجرى إيضاح الواضحات ، كل ما يذكره الخصم في إبطالها فهو يجري مجرى إنكار البديهيات.

وقد صنف محمد بن زكريا الرازي كتابا في إقامة الدلالة على وجود الإله الحكيم بواسطة بدن الإنسان ، وقال في أول تلك الرسالة : «من رأى إبريقا وتأمل في كيفية تركيبه ، فرأى رأس الإبريق كالقمع الواسع ، ورأى بنيته معتدلة في الضيق والسعة ، ورأى عروته على شكل مخصوص ، ثم علم أن رأسه

__________________

(١) سماوات (س).

(٢) من (س) الصحيح هياكل.

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) الصورة (س).

(٧) من (ز).

الواسع يصلح لأن ينصب الماء فيه ، وعلم أن بقية بنيته الواقعة على الحد المتوسط [في السعة] (١) والضيق ، صالحة لأن تخرج الماء منه بالقدر المعتدل ، وعلم أن عروقه صالحة لأن توجد [باليد] (٢) فمن كان عقله سليما عن أصناف الآفات ، نقيا. قطع بأن هذا الإبريق المركب من هذه الأجزاء الصالحة لهذه المنافع ، لم يتكون بنفسه ، ولم يتخلق بذاته. وأيضا : لم يتكون بحسب الطبيعة الخالية عن الشعور والإدراك ، بل يقطع بأن فاعلا عالما قادرا علم أن الانتفاع لا يتم إلا بهذا الإبريق في المقاصد المخصوصة [إلا عند حصول هذه الأجزاء الثلاثة على هذه الصفات المخصوصة] (٣) أما الرأس الواسع فلأجل أن يسهل صب الماء في الإبريق ، وأما الثقبة المعتدلة في البلبلة فليحسن خروج الماء منه بالقدر المعتدل ، وأما العروة فليسهل أخذها باليد عند الحاجة إلى استعماله. فلما علم ذلك الفاعل الحكيم أن الانتفاع بالإبريق لا يكمل إلا عند حصول هذه الصفات الثلاثة ، لا جرم ركب ذلك الحكيم خلقه هذا الإبريق على هذا الوجه الصالح والهيئة الموافقة لهذا المقصود».

ثم إن محمد بن زكريا بعد أن ذكر هذا المقال الحسن ، الموافق للمقصود ، شرع في شرح آثار حكمة الرحمن (٤) في تخليق بدن الإنسان ، وذكر بعض ما فيه من التركيبات العجيبة والهيئات المطابقة للحكمة والمصلحة ، ثم قال بعدها : «وصريح العقل شاهد بأن هذه العجائب والبدائع في تركيب هذا البدن لا يمكن صدورها إلا عن قادر حكيم خلق هذه البنية بقدرته ، وأحكمها بحكمته».

واعلم أن هذا البيان الذي ذكره (٥) محمد بن زكريا في هذا الموضع بيان حسن كامل ، وعند هذا يظهر للعقل السليم : أن هذه الوجوه المتكلفة المذكورة في بيان أنه يجوز صدور هذه الآثار العجيبة الحاصلة في تخليق بدن الإنسان عن الطبيعة المحضة ، الخالية عن العلم والقدرة : وجوه ضعيفة خسيسة جارية

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) الله تعالى (س).

(٥) ذكره هذا الرجل في هذا الموضع (س).

مجرى إخفاء قرص الشمس بكف من التراب.

قال [تعالى] (١) في الكتاب الإلهي : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ؟ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ ، فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢) فقوله : «فجعلناه في قرار مكين ، إلى قدر معلوم» معناه : أن طبيعة المني تقتضي النقل والزوال ، إلا إذا دبر خلقه في الرحم [تدبيرا عجيبا يقتضي استمساك تلك القطرة. في الحريم. إنا دبرنا خلقة ذلك العضو] (٣) بحيث يقتضي استمساكها إلى حد معين ، وزمان معلوم ، وهو المدة التي يحتاج الجنين فيها إلى الاستكمال والتمام ، فإذا تم البدن وكملت الخلقة زال ذلك الاستمساك ، وبطل ذلك الحفظ ، وانقلبت الطبيعة الحافظة الممسكة إلى مرسلة مخرجة ، وعند ذلك ينفصل الولد عن الرحم فقوله : «إلى قدر معلوم» إشارة إلى أن بقاء ذلك الجسم في الموضع المعلوم ، ممتدا إلى مقدار الحاجة ، فإذا انقضى زمان الحاجة ، لم يبق الاستقرار في ذلك الموضع ، ثم قال : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يعني من عرف أن هذه أفعال واقعة على وجه الحكمة ، والرحمة ، وإفاضة النعمة. ثم إن إنسانا لو أضافها إلى طبيعة لا شعور لها ولا إدراك ، ولا قدرة على فعل من الأفعال ، كان ذلك مكذبا بالعلوم البديهية ، وجاحدا للمعارف اليقينية (٤) ، فيكون مستحقا للويل والبلاء.

وأما قوله : «لم لا يجوز أن يضاف ذلك إلى الطبيعة ، بسبب أن الناس يضيفون الأفعال الحسنة إلى الطبيعة»؟ قلنا : دفع البديهيات لأجل التمسك بكلمات يذكرها بعض أهل العرب باطل. قوله : «يلزم إضافة تخليق جميع الحيوانات إلى خالق العالم» قلنا : وهكذا نقول : وأما ما يتعلق بالحسن والقبح فالكلام فيه سيأتي بالاستقصاء. قوله : «لم لا يجوز أن يكون المباشر لتخليق هذه الأبدان هو الأفلاك والكواكب»؟ قلنا : لا شك أن هذا الاحتمال قائم ،

__________________

(١) من (س).

(٢) بدل «ويل .. الخ» في (ز) كلمة الآية في (س) وهي في سورة المرسلات ٢٠ ـ ٢٤.

(٣) من (ز).

(٤) في (ز) كان مكذبا بالضرورة ، جاحدا للمعارف البديهية.

لكنا لما بينا أن الأجسام متماثلة ، فحينئذ يظهر لنا : أن اختصاص كل فلك ، وكل كوكب بصفته المعينة [وخاصيته المعينة] (١) إنما كان بتخليق الإله الحكيم ، وعلى هذا التقدير فلا يضرنا هذا الكلام. وأما قوله : «لم لا يجوز أن يكون فاعل هذه التركيبات عقل ونفس»؟ قلنا : هذا الاحتمال قائم. إلا أنا نقول : ذلك العقل أو النفس ، إن كان ممكن الوجود افتقر إلى السبب ، والدور والتسلسل باطلان ، فلا بد من الانتهاء إلى واجب الوجود لذاته [وإن كان ذلك الشيء واجب الوجود] (٢) فهو المقصود.

واعلم أن الحرف المعدات للحاجات والضرورات ، لا تندفع إلا بالانتهاء ، إلى واجب الوجود لذاته ، فلهذا السبب جاء في الكتاب الإلهي قوله تعالى : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٣).

ومن تأمل على الوجه الحقيقي عرف أن هذه الكلمة ينبوع الخيرات ، ومركز المصالح والسعادات [وبالله التوفيق] (٤).

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) النجم / الآية ٤٢.

(٤) من (س).

الفصل الثالث والعشرون

في

إقامة الدلالة على وجود إله العالم بناء على

حدوث الصفات من طريق آخر

اعلم أن الطريق الذي ذكرناه في الاستدلال بحدوث بدن الإنسان هو استدلال بحال[من الأحوال.

وهاهنا طريق شبيه به ولكنه استدلال بحال (١)] من أحوال عالم الأفلاك وهو العالم الأعلى. ومن المعلوم : أن الاستدلال بأحوال ذلك العالم على وجود الإله أظهر وأقوى. كما قال في الكتاب الإلهي : «لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس» (٢). وهذا الطريق هو الذي كان يعول عليه قدماء الفلاسفة في إثبات الإله ، لهذا العالم. قالوا : حصل في هذا العالم أدوار لا نهاية لها ، وحركات لا أول لها ولا آخر ولا بد لها من فاعل ، وفاعلها يكون قويا على أفعال لا نهاية لها ، وفاعل الأفعال (٣) التي لا نهاية لها ، يمتنع أن يكون جسما أو جسمانيا ، فوجب الاعتراف بموجود ليس بجسم ولا بجسماني ، وهو المحرك لهذه الأفعال ، والكواكب. وذلك الموجود هو الله تعالى.

واعلم أن هذا الدليل مركب من مقدمات :

المقدمة الأولى : في إثبات حركات لا أول لها ولا آخر لها. والحكماء عولوا

__________________

(١) من (ز).

(٢) غافر ٥٧.

(٣) أفعال (ز).

في إثبات هذا المطلوب على أن الزمان مقدار الحركة ، ثم قد يثبت (١) أن الزمان يمتنع بأن يحصل له أول وآخر فوجب الاعتراف بوجود حركة لا أول لها ولا آخر لها.

ومقدمات هذه الحجة مشهورة [وقال المصنف رحمة الله عليه] (٢) : وعندي أنه يمكن تقريره بطريق آخر بناء على أصول الفلاسفة ، فيقال : لا شك أن هاهنا حركات وتغييرات ، فهذه الحوادث لا بد لها من سبب ، وسبب هذا الحادث إما أن يكون قديما أو حادثا فإن كان قديما فإما أن يتوقف إلحاقه لهذا الحادث على شرط ، أو لا يتوقف فإن لم يتوقف فحينئذ قد كان هذا القديم موجودا من الأزل [إلى الآن] (٣) من غير صدور هذا الحادث عنه ثم صدر (٤) هذا الحادث من غير أن يتميز هذا الوقت عن سائر الأوقات ، بما لأجله صار أولى بحدوث هذا الحادث ، وهذا يقتضي رجحان الممكن لا لمرجح وهو محال ، فثبت أن بتقدير أن يكون السبب المؤثر في حدوث هذا الحادث موجودا قديما ، إلا أنه يجب الاعتراف بأن تأثيره في وجود هذا الحادث مشروط بشرط حادث ، فحينئذ يرجح الأمر إلى القسم الثاني وهو أن [الأثر] (٥) الحادث لا بدّ له من سبب حادث. ثم الكلام في ذلك الحادث كالكلام في الأول فيفضي هذا إلى التسلسل وإما أن يحصل [التسلسل في أسباب ومسببات توجد دفعة واحدة وهو محال ، وإما أن لا يحصل] (٦) بحيث يكون كل واحد منها مسبوقا بآخر لا إلى أول ، وذلك هو الذي تقول به الفلاسفة ، ويذهبون إليه. وعند ظهور هذا المعنى قد ثبت لهم وجود حوادث لا أول لها ، ووجود حركات لا بداية لها.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولهم : هذه الحوادث لا بد لها من مؤثر [وفاعل وموجد] (٧) فتقرير هذه المقدمة مبني على أن الجسم يمتنع أن يتحرك لنفسه أو لذاته ، والكلام في هذه المسألة مذكور في العلم الطبيعي على سبيل

__________________

(١) ثم ثبت (س).

(٢) من (ز).

(٣) سقط (س) وفي (ز) من الأول.

(٤) ثم صدر عنه من ... الخ (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

الاستقصاء ، وإذا ثبت أنه يمتنع كونها متحركة [لذواتها] (١) وجب القول بأنه لا بدّ لها من محرك يحركها ومؤثر يؤثر في وجود حركاتها.

وأما المقدمة الثالثة : فهي بيان أن القوة الجسمانية لا تقوى على أفعال غير متناهية(٢) ، وتقرير (٣) هذه المقدمة : أن كل قوة جسمانية فهي حالة في محل متحيز (٤) وكل متحيز (٥) منقسم ، بناء على نفي الجوهر الفرد ، وكل ما كان حالا في محل منقسم. فهو منقسم ، وكل قوة جسمانية ، فهي منقسمة. إذا ثبت هذا فنقول جزء تلك القوة إما أن لا يقوى على شيء أصلا ، أو يقوى عليه الكل ، أو يقوى على شيء انقص مما يقوى عليه الكل ، والأقسام الثلاثة باطلة. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يقال : إن جزء القوة لا يقوى على شيء أصلا [لأن تلك القوة ليس إلا تلك الأجزاء ولا يقوى على شيء أصلا] (٦) فوجب أن يقال : إن مجموع تلك القوة لا تقوى على شيء أصلا ، فيلزم أن يقال : إن القوة على الشيء ، ليست قوة على الشيء. هذا خلف.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن جزء القوة يقوي على تمام ما تقوى عليه كل القوة فهذا أيضا [محال لأنه يلزم أن يكون الكل مثل الجزء من غير تفاوت أصلا ، وذلك محال.

وأما الثالث (٧)] : وهو أن يقال : إن جزء القوة يقوى على بعض ما يقوى عليه الكل. فنقول : إذا كان الأمر كذلك ، فإذا فرضنا أن كل تلك القوة وجزءها أخذا في التحريك من مبدأ معين ، فحينئذ يلزم أن يتناهى فعل الجزء ، وإذا كان كذلك ففعل الكل يكون أضعاف (٨) فعل الجزء بمرات متناهية ، وأضعاف المتناهي ، متناهي فوجب [أن يكون] (٩) فعل القوة متناهيا [فثبت] (١٠) أن القوى الجسمانية يجب أن تكون أفعالها متناهية ، ويمتنع صدور

__________________

(١) من (س).

(٢) الأفعال المتناهية (ز).

(٣) ويؤيد (س).

(٤) متحرك (س).

(٥) متحرك (س).

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

(٨) موصوفا بصفات (ز).

(٩) من (ز).

(١٠) من (س).

أفعال غير متناهية عن القوة الجسمانية.

فقد ظهر من هذا الوجه صحة هذه المقدمات. وإذا ثبت هذا فنقول : ثبت بالدليل وجود حركات غير متناهية ، وثبت بالدليل أنه لا بد لها من مؤثر يؤثر فيها ، ومن موجد يوجدها ، وثبت بالدليل أن موجد الأفعال الغير متناهية يمتنع أن يكون جسما أو جسمانيا فلم يبق إلا الاعتراف بوجود موجود ليس بجسم ولا بجسماني ، وهو المحرك لأجرام الأفلاك والكواكب ، وهو المحرك للعناصر بحسب امتزاجاتها التي لا بداية لها ، وذلك الموجود هو إله العالم ومدبر العالم. وهذه الطريقة كان قدماء [الفلاسفة من (١) أصحاب أرسطاطاليس يعوّلون عليها في إثبات الإله لهذا العالم.

واعلم أن مذهب المتكلمين : أن القول بوجود حوادث لا أول لها محال ، وأنه يجب انتهاء الحوادث إلى حادث هو أول الحوادث. ودلائلهم كثيرة سنذكرها في مسألة الحدوث والقدم. إلا أنا نذكر هاهنا واحدا من تلك الدلائل ، فنقول : إن الدليل على أن [الأمر] (٢) كما ذكرناه : أن ماهية الحركة وحقيقتها : أنها انتقال من حالة إلى حالة ، وكل ما كان كذلك فإن حقيقته تقتضي أن يكون مسبوقا [بالحالة المنتقل عنها ، وكل ما كان كذلك ، فإن حقيقته تقتضي أن تكون مسبوقة] (٣) بغيرها ، فثبت أن حقيقة الحركة وماهيتها تقتضي أن تكون مسبوقة بغيرها. واما [حقيقة] (٤) الازل ونفى الاولية فهي تقتضى ان لا تكون مسبوقة بغيرها ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا حركة موجودة في الأزل ، فهي لكونها حركة. إما أن تكون مسبوقة بغيرها ، أو لكونها أزلية يجب أن لا تكون مسبوقة بغيرها. وذلك يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال. فيثبت بهذا البرهان : أنه لا بد للحركات من أول ، ومن بداية ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنه قبل ذلك الوقت الذي هو أول الحركات ، إما أن يقال : كانت

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) سقط (س). والأول (ز).

الأجسام بأسرها معدومة ثم وجدت وتحركت ، أو يقال : الأجسام وإن كانت موجودة إلا أنها كانت واقفة ساكنة ، فلما جاء ذلك الوقت أحدث في حركاتها السريعة ، بعضها إلى المشرق وبعضها إلى الغرب ، وبعضها إلى الشمال ، وبعضها إلى الجنوب. وعلى كلا التقديرين فصريح العقل يشهد بافتقارها إلى إله يحركها ويدبرها. وأما إن قلنا : إنها كانت معدومة [محضة] (١) ثم وجدت وتحركت ، فالعقل يقضي بافتقارها إلى الموجد ، وأما إن قلنا : إنها كانت موجودة ، (٢) ولكنها كانت واقفة ثم ابتدأت من ذلك الوقت بالحركة فإن العقل أيضا يقضي بافتقارها إلى المحرك والمدبر ، فثبت أن حركات الأفلاك تدل على جميع الاعتبارات ، على افتقارها إلى مدبر يدبرها [ومحرك يحركها. واعلم أن الفلاسفة. قالوا : حركات الأفلاك لا أول لها ، فوجب افتقارها إلى محرك يحركها ، ومدبر يدبرها] (٣) والمتكلمون قالوا : حركات الأفلاك لها أول. فوجب افتقارها إلى محرك ومدبر. ويمكن أيضا أن يقال : هذه الحركات إما أن يقال : إنه لا أول لها ، وإما أن يقال : لها أول.

فإن قلنا : إنه لا أول لها وجب افتقارها إلى الإله الذي ليس بجسم ولا بجسماني بالطريق الذي ذكره الفلاسفة ، وإن قلنا : إن تلك الحركات لها بداية ، ولها أول ، وجب أيضا افتقارها إلى المؤثر المحرك بالطريق الذي ذكره المتكلمون.

فظهر أن على جميع التقديرات لا بدّ من الاعتراف بوجود إله لهذا العالم يدبره ويتصرف فيه كيف [شاء] (٤) وأراد : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥) [وبالله التوفيق] (٦).

__________________

(١) من (س).

(٢) معدومة (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) الأعراف ٥٤.

(٦) من (ز).

الفصل الرابع والعشرون

في

تقرير طريقة أخرى في إثبات الإله تعالى لهذا الخلق

اعلم أن من تدبر في أجزاء العالم الأعلى والأسفل ، ظهر له أن هذا العالم مبني على الوجه الأصلح والأصوب والترتيب الأفضل والأتقن (١) ، وصريح العقل شاهد بأن وقوع الشيء على هذا الوجه لا يكون إلا بتدبير حكيم عالم. فهذا الطريق يدل على وجود الإله لهذا العالم.

ولنذكر ضوابط هذا الباب فنقول : محل الاعتبار ، إما أن يكون هو العالم الأعلى أو العالم الأسفل ، فإذا كان محل الاعتبار هو موجودات العالم الأسفل فهذا يقع على وجوه : أحدها : [العجائب الكثيرة التي أودعها الله تعالى في بدن الإنسان. وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب تشريح بدن الإنسان.

وثانيها] (٢) : العجائب الكثيرة التي أودعها الله تعالى في روح الإنسان ونفسه ، وتمام الكلام فيه مذكور في كتاب النفس.

وثالثها : عجائب أحوال الحيوانات ، وتفاصيلها ، وهي مذكورة في كتاب الحيوان.

ورابعها : عجائب أحوال النبات ، وهي مذكورة في كتاب النبات.

__________________

(١) والأليق (س).

(٢) من (س).

وخامسها : عجائب أحوال المعادن ، وهي مذكورة في كتاب المعادن. أعني خواصها وتأثير بعضها في بعض ، وتولد العجائب والغرائب من كيفية امتزاجاتها. وكتب الأكثرين تدل على أحوال كثيرة منها.

وسادسها : عجائب الآثار العلوية.

وسابعها : عجائب طبقات العناصر. وهي مذكورة في كتاب صفات العناصر.

وثامنها : العجائب الحاصلة بسبب المناسبات المعتبرة بين تلك الأشياء وكيفية معونة كل واحد في حفظ نوع الباقي ، وأما إذا كان محل الاعتبار : هو العالم الأعلى ، فالبحث فيه من وجوه :

الأول : معرفة طبائع الأفلاك والكواكب.

ثانيها : معرفة مقاديرها ، وعين كل واحد منها.

وثالثها : معرفة حركاتها المختلفة بحسب الطول والعرض ووقوع تلك الحركات على الوجه الأصوب والأصلح. وهي خمسة وأربعون نوعا من الحركات ، وذلك لأنه يعرض لكل واحد من الكواكب السبعة ست حركات إلى ست جهات مختلفة :

إحداها : من المشرق إلى المغرب. وثانيها : من المغرب إلى المشرق.

وثالثها : من الجنوب إلى الشمال. ورابعها : من الشمال إلى الجنوب.

وخامسها : من الأعلى إلى الأسفل. وسادسها : من الأسفل إلى الأعلى.

فيكون جملتها : اثنين وأربعين نوعا من الحركة ، ويعرض للكواكب الثابتة حركتان ، وللفلك المحيط حركة واحدة فتلك خمسة وأربعون نوعا من الحركة ، ولكل واحد منها [مقدار خاص في السرعة والبطء والجهة ، ولكل واحد

منها] (١) تأثير خاص ، في منافع هذا العالم ، لو لم توجد لاختلت مصالح هذا العالم ، ولا شك أن هذه الترتيبات العجيبة لم تقع لذات الجسم فهي بتدبير مدبر حكيم عليم.

رابعها : ارتباط أحوال العالم الأسفل بأحوال حركات الأجرام العالية ، فإن بسبب الحركة اليومية يتعاقب الليل والنهار مع كثرة ما فيهما من المصالح ، وبسبب الحركة الشهرية الحاصلة بسبب القمر تكون المصالح وبسبب الحركة السنوية (٢) الحاصلة بسبب الشمس ، تحصيل الفصول الأربعة التي لا يعرف كمية مصالحها إلا الله تعالى.

وخامسها : كيفية ارتباط أحوال هذا العالم بحركة الشمس [بسيرها ، وبيان أنه جعل الشمس] (٣) سلطان عالم الأجسام وجعل سائر الكواكب كالرعية لها وربط بسيرها أحوال البحار والجبال ، ومواضع العمران ، ومواضع الخراب من الأرض.

وسادسها : التأمل في أحوال الكواكب الثابتة ، وفي أحوال الكواكب السيارة. واليقين حاصل بأنه تعالى أودع في كل واحد منها حكما باهرة ، وأسرارا عجيبة ولا سبيل للعقول البشرية إلى معرفتها إلا في القليل القليل.

واعلم أن هذا النوع من البحث بحر لا ساحل له ، وليس في شيء من الكتب بيان هذا النوع من الدلائل كما في القرآن ، فإنه مملوء من هذا النوع من البيان. قال الله تعالى (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ، وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ، وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ ، وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٤).

__________________

(١) من (س).

(٢) اليومية (س).

(٣) من (س).

(٤) البقرة ١٦٤.

فهذه الآية مشتملة على ثمانية أنواع من الدلائل. فالثلاثة الأول من الدلائل الفلكية ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) والخمسة الباقية من الدلائل ، هي دلائل عالم العناصر ، وهي قوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) ثم ذكر بعده دلائل النبات فقال : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) ثم ذكر بعده دلائل الحيوان فقال (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ثم ذكر دلائل الآثار العلوية وذكر فيها نوعين : الرياح والسحاب. فقال : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ولما ذكر هذه الدلائل الثمانية قال : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ). ونختم هذه الفصول بخاتمة عظيمة النفع ، وهي أن الدلائل التي ذكرها الحكماء والمتكلمون وإن كانت كاملة قوية ، إلا أن هذه الطريقة المذكورة في القرآن عندي : أنها أقرب إلى الحق والصواب ، وذلك لأن تلك الدلائل دقيقة ، وبسبب ما فيها من الدقة انفتحت أبواب الشبهات ، وكثرت السؤالات.

وأما الطريق الوارد في القرآن فحاصله راجع إلى طريق واحد وهو المنع من التعمق ، والاحتراز عن فتح باب القيل والقال ، وحمل الفهم والعقل على الاستكثار من دلائل العالم الأعلى والأسفل. ومن ترك التعصب ، وجرب مثل تجربتي ، علم أن الحق ما ذكرته ، ولما ثبت أن هذا الطريق الذي ذكره الله في القرآن أنفع ، وفي القلوب أرجح (١) ، لا جرم أفردنا له بابا مستقلا ، وهو القسم الثاني من هذا الكتاب. ونسأل الله تعالى الهداية والرحمة والإرشاد إلى الحق ، بفضله. فإنه خير موفق ومعين.

__________________

(١) أوقع (س).

القسم الثاني

من الجزء الأوّل

من علوم هذا الكتاب

في تفصيل الدّلائل الدّالّة على وجود الإله القديم

الدلائل الموجودة في عالم الأفلاك وعالم العناصر

الفصل الأول

في

بيان أن الاستكثار من هذه الدلائل من أهم المهمات

اعلم. أن الدلائل قد تكون قطعية ، وقد تكون إقناعية. والاستكثار من الدلائل الإقناعية قد ينتهي إلى إفادة القطع. وذلك لأن الدليل الإقناعي الواحد قد يفيد الظن ، فإذا انضم إليه دليل (١) ثان ، قوي الظن ، وكلما سمع دليلا آخر ازداد الظن قوة ، وقد ينتهي بالآخرة إلى حصول الجزم واليقين.

وهذا المعنى هو أحد الفوائد التي ذكرها صاحب المنطق في تعليم قوانين الجدل. قال : «لأن القوانين الجدلية ، وإن أفادت الظن ، إلا أن تلك الظنون ، إذا قويت فقد تنتهي إلى حد اليقين».

فيثبت : أن الجدل قد يقوم مقام البرهان في إفادة اليقين. وأولى المواضع برعاية الاحتياط فيه ، والمبالغة في التقرير ، وإزالة الشكوك ، والشبهات : معرفة الإله المدبر الحكيم، ولما بالغنا في تقرير الدلائل العقلية في القسم الأول ، أردنا أن نجمع الدلائل الظاهرة الجلية المتبادرة إلى الأفهام في هذا القسم ، ليكون ذلك سعيا في الفوز بهذه السعادة بأقصى ما يقدر عليه [وبالله التوفيق] (٢).

__________________

(١) دليل بأن الظن (م).

(٢) من (ط ، س).

الفصل الثاني

في

حكاية كلمات منقولة عن أكابر الناس في هذا الباب.

فالأول : روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمران بن الحصين : «كم لك من إله»؟ قال : عشرة. قال : «فمن لنعمك وكرمك والأمر العظيم الذي ينزل بك»؟ قال : الله [تعالى] (١) فقال عليه‌السلام : «فما لك من إله إلا الله».

الثاني : روى أن بعض الزنادقة أنكر الصانع عند جعفر بن محمد الصادق. فقال جعفر : ما حرفتك؟ فقال التجارة. فقال : هل ركبت البحر؟ قال : نعم. قال هل رأيت أهواله؟ قال : نعم. هاجت في بعض الأيام رياح هائلة ، فكسّرت السفن ، وغرّقت الملاحين ، فتعلقت أنا ببعض ألواح السفينة ، ثم ذهب ذلك اللوح عني ، فوجدت نفسي في تلاطم الأمواج ، حتى اندفعت إلى الساحل. فقال جعفر : مذ كان اعتمادك من قبل على السفينة والملاح ، وعلى اللوح ، فلما ذهبت هذه الأشياء عنك ، هل أسلمت [نفسك] (٢) للهلاك أم كنت ترجو النجاة؟ قال : بل كنت أرجو النجاة. قال : ممن ترجوها؟ فسكت الرجل. فقال جعفر : إن إلهك هو الذي [كنت] (٣) ترجوه في ذلك الوقت ، ونجاك من الغرق ، وأوصلك إلى السلامة.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

واعلم أن هذا الدليل مأخوذ من القرآن ، قال تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (١).

الثالث : كان أبو حنيفة سيفا على الدهرية وكانوا ينتهزون الفرصة في قتله فبينما هو قاعد في مسجده يوما إذ هجم عليه جماعة بسيوف مسلولة وهموا بقتله. فقال لهم : أجيبوني عن مسألة ثم افعلوا ما شئتم. فقالوا : هات. فقال : ما تقولون في رجل يقول لكم : إني رأيت سفينة مشحونة بالأحمال ، مملوءة من الأثقال ، قد احتوشها في لجة البحر أمواج متلاطمة ، ورياح مختلفة ، وهي في هذه الأحوال تجري مستوية ، ليس لها ملاح يجريها ، ولا متعهد يحفظها. هل يجوز ذلك في العقل؟ قالوا : لا ، هذا شيء لا يقبله العقل. فقال : أبو حنيفة يا سبحان الله إذا لم يجز في العقل سفينة تجري من غير متعهد ولا حافظ ، فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها ، وسعة أطرافها ، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟ فبكوا جميعا ، وقالوا : صدقت.

واعلم أن هذه الدلالة مأخوذة من قوله سبحانه : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٢) ومن قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٣)

الرابع : سألوا الشافعي [رضوان الله عليه] (٤) عن الدليل عن الصانع فقال : ورقة الفرصاد طعمها ولونها ، وريحها ، وصبغها : واحد. تأكلها دودة القز فيخرج منها الإبريسم ، ويأكلها النحل فيخرج منه العسل ، وتأكلها الظباء فينعقد في نوافجها المسك ، وتأكلها سائر الحيوانات فتفضل مع العفونة والفساد. فالذي دبر هذه الأجسام على هذه المناهج العجيبة : هو الله سبحانه.

__________________

(١) العنكبوت ٦٥.

(٢) الروم ٢٥.

(٣) الرعد ٢.

(٤) من (س).

الخامس : سئل جعفر الصادق [رضي الله عنه] (١) عن هذه المسألة أيضا فقال : شاهدنا قلعة حصينة ملساء ، ظاهرها كالفضة المسبوكة ، وباطنها مملوء من الذهب المذاب [والفضة المذابة] (٢) ثم انشقت الجدران ، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير. فلا بد من مدبر يدبره ، وصانع يخلقه. وعنى بالقلعة : البيضة. وبالحيوان : الفرخ.

السادس : سأل هارون الرشيد مالكا عن ذلك ، فاستدل باختلاف الأصوات ، وتردد النغمات ، وتفاوت اللغات ، وهو مأخوذ من القرآن في قوله تعالى : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) (٣).

السابع : سئل أبو نواس عن هذه المسألة فقال :

تأمل في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

على قضب الزبرجد شاهدات

بأن الله ليس له شريك

الثامن : سئل أعرابي عن الدليل. فقال : البعرة تدل على البعير ، والروث على الحمير، وآثار الأقدام على المسير ، فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، أما تدل على العليم القدير؟

التاسع : قيل لطبيب : بم عرفت ربك؟ فقال : بإهليلج مخفف أطلق ، ولعاب ملين أمسك. وقال آخر : عرفته بحيوان صغير ، وضع السم في أجد طرفيه ، والشفاء في طرفه الآخر. وعنى به النحل.

