بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة التحقيق

قضية الامامة من قضايا الاسلام الكبرى ، بل هي اكبرها بل كلّ ما حدث في الاسلام من القضايا منحدر منها ، ومتفرع عنها ، وقد حصل الخلاف فيها والنزاع عليها يوم لحق الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرفيق الأعلى بل وقبل أن يوسد في الثرى وهذا من المسلمات التي لا مرية فيها ، وانقسمت الأمّة الواحدة الى مذاهب يطول عرضها ، سنة وشيعة ، اشاعرة ومعتزلة إلى آخر ما هنالك.

وصار لكلّ مذهب من هذه المذاهب أصوله وفروعه التي يتميّز بها عن المذهب الأخر ، بل تشعب المذهب الواحد الى شعب متفرقة ، ولم يقتصر خلافهم على مسألة الامامة فحسب ، فهم بعد ان آمنوا بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر ، اختلفوا في صفاته سبحانه وتعالى ، كما اختلفوا في الأنبياء من حيث أفضليتهم على الملائكة أو أفضلية الملائكة عليهم ، وفي عصمتهم وعدمها ، واذا كانت هل هي قبل النبوة أو بعدها ، وهل هي من كبائر الذنوب وصغائرها ، وهل في التبليغ وغيره ، وفي القرآن الكريم من حيث القدم والحدوث ، وفي المعراج هل هو بالروح أو الجسد أو بهما جميعا ، وفي القبر ونعيمه وعذابه ، وفي خلق الجنّة والنار وعدمه الى آخر ما هو مسطور في كتب الملل والنحل.

ولم يقتصر الخلاف على الأصول والعقائد بل انسحب على الفروع بقسميها التكليفي والوضعي ، وربّما اختلف أهل المذهب الواحد في المسألة الواحدة في كثير من مسائل العبادات والمعاملات تعرف ذلك بأوّل نظرة الى الكتب التي حفلت بالفقه المقارن ومسائل الخلاف.

وكل ما ذكرنا فرع عن الخلاف في الإمامة. وليت الخلاف اقتصر على الكلام والجدل بل تخطّاه الى ما هو أدهى وأمر فكم قامت من حروب ، وسفكت دماء ، وهتكت حرمات ، واستبيحت محرمات ، وبيعت ضمائر ، واشتريت ذمم وقد وصف ذلك عالم من علماء الازهر وكاتب من كتاب مصر صفة لم يسبق فيها.

يقول الشيخ عبد الله عفيفي في كتابه القيم «المرأة العربية في جاهليتها واسلامها ٢ / ١٣٥» : ما زال المسلمون منذ لحق النبي بربّه وهم من أمر خليفته ، والقائم بالأمر من بعده ، في فتنة غاشية تعصف بهم تارة وتقرّ دونهم رابضة مترصدة متحفزة تارة أخرى ، فهي يومئذ غافية غفوة الذئب نائمة هاجعة ساكنة مستجمعة ، كذلك تدافعت الحقب على الخلافة والدم ينغر من حروفها ، والمهج تسيل على أطرافها ، وشفار السيوف تصلّ من أقطارها ، ورسل الموت رائحة بأسود الغابة ، وفتيان الضراب من كلّ معتزم لو جرّد في سبيل الله عزمته لفلّ بها الصفوف ، وجندل الالوف ..». حتى قال الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢٧ : «أعظم خلاف بين الأمّة خلاف الإمامة ، إذا ما سلّ سيف في الاسلام على قاعدة دينيّة في كلّ زمان مثل ما سلّ على الإمامة في كلّ زمان» فمن يوم الدار الى يوم الجمل وصفين والنهروان ، ثم من فاجعة كربلاء الى يوم الحرّة إلى انتهاك حرمة البلد الحرام والمسجد الحرام والى آخر ما تعرض له التاريخ في طوله وعرضه ، ولعلّ ما خفي على الناس أكثر ، اذ أنّ التاريخ كتبته السياسة ، وليس بوسع الباحث أن

يطمئن الى كثير ممّا نقل فيه.

وليست لتلك البداية نهاية إلّا أن يشاء الله تعالى فما زلنا نقاسي آلام تلك الفتن والمحن ونتجرع مرارتها.

وعسيت أن تقول ـ كما قال بعضهم ـ : إذا كان الأمر كذلك فلما ذا «لا يسدّ هذا الباب ، لأنّ وجود الامام الذي ترتضيه الأمّة وتتفق عليه متعذّر ، لأنّ آراء الناس مختلفة ، وأهواءهم متباينة ، وقلوبهم شتّى ، وهذا يستدعي إثارة الفتن ، وقيام الحروب ، والتجربة التي مرّ بها الاولون يجب أن يعتبر بها التالون ، فاللازم ترك هذا الأمر والابتعاد عن هذا المحذور».

وهذا القول قد يروق لبعض الناس ، ويروونه جميلا في ظاهره لو لا الوقوع في محذورين :

الاول : فسح المجال للطغاة والمستبدين ليتحكّموا في رقاب الناس واعراضهم واموالهم ، ويحكموا فيهم بغير ما أنزل الله سبحانه.

الثاني : لزوم أمر الامامة ، إذ ليس للمسلم مندوحة عنها ، لأنّ أمر الإمامة لازم لا يكمل الدين ولا يتم الايمان إلّا به ، ولا يقوم الاسلام إلّا عليه ، لتعلق أمور الدنيا والآخرة بها ، لأن القرآن الكريم ينادي : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) (١) والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) والله لا يريد أن يطبّق في الارض إلّا حكمه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (٢). (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٣). (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ... عَلَيْهِمْ

__________________

(١) الأسراء : ٧١.

(٢) الانعام : ٥٧ ، يوسف : ٤٠ و ٤٧.

(٣) المائدة : ٥٠.

الظَّالِمُونَ ... هُمُ الْفاسِقُونَ) (١) والقرآن لم ينزل ليوضع بين يدي الحكام للحلف به والحكم بغيره ، أو لتفتتح به الاذاعات ، ثم يعقبه ما لا يرضي الله تعالى ، أو ليكون زخارف تعلّق على الجدران ، او تمائم تناط بالاعناق ، او ليتلى في المآتم ، أو ينقش على ألواح القبور ، أو ليطرح عليها ، القرآن انزل للاحياء لا للأموات ، وللعمل لا للتلاوة فحسب.

وهيهات أن تنفذ أحكامه ، وتقام حدوده ما لم يكن بين الناس من يؤتمن على حفظه ، ويقوم بتطبيقه ، ولا يمكن أن يقوم بهذه المهمة ، او يضطلع بهذه المسئولية إلّا شخص له صفات خاصّة تؤهله لهذا المقام الاسمي ، وذلك هو الذي تجب طاعته ، ويلزم اتباعه ، لأنّه خليفة الرسول ، والقائم مقامه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) وهو ولي الأمر الذي أمر الله تعالى باتباعه (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣) وموضع ذي بال كهذا لا بد أن ينال من اهتمام العلماء ـ على اختلاف مذاهبهم ـ ما لم ينله موضوع سواه ، ولذا كثرت المؤلفات في الإمامة من صدر الاسلام والى يوم الناس هذا حتّى تجاوزت العشرات بل المئات من المجلدات تعرف ذلك بمراجعة معجمات الرجال ، وفهارس الكتب ، عدا من تعرض لذلك ممّن خصّصوا لهذا الموضوع في كتبهم أبوابا ، أو تعرضوا لذكره استطرادا ، وقد طال الكلام فيها وعرض ، في وجوبها وعدمه ، واذا وجبت هل هل هي واجبة على الله تعالى أم على الخلق؟ وهل هذا الوجوب من جهة الشرع أو العقل ، أو من قبلهما معا ، وفي صفات الامام من حيث العصمة وعدمها والقرشية وغيرها ، وهل وهل وهلم جرّا.

__________________

(١) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) النساء : ٥٩.

وقد كان عبد الحميد بن ابي الحديد المعتزلي : تعرض لذلك في مواطن عديدة في شرحه على نهج البلاغة ، وتحامل على الاماميّة ، وانبرى لنقض أقوالهم بكلّ ما أوتي من بلاغة في القول ، وبراعة في الكلام.

وذلك ما حدى بطائفة من علماء الامامية لافراد كتب في الرد عليه.

وكان من جملة من تصدى للردّ على ابن أبي الحديد ، ونقض كلامه صاحب «منار الهدى» وفي أثناء ردّه على ابن ابي الحديد تعرّض أيضا للردّ على علاء الدين علي بن محمد القوشجي المتوفى سنة ٨٧٩ ه‍ ـ من أكابر علماء الاشاعرة في كلامه حول الإمامة في كتابه المعروف ب (الجديد في شرح التجريد) أي تجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي اذ لا يقل عن ابن ابي الحديد في الميل على الإمامية ، والطعن في عقائدهم كما ستطّلع على الكثير من ذلك في ثنايا هذا الكتاب.

أمّا صلتي ب (منار الهدى) وعملي فيه ، فأني كنت قد اطلعت على هذا الكتاب مصادفة قبل أربعين عاما تقريبا في مكتبة أحد الاعلام في كربلاء فتصفحت جملا من فصوله في صفحات مختلفات فاستحسنت بعضها ، وراقني كثير منها ، ثم لم أره بعد ذلك الحين إلّا قبل ثلاث سنوات أثناء إقامتي في البحرين فهاجت بي الذكرى ، واخذني الحنين الى أيّام الشباب ، فاعدت النظر فيه ، فرأيت أن أخرّج مصادره ، واعلّق عليه ففطنت لشيء فيه هو أنّ المؤلف قويّ الحجّة ، ناصع البرهان إلّا أنّ في لهجته شيئا من الغلطة والشدّة على خصميه ـ المعتزلي والقوشجي ـ كنت أتمنى لو أنّه كان ليّن العريكة معهما ، فرأيت أنّ أخفف منها ، وألطف بعضها بشيء من التنقيح والتهذيب على ان لا أغير شيئا من معناه وأن تغيّر شيء من مبناه ، وقد حاولت أن أحافظ على عبارات المؤلف ما وجدت إلى ذلك سبيلا.

ولا يسمى عملي هذا تصرّف في الكتاب ، أو تحريف له فالتنقيح

والتهذيب ، والاختصار والتجريد طريق سلكه كثير من الفضلاء قبلي ، ثم رأيت أن أسميه من بعد ذلك ب :

(أشعة من منار الهدى)

أما مؤلف «منار الهدى» فهو الشيخ علي بن عبد الله بن علي البحراني الستري علم من أعلام البحرين ، ذلك البلد الطيّب الذي أنجب كثيرا من العلماء والفقهاء ، والفلاسفة والحكماء ، والادباء والشعراء في ماضي الدهر وحاضره.

كما عرف بالولاء لاهل البيت عليهم‌السلام منذ أن دخله الاسلام ، أو منذ أن دخل هو طواعية في الاسلام أيّام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث قد تعاقب عليه ولاة عرفوا بالتشيع لعلي عليه‌السلام أمثال أبان بن سعيد بن العاص الأموي والعلاء بن الحضرمي ، وساعد في ذلك تهجير زياد بن أبيه في أيّام ولايته على العراق جماعة عرفوا في ولاء أهل البيت ومحبتهم ، ولجوء آخرين الى البحرين فرارا من بطش الحجّاج أيام بني مروان ، فاسسوا للايمان قواعد راسخة ، وشيدوا للعلم صروحا شامخة ، لا تزعزعها القواصف مهما اشتدت الأعاصير ، وعصفت الرياح.

ولد المؤلف في البحرين ولم تذكر لنا المصادر تاريخ ولادته ، ولا مسقط رأسه من قرى البحرين ، والمظنون أنه ولد في قرية «سترة» وهي القرية التي ينسب إليها ، نشأ في البحرين ، وتعلّم فيها ، وتخرج بعلمائها وخصوصا والده وهو أيضا من العلماء الاعلام ، فعلّ وانتهل حتى ارتوى ـ وان كان طالب العلم لا يشبع نهمه ولا تروى غلته ما دام يتنسم روح الحياة ـ فاصبح عالما يشار إليه بالبنان ، وفقيها يرجع إليه في الأحكام ، ثم بدا له أن يهاجر الى مطرح من بلاد عمان لحاجة الناس إليه هناك ، ولكثرة العلماء في البحرين

فحلّ بينهم ، يهذب النفوس ، ويشحذ الافكار ، ويطهّر القلوب ، ويدعو الى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وهدى الله به الى الحقّ أمّة من الناس ، حتّى قيل : إنه تحوّل بسببه الى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أكثر من ثلاثين ألفا ، وصار له هناك من جليل الآثار ، وصالح الأعمال ما يذكر به ، ويشكر عليه.

ثم بعد ما أصاب هدفه ، ونال قصده تحوّل الى «لنجه» أحد مواني إيران الشمالية ، ليواصل دعوته فقام فيها بما قام به في سابقتها ومكث فيها بقيّة أيامه حتّى لقي ربّه مسموما من قبل اعداء الله الذين كبر عليهم ما يدعوهم إليه ، فكان أحد «شهداء الفضيلة» وذلك في شهر جمادى الاولى سنة ١٣١٩ ه‍. فكان يومه مشهودا ، وكان لفقده رنة حزن وأسى من كلّ من عرف فضله ، واستضاء بنور علمه ، تغمده الله برحمته ، وحشره مع من يتولاه.

أمّا آثاره العلمية فهي :

١ ـ رسالة عمليّة في الطهارة والصلاة.

٢ ـ رسالة في الفرق بين الاسلام والايمان.

٣ ـ رسالة في التوحيد.

٤ ـ رسالة في نقض الاختيار في الإمامة.

٥ ـ رسالة في وجوب الاخفات في البسملة في ثالثة المغرب والركعتين الأخيرتين من العشاء.

وقد نقض هذه الرسالة الشيخ صالح بن أحمد البحراني رحمه‌الله.

٦ ـ رسالة في التقيّة.

٧ ـ رسالة في المتعة.

٨ ـ قامعة أهل الباطل في الردّ على محرّمي الشعائر الحسينيّة. ط

٩ ـ أجوبة المسائل المسقطيّة.

١٠ ـ لسان الصدق في الردّ على بعض أحبار النّصارى.

١١ ـ منار الهدى وهو هذا الكتاب الذي بين يديك وقد قرّظه الشيخ علي البلادي صاحب كتاب «أنوار البدرين» بقوله :

هذا «منار الهدي» حقّاً وذا علمه

هذا لسان الهدى صدقا وذا قلمه

فالزم محجّته ، واسلك طريقته

تلقى النجاة يقينا حين تلتزمه ... الخ.

استقينا هذه الترجمة من كتاب «شهداء الفضيلة» للشيخ عبد الحسين الاميني صاحب كتاب «الغدير» ، وكتاب «أنوار البدرين» للشيخ علي البلادي ، «والذريعة» لآغابزرك الطهراني ، وما نقله لي شفاها كلّ من سماحة العلّامة الجليل السيد جواد الوداعي ، والخطيب الفاضل الشيخ محمد صادق العصفور وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

بيروت ٢٠ محرم الحرام سنة ١٤٠٥.

عبد الزهراء الحسيني الخطيب

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الغني لذاته ، والمتوحد بصفاته ، والمتفرد في افعاله الذي لم يشاركه احد في صنع مخلوقاته ، ولم يوازره وزير في إنشاء برياته ، الذي لم يخلق الخلق عبثا ، ولا فطر السموات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (١) الذي لم يكلف عباده شططا ، ولم يتركهم سدى ، ولم يعذب أحدا من خلقه حتى يبعث إليهم رسلا يدلونهم على طريق الهدى ويصدّونهم عن سبيل الرّدى تقوم له بهم على العباد الحجة ، وتستبين بهم المحجة لئلا تكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، والصلاة والسلام على من ختمت به النبوة وكملت به الرسالة ووضحت به الدلالة ، وقامت به الحجة وتمت به النعمة واجتمعت به الكلمة وحصلت به الالفة ، وائتلفت به القلوب المختلفة ، وانتظمت به أمور الناس بعد المباينة والفرقة ، واتفقت به الاهواء المتشتتة ، والآراء المتشعّبة ، ولم الله به الشعث وشعب به الصدع ، وآمن به السبل ، وصدّق به الرّسل ، وفضله على جميع من خلق ونسخ بشرعه أديان من سبق وانزل عليه قرآنا مجيدا وفرقانا حميدا ، اقام به الأود (٢) وهدى به الى الرشد وسوى به العوج ، وفك به من الرنج (٣) امام المتقين

__________________

(١) سورة ص : ٧.

(٢) الأود ـ بالتحريك ـ : الاعوجاج.

(٣) العوج ـ بكسر ففتح ـ : الالتواء وعدم الاستقامة ، والرتج ـ بالتحريك ـ : المغلق.

وسيد المرسلين وشفيع يوم الدين سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله النبي الأمي ، وعلى آله البررة الاخيار الناسجين على منواله ، والمقتفين اثره في افعاله واقواله ، حجج الله على بريته ، وخلفاء رسوله على امته الحافظين لكتابه وسنته والعاملين باحكام شريعته والمطهرين من مقارفة معصيته ، والمنزّهين عن ارتكاب مخالفته الذين ماز (١) الله بولايتهم الخبيث من الطيّب ببديع حكمته كما قال في محكم كتابه (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ...) (٢) ففرض ولاءهم على لسان نبيه الكريم الامين فامتاز به الغث من السمين ، وابى عن حمله من خبثت طينته من الاشقياء وسارع لحمله وقبوله من سبقت له من الله الحسنى ، وعلى اصحابه المنتهين إلى امره والمنزجرين بزجره ما هدل الحمام (٣) وهطل الغمام.

اما بعد :

فيقول المفتقر الى فيض ربه السبحاني علي بن عبد الله بن علي البحراني ألهمه الله تقواه واتاه هداه : إن أمر الامامة والإمام ، مما شاع فيه بين الأمة الجدال والخصام ، وطال فيه البحث والكلام ، وبذل كل فريق جهدهم في اثبات ما ذهبوا إليه ، واجهد كلّ قوم انفسهم في تقوية ما اعتمدوا عليه ، فكم جمع اصحابنا المتقدمون فيه من مصنف فائق ، وكم حرر اسلافنا الصالحون فيه من مؤلف رائق اقاموا في تلك الصحف والمصنفات على صحة مذهبهم الادلة الواضحة ، واظهروا عليها البراهين اللائحة ، التي انجلى غبارها وسطع منارها مما فيه كفاية كل طالب ومنتهى رغبة كل راغب بحيث لم تبق لقائل مقالة ولا لمتعلل علة ولا لخصم

__________________

(١) ماز ـ هنا ـ بمعنى : فزر.

(٢) آل عمران : ١٧٩.

(٣) هدل الحمام هديلا : صوّت.

عذر الا مكابرا مال عن التحقيق وتنكب قصد الطريق بالشبهة وحاد بسوء النظر عن سواء المحجة فتاه في فيافي الضلالة ، وارتكس في غمرات الفتنة ممّن جعل شهوة نفسه امام عقله ، وصير الخطأ صوابا بجهله واقتصر من الدليل على حقية مذهبه وتصحيح طريقته على تقليد الاسلاف وحسن الظن فيمن تحقق منهم لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الخلاف ، ممن حقت عليهم كلمة العذاب بتركاضهم (١) في مهاوي الشك والارتياب وتهافتهم على الدنيا تهافت الفراش والذباب ، فخالف الرشاد على عمد وسلك فج الهلاك مقدرا للسلامة والنجاة ، وليس اعراض المعاند عن الهدى بناقض للحق ولا حجاج المكابر بمبطل للصدق ولا انكار الجاحد بموهن لما اقامه اصحابنا من الدليل ولا بمبهم لما اوضحوه في تلك الزبر من نهج السبيل ، بل كان ما زبروه كافيا وما رقموه شافيا ، وانما انكره من انحرف فهمه كما ينكر الماء العذب من انحرف مزاجه والداء انما هو منه لا من الماء ، فشكر الله مساعيهم الجميلة وضاعف مثوباتهم الجزيلة ، وجعلنا من المنتظمين في سلك عقدهم والواردين صافي وردهم ، بيد (٢) ان التصنيف الحادث لا يفقد فائدة اهملها الأولون والتأليف الجديد لا يعدم التنبيه على دقيقة اغفلها السابقون ، لاستغنائهم عن ايرادها في ذلك الزمان وتجدد الحاجة إليها في هذه الأزمان ، فلذا تجشمت هذه الخطة وخضت هذه اللجة وولجت هذه الغمرة ، مع قلة البضاعة وكثرة الاضاعة ، ومكابدة المحن ومعاناة صروف الزمن وتوارد الهموم وتتالى الغموم وغربة

__________________

(١) التركاض : مبالغة في الركض ، واستعاره لسرعة خواطرهم في الضلال.

(٢) بيد : اسم ملازم للاضافة الى «أنّ» ومعموليها ومعناه : غير إلّا أنه لا يقع الا منصوبا ، ولا يقع صفة ، ولا يستثنى إلا استثناء منقطعا تقول : فلان كثير المال بيد أنه بخيل ، وقد تكون بمعنى : من أجل كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أنا أفصح من نطق بالضاد بيد أني من قريش) أي من أجل أني من قريش والمراد بالمتن المعنى الأول.

الديار والابتلاء بمعاشرة الاغمار (١) ومصاحبه الاغيار وكثرة الحساد ومقاساة الامور الشداد ، فصنفت هذا الكتاب المحتوي على اثبات النص على مولانا امير المؤمنين ابي الحسن علي بن أبي طالب واولاده الاحد عشر المعصومين صلوات الله عليهم اجمعين بالإمامة ، معتصما بالله ومتوكلا عليه في الاسعاف ، والاعانة على ما طلبت والتسديد والارشاد الى ما قصدت ، فلا حول ولا قوة الا به ، ولا انتصار الا بنصره ، ولا التجاء الا الى منيع عزه ، ولا استمداد الا من الهامة ولا استعانة على امر الا بمعونته وتوفيقه ، ورغبت إليه ان يجعله للمسترشدين مرشدا وللسائلين منجحا ، وللسالكين سبيل الانصاف هاديا ، وان يجعله لي في القيامة ذخرا ، وإليه مقربا وان يجعلني لثوابه مستحقا ، ويجعل لي به عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسيلة وقربا ، ويزرع لي به في قلوب المؤمنين ودا انه مجيب الدعوات ومعطي الامنيات ، واقتصرت في مقام الحجة على ذكر ما صح عند الخصوم من دليل عقل معروف عدله ، او آية محكمة فيها بيان الامر وفصله ، أو خبر ثبت في صحاح اخبارهم والمعول عليه من كتبهم ، مما وضح معناه ودليله وبان جده وزال هزله ، ولم اذكر في خلال المباحث حديثا من طرقنا خاصة الا لمرام اخر كالبيان لاصحابنا ما يدل على قولنا من احاديث ائمتنا (عليه‌السلام) لتزداد بصيرتهم كما ذهبت حيرتهم لا لأحتج به على الخصم فانه لا يجوز الاحتجاج على احد الا بما يعتقد صحته ويسلم حجيّته ، وذلك سبيل الانصاف وصراط من جانب الزيغ والاعتساف ، (٢) وقد بذلت فيه جهدي واتعبت فيه كدي وجريت فيه الى غاية مقدرتي ، طلبا لمرضاة الله وتقربا به الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونصرا لدين الله عزوجل ووسمته اذ سميته

__________________

(١) الأغمار ـ جمع غمر بتثليث الغين المعجمة واسكان الميم ـ وهو الجاهل.

(٢) الزيغ : الميل ، والاعتساف : الأخذ على غير الطريق وفي معناه التعسف والعسف أيضا.

ب (منار الهدى في اثبات النص على الأئمة الاثني عشر النجباء) ورتبته على مقدّمة وفصلين مستعينا على تحقيقه وتنميقه برب الثقلين.

اللهم افتح لي ابواب فضلك وانشر علي من خزائن علمك ، اللهم زدني علما وفهما واشرح لي صدري ويسر لي امري ، وثبت قدمي واعصم من الزلل والخطل قلبي ، (١) واجر الحق على لساني انك ذو الفضل العظيم ، بحق نبيك الكريم وآله الابرار أولى الشرف القديم وبحق من عظمت قدره من خلقك يا رب العالمين.

__________________

(١) الخطل : المنطق الفاسد المضطرب.

المبحث الأول

في بيان معنى الإمامة

في بيان معنى الامامة ، قد عرفها المتكلمون وحدوها : بأنها رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني خلافة عن النبي ، فخرج بقيد العموم مثل رئاسة القاضي وأمير الحاج وامير الجيش وامير بلاد وناحية ورئاسة من جعله الإمام نائبا عنه مطلقا لأنها لا تعم الامام ، وفي الدين والدنيا متعلق تلك الرئاسة ، والمراد بالدنيا هنا ما يتعلق بامر المعاش من اصلاح البلاد وازالة الفساد واخذ الحقوق وغير ذلك ، وبقيد الشخصية تعدد الإمام في العصر الواحد ، فلا يكون مستحق الإمامة في عصر واحد اكثر من امام واحد إذ لا يجوز في عصر واحد إمامان لاستلزامه التكليف بالمحال ، وبيان ذلك : ان الإمام واجب الطاعة على المكلفين البتة ، فلو كانا اثنين في عصر واحد فامر احدهما بأمر ونهى الآخر عنه فانه يجب بحكم الطاعة لهما فعل ذلك المأمور به وتركه في حال واحدة وظاهر ان ذلك محال ، وما يستلزم المحال محال ، ثم يلزم اما ترك طاعتهما معا فيخرجان عن كونهما واجبي الطاعة وامتثال قول احدهما دون الآخر وحينئذ اما ان يكون بغير مرجح والترجيح بغير مرجح قبيح عقلا فهو غير جائز ، واما ان يكون لمرجح فكان واجب الطاعة بالمرجح هو الإمام البتة (١) ، وخرج الآخر عن كونه إماما وهو المطلوب ،

__________________

(١) البتة : الأمر المقطوع به وينصب على المصدر.

وبعبارة اخرى : لو كان في عصر واحد إمامان واجبا الطاعة فامر احدهما بشيء ونهى الآخر عنه فاما ان يجب امتثال امرهما معا فيجب فعل ذلك الشيء وتركه في حال واحدة وذلك ممتنع لامتناع اجتماع الضدين ، او عدم امتثال امرهما معا فيكون من هو واجب الطاعة محرمة طاعته في حال واحدة هذا خلف او ترجيح قول احدهما بغير مرجح وهو قبيح او تقديم قول احدهما لمرجح فيكون هو الإمام ويخرج الآخر عن الإمامة لعدم وجوب طاعته فلما كان في اجتماع امامين في عصر واحد لزوم المحال او خلاف المفروض من طاعة الإمام والترجيح بدون المرجح وجب وحدة الإمام في الزمان الواحد ، ولذا ورد عن مولانا ابي عبد الله جعفر بن محمد (عليه‌السلام) انه سئل : أيكون إمامان في عصر واحد؟ قال : (لا الا واحدهما صامت) (١) ومن هذا بطل ما ينقل عن الزيدية من جواز نصب امامين في عصر واحد كل واحد في ناحية (٢) ، وهذا لا يرفع التناقض ولا يزيل المحذور إن لم يزده لو فرض صدور امر كل منهما الى اهل ناحية الآخر بشيء وصدر من الآخر نهى اهل ناحيته عنه على تقدير طاعة اهل الناحيتين لكلا الامامين واستشراء الفساد بعصيان كل من اهل الناحيتين لإمام الأخرى عند طلبه منهم الطاعة فيحدث القتال ويشيع الجدال ، ومن هذا علم بطلان ما قيل : ان غاية الامر انه لا بد في كل اجتماع من رئيس مطاع منوط به النظام والانتظام ، لكن من اين يلزم عموم رئاسته جميع الناس وشمولها امر الدين والدنيا على ما هو المعتبر في الإمام؟ مع انه اجاب عنه اهل الاختيار : بانا نعلم ان انتظام امر الدين والدنيا على جهة العموم على وجه يؤدي الى الصلاح فيهما مفتقر الى رئاسة عامة لأنه لو تعدد الرؤساء في الاصقاع والبقاع لادّى الى منازعات ومخاصمات

__________________

(١) الكافي (الأصول : كتاب الحجة) ١ / ١٣٦.

(٢) نقله عن الزيدية الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ١٥٥.

تؤدي الى اختلال النظام ، ولو كانت الرئاسة مقصودة على الدنيا لفات انتظام امر الدين الذي هو المقصد الاهم من الإمامة انتهى.

فان قيل : نفرض اتفاق الأئمة في الأمر والنهي فيزول المحذور ، قلنا : انتم تجعلون الإمام كواحد من المجتهدين فهذا الفرض غير ممكن الحصول على قولكم لأن اتفاق المجتهدين في جميع احكام الدين وامور الدنيا مما لم يقع ولا يقع ابدا على ان التزام هذا الفرض يقتضي الحكم بوحدة الإمام ، لأن الآمر والناهي على قولكم واحد والباقين موافقون له في الحالين تابعون لأمره ونهيه فيكون هو الإمام واولئك اتباعا له فهم من جملة الرعية المطيعين فلا تعدد على هذا في الإمام اذ لا رئاسة لمن لا يأمر ولا ينهي الا تبعا لغيره ،.

وبالجملة فالمعتمد هو وجوب وحدة الإمام في العصر واستقلاله بالنهي والامر وعموم رئاسته على جميع المكلفين.

وبقيد الإنسان يخرج الملك وغيره فلا يكون الملك إماما قال الله تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (١) وورد عن ابي جعفر الباقر (عليه‌السلام) : (ان لله لم ينزل ملائكة يجعلهم في الأرض حكاما وانما جعل ذلك من البشر ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (٢)) واذ امتنع ان يكون الرسول ملكا امتنع ان يكون الإمام كذلك للاولوية او للاشتراك في العلة وهي عدم قيام الحجة على المكلّفين باتيان الملك بما هو خارق للعادة لعدم ثبوت كونه معجزا لاحتمال انه من قدرة الملك لا من فعل الله لتصديقه في دعواه الرسالة لأن قدرة البشر تعجز عن قليل من قدرة الملك فلم يكن في اتيانه بما يعجز عنه البشر معجزة تقوم بها الحجة على صحة رسالته وغير ذلك من العلل ليس هنا

__________________

(١) الأنعام : ٩.

(٢) يوسف : ١٠٩.

مقام بيانها ومحله مبحث النبوة ، وهذا يتمشى على قواعدنا من اشتراط المعجزة في الإمام كالنبي ، وعلى قواعد غيرنا للسمع والأولوية ، او لأنه نائب عن النبي فيجب ان يكون من نوعه او علة اخرى.

وبقيد الخلافة خرجت النبوة ، وفي بعض الحدود نيابة عن النبي والمعنى واحد ، ونقل عن بعض الفضلاء انه عرف الامامة بانها رئاسة عامة في امور الدين والدنيا لشخص انساني بحق الاصالة ، قيل : واحترز به عن نائب يفوّض إليه الإمام عموم الولاية فان رئاسته عامة لكن ليست بالاصالة ، واجيب بان النائب المذكور لا رئاسة له على امامه فليست رئاسته بعامة فتخرج بقيد العموم ولا يحتاج في اخراجها من الامامة الى ذكر الاصالة ، وجعل بعض الافاضل موضع خلافة عن النبي في الحد لفظ بحق النيابة عن النبي أو بواسطة بشر وكلاهما يؤدي مؤدّى لفظ الخلافة عن النبي الا ان الأول يزيد عليه بالتصريح باخراج الامامة بالاختيار من الحد حيث اخذ حق النيابة قيدا للرئاسة ولا يعلم ان النائب تحق له النيابة عن النبي الا بنصه عليه ، وظني ان هذا التقييد زائد عن مفهوم الإمامة من حيث هي هي ، فان كون الإمامة مشروطة صحتها بالنص أم تصح بالاختيار امر اخر وراء مفهوما وحقيقتها.

واما الثاني : وهو قوله بواسطة احد من البشر فلا يقتضي اكثر من كون الإمام منصوبا من قبل احد من البشر وهذا لا ينفي الاختيار في الإمامة فيرجع في نفسه فيها الى أمر اخر وهو ما سنذكره من الادلة على بطلان الاختيار ، على ان كلّا من لفظ الخلافة والنيابة يقتضي النص عندنا لزوما لأن مرادنا من الإمامة الصحيحة ولا تكون كذلك الا باستخلاف النبي واستنابته ولا يكون ذلك الا بنصه فيكون بحق في قوله بحق النيابة مستغني عنه لانه مؤكد لا مؤسس.

ثم ان الامامة تجامع النبوة فان كل نبي امام ، وقد تكون مجرّدة عن النبوة كامامة الأئمة في هذه الأمة لختم النبوة بنبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا نبي بعده ، والإمامة في النبي من حيث النبوة غير الإمامة من حيث النيابة عن النبي لثبوت الأولى بثبوت النبوة وعدم احتياجها الى امر اخر واحتياج الثانية الى نصب النبي اذ ليس كل نبي نائبا عن الذي قبله والا لتعددت النواب لكثرة الأنبياء في الأمم السالفة والمعلوم خلافه ، فان موسى ما كان وصيه الا يوشع بن نون وداود لم يكن وصيه الا ابنه سليمان وكذا غيرهما من الأنبياء كل نبي يوصي الى واحد بعينه فيكون خليفته مع تعدد الأنبياء في تلك الأزمان وان جميعهم ائمة من حيث النبوة لأن كل نبي امام وليس كل امام من حيث النيابة نبيا والا لامتنعت الامامة في نواب نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لامتناع النبوة فيهم ولذا احتاج موسى في استخلافه اخاه هارون إلى نصه عليه بقوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (١) ولم يكف في نيابته عنه كونه نبيا مرسلا معه ، فظهر ان الإمامة من حيث النيابة عن الأنبياء منفكة عن الامامة من حيث النبوة وبالعكس ، وان حيثيّة احدهما غير حيثية الاخرى واختلاف الحيثيات كاف في اختلاف الحقائق وتغاير المفهومات وان اجتمعتا في الوجود في شخص واحد كاجتماعهما في هارون واشباهه من الأنبياء الذين كانوا نوابا عمن كان قبلهم من الأنبياء بنصبهم لهم واستخلافهم اياهم على اممهم في انفاذ الاحكام واقامة امر الدين كشيث وسام واسماعيل واسحاق وغيرهم ، وبين الامامتين عموم وخصوص من وجه.

وأيضا للإمامة مفهومان آخران قال الشيخ ابو علي في مجمع البيان : «المستفاد من لفظ الإمام امران احدهما انه المقتدى به في افعاله واقواله ، والثاني : انه الذي يقوم بتدبير الامة وسياستها والقيام بامورها

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

وتأديب جناتها وتولية ولاتها واقامة الحدود على مستحقيها ومحاربة من يكيدها ويعاديها ، فعلى الوجه الأول لا يكون نبي من الأنبياء الا وهو امام ، وعلى الوجه الثاني لا يجب في كل نبي ان يكون إماما اذ يجوز ألا يكون مأمورا بتأديب الجناة ومحاربة العداة والدفاع عن حوزة الدين ومجاهدة الكافرين» انتهى (١) ، وانت خبير بأن الإمامة المذكورة في الحد شاملة للوجهين المذكورين لانها رئاسة في الدين والدنيا فتخرج النبوة بقيد الخلافة او النيابة ، ثم ان الإمامة على ما هي مذكورة في الحد هي الملك العظيم المذكور في قوله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٢) فالكتاب النبوة ، والحكمة العلم والملك العظيم الامامة وهي عبارة عن فرض الطاعة على المكلّفين وهو معنى الرئاسة العامة وفي قوله تعالى في شأن داود : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) (٣) جمع الله له النبوة والرئاسة العامة كما جمعهما من قبله لموسى (عليه‌السلام) ومن بعده لابنه سليمان كما جمعا لنبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واختص نوابه بالثاني لأن النبوة قد ختمت به والرسالة قد كملت برسالته فلا نبي بعده ولا شريعة بعد شريعته ، وقد انكر تقسيم الشيخ ابي علي (رحمه‌الله) في زماننا هذا من لم يعرف معنى الإمامة وزعم ان النبي لا يلزم ان يكون إماما مطلقا وهو مع ذلك يدعى انه من العارفين لكنه جاهل جهله ولا عبرة بمثله.

ثم اعلم أيضا ان للإمام تقسيما اخر وهو اما ان يكون الإمام إماما ليس عليه امام او يكون إماما وعليه امام.

والأول : يختص باهل الشرائع الست وهم آدم ونوح وابراهيم وموسى

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٢٠١.

(٢) النساء : ٥٤.

(٣) البقرة : ٢٥١.

وعيسى ومحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنهم أئمة الامم وليس على واحد منهم امام يأتم به.

والثاني : يشتمل على ما سواهم من الأنبياء والأئمة لرجوع الجميع منهم الى شرائع الستة المذكورين فقد حصل الاتفاق على انحصار الشرائع المبتدأة والناسخة في تلك الست وان لا شريعة غيرها ، روى الشيخ الجليل ثقة الإسلام ابو جعفر محمد بن يعقوب الكليني بالسند عن ابن ابي يعفور (١) قال سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول : (سادة النبيين والمرسلين خمسة وهم أولو العزم من الرسل وعليهم دارت الوحى نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وعلى جميع الأنبياء) (٢). وروي بسنده عن درست بن ابي منصور (٣) قال : قال ابو عبد الله (عليه‌السلام) : (الأنبياء والمرسلون على اربع طبقات فنبي منبأ في نفسه لا يعدو غيرها ، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة ولم يبعث الى احد وعليه امام مثلما كان ابراهيم على لوط ، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك وقد ارسل الى طائفة قلوا او كثروا كيونس قال الله تعالى ليونس (وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ

__________________

(١) ابن ابي يعفور هو ابو محمد عبد الله الكوفي من اصحاب الامام الصادق (عليه‌السلام) وكان كريما عليه ومات في أيامه ، وقد أثنى عليه الصادق (عليه‌السلام) في حياته وبعد مماته وهو القائل للصادق (عليه‌السلام) : والله لو فلقت رمانة بنصفين وقلت : هذا حرام وهذا حلال لشهدت أن الذي قلت حلال حلال وأن الذي قلت حرام حرام ، قال رحمك الله رحمك ، ونبزه أبو يوسف القاضي بالميل الى الرفض فبكى عبد الله حتى سالت دموعه وقال : نسبتني الى قوم أخاف ان لا اكون مهم ، وكان عبد الله قارئا يقرئ في مسجد الكوفة ، وبعد من كبار فقهاء الشيعة ، وثقاة رواتهم ، ومن الأوائل من مؤلفيهم.

(٢) الكافي (الأصول : كتاب الحجة) ١ / ١٣٤.

(٣) درست بن ابي منصور الواسطي قال الشيخ الطوسي في الفهرست : ص ٦٩ : «له كتاب».

أَوْ يَزِيدُونَ) (١) قال يزيدون ثلاثين الفا وعليه امام ، والذي يرى في نومه ويعاين في اليقظة وهو امام مثل اولى العزم ... الخبر) (٢) والاخبار عن ساداتنا في هذا المعنى كثيرة مودعة في محالها ولا حاجة الى التطويل بنقلها لوضوح المقام عند اولى الافهام وغير خفي عليك ان الإمام المبحوث عنه هنا من القسم الثاني لكون إمامته خلافة عن النبي.

__________________

(١) الصافات : ١٤٧.

(٢) الكافي (الأصول : كتاب الحجة) ١ / ١٣٣.

المبحث الثاني :

في نصب الامام هل هو واجب أم لا؟ وعلى تقدير وجوبه فهل هو واجب على الله أو على المكلفين؟ وهل هو من جهة العقل أو السمع ، وقد اختلف الناس في ذلك فذهب الأشاعرة والمعتزلة والزيدية الى وجوبه على الخلق ثم اختلفوا فقال : الأوّلون سمعا ، وقالت المعتزلة والزيدية : عقلا ، وقال الحرورية : انه غير واجب مطلقا (١) وقال ابو بكر الأصم (٢) من المعتزلة انه يجب مع الخوف وظهور الفتن ولا يجب مع الآمن لعدم الحاجة إليه وقال الفوطي (٣) واتباعه : يجب مع الآمن لاظهار شعائر الشرع ولا يجب عند ظهور الفتن لأن الظلمة ربما لم

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ١١٦.

(٢) ابو بكر الأصم من شيوخ المعتزلة ومن اصحاب الفوطي ورأيه في الامامة كرأي الفوطي ويقول ـ كما نقل عنه الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٧٢ ـ : «الامامة لا تنعقد إلا باجماع الأمة عن بكرة أبيهم» قال الشهرستاني : «وانما اراد الطعن في إمامة علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ كانت بيعته أيام الفتنة» ولا أدري أي خليفة قبل علي بن أبي طالب انعقدت بيعته بالاجماع!!

(٣) هشام بن عمرو الفوطي كما ضبطه ابن حجر في لسان الميزان ٦ / ١٦٤ «بضم الفاء واسكان الواو» نسبة الى بيع الفوط ـ كصرد ـ ثياب تجلب من السند أو مآزر مخططة واحدتها فوطة او هي لغة سندية. وغلط من كتبه بالغين المعجمة ظنا منه ان النسبة الى غوطة دمشق وهو من المعتزلة وامام فرقة منهم تسمى الهشامية وكان يجوز قتل واغتيال المخالف لمذهبه واخذ اموالهم لاعتقاده كفرهم توفي سنة ٢٢٦.

يطيعوه وصار سببا لزيادة الفتن (١) وذهب اصحابنا الامامية الى انه واجب على الله عقلا وهو المعتمد وعليه المعول ، ولنا في ذلك وجوه :

الأول : ان كل ما دل على وجوب النبوة من الفوائد التي من جملتها معاضدة النقل فيما يدل عليه العقل ، واستفادة الحسن والقبح في الافعال التي لا يهتدي العقل الى مواقعها وحفظ النوع الانساني وتكميل اشخاصه وتعليم الأخلاق الفاضلة والسياسات الكاملة ورفع الاختلاف عنهم في امر دينهم ودنياهم ، وغيرها مما ذكر هناك فهو دال على وجوب الامامة لأنها خلافة عنها والامام خليفة النبي في جميع منازله الا في تلقي الوحي بلا واسطة احد من البشر فان ذلك مخصوص بالنبي ، ولو لم تجب الامامة بعد النبوة لزالت فائدة البعثة لأن النبي اذا ارتحل من الدنيا الى جوار الملك الأعلى ولم يجعل الله له خلفا يقوم بتلك المصالح ويقرر تلك الفوائد ويجمع الأمة عن شتات الكلمة رجع الناس بعد النبي الى الاختلاف واستعمال الآراء المؤدي الى الخلط في الدين ، وذهاب الألفة وتشتيت الكلمة لاستغناء كل برأيه واتباع كل مريد شيء هواه ، فيرجع الأمر من الصلاح الى الفساد ، وتضعف قواعد شريعة النبي لكثرة الاختلاف فيها وتذل تلك الملة لافتراق اهلها وعدم تناصرهم كما نشاهده في هذا الزمان الذي منع الناس فيه انفسهم اللطف باخافة الامام من استيلاء الكفرة اللئام على اهل الاسلام وابطالهم احكام شريعة سيد الانام وقعود المسلمين عن جهادهم لعدم اجتماعهم وتعاونهم وما ذاك الا لعدم رجوعهم الى رئيس مطاع مأمون على الدين ، ومعلوم على هذا ان فوائد البعثة مع عدم نصب امام لا تبقى بل تزول وتفنى فوجب على الله في حكمته نصب الامام لابقاء فوائد النبوة كما وجب في الحكمة احداث النبوة لحصول تلك الفوائد والعقلاء يجزمون بأن ما وجب إحداثه لادراك مصلحة يجب ابقاؤه

__________________

(١) ذكر ذلك بمعناه الشهرستاني في الملل والنحل : ١ / ٧٢.

أو احداث ما يقوم مقامه لاستبقاء تلك المصلحة.

الثاني : ان الامام لطف من الله في حق عبادة لأنه يقرب الى الطاعة ويبعد عن المعصية ، وبيانه ان الناس اذا كان لهم رئيس مطاع يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الطاعات كانوا معه الى الطاعة اقرب ومن المعصية أبعد منهم بدونه وذلك هو الامام فيكون لطفا واللطف واجب على الله تعالى ، والمعتزلة يوافقونا في وجوب اللطف على الله والأشاعرة ينفونه بناء على اصلهم من نفي الحسن والقبح العقليين وقد ابطل اصحابنا هذا الأصل وهدموه بما لا مزيد عليه من القول في مبحث العدل ، وليس هذا الموضع محل ذكره فليطلب من موضعه ، على انه يكفي في بطلان قولهم قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١) فانه واضح في وجوب اللطف على الله تعالى ، واعترض مخالفونا على هذا الدليل بأن الامام إنما يكون لطفا اذا خلا عن المفاسد كلها وهو ممنوع ، لأن اداء الواجبات وترك الحرام مع عدم الامام اكثر ثوابا لكونهما اقرب الى الاخلاص لانتفاء كونهما من خوف الامام والجواب من وجوه.

الأول : القدح في العلة فان اداء الواجب على وجهه وترك الحرام من جميع جهاته لا يحصل بدون الامام.

الثاني : منع اكثرية الثواب في اداء الواجب وترك الحرام بدون الامام لقربه الى الاخلاص لاحتمال إرادة الرياء او خوف المسلمين ان يسقطوا منزلته لا سيما اذا كان الشخص من اولي المناصب فليس عدم الامام بكاف في قرب العمل الى الاخلاص.

__________________

(١) طه : ١٣٤.

الثالث : انه لو كان احتمال الخوف من الامام في اداء الواجب وترك الحرام مفسدة توجب خروجه عن كونه لطفا لكان احتمال الخوف من النبي في اظهار كلمة الاسلام وفعل الواجب وترك الحرام مفسدة توجب خروجه عن كون بعثته لطفا لاشتراك العلة فيهما فيجب الا يبعث نبي واللازم باطل بالاتفاق فالملزوم مثله ، على ان اللطف كما علمت هو ما يحصل به الحث على الطاعة والردع عن المعصية ولا يبلغ الى حد الالجاء فالخوف منه في اداء الواجب وترك الحرام هو نفس كونه لطفا فكيف يكون مخرجا له عن اللطف؟ فحاصل هذا الاعتراض أن اللطف ليس بلطف ولا خفاء في تناقضه فالاعتراض به باطل من أصله غير محتاج الى الجواب عنه ، والعجب من القوشجي (١) كيف اعترض به على الدليل ثم عقبه بقوله : ولو سلم فانما يجب لو لم يقم لطف اخر مقامه كالعصمة مثلا لم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الامام ، والجواب ان هذا الفرض معلوم الاستحالة كما نعلم استحالة ان يكون زمان يكون الناس جميعهم فيه مؤيدين بالوحي السماوي والالهام الإلهي والعصمة فيكونون مستغنين عن النبي لوجهين :

الأول : ان النفوس البشرية ليست بجملتها ذوات ذكاء وفطنة بحيث تكون قابلة للهداية بدون واسطة ولا ذوات قوة ونباهة بحيث يشرق عليها نور العرفان فتستغني به في ترك القبيح عن مؤدب كما هو المشاهد في الأمصار والأعصار ، بل كثير من النفوس كالحشرات لا تقبل التعليم ولا التأديب كما قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٢) فاين الجميع من

__________________

(١) القوشجي : علاء الدين علي بن محمد من علماء الدولة العثمانية له تصانيف منها «شرح التجريد» المشهور بالشرح الجديد ، وكل ما نقله المؤلف في هذا الكتاب عن القوشجي منقول من الشرح المذكور توفي سنة ٨٧٩ بمدينة القسطنطينية (استانبول).

(٢) الفرقان : ٤٤.

العصمة بل من العدالة!.

الثاني : ما ورد في الكتاب العزيز من الأخبار عن اكثر الناس بعدم الايمان تارة وعدم العلم اخرى وعدم الفقه ثالثة وتخصيص الشاكرين بالأقل مطلق غير مقيد بوقت مثل قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) الى غير ذلك من الآيات الموجبة للقطع بامتناع هذا الفرض بل بامتناع حصول العدالة لجميع الناس فيكون ما فرضه غير واقع دائما ، ثم لو سلمنا امكان وقوع الفرض عقلا لرددناه بمقتضى العادة المستمرة المفيدة لليقين ، وبيان ذلك انا انما نتكلم على ما جرت به العادة الموجبة للقطع بان ذلك الفرض وهو عصمة جميع الناس لم يحصل فيما مضى من الأزمنة ولا يحصل فيما يأتي لتساوي الأزمان واشخاص النوع الانساني وحذو هذه الأمة حذو من سبقها من الأمم كما افصح عنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما صح من الأخبار (٢) ، فكان العلم بامتناع عصمة جميع الناس من جهة العادة جاريا مجرى العلم بامتناع عصمة جميع الناس من جهة العادة جاريا مجرى العلم بامتناع انقلاب أواني الجمادات وصيرورتها رجالا كاملين علماء ومشايخ مهذبين فضلاء من جهتها ، وان كان غير ممتنع ذلك في قدرة الله تعالى فعلم أنه لا لطف يقوم مقام الامام ، بل تعيّن انحصار اللطف فيه ، فوجب في حكمة الله نصبه لأن الاخلال بما وجب في الحكمة قبيح لا يصدر من الحكيم ، فان حصل زمان تنخرق فيه العادة ويعصم الناس فيه عن آخرهم حكمنا باستغنائهم عن الامام من هذا الوجه لا من جميع الوجوه لكن

__________________

(١) ما بين القوسين أبعاض آيات من : هود : ١٧ ، والأنعام : ٣٧ ، وآل عمران : ١١٠ وسبأ ١٣ وص ٢٤.

(٢) يشير الى الحديث الذي رواه الامام احمد في المسند ٤ / ١٢٥ : (ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم اهل الكتاب حذو القذة بالقذة).

ذلك لا يحصل ابدا فالحاجة الى الامام حاصلة دائما ، هذا كله مع ان العلم بالتجاء العقلاء في جميع الأعصار والامصار الى نصب الرؤساء في حفظ نظامهم وضبط احوالهم دال على انتفاء طريق سوى الامامة وعدم قيام غير الامام مقامه ، والا لكانوا يلتجئون إليه ويتمسكون به ، ومن هذا يعلم انحصار اللطف عند العقلاء في الامام فيتعين وجوبه ، وعلم من جميع ما ذكرنا امتناع الفرض المذكور عقلا وسمعا وعادة ، ومنه يتضح صحة ما قاله رئيس المحققين نصير الدين (١) في التجريد من معلومية انتفاء المفاسد وانحصار اللطف في الامام للعقلاء (٢) ، وقول القوشجي انهما مجرد دعوى فاسد ناش عن غير تأمل وقال أيضا في الاعتراض على دليلنا : «وأيضا انما يكون لطفا اذا كان الامام ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح قادرا على تنفيذ الأحكام واعلاء لواء الاسلام ، وهذا ليس بلازم عندكم فالامام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف والذي هو لطف ليس بواجب» والجواب المعارضة بالأنبياء فان النبي لطف ولم يشترط في كونه لطفا قدرته على الزجر عن القبائح وقهره على الطاعة ولم تبطل نبوته وإمامته بعصيان العصاة ، فانا نعلم باخبار الكتاب العزيز ان نوحا. وهودا ولوطا (عليهم‌السلام) عصاهم قومهم ولم يقدروا على الزجر عن القبائح وانفاذ الأحكام ، وان ابراهيم خليل الرحمن القاه قومه في النار ليحرقوه ، وان هارون عصاه بنو اسرائيل وعكفوا على عباده العجل

__________________

(١) نصير الدين الطوسي محمد بن الحسن الفيلسوف المتكلم المجمع على فضله ولد بطوس سنة ٥٩٧ وتوفي ببغداد سنة ٦٧٢ ودفن في رواق المشهد الكاظمي في تربة كان الخليفة الناصر لدين الدين العباسي قد أعدها لنفسه ولكنه لم يدفن بها وقبر الطوسي مزور مشهور له كتب منها «تجريد الاعتقاد» شرحه جماعة من العلماء كالعلامة الحلي بكتاب «كشف المراد» كما شرحه القوشجي بكتابه المعروف بالشرح الجديد وكثيرا ما ينقل المؤلف عن هذين الكتابين.

(٢) لاحظ «شرح تجريد الاعتقاد» للعلامة الحلي ص ٢٨٥.

ولم يستطع كفهم عن ذلك ، وموسى طلبه فرعون ليقتله ومن معه ولم يقدر على مدافعة فرعون واضطر الى عبور البحر ، وان عيسى بن مريم اراد اليهود قتله فرفعه الله ، وغيرهم من الأنبياء الذين اوذوا وقتلوا وكلهم لم يكونوا متمكنين مما ذكره من القهر والزجر والقدرة على تنفيذ الأحكام واعلاء لواء الاسلام (١) اما دائما أوفى اكثر الأحوال ومع هذا لم تبطل نبوتهم وإمامتهم في حال من الأحوال ولا كان عدم تمكنهم واقتدارهم على ما ذكره وسطره مخرجا لهم عن كونهم الطافا ولا مقتضيا للقدح في إمامتهم ، واذا لم يكن عدم القدرة على انفاذ الأحكام واعلاء لواء الدين موجبا لخروج النبي عن كونه لطفا من الله في خلقه لم يكن ذلك مبطلا للطفيّة خليفته لتساويهما في كونهما معا منصوبين من قبل الله تعالى فلا يخرجان عن الامامة بعصيان الخلق ، وقد علمت ان نبينا محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد كذبه قومه كأبي جهل وأبي لهب وأبي سفيان واضرابهم من رؤساء قريش وارادوا قتله واخافوا سبيله وجهدوا انفسهم في ذلك حتى الجئوه تارة الى الحصار واخرى الى الغار والهجرة عن الوطن إلى الدار (٢) ورمته العرب عن قوس واحدة وبذلوا جهدهم في قتله وقتل من معه افترى انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين كان غير متمكن من الزجر عن القبائح ولا من اعلاء لواء الاسلام وغير قاهر اولى العصيان ليس بنبيّ ولا امام وليس بلطف من الله في الأنام فيكون قد بطلت بذلك نبوته وزالت إمامته ولطفيته؟ ما اراك تقول ذلك ولا ترضى به ، بل تقول نبوته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبطلها تكذيب المكذبين وإمامته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يفسدها عصيان العاصين ، وكونه

__________________

(١) لا يريد بالاسلام هنا شريعة خاتم الأنبياء (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما اشارة الى (الاسلام دين الفطرة) ، (ملّة أبيكم ابراهيم هو سماكم المسلمين).

(٢) يريد بالدار المدينة المنورة قال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ). الحشر / ٩.

لطفا لم يزله عناد المعاندين ، واذا لم تقل بان عدم التمكن والقهر في النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قادح في صحة نبوته ولا مبطل لفرض إمامته ولا مخرج له عن اللطف لزمك القول بان عدم التمكن مما ذكرته أيضا غير قادح في إمامة وصيه ولا مزيل للطفية خليفته لاتحاد العلة ، ثم انا نعلم ان التكليف لطف لأنه زاجر عن القبيح وحاث على الطاعة ، وهو عبارة عن امر ونهي وانه لا يخرجه عن اللطفية عدم عمل المكلفين بمقتضاه ، وخروجهم من حدوده ، ومن ذا يتبين أن عمل الناس بمقتضى اللطف واجابتهم اياه ليس بشرط في كون اللطف لطفا؟ فعدم حصوله لا يبطل لطفيّة اللطف فالامام لا يبطل لطفيته عدم تمكنه من الأمور التي ذكرها المعترض لعصيان الرعية ، فما ادعينا وجوبه لطف فيكون واجبا ، وهذا الجواب هو الحاصل من كلام جماعة من قدماء اصحابنا كالصدوق (١) وابن قبة (٢) في ابطال تلك الشبهة واجاب اصحابنا المتأخرون كنصير الدين الطوسي وجمال الدين الحلي (رضي الله عنه) (٣) عنها بان وجود الامام لطف تصرف او لم يتصرف لقيام حجة الله

__________________

(١) الصدوق : الشيخ ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه رئيس المحدثين له نحو من ثلاثمائة مصنف توفي بالري سنة (٣٨١) وقبره هناك مشهور مزور.

(٢) ابن قبة ـ بكسر القاف وفتح الياء وتخفيفها ـ ابو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي من فقهاء الامامية ومتكلميهم صاحب كتاب «الأنصاف» في الامامة ينقل عنه العلماء في كتبهم كالمفيد في «المحاسن» والمرتضى في «الشافي» كان في ابتداء امره من المعتزلة ثم تحول الى الامامية ، وقد حمل هذا الكتاب ابو الحسين السوسنجردي ـ وهو من علماء الامامية أيضا ـ الى بلخ وعرضه على أبي القاسم البلخي من شيوخ المعتزلة ، فنقضه البلخي بكتاب «المسترشد» فعاد به السوسنجردي الى ابن قبة فنقضه بكتاب «المستثبت» فعاد به الى الري فوجد ابن قبة قد توفي رحمه‌الله وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده ١ / ٣١٠.

(٣) جمال الدين الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة ولد سنة ٦٤٨

على عباده به ولأن المكلف اذا علم بوجود امام في العالم يجوز ظهوره وتسلطه على الرعية فيعاقب العصاة ويؤدب الجناة كان الى فعل الطاعة والانزجار عن المعصية اقرب منه اذا علم انتفاء وجوده فيحصل من وجوده اللطف وان لم يتصرف ، وتصرفه الظاهر لطفا آخر لا يفوت الأول بفواته وعدمه انما جاء من قبل المكلفين وسوء اختيارهم حيث اخافوا الامام وتركوا نصرته ففوتوا انفسهم مصلحة تصرفه في انفاذ الأحكام واقامة الحدود واخذ الحقوق واعزاز الدين وحماية الاسلام والمسلمين حتى الجئوه الى الاستتار والغيبة.

وحاصل هذا الوجه ان الواجب على الله في الحكمة ايجاد الامام ودلالة العباد عليه وليس يجب على الله تصيير العباد منقادين لحكم الامام ومطيعين لأمره ، بل الواجب في حكمة الله امرهم بطاعته والواجب عليهم الانقياد له والتسليم لامره والرضا بحكمه ونصرته على من ناواه ، وقد قال تعالى لنبيه : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) والله سبحانه قد فعل ما وجب في حكمته فاوجد الامام ودل عليه وامر بطاعته بقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) والعباد لم يفعلوا ما وجب عليهم من الطاعة للامام فكان فوات اللطف الظاهر وهو تصرف الامام منهم ولذا قال بعض المحققين : «التحقيق ان اللطف في امر الامامة يتم بامور منها ما يجب على الله تعالى وهو خلق الامام وتمكينه من القدرة والعلم والنص عليه باسمه ونسبه وهذا قد فعله الله تعالى ، ومنها ما يجب على الامام وهو تحمله الامامة

__________________

وتوفي سنة ٧٢٦ بالحلة وحمل الى النجف الأشرف ودفن في حرم امير المؤمنين (عليه‌السلام) وقبره عن يمين الداخل من الباب الشمالية من ابواب الإيوان الذهبي وهو معروف.

(١) النساء : ٦٥.

(٢) النساء : ٥٩.

وقبوله لها وهذا قد فعله الامام ، ومنها ما يجب على الرعية وهو المساعدة والنصرة له وقبول اوامره وامتثال قوله وهذا لم يفعله الرعية ، فكان اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الامام» انتهى فتبين ان وجود الامام لطف على الاستقلال غير متوقف على التصرف فبطل بذلك ما قال القوشجي : «بانا لا نسلم ان وجوده بدون التصرف لطف» لانا قد بينا ان مسارعة العبد الى الطاعة وانزجاره عن القبيح بسبب علمه بوجوده وامكان تصرفه اقرب منه اذا علم عدمه لأنه اذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره ويترقب تصرفه فيمتنع من القبائح ، وذلك هو اللطف.

واما قوله : «بان مجرد الحكم بخلقه وايجاده في وقت ما كاف في هذا المعنى فان ساكن القرية اذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان مختف في القرية لا اثر له كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم ان السلطان يرسله إليها متى شاء» ففاسد لأن محصله ان علم المكلف بقدرة الله تعالى على ايجاد امام في وقت من الأوقات وتمكينه من التصرف قائم مقام وجوده في حصول الخوف للمكلف فيحصل به اللطف ولا يحتاج في ذلك الى كون الامام موجودا ، وفساده من وجوه.

الأول : ان ما فرضه خوف من المعدوم ولا خفاء ان الخوف من المعدوم غير حاصل للعقلاء بخلاف الخوف من الموجود المترقب ظهوره فان الخوف منه حاصل فكان لطفا دون الأول ، فقوله بعد : «وليس هذا خوفا من المعدوم بل موجود مترقب» عدول عما فرضه ومغالطة في القول فان الفرض انه ليس بموجود لكن يمكن وجوده واما اذا كان موجودا كان هو عين ما فرضناه لا ما فرضه.

الثاني : ان المكلف لو علم أنّ في القرية حاكما مختفيا من جهة السلطان سيظهر ويعاقب على فعل القبيح يكون دائما خائفا من اطلاعه عليه اذا فعل

قبيحا لعلمه بوجوده وعدم معرفته بعينه وتصوره ان انكاره فعل القبيح لا ينفعه اذا ظهر ذلك الحاكم لاطلاعه عليه بخلاف ما اذا علم خلو القرية منه ولم يبق الا علمه بامكان وجوده فيما بعد فانه لا يرتدع عن القبيح لذلك لتمكنه من الانكار عند وجود ذلك الحاكم وهذا ظاهر عند العقلاء فاللطف يحصل بما فرضناه دون ما فرضه للفرق الظاهر بين الحالين.

الثالث : ان ما ذكره لا يتمشى على قواعدهم لأن نصب الامام عندهم ليس من الله بل من المكلفين فلا امام على قولهم يترقب نصبه من الله فلا لطف حاصل بالمرة ، وقد علم من هذا ان اللطف منحصر في وجود الامام وان العلم بامكان ايجاده لا يقوم مقام وجوده فثبت ان وجوده لطف فهو واجب في حكمة الله ووضح سلامة الدليل من الخدش فيه ، كل هذا مع ما في كلامه من التدافع فانه فيما مر عليك من قوله ابطل لطفية الامام بخوف المكلف منه في اداء الطاعة فمقتضى كلامه هناك ان الامام لا يكون لطفا اذا كان متمكنا من ردع العاصين ومعاقبة الجانين فيكون لطفية مشروطة بعدم تصرفه ثم هو هنا يقول ان الامام لا يكون لطفا الا اذا كان متصرفا قاهرا زاجرا عن القبيح ، فما جعله هنا شرطا في كون الامام لطفا جعل ضده هناك شرطا في ذلك ، وهذا تناقض واضح فيكفي في بطلان قوليه تضادهما وتنافيهما.

الثالث (١) : من ادلتنا انه لا شك ان الله تعالى انظر لخلقه منهم لأنفسهم وأرأف بهم وأرحم بهم منهم على انفسهم ، وليس من نظر الله لهم ورأفته عليهم ورحمته بهم ان يتركهم هملا ويهملهم سدى كالغنم لا راعي لها بل مقتضى الرحمة والرأفة بهم يوجب في حكمة الله ان ينصب لهم من يقيم أودهم (٢) ويجمع كلمتهم ويهتدون الى سبيل النجاة بضياء علمه وينزجرون

__________________

(١) أي من الأدلة على أن نصب الامام واجب على الله تعالى لطفا منه.

(٢) الأود ـ بالتحريك ـ : الاعوجاج.

عن القبيح بنافذ حكمة ويقتدون في امر دينهم ودنياهم بقوله وفعله وذلك هو الامام ، فنصب الامام واجب في الحكمة بمقتضى نظر الله لخلقه ورأفته بهم وهو المطلوب ، وهذا الوجه لبعض متكلمينا من اصحاب ابي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) (١) ولا قدح باحتمال قيام ايجاب الله على العباد نصب الإمام لحصول الفوائد المذكورة مقام نصبه لهم إماما في حصول الرأفة بهم لأن ذلك مناف للرأفة للعلم بأن تفويض الأمر الى الخلق مما يوجب لهم الاختلاف والنزاع المؤدي الى الفساد واختلال النظام لاختلاف الآراء وميل الأهواء فيميل كل قوم الى شخص غير الذي اختاره غيرهم فيقع الخصام ويشيع الجدال فيما بينهم فلا يتم الغرض المطلوب بل تصير الرحمة بذلك نقمة وهو خلاف المراد.

احتج القائلون بوجوب نصب الامام على العباد عقلا بأن في نصب الرئيس دفعا للضرر عن انفس الخلق ودفع الضرر واجب عقلا اما الأولى فظاهرة لأن الخلق اذا لم يكن لهم رئيس يحسم مادة النزاع فيما بينهم ويأخذ للضعيف من القوى انتشر أمرهم وفشا الفساد فيهم ، واما الكبرى فمعلومة والجواب انه لا نزاع في كون الامامة دافعة للضرر وكون دفع الضرر واجبا انما النزاع في تفويض الأمر الى اختيار الخلق فانا لا نسلم كون الامامة على هذا الوجه دافعة للضرر لاختلاف الخلق في تعيين الامام فيؤدي الى الضرر المطلوب زواله كما قدمناه فالواجب جعل ذلك الى الله تعالى على ان الاختيار في الامامة سنبطله إن شاء الله تعالى في محل الكلام عليه بادلة واضحة.

واحتج القوشجي للأشاعرة بوجوه قال :

الأول : وهو العمدة اجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك اهم الواجبات

__________________

(١) هو هشام بن الحكم في مناظرة له مع عمرو بن عبيد في مسجد البصرة (انظر سفينة البحار ٢ / ٢٦٦ مادة «عمر».

واشتغلوا به عن دفن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكذا عقيب موت كل امام ، روى انه لما توفي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خطب أبو بكر فقال : «يا ايها الناس من كان يعبد محمدا ، فان محمدا قد مات ، ومن كان يعبد رب محمد فانه حي لا يموت ، لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله»

وهذه الحجة فاسدة من وجوه.

الأول : ان دعوى الاجماع من الصحابة على المبادرة الى تعيين الامام ونصبه خطأ فاحش فقد صح في روايات قومه واهل مذهبه ان الذين بادروا الى ذلك الانصار وثلاثة من المهاجرين ابو بكر وعمر وابو عبيدة ومضوا ينازعون الانصار في سقيفة بني ساعدة حتى غلبوا عليهم وجميع المهاجرين غيرهم لم يحضروا ذلك الأمر ولا بادروا إليه وهم وجوه الصحابة واعلم الصحابة على (عليه‌السلام) وهو وجميع بني هاشم واشياعهم يشتغلون بجهاز النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودفنه عن ذلك الأمر ، فاين اجماع الصحابة على المبادرة الى نصب الامام واشتغال جميعهم به عن دفن الرسول كما ادعاه؟ فلو كان نصب الامام على الرعية واجبا لكان احق الناس بالمبادرة إليه علي بن ابي طالب وشيعته مثل عمه العباس ، وسلمان وابي ذر والمقداد واضرابهم ، ولو كان مبادرة الثلاثة والانصار الى المنازعة في الخلافة حقا لما تأخر علي (عليه‌السلام) وشيعته لأنه مع الحق والحق معه ولما قعد عنه أكابر الصحابة عندهم كعبد الرحمن بن عوف وسعد بن ابي وقاص والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان وأشباههم فلا اجماع منهم على ما ذكره المحتج.

الثاني : ان الذين بادروا الى عقد الامامة من الصحابة الذين ذكرناهم لم يكن غرضهم ما ذكره من تعيين الامام لكونه واجبا وانما كان غرضهم امرا

دنيويا ، أما الانصار فسارعوا الى ذلك خوفا من أن تلي الخلافة قريش فيأخذوا منهم ثار من قتله الانصار من رجال قريش في حروب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأما الثلاثة المذكورين فبادروا الى ذلك خوفا من خروج الأمر من ايديهم وولاية الأنصار عليهم ، ولم يكن احد الفريقين طلب بما اراد امرا دينيا ولا وجها شرعيا كما ادعاه في الحجة ، وقد روى ما ذكرناه جميع من روى اخبار الصحابة كأبي بكر الجوهري (١) ومحمد بن جرير الطبري (٢) ويحيى بن جابر البلاذري (٣) وغيرهم من رجال العامة وثقاة محدثيهم وها نحن نذكر بعض ما رواه مما يصرح بما قلناه وينطق بما إليهم نسبناه ، قال ابو بكر الجوهري : اخبرنا احمد بن اسحاق بن صالح ، قال : حدثنا عبد الله بن عمر عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال : لما توفي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجتمعت الأنصار الى سعد بن عبادة فاتاهم ابو بكر وعمر وابو عبيدة فقال الحباب بن المنذر : منا امير ومنكم امير والله ما ننفس هذا الأمر عليكم ايها الرهط ولكنا نخاف ان يليه بعدكم من

__________________

(١) ابو بكر الجوهري احمد بن عبد العزيز عالم محدث له كتاب «السقيفة» ينقل عنه ابن ابي الحديد كثيرا في «شرح نهج البلاغة».

(٢) أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب «التفسير الكبير» والتاريخ الشهير وغيرهما من الكتب مثل كتاب «الولاية» الذي جمع فيه طرق (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) حتى اندهش الذهبي لما اطلع عليه لكثرة طرقه ، كما له طرق حديث الطير توفي سنة ٣١٠ ودفن ليلا لغضب الحنابلة عليه لأنه لم يذكر الامام احمد بن حنبل في اختلاف الفقهاء وكان يقول : «لم يكن أحمد فقيها وانما كان محدّثا» وقد قسمت أوراق مؤلفاته على أيام عمره منذ بلغ الحلم فلحق كل يوم اربع عشرة ورقة.

(٣) يحيى بن جابر البلاذري أبو جعفر كاتب شاعر مترجم له من الكتب «فتوح البلدان» و «انساب الأشراف» وهو احد النقلة من الفارسية الى العربية كان مقربا عند المتوكل والمستعين والمعتز توفي سنة ٢٧٦.

قتلنا ابناءهم وآباءهم واخوانهم فقال عمر بن الخطاب : اذا كان ذلك قمت ان استطعت ، فتكلم ابو بكر فقال : نحن الأمراء وانتم الوزراء والأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة (١) فبويع (٢).

وروى الطبري في التاريخ حديثا طويلا فيه ذكر السقيفة وذكر الفلتة من كلام عمر وفيه حكاية عمر قول ابي بكر للأنصار : يا معشر الأنصار انكم لا تذكرون فضلا الا وانتم له اهل ، وان العرب لا تعرف هذا الأمر الا لقريش اوسط العرب دارا ونسبا وقد رضيت لكم احد هذين الرجلين يعني عمر وأبا عبيدة ـ الى ان قال ـ : فلما قضى ابو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال : «انا جذيلها المحكّك : وعذيقها المرجب (٣) منا امير ومنكم امير» وارتفعت الأصوات واللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر : ابسط يدك ابايعك فبسط يده فبايعته وبايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم قتلتم سعدا فقلت : اقتلوه قتله الله ـ الى ان قال ـ : خشيت ان فارقت القوم ولم يكن بيعة ان يحدثوا بعدنا بيعة فاما ان نبايعهم على ما لا نرضى او نخالفهم فيلوث فيكون فسادا ـ (٤) وفي رواية ابي بكر الجوهري من حديث احمد بن اسحاق عن احمد بن سيار عن سعيد بن كثير الأنصاري بعد كلام ابي بكر للأنصار فقال الأنصار : ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم ، ولا احد

__________________

(١) الأبلمة : الخوصة.

(٢) نقل ذلك عن الجوهري ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٣. ونقل البخاري في صحيحه ٤ / ١٩٤ في كتاب فضائل المهاجرين قريبا من ذلك.

(٣) جذيل ـ تصغير جذل ـ : وهو عود بنصب للإبل الجربى لتستشفي للاحتكاك به ، المحكّك : الذي كثر الاحتكاك به حتى صار أملس ، والعذيق تصغير عذق ـ بالفتح ـ والمرجب : المدعوم بالرجبة ، وهي خشبة ذات شعبتين تدعم بها النخلة اذا طالت وثقل حملها والمعنى أني ذو رأي شاف مثمر وقائل ذلك هو الحباب بن المنذر.

(٤) تاريخ الطبري ٤ / ١٨٢٣ طبع ليدن حوادث سنة ١١.

احب إلينا ولا ارضى عندنا منكم ، ولكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم ونحذر ان يغلب على هذا الأمر من ليس منا ولا منكم (١) الى آخر ما ذكر ، فهذه الأخبار وغيرها من احاديثهم ناصة على ان غرض المسارعين الى عقد الامامة ليس ما ذكره المحتج من اداء الواجب الذي هو تعيين الإمام ، وانما كان غرضهم ما ذكرناه عنهم من الأمور الدنيوية ، وتنطق بأن الثلاثة الذين حضروا مع الأنصار من المهاجرين كان مطلبهم الا يلي الأمر غيرهم وليسوا قاصدين امرا وراء هذا من الأمور الراجعة الى الدين فقط كما قال ، وأيضا لو كان غرض من سارع الى عقد الامامة امرا دينيا لم يكن لإعراضهم عن المجلس الذي اجتمع فيه الناس لتجهيز الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجه إذ جلوسهم في ذلك المجلس لم يكن مانعا لهم من اجالة الرأي وادارة المشورة فيما بينهم في تعيين الامام وعقد البيعة له هناك على برد ورضا فتركهم ذلك المجلس ومخاصمتهم في السقيفة وما جرى لهم من النزاع فيها المؤدى الى قول عمر : اقتلوا سعدا قتله الله وقول الحباب بن المنذر : ان شئتم لنعيدنها جذعة (٢) وقوله : والله لا يرد على احد ما اقول الا حطمت انفه وغير ذلك من الأقوال الغليظة المذكورة في الأحاديث التي نقلنا منها ما تقدم وغيرها دليل على ان القوم قصد كل منهم المغالبة والاستبداد بالأمر وانهم سارعوا إليه قبل ان يعقد لغيرهم فيفوتهم ما طلبوا من الرئاسة لأداء ما وجب عليهم من تعيين من يصلح للامامة وكل هذا ظاهر لمن نظر في الأخبار نظر متأمل ، فاذا كان أغراض القوم هي ما عرفت من المطالب النفسية والشهوات الدنيوية كيف يكون فعلهم اصلا يبني عليه القواعد الشرعية ، وحجة يعتمد عليها في الأصول الدينية؟ هذا بعيد من التحقيق وناء عن نظر أهل النظر بواد سحيق.

__________________

(١) انظر شرح نهج البلاغة : ٦ / ٨.

(٢) جدعة : فتية.

الثالث : ان الكلام الذي ذكره من قول أبي بكر وجواب الصحابة له على الوجه المذكور مما لا اصل له ولا ورد في شيء من اخبارهم على هذا النهج (١) بل اخبارهم ناطقة بان بيعة ابي بكر لم تكن عن مشاورة ومناظرة وانما كانت مغالبة ووقعت فلتة واجماع الناس على ذلك وما تقدم من الأخبار شاهد به ويكفيك من ذلك قول عمر على صهوة المنبر : ان بيعة ابي بكر فلتة (٢) وغيرها من الأخبار روى الجوهري في خبر سعيد بن كثير قال : لما قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة ، ثم ذكر كلام سعد وما ردوا عليه من الإجابة الى توليته وما ترادوه بينهم من الكلام ـ الى ان قال ـ : فأتى الخبر عمر فأتى منزل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فوجد أبا بكر في الدار وعليا في جهاز رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان الذي أتاه معن بن عدي (٣) فاخذ بيد عمر وقال : قم فقال عمر أني عنك مشغول فقال انه لا بد من قيام فقام معه فقال له : ان هذا الحي من الأنصار قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة معهم سعد بن عبادة يدورون حوله انت المرجّي ونجلك المرجى وثم اناس من اشرافهم وقد خشيت الفتنة فانظر يا عمر ما ذا ترى واذكر لإخوتك واحتالوا لأنفسكم فأتى انظر الى باب فتنة قد فتح الساعة الا أن يغلقه الله ، ففزع عمر اشد الفزع حتى اتى أبا بكر

__________________

(١) أي على الوجه الذي سماه القوشجي عمدة الاجماع.

(٢) قول عمر (رضي الله عنه) : «كانت بيعة أبي بكر فلتة» رواه البخاري في صحيحه ٨ / ٢٥ في كتاب المحاربين من أهل الكفر والردة ، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت وابن هشام في السيرة ٤ / ٢٢٦ والطبري في التاريخ ٣ / ٢٠٠ وابن الأثير في النهاية مادة «فلت» والمحب في الرياض النضرة ١ / ١٦١ وابن حجر في الصواعق المحرقة ص ٥ و ٦ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٣ و ٢٦ عن تاريخ الطبري.

(٣) معن بن عدي البلوي حليف الأنصار صحابي شهد المشاهد كلها وقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر (اسد الغابة ٥ / ٤٠١).

مع عمر فحدثه الحديث ففزع ابو بكر اشد الفزع وخرجا مسرعين الى سقيفة بني ساعدة ، وساق الكلام الواقع في السقيفة من خصام ابي بكر وصاحبيه للأنصار (١).

وقال ابو بكر الجوهري : سمعت أبا زيد عمر بن شبة يحدث رجلا بحديث لم احفظ اسناده قال : مر المغيرة بن شعبة بابي بكر وعمر وهما جالسان على باب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قبض فقال ما يقعد كما قالا : ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه يعنيان عليا (عليه‌السلام) فقال أتريدون ان تنتظروا خيل الحلبة (٢) من هذا البيت وسعوها في قريش تتسع (٣) قال فقاما الى سقيفة بني ساعدة او كلاما هذا معناه وغير ذلك من اخبارهم المصرحة بخلاف ما ذكره هذا المحتج والناطقة بمغايرته ، على ان جميع اصحاب السيرة رووا كلام ابي بكر بعد قول عمر : ان رسول الله لم يمت ولا يموت حتى يظهره الله على دينه قالوا جميعا : فجاء ابو بكر وكشف عن وجه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : بأبي وامي طبت حيا وميتا والله لا يذيقك الله الموتتين ثم جزع والناس حول عمر وهو يقول لهم : انه لم يمت ويحلف فقال : ايها الحالف على رسلك ثم قال : من كان يعبد محمدا فان محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٤) وقال : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٥) هذا كلامه الذي نقله جميع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٦.

(٢) في شرح النهج «حبل الحبلة» هكذا بتقديم الباء على اللام وقال الاستاذ محمد ابو الفضل ابراهيم : «الحبلة في الأصل الكرم ، قيل في معناه حمل الكرمة قبل أن تبلغ ولعله كناية عن صغر عليّ».

(٣) شرح النهج ٦ / ٤٣.

(٤) الزمر : ٣٠.

(٥) آل عمران : ١٤٤.

اهل السيرة من اوليائه (١) وليس فيه مما ذكره القوشجي من طلب ابي بكر من الصحابة تعيين الامام واجابتهم له بما ذكره هناك حرف واحد وما ذكرناه دليل واضح على ان القول المذكور لم يقع وانه شيء افتعله القوشجي من نفسه او غيره من متكلميهم ليصلحوا به أمرهم ، ويقووا به مذهبهم ، فلا حجّة فيما ذكر اذ لم يرد به خبر ، ولا وجد له في كتب الأخبار اثر ، والكذب لا تقوم به الحجة الشرعية عند اولي الألباب ، ومما بيناه استبان انه لا استشارة ولا جواب فضلا عن أن يكون وقع اتفاق من الصحابة على تعيين الامام ، وحصول الإجماع.

الرابع : ان خبره لو صح لكان مناقضا لغرضه ومعاندا لمطلبه لأن فيه بعد كلام أبي بكر وطلبه من القوم تعيين الامام قالوا : صدقت لكنا ننظر في هذا الأمر ، وهذا القول دال على التأني والمهلة لا على المسارعة والعجلة كما لا يخفى على من له اطلاع وممارسة بكلام العرب ومحاوراتهم ، فما احتج به الرجل على مراده مخالف له فلا يصح له الاحتجاج به لو صح وروده فكيف ودون ذلك اهوال؟ ومما ذكرنا من الوجوه يعلم يقينا اجتثاث اصل هذا الدليل وانقلاع أساسه وانطماس رسومه واعتفاء أثره مع أنه العمدة عندهم فزال عمادهم وبطل إليه استنادهم.

الثاني : (٢) من ادلته ان الشارع امر باقامة الحدود ، وسد الثغور ، وتجهيز الجيوش ، للجهاد وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام وحماية بيضة الاسلام مما لا يتم الا بالامام وما لم يتم الواجب المطلق الا به وكان مقدورا فهو واجب على ما مر.

الجواب من وجهين (٣).

__________________

(١) نقل هذا الاجماع ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ٤٠.

(٢) أي من ادلة القوشجي على أن نصب الامام واجب على الخلق.

(٣) أي الجواب على ما انتصر به القوشجي للأشاعرة.

الأول : منع توجه الخطاب بذلك لعامة المكلفين ابتداء ، بل الخطاب متوجه به كذلك الى الأئمة والمكلفون مأمورون بطاعتهم ومعاونتهم عليه ومنهيون عن التخلف عن امرهم فالخطاب به توجه إليهم بواسطة وجوب مؤازرة الأئمة عليهم في ذلك كله فهو خطاب ثانوي وقوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) على القتال (١). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) (٢) وقوله تعالى : (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) (٣) وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤). وغيرها من الآيات الجارية هذا المجرى وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما استفاض : (لي عليكم أن لا تأمروني ولا ان تنهوني وإنما عليكم ان تسمعوا وتطيعوا) شواهد صدق على ما قلناه ، اذ الإمام في ذلك كله كالنبي لأنه خليفته فليس على المكلفين تعيين من يتوجه له الخطاب من الشارع بذلك كما انه ليس عليهم أن يعينوا شارعا يتوجه له الأمر من الله به ، بل على الشارع تعيين شخص لذلك كما كان على الله تعالى أن يبعث شارعا بما يريد من الشرع واستقلال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته بتأمير الأمراء دليل على أن تعيين الأمير العام من بعده له وعليه لا للرعية ولا عليهم والا لفوض لهم ذلك في حياته فتبين أن عامة الناس ليسوا بمأمورين بتلك الأمور المذكورة على الاطلاق وبذلك بطل الدليل.

الثاني : إن التكليف بذي المقدمة بواسطة التكليف بذيها مشروط بقدرة

__________________

(١) النساء : ٨٤.

(٢) التوبة : ٧٣.

(٣) التوبة : ١٢٠.

(٤) النور : ٦٣.

المكلف عليها كما ذكره في دليله وأما إذا لم يكن المكلف قادرا عليها كالوقت للصلاة والاستطاعة للحج والنصاب للزكاة لم يكلف بها ولا بذيها ، بل يكلف به اذا حصلت وتحصيل الامام غير مقدور للمكلفين من جهتين.

الأولى : انه يشترط في الامام المنصوب ان يكون مرضيا عند الله للامامة ومعرفة المرضي عند الله لذلك من دون نص عليه متعذرة على سائر المكلفين لعدم اطلاعهم على الغيب وانقطاع الوحي بموت النبي وعدم المؤيد على قول المستدل بالهام من الله وتفهيم وكون الظن لا يغني من الحق شيئا ولأن الظاهر قد يخالفه الباطن فربما يختار المكلفون من يؤدي نصبه الى الفساد المطلوب ازالته من نصب الامام وهم يظنون انه صالح فلا يكون لله رضا وحيث كان معرفة من يصلح للامامة عند الله ويكون نصبه لله رضا غير مقدور للرعية لم يجز أن يكونوا مأمورين به فبطل الدليل ، اللهم إلا أن يقولوا إن الامام لا يلزم ان يكون مرضيا عند الله ولا موسوما بالصلاح للامامة لديه فحينئذ نجيبهم ونقول : فما الفرق بين هذا الامام وبين الملوك المتغلبين على العباد بالقهر والجبر ، وأي فائدة في نصب هذا الامام للدين ، وأي مصلحة في حكومته للمسلمين ، وكيف يجوز طاعة من لم يكن مرضيا عند الله للأمر والنهي؟ على أنه لا يتم به الواجب المطلق لعدم قيامه بجميع الوظائف الشرعية ولسنا نتكلم في مثل هذا ولا موضع للقول فيه ولا اعتناء لنا بشأنه ولا حاجة لنا في ذكره الا بما يذكر أمثاله كنمرود وفرعون.

الثانية : ان الامام المرضي عند جميع المسلمين يستحيل أن يكون واحدا بعينه باتفاق لاختلاف الآراء وتشعب الأهواء وميل كل فرقة الى اختيار شخص لا سيما عند كثرة المسلمين وانتشارهم في البلاد وقبح الجبر فيما سبيله الاختيار وعدم جواز ترجيح اختيار البعض على البعض الآخر لفقد المرجح فأين قدرة المكلفين على تعيين واحد بعينه وما يختاره قوم يأباه قوم آخرون؟ وحديث ابي بكر مع الأنصار في السقيفة وما جرى بينه واصحابه وبين علي

(عليه‌السلام) والزبير ومن معهما وحديث غضب طلحة وتابعيه لنص ابي بكر على عمر وعدم رضا علي (عليه‌السلام) والزبير ومن معهما او حديث غضب طلحة وتابعيه لنص أبي بكر على عمر وعدم رضا علي (عليه‌السلام) وجملة من الصحابة كعمار والمقداد وامثالهما ببيعة عثمان وعدم انقياد جماعة كثيرة لعلي (ع) ظنا منهم أن إمامته ببيعة من بايعه كالأولين دليل واضح وبرهان لائح على انه لم يل الخلافة من رضي به جميع أهل الحل والعقد من المسلمين ولا امكن لأحد تحصيل رضاهم بامامته فكيف يكلفون بما لا يمكن حصوله او يكلف أحدهم بما لا يمكن له تحصيله وهو رضا غيره باختياره فيقال له صير غيرك راضيا بما تختار ثم يكلف ذلك الغير بتصيير الأول راضيا بما يختار والأمران متقابلان والتكليفان متعاندان ولا يحصل بالقطع واليقين الا بالاكراه وتحكيم حد الحسام واعمال ماض السنان في الرءوس والأجسام ، واين هذا من الرضا المطلوب والاختيار المقصود؟ فبان ان نصب الامام على وجه لا يستلزم شيئا من المفاسد غير مقدور للانام فبطل تكليفهم به المدعى.

الثالث : من ادلتهم ان في نصب الامام استجلاب منافع لا تحصى واستدفاع مضار لا تخفى وكل ما هو كذلك فهو واجب أمّا الصغرى فتكاد ان تكون من الضروريات بل من المشاهدات وتعد من العيان الذي لا يحتاج الى البيان وذلك لأن الاجتماع المؤدي الى صلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح ويمنع ما تتسارع إليه الطباع وتتنازع إليه الأطماع ، وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن بمجرد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ورعاية البيضة وان لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ولم يخل عن شائبة شر وفساد ، ولهذا لا ينتظم امر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس لا يصدرون إلا عن رأيه ومقتضى أمره ونهيه ، بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم كالنحل لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم به أمرها ما دام فيها واذا هلك انتشرت الأفراد

انتشار الجراد وشاع فيما بينهم الهلاك والفساد ، واما الكبرى فبالاجماع.

والجواب اما المنافع الكثيرة في نصب الامام فامر معلوم وكذلك ان حفظ النظام منوط به وبدونه يختل أمر الدين وليس هذا محل النزاع ، واما دعوى تفويض الله نصبه الى الأمة الذي هو موضع النزاع فغير مسلمة على انها هي مطلوبهم والدليل غير ناهض بها ولا واف باثباتها وانما غايته الدلالة على وجوب نصب امام يحصل به النفع ويدفع به الضرر ، وعلى هذا يكون لطفا فيكون واجبا على الله تعالى : ولم تكن فيه دلالة على جعل ذلك للعباد ، وهذا المعنى هو المتنازع فيه وأيضا دلّ الدليل على وجوب نصب الامام لاستجلاب المنافع ودفع المضار والمفاسد ، وفي تفويضه الى المكلفين عكس ذلك المراد ونقيض الوجه المطلوب لما ذكرنا سابقا من اختلاف الآراء في الاختيار وميل كل طائفة من الناس الى شخص بعينه غير من مالت إليه الطائفة الأخرى فيقع بين العباد الجدال والخصام ويختل به النظام المطلوب التئامه من نصب الامام وميل كل من الناس الى هواه واخذ كل منهم برأيه ومشتهاه ، لا سيما اذا كان له الخيرة في ذلك وهذا امر مشاهد بالعيان المستغني عن البيان وحصول الفساد بذلك أمر معلوم باللزوم وتسليم الخصوم وقد منعوا به من نصب امامين في زمان واحد ، ومن المعلوم لدى كل فاهم ان الاختلاف والفتنة اللذين نشأ منهما الفساد في هذه الأمة فسفكت الدماء وعطلت الحدود وغيرت الأحكام واختل نظام دين الاسلام انما كانا من جعلهم نصب الامام الى الخلق واختلافهم في الاختيار (١) فتبين ان في جعل تعيين الامام الى الرعية لزوم مفسدة تزول بها المصلحة التي وجب لأجلها نصب الامام وذلك غير جائز على الحكيم ، فالواجب لدفع المفسدة التي لا تحصل المصلحة الا به ان يكون الامام منصوبا من قبل من لا يجوز لأحد من الرعية مخالفته ولا

__________________

(١) قال الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢٤ : «اعظم خلاف بين الأمة خلاف الامامة إذ ما سلّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الامامة في كل زمان».

تسوغ لأحد من الناس معصيته ليكون ذلك حاسما للنزاع وقاطعا لطريق ذوي الأطماع ، وليس كذلك الا من هو منصوب من الله تعالى ، فنصب الامام لذلك يكون واجبا عليه فالدليل ان لم يكن لنا لم يكن علينا.

وأما ما ذهب إليه الخوارج وما قال به ابو بكر الأصم وما ذهب إليه الفوطي واتباعه (١) فهو مع كونه فاسدا بما دل من الأدلة على وجوب الامام مطلقا مبني على جعل تعيين الامام موكولا الى العباد وقد أقمنا البرهان على بطلانه وزيفنا أدلته وهدمنا رفيع بنيانه ، واذا بطل الأصل تبعه في البطلان فرعه لا سيما وحجة الخوارج موجبة لبطلان الاختيار حيث قالوا : «ان في نصب الامام اثارة للفتن لأن الآراء مختلفة والأهواء متباينة فيميل كل حزب الى احد فتهيج الفتن وتقوم الحروب وما هذا شأنه لا يجب بل كان ينبغي ان لا يجوز الا أن احتمال الاتفاق على الواحد أو تعينه وتقرره باستجماع الشرائط وترجيحه من بعض الجهات منع الامتناع وأوجب الجواز» وأنت خبير بأن ما احتملوه غير حاصل ولا حصل فيما مضى فلم يبق الا أن يكون نصب الامام محرما وهو فاسد باتفاق المسلمين وواجبا على الله دون الرعية لازالة الخوف مما ذكروه من هيجان الفتن وقيام الحروب وهو المطلوب وحجة أبي بكر الأصم مبنية أيضا على أن مصلحة نصب الامام مقصورة على ازالة الخوف وتأمين سبل المسلمين وليس بصحيح فان للامام مصالح كثيرة غير ذلك قد مر ذكرها وسيأتي وحجة الفوطي منقوضة بأن من جملة المصالح التي لأجلها نصب الامام ازالة البدع واذهاب الفتن وإماطة الاختلاف وردع اهل المعاصي عنها فلا يكون وجودها مانعا من وجوب نصبه والأمر في ذلك ظاهر.

(فائدة جليلة)

هي فرع ما اصلناه ونتيجة ما أبرمناه ، اعلم أرشدنا الله واياك الى الحق

__________________

(١) مرت آراء الخوارج والأصم والفوطي في أول المبحث الثاني.

ان اصحابنا الامامية وبعض فرق الشيعة قالوا انه لا يجوز خلو زمان التكليف من امام معصوم تقوم به الحجة لله على خلقه وتزاح به علتهم ، وتجتمع به كلمتهم ، وتحصل به الفتهم ، ويدلهم على مراشدهم ويهديهم الى سبيل نجاتهم ، ويبين لهم ما اختلفوا فيه من امر دينهم وينتظم به أمر دنياهم ، وتنجح به مطالبهم ومصالحهم في معاشهم ومعادهم ، ويزول به الشك ويتضح به الحق وترتفع به الحيرة ويقمع به الباطل ويقام به الأود ويثقف به العوج ، ويستبين بنوره طريق الهدى ويستضيئون بضياء علمه في حنادس الجهل وغياهب الظلماء ، ولا يشترط تمكنه ولا على الله تمكينه من اقامة عمود الدين واعزاز دولة الاسلام بنفسه ، بل يجب عليه القيام بذلك مع وجود المعين والناصر وبذل الطاعة ممن يحصل به النصرة والانتصار على الأعداء ، وخالفنا في ذلك مخالفونا القائلون بان نصب الامام من قبل الرعية من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم ، فجوزوا خلو العصر من امام بتلك المثابة على أن مقتضى ادلة الطائفتين كما عرفت وجوب نصب الامام على العباد في كل زمان وان تركه اخلال بالواجب عقلا كما عن المعتزلة أو شرعا كما عن الأشاعرة ، ولازم ذلك ارتكاب الجميع منهم العصيان بتركهم نصب الامام الذي تحصل به حماية حوزة الاسلام ويدفع به الضرر عن المكلفين في جميع الأزمان ، إذ لا نراهم فعلوا ما أوجبوه على أنفسهم والتزموا به في مذهبهم من قديم الأعصار فدخلوا باخلالهم بالواجب عندهم في زمرة العاصين وكانوا بتركهم اياه في عداد الفاسقين ، وحسبك بلزوم الفسق لهم وتوازرهم عليه لاهمالهم ما وجب عليهم بحكمهم دليلا على فساد قولهم وبطلان مذهبهم ، ومن ثم كان الصحيح ما عليه اصحابنا ، ولنا على ذلك مضافا الى الأصل ادلة كثيرة من العقل والنقل.

الأول : انا بينا ان الامام لطف وان اللطف منحصر فيه ، واللطف واجب على الله تعالى والازمان متساوية والمكلفون متماثلون ، فليس زمان

أولى باللطف من زمان ولا مكلف احق به من مكلف آخر وليس يجوز في حكمة الله منع بعض المكلفين اللطف ، فوجب اذن كون الامام موجودا في جميع أزمنة التكليف فلا يجوز على الله تعالى بمقتضى حكمته اخلاء زمان من أزمنة التكليف من امام بالمعنى المذكور وذلك بخلاف النبي فانه وان كان لطفا إلا ان اللطف غير منحصر فيه لقيام الامام مقامه فيما بعث له من المصالح والفوائد فلذا جاز خلو الزمان من رسول حي ولم يجز خلوه من امام ولذا قال العلامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي عطر الله مرقده في بعض كتبه.

«الامامة لطف عام والنبوة لطف خاص لإمكان خلو الزمان من النبي الحي بخلاف الامام» انتهى وللشيخ الصدوق ابي جعفر محمد بن علي بن بابويه في هذا المقام كلام طويل لا بأس بنقل جملة منه لما فيه من الفوائد الجليلة قال روح الله روحه ونور ضريحه : «والفترات بين الرسل (عليهم‌السلام) كانت جائزة لأن الرسل مبعوثة بشرائع الملة وتجديدها ونسخ بعضها بعضا وليس الأنبياء والأئمة (عليهم‌السلام) كذلك ، ولا لهم ذلك لأنه لا ينسخ بهم شريعة ولا تجدد بهم ملة ، وقد علمنا ان بين نوح وابراهيم وبين ابراهيم وموسى وبين موسى وعيسى وبين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وعليهم) أنبياء وأوصياء يكثر عددهم ، وانما كانوا مذكرين لأمر الله مستحفظين مستودعين لما جعل الله تعالى عندهم من الوصايا والكتب والعلوم ، وما جاءت به الرسل عن الله عزوجل الى اممهم ، وكان لكل نبي منهم مذكر عنه ووصي ومودع استحفظ من علومه ووصاياه ، فلما ختم الله عزوجل الرسالة بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يجز ان تخلو الأرض من وصي هاد مذكر يقوم بأمره ويؤدي عنه ما استودعه ، حافظا لما ائتمنه عليه من دين الله عزوجل فجعل الله ذلك سببا لامامة منسوقة منظومة متصلة لما اتصل أمر الله عزوجل لأنه لا يجوز أن تتدارس آثار الأنبياء والرسل

واعلام محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وملته وشريعته وفرائضه وسنته وأحكامه ، أو تنسخ وتخفى عليها آثار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وشرائعه اذ لا رسول بعده ، ولا نبي والامام ليس برسول ولا نبي ولا داع الى شريعة ولا ملة غير شريعة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وملته فلا يجوز بين الامام والامام الذي بعده فترة والفترات بين الرسل جائزة فلذلك وجب أن لا بد من امام محجوج به ، ولا بد أيضا أن يكون بين الرسول والرسول وان كان بينهما فترة امام وصي يلزم الخلق حجته ويؤدي عن الرسل ما جاءوا به عن الله تعالى وينبه عباده على ما اغفلوا يبين لهم ما جهلوا ليعلموا ان الله عزوجل لم يتركهم سدى ولم يضرب عنهم الذكر صفحا ولم يدعهم من دينهم في شبهة ولا من فرائضه التي وظفها عليهم في حيرة ، والنبوة والرسالة سنة من الله جل جلاله والامامة فريضة والسنن تنقطع ويجوز تركها في حالات والفرائض لا تزول ولا تنقطع بعد محمد (صلوات الله عليهم) واجلّ الفرائض واعظمها خطرا الامامة التي تؤدى بها الفرائض والسنن وبها كمال الدين وتمام النعمة فالأئمة من آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه لا نبي بعده يحملون العباد على محجة دينهم ويلزمونهم سبل نجاتهم ويجنبونهم موارد هلكتهم ، ويبينون لهم من فرائض الله عزوجل ما سد عن أفهامهم ويهدونهم بكتاب الله عزوجل الى مراشد امورهم فيكون الدين بهم محفوظا لا يعترض فيه الفسقة وفرائض الله عزوجل مؤداة لا يدخلها ذلل واحكام الله خالصة لا يلحقها تبديل ولا يزيلها تغيير ، فالرسالة والنبوة سنن والامامة فرائض الله الجارية بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لازمة لنا ثابتة علينا لا تنقطع الى يوم القيامة مع انا لا ندفع الأخبار التي رويت انه كان بين محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعيسى (عليه‌السلام) فترة لم يكن فيها نبي ولا وصي ولا ننكرها ونقول انها اخبار صحيحة ولكن تأويلها غير ما ذهب إليه مخالفونا من انقطاع الأنبياء والأئمة

الرسل (عليهم‌السلام) وانما معنى الفترة انه لم يكن بينهما رسول ولا نبي ولا وصي ظاهر مشهور كمن كان قبله وعلى ذلك دلّ الكتاب المنزل ان الله عزوجل بعث محمدا على حين فترة من الرسل لا من الأنبياء والأوصياء ولكن قد كان بينه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبين عيسى انبياء وائمة مستورون خائفون منهم خالد بن سنان العبسي نبي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر لتواطؤ الاخبار به بذلك عن الخاص والعام وشهرتها عندهم وان ابنته ادركت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودخلت عليه فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (هذه ابنة نبي ضيعه قومه خالد بن سنان العبسي) (١) وكان بين مبعثه وبين نبينا صلوات الله عليه وآله خمسون سنة ، وهو خالد بن سنان بن بعيث بن مريطة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس حدثني بذلك جماعة من اهل الفقه والعلم» ـ الى ان قال ـ : «وبعد فلولا الكتاب المنزل وما خبرنا الله عزوجل على لسان نبينا المرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما اجتمعت عليه الأمة من النقل عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخبر الموافق للكتاب انه لا نبي بعده لكان الواجب للحكمة انه لا يجوز أن تخلو العباد من رسول منذر ما دام التكليف لازما لهم ، وان يكون الرسل متواترة إليهم على ما قال الله عزوجل : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) (٢) فلما اخبر الله عزوجل

__________________

(١) روي أن المحياة ابنة خالد بن سنان العبسي وفدت على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فرحب بها وقال : (ابنة نبي ضيعه قومه) وهو الذي رد نار الحرتين بكهنها وكانت ببلاد بني عبس ، وقد ذكرها المؤرخون في كتبهم والشعراء في اشعارهم قال الشاعر.

كنار الحرتين لها زفير

تصمّ مسامع الرجل السميع

(انظر سفينة البحار ج ١ / ٤٠٥ مادة «خلد» وج ٢ / ٦٢٠ مادة «نور».

(٢) المؤمنون : ٣٣.

انه قد ختم رسله وانبيائه بمحمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سلمنا ذلك وايقنا انه لا رسول بعده وانه لا بد لنا ممن يقوم مقامه وتلزمنا حجة الله عزوجل به» ـ الى ان قال ـ : «فالرسل والأنبياء والأوصياء لم تخل الأرض منهم وقد كانت لهم فترات من خوف واسباب لا يظهرون فيها دعوة ولا يبدون امرهم الا لمن أمنوه حتى بعث الله محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكان آخر اوصياء عيسى (عليه‌السلام) رجلا يقال له ابي ويالط ـ وروى في ذلك اخبارا جمة» ـ الى اخر ما قال .. (١) ولنقتصر مع ما ذكرناه في صدر الاستدلال في هذا الوجه على كلامه فقد بلغ منه المرام فجزاه الله خيرا عن المسلمين والاسلام.

الثّاني : (٢) انّ الحجّة لا تقوم لله تعالى على خلقه بدون مرشد مأمون يبيّن للنّاس أمر الدّين وتزاح به علة المكلفين ويهدي العباد الى طريق الصّواب ويرفع عنهم الاختلاف والحيرة ويؤيده قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٣) الدّال على ان كلّ قوم لا بدّ لهم من هاد يهديهم الى سبل الحق واعلم ان مبنى هذا الدّليل على خمس مقدّمات.

الاولى : انّ الله سبحانه وتعالى في كلّ واقعة حكما معينا لا يختلف باختلاف المجتهدين ويدل على هذه المقدّمة آيات كثيرة مثل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٤) وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٥) وقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي

__________________

(١) إكمال الدين وتمام النعمة ص ٦١٦.

(٢) أي الثاني من الأدلة على أن نصب الامام لطف.

(٣) الرعد : ٧.

(٤) الحجر : ٢١.

(٥) يس : ١٢.

الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) وما اشبهها من الآيات وكلّها ظاهرة غاية الظّهور في ان لكل امر وفعل حدا وحكما عند الله تعالى وليس شيء عنده مهملا غير محدود بحد ولا محكوم عليه بحكم ، وقد استفاض في الرّوايات عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من طرق اصحابنا انّ الله جعل لكل شيء حدا وجعل لمن يتعدى ذلك الحد حدّا ، وامّا ما يحتجّ به للمخالفين النّافين تعيين حكم الله تعالى في كل واقعة من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٢) وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (٣) فضعيف وتقرير حجّتهم انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مأمور بتبليغ الامّة ما انزل إليه من ربّه وبيانه لهم ، ومن المعلوم انّه لم يخالف الامر فقد بلغ ما انزل الله إليه وبيّنه وما بلّغه الامّة وبيّنه لهم لم يف ببيان جميع الاحكام فلو كان لله تعالى في كلّ واقعة حكم لانزله الى نبيّه ولو انزله إليه لبلغه وبيّنه لانّه مأمور بذلك ولو بلغه وبيّنه لنقل إلينا وحيث لم ينقل إلينا مع توفر الدّواعي على نقله من حكم الشّريعة الّا ما نقل علمنا أنه لم ينزل عليه شيئا غيره فلم يكن لله في ذلك الغير حكم وكان الحكم فيه الاجتهاد فما أدّى إليه نظر المجتهد في الواقعة الغير المنيّة فهو حكم الله في حقّه وحق مقلّديه وهذه الحجة هي العمدة في احتجاجهم وليس لهم غيرها ما يعتنى به أو يحتاج الى الجواب عنه وهذه حجّة منقوضة وشبهة مردودة بوجوه :

الاوّل : منع العموم في آية التبليغ وإرادة الخصوص منها كما يشير إليه قوله تعالى فيها : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (٤) فانّه لا يستقيم الّا بجعل مسمّى رسالته المفعول لبلغت مغايرا لمصداق (ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

__________________

(١) الانعام : ٣٨.

(٢) المائدة : ٦٧.

(٣) النحل : ٤٤.

(٤) المائدة : ٦٧.

ليكون المعنى بلغ هذا الأمر الخاص فان لم تبلغه كنت بمنزلة من لم يبلغ ما سبق من الرّسالة التي بلغتها ولو كان المراد العموم فيما انزل أليك لم يكن لقوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ) الخ موقع لأنّ معناه يكون على هذا بلغ جميع ما انزل أليك وإن لم تبلغ جميع ما انزل أليك لم تبلغ جميع ما انزل أليك فوازنه وزان اضرب زيدا فانّك ان لم تضربه لم تضربه ومن البين لدى أولى الفطنة ان الكلام على هذا التقدير غير مفيد لانّ الجزاء هو عين الشّرط فلم يحصل جزاء إذا لا بد في إفادة الجملة الشرطيّة من تغاير الشّرط والجزاء ، فعلى المعنى المذكور من العموم يجب ان يكون الجزاء كلاما آخر مثل أسقطنا أجرك وعاقبناك وما جرى هذا المجرى واقل ما فيه ان تكون الآية على هذا الوجه خارجة عن قانون البلاغة والفصاحة التي نزل بهما القرآن فيكون مرغوبا عنه وممّا يقوي ما ذكرناه من إرادة الخصوص من الآية بل يعيّنه انّها نزلت بعد نزول اكثر القرآن وبعد تبليغ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كثيرا من الفرائض والاحكام في اصول الدّين وفروعه فيكون المقصود من الجملة انّك ان لم تبلغ ما أنزل أليك من ربّك في هذا الأمر الخاص كنت كأنك لم تبلغ ما بلغت سابقا من رسالة ربك لكتمانك هذا الأمر ، وفائدتها الحثّ والتأكيد على المسارعة الى تبليغ ذلك الامر الخاص وهذا واضح لمن تأمّل وذلك الامر المذكور وهو تبليغ النّاس أمر ولاية امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) لا جميع الاحكام اي بلّغ ما انزل أليك من ربّك في ولاية علي (عليه‌السلام) وهو المروي عن ابن عبّاس وجابر بن عبد الله من طريق الكلبي عن ابي صالح رواه الحاكم ابو القاسم الحسكاني أبو إسحاق احمد بن محمّد بن ابراهيم الثعلبي في تفسيره (١) وقال بمضمونه ومن اصحابنا رواه من الطريق المذكور

__________________

(١) شواهد التنزيل للحسكاني ١ / ١٨٩ ونقله عن الحسكاني الطبرسي في مجمع البيان ٣ / ٢٢٣.

العياشي في تفسيره (١) وهو المتفق عليه في الرّواية عن ائمتنا (عليهم‌السلام) بين أهل النّقل عنهم ، وهو الأصلح أو أن الله بعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برسالة ضاق بها ذرعا وهاب قريشا فانزل الله عليه الآية لازالة تلك الهيبة وهو المروي عن الحسن البصري (٢) وليس فيه ظهور مخالفة للقول الاوّل لاحتمال ارادته من الرسالة الوجه الاوّل وهو تبليغ ولاية علي (عليه‌السلام) ويومي إليه قوله وهاب قريشا اذ لم يرد أن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هاب قومه في تبليغ أمر إلّا ولاية علي فانّه خاف منهم أن يكذّبوه فيها وينسبوه الى المحاباة كما جاء في الرّواية عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الانصاري برواية الحسكاني والثعلبي ، أو المراد بلغ ما انزل أليك من آيات القرآن وهو مروي عن ابن عباس أيضا وهو محتمل منها ويدخل الاوّل فيه بالعموم لانّ ولاية علي منزلة في الآيات وبالجملة فكافّة المفسّرين قائلون بانّ المراد من (ما انزل) أليك الخصوص ولم ينقل انّها نزلت في الأمر بتبليغ جميع الوحي الّا عن عائشة وليس قولها ممّا يعارض ما ذكرناه مع أن في تصديق روايتها لو خلت عن معارض غاية الاشكال فكيف وقد خالفت جميع الاقوال التي كلّها متفقة على أنّ المراد من الآية الخصوص لا العموم المؤيدة بظهور الآية بل صراحتها في ذلك على أن قولها لا يستلزم العموم لانّ المروي عنها انّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يكتم شيئا من الوحي للتقيّة ونحن نقول بذلك ونعتقد أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يكتم للتقيّة شيئا من الوحي وانّما كتمه لمصلحة أخرى لأجلها أمر بكتمانه كعدم حاجة النّاس إليه في زمانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلم يبيّنه لجميعهم او غير ذلك من المصالح وكلامها لا ينفي ما أثبتناه فانتفى الخلاف عما نقول وآية التّبيين يحتمل فيها ما ذكر عن ابن عبّاس أخيرا في آية التبليغ هو تبيين آيات القرآن أو تبيين

__________________

(١) تفسير العياشي ١ / ٣٣٢.

(٢) نقل رأي الحسن البصري هذا أبو علي في مجمع البيان ١ / ٣٣٢.

الشرائع والدلائل على توحيد الله تعالى ، ويحتمل أن يكون المبلّغ والمبيّن بفتح اللّام والياء في الآيتين الفرائض الدينيّة والاحكام الكليّة والحدود الشّرعية لا جميع الاحكام حتّى الجزئية في الوقائع المتجدّدة ولا جميع الوحي ، وهذا الوجه وان لم يذكره أحد من المفسرين الّا أنّه قريب من مفهوم الآيتين واذا لم يكن المبلغ والمبيّن في الآيتين عامّين سقط احتجاج الخصوم بهما على مطلبهم ، اذ لا دليل لهم فيهما إلّا على تقدير عموم المبلغ والمبيّن وشمولهما لجميع الاحكام كما هو ظاهر.

الثاني : سلمنا انّ مفاد الآيتين ظاهر العموم ولكن قد عارضتهما آيات اخر دالّة على انّ لله في كل واقعة حكما معيّنا وأن لكل شيء عنده حدا مثل الآيات المتقدّمة ومثل قوله جلّ وعلا : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (١) فانّها ظاهرة بل صريحة في ان كلّ ما حصل فيه اختلاف بين الأمّة فلله فيه حكم معيّن ولم يكن مهملا عند الله تعالى والمنصوص لا يكون فيه اختلاف ومثل آيات الردّ عند الشارع الى الله والى الرّسول والى أولي الأمر ، وبيان توجيهها ان الردّ الى الله والى الرّسول والى اولي الأمر عند التنازع في الحكم اما ان يكون لبيان الحكم ورفع الاختلاف فيه في تلك الواقعة أو لا والثاني باطل قطعا وعلى الاول اما ان يكون لله تعالى في تلك الواقعة حكم معين بيّنه لرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبيّنه الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لوليّ الأمر أو لا فان كان الثّاني فلا فائدة عليه في الردّ عند التنازع الى الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ الاختلاف على هذا لا يرتفع بالرّد إليه لأن جوابه على هذا الوجه للمختلفين اذا رجعوا إليه انّه ليس لله فيما اختلفتم فيه حكم معين بيّنه لي وانتظر بيانه لي حتى اخبركم به فيزول الاختلاف عنكم بل الحكم في واقعتكم

__________________

(١) الشوري : ١٠.

هذه دائر مدار الاجتهاد فما ادّى إليه اجتهاد احدكم فهو حكمه فليعمل عليه وهكذا يكون الجواب من ولي الأمر بعد الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن الله أيضا فأيّ فائدة على هذا في الردّ إليهم عند التنازع اذا لم يكن الاختلاف مرتفعا به ، بل يكون عبثا والله لا يأمر به فيثبت الاوّل وهو كون الردّ إليهم لبيان الحكم المعيّن في الواقعة ورفع الاختلاف فيها بالبيان للمختلفين ذلك الحكم ومنه يثبت انّ لله فيها حكما معيّنا وهو المطلوب ، ومثل ذلك آيات أخر سيأتي ذكرها ، وحيث حصل التعارض وجب الجمع بحمل الآيتين على إرادة تبليغ احكام خاصّة وتبيينها لا على جميع الاحكام وقول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للمظاهرة (وما اظنك الا وقد حرمت عليه) بعد قوله (لم ينزل على فيك قرآن) (١) شاهد بان كل واقعة تقع فلله فيها حكم معيّن وانّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينتظر الحكم فيها من الله تعالى حتّى يحكم به.

الثالث : سلمنا عموم الآيتين وشمولهما لجميع الاحكام وعدم تخصيصهما من الوجه السابق لكن لا نسلّم وجوب التّبليغ والتّبيين لجميع المكلّفين لم لا يجوز ان يكون تبليغ جميع الاحكام وتبيينه للبعض من المكلّفين وهم أولو الأمر وبه يحصل امتثال الأمر وآية الرد إليهم عند الاختلاف شاهدة بذلك بما مر من التقريب وما سيأتي ، ولا ينافيه لفظ النّاس وفي آية التبيين الظاهر في الجميع لاطلاق الناس في القرآن العزيز على الواحد وعلى الجماعة قلّوا او

__________________

(١) الظاهر أن المؤلف رحمه‌الله وهم فنقل ما هو حجة عليه لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يحكم بالظن. والذي قال لها ذلك زوجها ـ كما في فتح القدير للشوكاني ٥ / ١٨٤ ـ قال لها : ما أظنك إلا حرمت عليّ فانطلقي الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاسأليه فأتت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : (يا خولة ما أمرنا في أمرك بشيء) الخ وفي رواية الزمخشري في الكشاف ٤ / ٦٩ (ما عندي في أمرك شيء).

كثروا قال الله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (١) وقال : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) (٢) وقال عزوجل : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٣) ومثله كثير يطول به الكلام والنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بلغ جميع الوحي والاحكام وبينها لخلفائه الكرام فحصل المطلوب.

الرّابع : سلمنا العموم في الوجهين المبلغ والمبلغين والمبيّن والمبينين لهم لكن لا نسلم ان المراد تبيين جميع الوحي والاحكام لجميع النّاس وتبليغهم اياها تفصيلا ، لم لا يجوز ان الامر بالتبليغ والتّبيين لبعضهم تفصيلا في جميعها وللباقين تفصيلا واجمالا ، واحالتهم على من فصّل له الجميع فيما لم يبيّنه لهم مفصّلا؟ فيكون النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على هذا الوجه قد بلغ جميع الاحكام وبينها لجميع النّاس وسينكشف لك هذا الوجه في المقدّمة الآتية والنّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد فعل ذلك فبيّن للامّة مفصّلا ما بيّن من الفرائض وحدودها والمحرمات ومواضعها ودلّهم على من يرجعون إليه في بيان ما لم يبيّنه لهم فقال : (اني مخلف فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي) (٤) وقال في شأن عترته (تعلموا منهم ولا تعلموهم فانهم اعلم منكم) (٥) وقال : (اقضاكم عليّ) (٦) يعني اعلمكم بالقضاء وقال لعلي

__________________

(١) آل عمران : ١٧٣.

(٢) البقرة : ١٩٩.

(٣) النساء : ٥٤.

(٤) حديث الثقلين مشهور بل متواتر حتى قال ابن حجر في الصواعق ص ٩٩ : «إن طرقه وردت عن نيف وعشرين صحابيا» بل جاء في العبقات ـ كما في طبعته الأخيرة بتعريب السيد الميلاني ـ رواه اكثر من ثلاثين صحابيا وما لا يقل عن مائتي عالم من كبار علماء اهل السنة بألفاظ مختلفة ومعنى متفق.

(٥) هذا تابع لحديث الثقلين انظر الصواعق ص ١٣٥.

(٦) الاستيعاب لابن عبد البر : ٣ / ٣٨.

(عليه‌السلام) فيما رواه ابو نعيم عن انس : (انت تؤدي عنّي وتبيّن لهم ما اختلفوا فيه بعدي) (١) الى غير ذلك ممّا سيأتي مشروحا عند ذكر النصوص على أمير المؤمنين (عليه‌السلام) ان شاء الله تعالى وكله مصحح عند الخصوم ، على انهم حيث اعتراض جماعة من محققي الامامية على رواية ابي بكر عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث) (٢) فقالوا كيف يبيّن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك لابي بكر ولم يبيّن لاهل الميراث أجابوهم بأنّه اذ بيّن المولّى من بعده فقد بيّن للامّة مع حكمهم بان ولاية المذكور ليست من قبل الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما هي من وجه اختيار قوم من الصّحابة وهذا لازم فيما ذكرناه في الوجه الثالث وهنا من أن البيان للعترة بيان لجميع النّاس لا سيّما وولايتهم (عليهم‌السلام) كانت بنصّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم ودلالته واشارته إليهم بصريح القول وواضح المعنى ، وقد علم من جملة ما ذكرناه بطلان ما ادعوه من انّه ليس لله في غير ما نصّ عليه في الكتاب والسنّة من الاحكام حكم معيّن في الوقائع وسلمت مقدّمتنا الحاكمة بنقيض دعواهم من الايراد ، ومن ذلك يتّضح بطلان ما حكموا به من الاستغناء بالاجتهاد في غير المنصوص من الوقائع عن الرجوع الى مستحفظ الاحكام ومستودع الوحي والمخصوص بعلم التّأويل من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن يحلّ محلّه من أطائب ذرّيته المخصوصين من الله بالتفهيم والالهام لبطلان ما بنوا عليه ذلك الحكم المردود من انتفاء حكم الله في جميع الوقائع والحوادث ، وبعد فكيف يجوّز عاقل على ربه الحكيم العليم عدم علمه بكثير من الأمور وانه لا يدري أهي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٩ / ١٦٩.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٨٢ كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، وصحيح مسلم ٥ / ١٣٥ كتاب الجهاد والسير.

داخلة في حيّز التحليل والتّحريم حتى يحكم فيها ربيعة الرّأي (١) وسالم بن ابي حفصة (٢). والاوزاعي (٣) وابو حنيفة (٤) واضرابهم فهنالك يحدث له العلم بحكمها وتتجدد له المعرفة بحدها ورسمها فلا يزال على هذا يخرج من جهل الى علم باستمداده من اهل الرّأي والقياس واستفادته من اجتهادهم المقرون بالشك والالتباس كما هو لازم قولهم الّذي دلهم عليه الوسواس الخناس اعوذ بالله من هذه الجرأة العظيمة المستلزمة لنسبة الجهل للخالق الحكيم الخبير كأنهم لم يسمعوا قوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ ، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٥) وغيرها من الآيات الكثيرة في الذكر الحكيم ، على ان صحة ما قلناه وبطلان قول الخصوم لا يحتاج من الدّليل الى اكثر ممّا ذكرناه من استلزام قولنا تنزيه البارئ تعالى عن النّقص واستلزام قولهم نسبة الجهل الى الحّي القيوم وتحصيله العلم ومعرفته الحكم في خلقه وبريّته وافعالهم من اجتهاد المجتهدين فلقد وقع الحق وبطل ما كانوا يعملون.

__________________

(١) ربيعة الرأي هو ربيعة بن فروخ التيمي بالولاء من فقهاء المدينة وانما قيل له ربيعة الرأي لأنه من أصحاب القياس وبه تفقه مالك توفي بالأنبار سنة ١٣٦.

(٢) سالم بن أبي حفصة ويقال له سالم التمار مولى بني عجل كوفي مات سنة ١٣٧.

(٣) الأوزاعي ابو عمرو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام كان يسكن بيروت توفي سنة ١٥٧ ، والأوزاعي نسبة إلى وزاع بطن من همدان أو الى أوزاع قرية بدمشق عند باب الفراديس.

(٤) أبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام المذهب ولد بالكوفة سنة ٨٠ وتوفي سنة ١٥٠ قال في نور الأبصار ص ٢٠٦ أراده المنصور للقضاء فامتنع فأمر بضربه ثم احضره بين يديه فدعا بسويق واكرهه على شربه ثم قام فقال له إلى اين؟ قال : الى حيث بعثتني فمضى به الى السجن فمات فيه.

(٥) ما بين القوسين ابعاض آيات من البقرة ٢٨٢ والتين ٨ والانعام ٥٧.

المقدمة الثانية (١) :

ان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبيّن جميع الاحكام مفصّلة لكل الامّة بل بيّن لجميعهم بعضا تفصيلا وبعضا اجمالا وبيّن الكل لخلفائه مفصّلا وامر الامّة : بالاخذ عنهم والتعلم منهم والادلّة على هذه المقدّمة ظاهرة متكثرة.

الاول : انّ الامة قد اختلفوا في الاحكام اختلافا شديدا ولو بيّن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لجميعهم كل الاحكام مفصلة لما اختلفوا امّا الاولى فمن المشاهدات ، وامّا الثّانية فلأن اختلافهم في الحكم بعد بيان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امّا لتعمدهم مخالفته وميلهم الى الهوى وترك النّص الى الرأي أو لنسيان الجميع بيان الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكل منهما غير جائز عند مخالفينا لانّهم لا يجوّزون على الصّحابة الخطأ ولا مخالفة نصّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بل يحكمون بانهم متّبعون له في افعاله واقواله وان اجماعهم حجّة فلا سبيل الى الحكم عليهم في اختلافهم بتعمد مخالفة بيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا نسيانه إذ ذاك يخرج اجماعهم عن الحجّية فلم يبق الا الحكم على ان اختلافهم لعدم البيان إليهم على التفصيل وهو المطلوب ، وامّا نحن فلا ننكر تعمد البعض لمخالفة الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في بعض الاحكام وتركهم نصه (٢) وحصول الشّبهة لبعض آخر بذلك حتى يخرج النص في نظره عن النّصية فيحمله على أبعد محامل التأويل لكن نمنع ذلك عن الكل في جميع الاحكام لو كانت كلّها مبيّنة بالتفصيل لا عن البعض في البعض ولا من جهة

__________________

(١) أي من المقدمات الخمس على اثبات أن لكل قوم هاد.

(٢) يراجع في ذلك كتاب النص والاجتهاد للسيد شرف الدين.

الشّبهة ، ولذا انا نمنع اجتماع الامة على الخطأ في مثل وجوب الصّلوات الخمس وعدد ركعاتها ومقادير نصب الزكاة وكيفيّة الحج ومواقفه وغير ذلك من الضّروريات لأنّ الامام في جملتهم يقينا وهو لا يجوز عليه الخطأ ، فان قيل فمن أين جاء الاختلاف وأنتم قلتم : إن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بلّغ الامة جميع الاحكام بعضها تفصيلا وبعضها إجمالا ودلّ العباد على من يرجعون إليه في بيان ما لم يفصّله؟ قلنا : جاء الاختلاف من مخالفتهم أمر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرجوع الى من أمرهم بالأخذ عنه والتمسك به في رفع ذلك عنهم وعدولهم عنه الى آرائهم واجتهادهم الّا قليلا من الصّحابة ، فان قيل : من هذا الرّجل الّذي أمر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النّاس بالرّجوع إليه لرفع الاختلاف ببيان الحكم فعدلوا عنه الى ما ذكرتم؟ قلنا : ذلك عليّ بن ابي طالب (عليه‌السلام) وقد سبق ذكر يسير من الادلة الواردة في أمر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتمسك به والأخذ عنه وسيأتي الكثير منه في موضعه ان شاء الله ومن بعده للطّيبين من ولده (عليهم‌السلام) فان قيل : فأنتم لم اختلفتم مع رجوعكم الى من بيّن له النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جميع الاحكام مفصّلة على قولكم ولم لم يرفع الاختلاف عنكم ببيان الحقّ قلنا : انا لا ننكر الاختلاف بيننا في مسائل الفقه وانّما نشأ ذلك من جهة عدم تمكن الحجة (عليه‌السلام) من بيان الحق للخوف على شيعته من الطواغيت وذلك انه قد ثبت بالتواتر شدة الخوف على الامامية في زمن ظلمة من بني امية وبني العباس حتى آل الأمر الى استحلالهم دم من يتّهم بتشيّع أو يذكر أهل البيت بخير فكان الامام (عليه‌السلام) يفتي بعض شيعته بمرّ الحق ويفتي آخر بما يحتمل التأويل والوجوه ويفتي آخرين بما يوافق أقوال العامة لئلا تجتمع شيعته على أمر واحد فيعرفوا فيؤخذ برقابهم وليس مزج الحق بغيره أو اخفائه في حكم أو احكام في الفتوى للخوف على النفس من الازهاق باعظم من اظهار الكفر وسبّ الرسول (صلى الله عليه

وآله وسلم) الّذي جاز لعمّار بن ياسر (رضي الله عنه) وغيره من المؤمنين لدفع القتل عن نفوسهم حتّى انزل الله عذره وعذر غيره في الكتاب بقوله عزوجل : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (١) وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (٢) وقوله تعالى في رجال ونساء من اهل مكة آمنوا اظهروا الكفر خوفا من اهاليهم فلم يكونوا معروفين بالايمان ولأجل ان لا يصيبهم ضرر من المسلمين وهم لا يعلمون بهم صار صلح الحديبية (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣) بل كان دفع الضّرر عنهم سببا لدفع القتل عن الكفار فمن هذا جاء الاختلاف بيننا وقد صحّ في الرواية عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) من الطريقين انه لما استشاره قضاته فقالوا بم نقضي بين النّاس؟ قال : (اقضوا كما كنتم تقضون حتّى يكون للناس جماعة) (٤) وهذا القول تصريح منه بان قضاءهم السّابق غير مرضيّ عنده ، ولو كان عنده مرضيّا لما علق الرخصة فيه الى غاية يمكن حصولها وتبيين منه بانّه لم يتمكن في تلك الحال من بيان الحق ، وحمل الناس عليه لعدم اذعانهم له بالطاعة التامة ، وعدم تسليمهم إليه المقادة واختلافهم عليه وعصيانهم أمره ، هذا وهو خليفة في النّاس فما ظنّك به في زمان تغلب من قبله وما ظنّك بالأئمة من ذريّته في حال تغلب الظلمة والطواغيت عليهم وعلى تابعيهم وما

__________________

(١) النحل : ١٠٦.

(٢) آل عمران : ٢٨.

(٣) الفتح : ٢٥.

(٤) رواه البخاري في صحيحه ٤ / ٢٠ في كتاب بدأ الخلق باب مناقب المهاجرين بلفظ «اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الاختلاف حتى يكون للناس جماعة أو أموت كما مات أصحابي» وفي كتاب الغارات للثقفي ص ١٢٤ أنه (عليه‌السلام) قال لشريح : «اقض بما كنت تقضي حتى يجتمع امر الناس».

زال الخوف على الشيعة موجودا في وقت ظهور ائمتهم ولم يذهب شدة الخوف عنهم ويحصل لهم بعض الأمن في الجملة الا من بعد اختفاء الحجة (عليه‌السلام) واستتاره حيث أخاف الطواغيت سبيله وعلم الظلمة ان لا إمام ظاهر للشيعة فهناك حصل الاختلاف لهم لعدم الوصلة الى الامام الذي يزول الاختلاف ببيانه ولم يبق الّا الأخذ بما روي عن آبائه وهو على ما وصفنا لما ذكرنا فبقي الاختلاف الاوّل قائما كما هو ، ومع هذا فانا نقطع بان كل مسألة اختلفنا فيها أن احد الاقوال فيها هو حكم الله الّا انا لا نعلمه بعينه فليس اختلافنا كسبيل اختلاف الخصوم لأن خلافهم واختلافهم حصل من إعراضهم عن قول الحجّة ، واختلافنا مسبب عنه لحسن نظره إلينا ، واقوالنا لا تخلو من الحق واقوالهم تخالفه دواما أو غالبا فافترقت الحال بيننا وبينهم وحصل العذر لنا ولم يحصل لهم فان قالوا : انكم وافقتمونا في زمان غيبة إمامكم في الاجتهاد فأنتم مثلنا قلنا لهم : ولا سواء فان اجتهادنا باستعمال قوانين نصبها لنا الحجّة (عليه‌السلام) في تميز الحق من الباطل بقدر وسعنا وطاقتنا واجتهادكم باستعمال الأقيسة الّتي اخترعها ابليس واحتج بها على جواز ترك السّجود لآدم والآراء التي نصبها لردّ امر الله تعالى وبين الوجهتين غاية البعد ، وأيضا ان اجتهادنا في تحصيل حكم الله ممّن قوله الحجة فنعذر بعد بذل الجهد ان اخطأنا واجتهادكم انتم في تحصيل غير حكم الله اذ لا حكم له في تلك الواقعة عندكم فاجتهادكم لا لاحداث حكم لا يعرفه الله قبل ذلك بزعمكم ليحكم به عليكم وهو مع ما فيه من الزّلل العظيم تصرف في ملك الغير بغير اذنه ، وايجاب ما لم يوجبه الله او تحريم ما لم يحرّمه ، فالخطأ لازم له على كلّ حال ، والمعذورية مرتفعة على جميع الاحوال لأن حكم ما لم يحرّمه الله ولم يوجبه الاباحة البتة فإيجابه أو تحريمه خلاف حكم الله فكان اجتهادنا غير اجتهادكم فاجتهادنا مقدّمة للواجب وهو تحصيل حكم الله في الواقعة واجتهادكم لاخراج المباح عن الإباحة والتكليف بما لم يكلف الله به

بزعمكم فزال اعتراضكم واندفع ايرادكم.

الثاني : قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) وتوضيح ذلك ان الردّ الى اولي الأمر عند الاختلاف اما لجهل المختلفين الحكم أو لا فان كان الاول ثبت أنّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبيّن لجميع الامّة كل الاحكام بالتفصيل بل بينها جميعها كذلك الى اولياء الأمر بعده فيثبت المطلوب وان كان الثّاني كان التكليف بالردّ الى اولي الامر تحصيلا للحاصل وهو ممتنع ، فالتكليف به قبيح لا يكلّف الله به على انه لا فائدة في الردّ الى ولاة الامر مع العلم بالحكم من بيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فالأمر به عبث ، هذا كلّه مع ظهور الآية من قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) في الاوّل وهو كون الفائدة في الردّ الى أولي الأمر حصول علم للمستنبطين كانوا قبل الردّ الى اولي الأمر يجهلونه لكون هذا الجملة جواب الشّرط في قوله (وَلَوْ رَدُّوهُ) وحصول الجواب متوقف على حصول الشّرط ومفقود قبله فعلم المختلفين بالحكم قبل الردّ الى اولي الأمر مفقود واذا فقد العلم ثبت ضده وهو الجهل فاتضح من هذا أنّ المختلفين قبل ردهم ما اختلفوا فيه الى اولي الأمر واستعلامهم الحال منهم غير عالمين بحكم الله الواقعي في تلك الواقعة وما ذاك الّا لعدم البيان التفصيلي لهم من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو المراد.

الثالث : ما ثبت عند الخصوم من ان عند بعض الصّحابة من القرآن ما ليس عند البعض الآخر وانه قتل من الصّحابة في حرب مسيلمة (٢) قوم

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) مسيلمة الكذاب ابن ثمامة الحنفي متنبئ بني حنيفة ضرب بكذبه المثل «اكذب من مسيلمة) ولد ونشأ باليمامة وكان من المعمرين وفد على رسول الله (صلى الله عليه

يقرءون من القرآن شيئا لم يكن عند باقي الصحابة ولهذا لما اراد ابو بكر وعمر جمع القرآن كان من جاءهم بشيء منه واقام عليه بيّنة قبلوه منه ومن لم يقم بيّنة على ما اتاهم به منه ردّوه واتفق الخصوم على انّه لم يكن يحفظ القرآن جميعه في عصر النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الصّحابة الّا عليّ بن ابي طالب (عليه‌السلام) وهذا اوضح دليل على انّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يبيّن جميع لفظ القرآن لكل الصّحابة بل يقرأ ما ينزل عليه منه على من حضره منهم فما ظنّك بمعانيه وبباقي الاحكام وقد روى مخالفونا ان زيد بن ثابت (١) لما انكر عليه عمر في دعواه شيئا سمعه من رسول الله (صلى الله

__________________

وآله وسلم) فيمن وفد من قومه ولكنه تخلف في الرحل فذكروا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مكانه فأمر له بمثل ما امر لهم وقال : (إنه ليس بشركم مكانا) لأنه قام بوظيفة يتوقف عليها أمرهم فلا ينبغي أن يكون دونهم ، ولكنه لما رجع ادعى النبوة كاتب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أن تكون الأرض مناصفة بينهما فأجابه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) ووضع مسليمة أسجاعا يريد أن يضاهي بها القرآن الكريم بزعمه مثل : «سبح اسم ربك الأعلى ، الذي أولد الحبلى فاخرج منها نسمة تسعى» ومثل قوله لسجاح المتنبئة وقد سألته ما ذا أنزل عليك : «أنتن معشر النساء لنا أزواجا ، نولجه ... إيلاجا ، ونخرجه ... اخراجا» فآمنت به وتزوج بها في قصة مشهورة ، قتل مسيلمة سنة ١٢ قتله وحشي قاتل حمزة في الحرب التي جرت بين المسلمين والمرتدين من بني حنيفة وقد قتل في هذه الوقعة من المسلمين الف ومائتا رجل منهم أربعمائة وخمسون صحابيا. انظر تفصيل ذلك في كتب التاريخ.

(١) زيد بن ثابت الأنصاري الخزرجي من بني النجار كان عمره لما قدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المدينة أحد عشر عاما وأول مشاهدة الخندق ، وكان من كتاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثم كتب لأبي بكر وعمر ، واستخلفه عمر على المدينة ثلاث مرات مرتين في حجتين ومرة عند مسيره الى الشام ، وكان عثمان يستخلفه إذا حج ، وكان عثمان قد جعله على بيت المال ، وقال ابن الأثير في اسد الغابة : «وكان زيد عثمانيا ولم يشهد مع علي شيئا من حروبه» توفي بالمدينة وصلى

عليه وآله وسلم) من جهة ان المنكر لم يسمعه جبهه بكلام قال فيه : لقد علمت انه يؤذن لي وادخل وانت تمنع في كلام آخر وصريحه دعوى زيد انّه سمع من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما لم يسمع عمر ولا من كان في طبقته وقد صدق عمر في دعواه في روايتهم تلك وادعى عبد الله بن مسعود (١) علم ما لم يعلمه زيد بن ثابت المذكور الى غير ذلك مما هو مزبور في التواريخ والسير ممّا يعطي انّ الصّحابة كانوا مقرّين بان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيّن لبعضهم ما لم يبيّن لبعض آخر وكفى بذلك شاهدا على ما ندّعيه.

الرّابع : انه قد صحّ ان النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خصّ بعض الصّحابة من العلوم بما لم يخصّ به سائرهم فأفضى من العلوم والاسرار والاحكام لعلي (عليه‌السلام) بما لم يفض بجزء منه الى جميع الصّحابة ثم بيّن لهم ذلك بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «انا مدينة الحكمة وعليّ بابها فمن اراد الحكمة فليأتها من بابها) (٢) وقال فيه (عليّ خازن علمي وعيبة علمي) (٣) وما اشبه ذلك من الاقوال ولهذا قال علي (عليه‌السلام) على المنبر

__________________

عليه مروان واختلف في سنة وفاته.

(١) عبد الله بن مسعود الهذلي من فقهاء الصحابة واحد حفاظ القرآن شهد مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشاهده كلها ، وأرسله عمر الى الكوفة ليقرئهم القرآن ويعلمهم الأحكام فبث فيهم علما كثيرا ويعرف عبد الله بابن أم عبد وقد جاء في الحديث : (من سره ان يقرأ القرآن عضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أمّ عبد) انظر النهاية في غريب الحديث لابن الأثير ٣ / ٣٧٠ مادة غضض توفي ابن مسعود سنة ٣٢.

(٢) هذا الحديث رواه جماعة من المحدثين منهم الترمذي ٢ / ٢٢٩ وابو نعيم في الحلية ١ / ٦٤ وتجده بحروف ما في المتن في تاريخ بغداد ١١ / ٢٠٤.

(٣) الكلمتان من حديثين شريفين (انظر فيض القدير للمناوي ٤ / ٣٥٦ وكنز العمال ٦ / ١٥٦.

وقد وضع يديه على بطنه (هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله هذا ما زقّني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) زقّا أيّها النّاس سلوني قبل ان تفقدوني فو الله لو سألتموني عن فئة تضل مائة وتهدى مائة لاخبرتكم بقائدها وسائقها الى يوم القيامة وما من آية من كتاب الله نزلت في ليل او نهار او سهل او جبل او حضر او سفر مكّيها ومدنيّها الّا وانا عالم بتفسيرها وتأويلها وناسخها ومنسوخها) (١) وفيمن نزلت وقال لكميل بن زياد (٢) (يا كميل ان هنا ـ واشار الى صدره ـ لعلما جمّا لو أصبت له حملة) وكثيرا ما يقول ما يضارع هذه المقالات ولما خطب يوما وذكر كلاما يخبر فيه عن قوم من الاتراك وما يفعلون في بلاد الاسلام من الفساد وقت خروجهم قال بعض اصحابه وكان كلبيّا لقد اعطيت يا امير المؤمنين علم الغيب ، فضحك (عليه‌السلام) وقال للرّجل (يا اخا كلب ليس هو بعلم غيب وانّما هو تعلم من ذي علم وانّما علم الغيب علم السّاعة وما عدده الله سبحانه اذ يقول : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٣) الآية ، فهذا علم الغيب لا يعلمه أحد الّا الله وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعلمنيه ودعا بأن يعيه صدري وان تضطم عليه جوانحي) الى غير ذلك وكذلك خص النّبي (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) قال ابن ابي الحديد عن هذه الخطبة التي نقل المؤلف منها هذا الكلام منها : «هذه الخطبة ذكرها جماعة من أهل السيرة وهي متداولة منقولة مستفيضة خطب بها علي (عليه‌السلام) بعد انقضاء أهل النهر وأن» وقد رواها الثقفي في الغارات ص ٦ ونقل مختارها الشريف الرضي في نهج البلاغة ، واستعرضت مصادرها في مصادر نهج البلاغة واسانيده ٢ / ١٧٨.

(٢) كميل بن زياد النخعي اليماني من خواص أصحاب أمير المؤمنين (عليه‌السلام) وصاحب سره ، وخريج مدرسته عاش الى أيام الحجاج فقتله في حدود سنة ٨٣ وكان امير المؤمنين (عليه‌السلام) قد أخبره بذلك ودفن بظهر الكوفة (النجف الأشرف) وقبره مزار مشهور.

(٣) لقمان : ٢٤.

وسلم) حذيفة بن اليمان (١) من احوال المنافقين وفسر له من أسمائهم ما لم يفسر بعضه لكثير من الصّحابة حتّى ان عمر احتاج أن يسأله عن نفسه أهو من المنافقين أم لا كما رواه مخالفونا واسرّ لسلمان اشياء كثيرة لم يظهرها لغيره من اصحابه وهكذا ممّا يطول ذكره.

الخامس : أنه لو لم يكن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين لقوم ما لم يبيّن لغيرهم ولشخص ما لم يبيّنه لآخر من الاحكام لسقطت اخبار الآحاد وحرم العمل بها ، وبيانه ان مضمون خبر الواحد لم يطلع عليه الّا راويه ولم يسمعه من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الّا هو والمفروض انّ النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يخصّ احدا ببيان حكم دون أحد وانّه بيّن جميع الاحكام لكافة الصّحابة فما هو من بيان النّبي فهو معلوم لجميعهم وما ليس معلوما لجميعهم فهو ليس من بيانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخبر الواحد غير معلوم لكافّتهم فيجب ان لا يكون من بيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكون مكذوبا ومخالفونا لا يرضون بذلك ولا يجوز عندهم اسقاط اخبار آحاد الصّحابة وكيف يرضون به وهو مبنى صحّة مذهبهم ولو لا العمل بها لزال أساس ائمّتهم كما لا يخفى على العارف بالحال ومنه يثبت المدّعى.

السّادس : انه قد صحّ عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال :

__________________

(١) أبو عبد الله حذيفة بن اليمان العبسي صحابي عداده في الأنصار سكن الكوفة ومات في المدائن بعد بيعه علي (عليه‌السلام) بأربعين يوما ، قال ابن الأثير في اسد الغابة ١ / ٣٩١ : «حذيفة صاحب سرّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في المنافقين» وقال : «وكان عمر اذا مات ميت يسأل عن حذيفة فان حضر الصلاة عليه صلى عليه ، وان لم يحضر حذيفة الصلاة عليه لم يحضر عمر».

(امرنا معاشر الأنبياء ان نكلم الناس على قدر عقولهم) (١) ومن المعلوم انّه ليس في وسع جميع الصّحابة معرفة جميع الاحكام الالهيّة ولا في قدرة كافتهم حمل كلها وحفظ عامّتها فوجب بمقتضى ذلك ان يخصّ بعضهم دون بعض بقدر ما يحتمله من العلم وقد روى عن عبد الله بن مسعود قال : «ما حدثت رجلا حديثا لا يبلغه عقله الّا كان له فتنة» ويروى مثله عن ابن عبّاس ، والعقل السّليم يحكم بصدق مضمونه ، وقد صحّ عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) انه قال : (ان امرنا صعب مستصعب لا يحتمله الا عبد امتحن الله قلبه للايمان ولا يعي حديثنا الّا صدور أمينة واحلام رزينة) (٢) وكلّ ذا مرويّ عند مخالفينا في بعض كتبهم ويشير إليه من التنزيل قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣) وما اشبهه ، وكلّ هذه الادلّة سالمة من القدح فيها يثبت المطلوب.

المقدّمة الثالثة

انّ الله سبحانه وتعالى اراد من العباد العمل في كلّ واقعة بما هو حكمها عنده لا بما ادى إليه نظرهم واجتهادهم ، يدل على ذلك آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤) وفي اخرى (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) وفي ثالثة (فَأُولئِكَ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨ / ١٨٦ ورواه الكليني في الكافي ١ / ١٨ في كتاب العقل والجهل ح ١٥ بهذا اللفظ : (إنا معاشر الأنبياء امرنا) الخ وابن شعبة في تحف العقول ص ٣٢.

(٢) بصائر الدرجات ص ٦ اصول الكافي ١ / ٤٠١.

(٣) البقرة : ٢٨٦.

(٤) المائدة : ٤٤.

هُمُ الْفاسِقُونَ) وقوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (١) وقوله سبحانه : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) (٢) وهذه الآية والتي قبلها وما اشبههما من اوضح الادلّة على بطلان الاجتهاد لنفيه في الاولى حكم من سواه ونهيه في الثانية عن القول بالتّحليل والتّحريم بدون دلالة من قوله وكلّ ذلك ينافي بصريحه الرّخصة في الاجتهاد كما ترى ، وقوله عزوجل : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٣) علق حصول الايمان من المكلّفين على تحكيمهم النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما اختلفوا فيه ورضاهم بحكمه وتسليمهم لقضائه وهو يناقض رضاه منهم بالاجتهاد ومثلها قوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤) وقوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٥) والآيات الدّالة على هذا المطلب كثيرة جدا.

ومنها آيات الرّد الى الله والى الرّسول والى اولي الأمر فانّها صريحة فيه ، اذ لو رضي الله من المجتهدين بالعمل باجتهادهم ، لم يكن في الردّ إليه والى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والى ولاة الامر عند التنازع والاختلاف فائدة ، بل يكون عبثا لا يأمر به الحكيم فيجب ان يكون الرّد المذكور لطلبه منهم العمل بحكمه المعيّن في الواقعة لا بما ادّى إليه نظرهم وحصل من اجتهادهم وهو واضح لا يحتاج الى زيادة البيان ، والآيات النّاهية عن اتباع

__________________

(١) الأنعام : ٥٧.

(٢) النحل : ١١٦.

(٣) النساء : ٦٥.

(٤) الحشر : ٧.

(٥) المائدة : ٥٠.

الظن وعن القول على الله بغير علم مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (١) وغيرها والآيات الواردة في ذمّ المقلّدين لاسلافهم كلها على كثرتها صريحة فيه ، وتعدادها يوجب التطويل فلنكتف بالاشارة إليها مع ما ذكرناه ، فان قال قائل : فانكم اختلفتم في كثير من المسائل الشرعيّة أفترى انّ الله اراد منكم الاختلاف ولم يرد منكم العمل بالحكم المعيّن في تلك المسائل فان قلتم : نعم ، قال : خصومكم فنحن مثلكم قد اراد منّا الاختلاف دون الحكم المعيّن وبطلت مقدّمتكم ، وان قلتم لا ، ناقضتم انفسكم واثبتم مخالفتكم لمراد ربّكم وعلى كلا الوجهين لا يصحّ قولكم؟ قلنا اما نحن فانّ الله تعالى رخّص لنا في الاختلاف فيما اختلفنا فيه من المسائل الشرعيّة ولم يرد منّا الاجتماع على الحكم المعيّن فيه في زمان تغلب الظّلمة على الائمّة الحق ومنعهم ايّاهم من التّصرف ، والدّليل على ذلك ما ثبت في الشّريعة المطهّرة من اختلاف الاحكام باختلاف الاحوال والاشخاص ، فانا نعلم يقينا انّ الله عزوجل اراد من مكلف في مسألة حكما معينا في حال واراد منه في حال اخرى حكما آخر واراد من بعض افراد المكلفين حكما في شيء واراد فيه حكما آخر من آخرين فقد علمنا انّ الله تعالى اوجب على واجد الماء الوضوء للصّلاة أو الغسل واوجب على فاقده التيمّم ، وأوجب على المرأة في حال خلّوها من الحيض والنّفاس الصّلاة والصّيام وأوجب تركهما عليها في وقتهما ، وأوجب على الآمن الحاضر اتمام الصّلاة واوجب على الخائف مطلقا وعلى المسافر قصر الصّلاة الرّباعيّة ، وأوجب الجمعة على الحر الصحيح الحاضر الّذي بينه وبين محلّتها أقل من فرسخين واسقطها عن العبد والمرأة والمريض والمسافر ومن هو بعيد عنها باكثر من فرسخين ، واوجب الزكاة على من ملك النّصاب ولم يوجبها على من لم يملكه والحجّ على المستطيع

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

وأسقطه عن غير المستطيع ، وحرم الميتة والدّم ولحم الخنزير على العباد وأحل ذلك للمضطر غير الباغي والعادي ، وحرم قتل المسلم وأحل قتل الباغي والعادي وقاطع الطريق ، وحرم الكفر وأحلّ اظهاره عند الاكراه والخوف على النّفس وعدم القدرة على دفع العدو عنها كما مر ذكره في قضيّة عمّار الى غير ذلك ممّا ورد في الشريعة الاختلاف فيه ، ولا يخفى على ذوي الخبرة مواضعه.

وبالجملة ان الممنوع اختلاف حكم الله باختلاف المجتهدين ورضاه بالاجتهاد في دينه لا تغيير الله حكم المكلّف بتغيّر احواله واذا اثبت اختلاف حكم الله على المكلفين باختلاف احوالهم فيما ذكرناه وفي غيره ممّا يطول المقام بنقله صحّ ان يرخّص الله للامام بل يريد منه في حال عدم تمكّنه من تشخيص الحكم المعين في الواقعة لاتباعه وعدم تمكنهم من العمل به على التّعيين لخوفه الضرر على نفسه في بيانه وعليهم في العمل به إلقاء الخلاف بينهم وخلط الحق بغيره في كثير من المسائل وان يريد من كلّ واحد من شيعة الامام العمل بما القى إليه الامام من الحكم وما فهمه من قول الحجة لانّ في ذلك دفع ضرر عن النّفس ودفع الضّرر عنها واجب ، وكلّ ما توقّف عليه الواجب وكان مقدورا فهو واجب عقلا وسمعا فاذا حصل الأمن وذهب الخوف عنا زالت الرّخصة في الاختلاف وتعيّن على الامام تعيين الحكم المعين لرعيّته وعليهم العمل به ، نسأل الله تعجيل الفرج.

وامّا خصومنا فانّ الله اراد منهم ما اراد منّا من الاقرار للامام بالامامة والانقياد لطاعته والتّسليم لأمره ، والأخذ عنه والرجوع إليه في الأحكام ، ولو انّهم فعلوا ذلك اذن لزال الخوف عن الامام في بيان الحق لأتباعه اذ لا مخالف له وعنهم في العمل به لانّ المسلمين على هذا كلّهم يكونون اتباع الامام فلا خوف لأحد منهم على احد ، لكن الخصوم لم يفعلوا شيئا من ذلك فلم يؤدّوا ما اراد الله منهم من طاعة الامام ، بل انكروا إمامته وخالفوه

ومنعوه واتباعه من مخالفتهم والزموه واياهم بموافقتهم ، وتوعّدوه بالقتل ان لم يفعل وقتلوا من الأئمة من لم يقبل ما طلبوا منه من موافقتهم ، ومن اتهموه بتبعية الامام من المسلمين ، فكان اختلافهم في الشّرعيّات ناشئا عن مخالفتهم ما اراد الله من طاعة الامام وفرعا على معصيته في حكمه المعيّن عليهم من تحري مخالفة الامام فلم يكن الله ليريد منهم الاختلاف المسبب عن مخالفتهم مراده ولا ليرخص لهم فيه لأن أصل اختلافهم في أحكامه خروجهم عن طاعته في أمره وردّهم عليه حكمه ، والله تعالى لا يرخص لأحد من الخلق في معصيته وردّ أمره ولا في اصل ذلك وفرعه ، فكانت حالنا غير حالهم ولم يكونوا مثلنا لأنا غير قادرين على ازالة المانع من اظهار الحق وهم متمكنون من ازالته ببذل الطّاعة للامام فافترقت الحال بيننا وبينهم ، فان قالوا : فما منع الامام من جهاد العدوّ ودفعهم ليتمكن من بيان الحق وما منع اتباعه من معونته على ذلك؟ قلنا : المانع للجميع عن الامرين كون اتباع الامام في جميع الاوقات لقلتهم بالإضافة الى مخالفيهم غير متمكنين من نصرة الامام الى حدّ يبلغ به الغلبة على اعدائه ودفعه الضرر عن نفوس اوليائه ليحصل له الامكان من تعيين الحكم الواقعي فكان حكم الله في حقّه وحقهم السكوت والكفّ فسبيلهم في هذه الحال سبيل المسلمين في مكة قبل الهجرة فان الله اوجب عليهم الكف وترك الجهاد واخبر عن ذلك بقوله عزوجل : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) الآية (١) وذلك لضعف المسلمين يومئذ عن مدافعة المشركين ولزوم اتيان المشركين عليهم لو جاهدوهم لكثرتهم ، وقد علم جميع الناس ان من جاهد من ائمة الحق لإحياء الدّين قهر وقتل افظع قتلة ، وذلك لقلّة ناصريه وسالم من قبله لكثرة خاذليه ولم يبلغ سيّد أئمة الهدى مطلبه ولم يدرك مأربه من اقامة عمود الدّين ،

__________________

(١) النساء : ٧٧.

واظهار الحقّ ونشر الاحكام لقصور اهل طاعته عن مقاومة مناويه وقلّة مواليه عن عدد معاديه ، فمن اين تحصل قدرة الباقين على ذلك مع تفاقم الخطب واشتداد شوكة الظّالمين وتشييد اركان دولة الفاسقين واحتياج الامام في ازاحة الظلم والعدوان الى اشتباك الحروب واستمرار القتل واستعار نار الوغا وإزهاق النّفوس وليس معه من يقوم ببعض ذلك ويصبر عليه؟ ، فانزاح الاعتراض واتضح من جملة ما قلناه دفع الايراد وثبوت المراد بتوفيق من بيده التوفيق للسّداد.

المقدّمة الرّابعة

انّه لا يجوز ان يكلف الله العباد بما لا سبيل لهم الى معرفته ولا طريق لهم الى استعلامه لانه تكليف ما لا يطاق ، والله تعالى منزّه عن التكليف به ، وهذه المقدّمة قد دل عليها العقل والنّقل ، فامّا العقل فان العقلاء يستقبحون مؤاخذة الغافل ومعاقبة من لم يعلم قبل التّنبيه والاعلام حتى شاع عند أولي الالباب انّه لا تكليف الّا بالبيان ، وامّا النّقل فالآيات كثيرة مثل قوله تعالى : (ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ) (١) وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) (٢) وقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٣) وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٤) وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ

__________________

(١) الانعام : ١٣١.

(٢) القصص : ٥٩.

(٣) الاسراء : ١٥.

(٤) النساء : ١٦٥.

مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (١) وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢) (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (٣) وقوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) وأيّ حرج اعظم من تكليف الانسان بما لا يعلمه ولا دليل له عليه فيكون منفيّا بعموم الآية؟ ، والآيات الدّالة على هذا المعنى بالصّريح غير ما ذكرناه كثيرة لا نطيل بذكرها القول ، ومن السنّة قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المستفيض (لا ضرر ولا ضرار في الدّين) وتكليف الانسان بما لا يعلم ضرر عليه ظاهر ، وكثير من السنّة صريح في المعنى مما لا حاجة الى ذكره ، ولا يخفى على الفطن الخبير على ان ذلك هو المعروف من سيرة النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فانّه ما قاتل احدا من المشركين الا بعد الانذار والاعذار إليه واقامة الحجة ان طلبها منه ، وهذه كانت سيرة امير المؤمنين (عليه‌السلام) وبالجملة فالأمر في هذا واضح ومنكر ذلك مكابر لا يلتفت إليه لأنه قائل بوقوع المحال وهو محال واولئك بعض حشوية العامّة وبعض اهل الضّلال النّاسبين الى الله تعالى القبيح قبّحهم الله واعمى بصائرهم واعاذنا من مقالتهم.

المقدّمة الخامسة

انّه لا طريق الى معرفة الحكم المعيّن عند الله في الواقعة الّا من بيان خليفة الرّسول (صلوات الله عليه) ، والدّليل على ذلك ان نصوص الكتاب والسّنة لا تفي الا بيسير من الاحكام الشرعية ، وظواهرهما لا تفيد اليقين

__________________

(١) طه : ١٣٤.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

(٣) الطلاق : ٧.

(٤) الحج : ٧٨.

لكثرة الاختلاف فيهما واحتمالها الوجوه المتعددة ، وباطن الكتاب لا تبلغه عقول الرجال ولا افهام الناس كيف والله تعالى يقول : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) (١) وليس الرّاسخ في العلم الّا الامام المؤيد من الله بالالهام كما سيأتي فيه البيان التام ، واخبار الآحاد لا تفيد الّا ظنا مع ان كلا من ظواهر الكتاب والسّنة النبويّة المتواترة واخبار الآحاد ، لا تستوعب الاحكام والوقائع ، والاجماع الضّروريّ لم يحصل الّا في قليل من احكام الشرائع ، وما ليس بضروريّ لا يفيد العلم مع انّ حجّيته بدون دخول من لا يجوز الخطأ عليه في الاحكام في جملة المجمعين غير ثابتة لجواز الخطأ على الآحاد فيجوز على الجملة ، ولا قدح في ذلك بالأخبار المتواترة لانّها اخبار عن محسوس والاجماع اخبار عن أمر نظري ، وليس يتطرق الى المحسوسات من الخفاء والاشتباه ما يتطرّق للأمور النظريّة غير اليقينية فلذلك امتنع الاشتباه في المحسوسات على الخلق الكثير عادة دون النظريات وحصل القطع باخبار جماعة كثيرة لا يحتمل تواطئهم على الكذب فيها دون النّظريات والمعاني المعقولة فان احتمال اتفاق الافهام على الخطأ فيها قائم فتبين الفرق وزال القدح ، والقياس لا يفيد الّا وهما غير معتبر في الشّرع ، لأن المطلوب معرفة الحكم باليقين لا بالوهم ، على ان اصحابنا أبطلوه من الاصل واحتج لابطاله شارح الباب الحادي عشر بان مبنى شرعنا على اختلاف المتّفقات كوجوب الصّوم آخر رمضان وتحريمه أوّل شوال ، واتّفاق المختلفات كوجوب الوضوء من البول والغائط ، واتّفاق القتل خطأ والظهار في الكفّارة ، هذا مع انّ الشارع قطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وجلد بقذف الزنا واوجب فيه اربع شهادات دون الكفر وذلك كلّه ينافي القياس ، وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (تعمل هذه الامّة برهة بالكتاب وبرهة

__________________

(١) آل عمران : ٧.

بالسّنة وبرهة بالقياس فاذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا واضلوا) (١) انتهى قلت : والادلة على بطلان القياس كثيرة قد تكفلت ببيانها كتب اصحابنا في الاصول وليس الغرض هنا التنصيص على بطلان القياس حتّى نستزيد من الادلة على فساده وانّما الغرض نفي كونه طريقا الى تحصيل الحكم التكليفي وهو حاصل بما ذكرناه ، وامّا الرجوع الى البراءة الاصليّة فظاهر انّه مستلزم لرفع احكام كثيرة لانّها عبادة عن اصالة براءة الذمّة من الوجوب والتّحريم فليست بطريق لبيان الاحكام فتبين ان لا طريق لمعرفة جميع احكام الله المطلوبة من المكلفين الّا بيان الامام لأن بيان الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يحصل في الجميع لكافة النّاس كما مرّ بيانه ووضح برهانه فلا بدّ من قائم مقامه في ذلك وهو خليفته والوارث منزلته ليبيّن للامّة ما احتاجوا إليه ، وحيث سلمت هذه المقدمات وصحت ثبت منها أن الحجة لله لا تقوم على العباد والعلة لا تزاح عنهم في جميع أزمنة التّكليف الا بهاد يهديهم الى الحق ومرشد يرشدهم الى الصّواب ودليل يدلهم على طريق الهدى وعالم لا يتغير علمه يبيّن لهم ما اختلفوا فيه من امر الدّين ويقيم لهم الكتاب ويوضح لهم متشابهات الآيات ويفصّل لهم مجملات السنة ويفسر لهم ما جهلوه من حدود الملّة وذلك هو الامام ، فاذن يجب في حكمة الله تعالى لذلك نصب امام يحصل به المطلوب في كل ازمنة التكليف ولا يجوز ان يخلو عصر من اعصار التكليف ولا وقت من اوقاته عمن يحصل به الغرض المذكور وتكون له تلك المرتبة الشّريفة.

الثالث (٢) : من الكتاب المجيد وهو قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ

__________________

(١) رواه السيوطي في الجامع الصغير ص ١٣٢ من طريق ابن عمر هكذا «تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول ثم تعمل برهة بالرأي فاذا عملوا بالرأي فقد ضلوا).

(٢) أي من الأدلة على أن الامام منصوب من الله تعالى.

بِإِمامِهِمْ) (١) فانّه صريح في انّ لكل اناس إماما ، وإضافته الى ضميرهم يدل على تغيّره بتغيّرهم فيكون لكل عصر امام ، وقد قال المفسرون في معنى الآية انّه ينادى في الموقف يا اتباع فلان ويا اصحاب فلان فينادى كلّ قوم باسم امامهم ، وهو نص فيما قلناه من انّه لا بدّ في كل عصر من امام ، وانّه شخص انساني لا القرآن اذ لا يتغيّر بتغيّر الازمان ولا يكنى عنه بفلان ، وقوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢) وهو أيضا نصّ في ان كل قوم لا بد ان يكون فيهم هاد يهديهم الى حكم الله ويدلهم على ما يقربهم إليه وليس عصر من الاعصار الا وفيه من هو كذلك ، فاذن وجود الامام واجب في كلّ اعصار التكليف ، وجملة من الآيات المتقدمة تومي إليه وكذا غيرها وان لم تكن صريحة فيه.

الرابع : الأخبار الدّالة على عدم خلو العصر من حجة لله على خلقه عالم لا يتغيّر علمه فمنها الخبر المشهور وهو قول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من مات بغير امام مات ميتة جاهليّة) (٣) وفي لفظ عبد الله بن عمر كما رواه الاسكافي (٤) (من مات ولا امام له مات ميتة جاهلية) ولفظ الصّدوق

__________________

(١) الاسراء : ٧١.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) في رواية مسلم في صحيحه كتاب الامارة باب الأمر بلزوم الجماعة برواية عبد الله بن عمر : (ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) ورواية الامام أحمد في المسند ٤ / ٩٦ : (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية).

(٤) الاسكافي : هو ابو جعفر محمد بن عبد الله من متكلمي المعتزلة وأحد أئمتهم وإليه تنسب الطائفة الاسكافية منهم ، بغدادي أصله من سمرقند وكان المعتصم العباسي يعظمه ، ومن آثاره الباقية «نقض العثمانية» وهي رد على رسالة الجاحظ المعروفة ب «العثمانية» وكانا في عصر واحد ، وقد نقل ابن ابي الحديد معظم هذه الرسالة في مواضع من شرح نهج البلاغة ، وقد طبعت رسالة الجاحظ مع نقضها في مصر توفي الاسكافي سنة ٢٤٠.

منّا : (من مات وليس له امام ...) الى آخره وذكر بهاء الدين الشيخ الجليل محمّد بن حسين بن عبد الصمد العاملي في شرح الاربعين لفظ الحديثين هكذا (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهليّة) (١) مشعرا بالاتفاق عليه وعلى كلّ حال فالخبر دالّ على انّه في كلّ زمان امام تجب معرفته على المكلّفين ولا يجوز لاحد جهله وانّ من مات من المسلمين ولم يأتم به مات ميتة كفر ولم ينفعه اسلامه ولا ما عمله من افعال الخير ، ولما قلناه طرق عبد الله بن عمر بن الخطاب على الحجّاج بابه ليلا ليبايعه لعبد الملك بن مروان فقال الحجّاج لحاجبه : قل له يأتي الصّبح فابى ان ينصرف قبل المبايعة وذكر الحديث (٢) مستدلا به وانّه خاف ان يطرقه الموت في تلك الليلة فيموت ولا امام له كما رواه العامة من امره وفعله ولا يجوز ان يكون المراد بالامام في الحديث المذكور القرآن كما زعم بعض اهل الخلاف لوجوه.

الاوّل : انّ القرآن لا يجهله احد من المسلمين ولا يزعم مخالفته احد ، والامام المذكور في الخبر ممّا تقع عليه الخفية وتعرض للنّاس فيه الجهالة ، وانّهم يكونون بين عارف به وجاهل ومؤمن به وتارك فيكون غير القرآن.