العاشر : سئل أبو حنيفة عن الدليل مرة أخرى فقال : اصبروا فإن قلبي مشغول ببعض المهمات ، وإذا فرغت منه أخبرتكم (٤) بذلك [الدليل] (٥) فقالوا : وما ذلك المهم؟ فقال : إن أمتعتي من ذلك الجانب من دجلة ، وإن

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) الروم ٢٢.

(٤) أجب لكم (ز).

(٥) من (ز).

بعض السفن تذهب بنفسها إلى ذلك الجانب وتلك الأمتعة تقع في تلك السفينة من تلقاء ذواتها ، وتمتلئ السفينة من تلك الأمتعة [وتعود إلى هذا الجانب ، وتخرج الأمتعة من تلقاء نفسها ، وتقع على الأرض ، وإن تلك السفينة] (١) تعود مرة أخرى إلى ذلك الجانب. فقلبي متعلق. بهذا [المعنى] (٢) المهم ، فاصبروا إلى أن يتم. فقالوا يا أبا حنيفة. هذا الكلام لا يقوله إلا معتوه. قال : ولم؟ قالوا : لأن حدوث هذه الأحوال ، وظهور هذه الأفعال لا يعقل إلا بحافظ يحفظها ، وفاعل يدبرها. فكيف يعقل حدوثها من غير فاعل؟ فقال : أبو حنيفة : فالآن أقررتم بوجود الإله. لأن أحوال هذا العالم ليست أقل درجة من أحوال هذه السفينة. فإذا كان صريح العقل شاهد بأن هذه الأحوال لا تتم إلا بمدبر ومقدر ، فأولى أن لا تتم أحوال هذا العالم إلا بمدبر ومقدر؟

واعلم أن مقصود أبي حنيفة من هذا الكلام : التنبيه على أن العلم بافتقار الحادث [إلى المحدث علم بديهي] (٣) ضروري غني عن الدليل.

الحادي عشر : سئل جعفر بن محمد مرة أخرى عن الدليل فقال : أقوى الدلائل على وجوده : وجودي [وذلك لأن وجودي] (٤) حدث بعد أن لم يكن. فله فاعل.

ويمتنع أن يقال : فاعل وجودي أنا. لأنه لا يخلو إما أن يقال : أنا أحدثت نفسي ، حال ما كنت موجودا ، أو حال ما كنت معدوما. فإن أحدثت نفسي حال ما كنت موجودا فالموجود أي حاجة به إلى الموجد؟ وإن أحدثت نفسي حال ما كنت معدوما [فالمعدوم] (٥) كيف يكون موجدا للموجود؟ فدل هذا على أن الصانع الفاعل لوجودي : موجود غير غيري.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

الثاني عشر : سئل علي بن أبي طالب رضي الله عنه (١) عن الدليل [فقال : الدليل عليه] (٢) نقص العزائم ، وفسخ الهمم ، وتقرير هذا الدليل : هو أن الإنسان يسعى في تحصيل شيء من المطالب [على أقصى الوجوه] (٣) ويتعذر عليه ذلك وقد لا يسعى في تحصيله البتة فيحصل. فلو كان حصول هذه الأحوال بسعيه ، لوجب أن يحصّل ما سعى في تحصيله ، وأن يمتنع ما سعى في امتناعه ، ولما كان الأمر بالعكس من ذلك. علمنا : أن تدبير أحوال هذا العالم ، وتقدير حوادثه يتعلق بحكمة موجود قهر بقدرته قدر العباد.

الثالث عشر : سئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الدليل. فقال : إن الناس يبالغون في تعظيم الأعاجم [حيث استخرجوا] (٤) علم الشطرنج فإنهم وضعوا طريقا عجيبا ، يظهر في الرقعة المختصرة أنواعا من اللعب والمماسات غير متناهية. ثم قال : وإن رقعة وجه الإنسان أصغر من رقعة الشطرنج ، وإن تلك المماسات (٥) الموضوعة في بيوت الشطرنج قد تنتقل من بيت إلى بيت ، وأما الأعضاء الموضوعة في رقعة وجه الإنسان فإنها لا تنتقل عن أمكنتها. ثم مع هذه الأحوال ، فإنك لا ترى إنسانين في المشرق ، والمغرب يتشابهان في صورة الوجه البتة. وهذا يدل على كمال قدرة هذا الخالق المصور. حيث أظهر الأنواع التي لا نهاية لها من التفاوت ، في هذه الأجسام القليلة الموضوعة في هذه الرقعة الصغيرة.

واعلم أنك إذا وقفت على هذه الدقيقة علمت أنه لا يوجد إنسانان تتشابه صورتاهما البتة ، ولا يوجد إنسانان تتشابه أحوالهما حتى أن كل واحد لا بد وأن يخالف صاحبه في الطبع والخلق والمشي وفي كور العمامة. وفي الخط ، والكتابة ، والحظ من السعادة والشقاوة. وهذا باب واسع وبحر لا ساحل له.

__________________

(١) كرم الله وجهه (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) المناسبات (ز).

الرابع عشر : قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل رأيت ربك؟ فقال : لا أعبد ربا لم أره. فقيل له : كيف رأيته؟ فقال : ما رأته [العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته] (١) القلوب بحقائق العرفان. فقيل له : صف ربك. فقال : إن ربي لطيف الرحمة ، كبير الكبرياء ، جليل الجلالة ، قبل كل شيء ، وليس له قبل ، وبعد كل شيء ، وليس له بعد ، ظاهر لا بتأويل المباشرة ، باطن لا بالمباعدة ، سميع بلا آلة ، بصير بلا حدقة ، لا تحده الصفات ، ولا تأخذه السنات ، القدم وجوده ، والأبد أزليته. الذي أيّن الأين. لا يقال له : أين ، والذي كيّف الكيف ، لا يقال له : كيف.

الخامس عشر : قيل لذي النون المصري : بم عرفت ربك؟ قال : عرفت ربي بربي ، ولو لا ربي [أخبرني] (٢) لما عرفت ربي.

واعلم أن معنى الكلام : أنه سبحانه غرس شجرة المعرفة في أراضي الأرواح ، فهذه الشجرة أرضها الطاعة ، وماؤها العبودية ، وأغصانها الذكر ، وثمرتها الفكر ، فمن واظب على هذه الأعمال وجد هذه الآثار ، ولو لا أنه سبحانه ملأ الأرواح من معرفته ، وأنار القلوب بمحبته ، وإلا فكيف يليق بكف من التراب ، معرفة رب الأرباب؟ وهذا الكلام الذي ذكره ذو النون مأخوذ من قول [النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم] (٣).

والله لو لا الله ما اهتدينا

ولا تصدقنا ، ولا صلينا

السادس عشر : كان رجل مضطجعا في ظل شجرة فسقطت ورقة من تلك الشجرة على وجهه ، فتعجب من كيفية تولد هذه الورقة الخضراء الناعمة من تلك الخشبة اليابسة الكثيفة ، فقال : من الذي أنبت الورق على الشجر؟ [فنام فرأى في منامه كأن قائلا يقول: الذي أنبت الورق على الشجر] (٤) هو

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

الذي شق على الوجه البصر.

ويقرب من هذه الحكاية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان يقرأ في سجدة التلاوة : «سجد وجهي للذي خلقه [وصوّره] (١) وشق سمعه وبصره بحوله وقوته» وكان علي ابن أبي طالب يقول: سبحان من بصرني بشحم ، وأسمعني بعظم ، وأنطقني بلحم (٢).

السابع عشر : كان بعض الملوك قد وقع في قلبه شك في وجود الله تعالى ، وكان له وزير عاقل ، وكانت العادة جارية بأن ذلك الوزير كان يتخذ لذلك الملك ضيافة في كل سنة مرة واحدة فأمر الوزير في بعض المفاوز الخالية بوضع الزرع والضرع فيها وباجراء المياه الجارية وبناء البساتين الطيبة ، ووضع القصور العالية. ثم حضر السلطان في تلك المواضع فتعجب السلطان ، وقال للوزير : كيف عمرت هذه المواضع؟ فقال الوزير : أطال الله بقاء السلطان إني ما عمرتها ، ولكنها كانت خرابا قفرا الى هذه الأيام القريبة ، ثم إنا لما عدنا وجدنا هذه الأشياء حدثت من تلقاء نفسها من غير بان ولا مصلح ، فاشتد غضب السلطان ، وقال : كيف يليق بمثلك أن يهزأ بي؟ فقال : أطال الله بقاء السلطان ، إذا كان حدوث هذا القدر من العمارة بلا معمار ولا مصلح ممتنعا ، فحدوث العالم الأعلى والأسفل مع كثرة ما فيها من العجائب ، والغرائب بلا موجد (٣) ولا مدبر أولى بالامتناع. فانتبه السلطان من هذا الكلام ، وعاد إلى الدين الحق.

الثامن عشر : سئل جعفر بن محمد [الصادق] (٤) عن الدليل فقال للسائل : أخبرني عن حال هذا العالم ، لو كان له مدبر [ومباشر] (٥) وحافظ.

__________________

(١) من (ز).

(٢) في (س) : أبصر بشحم.

(٣) مقدر (ش).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

أما كان يزيد حاله حينئذ على هذه الأحوال الموجودة؟ وإذا كان الأمر كذلك ، فهذه الأحوال وجب أن تكون دالة على أن لها [إلها] (١) مدبرا حكيما.

التاسع عشر : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من عرف نفسه فقد عرف ربه» وجاء في التوراة : «يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك» (٢) وعند هذا قال أهل التحقيق : من عرف نفسه فقد عرف ربه ، لا بطريق المساواة بل بطريق المخالفة ، يعني من عرف نفسه بالحدوث ، عرف ربه بالقدم ، ومن عرف نفسه بالامكان عرف ربه بالوجوب.

ومن عرف نفسه بالتركيب [والتأليف] (٣) عرف ربه بالوحدانية والفردانية ومن عرف [نفسه] (٤) بالجهل والعجز والحاجة ، عرف ربه بالعلم والقدرة والاستغناء. وعلى هذا الباب فقس.

العشرون : روي أن الموفق بالله لما حجّ ، وكان قد حضر عنده جمع من المنجمين مثل أبي معشر البلخي ، وما شاء (٥) الله وغيرهما. فقال لهم : إني اسمع أنكم تدعون أن الإنسان يضمر في قلبه ضميرا ، وأنتم تستخرجون ضميره (٦) وأنا أضمرت الآن ضميرا فاستخرجوه. ثم إن أولئك المنجمين استخرجوا طالع الوقت ، وقال كل واحد منهم كلاما ، فلم يوافق كلام أحد منهم. فقال أبو معشر البلخي : أضمرت ذكرت الله. فقال : صدقت. فأخبرني كيف عرفت؟ فقال : لأنك لما أضمرت أخذت ارتفاع الوقت (٧) فوجدت نقطة الرأس وسط السماء ، ونقطة الرأس شيء لا يرى ذاته ، ويرى آثار خيره ورحمته [ووسط السماء أرفع موضع في الفلك. فعرفت أنك أضمرت ذكر موجود لا ترى ذاته ويرى آثار خيره ورحمته (٨)] وذلك الموجود هو أرفع

__________________

(١) من (ز).

(٢) يحتمل أن المعنى من إرمياء ١١ : ١٨.

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) الكلمة غير واضحة.

(٦) سقط (س) وبدلها الضمير [انه].

(٧) الارتفاع (ز).

(٨) من (س).

الموجودات. وليس أرفع هذه الموجودات إلا الله تعالى. فعرفت بهذا الطريق أنك أضمرت ذكر الله تعالى ، فأحسن القوم منه هذا الكلام.

واعلم. أن أمثال هذه الوجوه فيها كثرة ، والقدر الذي ذكرناه ينبه على البقية [والله أعلم بالصواب] (١).

__________________

(١) من (ز).

الفصل الثالث

في

تعديد الدلائل التي تذكرها أصناف طوائف العالم

اعلم. أن أصناف العلوم وأقسامها كثيرة ، ولكل واحد من أصناف العلماء طريق يختص به في إثبات معرفة الله تعالى. ونحن نعدها :

الطائفة الأولى : العلماء الباحثون عن تواريخ أهل الدنيا ، ومعرفة الأحوال الماضية من أحوال هذا العالم :

ودليل هذا الصنف من العلماء على إثبات الإله لهذا العالم من وجهين.

الأول : قالوا إن البحث عن تواريخ أهل الدنيا يدل على أنه لم يوجد تحت قبة (١) السماء طائفة منهم. كثيرة معتبرة ينكرون وجود الله تعالى. وإنما النزاع الواقع بين الخلق في الصفات.

أما الاعتراف بوجود شيء يدبر هذا العالم. فأمر متفق عليه بين الكل. والذي يدل عليه : أن أهل العالم فريقان : منهم من (٢) يعترف بنبوة الأنبياء ، ومنهم من ينكر النبوة.

أما المعترفون بنبوة الأنبياء [عليهم‌السلام] (٣) فلا نزاع في أنهم معترفون

__________________

(١) أديم (س).

(٢) منهم من يقول نعترف (س).

(٣) من (ز).

بوجود الله تعالى. أما المسلمون فالأمر بينهم ظاهر ، وأما اليهود فاعترافهم بوجود الإله تعالى أظهر من أن يحتاج الى البيان والذكر.

والذي يذكرونه كثيرا قولهم : «ألوهيم. أدوناي. آهيا شراهيا» (١). وكل ما في التوراة من معجزات موسى عليه‌السلام فهو بعينه دليل وجود الإله تعالى ، وكان موسى يقول : «إلهكم هو الذي أتى بهذه العجائب ، وأظهر عجائب الغرائب» وأما النصارى فاعترافهم بوجود الإله ظاهر ، ويقولون : «أبدا ، إلها ، ربا ، قديسا» والتفاوت بين السريانية وبين العربية (٢) قليل. وأما المجوس : فإنهم يسمون الله تعالى بلغتهم : (٣) أهرمن ، أو يزدان. يزعمون : أنهم إنما جعلوا النار قبلة صلاتهم. لأن النار جسم مشرف عالي قاهر ، وهذه الصفات تتناسب مناسبة غير بعيدة لصفات جلال الله من بعض الوجوه ، فلهذا السبب جعلوا النار قبلة صلاتهم ، وخصوها بمزيد من التعظيم ، وقال (٤) زردشت في كتاب «زند أوستا» وهو الكتاب الذي زعم أن الله أنزله عليه : «وتبدو لهم بهيئة أهرمن» (٥).

والأعاجم كانوا يقولون «خداى» [وترجمته بالعربية : أنه بنفسه جاء يعني أنه بذاته وجد ، وحصل (٦)] وتفسيره : أنه واجب الوجود لذاته.

__________________

(١) في الأصحاح الثالث من سفر الخروج : «وقال الله أيضا لموسى : هكذا تقول لبني إسرائيل : يهوه إله آبائكم إله إبراهيم وإله إسحاق ، وإله يعقوب ، أرسلني إليكم. هذا أسمى إلى الأبد» وفي نفس الأصحاح قبل ذلك : «فقال موسى لله : ها أنا آتي إلى بني إسرائيل ، وأقول لهم : إله آبائكم أرسلني إليكم. فإذا قالوا لي : ما اسمه؟ فما ذا أقول لهم؟ فقال لله لموسى : أهيه الذي أهيه» [خروج ٣ : ١٣ ـ] وفي التوراة وردت كثيرا هذه العبارة: «وكلم الرب موسى قائلا : كلم بني إسرائيل وقل لهم ..» وفي الإنجيل : «فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا هي : يا إسرائيل : الرب الهارب واحد» [مرقس ١٢ : ٢٩].

(٢) السريانية (الآرامية) والعبرية. والعربية : الفروق بينهم قليلة جدا.

(٣) يقول الشهرستاني في «الملل والنحل» : «ثم إن التثنية اختصت بالمجوس ، حتى أثبتوا أصلين اثنين مدبرين قديمين يقتسمان الخير والشر ، والنفع والضر ، والصلاح والفساد. ويسمون أحدهما النور ، والآخر الظلمة. وبالفارسية : يزدان وآهرمن».

(٤) وقال يزداد شيئا في كتاب لابستا (ز) وفي (س) كتاب لابستا ـ والتصحيح من الشهرستاني ـ.

(٥) عبارة (ز) : ويكمان تلمسية فلو من. وعبارة (س) وتبدو لهم بهيئة هرمز.

(٦) من (ز).

فهذه الطوائف الأربع وهم الطوائف المعتبرون ممن يقر بنبوة الأنبياء عليهم‌السلام كلهم مطبقون متفقون على الإقرار بوجود الله تعالى (١).

وأما سائر الطوائف :

فأحدها : أهل الجاهلية : وهم العرب الذين كانوا موجودين قبل ظهور الإسلام ، وكلهم كانوا مطبقين على الإقرار بوجود الإله (٢) ، والدليل عليه [قوله تعالى (٣) حكاية عنهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ : اللهُ) (٤) وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ؟ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥) وكانوا يطلقون لفظ الإله على الأوثان ، أما لفظ الله فما كانوا يذكرونه إلا في حق الله تعالى.

والصنف الثاني : من أصناف أهل الدنيا : [الهند ، وكلهم مطبقون على الإقرار بوجود الإله الحكيم الرحيم ، ولذلك فإنهم يبالغون في العبادة ويحرقون أنفسهم بالنار ، على حب الله تعالى.

والصنف الثالث : من أهل الدنيا] (٦) : الزنوج وهم أبعد طوائف أهل الدنيا [عن العقل] (٧). ومع ذلك فهم مقرون بوجود إله العالم ، ويقولون : ملكرى جلوى (٨) ومعناه : الرب الأعظم.

والصنف الرابع : من أهل الدنيا : الترك ، وهم مقرون بوجود الإله تعالى فيقولون : به ينكرى (٩) ، يعني الرب واحد ، وقد يقول بعضهم : ألغ بايات. ومعناه الغني الأعظم.

والصنف الخامس : أهل الصين. ولهم علو عظيم من الإقرار بوجود الإله المدبر الحكيم.

__________________

(١) الإله (س).

(٢) الله تعالى (س).

(٣) من (س).

(٤) الزمر ٣٨.

(٥) إبراهيم ١٠.

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

(٨) ملكوى جلوى (ز).

(٩) به ينكرى (ز).

والصنف السادس : الروم والبربر ، والقبط ، والحبشة ، وهؤلاء الغالب عليهم النصرانية. وفيهم المسلمون. وعلى التقدير فهم مقرون بوجود الإله تعالى.

والصنف السابع : اليونانيون ، وهم كانوا كالمشعوذين بهذا العلم [والعمل عليه] (١) وما طلبوا علما من العلوم الدقيقة ولا بغوا بحثا من المباحث النفيسة إلا ليتوسلوا به إلى معرفة [وجود الإله تعالى ومعرفة] (٢) صفات كبريائه.

فهذا هو ضبط [أصناف] (٣) أهل الدنيا ، وكلهم مطبقون على وجود الإله.

والتواريخ القديمة دالة على أن أهل الدنيا من الدهر الداهر ، والزمان الأقدم ، هكذا كانوا وما كان فيهم أحد ينكر وجود الإله تعالى.

وإذا ثبت هذا فنقول : إن من المعلوم بالضرورة أن عقل [جميع] (٤) أهل المشرق والمغرب في مدة سبعة آلاف سنة ، أو أقل ، أو أكثر : أزيد من عقل واحد مغمور بين الخلق. فعلى هذا لو اتفق لإنسان واحد شبهة ، أو شك في وجود الإله [تعالى] (٥) فيجب أن يقطع بأن ذلك الشك أو الشبهة لقصور عقله وقلة فهمه ، لا لعدم المطلوب. فإن صريح العقل شاهد بأن عقول جملة الخلق في هذه الدهور المتطاولة ، كانت أكمل من عقل هذا الواحد. فهذا طريق قوي جلي في إثبات العلم بوجود الإله الحكيم ، بشرط أن يعترف الإنسان بأن عقله أقل من عقل الكل [ونسأل الله الرحمة] (٦).

والوجه الثاني : من دلائل هذه الطائفة : أن أصحاب التواريخ لما بحثوا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

عن أحوال الدنيا وفتشوا عن أخبارها ، وجدوا أن كل طائفة كان تمسكهم بعبودية الله أشد ، وكان اشتغالهم بعبادة الله أكثر ، وكانت مواظبتهم على ذكر الله [تعالى] (١) وعلى الفكرة في دلائل الله أكثر ؛ كانوا في الدنيا أحسن ذكرا ، وأطول أعمارا ، وأكثر خيرا ونعمة ، وأبعد عن الشرور ، والآفات ، وأقرب إلى دوام الخيرات والسعادات. وكل من كان أبعد عن طاعة الله ، وأكثر استغراقا في طلب الدنيا وحبها ، كانوا إلى الهلاك والشرور أقرب ، وإلى الوقوع في الآفات والمخافات أوصل. وهذه أحوال لا يعرفها إلا من طالت تجربته في أحوال أهل الدنيا ، وكثرت فكرته في كيفية أحوالهم ، وطالع أيضا كتب التواريخ ، وعرف أحوال الماضين من المقرين والمنكرين ، فإنه يقطع بعد التجربة التي ذكرناها وبعد الأفكار التي أرشدنا إليها : أن الأمر كما ذكرناه ، وأنه لا شبهة في حقيقة ما ادعيناه.

ومما يقوى ذلك وجوه :

الأول : إن وقوع الظلمة ، وطلاب الدنيا في أنواع القتل والنهب ، أكثر من وقوع أهل العلم والعمل ، في تلك الآفات.

الثاني : إن المدرسة الحقيرة [المبنية] (٢) لأهل العلم ، والرباط الحقير المبني لأهل الطاعة قد يبقى مائتي (٣) سنة أو ثلاثمائة سنة ، وأما القصور العالية ، والأبنية المشيدة التي للملوك ، فإنها لا تبقى إلا زمانا قليلا ، وذلك يدل على ما قلناه.

الثالث : إن باني المدارس والرباطات ، كلما كان أقرب إلى الدين والطاعة ، كانت أبنيته أبقى.

الرابع : إن ذكر أهل (٤) العلم وأهل الدين أبقى من ذكر الظلمة وأهل الشر.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) مائة (س).

(٤) أهل الدين والطاعة (س).

الخامس : إن ميل القلوب إلى أهل الدين ، والطاعة ، أكثر من ميلها إلى أهل الدنيا ، وكل ذلك يدل على أن كل من كان أوغل في عبودية الله ، كان أقرب إلى الخيرات ، ولما رأينا بحسب هذه التجربة أن الإقرار بالإلهية ، والاعتراف بوجوب الطاعة والخدمة ، كمال السعادات في الدنيا. فهذا من أدل الدلائل على وجود الإله الرحيم الحكيم.

وهذا النوع من الدلائل كثير في القرآن العظيم. قال الله تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (١) وقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) إلى قوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ ، وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢).

وبالجملة : فلما دلت المشاهدة والتجربة على أن الاعتراف بهذه المعاني سبب لانفتاح أبواب السعادات [والإعراض عنها سبب لانفتاح أبواب الآفات] (٣) علمنا أن الطريق الحق والمنهج الصدق هو الإقرار بوجود الإله الحكيم الرحيم. فهذا هو الإشارة إلى الدلائل المستنبطة من علم التواريخ على وجود الإله لهذا العالم.

الطائفة الثانية : طوائف أصحاب الرياضيات وأرباب المكاشفات :

واعلم أن طريقهم يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم من أنواع :

النوع الأول : أن نقول : إن صريح العقل شاهد بأن الموجودات على ثلاثة أقسام : الأجسام ، وصفات الأجسام ، والذي لا يكون جسما ولا حالا في الجسم.

أما القسمان الأولان فهما اللذان يسميان الجسمانيات.

وأما القسم الأخير : فهو المسمى بالروحانيات ، فثبت بهذا التقسيم : أن الموجودات إما جسمانية ، وإما روحانية. إذا عرفت هذا فنقول : إن فطرة جميع

__________________

(١) يوسف ١١.

(٢) الدخان ٢٩.

(٣) من (ز).

العقلاء الكاملين تشهد بأن الموجودات الروحانية موجودة. وأنها مع كونها موجودة فهي أعلى، وأكمل وأشرف من الموجودات الجسمانية.

والذي يدل على ما ذكرناه وجوه اعتبارية.

فالأول (١) : إن كل إنسان كان استغراقه في حب الجسمانيات أكثر ، وكان شغفه بوجدانها والوصول إليها أشد ، كان عند العقلاء من الناس أكثر حقارة وأكمل خساسة ، وكل من كان إعراضه عن الجسمانيات أكثر ، وكان التفاته إليها أقل ، وكان شغفه بالفكر في طلب المعارف أتم ، كان عند كل الخلق أعلى حالا ، وأكمل درجة. والذي يقرر هذا : أنهم إذا اعتقدوا في إنسان أنه جعل أيامه وذكره ، وفكره وقفا على تحصيل المطعوم والملبوس والمنكوح ، وصار بالكلية معرضا عن الأحوال الروحانية ، فإن كل عاقل يقضي عليه بأنه من البهائم ، وأنه خارج عن صفة (٢) الإنسانية ، وينظرون إليه بعين الحقارة والإهانة ، ولا يقيمون له في نظرهم البتة (٣) وزنا.

وأما إذا اعتقدوا فيه أنه معرض عن طلب هذه الجسمانيات ، وقليل الميل إليها ، وعديم الالتفات إليها ، فإنهم يعظمونه ويعترفون له بوجوب التعظيم والاعتراف بالتقديم.

واعلم : أن هذا الحكم غير مختص بالعقلاء والأكياس من الناس بل جميع طوائف أهل العالم مطبقون متفقون على هذا الحكم ، وهذا يدل على أن جميع الخلق مطبقون على تحقير الجسمانيات ، وعلى تعظيم الروحانيات. بل نقول : إن الأجلاف من الترك والهند والزنج ، مقرون بهذه الأحوال ، لأنهم يحترمون شيوخهم ويعظمونهم ، وما ذاك إلا أنهم اعتقدوا فيهم أنهم بسبب طول العمر عرفوا ما لم يعرفوه ، ووقفوا على ما لم يقفوا عليه ، فلأجل هذا الخيال يحترمونهم حتى إذا أحسوا من بعض الشيوخ بأفعال لا تليق بالمشايخ ، فإنهم يبالغون في

__________________

(١) هذا هو النوع الأول. والنوع الثاني يأتي بعد قليل ، وهو عن الجسمانيات.

(٢) مرتبة (س).

(٣) من (ز).

إهانته واذلاله ، ويزيدون إهانته على إهانة الصبيان ، وكل ذلك يدل على أن إهانة الجسمانيات ، وتعظيم الروحانيات أمر مركوز في العقول ، مغزوز في النفوس ، يعترف به أهل الملل والنحل ، ويقر به جميع طوائف أهل العالم بل نزيد ونقول : إن الصبيان إذا رأوا الأكابر من الناس يخشونهم ، ويفرون منهم ، وما ذاك إلا لأجل إن روحانية الأكابر أقوى من روحانية الأصاغر بل نزيد ونقول : إن السباع القوية ، والبهائم الشديدة إذا رأت الإنسان فإنها تهابه وتحتشمه ، مع أن الإنسان بالنسبة إليها في غاية الضعف ، وما ذاك إلا لأن الصفات الروحانية مهيبة معظمة بالطبع ، السباع والبهائم الشديدة القوية ، تهاب الإنسان وتحترمه وتعظمه وتفر منه لهذا السبب.

فثبت بهذه التنبيهات : أن تعظيم جانب الروحانيات على الجسمانيات كالأمر المتفق عليه بين جميع الحيوانات.

والوجه الثاني : من الدلائل الدالة على ترجيح جانب الروحانيات على جانب الجسمانيات : أن الصبي إذا بلغ إلى حد أن يفهم الكلام ، فإن المرأة الشيخة إذا جلست وذكرت الحكايات من باب الخرافات لذلك الصبي [صار الصبي] (١) مستغرقا في سماع تلك الخرافات ، فإذا عرض عليه أطيب الطعام وألذ الشراب ، فإنه يعرض عنه ، ولا يلتفت إليه ، ويبقى مشتغلا بسماع تلك الحكايات ، وذلك يدل على أن اللذة الحاصلة بسبب سماع تلك الخرافات أشد وأقوى من اللذة الحاصلة من ذلك الطعام [ومن ذلك] (٢) الشراب ، وذلك [يدل] (٣) على أن الروحانيات أقوى حالا من الجسمانيات ، وكذلك المشتغل بلذة (٤) النرد والشطرنج ، قد يبقى معرضا عن الأكل والشرب مدة طويلة مع أنه لا يحس [البتة] (٥) بألم الجوع والعطش ، وما ذاك إلا لأن لذة الغلبة ، آثر

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) يلعب (س).

(٥) من (س).

عنده من لذة الأكل والشرب والوقاع ، وكل ذلك يدل على أن الروحانيات أشرف وآثر من الجسمانيات.

والوجه الثالث : أن كل ما كان سعادة وغبطة وكمالا ، فإن إظهاره يكون مطلوبا لكل أحد ، وإذا كان إظهاره مستقبحا عند كل أحد ، فيدل على أن ذلك الشيء ليس من جنس الكمالات.

إذا عرفت هذا فنقول : أقوى اللذات الجسمانية : لذة الوقاع فلو كانت هذه اللذة من جنس السعادات والكمالات ، لوجب أن يكون إظهارها مستحسنا في العقول ، ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، بل العاقل يستحي من ذكره فضلا عن إظهاره. وأيضا : قد جرت العادات (١) بأن الناس لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر الألفاظ الدّالة على تلك الأحوال ، ولو كانت [تلك] (٢) اللذة من باب السعادات لما كان ذكرها أعظم أنواع الشتم [والإهانة] (٣) وكل ذلك يدل على أن هذه الأحوال ليست من باب [السعادات] (٤) البتة.

فأما الأحوال الروحانية ، وهي العلم بحقائق الأشياء ، والإعراض عن الجسمانيات ، والإقبال على عالم الروحانيات ، فإن كل أحد يبتهج بها ويستسعد بذكرها ، حتى أن من كان خاليا عنها ، فإنه يأتي بأفعال وأحوال توهم كونه موصوفا بها ليتوسل بذلك إلى إقبال الناس على خدمته ، والانقياد الى طاعته. وكل هذه الاعتبارات دالة على أن الجسمانيات مستحقرة باتفاق الخلق [وعلى أن الروحانيات مهيبة معظمة باتفاق جمهور الخلق] (٥).

والوجه الرابع : [من الاعتبارات (٦)] الدالة على صحة ما ذكرناه : إنا نجد القلوب والنفوس كلها اتفقت [على أن الإنسان ، كلما أقبل] (٧) على ذكر الدنيا وكيفية الحيلة في تحصيلها ، وترتيب الوجوه التي بها يتوسل إلى الفوز بها ،

__________________

(١) العادة (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

(٧) زيادة.

أظلم روحه ، وضاق قلبه ، وكثر ضجره وعظم اضطرابه ، وبقي في الحيرة ، والدهشة ، وكلما كان توغله في حب الدنيا وطلب خيراتها أكثر ، كانت هذه الأحوال الموحشة الظلمانية عنه أقوى وأكمل. أما إذا قلبت القضية وقلت : كلما أعرض عن اللذات الجسمانية ، وأقبل على طلب المعارف ، وعلى عالم الروحانيات ، حصل في قلبه أنواع البهجة والراحة والسرور [فإنك تكون على صواب] (١) وإلى هذا التحقيق الإشارة بقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢). وكل ذلك يدل على أن الروحانيات أكمل حالا من الجسمانيات.

والوجه الخامس : في تقرير هذا المعنى أن الإنسان إذا حصل في قلبه نور من أنوار عالم الروحانيات ، قويت قوته ، وعظمت شوكته ، وصار بحيث لا يبالي بملوك الدنيا ، وكل ما سواه ، فإنهم يهابونه ويستعظمون القرب منه.

قال على بن أبي طالب : «والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة إلهية». وأيضا : «فالأنبياء والأولياء لا يبالون بكثرة الأعداء ، ولا يقيمون لهم وزنا عند ظهور الأحوال الروحانية عليهم ، فدلت هذه الاعتبارات على أن العالم الروحاني أعلى وأعظم وأبهج من العالم الجسماني.

إذا عرفت هذا فنقول : إن أصحاب الرياضيات والمشاهدات ، قد انكشف لهم : أن العالم الجسماني [كالمثال للعالم الروحاني ، وأن الأصل هو العالم الروحاني ، وأن العالم الجسماني] (٣) كالظل ، والرسم ، والخيال ، من العالم الروحاني.

وإذا عرفت هذا فنقول : فلنعتبر (٤) أحوال العالم الجسماني ، ثم ننتقل منها إلى اعتبار عالم الروحانيات ، فنقول : إنا (٥) إذا تأملنا في موجودات هذا العالم الجسماني ، وجدناها مختلفة الدرجات في مراتب الكمال والنقصان ،

__________________

(١) زيادة.

(٢) الرعد ٢٨.

(٣) من (ز).

(٤) فلنعرف (س).

(٥) لما تأملنا (س).

وذلك لأن الجسم المحض ، الخالي عن القوى النفسانية يكون في غاية النقصان ، مثل طبقات العناصر [الأربعة] (١).

ثم إن هذه العناصر الأربعة أيضا متفاوتة في الكمال والنقصان ، وكل عنصر كانت الجسمانية فيه أكثر ، والروحانية أقل ، كان أخس. وكل عنصر كانت الروحانية فيه أكثر كان أشرف. فأخس العناصر هو الأرض لأنه ليس فيها إلا القبول والتأثير ، والقوة الفاعلة فيها ضعيفة جدا. وأما الماء فإنه بسبب ما فيه من اللطافة والحركة حصلت له قوة مؤثرة ، فلا حرم كان الماء بالنسبة إلى التراب كالروح بالنسبة إلى البدن. ولما كان الهواء أكمل لطافة ، وأصفى جوهرا من الماء [لهذا السبب ، فإن الهواء مستولي على الماء] (٢) وأما النار فإنها لما كانت مشرقة عالية قوية على الفعل والتأثير ، لا جرم كانت أشرف العناصر وأعلاها. وظهر أنا لما اعتبرنا أحوال العناصر الأربعة وجدنا أنها كلما كانت أقل روحانية ، كانت أخس. وكلما كانت أكثر روحانية كانت أشرف وأعلى ، وهذا الاعتبار أيضا يدل على أن الروحانيات أشرف من الجسمانيات.

وأما الأجسام السفلية المركبة فهي ثلاثة أنواع : المعادن ، والنبات ، والحيوان. ولا شك أن القوة النفسانية الروحانية في المعادن في غاية القلة ، وفي النبات في المرتبة المتوسطة ، وفي الحيوان في المرتبة العالية. فلا جرم كان أخس هذه الثلاثة هو المعادن ، وأوسطها النبات ، وأشرفها الحيوان. ثم إن الحيوان أنواع كثيرة ولها درجات متفاوتة في الخسية والشرف ، وأكثر الحيوانات روحانية هو الإنسان ، فلا جرم كان الإنسان سلطان الحيوانات ومتصرفا فيها ، وسائر الحيوانات كالعبيد له.

ثم نقول : وأصناف الناس فيهم كثرة إلا أنهم على اختلاف أصنافهم وتباين مراتبهم ، مشتركون في حكم واحد وهو أن كل من كانت الروحانية عليه أغلب ، كان أشرف وأعلى.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

وكل من كانت الجسمانية عليه أغلب ، كان أخس وأبعد من الكمال. ثم لما تأملنا في ضبط صفات الكمال ، وجدناها محصورة في ثلاثة أنواع : الاستغناء ، والعلم ، والقدرة. ثم من المعلوم أن هذه الصفات الثلاثة لا تحصل للإنسان على سبيل الكمال ، بل إنما تحصل له بمقدار القوة البشرية ، والطاقة الإنسانية. فنشاهد أن أصناف أهل العالم ، وإن كانوا كثيرين إلا أن الصنف الواحد من تلك الأصناف أكملهم في هذه الصفات ، ثم في ذلك [الصنف] (١) يوجد أشخاص كثيرون إلا أنه يحصل فيهم شخص واحد هو أكمل أولئك الأشخاص ، وحينئذ يكون ذلك الشخص هو أكمل الأشخاص الموجودين في عالم الدنيا ، وهو المسمى عند أهل التصوف بقطب (٢) العالم. وفي لسان الشيعة بالإمام المعصوم. ثم هؤلاء الأفاضل الذين لا يوجد منهم في الدور الواحد إلا الفرد الواحد ، إذا قوبل بعضهم بالبعض ، فسيوجد في كل ألف سنة أو أقل أو أكثر : شخص واحد هو رئيسهم الأكبر ، وإمامهم الأعظم ، وذلك هو النبي الكامل صاحب الوحي والتنزيل.

ولما عرفتك (٣) هذه المراتب في عالم الجسمانيات ، فاعرف مثله في عالم الروحانيات : فالموجودات الروحانية المجردة عن علائق الأجسام كثيرة ومختلفة

__________________

(١) من (س).

(٢) الحق : أن التصوف ليس من الإسلام. وأنه دعوة اعتنقها بعض الناس في بدء ظهور الإسلام ، ليبعدوا الناس عن العمل في الدنيا ، لعمارتها. وليربطوهم بالمساجد. وإذا ابتعدوا عن عمارة الدنيا ، يتقدم أعداء المسلمين لعمارة الدنيا ، ثم يسيطرون على بلاد المسلمين ، لإذلال المسلمين. ومن هؤلاء الأراذل : الجنيد وأبو يزيد البسطامي ، والحلاج ، والسري السقطي ، وقد آن الأوان ليرفض المسلمون الصادقون ، أفكار هؤلاء المنحرفين عن الدين. فإن الدين عند الله الإسلام ، وليس هو التصوف. ومن خرافات هؤلاء الأرذال : جاء في بعض كتب مناقب الشيخ عبد القادر الجبلي : أنه مات بعض مريديه ، فشكت إليه أمه وبكت ، فرق لها. فطار وراء ملك الموت في المساء ، وهو صاعد إلى السماء ، يحمل في زنبيل ما قبض من الأرواح في ذلك اليوم. فطلب منه أن يعطيه مريده ، أو أن يردها إليه. فامتنع. فجذب الزنبيل منه ، فأفلت فسقط جميع ما كان فيه من الأرواح ، فذهبت كل روح إلى جسدها. فصعد ملك الموت ، وشكا إلى ربه ما فعله عبد القادر. فأجاب الرب ـ سبحانه .. الخ [ص ٣٨ صراع بين الحق والباطل ـ سعد صادق محمد].

(٣) ولما عرفت (س).

الدرجات بحسب الكمال (١) والنقصان ، ولكنهم بأسرهم مشتركون في كونهم بأسرهم أكمل من جنس الإنس ومعشر البشر في الصفات الثلاث المذكورة ، أعني الاستغناء والعلم والقدرة، فإن الأرواح البشرية [بالنسبة إلى تلك الأرواح كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، والشعلة بالنسبة إلى الشمس ، وكما أن الأرواح البشرية] (٢) وإن كانت كثيرة جدا إلا أنه لا بدّ ، وأن يوجد فيهم شخص واحد كالرئيس المطلق لهم في الكمالات الروحانية ، بحيث يكونون محتاجين إليه في الاستكمال ، ويكون هو غنيا عنهم. وكذلك الموجودات الروحانية ، وإن اختلفت درجاتهم وتفاوتت مراتبهم فإنه لا بدّ وأن الموجودات الروحانية ، وإن اختلفت درجاتهم وتفاوتت مراتبهم فإنه لا بد وأن يوجد فيهم موجود هو أكمل من كل الروحانيات في صفة الاستغناء ، والعلم ، والقدرة. ومتى كان الأمر كذلك ، فإنه يكون هو غنيا عن كل الروحانيات ، وكلهم يكونون محتاجين إليه. فقد ثبت أن الجسمانيات محتاجة إلى الروحانيات ، وثبت أن جميع الروحانيات محتاجة إلى ذلك الواحد في جميع الكمالات ، وأنه غنى عنهم في جميع الكمالات ، وعند هذا يظهر أن ذلك الواحد يكون مستوليا على جميع الروحانيات، وعلى جميع الجسمانيات ، وكل من سواه يكون محتاجا إليه في وجوده ، وفي جميع كمالات وجوده. أما هو فإنه يكون غنيا عن كل ما سواه في وجوده ، وفي كل كمالات وجوده. وذلك الموجود هو الله تعالى.

ثم هاهنا يظهر دقيقة شريفة ، وهي أن جميع الأرواح البشرية بالنسبة إلى روح الشخص الذي هو قطب العالم ، كالقطرة بالنسبة إلى البحر ، وكالشعلة بالنسبة إلى الشمس. ثم ثبت أن أرواح جميع الأقطاب والأولياء والأنبياء بالنسبة إلى الأرواح الملكية القدسية ، كالذرات والهباءات. ثم إن الأرواح الملكية لا تزال متزايدة في الكمال والرفعة والجلال ، حتى تنتهي إلى الأرواح العالية المقدسة.

ثم إن جميع تلك الروحانيات بالنسبة إلى جلال الله ، كالعدم فإنا بينا

__________________

(١) الكمالات والنقصانات (س).

(٢) من (ز).

بالاعتبارات التي نبهنا عليها أنها بأسرها في هذه الصفات ، كما أخبر عنه سبحانه عن هذه الدقيقة. بقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ ، وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا ، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ. وَقالَ : صَواباً) (١). وإذا كان الأمر كذلك ، فهذه الأرواح البشرية بالنسبة إلى غنى جلال الله تعالى ، أقل من العدم وأحقر من الذرة ، وإذا كان الأمر كذلك ، فمن المحال المحال كونها وافية بمعرفة تليق بكنه صمديته ، وبشكر يليق بأنواع آلائه وكرمه ، وبطاعة تليق بحضرة جلاله ، بل ليس عند البشر إلا الذلة ، والقصور والعجز والمسكنة.

فهذا هو الإشارة إلى هذه الطريقة اللائقة بأصحاب الرياضيات والمكاشفات في معرفة صنوف الروحانيات [والجسمانيات] (٢) ولو خاض الإنسان في شرح هذه التفاصيل لقال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ : أَقْلامٌ ، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ : سَبْعَةُ أَبْحُرٍ. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (٣). وهذا آخر الكلام في تقرير هذه الطريقة ، وهي عند أرباب العقول الصافية من نفائس الأحاديث [وبالله التوفيق] (٤).

واعلم. أن حاصل الكلام من هذه المباحث الطويلة : أن فطر جميع العقلاء شاهدة بوجود الروحانيات وشاهدة بأن الروحانيات أعلى حالا من الجسمانيات وشاهدة بأن الروحانيات مستولية على الجسمانيات ، وشاهدة بأنه كما أن مراتب الجسمانيات متفاوتة بالكمال والنقصان [فكذلك] (٥) مراتب الروحانيات متفاوتة بالكمال والنقصان فيجب أن يحصل في الوجود موجود روحاني هو أعلى وأكمل وأشرف من كل الروحانيات التي هي عالية في الشرف على جميع الجسمانيات (٦). وحينئذ يلزم أن يكون ذلك الموجود أعلى من كل

__________________

(١) النبأ ٣٨.

(٢) من (س).

(٣) لقمان (٢٧).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

(٦) من (ز).

الموجودات وأشرف وأكمل [وبالله التوفيق] (١).

__________________

(١) من (ز).

ونقول هنا :

يتفق المسلمون وأهل الكتاب على أن للعالم إلها حكيما قادرا يعلم ما في السموات وما في الأرض وهو الذي وحده خلق العالم والناس. ويحيي الناس ويميتهم. وهذا الإله ليس كمثله شيء ، ولا يقدر أحد أن يراه من هيبته وجلاله.

١ ـ ففي التوراة يقول الله تعالى في الوصايا العشر : «أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر ، من بيت العبودية ، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي» [خروج ٢٠ : ٢ ـ ٣] وفي سفر التثنية : «اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل قوتك» [تثنية ٦ : ٤ ـ ٥].

٢ ـ وفي الإنجيل يصرح عيسى ـ عليه‌السلام ـ بأنه غير ناسخ للتوراة في قوله : «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس» [متى ٥ : ١٧.] وبناء على عدم نسخه للتوراة تكون الوحدانية المنصوص عليها في التوراة ملزمة لأتباعه الزاما تاما.

ويوضح أن عيسى ـ عليه‌السلام ـ ملتزم بالإله الواحد : هذا النص الذي نذكره من إنجيل مرقس وهو : «فجاء واحد من الكتبة ، وسمعهم يتحاورون. فلما رأى أنه أجابهم حسنا سأله : أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا هي : اسمع يا إسرائيل : الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك. ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى. وثانية مثلها هي تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فقال له الكاتب : جيدا يا معلم. بالحق قلت. لأنه الله واحد ، وليس آخر سواه» [مرقس ١٢ : ٢٨ ـ ٣٢].

٣ ـ وفي القرآن الكريم يقول الله تعالى : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ. اللهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص].

والقارئ للتوراة وللإنجيل وللقرآن يجد آيات تدل على صفات أعضاء الله عزوجل ، ويجد آيات تدل على صفات معاني الله عزوجل. ويجد آيات تدل على أن الله تعالى ليس كمثله شيء. والآيات التي تنفي المماثلة هي تنفي أيضا صفات الأعضاء لله عزوجل.

١ ـ ففي التوراة في قصة موسى ـ عليه‌السلام ـ مع السحرة. لما لم يستطيعوا إخراج البعوض من أرض مصر : «قال العرافون لفرعون : هذا إصبع الله» [خروج ٨ : ١٩] أي البعوض قد أشتد أذاه بقدرة الله تعالى. وظاهر نص «إصبع الله» يدل على أن الله جسم ، وهو شبيه بالبشر. «وإصبع الله» صفة عضو. فإن الأصابع أعضاء من الجسم. وفي التوراة صفات المعاني اللائقة بجلال الله تعالى ، فيها صفات : القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والقدم والبقاء ، وهكذا سائر الصفات التي تدل على أنه ذات مقدسة عن كل نقص ، ومبرأة من كل عيب ، مثل قوله : «الرب إله رحيم ، ورءوف. بطيء الغضب. وكثير الإحسان والوفاء ، حافظ الإحسان إلى ألوف ، غافر الإثم ـ

__________________

ـ والمعصية والخطية ، ولكنه لن يبرئ إبراء» [خروج ٣٤ : ٦. ٧].

٢ ـ وفي الإنجيل نجد مثل ما في التوراة عن صفات الأعضاء وصفات المعاني. فعن صفات الأعضاء يقول عيسى ـ عليه‌السلام ـ : «لا تحلفوا البتة. لا بالسماء لأنها كرسي الله. ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه» [متى ٥ : ٣٤ ـ ٣٥] فظاهر النص يدل على أن الله تعالى يجلس على كرسي في السماء ، وأن قدميه على الأرض. والجلوس يستلزم الجسمية والقدمان من صفات الأعضاء. وعن صفات المعاني نجد آيات كثيرة تصف الله تعالى كما وصفته التوراة بالقدرة والإرادة .. الخ ومن ذلك قول عيسى ـ عليه‌السلام ـ لله عزوجل أنه أعطاه سلطانا على كل جسد ليعطى حياة أبدية لكل من يريد الله إعطاءه : «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفونك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته أنا مجدتك على الأرض» [يوحنا ١٧ : ٢ ـ ٤] فاعتراف عيسى ـ عليه‌السلام ـ أن الله تعالى قد اعطاه سلطانا يدل على أنه قادر واعترافه بأنه مجد الله وعظمه يدل على أن الله متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص.

٣ ـ وفي القرآن الكريم عن صفات الأعضاء : «يد الله فوق أيديهم» [الفتح ١٠] وعن صفات المعاني : (أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [النمل ٥١] ففي هذا النص إثبات كامل القدرة وأنه عادل وأنه يعلم ذلك ويشهد على ما حدث منه العالمون بحقائق التاريخ.

والقارئ للتوراة وللإنجيل والقرآن يجد آيات تدل على أن الله تعالى «ليس كمثله شيء» ومعنى أنه «ليس كمثله شيء» أنه ليس جسما. لأن إثبات الجسمية لله تعالى يستلزم الحجم والصورة على حسب التصورات والتخيلات. وإذا تصورنا وتخيلنا على حسب عقولنا سنتصور الله تعالى ونتخيله بما نشاهده في الحياة من مخلوقات خلقها هو. ولأنه تعالى منع من التشبيه إذن لا يكون جسما. وإذا نفينا الجسمية ننفي الأعضاء من اليد والرجل وغيرهما. وكيف ننفي وقد جاء في الكتب آيات يدل ظاهرها على إثبات الأعضاء؟ والإجابة على هذا السؤال :

إن التوراة قد نصت على أنه تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وذلك قوله في الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية : «ليس مثل الله» [تث ٣٣ : ٢٦] وكذلك نص القرآن الكريم في قوله تعالى : «ليس كمثله شيء» [الشورى ١١] والعبارات التي تنفي التشبيه هي آيات محكمة ، أي لها تفسير واحد واضح.

وآيات الأعضاء آيات متشابهة أي لها تفسيرين. فاليد تفسير باليد الجارحة وهي تستلزم الجسمية ـ واليد أيضا تفسر بالقدرة ـ والقدرة صفة معنى ـ فأي التفسيرين يتفق مع الحكم؟ هل اليد الجارحة أم صفة القدرة؟ بالتأكيد هي صفة القدرة. لأن اليد الجارحة تشبه وتمثل بأي مخلوق كان ، والنص النافي للتمثيل يمنع من ذلك. وعلى ذلك فمراد الله تعالى من صفات أعضائه هو التأويل إلى صفات معاني ، فاليد تؤول بالقدرة ، والاستواء بالقهر والغلبة وهكذا.

ولما ذا عبر الله تعالى بصفات الأعضاء عن نفسه وهو لا يريدها؟ وهذا سؤال قد أجاب عنه ـ

__________________

ـ كثيرون من العلماء بقولهم : إن الله تعالى يريد تقريب ذاته إلى عقول البشر ، حتى تقدر العقول أن تدرك الألوهية وتقربها. أما هو عزوجل فإنه أكبر وأجل. ولذلك خاطب البشر على قدر عقولهم ، ووضع للعلماء الآيات المحكمات ليدركوا قصد الله تعالى من محكم كتابه. وإذا قلنا : إن الله تعالى قال في التوراة. فقولنا بحسب المكتوب فيها على طريقة إلزام الخصم بما يعتقد به ، ويسلم به.

* * *

ونصرح نحن المسلمين باستحالة الالتقاء في عقيدة التوحيد بين النصرانية والإسلام وبيان ذلك ما يلي :

أولا : إن المسلمين يعتقدون بأن الله تعالى إله واحد. وهذا الإله الواحد يجب أن ينسب إليه المسلم كل صفات الكمال ، ويجب على المسلم أن ينزه الله تعالى عن كل نقص. فالله تعالى إله واحد ، ومع وحدانيته في الذات والصفات والأفعال يتصف بالقدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر والحياة والرحمة والعدل والإحسان ، وهكذا سائر الصفات الطيبة التي تليق بذاته المقدسة. ولا يصح لمسلم أن يصف الله بالعجز والقهر والجهل ، وهكذا من الصفات السيئة التي لا تليق بذاته المقدسة.

ومعنى هذا : أن الوحدانية في الإسلام يلزمها التنزيه. أي أن الله واحد ومنزه عن كل نقص. والدليل على ذلك قول الله تعالى : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فقد بينت السورة الكريمة سورة الإخلاص أمران : الأول : هو الوحدانية. والثاني : هو التنزيه. والملة النصرانية تقول بالتوحيد لله عزوجل. ولكنه توحيد لا تنزيه فيه. وتقول بالتوحيد قولا ، لا اعتقادا. لأنهم يعتقدون في التثليث. وعلى ذلك : الالتقاء مستحيل بين الوحدانية في الإسلام وبين النصرانية لأن التثليث من عقيدتهم ، والتجسيم من عقيدتهم. وعدم التنزيه من عقيدتهم. أما الإسلام ففيه التوحيد قولا واعتقادا ، وفيه التنزيه. ولنبدأ بشرح عقيدة «التوحيد» عند «الأرثوذكس» فنقول :

يعتقد الأرثوذكس : أن الله تعالى ، حبلت به «مريم» العذراء ، بقوة «الروح القدس» أي بمساعدة «الروح القدس» حبلت مريم بالمسيح. وهذا المسيح هو الله نفسه حل في مريم ، واتخذ جسدا ، وصار مسيحا ، ثم خرج من مريم طفلا رضيعا. ومن يرى هذا الطفل من الناس يعتقد أنه «يسوع المسيح» ولكن في الحقيقة هو الله تجسد في صورة المسيح. ومثل ذلك مثل «جبريل» لما أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورة «دحية الكلبي» فالناس اعتقدوا أن الآتي هو «دحية» وفي الحقيقة هو «جبريل» ـ وبهذا يجادل النصارى ـ ثم يقولون : إن المسيح لما كبر بلغ الرسالة إلى بني إسرائيل في سن الثلاثين ، وفي سن الثالثة والثلاثين قتله اليهود وصلبوه ، ثم إنه نزل جهنم ، وتعذب فيها ثلاثة أيام ، ثم خرج من جهنم إلى القبر ، ومنه ارتفع إلى السماء. وجلس كما كان أولا.

هذا هو التوحيد عند نصارى الأرثوذكس. الله صار مسيحا. والله قبل التجسد في البطن ، يلقب بلقب «الأب» ـ وهذا هو الأقنوم الأول ـ وبعد التجسد ، يلقب بلقب «الابن» لأنه في نظر الناس ابن لمريم ، ولأن المزمور الثاني يتحدث عن ابن ـ وهذا هو الأقنوم الثاني ـ وبعد القتل ، يلقب ـ

__________________

ـ بلقب «الروح القدس» ـ وهذا هو الأقنوم الثالث ـ أي أنهم يقولون بإله واحد متجسد. ذو ثلاثة أقانيم ـ والأقنوم عندهم ، مرحلة من ثلاث مراحل ـ ويقولون إن كل أقنوم متساو مع غيره. ويقولون : إن الجسد هو «الناسوت» ، والروح هو «اللاهوت ، والقتل والصلب وقعا على الناسوت ، واللاهوت لم يتأثر بشيء. وما جرى على المسيح في الدنيا من الآلام ، جرى عليه من جهة ناسوته ، لا من جهة لاهوته. وتعذيبه في جهنم ، كان من أجل خطايا آدم وبنيه. والعذاب وقع على الناسوت ولم يقع على اللاهوت.

فهل عقيدة الأرثوذكس هذه تتفق مع قول الإسلام ب ١ ـ التوحيد ٢ ـ والتنزيه؟ إنهم لا ينزهون الله عن النقائص. فقد قالوا : بتجسده وبقتله وبصلبه. وأي نقيصة من بعد هذا؟ وقد اعترف القرآن بكفرهم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ) أي ثلاثة مراحل للإله الواحد (انْتَهُوا. خَيْراً لَكُمْ. إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) [النساء ١٧١] وفي قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [المائدة ٧٢].

ولنثني بشرح عقيدة «التوحيد» عند «الكاثوليك» فنقول :

يعتقد الكاثوليك : أن للكون ثلاثة آلهة : «الأب» وهو الله تعالى. والثاني : «الابن» وهو المسيح بن مريم. والثالث : «الروح القدس» وهو عمل إلهي منتشر في الكون. والثلاثة كانوا معا في بدء الخليقة. وهم على ثلاثة عروش. وكل واحد منهم مستقل بعرشه عن الآخر ، ومستقل بعمله عن الآخر. ويقولون : إن الأب أعظم من الابن. والروح القدس منبثق من الأب والابن. وأن المسيح له طبيعة إنسانية كاملة ، وله طبيعة إلهية كاملة. ومع ذلك الانفصال التام. يقولون بالتوحيد ، أي هم متحدون في الحقيقة الإلهية التي هي «جوهر» الأشياء ومختلفون في بعض الصفات العارضة ، التي تحدث وتزول. ويقولون : إن الثلاثة آلهة ، هم ثلاثة «أقانيم» ومعنى الأقنوم عندهم : «شخص ذو كيان مستقل» وهذا هو معنى الأقنوم في اللغة «السريانية».

ويقول النصارى أجمعون : أن المسيح «ابن الله».

وعقيدة الأرثوذكس تختلف عن عقيدة الكاثوليك والبروتستانت في «بنوة» المسيح لله. فالأرثوذكس يعتقدون أن المسيح «ابن» بحسب ١ ـ ما ورد في نصوص التوراة أن كل يهودي ابن لله بالمعنى المجازي أي حبيب إلى قلب الله ، ومقرب منه. فقد ورد في التوراة أن الله قال لبني إسرائيل : «أنتم أولاد للرب إلهكم» [تثنية ١٤ : ١] والمسيح من بني إسرائيل. ٢ ـ بحسب رؤية الناس له ، ونظرتهم إليه أنه ابن لمريم بدون أب ، وجرت عادتهم أن الذي لا يعرفون له أبا ينسبونه إلى الله ، كما جاء في إنجيل لوقا في الأصحاح الثالث : أن آدم ابن الله. ٣ ـ بحسب نبوءة في مزامير داود ، في المزمور الثاني. يتحدث عن النبي المنتظر الذي وعد به موسى في الأصحاح الثامن عشر من سفر التثنية بلغة بني إسرائيل ولسانهم ، تتحدث عنه بلقب «ابن الله» ولما أرادوا أن يطبقوا عليه أطلقوا عليه لقب «الابن» وقالوا : إنه «مولود من الأب قبل كل الدهور».

__________________

والكاثوليك يقولون بما يقول به الأرثوذكس. ويضيفون عليه : أن المسيح مولود ولادة طبيعية ، والبنوة طبيعية. وهم لا يصرحون بذلك. لكن يفهم من اقتباسهم عقيدة التثليث من تثليث المصريين القدماء ، والهنود البوذيين ، يفهم من اقتباسهم أن النبوة طبيعية ، لأن التثليث القديم يدل على البنوة الطبيعية.

هذا كلامهم. فهل عقيدة الكاثوليك هذه ـ وهي عقيدة البروتستانت أيضا ـ تتفق مع قول الإسلام ب ١ ـ التوحيد ٢ ـ والتنزيه؟ إنهم يعبدون ثلاثة آلهة ، كل إله منفصل عن غيره. فأين التوحيد؟ وقد اعترف القرآن بكفرهم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا : ثَلاثَةٌ) أي ثلاثة آلهة متعددون (انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ. إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) [النساء ١٧١] وفي قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة ٧٣].

ثانيا : إن عقيدة المسلمين في التوحيد وفي التنزيه. عليها أدلة من القرآن الكريم ، ومن التوراة ، ومن الإنجيل. وأعني بالإنجيل : الأناجيل الأربعة : متى ، ومرقس ، ولوقا ، ويوحنا.

١ ـ وقد ذكرنا من قبل سورة من القرآن الكريم تدل على التوحيد والتنزيه. وهي سورة الإخلاص.

٢ ـ والتوراة صرحت بوحدانية الله تعالى ، وصرحت بالتنزيه أيضا. وهذه نصوص منها :

(أ) في الاصحاح السادس من سفر التثنية :

«اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ، ومن كل نفسك ، ومن كل قوتك ... الخ» [تث ٦ : ٤ ـ ٥] وهذا النص يدل على التوحيد «الرب إلهنا رب واحد».

(ب) وفي الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية : «ليس مثل الله» [تث ٣٣ ـ ٢٦] وهذا النص يدل على التنزيه ، وعدم مشابهة الله للحوادث.

(ج) ودلت التوراة على أن الله تعالى لا يقدر أحد أن يراه ، وموسى عبده وكليمه لم يقدر أن يراه ففي الأصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج أن موسى قال لله : «أرني مجدك» فقال له : «لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش» [خر ٣٣ : ٢٠].

(د) ودلت التوراة على أن الله تعالى كلم موسى وكلم بني إسرائيل وأنهم سمعوا الصوت ولم يروا ذاته المقدسة. ففي الأصحاح الرابع من التثنية : «فكلمكم الرب من وسط النار ، وأنتم سامعون صوت كلام. ولكن لم تروا صورة بل صوتا» [تث : ٤ : ١٢].

(ه) وتبين التوراة أن الله تعالى فعل هذا ، ليتقوا الله ويخافوه. ففي الأصحاح الرابع من سفر التثنية : «إنك قد رأيت هذا. لتعلم أن الرب هو الإله. ليس آخر سواه» [تث ٤ : ٣٥].

٣ ـ وفي الأناجيل الأربعة المقدسة اليوم لدى النصارى مثل ما في التوراة عن الوحدانية والتنزيه.

__________________

ـ (أ) ففي الأصحاح الثاني عشر من إنجيل مرقس أن عالما من علماء بني إسرائيل سأل المسيح عن الوصية العظمى في التوراة ، وهي وصية التوحيد الواردة في الأصحاح السادس من سفر التثنية. وأجاب المسيح بأن الوصية العظمى هي أن الله إله واحد. يقول مرقس :

«فجاء واحد من الكتبة. وسمعهم يتحاورون. فلما رأى أنه أجابهم حسنا. سأله : أية وصية هي أول الكل؟ فأجابه يسوع : إن أول كل الوصايا هي. اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. وتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك ومن كل قدرتك. هذه هي الوصية الأولى ، وثانية مثلها هي : تحب قريبك كنفسك. ليس وصية أخرى أعظم من هاتين. فقال له الكاتب : جيدا يا معلم بالحق قلت : لأن الله الواحد ، وليس آخر سواه» [مرقس : ١٢ : ٢٨ ـ ٣٢].