الثاني : ان الامام المذكور في الخبر ممّا يتغير بتغير الازمنة وتغيّر المكلّفين ولو لم يكن كذلك لم يعرض للنّاس عدم معرفته فيموت منهم من ليس عارفا به ولا معتقدا إمامته والقرآن لا يتغير بتغيّر الزمان فيكون الامام المذكور غير القرآن.

الثالث : انّ لفظ الامام ظاهر في شخص انساني له رتبة الامامة لأنه هو المتبادر منه عند الاطلاق ويرشد إليه ان الامام في الخبر لو كان المراد به القرآن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٤٢ عن نقض العثمانية.

(٢) نفس المصدر :

لكان المراد اما معرفة احكامه او العمل به او معرفة انّه كتاب الله وان ما فيه من الاحكام عن الله وهو التّصديق به المعبّر عنه بالمعرفة الاجمالية ، لا شيء غير هذه الثلاثة فان كان المراد الاوّل فاكثر المسلمين غير عارفين باحكام القرآن وانّما يعرفه الأوحديّ من العلماء والمقلد لا يطلق عليه لفظ المعرفة في العرف القديم ولا باعتبار اللغة العربية فيجب حينئذ ان يكون جميع الناس مكلّفين بمعرفة احكام القرآن ومعانيه عن نظر واجتهاد ومن قصر عن ذلك من المسلمين مات كافرا وهذا مخالف لاتفاق الامّة اذ لا يشترط احد من اهل العلم ذلك في صحة الايمان ثمّ كيف تحصل لاحد من العلماء معرفة معاني القرآن والاحاطة بما فيه من الاحكام على التمام مع اشتماله على المتشابه والمجمل والخاص والعام والناسخ والمنسوخ وغير ذلك من الوجوه ، وعلى هذا لا يموت احد من الناس الا كافرا لتعذر الاحاطة بمعرفة القرآن عليه ولا شك في بطلان هذا الوجه وملزومه ، وان كان الثاني فاكثر الناس غير عاملين بالقرآن بل نبذوا احكامه وتركوا أوامره وعصوا زواجره ولم يعمل به ولا يخالفه في جميع الاحكام الّا يسير بل ايسر من اليسير ومن عمل من الناس به لم يعمل من احكامه الا بالقليل فيجب على هذا انّ من مات وهو عاص فقد مات كافرا لعدم امتثاله لبعض احكام القرآن على ان ذلك لازم في اكثر الناس لما اخبر الله سبحانه في القرآن عن عصيان اكثر الناس بقوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) وقوله تعالى : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢) وبطلان هذا واضح كالاوّل لا سيّما عند الخصوم ، وان كان الثالث فذاك لا يجهله مسلم ولا ينكره مقر بنبوّة نبيّنا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا معرض للجهالة فيه فلا معنى لتقسيم النّاس بين ميّت على معرفته وميّت على الجهل به كما هو مفاد الخبر فظهر من ذلك انّ المراد بالامام فيه غير القرآن ، ولا يجوز

__________________

(١) سبأ : ١٣.

(٢) الأعراف : ١٧.

ان يراد منه امام المذهب مطلقا ـ كما انّه ربما يقول به متعصّب من القوم المخالفين لوجوه.

الاوّل : ان المتبادر من لفظ الامام في المقام ـ بل اذا اطلق مطلق ـ الرئيس العام المنصوب من قبل الملك العلام لا فقيه قلّده في فتاواه جملة من الرّعاع وحثالة من النّاس والتبادر أمارة الحقيقة.

الثّاني : انّ تسمية الفقيه الذي قلّده قوم على ما ذكرناه بالامام انّما هو شيء طار من متأخري مخالفينا واصطلاح جديد منهم ولم يكن معروفا في القديم ولا يعرفه الصّحابة ولا التّابعون ولا من بعدهم بطبقات متعددة وانّما يعرفون من الامام الرئيس العام ، فيلزم ان جعلنا لفظ الامام في الخبر واقعا على فقيه مقلّد لقوم ان يكون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاطب اصحابه بما لا يعرفونه وكلفهم بما لا يفهمونه وذلك غير جائز.

الثالث : انّ الامام في الخبر لو كان كما يظنّ من انه الفقيه المذكور لوجب ان يكون الناس قبل اختراع المذاهب الاربعة ماتوا على الكفر حتى الأئمّة الاربعة لانّهم ماتوا ولم يعرفوا انّهم بالمنزلة الّتي جعلها لهم اكثر العامة ولا دخل في خلدهم ذلك ولا ظنّوا انهم يكونون ائمة لا يجوز مخالفتهم وقتا ما ، ويكون الصّحابة ومن بعدهم ماتوا كفّارا لأنّهم لم يعرفوا ان ائمة المذاهب يكونون فلانا وفلانا الى آخرهم ، وهذا ما لا يقول به مميّز ولا المراد السّلطان المتغلّب الجائر كما ذكره بعض العامّة اذ لا تجوز ولايته ولا الركون إليه بنصّ القرآن في قوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) فكيف يكفر من مات جاهلا به وغير معتقد إمامته ، وهذا لا يرتاب فيه ذو فهم ولقد رووا عن امامهم ابي حنيفة انّه قال : «لو دعاني اللص

__________________

(١) هود : ١٣.

الدوانيقي الى حمل اجرة الى بناء مسجد ما أطعته» (١) واذا بطل ما احتملوه من الاحتمالات في الخبر في معنى الامام تعين ان يكون المراد منه ما ذكرناه وهو الرئيس العامّ المنصوب من الله لهداية الناس وحماية حريم الاسلام ، والظاهر من ابن ابي الحديد (٢) ظهورا يقرب الى التصريح ان المراد بالامام في الخبر الائمة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان من مات وهو عارف بهم كان مؤمنا ومن مات ولم يعرفهم مات فاسقا وخلّد في النار واراد بهم الخلفاء الاربعة ومن صحت إمامته بعدهم عند اصحابه ، وليس المراد من الامام من هو في زمان المكلّف الميّت ، وجوابه معلوم ممّا ذكرناه في أوّل الكلام على معنى الخبر ويؤيده ما رووه وهو أيضا من الراوين لفعل عبد الله بن عمر مع الحجاج وقد مرّ ذكره فانّه مصرح بانّه فهم من الامام المذكور في الخبر امام زمان المكلّف لا الامام الّذي مضى زمانه وانقضى دوره ، وان كان قصّر في النظر حيث جعل امام الفساق الّذي تجب عداوته كإمام الحق الذي تجب معرفته ، بل رجح الاوّل على الثّاني فقعد عن بيعة امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) وخذله مع الخاذلين وفعل ما سمعت في بيعة عبد الملك ولقد ازرى عليه الحجّاج بذلك واستحقره حتّى انه لم يجلس له ولم يعطه يده بل اخرج احدى رجليه من اللّحاف وهو نائم وقال بايعها فانّ يدي عنك مشغولة (٣) وهذا من فرط جهله او شدة عداوته لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) يرثها لا عن كلالة ، والحاصل ان الخبر واضح في ان لكل زمان إماما تجب معرفته على المكلفين ولا يسعهم جهله لا سيّما على ما ذكره البهائي في لفظ الحديث ، والاحتمالات مزيّفة وهو المطلوب روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب

__________________

(١) في نور الأبصار للشبلنجي ص ٢٠٦ وكان أبو حنيفة يقول في المنصور وأشياعه : «لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على رد آجره لما فعلت».

(٢) شرح نهج البلاغة ٨ / ٣٧٣.

(٣) نفس المصدر.

الكليني بسنده عن بريد قال سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول في قول الله تبارك وتعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) (١) فقال : (ميت لا يعرف شيئا ونورا يمشي به في النّاس إماما يأتم به ، كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها قال : الذي لا يعرف الإمام) (٢) : وعن ابي بصير عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) في قول الله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٣) قال : طاعة الله ومعرفة الإمام (٤) انتهى.

ومنها : قول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث الثقلين (لم يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) فبيّن بذلك انّه لا بدّ من متمسك به مع القرآن من عترته في كل زمان لا ينقطع في وقت ما دام التكليف باقيا حتى يردا عليه الحوض وهو وقت انقطاع التكليف وذلك المتمسّك به الّذي هو قرين القرآن هو الامام المدّعى اذ لا يجوز ان يكون غيره فيكون باقيا ما بقي التكليف كبقاء القرآن فيجب ان يكون في كل عصر من هو كذلك حتّى تصدّق القضيّة الّتي لا يجوز عليها الكذب.

ومنها : ما رواه الحاكم وصححه على شرط الشّيخين من قول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (النجوم امان لأهل الأرض من الغرق واهل بيتي امان لأهل الأرض من الاختلاف) (٥) وروى احمد بن حنبل عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اذا ذهب النّجوم ذهب اهل السّماء واذا ذهب اهل بيتي ذهب اهل الأرض) (٦) وروى جماعة من محدّثيهم عن النّبي (صلى الله عليه

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

(٢) الكافي : الأصول ١ / ١٤٢ ورواه العياشي في تفسيره ١ / ٣٧٥.

(٣) البقرة : ٢٦٥.

(٤) الكافي : الأصول ١ / ١٤٢ ورواه العياشي في التفسير ١ / ١٥٠.

(٥) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.

(٦) رواه المحب الطبري في ذخائر العقبى ص ١٧. وقال : «اخرجه احمد في المناقب.

وآله وسلم) قال : (النّجوم امان لأهل السّماء واهل بيتي امان لأمّتي) (١) وفي رواية اخرى (اهل بيتي امان لأهل الأرض فاذا هلك اهل بيتي جاء اهل الارض من الآيات من كانوا يوعدون) (٢) قال في اسعاف الراغبين وهو من اشد المخالفين بعد نقل هذه الاخبار وقد يشير الى هذا المعنى قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٣) قيام اهل بيته مقامه في الأمان لأنهم منه وهو منهم كما ورد في بعض الطرق انتهى (٤).

اقول وهذه الأخبار صريحة في انه ما دام التكليف باقيا فلا بدّ من شخص من العترة يؤمن به اهل الأرض من الاختلاف وان الأرض لا يمكن خلّوها من شخص بهذه المثابة ولو خلت منه لهلك اهلها وذهبوا ، فهم امان لأهل الأرض من الهلاك والاختلاف ، وليس كذلك الا من ذكرناه وهو الامام المنصوب من قبل الله لبيان الأحكام ورفع الاختلاف وازالة الاشتباه عن المكلفين في الحلال والحرام لا مع جميع قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ ليس كلهم ممن يرضى مذهبه ويحمد طريقه.

وبالجملة انّه لا يصلح لرفع الاختلاف ويكون امانا منه ومن الهلاك للعباد الا من هو مؤيد من الله بالالهام ومخصوص من النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاعلام لا يتغيّر علمه ولا يتبدّل حكمه وما سواه لا يكون كذلك كما هو ظاهر ، وهذا تصديق ما روي عن ائمتنا (عليهم‌السلام) في هذا المعنى روى الشّيخ الجليل محمّد بن يعقوب الكليني عن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس عن ابن مسكان عن ابي بصير عن احدهما

__________________

(١) رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٥٨ وفيه «ذهب» مكان «هلك».

(٢) رواه بهذه الصورة المحب في الذخائر ص ١٧.

(٣) الانفال : ٣٣.

(٤) اسعاف الراغبين ص ١٢٩ ويلاحظ أن المؤلف نقل كل تلك الأحاديث عن الاسعاف.

(عليهما‌السلام) قال : (قال : ان الله لم يدع الأرض بغير عالم ولو لا ذلك لم يعرف الحقّ من الباطل) وعن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن الفضيل عن ابي حمزة قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : تبقى الأرض بغير امام؟ قال : (لو بقيت الأرض بغير امام لساخت) وعن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن محمّد بن الفضيل عن ابي الحسن الرّضا (عليه‌السلام) قال : قلت له : اتبقى الأرض بغير امام؟ قال : (لا) قلت : فانا نروي عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) انها لا تبقى بغير امام الا ان يسخط الله على اهل الأرض او على العباد فقال : (لا تبقى اذا لساخت) (١) وعن عليّ بن ابراهيم عن محمّد بن عيسى عن ابي عبد الله المؤمن عن ابي هراسة عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال : (لو أنّ الامام رفع من الأرض ساعة لماجت باهلها كما يموج البحر باهله) وعن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد عن بعض اصحابنا عن ابي عليّ بن راشد قال : قال ابو الحسن (عليه‌السلام) : (ان الأرض لا تخلو من حجّة وانا والله ذلك الحجّة) (١) الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي يضيق بنقل بعضها المقام.

وممّا يدلّ على المطلب من كلمات امير المؤمنين (عليه‌السلام) واقواله الّذي ثبت عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حقّه (انه مع الحقّ والحقّ معه) كثير نذكر منه شيئا.

فمنها : قوله لكميل بن زياد في كلام طويل (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة اما ظاهرا مشهورا واما خائفا مغمور لئلا تبطل حجج الله وبيّناته وكم ذا واين؟ اولئك والله الاقلّون عددا الاعظمون عند الله قدرا يحفظ الله حججه وبيناته حتى يودعوها نظراءهم ويزرعوها في قلوب اشباههم هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما

__________________

(١) جل ما نقله المؤلف في المتن من الروايات نقلها من الكافي ١ / ١٣٦ و ١٣٧.

استوعره المترفون وانسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدّنيا بابدان ارواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى أولئك خلفاء الله في ارضه والدّعاة الى دينه ، اه اه شوقا الى رؤيتهم) (١) وهذا الكلام نصّ صريح في وجوب دوام الحجّة وبقاء الخليفة في الأرض ما دام التكليف باق لا يموت واحد حتّى يخلفه من يقوم مقامه وحمل ابن ابي الحديد هذا الكلام على الأبدال السائحين (٢) في الأرض فاسد يردّ قوله (عليهم‌السلام) : (وخائفا مغمورا) فان الأبدال الذين عناهم ابن ابي الحديد لا خوف عليهم من احد ثم انّه من اين يكون لأحد هذا المقام الّذي ذكره امير المؤمنين (عليه‌السلام) وهذه الأوصاف غير الأئمة بالمعنى الّذي قدمناه خصوصا قوله (عليه‌السلام) : (لئلا تبطل حجج الله وبيناته» وقوله : «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة» الى آخر الاوصاف اذ من المعلوم البتة انّه ليس احد من المقلد الذين لا يعرفون الحلال والحرام الا من فتوى الى ابي حنيفة ومالك والشّافعي واضرابهم الّذين يقيسون الدّين برأيهم بقائم لله بالحجّة وهو مقلّد لمن لم يقم بها فمن اين هجم العلم بهؤلاء على حقيقة البصيرة؟ بل من اين حصلت لهم البصيرة هم مقلّدون لمشايخهم ، وهم مختلفون؟ والخارج عن تقليد المشايخ الاربعة غير صحيح العبادة عند المعتزلي فمن اين يكون قائما بحجّة الله الى آخر الاوصاف؟ ومن ارادهم بقوله لم ينالوا من البصيرة ما يبل صدى الظمئان؟ على انا لا نعرف الأبدال السّائحين في الأرض ولم ندرك منهم من هو مصداق هذه الاوصاف حتّى نجعل من لم نره منهم بحكمه كما رأينا الامام الظاهر وجعلنا الغائب بحكمه بل انا لا نعرف السّائحين الّا القوم الّذين يقال لهم الكلندرية والعامّة يسمونهم اولياء ويطلق عليهم الناس لفظ الدّراويش وهؤلاء قوم لا يصلون فضلا عن ان يكونوا يحسنون الصلاة افترى هؤلاء الّذين عناهم امير المؤمنين بان باشروا

__________________

(١) نهج البلاغة برقم ١٤٧ حكم.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٨ / ٣٥١.

روح اليقين او انّهم خلفاء الله في ارضه والدّعاة الى دينه؟ وسائحا غير هؤلاء لا نعرفه ، ان صريح كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) ان القوم الذين وصفهم منهم ظاهر ومنهم مستور وكلام المعتزلي مصرّح بان جميع السّائحين مستورون لا يعرفون ، فلا يطابق كلامه لفظ الخبر ومعناه فلا يصح ان يحمل عليه ، وبالجملة ان كلام المعتزلي لا معنى له وانّما هو من ضيق الخناق فيتعلل بما لا يجدي نفعا والله الهادي.

ومنها : قوله (عليه‌السلام) في خطبة له (والهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان لله في اهل الارض حاجة من مستسرّ الامّة ومعلنها لا يقع اسم الهجرة على احد الا بمعرفة الحجّة في الأرض فمن عرفها واقرّ بها فهو مهاجر ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها اذنه ووعاها قلبه) (١) وهذا الكلام من اصرح الصّريح في ان الأرض لا تخلو من امام تجب معرفته وان من عرفه صح عليه اسم الهجرة فسمّى مهاجرا وان من لم يعرفه سمّي مستضعفا لا دين له وهو قوله (عليه‌السلام) ، لا يقع اسم الهجرة على احد الا بمعرفة الحجّة في الأرض ولا يقع اسم الاستضعاف الى آخره وان ذلك باق ما دام التكليف موجودا وهو قوله (عليه‌السلام) «ما كان لله في اهل الأرض حاجة» وقد اعترف المعتزلي بذلك فانّه لما ذكر الفرق بين هذه الهجرة الّتي ذكرها امير المؤمنين وبين الهجرة التي ذكرها النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقوله : (لا هجرة بعد الفتح) وخصّ الاولى بالهجرة الى الامام قال : ثمّ ذكر يعني امير المؤمنين انه لا يصح ان يعد الانسان من المهاجرين الا بمعرفة امام زمانه وهو معنى قوله : (الا بمعرفة الحجة في الأرض) قال : فمن عرف الامام واقرّ به فهو مهاجر قال : ولا يجوز ان يسمّى من عرف الامام مستضعفا ـ الى ان قال ـ : وشيعة الامام ليست الهجرة بالبدن مفروضة عليهم بل تكفي معرفتهم به واقرارهم بامامته فلا يقع اسم الاستضعاف

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطية ١٨٧.

عليهم (١) انتهى قوله : ولازم قوله انّه من المستضعفين لانّه لا امام له على طبق مذهبه والخلفاء الفسّاق الذين في زمانه من بني العبّاس لا يصلحون للامامة على الوجه المذكور في قول اصحابه ، وإمامنا المستور عن اهل الغرور لا يثبت هو وجوده بل ينفيه في مواضع كثيرة بالصّريح من كلامه فبقي حينئذ بلا امام عدل فهو من المستضعفين لا محالة ، والعجب منه في هذا الموضع انّه لم يذكر ان الامام الّذي معرفته تكون هجرة هو القطب الّذي كان يدّعيه في شرح كثير من خطب امير المؤمنين المشابهة في المعنى لهذه الخطبة ، واظنّه هنا نسي ذلك ولم يتصوّر ان الكلام نصّ في مذهب الاماميّة ليتصدى لدفعه ولو بالرّاح ولستره ولو بالزّجاج ، وانت خبير بان الكلام المذكور صريح وايّ صريح فيما ندّعيه.

واعلم انّ امير المؤمنين (عليه‌السلام) اراد بالمهاجر والمستضعف في قوله المذكور واشار به الى ما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) (٢) الآية فمن عرف الامام في زمانه كان مهاجرا في الأرض وان لم يخرج من منزله ومن جهل امام زمانه فهو مستضعف وان جاب الاقطار.

ومنها : قوله في خطبة (وانما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده ولا يدخل الجنّة الّا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النّار الّا من انكرهم وانكروه) (٣) الخطبة ، وهي وفق المدّعى لأنّ قوله (عليه‌السلام) : «الأئمة قوام الله على خلقه» صريح في دوام وجود الامام واستمراره باستمرار زمان التّكليف ، لأن القائم على الخلق والعريف عليهم يستحيل ان يكون غير موجود ولا حيّ ولا عارف باحوالهم ، وقوله (عليه‌السلام) : «لا يدخل الجنّة»

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ١٠٤.

(٢) النساء ٩٧.

(٣) نهج البلاغة من الخطبة ١٥٠.

الخ .. معناه انّه لا يدخل الجنّة الّا من عرفهم بالامامة واقرّ لهم بها وعرفوه بالاقرار لهم بذلك فيجب حينئذ ان يكون في كلّ عصر امام قائم لله على خلقه وعريف عليهم يدخل الجنّة من اقرّ له بالامامة ويدخل النّار من انكر إمامته ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة وهو المطلوب ، والكلام ظاهر في سعة علم الامام لتمكنه من معرفة عارفيه ومنكريه مع بعد ديارهم وكثرتهم ، وهو تصديق ما ورد من طرقنا عن اهل البيت ان الامام يعرف اولياءه واعداءه في أقاصي الأرض وادانيها ، وانّ الدنيا عند الامام بمنزلة الدّرهم في كف الانسان يقلبه يعلم اعلاها واسفلها كما رواه المشايخ الكبار مثل محمد بن الحسن الصّفار ومحمّد بن يعقوب وابن بابويه وغيرهم من اكابر محدّثينا في كتبهم ، وليس المراد انّ الأئمة يعرفون اولياءهم يوم القيامة خاصة كما ذكره ابن ابي الحديد في شرح الخطبة (١) لأن الذين لا يعرفون اولياءهم الّا في الآخرة لا يسمون عرفاء الله على خلقه في الدّنيا لأنّ العريف النقيب والرئيس ، على ان معرفة الولي والعدوّ في الآخرة لا يختص بالأئمة بل الخلق كلّهم ينكشف لهم حينئذ الغطاء فيعرف اهل الجنّة اولياءهم ويكونوا (اخوانا على سرر متقابلين) ، ويعرف اهل النّار اولياءهم (كلما دخلت أمّة لعنت اختها) ويعرف المظلوم ظالمه وان كان بعد موته بذكر سيئ ويعرف المحسن من احسن إليه كذلك كما هو معلوم لدى العارفين فلا فضل للأئمة في هذا يوم القيامة على غيرهم ثم ان المتبادر من قوله : «لا يدخل الجنة» الخ .. انّه لا يدخل الجنة الّا من عرفهم في الدّنيا بالامامة وعرفوه في الدّنيا بالاقرار لهم بها ولا يدخل النار الا من انكر إمامتهم في الدّنيا وانكروه ، اي لم يعرفوه في الدّنيا بالاقرار لهم بالامامة وهو يؤيد المطلب ويوضحه ، وكلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) في هذا المعنى كثير وسيأتي بعض منه في آخر الكتاب في موضع يشبه هذا الموضع او هو فرعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٥٤.

احتج قوم من الخصوم على جواز خلوّ العصر من امام بقوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (١) وبقوله تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٢) واجاب اصحابنا عنه بأنّ الآيتين نفي للرّسول لأنّ النذير هو الرّسول كما يدل عليه قوله في الآية الثانية (وَما أَرْسَلْنا) وقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) (٣) وكثير من الآيات وليس في الآيتين نفي الأنبياء والأوصياء الهادين الى الله تعالى والاوّل نقول به فانّا نجوّز خلوّ العصر من رسول مبعوث بل من نبيّ ولا نجوّز خلّوه من وصيّ هاد تقوم به الحجة لله على العباد والآيتان لا تنفيانه فلا حجّة لكم فيهما على ما ادعيتم اقول امّا قوله تعالى في الأولى : (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (١) وفي الثّانية : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) (٢) فمحتمل لان يكون الله تعالى اخبر انه لم يرسل في قريش رسولا منهم قبل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان كان ارسل فيهم من غيرهم وبلغتهم دعوة الرّسل (عليه‌السلام) الى توحيد الله تعالى فليس في الآيتين دلالة على انتفاء الرّسل مطلقا وانما اقصى دلالتهما على انتفاء رسول الى قريش عن انفسهم قبل النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويؤيد ما قلناه قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٤) فانّها ناصّة على انّه لا تخلو أمّة من الامم من رسول إليهم منذر يخوفهم من العقاب وقد اعترف بذلك شيخ المعتزلة ابو علي الجبائي (٥) فقال وفي هذا دلالة على انّه لا

__________________

(١) السجدة : ٣.

(٢) سبأ : ٤٤.

(٣) فاطر : ٤٢.

(٤) فاطر : ٢٤.

(٥) أبو علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب المعتزلي توفي سنة ٣٠٣ ويقال له ولولده أبي هاشم عبد السلام المتوفى سنة ٣٢١ الجبائيان وكلاهما من أكابر شيوخ المعتزلة.

احد من المكلفين الّا وقد بعث إليهم الرّسول وانه سبحانه اقام الحجّة على جميع الامم انتهى ومثل ما قلناه في الآيتين قال به الحسن البصري في قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ) (١) فقال : (لم يأتهم نذير من أنفسهم وقومهم وان جاءهم من غيرهم) ويحتمل أيضا أنّ المراد ما أتاهم من نذير من قبلك على حسب ما جئت به وكذلك في الآية الثانية وهذا كما قاله قوم في (لِتُنْذِرَ قَوْماً) الآية فتبيّن أنّ الآيتين اللّتين احتج بهما الخصم لا تدلان على خلوّ العصر من الرسل فضلا عن أن تدلّا على خلّوه من الأوصياء الهادين فسقط الاحتجاج بهما رأسا ،

وأما الآية الثالثة وهي قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) فقد عرفت ما قيل فيها مما لا ينفي وجود الرّسل إلى قريش من غيرهم ، على أنّ المروي عن عكرمة (٢) في معناها لتنذر قوما كما انذر آباؤهم بجعل ما مصدريّة لا نافية وحرف التشبيه محذوف كما حذف في قوله تعالى : (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (٣) وهذا القول ادل على المطلوب من الاوّل ويعضده آيات كثيرة (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) الآية ، وآيات نفي الحجّة للنّاس على الله بعد الرّسل وقوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ) (٤) وقوله تعالى : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٥) جوابا لقولهم

__________________

(١) يس ٦ ورأي الحسن البصري نقله الطبرسي في مجمع البيان ٨ / ٤١٦.

(٢) عكرمة بن عبد الله البربري المدني مولى ابن عباس من التابعين كان عالما بالتفسير وبالمغازي اتصل بنجدة الحروري وتأثر برأيه وخرج الى المغرب وأخذ عنه أهلها رأي الصفرية من الخوارج وعاد الى المدينة فطلبه أميرها فتغيب حتى مات حسنة ١٠٥.

(٣) النمل : ٨٨.

(٤) المؤمنون : ٤٤.

(٥) آل عمران : ١٨٣.

(لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) (١) الآية كما قاله بعض الافاضل واما في الظاهر فهي جواب لقول اليهود (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) (٢) كما قصّه الله من قولهم فلا حجة فيها على المقصود فهذه الآيات دالة على انّ الله عزوجل لم يترك أمّة بغير رسول تقوم به الحجّة عليهم وقال الشيخ الصّدوق : «ان معنى الآية الأولى وهي قوله تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) (٣) أي ما جاءهم رسول بتبديل شريعة ولا نسخ ملّة ولم ينف الهداة الدعاة من الأوصياء» (٤) انتهى وهو محتمل أيضا.

أما قوله : تعالى : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) (٥) فلا دلالة فيه على نفي الرّسول وانّما غاية دلالته على انّه لم ينزل الله على قريش كتبا من السّماء بلسانهم قبل القرآن وهذا ما لا ينكره أحد ولا ينفع الخصم اذ لا يجب في كلّ رسول أن يكون معه كتاب وله شريعة بل يجوز ارسال الرّسل يدعون الى شريعة واحدة ولتأكيد ما في العقول كما ذهب إليه الامامية وأبو علي الجبائي واتباعه من المعتزلة ، ودلّ على الأوّل الاتفاق على أن لا شريعة لاحد من الأنبياء إلّا لآدم ونوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان كلّ الرسل غيرهم يدعون الى الشرائع السّابقة على شريعتنا ، والحاصل انّ الآيات لا تدل على نفي الرسل مطلقا بوجه من الوجوه ، ولو نزلنا للخصم عن الحجّة وقلنا بدلالتها على ذلك لم تكن دالة على نفي امام هاد تقوم به الحجّة لله على العباد كما عرفت من البيان ، وقد وضح من ذلك سلامة ادلتنا الدالّة على وجوب وجود امام في كلّ زمان من ازمنة التّكليف عن

__________________

(١) طه : ١٣٤.

(٢) آل عمران : ١٨٣.

(٣) القصص : ٤٦.

(٤) إكمال الدين واتمام النعمة ٦٢٤ وقد نقله المؤلف هنا ملخصا.

(٥) سبأ : ٤٤.

معارض فتعيّن القول به والمصير إليه ، ولا بأس بنقل بعض الاخبار عن ائمتنا (عليهم‌السلام) في هذا المعنى روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني بسنده عن ابي بصير قال : قلت لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فقال : رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المنذر وعلي الهادي ، يا أبا محمد هل من هاد اليوم؟ قلت : بلى جعلت فداك ما زال منكم هاد بعد هاد حتى دفعت أليك فقال : (رحمك الله يا أبا محمّد لو كان اذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرّجل ماتت الآية مات الكتاب ولكنه حيّ يجري فيمن بقي كما جرى فيمن مضي) (١)

وروى الصدوق رئيس المحدثين بسنده عن ابي الصباح عن ابي عبد الله (عليه‌السلام) قال : (ان الله تبارك وتعالى لم يدع الأرض الا وفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان فاذا زاد المؤمنون ردهم واذا نقصوا شيئا اكمله لهم ولو لا ذلك لالتبست على المؤمنين امورهم).

وبسنده عن عبد الأعلى بن اعين عن ابي جعفر (عليه‌السلام) قال سمعته يقول (ما تترك الأرض بغير عالم ينقص ما زادوا ويزيد ما نقصوا ولو لا ذلك لاختلطت على النّاس امورهم) (٢).

وعن سليمان الأعمش عن الصادق جعفر بن محمد في حديث قال : (ولم تخل الأرض منذ خلق الله الخلق من حجّة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو حتى تقوم السّاعة من حجة لله فيها ولو لا ذلك ولم يعبد الله) قال سليمان فقلت للصّادق فكيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟ قال : (كما ينتفعون بالشمس اذا سترها سحاب) (١) اللهم ثبتنا على

__________________

(١) الكافي ١ / ١٤٧.

(٢) المنقول هنا عن الصدوق تجده ما بين ص ١٩٧ ـ ٢٠١ من كتابه إكمال الدين واتمام النعمة.

الحق وموالاة الحجّة انّك تثبت الّذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) نفس المصدر.

الفصل الأول

في شروط الامام

وهو يشتمل على مسائل :

المسألة الأولى :

في عصمة الامام وينبغي أوّلا بيان معنى العصمة ، فقد اختلف فيها المتكلمون بعد الاتّفاق على انها في اللغة المنع ومنه قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (١) وقوله تعالى (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (٢) فذكر اصحابنا انّ العصمة لطف خفي يفعله الله تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داع الى ترك الطّاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك ، وفسّرها بانها الأمر الّذي يفعله الله من الالطاف المقربة الى الطّاعات الّتي يعلم معها انّه لا يقدم على المعصية بشرط لا ينتهي ذلك الأمر الى الإلجاء ، وفسّرها بعض آخر بانّها ملكة نفسانية لا تصدر عن صاحبها المعاصي ، وكلّ هؤلاء متّفقون على ان العصمة لا يشترط فيها سلب القدرة على المعصية ، وذهب قوم الى اشتراط سلب القدرة على المعصية في العصمة ، ثم اختلفوا في معناها فقال قوم : انّ المعصوم مختصّ في بدنه وفي نفسه بامر يقتضي امتناع اقدامه على المعصية فالعصمة على هذا هي ذلك الأمر المذكور ، وقال بعض : انّ العصمة هي القدرة على الطّاعة وعدم القدرة على المعصية ، وهو قول ابي

__________________

(١) المائدة : ٦٧.

(٢) هود : ٤٣.

الحسين البصري ، (١) واصحابنا رضوان الله عليهم لا يختلفون في قدرة المعصوم على المعصية لكنه لا يفعلها ، ولا يصح نسبتها إليه ، بل ينبغي ان يقال : انّه لا يشترط في العصمة الا تخطر المعصية بباله اذ لو لا ذلك لكان مسلوب القدرة ، والاصح ما قاله اصحابنا : انّ المعصوم لو لم يكن قادرا على فعل المعصية لما كان مكلّفا بتركها اذ شرط التكليف بالشيء القدرة على فعله وتركه اذ لا يصحّ ان يقال انّ الانسان مكلّف بترك الطيران الى السّماء كما انّه لا يجوز ان يكلف بالطّيران إليها لعدم الاستطاعة الى ذلك والتّالي باطل فقد علمنا بتوجّه الأمر والنّية الى المعصومين من الأنبياء والأوصياء واذا بطل التالي بطل المقدم ، وأيضا لو كان المعصوم غير قادر على فعل المعصية لما استحق على تركها ثوابا ولا مدحا لأنه في تركها مجبور على الترك وملجأ الى الاجتناب ، ولا مدح لمجبور ولا ثواب لملجإ كما لا يخفى والكلّ باطل بالاتّفاق اذ لا نزاع في استحقاق المعصوم على ترك المعصية المدح والثواب والكتاب دال عليه فالمقدم باطل أيضا ، اذا عرفت هذا فاعلم انّ النّاس قد اختلفوا في ان الامام يجب ان يكون معصوما أم لا؟ فذهب اصحابنا الامامية ووافقهم الاسماعيليّة الى انّ الامام يجب ان يكون معصوما من اوّل عمره الى آخره عن ارتكاب المعاصي كبائرها وصغائرها وعن الخطأ في الأحكام ، وقال باقي الفرق لا يجب في الامام العصمة بل تكفي العدالة ، والأصح هو مذهب اصحابنا ولنا على ذلك وجوه من الادلّة عقلا وسمعا.

الاوّل : ان المحوج الى الامام هو جواز الخطأ على الامّة في العلم والعمل فلو جاز الخطأ على الامام فيهما لوجب له امام آخر وذلك الامام أيضا ان كان معصوما ثبت المطلوب والا احتاج الى امام آخر فيتسلسل الى غير النّهاية

__________________

(١) ابو الحسين البصري : محمد بن علي الطيب من اعلام المعتزلة ومتكلميهم توفي سنة ٤٤٦ ومن كتبه غرر الأدلة أشار إليه ابن ابي الحديد في شرح النهج في اكثر من موضع.

والتّسلسل باطل فوجب ان يكون الامام معصوما دفعا للزوم التسلسل لولاه ، واجاب القوشجي عن هذا الدّليل بانّ للاشاعرة ان يقولوا لا نسلم ان الحاجة الى الإمام لما ذكرتم ، بل لما ذكرنا في وجوب نصب الإمام ولا يلزم ان يكون معصوما.

اقول : وجوابه قد عرفته فيما سبق عند ايراد ما احتج به على وجوب نصب الامام سمعا فانا بيّنا هناك بطلان ما قال وبيّنا انّ الحاجة الى الامام هو ما ذكرناه لا ما ذكره خاصّة بما لا مزيد عليه.

الثاني : انّ الامام حافظ للشرع فلو جاز عليه الخطأ لم يكن حافظا له هذا خلف اما انّه حافظ للشرع فلما نبيّنه وما بيّناه في المقدمة ، وامّا ان المخطئ غير حافظ للشرع فظاهر لا يحتاج الى بيان فوجب ان يكون الامام معصوما.

واجاب القوشجي عنه بانّ الامام ليس بحافظ للشرع بذاته بل بالكتاب والسّنة واجتهاده الصّحيح فان اخطأ في اجتهاده فالمجتهدون يردّون والآمرون بالمعروف يصدون وان لم يفعلوا أيضا فلا نقص للشريعة القويمة.

اقول : هذا الجواب فاسد اما قوله : ليس حافظا للشرع بذاته ، فما ادرى ما عنى به؟ فان كان يعني ان الامام علمه ذاتي كعلم البارئ تعالى لا يحتاج الى التعلم فذلك ما لا يدعيه احد من النّاس ، وانما المدّعي كونه معلما من الرّسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جميع ما يحتاج إليه النّاس في امور دينهم ودنياهم ومفهما من الله علم التأويل بحيث لا يشذ عنه حكم واقعة من الوقائع ولا يسأل عن شيء الا وهو يعلمه من كتاب الله علما لا تغير فيه ولا تبديل ولا اختلاف وليس علما اجتهاديا وحكما نظريا يختلف باختلاف النظر ويتغيّر بتغيّر الاجتهاد ، وان عنى بقوله بذاته هذا المعنى المدعى فليس هذا علما ذاتيا وانّما هو علم من الكتاب والسنة وليس بخارج عنهما لكنه علم يقيني لا يتطرق

عليه التبدل والاختلاف بتبدل الانظار واختلاف الاعتبار فيخطئ تارة وطورا يصيب كحال ائمة المجيب ، وامّا قوله واجتهاده الصّحيح فهو مناقض لقوله فان اخطأ في اجتهاده فاين الصّحة مع الخطأ ، وقد تقدم منا تحقيق بطلان الاجتهاد الّذي عناه الّذي هو ملازم لمخالفة الحق دائما وانّه ليس طريقا لبيان احكام الله ولم يتعبد الله عباده به في المقدّمات الخمس واوضحناه اتم الايضاح وسيأتي له مزيد بيان.

وبالجملة انا اثبتنا ان الامام حجة الله على خلقه والحجّة لا تقوم بالمجتهد لجواز الخطأ عليه كما اعترف به المجيب في كلامه ، وقوله : فالمجتهدون يردّون فيه الحكم بانقلاب المحجوج حجّة والمأمور الّذي تجب عليه الطّاعة اميرا واجب الطاعة وهذا اخراج للامام عن الامامة لما علمت انّها رئاسة عامّة في الدّين والدّنيا والمردود عن اجتهاده مرءوس لا رئيس ومحكوم عليه لا حاكم ، وقوله : والآمرون بالمعروف يصدون ، اظهر قبحا فان المصدود الممنوع من إمضاء الحكم من سائر الرّعيّة واداني النّاس ليس له رئاسة على احد ، وليت شعري أيّ إمامة ورئاسة تبقى لذلك الامام الذي لا يؤمن عليه الخطأ في الأحكام مع ردّ الرّعية اجتهاده وابطالهم قوله ومنعهم اياه من امضاء الحكم الّذي اجتهد فيه؟ وهل هذا على ما ذكر الّا مأمور منهي يساس ويؤدب من رعيته الّذي نصب لسياستهم وتأديبهم فلا يكون على هذه الحالة إماما البتة مع ما يلزم من وجوب طاعة مجتهد ومخالفة آخر وذلك ان الامام اذا اجتهد في حكم فخالف فيه اجتهاد قوم مجتهدين قد اختلفوا؟ أيضا على قولين او ثلاثة ، لما علمت من انّ الاجتهاد غير منضبط فحينئذ كلّ فريق يخطئون الامام ويأمرونه بالرّجوع الى قولهم فليخبرنا القوشجي عن امامه ذلك عن رأي اي الفرق يصدر وبقول ايّهم يأخذ ولأمر ايّهم يطيع مع لزوم الترجيح من دون مرجّح في تقديم تقليده لكل واحدة من الفرق على الأخرى والاقتداء بها دون اختها ، فهو مرتهن دائما بعصيان فرقة لطاعته الأخرى

ومصدود عن الأمر دائما لدوام اختلاف المجتهدين؟ افترى هذا إماما أم هو اذلّ المأمومين؟ وبعد فمن اين توجه عليه الخطأ في الاجتهاد عند القوشجي واصحابه واحتيج الى الانكار عليه من المجتهدين مع حكمهم بان كل مجتهد مصيب؟ وهل يبقى على هذا القول فضل لمجتهد على مجتهد آخر حتّى يكون احدهما يرد الآخر عن اجتهاده ويصدّه عن حكمه؟ ثمّ لو قلنا بعدم الاصابة في الاجتهاد الّذي هو مخالف لقول المجيب فمن اين علم ان المخطئ هو الامام وانّ المصيب غيره؟ وهل يعلم ذلك إلّا من هو مطلع على باطن حكم الله في الواقع؟ واذا وجد هذا فهو الامام لا محالة ، لا ذلك المجتهد المخطئ والمجيب ينفيه فيلزم حينئذ عدم جواز ردّ مجتهد من النّاس اجتهاد غيره الامام ومن سواه لتساويهم في عدم العلم بالاصابة او الخطأ على القول بالتخطئة وفي الإصابة معا على القول بالتصويب ، فلا يكون لواحد رئاسة على الآخر فلا امام ولا مأموم الّا الرّعاع والاوباش فانّ امامهم من يقلدونه ، فما اكثر الأئمة على هذا القول لو كان قائلوه يشعرون ولما قالوه يفهمون ، وقوله : فان لم يفعلوه الخ فهو افحش من الجميع لأنّه اخراج للأمر بالمعروف الواجب عن الوجوب ولا يخفى ما فيه من المناقضة ، وقوله فلا نقص للشّريعة القويمة ، ان اراد انّ عصيان المجتهدين بترك ردّ امامهم المخطئ وترك الانكار عليه لا يغيّر حكم الله ولا يبدّل فرضه فلا ينقلب به الحرام حلالا ولا الحلال حراما بل يلزم العاصي الأثمّ على المعصية فذلك صحيح عندنا لكنّه لا يرضى به لاستلزامه اتّفاق الامّة على الخطأ وهو خلاف مذهبه ، وان اراد انّ عصيان المجتهدين في تركهم النكير على امامهم الخاطئ لا يوجب الاثم لهم ولا يخرجهم من حيّز العدالة وعصيان الامام وخطؤه لا يبطل إمامته فذلك باطل باتّفاق الامّة والنّص من الكتاب والسّنة ، ومن المحال ان يكون كفّ النّاس عن انكار المنكر مسقطا عنهم الاثم ومجوّزا لفاعل المنكر فعله ، والحاصل ان هذا الكلام تدليس وتلبيس لا معنى له ولا فائدة فيه وانت بعد الاحاطة بما

قررناه لا ترتاب في بطلانه وبذلك يسلّم دليلنا من الإيراد ويتمّ به المراد.

الثالث (١) : انّ الامام لو اقدم على المعصية لوجب الانكار عليه وهو مضادّ لوجوب اطاعته الثابت بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢) ومفوت للغرض من نصبه وهو امتثال اوامره واجتناب مناهيه واتباعه فيما يفعله فيكون من تجب طاعته والاقتداء به في القول والفعل يجب الانكار عليه والبراءة من فعله ، او يلزم الاثم بترك النكير عليه ، او يخرج الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عن كونهما واجبين ، وكله باطل فوجب ان يكون الامام معصوما لدفع هذه المحذورات ، واجاب عنه القوشجي بان وجوب الاطاعة انّما هو فيما لا يخالف الشرع ، واما فيما يخالفه فالردّ والانكار فان لم يتيسر فسكوت عن اضطرار أقول : وهذا ليس بجواب عن الدّليل بالمرّة ، وانّما هو تدليس وتشبيه على غير ذي الرويّة ، لأنّ قوله : ان وجوب الاطاعة انّما هو فيما لا يخالف الشّرع مسلم لا ينكره احد ولا ندّعي خلافه وكذلك قوله وامّا فيما يخالفه فالردّ والانكار صحيح مسلم وهو خلاف المدعي ، فانّ المدّعى انّ الامام لا يجوز عليه الخطأ وارتكاب المعصية ، ولو جاز عليه ذلك فحين يواقع الخطيئة ان وجب الانكار عليه خرج عن كونه واجب الطّاعة وهو واجب الطّاعة بالنّص والاجماع ، وان لم يجب الانكار عليه خرج الواجب عن كونه واجبا وهو كذلك باطل فحينئذ وجب كونه معصوما لا يواقع معصية ولا يحتاج الى الانكار عليه ويكون الرّاد عليه قوله رادّا على الله ورسوله ، وليس المدّعي انّ الامام يخالف الشرع فتجب اطاعته في مخالفة الشّرع ولا يجوز الانكار عليه وجوابه انّما يتوجّه علينا لو كان هذا مدّعانا وليس هذا هو فسقط الجواب من اصله ولا يتوجّه له الجواب الّا باقامة حجّة على منع اللّوازم الباطلة مثل ان يمنع وجوب الإنكار على الامام اذا عصى

__________________

(١) أي من الأدلة على وجوب عصمة الامام.

(٢) النساء : ٥٩.

ويقيم عليه دليلا وغير ذلك من اللّوازم المذكورة في الدّليل مع مباشرة الامام المعصية وهو لم يقم على منع شيء منها حجّة بالمرّة ، فليس ايراده بوارد علينا بل هو ممّا نقول به ونجعله جزءا من الدليل كما ترى ، وقوله : فان لم يتيسّر فسكوت عن اضطرار واه جدّا ، لأنه يستلزم امرين قبيحين : اما كون ذلك الامام العاصي متظاهرا بالمعصية ومتغلبا على الامّة بمن يوافقه من العاصين بحيث يبلغ تغلّبه الى خوف اهل العلم والفضل من الانكار عليه اذا عصى ولا يقدرون على اظهار النكير عليه لتجبّره وتكبّره عن قبول الحق والعمل به ومعلوم انّ هذا ليس بامام مرشد ولا رئيس عادل ، بل هو ظالم جائر وجبّار فاسق ولا يصلح ان يكون إماما الّا للقوشجي وامثاله وليس كلامنا في مثل هذا العنيد المريد ، ولا يجوز للقوشجي ان يناضل ويخاصم عن مثل هذا الامام الفاجر الّذي يدعو الى النار ويتكلف لنصرته كلاما مسجّعا لا حقيقة له يشبه سجع الكهّان ، وليس هذا بامام اصلا حتّى نحتاج الى البحث عنه ، وهذا المعنى هو الاقرب والانسب بعدم تيسر الانكار والسكوت عن اضطرار في كلامه ، أي انّ النّاس يضطرون الى السّكوت عن ذلك الامام فلا ينكرون عليه لخوفهم من شرّه وطغيانه ، وامّا كون الامّة موافقين له على المعصية فاضطروا الى السّكوت لاتفاق الجميع على العصيان وهذا كما ترى مستلزم لاجماع الامّة على الخطأ واتفاقهم على الباطل والا كيف يتصوّر عجز كافتهم وعدم قدرة جميعهم عن الانكار على ذلك الفاسق لو لا مواطاتهم معه على الخطيئة وهو باطل عنده فبطل جوابه من جميع وجوهه وصحّ دليلنا ، اللهم الا ان يقول انّ الامام لا يشترط فيه العدالة أيضا كما يفهم من كلام جماعة من قدماء العامة وحينئذ يلزمه الائتمام بمن وجبت منه البراءة بقوله تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (١) فيستحق ما وعد الله من العذاب والخزي على ولاية الظّالمين ومعونتهم وبئس هذا المذهب مذهبا.

__________________

(١) هود : ١١٣.

الرّابع (١) : ان الامام لو اقدم على المعصية للزم من ذلك انحطاط درجته عن اقل العوام لانّه اعرف بمثالب المعاصي ومناقب الطّاعات فصدور المعصية منه اقبح من صدورها من العوام وذلك ينافي علوّه وابّهة رئاسته ويكون انزل درجة من العوام ورعاع النّاس فوجب ان يكون معصوما ، ولا قدح للقوشجي فيه وكانه لا يمنع كون الامام ناقص الدّرجة عن عوام النّاس كما يظهر من كلاميه المتقدمين.

الخامس (٢) : انّ الامام امين المسلمين على دينهم وخازنهم على اموالهم فلو لم يكن معصوما لم يؤمن عليه من تغيير الاحكام والمحاباة في القضاء بين المسلمين والايثار بالمال لرغبة او رهبة كما وقع لائمة القوم فيجيء الفساد من حيث طلب الصّلاح ، والعدالة لا تكفي لجواز ارتفاعها عند عروض الاسباب الداعية الى ما ذكرنا اذ ليست من الصّفات اللازمة فلا يحصل بها الأمن اليقيني من تغيير الاحكام والايثار بالمال فلا تنحسم بها مادّة التّهمة المثيرة للخلاف والفتنة فوجب كون الامام معصوما لحسم تلك المواد المنافية للغرض من نصب الامام الّذي من جملته حصول الالفة به.

السادس (٣) : انّه لو لم يكن في الامّة معصوم يجوز عليه الخطأ في الاحكام لم يكن اجماعهم حجّة لجواز الخطأ على كلّ الافراد فيجوز على الجملة كما بينّاه أوّلا ويشير إليه قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (٤) وقول النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (الا لا ترجعنّ بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسّيف) (٥) فانّ هذا الخطاب لا

__________________

(١) اي من الأدلة على وجوب عصمة الامام.

(٢) كذلك.

(٣) كذلك.

(٤) آل عمران : ١٤٤.

(٥) أخرجه البخاري في موضعين من صحيحه في كتاب العلم باب الانصات للعلماء

يوجّه الا لمن يجوز عليه الخطأ وهو كما ترى موجّه الى الجملة فيخرج الاجماع عن الحجّيّة لكنّه حجّة عند الخصوم فيجب ان يكون في المجمعين من لا يخطئ في الحكم لتثبت بوجوده في المجمعين حجّيّة الاجماع ويجب ان يكون ذلك هو الامام لانّه اولى النّاس بهذه المنزلة فالامام معصوم.

السّابع : انّه قد حصل الاتفاق في النّقل عن النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (لا تزال طائفة من امتي على الحق حتى تقوم الساعة) (١) وحينئذ ان كانت تلك الطائفة فيهم معصوم من الخطأ يرجعون الى قوله ويأخذون بحكمه ويعتمدون في الدّين على بيانه فذلك المراد ويكون ذلك هو الامام لما ذكرنا من قريب ، وان لم يكن فيهم معصوم بتلك المثابة وجب ان يكونوا كغيرهم من الطوائف يخطئون ويصيبون فلم يكونوا على الحق أبدا اذ لا خصوصيّة لهم على غيرهم من الفرق وعلى هذا توجب لهم دوام الاصابة ولا مانع لهم عليه من الخطأ ، فمن أيّ وجه كانوا ملازمين للصّواب مستمرّين على الحقّ على أن لازم ذلك كون الطائفة بأسرهم معصومين ولا قائل به بل هو خلاف ما قاله خصومنا من انتفاء معصوم في الامّة فيجب أن يكون الاوّل هو المقصود ، وهو ان تلك الطائفة فيهم من لا يجوز عليه الخطأ في الاحكام وهم تابعوه في أقواله وافعاله فكانوا بتبعية المعصوم معصومين من الخطأ وذلك المعصوم هو الامام وهو المطلوب ولو قلنا بانّ الطائفة التي لا تزال على الحق

__________________

١ / ٣٨. وفي كتاب الأدب باب ما جاء في قول الرجل ويلك ١ / ١١٢ وليس فيهما لفظة «بالسيف».

(١) اخرجه البخاري في صحيحه ٤ / ١٨٧ كتاب المناقب (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك) وأخرجه البخاري أيضا ٨ / ١٤٩ في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا تزال طائفة من امتي ظاهرين على الحق) وفي نور الأبصار للشبلنجي ص ١٧٠ (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق الى يوم القيامة).

هم الائمة امام بعد امام لكان ذلك ادلّ على المراد من اثبات عصمة الامام من الاوّل فتأمّل.

الثامن : قوله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) وجه الدلالة أنّ الآية تضمّنت سؤال ابراهيم الخليل ربّه القاهر الجليل ان يجعل من ذرّيته إماما فاجابه الله تعالى بانّ الامامة وهو قوله (عَهْدِي) لا تنال الظالمين فلا يكون من جرى عليه اسم الظلم لها اهلا ولا لمقامها مستحقا إذ من المعلوم ضرورة أن الخليل (عليه‌السلام) لم يسأل الامامة لظالم في حال ظلمه ولا لعاص في وقت عصيانه ، وانّما سألها لمن كان من ذريته في حال استقامته وصلاحه ، فأخرج الله منها الظّالم فيلزم أن يكون المراد بالظالم من جرى عليه اسم الظّلم وقتا ما فيجب من ذلك ان يكون مستحق الامامة من لم يجر عليه اسم الظلم من أوّل عمره الى آخره وذلك معنى العصمة ، ثمّ انّ الظلم يطلق على الشّرك والكفر وسائر المعاصي فمن اطلاقه على الشرك قوله تقدّس وتعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (٢) ومن اطلاقه على الكفر قوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٣) ومن اطلاقه على سائر المعاصي قوله تعالى : (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) (٤) فسمى اخذ الربا ظلما ونقص الغريم رأس مال معامله ظلما وليس واحد منهما بكفر اتفاقا وقوله تعالى : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) (٥) معلوم انّ المراد من عدم محبّة الله الجهر بالسوء من القول في المسلمين لا في الكفار اذ لا

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) لقمان : ١٣.

(٣) البقرة : ٢٥٤.

(٤) البقرة : ٢٧٩.

(٥) النساء : ١٤٨.

حرمة لهم في الاسلام بالاجماع فكان معنى الآية أنّ من ظلم مسلما في ماله أو عرضه أو بدنه من المسلمين جاز للمظلوم ان يذكره بسوء ما صنعه ، وليس غصب مال مسلم أو شتمه مثلا أو ضربه بغير حق كفرا وقد سمّاه الله ظلما ، وقوله تعالى : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً) الآية. (١) واذا كان المقتول مظلوما فالقاتل ظالم البتّة وليس القتل بكفر وقد سمّاه الله ظلما وقوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ـ الى قوله ـ (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) (٢) فسمى القتال في الاشهر الحرم ظلما وهو ليس بكفر وقوله عزوجل : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٣) فجعل حرمان الفقراء والمساكين من حصتهم وهو حقهم عند صرام اصحاب الجنّة جنّتهم ظلما وهو ليس بكفر الى غير ذلك من الآيات الّتي يطول تعدّدها ، فحينئذ وجب في الامام العصمة من جميع الذّنوب الّتي يصدق عليها اسم الظلم والكفر وغيره من المعاصي من أوّل عمره الى آخره لئلا يكون اسم الظّلم جاريا عليه في بعض احواله واطواره فيخرج عن استحقاق الامامة الّتي هي عهد الله ويسقط حظه عن نيلها لاشتراط كون الامام غير ظالم في صريح الآية ، فالآية المذكورة ـ ولله الحمد ـ صريحة في وجوب عصمة الامام غاية الصراحة لا تقبل التأويل وقد اعترف الفخر الرّازي وهو من اعاظم المخالفين بدلالتها على ذلك في تفسيره وصرح بانّهم تركوا العمل بمضمونها على عمد قال : «امّا الشيعة فانّهم يستدلون بها على صحة قولهم في وجوب العصمة ظاهرا وباطنا ، وامّا نحن فنقول مقتضى الآية ذلك الّا انا تركنا الباطن فتبقى العدالة معتبرة» (٤) انتهى فانظر لكلامه وتصريحه بمخالفتهم مقتضى الآية من

__________________

(١) الاسراء : ٣٣.

(٢) التوبة : ٣٦.

(٣) القلم : ٢٩.

(٤) انظر تفسير الرازي ٤ / ٤٢.

غير حجّة لتتضح لك حالهم في تعمدهم مخالفة الحق وارتكاب الباطل على علم ويقين ، ومنها علم ان من اسلم عن كفر لا يصلح للامامة لفوات العصمة وما اجاب به القوشجي عن الآية بان غاية الامر ثبوت التنافي بين الظلم والامامة ولا محذور إذا لم يجتمعا باطل بما سبق من البيان من انّ المسئول له الامامة ليس الظّالم في حال ظلمه ولا ذلك بمقام خليل الرّحمن ولا يجوّز عاقل يخاف الله نسبة ذلك إليه بل لمن كان في حال الصّلاح اعم من ان يكون ممن يجري منه الظّلم أو غيره ، وحيث كان الجواب واردا باخراج الظّالم من استحقاق الامامة التي هي عهد الله تعين ان يكون المراد به من جاز صدور الظّلم منه او صدر منه الظلم آنا ما لا الظالم وقت ظلمه اذ ليس مسئولا له الامامة فلو كان هو المراد من الجواب لم ينطبق على السؤال ولكان السؤال باقيا بغير جواب وهو خلاف المعلوم المتّفق عليه من كون هذا الجواب لذلك السؤال ، وأيضا انّ الظالمين اسم فاعل وال موصولة واسم الفاعل اذا كان صلة الأل تعين كونه للماضي فاذا قيل جاء القائم كان المراد به الّذي قام فمعنى الظّالمين بحسب اللغة العربية الّذين ظلموا قبل لا ينالهم عهد الامامة وان صلحوا لا الظالمين في الحال لانّه خلاف العربية فكانت الآية صريحة في وجوب عصمة الامام قبل الامامة وفي ان نيل الامامة مشروط بسبق العصمة فيجب حصولها أيضا في الحال وفي المئال في الامام لانها شرط لنيل الامامة واذا زال الشّرط زال المشروط فزال اعتراض المعترض وذهب ايراده فليتأمل المقام فانّه حقيق بالتأمّل ، وممّا يضحك الحزين غفلته (١) عن معنى قوله انّ غاية الامر ثبوت التّنافي بين الظلم والامامة ، فانّه يتضمن انّ الامام كلما ظلم زالت إمامته ، وعلى هذا لو نصب امام فظلم بعد نصبه بلا فصل وجب عزله لتنافي الامامة والظلم باعترافه فيظلم كذلك فتكون حاله حال الاوّل وهكذا فجاز ان ينصب في يوم واحد عشرة ائمة واكثر ويعزلوا لانّ الفرض

__________________

(١) أي القوشجي الذي لا يزال المؤلف في معرض الرد عليه.

انّ الامام ليس بمعصوم وصدور الظّلم منه جائز فأي شيء على هذا اضيع من هذه الامامة؟ وأي ذليل وناقص أذل وانقص من هذا الامام الذي ينصب ويعزل في ساعة واحدة؟ وهل بمثله يعزّ الدّين وتقوى شوكة المسلمين ، أو ليس أنّه لا مخرج من هذا المحذور الذي يتضمّنه كلام المجيب إلا باشتراط العصمة في الامام او لا يدري انا لم نشترط العصمة في الامام الّا من جهة ما ذكره من تنافي الظّلم والامامة فما جعله ردّا علينا هو الدّليل لنا وهل زادنا به الا تقوية لو كان يشعر ، ولو انّ اعترافه بما اعترف به شيخه الرّازي من تركهم العمل بمقتضى الآية كما مر عليك من كلامه لكان اولى به وأليق بمذهبه ، والحمد لله على اظهار الحق لاهله.

التّاسع : قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) وجه الدّلالة انّه تعالى امر باطاعته على الاطلاق لانّه المالك للعباد والامر والنّهي ولا يأمر ولا ينهى الا بمقتضى حكمته ولا يسأل عما يفعل وعباده يسألون وامر بطاعة الرّسول على الاطلاق أيضا فعرفنا من ذلك انّ الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يأمر الّا بحقّ ولا ينهى الّا عن باطل فهو معصوم من الخطأ والزّلل بعصمة الله له وتثبيته ايّاه على نهج الصواب ، ولو لا ذلك لما اطلق وجوب اطاعته ثم اطلق الامر بطاعة اولي الأمر كما اطلقه في طاعة نفسه وطاعة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يقيده بقيد ولم يشترط فيه شرطا فعلمنا من ذلك أيضا انّ اولي الأمر معصومون من الخطأ مطهّرون من العصيان ملازمون للصواب ، لا يأمرون الّا بمعروف ولا ينهون الّا عن منكر ، اذ لا يجوز ان يأمر الله على الاطلاق بطاعة من يجوز منه الخطأ في الأحكام ومقارفة الذنوب العظام بل يجب في الحكمة ان يكون الأمر بالطاعة له مشروطا بموافقة طاعة الله وموافقة الحق لا مطلقا كما انا رأينا

__________________

(١) النساء : ٥٩.

البارئ تعالى اشترط في مواضع كثيرة وقيد الوعد والمدح بلزوم التّقوى والاستمرار على الوفاء حيث كان الممدوح والموعود ممن يجوز عليه الخطأ والمخالفة مثل قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) (١) وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (٢) وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (٣) وغير ذلك من الآيات الكثيرة ، وحيث لم يشترط في طاعة أولي الأمر شيئا لزم أن يكونوا ملازمين لطاعته لا يخرجون منها إلى معصية وأولو الأمر هم الأئمة ، فالامام معصوم ، فمن كان من أولي الأمر فهو معصوم ومن ليس بمعصوم فليس من أولي الأمر ، ولا يعارض ما ذكرناه قوله تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية (٤) وما جرى مجراها من الآيات لأنّها أدب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتهديد لغيره لأن الله قد عصمه من الشرك ومداهنة الكفّار فلم يكن الشرط في الحقيقة متوجّها إليه بل الى الامّة وكان الله تعالى كثيرا ما يخاطب النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في القرآن وهو يريد الامّة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (٥) وغير ذلك ، حتى قيل نزل القرآن بايّاك اعني واسمعي يا جارة ، والفائدة في توجيه الخطاب ظاهرا الى النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الآية المذكورة ومشابهاتها تهويل أمر الشّرك وتعظيمه وقطع أطماع الطامعين من الناس في المغفرة مع الاشراك بعد الايمان

__________________

(١) الأحزاب : ٣٢.

(٢) الفتح : ١٠.

(٣) الأنفال : ٢٩.

(٤) الزمر : ٦٥.

(٥) الطلاق الآية التي تلي البسملة.

لانّهم إذا سمعوا أنّ الله توعّد نبيّه الكريم مع ما نوّه باسمه في القرآن الحكيم باحباط عمله إن أشرك علموا أنّه لا رجاء لغيره في عفو الله عنه اذ أشرك فيحذرون غاية الحذر من الشّرك ، وليس حال من علمت عصمته بالأدلّة القاطعة مثل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كحال غيره ممّن علمت عدم عصمته حتّى يرتكب في أمره من التأويل ما يرتكب في معلوم العصمة للزوم الجمع بين الأدلّة القطعيّة فتبصر فاندفع ايراد الخصوم بعون الحي القيّوم وثبت من الآية ما ندعيه من عصمة الامام.

العاشر (١) : ان الامام منصوب لردع العصاة وتأديب الجناة وإقامة الحدود واذا لم يكن معصوما من مباشرة القبائح كان في نهيه عن المنكر داخلا في زمرة المذمومين وحاصلا في حيز الملامين الّذين قال الله في أمثالهم (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (٢) فأيّ إمامة لمن كان مذموما معاتبا يأمر بالمعروف ويتركه وينهى عن المنكر ويرتكبه وكيف يكون مثل هذا القيم لله على عباده والصّادع بدينه والذّابّ عن حريم الحق وهو يهتكه ويوهنه بعصيانه ، حاشى لله ان يكون مثل هذا خليفة الله في أرضه وحجته على خلقه ودليله في عباده وأمينه في بلاده على حلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وهو من جملة العاصين ومن القوم المذنبين ، وأي عاقل يتصور ان يكون العاصي أهلا لخلافة الله ومستوجبا لنيل عهد الله ومستحقا للنّيابة عن انبياء الله؟ فان هذه الاوصاف الثّابتة للامام لا يجوزها العقل السّليم إلّا لمن كان معصوما ولم يكن بشيء من الذنوب موصوما ، على انا لم نر خليفة لنبيّ فيما مضى الا مطهرا من الذّنوب مبرئا من العيوب ونبيّنا سيد الأنبياء أفيجوز ان يكون خليفته من العصاة والخائضين في الجهالات؟ ان في هذا لافتراء عظيما على رب الارضين والسّماوات ، فيجب ان يكون الامام معصوما من مواقعة الخطيئات ، وانت ما

__________________

(١) أي من الأدلة على وجوب عصمة الامام.

(٢) البقرة : ٤٤.

اظنك تشك في ذلك بعد الاحاطة بما بيناه والتّأمل فيما قررناه.

احتج ابن ابي الحديد على عدم اشتراط العصمة في الامام بقول أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن (عليهما‌السلام) أو محمّد بن الحنفية (١) (أي بنيّ انّه لما رأيتني بلغت سنا ورأيتي أزداد وهنا بادرت بوصيتي أليك وأوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي أليك بما في نفسي وأن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني أليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا فتكون كالصعب النفور ، وانّما قلب الحدث كالارض الخالية ما ألقى فيها من شيء قبلته ، فبادرتك بالادب قبل ان يقسو قلبك ويشتغل لبّك) هذا آخر ما يمكن تعلقه به من الكلام قال : قوله (عليه‌السلام) : «او ان انقض في رأيي» هذا يدلّ على بطلان قول من قال : انّه لا يجوز ان ينقص في رأيه وانّ الامام معصوم عن امثال ذلك وكذلك قوله للحسن «أو يسبقني أليك بعض غلبات الهوى وفتن الدّنيا» يدل على انّ الامام لا يجب ان يعصم من غلبات الهوى وفتن الدّنيا (٢) اقول ليس في هذا حجّة ولا تحصل به معارضة بل ينبغي ان يحمل في امير المؤمنين وفي ابنه ان كان هو الحسن على

__________________

(١) روى ابن عبد ربه المالكي طرفا من هذه الوصية في موضعين تحت عنوانين في باب مواعظ الآباء للأبناء من العقد الفريد في الثالث ص ١٥٥ وص ١٥٦ بتقديم وتأخير وحذف واختصار كما هي عادته في نقل كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) ففي العنوان الأول قال : «كتب علي بن ابي طالب الى ولده الحسن» وذكر أول الوصية ، وفي العنوان الثاني قال : «وكتب الى ولده محمد بن الحنفية : تفقه في الدين ـ الى قوله ـ فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة» ولذا ان المؤلف جاء بكلمة «أو» ولكن المشهور ان الوصية كانت للحسن (عليه‌السلام) كتبها امير المؤمنين بحاضرين عند انصرافه من صفين وقد استعرضت مداركها في «مصادر نهج البلاغة واسانيده» ٣ / ٣٠٧ ـ ٣١٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٦٦.

انّه خرج مخرج ما جرت به العادة في البشر من حيث الجملة من تقلب أحوالهم وتصرّف الأمور بهم وحصول التغيير لهم في الأجسام والآراء وغلبة النّفس والهوى على عقولهم لا خصوص الموصي والموصى لانّه (عليه‌السلام) هنا في مقام التأديب والموعظة وإرادة المبادرة بها وقصد تعجيلها الى ابنه ومقتضى الحال ان يذكر الدّاعي الى ذلك والمسبب إليه في الواعظ والموعوظ ولا شيء انسب في ذلك مما ذكره ولا ادخل في المقام ممّا زبره ، ولو أنّه قال انا لا اخاف على رأيي نقصا ولا على جسمي وهنا ولا اتخوّف عليك من حدوث أمر يصدك عن الإقبال على حمل الموعظة ولا احاذر عليك من عروض عارض يمنعك من العمل بموجبها لم يكن لموعظته موقع ولم يبق لتعجيلها والمبادرة بها سبب ولا داع فذكر ما ذكر ليحسن منه المسارعة الى الوعظ ويحمد منه التعجيل فيه الى ابنه وليس الغرض بيان انّه يجوز حصول ما خافه على نفسه وعلى ابنه لهما ، واذا كان للكلام فائدة اخرى لم يتعين حمله على احد الفائدتين الّا بقرينة ولا قرينة تعين حمله على ما قاله ابن ابي الحديد بل القرنية تعين حمله على ما قلناه لقيام الادلّة التي سلفت على وجوب عصمة الامام وما قاله امير المؤمنين (عليه‌السلام) في تلك الوصية قبيل هذا الكلام وهو قوله (عليه‌السلام) : (غير انّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي فصدقني رأيي وصرفني عن هواي وصرّح لي محض امري فافضى الى جد لا يكون فيه لعب وصدق لا يشوبه كذب) (١) فانه يدل على عصمته من تغيير ما هو عليه من الرأي لقوله فافضى الى جدّ لا يكون فيه لعب الخ. فلما حصلت المعارضة في كلامه وجب حمل احدهما على ما لا يخالف الادلة الخارجيّة للتوفيق بين الكلامين ولا يكون ذلك الا بما قلناه ، على انا نعلم يقينا انّه ليس كلما يفرض الواعظ وقوعه من الموعوظ حتّى يتوجّه له النّهي عنه ممّا يجب أن يكون صدوره من الموعوظ جائزا عند الواعظ ، ولا كلما يفرض

__________________

(١) نهج البلاغة برقم ٣١ كتب.

الواعظ صدوره من نفسه يعتقد جواز صدوره منه ، فانا سمعنا الله يقول لنبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) (١) وقال تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) (٢) وقال تعالى : (قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (٣) من المعلوم انّ الله عزوجل يعلم ان نبيّه محمّدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يطيع الكافرين والمنافقين ولا يجعل معه إلها آخر ولا يعصيه فيعذّبه لانّه قد عصمه وسدّده في القرآن من هذا كثير ، وقال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انا سيّد الأنبياء ولا فخر ولو عصيت لهويت) (٤) وهو يعلم انّه لا يعصي لعلمه بانّ الله قد ايده وعصمه وهداه واجتباه ، واخبر عنه انّه لا ينطق عن الهوى لكنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذكر ذلك في مقام الوعظ والتحذير من العصيان كما وردت به الرّواية فليكن كلام امير المؤمنين جاريا هذا المجرى بل الواجب حمله عليه ، وكيف لا وأمير المؤمنين (عليه‌السلام) قد علم من اخبار الله في آية التطهير واخبار النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كثير من اقواله الصّريحة الآتية ان شاء الله تعالى انّه لا يصيبه تغير في رأي ولا زلل في قول ، وقد اخبر (عليه‌السلام) بذلك عن نفسه بما ذكرناه مرارا فقال (والله ما ضللت ولا ضل بي ولا زللت ولا زلّ بي وما زلت على السّبيل الواضح الفظه لفظا) (٥) الى غير ذلك من اقواله المصرّحة بانّه ليس

__________________

(١) الأحزاب الآية التي تلي البسملة.

(٢) الاسراء : ٣٩.

(٣) الانعام : ١٥.

(٤) روى صدر الحديث المناوي في كنوز الحقائق ص ٨٠.

(٥) قال ابو مخنف : «قام رجل الى علي (عليه‌السلام) ـ يوم الجمل ـ فقال : يا امير المؤمنين أي فتنة اعظم من هذه ان البدريين ليمشي بعضهم الى بعض بالسيف؟! فقال علي (عليه‌السلام) : «ويحك ا تكون فتنة أنا أميرها وقائدها! والذي بعث محمدا بالحق وكرم وجهه ما كذبت الخ» وانظر شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦٥ ، وأما قوله

بشاكّ في نفسه ولا متخوّف عروض نقص في رأيه وقد ملئ بها نهج البلاغة وغيره مما لا مجال الى انكاره ولا سبيل الى دفعه.

والحاصل ان ما استدل به المعتزلي على مطلبه ليس بدليل بعد ما سمعت فيه من الكلام ولا يعارض على ما فيه من الاجمال والاشتباه الادلّة الصّريحة الدّالة على وجوب عصمة الامام كما لا يخفى على ذي حجى ، وان الاستناد الى مثل هذه الأقوال المجملة القابلة للتأويل والمعارضة الادلة الصّراح بها تشبث بما لا يجدي نفعا ولا يغني من الحق شيئا.

واعلم انّه كما يجب عصمة الامام عن ارتكاب الآثام والخطأ في الاحكام كذلك يجب عصمته عن الغلط والسهو والنّسيان لانّه قدوة الانام ومعتمد اهل الاسلام ، فلو جاز عليه ذلك لم يحصل الوثوق التّام بقوله ولا تطمئن النّفوس في الاقتداء بفعله لتجويزها صدور الفعل منه اذ ذاك على جهة الغلط أو السّهو أو النسيان وذلك كما علمت مناف لمنصب الامام ومناقض للغرض من نصبه فوجب أن يكون معصوما ممّا ينافيه.

وأجاز الصّدوق محمّد بن عليّ بن بابويه وشيخه محمّد بن الحسن بن الوليد (١) وقوع السّهو والنّسيان من الامام في غير تبليغ الاحكام لكنه من فعل الله به لا من فعل الشيطان ولا من ضعف قوته الحافظة بناء على جواز صدور

__________________

(عليه‌السلام) : (ما زلت على الطريق الواضح) الخ فقد ورد مثله في زيارته (عليه‌السلام) يوم الغدير : (واني على الطريق الواضح الفظه لفظا) نقل ذلك الشهيد في مزاره كما ورد في مفاتيح الجنان للمحدث القمي ص ٣٦٧ كما رواها ابن ابي الحديد عنه أيضا في شرح نهج البلاغة ٥ / ٢٤٩ وانه قالها يوم صفين.

(١) محمد بن الحسن بن احمد بن الوليد نزيل قم من شيوخ القميين وثقاتهم قال فيه تلميذه الصدوق رحمه‌الله : «كل ما لم يصححه ولم يحكم بصحته من الأخبار متروك» وفي ج ١٧ من بحار الأنوار رسالة في استحالة السهو على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ردد نسبتها بين المفيد وتلميذه الشريف المرتضى.

السّهو من الأنبياء على الوجه المذكور ، حتى قال محمّد بن الحسن انّ أول درجة في الغلو نفي السّهو عن الأنبياء واستندا في اجازتهما ذلك الى اخبار وردت بنسيان النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الصلاة وانّه سلم على نقص ساهيا ، وانّ الله سبحانه وتعالى أنساه كخبر ذي اليدين (١) وما شابهه وهو مستند ضعيف اذ مثل هذه الأخبار الآحاد لا يعارض بها الادلة القطعيّة من العقل والنّقل ، بل السّبيل فيها الردّ أو الحمل على أنّها خرجت مخرج التقية لأن ذلك مذهب جميع مخالفينا فيجب ارجاعها الى قولهم ، لا سيّما وقد وردت أخبار أخر بإزائها تنفي ما اشتملت عليه وتنقض ما تضمنته ، ومنها الخبر الذي ورد عن الرّضا (عليه‌السلام) في صفات الامام (٢) فيتعيّن فيها ما ذكرناه» وأقل الامور تساقط الاخبار من الطرفين والرّجوع الى الادلّة الثابتة والأخذ بها وهي تثبت عصمة الأنبياء والأئمة (عليهم‌السلام) من جميع ما ينفر منه الطبع ويحصل منه عدم الوثوق والاطمئنان بهم في القول والفعل فيثبت المطلوب على انّ اتّفاق الاماميّة على ذلك حاصل او هو الحجّة ، وخلاف الشيخين المذكورين غير قادح فيه لمعلومية نسبهما ومن ذلك يعلم ان نسبة السّهو الى الأنبياء تقصير ونفيه عنهم حقّ وصواب والله الهادي.

وقد تبيّن ممّا حررناه وجوب كون الامام منزّها عن الخصال الدنيّة

__________________

(١) ذو اليدين ويقال له ذو الشمالين أيضا هو عمير أو عمرو بن عبد عمرو صحابي استشهد يوم بدر والرواية عن أبي هريرة قال : صلى بنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الظهر أو العصر فسلم في ركعتين فقال له ذو الشمالين بن عبد عمرو وكان حليفا لبني زهرة : أنسيت أم قصرت الصلاة! فقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لم أنس ولم تقصر أكما يقول ذو اليدين!) فقالوا : نعم فتقدم فصلى ما ترك ثم سلم .. الخ روى ذلك جماعة من المحدثين منهم البخاري في كتاب الصلاة ١ / ١٢٣.

(٢) ستأتي صفة الرضا (عليه‌السلام) للإمام في آخر الكتاب.

والآفات الردّية والخلائق الغير المرضية ، كالبخل والجبن والغلظة والفظاظة والبرص والجذام والعنن وغيرها من الأمراض المنفّرة والمسقطة لمحل الامام من القلوب كل ذلك لمنافاتها منصبه واحتمال وقوعه في المعصية لو كان بخيلا أو جبانا باستئثاره بمال أو منعه حقّا أو فراره من زحف ، ويكون أيضا منزها عن الطعن في نسبه وقد ذكر في اخبارنا وذكره أيضا بعض أصحابنا انّه يشترط في الامام ان يكون مسلما لا عن كفر استناد الى آية الخليل ، وقد علمت ان اشتراطنا العصمة في جميع العمر يكفي عنه لدخوله فيه وقد قال النّبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من عبد صنما ووثنا لا يكون إماما).

المسألة الثانية (١) :

يجب ان يكون الامام أفضل أهل زمانه لنذكر أوّلا معنى الفضل فنقول الفضل على معنيين احدهما كثرة الثواب فيقال : زيد مثلا أفضل من عمرو أي اكثر ثوابا منه ، والثاني الجمع للخصال الحميدة من العلم والحلم والعبادة والسّخاوة والشجاعة وغير ذلك كما يقال فلان افضل من فلان أي اجمع منه لخصال الخير وأرجح منه فيها ، ومن المعنى الاوّل قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٢) أي جعل له ثوابا زائدا على القاعدين ، ومنه ما ورد في الحديث (ركعتان يصليهما متزوّج افضل من سبعين ركعة يصلّيها اعزب) (٣) وما ورد (انّ العالم افضل من سبعين عابدا) (٤) وما اشبه ذلك ومن المعنى الثّاني قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٥) يريد انه

__________________

(١) ينظر في هذه الرواية وامثالها كتاب تحفة العالم.

(٢) أي من مسائل شروط الامام.

(٣) النساء : ٩٥.

(٤) الوسائل ١٤ / ٦ كتاب النكاح ب ٢ ح ١.

(٥) الاسراء : ٧٠.

جمع لهم خصالا زائدة على خصال كثير من خلقه وليس يريد الثواب لدخول الكفّار في الآية والكافر لا ثواب له يقينا ، وقوله تعالى : (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) (١) وقوله تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢) يحتمل المعنيين وهو في لفظ التّفضيل والايتاء اقرب الى الثّاني كما ان لفظ ورفع الى درجات يختصّ بالاوّل وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (٣) يحتمل الوجهين أيضا ، اذا تبيّنت ذلك فاعلم ان اصحابنا الامامية قد اتفقوا على انّه يشترط في الامام ان يكون افضل اهل زمانه من رعيّته بالمعنيين جميعا وهذا القول هو المعتمد ولنا على صحته وجهان من الدّليل احدهما خاص والثّاني عام.

فالاوّل : في المعنى الاوّل انّ الامام متحمل اعباء الخلافة وقائم بارشاد الامّة ومقيم للوظائف الشّرعية مجرّد نفسه لسياسة الرّعية وحماية حوزة الدّين ولم شعث المسلمين مكاشف للأباعد والاقارب في إمضاء الاحكام واقامة الحدود على جميع اهل الاسلام فكان تكليفه اشق من غيره فوجب ان يكون ثوابه اكثر لانّ كثرة المشقة في التكليف توجب الاكثريّة في الثواب ، ولانّ الامام متبوع ومن سواه من الرّعية تابع له ومقتد به والمتبوع يجب ان يكون اكثر ثوابا من التابع كما يرشد إليه حديث (من سن سنة كان له اجرها واجر العامل بها الى يوم القيامة من غير ان ينتقص من اجورهم شيء) (٤) ولذا

__________________

(١) الرعد : ٤.

(٢) البقرة : ٢٥٣.

(٣) الاسراء : ٥٥.

(٤) صحيح مسلم ٨ / ٦١ وفي الدر المنثور / : (من سن خيرا كان له اجره ومن اجور من تبعه غير منتقص من اجورهم شيئا ... الحديث).

كان صلحاء الصّحابة افضل من صلحاء من بعدهم لانّهم السّابقون الى الدّين ومتبوعون فيه وغيرهم تابع لهم.

وفي المعنى الثّاني : امّا اشتراط كون الامام اعلم من كلّ رعيّته فلانّه مقتدى الامّة فلو كان فيهم من هو اعلم منه لوجب عليه الاقتداء بذلك الغير فخرج الامام عن كونه مقتدى الامّة فلم يكن إماما ، ولانّه الّذي ترد إليه الامّة الامر عند التنازع فيرفع عنهم الاختلاف بيانه كما دلت عليه آية : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) على ما مر من توضيحها ، واذا كان في المختلفين من هو أعلم منه لم يرتفع الخلاف ببيانه بل احتاج هو الى بيان ذلك الاعلم فلم يحصل بالردّ إليه الغرض من رفع الاختلاف وازالة الشبه وذلك خلاف المراد من الردّ فوجب ان يكون هو الأعلم وانّ علمه لا يتغير ولا يختلف كما مرّ عليك بيانه في المقدّمة وبعضه في المسألة الاولى.

وامّا اشتراط كونه أسخى فلأنّه ولي أموال المسلمين وخازنها فاذا لم يكن سخيّا تاقت نفسه الى جمع المال وادخاره فساءت حاله عند أصحابه وسقطت من القلوب منزلته ، اذ من المعلوم انّ السّخي الباذل تكون له جلالة عظيمة في النّفوس وقبول عند الناس ومحبّة اكيدة وموقع في القلوب ، والامام أولى بذلك كلّه من غيره وأحوج الى أن تقع جلالته في النّفوس فيحصل المسارعة الى انفاذ أوامره ونواهيه ، ويكون مرجوا سيبه (٢) ممدودة إليه اعناق الرجال ، وهكذا يجب أن يكون الامام ، وانّ البخيل الشحيح لا جلالة له في النفوس ولا تعظيم ولا محبة ولا قبول ، بل يكون ثقيلا على القلوب محقّرا عند العباد ، والامام يجب أن يكون منزّها عن ذلك لانه ينافي ما يجب من ولايته ، ولأجل

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) السيب : الماء الجاري ، والمراد به هنا النقع.