لقد أجاب المسيح بأن الله الواحد كما جاء في التوراة. والكاتب ـ أي العالم ـ وافق المسيح على اعترافه بالوحدانية.

(ب) وفي الأصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا : نجد اعترافا صريحا من المسيح بأنه رسول الله. وذلك في قول المسيح لله : «وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك. ويسوع المسيح الذي أرسلته. أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» [يوحنا ١٧ : ٣ ـ ٤] ويقول المسيح أيضا : / وأما الآن فأنا ماض إلى الذي أرسلنى [يو ١٦ : ٥] ويحكي يوحنا عن شفاء المسيح للأكمة فيقول : «وفيما هو مجتاز ـ أي المسيح ـ رأى إنسانا أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه قائلين : يا معلم من أخطأ؟ هذا أم أبواه؟ حتى ولد أعمى.

أجاب يسوع :

لا هذا أخطأ ولا أبواه ، لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني. ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل .. الخ» [يو ٩ : ١ ـ] ومما حكاه يوحنا يفهم منه أن المسيح «معلم» أي أستاذ كبير في نظر أتباعه وتلاميذه ، ـ وليس هو الله ظهر في الجسد ، وليس هو إله ثان من آلهة ثلاثة ـ ويفهم منه أن المسيح يعمل أعمال الله الذي أرسله.

(ج) ونجد تصريح الأناجيل بأن الله لا يرى ولا يقدر أحد أن يراه. يقول يوحنا في الأصحاح الأول من إنجيله : «الله لم يره أحد قط» وحيث أن الناس قد رأوا المسيح بأعينهم فإنه لا يكون الإله.

في رسائل بولس نفس المعنى. ففي الرسالة الأولى إلى «تيموثاوس» يقول عن الله تعالى : «وملك هو الذي لا يفنى. ولا يرى. الإله الحكيم وحده. له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور» [١ تيمو ١ : ١٧].

ويقول لتيموثاوس أيضا عن الله تعالى : «المبارك العزيز الوحيد ، ملك الملوك ورب الأرباب الذي وحده له عدم الموت ، ساكنا في نور لا يدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ، ولا يقدر أحد أن ـ

النوع الثاني (١) من دلائل أصحاب المكاشفات ، وأرباب المجاهدات : قالوا : قد ثبت أن الموجودات إما روحانية ، وإما جسمانية.

فنقول : أما عالم الأجسام فهي إما نيرة وإما مظلمة. وأما النّيرات فهي أربعة :

الشمس ، والقمر ، والكواكب ، والنار. وأعلى هذه الأربعة وأشرفها هو الشمس ، لأنها ينبوع النور القاهر ، والضوء الظاهر وعند طلوعها تضمحل

__________________

ـ يراه. الذي له الكرامة والقدرة الأبدية» [١ تيمو ٦ : ١٥ ـ ١٦].

ثالثا : لقد ظهر مما تقدم أن عقيدة التوحيد مع التنزيه. صرحت بها التوراة ، وصرح بها الإنجيل ، وصرح بها القرآن الكريم. وإذا كان الأمر كذلك. فلما ذا يقول النصارى بالتجسد وبالتعدد. وليس على التجسد والتعدد دليل من التوراة ، أو دليل من الإنجيل؟ إن التوراة ـ رغم تحريفها ـ تشهد بالتوحيد وبالتنزيه. والأناجيل ـ رغم تحريفها ـ تشهد بالتوحيد وبالتنزيه. فمن أين إذن عقيدة التجسد وعقيدة التعدد؟

والإجابة على ذلك : تدل كتب التواريخ على أن الإمبراطور الروماني «قسطنطين» جمع النصارى في مدينة «نيقية» وهي «تركيا» الآن. في سنة ثلاثمائة وخمسة وعشرين من ميلاد المسيح ، وأراد منهم أن يقولوا بدين فيه عقائد الرومان وفيه عقائد النصارى. أي يوحدوا الديانتين في ديانة واحدة. وكان النصارى يضطهدون من قبل ملوك الرومان لئلا يظهروا أن نبيا بشر به المسيح سيأتي. وسيمتد ملكه إلى أقصى الأرض. وسوف يزيل نفوذ الرومان من العالم. ولقد رضي النصارى القليلو الإيمان بذلك. واتفقوا على «قانون الإيمان» وفيه : الاعتراف بأن الله واحد ، وأن المسيح إله ثان. ثم في مدينة «القسطنطينية» سنة ثلاثمائة وواحد وثمانين اتفقوا على أن «الروح القدس» إله ثالث. وفي مجمع «خليقدونية» على شاطئ «البسفور» في سنة أربعمائة وواحد وخمسين انقسم النصارى إلى أرثوذكس وكاثوليك. وظل الانقسام إلى اليوم. فالكاثوليك قالوا بالآلهة الثلاثة. والأرثوذكس قالوا بإله واحد قد تجسم في صورة المسيح. وهذا الكلام ثابت من كتب تواريخ النصارى أنفسهم ، ولا يشك أحد منهم في صدقه.

ولو أن النصارى اليوم ، وقد خف عنهم عذاب الرومان. رجعوا إلى كتبهم المقدسة التي بين أيديهم رغم تحريفها. لوجدوا فيها كما قلنا : عقيدة التوحيد والتنزيه. وأن المسيح بن مريم رسول من رسل الله ، ونبي من أنبياء الله مثل هارون وإلياس واليسع ـ عليهم‌السلام ـ وعندئذ يتفقون مع اليهود ومع المسلمين في عقيدة التوحيد والتنزيه. وإذا أصروا على عقيدة التجسد ، وعقيدة التعدد. فإنهم لا يتفقوا أبدا مع المسلمين ، ولا مع المسيح نفسه ، ولا مع موسى نبي بني إسرائيل في التوحيد والتنزيه. والله أعلم.

(١) لاحظ أنهم أربعة أنواع.

الأضواء ، وتبطل الأنوار ، وأما القمر فهو كالوزير له ، ولهذا السبب صار سلطان الليل ، وأما الكواكب فإنها مرتبة على سبع درجات ، فأقواها في القوة وأعظمها في الجثة ما يكون في حد العظم الأول ، ولا يزال يتناقص حتى ينتهي إلى العظم [السابع (١)] فيصير في غاية الصغر ، وأما النار فإنها نير العالم السفلى ونورها ضعيف جدا من وجوه :

أحدهما : أنها وإن قويت وعظمت ، إلا أنها تنطفئ بأدنى سبب.

وثانيها : أنها وإن كانت تفيد الإشراف إلا أنها تفيد الإحراق.

وثالثها : أن نورها ممتزج بالدخان ، وأن استعلاءها قليل ، ويعلوها الدخان والظلمة، والكدورة. قالوا : فهذه مراتب النيرات في عالم الأجسام. وإذا عرفت هذا فنقول : قد ظهر أن عالم الأرواح أصفى وأكمل وأشرف من عالم الأجسام ، فلما حصلت هذه النيرات في عالم الأجسام ، فبأن تحصل النيرات في عالم الأرواح ، كان أولى. وكما أن درجات النيرات في عالم الأجسام متفاوتة في الكمال والنقصان ، وكان أعظم شيء : واحد هو الشمس. فكذلك يجب أن يكون النير الأعظم في عالم الأرواح واحد فقط. وكما أن من صفة النير الأعظم من عالم الأجسام أن عند طلوعه تبطل أنوار سائر النيرات وتبطل الظلمة عن الظلمانيات ، فيصير النير مظلما والمظلم نيرا. فكذلك النير الأعظم في عالم الأرواح (٢) [واحد فقط ، وكما أن من صفة النير الأعظم في عالم الأجسام أن عند طلوعه تبطل أنوار سائر النيرات ، وتبطل الظلمة عن الظلمانيات ، فيصير النير مظلما ، والمظلم نيرا ، فكذلك الأعظم في عالم الروحانيات] (٣) يبطل في نوره كل نور ، ويبطل في إشراقة وجوده كل موجود. فبكمال فضله ورحمته ، يصير كل معدوم كالموجود ، وبقوة قهر جلاله يصير كل موجود كالمعدوم. فهذه أحوال

__________________

(١) من (ز).

(٢) الروحانيات (س).

(٣) من (ز).

قريبة عند الأذهان السليمة ، والعقول الصافية. ومن خاض في مقام الرياضات (١) ، وكانت نفسه في أصل الفطرة مشرقة علوية [إلهية] (٢) أبصر بعين بصيرته كل ما ذكرناه ، إبصارا لا شك له فيه. والله ولي الإرشاد.

النوع الثالث من دلائل أصحاب الرياضات : أن قالوا : إن أصحاب الشكوك والشبهات ، وإن اجتهدوا في تقرير الخيالات الباطلة ، وتأكيد الشبهات الفاسدة في نفي الإله المدبر ، إلا أنه إذا نزلت بهم حادثة مؤلمة وواقعة مهيبة ، فإنهم يجدون من صريح عقولهم وقلوبهم : التضرع ، وإظهار الخضوع لإله العالم ، والطلب منه أن يخلصهم من تلك البلية ، ويخرجهم من تلك المحنة. ووجدان هذه الحالة كالأمر المعلوم بالضرورة بالاستقراء والاعتبار. ثم بعد الخلاص من تلك البلية ، ربما عادوا إلى تقرير الشبهات ، وإيراد الخيالات. وإليه الاشارة في القرآن بقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٣) وهذا يدل على أن جميع العقول السليمة ، مقرة بوجود الإله الحكيم.

النوع الرابع من دلائل أصحاب الرياضات والمكاشفات : ما يعلمه كل أحد بصحة التجربة والاختبار من إجابة دعاء المضطرين ، وإغاثة الملهوفين ، وإعانة المظلومين على الظالمين ، وكل من كان أصفى نفسا ، وأقوى روحا ، وكان أقوى في الانجذاب إلى الروحانيات ، وأبعد من الالتفات إلى الجسمانيات ، كان في هذا الباب أقوى وأكمل ، وذلك يدل على أن لهذا العالم إلها ، يسمع الدعاء ويجيب النداء ، فهو تعالى منتهى طلب الحاجات ، ومن عنده نيل الطلبات. فالأيدي ترفع إليه ، والأبصار تخشع له ، والرقاب تخضع لقدرته (٤) ، والألسنة متشرفة بذكر جلاله. فيستغنى به ، ولا يستغنى عنه ، ويرغب إليه ، ولا يرغب عنه ، ولا تنقطع عن حضرته حوائج المحتاجين ، ولا

__________________

(١) مقدمات الرياضة (ز).

(٢) من (ز).

(٣) العنكبوت ٦٥.

(٤) تخضع له (س).

يتشوش علمه بكثرة سؤال السائلين. ف (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١).

[فهذه هي الوجوه التي حصلناها من كلمات أصحاب الرياضات] (٢).

الطائفة الثالثة من طوائف أهل العالم : الذين حصلت لهم عقول كاملة وأفهام صحيحة ، إلا أنهم لم يشتغلوا بطلب العلوم الدقيقة. ولقد سمعت من هذا الجنس [من الناس] (٣) عبارات صحيحة دالة على إثبات الإله لهذا العالم.

فالطريق الأول : قال بعضهم : رعاية الاحتياط في كل شيء ، أولى من إهمال الاحتياط. فنقول : القول بإثبات الإله المختار للمكلف أقرب إلى الاحتياط من القول بنفيه، فكان الذهاب إلى هذا القول أولى. أما بيان أنه أحوط. فتقريره أن نقول : هذا العالم : إما أن يكون له إله ، وإما أن لا يكون. فإن لم يكن ، كان القول بإثباته مضرا ، فثبت أن القول [بإله العالم] (٤) أقرب إلى الاحتياط. ثم نقول : إله العالم إما أن يكون فاعلا مختارا ، أو لا يكون (٥) ، فإن لم يكن فاعلا مختارا كان إثبات الفاعل المختار غير مضر. أما إن كان فاعلا مختارا كان نفيه مضرا. فكان إثبات الفاعل المختار أبعد عن الضرر ، وأقرب إلى الاحتياط.

ثم نقول : هذا الإله الفاعل المختار. إما أن يقال : إنه كلف العباد ، وأمرهم ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها ، وإما أن يقال : إنه ليس كذلك ، فإن لم يكن كذلك لم يلزم من القول بكونه آمرا ناهيا ضرر ، وإن كان كذلك كان إنكار كونه آمرا ناهيا أعظم المضار. فثبت بما ذكرنا : أن الاعتراف بأن لهذا العالم إلها ، وأن ذلك الإله فاعل مختار ، وأنه آمر ناهي أبعد عن

__________________

(١) غافر ٦٥.

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) بإثباته (س).

(٥) العبارة مكررة في (س).

الخوف ، وأقرب إلى الاحتياط ، وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون المصير إلى هذا المذهب والاعتقاد ، أحوط. لأن عند استيلاء الخوف الشديد ، يكون الأخذ بالجانب الأحوط متعينا. [والله ولي التوفيق] (١).

الطريق الثاني : كان بعض العقلاء يقول : إن لطمة واحدة تضرب على وجه صبي ، تظهر أن لهذا العالم إلها وأن هذا الإله أمر بعض عباده بأشياء ، ونهاهم عن أشياء ، وأن ذلك الإله أعد للمطيعين ثوابا ، وللمذنبين عقابا ، وأنه (٢) بعث إلى الخلق رسلا مبشرين ومنذرين. وهذه هي الأصول الأربعة التي هي أشرف المطالب وأعز المقاصد.

أما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الأول وهو إثبات الإله تعالى فنقول : ذلك الصبي إذا أحس بتلك اللطمة ، ففي الحال يصيح ويقول : من الذي ضربني؟ ومن الذي لطم وجهي؟ ولو أن أهل الدنيا يجتمعون عليه ويقولون : إن هذه اللطمة حصلت [بنفسها] (٣) من غير فاعل ، فإنه لا يقبل هذا القول ، ولا يؤثر فيه هذا الكلام ، وهذا يدل على أن صريح العقل [وأول الفطرة ، شاهدة بأن الفعل] (٤) لا بد له من فاعل والحادث لا بد له من محدث ، ومتى ظهرت هذه المقدمة فنقول : إذا كان صريح العقل يستبعد حدوث تلك اللطمة من غير فاعل ، فحدوث جملة الحوادث في عالم الأفلاك ، وعالم العناصر ، كيف يعقل حدوثها بلا محدث وفاعل؟ فصار هذا الاعتبار من أدل الدلائل على دلالة حدوث هذا العالم ، على وجود الصانع المدبر. وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثاني وهو كون الإله تعالى موصوفا بالأمر والنهي والتكليف.

فنقول : إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الذي لطمه هو فلان ، فإنه في الحال يقول : لم ضربتني؟ وبأي سبب آذيتني؟ وهذا يدل على أن صريح عقله حكم بأن الخلق ما تركوا مهملين معطلين ، بل التكاليف عليهم لازمة ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) عزوجل (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

والمطالبات عليهم متوجهة ، ولما حكم صريح عقل ذلك الصبي بأن تلك اللطمة الواحدة لا يجوز خلوها عن التكليف ، والأمر والنهي ، فأفعال كل الخلائق مع كثرة ما فيها من المصالح والمفاسد ، أولى بأن لا يجوز خلوها من التكاليف. وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الثالث وهو حصول ذات الثواب والعقاب. فنقول : إن ذلك الصبي إذا عرف أن ذلك الإنسان لطمه بغير سبب ، فإنه يطلب منه القصاص. فإن عجز عن استيفائه ، استغاث بمن يعينه على تحصيل ذلك المطلوب ، وهذا يدل على أن صريح عقله حكم [بأنه لا بد للحسنة من ثواب ، ولا بد للسيئة من عقاب ، ولما كان صريح عقله حكم] (١) بأن هذه اللطمة لا يمكن إخلاؤها عن الجزاء أو القصاص ، فكيف يمكن إخلاء أفعال كل الخلق (٢) [عن القصاص (٣)؟ وأما دلالة هذه اللطمة على المطلوب الرابع وهو بعثة الأنبياء [عليهم‌السلام] (٤) فهو أن الصبي إذا قرر أنه لا بد من القصاص ، فعند ذلك يطلب إنسانا يبين له ذلك القصاص بحيث يكون خاليا عن الزيادة والنقصان. وهذا يدل على أنه تقرر في عقله أنه لا بد في الخلق من إنسان يبين لهم مقادير المرغبات ، ومقادير الزواجر ، وذلك الإنسان ليس إلا الرسول. فظهر بهذا البيان الذي بحثناه (٥) : أن هذه اللطمة الواحدة ، كافية في إثبات هذه المطالب الأربعة الشريفة العالية [ومن الله التوفيق] (٦)

الطريق الثالث : وهو طريق الباحثين عن حقيقة المدة والزمان. قالوا : إن بديهة العقل حاكمة بأن كل محدث ، فإنه لا بد وأن يكون وجوده متأخرا عن غيره. وهذا العلم علم بديهي لا يشك العاقل فيه. وإذا ثبت هذا فنقول : لما كان هو متأخرا عن غيره [كان غيره](٧) متقدما عليه. وذلك الأمر الموصوف بهذا التقدم والقبلية ، إما أن يكون عدما أو وجودا. والأول باطل. لأن العدم المتقدم يشارك العدم المتأخر في المفهوم من كونه عدما ، ويخالفه في القبلية والبعدية ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن يكون المفهوم من

__________________

(١) من (س).

(٢) العباد (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) لخصناه (س).

(٦) من (ز).

(٧) من (س).

القبلية والبعدية (١) معنى مغايرا للعدم المحض ، فوجب أن يكون صفة موجودة. ولو كان الموصوف بهذا التقدم والقبلية عدما محضا ، لزم منه أن يكون العدم المحض والنفي الصرف موصوفا بالصفة الموجودة وأنه محال. ولما بطل هذا ثبت أن الموصوف بالقبلية والتقدم موجود. وثبت أن كل ما صح عليه أن يوجد بعد عدمه ، أو يعدم بعد وجوده ، فإنه لا بد وأن يكون مسبوقا بموجود آخر [وأن يكون ملحوقا بموجود] (٢) ثم ذلك الموجود ، إن صح عليه العدم والوجود ، افتقر إلى موجود آخر ، فيصير إلى غير النهاية ، وهو محال ، وإن لم يصح العدم عليه أصلا ، فذلك هو الموجود الواجب لذاته ، وهو المطلوب.

الطريق الرابع وهو طريق الباحثين عن أحوال الفلك : فإنهم قالوا : ثبت أنه متحرك بالاستدارة ، وكل ما كان كذلك فحركته نفسانية إرادية ، وكل ما كان كذلك ، فلا بد من جوهر مجرد عن الجسمية يتولى تحريك ذلك الفلك بإرادته ، وهذا المعنى حاصل في الفلك الأقصى ، فلا بد له من وجود يحركه على سبيل الإرادة. ثم نقول : إن كان ذلك الشيء قديما واجب الوجود لذاته فهو المطلوب. وإن كان حادثا افتقر إلى فاعل آخر. والتسلل محال فلا بد من الانتهاء إلى قديم واجب الوجود لذاته.

ولنكتف في هذا الباب بهذه الوجوه ، ومن الله الإرشاد والرحمة والهداية.

__________________

(١) والتقدم (س).

(٢) من (ز).

ونقول هنا :

(أ) الدليل على وجود الله تعالى : ١ ـ دليل نقلي من التوراة والإنجيل والقرآن. والآثار القديمة الموجودة في بلاد العالم التي تدل على أن الناس عبدوا الإله الخالق ، وآمنوا بحياة ثانية بعد موتهم كالكعبة في مكة. والأهرامات في مصر. ٢ ـ ودليل عقلي. والأدلة العقلية تنقسم إلى الأقسام التالية :

١ ـ دليل الفطرة ـ أي الغريزة ـ : ومعناه : أن الله لما كوّن جسم الإنسان : كونه من لحم ودم. وجعل من اللحم والدم غرائز كامنة تظهر عند وجود الداعي إلى ظهورها. فغريزة الجوع كامنة في الجسم. وإنها لتظهر عند وجود الطعام الشهي أو عند الجوع. لا يحس الإنسان بغريزة الجوع. لأنها كامنة مستترة. وحال ظهورها يعرف الإنسان أن غريزة الجوع فيه. وغريزة الميل إلى النساء ، هي غريزة مستترة ، ولا يحس بها الإنسان إلا عند الإثارة. وكذلك غريزة الميل إلى الخضوع للخالق جلّ وعلا. هي غريزة في جسم الإنسان ، مولود بها كسائر الغرائز وتظهر غريزة التدين ، إذا أحس ـ

__________________

ـ الإنسان بالرهبة وأدركه الخوف. وكل غريزة لها سن عند الإنسان تظهر فيه. أي أن الغرائز لا تظهر دفعة واحدة ، وإن كانت هي مخلوقة دفعة واحدة قبل الولادة. فغريزة الجوع ظهرت من الولادة مباشرة. وغريزة التملك بعد سنة تقريبا ، وغريزة الميل إلى النساء تظهر بعد ثلاث عشرة سنة على وجه التقريب. وغريزة التدين تظهر وقتئذ أيضا. والمحرك لها هو الرغبة أو الرهبة. وهذا أمر يحس به كل إنسان لأنه (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [الروم ٣٠].

٢ ـ دليل السببية : ومعناه : أن الأثر يدل على المؤثر ، والسبب يدل على المسبب. أي أن وجود «الكرسي مثلا» ـ وهو أثر ـ يدل على الإيمان بذات «النجار» ـ أي المؤثر ـ الذي صنعه. وإن كنا لم نره. كما يقول الراعي : البعرة تدل على البعير ، والأثر يدل على المسير. فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج. ألا تدل على العليم الخبير. وإذا ما قال قائل : إن الدنيا مخلوقة بالمصادفة. نقول له : إن «الإحكام والإتقان» في الكون يدل على الخالق ، ولا يدل على المصادفة. لأن المصادفة إذا أظهرت الإحكام صدفة في أمر من الأمور ، لا تظهره في كل الأمور. والحال أننا نرى العالم محكما ومتقنا (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل ٨٨].

٣ ـ دليل الآيات الكونية : ومعناه : أن نبي الإسلام محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نطق بآيات قرآنية تدل على أمور علمية ، ما كان أحد يعرفها في زمانه. ونطق بها وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. ولم يكن دارسا ، ولم يلقنه معلم. فراعي غنم أميّ وتاجر ينطق بهذا الكلام العجيب الشأن يدل على أحد أمرين : إما أن معلما علمه ، وإما أن الله هو الذي علمه. لا جائز أن يكون المعلم. لأن الآيات العلمية لم يعرفها العلماء إلا بعد أربعة عشر قرنا من نزول القرآن. فإذن يكون مرسل الكلام ـ الذي هو القرآن ـ الله عزوجل ـ فإنه يؤمن الناس بوجود الله بدليل صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخبر به.

ولقد رأيت بعض العلماء يفسر الآيات الكونية بأن «كل شيء في هذا الكون هو آية ناطقة بأن الله ربها وخالقها. وقد سلك القرآن هذا السبيل لتقرير ربوبية الله وألوهيته. ولذلك عند ما نقرأ القرآن نراه يأخذنا في جولات وجولات يرتاد بنا آفاق السماء ، ويسير في جنبات الأرض ، ويقف بنا عند زهرات الحقول ، ويصعد بنا إلى النجوم في مداراتها ، وهو في كل ذلك يفتح أبصارنا وبصائرنا ، فيرينا كيف تعمل قدرة الله وتقديره في المخلوقات».

وهذا التفسير لا يصلح دليلا مستقلا عن دليل السببية ـ لأن هو نفسه دليل السببية ـ أي أنه إذا فسرنا الآيات الكونية بتفسيره هذا فمعناه أن الكون كله يدل على المسبب. ولكن إن فسرناها دليلا على نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث نطقه بها في القرآن وهو أمي. فإنها تكون سببا مستقلا ، أي دليلا مستقلا.

٤ ـ دليل الهداية : والفرق بين هذا الدليل ودليل الفطرة : أن الفطرة غريزة كامنة عند الإنسان تظهر حال الاستثارة أو الاستفزاز ويحس بها الإنسان نفسه. وأما الهداية فمعناها : النظر إلى تصرف الإنسان وتصرف الحيوان الأعجم. إن تصرف الإنسان يدل على وجود العقل فيه. فمن الذي هدى العقل إلى أن هذا الفعل مفيد أو غير مفيد؟ إنه الله عزوجل فتصرف الحيوان يدل على أن الله هدى المخلوقات لكي تقوم بالوظائف التي خلقها الله من أجلها ، وقيامها بالوظائف يدل على أن لهذه ـ

__________________

ـ المخلوقات خالقا. ولذلك قال تعالى : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) [طه ٥٠].

(ب) ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد في «الله» :

إن أقرب الأدلة العقلية إلى القبول على وجود الله تعالى هو : برهان الخلق ، وبرهان الغاية ، وبرهان الاستكمال ـ أي المثل العليا ـ وبرهان الأخلاق.

١ ـ أما برهان الخلق : ويعرف في اللغات الأوروبية باسم البرهان الكوني. فهو أقدم هذه البراهين وأبسطها وأقواها في اعتقادنا على الإقناع. وخلاصته : إن الموجودات لا بد لها من موجد. لأننا نرى كل موجود منها يتوقف على غيره ، ونرى غيره هذا يتوقف على موجود آخر ، دون أن نعرف ضرورة توجب وجوده لذاته. ولا يمكن أن يقال : إن الموجودات كلها ناقصة ، وأن الكمال يتحقق في الكون كله. لأن هذا كالقول بأن مجموع النقص : كمال. ومجموع المتناهيات : شيء ليس له انتهاء. ومجموع القصور : قدرة لا يعتبر بها القصور. فإذا كانت الموجودات غير واجبة لذاتها ، فلا بد لها من سبب يوجبها ، ولا يتوقف وجوده على وجود سبب سواه.

ويسمى هذا البرهان ـ في أسلوب من أساليبه المتعددة ـ ببرهان المحرك الذي لا يتحرك ، أو المحرك الذي أنشأ جميع الحركات الكونية على اختلاف معانيها. ومنها الحركة بمعنى الانتقال من حال إلى حال. والحركة بمعنى الانتقال من حيز الإمكان إلى حيز الوجود ، أو من حيز القوة إلى حيز الفعل.

وفحوى البرهان : أن المحرك لا بد له من محرك ، وأن هذا المحرك لا بد وأن يستمد الحركة من غيره. وهكذا إلى أن يقف العقل عند محرك واحد ، لا تجوز عليه الحركة ، لأنه قائم بغير حدود من المكان أو الزمان. وهذا هو «الله».

٢ ـ وأما برهان الغاية : فهو في لبابه نمط موسع من برهان الخلق ، مع تصرف فيه وزيادة عليه. لأنه يتخذ من المخلوقات دليلا على وجود الخلق ، ويزيد على ذلك : أن هذه المخلوقات تدل على قصد في تكوينها ، وحكمة في تسييرها وتدبيرها.

٣ ـ وأما برهان الاستكمال : ويسمى برهان المثل العليا : وفحواه : أن العقل الإنساني كلما تصور شيئا عظيما ، تصور ما هو أعظم منه. لأن الوقوف بالعظمة عند مرتبة قاصرة يحتاج إلى سبب ، وهو ـ أي العقل الإنساني ـ لا يعرف سبب القصور. فما من شيء كامل ، إلّا والعقل الإنساني متطلع إلى أكمل منه ، ثم أكمل منه ، إلى نهاية النهايات ، وهي غاية الكمال المطلق التي لا مزيد عليها ولا نقص فيها. وهذا الموجود الكامل الذي لا مزيد على كماله : موجود لا محالة. لأن وجوده في التصور أقل من وجوده في الحقيقة ، فهو في الحقيقة : موجود. لأن الكمال المطلق ينتفي عنه ، بسبب عدم وجوده ، ولا يبقى له شيء من الكمال ، بل نقص مطلق هو عدم الوجود ، فمجرد تصور هذا الكمال مثبت لوجوده.

٤ ـ وأما برهان الأخلاق : فهو «علامة» في النفس الإنسانية. لا يتأتى وجودها فيها وجود إله. وتلك هي علامة الوازع الأخلاقي ، أو علامة الواجب أو علامة الضمير. فمن أين استوجب ـ

__________________

ـ الإنسان أن يدين نفسه بالحق كما نعرفه. إن لم يكن في الكون «قسطاس للحق» يغرس في نفسه هذا الوجوب؟ ومن أين تقرر في طبع الإنسان : أن الواجب الكريه لديه ، أولى به من إطاعة الهوى المحبب إليه ، وإن لم يطلع أحد على دخيلة سره؟

(ب) ويذكر الآية القرآنية : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء ٢٢] ويقول : لن يقوم على ثبوت الوحدانية برهان أقوى من هذا البرهان. وهو برهان التمانع ، كما يسميه المتكلمون. وأحسن من يشرحه هكذا. لا يخلو إما أن يكون قدرة كل واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم ، أو لا شيء منهما كاف ، أو أحدهما كاف فقط. وعلى الأول يلزم اجتماع المؤثرين التامين على معلول واحد. وهو محال. وعلى الثاني يلزم عجزهما ، لأنهما لا يمكن لهما التأثير إلا باشتراك الآخر. وعلى الثالث ألا يكون الآخر خالقا ، فلا يكون إلها.

وصواب الأمر : إن وجود إلهين سرمديين مستحيل. وإن بلوغ الكمال المطلق في صفة من الصفات يمنع بلوغ كمال مطلق آخر في تلك الصفة. وأن «الاثنينية» لا تتحقق في موجدين كلاهما بلا بداية ولا نهاية ولا حدود ولا فروق. وكلاهما يريد ما يريده الآخر ، ويقدر ما يقدره ، ويعمل ما يعمله في كل حال ، وفي كل صغير وكبير. فهذان وجود واحد وليسا بوجودين. فإذا كانا اثنين لم يكونا إلا متمايزين متغايرين. فلا ينتظم على هذا التمايز والتغاير نظام واحد. وإذا كانا هما كاملين. فالمخلوقات ناقصة ، ولا يكون تدبير المخلوق الناقص على وجه واحد ، بل على وجوه.

القسم الثالث

من الجزء الأوّل

من علوم هذا الكتاب

في الكلام في الوجوب والوجود والإرادات

والتّعين والماهيّة. وما يشبهها من المطالب

والمباحث

المسألة الأولى

في

البحث عن معنى قولنا : إنه واجب الوجود لذاته

اعلم. أنه يمكن تفسيره بأمور ثلاثة : أحدها : أنه الذي يستحق الوجود من ذاته. وثانيها : أنه الذي لا يقبل العدم ، أو أنه الذي لا يصح عليه العدم. وثالثها : أنه الذي لا يتوقف وجوده على سبب منفصل فهذه وجوه ثلاثة مغايرة.