ما ذكرنا يجب ان يكون الامام ازهد اهل زمانه واورعهم واتقاهم واكثرهم على المندوبات مواظبة وللمكروهات الشرعيّة اجتنابا ليكون اعبد النّاس وابعدهم عن همز هامز ولمز لامز.

واما اشتراط كونه احلم الناس فللعلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (١) وإذا كانت الغلظة في النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو صاحب الشريعة موجبة لانفضاض الناس عنه فهم الى الانفضاض عن الامام بها اقرب ، ولانه لو كان في الرعية من هو احلم من الإمام لكان عند الناس اكمل وكانت القلوب إليه اميل والإمام احق بهذه المرتبة فوجب ان يكون احلم من رعيته ليعظم قدره في النفوس وتأتلف له القلوب ، ومن هنا يجب ان يكون خاليا من العجلة والطيش والتضجر والتبرم في مقام الحكم والفتوى وقسمة الفيء والاموال ، متأنيا في الامر وفيما يردّ عليه من الوقائع والحوادث ومحاورة الخصوم لأنه الحاكم بين المسلمين والقاسم لفيئهم واموالهم من الصدقات والغنائم وغير ذلك من الحقوق وليتمكن سائله من طلب التفهم والخصم عنده من بيان حجته والشاهد من ان يتتعتع في شهادته الى غير ذلك من المصالح التي يتوقف عليها حصول ميزان العدل والانصاف الذي يقوم به الامام.

واما اشتراط كونه اشجع فلأنّ الإمام الفئة التي يرجع إليها المسلمون في القتال فإذا لم يكن اثبت منهم قلبا وأمضى منهم في جهاد العدو فاذا ما حاد كما يحيدون (٢) وفر كما يفرون فلأي فئة حينئذ يرجعون ، ومن هذا يشترط أن يكون الإمام أقوى اهل زمانه في امر الله تعالى لأنه المتولى لانفاذ الاحكام

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

(٢) حاد : انحرف.

وإقامة الحدود واخذ القصاص وتجهيز الجيوش وسد الثغور ، وإذا لم يكن اقوى الأمة في ذلك قصر عما لا يقصر عنه غيره وذهب بقصوره جملة من مصالح نصبه ، ومن ذلك يجب ان يكون أسدّ النّاس رأيا وأحسنهم للامور تدبيرا فيما لا يخالف الشرع ، واصبرهم على احتمال المكاره وتحمل الشدائد في جنب الله ليكون القدوة للرعية في الصبر والاحتمال ، وقد اشار الى ذلك كله أمير المؤمنين (عليه‌السلام) في خطبة له قال فيها (ايها الناس ان احق الناس بهذا الامر اقواهم عليه واعلمهم بامر الله فيه) (١) وقال في اخرى : (ان اولى الناس بالانبياء أعلمهم بما جاءوا به) قال المعتزلي الرواية اعلمهم والصحيح اعملهم (٢) أقول ولا مناقشة معه في ذلك لأن الكلام على كلا الوجهين دال على قولنا باوضح دلالة وقال (عليه‌السلام) : (ان العجلة والطيش لا تقوم بهما حجج الله وبيناته) الى غير ذلك من اقواله.

والثاني (٣) من وجوه

الاول العقل وبيانه ان تقديم المفضول على الافضل قبيح عقلا ، وتقديم المساوى ترجيح بدون مرجح ، وهو أيضا قبيح فانا نقطع بذم العقلاء رجلا اراد سلوك طريق لحاجته إليه وقد اخبره رجل ثقة عالم بتلك الطريق مجرب لها مطلع على أخبارها بأنّها طريق حزنة (٤) لا يمكن السلوك فيها الا بشدة المشقة فترك سلوكها وفوّت نفسه الحاجة ترجيحا لقول هذا الجاهل غير الثقة على

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٧٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٨ / ٢٥٢ وانظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده ٤ / ٩٠.

(٣) أي الثاني وهو العام من وجهي الدليل على وجوب افضلية الامام فهو من وجوه الأول الخ.

(٤) الحزن ـ بفتح فسكون ـ : ما غلظ من الأرض ، يقال : في الطريق حزونة أي ضد السهولة.

قول ذلك العالم الثقة المجرب ، ونجزم بتوجه العقل الى تجهيله في ذلك ولومه وعذله على ترجيحه خبر ذلك الجاهل على خبر ذلك المطلع الثقة وتفويته حاجته لذلك ، وهذا أمر وجداني لا شك فيه ، وما ذاك الّا لما ارتكز في العقول السليمة من قبح تقديم المفضول على الافضل ولزوم العكس ، وأيضا انّ المقطوع به من سيرة الناس في الاعصار والامصار من المسلمين والكفار استقباح تقديم اهل الغباوة والحمق في جميع الامور التي لها شأن وخطر على ذوي الفطنة والذكاء ، وتقديم المتهورين على ذوي الآراء السديدة في المشورة وإجالة الرأي في عقد او حل ، وتقديم من ليس كاملا ومتقنا في الصناعات والحرف على أولى الكمال والاتقان فيها ، وما ذاك إلا لاستقباح العقول تأخير الأفضل وتقديم المفضول ، فيثبت ذلك في الشرع اذ لا تخالف بين العقل والشرع في المعلومات والمعتزلة يسلمون ذلك فيثبت المطلوب.

الثاني النقل من الكتاب والسنة فمن الكتاب قوله تعالى (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١) فأوجب الكون مع الصادق ، ولا يتم الا بترك الكون مع غير الصادق مع فرض اختلافهما فتكون الآية نصا في وجوب تقديم الأفضل على المفضول ، وقوله تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢) وهذه الآية صريحة في ان الهادي الى الحق بعلمه احق بالاتباع ممن يحتاج في الاهتداء الى من يهديه والأحق بالشيء من ليس لغيره فيه حق معه فالآية ناصة كالأولى على وجوب اتباع الافضل وترك المفضول ، وحاثة على ذلك بأشدّ ما يكون من الحث ، ومهددة على المخالفة كما هو صريح قوله تعالى (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) فثبت من صريحها وجوب تقديم الأفضل على المفضول على ان ابن ابي الحديد قد

__________________

(١) التوبة : ١١٩.

(٢) يونس : ٣٥.

استدل بها على تحريم القول بأفضلية غير علي (عليه‌السلام) وسمّاه منكرا ، وحكم أنّ الآية ناهية عنه ، واذا استدل بها على تحريم تفضيل غير علي (عليه‌السلام) عليه لفضله الظاهر وجب ان يحرم اتباع غيره لذلك لأنها في النهي عن اتباع المفضول وترك الأفضل نص ، وفيما ذكره باللزوم وقوله عز من قائل (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١) فبين عزوجل انه لا تجوز التسوية بين العالم وبين غير العالم فمن قدم غير العالم على العالم واقتدى به وترك العالم فقد رجح غير العالم على العالم ، وإذا كانت التسوية بينهما غير جائزة بصريح الآية فكيف يجوز تقديم المرجوح منهما على الراجح؟ فالآية ظاهرة ظهورا بينا في لزوم تقديم الأفضل على المفضول ، وغير ذلك من الآيات التي يطلع عليها من طلب علم القرآن وتأمل دلالاته

ومن السنة كثير فمنها ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل قال خطب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الناس يوم الجمعة فقال : (قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا منها ولا تعلموها ، قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم ، وامانة رجل من قريش تعدل امانة رجلين من غيرهم ، أيها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) (٢) الخبر وهو صريح في وجوب تقديم قريش لفضلها على الناس ، وتقديم علي لفضله عليها فدل على ما قلناه ومما يرشد الى ذلك مما لا ينكر من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه لم يؤمر على علي (عليه‌السلام) احدا من الصحابة وأمر على من سواه الامراء وأمّره هو على كل من كان من الصحابة في مواضع كثيرة وما ذاك إلا لأن عليا (عليه

__________________

(١) الزمر : ٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢. وكنز العمال للمتقي الهندي ٧ / ١٤٠.

السلام) افضل الصحابة وانه لا يجوز تقديم المفضول على الأفضل وهذا الوجه بعينه استدل به ابو سعيد الحسن البصري (١) على افضلية علي (عليه‌السلام) على جميع الصحابة وقد رواه عنه ابن ابي الحديد وصححه عنه (٢) ومنه يستفاد وجوب تقديم الافضل ، ولو لا ذلك لامر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) من الصحابة في وقت من الاوقات ، بل لو كان ذلك جائزا لوجب على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يفعله وقتا ما ليبين للناس الجواز ، فإن قيل : انما لم يأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) غيره لانه اشجع من غيره واعرف بقيادة الجيوش ، قلنا : فهذا اعتراف منك بان الافضل مقدم على المفضول ، وهو عين مدعانا لانا ندّعي انه لا يجوز تقديم أحد في امر على من هو أفضل منه فيه ، وأنت باعتراضك اعترفت لنا بما ندعى.

ومنها ما صح روايته عند الخصوم واشتهر بينهم انه لما طعن الصحابة على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تأميره اسامة بن زيد (٣) على جلة

__________________

(١) أبو سعيد الحسن بن يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري وأمه خيرة مولاة أمّ سلمة زوجة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان يتهم بالانحراف عن علي (عليه‌السلام) حتى عده ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٤ / ٩٥ من المبغضين لعلي (عليه‌السلام) وقال ابن حجر في تقريب التهذيب ١ / ١٦٥ كان يرسل كثيرا ويدلس وكان يروي عن جماعة لم يسمع منهم ويقول : حدثنا وكذلك قال عنه في تهذيب التهذيب ١ / ٢٧٠ ومع ذلك فقد وثقة مات سنة ١١٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٥.

(٣) أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امة أم أيمن أمره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على البعث الذي أراد تنفيذه قبيل وفاته وله من العمر ثماني عشرة سنة ، امتنع من البيعة لعلي (عليه‌السلام) ولم يشهد معه مشاهده توفي بالمدينة أواخر ايام معاوية على اختلاف في سنة وفاته.

المهاجرين والانصار وقالوا يؤمر هذا الغلام الحدث على جلة المهاجرين والانصار قام خطيبا فقال فيما اجابهم به : (لأن طعنتم على في تأميري اسامة فقد طعنتم في تأميري اباه من قبله وايم الله انه كان لخليقا بالامارة وابنه من بعده لخليق بها وانهما لمن احب الناس إليّ) الى قوله (فانه من خياركم (١)) فما نرى الصحابة رجعوا في انكارهم الا الى قبح تقديم المفضول على الافضل لزعمهم ان في القوم الذي امر عليهم اسامة من هو افضل منه وما نرى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجاب عن انكارهم الا بان اسامة خليق بالامارة لأنه من خيارهم ولم يجبهم بانه لا بأس بتقديمه لأن المفضول يجوز تقديمه على الافضل ومن هذا الخبر يعلم ان الصحابة لا يجوزون تقديم المفضول على الافضل وان غلطوا في التفضيل وانهم ان قدموا المفضول فهو خلاف مذهبهم او لتوهمهم افضليته غلطا.

ومنها ما رووه وصححوه من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي الدرداء (٢) حين كان يمشي امام ابي بكر (أتمشي امام من هو خير منك!) وهذه الرواية (٣) وإن لم تكن عندنا بشيء لكنا نحتج بها على مخالفينا من باب الزام الخصم بما الزم به نفسه وهي صريحة تمام الصراحة في قبح تقدم المفضول على الافضل في المشي فما ظنك في تقدمه عليه في الامامة والامر والنهي والحكم والصلاة وغير ذلك من المناصب الشرعية ، وهل تجويز ذلك الا مخالفة لما صح عندهم عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على عمد.

__________________

(١) انظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٨.

(٢) ابو الدرداء عامر بن زيد الأنصاري صحابي معروف ولي القضاء بدمشق لعثمان وتوفي بعد صفين على الأصح سنة ٨ أو ٣٩.

(٣) نور الأبصار للشبلنجي ص ٥٤ وفيه (خير منك في الدنيا والآخرة).

ومنها ما استفاض من طرقنا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال (من أم قوما وفيهم من هو افضل منه لم يزل امرهم في سفال الى يوم القيامة) (١) وفي رواية اخرى (من تقدم قوما وفيهم من هو أعلم منه كبه الله على منخريه في النار) وهما صريحتان في المدعي وليس للخصوم ان يقدحوا فيهما بعد ما رووا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما يوافق مضمونهما مما مر ذكره وغيره ، وما يفهم من مذهب الصحابة مما مضى بيانه ويأتي عن قريب وقد تبين من جملة ما حررناه وجوب افضلية الامام على رعيته ، وانه لا يجوز ان يكون في رعية الامام من هو افضل منه بوجه من الوجوه ، وخالفنا في ذلك اكثر العامة من الاشاعرة وغيرهم فجوزوا إمامة المفضول ، وبالغ في ذلك المعتزلة غاية المبالغة فصححوا إمامة الخلفاء الثلاثة مع ذهاب المعظم من محققيهم كمعتزلة بغداد قاطبة وجماعة كثيرة من معتزلة البصرة الى تفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الصحابة بالمعنيين من التفضيل وصرح عز الدين عبد الحميد بن ابي الحديد المدائني وهو من اعاظم المعتزلة في شرح نهج البلاغة تمام التصريح (٢) به قال وهو يخبر عن الله بزعمه : وقدم المفضول على الافضل لمصلحة اقتضاها التكليف (٣) والمقصود من هذه العبارة ان الله أوجب الاقتداء بالمفضول واتباعه وترك اتباع الافضل للمصلحة المذكورة وفي كتابه عنه ونقلا عن اصحابه مثل هذا كثير

اقول وهذه الدعوى مع ما فيها من الافتراء على الله قد كذبتها ـ مضافا

__________________

(١) نقله المجلسي في البحار ج ٨٨ ص ٨٨ عن الصدوق في ثواب الأعمال وعلل الشرائع والمحاسن للبرقي والسرائر لابن ادريس بلفظ «الى سفال» بدل «في سفال».

(٢) شرح نهج البلاغة : ١ / ٩.

(٣) نفس المصدر : ١ / ١.

الى ما مضى من الأدلة ـ سيرة ائمة المعتزلي وما صح نقله عنده من طريقهم وذلك من وجوه.

الاول ان أبا بكر لما قال لأصحاب السقيفة «هذان عمر وأبو عبيدة فبايعوا احدهما» قال له عمر «كيف أتقدم عليك وانت اقدم مني اسلاما وانت صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وثاني اثنين في الغار ، وقدمك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الصلاة رضيك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لديننا أفلا نرضاك لدنيانا»؟ وقال للناس «ايكم يطيب نفسا ان يتقدم قدمين قدمهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الصلاة» (١) فنرى عمر لم يجوز لنفسه ولا لغيره التقدم على ابي بكر لافضلية ابي بكر عليه وعلى غيره في الخصال التي ذكرها بزعمه لا لشيء آخر وما نراه قال لأبي بكر نعم أنا افضل منك أو هنا من هو افضل منك ، ولكن المصلحة التي اقتضاها التكليف تقديمك على من هو افضل منك كما ادعاه المعتزلي.

الثاني : ان أبا بكر لما استخلف عمر قال له طلحة : «ما ذا انت قائل لربك إذا قدمت عليه وقد وليت علينا فظا غليظا» فغضب ابو بكر وقال لطلحة «ا بالله تخوفني اذا لقيت ربي فسألني قلت خلفت عليهم خير أهلك» فقال طلحة «أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله» فاشتد غضبه فقال «أي والله هو خيرهم وانت شرهم» (٢) فما نرى أبا بكر احتج على تقديمه عمر على الناس الا لأفضليته عليهم عنده ، وما نرى طلحة انكر على ابي بكر تقديمه عمر الا لمفضوليته عنده وكونه على صفة لا يصلح صاحبها للإمامة ، وهي كونه فظا غليظا كما صرح به ، وما اجاب ابو بكر طلحة عن ذلك ولا اعتذر

__________________

(١) نفس المصدر : ٦ / ٣٩.

(٢) المصدر السابق : ١ / ١٦٥.

له بما قال المعتزلة بأنّ عمر ليس أفضل عندي منكم ولكن جاز تقديمه عليكم لمصلحة اقتضاها التكليف بل اجابه بانه خيرهم كما سمعت.

الثالث ان عمرو بن العاص لما كلم عمر وطلب منه ان يكلم أبا بكر ان يجعله اميرا على جيوش المسلمين بالشام ويعزل أبا عبيدة ويجعله تحت امره اجابه عمر بان أبا عبيدة عندنا خير منك وقد سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (ابو عبيدة امين هذه الامة) فامتنع ابو بكر وعمر من تقديم ابن العاص على أبي عبيدة لأفضلية ابي عبيدة عليه (١) عندهما كما ترى لا لما ذكره المعتزلي وقبيله الى غير ذلك مما رووه من اقوال ائمتهم وافعالهم مما هو مماثل في المعنى لما ذكرناه وكل ذلك رواه ابن ابي الحديد وصححه وهو صريح في مخالفة قوله ومناقضة دعواه ، فاتضح منه ان المعتزلة والاشاعرة وغيرهم قد خالفوا أئمتهم وتركوا قول من جعلوا دعواهم وسيلة لتقديمهم وكفى بقولهم بطلانا مخالفته لحكم من يقتدون به والذي يمكن تمسك المعتزلة به في قولهم ذلك وجهان يظهران من مطاوي كلام ابن ابي الحديد.

الاول ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر على ابي بكر وعمر وعثمان أبا عبيدة بن الجراح مرة وأمر عليهم عمرو بن العاص تارة وخالد بن الوليد اخرى وأسامة بن زيد رابعة (٢) وابو بكر وعمر وعثمان افضل من هؤلاء المؤمّرين عليهم بالاجماع فيعلم من ذلك جواز تقديم المفضول على الافضل ، والجواب انه ان اراد اجماع الصحابة فقد عرفت انه قائم على قبح

__________________

(١) انظر فتوح الشام للواقدي ١ / ٨.

(٢) إمرة أبي عبيدة حين أرسله مددا لعمرو بن العاص في سرية ذات السلاسل (سيرة ابن هشام ٤ / ٢٠٠) وإمرة عمرو بن العاص في سرية ذات السلاسل (شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٤) وسيرة ابن هشام ٤ / ٢٠١ ولم أعثر على إمرة خالد عليهم واما اسامة ففي بعث اسامة المشهور.

تقديم المفضول على الافضل ولذا انكروا على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تأمير اسامة بن زيد زعما منهم ان اسامة مفضول بالنسبة الى المؤمر عليهم ولم ينكروا تأمير ابي عبيدة وعمرو وخالد على ابي بكر وعمر وعثمان فدل ذلك من فعلهم وقولهم على انهم لا يرون لهم فضلا على الامراء المذكورين في ذلك الزمان وان قال به البعض بعد ما صار الثلاثة خلفاء فهو قول متجدد ، وقد فضل الانصار سعد بن عبادة على ابي بكر وقدموه عليه لو لا ما رواه عمر من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (الأئمة من قريش) وادعاء ابي بكر وصاحبيه القرابة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وميل بعض الانصار لقريش حسدا لسعد وطعن سعد المذكور على ابي بكر وعمر بالمعصية في قوله : لو اجتمع الثقلان ما بايعتكما ايها الغاصبان ، وطعن الحباب بن المنذر على عمر بالجهل وطعن طلحة عليه بالفظاظة والغلظة وانكر على ابي بكر قوله فيه «انه خير الناس» ، وكل ذلك محقق عندهم فاين الاجماع من الصحابة على فضلهم فضلا عن افضليتهم؟ على ان هذا الاجماع المدعي لو تحقق منهم لكان مناقضا لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث تأمير اسامة وإذا كان الاجماع مناقضا لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان باطلا والحق ان افضلية الثلاثة لم تكن معروفة في زمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين الصحابة وانها بعده من المختلف فيه بينهم وان اراد اجماع الاشاعرة فهو لا يرضى به فانهم وان لم يستقبحوا تقديم المفضول على الافضل بناء على اصلهم من نفي الحسن والقبح العقليين لكنهم يفضلون الثلاثة على علي (عليه‌السلام) في معنى كثرة الثواب ، وهو يبطل ذلك كله وإن اراد اجماع اصحابه المعتزلة فهو معارض باجماع الشيعة على تفضيل اسامة على ابي بكر وعمر وعثمان وان الباقين احسن حالا منهم لا سيما في كثرة الجهاد ، والشيعة اكثر من المعتزلة فيحتاج في ترجيح احد الاجماعين على الآخر الي مرجح من الادلة فإن احتج بالسبق

الى الاسلام اجيب بان السبق على ابي عبيدة ممنوع في عمر فان أبا عبيدة اسلم قبله وعثمان أيضا غير متحقق اسلامه قبل ابي عبيدة وخاصّية السبق على اسامة منتفية لتولده في دعوة الاسلام وعدم سبق الكفر منه ، ثم ان السبق الى الاسلام لا يصلح بنفسه خاصة ان يكون موجبا للافضلية اذا عارضه ما هو مثله او اقوى منه من الصفات الموجبة للتفضيل ما لم ينضم إليه المساواة في باقي الصفات الحميدة ليكون للسابق الزيادة على الآخر المساوي في الصفات بالسبق فيفضله به وذلك بأن نفرض شخصين تساويا في الخصال المحمودة لكن احدهما أسبق في الاسلام من صاحبه فالسابق افضل بالسبق من اللاحق أما إذا كان اللاحق قد ادرك من صفات الخير مثل العلم والسخاوة وكثرة الجهاد وغير ذلك مما يقابل السبق ويربو عليه ولم يكن للسابق من ذلك شيء أو لم يكن فيه توغل كاللاحق لم يكن السابق افضل من المسبوق ، وآية (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (١) الآية ظاهرة في المعنى الاول بل لا تحتمل غيره وقوله تعالى (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) (٢) شاهد للمعنى الثاني فغير ممتنع ان يكون لعمرو بن العاص وخالد بن الوليد بعد دخولهما في الاسلام خصائص تقابل سبق الثلاثة وتربو عليه وبذلك قدمهما رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم ، هذا كله اذا أريد من الأفضلية كثرة الثواب ، واما اذا أريد الجمع للخصال الحميدة كان استحقاق عمرو وخالد التقدم في الامارة على الثلاثة اوضح من ان يوضح لحصول الشجاعة والثبات في الجهاد فيهما دونهم ، ولو احتج بالأحاديث المروية في فضل الثلاثة اجيب بوجهين :

الاول انها مفتعلة موضوعة كما دل عليه احتجاج ابي بكر وعمر على

__________________

(١) الحديد : ١٠.

(٢) آل عمران : ١٩٥.

المنازعين لهما في امور كثيرة قد مر بعضها لخلوه عن ذكر شيء منها مع احتياجهم إليها لأن حديثا منها اوضح من جميع ما احتجوا به على مطالبهم مما لا يغني شيئا ولا يجدي نفعا ، ولم لا احتج ابو بكر أو احتج عمر له على الانصار بما يروي بعد من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لا ينبغي لقوم فيهم ابو بكر ان يتقدم عليه غيره) واحتج ابو بكر على طلحة في تفضيل عمر الذي ادعاه بقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ضرب الحق على لسان عمر (١)) لو كان شيء من ذلك موجودا فعدم تعرضهم لها مع الحاجة إليها وارتفاع المانع من ذكرها دليل على عدم وجودها عندهم واذا لم تكن موجودة عندهم كانت لا محالة موضوعة ، والامر في عثمان اوضح لان حاجته كانت الى الحجة الصحيحة اشد ، وتلك الاخبار في حقه لو كانت موجودة لكان الاحتجاج بها انفع له مما ذكره من كل غث وسمين مما لم يدفع عنه حجة خصومه ، على ان بعض العامة طعن فيها بالوضع لما ذكرناه ، وطعن الشيعة فيها لذا وغيره معلوم مشهور فتكون باطلة لا تقوم بها حجة وسيأتي لهذا زيادة توضيح في موضع هو أملك به من هذا الموضع.

__________________

(١) قيل في رد هذا الحديث : إن صح فيقتضي عصمته ولم يدع ذلك عمر (رضي الله عنه) ولا ادعاه لواحد وقد شهد هو على نفسه بالخطإ ورجع عن بعض الأحكام واعترف بذلك في اكثر من موطن كقوله : (لو لا علي لهلك عمر) قال ذلك في اكثر من موطن انظر السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ٤٤٢ تفسير الرازي ٧ / ٤٨٧ الدر المنثور ١ / ٢٨٨ الرياض النضرة ٢ / ١٩٤ الخ. وقوله (لو لا معاذ لهلك عمر) (سنن البيهقي ٧ / ٤٤٣ الاصابة ٣ / ٤٢٧ فتح الباري ١٢ / ١٢٠ و (كل الناس افقه من عمر) تفسير القرطبي ٥ / ٩٩ تفسير النيسابور ١ / الأربعين للرازي ص ٤٦٧ نور الأبصاري للشبلنجي ص ٧٩ الدر المنثور للسيوطي ٢ / ١٣٣ قيل ولم نر عمر (رضي الله عنه) احتج لنفسه بهذا الحديث في المواطن التي احتاج الى الحجاج فيها.

الثاني (١) انها معارضة بما روى من مدح المأمّرين المذكورين وقد رواه من روى مدح الثلاثة من المحدثين مثل (ابي عبيدة امين هذه الامة) و (عمرو بن العاص أحبّ الناس إليّ) و (خالد سيف الله) والتأمير يكون قرينة الترجيح فان رد الجميع بالوضع فلا احتجاج بالكل فتأمل الوجه الثاني (٢) ان علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) رضي بتقديم ابي بكر وعمر وعثمان عليه في الخلافة وهو عند نفسه افضل منهم وعندنا كذلك ، ولو لم يجز تقديم المفضول على الافضل عنده لما رضي بتقدمهم عليه ، وهذه الحجة مع انها معتمدهم واهية جدا والجواب عنها يمنع المقدمة الاولى فإن عدم رضي امير المؤمنين بتقدم ابي بكر عليه اظهر من الشمس الضاحية ، وقد روى هذا المحتج فيما صح عنده من الروايات امتناع علي (عليه‌السلام) عن بيعة ابي بكر مع جملة من اصحابه وهم خيار الصحابة وصلحاؤهم ، وتألمه من تقدم ابي بكر عليه حتى أخرج الى البيعة بالقهر والغلبة على اوعر وجه وأشد هوان هو ومن معه وروى أيضا ان عليا استنصر الناس على ابي بكر ، كان يركب فاطمة على حمار ويأخذ معه الحسن والحسين ويمضي الى دور المهاجرين والانصار يطلب منهم النصرة على ابي بكر وتطلب فاطمة (عليها‌السلام) منهم له الانتصار على ابي بكر فلم يجبه الا أربعة او خمسة (٣) وقد عيّره معاوية بذلك في مراسلاته وبأنه قيد الى البيعة كما يقاد البعير المخشوش (٤) فما انكر شيئا من ذلك بل كان من جوابه لمعاوية (وقلت : اني اقاد كما يقاد البعير

__________________

(١) من الوجوه في رد بعض الأحاديث الموضوعة في الفضائل.

(٢) أي الوجه الثاني من الوجهين اللذين تمسك بهما المعتزلة من جواز تقديم المفضول على الأفضل.

(٣) شرح نهج البلاغة ١١ / ١٤.

(٤) المصدر السابق ٢ / ٤٧ والخشاش ـ بكسر الخاء المعجمة ـ : عود يجعل في عظم أنف الجمل الصعب ليسهل قياده.

المخشوش فلعمري لقد اردت ان تذم فمدحت وان تفضح فافتضحت وما على المؤمن من غضاضة اذا كان مغلوبا عليه ما لم يكن شاكا في دينه أو مرتابا في يقينه (١)) كل ذلك رواه (٢) وروى أيضا ان عليا (عليه‌السلام) كان يقول (لو وجدت اربعين ذوى عزم لناهضت القوم) (٣) يعني أبا بكر واصحابه فاين رضاه بتقدم ابي بكر على هذا وما سيأتي بعده من البيان في مواضعه؟ فالمعلوم من ذلك ان عليا (عليه‌السلام) ما ترك مناجزتهم الا لعدم وجوده الناصر وأمور أخرى يأتي إيضاحها ان شاء الله فإذا بطل رضاه بتقدم الاول بطل رضاه بتقدم الاخيرين البتة ؛ وتظلمه (عليه‌السلام) منهم في زمان خلافته في كلماته وخطبه مشهور معلوم ، وقوله في بعض خطبه في ايام الجمل (فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ منذ قبض الله نبيه حتى يوم الناس هذا) (٤) معروف غير منكور قد رواه المحدثون وصححه ابن ابي الحديد (٥) ولو عمدنا الى ذكر ما ورد في الروايات المصححة عند الخصم من تظلمه (عليه‌السلام) وتألمه وتشكيه من تقدم الثلاثة عليه اذن لاحتاج الى كتاب مفرد ، وليس المقصود هنا الا بيان عدم رضاه بتولي القوم عليه وهو حاصل ببعض ما ذكرناه ، ومنه صح ان يدعى رضى امير المؤمنين (عليه‌السلام) بتقدم من تقدم عليه مبطل في دعواه فبطل ما بنى عليه من القول بجواز تقديم المفضول على الافضل على ان المعتزلي قد ذكر في موضع من كلامه ما حاصله ان الناس الذين لم يشاهدوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يسمعوا منه ما قال في حق علي (عليه‌السلام) من

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٤٥ ونهج البلاغة برقم ٢٨ كتب.

(٢) الضمير في «رواه» لابن أبي الحديد لأنه في معرض الرد عليه.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نهج البلاغة برقم ٦ خطب.

(٥) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢٥ و ٢٢٧.

الاقوال الجميلة انما دعاهم الى القول بافضلية المتقدمين عليه في الخلافة تقديمهم عليه فيها لاعتقادهم ان الافضلية هي سبب التقديم وهذا الكلام مؤيد لما قلناه من انه قد ارتكز في العقول قبح تأخير الافضل عن المفضول وذلك مبطل لما يقول ولهذا كان من قدم الثلاثة على امير المؤمنين (عليه‌السلام) مع اشتهار فضائله وشياع مناقبه ووفور مآثره وتواتر اقوال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تفضيله وتبجيله اعتمادا على فعل قوم من الناس ظهرت منهم مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مواضع كثيرة مخالفا لمذهبه ومكابرا لمقتضى عقله فلا عذر له عند الله يوم المئاب ولا حجة له عند الحساب لاكتفائه بالتقليد عن النظر مع وضوح الامر وصراحته.

ثم ما ادرى أي مصلحة في التكليف اقتضت تقديم المفضول على الافضل (١) والتكليف دائر مدار المصلحة وهي عندنا وعنده عقلية والعقل ينكر تقديم المفضول ويقبحه؟ فاين هذه المصلحة؟ ما هذا الّا تناقض في القول وتشبث بما لا يسمن ولا يغني من جوع فبطل ما قال وصح ما قلنا من وجوب تقديم الافضل على المفضول.

وبعد فاي عاقل يجوّز لنفسه ترك الاخذ بقول رجل فاضل متقن للاحكام محرز لادلة المسائل العلمية والعملية ويأخذ بقول رجل قاصر العلم ضعيف الاتقان؟ او يقدم لقيادة الجيوش رجلا خوارا لا يصبر عند اللقاء ولا يثبت عند منازلة الاعداء؟ بل يفر ويولى الدبر ويؤخر عن ذلك رجلا مقداما صبورا عند الهزاهز وقورا عند الشدائد قويا على محاولة الشجعان بصيرا في مطاعنة الاقران عارفا بقيادة الجيوش وسياسة الامور كرارا غير فرار ويقدم في المشورة في الامور المهمة رجلا جامدا القريحة متردد الذهن ضعيف العزم على

__________________

(١) يشير الى قول ابن ابي الحديد في مقدمة شرحه على نهج البلاغة : «وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف».

رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة صرام للامور نافذ البصيرة عارف بانواع المصالح والمفاسد ، او يقدم في الامانة رجلا غير تام الوثاق ولا مستكمل الديانة على رجل آخر معروف بالعفاف والامانة وكمال الديانة مقطوع بصلاحه مشهورة ثقته الى غير ذلك من الاوصاف المتقابلة التي لا يرتاب عاقل غير معاند ولا مكابر في استقباح تقديم القاصر فيها على الكامل؟!! ولكن القوم (١) خالفوا عقولهم وناقضوا احلامهم فسفهوها بقبح اقوالهم وكل ذلك إرادة منهم لتصحيح إمامة القاصرين من المتقدمين ، وقد بان مما حررناه بطلان ما اثبتوه والله المستعان.

المسألة الثالثة (٢) يشترط في الامام ان يكون قريبا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في النسب بل يجب ان يكون اقرب الناس إليه اما القرابة في الجملة فظاهر الصحابة والتابعين بل جميع المسلمين عليها ، ولذا احتج بها ابو بكر وصاحباه في السقيفة على الانصار عند رومهم مبايعة سعد بن عبادة ، وروى لهم عمر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الأئمة من قريش (٣)) واحتج لقريش على الانصار جماعة منهم فانصرفوا بها عن مبايعة سعد واحتج امير المؤمنين (عليه‌السلام) بها على ابي بكر واصحابه في استحقاق

__________________

(١) يريد بالقوم ابن ابي الحديد وأصحابه المعتزلة ولا يريد المصنف بهذا الكلام الا تفنيد ما يذهبون إليه من جواز تقديم المفضول على الأفضل.

(٢) من المسائل في شروط الامام.

(٣) حديث (الأئمة من قريش) رواه جماعة رووا أن أبا بكر (رضي الله عليه) احتج به على الأنصار ولكن الجمع بين ذلك وبين قوله الذي رواه الطبري في التاريخ ٤ / ٢١٤ حوادث سنة ١٣ وغيره في جملة مسائله التي ودّ لو سأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عنها : «ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق» يوقع الباحث في حيرة خصوصا بعد المقارنة بين ذلك وبين قول عمر (رضي الله عنه) أيضا «لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته» ومعلوم أن سالما ليس بقرشي.

الامامة دونهم ، فما انكر الاحتجاج بها على اولويته بالخلافة منهم احد بل اعتذر منهم من اعتذر بامور اخرى كما سيأتي مشروحا ولم يخالف في ذلك ممن ينتحل الاسلام الا الخوارج (١) ولا عبرة بهم لخرقهم اجماع المسلمين ، نعم ربما يتصور الخلاف في اشتراط الاقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الإمامة فإن اكثر المخالفين لم يشترطوها واصحابنا جميعا على الاشتراط ، والعباسية كذلك وهذا هو الاصح وعليه المعتمد لنا قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٢) في الانفال وفي الاحزاب (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) (٣) وهما شاملتان للمال والمنزلة بل هما للمنزلة اقرب وفيها اظهر لان سياق الآيتين في معنى الولاية لا سيما الثانية فانها في مساق ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الآية وذلك مرجح ليس له معارض ، وقوله تعالى في ابراهيم (عليه‌السلام) (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) (٤) والكلمة الامامة وهو اشارة الى قوله تعالى عزوجل (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٥) وبه قال جماعة من المفسرين وهو عند اصحابنا متفق عليه فالآية صريحة في المطلوب وقوله جل وعلا (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (٦) يومي الى ذلك بل يصرح به قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا يؤدي عني الا انا

__________________

(١) حيث جوز الخوارج أن تكون الامامة في غير قريش (انظر الملل والنحل ١ / ١١٦).

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) الأنفال : ٥٧.

(٤) الزخرف : ٢٨.

(٥) البقرة : ١٢٤.

(٦) آل عمران : ٣٤.

ورجل مني) (١) لعموم اللفظ ولانه اذا لم يجز ان يؤدي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعض الامور من هو بعيد عنه في النسب فكيف يجوز ان يؤدي عنه الى جميع الامة جميع الاحكام الشريعة في الدين والدنيا فدل ذلك على اشتراط الاقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامام فان قيل : اذا حكمتم بان الامام يجب ان يكون اقرب الناس الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزمكم القول بان العباس بن عبد المطلب هو الامام بعد رسول الله كما قاله العباسية لانه العم والعم اقرب من ابن العم وانتم لا تقولون بذلك ، قلنا لهذا جوابان عندنا معروفان وآخران مذكوران.

الاول وان ابن العم للابوين اقرب عندنا من العم للاب فيجوز الميراث دونه ويحجبه ، وهذا مذهب امير المؤمنين (عليه‌السلام) ومن المحقق انه لا يقول الا الحق وقد قال به قوم من الفقهاء كنوح بن دراج (٢) وابي بكر بن عياش (٣) وغيرهما وعلي (عليه‌السلام) ابن عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبويه فان أمّ عبد الله وابي طالب جميعا فاطمة بنت عمرو المخزومية وأم العباس (٤) اخرى غيرها فهو عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لابيه خاصة فيكون علي (عليه‌السلام) اقرب منه الى النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك في قصة براءة كما سيأتي.

(٢) نوح بن دراج ولي القضاء للرشيد على الكوفة والبصرة وكان من الشيعة قيل : وكان يقضي بقضاء علي (صلوات الله وسلامه عليهم) وهو اخو جميل بن دراج المدفون قريبا من بلده الدجيل ويظهر أنه ولي القضاء ببغداد أيضا حيث يقول الأشهب الكوفي :

يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم

مذ صار قاضيكم نوح بن دراج

(٣) أبو بكر بن عياش اسمه سالم وقيل : شعبة : وقيل : اسمه كنيته كان من العلماء العباد الزهاد توفي بالكوفة سنة ١٩٣.

(٤) أم العباس نتيلة بنت جناب بن كلب (الاصابة ٢ / ٢٧١).

وآله وسلم).

الثاني ان القرابة بمفردها غير كافية في استحقاق منزلة النبي (ص) بل تحتاج الى ان ينضم إليها باقي الشروط من العصمة والافضلية والعباس غير معصوم وعلي افضل منه بالاجماع فكان احق بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منه ، ومن هذا الوجه قدمنا عليا (عليه‌السلام) على اخيه عقيل مع تساوي نسبهما الصوري الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكون قرابتهما منه واحدة واما الوجهان الآخران.

فاحدهما ما ذكره علي (عليه‌السلام) وسيأتي ذكره مشروحا في ايراد النصوص عليه وهو مبايعته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين جمع بني عبد المطلب ودعاهم الى مبايعته على ان من بايعه يكون اخاه ووزيره ووارثه وخليفته فبايعه علي (عليه‌السلام) دونهم (١).

والثاني مروي عن ابي الحسن موسى بن جعفر إنه ذكره للرشيد (٢) واحتج به عليه مع اوّل الوجهين الأولين حين ناظره في استحقاق علي (عليه‌السلام) ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون العباس وهو ان عليا اسلم وهاجر فكانت له ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والعباس تأخرا إسلامه ولما اسلم لم يهاجر فلم يكن له من ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الميراث شيء لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) (٣) فلذلك لم يكن للعباس (رضي الله عنه)

__________________

(١) يعني في يوم الدار المشهور.

(٢) نقله السيد الطباطبائي في الميزان في تفسير القرآن ٩ / ١٤٣ عن كتاب «معاني الأخبار» للصدوق.

(٣) الأنفال : ٧٢.

مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولقد اخرجه عمر من الشورى لذلك وادخل عليا دونه ، وذلك حجة على المعترض فبطل اعتراضه كما بطل اعتراض هارون الرشيد على ابي الحسن لما ذكر له الوجه المذكور وبما ذكرنا من الوجوه بطل قول قوم رعف بهم الزمان يسمّون العباسية قالوا : بان الامامة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعمه العباس لأنه الاقرب فادعوا له ما لم يدعه لنفسه وما ذكره أيضا بعض جهلة العامة ردا على الشيعة من ان الامامة ان كانت بالقرابة وجب ان يكون العباس هو الامام بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لانه العم وهو اقرب من ابن العم وعلي (عليه‌السلام) ابن العم فلا يكون له مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع وجود عمه العباس لما علمت من ان الامامية لم يسلموا اقربية العباس للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من علي (عليه‌السلام) وقد ذكرنا دليل المنع ووافقهم عليه من وافقهم من غيرهم مثل نوح بن دراج وهو من قضاة هارون الرشيد وابي بكر بن عياش وهو من الاجلاء عند العامة ولم يجعلوا القرابة بمفردها مقتضية لاستحقاق الخلافة بدون حصول باقي الشروط فاندفع الاعتراض عنهم وزال من اصله وثبت المدعي من اشتراط الاقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامام واما الحسن والحسين فاستحقا الامامة لتساويهما في قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (عليه‌السلام) فلم يكن ولد الحسن يستحقونها مع الحسين (عليه‌السلام) وهو الاقرب الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي ، ثم هي بعد الحسين لمن كان اقرب الى الامام الذي قبله مع جمعه باقي الشروط ولذا صارت بعد الحسين في ولده خاصة ولم تصرفي ولد الحسن لتساوي الجميع في القرب من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (عليه‌السلام) ، لأن ولد الحسين (عليه‌السلام) (١)

__________________

(١) الملل والنحل : ١ / ٢٠٧.

اختصوا بالقرابة من الحسين وهو الامام بعد الحسن دون ولد الحسن. فكان ولد الامام اولى به بمفاد الآيتين فلم يكن ميراث الحسين (عليه‌السلام) من جده وابيه يعود بعده الى ولد اخيه دون ولده ولا يشتركون فيه ، ومن هذا بطل قول من قال من الزيدية وغيرهم بان الامامة بعد الحسين جائزة لذريته وذرية اخيه الحسن لتساوي قرابة الكل منهم الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والى أمير المؤمنين ، ومنه أيضا يفسد قول الكيسانية بانتقال الامامة بعد الحسين الى اخيه محمد بن علي وهو ابن الحنفية ثم من بعده لولده وانه هو القائم المنتظر الى غير ذلك من خرافاتهم واختلافاتهم ، لأن علي بن الحسين اقرب الى ابيه والى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من عمه محمد (رض) ، وبطل قول الاسماعيلية لان موسى (عليه‌السلام) اقرب الى ابيه ابي عبد الله ، من ولد اخيه اسماعيل اذ لا خلاف في ان الولد اقرب من ولد الولد وليست لاسماعيل إمامة في حياة ابيه اذ لا إمامة للاحق الا بعد مضي السابق واسماعيل مات قبل ابي عبد الله (عليه‌السلام) ، وبطل قول الفطحية بامامة عبد الله بن جعفر (١) لعدم العدالة فيه دون العصمة والعلم وباقي الشروط وبهذا أيضا يبطل جميع ما ذكرناه من الاقوال وغيرها من خرافات فرق الشيعة غير الامامية وغيرهم من فرق الناس والله الموفق للصواب.

__________________

(١) عبد الله بن جعفر الصادق (عليه‌السلام) يعرف بالأفطح (لأنه افطح الرأس) اي ذو رأس عريض ادعى الإمامة أو ادعيت له بحجة أنه أكبر اولاد الصادق (عليه‌السلام) بعد موته لما ورد أن الإمامة تكون في الأكبر وقد منع من ذلك أن من شروط الإمام أن لا تكون به عاهة مضافا الى الشروط الأخرى من العصمة والعلم نحو ذلك وقد روي ان الإمام الصادق قال للكاظم (عليه‌السلام) (يا بني اني اخاف ان اخاك سيجلس مجلسي ويدعي الامامة بعدي فلا تنازعه بكلمة فانه أول أهل بيتي لحوقابي) فمات بعد أبيه بسبعين أو تسعين يوما وانظر سفينة البحار ٢ / ٣٧٣ مادة «فطح».

المسألة الرابعة (١) في طريق الامامة وقد اختلف الناس في ذلك فذهب اصحابنا الامامية الي ان الامام يجب ان يكون منصوصا عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او مدلولا عليه من الامام الذي قبله ، او يدعى الامامة فيقيم معجزا يدل على صدقه ، ولا خلاف بين الامة في ان النص والتعيين من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر مستقل تثبت به الامامة ، وإنما الخلاف في كون النص شرطا فلا تثبت الامامة بدونه ودون الوجه الثاني ، وهذا مذهب اصحابنا (رضي الله عنهم) وهو الحق المتبع ، وذهب العامة وغيرهم من الفرق الى ان الامامة تصح بالاختيار وتثبت ببيعة اهل الحل والعقد كما تثبت بالنص ، وذهب الزيدية الى ان كل فاطمي عالم زاهد خرج بالسيف وادعى الامامة فهو إمام ، وهذا المذهب مشارك لما قبله في الضعف والوهن ، وستسمع الحجة على ابطالهما وذهب العباسية الى ان تعيين الامام يكون بالنص والميراث ومرادهم الأقربية ، ولا نزاع بيننا وبينهم الا في تعيين الاقرب الوارث وقد مر بيان ذلك من قريب ، فإن قيل انكم قلتم : ان نصب الامام واجب على الله فيكون منصوبا من قبله ثم قلتم هنا : ان الامامة تحتاج في ثبوتها الى نص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا اعتراض فيه لانه يوحي إليه فيعرفه الله الامام من بعده ويأمره بنصبه فيكون منصوبا من الله على لسان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكن الامام من اين تحصل له معرفة من نصبه الله بعده في الامامة حتى يدل عليه والوحي قد انقطع وليس الامام عندكم يوحي إليه فلا محالة يكون المدلول عليه مختار الامام الذي قبله لا منصوبا من الله فرجع قولكم في الامامة الى الاختيار أيضا قلنا : ليس الامر كما ادعيت بل لنا في الجواب عن هذا الايراد وجوه.

الاول ان الوحي وان كان قد انقطع فما انقطعت الالهامات فجائزان

__________________

(١) أي من مسائل شروط الامام.

يلهم الامام ويفهم من الله معرفة الامام الذي اختاره للامامة من بعد كما يلهم غير ذلك من الامور فيدل الامة على الامام بعده وينص عليه بدلالة الله اياه عليه من طريق الالهام ، وليس القول بالالهام مما نختص به نحن بل جملة من خصومنا يثبتونه لكافة اهل العرفان المسمين عندهم باهل الله من امام غيره ، وقد صرح ابن عربي محيى الدين عند الخصوم بأن المهدي اذا خرج يلهم الشريعة ويحكم بما القي إليه ملك الالهام منها (١) وصرح الحافظ جلال الدين السيوطي في الكشف بان عيسى اذا نزل يفهم جميع احكام الشريعة المحمدية من القرآن من غير احتياج الى الحديث كما فهمها منه نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لانطوائه على جميعها وان قصرت افهام الامة عن فهم ما يفهمه صاحب النبوة (٢) وقال بعضهم اظنه أبا حامد الغزالي كلاما في هذا المعنى طويلا ومن جملته قوله «فالنبوة والرسالة من حيث عينها وحكمها ما انقطعت وما نسخت وانما انقطع الوحي الخاص بالرسول والنبي من نزول الملك على اذنه وقلبه» وكان قبل هذا الكلام قال «ان النبوة والرسالة انقطعت من الوجه الخاص ثم بقي منها المبشرات» ثم قال بعد ذلك : «واما الاولياء فلهم في هذه النبوة مشرب عظيم» إلى آخر كلامه في هذا الشأن ، وقد ذكر الشيخ الرئيس ابو علي بن سينا في النمط العاشر في اسرار الآيات من كتاب الاشارات صحة الالهام والعلم بالغائبات للاولياء من جهة استكمال النفس الانسانية القوة التي هي مبدأ الافعال الغريبة ، قال في موضع «إذا قلت الشواغل الحسية وبقيت شواغل اقل لم يبعد ان يكون للنفس فلتات تخلص عن شغل التخيل الى جانب القدس فانتقش فيها نقش من الغيب فساح الى عالم التخيل وانتقش في الحس المشترك وهذا في حال النوم او

__________________

(١) نقله الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٤٩. عن الفتوحات المكية لابن عربي.

(٢) نقله الصبان أيضا في الاسعاف ص ١٤٩. عن السيوطي.

في حال مرض ما ، يشغل الحس ويوهن التخيل» (١) ثم ذكر علل ذلك وقال بعدها : «فإذا كانت النفس قوية الجوهر تسع للجوانب المتجاذبة لم يبعد ان يقع لها هذا الخلس والانتهاز في حال اليقظة» (١) وقال في موضع آخر مشيرا الى هذه القوة : «هذه القوة ربما كانت للنفس بحسب المزاج الاصلي لما يفيده من هيئة نفسانية تصير للنفس الشخصية تشخصها وقد تحصل المزاج وقد يحصل بضرب من الكسب يجعل النفس كالمجردة لشدة الذكاء كما يحصل لأولياء الله الأبرار» وقال في موضع «إذا بلغك ان عارفا حدث عن غيب فاصاب متقدما ببشرى او نذير فصدق ولا يتعسرن عليك الايمان به فان لذلك في مذاهب الطبيعية اسبابا معلومة (١)» الى غير ذلك من كلماته المصرحة بهذا المعنى ، واذا سلم الخصوم صحة الالهام للاولياء من جهة الشرع والحكمة ثبت جوازه وحصوله للامام لانه على ما نقول ولي الاولياء وعماد الاصفياء الذي لا يشوب عمله شائبة التغير ولا يخالط حكمه شيء من التبديل فوجب ان يكون ملهما مفهما.

الثاني ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بين للامام بعده جميع ما علمه الله من العلوم والاسرار كما ذكرنا فيما مرّ ومن المعلوم ان الله تعالى اخبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعدد اوصيائه واسمائهم وصفاتهم فكان من جملة ما بينه لخليفته ثم بينه الخليفة الى من يكون بعده وهكذا وبهذا صرحت جملة من الآثار.

الثالث انه لا يبعد ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يخبر كل إمام زمان بمن يكون الامام بعده مشافهة او في المنام وليس في ذلك مانع فقد ذكر مخالفونا ذلك وجوزوه في الاولياء بزعمهم ، قال ابن عربي «جزم بعض

__________________

(١) الاشارات لابن سينا ٤ / ١٣٧ و ١٣٨ و ١٥٥.

المحققين القياس على جميع اهل الله لكون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشهودا لهم فإذا شكوا في صحة حديث او حكم رجعوا إليه في ذلك فاخبرهم بالامر الحق يقظة ومشافهة» انتهى (١) وقال السيوطي : «ان عيسى اذا انزل يجتمع به يعني نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا مانع من ان يأخذ عنه ما يحتاج إليه من احكام شريعته وكم من ولي ثبت انه اجتمع به يقظة واخذ عنه فعيسى اولى» (٢) انتهى وامثال ذلك من كلامهم كثيرا مثلما ذكره الواقدي في فتوح الشام من اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي عبيدة بامور كثيرة مما يدور بين النصارى من الكلام والتدبير والمشورة في المنام (٣) فاذا صح مشاهدة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عندهم للأولياء واخذهم عنه واخباره اياهم في النوم بامور من الغيب فالامام اولى لأنه سيد الاولياء ، وهذا الوجه وارد في اخبارنا أيضا فاندفع الايراد وانزاح الاشكال ، واذا تحققت ما رسمناه فأعلم ان لنا على ما ذهبنا إليه وجوها من الادلة.

الاول إنا بينا ان الامام يجب ان يكون معصوما ، والعصمة امر خفي لا يطلع عليها في أي شخص هي إلا علام الغيوب الذي أيد ذلك الشخص بها فلا يعرف صاحبها الا من قبله اما بالنص عليه او اظهار المعجزة على يديه ، اما وجوب عصمة الامام فقد اثبتناه بالأدلّة القاطعة ، واما ان العصمة امر خفي فلما علمت من معناها ، ولانه ليس في خلق الانسان ما يدل على انه معصوم او غير معصوم ، وأما ما كان خفيا فلا يعرف الا من جهة الله تعالى

__________________

(١) نقله عن الفتوحات الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٤٥.

(٢) نقله الصبان أيضا في الاسعاف ص ١٤٧.

(٣) فتوح الشام ١ / ٥٠ : وفيه أنه قال لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد أن بشره بالفتح : «فقلت : يا رسول الله أراك على عجل؟ قال لأحضر جنازة أبي بكر الصديق».

بأحد الوجهين المذكورين فامر ظاهر لا يحتاج الى البيان فيثبت المطلوب.

الثاني ان سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تقتضي التنصيص على الامام وذلك انه اشفق على الامة من الوالدة على ولدها حريص على ارشادهم وهدايتهم ولهذا علمهم الامور الجزئية حتى ما يتعلق بقضاء الحاجة والاستنجاء وما شاكل ذلك ، وقد وصفه الله بالرأفة بالمؤمنين والحرص على ارشادهم في الكتاب المبين ، في قوله تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١) فمن كان بهذه المثابة من الشفقة على الامة والرأفة بهم لا يجوز في العقل ان يتركهم من غير ان يبين لهم مفزعهم ومن يرجعون إليه في أمور دينهم ودنيا هم فتحصل لهم بترك بيانه في دينهم الحيرة وتعتريهم في امورهم الجهالة والشبهة ، كلا ان العقل يحيل ذلك عن النبي الرءوف الرحيم بالامة ، الذي اعتنى ببيان امور لا نسبة لها بالامامة ولا تعد شيئا بالنسبة الى الخلافة فكيف يهمل الأمر الأهم من لم يهمل الأمور الجزئية من المستحبات والمكروهات ، على ان أبا بكر ما جوز لنفسه ترك بيان خليفته ، وعمر بين ان الخلافة بعده جائزة لستة وجعل الرأي لواحد منهم ولم يجوز لنفسه ترك بيان من يصلح بعده للخلافة ، أفترى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقصر في اصلاح الامة عن الرجلين وهو على ما علم من حاله في الشفقة بالامة ومن منصبه في ابلاغ الفرائض التي اعظمها وأجلها الامامة إليهم؟ وحيث ان سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تقتضي التنصيص وجب ان يكون الامام منصوصا عليه.

الثالث ان الاختيار يؤدي الى التنازع ويفضي الى التجاذب لاحتمال ان يختار كل فرقة من الناس رجلا للامامة فتقوم الفتنة بين الأئمة واصحابهم على

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

ساق ، وكذلك في الفاطميين على ما قاله الزيدية ، اذ لا مانع من قيام فاطميين او اكثر بالسيف يدعون الى انفسهم كل منهم عالم زاهد فيحصل من ذلك النزاع الشديد والخصام اللديد ، فيجب ان يكون الامام منصوصا عليه لدفع هذه المحذورات المنافية للمطلوب من نصب الامام ، وانت خبير بأن الفساد الذي شاع في هذه الامة من الحروب وسفك الدماء وانتهاك المحارم في الصحابة وغيرهم على ما هو مذكور ومسطور كله ناش من الاختيار في الامامة (١) والعدول عن النص ومتفرع عليه ، ولا مدفع له الا بالتزام النص على الامام ، وقد تقدم في المقدمة تحقيق في هذا المطلب ما لا مزيد عليه.

الرابع فحوى بعض الآيات وصراحة بعضها في كون الامامة موقوفة على النص من الله تعالى.

فمنها قوله عز من قائل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢) والدلالة من وجهين.

الاول ان ابراهيم (عليه‌السلام) لما شرفه الله تعالى بجعله يعني نصبه إماما طلب من الله عزوجل اسمه ان يجعل في ذريته أيضا إماما وقد علمت فيما مر من الكلام ان الامامة تجامع الرسالة وتجامع النبوة وتخلو منهما والخليل (عليه‌السلام) سأل الاعم ولم يخصص المسألة بالامامة المجامعة لاحد الامرين ، فلو كانت الامامة بجميع مراتبها تصح بالاختيار لما سأل ابراهيم ربه ان يجعل من ذريته إماما ، بل كان يختار من يشاء من ذريته وينصبه إماما ، وحيث سأل الله ذلك وطلبه علمنا ان الخليل كان يعلم من اعلام الله

__________________

(١) تقدم كلام الشهرستاني انه ما سل في الاسلام سيف كما سل في الامامة.

(٢) البقرة : ١٢٤.

له ان الامامة موقوفة على اختيار الله لا اختيار البشر ، وإذا لم يكن للخليل اختيار في نصب الامام فكيف يكون ذلك لسائر الناس؟ وبما ذكرناه يبطل ما احتمله الرازي في تفسيره (١) من كون الامامة المطلوبة لابراهيم النبوة ولا ينالها من عبد صنما وقتا ما على انه قد ابطل قوله هذا بما ذكرناه عنه في مسألة العصمة من جعله الآية دالة على عصمة الامام ظاهرا وباطنا وان أصحابه تركوا دلالتها على ذلك واكتفوا بالعدالة في الامام وجعلوها دليلا على اشتراط العدالة في الإمام ولا يكون هذا المعني الا في الامامة المجردة عن النبوة فثبت انه مقر بأن الامام بالمعنى الأعم هو المطلوب ثم يقول في هذا المقام : «ان مطلوب ابراهيم الامامة بالنبوة والنبوة عنده لا تكفي فيها العدالة لقوله ولا ينالها من عبد صنما وقتا ما فكان بعض كلامه مناقضا لبعض وهذا دأب القوم وديدنهم في مذاهبهم واقوالهم لضيق مسلكهم.

الثاني ان الله تعالى اجاب ابراهيم بقوله (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) فسمى الإمامة عهده ، ومن المعلوم ان عهد الله لا ينال الا من قبله وليس للخلق في جعله لانسان معين صنع ، ولو كانت الامامة تجوز عند الله باختيار الخلق وترام بذلك لقال لابراهيم ان الامامة ليست موقوفة على نصبي ونصي بل جعلت الاختيار في تعيين الامام لخلقي فاختر أنت من ذريتك من تشاء أو من عرفته في نظرك صالحا لها فانصبه إماما ، ولما لم يجب الله ابراهيم (عليه‌السلام) بذلك بل أجابه بما سمعت علمنا ان الامامة لا تكون الا بنص من الله تعالى وهو المطلوب.

ومنها قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) الى ان قال تعالى : (وَقالَ

__________________

(١) تفسير الرازي ٤ / ٣٩ ـ ٤٤ وما ذكره هنا نقله ملخصا.

لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) (١) الآية والملك في بني اسرائيل بمعنى الإمام في هذه الامة ، لأنه منصوب ، لإقامة الحدود وإمضاء الاحكام وأخذ القصاص وتجهيز الجيوش وقتال اهل الشرك ، ودلالة الآية على المطلوب من جهات.

الاولى : إن بني اسرائيل لما ارادوا ملكا يقيم فيهم الاحكام ويقاتل بهم العدو في سبيل الملك العلام طلبوا من نبيهم ان ينصب لهم ملكا لذلك المرام ، ولو كانت الامامة جائزة بالاختيار لما احتاجوا في نصب الامام الى تعيين النبي وقالوا (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) يعني انصب بل كانوا يختارون لأنفسهم من شاءوا فيجعلونه عليهم ملكا ، ولما كانوا سألوا نبيهم نصب واحد من قبله فتوقفهم عن نصب الملك وطلبهم اياه من نبيهم دليل على ان ليس لهم في الامامة اختيار.

الثانية قول نبيهم : (إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً) ولم يقل اني بعثت لكم فدلّ ذلك على ان النبي ليس له اختيار في تعيين من شاء للإمامة وانما له ان يخبر الامة عن الله بأنّ فلانا المخصوص قد جعله الله لكم إماما فالامامة إذن بالنص لا بالاختيار.

الثالثة : انهم لما أبوا إمامة طالوت وارادوا نصب من يختارون بقولهم (أَنَّى

__________________

(١) البقرة : ٢٤٧.

يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) الخ رد الله قولهم وأبطل اختيارهم بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) فأبان بذلك بطلان الاختيار في الامامة وعدم ثبوتها به وجعلها موقوفة على اصطفائه وهو اختيار الله جل وعز من يختار لها من خلقه لا من يختاره الخلق لها ، وبالزيادة في العلم والجسم يعني الشجاعة ومن المعلوم ان من يختار الله لا يعلم الا من قبله فوجب من صريح الآية ان يكون الإمام منصوصا عليه من الله تعالى على لسان النبي او الوصي وأن يكون اعلم اهل زمانه واشجعهم ، ولو لم يكن ذلك شرطا لم يكن لذكره معنى وحمل هذه الآية على بطلان الاختيار بعد النصر لا قبله كما قاله بعضهم فاسد مردود بالجهتين الاوليين ، وبأنهم لم يطلبوا الاستقلال بالاختيار وانما طلبوا ان ينصب لهم من يكون لهم رضا بمعنى ان يكون من يختاره الله للملك يوافق اختيارهم ويطابق غرضهم فهم من اوّل امرهم على هذا ، وقد ابطل الله اختيارهم من اصله وردّ عليهم ما اقترحوه ولم يجعل لهم في الاختيار مطلقا نصيبا فيدل ذلك بصريحه على ان الامامة ليس للخلق فيها اختيار لا على جهة الاستقلال ولا على الاشتراك فيثبت المطلوب على انه لا فرق بين الحالين في الحقيقة ، بل اذا لم يجز الاختيار بعد النص لم يجز قبله اذ ليس لاحد ان يحكم بدون حكم الله قبل الحكم وبعده.

الرابعة : قوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) دل الكلام صريحا على ان الامامة ملك الله يؤتيها من يشاء إتيانه اياها لا من يشاء خلقه فدل ذلك باوضح دلالة على ان الخلق ليس لهم اختيار ولا مدخل في اختيار الامام اصلا وانها موقوفة على اختيار الخالق مطلقا قبل النص وبعده بمعنى انه ليس لأحد ان يرد النص على واحد بعينه من الله تعالى بنظر واجتهاد ولا ان ينصب إماما من دون نصب الله اياه فازال بذلك الفرقان بين الحالين الذي ادعاه ذلك الجهول ، وهو أيضا وجه رابع في رد قوله وفساد دعواه.

الخامسة : قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) (١) الخ فإنه نص في ان الامامة تحتاج في ثبوتها الى دليل وبرهان وهو المعجز وليست مما تثبت لمدعيها بدون حجة ودليل ولا بقول أحد من الناس وتسميته ذلك المدعى إماما وتصديقه في دعواه الامامة ، وهذا هو نص مذهب الامامية وهو اوضح دليل على بطلان الاختيار في الامامة كما ترى ، والآية محكمة ومضمونها جار في هذه الامة ولم يرد عن احد من المفسرين السابقين من العامة والخاصة انها منسوخة الحكم أو أن حكمها مخصوص ببني اسرائيل دون هذه الامة فلا يجوز لهم الاختيار في الامامة خاصة دوننا بل عامة لهذه الامة انزلها الله لبيان سنته في الذين خلوا ولن تجد لسنة الله تبديلا فتكون حجة على من قال بالاختيار في الامامة ، فما قاله جاهل من حشوية العامة (٢) بأن مضمون الآية مخصوص بالأمم السالفة دون هذه الأمة زور وبهتان وظلم وعدوان وذلك مبلغه من العلم ، وليس دعوى النسخ مما ثبت باللسان من دون حجة ولا بيان ولا حجة على النسخ الا العصبية والعناد والميل الى شهوة النفس وردها الحق لتصحيح ما فعله الاسلاف ، وهذا مما لا يعبأ به عند المناظرة والحجاج ولا تقوم به حجة ولا يصح به حكم ، على ان هذا الحكم مما لا تختلف فيه المصالح بحسب الأزمان والأشخاص حتى يعرض له النسخ والتخصيص بل حاله كحال النبوة التي لا تصح او المعجزة لانها خلافة عن النبوة فسبيلها في جميع الامم واحدة.

ومنها قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٣)

__________________

(١) البقرة : ٢٤٨.

(٢) الحشوية : طائفة تنفي التأويل وكأن الاسم مأخوذ من حشو الكلام وهو الفضول منه.

(٣) القصص ٦٨.

دلت الآية على نفي الخيرة للخلق مطلقا في الخلق والحكم فليس لهم ان يثبتوا حكما ولا ينفوا حكما من قبل انفسهم ولا ان يختاروا احدا فيقدموه في منزلة ويأخروا غيره عنها بل الحكم في ذلك كله لله تعالى ، فكانت الآية ناصة على أنه لا يجوز لأحد ان يختار إماما فينصبه في الإمامة؟؟؟ بعد نص الله وقبله كما هو مفادها اذ لو صح ذلك لكان مناقضا لمدلول الآية وحيث بطل الاختيار في كل شيء بطل الاختيار للناس في الامامة فوجب ان يكون الامام منصوصا عليه.

ومنها قوله تقدس وتعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) الآية (١) وهي وإن كانت ظاهرة في نفي الاختيار بعد النص لا قبله الا انا قد بينا انه لا فرق بين الأمرين وانه ليس لأحد أن يوجب حكما او ينفي واجبا من دون ايجاب الله ونفيه ولا ان يعطى احدا منزلة ويثبت له مقاما لم يعطه الله إياه ولم يثبته له وقد كان ذلك فيما قضاه الله وانزله في كتابه حيث يقول (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ) (٢) وغيرها من الآيات فلا يجوز لاحد أن يختار شيئا ويوجبه لم يختره الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يحكما به.

ومنها قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣) ومن البين ان في آل ابراهيم أنبياء وأئمة بإمامة مجردة من النبوة كالملوك المنصوبين من قبل الله في بني اسرائيل والاصطفاء واقع على

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

(٢) الأنعام : ٥٧.

(٣) آل عمران : ٣٣.

الجميع فتكون الامامة باصطفاء الله كالنبوة ، اذ لا تخصيص في الآية بالنبوة وإذا كانت الإمامة باصطفاء الله بطل أن تكون ثابتة باختيار الناس.

ومنها قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (١) والملك العظيم هو الامامة ، وهو حاصل بإيتاء الله وإذا كانت الامامة لا تكون الا بإيتاء الله بطل ان تكون باختيار من الناس وثبت من مدلول هذه الآيات الظاهرات توقف الامامة على النص وعدم صحتها بالاختيار ، ولعمري ان الاحتجاج بها على المطلب كاف لاولى الانظار المجانبين لطريق الاستكبار والله الهادي.

الخامس ان الامامة خلافة الله في ارضه لا ينكر ذلك احد من اهل العلم والمعرفة وقد صرح بذلك الخلفاء حتى الّذين كانت خلافتهم بالاختيار فكانوا يسمون انفسهم خلفاء الله كما لا يخفى على من قرء السير والاخبار والتواريخ والآثار ، وما زال الناس من ذوي الفضل يقولون في الامامة انها خلافة الله في (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (٢) وقال تعالى : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) (٣) وقال تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٤) ومن المعلوم الذي لا يشك فيه احد عاقل ان خلافة الله لا تنال الا من قبله ولا تثبت لاحد الا بنصبه ونصه ولا تعلم الا من قوله لا من قول الناس ، وانت خبير بان خلافة احد من البشر فيما له

__________________

(١) سورة النساء : ٥٤.

(٢) سورة البقرة : ٣٠.

(٣) سورة ص : ٢٦.

(٤) الأعراف : ١٤٢.

الولاية عليه لا تصح لأحد من الناس الا باستخلافه ونصه عليه ولا تعلم الّا من قبله ولا تصح بنصب غيره افترى ان خلافة الله تصح بدون اذنه وتثبت لأحد من الناس بنصب الخلق اياه فتقصر حرمة الخالق عن حرمة المخلوق ، واذا كان خلافة الله لا تحصل الا من قوله تعالى كما هو معلوم وجب ان يكون الامام منصوصا عليه لأنه خليفة الله.

السادس وهو مؤلف من مقدمتين الاولى انه لا يجوز لاحد من الناس ان يوجب شيئا او يحرم شيئا بهواه ورأيه من تلقاء نفسه من غير دليل من كتاب الله او سنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان من اوجب شيئا او حرمه سئل من اين اخذه فان اقام عليه شاهدا من كتاب او دليلا ثابتا من سنة قبل منه والا رد عليه وابطل قوله وادخل في جملة القائلين على الله بغير علم والمفترين على الله الكذب ، وهذه المقدمة مما صح عليها اتفاق المسلمين قولا فإنّك لا تجد احدا من الناس يقول انه يجوز الحكم في ايجاب او تحريم بدون حكم الله ولا انه يجوز مخالفة الله في حكمه وقد ورد القرآن الكريم بالنهى عن القول على الله بغير علم ولعن الكذبة المفترين وورد مثله في سنة سيد المرسلين بما لا يحصى كثرة من الآيات والروايات مثل قوله تعالى (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (١) وغير ذلك من الآيات وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما تواتر واستفاض عنه (كثرت على الكذابة فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (٢) فمن المتيقن ان الموجب والمحرم

__________________

(١) ابين القوسين ابعاض آيات من الاسراء ٣٥ والبقرة ١٦٩ والنحل ١١٦ ويونس ٥٩.

(٢) صحيح مسلم ١ / ١٨.

بغير حجة من الله كاذب على الله وعلى رسوله ومفتر عليهما الكذب فيكون مستحقا للعن ومستوجبا للبعد من رحمة الله لأن الله يقول (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (١) ويكون الحاكم بدون دليل من الشرع الشريف حاكما بخلاف ما انزل الله فيدخل في عموم قوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٢) ثم كيف يجوز لأحد من الناس الايجاب والتحريم والتحليل بدون قول الله تعالى والنبي الذي هو سيد الرسل لم يكن له ذلك بل هو مأمور بأن يحكم بحكم الله ولا يتعداه ولا يعمل بسواه قال الله تعالى خطابا له (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٣) وقال (وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤) وقال (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٥) ولم يقل له احكم بما تراه انت وما تشتهيه ، ومعنى أراك اعلمك وقال (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) (٦) وقال تعالى (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٧) وغير ذلك من الآيات في هذا المعنى واذا كان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منهيا عن الحكم برأيه مع أنه أسد البرية رأيا افترى يجوز الله الحكم بالرأي لسائر الناس؟ وإذا لم يجعل الله للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر التحليل والايجاب والتحريم ا فيجوز ان يجعل ذلك لغيره؟ فثبت من ذلك كله ان الموجب والمحرم بدون حجة من الله من كتاب او سنة متعمد للكذب على الله

__________________

(١) آل عمران : ٦١.

(٢) المائدة : ٤٤.

(٣) الأنعام : ١٠٦.

(٤) الشورى : ١٥.

(٥) لنساء : ١٠٥.

(٦) آل عمران : ١٢٨.

(٧) الحاقة : ٤٦.

ومفتر عليه ، ومتعمد الكذب على الله كافر مستحق اللعن والعذاب والطرد من رحمة الله والابعاد كما عرفت أو لا.

الثانية : ان الامام هو الرئيس الذي تجب على المسلمين طاعته وتحرم على المكلفين معصيته وتجب موالاته ومعاداة اعدائه ، والنصيحة له ولزوم جماعته وهذا امر متفق عليه لا يحتاج الى الاطالة فيه بنقل الادلة ، ويكفيك منه ما بين في المقدمة مما اوضحناه هناك فحينئذ نقول لاهل الاختيار اذا بدر جماعة من الناس قلوا او كثروا بعد موت النبي فبايعوا رجلا ونصبوه إماما فانهم لا محالة اوجبوا بذلك على المكلفين طاعته وحرموا عليهم معصيته فهل اوجبوا ما أوجبوه لذلك الرجل من الطاعة وحرموا ما حرموه له من المعصية وسموه إماما بنص من الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه بالخصوص ليكونوا قد اوجبوا وحرموا بحكم الله؟ أم بهوى انفسهم وميل شهوتهم؟ فإن كان الاول فذلك خارج عن معنى الاختيار ومطابق لقولنا ان الامامة لا تكون الا بنص من الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا اختيار على هذا ، وان كان الثاني كانوا بايجابهم ما لم يوجبه الله وتحريمهم ما لم يحرم داخلين في زمرة المفترين على الله الكذب والقائلين عليه بغير علم ، اذ قد علمت من صريح الآيات ان الله تعالى لم يفوض الى احد ان يحكم بما اراد في دينه من وجوب وتحريم عموما ولا خصوصا ، ومن ادعا ذلك فعليه البيان وإقامة البرهان واني له بذاك ، فبطل بذلك الاختيار في الامامة لاستلزامه كذب المختارين على الله ، ولو كلفهم الله باختيار الامام لاغتفر لهم القول عليه بغير علم لكنه تعالى لم يغتفر ذلك لأحد ، اللهم الا ان يقولوا ان الامام على وجه الاختيار لا تجب طاعته ، وإنما هو كالملوك الجائرين فحينئذ يخرج من معنى الامامة الشرعية ونستريح من كلفة تصحيح إمامته وابطالها ، ومن هذا يعلم انه لا تثبت الامامة الا بالنص وليس الاختيار بطريق لها.

السابع انه لا شك ان الامام يجب ان يكون مصلحا لامر الرعية مع صلاحه في نفسه في الدين والدنيا ويجب ان يكون عادلا في الاحكام الشرعية جميعها فلو تعدى حكم الله في شيء من الاحكام لكان مفسدا مبتدعا مفتريا للكذب على الله مستحقا لاسم الظلم والكفر لحكمه بخلاف حكم الله وليس مثل هذا بامام قطعا عند اهل الدين ، فنقول حينئذ لاصحاب الاختيار إذا قلتم بأنّ الامامة تثبت بالاختيار فاخبرونا عنكم تريدون إماما مصلحا أم مفسدا؟ لا سبيل لهم الى الثاني بل لا بد من ان يقولوا نريد إماما مصلحا ، فيقال لهم : فهل يجوز ان تقع خيرتكم على الافسد وانتم تظنون انه الاصلح أم تقولون ان خيرتكم لا بد ان تقع على الاصلح وتوافق خيرة الله في باطن الامر؟ فإن قالوا : بالاول قلنا : فقد بطل بهذا صحة الامامة بالاختيار لاحتمال كون المختار مفسدا وعدم القطع بكونه مصلحا فلا يكون مقطوعا بصلاحه للامامة لعدم الجزم بحصول ما هو شرط في الامام فيه وهو الصلاح ، لان المفروض هو كون الاختيار غير مقتض لصلاحه ولا موجب لإصلاحه فبطلت إمامته لبطلان شرطها ، وان قالوا بالثاني قلنا لهم فيلزم من ذلك دعواكم علم الغيب ومعرفة العواقب ويلزم ان تكونوا اسد رأيا من اعاظم الأنبياء المرسلين فانا وجدنا منهم من اختار في امور ليس لها خطر الامامة احد يظن انه صالح لما اختاره فبان انه غير صالح لذلك في باطن الغيب فلم توافق خيرته خيرة الله.

هذا موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما واصطفاه برسالاته وفرق له البحر وانزل عليه التوراة وظلله وقومه بالغمام الى غير ذلك مما اعطاه اختار من قومه وهم ألوف سبعين رجلا لميقات ربه ليكونوا شهودا له عند قومه على خطاب الله تعالى اياه وهو يظن انهم صالحون فكفروا كما حكى الله تعالى من خطابهم لنبيهم موسى بقوله عزوجل وقالوا (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ

جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) (١) فوقعت خيرته على الافسد وهو يظن انه الاصلح.

وهذا نبينا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو سيد الرسل وافضل الخلق اجمعين قد اختار أبا بكر لتبليغ آيات من سورة براءة الى اهل مكة ويقرؤها في الموسم بناء على صلاحيته لذلك في الظاهر فلم تكن خيرته مطابقة لخيرة الله في باطن الغيب فاتاه جبرائيل (عليه‌السلام) عن الله تعالى يقول «لا يبلغ عنك الا انت أو رجل منك» فأعطاها عليا (عليه‌السلام) وعزل عنها أبا بكر والقصة مشهورة كالشمس وفيها سر عجيب واشارة لطيفة ليس هنا مقام بيانها ، فإذا كان الكليم والحبيب من اولي العزم من الرسل وناهيك بهما لما اختارا من دون وحي وقعت خيرتهما على غير الأصلح لما اختاراه ولم توافق خيرتهما خيرة الله فكيف يدعي احد من الناس او يدعى له ان رأيه لا يخطئ الواقع وان خيرته من قبل نفسه ملازمة لاصابة خيرة الله حتى يكون الذي ينصبه من تلقاء نفسه وميل قلبه لله رضا وانه مختار الله؟ وأي شيء اعظم فرية على الله واشد كفرا من دعوى أنّ احدا من الناس اسدّ رأيا وأجود إصابة من الأنبياء المرسلين بحيث ان خيرته تلازم اصابة الواقع وتوافق خيرة الله دون الأنبياء من أولي العزم؟ ما اظن احدا من المسلمين عاقلا يسوغ لنفسه ذلك ، ولا يتجاسر على هذه الدعوى ، فإذن خيرة الناس لا يلزم منها إصابة الواقع فليس لهم أن يختاروا إماما لأنا بينا ان شرط صحة الاختيار علم المختار بصلاحيته من اختاره لما اختاره في باطن الأمر عند الله تعالى وقد أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢) فليس للجاهل بما هو صالح عند الله ان يختار عليه ويفرض إمامة من لم يفرض الله

__________________

(١) البقرة : ٥٥.

(٢) الدخان : ٣٢.

إمامته ، فتبين من جميع ذلك ان الاختيار في الامامة لا عبرة به ولا تأثير له ولا تعويل عليه والامام به ليس بإمام حق تجب طاعته ولا بدليل هدى يتحتم الاقتداء به ، ومن انصف عرف ذلك وتحققه ، واذا بطل كون الامامة بالاختيار وجب ان تكون بالنص او المعجز اذ لا طريق غير ذلك لها فثبت ما قلناه والله الهادي.

واعلم انه ليس لمخالفينا على ما ادعوا من صحة الامامة بالاختيار حجة من آية او رواية ، ولا عثرنا لهم في كتبهم على ذلك بمتمسك يتمسكون به ، ولا ذكروا له دليلا سوى ما حدث من بعض الصحابة حيث بايعوا أبا بكر ونصبوه إماما ولم يكن منصوصا عليه ، فلولا ان الاختيار طريق للامامة لم تكن إمامة ابي بكر صحيحة لكنها صحيحة لاجماع الصحابة عليها فيكون الاختيار مثبتا للامامة لم نجد لهم سوى هذه الشبهة الواهية وفسادها ظاهر لاهل النظر ، بل ليست مما ينبغي ان يذكرا وذلك من وجوه.

الاول انها مصادرة على المطلوب اذ لا تصح إمامة المذكور الا بعد جواز الاختيار والاختيار باطل بالأدلّة ، والباطل لا يثبت شيئا ولا يصححه ، فكان الواجب أولا ان يصححوا الاختيار بدليل حتى يثبتوا به إمامة الرجل ، وهم انما صححوا الاختيار بامامته التي لا تصح الا بالاختيار فيلزم من ذلك الدور وهو باطل.

الثاني منع الاجماع فإن المعروف من معنى الاجماع عند الخصوم كما ذكروه في كتبهم الاصولية انه عبارة من اتفاق اهل الحل والعقد ، ومعلوم ان اتفاق اهل الحل والعقد لم يحصل على إمامة ابي بكر بالرضا والاختيار ، بل كان الناس بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على ثلاث فرق ، فرقة ما لو إلى علي (عليه‌السلام) واخرى الى سعد بن عبادة ، واخرى الى ابي بكر ، وما زال الاختلاف باقيا الى يومنا هذا ولقد أجاد من قال.

وكيف صيرتم الاجماع حجّتكم

والناس ما اتفقوا يوما ولا اجتمعوا

امر علي بعيد عن مشورته

مستكره فيه والعباس ممتنع

وليس يخفي على ذي اطلاع ما وقع بين الصحابة في خلافة ابي بكر من الخصام والنزاع ، وان اكثر من بايعه ليس على وجه الرضا ، وسيأتي جملة من بيان ذلك وقد مضى شيء منه اشارة فلا اجماع ولا اتفاق ، وإن كان الاجماع اتفاق جماعة ولو كانوا اثنين او ثلاثة فذلك مخالف لما ذكروه من معنى الاجماع ، بل ليس اجماعا قطعا وجزما اذ لو كان كذلك لكان كل قول اتفق عليه ثلاثة مثلا كان اجماعا فاذن كثرت الاجماعات وتعارضت وفساد هذه الدعوى بين لا يحتاج الى البيان الذي فهم.

الثالث منع حجية الاجماع المدعى ، وذلك انا بينا فيما مر ان الاجماع لا يكون حجة الا بدخول من لا يجوز عليه الخطأ في جملة المجمعين ، ومن المتفق عليه بين المسلمين انه لا معصوم من الداعين الى بيعة ابي بكر ولا من المبايعين ، بل لم تدع العصمة لرجل من الصحابة اذ ذاك إلا لعلي (١) (عليه‌السلام) وقد صح عند كل الامة ان عليا لم يدخل في بيعة ابي بكر وابي خلافته وانكرها وما زال منكرا لها حتى اكره على البيعة وقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما (٢) ان عليا (عليه‌السلام) امتنع من بيعة ابي بكر مدة حياة فاطمة وقد عاشت بعد ابيها ستة اشهر فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي (عليه‌السلام) فضرع الى مبايعة ابي بكر ، ومن اليقين ان البيعة لو كانت حقا لما قعد عنها علي (عليه‌السلام) (وهو مع الحق والحق

__________________

(١) باعتبار قول الامامية بعصمته.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ٨٢ كتاب المغازي باب غزوة خيبر وصحيح مسلم ٥ / ١٥٤.

معه) (١).

وليس بعد الحق الا الضلال بنص الكتاب.

واما مبايعته أبا بكر بعد انصراف وجوه الناس عنه فامر اضطراري اذ لا يسعه الانفراد بنفسه ، على ان الامر خلاف هذا وانما ذكرنا الرواية حجة على الخصم ، وإذا لم يكن على الذي هو ثابت العصمة مع المجمعين فلا عبرة بالاجماع لو كان قد حصل ، والحاصل ان مبنى هذه الشبهة على الوثوق بجملة الصحابة والحكم عليهم بانهم لا يتعمدون مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهذا المبني متهدم وسيتضح لك فساده تمام الاتضاح في الفصل الثاني ان شاء الله ، وانت بعد تأمل الادلة المتقدمة وما حررناه هنا لا تشك في بطلان هذه الشبهة واندفاعها.

الرابع ان الامامة لو كانت بالاختيار لم تكن ائمتهم أئمة لان معنى اختيار المسلمين هو اختيار اهل العلم والرأي منهم في جميع بلاد الاسلام ، واقل ما يفهم من الاختيار اختيار اهل الفضل والعلم من بلد الامام بان يجتمعوا بعد موته ويتشاوروا فيما بينهم ويجيلوا الرأي حتى تتفق كلمتهم على واحد معين وتظهر لهم جلية الحال فيه ، فإذا اجتمع رأيهم عليه بعد المشاورة والنظر بايعوه لا معنى للاختيار غير هذا ولا ريب ان البيعة لواحد اذا وقعت على غير هذا الوجه لم تكن واقعة باختيار المسلمين فتقع باطلة لبطلان شرطها وهو اختيار المسلمين ، ومن يدعي للاختيار معنى غير هذا فهو مكابر جاحد أو جاهل معاند ، ومعلوم ان واحدا من ائمتهم لم تقع إمامته على هذا الوجه ، هذا ابو بكر وهو رئيس ائمتهم لم تقع بيعته الا باختيار رجلين عمر بن

__________________

(١) ستأتي مصادر هذا الحديث في جملة الأحاديث التي أوردها المؤلف في فضائل الامام علي (عليه‌السلام).

الخطاب وابي عبيدة بن الجراح لم يحضرها من المهاجرين غيرهما وحضرها المغيرة بن شعبة وهو اذ ذاك ليس من اهل الشورى عند القوم وجميع اهل الفضل من المهاجرين غير حاضرين لم يشاوروا فيها ولم يناظروا ، والانصار وهم المعتمد في نصرة الاسلام نازعوا فيها وخاصموا فاخرجهم عمر بن الخطاب من الشورى بما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (إن الأئمة من قريش) فلم يجعل لهم في الامامة اختيارا وكانوا قد اختاروا سيدهم سعد بن عبادة الخزرجي واقعدوه في سقيفة بني ساعدة ليبايعوه فابطل عمر وصاحباه امرهم بالرواية المذكورة تارة وبغيرها اخرى واخرجوهم من هذا الامر بالمرة ، وحسبك من ذلك قول عمر «كانت بيعة ابي بكر فلتة» (١) يعني بغير مشورة كما قاله تابعوه في معناها ، والا فالكلمة اعظم من ذلك كما يصرح به قوله بعد «وقي الله المسلمين شرها فمن عاد الى مثلها فاقتلوه» والكل مذكور مبين في مواضعه فاين اختيار المسلمين في هذا الامر واين مشاورتهم في هذه البيعة؟ وليس لاحد ان يدعي خلاف ذلك لانه يدخل حينئذ في حيّز العناد البحت والجهل الصرف بما وقع عليه امر بيعة الرجل فلم تكن بيعة ابي بكر واقعة باختيار المسلمين بالقطع واليقين ، وانما هي باختيار عمر وابي عبيدة خاصة ، فان قال قائل : ان اختيار الرجلين المذكورين ماض على جميع المسلمين فليس لهم بعد اختيارهما اختيار قلنا له : أولا هذا رجوع عن القول بالاختيار ومناقض له وعدول الى القول بالاختصاص ولا بد من ابطالك احد المتناقضين ، فأبطل ما شئت منهما تخصم ، ويقال له ثانيا : فيلزمك الحكم بفسق من تخلف من عظماء الصحابة عن بيعة ابي بكر ولم يعتد باختيار الرجلين ولا جعله مؤثرا شيئا حتى الزم قوم منهم بالمبايعة على غير وجه جميل

__________________

(١) روى هذه الفلتة البخاري في صحيحه ٨ / ٢١٠ كتاب المحاربين من اهل الكفر والردة باب رجم الحبلى ص ٨٦.

كعلي (عليه‌السلام) ومن معه مثل العباس وبني هاشم والزبير وسلمان والمقداد وابي ذر وعمار وبقي جماعة على الإباء والامتناع كسعد بن عبادة وتابعيه من حيث انهم لم يجعلوا اختيار عمر وابي عبيدة ماضيا عليهم ولم يرضوا بمن اختاراه ، قل ما شئت تخصم نفسك وتبطل مذهبك ان قلت : إن اختيار الرجلين غير ماض على المسلمين ابطلت تلك البيعة وطعنت في صحتها وعاقديها ، وان قلت ان اختيار الرجلين ماض على المسلمين طعنت فيمن رده وأبطله وجعل وجوده كعدمه ، فاختر ـ اعزك الله ـ من هذين الوجهين ما تريد يكن فيه ابطال مذهبك وتكذيب دعواك هذه الحال في بيعة ابي بكر.

واما خلافة عمر فانها صدرت باختيار ابي بكر خاصته ولم تكن بمشاورة غيره ، وطلب فيها طلحة الشورى واباها هو وقوم معه اشد الآباء وأزرى على ابي بكر استخلافه عمر وخوفه من الله في ذلك ، فجبهه أبو بكر وتنقصه بان قال له «عمر خير الناس وانت شرهم (١)» وتهدده وتوعده بما هو عند مخالفينا مذكور وفي كتبهم مسطور وقد مر عليك ذكره ، فاين اختيار المسلمين في هذه البيعة ،؟ بل هي اعظم من سابقتها اختصاصا ومن اين جاز لابي بكر ان يجعل لعمر الخلافة من غير مشاورة المسلمين من اهل السابقة والعلم والدين من الصحابة وهو يعلم انها لا تصح الا باختيارهم كما قلتم؟ وكيف زاد على ما فعل باجبار من ابى عن بيعة عمر مع سبقه عليه اسلاما وكونه اكثر منه جهادا على طاعته؟ وكيف استحل عمر الولاية من جهة ابي بكر خاصة مع عدم رضا جماعة من اعيان المسلمين وهو القائل لأبي بكر حين اقطع عينيه بن حصين والأقرع بن حابس (٢) ارضا بعد ما استشار من حوله من المسلمين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٦٥ و ١٩٥.

(٢) عينية بن حصن الفزاري أسلم بعد الفتح وشهد حنينا والطائف وكان من المؤلفة قلوبهم ومن الأعراب الجفاة وارتد بعد وفاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتبع طليحة الأسدي وقاتل معه وأسر وحمل الى أبي بكر فكان صبيان المدينة يقولون له يا

«اخبرني عن هذه الارض التي اقطعتها هذين الرجلين أهي لك خاصة أم بين المسلمين؟ قال : بين المسلمين ، قال : فما حملك أن تخصّ بها هذين دون جماعة المسلمين قال : استشرت الذين حولي ، فاشاروا بذلك ، فقال : أفكل المسلمين اوسعتهم مشورة ورضا» فقال «ابو بكر «فقد كنت قلت لك انك اقوى على هذا الامر مني لكنك غلبتني» وقد كان قبل ان يأتي أبا بكر ويسأله بما سمعت اخذ كتاب الاقطاع من الرجلين ثم تفل فيه فمحاه كما رواه اولياؤه من فعله ٣ فوا عجباه من عمر يرد اقطاع ابي بكر لعيينة والاقرع أرضا خربة مع رضا كثير من المسلمين بذلك لعدم رضا جميعهم ثم يتولى الخلافة بقول ابي بكر وعهده إليه مع عدم رضا جماعة من المسلمين مثل طلحة واضرابه ولم يقل لأبي بكر لا أتولى بقولك حتى توسع كل المسلمين عذرا ومشورة؟ واين هو اذ ذاك عن كلامه الاول وهو يعلم ان الخلافة باختيار المسلمين فأين الاختيار وأين المشورة في خلافته وهل هي الا فلتة كالأولى؟! ثم البيعة الثالثة لعثمان مثلها فان عمر قصر الاختيار فيها في ستة اخرج جميع المسلمين منها ومن المشورة فيها ثم اخرج منها خمسة وقصرها على رأي واحد وهو عبد الرحمن بن عوف وابطل اختيار الباقين ، وامر بقتل من خالف عبد الرحمن من الخمسة وغيرهم وبقتل الستة جميعا إن مضت ثلاثة ايام ولم يبايعوا الواحد منهم ، فأين اختيار المسلمين في ذلك؟ واين وقوع هذه

__________________

عدو الله كفرت بعد إيمانك فيقول : ما آمنت بالله طرفة عين وأسلم فاطلقه ابو بكر (رضي الله عنه) ، (أسد الغابة ٤ / ١٦٧).

وأما الأقرع بن حابس فهو من بني تميم وفد على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع أشراف قومه بعد فتح مكة وجرت بينهم وبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) محاورة لطيفة نقلها ابن الأثير اسد الغابة ١ / ١١٩ بترجمة الأقرع بن حابس المذكور وأسلم الأقرع يومئذ وكان شريفا في الجاهلية والاسلام وشهد فتح الأنبار مع خالد بن الوليد واصيب بالجوزجان وكان قد بعثه عبد الله بن عامر على جيش بعثة الى خراسان.

البيعة باختيارهم؟ وانما وقعت بخيرة عبد الرحمن خاصة وكان جماعة من خيار الصحابة كعمار بن ياسر والمقداد بن الاسود وامثال هذين وسعد بن ابي وقاص في رواية كلهم اشاروا على عبد الرحمن بمبايعة علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) وترك مبايعة عثمان فلم يلتفت الى قولهم ولم يشر بمبايعة عثمان الا رجل طليق من بني مخزوم ممن لا تجوز مشاورة مثله في تمرة من بيت مال المسلمين (١) فضلا عن الرئاسة العامة على الامة فأين اختيار اهل الفضل من الصحابة لهذه البيعة؟ وكل هذه الامور معلومة لا يستطيع احد الى انكارها سبيلا فاللازم على الخصوم اما القول ببطلان اختيار المسلمين في الامامة وانها كالملك الجبري تكون لمن غلب كما هي حالها بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واما القول ببطلان إمامة الثلاثة لعدم وقوعها باختيار المسلمين كما عرفت او الحكم بفسق كثير من الصحابة الطاعنين في تلك المبايعات والرادين لها كما مر عليك بيانه مشروحا في المقام وان كان مختصرا وكل ذلك لا يقول به الخصوم فما ادرى ما ذا يقولون؟ وبما ذا يجيبون في هذه الامامة التي يقولون انها باختيار المسلمين ثم يعقدها لواحد آخر على رغم اناف المسلمين ، فما اشد مناقضة هذا الفعل لذلك القول ، ومن هذا يعلم ان الامامة لا تصح بالاختيار ، وانها لم يلها احد باختيار المسلمين من أئمة القوم بالمرة فلا بد في صحتها وثبوتها من النص وقد تبين غاية التبيين من جميع ما ذكرناه ان كل من ادعى الامامة او ادعيت له بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما خلا عليا (عليه‌السلام) ليست إمامته صحيحة لفقدانهم الشروط الواجبة في الامام بالأدلة القاطعة والبراهين النيرة اللامعة من العصمة والقرابة والنص عليهم من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والفضل لا سيما بالمعنى الثاني من معنييه وهو الجمع للصفات الحميدة

__________________

(١) الرجل المقصود عبد الله بن سعد بن أبي سرح واشارته نقلها ابن ابي الحديد في شرح النهج ١ / ١٩٣ كما نقل إشارة سعد والآخرين كما في المتن.

لقصورهم عن كثير من الصحابة في ذلك فضلا عن ان يوازنوا فيها امير المؤمنين ، ولم يكن احد منهم إماما بالنص عليه من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باتفاق الامة واقرار الخصوم ، واذا بطلت إمامة الكل ما خلا إمامنا عليا (عليه‌السلام) تعين ان يكون هو الامام بالضرورة لعدم جواز إمامته غيره ، وعدم جواز خلو الارض من امام وذلك هو المطلوب والمراد ، ولنختم هذا الفصل بايراد حديث شريف في هذا المعنى رواه الشيخان الجليلان محمد بن يعقوب الكليني ، ومحمد بن علي بن بابويه القمي واللفظ هنا لمحمد بن يعقوب قال قدس الله نفسه وطهر رمسه ابو محمد القاسم بن العلاء رحمه‌الله رفعه عن عبد العزيز بن مسلم قال كنا مع الرضا بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا فاداروا امر الامامة وذكروا اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي (عليه‌السلام) ـ يعني الرضا ـ فاعلمته خوض الناس فيه فتبسم ثم قال : (يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن آرائهم ان الله عزوجل لم يقبض نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى اكمل له الدين وانزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والاحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا ، فقال الله عزوجل (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) وانزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢) وامر الامامة من تمام الدين ولم يمض (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى بين لامته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد سبيل الحق واقام لهم عليا (عليه‌السلام) علما وإماما وما ترك شيئا تحتاج إليه الامة الا بينه فمن زعم ان الله عزوجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر ، هل يعرفون قدر الامامة ومحلها من الامة فيجوز فيها

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) المائدة : ٣.

اختيارهم ، إن الامامة اجل قدرا واعظم شأنا وأعلا مكانا وامنع جانبا وابعد غورا من ان يبلغها الناس بعقولهم او ينالوها بآرائهم او يقيموا إماما باختيارهم ، ان الامامة خص الله عزوجل بها ابراهيم الخليل بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها واشار بها ذكره فقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فقال الخليل (عليه‌السلام) سرورا بها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال الله تبارك وتعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) فابطلت هذه الآية إمامة كل ظالم الى يوم القيامة وصارت في الصفوة ، ثم اكرمه الله تعالى بان جعلها في ذرية اهل الصفوة والطهارة فقال : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٢) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها الله عزوجل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال جل وتعالى (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٣) فكانت له خاصة فقلدها (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) بأمر الله عزوجل على رسم ما فرض الله فصارت في ذريته الاصفياء الذين اتاهم الله العلم والايمان بقوله جل وعلا (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) (٤) فهي في ولد علي (عليه‌السلام) خاصة الى يوم القيامة اذ لا نبي بعد محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فمن أين يختار هؤلاء؟!.

ان الامامة هي منزلة الأنبياء ووراثة الأوصياء.

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) الأنبياء : ٧٣.

(٣) آل عمران : ٦٨.

(٤) الروم : ٥٦.

إن الامامة خلافة الله وخلافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومقام امير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (عليهما‌السلام)

إن الامامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.

إن الامامة اس الاسلام النامي وفرعه السامي ، بالامام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وامضاء الحدود والاحكام ومنع الثغور والاطراف.

الامام يحل حلال الله ويحرم حرام الله ، ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.

الامام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الافق بحيث لا تنالها الايدي والابصار.

الامام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى واجواز البلدان والقفار ولجج البحار.

الامام الماء العذب على الظمأ والدال على الهدى والمنجي من الردى.

الامام النار على اليفاع الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك من فارقه فهالك.

الامام السحاب الماطر والغيث الهاطل والشمس المضيئة والسماء الظليلة والأرض البسيطة والعين الغزيرة والغدير والروضة.

الإمام الانيس الرفيق والوالد الشفيق والاخ الشقيق والام البرة بالولد الصغير ومفزع العباد في الداهية النئاد.

الامام أمين الله على خلقه وحجته على عباده وخليفته في بلاده والداعي الى الله والذاب عن حرم الله.

الامام المطهّر من الذنوب والمبرأ من العيوب المخصوص بالعلم الموسوم بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين.

الامام واحد دهره لا يدانيه احد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب ، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الامام او يمكنه اختياره ، هيهات هيهات ضلت العقول وتاهت الحلوم وحارت الالباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الالباء وكلت الشعراء وعجزت الادباء وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنه وفضيلة من فضائله واقرت بالعجز والتقصير ، وكيف يوصف بكله او ينعت بكنهه ، او يفهم شيء من امره أو يوجد من يقوم مقامه ويغني غناه لا كيف واني وهو بحيث النجم من يد المتناولين ووصف الواصفين؟ فأين الاختيار من هذا وأين العقول عن هذا وأين يوجد مثل هذا؟ يظنون ان ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذبتهم والله انفسهم ومنتهم الاباطيل فارتقوا مرتقا صعبا دحضا تزل عنه الى الحضيض اقدامهم راموا إقامة الامام بعقول حائرة بائرة ناقصة وآراء مضلة فلم يزدادوا منه الا بعدا قاتلهم الله اني يؤفكون ولقد راموا صعبا وقالوا افكا وضلوا ضلالا بعيدا ووقعوا في الحيرة اذ تركوا الامام عن بصيرة وزين لهم الشيطان اعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين رغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى اختيارهم والقرآن يناديهم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) وقال عزوجل (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ

__________________

(١) القصص : ٦٨.

وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (١) الآية وقال (ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٢) وقال عزوجل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أم (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أم (قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أم (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) بل هو (فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) فكيف لهم باختيار الإمام والامام عالم لا يجهل وراع لا ينكل معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة مخصوص بدعوة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونسل المطهرة البتول لا مغمز فيه في نسب ولا يدانيه ذو حسب في البيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والرضا من الله عزوجل ، شرف الاشراف والفرع من عبد مناف نامي العلم كامل الحلم مضطلع بالامامة عالم بالسياسة مفروض الطاعة قائم بامر الله عزوجل ناصح لعباد الله حافظ لدين الله إن الأنبياء والأئمة يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم فيكون علمهم فوق علم اهل زمانهم في قوله جل وتعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣) وقوله تبارك وتعالى (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) (٤) وقوله في طالوت (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ

__________________

(١) الأحزاب : ٣٦.

(٢) القلم : ٤٠.

(٣) يونس : ٣٥.

(٤) البقرة : ٢٦٩.

وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (١) وقال لنبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (٢) وقال في الأئمة من اهل بيت نبيه وعترته وذريته (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٣) وان العبد اذا اختاره الله عزوجل لامور عباده شرح صدره لذلك واودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم الهاما فلم يعي بعده بجواب ولا يحير فيه عن الصواب فهو معصوم مؤيد موفق مسدد قد آمن من الخطأ والزلل والعثار ، يخصه الله بذلك ليكون حجته على عباده وشاهده على خلقه و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٤) فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه ، او يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه تعدوا ـ وبيت الله ـ الحق ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون ، وفي كتاب الله الهدى والشفاء فنبذوه واتبعوا اهواءهم فذمهم الله ومقتهم وانفسهم فقال جل وتعالى (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥) قال (فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٦) وقال (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (٧) وصلى الله على النبي محمد وآله وسلم تسليما كثيرا تمام

__________________

(١) البقرة : ٢٤٧.

(٢) النساء : ١١٣.

(٣) النساء : ٥٤.

(٤) الجمعة : ٤.

(٥) القصص : ٥٠.

(٦) محمد : ٨.

(٧) غافر : ٣٥.

الخبر (١). وهو كما ترى قد اشتمل على المطالب الجليلة وصرح بالفوائد الجزيلة نسأل الله التوفيق لفهم معانيه والعمل على ما فيه انه خير مسئول واكرم مأمول.

__________________

(١) الكافي ١ / ١٥٤ إكمال الدين ص ٦٣٢.

الفصل الثاني

في ذكر النصوص على امير المؤمنين والأئمة (عليهم‌السلام)

وهو يشتمل على مسائل :

المسألة الأولى : في ايراد النصوص على سيدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن ابي طالب (عليه‌السلام) بالامامة ، واعلم ان لأصحابنا في اثبات الإمامة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فضل ثلاثة طرق.

الأوّل : ابطال إمامة غيره ممن ادعيت له الامامة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لتثبت له الامامة بالضرورة.

الثاني : النصوص الواردة في إمامته من الكتاب والسنة النبوية.

الثالث : ظهور المعجز على يده مع دعواه الإمامة.

أمّا الطريق الأول فقد بيناه في آخر الفصل الأول بما يكفي في البيان لأولي الأذهان وسيأتي في مطاوى هذا الفصل له مزيد تبيان إن شاء الله.

وأما الطريق الثاني : فنقول إن الامامية وجملة من فرق الشيعة متفقون على أن المنصوص عليه من الله ومن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالامامة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) فيكون هو الامام بعده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إذ لا نص على غيره باتفاق الأمة ، وزعم ابن ابي الحديد وشيوخه المعتزلة كالأشاعرة انه لا

نص على علي (عليه‌السلام) بالامامة صريحا يقطع العذر ويقيم الحجة وإنما كان هناك تلويح لا تصريح وتعريض لا توضيح لا تثبت به الحجة القاطعة للمنازعة وانما طلبها بالأفضلية والقرابة من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والأشاعرة قالوا بعدم النص على علي (عليه‌السلام) وانّ أبا بكر احق منه بالخلافة لأنه افضل ، وغير ذلك. مما تصدى قوم من اصحابنا لإبطاله وابطلوه ، وستسمع في كلامنا إفساده بحول الله وقوته ، فلنجعل أصل المناظرة هنا مع ابن ابي الحديد ونقتصر من النصوص على جملة مما رواه هو وصححه ، او ما روى في الكتب الصحيحة بزعمه وقبل ذكر النصوص لا بد من بيان معنى النص في هذا المقام فنقول : المراد بالنص في هذا الموضع الأمر الدّال على الامامة بالصريح من فعل وقول ، فالفعل مثل تأهيل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجلا لامرة لا يصلح ذلك الفعل إلا له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، مثل أن يعلم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه لا يبلغ عنه الأمر الفلاني مثلا إلا من كان صالحا لأن يقوم مقامه فيبعث رجلا للتبليغ عنه فانه يعلم بهذا الفعل أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أهّله لمقامه من بعده ورشحه لخلافته ويكون المخالف له رادا للنص وطاعنا فيه ، والقول ما افاد معنى الامامة اما بلفظها أو ما يقاربه في المعنى كلفظ الأمرة والأمارة وما شاكلهما ، أو بلفظ الوصي والخليفة والوزير وشبهه ، أو بلفظ الطاعة مثل أن يقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلان امام بعدي أو اميركم وشبههما ، أو هو وصيي وخليفتي أو طاعته طاعتي ، أو هو وزيري ، أو ان يقول هو مثلي أو تمسكوا به من بعدي ، أو هو وليكم ، او منزلته مني منزله فلان من فلان ويشير الى خليفة نبي فهذه الألفاظ كلها دالة على الامامة فهي نصوص صريحة فيها من غير ضم شيء إليها داخلي أو خارجي ، ومثلها فلان وارثي فلان أحق بمقامي اولى بي فلان المختار بعدي فلان سيد أمتي ، وقد يفيدها ألفاظ أخر كقول النبي (صلى الله

عليه وآله وسلم) فلان احبكم الى الله فلان أعلمكم فلان أقربكم إليّ فلان أشدكم جهادا أو اكثركم فلان لا يزال على الحق فلان خير امتي ، فهذه الألفاظ تدل على الامامة بضم اشتراط العصمة والأفضلية والأعلمية والأقربية الى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامام ولا يعرف في النص على الامامة أوضح من هذه المذكورات ، ومن طلب لذلك لفظا أوضح منها أو مثلها في هذا الباب لم يجده ، ومن شك فقد نازع مقتضى عقله وأخرج اللفظ عن معناه وصرفه في غير مؤداه ، وهذا لا يعجز عنه أحد من العارفين بفنون الكلام حتى في كلمتي الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) لكنه بدون قرينة صارفة عن الحقيقة عين العناد ومنه يجيء الباطل والفساد ، والمعاند لا يلتفت إليه ، وكيف يستفاد نص ابي بكر على عمر بالخلافة من قوله اني عهدت الى عمر بن الخطاب ويعرف منه استخلافه ولا يعرف من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لرجل مخصوص هو وصيّي النص عليه بالاستخلاف وكلا اللفظين بمعنى واحد؟ فان عهدت الى فلان بمعنى أوصيت إليه كما نص عليه أهل اللغة فما ظنك بغيره من الألفاظ التي ذكرت مما هو أصرح منه وهل يجوز لعاقل أن يقول انا أفهم من قول ابي بكر اني عهدت الى عمر أنه استخلفه ولا افهم من قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (عليّ وصيي) انه استخلفه؟ فكيف بقوله : (علي إمامكم بعدي علي خليفتي على أمتي) (١) الى غير ذلك من الألفاظ الصريحة؟ وهل يرتاب عاقل في افادتها النص بالخلافة وهو قد قطع بنص أبي بكر على عمر باللفظ المذكور الا أن يسلك مسلك العناد الذي لا دواء له ، نعوذ بالله من طاعة الهوى ،

__________________

(١) الظاهر أن ما بين القوسين من حديثين ففي عدة من الأصول كمسند الامام احمد ٥ / ٣٤٠ : (وهو وليكم بعدي) وفي حديث بدأ الدعوى كما في تاريخ الطبري ٢ / ٣٢١ بتحقيق الأستاذ محمد ابو الفضل ابراهيم : (ان هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم).

فاذا تقرر ذلك وانتقش معناه في صحيفة قلبك فاعلم انه قد ورد عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النصّ على امير المؤمنين بالامامة بالفعل والقول بتلك الألفاظ وما أدّى معناها وغيرها مما يدركه المتتبع لكتب الأخبار وكتب الاستدلال في الامامة ، فالفعل الصريح في النص.

منه : أخذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سورة براءة من أبي بكر وعزله عنها بعد أن بعثة بها ليقرأها في الموسم وينفذ حكمها نيابة عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبعثه عليّا (عليه‌السلام) بها لذلك مع قوله لأبي بكر لما سأله انزل في شيء قال : (لا ، لكن لا يبلغ الا أنا أو رجل مني) (١) والقضية معلومة لا شك فيها عند الأمة وهي كما كانت دالة على إمامة علي (عليه‌السلام) لأنه المبلغ عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الأمة كذلك هي دالة على نفي صلاحية غيره للامامة لأنها ناصة على انه لا يصلح ان يبلغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعض آيات من سورة

__________________

(١) اجمال القصة براءة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعث أبا بكر (رضي الله عنه) ببراءة وأمره ان ينادي في الموسم ان لا يحجّ بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد فهو الى مدته ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر والله بريء من المشركين ورسوله ، وكتب له بهذه الولاية كتابا فبينما أبو بكر (رضي الله عنه) ببعض الطريق إذ سمع رغاء ناقة رسول الله القصوى فخرج أبو بكر فزعا ـ كما في رواية الترمذي ـ فظن انه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فإذا هو علي (عليه‌السلام) فبلغه أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعثه ليأخذ منه براءة ويقوم هو بتبليغها ، فوجد أبو بكر في نفسه فلما رجع الى المدينة بكى وقال : يا رسول الله ـ بأبي انت وامي ـ نزل فيّ شيء؟ قال : «لا ، ولكن جبرائيل جاءني فقال : (لا يؤدي عنك الا انت أو رجل منك) كذا في رواية الامام احمد ، وانظر تفسير الطبري ١٠ / ٤٦ و ٤٧ ومستدرك الحاكم ٣ / ٥١ وسنن الترمذي ٢ / ١٨٣ ومسند أحمد ١ / ٣ و ١٥١ و ٣٣٠ وتفسير ابن كثير ٢ / ٣٣٣.

براءة الى أهل مكة ولم يرتضه الله لذلك ولم يجعله له أهلا ، فكيف يرتضيه الله للرئاسة العامة وهي التبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للأمة جميع احكام شريعته في الدماء والأموال والفروج وانفاذها فيهم؟ لأن الامام هو المبلغ عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احكام الشريعة الى امته والقائم بتنفيذها فيهم لا معنى للامامة غير هذا يقينا ، ومن لم يرتضه الله لتبليغ بعض الأحكام القليلة لاناس من الأمة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فبالأولى أن الله لا يرتضيه لتلك الرئاسة العامة والمنزلة الجليلة ، ولما كان علي (عليه‌السلام) هو المرتضى للتبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من دون تخصيص وان حاله في ذلك كحال الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو القائم مقامه في التبليغ الى الأمة ، كان هو الامام المرتضى لتلك الرئاسة الكبرى والأمر في ذلك واضح لا يخفى على ذي حجي فكيف على خصومنا وهم من الفضلاء لو لا ما وقع على افهامهم من ظلمات الشبهات فحالت بينها وبين ابصار الأمور الظاهرة والحق الواضح.

ثم أن قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (او رجل مني) اما انه يريد انه منه في قرابة النسب فيكون ذلك حجة لنا على ما نقول من أن الامام يجب ان يكون من ذوي قربى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن لم يكن من ذوي قرابته لا يصلح لخلافته أو أنه بالاتباع كقوله تعالى حكاية عن ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) (١) وقد قال الله سبحانه وتعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) ومحبة الله سبحانه وتعالى لعلي (عليه الصلاة والسلام) ومحبته لله تعالى ثابتة بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوم خيبر : (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)

__________________

(١) ابراهيم : ٣٦.

(٢) آل عمران : ٣١.

وقرابته لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثابتة بالنسب واتباعه له مما لا يختلف فيه اثنان ولذا كان المخصوص بتبعية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبمحبة الله تعالى فهو الامام المرتضى بنص الله ، القاطع ونص رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المثبت للحجة والمزيل للأعذار الواهية ، فانه على كلا التقديرين في معنى «منّى» يوجب خروج غيره عن صلاحيته للامامة كما سمعت ، فأي نص يريد ابن ابي الحديد على إمامة علي (عليه‌السلام) اصرح من هذا النص الصريح. ولعمري ان هذه القصة المتفق عليها (١) كافية في النص على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ونفي إمامة غيره عند اولى الألباب ، ولا يحتاجون في ذلك الى غيرها وان كان موجودا قد طبق الآفاق والاعتذار في هذا بأن عادة العرب اذا عقدوا بينهم عقدا وعهدا لا يقوم بتبليغه الى المعاهدين الا العاقد او من هو قريب منه في النسب كالأخ وابن العم فجرى الأمر في براءة على قاعدة العرب فلم يكن فيه دلالة على اثبات مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي مطلقا ونفي ابي بكر عن صلاحيته له مطلقا كما قاله المعتزلة والاشاعرة اعتذار واهن وتعلق بما لا ينفع كتعلق الغريق بالحشيش ودفع للنص بالشبهات الركيكة ، لأنا نقول لهم : أولا انكم علمتم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يعمل في امر الدين والدنيا وتقديم احد أو

__________________

(١) وذلك أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما بعث أبا بكر بآيات من اوّل سورة براءة ليتلوها نيابة عنه في الموسم فنزل جبرائيل بعد أن سار أبو بكر وأمره ان يرسل عليا ليأخذ الكتاب من أبي بكر وأخبره انه لن يؤدي عنك الا انت أو رجل من اهل بيتك فأخذ علي (عليه‌السلام) الكتاب منه وحج بالناس وأذن وبلغ روى ذلك ائمة التفسير وعلماء الحديث وارسلوه ارسال المسلمات كالطبري في تفسيره ١٠ / ٤٦ وابن كثير في تفسيره ٢ / ٣٣٣ والآلوسي في تفسيره ٣ / ٢٦٨ والترمذي ٢ / ١٣٥ والنسائي في الخصائص ص ٢٠ كما رواه في السنن أيضا ٥ / ٢٣٤ والدارمي في السنن ٢ / ٦٧ والطبري في تاريخه ٤ / ١٧٢٠ ليدن حوادث سنة ٩ وابن هشام في السيرة ٤ / ١٣٠. الخ.

تأخيره بعادات العرب أهل الجاهلية ولا يعتمد عليها ولم يأمره الله بذلك بل نهاه في كثير من الآيات عن ذلك مثل قوله تعالى (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) (١) وقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٢) وغير ذلك ، وانما اعتماده في كل الأشياء على قواعد دين الله دون قواعد الجاهلية وعاداتها كيف لا والله تعالى يقول في حقه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣) فابطلت هذه الآية وما قبلها ما ادعاه الخصوم من كون عزله عن براءة وبعث علي (عليه‌السلام) بها جاريا على عادات العرب واثبتت أنه لبيان استحقاق مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعدم استحقاقه على أبين وجه ، وأيضا لو كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ذلك مراعيا لعادات العرب لبعث ببراءة من اوّل الأمر رجلا من اقاربه كعلي (عليه‌السلام) أو عمه العباس أو عقيل أو غيرهم من بني هاشم فانهم كانوا معه في المدينة ، وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عالم بعادات العرب ولم يبعث أبا بكر بها ثم كيف يعقل ان الله يأمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بان يجري على عادات اهل الجاهلية وهو قد بعثه لازالتها وإماتتها بدين حنيفي وملة اسلامية لا يقبل الله سواها ، وقد قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (إن الله أذهب بالاسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بانسابها) (٤) وهو معلوم من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا ريبة فيه وقال الله جل وعلا مخاطبا له (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (٥) ولم يقل اتبع عادات العرب وبعد فاي نبي بعثه

__________________

(١) الكهف : ٢٨.

(٢) الجاثية : ١٨.

(٣) النجم : ٣.

(٤) في شرح نهج البلاغة ١٧ / ٢٨١ عن المغازي للواقدي (إن الله أذهب نخوة الجاهلية وتكبرها بآبائها كلكم لآدم وآدم من تراب وأكرمكم عند الله أتقاكم) والكلمة من خطبة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما فتح مكة.

(٥) الأنعام : ١٠٦.

الله باتباع عادات الكفرة واهل الجاهلية حتى يكون سيد الرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذلك فنسبه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى العمل بعادات اهل الجاهلية ، ونسبة الله الى امره نبيه بذلك نسبة قبيحة مخالفة للعقل والنقل من الكتاب والسنة توجب الخروج من الدين والبعد من الملة الاسلامية لا يجوز لمسلم ان يدعيها ولا يجترئ مؤمن على اعتقادها لمخالفتها الكتاب والسنة وضرورة العقل لكن ذلك ليس بكثير على الخصوم ، وحيث بطل ما ادعوا صح ان القصة دالة على ما ذكرناه من بيان مستحق مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن لا يستحق دون ما ذكروه لبطلانه بالأدلة القطعية ونقول لهم ثانيا اذا كان بعث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) ببراءة وعزله أبا بكر عنها كان جاريا على عادة العرب لأن عادتهم جرت بان ابلاغ العهود لا يكون الا للعاقد او احد من أقاربه كما قلتم وجب ان تجري الامامة ذلك المجرى فان العرب قد جرت عادتهم واستقرت بان مقام الرجل الشريف من بعد موته يكون لاقرب الناس إليه لا سيما من يقوم مقامه في حياته من ذوي قرابته ، ولم تجر عادتهم باعطاء مقامه الأباعد فوجب أن يكون الامام بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) دون غيره على عادة العرب لأنه اقامه مقامه في حياته وهو أقرب الناس إليه ويجب لذلك ان يكون تخصيص الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا بتبليغ براءة نصا منهما على ان عليّا (عليه‌السلام) هو القائم مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته دون باقي اقاربه لاقامته اياه مقامه في حياته فلا ينازعه احدا من اقارب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأما ابو بكر فانه خارج بعادة العرب عن خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على كل حال فما خرجت القصة على دعواكم عن كونها نصّا على استخلاف امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فصل ،

وعدم صلاحيته لذلك المنصب وليس في ذلك خفاء ، ودعوى القوشجي في شرح التجريد ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يدفع براءة الى أبي بكر ثم عزله عنها بعلي (عليه‌السلام) وانما بعثه اميرا على الموسم وأردفه بعلي (عليه‌السلام) ليقرأ براءة ، مخالف لما شاع وذاع وتواتر في القصة بين المفسرين واهل السيرة واستفاض في روايات محدثيهم ، ولسنا نشك انه كلام مختلق موضوع ويدل على ذلك مضافا الى شهرة القصة ما سيأتي من احتجاج عبد الله بن عباس على عمر بن الخطاب في تفضيل علي (عليه‌السلام) على أبي بكر بعزله عن براءة بعلي (عليه‌السلام) فلم ينكره عمر ولا ادعا خلافه ، على ان ذلك لا يدفع حجتنا لأنا نقول على هذه الدعوى أن غيره لا يصلح للتبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) في شيء من الأحكام ولو صلح لذلك لأعطاه براءة وامره بتبليغها واذا لم يصلح لأن يبلغ عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته بعض الأحكام الى قوم خاصين من الأمة لم يصلح بالضرورة للقيام مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته في تبليغ جميع الأحكام لكل الأمة فلا فرق في ذلك بين عدم تأميره عليها من اوّل الأمر وبين عدم اقراره عليها بعد التأمير لافادة الأمرين معنى واحدا كما عرفت ، وما توهمه القوشجي من الفرق بين الحالين تجاهل وتغافل.

واما ابن ابي الحديد فعنده كغيره منهم إن عزل أبي بكر عن براءة ثابت كالشمس المنيرة صرح به في كتبه واشعاره (١) وعلى كل حال يكون اعطاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) براءة ان كان من اوّل الأمر وان كان بعد عزل ابي بكر عنها إعلاما للناس وإفهاما لهم انه لا

__________________

(١) أما في كتبه فانظر شرح نهج البلاغة ٨ / ٢٠٠ وأما في اشعاره فقوله في احدى علوياته.

ولا كان معزولا غداة براءة

ولا عن صلاة أم فيها فاخرا

يصلح للتبليغ عنه أحكام الشريعة وعهود المعاهدين غيره فهو القائم مقامه في حياته فيجب أن يكون خليفته بعده والمؤدي عنه لأمته وهو المطلوب ، وهذا بحمد الله واضح لكن المتجاهل عن الحق والمقلد لاسلافه لا حيلة فيه.

ومن الفعل : الصريح الناص على إمامة امير المؤمنين وانه لا يجوز ان يتقدم عليه في الامامة احد بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر الأمراء من اصحابه على غير علي (عليه‌السلام) ولم يؤمر عليه احدا فما خرج امير المؤمنين (عليه‌السلام) في جيش ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليس في ذلك الجيش الا وعلي (عليه‌السلام) هو الأمير على الجيش ، ولا بعثه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى بلد الا وهو أمير على من بها من الصحابة وغيرهم ، ولا خلفه في المدينة الا وهو خليفته فيها ، وهذا امر معلوم لا يشك فيه عاقل ، وقد روى ابن ابي الحديد عن الواقدي قال سئل الحسن ـ يعني البصري ـ عن علي (عليه‌السلام) وكان يظن به الانحراف عنه ولم يكن كما يظن فقال : «ما اقول فيمن جمع الخصال الأربع ، ائتمانه على براءة ، وما قال له في غزاة تبوك فلو كان غير النبوة شيء لاستثناه ، وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الثقلان كتاب الله وعترتي ، وانه لم يؤمر عليه امير قط وامرت الأمراء على غيره» (١) انتهى ومن هذا يعلم أن دعوى القوشجي تأمير أبي بكر على علي (عليه‌السلام) يوم بعثه ببراءة باطلة كسائر دعاويه المزخرفة الفاسدة التي لا تحتاج في بطلانها الى إكثار القول ونقل الحجج ، ويعلم منه أيضا بطلان دعوى ابن ابي الحديد أنه لم يرو عزل ابي بكر عن إمارة الموسم الا الشيعة ، فان روايته المذكورة عن الواقدي عن الحسن مصرحة بأن عليّا (عليه‌السلام) لم يؤمر عليه احد قط فلو كان ابو بكر امير الموسم وعلي فيه لكان ابو بكر اميرا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٤ / ٩٦.

عليه وحصل التناقض في القول ، وابن ابي الحديد مصدق لقول الحسن غير طاعن فيه ، فاثباته لرواية محدثيهم زعم إمارة ابي بكر على الموسم وطعنه في رواية عزله عنه ونسبتها الى الشيعة خاصة مناقضة في قوليه اما لجهل أو تجاهل ، وعلى هذا فتكون رواية الشيعة أرجح لأن مثل الحسن والواقدي وامثالهما من العامة قد وافقهم ، والثانية باطلة مردودة لاختصاص جماعة منهم بها ، وصح من كل ذلك ان عليا (عليه‌السلام) لم يؤمر عليه احد من الصحابة في حال من الأحوال ، وتقرير النص من هذا الفعل : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث لم يؤمر على علي (عليه‌السلام) أحدا دل ذلك من فعله انه لا يجوز أن يتأمر على علي (عليه‌السلام) أحد من الصحابة وان يجوز له التأمر عليهم ، واذا لم يصح ان يتأمر عليه احد من الأمة في زمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يصح ذلك لأحد بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا فرق بين الحالين ، واذا لم يجز لأحد التأمر على علي (عليه‌السلام) في حال من الأحوال وجب ان يكون هو امير الأمة بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو الامام لا محالة بعده ولا يجوز لأحد التقدم عليه اذ ليس الا امير مطاع أو مأمور مطيع كما رووه عنه وما سواهما خارج من الملة ، ولما كان غيره كأبي بكر وعمر وعثمان وابي عبيدة واضرابهم ، ممن أمر عليهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غيرهم كان ذلك دالا على جواز تقدم الغير عليهم فلا يكونون ائمة ، وهذا الفعل كسابقة نص على إمامة علي (عليه‌السلام) كما هو نص على صلاحية غيره للامامة لدلالته على عدم جواز تقدم الغير عليه ففيه وفي سابقة الكفاية في النص لابن ابي الحديد لو كان ينصف ، اللهم الا ان يريد منا نصّا مثل النص الذي أراده اهل مكة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في قولهم : (أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) (١) فيقول لنا جيئونا بالنبي (صلى

__________________

(١) الاسراء : ٩٢.

الله عليه وآله وسلم) لنشاهده ويقول لنا أنا فعلت ذلك لأعلم الناس ان عليا (عليه‌السلام) هو الامام بعدي والقائم مقامي وان الامامة لا تجوز لغيره واني بذلك الفعل قد نصصت عليه فحينئذ نقر بالعجز عن هذا ونقول انما علينا ان نأتيكم من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بدليل وشاهد ونقيم عليكم حجة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويكون جوابنا هنا لهم شبيها بجواب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأولئك المقترحين عليه وهو قوله تعالى : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١) وليت شعري كيف يفهم عويم بن ساعدة الأنصاري الأوسي استخلاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي بكر من امره له بالصلاة كما ذكره عنه ابن ابي الحديد (٢) وغيره ويفهم عمر رضا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأبي بكر لديهم وتقديمه عليهم من ذلك كما هو مشهور من قوله ولا يفهم من ذينك الفعلين الواضحين إرادة الله ورسوله استخلاف علي (عليه‌السلام) وتقديمه ، ما هذا إلا تحير في المعلومات وشك في الواضحات وذلك من اعظم الغفلات نسأل الله العصمة عن طاعة الهوى ، على أن الصلاة لا يشترط عندهم في امامها العدالة فضلا عن الأفضلية فلو صح ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امره بالصلاة ولم يفد على قولهم عدالته فكيف يفيد أفضليته وخلافته ، وأنى ودون صحته خرط القتاد وكيف يصح وامير المؤمنين ينكره ويقول ان الأمر صدر من عائشة كما رواه ابن ابي الحديد (٣) وقد صح عنده (ان عليّا مع الحق والحق معه) (٤) فما ينكره علي لا يكون الا

__________________

(١) الاسراء : ٩٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٩.

(٣) المصدر السابق : ٦ / ٣٩.

(٤) نفس المصدر ١٩ / ٨٨ و ١٦ / ٧٧ قال ابن ابي الحديد : «ثبت عندي أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ان مع الحق وان الحق يدور معه حيثما دار).

حقا فأمر ابي بكر بالصلاة غير صادر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قطعا بخلاف الأمرين المذكورين الثابتين من فعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعلي (عليه‌السلام) لأنهما لا يحتملان إلا إرادة التقديم على الغير والاستخلاف كما بيناه ودفعنا به تعليلات القوم العليلة.

وأما القول : فالوارد منه بلفظ الامامة جملة من الأخبار عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (على امام البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله) رواه الحاكم بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري (١) وهو ممن لا يقدح الخصوم في روايته لأنه من اكابر محدثيهم.

ومنه ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي نعيم الحافظ الاصفهاني في حلية الأولياء عن انس بن مالك في حديث قال فيه له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (اوّل من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين وسيد المسلمين ويعسوب الدين وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين) قال انس فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار وكتمت دعوتي فجاء علي (عليه‌السلام) فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من جاء يا انس)؟ فقلت علي (عليه‌السلام) فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه فقال علي (عليه‌السلام) يا رسول الله لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته قبل قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (وما يمنعني وانت تؤدي عني وتسمعهم صوتي وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي) (٢) وهذا الحديث دال على ان المؤدي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المبين للأمة ما اختلفوا فيه

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٢٩.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩ وحلية الأولياء ١ / ٦٣.

من بعده هو صاحب الاوصاف المتقدمة في صدر الحديث من كونه امام المتقين الى آخرها وهو المستحق لها دون من سواه ممن لا يصلح للأداء عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تسع آيات من سورة براءة.

ومنه : ما رواه عنه في الكتاب المذكور عن ابي بردة الأسلمي ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ان الله عهد الي في علي عهدا فقلت : يا رب بينه لي قال : اسمع ان عليّا راية الهدى وامام اوليائي ونور من اطاعني وهو الكلمة التي الزمتها المتقين من احبه فقد أحبني ومن اطاعه فقد اطاعني فبشره بذلك فقلت بشرته يا رب فقال : أنا عبد الله وفي قبضته فان يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا ان يتم لي ما وعدني فهو أولى وقد دعوت له فقلت : اللهم اجل قلبه واجعل ربيعه الايمان بك قال : قد فعلت ذلك غير اني مختصّة بشيء من البلاء لم اختص به احدا من أوليائي فقلت رب أخي وصاحبي قال : انه سبق في علمي انه لمبتل ومبتلى به) (١).

وباسناد آخر بلفظ آخر في الكتاب المذكور عن انس بن مالك عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (إن رب العالمين عهد الي في علي عهدا انه راية الهدى ومنار الايمان وامام أوليائي ونور جميع من اطاعني ان عليا أميني غدا يوم القيامة فصاحب رايتي ، بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربي).

وفي الكتاب المذكور قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (مرحبا بسيد المؤمنين وامام المتقين) فقيل لعلي (عليه‌السلام) كيف شكرك؟ فقال احمد الله على ما أتاني وأسأله الشكر على ما اولاني وان يزيدني مما

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٧ وحلية الأولياء ١ / ٦٦.

اعطاني) (١).

وقال ابن ابي الحديد : روى ابن ديزيل ، قال : حدثنا زكريا بن يحيى قال : حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن ارقم قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (الا ادلكم على ما ان تسالمتم عليه لم تهلكوا ان وليكم الله وإمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه وصدقوه فان جبرائيل اخبرني بذلك) فهذه الأحاديث الصحيحة عند الخصم كلها ناصة على علي (عليه‌السلام) بالامامة ومصرحة بأنه امام البررة وامام المتقين وامام الأولياء وامام الصحابة كما هو نص حديث زيد بن أرقم وصريحها ان من كان من المتقين البررة واولياء الله واصحاب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فامامه علي (عليه‌السلام) ومن لم يكن امامه عليا (عليه‌السلام) فليس من المتقين البررة ولا من الأولياء ولا من الصحابة بل هو خارج عن هذه المراتب الشريفة وداخل في اضدادها فكيف تجوز لهم الامامة وقد جعلهم الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مأمومين فأيّ نص أوضح من هذه النصوص على ما ندعيه من إمامة امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) من بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأي صريح أصرح منها في ذلك؟ ويعجبني من ابن ابي الحديد قوله بعد نقله حديث زيد بن ارقم : «فان قلت : هذا نص صريح في الامامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك؟ قلت : يجوز أن يريد به انه امامهم في الفتاوى والأحكام الشرعية لا في الخلافة» (٢) انتهى وهذا الجواب مع انه حرف اللفظ عن معناه وعدول به عن نصه من غير سبب داع الى ذلك كما هي عادة هؤلاء القوم فيكون فاسدا لا يدفع ما نقوله ولا يرد ما ندعيه لأن دعوانا انما هو وجود النص من الله ومن

__________________

(١) أيضا ٣ / ٩٨.

(٢) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٩٨.

الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بالامامة الذي كان ابن ابي الحديد واصحابه ينكره وكذلك اخوانهم من الأشاعرة ومضاهوهم ينكرون وها هو موجود كما ندعي فثبت مدعانا وبطل انكارهم ، ولسنا ندعي عليه وعلى اصحابه وأمثالهم انهم يقفون على النص ولا يتعدونه ولا يخرجونه عن معناه بآرائهم ولسنا ننكر منه تحريفهم الكلم عن مواضعه ، بل نقر لهم بان المعروف من سيرتهم والمعلوم من طريقتهم لكنه عين العصبية والعناد المنهى عنه في الدين.

ثم يقال لابن ابي الحديد : جميع اهل العلم لا يعرفون من معنى الامام الشرعي الا الرئيس العام على الأمة في انفاذ الأحكام الشرعية ، ولا يعرف الصحابة من لفظ الامام اذا اطلق الا هذا المعنى كما بيناه سابقا ، وهذا هو الخليفة البتة وليسوا يعرفون من معنى الامامة الشرعية الا الرئاسة العامة في أحكام الدين على سائر المكلفين وتلك هي الخلافة عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا محالة ، وتسمية المفتي إماما انما هو اصطلاح حدث بعد مضي أكثر من خمسمائة سنة من الهجرة بسبب ذكره بعض الشافعية في كلام طويل ولم يكن قبل ذلك معروفا فلا يصح حمل الامام في الأحاديث النبوية عليه يقينا ، وقد أوضحنا فيما سبق أن الامام العام هو العالم باحكام الدين وموضحها للمكلفين ومن سواه ليس بامام عام ، على ان لفظ الخبر وهو قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ما ان تسالمتم عليه لم تهلكوا) أي توافقتم ثم اتيانه بلفظ الامام بعد قوله : (إن وليكم الله) لا يحتمل الا إرادة الرئيس العام لا غيره ، ويزيده وضوحا قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (فناصحوه وصدقوه) إذ المناصحة لا محصل لها ولا موقع خصوصا اذا كانت مطلوبة من جميع الناس كما هو صريح اللفظ الا للامام العام الذي هو الخليفة ، ويؤكده زيادة أيضا قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (فان جبرائيل اخبرني بذلك) فانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قصد بهذا القول

اخبارهم بان نصه على علي (عليه‌السلام) بالامامة بوحي من الله إليه لا من قبل نفسه وليس يحتاج الى بيان هذا الا اذا كان المقصود من الامامة المعنى المطلق لا معنى خاصا وهذا ظاهر لكل ذي فهم ، وأما الامامة بمعنى الرئاسة في غير الأحكام الشرعية التي هي احكام الدين فغير معروفة عند احد من الصحابة ولا من الفقهاء والمتكلمين بانها إمامة شرعية وانها خلافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانما تعرف بانها ملك جبري وسلطان جوري ، فاذا اقررت بان عليا هو الامام في احكام الدين بنص الخبر لزمك الاقرار بانه خليفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا خلافة في الشرع غير الامامة في احكام الدين ، ولزمك اذا جعلت غيره خليفة في غير الأحكام الشرعية الاقرار بانه ليس بامام من ائمة الدين فهو غير واجب الطاعة على المكلفين ولا لازم المناصحة على المؤمنين فليس بامام شرعي فلا يكون خليفة الرسول ، لأن الخلافة هي الامامة العامة في الدين والأحكام الشرعية ، بل هو سلطان جائر دنيوي فما زدت بجوابك على ان أثبت إمامة صاحبنا واوضحت النص عليها واخرجت غيره من الامامة الشرعية وادخلته في الرئاسة الدنيوية لا الدينية وذلك هو مطلبنا الأهم وغرضنا المقدم ، والذي كنا نناضل الفرق المخالفة عليه ، اذ لسنا نزيد في القول على ان من عداه ليس بامام في احكام الدين تجب طاعته والاقتداء به فيها ، وان الامام في ذلك كله هو امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) وأنه ظلم واغتصب حقه وصريح قولك الاعتراف بدلالة الخبر على قولنا وذلك هو المراد ، فكأنك بما قلت قد قلدت جيد مذهبنا قلائد النور وخلعت على قولنا خلع السرور ، ثم يقال له أيضا : الست حكمت بما قلت : بان عليا (عليه‌السلام) امام ابي بكر في الأحكام الشرعية كما هو امام غيره من الصحابة فيها ، وان أبا بكر امام علي (عليه‌السلام) لأنه الخليفة فحينئذ يكون كل من علي وابي بكر إماما ومأموما في حال واحدة كل

منهما واجب الطاعة على الثاني ، وهل سمعت ورأيت رجلا إماما لغيره في حال وذلك الغير امام لذلك الرجل في تلك الحال؟ وهل وجد ذلك في شرائع النبيين؟ او عقل عند ذوي العقول المنصفين؟ كلا بل هذا تناقض لا تجوز العقول حصوله ، وتضاد لا تحتمل جميعه لأن اجتماع المتضادين واتلاف المتناقضين مما يمتنع في العقل ولا يعرفه اهل العلم والفضل ، فيكون القول المستلزم له باطلا فيجب ان يكون الامام في الأحكام الشرعية لجميع المسلمين وهو الخليفة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لئلا يلزم التناقض والتضاد اللذان لا يجوزان عقلا ولا شرعا ، ثم نقول له أيضا انك حيث قلت ان عليا امام الصحابة في الفتاوى والأحكام الشرعية والامام هو الذي يجب على المأمومين الاقتداء به ولا يجوز لهم مخالفته فاخبرنا عن إمامك ابي بكر هل اخذ في ابطال دعوى فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في فدك بفتوى امامه علي (عليه‌السلام) في الأحكام؟ أم بخلاف فتواه؟ وكذلك في رده شهادته لفاطمة (عليه‌السلام) وفي منعها ميراثها؟ وفي درئه الحد عن خالد بن الوليد لما قتل مالك بن نويرة وزنى بامرأته؟ واحراقه الفجاءة السلمي واسقاطه سهم اولى القربى من الخمس؟ وتخلفه عن جيش اسامة ، ورده عمر من الجيش؟ وغير ذلك من الأفعال (١) هل اخذ بفتوى امامه علي (عليه‌السلام) في جميعها أم بغير فتواه؟ فان قال اخذ في ذلك كله بفتوى علي (عليه‌السلام) فقد ابطل واحال وادعى ما لا يعرف وما يكذبه فيه كل احد ، وان قال اخذ في ذلك وغيره بغير فتوى علي (عليه‌السلام) بل بضدها كما هو المعلوم بين الأمة فيلزمه احد الأمرين : اما اثبات المعصية لأبي بكر لمخالفته فتوى امامه في الفتوى ، او اخراج علي (عليه‌السلام) من الامامة في الفتاوى والأحكام الشرعية التي اعترف بصراحة الخبر فيها فيكون

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٨.

قد كذب الخبر الصحيح عنده وابطل ما حكم به ، فليختر عز الدين عبد الحميد من هذين الوجهين ما يريد يكفه في مناقضته نفسه وابطال مذهبه وجراءته على ائمته ، فتبين لك من هذه الجملة الوافرة عصمة تلك الأخبار الصريحة عن التأويل ، وامتناعها عن القال فيها والقيل ، وبها يتحقق النص على إمامة امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) ، ويبطل ما قاله ابن ابي الحديد ، واعجب من قوله الأول قوله بعده : «وأيضا فانا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصوله ان الامامة كانت لعلي (عليه‌السلام) ان رغب فيها ونازع عليها ، وان اقرها في غيره وسكت عنها تولينا ذلك الغير وقلنا بصحة خلافته ، وامير المؤمنين لم ينازع الأئمة الثلاثة ولا جرد السيف ولا استنجد الناس عليهم» (١) الى آخر ما قال مما معناه إن امير المؤمنين (عليه‌السلام) فعل ذلك لحكم هو واصحابه على المتقدمين عليه بالهلاك» (٢) وفي هذا الكلام من الوهن ما لا يخفي وهو من وجوه :.

الأول : حكمه عليهم بالهلاك لو نازعهم علي (عليه‌السلام) وهذا يناقض القول بصحة إمامتهم بعد البيعة لهم كما يقوله هو واصحابه لأن امام الحق لا يجوز قتاله ولا منازعته ولا تجريد السيف في وجهه ، بل لا تجوز مخالفته في امره ونهيه ، واذا كانت إمامتهم صحتها موقوفة على رضاه لم يجز لهم عقدها قبل حضوره ومشاورته فان رغب فيها سلموها له وان رضي بغيره عقدوها لذلك الغير وشيء من ذلك لم يكن ، فانه (عليه‌السلام) لم يشاور في واحدة من بيعات الثلاثة البتة بالاتفاق ، وتصحيح هذا الخصم فان عمر قد عقدها لأبي بكر في السقيفة وعلي غير حاضر ولا مشاور ولازم قول المعتزلي ان بيعة ابي بكر في السقيفة غير صحيحة لعدم مشاورة امير المؤمنين

__________________

(١) استعرض السيد شرف الدين كل هذه الأحداث في كتابه النص والاجتهاد ص ١٤١ ـ ٢٨٤ وحريّ بالباحث ان يطلع على ذلك.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٨.

فالزامه الناس بمبايعته بعد خروجه من السقيفة ظلم وعدوان ، وعقدها ابو بكر لعمر ولم يشاور عليا (عليه‌السلام) وعقدها عبد الرحمن بن عوف لعثمان بوصية من عمر وعلي (عليه‌السلام) كاره ، وكل ذلك معلوم لا نزاع فيه فتقع إمامتهم على ما قال باطلة يصححها ، ولازم قوله فسادها.

الثاني : قوله ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) لم يستنجد الناس عليهم فانه دفع للمعلوم باللسان ، فقد روى ان عليا اركب فاطمة على حمار واخذ الحسن والحسين ، فما ترك أحدا من أهل السابقة الا مضى إليه وذكر له حقه ودعاه الى نصرته على ابي بكر واصحابه فعل ذلك ثلاث ليال في كلها لم يجبه الا أربعة او خمسة (١) فمن فعل ذلك كيف يقال فيه انه لم يستنجد الناس وانه سكت عن طلب الخلافة ورضي بخلافة غيره؟

الثالث : انه «قوله (عليه‌السلام) ما جرد السيف» وهذا باطل فانه قد روي ان الزبير جرد السيف بامره (عليه‌السلام) وخرج شاهرا سيفه حين أتى عمر وأصحابه بأمر ابي بكر واقتحموا على علي (عليه‌السلام) واصحابه البيت ليجالدهم بذلك السيف فاخذ من عنده ، ونادى ابو بكر باخذه اضرب به الحجر ففعل ، وساقوا عليا وأصحابه بالعنف الشديد ، ومن المعلوم ان هذا تجريد للسيف لكنه لم يجد على ذلك ناصرا ولا معينا فلا يجوز أن يقال فيه أنه ما جرد السيف.

الرابع : قوله «ولم ينازعهم» فان هذه دعوى كاذبة كذبا صراحا ، وأي منازعة اعظم مما جرى منه معهم وتخلفه عنهم معلوم واحتجاجه عليهم مشهور وطعنه فيهم مواجهة بتظاهرهم على أخذ حقه مذكور وفي كتاب خصمنا وغيره مسطور؟ وسيأتي بعضه في نقل حجته على ما يدعى من عدم النص ان شاء

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٣.

الله تعالى ونذكر هنا قطعة صالحة من ذلك مما نبطل به دعواه فنقول قال في كتابه (١) قال ابو بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري ، واخبرنا ابو زيد عمر بن شبة قال حدثنا ابراهيم بن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن ابي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر وغضب علي والزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح فجاء عمر في عصابة منهم اسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش (٢) وهما من بني عبد الأشهل فصاحت فاطمة (عليها‌السلام) وناشدتهم فأخذوا سيفي علي والزبير فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ثم اخرجهما عمر ، يسوقهما حتى بايعا وقال خصمنا (٣) ابن ابي الحديد أيضا ، «قال ابو بكر وحدثنا ابو زيد عمر بن شبه وساق السند الى سلمة بن عبد الرحمن قال : لما اجلس ابو بكر على المنبر كان علي والزبير وناس من بني هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم وقال والذي نفسي بيده لتخرجن الى البيعة او لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار وزياد بن لبيد فدق به فندر (٤) السيف فصاح ابو بكر وهو على المنبر «اضرب به الحجر» (٥) قال ابو بكر الجوهري «وقد روى في رواية اخرى ان سعد بن ابي وقاص كان معهم في بيت فاطمة والمقداد بن الأسود أيضا وانهم اجتمعوا (عليه‌السلام) أن يبايعوا عليا (عليه‌السلام) فاتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف وخرجت فاطمة (عليها‌السلام) تبكي وتصيح» (٦)

__________________

(١) يعني شرح النهج.

(٢) في شرح النهج «قريش».

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٧.

(٤) ندر أي سقط.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٥٦.

(٦) أيضا ٦ / ٤٨ وتحريق باب فاطمة عليها‌السلام أو التهديد بالتحريق نقله جماعة من

قال المعتزلي ، وقال احمد بن عبد العزيز الجوهري أيضا : «وحدثنا ابن غفير قال : حدثنا ابو عون عبد الله بن عبد الرحمن عن ابي جعفر محمد بن علي أنّ عليّا (عليه‌السلام) حمل فاطمة على حمار وسار بها ليلا الى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد مضت بيعتنا لهذا الرجل لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به ، فقال علي (عليه‌السلام) : أكنت اترك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ميتا في بيته لا اجهزه واخرج الى الناس انازعهم في سلطانه» (١).

قال وقال ابو بكر : «حدثنا ابو سعيد عبد الرحمن بن محمد وساق السند عن الليث بن سعد قال : تخلف علي عن بيعة ابي بكر فاخرج ملببا (٢) يمضي به رقصا (٣) وهو يقول معاشر المسلمين علام يضرب عنق رجل من المسلمين لم يتخلف لخلاف» (٤)

__________________

المؤرخين نذكر منهم الطبري في التاريخ ٣ / ٢٠٢ حوادث سنة ١١ وابن قتيبة في الامامة والسياسة ١ / ١٣ وابن عبد ربه في العقد الفريد ٤ / ٢٥٩ وابن شحنة في تاريخه هامش كامل ابن الأثير ٧ / ١٦٤ واشار إليه حافظ ابراهي شاعر النيل في قصيدته العمرية المشهورة بقوله :

وقولة لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها اعظم بملقيها

حرّقت دارك لا ابقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها

واعتذر بذلك عروة بن الزبير عن اخيه عبد الله إذ هم بتحريق بني هاشم لما امتنعوا عن بيعه كما في شرح نهج البلاغة ٤ / ٤٩٥.

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٣.

(٢) يقال : لبب فلان فلانا أي جمع ثيابه عند صدره ونحره ثم جره.

(٣) في الشرح «ركضا».

(٤) شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٥.

وهذه الأخبار واضعافها مما رواه ابن ابي الحديد عن الثقات عنده ، وسيأتي أيضا جملة اخرى منها ان شاء الله تعالى كلها دالة باوضح دلالة على ان عليا (عليه‌السلام) رغب في الخلافة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وطلبها وطلبها له جماعة من اعيان الصحابة وحضروا ليبايعوه وجمعوا السلاح لو لا انهم عوجلوا وغلب على امرهم ، وانه (عليه‌السلام) نازع في خلافة ابي بكر اشد المنازعة وجرد اصحابه السيف بامره لقتال اتباعه ، واستنجد الناس عليه ودعاهم الى حربه واعانته على ذلك فاطمة بنت رسول الله (صلوات الله عليها) فلم يجد منجدا ولا معينا ، وانه غير راض بخلافة ابي بكر ومصرحة بذلك اتم تصريح وانه ما سكت وكف ، بل غلب وقهر واخرج ملببا واوعد باحراق منزله وهو بيت النبوة ، وواضحة في انه (عليه‌السلام) ما غمد السيف وترك المناهضة لأبي بكر واتباعه الا بعد ان تحقق عنده عدم الناصر له ، فهو سكوت عن اضطرار لا عن رضا واختيار ، ولو لم توجد هذه الأخبار وامثالها الدالة على ما ذكرناه لكان في قوله (عليه‌السلام) المشهور عنه في خطبة النهج (فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا اهل بيتي فضننت بهم عن الموت واغضيت على القذى وشربت على الشجى وصبرت على اخذ الكظم وعلى امر من طعم العلقم) (١) كفاية في الدلالة على ان علة سكوته وكفه عن جهادهم فقده الناصر والمعين وليس عن رضا نفس ، وانه تجرع في صبره عن ذلك ما هو امر من العلقم فمن يقول هذا القول وأشباهه وهو كثير كيف يعقل انه كف عن رضا وسكت عن اختيار؟ ما هذا الا تجاهل وتغافل؟ وقد وضح من هذه الأخبار بطلان ما قاله ابن ابي الحديد ان عليا (عليه‌السلام) ما نازع الثلاثة ولا طلب في ايامهم الخلافة واقض عجبا منه ومن أغاليطه حيث يروي هذه الأخبار

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ٢٦ وسترى في آخر الكتاب ان هذا الفصل من خطبة له (عليه‌السلام) نقلها المؤلف عن كتاب الغارات لابن هلال الثقفي.

وامثالها مع كونها نصّا في طلب أمير المؤمنين الخلافة وعدم رضاه بخلافة الرجل وانه اخرج من بيته مقهورا وطلب ناصرا فلم يجد ، ثم يقول إنّ عليا (عليه‌السلام) ما نازع أبا بكر ولا طلب الخلافة لنفسه في زمانه ولا جرد السيف ولا استنجد الناس ولا ولا ، فليختر ابن ابي الحديد الآن أحد وجهين لا محيص له عن واحد منهما اما تكذيب هذه الأخبار التي صححها ، أو تكذيب علي (عليه‌السلام) فيما أخبر به عن نفسه من عدم الرضا بخلافة من تقدم عليه وانه لم يكف عن منابذتهم ومناجزتهم الا لعدم المعين وفقدان الناصر فيكون قد كذّب من هو مع الحق والحق معه بروايته ، وكذّب ثقاة المحدثين عنده ، واما ان يحكم ببطلان خلافة من تقدم عليه ويجزم بخروجهم من الامامة لعدم شرط صحتها عنده وهو عدم رضا امير المؤمنين (عليه‌السلام) بها كما تقدم في قوله ، لأنا قد اقمنا الأدلة الصحيحة لديه على عدم رضا علي (عليه‌السلام) بها بتمام التحقيق ، واي الوجهين اختاره ابن ابي الحديد فقد امكن الرأي من ثغرة نحره وذبح نفسه بخنجره فليكن ذلك محققا.

وأما ما ورد بلفظ : الامارة والإمرة فلم يورده ابن ابي الحديد ولكنه أورد ما هو بمعناه وزيادة ، ومن المعلوم انه لا فرق بين ان يذكر الشيء او يذكر مرادفه فليس بين قولك جاءني بشر وجاءني انسان أو حيوان ناطق فرق في افادة المعنى المقصود فها نحن نذكر ذلك عنه قال في اوائل شرح النهج : «وتزعم الشيعة ان يعني عليا (عليه‌السلام) خوطب في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جملة المهاجرين والأنصار ولم يثبت ذلك في اخبار المحدثين (١) الا انهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى وان لم يكن اللفظ بعينه وهو قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) له (انت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة) ، وفي رواية اخرى (هذا يعسوب المؤمنين وقائد الغر

__________________

(١) رواه ابن عساكر في تاريخه ٢ / ٢٦٠ عن بريدة الأسلمي.

المحجلين) واليعسوب ذكر النحل وأميرها ، روى هاتين الروايتين أبو عبد الله احمد بن حنبل الشيباني في المسند وفي كتابه في فضائل الصحابة ورواهما ابو نعيم الحافظ في حلية الأولياء انتهى (١).

اقول : وقد مر ذكر هذه اللفظة في الأحاديث المذكورة أولا فراجع وفي رواية ابي رافع عن ابي ذر من قول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) (وانت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الكافرين) وستاتي بتمامها ان شاء الله وقد اعترف ابن ابي الحديد كما سمعت في كلامه بان معنى اليعسوب الأمير فثبت من ذلك ان عليّا (عليه‌السلام) أمير المؤمنين على لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا فرق بين اللفظ ومرادفه عند جميع العقلاء فيثبت انه امامهم لأن معنى أمير المؤمنين امامهم بغير اختلاف فهي نص على إمامته بلا ريب ، فمن كان من المؤمنين واهل الدين فعلى أميره ومن لم يكن على اميره فليس من المؤمنين ولا من أهل الدين ، فما انكر ابن ابي الحديد أن يكون جملة من المهاجرين والأنصار خاطبوا عليا (عليه‌السلام) بأمير المؤمنين في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) ثم انكروا ذلك بعد واخفوه كسائر ما انكروا من فضائله واخفوا من مناقبه ، فإنه قد تواتر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (سلموا على علي بامرة المؤمنين) ، فاخفى القوم ذلك وستروه فصار مجهولا عند العامة ومعلوما عند الخاصة وسيأتي اعتراف المعتزلي بأن القوم قد فعلوا بفضائل امير المؤمنين (عليه‌السلام) ما ذكرناه وبه يزول ما استنكر منه هنا مع اعترافه بورود مماثلة في المعنى وكل ذلك من استحكام الشبه في اوهام القوم.

وأما ما ورد بلفظ : الوصي فكثير منها ما رواه ابن ابي الحديد عن صاحب كتاب الفردوس واكثره عنه وعن احمد بن حنبل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ١٢.

(كنت انا وعلي نورا بين يدي الله عزوجل قبل ان يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام فلما خلق آدم قسم ذلك النور وجعله جزءين فجزء أنا وجزء على ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي (عليه‌السلام) الوصية) (١).

وفي حديث انس المتقدم قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (وخاتم الوصيين وقائد الغر المحجلين) وروى ابن ابي الحديد في شرح النهج عن علي (عليه‌السلام) انه قال : (انا خاتم الوصيين وان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد الي واني وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما يعطي هذا المعنى في كثير من كلامه.

وروى عن ابي مخنف انه لما بلغ حذيفة بن اليمان أن عليا (عليه‌السلام) قد قدم ذا قار واستنفر الناس دعا اصحابه فوعظهم وذكرهم الله وزهدهم في الدنيا ورغبهم في الآخرة ، وقال لهم «الحقوا بامير المؤمنين ووصي سيد المرسلين فإن من الحق ان تنصروه» (٢).

ومن اشعار الصحابة والتابعين المتضمنة انه وصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كثير لا يحصى وقد رواه المحدثون الموثقون عند الخصوم كأبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي وابراهيم بن ديزيل الهمداني ونصر بن مزاحم المنقري وغيرهم من أهل التواريخ والسير كل روى منه شيئا.

وذكر ابن ابي الحديد منه طائفة ونحن هنا نذكر منه نبذة يسيرة تبركا وتيمنا بمدحه (عليه‌السلام) فمن ذلك قول ابي الهيثم بن التيهان (٣) وكان

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٧١ ونقله المحب في الرياض النضرة ٢ / ١٦٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ١٨٧.

(٣) أبو الهيثم هو مالك بن التيهان صحابي جليل استشهد يوم صفين بين يدي علي (عليه‌السلام) سنة ٣٧ وكان علي (عليه‌السلام) يحن الى ذكره ويشتاق إليه.

بدريا.

قل للزبير وقل لطلحة اننا

نحن الذين شعارنا الانصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا

يوم القليب (١) أولئك الكفار

كنا شعار نبينا ودثاره

تفديه منا الروح والأبصار

ان الوصي إمامنا وولينا

برح الخفاء وباحت الأسرار (٢)

اقول قوله (رضي الله عنه) : ان الوصي إمامنا الى اخر البيت ، اخبار عن نفسه وعن امثاله من قومه وهم صلحاء الأنصار بأنه كان يعتقده واياهم إمامة امير المؤمنين سابقا ويخفونه في نفوسهم في زمان الثلاثة ويسرون عن الناس قد اظهروه اليوم وباحوا به حيث ارتفع الخوف وزال المانع من اظهاره بوجود الناصر والمعين عليه ، ففيه دليل ظاهر على ان أبا الهيثم وأشباهه لم يكونوا معتقدين إمامة غيره ، وانما الامام عندهم بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امير المؤمنين علي (عليه‌السلام) لأنه وصيه ولكنهم يجمجمون (٣) ذلك في الصدور ويخفونه حتى تمكنوا من اظهاره فاظهروه ، ونحن على ما هم عليه ان شاء الله.

وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين (٤) وكان بدريا أيضا يوم الجمل.

أعائش خلّي عن علي وعيبه

بما ليس فيه انما انت والده

وصي رسول الله من دون اهله

وانت على ما كان من ذاك شاهده

__________________

(١) يريد به قليب بدر

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٣.

(٣) يجمجمون ذلك أي لم يظهروه يقال : جمجم الرجل وتجمجم اذا لم يبين كلامه.

(٤) خزيمة بن ثابت صحابي شهد بدرا يقال له ذو الشهادتين لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جعل شهادته شهادة رجلين ـ في قضية معروفة ـ شهد مع علي (عليه‌السلام) حرب الجمل واستشهد بين يديه في صفين بعد عمار بن ياسر رضي الله عنهما.

وحسبك منه بعض ما تعلمينه

ويكفيك لو لم تعلمي غير واحدة

اذا قيل ما ذا عبت منه رميته

بقتل ابن عفان وما تلك ايده

وليس سماء الله قاطرة دما لذاك

ولا الأرض الفضاء بمائدة (١)

والأخير من الأبيات يومي الى

أنه غير آمر بما جرى لعثمان

وقال النعمان بن العجلان الانصاري (٢) :

كيف التفرق والوصي إمامنا

لا كيف إلا حيرة وتخاذلا

لا تغبنن عقولكم لا خير في

من لم يكن عند البلابل عاقلا

وذروا معاوية الغوى وتابعوا

دين الوصي لتحمدوه اجلا (٣)

وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب :

وصي رسول الله من دون اهله

وفارسه ان قيل هل من منازل

فدونك ان كنت تبغى مهاجرا

اشم كنصل السيف غير حلاحل (٤)

وقال حسان بن ثابت في جملة أبيات أيام المخاصمة بين المهاجرين والانصار بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :

جزى الله عنا والجزاء بفضله

أبا حسن خيرا ومن كأبي حسن

سبقت قريشا بالذي انت اهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش أعزة

مقامك هيهات الهزال من السمن

حفظت رسول الله فينا وعهده

أليك ومن اولي به منك من ومن

الست اخاه في الهدى ووصيه

واعلم منهم بالكتاب وبالسنن

فحقك ما دامت بنجد وشجة

عظيم علينا ثم بعد على اليمن (٥)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٦.

(٢) النعمان بن عجلان الأنصاري كان شاعرا فصيحا سيدا في قومه واستعمله علي (عليه‌السلام) على البحرين ترجم له ابن الأثير في اسد الغابة ٥ / ٢٦ ولم يذكر سنة وفاته.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٩.

(٤) أيضا ١ / ١٥٠.

(٥) أيضا ٦ / ٢٣٥ عن الموفقيات للزبير بن بكار وسيكرر الاستشهاد بها عند كلامه على

الى ذلك من الأشعار من محبيه ومبغضيه مما لا يسع المقام عشر عشيرها مما تضمن لفظ الوصي والولي فقد صح ان عليا (عليه‌السلام) وصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومنه يعلم ان ما ذكره ابن ابي الحديد عن عائشة وبعض تابعيها من ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص (١) باطل بلا شبهة لمعارضته لشهادة خيار الصحابة لعلي (عليه‌السلام) بأنه وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودلالة الأخبار على ذلك ، وعائشة متهمة في علي (عليه‌السلام) وكيف تقر له بالوصية وهي تعيبه وتذمه وهي في الغاية القصوى من البغض له ، والا فهي شاهدة وصية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليه ونصه عليه كما هو صريح شعر خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين الذي ذكرناه وأيضا ان شهادة عائشة وتابعيها على النفي وشهادة الجماعة لعلي (عليه‌السلام) على الاثبات وشهادة الاثبات مقدمة على الشهادة على النفي اجماعا من اهل العلم.

ثم ان المعروف من معنى الوصي على جهة الاطلاق هو القائم مقام الموصي في جميع ما للموصي الولاية فيه وعليه.

ومن معنى الوصية اقامة الموصي الوصي مقامه في جميع ما له التصرف فيه والولاية عليه ولا معنى للوصي والوصية عند العلماء غير هذا والمعروف من

__________________

سبق علي (عليه‌السلام).

(١) روى هذا الانكار البخاري في موضعين من صحيحه الأول في ج ٢ / ٨٣ في كتاب الوصايا وفي ج ٣ / ٦٤ في باب مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ووفاته ورواه مسلم في كتاب الوصية من صحيحه ج ٢ / ١٤ قال «ذكر عند عائشة (رضي الله عنه) ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أوصى الى علي رضي الله عنه فقالت : من قاله ، لقد رأيت النبي وإني لمسندته الى صدري فدعا بطشت فانخنت فمات فما شعرت فكيف أوصي الى علي ، وللسيد شرف الدين في المراجعات ص ٢٣٣ تعليق على هذا الحديث حري بالباحث ان يقف عليه.

معنى وصي النبي هو القائم مقامه في الأمر والنهي بعهد من النبي إليه ، واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الوصي لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان هو القائم مقامه في تنفيذ الأحكام وسياسة الأمة وغير ذلك من ولايات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكون هو خليفته والامام بعده ، اذ لا معنى لخلافته الا القيام مقامه ولا معنى لوصيه الا القائم مقامه بنصبه اياه ، ولا معنى للامامة الا هذا ولا يعرف لها معنى غيره ، وهذا بحمد الله واضح.

قال ابن ابي الحديد «واما الوصية فلا ريب عندنا ان عليا (عليه‌السلام) كان وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان خالف في ذلك من هو منسوب عندنا الى العناد ولسنا نعني بالوصية النص والخلافة لكن امورا لعلها اذا لمحت أشرف واجل» (١) انتهى.

قول اخراج اللفظ عن صريح معناه تشهيا من دون حجة بينة ولا سبب داع هو ديدن ابن ابي الحديد واصحابه وامثالهم ، وليس النزاع بيننا وبينهم في هذا كما علمت أولا فانا مقرون لهم بانهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه ويدفعون النصوص بالشبهات ويصرفون الألفاظ الصريحة عن معانيها بمجرد الشهوات هذه عادتهم المعروفة وسجيتهم المألوفة ، وانما النزاع بيننا وبينهم انا ندعي النص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بالامامة والقائم مقامه فعلينا أن نأتي من اقوال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بما هو صريح في المعنى ونص في المطلب مثل لفظ الامام والأمير والوصي وما اشبهها مما سنورده ، وقد اتينا منه بما يقرون به ولا ينكرونه وما نسبوا جاحده الى العناد مع ان ذلك الجاحد أمّ المؤمنين عائشة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤٠ وانظر الى ابن أبي الحديد لما عجز عن التوجيه والتأويل جعل المعنى في قلب الشاعر ـ كما يقول المثل العامي ـ فاذا لم تكن الوصاية هي النص على الخلافة فعلى أي شيء! أعلى الترك والنبي لا يورث كما يزعمون!؟.

وبعض من الناس كما قدمنا ، وليس علينا ان نحبس ألسنتهم عن التأويلات الفاسدة والتمحلات الممتنعة التي لو صدرت عن غيرهم لحملوه على عدم الفهم وحكموا عليه بالبلادة والعصبية والعناد ، فلا ذنب لنا ولا ابطال لدعوانا بسبب تأويلاتهم الركيكة الباطلة بل حجتنا واضحة وحجتهم داحضة.

فما ذنبنا ان جاش بحر بفضلنا

وبحرك ساج لا يوارى الدعاء مصا (١)

وما قدمنا من بيان معنى الوصي متكفل بابطال دعوى ابن ابي الحديد بان الوصية في غير الخلافة ولأنه يدعى التقييد في المطلق فعليه أن يأتي بالمقيد ، وأنّى له به؟ ولنا على ابطال قوله مضافا الى ما ذكرنا وجوه اخر.

الأول : أن الوصية لا تثبت بغير النص من الموصي على الوصي يقينا واذا سلم الخصم أن عليا (عليه‌السلام) وصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك ما ندعي ، فقوله ولسنا نعني بالوصية النص كلام لا معنى له.

الثاني : ان اهل العقول من جميع المسلمين لا يعلمون منزلة بعد النبوة اشرف واجل من الامامة حتى تنصرف وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى علي (عليه‌السلام) إليها كما ادعاه فعليه وعلى من يدعي دعواه تبيين تلك المنزلة حتى نعرفها ، ثم لو كانت ثمة منزلة أعلى واجل من الامامة كما ذكر لكانت أيضا منضمة إليها وداخلة معها علوم الوصية فتتناول جميع المنازل حتى يثبت المخصص وليس ثمة مخصص ، فقوله : «لعلها اذا لمحت اشرف واجلّ» دعوى مستحيلة ، ولو أمكنت لكانت مع الامامة مندرجة في

__________________

(١) الدعامص جمع الدعموص : دويبة صغيرة تكون في مستنقع الماء ويجمع على دعاميص أيضا والبيت للأعشى.