ولنذكر الفرق بين هذه المفهومات الثلاثة :

أما قولنا : إنه الذي يستحق الوجود من ذاته. فهذا مفهوم ثبوتي. وهو يفيد كون ذاته علة لوجود نفسه. وأما الوجهان الآخران. وهما قولنا : إنه لا يقبل العدم ، أو إنه الذي يستغني عن السبب. فمفهومان سلبيان (١).

ثم نقول : قولنا : واجب الوجود لذاته هو الذي لا يقبل العدم [من حيث هو هو. فيه بحث. وذلك لأن الوجود من حيث إنه وجود ، لا يقبل العدم] (٢) البتة ، مع أن مسمى الوجود ، ليس واجبا لذاته.

وأما قولنا : إن واجب الوجود لذاته ، هو الذي لا يكون وجوده معللا بسبب منفصل ، فهذا أيضا فيه نظر. لأن أقسام الموجودات ، بحسب التقسيم

__________________

(١) متباينات (ز).

(٢) سقط (ط ، س).

العقلي ، ثلاثة : الذي يكون موجودا لذاته ، والذي يكون موجودا لغيره ، والذي يكون موجودا ، لا لذاته ولا لغيره.

وهذا القسم الثالث. معناه : أنه تحصيل الوجود للشيء من غير سبب أصلا ، لا من ذاته ، ولا من غيره [ويصح أيضا طريان العدم عليه ، من غير سبب أصلا. لا من ذاته ، ولا من غيره] (١) وهذا القسم ، وإن كان باطلا ، إلا أنه قسم من الأقسام المعتبرة ، بحسب التقسيم العقلي الأولي.

إذا ثبت هذا ، فما لم يظهر فساد هذا القسم ، إما بحسب بديهة العقل ، أو بحسب الدليل المنفصل ، لم يلزم من كون الشيء غنيا في وجوده عن السبب المنفصل ، كونه واجب الوجود لذاته ، لأن على تقدير كون [هذا القسم صحيحا ، يكون] (٢) الشيء غنيا في وجوده عن السبب المنفصل ، مع أنه يكون في نفسه قابلا للعدم وللوجود. إذا عرفت هذا فنقول : من الناس من لم يعرف هذه التفاصيل ، [وقال] (٣) إما أن يكون الموجود غنيا في وجوده عن السبب ، وإما أن لا يكون كذلك ، فإن كان غنيا في وجوده عن السبب [المنفصل] (٤) كان واجب الوجود [لذاته ، وهو المطلوب. وإن لم يكن غنيا في وجوده عن السبب] (٥) كان متحاجا إلى السبب ، فوجوده يدل على وجود السبب. فيثبت أن الاعتراف بوجود موجود [غني عن السبب] (٦) يوجب الاعتراف بوجود موجود واجب الوجود لذاته. ولقائل أن يقول : إن هذا القدر لا يفيد المقصود ، لأنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إنه وجد ، لا لذاته ولا لغيره ، بل حصل لا لأمر أصلا مع أن ذاته وماهيته قابلة للعدم فهو لأجل أنه حصل لا لسبب أصلا ، كان غنيا عن السبب ، ولأجل أن حقيقته قابلة للعدم ، لم يكن واجب الوجود لذاته ، فما لم تبطلوا هذا القسم ، لا يحصل مطلوبكم.

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) سقط (ط ، س).

(٣) من (ط).

(٤) سقط (ط).

(٥) سقط (ط).

(٦) سقط (ط).

المسألة الثانية

في

أن وجوب الوجود. هل هو مفهوم ثبوتي أم لا؟

من الناس من قال : هذا المفهوم : مفهوم وجودي محصل.

ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا بينا أن المراد من الوجوب الذاتي كون تلك الماهية مقتضية لوجود [نفسها(١) وكونها مستحقة للوجود من ذاتها ، وهذا الاستحقاق ليس حصوله بسبب فرض العقل [واعتبار الذهن فقط] (٢) لأن هذا المعنى حاصل سواء اعتبره [العقل] (٣) أو لم يعتبره ، ولو جاز أن لا يكون اقتضاء الوجود وصفا وجوديا مع أنه في نفسه نسبة متحققة محصلة ، لجاز أن يقال : إن نسبة الجسم إلى الحيز بالحصول في نفسه ، ليس أمرا ثبوتيا ، بل أمرا عدميا. وعند هذا يظهر للمنصف : أن الاشتباه الواقع في أن الوجوب هل هو أمر ثبوتي أم [لا؟ كان] (٤) بسبب عدم التمييز بين المفهومات التي بحثناها (٥) وميزنا بين كل واحد منهما وبين الآخر. فتارة يسبق الذهن من الوجود إلى العدم توقفه على الغير ، فيحكم بكونه عدميا ، وتارة إلى كونه عبارة عن استحقاق الوجود ، فيحكم

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) لخصناها (س).

بكونه ثبوتيا. فإن اقتضاء الثبوت وإيجابه (١) كيف لا يكون ثبوتيا؟ لكن [لعدم] (٢) التمييز بين المعنيين ، ربما يتحير الذهن.

والوجه الثاني : في بيان أن الوجوب مفهوم ثبوتي : أن الوجوب ماهية مركبة من قيدين ، أحدهما : أنه لا يمتنع وجوده. والثاني : أنه يمتنع عدمه. أما القيد الأول [وهو قولنا] (٣) إنه لا يمتنع وجوده ، فهذا مفهوم ثابت. لأن الامتناع قيد عدمي ، إذ لو كان موجودا ، لكان الموصوف به أولى أن يكون موجودا. ضرورة أن العدم المحض يمتنع كونه موصوفا بالصفة الموجودة ، وإذا ثبت أن الامتناع قيد عدمي ، كان نفيه نفيا للعدم ، ونفي النفي ثبوت ، فكان نفي الامتناع صفة موجودة ، وهذا يدل على أن هذا القيد مفهوم ثبوتي. وأما [القيد] (٤) الثاني ، وهو قولنا : إنه يمتنع عدمه ، فلا يتعلق غرضنا ببيان كونه وجوديا أو عدميا ، لأن البحث الأول يكفي في إفادة المقصود.

والوجه الثالث : في تقرير هذا المطلوب : أن [كثرة الوجوب] (٥) تؤكد الوجود فلو كان الوجود عدما ، لكان الشيء متأكدا بما عرف (٦) نقيضا له ومنافيا له ، وذلك محال.

والوجه الرابع : إن استحقاق الوجود في مقابلة اللااستحقاق الوجود. لكن اللااستحقاق الوجود [يصدق على أمرين : أحدهما : الممتنع ، وهو واجب العدم. والآخر : الممكن ، وهو جائز العدم. فإذن اللااستحقاق الوجود] (٧) صادق على المعدوم ، والصادق على المعدوم يمتنع أن يكون صفة موجودة ، فإذن اللااستحقاق الوجود ، وصف سلبي ، فيجب أن يكون استحقاق الوجود وصفا ثبوتيا. ضرورة أن النقيضين يجب أن يختلفا بالسلب والإيجاب.

فإن قيل : قولكم : اللااستحقاق. محمول على الممتنع وعلى الممكن

__________________

(١) والجائز (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) يكون (س).

(٧) من (ز).

الخاص ، وهما معدومان. فنقول : هذا الكلام مغالطة ، ذلك لأن الممتنع إما أن يكون له تخصص وتميز في نفسه ، أو لا يكون ، فإن كان الأول فحينئذ يمكن (١) أن يكون موصوفا بالامتناع ، سواء كان الامتناع وصفا ثبوتيا أو لم يكن. وإن كان الثاني فحينئذ لا يكون للممتنع في نفسه تخصص ولا تميز ، فلا يمكن أن يكون هو في نفسه موصوفا بالامتناع ، لأن ما لا يكون ممتازا عن غيره في نفسه ، كيف يعقل أن يختص بحكم معين؟ وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يمكن [الحكم] (٢) بالامتناع على الممتنع ، إلا من حيث أن الذهن يستحضر ماهيته ، ثم يحكم عليها بامتناع حصول الوجود الخارجي لها ، وعلى هذا التقدير فالمحكوم عليه بهذا الحكم هو تلك الماهية المحصلة في الذهن ، والحكم هو امتناع الحصول (٣) الخارجي لها. وإذا كان كذلك فحينئذ (٤) لا يكون المحكوم عليه بالامتناع وصفا وجوديا ويندفع كلامكم.

والجواب : أن نقول : المحكوم عليه بالامتناع ليس تلك الماهية الحاضرة في الذهن [من حيث إنها حاضرة في الذهن] (٥) وإنما الممتنع هو وجودها في الخارج [لكن وجودها في الخارج] (٦) ليس بحاصل البتة. فثبت : أن المحكوم. عليه بالامتناع ليس له ثبوت وحصول أصلا [البتة] (٧) فسقط السؤال.

واحتج القائلون بأن الوجوب يمتنع أن يكون وصفا وجوديا. بوجوه :

الأول : إنه لو كان أمرا وجوديا لكان مساويا في [الوجوب] (٨) لسائر الموجودات، ومخالفا في ماهيته لها ، فيلزم أن يكون وجوب الوجوب زائدا على ماهيته وتلك الماهية تكون موصوفة بذلك الوجوب ، وذلك الاتصاف إما أن

__________________

(١) لا يمكن (س).

(٢) من (س).

(٣) الحضور ، وإذا ... الخ (س).

(٤) فحينئذ يجوز أن يكون الامتناع وصفا وجوديا ، ويندفع كلامكم (س).

(٥) من (ز).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) يمكن أن تنطق الباء : دالا.

يكون على سبيل [الوجوب أو على سبيل] (١) الإمكان ، والثاني باطل ، وإلا لكان الوجوب بالذات ممكن الوجوب ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته [ممكنا لذاته] (٢) وذلك محال. فبقي الأول [فنقول : فعلى هذا التقدير يكون وجوب الوجوب زائدا عليه ، ثم الكلام في الثاني كما في الأول] (٣) وذلك يوجب التسلسل وهو محال.

الثاني : لو كان الوجوب أمرا ثابتا ، لكان إما أن يكون تمام ماهية الواجب ، أو جزءا من تلك الماهية ، أو أمرا خارجا عنها والكل باطل. أما أنه يمتنع أن يكون تمام الماهية فلوجوه:

الأول : إنا إذا قلنا : الجسم واجب الوجود لذاته ، كان الكلام مفيدا [ولو قلنا : واجب الوجوب. واجب الوجوب لم يكن الكلام مفيدا] (٤) فظهر الفرق.

الثاني : إن ماهية واجب الوجود لذاته غير معلومة وكونه واجب الوجود لذاته معلوم ، فوجب التغاير.

الثالث : إن وجوب الوجود كيفية لانتساب الموضوع إلى المحمول.

ولذلك قال أهل المنطق (٥) : الجهات الثلاثة : الوجوب. والإمكان. والامتناع. وإذا كذلك امتنع أن يكون الوجوب تمام الماهية. أما أنه يمتنع أن يكون الوجوب جزءا من الماهية. فلأن كل ما كان كذلك كان مركبا ، وكل مركب فهو ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فإنما يجب بإيجاب غيره ، فيلزم أن يكون الوجوب الذاتي ممكنا لذاته ، واجبا بغيره ، وهو محال. وأما أنه يمتنع أن يكون الوجوب خارجا عن الماهية ، فلأن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، لم يكن

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) قالوا (س).

جوهرا قائما بنفسه (١) ، مباينا (٢) عن الذات الواجبة ، بل يكون صفة لتلك الذات ، والصفة مفتقرة إلى الموصوف. والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، واجب بغيره فيجب (٣) أن يحصل قبل هذا الوجوب وجوب آخر ، حتى يكون ذلك الوجوب السابق علة لوجوب هذا الوجوب (٤) اللاحق ، فيلزم وقوع التسلسل ، ويلزم أن يحصل للذات الواحدة أعدادا من الوجوب. وكل ذلك محال.

الوجه الثالث : في بيان أن الوجوب بالذات يمتنع أن يكون وصفا موجودا : وذلك لأن الوجوب بالذات ماهية مركبة. فهي ممكنة لذاتها. ينتج أن الوجوب لذاته [ممكن لذاته] (٥) ، وهو محال. إنما قلنا : إن الوجوب بالذات ماهية مركبة فلأن الوجوب بالذات والوجوب بالغير متشاركان في المفهوم من كونه وجوبيا (٦) ويمتاز عن الآخر بكونه [وجوبيا بالذات ، وكون الآخر] (٧) وجوبيا (٨) بالغير وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فيلزم أن يكون الوجوب بالذات مركبا من هذين القيدين. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : الوجوب بالذات ، ممتاز عن الوجوب بالغير بقيد سلبي. وهو أنه لا يحصل معه القيد الزائد الحاصل في جانب الوجوب (٩) بالغير؟ قلنا : لأن الوجوب الذاتي ، وهو القدر (١٠) المشترك بين الصورتين إما أن يكون واجبا لذاته وإما أن يكون ممكنا لذاته. فإن كان الأول (١١) امتنع أن يصير جزءا من ماهية الوجوب بالغير ، لأن ماهية الوجوب بالغير صفة عارضة لماهيات الممكنات ، والعارض للشيء يكون عارضا لذلك الشيء بجميع أجزائه فلو كان أحد أجزائه هو الوجوب الذي هو واجب الوجود لذاته ، لزم أن يكون الواجب لذاته مفتقرا إلى غيره وهو محال. وأما إن قلنا : إن مسمى الوجوب الذي هو القدر (١٢) المشترك بين الصورتين

__________________

(١) بذاته (س).

(٢) منافيا (س).

(٣) فيلزم (س).

(٤) الوجود (س).

(٥) من (س).

(٦) وجوديا (س).

(٧) من (س).

(٨) وجودا بالغير (س).

(٩) الوجود (س).

(١٠) القيد (س).

(١١) كان واجبا لذاته (س).

(١٢) القيد (س).

أمر ممكن لذاته ، ثم إنه جزء من قوام ماهية الوجوب الذاتي ، لزم أن يكون الواجب لذاته متقوما بالممكن لذاته ، وهو محال. فثبت بما ذكرنا : أنه لو كان الوجوب بالذات مفهوما ثبوتيا ، للزم كون هذه الماهية مركبة ولما ثبت أن هذا محال ، كان القول بكونه مفهوما ثبوتيا محال.

الوجه الرابع : في بيان أن الوجوب الذاتي يمتنع أن يكون مفهوما ثبوتيا (١) : هو أن مسمى الوجوب محمول على العدم [المحض ، والمحمول على العدم عدم. فالوجوب عدم. وإنما قلنا : إن الوجوب محمول على العدم] (٢) لأن الشيء الذي يصدق عليه [أنه يمتنع أن يوجد يصدق عليه] (٣) لا محالة أنه واجب أن [لا] (٤) يوجد. فههنا المفهوم من الوجوب محمول على اللاوجود. فثبت أن الوجوب محمول على العدم. وأما إن المحمول على العدم : عدم ، فلأنه لو كان وجودا لزم أن يكون العدم المحض (٥) موصوفا بالصفة الموجودة ، وأنه محال. فثبت أن مسمى الوجوب ، لا يمكن أن يكون صفة موجودة.

الوجه الخامس : في بيان أن الوجوب يمتنع أن يكون صفة موجودة : [وذلك لأن الشيء ما لم يجب لم يوجد ، فوجوبه متقدم على وجوده ، فلو كان الوجوب صفة موجودة] (٦) لزم أن يكون حصول تلك الصفة الموجودة للماهية سابقا على وجود تلك الماهية في نفسها. وهذا محال. لأن وجود الشيء في نفسه [متقدم بالرتبة على وجود غيره له. فأما أن يقال : إن وجود غيره له ، متقدم بالرتبة على وجوده في نفسه. فهذا] (٧) محال لا يقبله العقل.

الوجه السادس : إذا قلنا في شيء : إنه واجب الوجود لذاته ، فهذا التصديق لا يحصل منه في العقل أمر [محصل] (٨) إلا إذا فرضنا حقيقة ، ثم فرضناها موصوفة بالوجود ، ثم فرضنا أن موصوفية تلك الحقيقة بذلك الوجود

__________________

(١) ذاتيا (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) من (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

موصوفية منعوتة بنعت الوجوب واللزوم.

وإذا كان كذلك ، فهذا الوجوب صفة من صفات النسبة الحاصلة بين الموضوع وبين المحمول ، وتلك النسبة صفة من صفات ذلك الموضوع. وصفة الشيء مفتقرة [إلى الموصوف ، والمفتقر إلى الشيء ، أولى بالافتقار ، فيثبت أن الوجوب مفتقر] (١) إلى الغير ، والمفتقر [إلى الغير] (٢) ممكن لذاته. فالوجوب بالذات [ممكن بالذات ، وذلك متناقض وباطل. فثبت أن الوجوب بالذات] (٣) لا يمكن أن يكون وصفا موجودا.

فهذا جملة ما يذكر في هذا الباب.

والجواب : أن نقول : لا شك أن في الوجود [موجودا] (٤) ولا شك أن ذلك الموجود إما أن يكون واجبا لذاته ، وإما أن يكون ممكنا لذاته ، وهذه الشكوك التي ذكرتموها في الطعن في الوجوب بالذات ، معارضة بالشكوك المذكورة في الطعن في الإمكان الذاتي. ولما تعارضت هذه الشكوك ، بقي ما ذكرناه من الدلائل الدالة على أن الوجوب بالذات أمر حاصل متحقق سليما عن الطعن [وبالله التوفيق] (٥).

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

المسألة الثالثة

في

أن وجود الله ـ تعالى ـ نفس ماهيته

أو صفة زائدة على ماهيته؟

إنه من المعلوم بالضرورة أنا نصف واجب الوجود لذاته بأنه موجود ، ونصف أيضا ممكن الوجود لذاته بأنه موجود. فنقول : إما أن يكون وقوع لفظ الوجود على هذين القسمين بحسب مفهوم مشترك بين هذين القسمين ، وإما أن لا يكون كذلك [بل يكون ذلك] (١). بحسب الاشتراك اللفظي فقط ، فإذا كان الحق هو القسم الأول. فنقول : هذا القسم ينقسم إلى قسمين آخرين ، وذلك لأن ذلك المفهوم المسمى بالوجود ، إما أن يقال : إنه في حق واجب الوجود مقارن لماهية أخرى ، ويكون هذا الوجود صفة لتلك الماهية ولاحقا من لواحقها ، وإما أن يقال : إنه [أمر] (٢) قائم بنفسه مستقل بذاته [من غير أن يكون صفة لشيء من الماهيات] (٣) ومن غير أن يكون عارضا لشيء من الحقائق.

فيثبت : أن القول في وجود الله تعالى لا يمكن أن يخرج عن هذه الاقسام الثلاثة. فالأول قول من يقول : لفظ الموجود الواقع على الواجب لذاته ، وعلى الممكن لذاته ، لا يفيد مفهوما واحدا مشتركا فيه بين القسمين ، بل هو بحسب

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

الاشتراك اللفظي فقط. والثاني قول من يقول : لفظ الموجود يفيد مفهوما واحدا ، إلا أنه في حق واجب الوجود لذاته ، وجودا مجردا ، أعني أنه وجود بشرط كونه غير عارض لشيء من الماهيات ، بل يكون وجودا قائما بنفسه ، وبهذا التقدير يكون وجود الله تعالى نفس حقيقته. والثالث : قول من يقول : إن الوجود صفة من صفات حقيقة الله تعالى ، ونعت من نعوت ماهيته ، وبهذا التقدير فوجود الله غير ماهيته. وهذه الأقوال الثلاثة قد ذهب إلى كل واحد منها عالم من الناس. فالأول : قول طائفة عظيمة من المتكلمين كأبي الحسن الأشعري ، وأبي الحسين البصري. والثاني : هو القول الذي اختاره أبو علي بن سينا في جميع [كتبه] (١) والثالث : قول طائفة عظيمة من المتكلمين ، وهو الذي نصرناه في أكثر كتبنا. ويجب على العاقل أن يتأمل في هذا التقسيم الذي ذكرناه حتى يعلم يقينا أن هذه الأقوال الثلاثة لا مزيد عليها البتة. ونقول : أما القول الأول وهو أن لفظ الموجود واقع على الواجب لذاته ، وعلى الممكن لذاته ، لا بحسب مفهوم واحد ، بل بحسب الاشتراك اللفظي فقط. فنقول : إنا قد دللنا في مسائل الوجود على فساده ، ولا بأس بإعادة بعض تلك الوجوه في هذا المقام ، فنقول : الذي يدل على فساده وجوه :

الأول : إن بديهة العقل حاكمة بأن الوجود لا يقابله إلا العدم ، وإن العدم لا يقابله إلا الوجود ، فوجب أن يكون الوجود مفهوما واحدا ، كما أن العدم مفهوم واحد ، حتى يصح ذلك التقابل بينهما.

الثاني : إن الوجود يصح تقسيمه إلى الواجب ، وإلى الممكن والجوهر والعرض ، ومورد التقسيم مشترك بين كل الأقسام.

الثالث : إن اعتقاد كونه موجودا ، لا ينافيه اعتقاد كونه واجبا أو ممكنا أو جوهرا أو عرضا ، فوجب أن يكون المفهوم من كونه موجودا فيه قدر مشترك بين الكل.

__________________

(١) من (س).

الرابع : إن بديهة العقل حاكمة بأن المراد من كونه (١) موجودا ، كونه محصلا في الاعتبار ، محققا في الأعيان ، وهذا المفهوم لا يختلف بأن يكون ذلك المحصل [المحقق] (٢) واجبا أو ممكنا. أو سوادا أو بياضا ، كما أنه لما كان المعقول من الحجمية : التحيز والامتداد في الجهات ، لم يختلف ذلك باختلاف كونه لطيفا أو كثيفا أو حارا أو باردا ، وكما أن بديهة العقل حاكمة بأن المفهوم من الحجمية أمر واحد ، فكذلك حاكمة بأن المفهوم من الحصول والتحقق أمر واحد لا يختلف باختلاف الحقائق.

الخامس : إن واحدا من الشعراء لو ذكر شعرا وجعل قافية أبياته الوجود أو الثبوت أو الحصول ، يقضي عقل جميع العقلاء بأن تلك القافية مكررة. ولو أنه ذكر شعرا وجعل قافية أبياته لفظ العين إلا أنه أراد بهذا اللفظ في كل بيت معنى غير المعنى الذي أراده في البيت الآخر يقضي عقل كل عاقل بأن القافية غير مكررة في المعنى ، وذلك يدل على أن صريح عقول العقلاء قاضية بأن معنى الحصول والوجود والتحقق معنى واحد في الكل.

السادس : إنا إذا رجعنا إلى عقولنا ، وجدنا معنى الحصول والوجود معنى معلوما من فطرة العقل ، ومن بديهته ، وإنا لا نجد [البتة] (٣) شيئا آخر أعرف من معنى الحصول ، يعرّف معنى الحصول به ، وهذا إنما يكون لو كان معنى الحصول معنى واحدا في الكل ، أما لو كان معنى الحصول [معنى] (٤) يختلف باختلاف المواضع ، وليس بين تلك الحصولاتمعنى واحد مشترك [فحينئذ] (٥) وجب أن لا يقدر (٦) على تصور معنى الحصول [المطلق] (٧) وأن يفتقر في تصور كل واحد من المعاني المسماة بالحصول والوجود ، إلى تعريف خاص ، وبيان

__________________

(١) كيفية (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) وجب أن الفقد لا معنى تصور ... الخ (س).

(٧) من (ز).

خاص ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن معنى الحصول ، والوجود [معنى] (١) واحد في الكل.

السابع : [نحن] (٢) إذا عقلنا معنى السواد [ومعنى] (٣) البياض ، قضى العقل بامتياز معنى السواد عن معنى البياض بنفسه من غير أن يحتاج فيه إلى إلحاق قيد آخر ، بهما يوجب الامتياز. فلو كان وجود الواجب ، حقيقة مخالفة لوجود الممكن ، لكنا إذا تصورنا هذين الوجودين ، وجب أن تحكم بديهة العقل بامتياز أحدهما عن الآخر ، لكن من المعلوم بالضرورة أنه ليس كذلك ، فإنا ما لم نصف أحد الموجودين (٤) إلى الواجب ، والموجود الآخر إلى الممكن ، لم يحصل في العقل امتياز أحد الموجودين عن الآخر.

فعلمنا أن الموجودات (٥) في أنفسها ليست متمايزة من حيث إنها وجودات ، بل الوجود من حيث إنه وجود ، مفهوم واحد ، وأنه إنما يمتاز بعضها عن بعض بسبب خارج(٦) عن ماهيتها.

الثامن : إنا إذا أقمنا الدليل على أن العالم محدث ، قضى العقل بافتقاره إلى موجود يوجده ، ثم بعد ذلك يقع البحث في أن ذلك الموجود الذي أوجد العالم ، هل هو قديم أو محدث؟

وبتقدير أن يكون قديما ، فهل هو واجب لذاته ، أو واجب بسبب وجوب علته؟ وهل هو جسم أو حال في الجسم [أو لا جسم ولا حال في الجسم] (٧)؟ وعلى جميع التقديرات فإن اعتقاد أن العالم لا بد له من موجد يوجده ، ومن كائن يكونه ، باقي ثابت غير متغير ، وكل ذلك يدل على أن المعقول من كونه موجودا متحققا في الأعيان : أمر واحد مشترك فيه بين كل الأقسام.

التاسع : إن بديهة العقل شاهدة بأن المعقول من كونه واجب الوجود

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) الوجودين (س).

(٥) الوجودات (س).

(٦) خالص (س).

(٧) من (س).

لذاته ينافي المعقول من كونه ممكن الوجود لذاته [وبالعكس. وأيضا] (١) المعقول من كونه حجما متحيزا ، ينافي المعقول من كونه [موجودا] (٢) مجردا ، فجميع هذه الاعتبارات متناقضة متغايرة ، وصريح العقل شاهد بأن المعقول من كونه موجودا محصلا في الأعيان ، لا يناقض شيئا من هذه الاعتبارات ولا ينافيها. وذلك يدل على أن كونه موجودا ، مفهوم مغاير لهذه الاعتبارات المخصوصة باقي مع كل واحد منها. وذلك يدل على أن المفهوم من كونه موجودا [مفهوما] (٣) واحدا لا يختلف باختلاف هذه [الصور] (٤).

العاشر : إنا إذا قلنا : الوجود غير مشترك فيه بين جميع الموجودات. فهذا الحكم إنما يتناول جميع الموجودات ، لو كان المفهوم من الوجود من حيث إنه وجود ، مفهوما واحدا. إذ لو كان الوجود له مفهومات كثيرة ، فلعل هذا المفهوم ، وإن كان غير مشترك فيه بين الموجودات ، فالمفهوم الآخر يكون مشتركا فيه بين كل الموجودات. فيثبت أن قولنا : الوجود غير مشترك فيه ، إنما يعم هذا الحكم ، وثبت في كل موجود ، ولو ثبت أن الوجود مشترك [فيه] (٥) يثبت : أن قولنا : الوجود غير مشترك فيه : كلام ، يفضي [ثبوته] (٦) إلى نفيه. فيكون باطلا.

واعلم أنا قد استقصينا هذه المسألة في أول كتاب الوجود وأحكامه. إلا أنا إنما أعدناه مع زوائد كثيرة في هذا الموضع ، حتى يكون الكلام في هذه المسألة مجموعا في موضع واحد.

وثبت بهذه البراهين : أن لفظ الوجود (٧) الواقع على الواجب [لذاته] (٨) وعلى الممكن لذاته ليس بحسب الاشتراك اللفظي فقط ، بل بحسب أنه يفيد معنى واحدا مشتركا فيه بين الضدين (٩) وإذا ثبت هذا

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

(٧) الموجود (س).

(٨) من (ز).

(٩) الصورتين (ز).

فنقول : بقي لنا في المسألة قولان :

أحدهما : قول من يقول : [تمام حقيقة الله تعالى هو هذا الوجود ، بشرط كونه غير عارض بشيء من الماهيات.

والثاني : قول من يقول] (١) إن وجود الله تعالى صفة عارضة لماهيته. فنقول : القول الأول باطل ، والذي يدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : الوجود من حيث إنه وجود إما أن يقتضي أن يكون قائما بنفسه ، مستقلا بذاته ، غنيا عن كل ما سواه. أو لا يقتضي ذلك. فإن كان الأول وجب أن يكون كل وجود كذلك ، فجميع الموجودات تكون قائمة بأنفسها ، مستقلة بحقائقها ، واجبة التفرد (٢) بما هي هي ، وهذا ظاهر البطلان ، وإلا لزام أن لا يكون شيء من الممكنات موجودا أصلا ، وإن كان الثاني فحينئذ الوجود من حيث إنه وجود [لا يكون] (٣) قائما بنفسه [ولا مستقلا بحقيقته ، فوجب أن لا يكون في الوجود موجود قائم بنفسه] (٤) مستقل بحقيقته [وذلك مناقض لقول من يقول : إن وجود الله تعالى قائم بنفسه ، مستقل بحقيقته] (٥) من حيث إنه هو. وهذا الكلام بلغ في الجلاء والوضوح إلى حيث تشهد فطرة العقلاء (٦) وغريزتهم بأنه لا يقبل السؤال والاعتراض البتة.

الحجة الثانية : وهي قريبة مما تقدم. أن نقول : الوجود من حيث إنه وجود إما أن يقتضي أن يكون عارضا [لماهية من] (٧) الماهيات ، أو يقتضي [أن يكون] (٨) غير عارض لشيء من الماهيات ، أو لا يقتضي ، لا العروض ولا التجرد. فإن كان الحق هو الأول ، فكل وجود فهو عارض لماهية من الماهيات ، ووجود واجب الوجود كذلك. وإن كان الحق هو الثاني ، فكل

__________________

(١) من (ز).

(٢) التقرير (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (ز).

(٦) العقل (ز).

(٧) من (ز).

(٨) من (ز).

وجود فهو مجرد غير عارض لشيء من الماهيات ، فيلزم أن يقال : هذه الممكنات ليست موجودة أصلا ، وإن كانت موجودة كانت موجودة بوجودات هي أعيانها. فحينئذ يلزم أن يكون لفظ الوجود (١) واقعا على الوجودات بالاشتراك اللفظي ، وهو محال. وإن كان الحق هو الثالث ، فحينئذ يمتنع أن يصير الوجود متقيدا بقيد كونه عارضا تارة ، وبقيد كونه لا عارضا أخرى ، إلا بسبب منفصل ، فيكون [وجود] (٢) واجب الوجود لذاته متعلقا بسبب منفصل ، فيكون واجب الوجود [لذاته ، واجب الوجود] (٣) بغيره. وهو محال.

الحجة الثالثة : وهي أيضا قريبة مما تقدم : إذا قلنا : إن وجود (٤) واجب الوجود [مجردا عن كونه عارضا بشيء من الماهيات ، فالمقتضى لهذا التجرد ، ولهذا الاستغناء] (٥) إما طبيعة الوجود من حيث إنه وجود وإما أن (٦) يكون حالا فيه ، وإما أن لا يكون حالا فيه ولا محلا له ، والكل باطل ، أما بيان بطلان القسم الأول فلأنه يلزم أن يكون كل وجود كذلك ، لأن لازم الماهية مشترك فيه بين جميع أفراد تلك الماهية ، وأما بيان بطلان القسم الثاني : فلأن تلك الصفة الحالة في ذلك الوجود ، إما أن تكون لازمة لذلك الوجود ، أو لا تكون لازمة له ، والأول باطل ، لأنه [يعود (٧) إلى] التقسيم في أن المقتضى لذلك اللزوم إما نفس طبيعة الوجود ، وإما أن يكون حالا فيها [أو محلا لها] (٨) أو ما لا يكون حالا فيها ولا محلا لها. فإن كان ذلك بسبب حال آخر. لزم التسلسل وهو محال ، وأما إن كانت تلك الصفة الحالة في ذلك الوجود ليست لازمة لذلك الوجود ، فحينئذ يكون ممكن الزوال ، وبتقدير زواله فإنه يجب زوال ذلك الاستغناء ، ويجب زوال ذلك الاستقلال ، فحينئذ يصير الواجب لذاته ، ممكنا لذاته وهو محال. وأما بيان بطلان القسم الثالث وهو أن يكون المقتضى لذلك التجرد ، ولذلك الاستغناء شيء يكون محلا لذلك

__________________

(١) الموجود (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (س).

(٤) وجوب (س).

(٥) من (ز).

(٦) ما (س).

(٧) من (ز).

(٨) من (س).

الوجود ، فنقول : هذا باطل. لأن على هذا التقدير يكون الوجود عارضا لذلك الشيء ، وتكون ماهية ذلك الشيء موصوفة بالوجود ، فحينئذ يكون وجود الله تعالى صفة قائمة بماهيته ، مع أن الفرض والتقدير هو أن وجود الله تعالى ليس عارضا لشيء من الماهيات. هذا خلف.

وأما بيان بطلان القسم الرابع : وهو أن كون ذلك الوجود مستقلا بنفسه ، قائما بذاته ، معلل بسبب منفصل ، مغاير لذلك الوجود ، ولا يكون حالا فيه ، ولا يكون محلا له. فنقول : فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ، واجب الوجود لغيره ، وذلك محال. لأن بتقدير فرض عدم ذلك الغير إن لم يبق ذلك الشيء ، قدح ذلك في كونه واجب الوجود لذاته ، وإن بقي قدح ذلك في كونه واجب الوجود لغيره ، ويثبت أن هذا الاجتماع باطل ، فوجب القطع بأن هذا القسم محال. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كان وجود الله تعالى وجودا قائما بنفسه ، لكان الحق هو أحد هذه الأقسام الأربعة ويثبت أن كل واحد منها باطل ، فيثبت أن ذلك الكلام باطل.

الحجة الرابعة : إنا قد دللنا على أن لفظ الموجود واقع على الواجب وعلى الممكن ، بحسب مفهوم واحد. وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن يكون المعقول من كونه تعالى موجودا ، والمعقول من كونه تعالى واجبا لذاته : أمر واحد من غير تغاير البتة ، وإما أن يكون المعقول من كل واحد منهما مغايرا للمعقول من الآخر. والأول باطل ، لأنه لما كان كونه واجبا لذاته غير مشترك فيه وبينه وبين الممكنات ، وجب أن لا يكون كونه موجودا أمرا مشتركا فيه بينه وبين الممكنات والوجوب الذاتي غير مشترك فيه بينه وبين الممكنات ، فوجب القطع بأن كونه موجودا مغايرا لكونه واجبا ، وإذا ثبت هذا التغاير فنقول : إما أن يقال : الوجوب بالذات إما أن يستلزم [الوجود] (١) أو يقال بالعكس منه وهو أن الوجود يستلزم الوجوب بالذات ، أو يقال لا هذا يستلزم ذاك ولا بالعكس ، ولكن حصلت ماهية ثالثة. وتلك الماهية تكون مستلزمة لهذين القيدين ، وإما

__________________

(١) من (ز).

أن يقال : لا هذا يستلزم ذاك ولا ذاك يستلزم هذا ، وليس هناك ماهية ثالثة [تستلزمهما معا. فهذه أقسام أربعة لا مزيد عليها.

أما القسم الأول : وهو أن يقال : الوجوب بالذات] (١) يستلزم الوجود. فعلى هذا التقدير ، يكون الوجود عارضا للوجوب بالذات. وقد فرضنا ذلك الوجود ، غير عارض بشيء من الماهيات. هذا خلف.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الوجود يستلزم الوجوب بالذات ، فهذا فاسد لأن مسمى الوجود هو القدر المشترك بينه وبين الممكنات ، وما به المشاركة يمتنع أن يستلزم ما به الممايزة ، لأن الأشياء المتساوية في النوع ، يمتنع أن تلزمها لوازم مختلفة بالنوع.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : حصل هناك مفهوم ثالث ، يستلزم هذين القيدين. فنقول : فعلى هذا التقدير يكون الوجوب بالذات ويكون الوجود عارضين (٢) لتلك الماهية. وقد فرضنا أنه ليس كذلك. هذا خلف.

وأما القسم الرابع : وهو أن لا يكون واحدا منهما مستلزما للآخر ، وليس هناك ثالث يستلزمهما. فنقول : فعلى هذا التقدير لا يكون ذلك الوجود مستلزما للوجوب الذاتي، بل يكون [ذلك الوجود عارضا مفارقا لذلك الوجود ، فحينئذ لا يكون الواجب لذاته ، واجبا لذاته ، بل] (٣) ممكنا لذاته ، وذلك باطل (٤). فثبت بهذا البرهان : أن القول بأن واجب الوجود لذاته لا حقيقة له إلا الوجود المجرد. كلام باطل فاسد.

الحجة الخامسة : لا شك أنه تعالى مبدءا لوجود الممكنات ، وكونه مبدءا لها : إما أن يكون لنفس كونه وجودا ، أو لنفس كونه وجودا مع قيد سلبي ، أو لنفس كونه وجودا مع قيد وجودي ، والأول باطل. وإلا لوجب أن يكون كل

__________________

(١) من (ز).

(٢) عارض (ز).

(٣) من (ز).

(٤) محال (س).

موجود جنس (١) المبدأ لجميع الآثار الصادرة عن واجب الوجود ، وذلك لا يقوله عاقل ، والثاني باطل لوجهين :

الأول : إن على هذا التقدير يصير القيد العدمي ، جزءا من ماهية المبدأ الأول من حيث إنه مبدأ لغيره ، وذلك محال ، لأن العدم لا يكون علة للوجود ، ولا جزءا من علة الوجود.

والثاني : وهو أن المقتضى لذلك السبب إن كان هو طبيعة الوجود ، لزم حصوله في كل الموجودات ، وحينئذ يلزم أن يكون كل وجود متساويا بالذات للمبدإ الأول في اقتضاء كل الآثار. وذلك باطل. وإن كان قيدا آخر سلبيا عاد التقسيم [الأول] (٢) فيه.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : إن كون ذلك الوجود مبدأ لوجود الممكنات ، ليس لكونه وجودا فقط ، بل لكونه وجودا مع قيد ثبوتي. فنقول : ذلك القيد الثبوتي إما أن يكون معروضا لذلك الوجود أو عارضا له ، أو لا معروضا له ولا عارضا له. فإن كان معروضا لذلك الوجود ، كان ذلك الوجود عارضا لماهية أخرى ، وقد فرضنا أنه ليس كذلك. هذا خلف. وإن كان عارضا لذلك الوجود [فكل عارض] (٣) فهو محتاج ، فالمقتضى لذلك العارض إن كان هو الوجود فقط ، أو الوجود بقيد سلبي ، عادت المحالات المذكورة ، وإن كان المقتضي لذلك العارض هو الوجود بقيد [عارض] (٤) آخر ، كان الكلام فيه كما في الأول ، ولزم التسلسل وهو محال. وبتقدير أن لا يكون التسلسل محالا ، لكنا نقول : هل هاهنا شيء يستلزم [شيئا] (٥) أو لم يحصل ذلك؟ فإن كان الأول كان ذلك الاستلزام إما لنفس الوجود ، أو لنفس الوجود مع قيد سلبي ، أو لنفس الوجود مع قيد ثبوتي ، وإن كان الثاني كان ذلك

__________________

(١) خسيس (ز) جنس (س).

(٢) من (ز).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

[نفيا] (١) للاستلزام ، وحينئذ لا يجب في المبدأ الأول كونه مبدأ لغيره ، ولا يجب في غيره كونه محتاجا إليه ، بل ربما انقلب فيصير الواجب ممكنا ، والممكن واجبا. وكل ذلك باطل محال. فثبت أن القول بأن حقيقة واجب الوجود وجود مجرد يفضي إلى هذه الأباطيل ، فكان القول به باطلا.

الحجة السادسة : إن صريح العقل يشهد بأن فرض شيء لا حقيقة له إلا مجرد الحصول في الأعيان يكون محالا ، بل لا بد وأن يفرض العقل ماهية وحقيقة ، ثم يحكم عليها بأنها حاصلة في الأعيان. فأما فرض موجود لا ماهية له ، ولا حقيقة له إلا مجرد الحصول في الأعيان ، فهذا لا يقبله العقل البتة.

والذي يزيد هذا الكلام تقريرا : ذلك لأن الحكماء ذكروا في باب الوجود مسألة ، وهي أن قالوا : الموجود هو نفس الكون في الأعيان ، لا ما به يحصل الكون في الأعيان ، وأطنبوا في تقرير هذا المعنى وفي إيضاحه ، وإذا ثبت أن الوجود ليس له حقيقة إلا مجرد الحصول في الأعيان ، فالحصول في الأعيان [يمتنع] (٢) تقرره في العقل إلا إذا فرض العقل ماهية يحكم عليها بأنها حصلت في الأعيان ، وإذا كان كذلك ، كان هذا اعترافا بأن الوجود بدون الماهية لا يتقرر البتة ، بل بديهة العقل حاكمة بأنه متى حصل معنى الحصول في الأعيان ، فقد حصلت هناك ماهية هي المحكوم عليها بأنها حصلت في الأعيان ، وذلك يفيد الجزم [بأن الوجود] (٣) بدون الماهية لا يعقل البتة ، ومما يقوي ذلك : أن الحكماء اتفقوا على أن طبيعة الوجود لا يمكن تعقلها وحدها ، بل ما لم يفرض العقل أمرا من الأمور يحكم عليه بأنه حصل في الأعيان ، استحال منه إدراك معنى الحصول في الأعيان.

فإذا كان معنى الوجود أمرا بلغ في الضعف والحاجة إلى حيث [لا] (٤)

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) حيث يمكن (س).

يمكن تعقله وحده بدون الماهية ، ثم ثبت أن طبيعة الوجود من حيث إنه هو وجود أمر واحد، في الواجب والممكن ، فكيف تعقل طبيعة الوجود من حيث إنها وجود ، طبيعة واحدة في الواجب وفي الممكن؟ ثم إنه بلغ في القوة في جانب الواجب إلى حيث كان غنيا عن كل سواه ، وكان كل ما سواه محتاجا إليه ، وبلغ في الضعف والحاجة في جانب الممكن إلى حيث كان محتاجا إلى الماهية في الخارج وفي الذهن ، حتى إن العقل لا يمكنه أن يتصوره وحده ، بل ما لم يجعله تابعا لغيره ، فإنه لا يمكنه إدراكه وتصوره. وكل من أنصف علم أن هذا الكلام معلوم البطلان ببديهة العقل.

الحجة السابعة : اتفق الحكماء على أن تصور الوجود تصور بديهي جلي ، غني عن كل التعريفات ، واتفقوا أيضا على أن الحقيقة المخصوصة لواجب الوجود غير معلومة للبشر [وعبروا عن هذا المعنى بهذه العبارة وهي قولهم : كنه ذات الله تعالى غير معلوم للبشر] (١) ، ولما كان الوجود أولى بالتصديق (٢) ، وكانت الحقيقة المخصوصة غير متصورة ، فضلا عن أن تكون أولية التصور ، كان هذا برهانا قاطعا في أن حقيقة الله تعالى ، غير (٣) وجوده.

[وقال الداعي إلى الله رحمه‌الله] (٤) حقا. إني لكثير التعجب من هؤلاء الأفاضل كيف جمعوا بين هذين المذهبين؟ فإن قيل : مرادهم بقولهم : إن كنه حقيقة الله تعالى غير معلوم] (٥) ومتصور للبشر : هو أن البشر ما أحاط عقلهم بكنه صفات الله تعالى؟ قلنا : هذا بعيد جدا ، لأن معرفة الصفات غير ، ومعرفة الذات غير. والقوم قالوا : كنه الذات غير معلوم ، فكيف يجوز صرف هذا الكلام إلى الصفات؟ وأيضا : فالقوم حصروا صفات الله تعالى في: السلوب وفي الإضافات ، وهذان القسمان معلومان ، فكيف يقال : المراد أن

__________________

(١) من (ز).

(٢) التصور (ز).

(٣) عين (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

الصفات غير معلومة؟ وأيضا : فهب أن القوم لم يسلموا بأن الوجود بديهي التصور ، ولم يسلموا أن كنه ذات الله تعالى غير معلوم للبشر ، لكن هاتان المقدمتان قد صحتا بالبراهين اليقينية. أما الأول ففي كتاب الوجود. وأما الثاني ففي المسألة المشتملة على أن [كنه حقيقة] (١) الله تعالى غير معلوم (٢) للبشر ، وإذا كان الأمر كذلك فقد حصل المطلوب على أظهر الوجوه.

الحجة الثامنة : قد ثبت في المنطق أن الوجوب (٣) والإمكان والامتناع جهات. وفسر أهل المنطق هذا المعنى بأن قالوا : كل قضية فلها موضوع ومحمول ، ولا بد وأن يحصل بين الموضوع وبين المحمول نسبة مخصوصة ، وتلك النسبة معناها كون ذلك الموضوع موصوفا بذلك المحمول. وكل قضية فلا بد فيها من حصول هذه الثلاثة. ثم إن موصوفية الموضوع [بالمحمول] (٤) تارة تكون على نعت الوجوب ، وتارة على نعت الإمكان ، وتارة على نعت الامتناع. وهذا الكلام لخصوه في المنطق [وهو كلام حق معلوم] (٥) تشهد فطرة العقل بصحته. إذا ثبت هذا فنقول : إذا قلنا : الله واجب الوجود. فهذه قضية لا بد فيها من موضوع ، ومن محمول ، ومن رابطة ، ومن جهة. أما الموضوع فهو قولنا : الله. أما المحمول فهو قولنا : موجود. وأما الرابطة فمحذوفة في اللفظ ولكنها معتبرة في المعنى ، والتقدير : الله هو موجود. وأما الجهة فهي الوجوب.

إذا عرفت هذا فنقول : المحكوم عليه بأنه موجود ، إما أن يكون هو كونه موجودا وإما أن يكون حقيقة غير الوجود ، وتلك الحقيقة هي الموضوع للوجود [ويكون الوجود] (٦) محمولا على تلك الحقيقة ، والأول باطل ، وإلا لصار تقدير هذه القضية : الوجود يجب أن يكون محكوما عليه بكونه موجودا. ومعلوم أن ذلك باطل. والثاني حق إلا أنه تصريح بأن الوجود محمول ، وأن موضوع هذا المحمول ماهية مخصوصة ، وحقيقة مخصوصة هو المحكوم عليها لهذا

__________________

(١) على أن صفات الله ... الخ (س).

(٢) غير معلوما (س).

(٣) الوجود (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س) س.

(٦) من (س).

الوجود ، وإذا قلنا [ذلك فقد قلنا] (١) إن ماهية الله تعالى يجب أن تكون غير (٢) وجوده ، وذلك هو المطلوب.

الحجة التاسعة : إن الحكماء استدلوا على أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها. فإن قالوا : يمكننا أن نتصور الماهية مع الشك في الوجود ، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم ، فالماهية غير الوجود ، فنقول : هذا البرهان بعينه قائم في وجود واجب الوجود ، وذلك لأنا إذا تصورنا من واجب الوجود ، أنه الذي يستغني في وجوده عن الغير ، وأنه الذي يستحق الوجود من ذاته. فمن المعلوم بالضرورة أن هذا القدر من التصور لا يوجب الجزم بوجود هذا الموجود ، بل بعد حصول هذا التصور يبقى العقل شاكا في أن هذه الحقيقة ، هل هي موجودة أم لا؟ فثبت أن في هذا الموضع يمكن تصور الماهية مع الشك في الوجود ، وهذا يقتضي كون الماهية مغايرة للوجود ، فإن لم يلزم من هذا المعنى حصول التغاير [في هذا الموضع ، لم يلزم أيضا حصول التغاير في] (٣) الممكنات. فإن قالوا : الفرق أن ممكن الوجود يمكن [انفكاكه عن الوجود ، فلا جرم أمكن] (٤) تعقله [مع الشك في الوجود. أما واجب الوجود فإنه لا يمكن تعقله] (٥) من حيث إنه واجب الوجود إلا مع تعقل الوجود ، لأنه من المستحيل أن يقال : إنه مع كونه واجب الوجود ، لا يكون موجودا.

فنقول : فعلى ما ذكرتم يلزم في كل من تصور أن واجب الوجود لذاته ، ما هو؟ أن يجزم بأن واجب الوجود موجود ، ولما كان هذا باطلا [فاسدا] (٦) في بديهة العقل ، علمنا أنه يمكن حصول تصور واجب الوجود مع الشك في وجوده. وإذا كان [الأمر] (٧) كذلك وجب أن يكون وجوده زائدا على ماهيته.

الحجة العاشرة : لا شك أن قولنا : الله واجب الوجود ، كلام حق وصدق. فقولنا : الله موضوع ، وقولنا : موجود محمول ، وقولنا : واجب صفة

__________________

(١) من (ز).

(٢) عين (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

(٧) من (ز).

لانتساب الموضوع إلى المحمول ، ونقول : المراد بالموضوع وهو قولنا الله ، إما أن يكون هو الوجود ، أو أمرا مغايرا للوجود ، والأول باطل لوجوه : أحدها : أن على هذا التقدير يصير معنى الكلام أن الوجود واجب الوجود. ولكن هذا باطل ، لأن الوجود الذي جعل موضوعا ، إما أن يكون هو الوجود الذي جعل محمولا أو غيره ، والأول باطل لأن جعل الشيء موضوعا لنفسه ومحمولا لنفسه ، كلام فاسد ، عار عن الفائدة. فإن من قال : الجدار : جدار. والمثلث : مثلث. كلامه كلام فاسد ، وإن كان الثاني لزم أن يكون الوجود الذي جعل موضوعا ، مغايرا للوجود الذي جعل محمولا ، فحينئذ يلزم من كونه موجودا : خبرين(١) وأيضا : فلما كانت طبيعة الوجود واحدة ، كان الوجود الذي هو الموضوع مساويا في تمام الماهية للوجود الذي هو المحمول ، وحينئذ لم يكن أحدهما بأن يكون موصوفا والآخر بأن يكون صفة ، أولى من العكس. فيثبت بهذا البرهان : أنا إذا قلنا : الله يجب أن يكون موجودا ، لم يكن المشار إليه بقولنا (٢) نفس الوجودية ، بل حقيقة أخرى سوى الوجودية ، وقد صدق حكم العقل عليها بوجوب اتصافها بالموجودية ، وذلك يدل على أن وجود الله تعالى ليس أمرا قائما بنفسه بل هو صفة لماهية أخرى. وذلك هو المطلوب.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من قولنا : الله ، حقيقة لا ندري ماهيتها ولا تعينها ولكنا نعرف في الجملة كونها موجودة؟ فنقول : هب أنا لا نعرف أن تلك الحقيقة ما هي؟ إلا أنا نعرف منها أنها إما أن تكون هي الوجود ، أو حقيقة مغايرة للوجود [فإن كانت هي الوجود ، لزمت المحالات. وإن كانت حقيقة مغايرة للوجود] (٣) لزم كون وجود الله تعالى صفة لتلك الحقيقة. وذلك هو المطلوب. ولما كان هذا الكلام الذي يفيد مقصودنا متقرر ، سواء عقلنا خصوصية تلك الحقيقة ، أو لم نعقلها ، لم يكن عدم علمنا بتلك

__________________

(١) مرتين (ز).

(٢) بقوله (س).

(٣) من (ز).

الحقيقة المخصوصة من حيث إنها هي ، قادحا في مطلوبنا.

الحجة الحادية عشر في إثبات هذا المطلوب : أن نقول : لا شك أن الحق تعالى ذات متعينة ممتازة بتعينها عن كل ما سواه من الذوات المعينة ، ولا شك أن الوجود من حيث إنه وجود حقيقة يشترك فيها الواجب والممكن والجوهر والعرض ، فنقول : ذاته المخصوصة إما أن يكون هو هذا المفهوم المشترك فيه بين كل الموجودات ، وإما أن يكون هو هذا المفهوم ، مع قيد زائد يقتضي تخصصه وتعينه. والأول باطل ، لأن هذا المفهوم المشترك يصدق عليه كونه مشتركا بين الكل ، وذاته المخصوصة لا يصدق عليها هذا المعنى. فبطل القول بأن ذاته المخصوصة هو هذا المفهوم المشترك.

بقي أن يقال : إنه هو هذا المفهوم مع قيد زائد. فنقول : ذلك [القيد] (١) الزائد إما أن يكون سلبيا أو ثبوتيا ، والأول باطل ، لأنه سبحانه من حيث إنه هو ذلك المعين موجود ، وما لأجله التعين جزءا من المعين ، فلو كان ما لأجله حصل التعين قيدا سلبيا ، لزم أن يكون القيد السلبي جزءا من الماهية الثابتة ، وهو محال. وأما إن كان القيد الذي لأجله حصل التعين أمرا ثابتا ، فإما أن يكون ذلك الأمر المخصوص موضوعا والوجود المشترك فيه محمولا ، وإما أن يكون الأمر بالعكس منه. والأول هو المقصود. لأن على هذا التقدير تكون تلك الهوية المخصوصة المعينة موصوفة بالوجود ، فيكون ذلك الوجود عارضا لماهيته ، والثاني باطل لوجهين : أحدهما : أنه ثبت في المنطق أن الأخص بالموضوعية والأعم أولى بالمحمولية. والثاني : وهو أنا لو جعلنا الوجود المطلق موضوعا ، وجعلنا تلك الخصوصية محمولة له ، لزم أن يقال : الوجود المشترك فيه هو تلك الخصوصية ، وحمل تلك الخصوصية عليه ، يمنع من كونه مشتركا فيه بينه وبين غيره ، فلزم أن يقال : الأمر المشترك فيه غير مشترك فيه ، وذلك محال. فثبت : أن القول بأن حقيقته وجود مجرد ، يفضي إلى أقسام باطلة فيكون القول به باطلا.

__________________

(١) من (س).

الحجة الثانية عشر : أجمع العقلاء على أن أفراد النوع الواحد يجب تساويها في اللوازم، وصريح العقل شاهد بصحة هذه المقدمة.

وإذا ثبت هذا فنقول : الوجود في حق واجب الوجود ، والوجود في حق ممكن الوجود: طبيعة نوعية واحدة. فوجب أن يصح على كل واحد منهما ، ما يصح على الآخر. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن الحقيقة المخصوصة لواجب الوجود لذاته حقيقة ، تخالف سائر الحقائق. وأيضا : فقد اتفقت الحكماء على أن الطبيعة النوعية إنما بعرض لها التعدد (١) بسبب القوابل [والماهية الموصوفة بالوجدان ، جارية مجرى القوابل بتلك الوجودات. فثبت أنه لو لا] (٢) الماهيات [المختلفة] (٣) لامتنع وقوع التعدد في طبيعة الوجود ، وحيث وقع التعدد فيه ، علمنا أن وقوع التعدد فيها ، إنما كان بسبب الماهيات المختلفة.

فهذه البراهين التي ذكرناها ولخصناها : وجوه ظاهرة جلية قطعية في إفساد هذا المذهب.

واحتج الشيخ الرئيس : [أبو علي] (٤) في بيان أن وجود الله تعالى يمتنع كونه عارضا [لشيء] (٥) من الماهيات بوجه واحد ذكره في كتاب الإشارات. وأنا أذكر ذلك الوجه ، وأضم إليه تقريرات قوية ، وبيانات كاملة. فنقول : وجود الله تعالى إما أن يكون مستقلا بنفسه (٦) قائما بذاته ، من غير أن يكون تحققه محتاجا إلى تحقق غيره ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون تحققه محتاجا إلى تحقق غيره. فإن كان الحق هو الأول ، كان ذلك الوجود قائما بذاته مستقلا بنفسه ، فلا يكون عارضا لشيء من الماهيات. وإن كان الحق هو الثاني ، وهو كون ذلك الوجود غير مستقل بنفسه بل يكون مفتقرا إلى غيره ، فنقول : فذلك الوجود مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته ، فذلك الوجود

__________________

(١) التفرد (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) مستقلا بنفسه ، قائما بنفسه (ز).

ممكن لذاته. وكل ممكن لذاته فلا بد له من سبب ، وذلك السبب إما تلك الماهية أو غيرها. ولا جائز أن يكون سبب ذلك الوجود هو تلك الماهية ، لأن كون تلك الماهية مقتضية لذلك الوجود ، إما أن يكون مشروطا بكونها موجودة [أو لا يكون] (١) مشروطا بهذا الشرط. ولا جائز أن يكون اقتضاء تلك الماهية لذلك الوجود ، مشروطا بكونها موجودة ، لأن الوجود الذي هو شرط الاقتضاء ، إن كان هو غير (٢) الوجود الذي هو الأثر (٣) ، لزم كون الشيء الواحد شرطا لنفسه ، وهو محال ، وإن كان غيره لزم أن يكون الشيء الواحد موجودا مرتين ، وهو محال. ولأن الكلام في الوجود الثاني كالكلام في الأول ، يلزم إما التسلسل ، وإما الدور وهما محالان. هذا كله إذا قلنا : إن اقتضاء تلك الماهية لذلك الوجود ، مشروط بكون تلك الماهية موجودة. أما إن قلنا : إن هذا الشرط غير معتبر ، فحينئذ يكون هذا قولا بأن ما ليس بموجود ، يكون مقتضيا للوجود ، وذلك محال في بديهة العقل ، لأن الشيء ما لم يكن موجودا في نفسه ، يمتنع كونه علة في وجود غيره. وهذا كله إذا قلنا : العلة المقتضية لذلك الوجود هي تلك الماهية. أما إذا قلنا : العلة المقتضية لذلك [الوجود] (٤) شيء آخر سوى تلك الماهية ، فحينئذ يكون وجود واجب الوجود لذاته ، مستفادا من سبب منفصل ، فيكون واجب الوجود لذاته [واجب الوجود بغيره ، وذلك محال. فثبت أن القول بأن وجود واجب الوجود لذاته] (٥) عارض لماهيته : يفضي إلى هذه المحالات ، فوجب أن يكون القول به محالا. فثبت أنه لا حقيقة له إلا الوجود المجرد عن جميع الماهيات. وهذا هو تقرير هذه الحجة على أقوى الوجوه.

والجواب عن هذه الشبهة من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الوجود غني عن تلك الماهية؟

__________________

(١) من (ز).

(٢) عين (س).

(٣) الله (س).

(٤) من (ز).

(٥) من (ز).

قوله : «لو كان غنيا عنها لكان قائما بنفسه ، ولم يكن صفة لتلك الماهية» قلنا : ألستم تقولون : إن الصورة علة لوجود المادة (١) ، مع أن الصورة حالة في المادة ، وما يكون علة لوجود الشيء ، يكون غنيا عن ذلك المعلول في وجوده ، فالصورة غنية في وجودها عن المادة، مع أن الصورة حالة في المادة؟ فلم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الوجود غني عن تلك الماهية ، ومع كونه غنيا عنها ، فإنه يكون حالا فيها؟ وتقرير الكلام من وجهين :

الأول : أن يقال : الوجود وإن كان غنيا في نفسه عن تلك الماهية ، إلا أنه علة لكونه حالا في تلك الماهية ، وعلى هذا التقدير فالوجود مع كونه غنيا عن تلك الماهية ، يكون حالا فيها. أو يقال : تلك الماهية توجب كون [ذلك] (٢) الوجود حالا في تلك الماهية ، فهذان الاحتمالان قائمان ، وكل واحد منهما لا يقدح في كون الوجود حالا في الماهية مع كون الوجود غنيا عن الماهية. وبهذين الطريقين جوزنا كون الصورة علة لوجود المادة، مع كون الصورة حالة في المادة. هاهنا.

الوجه الثاني في الجواب : سلمنا أن بتقدير أنه يجب حصول ذلك الوجود [في تلك الماهية ، فإنه يلزم كون الوجود] (٣) مفتقرا إلى تلك الماهية ، ويلزم من كون الوجود مفتقرا إلى الماهية كون الوجود ممكنا ، إلا أنا نقول : هاهنا دليل يمنع كون الوجود موصوفا بالإمكان. وتقريره : وهو أن ممكن الوجود هو الذي لا يمتنع كون حقيقته حاصلة مع الوجود تارة ، ومع العدم أخرى. وهذا المعنى لا يعقل في حق الوجود ، لأنا لو قلنا : إن ماهية الوجود تارة تحصل مع الوجود ، وأخرى مع العدم ، لزم كون الوجود على أحد التقديرين موصوفا بوجود آخر ، وعلى التقدير الثاني يكون موصوفا بالعدم. وكل ذلك [محال] (٤) أما الأول فلأنه يلزم اجتماع الوجودين للشيء الواحد. وأيضا : فلا يكن أحدهما

__________________

(١) الماهية (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (س).

بالموصوفية والآخر بكونه صفة للأول أولى من العكس. وأما الثاني فلأنه يلزم الجمع بين الوجود وبين العدم ، وهو محال. فيثبت : أن وصف الوجود بكونه ممكن الوجود والعدم محال. فيثبت : أن [الدليل] (١) الذي ذكرتم ، وإن اقتضى كون الوجود موصوفا بالإمكان ، إلا أن الدليل الذي ذكرناه يمنع منه.