الوصية ،

الثالث : إن المسلمين من اولى العلم كافة يعلمون أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يترك أموالا كثيرة ولا خلف اطفالا صغارا يحتاج الى الايصاء في حفظ اموالهم والقيام بمصالحهم الى وصي يقوم بذلك وليس له حاجة في الوصية الا في القيام مقامه بمصالح الأمة وحماية الملة وانفاذ الأحكام وجهاد المشركين ودعوتهم الى دين الاسلام لا غير ذلك ، فوصيه هو المنصوص عليه منه بذلك والمنصوب منه له وتلك هي الامامة بلا ريبة ولا يشك في ذلك عاقل غير معاند.

الرابع : ان الأخبار المذكورة والأشعار الواردة التي قدمناها وغيرها يتبادر من لفظ الوصي فيها بل لا يفهم من معناها الا كون أمير المؤمنين وصي رسول الله على ما هو المعنى المعروف من اوصياء الأنبياء وهو الخلافة بعدهم لا شيء اخر ، فان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لي النبوة ولعلي الوصية) وقوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (خاتم الوصيين) (١) لا يعقل منه الا ان لعلي خلافة الأنبياء ، وانه خاتم خلفاء النبيين ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاتم الأنبياء فلا نبي بعده فلا خليفة نبي بعد علي (عليه‌السلام) بدون واسطة خليفة غيره ، لأن الوصية المقابلة للنبوة هي الخلافة من غير شبهة ، والوصي المقابل للنبي هو الخليفة بعده لا يتصور منه غير هذا المعنى ولا يراد به غيره عند الاطلاق ببديهة العقل ، وليس يعقل منها الفطن اللبيب ان لعلي الوصية المقابلة للنبوة في امر مخصوص ، أو أنه خاتم الوصيين في أمور أخر غير الخلافة كمال أو حكم خاص أو سر في معنى خاص ولا يحملها على هذا المعنى الا معوج الفهم بسبب استيلاء الشبه على عقله وممازجتها للبّه ، فيجعل عقله تبعا لمشتهاه ، وسالكا في أثر تقليده ومما

__________________

(١) تاريخ بغداد : ١٠ / ٣٥٦.

يزيد المعنى وضوحا في أن المراد بالوصي هو القائم مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جميع أمره ما رواه ابن ابي الحديد قال : قال : نصر يعني ابن مزاحم المنقري وحدثنا عبد العزيز بن سياه قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال : حدثنا سعيد التيمي المعروف بعقيصا قال : كنا مع علي (عليه‌السلام) في مسيره الى الشام حتى اذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد عطش الناس واحتاجوا الى الماء ، فانطلق بنا علي (عليه‌السلام) حتى أتى الى صخرة ضرس (١) في الأرض كأنها ربضة عنز (٢) فأمرنا فاقتلعناها فخرج لنا تحتها ماء فشرب الناس وارتووا ثم أمرنا فاكفاناها حتى اذا مضى قليلا ، قال : أمنكم احد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه؟ قالوا : نعم يا امير المؤمنين قال : فانطلقوا إليه ، فانطلق هنا رجال ركبانا ومشاة فاقتصصنا الطريق إليه حتى انتهينا الى المكان الذي نرى أنه فيه فطلبناه فلم نقدر على شيء ، حتى إذا عيل علينا انطلقنا الى دير قريب منا فسألناهم اين هذا الماء الذي عندكم؟ قالوا : ليس قربنا ماء ، فقلنا : بلى انا شربنا منه ، قالوا : انتم شربتم منه؟ قلنا : نعم ، فقال صاحب الدير : والله ما بني هذا الدير الا لذلك الماء وما استخرجه الا نبي او وصي نبي» (٣) ومن المعلوم انه لا يريد بوصي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هنا الا الخليفة بعده لا ما يقوله ابن ابي الحديد واصحابه والأشاعرة.

الخامس : ان ايصاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى رجل في أمر مخصوص أو امور مخصوصة لا يصيره وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الاطلاق ، ولا يسمى عند احد بوصي الرسول (صلى الله عليه

__________________

(١) الضرس : الأكمة الخشنة.

(٢) الربضة ـ بضم الراء وكسرها أيضا : ـ مقدار جثة العنز إذا ربضت.

(٣) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٤.

وآله وسلم) ، فقد روى ابن ابي الحديد وغيره أن أبا أيوب الانصار قال في كلام ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، «عهد إلينا ان نقاتل مع علي (عليه‌السلام) الناكثين والقاسطين والمارقين» (١) ولا نجد احدا قال ان أبا أيوب وقومه اوصياء الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ورووا ان أبا ذر قال «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد الي أنه يلي غسلي وتجهيزي قوم من المؤمنين» (٢) في حديث طويل ولم يقل احد من الصحابة وغيرهم ان أبا ذر وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ورووا ان عمار بن ياسر قال : يوم صفين في كلام «عهد الي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه يكون اخر زادي من الدنيا ضياحا من لبن» (٣) ورووا عن كثير من الصحابة مثل هذا ولم يسم احد منهم بوصي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك الأمر الذي عهد إليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه والأمور المخصوصة وهذا مما يدل صريحا على انه لا يسمى رجل وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الإطلاق الا المنصوص عليه بخلافته والموصى إليه منه بالقيام مقامه ، فأمير المؤمنين وصى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بهذا المعنى لا غيره فهو الإمام بعده لا محالة وقد اتضح الأمر وزال تشبيه المعتزلي وثبت المراد والله ولي التوفيق الى السداد.

__________________

(١) أيضا ٣ / ٢٠٧ واسد الغابة ٤ / ٣٢ و ٣٣ ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩.

(٢) أيضا ١٥ / ٩٩ والاستيعاب ١ / ٢١٥ وفي صفين لنصر بن مزاحم (إن آخر زادك من الدنيا شربة من لبن) وجاء في زيارة أمير المؤمنين (عليه‌السلام) المروية عن الامام.

علي بن محمد الهادي عليهما‌السلام : «وقال ـ أي عمار ـ : قال لي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (آخر شرابك من الدنيا ضياح من لبن تقتلك الفئة الباغية) وان عمارا لما استسقى وسقي اللبن كبر وذكر ذلك مفاتيح الجنان للقمي ص ٣٧١ والضياح ـ بالفتح ـ : اللبن الرقيق الكثير الماء.

(٣) الاستيعاب ٢ / ٤٨.

وأما ما ورد بلفظ الخليفة : فهو الخبر الصحيح عند القوم كافة قال ابن ابي الحديد «وأما خبر الوزارة فقد ذكره الطبري في تاريخه عن عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) قال : لما انزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دعاني فقال : يا علي ان الله امرني ان انذر عشيرتك الأقربين فضقت بذلك ذرعا وساق الرواية ـ الى ان قال ـ ثم تكلم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : يا بني عبد المطلب اني والله ما اعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، اني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد امرني الله ان ادعوكم إليه ، فايكم يوازرني على هذا الأمر على ان يكون اخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فاحجم القوم عنها جميعا فقلت : انا واني لأحدثهم سنا وارمصهم عينا واعظمهم بطنا واحمشهم ساقا : انا يا رسول الله اكون وزيرك عليه ، واعاد القول فامسكوا واعدت ما قلت ، فأخذ برقبتي ثم قال لهم : هذا اخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا إليه واطيعوا ، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد امرك ان تسمع لابنك وتطيع» (٢) وهذه الرواية مع صحتها عند الخصوم نص صريح في أن عليا (عليه‌السلام) خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على من يطيعه ، وانه وصيه ووزيره فاي نص على الخلافة اصرح من هذا؟ ولشهرة هذه الرواية احتج بها ابو جعفر الاسكافي في نقضه على الجاحظ (٣) وما ادري ما ذا يقول ابن ابي

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢١٠. تاريخ الطبري ٢ / ٢١٦.

(٣) قال ابو جعفر الاسكافي في نقض العثمانية للجاحظ : «فهل يكلف عمل الطعام ودعاء القوم صغير غير مميز ، وغر غير عاقل ، وهل يؤتمن على سر النبوة ابن خمس سنين» ـ الى ان قال ـ : وهل يصنع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يده في يده ويعطيه صفقة يمينه بالاخوة والوصية والخلافة الا وهو أهل لذلك بالغ حد التكليف ، محتمل لولاية الله وعداوة اعدائه» الخ ..

الحديد في ذلك فانه لم يتعرض فيها بتأويل؟ وأظنه لعجزه عنه ، ولو ادرك إليه منفذا لسارع عليه ولعله يرى أن امير المؤمنين خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أمور أخرى كما قال في الوصية فيكون جوابه ، هنا مثل جوابه هناك.

وأما ما ورد بلفظ الوزارة : فمنه حديث ابي ذر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وفيه بعد ما ذكرنا في لفظ اليعسوب وانت اخي ووزيري والحديث المتقدم صريح ، وقال ابن ابي الحديد بعد ذكره (ويدل على انه (عليه‌السلام) وزير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من نص الكتاب والسنة قول الله تعالى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (١) وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخبر المجمع على روايته بين فرق الاسلام : (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) فأثبت له جميع مراتب هارون ومنازله من موسى ، فاذن هو وزير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وشادّ أزره ولو لا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره» (٢) ، انتهى.

اقول : فاذا كان علي (عليه‌السلام) وزير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والوزير هو المعين على الأمر فاذن علي (عليه‌السلام) هو معين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على اظهار دعوة الاسلام واقامة احكام النبوة فيكون له مقامه في حياته وبعد وفاته والأمر ظاهر ، ثم ان ابن ابي الحديد حيث استفاد من هذا الحديث انه نص في وزارة علي لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنها من جملة منازل هارون من موسى بنص الكتاب وان جميع منازل هارون من موسى الا النبوة ثبتت لعلي (عليه

__________________

(١) طه : ٢٩.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢١١.

السلام) من رسول الله (عليه‌السلام) ، فيلزمه على هذا الحكم أيضا بان الحديث نص في خلافة علي (عليه‌السلام) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن الخلافة ثابتة لهارون بنص الكتاب وهو قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (١) الآية ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يستثنها مع النبوة فتكون خلافة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثابتة لعلي (عليه‌السلام) بنص الكتاب والسنة كما ثبتت الوزارة له بنصهما على ما قررا أفأبلغ شاهد من هذا يريد عبد الحميد؟ وهل تراه يخفي عليه مثل هذا المعنى الواضح كالشمس الصاحية؟ ولكن غلب عليه الف المذهب وتقليد الأسلاف كما غلبا على غيره فصاروا يرون الحق باطلا والنص الجلي متشابها والمعنى الواضح خفيا والصواب خطأ فاذا ورد عليهم ما يوافق مذهبهم من المشتبهات صيروه كالبدر الأتم وضوحا وصراحة ، واذا عثروا على ما يطابق مشتاهم من المزخرفات المضطربة الألفاظ تلقوه بالقبول الأعظم ووصفوه بغاية الصحة ونهاية الفصاحة ، أو جاءهم في ذلك شيء من الموهونات صيروه كالطود الأشم قوة ورجاحة ، فنعوذ بالله من كتمان الحق للأغراض الدنيوية وترويج الباطل للعناد والعصبية.

وأما ما ورد بلفظ الطاعة : فمنه ما تقدم في حديث الخلافة والوزارة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اسمعوا له واطيعوه) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث ابي برزة المتقدم اخبارا عن الله تعالى في شأن علي (عليه‌السلام) وهو الكلمة التي الزمتها المتقين من احبه فقد أحبني ومن اطاعه فقد اطاعني) (٢) واذا كان علي (عليه‌السلام) طاعته طاعة الله وجب ان يكون خليفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن الذي طاعته طاعة

__________________

(١) الأعراف : ١٤٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ١٦٧ عن حلية ابي نعيم.

الله هو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) ولا نبوة بعد نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فتبقى الخلافة ، فالحديث نص على إمامته لوجوب طاعته ولا طاعة واجبة لغير الله والنبي والإمام ، وفي حديث انس المتقدم : (وامام اوليائي ونور جميع من اطاعني) والمراد بنور من اطاعني قدوتهم الذي يقتدون به في الأحكام ويهتدون به عن الضلال ، واذا كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر بالسمع والطاعة لعلي وجعله الله قدوة المطيعين وهاديهم وجب أن يكون إماما ، لأن غير الإمام لا يجب له السمع والطاعة على المكلفين ، وانما ذلك لولي الأمر خاصة ، ويستفاد من الخبر أن من لم يقتد بعلي (عليه‌السلام) في دينه فليس مطيعا لله لأنه لم يأتم بالنور الذي جعله لمن أطاعه ولم يستضيء بضيائه فلم يكن من اهل النور ، فاذن ليس هو من اهل طاعة الله ، وفي حديث عمار ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله) رواه كثير من خصومنا (٢).

وأما ما ورد بالمثلية : فمن القرآن قوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (٣) ولم يدع غير علي (عليه‌السلام) بالاجماع ، فهو اذن نفس الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وليس على جهة الاتحاد قطعا فيكون المراد به المثلية ، واذا كان مثل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجب أن يكون الامام بعده اذ لا نبي بعد محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ومن السنة ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (لتنتهن يا بني وليعة

__________________

(١) النساء : ٨٠.

(٢) نقله في مجمع البيان ٤ / ٥٣٤ عن أبي طالب الهروي بسنده عن أبي أيوب الأنصاري.

(٣) آل عمران : ٦١.

او لأبعثن إليكم رجلا كنفسي يمضي فيكم امري يقتل المقاتلة ويسبي الذرية) قال ابو ذر فما راعني الا برد كف عمر من حجزتي من خلفي يقول من تراه يعني؟ فقلت : انه لا يعنيك وانما يعني خاصف النعل وانه (قال هو هذا) (١) قال : وقال لوفد ثقيف (لتسلمن او لابعثن إليكم رجلا مني او قال عديل نفسي فليضربن اعناقكم وليسبين ذراريكم وليأخذن اموالكم) قال عمر فما تمنيت الامارة الا يومئذ وجعلت انصب لها صدري رجاء ان يقول هو هذا فالتفت فاخذ بيد علي فقال : (هو هذا مرتين) (٢) وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث مشهور سيأتي ذكره (إن عليا مني وانا من علي) واذا كان علي (عليه‌السلام) نفس الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وعديل نفسه ، وانه منه كان مماثلا له البتة ، ولما كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاتم الأنبياء فلا نبوة بعده وجب أن يكون علي (عليه‌السلام) الامام بعده لقضيّة المماثلة وإلا فلا معنى للماثلة قطعا ، ومثله قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (على اخي) لأن الأخوة النسبية بينهما معلومة الانتفاء فثبت انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يريد بها المماثلة ، وليس الا في الصفات فما لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الصفات غير النبوة فهو ثابت لعلي (عليه‌السلام) للمماثلة ومن جملة ذلك الامامة ، فهذا نص صريح من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على استخلاف علي (عليه‌السلام) من غير شك وفي قول (منّي) معنى عميق وهو انه مخلوق من نوره وان ذلك النور كان في اوّل الخلق شيئا واحدا ثم انقسم الى قسمين احدهما كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والثاني عليا (عليه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٨ ورواه المحب الطبري في الرياض النضرة ٢ / ١٦٤ وقال : أخرجه احمد في المناقب».

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٧ ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٤٦ والمحب في الرياض ٢ / ١٦٤.

السلام) فكل واحد من الآخر ، فعلي (عليه‌السلام) عديل نفس رسول الله وكنفسه بعد الانقسام والعديل بمعنى المعادل ، وهو أيضا نفس الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنهما في الأصل نور واحد يدل على ذلك صريحا حديث ابن ابي الحديد عن مسند احمد بن حنبل وكتابه في الفضائل وعن كتاب الفردوس من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كنت انا وعلي نورا بين يدي الله عزوجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر الف عام فلما خلق آدم قسم ذلك النور فيه وجعله جزءين فجزء أنا وجزء علي) (١) ... الخبر وقد ذكرناه بتمامه في لفظ الوصية ، ومثله في طرقنا وطرق غيرنا كثير وهذا المعنى هو الذي يشير إليه امير المؤمنين متبجحا به ومفتخرا بقوله في مواضع كثيرة (وانا من محمد كالضوء من الضوء) (٢) وحق له ان يفتخر بذلك ويتبجح به ويحتج على خصمه به فانه لا فضل أعلى منه وان علا ولا رفعة الا وهي دونه ولا شرف الا وهو منحط عنه ، فقد فاق به الأنبياء المرسلين رفعة ومجدا وشرفا وفضلا ولقد احسن الحسن البصري في قوله كما رواه عنه الخصم : (ولقد اخا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين اصحابه فآخى بين علي وبين نفسه فرسول الله خير الناس نفسا وخيرهم اخا) (٣) انتهى. واذا كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد صرح في علي (عليه‌السلام) بهذه المقالات بمحضر من الصحابة فاي شيء تراه ترك بعد هذا المقال من النص على استخلافه عليا (عليه‌السلام) حتى يقول ابن ابي الحديد واشباهه : ليس هناك نص صريح وانما هو تعريض وتلويح ، نسأل الله أن يوفقنا لأبطال الباطل وتصحيح الصحيح ، وأي عاقل منصف سلم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧١ ورواه المحب في الرياض ٢ / ١٦٤ عن الفضائل للامام احمد.

(٢) الملل والنحل ١ / ١٨٩ وفي نهج البلاغة في الكتاب ٤٥ : (الصنو من الصنو).

(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ٩٥.

من علة تقليد السلف والف الشبه يشك في إمامة علي (عليه‌السلام) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد أن سماه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (على عديل نفسي ونفسي) : ويرتاب في ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد بذلك استخلافه؟ او يجوز تقديم من ليس من النبي على من هو عديل نفسه في مقامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حاشا وكلام يأبى العقل الذكي ذلك الا بعلة.

واما ما ورد بلفظ التمسك : به من بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما هو في معناه فكثير شيء منه بافراده بنفسه وشيء منه بضمه الى عترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وشيء منه بضمه الى الكتاب والعترة معا ، ونحن نورده جميعا فنقول :

روى ابن ابي الحديد عن الحافظ ابي نعيم في حلية الأولياء وعن احمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (من سره ان يحيى حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب) (١) وعن ابي نعيم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث سنذكر صدره فيما يأتي ان شاء لله قال : فيه فلما جاء ارسل الى الأنصار فاتوه فقال : (يا معشر الأنصار الا ادلكم على ما ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا) قالوا بلى يا رسول الله قال : (هذا علي فاحبوه بحبي واكرموه بكرامتي فان جبرائيل امرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل) (٢) وعن الحافظ ابي نعيم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (من سره ان يحيى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٨ وحلية الأولياء ١ / ٨٦ وقال المحب في الرياض ٢ / ٢١٥ : «اخرجه احمد في الفضائل».

(٢) شرح نهج البلاغة : ٩ / ١٧٠ وحلية الأولياء ١ / ٦٣.

حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فانهم عترتي خلقوا من طينتي ورزقوا فهما وعلما فويل للمكذبين من امتي القاطعين فيهم صلتي لا انالهم الله شفاعتي) (١) والموالاة والاقتداء بمعنى المتابعة وهو معنى التمسك وهذه الرواية كما انها نص على إمامته علي (عليه‌السلام) كذلك هي نص على إمامة الأئمة من عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونص في حرمان الشفاعة لمن كذب بامامتهم وقطع صلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيهم فقد صرحت بحقّيّة مذهب الامامية الاثني عشرية باتم تصريح وبينته باوضح بيان.

وروى ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خرج على الحجيج عشية عرفة فقال لهم : (ان الله باهي بكم الملائكة عامة وغفر لكم عامة وباهى بعلي خاصة وغفر له خاصة اني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي ، ان السعيد كل السعيد حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته) (٢) تمام الخبر والمحبة من لوازمها المتابعة والطاعة ومن لم يطع احدا فليس بمحب له وقد نطق بذلك الكتاب الالهي في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٣) من يتبع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو غير محب لله وقال بعض الأبرار.

تعصي الإله وانت تزعم حبه

هذا كلام في المقال بديع

لو كان قولك صادقا لأطعته

ان المحب لمن يحب مطيع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٧١٧١ وحلية الأولياء ١ / ٨٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٨ عن مسند أحمد وفضائله.

(٣) آل عمران : ٣١.

فمحبة علي (عليه‌السلام) طاعته ومتابعته وهذا معنى التمسك.

واعلم ان في اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن نفسه بعدم المحاباة لقرابته فيما قال فيهم ظهورا او اشعارا بعلمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بان جماعة من اصحابه يتهمونه بمحاباة قرابته فيما شرفهم به على غيرهم من الأفعال والأقوال ولو لا ذلك لكان قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخبر غير محاب فيه لقرابتي قليل الفائدة بل لا فائدة فيه اصلا ، لأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذا كان عالما من جميع اصحابه عدم اتهامه بالمحاباة لقرابته فيما يفضله به من قول وفعل كان اخباره بنفي ذلك عنه اخبار للعالمين به ومعتقديه ، ولا ريب ان اخبار العالم بنسبة الخبر او معتقد حصولها عديم الفائدة ، وانما يكون مفيدا اذا كان المخبر يجهل نسبة الخبر او يعتقد نقيضها ليفيد اعلامه بما جهل اورده عن الخطأ في الاعتقاد فتحقق من هذا انه لا تتحقق فائدة في ذلك الأخبار الا مع علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من جماعة من اصحابه اتهامه بالمحاباة لقرابته عمدا منهم او جهلا ليكون نفيه المحاباة عن نفسه تكذيبا للمتعمد ورفعا لجهل الجاهل وازالة لتجويز المجوز فتحصل فائدة تامة فيظهر من البيان ان نسبة جماعة من الصحابة الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) محاباة القرابة واقعة فمن العجب قول بعض الخصوم (١) (ان الصحابة لو سمعوا من رسول الله (عليه‌السلام) نصا ما عدلوا عنه) لأن من يتهمه كيف تبعد منه مخالفته ، وقول بعضهم ما حاصله «ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص ولو أوصى ما تأمر ابو بكر على وصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان أبا بكر ود أنه سمع من رسول الله كلمة فتكون في انفه خزمه» وقول القوشجي محصوله : انه لا يظن ذو مسكة ان الصحابة سمعوا

__________________

(١) يريد ببعض الخصوم ابن ابي الحديد.

النصوص الجلية على علي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخالفوها ، واستبعاد عبد الحميد المعتزلي صدور ذلك من الصحابة كما لم يصدر منهم تغيير القبلة والصوم الى آخر لغطهم فان هذا الحديث الصحيح عندهم يبطل دعاويهم ويذهب خرافاتهم ، ومثله ما رواه المعتزلي وغيره عن علي (عليه‌السلام) من قوله : (انه لعهد النبي الأمي الى ان الأمة ستغدر بك من بعدي) (١) ويشير الى ذلك أيضا ما قدمنا من حديث ابي نعيم في لفظ الامام ، وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه مخبرا عن الله في حق علي (غير اني مختصه بشيء من البلاء لم اختص به احدا من اوليائي ـ الى قوله ـ إنه لمبتلى ومبتلى به) ، والا فأي نص وأي وصية اوضح واصرح من هذه الأقوال المؤكدة والألفاظ الصريحة والكلمات الظاهرة؟ مثل : (ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا وليقتد بالأئمة من بعدي فليوال عليا من بعدي (٢)) ، مع تأكيد الجميع ببشارة المحبين وتوعد الغاصبين بما هو مذكور في تلك الأخبار وهل فوق هذا في الوصية والنص مزيد؟ والحمد لله الحميد.

ومن ذلك قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحديث المشهور وقد رواه ابن ابي الحديد : (إنا مدينة العلم وعلى بابها فمن اراد الحكمة فليأتها من بابها) (٣) وهو صريح في أن من أراد علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فليأخذه عن علي (عليه‌السلام) فالتمسك به لازم لأنه باب العلم الذي يجب على الناس اخذه والعمل به لقوله تعالى : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٥.

(٢) رواه جماعة من المحدثين منهم الحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٦ وص ١٢٧ وابن حجر في الصواعق ص ٧٣ وقال : «اخرجه البزار والطبراني والحاكم والعقيلي وابن عدي والترمذي» ومثله في فتح القدير للمناوي ٣ / ٤٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٨. بلفظ «فليأت الباب».

فَخُذُوهُ) (١) فثبت منه وجوب التمسك بعلي لمن اراد علم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومن لم يرده فهو كافر مرتاب وفاجر كذاب.

من ذلك ما رواه ابن ابي الحديد من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي خازن علمي) قال : وقال فيه تارة اخرى (عيبة علمي) اقول : وهما مشهوران أيضا (٢) واستفادة التمسك منهما بعلي (عليه‌السلام) بتقريب ما ذكرناه في حديث (انا مدينة العلم).

وروى ابن أبي الحديد عن ابي نعيم في الحلية واحمد بن حنبل في المسند عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (يا علي ان الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة احب إليه منها هي زينة الابرار عند الله تعالى الزهد في الدنيا جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا ولا ترزأ (٣) منك شيئا ووهب لك حب المساكين فجعلك ترضى بهم اتباعا ويرضون بك إماما فطوبى لمن احبك وصدق فيك وويل لمن ابغضك وكذب فيك) (٤) والمتابعة له هي التمسك به وهي زينة الأبرار التي ذكرها النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نسأل الله ان يجعلنا من اولئك المساكين الذين رضيهم امير المؤمنين (عليه‌السلام) له اتباعا وبه متمسكين ثم ان الخبر مصرح بالامامة فهو من المعاضد للأخبار التي ذكرت في مقامها ومن ذلك حديث الحافظ عن انس وقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (انه راية الهدى ومنار الايمان)

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٥ وقال المناوي في فتح القدير ٤ / ٣٥٦ : (علي عيبة علمي) أي مظنّة استفصاحي وخاصتي وموضع سري ومعدن نفائسي والعيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه.

(٣) رزأ : أخذ.

(٤) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٧.

وقد ذكرناه ومن المعلوم أن راية الهدى يجب اتباعها ، ومنار الايمان يجب الاقتباس منه والاقتداء به ، وذلك معنى التمسك بلا ريب.

ومن ذلك الحديث المتواتر في الجملة وهو حديث الثقلين وقد صححه ابن ابي الحديد (١) وهو مروي باسانيد كثيرة والفاظ مختلفة بالزيادة والنقصان فمنها (اني مخلف فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي) ومنها (اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي كتاب الله الثقل الأكبر وعترتي الثقل الأصغر فتمسكوا بهما فان اللطيف الخبير اخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) (٢) وغير ذلك من الألفاظ والأسانيد وعلى كل حال فهو نص صريح في وجوب التمسك بالعترة الذين امير المؤمنين (عليه‌السلام) سيدهم وحاث على لزوم متابعتهم ، ومصرح بان قولهم قول القرآن فالمخالف لهم مخالف للقرآن على عمد فهو فاسق ظالم فالخبر ناص على إمامة العترة المحمدية بلا شك لأن واجب المتابعة على الاطلاق هو الامام لا غيره من الأمة ، وعترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هم الذي دعاهم للمباهلة يوم نصارى نجران وقال فيهم ذلك اليوم (اللهم هؤلاء اهل بيتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) كما هو مشهور عند المفسرين (٣) ومعلوم عند المحدثين ولا شك ان المخاطبين بالتمسك بالثقلين بالمشافهة هم الصحابة فهم مأمورون باتباع الكتاب والعترة وبه يبطل ما ادعا خصومنا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (اصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) (٤) للتناقض

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧٠.

(٢) قد مر حديث الثقلين ومن أيضا مستدرك الحاكم ٣ / ١٠٩ و ١٤٨. سنن الترمذي ٢ / ٣٨ ، مسند أحمد ٣ / ١٧ و ٥ / ١٨١ وفي مواضع أخرى.

(٣) ممن رواه من المفسرين الطبري ج ٢٢ ص ٥ عن علي وأمّ سلمة وانس وابي هريرة وأبي الحمراء وسعد وغيرهم.

(٤) هذا الحديث في مقابلة ما روي عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (الأئمة من اهل

الظاهر لكل ذي فهم الا ان يحمل على إرادة العترة من لفظ الأصحاب كما قال امير المؤمنين في بعض خطب النهج مخبرا عن وبينه (نحن الشعار والأصحاب والخزنة والأبواب) الخطبة (١) وهو موافق لما روى من طريقنا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فسر الأصحاب الذين هم كالنجوم اذ سئل عنهم باهل بيته وعترته ، فما أدرى أهل السقيفة اذ قالوا ما قالوا وفعلوا ما فعلوا بالثقلين تمسكوا أم بآرائهم اخذوا وما بعد عبادان قرية فليجبنا ابن ابي الحديد بحق لا بما يختار ويريد ، مما يربى على كلام المبرسمين (٢) سماجة ويزيد فان مثل ذلك مما لا ينفع عند الخصام ولا يقنع به في الحجة ذوو الأفهام.

وروى ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن

__________________

بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) رواه القاضي في دعائم الإسلام ورواه غيره بتفاوت في بعض الحروف واتفاق في المعنى والواقع يمنع ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأمر بالاقتداء بأي كان ممن يطلق عليه اسم الصحبة لأن الصحابة اختلفوا في كثير من الأمور ، ورد بعضهم على بعض ، وطعن بعضهم ببعض بل وقاتل بعضهم بعضا والعقل يمنع ان يكون علي وصحبه ومعاوية وحزبه كلهم على هدى وبأيهم يجوز الاقتداء ، ثم هل يجوز لمسلم ان يقتدي بمعاوية وعمرو بن العاص بسب علي في إعقاب الفرائض وعلى صهوات المنابر أو يقتدي ببسر بن أرطاة ـ وقد عد من الصحابة ـ وقد سفك دماء المسلمين وخرّب ديارهم ولم يتورع عن ذبح الأطفال بيده فيكون على هدى ، وهل يجوز الاقتداء بابي محجن الثقفي في شرب الخمر وهل وهل وهلم جرا!! ثم هل يصح معنى هذا الحديث فيخاطب النبي اصحابه فيقول يا اصحابي اقتدوا بأصحابي.

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٥٢.

(٢) البرسام : ذات الجنب وهو التهاب يصيب الغشاء المحيط بالرئة ، قال ابن منظور في لسان العرب ٢ / ٤٦ في (برسم) : «وكأنه معرب ، بر وهو الصدر وسام من اسماء الموت).

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خطب الناس يوم جمعة فقال : (ايها الناس قدموا قريشا ولا تقدموها ـ الى ان قال ـ ايها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن ابي طالب) (١) الخبر والمحبة تستلزم المتابعة كما ذكرنا من قبل بل اذا كانت مأمورا بها كما هنا كانت هي نفس المتابعة لا غير ، وسيأتي ما يوضح هذا المقام باتم إيضاح فدلالة الخبر على وجوب التمسك بعلي (عليه‌السلام) ظاهرة غاية الظهور ، فهو الامام الواجب اتباعه بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والا فلا فائدة في التمسك به اذا كان المتبوع في الأمر والنهي غيره بل لا تمسك به على هذا بالمرة وانما المتمسك به ذلك المطاع المتبع وهو غيره على قول الخصوم وهو (عليه‌السلام) مأمور عندهم باتباع ذلك الغير فاين اذن وجوب التمسك بامير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي صرحت به اخبارهم ونصت عليه رواياتهم الصحيحة مما ذكرناه هنا وغيره؟ فلازمهم اما رد الأخبار وتكذيبها ولا سبيل لهم الى ذلك ، او الإقرار بانها نص في إمامة علي (عليه‌السلام) من بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبطلان إمامة غيره؟ وهو المراد والتأويلات الفاسدة مردودة مع انها في المقام مفقودة.

واما ما ورد بلفظ الولي : فمن القرآن قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢) وهي عند المفسرين نازلة في امير المؤمنين (عليه‌السلام) حين تصدق في ركوعه بخاتمة على السائل ، ورووا ذلك عن ابي ذر (رضي الله عنه) وعن عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) ورواه عنه المحدثون من الخصوم أيضا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ قيل هو الجدري.

(٢) المائدة : ٥٥.

وصححوه (١) وبالجملة فالاتفاق حاصل عليه ، والولي هنا هو الأولى بالتصرف لقول الله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وجملة (وَهُمْ راكِعُونَ) حال من ضمير (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) اي يؤتون الزكاة في حال ركوعهم واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الأولى بالناس بولاية الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم كان هو الامام اذ لا ولاية كذلك لغير الامام ولا ولاية لغير علي (عليه‌السلام) من الصحابة للحصر ب «انما» فالآية نص في إمامة علي (عليه‌السلام) وفي نفي إمامة غيره بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومتى قيل : كيف جعل لفظ الجمع موضع المفرد وما الفائدة في ذلك اذا كان المراد الواحد دون الجمع؟ قلنا : وضع الجمع موضع المفرد وارد في كلام العرب على كثرة اذا قصدوا تعظيم ذلك الواحد وتفخيم شأنه ، وفي القرآن الكريم من ذلك الكثير قال الله تعالى : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (٢) وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) (٣) والاستدلال على هذا المطلب مما لا حاجة إليه لوضوحه وحمل الولاية في الآية على ما لا يرجع الى فرض الطاعة والامامة مثل المعونة والنصرة كما قاله القوشجي وقبيله والمعتزلي واصحابه فاسد ، لأنه يستلزم ان لا معين ولا ناصر للمؤمنين الا الله تعالى والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (عليه‌السلام) لدلالة الحصر بانما على ذلك كما ذكرنا فيجب ألا يكون بعض المؤمنين ناصرا ومعينا لبعض ، وهو خلاف نص الله تعالى بقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٤) وما يخالف كتاب الله باطل مردود ،

__________________

(١) انظر تفسير الطبري واحكام القرآن للجصاص ٢ / ٤٤٦ وتفسير الرازي ١٢ / ٢٦. والكشاف للزمخشري ٢ / ٤٤٢ الخ.

(٢) الداريات : ٢٧.

(٣) النحل : ١٢٠.

(٤) التوبة : ٧١.

على أنه يلزم على قوله ان لا يكون المتقدمون علي (عليه‌السلام) من أعوان المؤمنين وانصارهم لا في زمان النبي (ص) ولا بعده فلا يجوز جعلهم ائمة لأن الامام ناصر المؤمنين وهم انصاره فيجب ان يكون علي (عليه‌السلام) هو الامام بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لثبوت نصرة المؤمنين له مطلقا بالآية وهذا لا يرضى به القوشجي وحزبه ، فما ارتكبه من التأويل الفاسد لدفع حجتنا كان لقولنا محققا ولمذهبه مبطلا وهو يقدر بجهله انه ازال بتأويله استنادنا الى الآية في اثبات إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) وهو ما زادنا الا تقوية وانتصارا باخراجه ائمته من ولاية المؤمنين وحمل وهم راكعون على العطف والاستيناف دون الحال كما ارتكبه هو أيضا واشباهه فلا تكون الآية خاصة بعلي (عليه‌السلام) مع ما فيه من المخالفة لقول المفسرين منهم والمحدثين من اختصاص الآية بعلي (عليه‌السلام) كمجاهد (١) والسدى (٢) وعطا (١) والثعلبي (٤) وابي بكر الرازي (٥)

__________________

(٢) السدي : ـ بضم السين المهملة وتشديد الدال المهملة ، نسبة الى سدة مسجد الكوفة وهو ما تبقى من الطاق المسدود ، وهذا اللقب يطلق على رجلين من المفسرين ، الأول : أبو محمد اسماعيل الكوفي المتوفى في حدود سنة ١٢٨ وهو المراد هنا ، والثاني : حفيده محمد بن مروان بن عبد الله بن اسماعيل المذكور ويفرق بينهما بالسدي الكبير والمراد به الجد والسدي الصغير ويراد به الحفيد.

(١) مجاهد وعطا من اكابر المفسرين يراجع في معرفتهما مقدمة مجمع البيان للسيد الأمين رحمه‌الله وطبقات المفسرين.

(٤) الثعلبي ابو إسحاق احمد بن محمد بن ابراهيم صاحب التفسير المشهور وهو صاحب كتاب العرائس في قصص الأنبياء توفي سنة ٤٢٧ أو ٤٣٧.

(٥) قوله : «ابو بكر الرازي» من سهو القلم فان هذه الكنية للطبيب المشهور والمقصود ابو عبد الله محمد بن عمر الرازي المتوفي سنة ٦٠٦ ، الملقب بفخر الدين ، صاحب التفسير الكبير المعروف المسمى «مفاتيح الغيب» الذي مات قبل إكماله فأكمله كل من نجم الدين القمولي المتوفى سنة ٧٢٧ ، وشهاب الدين الخوبي الشافعي المتوفي سنة ٦٣٧.

والرماني (١) والطبري (٢) وغيرهم مستلزم لعطف الجملة الاسمية المحضة على الجملة الفعلية المحضة وذلك مرغوب عنه في العربية ومرجوح عند اهل اللغة فلا يحمل عليه القرآن الكريم الذي هو في أعلى طبقات البلاغة وأيضا مستلزم للتكرير الغير المفيد لأن قوله عزوجل (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) دخل فيه الركوع فذكره ثانيا تكرير غير مفيد فيكون مرجوحا يصان عنه الكتاب العزيز ، وجعل الجملة المذكورة حالا مفيد فائدة قريبة فالحمل عليه اولى ، بل هو الواجب والاستئناف ممتنع لتلبس الجملة بضمير الذين يؤتون الزكاة ولأنه لم يبق لها معنى محصل اذا قطعت عن ما قبلها ومع هذا كله ان قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) خطاب للمؤمنين كافة والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) داخل فيهم قطعا لأن الله وليه وقوله : (وَرَسُولُهُ) خارج من الخطاب وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) لا بد فيه من احد وجهين اما ان يكون اخراجا لواحد خاص فقدتم المعنى وثبت ان ذلك الواحد هو الولي الذي تجب طاعته بطاعة الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا قائل من العلماء على تقدير اختصاص الآية وكون الولاية فيها بمعنى فرض الطاعة بان المعنى بها غير علي (عليه‌السلام) فتثبت إمامته بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ضرورة ـ واما ان يكون اخراجا لكل المؤمنين الذين يصلون ويزكون ويركعون كما هو مقتضى قول الخصم فحينئذ لم يبق مخاطب بالآية وكان المضاف هو عين المضاف إليه وكان كل مؤمن هو ولي نفسه وهو محال لأن الخطاب بالآية غير مرتفع بالاتفاق ، والواجب في ذلك ان يكون من جعلت له الولاية غير المخاطبين بالآية الذين جعلت عليهم الولاية حتى يكون ولي ومولّى عليه وليس على تأويل الخصم الا الولي خاصّة ، فالخطاب اذن قد

__________________

٣ أو ٣٨٤.

(١) الرماني : نسبة الى قصر الرمان في واسط هو ابو الحسن علي بن عيسى الواسطي توفي سنة.

(٢) الطبري : ابو جعفر محمد بن جرير المؤرخ والمفسر المشهور توفي سنة ٣١٠.

ارتفع وهو باطل بدون تأمل فبطل ما تأولوه من التأويلات الركيكة وانزاح ما تمحلوه من التمحلات الممتنعة وتبين ان الآية نص في إمامة امير المؤمنين بلا ريب.

ومن السنة خبر الغدير الذي ملأ الأسماع وطبق البقاع وذكر في اسعاف الراغبين (١) انه مروي عن ثلاثين رجلا من الصحابة وذكر غيره ان طرق هذا الحديث تزيد على مائة طريق روى احمد بن حنبل في مسنده عن البراء بن عازب (رضي الله عنه) قال «كنا مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في سفر فنزلنا بغدير خم فنودي فينا الصلاة جامعة وكسح لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تحت شجرتين فصلى الظهر واخذ بيد علي (عليه‌السلام) فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم ، قالوا : بلى ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم فوال من والاه وعاد من عاداه) ، فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك فقال له هنيئا لك يا بن ابي طالب اصبحت وامسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (٢) ورواه احمد بن الحسين البيهقي بهذا اللفظ أيضا مرفوعا الى البراء بن عازب (٣) في حديث الزهري في ذكر خطبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بغدير خم ثم قال يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ايها الناس من اولى الناس بالمؤمنين) قالوا الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى بالمؤمنين ، يقول ذلك ثلاث مرات ثم قال في الرابعة واخذ بيد علي (عليه‌السلام) (اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) يقولها ثلاث مرات (الا فليبلغ الشاهد منكم الغائب).

__________________

(١) ص ١٥٢ وفيه : «رواه ثلاثون صحابيا» وقال بعد ذلك : «وكثير من طرقه صحيح أو حسن».

(٢) مسند الامام احمد ٤ / ٢٨١ وليس فيه «اللهم» الأولى.

(٣) نقله ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص ٢٥ عن البيهقي.

وفي رواية الحافظ ابو الفتوح اسعد بن ابي الفضائل بن خلف في كتابه الموجز بسنده عن حذيفة بن اسيد الغفاري وعامر بن ابي ليلى بن ضمرة في ذكر الخطبة أيضا ثم قال يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (يا ايها الناس الا تسمعون الا فان الله مولاي ، وانا اولى بكم من انفسكم الا ومن كنت مولاه فعلي مولاه) (١) واخذ بيد علي (عليه‌السلام) فرفعها حتى نظرها القوم ثم قال : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (٢) وبعض المحدثين رواه مختصرا بدون المقدمة المذكورة وهي قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ألستم تعلمون اني اولى بالمؤمنين من انفسهم) اما اختصارا او تدليسا أو استغناء بما بعدها في افادة المراد لا لأنها غير موجودة في اصل كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقدح القوشجي في دلالة الخبر على المقصود بان اكثر من رواه لم يرو المقدمة المذكورة معه مقدوح أولا بوجودها في قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برواية جملة من اكابر المحدثين كما سمعت فلا سبيل الى انكارها وثانيا بان الباقي كاف في الدلالة على المطلب لو لم تكن مذكورة قبله في اصل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخطبته وهذا الخبر مما احتج به امير المؤمنين (عليه‌السلام) على اهل الشورى في جملة ما احتج به على اولويته بالامامة فما انكره من القوم منكر ولا قدح فيه قادح ، وقد صحح ذلك المعتزلي واعترف به القوشجي (٣) فقول بعض الخصوم ان الخبر غير متواتر

__________________

(١) نقل الحديث بطوله في الفصول المهمة ص ٢٤ عن الترمذي والزهري عن زيد بن أرقم وفيه ما نقل في المتن بحروفه.

(٢) رواه ابن الأثير في اسد الغابة ٣ / ٩٢ ونقله ابن الصباغ في الفصول عن الموجز لابن أبي الفضائل كما في المتن ، ورواه ابن حجر في الاصابة ٢ / ٢٥٧ عن كتاب الموالاة لابن عقدة عن عامر وحذيفة.

(٣) القوشجي علاء الدين علي بن محمد توفي سنة ٨٧٩ وفيه ذكر حديث الغدير مسلما بصحته ولكنه ناقش في دلالته على الامامة.

تعصب محض وعناد صرف ومن هذا شأنه فهو ملئ بالجهالات ودفع الضرورات فلا يلتفت إليه.

وروى ابن ابي الحديد هذا الخبر في مواضع كثيرة من كتابه قال في موضع «وروى عثمان بن سعيد عن شريك بن عبد الله (١) قال لما بلغ عليا (عليه‌السلام) ان الناس يتهمونه فيما يذكره من تقديم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اياه وتفضيله على الناس ، قال : انشد الله من بقي ممن لقى رسول الله وسمع مقاله في يوم غدير خم الا قام فشهد بما سمع ، فقام ستة ممن عن يمينه من اصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وستة ممن عن شماله من الصحابة أيضا فشهدوا انهم سمعوا رسول الله يقول ذلك اليوم وهو رافع بيد علي : (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله واحب من احبه وابغض من ابغضه) (٢) وذكر قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيث دار) في موضع آخر مفردا (٣)

والمولى هنا يراد به الأولى والأحق بالأمر مثله. في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٤) وقوله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (٥) لأنه في الشرط مراد به ذلك لثبوته للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالكتاب في قوله عزوجل : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٦) الآية والجزاء على منوال الشرط وارد

__________________

(١) يعني القاضي المتوفي ١٧٧.

(٢) شرح النهج ٢ / ٢٢٨.

(٣) في ج / ٢ ص ٢٩٧ من الشرح المذكور.

(٤) الحديد / ١٥.

(٥) النساء / ٣٣.

(٦) الأحزاب / ٦.

فيراد به ما يراد بشرطه فثبت ان عليا (عليه‌السلام) هو الأولى بالأمر والأحق به ، فيكون هو الامام بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لدخول من سواه في ولايته بواسطة دخولهم في ولاية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يصلح احد منهم للتقدم عليه في امر من الأمور ، كما لا يصلح لهم التقدم على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا يجوز حمل المولى في الخبر على غير الأولى بالأمر من معانيه لامتناع المعتق والمعتق للفاعل والمفعول وشبههما يقينا واتفاقا ، وخروج الناصر والمعين وما آل إليهما بالقرنية اللفظية والعقلية ، اما اللفظية فقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قبل ذلك : (انا اولى بكم من انفسكم) فانها تعين ان المراد من قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) من كنت اولى به من نفسه فعلي اولى به من نفسه ، والا فلا فائدة في هذا الكلام في المحل ولا حاجة الى اخذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اعتراف القوم به ثلاث مرات ، كما في حديث الزهري ، ومرة واحدة كما في غيره ، فتكون لغوا ولا يجوز ان يكون كذلك كلام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فتكون لما ذكرناه من إرادة رفع الاشتراك عن لفظ المولى وتعيين معنى الأولى منه ، واما العقلية فلأن مقتضى المقام ذلك لأن جميع الناس واخبارهم في ذلك الوقت الشديد الحر لا ينصرف ذهنا ولا يحتمل عقلا لأن يكون اخبارا بما كان معلوما قبل ذلك للمخبرين ، بل ينصرف عقلا الى الاخبار بامر غير معلوم لهم سابقا ، ليكون تأسيسا لحكم وكون علي (عليه‌السلام) ناصرا ومعينا لمن كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وليه امر معلوم لكل الحاضرين ، فالاخبار به قليل الفائدة ، بل لا فائدة فيه وهل هو الا تحصيل حاصل يصان فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن مثله ، فلا بد ان يكون الاخبار عن ما ليس بمعلوم للمخاطبين ليعلموه وما هو الا اثبات ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على المؤمنين لعلي (عليه‌السلام) والمشترك يرتفع اشتراكه بالقرينة المعينة لإرادة احد معانيه

منه ، وهي هنا موجودة على ما نقول كما ترى ، فتعين ان المراد بلفظ مولى في الخبر الأولى بالتصرف ، وبه يثبت المطلوب.

وبالجملة ان هذا الخبر نص صريح على امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالامامة يقينا لا ينبغي للخصوم الشك فيه ، ولا التشكيك ، لو لا ما ارتكبوه فيه من التأويلات البعيدة الباردة التي يحكم الذوق المستقيم باستحالتها للشبهة التي اتخذوها حقا والبدعة التي جعلوها سنة ، وكيف يصح ان يريد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هنا بالمولى الناصر والمعين وابن العم والحليف كما قالوه ، فيكون (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد قام في حر الظهيرة وجمع الناس في سعير الهاجرة يخبرهم عن شيء علموه أولا على لسانه من القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) وغيرها (١) من الآيات الكثيرة وعرفوه من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مرات متعددة ، وتيقنوه من دون خبر اذ لا يجهل احد ان عليا ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان من كان ابن عم احدهما فهو ابن عم الآخر والحليف كذلك وينبئهم عن علي (عليه‌السلام) بشيء لا يختص دون المؤمنين كافة ، ولا دون سائر بني هاشم في ذلك المقام الوعر ، وهذا لو فعله سائر الناس أو صدر من بعض عامتهم لنسبه العقلاء الى ضعف العقل ، وطعن فيه اهل الروية بقلة الرأي ، فكيف يصدر مثله عمن لا ينطق عن الهوى إن هو الا وحي يوحى ، فيجب ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انما اخبرهم في ذلك المشهد بشيء من الولاية يختص به علي (عليه‌السلام) دون سائر المؤمنين ودون باقي بني هاشم ، وما هو الا انه ولي بولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على المؤمنين واولى بالتصرف فيهم من انفسهم باليقين ، فيكون هو الامام لا معنى للمولى هنا الا

__________________

(١) التوبة ٧١.

هذا كما ذكرنا ، ولا يشك في هذا الا من خالطت العصبية لحمه ودمه ، واعرض عن التأمل في دلالات الكلام والنظر في مقتضيات الأحوال فحاد عن قبول الحق ، واعتمد على ما الفه من زخارف الاسلاف ، اهل العصبية والاعتساف ، واما من وقف عند النص وتأمل مقتضى الحال ، وترك التعلل بالشبهات الواهية ، فانه لا يرتاب في ان الخبر نص واضح على امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالامامة العامة ، ولذا قال ابو الهيثم فيما ذكرنا من شعره.

ان الوصي إمامنا وولينا … البيت.

يريد اولى بنا كما لا يخفى على المتأمل في كلامه.

وروي ابن ابي الحديد عن ابراهيم بن ديزيل (١) في كتاب صفين ، قال حدّثنا يحيى بن سليمان ، قال حدّثنا ابن فضيل ، قال حدّثنا الحسن بن الحكم النخعي ، عن رياح بن الحارث النخعي ، قال : كنت جالسا عند علي (عليه‌السلام) اذ قدم عليه قوم متلثمون فقالوا السلام عليك يا مولانا ، فقال لهم : (ا ولستم قوما عربا) قالوا بلى ولكنا سمعنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول يوم غدير خم (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فقال : لقد رأيت عليا ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال اشهدوا ثم ان القوم مضوا الى رحالهم فتبعتهم ، فقلت لرجل منهم ، من القوم؟ قال : نحن رهط من الأنصار وذاك يعنون ـ رجلا منهم ـ ابو أيوب صاحب منزل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصافحته (٢) وهذا الخبر ظاهر اي الظهور في ان القوم

__________________

(١) ابراهيم بن الحسين الكسائي الهمداني ابو اسحاق المعروف بابن ديزيل توفي ٢٨٠ ، أو ٢٨١. قال الذهبي في تذكرة الحفاظ ٢ / ٢٨١ ، قال الحاكم : ثقة مأمون ، له كتاب صفين ، قال عنه ابن كثير في البداية والنهاية ١١ / ٧١ «انه بجلد كبير» ، وينقل عنه ابن ابي الحديد كثيرا.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٨ ويعرف هذا الحديث بحديث الركبان وقد رواه ابن الأثير في

فهموا من لفظ المولى في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إرادة الأمير الذي هو الامام فسلموا على علي بالموالاة بدل الامارة لأنها عندهم بمعناها فمرادهم بمولانا اميرنا ولو كان مرادهم المعونة والنصرة لم يكونوا سلموا عليه بالإمرة لكنهم قصدوا من اللفظ المذكور التسليم عليه بها ، ولو لا ذلك لما كان لضحك علي (عليه‌السلام) واستبشاره باستدلالهم على ذلك بالحديث معنى ولا لقوله لأصحابه اشهدوا فائدة لأنهم لا يشكون قبل ذلك في انه من المؤمنين الذين صرح القرآن بان بعضهم معين بعض وناصره بل لا يشكون في انه سيد المؤمنين وامامهم في ذلك الوقت ، ثم ان راوي الحديث يفهم منه انه فهم من قصد الأنصار الولاية العامة لا المعونة والنصرة فتأمل.

قال ابن ابي الحديد وقال ابو بكر : وحدثني علي بن سليمان النوفلي قال سمعت ابي يقول : ذكر سعد بن عبادة يوما عليا (عليه‌السلام) بعد يوم السقيفة فذكر امرا من امره نسيه ابو الحسن يوجب ولايته فقال ابنه قيس بن سعد انت سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول هذا في علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) ثم تطلب الخلافة ويقول اصحابك : منا امير ومنكم امير؟ لا كلمتك والله من رأسي بعدها كلمة ابدا (١) انتهى.

فهذا كما ترى دال على ان من طلب الخلافة بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من القوم ليس لعدم علمه بنص الغدير بولاية امير المؤمنين (عليه‌السلام) ولا لأن هذا اللفظ لا يوجب له الامامة ولكن كان ذلك منهم حبا للرئاسة وطلبا للإمرة وتعمدا لمخالفة نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك الغرض ولذا انكر قيس على ابيه طلب الخلافة بعد سماع

__________________

اسد الغابة ١ / ٣٦٨ عن الموالاة لابن عقدة كما نقله عن ابن عقدة أيضا ابن حجر في الاصابة ١ / ٣٠٥.

(١) شرح لنهج البلاغة ٦ / ٤٤.

ذلك ، وقال : ما سمعت ولو لا علمه بان الولاية لعلي (عليه‌السلام) في قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يراد بها الامامة والامارة دون المعونة والنصرة ، وعلمه بان اباه يعلم ذلك لما كان يتوجه له الانكار على ابيه بوجه من الوجوه ولا صح له ان يتبرأ من مكالمته بحال من الأحوال ، ولو لا ان سعدا فهم من الولاية ما فهمه ابنه منها لاعتذر إليه عن فعله ودفع عنه انكاره بما يعتذر به خصومنا اليوم من حمل الولاية على المعونة والنصرة ، واقول : سقيا لربع قيس في صدعه بالحق وعدم التفاته في القول به الى القرابة وانكاره الباطل حتى على ابيه مع كونه سيد الانصار ، وهذه قاعدة طالب الحق المنصف وطريقته لا يعاند اذا ظهر له الحق ولا يعدل عنه ويتعلل فيه لرضى القرابة والعشيرة والشيوخ والأسلاف وحب الرئاسة والجاه ، وقد وضح من جملة ما حررناه ان الأنصار ومن سمع الخبر من منصفي التابعين قد عرفوا وحكموا ان مراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من كنت مولاه فعلي مولاه) الأولوية بالأمر وهي الامارة العامة والامامة الكبرى والخلافة العظمى لا معنى غيرها مما يذكره الخصوم ، افترى خفي على المهاجرين مثل ابي بكر وعمر وعثمان وابي عبيدة وعبد الرحمن واضرابهم مع شدة ملازمتهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقوة فهمهم وعلمهم على ما يدعى الخصم ما كان ظاهر للانصار ظهور الشمس في رابعة النهار؟ أم تعمدوا مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) طلبا للرئاسة وكتموا نص الرسول (عليه‌السلام) على علي (عليه‌السلام) طمعا في الامارة كما فعل سعد بن عبادة عند طلبه ذلك فلما فاته الأمر اظهر ما اخفاه وابرز ما كتمه؟ فانظر ما قلناه بعين التبصر والإنصاف فانك لا تشك بعده في صحة ما نذهب إليه ، ومما يعين ما قلناه مضافا الى ما ذكرناه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر الخبر (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) فان المراد من موالاة الله موالي علي (عليه‌السلام) هدايته واثابته اياه ، ومن

معاداته معادى علي (عليه‌السلام) اضلاله ومعاقبته ، والمراد من موالاة علي (عليه‌السلام) متابعته والاقتداء به ، ومن معاداته مخالفته والعدول عنه الى غيره لا النصرة والحلف في الموضعين ، ولا الخذلان والمحاربة في المقامين ، لأنه لو كان المراد ذلك لكان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده (وانصر من نصره واخذل من خذله) تكريرا عديم الفائدة ، ولا يجوز حمل كلام النبي المطهر على ذلك ، واذا استوضحت جهة استدلالنا بالخبر الشريف على قولنا وعرفت صراحته في مذهبنا فاعلم ان الذي حاوله المخالفون فيه وزعموا انه ناقص لدلالته على ما ندعيه ومخرج له عن الحجية على ما نبتغيه وجوه أربعة.

الأول : منع تواتره لأنه لم يروه البخاري ومسلم والواقدي كما قاله القوشجي وغيره منهم فلا يكون حجة في المقام يعارض به الاجماع ، وهذا الوجه وما بعده من الوجوه التي يتعللون بها في دفع الحق الواضح قد اشتمل بياننا على تزييفها وابطالها على اوضح وجه ، ولكنا هنا نذكرها مفصلة ونردف كل وجه بما يبين فساده ويوضح بطلانه.

فنقول في الجواب عن هذا ان الداعي لمن ذهب من الخصوم الى منع تواتر الخبر المذكور هو الشبهة الحاصلة من تقدم الثلاثة على علي (عليه‌السلام) وتركهم واصحابهم العمل به واستبعاد مخالفتهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما كان معلوما وكل ذلك مردود أمّا تقدم الثلاثة فلا يكون معارضا للخبر حتى يثبت انه واقع على وجه شرعي وهذا هو موضع النزاع والخبر لا نزاع في صحته وان نوزع في تواتره فيكون اقوى من صحة تقدمهم والاستبعاد ليس بدليل حتى يعارض به الأدلة لا سيما ومخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من القوم واقعة في حياته وبعد وفاته ، وسيأتيك توضيحه في موضعه ، فما هو بمقتض عدم تواتر الخبر في نفسه لأن شرط

التواتر وهو كونه خبر جماعة يفيد بنفسه القطع موجود فيه لكثرة طرقه واقرار الصحابة به من موافقي علي ومخالفيه كما علمت ، وترك البخاري وصاحبيه روايته لا يدل على عدم تواتره مع رواية من سواهم من المحدثين واهل السيرة له ، وكم من حديث متواتر لم يذكره البخاري وصاحباه خصوصا اذا كان حجة عليهم ، ومتى قال مخالفونا ان تخلف علي ومن معه وسعد بن عبادة ومن اتبعه عن ابي بكر وانكارهم بيعة غير قادح في الاجماع على إمامته فلا ينبغي لهم ان يقدحوا في الاجماع على الخبر المذكور بترك البخاري وصاحبيه روايته مع عدم تصريحهم بانكاره ، فالاعتراض في الخبر من هذا الوجه مندفع.

الثاني (١) : عدم تعيين المولى فيه بمعنى الأولى واحتمال كونه لغيره من المعاني كالناصر والحليف ، وزاد الصبان الشافعي في كتابه اسعاف الراغبين (٢) على ذلك انه لم يعهد كون المولى بمعنى الأولى لا شرعا وهو واضح ، ولا لغة اذ لم يذكر احد من ائمة العربية ان مفعلا بمعنى افعل والجواب عنه ان نقول لهم : انكم حكمتم على لفظ مولى في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٣) وفي قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ايما امرأة نكحت بدون اذن مولاها) (٤) انه بمعنى الأولى ومالك الأمر للقرينة الحالية والمقالية ونفيتم عنه ما سوى ذلك من معانيه ولازم ذلك الحكم على مولى في الخبر بانه بمعنى الأولى بالمؤمنين لوجود القرينتين الحالية والمقالية على ارادته منه ونفى ما سواه من المعاني كما ذكرنا أولا وهما دليلان يجب العمل بهما في المقام كما

__________________

(١) من الوجوه على عدم دلالة حديث الولاية على الامامة كما يرى خصوم الشيعة.

(٢) ص ١٥٣.

(٣) الحديد من الآية (١٥).

(٤) استشهد في تاج العروس ١٠ / ٣٩٩ بالآية المتقدمة ، وهذا الحديث ، وحديث «من كنت مولاه» بأنّ الولي ، والمولى معناهما واحد.

اوجبتم العمل بهما في غيره وترك العمل بالدليل للتشهي غير جائز شرعا.

واما الجواب عن زيادة الصبان وهذره فبان مولى قد عهد كونه بمعنى الأولى شرعا وعرفا ولغة فاما في الشرع فالرواية المتقدمة تشهد به فقد جمع اصحابه وغيرهم على لفظ مولى فيها بمعنى الأولى شرعا ، ومثله في الآيات كثير قال الله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (١) أي اولى بالميراث وقال تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) (٢) الى الأولى بميراثه من غيرهم ، وكل هذا مما لا نزاع فيه ، واما في اللغة فبوجوه.

الأول : ان أبا عبيدة معمر بن المثنى وهو امام نقلة اللغة العربية قد ذكر : ان مولى بمعنى الأولى ونص عليه وحمل عليه لفظ موالي في الآية المذكورة (٣).

وقال ابو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه المترجم بالعبارة في صفات الله : اصل تأويل الولي الذي هو اولى اي احق ومثله المولى ، وقال بعد تأويل ذلك بان الله هو مولى الذين آمنوا والولي والمولى معناهما سواء وهو الحقيق بخلقه المتولي لأمورهم ، وقال في كتاب معاني القرآن : «الولي والمولى في كلام العرب واحد» (٤) ، وقال : ابو بكر محمد بن القاسم الأنباري في كتابه المعروف بالمشكل «المولى الولي والمولى الأولى بالشيء» وذكره أيضا غيرهم

__________________

(١) النساء / ٣٣.

(٢) مريم / ٥.

(٣) المجاز لأبي عبيدة ٢ / ٢٥٤ ، واستشهد ببيت لبيد الآتي ، ونقله عنه الرازي في تفسيره ٢٩ / ٢٢٧ ، والعسقلاني في فتح الباري ٨ / ٤٨٢.

(٤) معاني القرآن والعبارة من كتب المبرد التي لم أطلع عليها ، ولكن ما ذكره المصنف عن المبرد منقول في الغدير لشيخنا الأميني ١ / ٣٦١ ، ومما تجدر الاشارة إليه ان الأميني رحمه‌الله اشبع القول في هذه المسألة في الجزء الأول من الغدير من ص ٣٤٤ ـ ٣٨٣ بما يكفي ويشفي ولم يدع مجالا لأحد الا ان يقرّ بأنّ لفظ (مولى) يراد به لغة الأولى او انه احد معانيه.

من ائمة اللغة واعترف بثبوت ذلك وصحته القوشجي في شرح التجريد.

الثاني : وروده في القرآن كما في الآيات المذكورة وغيرها ، وفي السنة مثل الرواية المتقدمة وغيرها وهما افصح الكلام العربي.

الثالث : وروده في اشعار العرب على كثرة.

قال لبيد بن ربيعة العامري :

فغدت كلا الفرجين تحسب انها

مولى المخافة خلفها وامامها (١)

فالمولى فيه بمعنى الأولى مثله في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) قاله ثعلب النحوي وابو عبيدة ، وقال الشنفري جابر بن ثابت الأزدي.

وانّي لمولى الصبر احباب بزة

على مثل قلب السمع والحزم افعل

أي انّى اولى بالصبر من غيري ، وأنا مالك أمره ، وذلك أنه يصف نفسه بكثرة الصبر زيادة على غيره من ذوي الصبر فلا بد من معنى التفضيل.

وقال عمرو بن البراقة الفهمي.

اذا جر مولانا علينا جريرة

صبرنا لها انا كرام دعائم

وننصر مولانا ونعلم انه

كما الناس مجروم عليه وجارم

فمولانا في البيتين بمعنى سيدنا قاله شراح الشواهد وهو بمعنى الأولى بنا والمالك لأمرنا.

وقال الأخطل :

فاصبحت مولانا من الناس بعده

واحرى قريش ان تهاب وتحمدا

__________________

(١) رأي ثعلب. نقله الزوزني في شرح المعلقات عند شرحه البيت المذكور من معلقة لبيد.

وقال غيره :

كانوا موالي حق يطلبون به

فادركوه وما ملوا وما لعبوا

والشواهد عليه كثيرة ، واطلاق المولى في لسان العرب على مالك العبد معلوم غير مجهول ، وبه ورد الكتاب العزيز قال الله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) والمراد به الأولى به والمالك لأمره ، اما في العرف فلأن اطلاق لفظ «المولى» على من بيده أمر المرأة في النكاح وعلى مالك العبد امر شائع ذائع بين الفقهاء والمحدثين وعامة الناس في جميع الأقطار بحيث لا ينكر ولا يدفع ، فقد جاء مولى بمعنى الأولى بالشيء والأحق به شرعا ولغة وعرفا ، بل قال بعض المحققين من اهل الاطلاع على دقائق اللغة العربية : ان الأصل في المولى الأولى بالشيء والأحق به وما سواه من معاني المولى راجع إليه ، فالمعتق مولى لأنه أولى بميراث المعتق وهذا مولى لأنه أولى بنصرة المعتق من غيره ، وابن العم لأنه اولى بنصرة ابن عمه لقرابته ، والورثة موالى لأنهم اولى بميراث الميت من غيرهم ، والحليف لأنه اولى بامر محالفه للمحالفة التي جرت بينهما ، والولي لأنه اولى بنصرة من يواليه ، والسيد لأنه اولى بتدبير من يسوده انتهى والصبان في غفلة عن هذا كله ، والجواب عن قوله : ان مفعلا لم يرد بمعنى افعل ، من وجهين.

الأول : انا قد اثبتنا بالأدلة الظاهرة والبراهين الزاهرة مجيء هذا الحرف من مفعل بمعنى افعل فلا يضرنا عدم مجيء غيره بمعناه لأنا لا ندعى العموم وانما الدعوى في واحد وقد اثبتناها.

الثاني : انه ليس المدعى ان مولى صفة بمعنى الأولى حتى يرد قوله وانما المدعى ان مولى اسم للأولى وقد اعترف بذلك القوشجي وغيره من محققيهم وبوروده كذلك في كلام العرب واشعارهم فزال اعتراض الصبان.

الثالث : (١) تسليم انه بمعنى اولى لكن لا نسلم انه اولى بالامامة ، بل بالاتباع له والقرب منه كقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) (٢) وقول التلاميذ : نحن اولى باستاذنا مثل به في المقام القوشجي.

والجواب انا لا ندري ما مرادهم من هذا العبارة المضطربة الألفاظ الزائلة المعنى ولا بد من ان يكونوا ارادوا احد وجوه اما انهم ارادوا ان معنى قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «من كنت مولاه فعلي مولاه» من كان لي تابعا فهو لعلي تابع فيكون حاصله ان من لم يكن تابعا لي فليس تابعا لعلي فمن لم يكن تابعا لعلي (عليه‌السلام) فليس بتابع للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فيقال لهم : على هذا فأبو بكر واصحابه تابعون للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أم غير تابعين له فان كانوا له تابعين لزمهم ان يتبعوا عليا بعده ، والمتبوع هو الامام وان لم يكونوا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اتباعا لم تجز لهم خلافته فدلالة الخبر على المدعى بحالها وان ارادوا ان معناه من كنت تابعه فهذا معنى قبيح لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يتبع أحدا من الناس ، بل هو الرئيس المتبوع ، وان ارادوا ان معناه من كان تابعا لي كان علي تابعا له ، فهو معنى مستهجن جدا لأن مراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الكلام مدح علي (عليه‌السلام) بالاتفاق ، وعلى هذا المعنى يكون مدحا لواحد غير معين ويكون علي (عليه‌السلام) ملزوما بتبعية ذلك الغير فلا مدح له وهو خلاف المراد ، ولا تنصرف عبارتهم الى غير هذه المعاني الثلاثة ، والأول لنا لا علينا وان كان من لفظ الخبر بعيدا ، والأخيران مع ما فيهما مما سمعته بعيدان عن حاق اللفظ فحمل كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهما بين الفساد ، واما الأولى في الآية

__________________

(١) أي من الوجوه المزعومة على عدم دلالة حديث الولاية على الامامة.

(٢) آل عمران : ٦٨.

فلولا القرنية الدالة من العقل على ان التابع لا يلي امر المتبوع لدلت على ولاية الأمر لكن القرنية صارفة عنه وهي دليل متبع ، ومع هذا كله فان خروج اولى في الآية عن معنى الأحقية الى معنى المتابعة غير مسلم لأنه على قولهم بمعنى ان اتبع الناس لابراهيم للذين اتبعوه وهذا ممتنع من جهة ان اسم التفضيل يدل على المشاركة والزيادة ومن لم يتبع ابراهيم لم يشارك متبعيه في متابعته وحيث لا مشاركة فلا تفضيل ، وكذا لا مشاركة في الأقربية بين تابعيه ومن لم يتبعه فينتفي التفضيل في الأقربية أيضا فكان لا محالة الأولى فيها باقيا على معناه ، والمراد ان الأولى بطريقة ابراهيم والأحق بدينه من جميع الناس من كان تابعا له من الأنبياء والأوصياء واتباعهم في الملة الحنيفية بدليل قوله تعالى : بعد (وهذا النبي) فان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير تابع شريعة ابراهيم في التحليل والتحريم ليكون مؤتمّا به بالاجماع وانما تبعيته لابراهيم كونه على الملة الحنيفية مثله والذين آمنوا بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فالآية رد على اليهود والنصارى وغيرهم من الفرق المدّعين أنهم على دين ابراهيم وطريقته هذا ظاهرها وسرها ان الأولى بمقام ابراهيم والأحق بامامته المجعولة تابعوه من ذريته في الدين القويم الذين لم يجر عليهم اسم ظلم طول اعمارهم ، وهذا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والذين آمنوا الذين لم يلبسوا ايمانهم بظلم ، وهم علي (عليه‌السلام) وأطايب اولاده فهي تشير الى قوله تعالى : (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً) (١) في عقبه يعني الامامة وهذا الوجه هو الوارد عن علماء اهل البيت في معنى الآية (٢) فهي دالة على مطلبنا من جميع الجهات وبعيدة عن مطلبهم ، وكذا مثال القوشجي فان المراد منه ان التلاميذ أحق بفوائد استاذهم وعوائده من غيرهم وذلك موافق لنا لا له ، وليس

__________________

(١) الزخرف : ٢٨.

(٢) قال الطبرسي في مجمع البيان ٩ / ٤٥ : «قيل : الكلمة الباقية هي الامامة الى يوم الدين عن ابي عبد الله عليه‌السلام».

المراد منه انا اتبع لاستاذنا كما لا يخفي على المتدبر ، ثم لو سلمنا حمل الولاية في الآية والمثال على ما ذكروه لكن لا نسلم جواز حمل الخبر عليهما لاختلاف التأليف المقتضى لاختلاف المعنى ، فان الأولى في الآية مسند الى التابعين وابراهيم متعلق الولاية فجاز أن يكون المعنى ان اقرب الناس لابراهيم المتبعون له ، وفي المثال كذلك وفي الخبر الولاية مسنده الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يجوز أن يكون اراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كنت تابعا لامتناع ذلك ، وعلى ما قالوه يكون المعنى هكذا نعم لو قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كان مولاي فهو مولى علي لجاز حمله على ما قالوه على ما فيه من القول الذي مر فتبين من هذا ان حمل الخبر على ما في الآية مستحيل وليس ذلك بخفي على من له معرفة بعلم العربية ولا على مثل القوشجي ولكن يلجئهم ضيق المسلك الى ترك ما يعلمون ، والله المسدد لمن طلب السداد.

الرابع : (١) تسليم انه الأولى بالأمر لكن في المئال بعد الثلاثة لا بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يدل على بطلان إمامة الثلاثة ونحن نقول بذلك ونقر بأنه رابع الأئمة والجواب ان نقول لهم اذا قررتم بان معنى «من كنت مولاه فعلي مولاه» من كنت اولى به من نفسه فعلي اولى به من نفسه فلا بد لكم من التزام احد امرين لا محيص لكم عن اختيار واحد منهما ، اما ان تحكموا على المتقدّمين عليه بانهم من المؤمنين الذين كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى منهم بانفسهم في اعتقادهم او بانهم ليسوا منهم فان اجبتم بالأول فلازمه ان يكون علي (عليه‌السلام) اولى بهم من انفسهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، لأن من كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى به من نفسه فعلي اولى به من نفسه على جهة

__________________

(١) أي من الوجوه المزعومة على عدم دلالة حديث الولاية على الامامة.

العموم في الشرط المقتضى لعموم الجزاء لتناول القضية جميع الأشخاص والأوقات كما هو دأب الشرطية المطلقة العامة ، فيجب ان يكون علي إمامهم اذ كان اولى بهم من انفسهم ، ولا يجوز لهم ان يولّوا عليه ولا على انفسهم وقد جعله رسول الله عليهم وليّا وأولى بهم من انفسهم فبطلت إمامتهم قطعا ، وان اجبتم بالثاني فقد اخرجتموهم من حيز الإيمان ونفيتموهم من ملة الاسلام لأن من لم يعتقد ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى به من نفسه فهو كافر والكافر لا يجوز ان يكون إماما بالاجماع ونص الكتاب وهذا الوجه لا تجوزونه بل تحكمون بكفر من نسب الى الثلاثة الكفر فبقى الوجه الأول وهو يعين بطلان إمامتهم فثبت المطلوب وصحت دلالة الحديث على إمامة علي (عليه‌السلام) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فصل وعدم جواز إمامة غيره كائنا من كان.

واما قول صاحب الاسعاف بان تجويز النسيان على سائر الصحابة السامعين لهذا الحديث مع قرب العهد في غاية البعد ، (١) فباطل لأنا لم ندع نسيان الصحابة للحديث ، ولا جهالتهم بمراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منه ، ولا عدم معرفتهم دلالته على إمامة علي (عليه‌السلام) وعموم ولايته على الناس كافة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكيف وعمر بن الخطاب لما سمعه عرف جميع ذلك منه وقال مخاطبا لعلي (عليه‌السلام) : هنيئا لك يا بن ابي طالب اصبحت وامسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة ، كما قدمنا ذكره في رواية احمد بن حنبل والبيهقي عن البراء بن عازب (٢) ، افترانا ندعى ان عمر كان شاكا في دلالة الحديث على ان عليا اولى

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٥٤.

(٢) المسند ٤ / ٢٨١ وفي تفسير الرازي ١٢ / ٤٩ فلقيه عمر فقال : «هنيئا لك اصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة» ومثله في تاريخ الخطيب. ٨ / ٢٩٠.

بكل المؤمنين والمؤمنات من انفسهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو يقول ما سمعت ويصرح به؟ أو ترى انه اراد تهنئته بان ناصر المؤمنين الذي يشاركه فيه جميعهم كما تدعون؟ بل هنأه بالخلافة والإمامة بلا ريبة ، وهذا من اقوى الأدلة على ما ذكرنا سابقا من أن الصحابة عرفوا من الحديث النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على عليّ (عليه‌السلام) بالامامة ، ولم يعرض لهم نسيانه ولا ارتياب في معناه وذلك مدعانا عليهم ولذا لا نعذرهم فيما فعلوا وقوله : وزعم ان الصحابة علموا هذا النص ولم ينقادوا له عناد باطل مردود بما بيناه من قرب في تهنئة عمر لعلي (عليه‌السلام) ، وما ذكرناه في حديث سعد بن عبادة وابنه قيس ، وحديث تسليم الأنصار على امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالولاية ، وغير ذلك ، وليس الصحابة بمعصومين حتى يجب تنزيههم عن الخطأ ، في الأحكام وارتكاب العصيان وقد صدرت من بعضهم المخالفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كثير من الأمور وفي كثير من القضايا والأحكام وسنذكره مفصلا في محله ان شاء الله ، فما ذكره من عدم انقياد القوم لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع علمهم به هو اليقين عندنا من فعلهم ، وليس فيه عناد اصلا بعد انتفاء عصمتهم بالاجماع ، وثبوت المخالفة منهم للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتواتر ، بل هو عمل بالدليل وانما يكون عنادا اذا ثبتت عصمتهم أو عدم مخالفتهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شيء من الأمور دائما وكل ذلك لم يكن فلا سبيل اذن الى رد الأدلة الصريحة حذرا من تجويز المخالفة على الصحابة ، ولسنا نحكم بذلك على جميع الصحابة فنعارض بما روى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا تجتمع امتي على ضلال) (١) ، لأنا

__________________

(١) هذا الحديث رواه كثير من المحدثين وناقش في صحته بعضهم ، وعلى فرض الصحة فان موضوعه لم يتحقق حتى الآن فان الأمة لم تجتمع على ضلال كما لم تجتمع على حق وهذا معلوم لا يمارى به الا مكابر فان الاختلاف وقع بين الأمة من يوم وفاة رسول

نقول ان عليّا واصحابه الاخيار ما زالوا على العمل بذلك النص في سرهم وان لم يتمكنوا من اظهاره في زمان تغلب الأولين ، والحق معهم وحجة الله فيهم والامام بالحق على قولهم فهو الاجماع الصحيح فاندفع ما أورده الصبان باذن الواحد المنّان ، ثم انه زاد في كتابه وجها خامسا في الإيراد على الخبر لا ينبغي ان يذكر لهجنته لو لا ان الواجب على المناظر الاستظهار في الحجة وازالة جميع الشبه الواردة على دليله.

قال (١) : خامسها كيف يكون ذلك نصا في إمامة علي (عليه‌السلام) مع ان عليا بنفسه صرح بانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم ينص عليه ولا على غيره كما في البخاري وغيره انتهى (٢).

أقول : ما أضعف ما يتشبث به هؤلاء القوم في اخفاء الحق الزاهر ، وما أوهن ما يتعلقون به في اطفاء نور الهدى ، وهل خفي على احد من ذوي المعرفة ادعاء امير المؤمنين (عليه‌السلام) النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بهذا الخبر وغيره ، واستشهاده من معه من الصحابة على ذلك وشهادة جماعة منهم له به ، وقد قدمنا ذكر شيء منه ويأتي غيره ، ولا نعرف موضعا صرح (عليه‌السلام) فيه بعدم النص عليه ، وكيف يصرح بعدم النص عليه وهو ما زال يدّعي النص ويستشهد عليه وهل هذا إلا تناقض لا يجوز أن يقع من أدنى العقلاء فكيف يصدر منه مع استكمال بصيرته ووفور علمه وحكمته! وذكر البخاري ذلك وامثاله عنه غير مقبول

__________________

الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى يوم الناس هذا وما اختلفت دعوتان الا كانت احداهما ضلالة.

(١) الضمير في «قال» للصبان ، والوجه الخامس زاده الصبان على الوجوه الاربعة التي ذكرها اصحابه.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٥٤.

فانه متهم في ذلك لموافقة غرضه ومطابقة مذهبه ، وهل هو في ذلك الا كثعالة شاهده ذنبه ، ومن روى له مثله ، فليس بدليل اصلا لو لم يكن له معارض فكيف وقد عارضه ما هو معلوم من تصريح عليّ (عليه‌السلام) بوجود النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فمن المقطوع به ان ما ذكره البخاري منكر من القول وزور فهو باطل يقينا هذا والناقل لم يذكر لفظ البخاري ليزيل عن نفسه تهمة الكذب على شيخه والحوالة في مثل هذا المقام غير جائزة عند المناظرة ، ولا يثبت بها الاحتجاج ، ولذا كان للخصم ان يقول لعلك تقولت على الشيخ أو لعله من كلامه لا من روايته فلا يكون حجة أو لعلها رواية ليس صريحة كما يدعى وتدّعى والتأويل البعيد فيها ليس بمقبول منكم والا لقبلناه في حديث الغدير ، ولو ذكر اللفظ لم يتوجه عليه شيء من ذلك ولكان الاحتجاج فيه والإيراد متوجها على البخاري دونه.

وأما الرواية التي نقلها ابو العباس الدمشقي في تاريخه عن ابن عساكر فلا شك انها مصنوعة مزورة فلا ريب في بطلانها لاشتمالها على اعتراف امير المؤمنين (عليه‌السلام) بما تواتر عنه القول بضده مثل عدم عهد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليه في قتال اهل الجمل واخوانهم من اهل الشام مع اشتهار الرواية بوصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ان فيكم من يقاتل على تأويل القرآن) الخبر (١) ، وقول ابي أيوب الأنصاري : عهد إلينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن نقاتل مع علي الناكثين والقاسطين والمارقين رواه ابن ديزيل : ونصر بن مزاحم (٢) وعلى أن خلافة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٠٧ ورواه الامام احمد في المسند ٣ / ٣٣ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٢ وابو نعيم في الحلية ١ / ٦٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٠٧ ورواه ابن الأثير في اسد الغابة ٤ / ٣٢ و ٣٣.

الأولين بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهما وقد حصل الاتفاق على رده بيعة ابي بكر حتى اخرج إليها قهرا وقد شرحنا ذلك فيما مر فكيف يعترف بالنص ويخالفه وهو منزه عن مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جميع الأمور ، ولتضمنها نسبة امير المؤمنين (عليه‌السلام) الى نفسه ما صح عند المؤالف والمخالف انه لم يفعله ومن جملته انه يغزو إذا اغزاه ابو بكر وعمر وعثمان وقد صح عند كل اهل الرواية انه لم يخرج من المدينة غازيا في زمان الثلاثة قط وامتناعه عن الخروج مع عمر الى الشام حين دعاه إليه معروف (١) ، ومذاهبه المخالفة للثلاثة مشهورة ، وفي كتب القوم مذكورة ، وتصريحه بدفعهم اياه واخذهم حقه وغصبهم مقامه على ذروات المنابر معلوم ، قد بيناه في مواضع من هذا الكتاب يستغنى بشرحه فيها عن ذكره هنا ، وكلما كان من الروايات مخالف للمعلوم فالواجب رده والحكم عليه بالبطلان خصوصا اذا كان مما يختص به المدعي ولم يروه خصمه كهذه الرواية ، على ان هذا الرجل قد ذكر قبل الوجه المذكور بقليل ان عليا قد احتج بالخبر على إمامته في خلافته فكيف يعتبر باحتجاج عليّ (عليه‌السلام) على إمامته بالخبر ثم يقول ولم يطل الكلام ان عليّا قد اعترف بعدم النص عليه! فانظر الى هذا التضاد الشديد البين في كلامه فيا سبحان الله ما أبعد هؤلاء الجماعة عن التأمل فيما يقولون؟ وقد بينا سابقا ان الحديث المذكور قد احتج به امير المؤمنين (عليه‌السلام) على اهل الشوري في اختصاصه بالامامة دون غيره باعتراف الخصوم من معتزلة واشاعرة فلا وجه لتخصيص الصبان احتجاجه (عليه‌السلام) بالحديث بايام خلافته ، ثم يقال له : اذا كان علي قد احتج به على إمامته في خلافته باعترافك فوجب ان يكون حجة على ذلك ابدا اذ لا تخصيص فيه بوقت ، بل هو صريح في تناول جميع

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٧٨.