الوجه الثاني في الجواب (٢) : وهو الجواب المعتمد أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : المقتضى لذلك الوجود هو الماهية؟ قوله : «اقتضاء تلك الماهية لذلك الوجود إما أن يكون مشروطا بكون تلك الماهية موجودة ، وإما أن لا يكون مشروطا بذلك» قلنا : المختار أن الماهية من حيث هي هي ، كافية في اقتضاء ذلك الوجود.

والذي يدل على أن هذا الذي ذكرناه غير مستبعد ، وجوه :

الأول : لا نزاع أن ماهيات الممكنات مغايرة لوجوداتها ، وأن تلك الماهيات قابلة لتلك الوجودات. [فنقول : إن كان الشرط في كون تلك الماهيات قابلة لتلك الوجودات] (٣) كونها موجودات في نفسها ، ألزمت المحالات التي ذكرتموها ، وإن لم يكن كون الماهية قابلة للوجود مشروطا بكونها موجودة ، بل الماهية من حيث إنها هي ، تكون قابلة ، فلم لا يجوز أن يقال : المؤثر في ذلك الوجود هو تلك الماهية من حيث إنها هي؟ وبالجملة فكل ما تذكرونه في جانب القبول ، لم لا يجوز مثله في جانب التأثير؟

الثاني : إن الماهية الممكنة مقتضية للإمكان لما هي هي ، وأما الوجود فإنما يحصل من السبب المنفصل ، وما بالذات قبل ما بالغير ، فاقتضاء الماهية الممكنة للإمكان سابق على اتصافها بالوجود ، فيثبت : أن اقتضاء الماهية للوازمها ، سابق على اتصافها بالوجود ، فيثبت : أن اقتضاء الماهية للوازمها لا يتوقف على كون تلك الماهية موجودة. وإذا عقل ذلك في الجملة ، فلم لا يعقل مثله في

__________________

(١) من (س).

(٢) في الأصل : الثالث.

(٣) من (ز).

اقتضاء الماهية لوجود نفسها؟.

الثالث : إن الماهية الموجودة قابلة للوجود. وقابلية الوجود [سابقة على حصول الوجود. ثم نقول : قابلية الوجود صفة خارجة عن الماهية ، لأن قابلية الوجود] (١) نسبة مخصوصة بين الماهية وبين الوجود ، والنسبة بين الأمرين مغايرة لذات كل واحد منهما ، فقابلية الماهية للوجود صفة خارجة عن الماهية لازمة لها ، فتكون [معلولة الماهية لقابلية الوجود لا تكون مشروطة بالوجود ، لأن الوجود متأخر بالرتبة عن قابلية الوجود ، والمتأخر] (٢) لا يكون شرطا للمتقدم. فيثبت : أن اقتضاء الماهية لهذا الحكم ، غير مشروط بالوجود ، وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إن اقتضاء الماهية للوجود لا يكون مشروطا بوجود آخر؟ وحينئذ يندفع ما ذكرتموه.

فإن قالوا : فالماهية إذا لم يكن اقتضاؤها للوجود ، مشروطا بكونها موجودة. فحينئذ يجوز كونها مقتضية للوجود حال عدمها. فحينئذ يلزم كون المعدوم علة للموجود ، وذلك محال. فنقول : لا شك أن قبول الماهية للوجود غير مشروط بكونها موجودة ، ثم مع هذا لا يلزم أن يقال : المعدوم موصوف بالوجود. وإذا لم يلزم هذا في جانب القبول ، فكذلك مثله في جانب التأثير. وتحقيق القول فيه : أن الماهية من حيث إنها هي ، مغايرة لكونها موجودة أو معدومة. وإذا كان الأمر كذلك فقد سقطت هذه الحجة التي عولوا عليها من جميع الوجوه.

__________________

(١) من (ز).

(٢) في (س) : فتكون معلولة لها ، باقتضاء الماهية لقابلية الوجود ، لا يكون مشروطا للمتقدم ... الخ.

المسألة الرابعة

في

تحقيق القول في بيان أن المبدأ الأول.

هل هو تلك الحقيقة المخصوصة؟

اعلم. أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقا بمقدمة. وهي : أنا نقول : أنا إذا قلنا : الماهية الفلانية من حيث هي هي ، لا موجودة ولا معدومة (١) فهذا الكلام يحتمل وجهين :

أحدهما (٢) : أن يكون المراد : أن الماهية الفلانية من حيث (٣) إنها هي ، عبارة مغايرة لكونها موجودة أو معدومة.

الثاني : أن يكون المراد أن الماهية الفلانية خالية عن الوجود وعن العدم [والمفهوم الأول حق] (٤) والمفهوم الثاني باطل. لأنا إذا اعتبرنا المثلث من حيث إنه مثلث ، فهذا الاعتبار من حيث إنه هو ، مغاير لكونه موجودا ، أو لكونه معدوما. والدليل : أن المفهوم من لفظ الموجود ومن لفظ المعدوم مغاير للمفهوم من لفظ المثلث. بدليل : أنه يصح تعقل الموجود وتعقل المعدوم حال الذهول عن تعقل معنى المثلث ، وكذلك يحصل أيضا تعقل المثلث من حيث إنه مثلث مع الذهول عن كونه موجودا أو عن كونه معدوما. فظهر بهذا أن كونه مثلثا (٥) [غير (٦)] وموجودا أو معدوما غير. وأما الاحتمال الثاني وهو

__________________

(١) موجودة (ز).

(٢) الأول (س).

(٣) من حيث هي هي ، لا موجودة ولا معدومة (ز).

(٤) من (س).

(٥) من (س).

(٦) زيادة.

أن يقال : إن كونه مثلثا ينفك عن الموجود وعن المعدوم ، فهذا محال لأن الشيء إما أن يكون له حصول في الأعيان ، وإما أن لا يكون له حصول في الأعيان ، وكونه خاليا عنهما أمر محال في العقل. فالحاصل : أن كونه مثلثا مغاير لكونه موجودا أو معدوما ، ولكنه يمتنع أن ينفك عنهما معا. وإذا عرفت هذا فنقول : إذا فرضنا أن حقيقة من الحقائق ، وماهية من الماهيات كانت علة لوجود نفسها ، فعلة الوجود هي تلك الماهية من حيث هي هي لا كونها موجودة ولا كونها معدومة ، وحينئذ يصدق أن يقال : مبدأ ذلك الوجود لا موجود ولا معدوم ، ويصدق أيضا أن يقال : المبدأ موجود وهو أحق الموجودات بكونه موجودا.

أما الأول : فإنما يصدق لما بينا أن مبدأ ذلك الوجود هو تلك الماهية ، وبينا أن تلك الماهية من حيث هي هي لا موجودة ولا معدومة. وأما الثاني : فإنما يصدق لأن تلك الماهية لما كانت علة لذلك الموجود لعينها ولذاتها ، فحينئذ يمتنع عقلا خلو تلك الماهية عن الوجود ، فكانت لا محالة موجودة ، وكانت أحق الموجودات بصفة الوجود.

إذا عرفت هذا فنقول : عقل من بعض الناس أنهم قالوا : المبدأ الأول لا موجود ولا معدوم ، بل هو هو فقط ، وأنه هوية لا يمكن التعبير عنها بالوجود والعدم.

وأما الجمهور فإنهم اتفقوا على أن المبدأ الأول موجود ، بل هو أحق الموجودات بصفة الموجودية ، وطالت المنازعات بين الفريقين في هذا الباب ، وإذا تأملت في الكلام الذي بحثناه وشرحناه علمت أن النزاع واقع في اللفظ المحض [وبالله التوفيق] (١).

__________________

(١) من (ز).

المسألة الخامسة

في

بيان أنّه ـ سبحانه ـ يخالف جملة الممكنات ، لذاته

المخصوصة ، لا لصفة زائدة على الذات

اعلم. أن جمهور المتكلمين يقولون : الذوات متساوية في كونها ذوات ، وإنما يمتاز بعضها عن بعض بصفات قائمة بها ولما اعتقدوا ذلك ، قالوا : إنه سبحانه وتعالى ذات ، وإن الجسم أيضا ذات ، وامتياز ذاته عن ذوات الأجسام ، لا بد وأن يكون لأجل صفة اختص بها ذات الله تعالى ، ولأجل تلك الصفة امتازت ذاته عن سائر الذوات. والذي نقول به : أن ذاته سبحانه وتعالى ذات مفردة منزهة عن جميع جهات التركيب [وأن تلك الذات لعينها ولذاتها ، مخالفة لسائر الذوات ، وقبل الخوض في الدليل لا بد من تقديم مقدمة وهي في بيان أن الشيء قد يخالف غيره لعينه ولذاته ، من غير حاجة إلى صفة زائدة] (١) والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه :

الأول : إنا لو فرضنا كون الذوات متساوية في الذاتية ، وفرضنا أنه إنما يخالف بعضها بعضا لأجل الصفات القائمة بها ، فتلك الصفات إما أن يكون بعضها مخالف للبعض ، أو لا يكون. والثاني باطل لأن تلك الصفات إذا لم تكن متخالفة ، استحال ضرورة أن تكون تلك الذوات متخالفة لأجلها ، وإن كانت تلك الصفات متخالفة فاختلافها إما أن يكون لصفات أخرى ، وحينئذ يلزم منه التسلسل ، وهو محال. وإن كان اختلافها لأنفسها ولأعيانها ، فحينئذ

__________________

(١) من (ز).

تكون تلك الصفات متخالفة لأنفسها من غير اعتبار صفة أخرى ، وذلك يدل على أنه لا يمتنع كون تلك الأشياء مختلفة لأنفسها ولأعيانها.

الحجة الثانية في صحة هذا المطلوب : أن نقول : الذات والصفة (١) لا بد وأن يكون كل واحدة منهما مخالفة للأخرى ، إذ لو كانتا متساويتين في تمام الماهية ، فحينئذ لم يكن كون إحداهما ذاتا والأخرى صفة أولى من العكس. فثبت أن الذات والصفة يجب كون كل واحدة منهما مخالفة للأخرى. فنقول : تلك المخالفة الحاصلة بينهما إما أن تكون لأجل صفة أو لا لأجل صفة؟ والأول باطل. لأنا بينا أن كون الذات موصوفة بالصفة مشروط بكون كل واحد منهما مخالفا للآخر. فلو عللنا كون كل واحدة منهما مخالفة للأخرى بقيام الصفة بها ، لزم الدور وهو محال. فثبت : أن كون الذات والصفة مختلفين ليس معللا لشيء من الصفات ، بل هو لعين حقيقتهما ، ولنفس ماهيتهما. وذلك هو المطلوب.

الحجة الثالثة في صحة هذا المطلوب : إنا إذا قلنا : إن هذا الشيء يماثل ذلك الشيء من بعض الوجوه ويخالفه من سائر الوجوه.

فهذا كلام مجازي. وذلك لأن الوجه الذي لأجله حصلت المشاركة مغاير للوجه الذي لأجله حصلت المخالفة ، وإلا لزم اجتماع النقيضين في الشيء الواحد وهو محال. بل الحق أن كل واحد من هذين الشيئين مركب من جزءين. وأحد الجزءين من أحد الجانبين يماثل الجزء الآخر من الجانب الثاني مماثلة في حقيقتهما [ومساواة في ماهيتهما] (٢) والجزء الثاني من الجانب الأول يخالف الجزء الثاني من الجانب الثاني مخالفة تامة ، لنفس الحقيقتين. وإذا عرفت هذا فقد ظهر أن الشيئين اللذين [تماثلا فإنما] (٣) يتماثلان لتمام حقيقتهما ولنفس ماهيتهما ، لا لصفة زائدة ، وأن الشيئين اللذين يختلفان [فإنما يختلفان] (٤) لتمام

__________________

(١) الذوات والصفات (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من (ز).

حقيقتهما [ولنفس ماهيتهما] (١) لا لصفة [زائدة] (٢) فظهر بما ذكرنا : أن التماثل أو الاختلاف لا يعقل أن يكون معللا بأمر زائد ، بل لا يحصلان إلا لنفس الماهية والحقيقة. وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول : ندعي أن ماهية الله تعالى مخالفة لماهيات جميع الممكنات لنفسها ولعينها من غير أن تكون تلك المخالفة لأجل صفة أو حالة. والذي يدل على صحة ما ذكرناه : أن الحقيقة المخصوصة في حق الله تعالى ، إما أن تكون مساوية لحقائق الممكنات من حيث إنها هي ، وإما أن لا تكون مساوية لها من حيث هي هي ، فإن كان الحق هو القسم الثاني فحينئذ يظهر أنه يمتنع تعليل تلك المخالفة بشيء من الصفات ، لأن كل حكم حصل لذات الشيء ، ولماهيته ، فإنه يمتنع حصوله لغيره ، لأن الشيء الواحد لا يكون واجب الوجود لذاته أو لغيره معا. وأما إن كان الحق هو القسم الأول فنقول : لما كانت الذوات بأسرها متساوية في مجرد كونها ذوات ، فاختصاصات ذات الله تعالى بالصفة التي لأجلها امتازت ذاته عن سائر الذوات ، إما أن يكون لا لأمر ، أو يكون لأمر. والأول باطل لأن الذوات لما كانت متساوية في تمام الذاتية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر ، فلو اختصت ذات معينة بصفة معينة دون سائر الذوات ودون سائر الصفات لا لمرجح ولا لمؤثر ، كان ذلك رجوحا (٣) للممكن من غير سبب ، وذلك محال. وأما الثاني وهو أن يقال : إن تلك الذات المعينة اختصت بتلك الصفة لأمر آخر ، فحينئذ يعود الكلام في اختصاص تلك الذات بذلك المرجح ، فيكون لمرجح [آخر] (٤) وحينئذ يلزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان. فثبت أن القول بأن ذات الله سبحانه مساوية لسائر الذوات في الذاتية ، وأن امتياز ذاته عن سائر الذوات إنما كان لأجل اختصاص ذاته بصفة ، لأجلها حصل الامتياز : قول يفضي إلى أقسام باطلة ، فوجب أن يكون هذا القول باطلا ، فيثبت : أن حقيقته سبحانه تخالف سائر الحقائق والماهيات لنفسها ولعينها. وذلك هو المطلوب.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) وقوعا (س).

(٤) من (س).

واحتج المخالف على صحة قوله. بوجوه :

الأول : إن الذوات بأسرها متساوية في كونها ذوات ، فامتياز بعضها عن البعض لا بد وأن يكون لصفة. بيان المقام الأول : أنا نقول : الذات ما يكون مستقلا بنفسه ، والصفة (١) لا تكون إلا بالغير. فيعقل من الذات هذا المفهوم الواحد ، وذلك يدل على أن الذوات متساوية في كونها ذوات.

وبيان المقام الثاني : أنه لما وقع الاستواء في المفهوم من كونها [ذوات] (٢) وجب أن يحصل الامتياز بمفهوم غير ذلك المفهوم ، ضرورة أن جهة المساواة غير جهة المخالفة ..

والثاني : أن نقول : إن حقيقة ذات الله تعالى إما أن تكون هو أنه ذات فقط ، أو تكون حقيقته أنه ذات ما معينة مخصوصة.

فإن كان الأول لزم أن يكون كل ما يصدق عليه [أنه ذات ، يصدق عليه أنّه] (٣) هو الله سبحانه ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون المفهوم من ذلك التعين وتلك الخصوصية أمرا زائدا على المفهوم من كونه ذاتا. وذلك يدل على أن امتياز ذاته تعالى عن سائر الذوات ، لا بدّ وأن يكون بصفة.

والثالث : أن نقول : نحن [نعلم] (٤) بالضرورة أنه لا يمكننا تعريف ذات من الذوات المخالفة لسائر الذوات ، إلا بأنه المختص بالصفة الفلانية ، أو الموصوف بالأمر الفلاني ، ولأجل اختصاصها بتلك الصفة ، أو بذلك الأمر ، وقع الامتياز. وذلك يدل على مخالفة بعض الذوات لبعض ، معللة بالصفات.

والجواب عن الأول : إنا لا ننازع في أن الذوات متساوية في المفهوم من كونها ذوات. لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك المفهوم مفهوما سلبيا ، ويكون معناه أنه أمر ما ليس تابعا (٥) لغيره في الحصول والتحقق؟ وقد عرفت في كتب

__________________

(١) والصفة ما يكون تابعا لغيره ، فتعقل والذات (س).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

(٥) مانعا (س).

المنطق : أن الاستواء في المفهوم (١) ، لا يوجب الاستواء في الماهية ، وعلى هذا التقدير لا يبعد استواء الذوات في هذا المفهوم السلبي ، مع أنه يكون كل واحد منهما ممتازا عن الآخر بتمام حقيقته.

والذي يقوي هذا الذي ذكرناه : أن الدليل الذي ذكرتم في كون الذوات متساوية في المفهوم من كونها ذوات ، فهو أيضا بعينه يدل على أن الصفات متساوية في المفهوم من كونها صفات. وإذا كان كذلك وجب أن لا يحصل الاختلاف البتة ، لأن الاختلاف لو حصل لحصل إما في الذوات ، وإما في الصفات ، وعلى التقديرين فالاختلاف مفقود (٢) ، فوجب أن لا يحصل الاختلاف البتة ، وحيث حصل ، علمنا أن ما ذكرتم من الدليل ساقط.

والجواب عن الثاني : إنا بينا بالدلائل الثلاثة في مقدمة هذه المسألة : أنه لا يلزم من كون الشيء مخالفا لشيء آخر ، أن تكون تلك المخالفة واقعة لأجل صفة زائدة ، وإذا تقررت هذه المقدمة سقطت تلك الشبهة. وهذا هو الجواب بعينه عن الشبهة الثالثة.

واعلم أن حاصل الكلام في هذه المسألة أنا نقول : كل واحدة من الذوات تخالف غيرها ، في كونها تلك الحقيقة المخصوصة ، إلا أن هذه الحقائق المختلفة ، يلزمها لازم واحد سلبي ، وهو كونها ذوات. والأشياء المختلفة لا يمتنع اشتراكها في لازم سلبي (٣). أما الخصوم فإنهم يقولون : الذوات متساوية في كونها ذوات إلا أن كل واحدة منها يلزمها صفة معينة لأجلها تمتاز عن غيرها وذلك محال. لأن الأشياء المتساوية يمتنع أن يلزمها لوازم مختلفة. فهذا تمام هذا الكلام في هذا الباب [وبالله التوفيق] (٤).

__________________

(١) السكوت (س).

(٢) مقصود (ز).

(٣) واحد (س).

(٤) من (ز).

المسألة السادسة

في

بيان كونه ـ تعالى ـ قديما أزليا

اعلم. أن كل ما كان واجب الوجود لذاته ، فإنه يجب كونه قديما أزليا. لكن ليس كل ما كان قديما أزليا ، فإنه يجب كونه واجب الوجود لذاته.

أما بيان الأول فهو أن كل ما كان واجب الوجود لذاته كانت حقيقته غير قابلة للعدم، وكل ما كان كذلك ، فإنه يجب أن يكون موجودا أزلا وأبدا. إذ لو كان معدوما [في الأزل أو سيصير معدوما] (١) في الأبد ، فحينئذ تكون حقيقته قابلة للعدم ، وقد فرضنا أنه ليس كذلك. فثبت أن كل ما كان واجب الوجود لذاته ، فإنه يجب أن يكون قديما أزليا باقيا سرمديا.

وأما بيان الثاني : وهو أنه لا يلزم من كونه قديما أزليا باقيا سرمديا : كونه واجب الوجود لذاته [فهو أنه لا يمتنع في أول العقل : كون شيء معلول شيء آخر واجب الوجود لذاته] (٢) والمعلول يجب دوامه بدوام علته [فهذا المعلول يكون قديما باقيا أزليا سرمديا ، مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته. فثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان واجب الوجود لذاته ، فإنه يجب أن يكون قديما أزليا سرمديا ، وقد يكون أزليا سرمديا] (٣) ولا يكون واجب الوجود لذاته.

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

إذا عرفت هذا فنقول : إنا لما بينا بالبرهان القاطع كونه تعالى واجب الوجود لذاته ، فحينئذ يلزم كونه قديما أزليا باقيا سرمديا. إلا أنا نريد أن نذكر مذاهب الناس في هذا الباب ، وطرقهم. ليكون هذا الكتاب حاويا لكل ما قيل في هذا الباب. فنقول : للمتكلمين في هذا الباب طريق ، وللفلاسفة طريق آخر. أما المتكلمون فإنهم لما أقاموا الدلالة على حدوث هذا العالم الجسماني قالوا : العالم محدث ، وكل محدث فله محدث. فالعالم له محدث ثم قالوا : ذاك المحدث إن كان محدثا كانت [علة] (١) الافتقار إلى المحدث حاصلة فيه ، وحينئذ يلزم افتقاره إلى محدث ، والكلام فيه كما في الأول ، فيلزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما باطلان.

فيثبت أن القول بأن صانع العالم محدث يفضي إلى الأقسام الباطلة (٢) فيكون القول بحدوث الصانع باطلا ، فوجب الجزم بكونه أزليا قديما. ثم يقيمون الدليل على أن ما ثبت قدمه ، امتنع عدمه وعند هذا يحكمون بأنه تعالى كما أنه قديم أزلي ، فكذلك يجب أن يكون باقيا سرمديا.

فهذا تقرير كلامهم.

ولقائل أن يقول : إن هذا الذي ذكرتم لا يدل البتة على أن خالق هذا العالم يجب أن يكون قديما وبيانه من وجوه :

أحدها : أنه يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن الإله الذي هو واجب الوجود لذاته خلق موجودا آخر ، وخلق فيه القدرة على إيجاد الأجسام. وذلك الشيء الآخر هو الذي خلق هذا العالم الجسماني ، وبهذا التقدير فإنه لا يكون خالق هذا العالم الجسماني قديما أزليا. بل يكون محدثا مخلوقا ، وخالقه يكون قديما أزليا ، وبهذا التقدير فالدور والتسلسل لا يلزمان البتة.

__________________

(١) من (س).

(٢) الثلاثة (س).

وثانيا : أن يقال [لم لا يجوز أن يقال : إن] (١) الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته أوجب لذاته موجودا ليس بجسم ولا بجسماني ، وذلك الموجود موصوف بالعلم والقدرة [والحكمة] (٢) وهو الذي خلق هذا العالم وأوجده ، وعلى هذا التقدير فخالق هذا العالم قديم أزلي موصوف بالعلم والقدرة ، إلا أنه لا يكون واجب الوجود لذاته ، بل هو معلول علة قديمة واجبة الوجود لذاتها.

فالسؤال الأول : يتفرع على أن الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته يكون قادرا مختارا.

والسؤال الثاني : يتفرع على كونه موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار (٣). فيثبت على كلا التقديرين (٤) أن هذا السؤال لازم. وأيضا : فعلى تفريع قول من يقول : إن الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته موجب بالذات لا فاعل مختار ، يصح أن يقال : إن خالق هذا العالم لا يكون قديما ، بل يكون محدثا. وتقريره : أن [على تقدير أن] (٥) يكون الواجب لذاته موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار ، فإنه لا يمكن إسناد هذه الحوادث اليومية إليه ، إلا بأن يقال : بأن تأثيره في وجود كل حادث ، مسبوق بحصول حادث آخر قبله ، لا إلى أول ، وإذا جاز هذا ، جاز أيضا أن يقال : إنه حصل في الأزل جوهر ليس بجسم ولا بجسماني. مثل : عقل ، أو نفس. ويكون ذلك الموجود محلا لإدراكات جزئية متعاقبة ، ولتصورات جزئية متلاحقة. ولما انتهت تلك التصورات إلى تصور خاص [وذلك التصور الخاص بسبب الفيضان ـ موجود قادر عالم لذاته ـ عن المبدأ الأول ، ثم إن ذلك الشيء] (٦) صار خالقا لهذا العالم الجسماني.

فيثبت أن على تقدير القول بأن واجب الوجود لذاته موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فإن هذا الاحتمال باق. وإذا وقفت على هذه المباحث ،

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

(٣) ومختارا (س).

(٤) الطريقين (س).

(٥) من (س).

(٦) من (ز).

فعند هذا تنفتح أبواب كثيرة من الاحتمالات :

أحدها : أن يقال : إن خالق هذا العالم الجسماني موجود واحد ، وهو إما مخلوق المبدأ الأول ، أو معلول له.

وثانيها : أن يقال : إن خالق الذوات شيء من معلولات المبدأ الأول ، وخالق الصفات شيء آخر.

[وثالثها : أن يقال : خالق بعض الصفات والذوات شيء ، وخالق نوع آخر من الصفات والذوات شيء آخر] (١).

وبالجملة : فعلى جميع التقديرات ، ثبت : أن الدليل الذي ذكروه لا يفيد البتة تقرير أن خالق هذا العالم الجسماني قديم أزلي واجب الوجود لذاته.

واعلم. أنه حصل هاهنا مقامان : أحدهما : طريقة القائلين بأنه لا سبيل إلى تحصيل المعارف الإلهية إلا بالتمسك بطريقة الأولى والأخلق.

والثاني : طريقة القائلين بأنه لا بد من الدلائل اليقينة.

أما الطريق الأول : فتقريره : أن يقال : إنه لما ثبت أن العالم محدث ، وجب افتقاره إلى فاعل ، فذلك الفاعل إن كان محدثا ، افتقر إلى فاعل آخر. فإما أن يتسلسل ، أو يدور، أو ينتهي بالآخر إلى فاعل قديم واجب الوجود لذاته. أما الدور والتسلسل فهما باطلان(٢) وأما إثبات الوسائط مع الانتهاء إلى موجود واجب الوجود لذاته [فنقول : لما دلت الدلائل على أنه لا بد من الاعتراف بوجود واجب الوجود لذاته] (٣) ولم تدل الدلائل على وجود هذه الوسائط ، وجب إسقاط هذه الوسائط من البين ، والاكتفاء بالموجود الذي هو واجب الوجود لذاته. فهذه طريقة القائلين بالأولى والأخلق.

__________________

(١) من (ز).

(٢) محالان (س).

(٣) من (ز).

وأما إقامة الدلالة على [نفي] (١) هذه الوسائط.

فاعلم أن المتكلمين ذكروا في هذا الباب طرقا واهية ونحن نذكرها وننبه على ضعفها.

الحجة الأولى : قالوا : ليس القول بحدوث بعض تلك المراتب وقدم بعضها أولى من العكس. فإما أن نحكم بحدوث الكل ، وحينئذ يلزم ، إما التسلسل أو الدور ، أو نحكم بقدم هذا العالم وهو المطلوب. ولقائل أن يقول : ما المراد من قولكم : ليس البعض بأولى من البعض؟ إن أردتم [عدم] (٢) الأولوية في نفس الأمر فهذا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : إن بعض تلك المراتب أولى بالحدوث ، والمرتبة المغايرة للمرتبة الأولى أولى بالقدم؟ وإن كنا لا نعرف سبب تلك الأولوية ، فإن عقولنا ضعيفة ، وأفهامنا قاصرة ، وليس كل ما لا نعرفه ، وجب أن لا يكون موجودا.

وإن أردتم به عدم الأولوية في أذهاننا وعقولنا ، فهذا لا يفيد إلا وجوب التوقف وعدم الجزم بقسم واحد من هذه الأقسام المحتملة فإما أن نجزم بنفي البعض وثبوت الباقي. وذلك باطل قطعا.

الثانية : قالوا : لا يجوز أن يكون شيء من الذوات علة لذات أخرى. لأنا بينا في المسألة المتقدمة : أن الذوات بأسرها متساوية في الذاتية ، وأن الاختلاف ليس إلا بالصفات، فلو كانت ذات علة لذات ، لكان كل ذات علة لكل ذات. فيلزم كون الذات المعينة علة لنفسها. ويلزم كون الذات المعلولة عامة للذات التي فرض كونها علة [وكل] (٣) ذلك محال. فيثبت أنه لا يجوز أن يكون شيء من الذوات علة لشيء منها.

ولقائل أن يقول : هذا بناء على أن الذوات متساوية في كونها ذوات ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

ونحن قد بينا بالبرهان اليقيني أن ذلك باطل ، إذ لو كان الأمر كذلك ، لزم أن تكون الأشياء المتساوية ، يلزمها لوازم مختلفة. وذلك محال في العقول.

أما لو قلنا : إنها في أنفسها مختلفة إلا أنها مع اختلافها في حقائقها متشاركة في كونها ذوات ، بمعنى أنها أمور غير تابعة في وجودها لغيرها ، فعلى هذا التقدير فقد حصلت أشياء مختلفة في الماهية ، مع أنها تكون مشتركة في بعض اللوازم. فثبت : أن الحق ما ذكرناه. وإذا كان الأمر كذلك فقط سقط كلامكم.

وأيضا : فمدار هذه الحجة على مقدمتين :

إحداهما : أن الذوات بأسرها متساوية في الذاتية.

والثانية : أن الأشياء المتساوية وجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر. فنقول : إن كان الأمر كذلك كما ذكرتم ، فحينئذ يلزمكم جواز أن ينقلب الخالق مخلوقا والمخلوق خالقا [والممكن واجبا] (١) والواجب ممكنا ، وحينئذ يبطل عليكم كل ما ذكرتموه [ولما لم يلزم هذا ، فكذا] (٢) هاهنا.

الحجة الثالثة : إن فاعل العالم بتقدير كونه محدثا ، فإنه يجب أن يكون الإله الأكبر [الذي هو الخالق لخالق هذا العالم قادرا على خلقه وإيجاده ، وإذا ثبت ذلك فوجب أن يكون] (٣) قادرا على كل الممكنات ، وإذا ثبت ذلك فوجب أن يكون قادرا على خلق هذا العالم ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو فرضنا شيئا آخر يقدر على خلق هذا العالم ، لزم حصول مقدور واحد لقادرين وهو محال. فوجب أن يكون هذا الفرض محالا.

واعلم : أن هذه الحجة لا تتم إلا إذا قلنا : إنه لا يؤثر شيء في وجود [شيء] (٤) إلا قدرة الله تعالى ، وأكثر أهل العالم ينازعون في هذا الباب ،

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (س).

(٣) من (س).

(٤) من (س).

وستأتي [هذه المسألة بالاستقصاء] (١) في باب قادرية الله تعالى.

فهذا تمام الكلام في حكاية كلام المتكلمين في إثبات كونه تعالى قديما أزليا.

وأما الوجه الذي تمسكوا به في إثبات كونه باقيا أبديا. فهو أنهم قالوا : ثبت بما ذكرنا كونه تعالى قديما أزليا. فنقول : ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. واحتجوا على صحة هذه المقدمة بوجوه :

الحجة الأولى : وهي الحجة التي عليها تعويل الأشعرية. أن قالوا : هذا القديم لو عدم بعد وجوده ، فإما أن يكون عدمه لإعدام معدم أو لطريان ضد ، أو لانتفاء شرط ، والأقسام الثلاثة باطلة. فالقول بعدم القديم باطل. فيفتقر هاهنا إلى بيان أمرين : أحدهما : بيان حصر الأقسام ، والثاني : إفساد كل واحد منها. أما بيان الحصر فهو أنا نقول : كل شيء عدم بعد وجوده ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك العدم جائزا. إذ لو كان ذلك العدم واجبا لذاته ، لكان ذلك العدم دائما ، ولو كان العدم دائما ، لما كان (٢) الوجود أزليا ، وإذا كان ذلك العدم أمرا جائزا ، وجب أن يكون له مرجح ، وذلك المرجح إما أن يكون عدميا أو وجوديا ، فإن كان عدميا فهو أن يقال : إنه إنما عدم لأجل أنه عدم شيء. كان ذلك الشيء محتاجا في وجوده إليه ، وهذا هو الذي قلنا : إنه ينعدم لانتفاء شرط ، وإما إن كان المقتضى لذلك العدم أمرا وجوديا فتأثيره في ذلك الإعدام ، وأما أن يكون على سبيل الاختيار (٣) وهو الذي سميناه الإعدام بالفاعل ، أو على سبيل الإيجاب ، وهو الذي سميناه بالعدم لأجل طريان الضد ، فيثبت بما ذكرنا : بيان حصر هذه الأقسام [الثلاثة] (٤) وأما بيان فساد كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة فهو أن نقول : إنما قلنا : إنه يستحيل أن يصير معدوما لأجل أن معدما أعدمه لوجهين :

__________________

(١) من (س).

(٢) لكان (س).

(٣) الإعدام (ز).

(٤) من (س).

الأول : إن وقوع الإعدام بالفاعل محال غير مقبول ، لأن الفاعل لا بدّ له من فعل ، والقادر لا بدّ له من أثر ، والعدم نفي محض وسلب صرف ، فالقول بأن العدم وقع بالفاعل محال.

والثاني : وهو أن ذلك الفاعل الذي يعدمه إما أن يكون قديما [أو حادثا. لا جائز أن يكون قديما] (١) لأنه ليس أحد القديمين بأن يقدر على إعدام الثاني ، أولى من العكس. ولا جائز أن يكون حادثا. لأن القديم أقوى وجودا من الحادث ، فيمتنع كون الحادث قادرا على إعدام القديم. وإنما قلنا : إنه يستحيل أن يصير معدوما لطريان ضده لوجوه :

الأول : إن المضادة حاصلة بين الضدين ، وإذا كان كذلك كان طريان الضد الحادث مشروطا بانتفاء الضد الثاني ، فلو جعلنا انتفاء الضد الثاني معللا بطريان الضد الحادث ، لزم الدور وهو محال.

والثاني : وهو أن المضادة حاصلة من الجانبين ، فليس انتفاء الباقي لأجل طريان الطارئ أولى من اندفاع الطارئ لأجل الباقي. بل هذا الجانب (٢) أولى ، لأن الدفع أسهل من الرفع.

الثالث : وهو أن ذلك الضد إن كان [حادثا] (٣) قديما ، فحينئذ قد كان الضدان موجودين في الأزل وذلك محال. وإن كان حادثا ، كان الأصل الحادث أضعف وجودا من القديم ، والأضعف لا يقوى على إعدام الأقوى. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يقال : إن ذلك القديم ، عدم لانتفاء شرط ، لأن ذلك الشرط ، إن كان قديما كان الكلام في كيفية عدمه ، كالكلام في عدم القديم الأول ، وإن كان حادثا فهو محال. لأن القديم متقدم في وجوده على الحادث ، والمتقدم على الشيء يمتنع كونه مشروطا به. فيثبت بما ذكرنا : أن القديم لو عدم بعد وجوده ، لكان عدمه ، إما أن يكون لإعدام معدم ، أو لطريان ضد ،

__________________

(١) من (س).

(٢) الحادث (س).

(٣) من (س).

أو لانتفاء شرط. وثبت أن الكل محال ، فكان القول بعدم القديم محالا.

الحجة الثانية : وهي التي استنبطها للمتكلمين (١) في إثبات أن العدم على القديم محال: أن نقول هذا القديم إن كان واجب الوجود لذاته كان العدم عليه محالا وإن كان ممكن الوجود لذاته كان وجوده لمرجح ، وذلك المرجح يلزم إما أن يكون فاعلا مختارا ، أو علة موجبة ، والأول باطل لأن الفاعل المختار إنما يفعل بواسطة القصد [والاختيار ، والقصد] (٢) إلى تكوين الشيء ، إنما يكون قبل حدوثه ، أو حالة حدوثه.

والعلم به بديهي ، فإن كل ما يقع بواسطة القصد والاختيار ، فهو حادث ، وكل ما ليس بحادث امتنع وقوعه بإيقاع الفاعل المختار ، ولما بطل هذا القسم ، ثبت : أن القديم لو كان ممكن الوجود لذاته ، لكان وجوده معللا بمؤثر موجب بالذات ، وذلك الموجب (٣) إن كان ممكنا عاد التقسيم الأول ، فبقي أنه كان واجب الوجود لذاته. ونقول : تأثيره في إيجاد ذلك المعلول القديم ، إن كان موقوفا على شرط ممكن الوجود ، عاد التقسيم في كيفية وجود ذلك الشرط ، وإن كان موقوفا على شرط واجب الوجود أو ما كان موقوفا على شرط أصلا ، فحينئذ يلزم من دوام وجوب تلك العلة الواجبة لذاتها ، أو دوام شرط التأثير الذي هو موجود واجب الوجود لذاته : دوام ذلك الأثر. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان قديما فهو إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإما أن يكون معلولا لعلة واجب الوجود لذاتها ، ويثبت أن على كلا التقديرين أن يكون العدم عليه محالا. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما يثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه.

الحجة الثالثة : أن كل ما كان قديما فإنه يكون واجب الوجود لذاته. [وما كان كذلك] (٤) فإن العدم عليه ممتنع. بيان المقام الأول :

__________________

(١) استنبطها المتكلمون (ز).

(٢) من (س).

(٣) الممكن (ز).

(٤) زيادة.

أن القديم لو لم يكن واجب الوجود لذاته ، لكان ممكن الوجود لذاته ، وهو يحتاج إلى المؤثر. إلا أن ذلك محال (١) ، لأن القديم ليس له حال عدم ، ولا حال حدوث البتة ، بل هو أبدا كان موجودا ، فلو احتاج إلى المؤثر ، لكان إنما احتاج إلى المؤثر ، حال وجوده. فيلزم أن يكون ذلك المؤثر مؤثرا في حال وجوده ، فيلزم تحصيل الحاصل ، وتكوين الكائن ، وذلك محال. فيثبت بما ذكرنا : أن كل قديم فإنه واجب الوجود لذاته.

وبيان المقام الثاني وهو أن كل واجب الوجود لذاته ، فإنه لا يقبل العدم : هو أن نقول : واجب [الوجود] (٢) لذاته هو الذي لا تكون حقيقته قابلة للعدم ، وما كان كذلك امتنع طريان العدم عليه. فيثبت بما ذكرنا : أن كل قديم فإنه واجب الوجود لذاته ، ويثبت أن كل واجب الوجود لذاته ، فإنه يمتنع العدم عليه ، ينتج : أن كل ما يثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. هذه الحجة لخصناها للمتكلمين [وهذا جملة ما يليق بأصول الكلام في هذا الباب](٣).

وأما الطرق اللائقة بالأصول الفلسفية في إثبات كونه تعالى أزليا أبديا. أن نقول :

الوجه الأول (٤) : لو صح عليه العدم بعد وجوده ، لكان عدمه بعد وجوده لا بد وأن يكون لسبب ، إما وجودي ، وإما عدمي. وحينئذ يكون وجوده موقوفا على عدم ذلك المعدم ، وما يكون وجوده موقوفا على اعتبار حال الغير ، كان ممكنا لذاته. فواجب الوجود لذاته [ممكن الوجود لذاته] (٥) هذا خلف.

__________________

(١) عبارة (س) :

فإنه يكون واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان غير واجب الوجود لذاته ، كان ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن الوجود لذاته ، فهو محتاج إلى المؤثر. ينتج : أن ذلك القديم محتاج إلى المؤثر ، إلا أن ذلك محال ... الخ.

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) زيادة.

(٥) من (س).

والوجه الثاني في بيان امتناع هذا المعنى : أن حقيقة ماهيته ، إن لم تكن قابلة للعدم البتة ، فقد حصل المطلوب ، وإن كانت قابلة [للعدم] (١) فإما أن يكون قبولها للوجود والعدم على سبيل السوية ، وإما أن يقال : إن جانب الوجودية أولى من جانب [العدم] (٢) فإن كان الأول لزم افتقاره إلى المرجح ، لما ثبت أن الممكن المتساوي [لا] (٣) يعقل رجحان أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح ، وحينئذ يكون الواجب لذاته ، واجبا بغيره. وهو محال. [وإن كان الثاني وهو أن يقال : إن حقيقته قابلة للعدم وللوجود ، إلا أن الوجود أولى بها من العدم. فنقول : هذا محال] (٤) لأنا بينا : أن الجمع بين أصل الإمكان مع حصول الأولوية محال باطل. فيثبت بما ذكرنا : أن واجب الوجود لذاته ، يجب كونه أزليا وأبديا.

الوجه الثالث في بيان وجوب كونه أزليا وأبديا : أنه حين كان موجودا. إما أن يقال : إنه كان ممكن الوجود لذاته ، أو كان واجب الوجود لذاته.

فإن قلنا : إنه ممكن الوجود لذاته ، وكل ممكن الوجود لذاته فإنه لا يوجد إلا بسبب. فالمغني عن السبب مفتقر إلى السبب. هذا خلف. وإن قلنا : إنه كان واجب الوجود لذاته فلو فرضنا أنه عدم في وقت من الأوقات ، فحينئذ انتقل من الوجوب الذاتي ، إما إلى الإمكان الذاتي ، أو إلى الامتناع الذاتي. وكل ذلك محال. لأن على هذا التقدير ، يكون ذلك الوجوب الذاتي قابلا للتغير ، وكل ما كان قابلا للتغير فإنه لا يكون وجوبا بالذات ، ينتج : أن الوجوب بالذات ليس وجوبا بالذات. هذا خلف. فيثبت بمجموع ما لخصناه : أن واجب الوجود لذاته ، يجب أن يكون أزليا وأبديا. وهذا تمام المقصود من هذا الباب. وبالله التوفيق.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (س).

(٣) من (ز).

(٤) من س.

المسألة السابعة

في

استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد

اعلم أن هاتين اللفظتين مختصرتان ، ولأجل اختصار هما لا يقف العقل على تمام المعنى المقصود من لفظ الأزل والأبد. والعلماء ذكروا أمثلة كثيرة كاشفة عن حقيقة هذا المعنى.

فالمثال الأول : قالوا : لو فرضنا أن داخل الفلك الأعظم كان مملوءا من حبات الجاورس (١) ، وفرضنا أن في كل ألف ألف سنة تفنى حبة واحدة من تلك الحبات ، ثم فرضنا اجتماع هذه الحبات بأسرها على كثرتها ، وامتناع وقوف العقل على جزء من أجزائها ، ثم قابلنا ذلك المجموع بالمعنى المفهوم من الأزل ، كان ذلك المجموع بالنسبة إلى الأزل ، كالعدل بالنسبة إلى الوجود. وذلك لأن ذلك المجموع وإن بلغ في الكثرة إلى الحد الذي يعجز العقل عن الإحاطة بالجزء القليل منه ، إلا أن العلم البديهي حاصل بأنه إنما يتولد من ضم المقادير المتناهية بعضها إلى بعض : مرات متناهية ، والمجموع الحاصل من ضم المتناهي إلى المتناهي يكون متناهيا.

فهذا المجموع له أول. واللانهاية واللاأولية غير متناهية. والمتناهي بالنسبة إلى [غير] (٢) المتناهي ، يكون كالعدم في مقابلة الوجود. وهذا المثال

__________________

(١) من (ز).

(٢) من (ز).

يكشف حقيقة الأزلية من بعض الوجوه.

المثال الثاني : إن لرقوم حساب الهند ترتيبا عجيبا ، فإن الواحد في المرتبة الأولى واحد، وفي الثانية عشرة ، وفي الثالثة مائة ، وفي الرابعة ألف ، وفي الخامسة عشرة آلاف وفي السادسة مائة ألف ، وفي السابعة ألف ألف.

وإذا عرفت هذا فنقول : لنفرض أن بحسب كل رأس دائرة (١) من مجموع الفلك الأعظم ، حصل عالم مثل هذا العالم الجسماني المشتمل على الأفلاك السبعة (٢) والعناصر الأربعة ، ثم فرضنا أن هذه العوالم امتدت امتدادا بحيث صارت في الثخن بمقدار قشرة الثوم ، ثم أمليت جميع تلك السطوح من مراتب الأعداد برقوم الهندسة (٣) ثم أوقعت المقابلة بين مجموع تلك الحسابات وبين حقيقة الأزل ، كان ذلك المجموع في مقابلة حقيقة الأزل ، كالعدم في مقابلة الوجود ، بالبيان الذي لخصناه في المثال الأول. فظهر بهذين المثالين : أن حقيقة الأزل والأبد لا قدرة للعقول البشرية على الوقوف عليها. ثم نقول : إن هذه الحسابات التي ذكرنا أنها مقادير متناهية ، والعقول البشرية لا سبيل لها إلى الوقوف على ذرة (٤) من ذراتها. إذا كان [الحال في] (٥) المقادير المتناهية كذلك ، فما ظنك بما لا نهاية له؟ فيثبت : أن العقول عاجزة عن الوصول إلى أوائل هذه المعاني ، فضلا عن الانتهاء إلى أواخرها وغاياتها.

وإذا وقفت على حقيقة الأزل والأبد من الاعتبارات المذكورة ، فنقول : هاهنا مباحث لا بد من الوقوف عليها.

فالأول : قالوا : تقدّم الله تعالى على هذا اليوم ، إما أن يكون بمدة متناهية ، أو بمدة غير متناهية ، فإن كان الأول لزم كون الله تعالى حادثا ، وهو محال.

وإن كان الثاني لزم أن يقال : إنه قد انقضى قبل هذا اليوم مدة غير

__________________

(١) إبرة (س).

(٢) التسعة (س ، ز).

(٣) الهند (س).

(٤) كثرة (س).

(٥) من (ز).

متناهية ، [لكن انقضاء مدة غير متناهية] (١) محال. فكان حصول هذا اليوم موقوفا على شرط محال. والموقوف على المحال : محال. فكان يجب أن يكون حصول هذا اليوم محالا. وحيث لم يكن كذلك : علمنا أن الذي انقضى قبله ، كان متناهيا ، لا غير متناهي.

والثاني : إن الأزل والأبد يتقابلان تقابل المتناقضين ، وكل أمرين هذا شأنهما ، فلا بد وأن يتميز أحدهما عن الآخر ، فيجب أن يكون آخر الأزل متصلا بأول الأبد ، إلا أن هذا محال. لأن كل [حد] (٢) فرض كونه آخرا للأزل ، وأولا للأبد ، فإن آخر الأزل وأول الأبد ، كان موجودا قبله ، لأن الوقت الذي يكون متقدما على ذلك الوقت بمقدار مائة سنة ، يكون خارجا عن الأزل وداخلا في الأبد ، وعلى هذا التقدير يمتنع تميز الأبد عن الأزل ، وقد فرضناه متميزا عنه. هذا خلف.

الثالث : إذا قلنا : كان الله موجودا في الأزل ، وسيكون موجودا في الأبد. فقولنا : كان : يفيد أمرا كان موجودا ، وقد انقضى الآن ، وما بقي. وقولنا : يكون. يفيد أمرا سيكون موجودا في الأبد ، وهو الآن غير حاصل. فإذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون ، ففيه أحوال متغيرة متجددة. وذات الله تعالى ، لما كان واجب الدوام ، ممتنع التغير ، وجب أن لا يصدق عليه : أنه كان في الأزل ، وسيكون في الأبد ، وأنه كان الآن ، وكل ما كذبت عليه هذه الألفاظ الثلاثة ، فإنه يمتنع كونه موجودا. هذا خلف.

واعلم : أن مباحث الأزل والأبد ذكرناها على الاستقصاء التام ، في الكتاب المشتمل على البحث عن حقيقة المكان والزمان.

وليكن هذا آخر كلامنا في الكتاب الأول من العلم الإلهي.

وقال المصنف مولانا الداعي إلى الله ، رحمة الله عليه : تم ذلك يوم الجمعة من ذي القعدة سنة ٦٠٣ ثلاث وستمائة. والحمد لله على كل حال.

__________________

(١) من (س).

(٢) من (ز).

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، الطاهر الزكي ، وعلى آله وصحبه وسلم. كلما ذكرك (١) الذاكرون ، وغفل عن ذكره الغافلون] (٢).

تم الجزء الأول : من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» للإمام فخر الدين الرازي.

ويليه الجزء الثاني. وموضوعه : «الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه».

__________________

(١) الصحيح (ذكره).

(٢) من (ز).

مواضیع الکتاب الاول

من الطالب العالية من الهلم الإلهي

التعريف بكتاب المطالب العالية ، وهو تسعة أجزاء................................ ٥

موضوع الكتاب هو البحث في ذات الله تعالى وصفاته............................. ٧

علم الكلام هو الفلسفة الإسلامية................................................ ٨

علم الكلام الكتاب [٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه]........................................ ١١

ثناء العلماء عليه.............................................................. ١١

ومن مؤلفات الإمام فخرالدين الرازي........................................... ١٤

توثيق كتاب المطالب العالية.................................................... ١٥

الجزء التاسع هو آخر أجزاء المطالب العالية.................................... ١٨

مخطوطات الكتاب............................................................ ١٩

مخطوطة أسعد أفندي في تركيا ارسل صورتها

الدكتور حسين آتای الى مصر................................................. ٢٠

صور المخطوطات............................................................ ٢٢

مقدمة مؤلف كتاب المطالب العالية. وفيها فصول................................ ٣٥

الفصل الأول :

في بيان أن هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق................................ ٣٧

الفصل الثاني :

في انه هل للعقول البشرية سبيل الى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم أم يكتفى في بعض

مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟........................................ ٤١

الفصل الثالث :

في أن تحصيل هذه المعارف المقدسة هل الطريق إليه واحد ، أم أكثر من واحد؟....... ٥٣

الفصل الرابع :

في ضبط معاقد هذا العلم..................................................... ٦٠

الجزء الأول من كتاب المطالب العالية في الدلائل الدالة على إثبات الآله لهذا العالم المحسوس.

وإثبات كونه واجب الوجود لذاته............................................... ٦٥

تمهيد........................................................................ ٦٧

القسم الأول من الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : في ذكر الدلائل القطعية اليقينية وفيه مقدمة وفصول   ٦٩

المقدمة : في بيان معاقد هذا الباب............................................ ٧١

مقدمة الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : الفصل الأول : في مراتب مقدمات هذه الدلائل على الوجه المشهور عند الحكماء..................................................................... ٧٢

الفصل الثاني : في بيان أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر، الإ لمرجح... ٧٤

الفصل الثالث : في تقرير قول من يقول هذه المقدمة استدلالية.................. ٨٧

الفصل الرابع : في حكاية شبهات القائلين بأن رجحان الممكن لا يتوقف على المرجح ٩١

الفصل الخامس : في تقرير الجواب عن هذه الشبهات......................... ١١٥

الفصل السادس : في إيراد نوعين آخرین من السؤال.

على قولنا : الممكن لايد له من مرجح........................................ ١٢٢

الفصل السابع : في بيان أن هذا البرهان المذكور في إثبات معرفة واجب الوجود ، لا يتم على أصول الحكماء إلا بعد إقامة الدلالة على أن العلة واجبة الحصول ، حال حصول المعلول.................... ١٣٠

الفصل الثامن : في إيراد هذا البرهان على وجه آخر.

ویظن أن إيراده على ذلك الوجه يوجب سقوط الأسئلة عنه.

وبيان أن ذلك الظن خطأ من الناس.......................................... ١٣٤

الفصل التاسع : في إقأمة البرهان على أن القول بالدور باطل.................... ١٣٦

الفصل العاشر : في ابطال التسلسل.......................................... ١٤١

الفصل الحادي عشر :

في ابطال التسلسل ، سوى ما تقرر ذكره...................................... ١٥٤

الفصل الثاني عشر : في إيراد سؤال ، على القائل المذكور

في إثبات واجب الوجود لذاته ، وتحقق الجواب الحق عنه......................... ١٥٨

الفصل الثالث عشر : في حكاية شبهات من يقدح في إثبات واجب الوجود لذاته ١٦٤

الفصل الرابع عشر : في بيان أن العالم المحسوس ، ليس واجب الوجود لذاته... ١٧٠

الفصل الخامس عشر : في اثبات إله العالم ـ عزوجل بناء على التمسك بإمكان الصفات ١٧٧

الفصل السادس عشر : في بيان كيفية الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الإله القادر       ١٨٤

الفصل السابع عشر : في تعديد الدلائل المستنبطة من إمكان الصفات.......... ١٩٢

الفصل الثامن عشر : في إثبات العلم بوجود الإله تعالى ، بناء على التمسك بحدوث الذوات  ٢٠٠

الفصل التاسع عشر : في تقرير طريقة للحدوث ، لا يحتاج فيها إلى ضم الإمكان ٢٠٧

الفصل العشرون : في تقرير قول من يقول : الاستدلال بالحدوث على الفاعل ، لايتم إلا بدليل منفصل          ٢١٠

الفصل الحادي والعشرون : في إثبات العلم بالصانع ، بطريقة حدوث الصفات... ٢١٥

الفصل الثاني والعشرون : في الاستدلال على وجود الإله الحكيم الرحيم ، بكيفية تولد الإنسان من النطفة       ٢١٨

الفصل الثالث والعشرون :

في اقامة الدلالة على وجود إله العالم ، بناء على حدوث الصفات ، من طريق آخر ٢٢٨

الفصل الرابع والعشرون : فی تقریر طريقة أخرى في أثبات الإله ـ تعالى هذا الخلق ٢٣٣

القسم الثاني من الجزء الأول

من كتاب المطالب العالية

في تفصيل الدلائل الدالة على وجود الإله القديم.

الدلائل الموجودة في عالم الأفلاك وعالم العناصر

وفيه فصول................................................................ ٢٣٧

الفصل الأول :

في بيان أن الاستكثار من هذه الدلائل من أهم المهمات......................... ٢٣٩

الفصل الثاني :

في حكاية كلمات منقولة عن أكابر الناس في هذا الباب......................... ٢٤٠

الفصل الثالث :

في تمديد الدلائل التي تذكرها أصناف طوائف العالم............................. ٢٤٩

القسم الثالث من الجزء الأول :

من المطالب العالية في الكلام في الوجوب والوجود والإرادات والنعين والماهية. وما يشبهها من المطالب والمباحث.

وفيه مسائل............................................................... ٢٧٩

المسألة الأولى : في البحث عن معنى قولنا : إنه واجب الوجود لذاته........... ٢٨١

المسألة الثانية : في أن وجوب الوجود.

هل هو مفهوم ثبوتي ، أم لا؟................................................ ٢٨٣

المسألة الثالثة : في أن وجود الله ـ تعالى نفس ماهيته ، أو صفة زائدة على ماهيته؟ ٢٩٠

المسألة الرابعة : في تحقيق القول في بيان أن المبدأ الأول. هل هو تلك الحقيقة المخصوصة؟         ٣١١

المسألة الخامسة : في بيان أنه ـ سبحانه ـ يخالف جملة الممكنات ، لذاته المخصوصة لا لصفة زائدة على الذات        ٣١٣

المسألة السادسة : في بيان كونه ـ تعالى ـ قديماً أزليا............................ ٣١٨

المسألة السابعة : في استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد.................. ٣٢٩

فهرس مواضيع الكتاب الأول من المطالب العالية.............................. ٣٣٣

تم فهرس الجزء الأول من كتاب المطالب العالية من

العلم الإلهي. للإمام فخر الدين الرازي

المطالب العالية من العلم الإلهي - ١

المؤلف: محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
الصفحات: 336
  • التعريف بكتاب المطالب العالية ، وهو تسعة أجزاء 5
  • موضوع الكتاب هو البحث في ذات الله تعالى وصفاته 7
  • علم الكلام هو الفلسفة الإسلامية 8
  • علم الكلام الكتاب [543 ـ 606 ه] 11
  • ثناء العلماء عليه 11
  • ومن مؤلفات الإمام فخرالدين الرازي 14
  • توثيق كتاب المطالب العالية 15
  • الجزء التاسع هو آخر أجزاء المطالب العالية 18
  • مخطوطات الكتاب 19
  • مخطوطة أسعد أفندي في تركيا ارسل صورتها
  • الدكتور حسين آتای الى مصر 20
  • صور المخطوطات 22
  • مقدمة مؤلف كتاب المطالب العالية. وفيها فصول 35
  • الفصل الأول :
  • في بيان أن هذا العلم أشرف العلوم على الإطلاق 37
  • الفصل الثاني :
  • في انه هل للعقول البشرية سبيل الى تحصيل الجزم واليقين في هذا العلم أم يكتفى في بعض
  • مباحثه ومطالبه بالأخذ بالأولى والأخلق؟ 41
  • الفصل الثالث :
  • في أن تحصيل هذه المعارف المقدسة هل الطريق إليه واحد ، أم أكثر من واحد؟ 53
  • الفصل الرابع :
  • في ضبط معاقد هذا العلم 60
  • الجزء الأول من كتاب المطالب العالية في الدلائل الدالة على إثبات الآله لهذا العالم المحسوس
  • وإثبات كونه واجب الوجود لذاته 65
  • تمهيد 67
  • القسم الأول من الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : في ذكر الدلائل القطعية اليقينية وفيه مقدمة وفصول   69
  • المقدمة : في بيان معاقد هذا الباب 71
  • مقدمة الجزء الأول من كتاب المطالب العالية : الفصل الأول : في مراتب مقدمات هذه الدلائل على الوجه المشهور عند الحكماء 72
  • الفصل الثاني : في بيان أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر، الإ لمرجح... 74
  • الفصل الثالث : في تقرير قول من يقول هذه المقدمة استدلالية 87
  • الفصل الرابع : في حكاية شبهات القائلين بأن رجحان الممكن لا يتوقف على المرجح 91
  • الفصل الخامس : في تقرير الجواب عن هذه الشبهات 115
  • الفصل السادس : في إيراد نوعين آخرین من السؤال
  • على قولنا : الممكن لايد له من مرجح 122
  • الفصل السابع : في بيان أن هذا البرهان المذكور في إثبات معرفة واجب الوجود ، لا يتم على أصول الحكماء إلا بعد إقامة الدلالة على أن العلة واجبة الحصول ، حال حصول المعلول 130
  • الفصل الثامن : في إيراد هذا البرهان على وجه آخر
  • ویظن أن إيراده على ذلك الوجه يوجب سقوط الأسئلة عنه
  • وبيان أن ذلك الظن خطأ من الناس 134
  • الفصل التاسع : في إقأمة البرهان على أن القول بالدور باطل 136
  • الفصل العاشر : في ابطال التسلسل 141
  • الفصل الحادي عشر :
  • في ابطال التسلسل ، سوى ما تقرر ذكره 154
  • الفصل الثاني عشر : في إيراد سؤال ، على القائل المذكور
  • في إثبات واجب الوجود لذاته ، وتحقق الجواب الحق عنه 158
  • الفصل الثالث عشر : في حكاية شبهات من يقدح في إثبات واجب الوجود لذاته 164
  • الفصل الرابع عشر : في بيان أن العالم المحسوس ، ليس واجب الوجود لذاته... 170
  • الفصل الخامس عشر : في اثبات إله العالم ـ عزوجل بناء على التمسك بإمكان الصفات 177
  • الفصل السادس عشر : في بيان كيفية الاستدلال بإمكان الصفات على وجود الإله القادر       184
  • الفصل السابع عشر : في تعديد الدلائل المستنبطة من إمكان الصفات 192
  • الفصل الثامن عشر : في إثبات العلم بوجود الإله تعالى ، بناء على التمسك بحدوث الذوات  200
  • الفصل التاسع عشر : في تقرير طريقة للحدوث ، لا يحتاج فيها إلى ضم الإمكان 207
  • الفصل العشرون : في تقرير قول من يقول : الاستدلال بالحدوث على الفاعل ، لايتم إلا بدليل منفصل          210
  • الفصل الحادي والعشرون : في إثبات العلم بالصانع ، بطريقة حدوث الصفات... 215
  • الفصل الثاني والعشرون : في الاستدلال على وجود الإله الحكيم الرحيم ، بكيفية تولد الإنسان من النطفة       218
  • الفصل الثالث والعشرون :
  • في اقامة الدلالة على وجود إله العالم ، بناء على حدوث الصفات ، من طريق آخر 228
  • الفصل الرابع والعشرون : فی تقریر طريقة أخرى في أثبات الإله ـ تعالى هذا الخلق 233
  • القسم الثاني من الجزء الأول
  • من كتاب المطالب العالية
  • في تفصيل الدلائل الدالة على وجود الإله القديم
  • الدلائل الموجودة في عالم الأفلاك وعالم العناصر
  • وفيه فصول 237
  • الفصل الأول :
  • في بيان أن الاستكثار من هذه الدلائل من أهم المهمات 239
  • الفصل الثاني :
  • في حكاية كلمات منقولة عن أكابر الناس في هذا الباب 240
  • الفصل الثالث :
  • في تمديد الدلائل التي تذكرها أصناف طوائف العالم 249
  • القسم الثالث من الجزء الأول :
  • من المطالب العالية في الكلام في الوجوب والوجود والإرادات والنعين والماهية. وما يشبهها من المطالب والمباحث
  • وفيه مسائل 279
  • المسألة الأولى : في البحث عن معنى قولنا : إنه واجب الوجود لذاته 281
  • المسألة الثانية : في أن وجوب الوجود
  • هل هو مفهوم ثبوتي ، أم لا؟ 283
  • المسألة الثالثة : في أن وجود الله ـ تعالى نفس ماهيته ، أو صفة زائدة على ماهيته؟ 290
  • المسألة الرابعة : في تحقيق القول في بيان أن المبدأ الأول. هل هو تلك الحقيقة المخصوصة؟         311
  • المسألة الخامسة : في بيان أنه ـ سبحانه ـ يخالف جملة الممكنات ، لذاته المخصوصة لا لصفة زائدة على الذات        313
  • المسألة السادسة : في بيان كونه ـ تعالى ـ قديماً أزليا 318
  • المسألة السابعة : في استقصاء الكلام في حقيقة الأزل والأبد 329
  • فهرس مواضيع الكتاب الأول من المطالب العالية 333