الأوقات ، وبذلك تبطل إمامة المتقدمين مع ما في اعترافك بهذا من اكذابك نفسك في دعواك اعتراف امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعدم النص وتكذيبك البخاري في ذكره ذلك كما قلت ، فتأمل ايها المنصف في تناقض كلام هؤلاء القوم لتعلم (أي الفريقين احق بالأمن) (١) وقد اتضح من جميع ما ذكرنا سلامة الخبر من الإيرادات وخلوصه من التشكيكات وعصمته من التمويهات ، وثبت انه نص على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد سيد المرسلين (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك المراد.

ومنها : ما رواه ابن ابي الحديد عن اكثر المحدثين وعن احمد بن حنبل في المسند وكتاب الفضائل ولفظ الرواية بعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خالد بن الوليد في سرية وبعث عليا (عليه‌السلام) في سرية اخرى وكلاهما الى اليمن ، وو قال ان اجتمعتما فعلي على الناس وان افترقتما فكل واحد منكما على جنده ، فاجتمعا واغارا وسبيا نساء واخذا اموالا وقتلا ناسا ، واخذ علي (عليه‌السلام) جارية فاختصها لنفسه فقال خالد لأربعة من المسلمين منهم بريدة الأسلمي اسبقوا الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاذكروا له كذا واذكروا له كذا لأمور عددها على عليّ (عليه‌السلام) فسبقوا إليه فجاء واحد من جانبه فقال : ان عليا فعل كذا فاعرض عنه ، فجاء الآخر فقال : ان عليّا فعل كذا فاعرض عنه ، فجاء بريدة الأسلمي فقال : يا رسول الله ان عليّا فعل كذا واخذ جارية لنفسه فغضب (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى احمر وجهه وقال : (دعوا لي عليّا) يكررها (ان عليّا مني وانا من علي وان حظه في الخمس اكثر مما اخذ وهو ولي كل مؤمن من بعدي).

__________________

(١) الأنعام : ٨١.

قال ابن أبي الحديد : رواه ابو عبد الله احمد في المسند غير مرة (١) والمراد انه رواه بطرق متعددة وروى الترمذي والحاكم عن عمران بن حصين ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ما تريدون من علي ما تريدون من علي ما تريدون من علي ان عليّا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي) (٢).

اقول : وهو نص صريح غاية الصراحة في ان عليا (عليه‌السلام) ولى المؤمنين بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا معنى للولاية بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا الامامة ، ولا يجوز حملها على المعونة والنصرة لأنه يلزم من ذلك ان عليّا في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير ناصر للمؤمنين ولا معين لهم وانما يكون كذلك بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهذا ظاهر البطلان بالبديهة ، وهل نصر الايمان والمؤمنين في حياة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احد كنصره او ذب عن حريم الاسلام احد كذبّه فتعين ان المراد الأول فهو النص الواضح الذي لا تدخله الشبه ولا يتطرق إليه فاسد التأويل ولذا قال امير المؤمنين في خطبة له : (فو الله اني لأولى الناس بالناس) ، رواها المعتزلي (٣) : المنكر النص عليه ومن هنا يعلم فساد ما قاله الصبان حيث قال : والجواب عما يوهمه ظاهره يعني الخبر من تقديمه على غيره واستحقاقه الامامة عقب وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يؤخذ مما ذكرناه في حديث (من كنت مولاه) وانا اقول جواب هذا الكلام المتهافت يؤخذ مع ما ذكرناه هنا من جوابنا عليه هناك وقد صرح

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٠ وانظر مسند الامام احمد ج ٤ / ١٦٤ و ١٦٥ و ٤٣٧ وج ٥ / ٣٥٦.

(٢) الترمذي ٢ / ٢٩٧ من طريق عمران بن الحصين ومستدرك الحاكم ٣ / ١١٠.

(٣) شرح النهج ٧ / ٢٨٤.

الحديث كما ترى بان القوم كانوا مبغضين لعلي (عليه‌السلام) في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانهم مجهدون انفسهم في عيبه ونقصه عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليغضب عليه لكنهم لم يجدوا الى ذلك سبيلا فما فاتهم منه في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ادركوه منه بعد وفاته فدفعوه عن مقامه واخرجوه قهرا الى من قدموه عليه.

قال ابن ابي الحديد قال ابو بكر : وحدثني ابو زيد عمر بن شبّة عن رجاله قال : جاء عمر الى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ، ونفر قليل من المهاجرين فقال : والذي نفسي بيده لتخرجن الى البيعة او لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر فندر (١) السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره ، ثم اخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر (٢) ، ولا شك ان من سكن في قلبه ذلك البغض القديم لعلي في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يحدث منه بعد وفاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) هذا الفعل الذميم ، ويأتي لهذا زيادة تحقيق في موضعه فترقب ، ومن تبصر أدنى تبصر عرف يقينا ان القوم قد ارتكبوا من امير المؤمنين امرا عظيما ، وانهم تعمدوا انكار فضله واخفاء النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانهم قصدوا مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جميع ما عهد إليهم في حقه وما اوضحه لهم من علو شأنه ، أو لا تراهم كيف شاهدوا غضب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم من ذكرهم عليا (عليه‌السلام) بشيء من سيئ القول وإبدائهم الشكاية منه إليه! (٣) ثم هم يعمدون بعد أيام الى حرق بيته ويخرجونه ملببا يسوقونه ومن معه سوقا عنيفا ، فما ذا

__________________

(١) ندر : سقط.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٦ و ٥ / ٤٨.

(٣) نفس المصدر ٦ / ٤٥.

تظن بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لو رآهم حين اخرجوا عليا (عليه‌السلام) على تلك الحال في ذل وصغار؟!! وهل يجوز لعاقل لبيب ان يستبعد عليهم مخالفة نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو يرى منهم هذه المخالفات ، ويعلم من افعالهم هذه المنكرات بعد مشاهدتهم من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما سمعت من غضبه الشديد لقول في علي دون فعل فيقول (١) لو سمع الصحابة نصا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) لما خالفوه! لأنا لا نظن عليهم مخالفته وهذان الحديثان قالعان لشبهتهم التي إليها يستندون كما ترى وسيأتي من الأخبار ما هو اصرح في هذا المطلب ثم ان الحديثين يدلان على ان ما يفعله علي (عليه‌السلام) حق وصواب لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يسمع الشكاية فيه ولو جاز عليه الخطأ لم يكن يحابيه ولا يراعيه فزالت بحمد الله كل شبهة وذلك من فضل الله وعونه.

وأما ما ورد بلفظ المنزلة : فهو الحديث المتفق على روايته بين الأمة وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) يوم توجه الى تبوك واستخلفه على المدينة فقال علي (عليه‌السلام) : خلفتني على النساء والصبيان فقال : (أما ترضى أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبيّ بعدي) هذه صورة الحديث عن سعد بن أبي وقاص (٢) وصورته عن

__________________

(١) القائل هو ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة / وانظر أيضا ج ٦ ص ١٢.

(٢) حديث المنزلة من طريق سعد اخرجه البخاري صحيحه ٤ / ٢٠٨ في كتاب بدأ الخلق في باب مناقب علي بن أبي طالب وفي ٥ / ١٢٩ كتاب المغاري باب غزوة تبوك ومسلم في صحيحه ٧ / ١٢ في كتاب فضائل الصحابة ، في باب من فضائل علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) والترمذي في سننه ٢ / ٣٠٨ كما أخرجه الامام احمد في مواطن من مسنده ج ١ / ١٧٣ و ١٧٥ و ١٧٧ و ١٧٩ و ١٨٢ و ١٨٥ وج ٦ / ٣٦٩ و ٤٣٨ ، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٤٥ عن حديث المنزلة : «رواه جماعة

العباس بن عبد المطلب عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وأنت مني بمنزلة هارون من موسى كذب من زعم انه يحبني وهو يبغضك) في خبر رواه في الخصائص (١) وكثير من الناس يرويه (انت مني بمنزلة هارون) الى آخر ما مر عن سعد ، وقد تقدم في حديث الوزارة ذكره وذكر معناه ، وجملة الأمر فيه ان لهارون من موسى منزلة الأخوة والوزارة وشد الأزر والشركة في الأمر والخلافة عنه في قومه ، فالوزارة تحمل الثقل عنه ، وشد الأزر كونه ردأ له يصدقه ، والشركة في الأمر النبوة معه ، فاثبت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) منه جميع منازل هارون من موسى ولم يستثن الا النبوة ، فعلي وزير رسول الله وشاد ازره وخليفته في قومه واخوه وليس من النسب لكنه من جهة المماثلة ، ومؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) متفق عليها ، فمفهوم الاخوة ثابت له من الحديث المذكور ، وقد قال الحسن البصري فيما تقدم نقله وقال له يوم تبوك ما قال ، فلو كان ثمة شيء غير النبوة لاستثناه انتهى ، فقدح بعض الخصوم في عموم الخبر لكل المنازل بان عليا ليس اخا النبي (صلى الله عليه وآله

__________________

من الصحابة وهو من أثبت الآثار واصحها ، رواه عن النبي سعد بن ابي وقاص» قال : «وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن ابي خيثمة وغيره ، وكرره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مواطن منها يوم غزوة تبوك كما مر في البخاري وعند التنازع في ابنة حمزة كما في الخصائص للنسائي ص ١٩ ويوم المواخاة كما في كنز العمال ٦ / ١٨٨ ومنها يوم ولد الحسن (عليه‌السلام) كما في ذخائر العقبى ص ١٢٠ وفي صواعق ابن حجر ص ١٧٩ قال : اخرج احمد «ان رجلا سأل معاوية عن مسألة فقال : سل عنها عليا فهو اعلم ، قال : جوابك فيها احب الي من جواب علي قال : بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره العلم غرا ولقد قال له : (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) وكان عمر اذا اشكل عليه شيء أخذ منه».

(١) كذا في المتن والظاهر عبد الله بن العباس كما في كنز العمال ٦ / ٣٦٥.

وسلم) يقينا فلا يشمل جميع المنازل مندفع بما ذكرناه من ثبوت الاخوة له اجماعا ، وليس كونها من النسب بواجب في صدقها مطلقا حتى تكون خارجة ، بل الواجب دخولها في مفهوم الخبر لثبوتها من وجه آخر وصحة اطلاقها على علي (ع) دائما فيقال هو اخو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كثيرا ما يقول في علي (أخي وابن عمي واخي وصاحبي) ، فالاخوة من هذا الوجه مرادة من الخبر يقينا ولم تستثن ، فالخبر شامل لجميع المنازل الا النبوة لا تخصيص فيه بدونها ، واذا ثبت لعلي جميع تلك المنازل من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) التي من جملتها انه خليفته على الاطلاق ثبت كونه الامام بعده ، فدلالة هذا الخبر المتواتر على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) دلالة نص صريح لا تخفى استفادتها منه الا على جاهل صرف لا معرفة له بمعاني الألفاظ ، ولا علم له بتراكيب الكلام العربي ، أو معاند يرتكب تغيير المعاني ويتعسف طريق التأويل ، ولسنا في ذلك نبحث ولا انصافهم ندعي كما قدمنا القول فيه ، وقد تقدم عن ابن ابي الحديد اعترافه باستفادة ثبوت جميع منازل هارون من موسى ومراتبه غير النبوة لعلي (عليه‌السلام) من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من هذا الحديث ، والانكار غير مقبول بعد الاقرار ، وما اورده بعض الخصوم كالقوشجي وغيره على دلالة الخبر على المطلوب مضافا الى ما سبق تارة باحتمال كون هارون خليفة لموسى (عليهما‌السلام) في حياته خاصة لأنه مات قبله ، وتارة باحتمال انه لو بقي بعد موسى ان تكون إمامته بالنبوة لا بالخلافة عن موسى ، فلا يلزم ان يكون علي إماما بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه ليس بنبي تشكيك في المعلومات ، والجواب عن الأول بانا انما نتكلم على دلالة الألفاظ دون ما يئول إليه امر الناس من سبق موت الخليفة على من استخلفه ، فانا نعلم يقينا ان الرجل اذا اوصى الى اخر دل على انه النائب عنه بعد موته بحيث اذا مات كان للوصي التصرف ، ولو

مات الوصي قبل الموصى تحقق بموته انفساخ وصيته لا بدلالة اللفظ ، فقول موسى (عليه‌السلام) لهارون (عليهما‌السلام) (اخلفني في قومي) (١) نص على استخلافه غير مقيد بوقت ، فلو فرض ان موسى (عليه‌السلام) توفاه الله في مسيره ذاك لكان هارون خليفته بذلك الاستخلاف قطعا ، وليس لأحد ان يقول انه ينعزل بموت موسى (عليه‌السلام) مع شمول اللفظ للحالين ، ولا يقول بذلك نبيه ، بل نقول انه خليفة موسى (عليه‌السلام) في غيبته وموته غيبة وان لم يرج زوالها فالحال واحدة ، وكذا القول فيما لو رجع ومات بعد رجوعه ولم يصرح بعزل هارون فانه يكون أيضا خليفته بذلك الاستخلاف الأول ، ولا يعترض الشك لعاقل فيه ، واما انفساخ خلافته بموته قبل موسى فليس من جهة قصور الدلالة اللفظية في الاستخلاف ، بل من جهة استحالة نيابة الميت عن الحي ، فكذا نقول في علي (عليه‌السلام) ثبتت له الخلافة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على سبيل العموم على ما ثبتت لهارون ولم يعرض ما يفسخها من فعل او قول فيجب بقاؤها له بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالضرورة وعن الثاني بان القيام مقام النبي الأول لا يكون بمجرد النبوة فيقوم من بعده من هو نبي مقامه مطلقا ، بل لا بد من استخلافه والوصية إليه والا لكان كل نبي يقوم مقام من قبله فيلزم تعدد الخلفاء في زمان واحد ، وهذا باطل بما صح بالاتفاق ان موسى (عليه‌السلام) قام مقامه يوشع بوصيته إليه ولم يكن لأنبياء ذلك الزمان مع كثرتهم ذلك المنصب بالنبوة ، وكذلك بعد يوشع لوصيه وهكذا الى طالوت وداود والى سليمان وهلم جرا الى ان جددت شريعة عيسى (عليه‌السلام) وكان الحال فيها كسابقتها يقوم الثاني مقام الأول بوصية إليه لا بنبوة الثاني فقط ، فهارون (عليه‌السلام) لو بقي بعد موسى (عليه‌السلام) لكان خليفته بذلك الاستخلاف لا بنبوته والا لكان خليفته في حياته بالنبوة ولم يحتج الى

__________________

(١) الأعراف ١٤٢.

استخلافه في ذلك فلا حاجة الى قوله (اخلفني في قومي) وأيضا ان موسى (عليه‌السلام) لو لم يستخلف هارون واستخلف غيره لوجب عليه الطاعة لذلك الغير ولم تكن نبوته نافية عنه تبعية وصى أخيه موسى وخليفته فلا يكون احد مطلقا خليفة نبي الا باستخلاف ، وهذا ظاهر لكل ذي علم ، فكذلك علي (عليه‌السلام) هو خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بذلك الاستخلاف لأنه لم يعزله ولم يوص الى غيره بل اكد استخلافه والوصية إليه بخبر الغدير وغيره فثبت المراد وزال الإيراد.

ومما يقرب شبها من هذا الحديث ما رواه ابن ابي الحديد عن الحافظ ابي نعيم في الحلية من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (اخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي ، وتخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها احد من قريش انت اولهم ايمانا بالله ، واوفاهم بعهد الله ، واقومهم بامر الله ، واقسمهم بالسوية ، واعد لهم في الرعية ، وابصرهم بالقضية ، واعظمهم عند الله مزية) تمام الخبر (١) فالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يخرج من خصائصه ومراتبه عن علي (عليه‌السلام) الا النبوة ولوازمها فتبقى له الخلافة والامامة لأنها لم تنقطع بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاتفاق ، بل بالضرورة من الدين فهو قريب من الخبر الأول في الدلالة فتأمل.

وأما ما ورد بلفظ الوراثة : فمنه ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي جعفر الطبري في التاريخ ان رجلا قال لعلي (عليه‌السلام) يا امير المؤمنين بم ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال على هاؤم (٢) ثلاث مرات حتى اشرأب الناس ونشروا اذانهم ، ثم قال : جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٣.

(٢) هاؤم : ها اسم فعل بمعنى خذ ، ويجوز مد الفها فاذا مدت جاز تعريف همزتها

وسلم) بني عبد المطلب بمكة وهم رهط كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق (١) ، وصنع مدا من طعام (٢) حتى اكلوا وشبعوا وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ، ثم دعا بغمر (٣) فشربوا ورووا ، وبقي الشراب كأنه لم يشرب ، ثم قال : (يا بني عبد المطلب اني بعثت إليكم خاصة والى الناس عامة ، فايكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي ، فلم يقم إليه احد فقمت إليه وكنت من اصغر القوم ، فقال : (اجلس) ثم قال ذلك ثلاث مرات ، كل ذلك اقوم إليه فيقول (اجلس) حتى كان في الثالثة فضرب بيده على يدي ، فبذلك ورثت ابن عمي دون عمي (٤) ، وظاهر الحديث بل صريحه ان الناس لا يشكون في ان عليا وارث رسول الله دون عمه العباس ، بل هو معلوم عندهم ، وانما يسألون عن السبب في ذلك.

قال ابن ابي الحديد : ـ وروى يعني احمد بن حنبل ـ عن جعفر بن محمد الصادق قال : كان علي (عليه‌السلام) يرى مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قبل الرسالة الضوء ، ويسمع الصوت ، وقال له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لو لا أني خاتم الأنبياء لكنت نبيا ، فأن لا تكن نبيا فانك وصي نبي ووارثه ، بل انت سيد الأوصياء وامام الأتقياء) (٥) وهذا الحديث قد اشتمل أيضا على ذكر الوصية والامامة اللتين لا يحتملان الا الخلافة العامة فهو كما قدمناه من الأخبار في ذلك على ما قررناه هناك.

__________________

فيقال : هاء للمذكر ـ بالفتح ـ وهاء للمؤنث ـ بالكسر ـ وهاؤما ، وهاؤن ، وهاؤم ، قال تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ).

(١) الفرق ـ بكسر الفاء ـ وقيل ـ : بفتحها ـ : مكيال يكال به اللبن.

(٢) المد : ربع الصاع ، ومقدر بوزن اليوم ثلاثة ارباع الكيلو تقريبا.

(٣) الغمر : الكثير والمراد هنا اللبن.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٢ وتاريخ الطبري ٣ / ١١٧٣ ط ليدن.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢١٠ عن مسند احمد.

وروى ابن ابي الحديد عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) انه قال في خطبة : «ورثت نبي الرحمة ، ونكحت سيدة نساء هذه الأمة (١) ، وانا خاتم الوصيين» ، الخطبة الى غير ذلك من الاخبار ووارثة علي (عليه‌السلام) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اما في المال وذلك غير صحيح عند اصحاب ابن ابي الحديد واخوانهم من الأشاعرة لوجهين.

الأول حديث ابي بكر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (٢).

الثاني ان العباس عم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) موجود مع فاطمة بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والعمّ عندهم يحجب ابنت العم مطلقا ، فلفاطمة نصف وللعباس نصف فلا ميراث لعلي (عليه‌السلام) من المال ، واما عندنا فلان ابن العم لا يرث مع الولد مطلقا ذكرا كان أو انثى ، وفاطمة موجودة فالمال جميعه لها فليس لعلي (عليه‌السلام) ميراث من مال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجماعا مع انه وارثه بالنص الصريح ، فحينئذ لم يبق الا المراتب والمنازل ، والنبوة في علي (عليه‌السلام) منتفية لختمها برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيبقى الباقي من الفضل والعلم والامامة فعلي وارث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيها ، فيكون هو الامام والخليفة من بعده لعموم الوراثة وبقاء ما لم يخرج بدليل قاطع تحت العموم ، بل لو قلنا : ان المراد من الوراثة في الأحاديث المذكورة وشبهها هو وراثة الامامة ولوازمها لا غير لم نبعد عن الصواب ، فان

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ٢٨٧.

(٢) صحيح البخاري ج ٥ / ٨٢ كتاب المغازي باب غزوة خيبر وج ٤ / ٢٠٩ كتاب بدأ الخلق باب مناقب قرابة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومنقبة فاطمة (عليها‌السلام) ، وصحيح مسلم ٥ / ١٥٣ كتاب الجهاد والسير.

امعان النظر فيها والتروي في معانيها يوصل الى فهم ذلك منها ، ومن هذا كله يعلم بطلان ما قال ابن ابي الحديد : واما الوراثة فالامامية يحملونها على ميراث المال او الخلافة ونحن نحملها على وراثة العلم انتهى ، وقد تحقق لك ان الامامية لا يحملونها على وراثة المال لاجماعهم على ان لا وارث مع ولد من ذوي النسب الا الأبوان ، فكلام ابن ابي الحديد فرية عليهم ، اللهم الا بعد وفاة فاطمة فميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المالي بواسطتها ينتقل الى علي (عليه‌السلام) وولديها الحسن والحسين فيجتمع لهم هنالك المراتب والمال ، واما قبل وفاتها فعلي (عليه‌السلام) وارث في الامامة ولوازمها لا يحمل الامامية الوراثة هنا إلّا على هذا وهي صريحة فيه ، واما تخصيصه اياها بوراثة العلم فهو تخصيص للعام بالرأي ، وتقييد للمطلق بالاستحسان ، وذلك ميراثه واصحابه من أسلافهم كما سيأتي القول فيه ، وليس ذاك بجائز اذ ليس عليه من الشرع دليل فما الى القول به سبيل مع ان قوله غير وارد علينا ولا مناقض لنا ، بل مواقف لما نقول ، لأنا نذهب الى ان وارث علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يجب ان يكون هو الامام بعده ، ولا يجوز ان يتقدم عليه احد من الناس كما بيناه فيما سبق من المقدمة والفصل الأول من وجوب تقديم الأفضل على المفضول ، فقوله لنا لا علينا بل نزيد على ذلك ونقول ان العقل السليم يجزم بان وارث علم النبي هو الوارث مقامه وانهما متلازمان لا ينفك احدهما عن الآخر عقلا ، ووجهه يؤخذ مما اسلفنا من التحقيقات ومن تأمل وانصف عرف صحة ما نقول.

واما ما ورد بلفظ الأحقية والأولوية : فما رواه ابن ابي الحديد عن ابي اسحاق الثعلبي في تفسيره عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما نزل (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) بعد انصرافه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من غزاة حنين جعل يكثر من سبحان الله استغفر الله ثم قال : (يا علي انه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح ودخل الناس في دين الله افواجا وانه ليس احد

احق منك بمقامي لقدمك في الإسلام ، وقربك مني ، وصهرك ، وعندك سيدة نساء العالمين ، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن فأنا حريص أن اراعي ذلك لولده) (١) انتهى وهذا الحديث نص صريح في ان عليا (عليه‌السلام) احق بمقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كل احد للخصال التي ذكرها (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي ، وهذه الخصال هي التي نقول ان الموصوف بها على لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو الإمام لأن من شرط الإمام الاتصاف بها لاقتضائها الفضل ، وهو دليل لنا على الوجهين.

وبالجملة فالحديث المذكور نص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بالامامة بعده لا يعتريه الريب ، ولا يتطرق إليه العيب ، ومن الأولوية ما في بعض خطب امير المؤمنين (عليه‌السلام) من قوله : (لا يقاس بآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من هذه الأمة احد) الى ان قال : (ولهم خصائص الولاية) (٢) وسنذكرها فيما بعد جميعها ان شاء الله فالمراد بالولاية هنا اوليتهم بمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه اذا كان لهم حق ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كانوا هم الأحق والأولى بمقامه.

قال ابن ابي الحديد في شرح الخطبة : ثم ذكر (عليه‌السلام) خصائص حق الولاية والولاية الأمرة ، فاما الامامية فتقول اراد نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه وعلى اولاده ، ونحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق انتهى (٣) اقول ما ارى ابن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٤.

(٢) نهج البلاغة من الخطبة ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٩.

ابي الحديد في ايراده صنع شيئا ، وانما زاد المعنى إيضاحا وزاد الحجة اثباتا ، لأنه لو قيل له ما ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق؟ لكان يقول الإمرة عليهم ، لا محيص له عن ذلك إذ لا معنى لها غيرها ، فيقال له : اذا اقررت ان لعلي (عليه‌السلام) واولاده حق تلك الولاية كنت مقرا بأن لهم الأمرة لأن الولاية المذكورة هي الإمرة بعينها ، فلعلي (عليه‌السلام) واولاده الإمرة على الخلق وهو نص كلام الامامية الذي انكرته فانهم لا يزيدون على ان لعلي (عليه‌السلام) واطهار ولده ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق ، فنعوذ بالله من اللجاج بغير فائدة ما سوى التعصب للمذاهب وقصد تصحيح قول الأسلاف بما لا يصح به ، ومما يشير الى معنى الأحقية والأولوية اخبار فمنها اخبار المماثلة وقد تقدمت.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند وفي كتاب فضائل علي (عليه‌السلام) عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (انا اوّل من يدعى به يوم القيمة فاقوم عن يمين العرش في ظله ثم اكسى حلة ، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على اثر بعض فيقومون عن يمين العرش ويكسون حللا ، ثم يدعى بعلي بن ابي طالب (عليه‌السلام) لقرابته مني ومنزلته عندي ويدفع إليه لوائي لواء الحمد آدم ومن دونه تحت ذلك اللواء) ثم قال لعلي (عليه‌السلام) : (ثم تسير به حتى تقف بيني وبين ابراهيم الخليل ، ثم تكسى حلة وينادي مناد من العرش نعم الأب أبوك ابراهيم ونعم الأخ أخوك علي ، ابشر فانك تدعى اذا دعيت وتكسي اذا كسيت وتحبا اذا حبيت) (١) ودلالته على أولوية علي بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) نفس المصدر ٩ / ١٦٩ ورواه المحب الطبري ٢ / ٢٠٢ عن مناقب احمد كما رواه آخرون ممن تطول الحاشية باستعراض بعضهم ولكن اردنا اثبات نقل ابن ابي الحديد عن الامام احمد كما في المتن.

ظاهرة من مواضع دعائه دون غيره مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكون اولى بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من غيره ، والا لدعى ذلك الغير ، والقرب منه والمنزلة عنده ، ولو كان احد اولى منه لكان اقرب منه الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكانت منزلته عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ارفع ، لكن ليس غيره كذلك فهو اولى ، واعطاؤه لواء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلو كان غيره اولى بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكان له ذلك اللواء ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر الحديث : (انك تدعى اذا دعيت) الخ تصريح بالأولوية ، واذا كان اولى به في الآخرة فهو في الدنيا كذلك فيكون هو الأولى بمقامه ، فالحديث فيه اشارة الى إمامته بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ومنها ما رواه عن احمد في كتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اعطيت في علي خمسا هن احب الى من الدنيا وما فيها ، اما واحدة فهو كاب بين يدي الله عزوجل حتى يفرغ من حساب الخلائق ، واما الثانية فلواء الحمد بيده آدم ومن ولد تحته ، واما الثالثة فواقف على عقر حوضي (١) يسقى من عرف من امتي ، واما الرابعة فساتر عورتي ومسلمي الى ربي ، واما الخامسة فاني لست اخشى عليه ان يعود كافرا بعد ايمان ، ولا زانيا بعد احصان) (٢) والأظهر في الأولوية الرابعة ثم الثانية والثالثة ، والتقرير كما في الأول.

وأما ما ورد بلفظ المختار : فما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند قال قالت فاطمة : انك والخطاب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) زوجتي فقيرا لا مال له فقال : (زوجتك أقدمهم سلما ، واعظمهم

__________________

(١) نفس المصدر ٩ / ١٧٢ عن مناقب احمد.

(٢) العقر : مؤخر الحوض حيث تقف الابل.

حلما ، واكثرهم علما أما تعلمين ان الله اطلع الى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك) (١) أقول هذا الحديث نص واضح في إمامة علي (عليه‌السلام) بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن الله اختاره بعده فدخل في قوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢) ولا يختار الله احدا من الناس ، فيقال اختاره الله الا نبيا أو خليفة نبي ولما كان نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خاتم الأنبياء وجب ان يكون اختار الله عليا لخلافته ، اذ لا معنى لاختيار الله رجلا الا نصبه نبيا أو إماما ، وهذا ظاهر لا يحتاج الى بيان.

ومثله ما رواه ابن ابي الحديد عن محمد بن إسماعيل بن عمرو البجلي قال : اخبرنا عمر بن موسى الوجيهي ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : قال على (عليه‌السلام) على المنبر (ما احد جرت عليه المواسي إلا وقد انزل الله فيه قرآنا) فقام إليه رجل من مبغضيه فقال فما انزل الله تعالى فيك؟ فقام الناس إليه يضربونه ، فقال (دعوه أتقرأ سورة هود)؟ قال : نعم ، قال فقرأ (عليه‌السلام) : (فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) (٣) ثم قال : (الذي كان على بينة من ربه محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والشاهد الذي يتلوه انا) (٤) فدل الحديث بصراحته على ان عليا هو التالي للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اختيار الله له فهو الإمام بعده بلا اشتباه ، فما هما الا سابق ولاحق ، ومجل ومصل (٥) ، فالنبي السابق وعلي اللاحق والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٤.

(٢) الدخان : ٣٢.

(٣) هود : ١٧.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٨٧.

(٥) المصدر السابق ٩ / ١٧٥. والمجلي : السابق والمصلي : تالي السابق ، يقال : صلى الفرس اذا جاء مصليا يتلو السابق لأن رأسه عند صلاة اي مغرز ذنبة.

المجلّى وعليّ المصلّى ، فصلوات الله عليهما وآلهما.

واعلم ان الحديثين خصوصا الأول كما يدلان بنصهما على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذلك يدلان على أنه افضل من جميع الأنبياء ، وذلك لأن سبق الاختيار من الله لأحد دليل على شدة اعتناء الله تعالى بشأنه قطعا وشدة الاعتناء من الله يوجب الأفضلية للمعتنى بشأنه على غيره ، ولما كان المخصوص بسبق الاختيار هو النبي المختار كان افضل المخلوقين ، ولما كان المثنى به في الاختيار هو حيدر الكرار كان افضل البرية بعد النبي الأمين ، وهذا بحمد الله ظاهر المنار ، ليس عليه غباوة ولا غبار ، وهو تصديق ما ورد في هذا المعنى من طرقنا من الأحاديث والأخبار ، وبه يبطل ما ابطله عز الدين ابن ابي الحديد من القول بافضلية علي (عليه‌السلام) على الأنبياء ، واندفع بذلك تشنيعه على بعض اصحابنا في هذا القول بسبق الاجماع من اصحابنا على خلافه ، فانه لا اجماع على خلاف هذا القول من اصحابنا ان لم يكن اجماعهم عليه ، والأخبار ادلة وشواهد على ان ابن أبي الحديد قال بعد روايته جملة احاديث هذا منها : ان من قيل فيه ما قيل لو رقى الى السماء ، وعرج في الهوى ، وفخر على الملائكة والأنبياء تعظما وتبجحا لم يكن ملوما ، بل كان بذلك جدير انتهى ، وهو صريح فيما كان ينفيه ويشنع على قائليه من تفضيل على (عليه‌السلام) على الأنبياء والملائكة ، فكان القوم سكارى عن النظر في تناقض اقوالهم ، ووا عجباه من فاضل محقق يروي مثل هذه الأحاديث واضعافها محتجا بها على مذاهبه ومصححا لها في مآربه ثم يقول لا نص على عليّ (عليه‌السلام) بالامامة ، فكأنّه لا يفهم معاني هذه الأخبار ، ولا يدرك حقائق هذه الآثار ، قد اغشت الشبهة قلبه واعمى التقليد للأسلاف عين بصيرته ، فلم يهتد للصواب.

وأما ما ورد بلفظ السيادة : فكثير ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما تقدم من حديث انس (اوّل من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين ، وسيد المسلمين) وفي الحديث الآخر المتقدم أيضا : (مرحبا بسيد المؤمنين ، وامام المتقين) ومنه ما رواه ابن ابي الحديد عن الحافظ ابي نعيم في الحلية من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ادعو لي سيد العرب عليا) (عليه‌السلام) فقالت عائشة : الست سيد العرب؟ فقال : (انا سيد ولد آدم ، وعلى سيد العرب) فلما جاء ارسل الى الأنصار فاتوه فقال لهم : (يا معشر الأنصار ، الا ادلكم على ما ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا؟) قالوا : بلى يا رسول الله قال : (هذا علي فاحبوه بحبي واكرموه بكرامتي فان جبرئيل امرني بالذي قلت لكم عن الله عزوجل) (١).

وعن احمد في المسند عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النظر الى وجهك يا علي عبادة ، انت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، من احبك أحبني وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي وعدوي عدو الله) (٢) فعلي كما ترى تارة سيد المسلمين ، واخرى سيد المؤمنين ، وثالثة سيد العرب ، ورابعة سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ، والسيد هو الرئيس المطاع ومالك الأمر ولا سيادة باحد هذين المعنيين على المسلمين والمؤمنين والعرب في الدنيا غير النبوة والامامة ، ولا رئيس بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على المسلمين والمؤمنين الا الامام ، ولا رئيس على جميعهم سواه ، فيكون علي (عليه‌السلام) هو الامام ، لأنه الرئيس الواجب الطاعة على المسلمين ، فهي نص في إمامته ومصرحة بخلافته لا يعترض فيها بالشبه كما قاله في الاسعاف ان سيادته لهم من حيث النسب أو نحوه فلا يستلزم افضليته على الخلفاء الثلاثة

__________________

(١) المصدر السابق ٩ / ١٧٠ وحلية الأولياء ١ / ٦٣.

(٢) كذلك ٩ / ١٧١ ورواه المحب في الرياض ٢ / ١٦٦ وقال : «اخرجه احمد».

قبله (١) انتهى وعلى ما ذكره فتكون سيادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على ولد آدم في النسب فلا يستلزم افضليته على الأنبياء ولا على الثلاثة أيضا والحاصل ان هذا كلام متجاهل متعصب لا يبالي بما قال فيما يوافق مشتهاه ، ولو كان له بعض التدبر لكفاه فهم عائشة من إرادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلفظ السيادة من التقدم والفضل ، ولذا قالت له مستفهمة الست سيد العرب ولكن ديدن الرجل واصحابه رد الحق النير بما لا يعقل ولا يمكن من القول كما لا يخفى على الناظر في كلامهم ، وذلك لا يغني من الحق شيئا.

واما ما ورد بلفظ المحبة : فمنه حديث الطائر المتواتر ، وقد اشار إليه ابن ابي الحديد مرارا ، ورواه الحاكم في المستدرك ، وقال بعض العامة انه صح في كتب النقل والأحاديث الصحيحة والاخبار الصريحة ، عن انس بن مالك قال : اهدى الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) طير مشوي يسمى الحجل ، وفي رواية ما اراه إلّا حبارى (٢) فقال : (اللهم أتني باحب خلقك أليك يأكل معي من هذا الطير) فجاء علي فحجبته ، وقلت : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشغول رجاء ان تكون الدعوة لرجل من قومي ، ثم جاء على ثانية فحجبته ، ثم الثالثة فقرع الباب ، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ادخله فقد غيبته) فلما دخل قال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ما حبسك عنا يرحمك الله) قال : هذه آخر ثلاث مرات وانس يقول انك مشغول فقال : (يا انس ما حملك على ذلك) قلت : سمعت دعوتك فأجبت ان تكون لرجل من قومي فقال (صلى الله

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٥٥.

(٢) الحبارى : طائر اكبر من الدجاج الأهلي واطول منه عنقا ، ومن امثال العرب «ابله من الحبارى» لأنها فيما زعموا اذا غيرت عشها نسيته وحضنت بيض غيرها.

عليه وآله وسلم) : (لا يلام الرجل على حبه لقومه) رواه الترمذي (١) انتهى ومنه حديث الراية بخيبر المتواتر وقد رواه جميع المحدثين كالبخاري ومسلم والحاكم والترمذي وغيرهم (٢) وذكره ابن ابي الحديد واشار إليه مرارا وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، كرارا غير فرار لا يرجع او يفتح الله على يديه) فاعطاها عليّا وفتح الله خيبر على يديه ، وفي حديث مسلم قال عمر بن الخطاب : فما احببت الامارة الا يومئذ.

ورووا أن حسان بن ثابت قال يخبر عن ذلك :

وكان عليّ ارمد العين يبتغى

دواء فلما لم يجد من مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة

فبورك مرقيا وبورك راقيا

وقال ساعطي راية القوم فارسا

كميا شجاعا في الحروب محاميا

يحب إلها والإله يحبه

به يفتح الله الحصون الأوابيا (٣)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ج ١ ص ٧ ، وحديث الطائر اخرجه جماعة من اصحاب السنن منهم الترمذي ٢ / ٢٩٩ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ و ١٣١ ، والنسائي في الخصائص ص ٥ ، وأبو نعيم في الحلية ٦ / ٣٣٦ ، وابن الأثير في اسد الغابة ٤ / ٣٠ والمحب الطبري في الرياض ٢ / ١٦٠ وغيرهم ، وكلهم اسندوا ذلك الى انس بن مالك ، وقال الحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، وقد رواه عن انس جماعة من الصحابة زيادة على ثلاثين نفسا ثم صحت الرواية عن علي وابي سعيد وسفينة».

(٢) صحيح البخاري ٤ / ٢٠ ، كتاب بدأ الخلق ، باب مناقب علي بن ابي طالب ، وج ٥ / ٧٤ كتاب المغازي ، باب غزوة خيبر بطريقين الأول عن أمّ سلمة رضي الله عنها ، والثاني عن سهل بن سعد ، وصحيح مسلم ٧ / ١١٧ كتاب فضائل الصحابة من عدة طرق ، والترمذي ٢ / ٣٠٠ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٠٩.

(٣) الأوابي ـ جمع آب ـ وهو الممتنع والمراد الحصون المنيعة.

فخص بها دون البرية كلهم

عليا وسماه الولي المواليا

وكان ذلك القول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي بعد رجوع الشيخين براية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منهزمين.

ومنه الأخبار التي قدمناها المشتملة على (من احب عليّا فقد احب الله ومن احبه احب رسول الله) بألفاظ مختلفة ومعان متفقة والأحب الى الله الأكثر ثوابا عنده فيكون افضل ، وكذا الذي يحبه الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن محبته محبة الله ومحبة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والمحب لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو التابع لهما كما قدمنا بيانه في فصل التمسك ، واذا كان علي (عليه‌السلام) هو المخصوص بمحبة الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واحب الخلق لهما وجب ان يكون المقدم والرئيس على المسلمين لأنه افضلهم فيكون هو الإمام لقبح تقديم المفضول على الأفضل والشبهات مندفعة.

وأما ما ورد بلفظ الأعلمية وما يئول الى ذلك فكثير لا يحصى نذكر منه شيئا يسيرا.

فمنه : قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لفاطمة في حديث الاختيار المتقدم (زوجتك اقدمهم سلما واعظمهم حلما واكثرهم علما) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي في حديث خصمه بالنبوة وابصرهم بالقضية وقد قدمنا ذكره في حديث المنزلة والأبصر بالقضية هو الأعلم ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحديث المشهور (أقضاكم علي) اشار إليه ابن ابي الحديد في مواضع ونقل عن عمرانه قال : علي اقضانا ، والأقضى هو الأعلم بالقضاء.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (خازن وعيبة علمي وانا مدينة العلم وعليّ بابها) وقد مر ذكر ذلك كله مشروحا ، على انا لا نحتاج

هنا الى الأطناب في القول للاجماع على ان عليّا اعلم الصحابة من جميع اهل العلم ، وابن ابي الحديد مقر بذلك ومطنب فيه حتى قال في كلام له يعدد فيه خصائص علي (عليه‌السلام) : والثانية علومه التي لولاها لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام ، وقد اعترف بذلك له ، والخبر مشهور «لو لا عليّ لهلك عمر» (١) انتهى واذا كان اعلم وجب ان يكون هو الامام المتبع ، والرئيس المقدم ، ولم يجز لمن ليس مثله في ذلك ان يتقدم عليه لقول الله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما) (لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢) وغيرها من الآيات ، بل بالعقل كما سبق ذكره واذا كان الأعلم هو الأحق بالاتباع والمتبع هو الامام لا غيره فعلي (عليه‌السلام) هو الامام لأنه الأعلى وهو ظاهر.

وأما ما ورد بلفظ الأقربية : فمنه ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خطب الناس يوم جمعة فقال : (ايها الناس قدموا قريشا ولا تقدموها ، وتعلموا منها ولا تعلموها قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم ، وامانة رجل منهم تعدل امانة رجلين من غيرهم ، ايها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق ، من احبه فقد أحبني ومن ابغضه فقد ابغضني ، ومن ابغضني عذبه الله بالنار) (٣) وهذا الخبر نص في ان عليا (عليه‌السلام) هو

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤١ ، وقد قالها في اكثر من موطن ، وهي من كلماته المشهورة ، ومن رواتها ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٣٩ ، والسبط في التذكرة ص ٨٧ وابن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص ١٣ والمحب الطبري في الرياض ٢ / ١٩٤.

(٢) يونس : ٢٥.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ ، وتذكرة الخواص ص ١٧ ، والرياض النضرة ٢ / ٢١٢.

ذو القربى من الرسول وهو المخصوص بها دون سائر قريش لتخصيص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اياه بذلك في قوله : (أوصيكم بحب ذي قرباها) ودليل على إرادة تقديمه على كل الأمة وتوضيح ذلك ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حث الناس أولا على تقديم قريش والتعلم منها فدخل علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) في ذلك لأنه من ذروتها ، واولى الجميع بالعلتين المذكورتين اللتين لأجلهما امر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بتقديم قريش والتعلم منها ، وهما القوة والأمانة ، ثم خصص عليّا (عليه‌السلام) بالوصية بحبه ووصفه بصفة اراد بها التعليل على تخصيصه دون قريش بوجوب الحب المراد منه المتابعة وهي صفة خاصة به ، فكان مفاد الحديث قدموا قريشا على كل الناس لقوتهم وامانتهم وقدموا عليا (عليه‌السلام) على قريش في المتابعة لأنه اقربهم إليّ ، ثم اكد وجوب تقديمه بما ذكره من انه (لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق) ، الى آخر ما بينه من الأوصاف المؤكدة لوجوب تقديمه.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ثم يدعي بعلي لقرابته مني ومنزلته عندي) (١).

ومنه قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وانه ليس احد احق منك بمقامي لقدمك في الإسلام وقربك مني) (٢) فصرحت هذه الأحاديث بان الوصية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بحب علي (عليه‌السلام) وتقديمه على قريش وتقديمه في الدعوة مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على غيره ، وان احقيته بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيره ، كل ذلك لقرابته منه فكان ذلك دليلا على ان الأقربية من الرسول (صلى الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩.

(٢) المصدر السابق.

عليه وآله وسلم) تقتضي التقديم والأحقية بمقامه ، ويوازرها في هذه الدلالة قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (١) واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الأقرب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأقرب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو الأحق بمقامه واولى بالتقديم وجب ان يكون هو المقدم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والقائم مقامه ، فهو اذن الامام وذلك كله مفاد الأحاديث كما سمعت قال ابن أبي الحديد روى ابو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف بالاستيعاب في معرفة الصحابة ان انسانا سأل الحسن ـ يعني البصري ـ عن علي (عليه‌السلام) فقال : كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه ، ورباني هذه الأمة ، وذا فضلها وسابقتها ، وذا قرابتها من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يكن بالنؤمة عن امر الله ولا بالملولة في دين الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، اعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة (٢) انتهى.

اقول وبما ذكرنا هنا يندفع ما أورده بعض الخصوم فيما ذكرناه في مسألة الأقربية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من أنه لو كانت الامامة تستحق بالأقربية لكان العباس احق بها من علي (عليه‌السلام) ، فهذه الأخبار والأقوال رادة لذلك ومثبتة ان عليا (عليه‌السلام) اقرب للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من العباس وذلك لبعض ما ذكرناه من الوجوه هناك.

وأما ما ورد انه اشد جهادا : فانه امر متعارف متعالم وقد ذكره اهل المغازي والسير وذكر ابن ابي الحديد في كتابه منه كثيرا ويكفيك في ذلك قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في خبر الراية المتواتر : (كرارا غير فرار لا

__________________

(١) الأحزاب : ٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ٩٥ ، والاستيعاب ٣ / ٤٧.

يرجع أو يفتح الله علي يديه) (١) وسنذكر جملة من هذا في ذكر شجاعته عند ذكرنا جمعه للصفات الحميدة.

قال ابن ابي الحديد في كلام : فان قيل : لا ريب ان في كلامه ـ يعني عليّا ـ (عليه‌السلام) تعريض بمن تقدم عليه ، فاي نعمة له عليهم؟ قيل : نعمتان الأولى منهما جهاده وهم قاعدون فان من انصف علم انه لو لا سيف علي (عليه‌السلام) لاصطلم المشركون من اشار إليه وغيرهم من المسلمين ، وقد علمت آثاره في بدر واحد والخندق وخيبر وحنين ، وان الشرك فيها فغرفاه فلولا أنه سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة (٢) انتهى واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الأشد جهادا والأكثر عناء في نصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واعزاز دينه ودفع بأس المشركين عن اهل ملته كان هو الأحق بمقامه ، والأولى بالتقديم على غيره ، لأن تلك الصفات تقتضي تقديمه وتعظيمه ولا شيء من التقديم غير الامامة فيجب ان يكون هو الامام بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وأما ما ورد بانه مع الحق دائما : فمنه ما رواه كثير من اهل الحديث قال

__________________

(١) حديث الراية رواه المحدثون عامة منهم البخاري في صحيحه ج ٤ / ٥ وص ٢٠٧ في كتاب بدأ الخلق باب مناقب علي بن ابي طالب ، وفي كتاب الجهاد والسير باب دعاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الاسلام والنبوة ، وص ١٢ باب ما قيل في لواء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وج ٥ / ٧٦ في كتاب المغازي باب غزوة خيبر ، ومسلم في صحيحه في ٣ / ١٤٤١ في كتاب الجهاد والسير باب غزوة ذي قرد ، وج ٤ / ٨٧١ في كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل علي بن ابي طالب ، والترمذي ج ٢ / ٣٠٠ وابن ماجه في سننه ص ١٢ ، في باب فضائل الصحابة ، والامام احمد في المسند ١ / ٩٩ و ١٣٣ والنسائي في خصائصه ص ٥ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ و ١٣١ الخ ...

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤١.

ابن ابي الحديد في شأن علي (عليه‌السلام) وحكمه في ذلك حكم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه قد ثبت عنه في الأخبار الصحيحة انه قال : (علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار) وقال له غير مرة : (حربك حربي وسلمك وسلمي) (١) انتهى.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث الغدير (وادر الحق معه حيث دار) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كتاب الله وعترتي لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (٢) وما يعطى هذا المعنى من الأحاديث الكثيرة مثل احاديث (ان طاعته طاعة الله وطاعة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان محبته محبة الله) واحاديث التمسك به والاقتداء وغير ذلك مما مضى ويأتي ، واذا كان علي مع الحق لا يزال ولا يزول عنه كان واجب التقديم لا سيما انه قد طلب الخلافة ، وانف من تقدم غيره عليه وامتنع من بيعته حتى قهر عليها كما بيناه سابقا ، فوجب ان تكون إمامة غيره باطلة اذ ليس بعد الحق الا الضلال فهذه الأحاديث دالة على أن عليّا (عليه‌السلام) هو الاولى بمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو الامام بعده والله الهادي.

واما ما ورد بأنه خير الأمة وخير الخلق ، وما ادى مؤداه : فكثير منه ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في المسند عن مسروق قال : قالت لي عائشة انك من ولدي ومن احبهم الي فهل عندك علم من المخدج؟ فقلت : نعم قتله علي بن ابي طالب على نهر يقال لأعلاه تامرا ولأسفله النهروان بين لخافيق وطرفا (٣) قالت : ابغنى على ذلك بينه ، فأقمت رجالا شهدوا عندها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤١.

(٢) تقدم تخريج مصادر حديث الثقلين.

(٣) تامرا ـ كما في معجم البلدان ـ : نهر واسع يخرج من جبال شهرزور ، ولخافيق جمع

بذلك قال : فقلت لها سألتك بصاحب القبر ما الذي سمعت من رسول الله؟ فقالت نعم سمعته يقول : (انهم شر الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة واقربهم عند الله وسيلة) (١) قال ابن ابي الحديد : وفي كتاب صفين أيضا للمدائني عن مسروق ان عائشة قالت له لما عرفت ان عليا قتل ذا الثدية : لعن الله عمرو بن العاص فانه كتب الي يخبرني انه قتله بالاسكندرية ، الا انه ليس يمنعني ما في نفسي ان اقول ما سمعته من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سمعته يقول : (يقتله خير امتي من بعدي) (٢).

وعن ابي جعفر الاسكافي بسنده عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن ابيه عن جده ابي رافع قال : اتيت أبا ذر بالربذة اودعه فلما اردت الانصراف قال : لي ولأناس معي ستكون فتنة فاتقوا الله وعليكم بالشيخ علي بن ابي طالب فاتبعوه ، فاني سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول له : (انت اوّل من آمن بي واوّل من يصافحني يوم القيمة ، وانت الصديق الأكبر ، وانت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل ، وانت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين ، وانت اخي ووزيري وخير من اترك بعدي ، تقضي ديني ، وتنجز موعودي) (٣).

وروى ابن ابي الحديد أيضا عن ابن الكلبي عن رجل من ولد عقيل بن أبي طالب حكّمه عمر بن عبد العزيز الأموي في قضية المرأة التي حلف زوجها ان علي بن أبي طالب خير هذه الأمة واولاها برسول الله ، والا فامرأته طالق

__________________

لخفوق وهو شق في الأرض ، والطرفا : شجر الحمض واحدته طرفاء.

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٦٧.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٢٦٨.

(٣) كذلك ١٣ / ٢٢٨ عن نقض العثمانية.

ثلاثا فقال العقيلي لعمر : نشدتك الله يا امير المؤمنين ألم تعلم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لفاطمة وهو عندها في بيتها عائد لها يا بنية : ما علتك؟ قالت : الوعك يا أبتاه ، وكان علي غائبا في بعض حوائج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال لها : أتشتهين شيئا؟ قالت : اشتهي عنبا وأنا اعلم انه عزيز ، وليس وقت عنب فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله قادر على ان يجيئنا به) ثم قال : (اللهم ائتنا به مع افضل امتى عندك منزلة) فطرق على الباب فدخل ومعه مكتل (١) قد القى عليه طرف ردائه ، فقال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما هذا يا علي؟ قال عنب التمسته لفاطمة قال : (الله اكبر الله اكبر اللهم كما سررتني بان خصصت عليا بدعوتي فاجعل فيه شفاء ابنتي) ثم قال : (كلى على اسم الله يا بنية) فأكلت وما خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى استقلت وبرئت فقال عمر : صدقت وبررت اشهد لقد سمعته ووعيته ، يا رجل خذ بيد امرأتك فان عرض لك ابوها فأهشم انفه ثم قال : يا بني عبد مناف ـ وكان المجلس جامعا لبني هاشم وبني امية وافخاذ قريش ـ والله ما نجهل ما يعلم غيرنا ولا بنا عمى في ديننا ولكنا كما قال الأول :

تصيدت الدنيا رجالا بفخها

فلم يدركوا خيرا بل استحقبوا الشرا

واعماهم حب الغنى واصمهم

فلم يدركوا الا الخسارة والوزراء

قيل : فكأنما القم بني امية حجرا وكتب الى عامله ميمون بن مهران الذي بعث بالمرأة وزوجها وأبيها إليه ليحكم في امرهم ان يستيقن ذلك الحكم ويعمل عليه (٢) ،

__________________

(١) المكتل : وعاء شبه الزنبيل.

(٢) كذلك ٢ / ٢٢٢ والقصة نقلها المؤلف رحمه‌الله اختصارا وهي في شرح نهج البلاغة اطول.

قلت : وهذا الخبر الذي رواه العقيلي تدل القصة على انه متواتر بين الناس لا سبيل لأحد الى انكاره فلهذا لم ينكره من القوم منكر ، ولا قال منهم قائل ، بل كلهم سلموا الراوية مع انه جل من في ذلك المجلس مبغضون لأمير المؤمنين ، ولا مانع لهم من الطعن في الخبر لو لم يكن معلوما من تقية او خوف لا سيما عمر بن عبد العزيز فانه السلطان القاهر إذ ذاك ، وقد اقر بانه روى الحديث ووعاه ، فلا شك اذن في صدق الحديث ومعلوميته وما مضى من احاديث السيادة والاختيار والمحبة ومماثلة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما يأتي من الأخبار مثل تشبيهه بالأنبياء وغير ذلك كلها تعضد هذه الأخبار المصرحة بانه خير الخلق وافضل الأمة في دلالتها ، ثم ان نصها على افضلية علي (عليه‌السلام) على الأمة ، بل على الخلق كافة بمعنى كثرة الثواب واطلاقها يدل على افضليته بمعنى الأجمع للخصال المحمودة لشمول الخيرية والأفضلية لذلك ، مع ان هذا المعنى لا ينازع فيه عاقل وسنوضحه ان شاء الله.

وروى ابن ابي الحديد ان قيس بن سعد بن عبادة لما اتى مصر عاملا لعلي (عليه‌السلام) قام خطيبا على المنبر وقال بعد الحمد لله والثناء عليه وما اراد أن يذكره : ايها الناس انا بايعنا خير من نعلم بعد نبينا ـ يعني عليا ـ (عليه‌السلام) فقوموا فبايعوا على كتاب الله فان نحن لم نعمل فيكم بكتاب الله فليس لنا عليكم طاعة (١).

وقال المعتزلي أيضا : وروى ابان بن أبي عياش قال : سألت الحسن البصري عن علي (عليه‌السلام) فقال : ما اقول فيه كانت له السابقة والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة ، ان عليا كان في امره عليا ، رحم الله عليّا وصلى عليه ،

__________________

(١) كذلك ٦ / ٥٩.

فقلت يا أبا سعيد : أتقول صلى الله عليه لغير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال : ترحم على المؤمنين اذا ذكروا وصل على النبي وآله وعلي (عليه‌السلام) خير آله قلت : أهو خير من حمزة وجعفر : قال : نعم ، قلت : وخير من فاطمة وابنيها قال : نعم والله انه خير آل محمد كلهم ، ومن يشك انه خير منهم وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وابو هما خير منهما) ولم يجر عليه اسم شرك ولا شرب خمر ، وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لفاطمة زوجك خير امتي) فلو كان في امته خير منه لاستثناه ، ولقد اخى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين اصحابه فأخى بين علي ونفسه ، فرسول الله خير الناس نفسا وخيرهم اخا فقلت : يا أبا سعيد فما هذا الذي يقال عنك انك قلته في علي؟ فقال : يا بن اخي احقن دمي من هؤلاء الجبابرة لو لا ذلك لسالت بي الخشب (١) انتهى. وقد دل آخر الكلام على ان اخفاء الحسن القول بافضلية علي (عليه‌السلام) على جميع الأمة كما صرح به هنا وروى فيه الحديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انما كان للخوف على نفسه من القتل ، لأن بني امية كانوا يقتلون من ذكر امير المؤمنين (عليه‌السلام) بخير فكيف من فضّله على الأمة ، وهذا امر شائع معلوم ، على ان المعتزلي مقر بذلك وبه معترف حتى انه قال في دعوة علي (عليه‌السلام) للأشتر : إني لا أشك ان الأشتر يغفر الله له ويدخل الجنة بهذه الدعوة فانها لا فرق عندنا بينها وبين دعوة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) انتهى.

ثمّ ان الأحاديث قد اشتملت تارة على انه خير الأمة وخير من يترك النبي

__________________

(١) الخشب ـ بضم الخاء والشين المعجمتين ـ جمع خشب وهو الصقيل من السيوف.

(٢) كذلك ٤ / ٩٦.

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده ، وخير الخلق والخليفة ، فيكون افضل الخلق حتى الأنبياء والملائكة لأنهم من جملة الخلق والخليقة الذين نص الخبر على ان عليّا (عليه‌السلام) خيرهم ، فكونه (عليه‌السلام) افضل الصحابة امر واضح ومع هذا انا نعلم يقينا ان الخصال التي توجب الفضل والصفات التي تقتضي كثرة الثواب كلها حصلت له دون غيره واجتمعت فيه دون من سواه وفاق في جميعها كل الناس فيجب ان يكون افضل بالضرورة والا لخرج المقتضى عن كونه مقتضيا وهو باطل ، وها نحن نذكر استكماله في خصال الخير مفصّلا ونأتي به مشروحا.

اما نسبه (عليه‌السلام): فهو النسب الجليل الذي لا يساجل (١) ، والمجد الأثيل الذي لا يطاول ، فانه من السّرو (١) من قريش ، والصريح المهذب من قصى ، والذروة من عبد مناف ، والسلالة من هاشم ، ابوه ابو طالب شريف قريش مانع الجار وحامي الذمار أمنع الناس جانبا ، وابلغهم حجة ، واثبتهم قلبا ، وافصحهم لسانا ، واوفاهم موعدا ، وحمايته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وغيرها تشهد له بذلك ، وقال معاوية بن ابي سفيان في ابيات يخاطب بها عمرو بن العاص بعد قتل علي (عليه‌السلام).

نجوت وقد بل المرادى سيفه

من ابن ابي شيخ الأباطح طالب (٢).

__________________

(١) يساجل : يبارى ، والاثيل : الاصيل ، والسرو : أعلا الشيء أو السخاء في مروءة.

(٢) البيت من شواهد النحاة على جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالنعت عند الضرورة ، وهو من ابيات بعث بها معاوية الى عمرو بن العاص لما اصيب امير المؤمنين (عليه‌السلام) وسلم هو من ضربة الخارجي ، وقتل خارجة مكان عمرو. خطأ ، وأولها :

وقتك واسباب الأمور كثيرة

منية شيخ من لوى بن غالب

فيا عمرو مهلا إنما أنت عمه

وصاحبه دون الرجال الأقارب

نجوت وقد بل المرادى سيفه

 ... البيت

ابن عبد المطلب شيبة الحمد ، وساقى الحجيج ، سيد قريش كلها لا يدافع في ذلك ولا ينازع ، ابن هاشم عمرو العلاء صاحب الإيلاف ، ومطعم الأضياف ، وشمس بني عبد مناف ، وأمه فاطمة بنت اسد بن هاشم فهو اوّل هاشمي ولد من هاشميين ، وهو ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبيه وأمه.

نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمودا.

آباؤه اباء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وامهاته امهات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فهو خير الناس نسبا ، واشرفهم حسبا ، وافضلهم آباء وامهات ، لما صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من قوله : (ما افترقت فرقتان من لدن آدم الا كنت في خيرهما) (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كنت انا وعلي نورا واحدا فما زلنا ننتقل من صلب طاهر الى رحم مطهر حتى افترقنا في عبد الله وابي طالب) (٢) فعلي (عليه‌السلام) افضل الصحابة نسبا ، واجلهم اصلا واكرمهم عنصرا.

واما انه اعلم الصحابة : فلقوة حدسه وشدة ذكائه وكثرة ملازمته للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى قال : (علمني رسول الله (صلى

__________________

وبعده :

ويضربني بالسيف آخر مثله

وكانت عليه تلك ضربة لازب

وأنت تناغي كل يوم وليلة

بمصرك بيضا كالظباء القوارب

والقوارب جمع قارب ـ بفتح الراء ـ وهو طالب الماء قال علي (عليه‌السلام) : (وهل انا الا كطالب وجد وقارب ورد) يريد سلام الله عليه حصوله على الشهادة.

(١) أورد المحب الطبري في الرياض النضرة ٢ / ١٦٤ ما هو بمضمون هذين الحديثين.

(٢) رواه في كنز العمال ٦ / ٤٠٥ وقال : أخرجه الأصبهاني في الحجة. وانظر فتح القاري ١٦ / ١٦٥.

الله عليه وآله وسلم) الف باب من العلم فانفتح لي من كل باب الف باب) (١) ولحرص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على تعليمه وارشاده وعظم شفقته عليه ، لمّا نزل قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (٢) قال : (اللهم اجعلها اذن علي) وقال علي (عليه‌السلام) (ما نسيت بعد ذلك شيئا) (٣) وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين بعثه الى اليمن قاضيا : (اللهم اهد قلبه وثبت لسانه) قال : (فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين) (٤) وقال (عليه‌السلام) : (والله لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين اهل التورية بتوراتهم ، وبين اهل الزبور بزبورهم ، وبين اهل الإنجيل بانجيلهم ، وبين اهل الفرقان بفرقانهم ، والله ما نزلت من آية في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل أو نهار الا انا أعلم فيمن نزلت ، وفي أي شيء نزلت) (٥) وقضاياه معروفة مأثورة كحكمه في قضية الحمار والبقرة بين يدي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٦) وفتياه في الزانية

__________________

(١) تفسير الطبري ٢٨ / ٣٣ و ٣٤ الكشاف ٤ / ١٥١ روح المعاني ٩ / ١٥٣ وهكذا في اكثر كتب التفسير.

(٢) الحاقة ١٢ ، وانظر سنن ابن ماجة باب ذكر القضاء ص ١٦٨ ، واسد الغابة ٤ / ٢٢ وتاريخ بغداد ١٢ / ٤٤٣.

(٣) رواه ابن ابي الحديد ٦ / ١٣٦ وقريبا منه ابن جرير في تفسيره ج ٢٦ / ١١٦ وابن سعد في الطبقات في ٢ / ١٠١.

(٤) شرح نهج البلاغة ١ / ١٩ ونور الابصار ص ٧١ والصواعق ص ٧٣.

(٥) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٣٦.

(٦) اجمال القضية إن ثورا لرجل قتل حمارا لآخر فرفعت القضية الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في مجلسه وعنده جماعة من أصحابه فطلب النبي من ابي بكر ان يحكم بالقضية ، فقال : بهيمة قتلت بهيمة ، ما عليها شيء ، وطلب من عمر ان يحكم بالقضية فحكم بحكم ابي بكر ، فقال لعلي عليه‌السلام : (يا علي اقض بينهم) فقال : ان كان الثور دخل على الحمار في مراحه ضمن اصحاب الثور وان الثور دخل على الحمار في مراحه فلا ضمان عليهم.

الحامل (١) ، وفي المرأة التي وضعت لستة اشهر (٢) وحكمه في قضية الأرغفة (٣) ، وفيمن حلف لا يحل قيد عبده (٤) وفي مال الكعبة حين استشاره عمر فيه (٥) ، وهو الذي اخترع علم النحو وبين اصوله (٦) وينبغي الحاق ذلك بالمعاجز وغير ذلك مما لا يبلغ إليه فهم ، ولا يحوم حوله

__________________

(١) مجمل القضية ان عمر اتي بامرة حامل اعترفت بالفجور فاراد رجمها فمنعه علي (عليه‌السلام) وقال : هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها رواه المحب في الرياض ٢ / ١٩٥ وقال : «اخرجه ابن السمان في الموافقة».

(٢) القضية ان امرأة ولدت لستة اشهر فاراد عمر ان يرجمها فبلغ ذلك عليا (عليه‌السلام) فاخبره ان لا رجم عليها وتلا قوله تعالى : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) وقوله تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : فالحمل ستة اشهر والفصال أربعة وعشرون شهرا فخلى عمر سبيلها وقال : لو لا علي لهلك عمر. رواه البيهقي في السنن ٧ / ٤٤٢ والمتقي في الكنز ٣ / ٢٢٢ والمحب في الرياض ٢ / ١٩٤.

(٣) قصة الأرغفة رواها ابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٤٦٢ والمحب في الرياض ٢ / ١٩٩ وابن حجر في الصواعق وغير هؤلاء.

(٤) قضية من حلف ان لا يحل قيد عبده من القضايا التي اشكل حكمها على عمر فرفعها الى علي عليه‌السلام تجدها في قضاء امير المؤمنين للتستري ص ١٨١.

(٥) روى انه ذكر عند عمر بن الخطاب حلي الكعبة وكثرته فقال قوم : لو اخذته فجهزت به الجيوش كان اعظم للأجر ، وما تصنع الكعبة بالحلي فهم عمر بذلك وسأل عنه امير المؤمنين فقال (عليه‌السلام) : «ان هذا القرآن انزل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأموال أربعة : اموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض ، والفيء فقسمه على مستحقيه ، والخمس فوضعه الله حيث وضعه ، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها وكان حلي الكعبة فيها يومئذ فتركه الله على حاله ولم يتركه نسيانا ولم يخف عليه مكانا فأقره حيث اقره الله ورسوله ، فقال عمر : لولاك لافتضحنا ، وترك الحلي بحاله (انظر نهج البلاغة باب الكلمات القصار برقم ٢٧٠).

(٦) انظر قضاء امير المؤمنين للتستري ص ١٩٩.

عقل ، وقد رجع إليه الصحابة في كثير من المسائل بعد غلطهم ، واحتاجوا الى بيانه ولم يحتج هو في شيء من الأحكام الى احد من الناس ، واعترف اكابر الصحابة له بالأعلمية وقال عبد الله بن العباس لما سئل : اين علمك من علم ابن عمك علي (عليه‌السلام)؟ قال : كالقطرة في المثعنجر يعني البحر المحيط (١) وقال عبد الله بن مسعود ما معناه ان من اراد علم القرآن كما انزله الله فعليه بعلي بن أبي طالب ، وقال عمر غير مرة : «لو لا علي لهلك عمر» وقال : «لا بقيت لمعضلة ليس لها ابو الحسن» (٢). حتى ان كل فرقة من اهل العلم لتنتمي إليه ، وكل ذي طريقة ليتجاذبه وينتهي إليه ، فقه كل فقيه وعلم كل عالم ، ويكفي في ذلك ما صح في الروايات عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من أنه اعلم الناس فلا شك انه اعلم الصحابة في جميع العلوم فيكون افضلهم لقول الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٣). وقال : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٤).

وأما انه احلمهم : فهو كضوء النهار حتى بلغ من حلمه انه ترك عبد الرحمن بن ملجم في دياره ويعطيه العطاء مع علمه به وقوله فيه مرارا (انه

__________________

(١) كلمة ابن عباس نقلها السيد زيني دحلان في الفتوحات الاسلامية ٢ / ٣٣٧ هكذا : «ما علمي وعلم اصحاب عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علم علي رضي الله عنه إلا كقطرة في سبعة ابحر».

(٢) الكلمتان مشهورتان بل متواترتان عن عمر (رضي الله عنه) رواهما غير واحد من العلماء منهم ابو عمر في الاستيعاب ٣ / ٣٩ والمحب في الرياض ٢ / ١٩٤ وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤال ص ١٢ وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٣٥٩ وو الخ ..

(٣) الزمر : ٩.

(٤) فاطر : ٢٨.

قاتلي) (١) وعفا عن مروان يوم الجمل مع شدة عداوته له وقوله فيه : (ستلقى الأمة منه ومن ولده يوما احمر) (٢) وعفى عن سعيد بن العاص وكان عدوا له في غاية العداوة وعن عبد الله بن الزبير وكان يشتمه على رءوس الاشهاد واطلقه وقال له : (اذهب فلا أرينك) لم يزده على ذلك (٣) وحسبك بحلمه عفوه عن اهل البصرة بعد ما هزمهم وكانوا قد ضربوا وجهه ووجوه بنيه واصحابه بالسيوف ، ونكثوا بيعته ونصروا عدوه ، وعفوه عن عائشة وهي السبب الأعظم في نكث بيعته والأجلاب عليه ولو فعلت عشر ذلك بغيره ثم قدر عليها لمزق جلدها وقطعها اربا اربا ، ولما منعه واصحابه معاوية الماء يوم صفين حين ملك اهل الشام الشريعة فقاتلهم وهزمهم واراد اصحابه منعهم من الماء قال : (افرجوا لهم عن الشريعة ففي حد السيف مغنى عن ذلك) وكان مع الحلم عظيم الرزانة لم ير طائشا قط ، وكان اطلق الصحابة وجها ، واحسنهم خلقا حتى نسبه أعداؤه كعمرو بن العاص الى الدعابة (٤).

واما قدمه في الاسلام : فمعلوم لأنه لم يجر منه كفر قط وكان يصلي قبل الناس مع رسول الله سبع سنين وقال رسول الله (او لكم اسلاما علي بن ابي طالب) (٥) وقال : (اقدمهم سلما) وكان علي (عليه‌السلام) يقول على

__________________

(١) انظر الاستيعاب ٣ / ٦١.

(٢) رواه ابن واضح في تاريخه ١ / ٦٨ والرضي في نهج البلاغة ط ٧٠ وقال ابن ابي الحديد : روى هذا الخبر من طرق كثيرة.

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣.

(٤) شرح نهج البلاغة (١ / ٢٥).

(٥) اخرجه الحاكم وصححه في المستدرك ٣ / ١٣٦ وصدره : (اولكم ورودا ـ أو ـ وردا علي الحوض اولكم اسلاما علي بن أبي طالب) وابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٢٨.

وانظر شرح النهج لابن ابي الحديد ٤ / ١١٧ كما نقله غير هؤلاء بما يتفق معنى ويختلف لفظا.

المنابر : (انا اوّل من صلى واوّل من آمن بالله ورسوله ، ولم يسبقني الى الصلاة الا نبي الله) (١) ولم يرد عليه احد قوله مع انهم كانوا يردون عليه في اقل شيء مما يمكنهم الرد فيه ولو من جهة الشبهة أو الجهالة بما يقول ، وقد استفاضت الروايات بذلك عن محدثي مخالفينا كالطبري والواقدي وابن عبد البر وابن اسحاق وابن كعب القرظي وابن شهاب الزهري وعبد الله بن محمد بن عقيل وقتادة وغيرهم ورووا ذلك عن عبد الله بن العباس ، وسلمان وابي ذر والمقداد وخباب بن الأرت وابي سعيد الخدري وزيد بن اسلم وعفيف الكندي والحسن البصري (٢) ، والى هذا القول ذهب اكثر المخالفين ، ولم يخالف فيه إلا شاذ لا يعبأ به واشعار الصحابة والتابعين فيه كثيرة ومن جملتها قول خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين :

وصى رسول الله من دون اهله

وفارسه مذ كان في سالف الزمن

وأول من صلى من الناس كلهم

سوى خيرة النسوان والله ذو منن (٣)

وقول حسان بن ثابت :

جزى الله عنا والجزاء بفضله

أبا حسن خيرا ومن كأبي حسن

سبقت قريشا بالذي انت اهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن (٤)

__________________

(١) أما الكلمة الأولى فرواها ابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٣٢ وقد عدها ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة مما استفاضت بها الروايات والكلمة الثانية فقد رويت عنه (عليه‌السلام) بألفاظ مختلفة ومعنى واحد مما يدل على تعدد المواقف حتى قال أبو جعفر الاسكافي المعتزلي في نقض العثمانية : ما زال يقول : (انا اوّل من أسلم) ويفتخر بذلك : (انظر شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٤٤. ومسند الامام احمد.

(٢) من حديث رواه الامام احمد في المسند ٥ / ٢٦ وابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ١٣٦).

(٣) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٣١.

(٤) المصدر السابق ٦ / ٣٥. من أبيات نقلها عن الموفقيات للزبير بن بكار ، وقد استشهد المؤلف بهذه الأبيات فيما سبق من الكتاب.

وقول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب :

وان ولي الأمر بعد محمد

علي وفي كل المواطن صاحبه

وصي رسول الله حقا وصنوه

وأول من صلى ومن لان جانبه (١)

وقول ابي سفيان بن حرب في رواية ابي جعفر الاسكافي وفي رواية غيره قول بعض ولد ابي لهب :

ما كنت احسب أنّ الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن ابي حسن

أليس اوّل من صلى لقبلتكم

واعلم الناس بالاحكام والسنن

واقرب الناس عهدا بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن (٢)

وقول هاشم بن عتبة المرقال في صفين :

اعور يبغي اهله محلا

قد عالج الحياة حتى ملا

اشلهم بذي الكعوب شلا

عن ابن عم احمد المعلّى

اوّل من صدقه وصلا (٣)

وقول شريح بن هاني الحارثي وهو من التابعين :

أبا موسى رميت بشر خصم

فلا تضع العراق فدتك نفسي

فلا تجعل معاوية بن حرب

كشيخ في الحوادث غير نكس

هداه الله للاسلام فردا

سوى عرس النبي وخير عرس (٤)

وقول سعيد بن قيس الهمداني :

هذا علي وابن عم المصطفى

أول من اجابه فيما روى

هو الامام لا يبالي من غوى (٥)

__________________

(١) المصدر السابق عن نقض العثمانية للإسكافي.

(٢) نفس المصدر ١٣ / ٢٣١ وقد نقل الاسكافي منها البيتين الأولين ونسبهما الى أبي سفيان بن حرب ولعله ابو سفيان بن الحرث فان التصحيف بين حرب وحرث قريب جدا.

(٣) المصدر نفسه ٨ / ١١.

(٤) كذلك ٢ / ٢٤٥.

(٥) كذلك ٣ / ٢٣٢.

وقول ابي الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير يوم الجمل :

وان عليا لكم مصحر

يماثله الأسد الأسود

أما انه اوّل العابدين

بمكة والله لا يعبد (١)

وغير ذلك من الأشعار ، ولو تعاطينا ذكر الأخبار ورواية الأشعار في هذا الباب حتى نستوفي ما وجدناه من ذلك في كتب الخصوم لطال الكتاب وبلغ الى غاية الأطناب ، وقول من قال : اوّل من اظهر الايمان ابو بكر مع شذوذه مردود بمعارضته لهذه الشهرة التي قربت من الاجماع بل كادت تكون اجماعا ، ولذا ادعى بعض العامة عليه الاجماع ، على ان أبا جعفر الاسكافي قال في كتاب نقض العثمانية : ان جمهور المحدثين لم يذكروا ان أبا بكر أسلم الّا بعد عدة من الرجال منهم علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) وجعفر أخوه وزيد بن حارثة وابو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وخباب بن الارت انتهى (٢) وقال ابن ابي الحديد ان المخالف في سبق ايمان علي (عليه‌السلام) شاذ لا يعتد به (٣) انتهى ولأجل اشتهار الأمر لم نحتج فيه الى ذكر ما رواه الخصوم جميعه بل اكتفينا بيسير منه واذا كان علي (عليه‌السلام) اسبق في الإيمان كان افضل لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٤) والمقرب اكثر ثوابا البتة.

واما انه اشجع الصحابة واكثرهم جهادا : فامر معلوم لا يشك فيه ذو فهم وفطنة ، بل كونه اشجع البشر أمر أوضح من ضوء النهار كما يشهد به مواقفه المشهورة ، ومشاهدة المأثورة في حروب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) أيضا.

(٢) نقض العثمانية كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٢٥.

(٤) الواقعة ١١.

وسلم) وحروبه في ايام خلافته ، وقد قال معاوية لعمرو بن العاص لما اشار عليه بمبارزته : أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وهو الشجاع المطرق اراك طمعت في إمارة الشام بعدي ، وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته كما افتخر بذلك عبد الله بن الزبير على معاوية فقال له معاوية : لا جرم انه قتلك واباك بيسرى يديه وبقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها ، ويكفيك شاهدا على ذلك افتخار رهط قتلاه بانه قتلهم قالت اخت عمرو بن عبد ود :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

بكيته ابدا ما دمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له

وكان يدعى أبوه بيضة البلد (١)

قال ابن ابي الحديد : اما الشجاعة فانه انسى فيها ذكر من كان قبله ومحى اسم من يأتي بعده ، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال ، وهو الشجاع الذي ما فر قط ولا ارتاع من كتيبة ، ولا بارز احدا الا قتله ، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى الى ثانية ، انتهى. ولقد قتل صناديد المشركين ، وقويت به شوكة الاسلام ، واعتز به جانب المسلمين ، قتل في غزاة بدر اعيان الكفار وشجعانهم حتى قتل قريبا من نصف القتلى وقتل باقي المسلمين والملائكة المسمون النصف الآخر (٢) ، قال القوشجي ومع ذلك كانت الراية في يد علي (عليه‌السلام) في احد وقد تفرق عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اصحابه وانهزموا بعد ان قتل علي (عليه

__________________

(١) بيضة البلد من الأضداد يقصد بها المدح كما يقصد بها الذم والمراد هنا الأول وكان ابو طالب (رضي الله عنه) يدعى بيضة البلد والمعنى انه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تريكة وحدها ليس معها غيرها.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٤ وجاء ذلك في احتجاج المأمون على الفقهاء كما في العقد الفريد لابن عبد ربه المالكي ٥ / ٩٢.

السلام) طلحة بن ابي طلحة وهو المسمى كبش الكتيبة وكان صاحب راية قريش قتله مبارزة بعد ان تحاماه المسلمون وتأخروا عن البراز إليه ، ثم اخذ الراية غيره فقتله علي (عليه‌السلام) أيضا ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد حتى قتل تسعة نفر فانهزم المشركون ، واشتغل المسلمون بالغنائم فحمل خالد بن الوليد وضرار بن الخطاب الفهري واصحابهما على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فضربوه بالسيوف والرماح والحجارة وانهزم الناس عنه ما خلا عليا (عليه‌السلام) فانه ما زال يجالد عنه حتى رد عنه المشركين ، وقتل جملة من فرسانهم وكان قتلاه قريبا من نصف المقتولين وقتل كل المسلمين النصف الآخر قال القوشجي : وجمع له الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين اللواء والراية انتهى ونادى جبريل ذلك اليوم : (لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى إلا علي (١).

وفي يوم الأحزاب حين ظن المسلمون بالله الظنون وزلزلوا زلزالا شديدا ، وأتى عمرو بن عبد ود يطلب المبارزة مرارا فاحجم عنه المسلمون وخافوا اشد الخوف والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يحض المسلمين على مقاتلته ويحرضهم على منازلته ويعرض عليهم مبارزته فلم يجبه احد منهم الا علي فخرج الى عمرو فقتله وكفى الله المؤمنين القتال به وكان الفتح ذلك اليوم على يده وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لضربة علي لعمرو خير من عبادة الثقلين) (٢) وقال حذيفة : والذي نفس حذيفة بيده

__________________

(١) المصدر السابق ١٠ / ١٨٢ ونداء جبرئيل (عليه‌السلام) : (لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي) رواه الطبري في التاريخ ٣ / ١٥ وكذلك ابن هشام في السيرة النبوية ٣ / ٥٢ والخوارزمي في المناقب ١٠٤ وسبط ابن الجوزي في التذكرة ص ١٧ عن فضائل الامام احمد بن حنبل وغيرهم.

(٢) في رواية الحاكم في المستدرك ٣ / ٣٢ والرازي في موضعين من تفسيره ج ٢ تفسير (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) وج ٣٠ في تفسير سورة القدر بهذا اللفظ (لمبارزة

لَعَمَلُهُ ـ يعني عليّا (عليه‌السلام) ـ ذلك اليوم اعظم اجرا من عمل اصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى يوم القيمة (١).

وفي غزوة خيبر وقد اخذ الراية ابو بكر فرجع مع اصحابه منهزمين خائفين ، ثم اخذها عمر من الغد ففعل مثل ذلك ، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله تعالى ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار لا يرجع او يفتح الله علي يديه) فدعا بعلي (عليه‌السلام) وهو أرمد فاتى به فتفل في عينيه فبرأ من ساعته ، واعطاه الراية فمضى وقتل مرحبا فانهزم اصحابه اليهود وغلقوا الأبواب فاقتلع على الباب وجعله جسرا على الخندق وامسكه بيده حتى عبر عليه المسلمون فلما انصرفوا اخذه بيده ودحاه اذرعا وكان يغلقه عشرون رجلا وعجز جماعة من المسلمين عن نقله حتى نقله سبعون رجلا من أقويائهم وقال علي (عليه‌السلام) (ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن قلعته بقوة ربانية) وكان الفتح على يده (٢) وروى الحافظ ابن عساكر الدمشقي ان عليّا (عليه‌السلام) تترس بباب الحصن عن نفسه فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه وهذه الرواية موافقة لرواية اصحابنا.

وفي غزاة حنين وقد سار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اثني عشر

__________________

علي بن ابي طالب لعمر بن عبد ود يوم الخندق افضل اعمال امتي الى يوم القيامة).

(١) شرح نهج البلاغة ١٩ / ٦١ والكلمة في الشرح اطول وألطف مما في المتن.

(٢) قوله (عليه‌السلام) : (ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية) الخ رواه الفخر الرازي في تفسير سورة الكهف بلفظ (جسدانية) وعلق عليه بقوله : «وذلك لأن عليا كرم الله وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد واشرقت الملائكة بانوار عالم الكبرياء فتقوى روحه بجواهر الأرواح الملكية ، وتلألأت اضواء عالم القدس والعظمة ، فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره».

الف مقاتل فتعجب ابو بكر من كثرتهم وقال لن نغلب اليوم من قلة كما ذكره القوشجي وغيره ونظمه ابن أبي الحديد في اشعاره (١) فانهزموا باجمعهم ولم يبق مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلا تسعة من بني هاشم وايمن بن أمّ ايمن مولى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقدمهم علي (عليه‌السلام) فخرج ابو جرول فقتله علي (عليه‌السلام) حتى قتل اربعين رجلا فانهزم المشركون وغنمهم المسلمون. (٢)

وفي غزوة بني المصطلق وغيرها من الوقائع المشهورة والغزوات المأثورة ، قال ابن ابي الحديد وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما واذا كان علي (عليه‌السلام) اكثر الصحابة جهادا كان اكثرهم اجرا لقوله تعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) (٣) فهو افضلهم.

وأما انه اسخى الناس : فيدل عليه ايثاره المحاويج على نفسه واهل بيته حتى جاد بقوته وقوت اهل بيته ثلاث ليال على يتيم ومسكين واسير فانزل الله فيه وفي اهل بيته (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) السورة بتمامها إلا آيات قليلة منها وتصدق بخاتمة في الصلوات فانزل الله في حقه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٤) ، قال ابن ابي الحديد : وروى المفسرون انه لم يكن يملك الا

__________________

(١) يعني قوله في احدى علوياته :

واعجب انسانا من القوم كثرة

فلم يغن شيئا ثم هرول مدبرا

وضاقت عليه الأرض من بعد رحبها

وللنص حكم لا يدافع بالمرا

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٤.

(٣) النساء : ٩٥.

(٤) المائدة ٥٥ ، وممن روى نزولها في علي (عليه‌السلام) الطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦ والرازي في تفسيره ١٢ / ٢٦ والزمخشري في كشافه ١ / ٦٢٤ ، وذكر جماعة ممن خرج

أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية فانزل فيه : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١) وكان (عليه‌السلام) يسقى بيده لنخل قوم من يهود المدينة (٢) حتى مجلت يده ويتصدق بالأجرة ويشد على بطنه حجرا وقال الشعبي وقد ذكره : كان اسخى الناس على الخلق الذي يحبه الله ما قال لا لسائل قط ، وكان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها ، وكان يقول : (يا صفراء ويا بيضاء غرى غيري) حتى انه لم يخلف ميراثا ولقد قال عدوه ومبغضه معاوية فيه : لو ملك بيتا من تبن وبيتا من تبر لأنفق تبره قبل تبنه ، ويكفيك شاهدا على انه اسخى الصحابة واجودهم آية النجوى التي لم يعمل بها غيره ولم يفز بها سواه وهي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) (٣) الآية فان الصحابة جميعهم امتنعوا من مناجاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد نزولها ولم يناجه الا علي (عليه‌السلام) ، وقد روى انه اعتق من كسب يده الف مملوك. (٤)

وأما انه ازهد الناس فأمر ظاهر ، فانه (عليه‌السلام) كان سيد الزهاد وبدل الأبدال ، ما شبع من طعام قط وكان اخشن الناس مأكلا وملبسا ، وقل ان يأتدم فان فعل فبالملح او الخل ، فان ترقى فبنبات الأرض ، فان زاد فبلبن ، وكان لا يأكل اللحم الا قليلا ، ويقول : (لا تجعلوا بطونكم مقابر

__________________

ذلك من المفسرين والمحدثين ، والواحدي في اسباب النزول ص ١٤٨ والمحب في «ذخائر العقبى ص ١١٢ والرياض النضرة ٢ / ٢٣٧ الخ.

(١) المجادلة ١٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٢.

(٣) المجادلة : ١٢.

(٤) رواها ابن ابي الحديد في شرح النهج ١ / ٢٦.

الحيوان) ، وكان نعلاه من ليف وحمائل سيفه من ليف ، وكان يرقع قميصه بجلد تارة وبليف اخرى ، واذا اشترى قميصا ورأى كمه طويلا قطعه بالشفرة ولم يخطه حتى يبقى متساقطا على يده ، وقد تواتر إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لاتساع ابواب الدنيا عليه لأن الأموال كانت تجبى إليه ، حتى قال : (يا دنيا يا دنيا أليك عني ابي تعرضت أم الي تشوقت لا حان حينك هيهات هيهات غرى غيرى لا حاجة لي فيك وقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وخطرك يسير ، وملكك حقير) وقال : (والله لدنياكم هذه اهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم) (١) وقال عبد الله ابن أبي رافع دخلت عليه يوما فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فأكلنا منه ، فقلت : يا امير المؤمنين لم ختمته فقال : (خفت هذين الولدين يلتانه بزيت او سمن) (٢) ، قال القوشجي : وهذا شيء اختص به علي (عليه‌السلام) ولم يشاركه فيه غيره ، ولم ينل احد بعض درجته انتهى واخبار زهده وسخائه كثيرة يضيق بها هذا الاملاء وتحتاج الى مصنف على حده ، والغرض هنا الاشارة الى صفاته الحميدة.

وأما انه اعبد الناس فلما تواتر من كثرة صلاته وصيامه حتى كان يصلي كل يوم وليلة الف ركعة ، وتعلم منه الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد ، ويشهد بذلك ما في دعواته ومناجاته من تعظيم جلال الله والخضوع والخشوع له ، قال ابن ابي الحديد : وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده ان يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه ، وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده (٣) انتهى ،

__________________

(١) نهج البلاغة ح ٢٣٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦.

(٣) المصدر السابق ١ / ٢٧.

وقيل لعليّ بن الحسين مع انه سيد العابدين : اين عبادتك من عبادة جدك ، فقال : (عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله (عليه‌السلام)

وأما انه احفظ الصحابة للقرآن فلما صح أنه (عليه‌السلام) كان يحفظه على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يكن غيره يحفظه ، ثم هو اوّل من جمعه ولم يحتج الى ما عند احد غيره منه في جمعه كما احتاج الى ذلك ابو بكر وعمر لما ارادا جمع القرآن فنادى مناديهما : من كان عنده شيء من القرآن فليأت به ، فدل على أنهما لم يعرفا من القرآن إلا يسيرا ، وهذا كله صحيح عند الخصوم ، وكان اكثر القراء كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما يسندون قراءتهم إليه لأنهم تلامذة ابي عبد الرحمن السلمي وهو تلميذ امير المؤمنين ، وعبد الله بن العباس رئيس المفسرين ، وعنه يأخذون والى قوله يستندون ، وهو تلميذ امير المؤمنين (عليه‌السلام) وما زال منقطعا إليه وعنه اخذ ومنه تعلم (١).

واما انه افصح الناس لسانا فيدل عليه خطبه ومواعظه ورسائله ، وما اشتملت عليه من المطالب العالية ، وعلوم التوحيد وكيفية السلوك ، والأخبار عن احوال العالم العلوي وصفاته ، وكيفية إنشاء الخلائق علويها وسفليها وجسمانيها وروحانيها ماديها ومجردها مما لم يجر لاحد من الناس شبهه عشر العشر ، بل لا يعلم احد من الصحابة شيئا منه ، ولا يعرفون ما هو ولا يحسنون التعبير عنه ، وكل ذلك اورده في كلام عال لم يوازنه كلام احد من البشر بعد كلام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وشرح فيه احوال الدنيا والآخرة بعبارات تحير عقول البلغاء في حسن نظمها ولطافة سبكها ، ولم

__________________

(١) انظر المصدر السابق ١ / ٢٧.

يدون لأحد من الناس عشر العشر مما دون له من الكلام (١) واستشهد القوشجي على انه افصح الناس بكلامه المدون في نهج البلاغة وهو كما ذكر أوضح شاهد وأدل دليل ، وقال قال البلغاء ان كلامه تحت كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة ، وقال عدوه معاوية فيه حين قال له محفن بن ابي محفن : جئتك من عند أعيا الناس : ويحك كيف يكون أعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره (٢)؟

وأما أنه اسدّ الصحابة رأيا فلاحتياج جميعهم الى رأيه في معظم الأمور وبلوغهم المنى في اخذهم برأيه كما أشار على عمر في وقائع كثيرة وصل فيها الى مطلوبه اذ اخذ برأي علي (عليه‌السلام) (٣) ، واشار الى عثمان ولو أطاعه لم يجر عليه بعض ما جرى ، ولم ينخدع قط ولم يتحير في امر قط ، وما عرض له أمر الا عرف مورده ومصدره ، وقال لأصحابه لما رفع اهل الشام المصاحف بصفين : (انما رفعوها خدعة فناجزوهم) فكان الأمر كما قال ، ولو اطاعوه لنجحوا ، ولما أراد اصحابه نصب أبي موسى حكما قال لهم : (اني اخاف عمروا ان يخدع يمنيكم هذا ولكن ادفعوا في صدر عمرو بن العاص بعبد الله بن عباس) ولو اطاعوه لأفلحوا ولما تمكن عمرو مما أبرمه لكن عصوه فكان الأمر كما قال من خدع ابن العاص لأبي موسى وغير ذلك مما يطول

__________________

(١) يراجع في ذلك الجزء الأول من مصادر نهج البلاغة واسانيده تحت عنوان الكتب المؤلفة في كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام).

(٢) انظر شرح نهج البلاغة ١ / ٢٤ و ١ / ٢٢٩.

(٣) تجد تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة ج ١ من ص ٢٠٦ ـ ٢٦٤ فقد نقل ابن ابي الحديد هناك قصة التحكيم وظهور امر الخوارج عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم المنقري وكتاب صفين لابراهيم بن الحسين الكسائي المعروف بابن ديزيل ، وكتاب صفين لأبي الحسن علي بن محمد المدائني ، وانساب الأشراف لأبي جعفر احمد بن يحيى البلاذري وأمالي محمد بن القاسم الأنباري ، والموفقيات للزبير بن بكار ، والأمالي لأبي احمد الحسن بن عبد الله العسكري.

تعداده ، وانما تفرق الناس عنه الى اعدائه لاقتصاره على حكم الشريعة ، وتقيده بالسنة ، وتركه العمل بالحيل الدنيوية وتدبير امر الدنيا ، واخذه في جميع اموره بما يقتضيه الشرع المحمدي ، ولذا قال (عليه‌السلام) : (لو لا التقى لكنت ادهى العرب) (١) وغيره دبّر دنياه وترك آخرته فصار ممدوحا بالرأي عند الجهال ورغب اهل الطمع الى دنياه والناس عبيد الدنيا.

وأما انه اسوس الصحابة فذلك مما لا يحتاج الى بيان فانه ما حابى احدا قط ولا آثر قريبا على بعيد في حكم ، وشدته على العصاة معلومة من سيرته وحربه وكلينه لأهل الإيمان والطاعة.

وأما انه اعدل الصحابة في الرعية فلما علم من مساواته الناس في القسمة والعطاء لم يؤثر احدا من الناس على احد ، ولم يفضل قويا على ضعيف ولا شريفا على دنيّ ، ولا ذا رحم على اجنبي ، طلب إليه الزبير وطلحة ان يزيدهما في القسمة فلم يفعل وكان يومئذ بمكان رفيع عند الناس (٢) وطلب إليه ابن اخيه عبد الله بن جعفر وكان يجريه مجرى ولده ان يعطيه زيادة فلم يفعل ، وقال له : (لا زيادة لك عندي على سهمك الا ان تأمر عمك ان يسرق فيعطيك) (٣) أو كلاما ما هذا معناه وطلب منه اخوه عقيل مالا زيادة على نصيبه من بيت المال وألح عليه في ذلك فوعده بالصبر الى يوم الجمعة فلما خطب الناس يوم الجمعة التفت الى عقيل وقال : (ما تقول يا أبا يزيد فيمن خان هؤلاء جميعا في اموالهم) فقال عقيل : بئس الرجل ، فقال له : (فهذا انت تأمرني بذلك) (٤) فاسكته عن

__________________

(١) رواية ابن ابي الحديد ١ / ٢٨ : (لو لا الدين والتقي).

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٣١.

(٣) الغارات للثقفي ص ٦٦ وشرح نهج البلاغة ٤ / ٩٢.

(٤) شرح نهج البلاغة ٤ / ٩٢.

مطالبته وبعث إليه اسامة بن زيد ان ابعث لي بعطائي ثم لو دخلت فم الأسد بعد ذلك لدخلت معك فكتب (عليه‌السلام) إليه : (ان هذا المال لمن جاهد عليه ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت) (١). وكان تسويته بين الناس اعظم الأسباب في تفرق الناس عنه وتقاعدهم عن نصرته ، بل في قتال من قاتله ، بل هو السبب في ذلك كله لا سبب غيره ، فلم يبال (عليه‌السلام) بذلك ولا رأى صلاح دنياه مقتضيا لمخالفة السنة في ترك المساواة بين الناس في القسمة ، ولما أشير عليه بتفضيل بعض الناس على بعض في ذلك لاصلاح أمر دنياه وتقوية سلطانه ابى ذلك وقال : (انه لو كان المال لي لساويت بينهم فكيف وانما هو مالهم) (٢) والأخبار في هذا الباب اجل من ان تجمع في هذا المحل وغيره ولو اراد اثر بالفيء وفضل في العطاء واصلح بهما امر دنياه.

وأما انه احرص الصحابة على اقامة حدود الله فظاهر فانه ما دافع عن احد اقيمت عليه شهادة في حد ، ولا سلك مسلك التأويل والاستصلاح في اسقاط حد عن احد صديق او عدو قريب أو بعيد كما كان يفعل غيره ، ولا اغضى عن حقّ عند احد كائنا من كان ، ولم يلتفت في إقامة حدود الله لغضب أحد من الناس ولا رضاه ، وسيرته في ذلك مذكورة في كتب الحديث والسير والتواريخ ، فهذه الخصائص والصفات المحمودة هو ابو عذرها وابن بجدتها والسابق في مضمارها قال ابن ابي الحديد بعد تعدادها : وهذه خصائص البشر قد اوضحنا انه فيها الامام المتبع فعله والرئيس المقتفى

__________________

(١) المصدر السابق ٤ / ١٠٢.

(٢) قال ذلك في كلام له (عليه‌السلام) ذكر مختاره الرضي (رحمه‌الله) في نهج البلاغة ونقله ابن ابي الحديد في الشرح ٢ / ٢٠٣ عن المدائني ورواه ابن هلال الثقفي في الغارات ص ٤٥.

اثره (١) انتهى.

ولما اتى عبد الله بن العباس عائشة بعد هزيمتها يوم الجمل رسولا من علي (عليه‌السلام) إليها في امر فجعلت تعتل عليه وطفقت تفضل عمر بن الخطاب على عليّ (عليه‌السلام) فقال لها ابن العباس في كلام يطرى فيه عليا (عليه‌السلام) : انه والله أعلا منارا ، وأحسن آثارا من أبيك ومن عمر (٢) ، فظهر من ذلك كله ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) افضل الصحابة واكثرهم ثوابا واجمعهم لخصال الخير ، وما ذكرناه قد أقر به الخصوم ، ومن كتبهم اخذنا ما ذكرنا.

ومن جملة ما خصه الله به من المزية كون مولده في الكعبة الغرّاء على الرخامة الحمراء فقد اجمع الشيعة على ان عليا (عليه‌السلام) ولد داخل الكعبة كما وصفنا ونقلوه متواترا عن اهل بيت النبوة الذين هم مع القرآن لا يفارقهم ولا يفارقونه ورواه من اهل السنة ، ابو المعالي الفقيه المالكي في كتاب المناقب عن علي بن الحسين قال كنا عند الحسين في بعض الأيام واذا بنسوة مجتمعات فاقبلت امرأة منهن علينا فقلنا من انت رحمك الله قالت : انا زبدة ابنة العجلان من بني ساعدة ، فقلت لها : هل عندك من شيء تحدثينا به؟ قالت : أي والله حدثتنا أم عمارة بنت عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان الساعدي انها كانت ذات يوم في نساء من العرب اذا قبل ابو طالب كئيبا حزينا ، فقلت له : ما شأنك؟ قال : ان فاطمة بنت اسد في شدة من الطلق ، ثم اخذ بيدها وجاء بها الى الكعبة فدخل بها ، وقال اجلسي على اسم الله فطلقت طلقة واحدة فولدت غلاما نظيفا منظفا لم ار احسن منه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٨.

(٢) نقله مختصرا من شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٢٩ وتجده مفصّلا في مروج الذهب للمسعودي ٢ / ٣٧٧.

وجها فسماه ابو طالب عليا وقال.

سميته بعلي كي يدوم له

عز العلو وفخر العز ادومه

وجاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فحمله معه الى منزل ، أمه قال علي بن الحسين : فو الله ما سمعت شيئا حسنا الا وهذا من احسنه (١) ، فلا التفات حينئذ لتوقف ابن ابي الحديد في ذلك زاعما ان المحدثين لا يعترفون به ويزعمون ان المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد (٢) اذ لا عبرة

__________________

(١) ورواه الحاكم في المستدرك ٣ / ٤٨٣ وقال : «وقد تواترت الأخبار ان فاطمة بنت اسد ولدت امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة» كما رواه السبط في التذكرة ص ٧ والحلبي في السيرة النبوية ١ / ١٥٠ وابن طلحة الشافعي في مطالب السئول ص ١١ والشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٦ وقال الآلوسي في الخريدة ص ١٥. «كون الأمير كرم الله وجهه ولد في البيت امر مشهور ذكر في كتب الفريقين» يعني السنة والشيعة ثم قال بعد ذلك : «وما احرى بامام الأئمة ان يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين وسبحان من يضع الأشياء مواضعها» قال : «وقد أحب عليه الصلاة والسلام ان يكافئ الكعبة حيث ولد في بطنها بوضع الصنم عن ظهرها».

وقد نظم السيد رضا الهندي عطر الله مرقده هذا المعنى فقال :

لما دعاك الله قدما لأن

تولد في البيت فلبيته

شكرته بين قريش بأن

طهرت من اصنامهم بيته

 (٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٤ واقول : ان مولد علي : (عليه‌السلام) في الكعبة المشرفة فضيلة له ولها أيضا فقد زادها شرفا الى شرفها ، وفضلا الى فضلها ، فلو صح للناس ان عليا (عليه‌السلام) ولد في أي موضع من بقاع الأرض لأصبح ذلك الموضع محل تقدير لهم وتكريم ومزارا يقصدونه من كل مكان ويؤمونه من كل فج عميق ، ولقد جهد اعداؤه ان يخفوا فضيلة مولده (عليه‌السلام) بالبيت الحرام زاده الله شرفا فلم يتمكنوا حتى فتحوا في زمن بني امية بابا آخر الكعبة عند الركن اليماني مقابلا لبابها المعلومة لأن عليا (عليه‌السلام) ولد قريبا منها فباءت كل مساعيهم بالفشل ولم

بزعمهم بعد ما سمعت فيه من الصحة ، ولا ريب ان المحدثين زعموا هذه الفضيلة لحكيم بن حزام ليناقضوا ما ورد لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) كما هي عادتهم والحق لا يزيد الا علوا وظهورا ، والصدق لا يزال يتوقد ضياء ونورا ، واذا ثبت ان عليّا (عليه‌السلام) أفضل الصحابة كما دلت عليه الأدلة ووافقنا عليه اكثر المعتزلة وجب ان يكون هو المقدم والامام بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا يجوز ان يقدم عليه غيره لأنا قد بينا امتناع تقديم المفضول على الأفضل لقبحه عقلا والمنع منه شرعا واقمنا عليه الأدلة الواضحة في موضعه وقد تقدم وبذلك يثبت المطلوب ، وزعم الأشاعرة ان الأفضل بمعنى الأكثر ثوابا بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ابو بكر ثم من بعده من الخلفاء مرتبا قال القرماني في تاريخ الدول اجمع أهل السّنة على أن الأفضل بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ابو بكر ثم عثمان ثم علي (عليه‌السلام) ثم باقي العشرة الى آخر ما قال ، واهل السنة عندهم اسم لمن كانوا على مثل ما عليه ابو الحسن الأشعري من نفي الحسن والقبح العقليين ، ونفى الاستطاعة عن المكلف ، وغير ذلك من شبهاته الواهية ، وهذا القول فاسد على تقديران للثلاثة فضلا وما احتج به القوشجي على ذلك بعد اعترافه بما ذكرناه من مناقب امير المؤمنين على افضلية ابي بكر وعمر عليه كله باطل مردود ، ومزور ومختلق فمن احتجاجه على ذلك الاتفاق الجاري مجرى الاجماع على افضلية ابي بكر ثم عمر زعم ، واقول ما أدري ما عنى بالاتفاق ان كان اتفاق جماعة من اصحابه الأشاعرة كما

__________________

ـ يتمكنوا من اخفاء هذه المنقبة ، واطفاء هذا النور فلا تزال تلك الرخامة الحمراء التي اشار إليها المؤلف وقد وفق الله سبحانه وتعالى كاتب هذه الحروف لدخول الكعبة المعظمة في سنة ١٣٨٧ ه‍ فرأيت بلاط الكعبة المشرفة يميل الى البياض عدا صخرة واحدة حمراء بين الباب والركن اليماني من داخل الكعبة وهي علامة لموضع ولادته (عليه‌السلام).

هو مفاد قول ابي العباس المتقدم فمسلم ولا حجة فيه ، وغايته كونه قولا لجماعة من الأمة يطلب عليهم في ثبوته وصحته الدليل فلا يكون هو نفسه دليلا كما ادعى الرجل ، وان عنى اتفاق الصحابة فالمنقول عن افاضلهم تفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الناس بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مثل العباس بن عبد المطلب وجملة بنيه ، وبني هاشم كافة وبني المطلب كافة ، وسلمان وابي ذر والمقداد وعمار وحذيفة بن اليمان وابي بن كعب وجابر بن عبد الله وخالد بن سعيد بن العاص الأموي وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين وزيد بن اسلم وبريدة بن الحصيب وابي الهيثم بن التيهان والبراء بن عازب وقيس بن سعد بن عبادة وأبي سعيد الخدري وابي أيوب الأنصاري وحجر بن عدي الكندي وزيد بن ارقم وسهل بن حنيف واخيه عثمان بن حنيف وعبادة بن الصامت وابي الطفيل عامر بن واثلة الكناني وعمرو بن الحمق الخزاعي في كثير من امثالهم ، ذكر ذلك جماعة من اهل العلم باقوال الناس كأبي عمر يوسف بن عبد البر المحدث في كتاب الاستيعاب وابي جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي وعبد الحميد بن ابي الحديد وغيرهم (١) ، وكل منهم نقل ذلك عن جماعة من المذكورين ، وكان الزبير اوّل الأمر قائلا (٢) به ومبالغا فيه حتى صرفه عنه ابنه عبد الله الى عداوة امير المؤمنين (عليه‌السلام) والخروج عليه ، وهؤلاء المذكورين هم خيار الصحابة ومن اجمعت الأمة على وثاقتهم وصدقهم ، واعتبار اقوالهم ، وكلام جماعة منهم الصريح في التفضيل قد تقدم ، ولم يبق من الصحابة ممن صرح بتفضيل غيره الا من علم فسقه وثبت ضلاله بمحاربته عليا (عليه‌السلام) وبغضه ، وقد صح ان حربه حرب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٢١.

(٢) أيضا ٢٠ / ٢٢٢.

وبغضه بغضه ، كمعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وعبد الله بن الزبير وابي هريرة والوليد بن عقبة بن ابي معيط في اضرابهم ، أو من اختلفت الأمة في وثاقته وقبول روايته فضلا عن اعتبار قوله ، ومن لم يكن من الفريقين من باقي الصحابة المسكوت عن حالهم لم يعرف لهم قول في المسألة فأين اجماع الصحابة على ما يقول؟ بل أين الشهرة في ذلك بل الحق ان المشهور بين الصحابة عكس ما قال ، والتقدم في الخلافة لا يوجب التفضيل عنده وعند اصحابه على فرض ان التقدم وقع برضى جميع الصحابة ، وقد بينا استحالته مرارا فلا اتفاق من الصحابة على ما قال القوشجي ولا اشتهار له فيما بينهم ، وان عنى اتفاق التابعين فحالهم في ذلك كحال الصحابة فالكثير منهم يفضل عليا على جميع الناس ، منهم ، أويس القرني ، وزيد بن صوحان ، وصعصعة بن صوحان ، وجندب الخير ، وعبيدة السلماني ، ومالك بن الحارث الأشتر ، وكميل بن زياد ، وسعيد بن قيس الهمداني وخلق كثير لا يحصون (١) ، وقد قدمنا تصريح الحسن البصري به ، وتصريح عمر بن عبد العزيز به أيضا والتابعين من بني هاشم كذلك ، على ان اكثر الناس من اهل العلم والورع لم يمنعهم من اظهار القول بتفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الصحابة الا الخوف من معاوية واتباعه ومن تولى بعده من بني امية واتباعهم ، فانهم كانوا يقتلون من ذكر عليا (عليه‌السلام) بخير أو روى عنه حديثا فما ظنك بحال من يفضله؟ وقد مر في كلام الحسن البصري ما يدل عليه ويأتي له زيادة استدلال ، وان عنى فرق الاسلام فالشيعة قاطبة يفضلون عليا (عليه‌السلام) على جميع الناس واكثر المعتزلة يوافقونهم على ذلك فالبغداديون كافة قائلون به كأبي سهل بشر بن المعتمر ، وأبي موسى بن صبيح وأبي عبد الله جعفر بن مبشر ، وأبي جعفر الاسكافي ، وأبي الحسين الخياط ، وأبي القاسم البلخي وتلامذته ، ومن البصريين أبو علي الجبائي في

__________________

(١) أيضا ٢٠ / ٢٢٦.

آخر عمره ، وكان قبل من المتوقفين بين علي وابي بكر خاصّة ، نقل ذلك عنه أبو القاسم البلخي.

ومنهم أبو عبد الله الحسين بن علي البصري ، وقاضي القضاة ابو الحسن عبد الجبار بن احمد ، وقطع على ذلك بخبر المنزلة.

ومنهم ابو محمد الحسن بن متّويه ، وسيأتي التصريح به عن ابي الهذيل العلاف ، ومال قوم منهم الى التوقف في تفضيل علي (عليه‌السلام) على ابي بكر مع القطع على تفضيله على عمر كواصل بن عطا وابي هاشم وابي الحسين البصري.

ومنهم من قال بتفضيل الثلاثة كعمرو بن عبيد ، وابراهيم بن سيار النظام ، وعمرو بن بحر الجاحظ ، وثمامة بن اشرس وهشام الفوطي ، وابي يعقوب الشحام ، وكل اهل قول يحذو حذوهم قوم منهم ، وكتب المعتزلة في علم الكلام ناطقة بما قلناه ومن نقلهم نقلنا ومن المحدثين من نسب إليه قوم من العامة في كتبهم وتواريخهم القول بتفضيل علي صريحا كالكياالهراسي وامثاله وفي كلام قوم من اعيانهم ما يصرح بالتفضيل قال احمد بن حنبل : ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي (عليه‌السلام) ، وقال : ان عليا لم تزنه الخلافة ولكنه زانها نقل هذا الكلام ابن ابي الحديد عن ابن الجوزي في المنتظم عن احمد بن حنبل وقال بعده ما حاصله : ان هذا الكلام يعطي ان جميع من ولى الخلافة غير علي (عليه‌السلام ذوو نقص ازدان بالخلافة وتم نقصه بها وان الخلافة قبل ولاية علي (عليه‌السلام) كانت ناقصة فاتمها بولايته اياها (١).

أقول وهذا الكلام غاية التفضيل ، ونهاية التعظيم والتبجيل ، ولعمري

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٧ و ٥٢.

ان الأمر كما قال وقال اسماعيل القاضي والنسائي وابو علي النيسابوري : لم يرد في حق احد من الصحابة بالأسانيد الحسان اكثر مما جاء في علي ، فهذه شهادة مشايخهم فأين الاتفاق الذي ادعاه القوشجي علي تفضيل ابي بكر وعمر على علي (عليه‌السلام)؟ واين الشهرة بين الأمة؟ وهل زاد الأمر على كون المسألة من المسائل الخلافية بين الناس؟ والواجب فيها اتباع الدليل الصحيح كغيرها من مسائل الخلاف ، ومن هنا تبين بطلان ما ينسبه قوم من الأشعرية المتعصبين من الابتداع الى من ذهب من المحدثين والعلماء من متقدمي اصحابهم الى تفضيل علي (عليه‌السلام) فيقولون : كان فلان عالما فاضلا وكذا وكذا لصفات من الخير ثم يقولون الا انه مال الى تفضيل علي (عليه‌السلام) او قال به فيخرجونه من السنة الى البدعة بزعمهم لأنه قال بتفضيل علي (عليه‌السلام) ، وذلك عندهم بدعة كما وجدناه في تصانيف قوم منهم وتواريخهم ، وكل هذا لتركهم النظر في الأقوال والأدلة وتقليدهم من تقدم من مشايخهم واساتيذهم على جهالة لا يعلمون وراء ما سمعوه منهم مذهبا ولا يفهمون غير توجيههم في الأدلة توجيها وذلك لا يغني من الحق شيئا.

واحتج القوشجي ثانيا بقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) (١) مدعيا ان الآية نزلت في ابي بكر عند الجمهور ، والأتقى هو الأفضل لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) وهذا الاحتجاج واه لأن الآية مع احتمال كون الأتقى والأشقى بها بمعنى التقى والشقى كقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٣)

__________________

(١) الليل ١٧.

(٢) الحجرات ١٣.

(٣) الأنعام ١٢٤.

اي عليم وقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) يعني هين وقول طرفة :

تمنت رجال ان اموت وان امت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

كما قاله بعض المفسرين ، ويشهد لذلك الاعتبار فانّ صاحب النخلة المعني بالأشقى من المسلمين ومن الصحابة المحكوم عليهم عند القوشجي واصحابه بالجنة فلا يجوز ان يجعل اشقى من ابي جهل وابي لهب وامثالهما من المشركين ، فلا دليل فيها على التفضيل مضافا الى انها نازلة عند اكثر المفسرين في ابي الدحداح ، وهو المروي عن ابن عباس رواه الواحدي وسببه قصة النخلة المشهورة (٢) ، وقال غيره نزلت في مصعب بن عمير وذكر ذلك ابو جعفر الإسكافي ، ولم يقل انها نزلت في ابي بكر الا عروة بن الزبير (٣) لأنه اشترى ست رقاب فاعتقها بلال وعامر بن فهيرة وأربعة اخر ، وحال ابن الزبير في الكذب معلوم ، وميله الى جده معروف ، وليس هذا منه باعجب من روايته عن خالته عائشة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ان عليا والعباس بن عبد المطلب من اهل النار (٤) ، وكان سبابا لعلي (عليه‌السلام) وكثير البغض له ، ومن افسق ممن يسب رجلا من سبه فقد سب رسول الله

__________________

(١) الروم ٢٧.

(٢) اسباب النزول ص ٢٩٩.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٢ عن نقض العثمانية.

(٤) رواه الإسكافي في نقض العثمانية ـ كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٦٣ ـ عن الزهري عن عروة بن الزبير هكذا : حدثتني عائشة قالت : كنت عند رسول الله إذ اقبل العباس وعلي فقال : (يا عائشة انهما يموتان على غير ملتي ـ أو قال ـ : ديني) والحديث الثاني ان عروة زعم ان عائشة حدثته قالت : كنت عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذا اقبل العباس وعلي فقال : (يا عائشة ان سرك ان تنظري الى رجلين من اهل النار فانظري الى هذين قد طلعا) نظرت فاذا العباس وعلي بن ابي طالب.

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما دلت عليه الأخبار الصحاح عند القوم ، ومنها ما رواه الإسكافي عن عثمان بن ابي شيبة ، عن عبد الله بن موسى ، عن قطر بن خليفة ، عن ابي عبد الله الجدلي قال : دخلت على أمّ سلمة رحمها الله فقالت : لي أيسب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكم وانتم احياء؟ قلت : وأني يكون هذا؟ قالت : أليس يسب علي (عليه‌السلام) ومن يحبه (١) وما رواه الحافظ ابو عبد الله محمد بن يوسف البلخي الشافعي في كفاية الطالب عن ابن عباس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي (من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله ، ومن سب الله فقد كبه الله على منخريه في النار) (٢) وما قدمنا من الأخبار عن احمد بن حنبل وغيره من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق) (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (عدوك عدوي وعدوي عدو الله) (٤) فمن كان هذه حاله كيف تقبل روايته فيمن يميل إليه بدون معارض فكيف اذا عارضها رواية الثقات؟ على ان شراء ابي بكر بلالا وعامرا الذي هو سبب نزول الآية كما زعم فاسد لأن محمد بن اسحاق والواقدي ذكر ان رسول الله هو الذي اعتقهما ، (٥) وبالجملة فالاحتجاج بالآية ساقط ، ودعوى قول الجمهور انها نازلة في أبي بكر كما ترى زور وبهتان كدعواه الاتفاق المتقدم واحتج أيضا بروايات مفتعلة :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٢٢.

(٢) كفاية الطالب الكنجي.

(٣) رواه المحب في الرياض ٢ / ٢١٤ وقال : «اخرجه احمد في المناقب».

(٤) نفس المصدر ٢ / ١٦٦ وتاريخ بغداد للخطيب ٤ / ٤٥.

(٥) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٧٣ عن نقض العثمانية للاسكافي.

فمنها : (اقتدوا بالذين من بعدي أبا بكر وعمر) (١) دخل في الخطاب عليّ فيكون مأمورا بالاقتداء بهما.

اقول قد ذكر بعض اهل العلم والخبرة بالحديث ان هذه الرواية جميع من رواها رواها الذين بصيغة الجمع ، وأبا بكر وعمر بنصب أبا ، والجواب عنها وعن غيرها على جهة العموم من ثلاثة وجوه.

الأول انها مما اختص بروايتها الخصوم وليسوا عندنا من اهل الصدق فلا يلزمنا قبول رواياتهم ولا تقوم لهم بها علينا حجة مع انهم متهمون في ذلك.

الثاني انه قد طعن في مثل هذه الروايات قوم منهم كالفخر الرازي وحكم بانها من الموضوعات اذ لم يجر لشيء منها ذكر بين الصحابة والتابعين في مقام الحجة والمناظرة ، وطعن فيها سيدنا المرتضى ذو المجدين علم الهدى كذلك (٢) وغيره ، وهو كما قال ، فإن هذه الروايات انما وضعت وافتعلت في ايام تغلب بني امية ، روى ذلك ابو الحسن علي بن محمد بن ابي سيف المدائني في كتاب الأحداث وابن عرفة نفطويه وهما من اكابر المحدثين قال المدائني في كلام طويل : وكتب معاوية الى عماله في جميع الآفاق لا يجيزوا لأحد من شيعة علي واهل بيته شهادة ، وكتب إليهم ان انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه واهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فادنوا مجالسهم ،

__________________

(١) في أسنى المطالب ص ٤٨ : (ابي بكر وعمر) وقال : «أعله ابو حاتم ، وقال البزاز كابن حزم : لا يصح ، وفي رواية للترمذي وحسنها (واقتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن مسعود) وقال : الهيثمي سندها واه».

(٢) انظر الشافي ج ٣ ص ١٢٣ بتحقيقنا.

وقربوهم واكرموهم واكتبوا لي بما يرويه كل رجل منهم واسمه واسم ابيه وعشيرته ، ففعلوا ذلك حتى اكثروا في فضائل عثمان ومناقبه لما كان يبعثه إليهم معاوية من الصّلات والكساء والحباء والقطائع ، ويفيضه في العرب منهم والموالي ، فكثر ذلك في كل مصر ، الى ان قال : ثم كتب الى عماله ان الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس الى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبرا يرويه احد من المسلمين في ابي تراب الا وآتوني بمناقض له في الصحابة فإن هذا احب الي واقر لعيني وادحض لحجة ابي تراب وشيعته واشد عليهم من مناقب عثمان وفضله ، فقرئت كتبه على الناس فرويت اخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها ، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى اشادوا بذكر ذلك على المنابر ، والقى الى معلمي الكتاب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن وحتى علموه بناتهم ونسائهم وخدمهم وحشمهم ، فلبثوا بذلك ما شاء الله ثم كتب بعد ذلك الى عماله نسخة واحدة الى جميع البلدان ، انظروا من قامت عليه البينة انه يحب عليا واهل بيته فامحوه من الديوان واسقطوا عطاءه ورزقه ، وشفع ذلك بنسخة اخرى ، من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره ، فلم يكن البلاء اشد ولا اكثر منه بالعراق ، ولا سيما بالكوفة ، حتى ان الرجل من شيعة علي (عليه‌السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقي إليه سره ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الايمان الغليظة ليكتمن عليه ، فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان اعظم الناس في ذلك بلية القراء المراءون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ، ويقربوا مجالسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث الى ايدي

الديانين الذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها ، وهم يظنون انها حق ، ولو علموا انها باطلة لما رووها ولا تدينوا بها ، فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه‌السلام) فازداد البلاء والفتنة (١) الى آخر ما قال من بيان ما فعله معاوية من قتل محبي امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وما فعله من بعده في عشيرته من اظهار الفساد بقتل المؤمنين الصادقين ، واكرام الكذابين الوضاعين مما يطول نقله ومثله ، قاله نفطويه ، وبهذا المضمون قال ابو جعفر الاسكافي ،

ويصدق ذلك (٢) ما روى في نهج البلاغة عن امير المؤمنين من تقسيم المحدثين عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى أربعة احدهم ، منافق يكذب على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يتحرّج ولا يتأثم من الكذب عليه (٣) وما سيأتي بعد عن ابي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه‌السلام) من ذكره مضمون ما قاله المدائني ونفطويه بالصريح ، فهذه الأخبار التي احتج بها القوشجي وغيره على أفضليته الرجلين على امير المؤمنين هي تلك الأخبار المزورة المختلقة طاعة لمعاوية وطلبا للدنيا وايثارا للعاجلة ما زالت تتداول عند قضاة السوء ، والفقهاء المنافقين ، والقراء المرائين حتى تلقفها حشوية العامة كالبخاري ومسلم وابن مردويه واضرابهم وزبروها في كتب مع امثالها الا ما قل من الأحاديث وسموا تلك الكتب الصحاح ، واقوى دليل على اختلاقها ان جلها ينتهي اسناده الى من تظاهر بعداوة اهل البيت كأبي هريرة وعمرو بن العاص وعروة بن الزبير واشباههم ، وان كل حديث منها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٤ عن كتاب الأحداث للمدائني.

(٢) قوله : «ويصدق ذلك» أي ويصدق ما قاله الاسكافي لأن الاسكافي سابق للشريف الرضي.

(٣) نهج البلاغة الخطبة ٢٠٨.

مناقض لحديث او احاديث من المروي في فضل علي (عليه‌السلام) وولده وذلك لموافقة غرض معاوية الذي مر في كلام المدائني ، فما كان هذه حالة من الأحاديث كيف يكون حجة ودليلا؟ هيهات هيهات ذلك عن التحقيق وناء عن طريق اهل النظر الدقيق.

الثالث ان هذه الأخبار على قلتها وشذوذها قد عارضتها الأدلة الواردة في تفضيل علي (عليه‌السلام) من الكتاب والسنة الكثيرة التي اجمع الخاصة والعامة على نقلها وصحتها ، ومن جملتها ما تلوناه عليك مما تضمن مماثلة علي (عليه‌السلام) لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومماثلته للأنبياء ، وما دل على انه امام المتقين وانه سيد المسلمين ، وولي كل مؤمن بعد رسول الله ، ومولى من كان رسول الله مولاه ، وانه كلمة الله التي الزمها المتقين ، وان بيده مفاتيح خزائن الله ، وانه حامل لواء الحمد يوم القيمة ، وانه خير الخلق والخليقة ، وغير ذلك مما عددناه نوعا نوعا ، وصنفا صنفا ، وما سنتلوه عليك في هذا المقام وفيما بعد ان شاء الله تعالى وعارضتها أيضا ادلة العقل والاعتبار ، ولا شك انه عند التعارض يجب الأخذ بالمتفق عليه والمعاضد بالدلالة الخارجية وترك المختلف فيه والمعاند للدلالة الخارجية ، فما ظنك بالمطعون في سنده ومتنه مع مخالفته لكتاب الله عزوجل وقد صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه (اذا اتاكم الخبر عني فاعرضوه على كتاب الله. ما وافق كتاب الله فاعملوا به وما خالف فاضربوا به عرض الحائط) بعد اخباره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اوّل الكلام بكثرة الكذابة عليه فاذا جاء في الكتاب العزيز ان عليا (عليه‌السلام) نفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما في آية المباهلة ، وجاء انه ولي الأمة مثل ولاية الله اياهم ورسوله كما في آية الولاية ، ولا شك ان نفس الرسول خير الأنفس ، وان

ولي المؤمنين خيرهم ، ثم اتى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان أبا بكر خير من علي (عليه‌السلام) فقد حصلت المخالفة الصريحة والمعارضة الظاهرة بين هذا الخبر وبين كتاب الله فوجب بمقتضى امر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رد ذلك الخبر ، وضرب الحائط به ، واخبار بهذه المثابة يجب ردها واسقاطها ، ويلزم تكذيبها وابطالها ، ولا يجوز التدين بها ولا التعويل عليها.

واما الجواب الخاص عن الخبر المذكور فبأنه معارض لحديث التمسك بالثقلين كتاب الله والعترة ، وحديث الاقتداء بالأئمة من اهل البيت ، وحديث : (اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق) ، وما جرى هذا المجرى مما رسمناه فيكون مفتعلا لمناقضتها كما مر بيانه فهو باطل ، ولو صح لوجب تأويله الى ما يوافق تلك الأدلة الصحيحة بجعل التقدير اقتدوا بالذين من بعدي من الأئمة يا أبا بكر وعمر ، فأبو بكر وعمر مأموران بالاقتداء وليس تقدير الفعل الناصب لأبا بكر باولى من تقدير حرف الندا بل هذا اولى للتوفيق بين الدليلين وقد جاء حذف حرف النداء من المنادى المعلوم كثيرا نحو قوله تعالى : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) (١) وقول الشاعر.

أبا حكم هل انت عم مجالد

وسيد اهل الأبطح المتناحر

وقول الآخر :

حمامة بطن الواديين ترنمي

سقاك من الغر الغوادي مطيرها

وقول الآخر (٢) :

__________________

(١) يوسف : ٢٩.

(٢) هو جرير من قصيدة له يهجو الفرزدق ، والنيب : الناقة المسنة ، والضوطري : الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناء به ، والضوطري أيضا : المرأة الحمقاء ، ومعنى البيت انكم تعدون غاية مجدكم اي عزكم وفخركم عقر الناقة المسنة فهلا تعدون من

تعدون عقر النيب افضل مجدكم

بنى الضوطرى لو لا الكمي المقنعا

وهذا امر معروف لا يحتاج الى الاكثار من شواهده فيكون الخبر حجة لنا لا علينا.

ومنها في أبي بكر وعمر هما (سيدا كهول اهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين) (١) والجواب عنه بالخصوص انه معارض بقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحسن والحسين : هما (سيدا شباب اهل الجنة) (٢) وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (سادات اهل الدنيا هم سادات اهل الآخرة انا وعلي والحسن والحسين وحمزة وجعفر) (٣) وقوله لعلي (عليه‌السلام) : (انت سيد في الدنيا والآخرة) (٤) وقوله (عليه‌السلام) فيه :

__________________

مجدكم قتل الكمي اي الشجاع المكمى في سلاحه اي المستتر فيه ، والمقنع الذي على رأسه البيضة والمغفر ، وشاهد المؤلف في البيت تقدير حرف النداء في المنادى وهو «بني» بحرف نداء محذوف وانه منصوب بالياء لأنه جمع مذكر سالم.

(١) روي مرفوعا بطريقين الأول عن انس بن مالك والثاني عن علي (عليه‌السلام) وفي طرق الحديثين جماعة من الوضاعين امثال نوح بن ابي مريم وعبد الرحمن بن مالك بن مغول وبشار بن موسى الشيباني الخفاف وبحسبك ان ترجع الى ميزان الاعتدال ١ / ٣١٠ و ٢ / ٥٨٤ و ٤ / ٢٧٩. لتعرف ذلك

(٢) الترمذي ٢ / ٣٠٦ ومسند أحمد ج ٣ ص ٣ و ٦٢ و ٨٢ وج ٥ / ٣٩١ وحلية الأولياء ٤ / ١٣٩ و ١٩٠ وج ٥ / ٧١ وغيرها وفي بعضها : (وأبوهما خير منهما).

(٣) شرح نهج البلاغة ٧ / ٦٤ ورواه ابن ماجه في السنن ص ٣٠٩ باب خروج المهدي والحاكم في المستدرك ٣ / ٢١١ وقال : «هذا الحديث صحيح على شرط مسلم» وابن حجر في الصواعق ص ٩٦ وقال : «اخرجه الديلمي».

(٤) وتتمة الحديث : (حبيبك حبيبي ، وحبيبي حبيب الله ، وعدوك عدوي ، وعدوي عدو الله) رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٧ وقال : «صحيح على شرط الشيخين» كما رواه غيره.

(هو سيد المؤمنين وسيد المسلمين) (١) فيكون مختلقا لمناقضة هذه الأخبار وشبهها فهو باطل هذا في سنده وفي متنه بمخالفته للكتاب في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً) (٢) وقد صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الجنة لا يدخلها شيخ ولا عجوز ولا كهل وان اهلها جرد مرد على صفة الشباب) (٣).

ومنها (خير امتي ابو بكر ثم عمرو) والجواب عنه انه معارض لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) والخوارج : (يقتلهم خير الخلق والخليقة) (٤) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (خير الناس حمزة وجعفر وعلي) (٥) وما شابه ذلك مما شاع وذاع بين الفريقين فهو مصنوع للمناقضة فيكون باطلا.

ومنها : (ما ينبغي لقوم فيهم ابو بكران يتقدم عليه غيره) وكيف يكون كذلك وقد عارضه ما تواتر من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فانه امر على ابي بكر أبا عبيدة بن الجراح مرة ومرة عمرو بن العاص واخرى خالد بن الوليد ومرة اسامة بن زيد ، وأمر عليه عليا مرارا وما نرى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امتنع من تقديم غير أبي بكر من الصحابة عليه فكيف يعقل ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول قولا معناه النهي عن تقدم احد من الصحابة على ابي بكر ثم يقدم عليه جماعة منهم مرة بعد اخرى

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ ق ١ / ١٣١ ورياض المحب ١ / ١٦ و ١٦٨.

(٢) الواقعة / ٣٦.

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٣٠.

(٤) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٦٧ وفي رواية ابن كثير في البداية والنهاية «هم شرار أمّتي يقتلهم خيار امتي».

(٥) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٢ عن مقاتل الطالبيّين.

فينقض قوله بفعله وهو الذي لا ينطق عن الهوى؟ اللهم الا في مقام النسخ واذا كان هذا القول منسوخا فلا حجة فيه وآخر عمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وابو بكر تحت راية اسامة ، والحاصل ان الخبر اذا كان مناقضا لما علم من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان باطلا بالضرورة ، والحديث المذكور هذا شأنه مع معارضته لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للأنصار : (هذا علي فاحبوه بحبي واكرموه بكرامتي) (١) ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اوصيكم بحب ذي قرباها (٢) اخي وابن عمي علي بن أبي طالب) وحديث المنزلة وغير ذلك من الأحاديث الصريحة في لزوم تقديم علي (عليه‌السلام) فهو مصنوع لمعارضتها ، على ان المروي في بعض تواريخ القوم ان هذا القول من كلام عمر نفسه ولم ينسبه الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك في كلام طويل خطب به يذكر فيه حديث السقيفة اورده الطبري في تاريخه (٣) ، وكذلك هو الحاصل من كلام عمر يوم السقيفة حيث قال : كيف اتقدم قدمين قدمها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للصلاة ، فاخذه القوشجي وامثاله وصيروه حديثا ينسبونه الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جهلا أو تعمدا ليقوّوا به شبهتهم ، وأنّى والأمر اظهر من ان يخفى! ومع هذا كله انه لو صح لم يقتض التفضيل لأن مذهب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٠ عن حلية الاولياء.

(٢) كنز العمال ٧ / ١٤٠ وفيه : (ذي أقربها) وفي الرياض النضرة ٢ / ٢١٤ : (ذي قرنيها) وللوجه الأخير وجه وهو ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعليّ (عليه‌السلام) ـ كما في مستدرك الحاكم ٣ / ١٢٣ ـ : (وانك لذو قرنيها) تشبيها له (عليه‌السلام) بذي القرنين ولكن ابن أبي الحديد في ج ٩ / ١٧ رواه عن حلية الأولياء (ذي قرباها).

(٣) تاريخ الطبري ٤ / ١٨٢٢ ط ليدن حوادث سنة ١١.

القوم جواز تقديم المفضول ، ولو اقتضى لكان دليلهم مخالفا لمذهبهم فيكون عليهم لا لهم.

ومنها (لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلا لكن هو شريكي في ديني وصاحبي الذي اوجبت له صحبتي في الغار وخليفتي في امتي) (١) وهذا قريب من الأول.

والجواب عنه انه لو صح امتناع اتخاذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر خليلا لم يمتنع اتخاذه اياه اخا وما نراه اتخذه اخا يوم المؤاخاة بل جعله اخا لعمر واتخذ هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا أخا فلو صلح ابو بكر لخلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لصلح لأخوته لكنه لم يصلح والا لآخاه او آخى بينه وبين علي (عليه‌السلام) ، هذا على تقدير كون الخلة أعلى شأنا واقرب مماثلة بين الاثنين من الاخوة كما هو مرام المستدل والأمر بعكس ما رام ، فان الأخوة ادخل في المشابهة واقرب الى المماثلة من الخلة ، ولذا جاز أن يكون لله خليل ولم يجز ان يكون لله اخ لأن الأخ هو العدل المماثل وليس لله مثيل ، والخليل هو المخلص في المودة والاخلاص في محبة الله مطلوب فاذا امتنع ان يكون ابو بكر مخلصا في محبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا فضيلة له البتة واذا كان علي (عليه‌السلام) هو الصالح لمماثلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان هو الأفضل لا محالة ثم اي مانع من اتخاذ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر خليلا من جهة الشرع والخليل على ما سمعت من معناه ، فالكلام جزما لو صح لكان قدحا فيه ولم يكن مدحا لتضمنه لعدم صلاحيته لمودة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأمر في ذلك واضح وقوله : (شريكي في ديني) فاسد لانه لو صح أنه

__________________

(١) يرى ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٩ ان هذا الحديث وضعه البكرية في مقابلة حديث الإخاء.

شريك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في دينه بالمعنى الخاص يعني في قوة الايمان واليقين كما كان لعلي (عليه‌السلام) لكان له اخا وكان أعلى مرتبة من الخليل ، ولزم تناقض الكلام ويكون معناه إنه لا يصلح لي ان اتخذه خليلا لكنه ارفع من ذلك منزلة واجل منه قدرا ، فالمراد من الاستدراك اثبات منزلة لأبي بكر ادنى من الخلة والكلام يعطي اثبات منزلة له ارفع منها وكلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مصون عن التناقض وان كان المراد من شركة ابي بكر للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في دينه المعنى العام يعني الاقرار بالعقائد واداء الفرائض فالمسلمون كلهم على هذا المنوال فلا افضلية له على احد عنهم في ذلك فلا معنى لمدحه وتفضيله على غيره بما يشاركه ذلك الغير فيه.

واما حديث الغار فنحن في غناء عن ذكره اذ لا دلالة فيه على الفضل بوجه من الوجوه بل دلالته على العكس واضحة من قوله : (لا تَحْزَنْ) وقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) ولم يقل عليهما والذي انزلت عليه السكينة هو المؤيد بالجنود وهو النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا ريب ولما ذا لم يشركه الله في السكينة مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما أشرك المؤمنين في حنين معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيها فقال : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١) وكانوا تسعة من بني هاشم يقدمهم علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وعاشرهم ايمن بن أمّ ايمن باجماع المفسرين واهل المغازي واهل التواريخ والسيرة (٢) ومن وجوه اخر لا حاجة الى ذكرها

__________________

(١) التوبة : ٢٦.

(٢) الأصح انهم سبعة وهم علي والعباس والفضل بن العباس وابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب (اسد الغابة ١ / ١٦١) وعتبة ومعتب ابني ابي لهب (اسد الغابة

وتطويل المقال بها.

وأما قوله : (وخليفتي في امتي) فباطل بالاجماع لأن الأمة اجمعت على ان خلافة ابي بكر ليست من جهة النص ، ولو صح هذا القول عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكان نصا صريحا ولكان احتجاج أبي بكر وعمر به على الأنصار اولى من احتجاجهم بما ذكروه من القرابة والصلاة لأنه نص قاطع للعذر ، ولكان احتجاجهما به على علي (عليه‌السلام) واصحابه إذ امتنعوا من بيعة ابي بكر اولى لهما من تهددهم بحرق البيت عليهم لصراحته في الحجة ، لكنه في ذلك الزمان غير موجود وانما صنع بعد ذلك الوقت لمعارضة مؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) ولحديث (من منكم يبايعني فيكون اخي ووزيري ووارثي وخليفتي على امتي). فبايعه علي (عليه‌السلام) وغيرهما من الأحاديث من اشباههما فهو باطل.

ومنها (واين مثل ابي بكر كذبني الناس وهو صدقني ، وآمن بي وزوجني ابنته ، وجهزني بماله وواساني بنفسه وجاهد معي ساعة الخوف) (١) وهذا الحديث طريف ينبغي الجواب عنه مقولة مقولة ومنقلة بعد منقلة ، فنقول اما

__________________

٣ / ٣٦٦) وكلهم من بني هاشم وثامنهم مولاهم ايمن بن عبيد والدليل على ذلك قول العباس بن عبد المطلب فيما رواه ابن اسحاق (اسد الغابة ١ / ١٦١) :

نصرنا رسول الله في الحرب سبعة

وقد فر من قد فر عنه واقشعوا

وثامننا لاقي الحمام بنفسه

لما ناله في الله لا يتوجع

(١) نور الأبصار ص ٥٤ عن ابن عباس بصورة اخصر واخرجه ابن حبان من طريق اسحاق بن بشر بن مقاتل الكاهلي المتوفى سنة ٢٢٨ ، وقال عنه السيوطي في اللآلي المصنوعة ١ / ١٥٣ : «كذاب وضاع بالاتفاق» وذكره السيوطي في مواطن اخرى من كتابه ومثله في تاريخ بغداد ٦ / ٣٢٩ والذهبي في ميزان الاعتدال ١ / ٨٧.

تصديقه للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقد بينا انه أسلم بعد جماعة من الناس فلم يكن صدقة في حال تكذيب جميع الناس له لتكون القضية كلية ، واذا لم يكن كذلك سقط التمدح بسبق التصديق فلم يبق للكلام موقع في المدح لسقوط الكلية التي بنى المدح على صدقها ، وان كانت مهملة وحملت على الأكثرية اي كذبني اكثر الناس فجميع من صدق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مكة ، بل وفي المدينة في أول الهجرة صدقه وكذبه اكثر الناس فلا اختصاص له بذلك فلا مدح فيه يوجب فضلا على سائر الصحابة.

واما تزويج النبي (عليه‌السلام) ابنته فما ادري لأيّهما الفضل على الآخر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قبلها أم لأبي بكر حين زوجه اياها؟ وبعد فأي رجل من الناس يخطب إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ابنته فلا يزوجه اياها حتى يكون تزويج ابي بكر ابنته اياه منة عليه يستحق بها ثناء من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وثوابا كثيرا من الله كما هو مدعى المستدل فلو خطب (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الأكاسرة والقياصرة والتبابعة لعدو خطبته بناتهم من اجل النعم الواصلة إليهم فكيف بغيرهم.

وأما تجهيزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بماله فمتى كان ذلك أفي مكة أم في المدينة فان كان في مكة فكل عالم يعلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان اذ ذاك غنيا بمال خديجة (رضي الله عنها) وكان ينفق منه على من شاء في اوّل النبوة ولم يجهز جيشا ولا قاتل عدوا مدة بقائه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مكة حتى يحتاج في ذلك الى معونة احد ، ثم انا نعلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احوج ما يكون للتجهيز حين اراد الهجرة من الغار الى المدينة ، وقد روى جميع المحدثين ان أبا بكر باع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعيرين وأخذ منه ثمنهما في تلك الحال فاين التجهيز

بالمال بعد قبض ثمن البعيرين؟ واين موضع هذا التجهيز ومحله؟ ثم من اين له المال الذي يجهّز به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد صح عندكم انه احتاج الى سفرة في وقت سفره معه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى المدينة فلم يجدها وثمنها درهم فقطعت ابنته اسماء نطاقها نصفين فاعطته نصفا ليكون له سفرة فسميت لذلك ذات النطاقين (١) ، وان قلتم في المدينة فقد احلتم فان أبا بكر كان فقيرا وكان هو وغيره من المهاجرين عيالا على الأنصار ، والقرآن ناطق بذلك ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ ذاك قد اغناه الله بالغنائم والأنفال ، فاخبرونا عن تجهيزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) متى كان وفي اي سفر وأي غزوة؟! دلونا عليه حتى نعلم موضعه ونعرف محله ، هذا وقد علم كافة اهل الأثر أنه ترك مناجاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيمن تركها لما نزلت آية المناجاة عن ان يتصدق لأجلها ولو بشيء يسير فكيف يجهز رسول الله بماله من ترك مناجاته عجزا من الصدقة ولو كان قادرا لكان ذلك ذنبا احتاج هو وغيره فيه الى عفو الله عنهم ، أفيفعل الندب ويرتكب الذنب ما لكم كيف تحكمون؟

وأيضا انه قد صح ان عليا (عليه‌السلام) تصدق بخاتمه (٢) ، وتصدق

__________________

(١) ذات النطاقين اسماء بنت ابي بكر تزوجها الزبير بن العوام فأولدها بنيه الثلاثة عبد الله وعروة والمنذر وعاشت الى أن قتل ولدها عبد الله سنة ٧٣ وماتت بعده بأيام قليلة ولها من العمر مائة عام.

(٢) تصدق علي (عليه‌السلام) بخاتمه وهو في الصلاة ونزول (انما وليكم الله ورسوله .. الآية) نقله كثير من المفسرين والمحدثين نذكر منهم الطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦ والرازي في تفسيره ١٢ / ٢٦ والواحدي في اسباب النزول ص ١٣٣ والسبط في التذكرة ص ١٥ وابن حجر في الصواعق ٢٥ والشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٧.

بأربعة دراهم ليلا ونهارا وسرا وعلانية (١) وجاد بقوته وقوت عياله ثلاث ليال (٢) فانزل الله في كل من ذلك قرآنا يتلى بمدحه ، ويكشف عن اخلاص عمله ، ويعرب عن صدق نيته ، مثل قوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) (٣) فما بال غيره لم ينزل في تجهيزه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) آية تتلى ولا كلمة تقرى ، أفترون ان الله عزوجل اضاع عمله وهو لا يضيع عمل عامل أم لم يقبله منه فترك ذكره واهمله ، أم لم يكن شيء مما ادعيتم يحتاج الى ان يبينه الله تعالى فيما أنزله؟! هذا كله مضافا الى ما صح من فقر ابي بكر حتى احتاج في ايام خلافته الى ان يجعل له المسلمون قسمة من سهامهم من بيت المال لكل يوم شيء يسير كما صح في سير القوم وتواريخهم فمن هذه حاله من اين له المال حتى يجهز به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وأما المواساة بنفسه فمتى كان ذلك أفي الشعب حين اجمعت قريش على حصر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأبو بكر ليس من المحصورين ، أم في ايذاء قريش للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأبو بكر ليس من المحامين بل القائم بحماية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمواسي له بنفسه والذاب عنه في ذلك كله من لا يهاب الرجال ولا تروعه الأبطال ابو طالب وبنوه ورهطه وابو بكر في معزل عن ذلك كله فما نعلم الموضع الذي اختص فيه بمواساة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيره الا ان يدعو حديث الغار وفيه ما فيه ـ كما تقدم ـ واين هو في ذلك ممن بات يفدي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفسه ويتوقع الموت في الذب عنه صابرا محتسبا ،

وأما المجاهدة ساعة الخوف فما علمنا لأبي بكر قتالا ولا سمعنا انه في

__________________

(١) اسباب النزول للواحدي ص ٥٨ والكشاف ١ / ٣٩٨ وتفسير الرازي ٧ / ٨٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢١ وانظر اسباب النزول للواحدي ص ٢٩٦.

(٣) الدهر ٩ و ١٠.

موقف بارز قرنا ولا سفك دما فضلا عن ان يكون اختص بجهاد مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيره ، بل المعلوم ضرورة خلاف ذلك فانه في بدر كان بالعريش ولم ير القتال بوجهه فضلا عن ان يكون قاتل وكان رسول الله لا يكلفه حربا ولا قتالا فانه لما خرج ابنه عبد الرحمن يوم احد من عسكر المشركين يدعو المسلمين للمبارزة وينادي هل من مبارز انا عبد الرحمن بن عتيق فغضب ابوه من قوله وقام مصلتا سيفه يريد مبارزته فنظر إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : (يا أبا بكر شم سيفك وامتعنا بنفسك) (١) ثم لم يلبث بعد ذلك حتى فر مع الفارين ، وفاز بالمواساة والجهاد غيره وهو علي الذي لم يزل فائزا بذلك حتى نزل جبرئيل على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : يا محمد قد عجبت الملائكة من صبر هذا الفتى انها لهي المواساة فقال : (يا جبرئيل انه مني وانا منه) فقال جبرئيل (ع) : وانا منكما (٢) ، ولا شك ان حديثهم الذي افتعلوه ليناقضوا به هذا الحديث الصحيح وما جرى مجراه ، ثم في يوم الأحزاب عجز هو وغيره عن مبارزة عمرو وفاز بالحظ الجزيل من مبارزة الشرك كله وقتله غيره.

وفي خيبر رجع منهزما براية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن الغد فعل مثل ذلك صاحبه وادرك الفضيلة السابق الى الفضائل ابن عم المصطفى.

وفي حنين ولى مدبرا مع المدبرين فاين جهاده مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ساعة الخوف؟ وفي اي موضع حصل وفي اي موقف صدر؟ فليدلنا القوشجي وحزبه عليه حتى نعرفه وهل بلغ من الجهاد مع النبي

__________________

(١) نقض العثمانية للاسكافي كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٩٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦١ عن نقض العثمانية وشرح نهج البلاغة ١٤ / ٢٥١ ، وتاريخ الطبري ٣ / ١٥ حوادث سنة ٣.

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما بلغه ادنى المسلمين من الصحابة حتى يفضل بجهاده على جملتهم ، واذا تأملت الأمر عرفت ان مضمون الخبر كذب كله وليس من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنه لا يقول إلّا حقّا ولا يمدح احدا الا بما فيه من الخير وبما عمل من الأعمال الصالحة وانما وضعه القوم ليناقضوا به اقوال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) المشهورة بين الناس مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (هو اوّل من آمن بي وصدقني) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه (اولهم سلما) وليعارضوا به ما شاع لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) من انفاقه في سبيل الله ما يملكه ولا يجد سواه وما تواتر وعلم من مواساته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفسه وبذله مهجته دونه في ساعات الخوف ، ومجالدته الأقران عنه في اوقات الروع ، وذبه عنه بحسامه عند التحام القتال ومنازلته الأبطال ليغطوا على التحقيق بالشبهات وانى لهم بذاك.

ومنها : والخطاب لأبي الدرداء حين مشى امام ابي بكر : (أتمشي امام من هو خير منك والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على احد افضل من ابي بكر) (١) والجواب عنه انه معارض لكثير من الأخبار الصحيحة الواردة في فضل علي (عليه‌السلام) مثل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (الصديقون ثلاثة حبيب النجار ، ومؤمن آل فرعون ، وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وهو افضلهم) (٢) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه : (سيد المسلمين ويعسوب المؤمنين واعظمهم عند الله مزية) (٣) ومساواته للأنبياء وغيرها مما مر ذكره وما يأتي فهو مما افتعل

__________________

(١) نور الأبصار ص ٥٤.

(٢) نقله ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ عن فضائل احمد.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢ وطبقات ابن سعد ٣ ق ١ ص ١٣١ وتاريخ الطبري ٣ / ٢٠٣ والمحب في الرياض ١ / ١٦٧ و ١٧٧.

للمناقضة فيكون فاسدا ولو صح هذا ومثله لما قال ابو بكر «وليتكم ولست بخيركم» (١) والقول بانه اراد كسر نفسه باطل لأن الأفضلية حكم من الأحكام لا يجوز اخفاؤه ، ونعمة من نعم الله يجب اظهارها ولا يجوز الأخبار بضد الحكم وكتمان نعمة الله ، ولهذا قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انا سيد المرسلين ولا فخر) ، وقال علي (عليه‌السلام) على المنبر : (انا الصديق الأكبر وانا الفاروق الأعظم ، آمنت قبل ايمان ابي بكر) (٢) وأيضا ان المقام مقام اظهار الحجة لأنه اذ ذاك في مخاصمة الأنصار ومخاصمة علي (عليه‌السلام) في امر الخلافة وطلبه منه ومن اصحابه البيعة له فلا موضع لكسر النفس وهضمها في ذلك الوقت وهو يطلب طاعة الأشراف لها واتباع اولى الفضل اياها ، هذا لو سلمنا عدم قبح اخفاء الحق لهضم النفس مطلقا فكيف ودون تسليمه الأقوال البليغة ومن جملته بل زبدته ما اشرنا إليه في اوّل هذا الكلام ، بل ان الشيخ لم يعلم بهذا الحديث الجديد ولا سمعته اذناه ولا احد من الصحابة في وقته ، ولا علم انه افضل الصحابة عند انفسهم ولذا لم يجيبوه ولا واحد منهم بانك خيرنا ، بل مبلغ علمه انه عند نفسه وعند الناس من جملة الصحابة فاخبر عن نفسه بما هو عليه ، وانما حدث له التفضيل العام فيما بعد من اعداء اهل بيت النبوة كما اوضحناه في اوّل الأجوبة على هذه الأخبار ثم اين عمر عن هذا الحديث حين ذهب في السقيفة يحتج لأبي بكر بصحبته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الغار

__________________

(١) قال ذلك بعد ان بويع بالخلافة (انظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٩.

(٢) اخرج الطبراني ـ كما في كنز العمال ٦ / ١٥٦ وفيض القدير ٤ / ٣٥٨ ـ عن سلمان وابي ذر : اخذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيد علي فقال : (هذا اوّل من آمن بي) الى ان قال : (وهذا الصديق الأكبر ، وهذا الفاروق الأعظم) وكان علي (عليه‌السلام) ـ كما في خصائص النسائي ص ٤٦ وغيره ـ كثيرا ما يقول : (انا الصديق الأكبر).

وتقديم قدميه في الصلاة مما لا يستدل به على افضليته ، فلم ترك مثل هذا الحديث الصريح في الأفضلية وعدل عنه إلى ما لا حجة فيه.

ومنها قال عمرو بن العاص : قلت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : اي الناس احب أليك؟ قال : عائشة قلت من الرجال : قال : ابوها قلت : ثم من قال : عمر (١) والجواب عن هذا اللغو مستغنى عنه في الحقيقة لأن كذبه بين ، وراويه ابن الشانئ الأبتر الملعون على لسان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكنا نجرى على العادة في امثاله فنقول بيان بطلانه من وجهين.

الأول : ان هذا الكلام قطعه من كلام الفه ابن العاص يوم صفين يحرض به اهل الشام على قتال امير المؤمنين ، وسيد الموحدين ، وخليفة رسول رب العالمين كما ذكره جامعوا اخبار الوقعة ، وقبله ما مضمونه أمرني ، رسول الله على ابي بكر وعمر فظننت ان ذلك لفضل لي عليهما فلما رجعت قلت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الكلام المذكور بتمامه ، وهذا علي فعل بعائشة كذا وكذا لكلام ذكره يعيب عليا (صلوات الله عليه وسلامه) به ، ولا شك لأحد ان هذا القول اختلقه ابن العاص وافترعه ليحض اهل الشام على قتال امير المؤمنين ليجدوا في ذلك ويبذلوا جهدهم كما اختلق (ان آل ابي طالب ليسوا لي بأولياء انما وليي الله وصالح المؤمنين) (٢)

__________________

(١) رواه الترمذي ٢ / ١٣٠ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٥٤ و ١٥٧ والنسائي في الخصائص ص ٢٩ والمحب في الرياض ٢ / ١٦٢ باختلاف يسير في المعنى واتفاق في اللفظ يشير الى قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

(٢) نقله الاسكافي كما في شرح نهج البلاغة ٤ / ٦٤ وذكر أنه من وضع عمرو بن العاص ، ولا ادري لما ذا يتنكر رسول الله لآل ابي طالب الذين آزروه ونصروه من بدء الدعوة والعجب ان هذا الحديث مروي في صحيحي مسلم والبخاري ، فقد رواه البخاري في ج ٧ ص ٧٣ كتاب الأدب وكأنهم احسوا ان هذا الحديث يكذب متنه سنده

وغير ذلك مما قوي به قلوب اهل الشام ، وشحذ به عزائمهم على الضلال ، وكان على الكذب مقتدرا وبتصنيع الكلام وتزوير البهتان بصيرا ، وأي جهل اعظم من جهل من يجعل رواية ابن العاص المعروف بالفسق والكذب دليلا يعارض به الكتاب وصحاح الأخبار مع ان مقام ايرادها مصرح باختلاقها ، ومجموع الفاظها واضح في اصطناعها لكن القوم يأخذون ما يسمعون في الشيخين ويتلقونه بالقبول ولا ينظرون في سنده ولا في متنه ، ولا في مقام ايراده ، بعكس ما يرد عليهم من احاديث فضل امير المؤمنين (عليه‌السلام) فانهم يبذلون الجهد في تهجينها سندا مع وثاقة رواتها ، ومتنا مع صراحتها واستقامة معانيها كما فعلوا في خبر الغدير وغيره ولو بالتأويلات التي لا معنى لها في العقول ، وهذا نتيجة ما في قلوبهم من العصبية.

الثاني انه معارض لما صح نقله من الأحاديث المشهورة في محبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن ذلك ما رواه الترمذي عن عائشة قالت : كانت فاطمة احب النساء الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وزوجها علي احب الرجال (٢) إليه وقال

__________________

فحرفوه عند النسخ او عند الطبع الى (آل ابي) فحذفوا كلمة (طالب) وبعضهم ترك مكانها بياضا ، وبعضهم مكان طالب (فلان) وكذلك فعلوا في رواية مسلم لها ج ١ / ١٣٦ فقيه : (ان آل ابي يعني فلانا) وتتمه هذا الحديث كما في البخاري (ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) يعني اصلها بصلتها وآخر الحديث يشهد ان المراد آل ابي طالب ويضم الى ذلك تصريح الاسكافي بقوله : «اخرجه البخارى ومسلم في صحيحها مسندا متصلا بعمرو بن العاص وارسال ابن ابي الحديد لنقل الاسكافي عن الصحيحين ارسال المسلمات.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٦٤.

الإسكافي ولما سئلت عائشة من كان احب الناس الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قالت : اما من الرجال فعلي واما من النساء ففاطمة. وروى ابو داود والطبراني والحاكم والترمذي وحسنه عن اسامة بن زيدان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (احب اهلي الي فاطمة) (١) وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لأبعثن إليكم رجلا عديل نفسي) وغير ذلك مما اشتمل عليه هذا الكتاب فيكون باطلا كاخوانه.

ومنها (لو كان بعدي نبي لكان عمر) (٢) والجواب عنه من وجهين.

الأول : ان من شروط النبي العصمة عن الشرك عندنا وعندهم وعمر كان مشركا يعبد الأصنام دهرا ومن كان كذلك لا يكون نبيا البتة بنص الكتاب فيجب أن لو كان بعد نبينا نبي ان يكون غير عمر لعدم جواز النبوة له لسبق الكفر منه فمتن الخبر كذب محض.

الثاني : معارضته لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي) (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) له أيضا (انك ترى ما ارى وتسمع ما اسمع الا انك لست بنبي (٤) فهو مما افتعل للمناقضة فيكون باطلا.

ومنها في ابي بكر وعمر : (هذان السمع والبصر) (٥) والجواب ان هذا

__________________

(١) ذكرنا مصادر هذا الحديث فيما تقدم.

(٢) أخرجه ابن عساكر في تاريخه ٣ / ٢٨٧

(٣) حديث المنزلة تقدم اخراجه.

(٤) نهج البلاغة من الخطبة ٩١ وهي المعروفة بالقاصعة.

(٥) تعرض شيخنا الأميني في الغديرة ٥ / ٣٢٥ لهذا في سلسلة الموضوعات ونقله بهذه الصورة (ان أبا بكر وعمر من الاسلام بمنزلة السمع والبصر) وقال : «عده

القول لو صح لم تثبت به افضلية فقد صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (عمار جلدة بين عيني والمقداد قدمنا قدا) ولم يفضلهما احد بهذا على علي (عليه‌السلام) فكيف وانما جيء به لمناقضة قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي مني بمنزلة رأسي من بدني) (١) رواه الديلمي عن ابن عباس وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كنت انا وعلي نورا واحدا) (٢) وما شابه هذا من الأقوال الصحيحة فيكون فاسدا ولو حملناه على قوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) (٣) كما ورد عندنا في تأويله لصح وانقلب عليهما لا لهما لكن ذلك مما نختص بروايته فلا نحتج به على الخصوم.

ومنها قول ابن عمر : كنا نقول ورسول الله حاضر حي افضل امة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ، اقول لا اشك ان هذا القول كان مفتعلا على ابن عمر كما كان مفتعلا على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك ان ابن عمر من جملة من روى حديث مؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) حين اخا بين اصحابه وقال سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول لعلي (عليه‌السلام) (انت اخي في الدنيا والآخرة) (٤) وهل يرتاب احد في أن النبي (صلى الله

__________________

المقدسي في تذكرته من موضوعات الوليد بن الفضل الوضاع كما نقل في ص ٢٧٠ من الجزء المذكور عن ميزان الاعتدال ٣ / ٢٧٣ وتذكرة الموضوعات للمقدسي ص ٢٧ : ان الوليد بن الفضل العنزي يروي الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به بحال.

(١) نور الأبصار ص ٧٢ اخرجه الديلمي عن ابن عباس وابن حجر في الصواعق ص ٧٥ والخطيب في تاريخ بغداد ٦ / ١٢ عن البراء بن عازب.

(٢) الرياض النضرة ٢ / ١٦٤.

(٣) الاسراء : ٣٤.

(٤) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤.

عليه وآله وسلم) اراد من هذه مؤاخاة اثبات المماثلة بين كل رجلين اخا بينهما في الصفات العلمية والمشابهة بينهما في الفضل ، وان تخصيصه عليا (عليه‌السلام) باخوته قصدا لإبانته بالشرف من بين الصحابة ، واظهارا لتفضيله عليهم ، اللهم الا ان يكون خليا من ادنى فهم واقل تمييز ، ثم انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اكد المعنى الظاهر بما اردفه من الأقوال الصريحة في تفضيل علي (عليه‌السلام) مثل (ادعوا لي سيد العرب عليا) و (انت مني بمنزلة هارون من موسى) (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : لعلي لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢) : (هو انت وشيعتك تأتي يوم القيمة انت وهم راضيين مرضيين ، ويأتي اعدائك غضابا مقمحين) (٣) رواه الطبراني عن ابن عباس ، ورواه خطيب خوارزم ، ورواه بعضهم عن علي (عليه‌السلام) وغير ذلك من الأقوال المنتشرة بين الصحابة التي بسببها ذهب الى تفضيله من ذهب من خيارهم ، افتراه بعد ذلك ينقض قوله وفعله فيقول لأصحابه قولوا افضل امتي بعدي ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ويقررهم على هذا القول ، أفيعقل عاقل هذا من فعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثم كيف يكون القول بتفضيل ابي بكر وعمر وعثمان في زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وحضوره مشهورا بين الصحابة معروفا عندهم ويذهب من ذكرناهم من الصحابة وكثير ممن لم نذكرهم الى تفضيل علي (عليه‌السلام) على جميع الناس؟ أفتراهم تعمدوا مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ فان قال قائل بجواز ذلك

__________________

(١) ما بين القوسين فقرتان من حديثين رواهما الحاكم في المستدرك الأول ٣ / ١٢٤ والثاني ٢ / ٣٨٧ كما رواهما كثير من المحدثين.

(٢) البينة ٧.

(٣) انظر الصواعق ص ٩٦ ونور الأبصار ص ٧٠ وص ١٠١ وقد رواه مختصرا ابن جرير في تفسيره ٣٠ / ١٧٠ والسيوطي في الدر المنثور عند تفسيره لهذه الآية ج ٦ / ٣٧٩.

عليهم ، قلنا له : ان ذلك يخالف قولك فانك تذهب الى ان الصحابة لا يجوز نسبتهم الى مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واذا سلمنا لك الجواز بناء على مذهبنا عارضناك بان الجواز لا يستلزم الوقوع فدلنا على امر خالف اولئك القوم فيه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عمدا بقطع ويقين حتى نلحق ذاك بهذا ، كما نثبت نحن لك مثل ذلك على ائمتك واعوانهم لكنك لا تجد سبيلا الى مثل ذاك من اصحابنا فبطلت حجتك ، وان قلت : لا يجوز عليهم تعمد مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بطل حديثك وذلك هو المراد وأيضا فقد روى صاحب كتاب الخصائص فيه عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول في علي (عليه‌السلام) ثلاث خصال وددت لو ان لي واحدة منهن وذكرهن وسنذكر الخبر بتمامه بعد ان شاء الله ومعلوم ان المقصود من كلام عمران الثلاث الخصال اللاتي سمعهن من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) يوجبن التفضيل له على كل احد فود أن تكون له واحدة منهن ليتفضل بها على سائر الصحابة وينال بها الشرف العظيم بين الناس ، واذا كان عمر يعلم انه افضل اصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد أبي بكر وانه افضل من علي (عليه‌السلام) فاي حاجة له الى خصلة من الخصال التي قالها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) لينال بها تفضيلا؟ وأي فائدة في تحسره على حصول خصلة واحدة من تلك الخصال لعلمه انه لا يدرك الجميع يقينا هل ذلك الا طلب تحصيل الحاصل ولا معنى له عند العقلاء ، أو تقول ان عمر لم يعلم بحديث ابنه فتكون قد طعنت في عمر بعدم العلم بالمشهورات وذلك امر يعود عليك بالنقص والنقض ، أو تطعن في حديثك وتخرجه من الصدق الى الكذب لمخالفته الأدلة الصادقة ـ فاختر ما شئت تخصم ، وقد وضح من ذلك كله ان الحديث باطل بلا ريب وانه موضوع ليقابلوا به الأقوال التي ذكرناها

عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وغيرها من الوارد في تفضيل علي (عليه‌السلام) صريحا.

ومنها عن محمد بن الحنفية قلت لأبي : اي الناس افضل بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ قال : أبو بكر قلت : ثم من قال : عمر ، وخشيت أن اقول ثم من فيقول : عثمان قلت ثم انت قال ما أنا الا رجل من المسلمين (١).

ومنها عن علي (عليه‌السلام) : خير الناس بعد النبيين ابو بكر وعمر ثم الله اعلم.

ومنها عن علي (عليه‌السلام) لما قيل له : أما توصى فقال (عليه‌السلام) : ما أوصى رسول الله (عليه‌السلام) حتى اوصى ولكن ان اراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم (٢) ـ والجواب ان هذا الأحاديث الثلاثة المفترأة تبطل بما بطل به ما قبلها ، وبما صح عن علي (عليه‌السلام) في رواية الخصوم كالجوهري وغيره حين قال عثمان له : ان أبا بكر وعمر خير منك ، فقال علي (عليه‌السلام) : (كذبت انا خير منك ومنهما) (٣) وما كان يقوله على رءوس الأشهاد وصهوات المنابر (انا الصديق الأكبر وانا الفاروق الأعظم آمنت قبل ايمان ابي بكر) (٤) الخبر الذي مر ولا ريب ان مراده من هذا الكلام تفضيل نفسه على ابي بكر لا يشك في ذلك ذو فهم ، وبما صح عنه (عليه‌السلام) من نسبة المذكورين الى ظلمه واغتصاب حقه كما اوضحناه اتم إيضاح فيما مضى ويأتي فكيف

__________________

(١) انظر نقاش المرتضى حول هذا الحديث في الشافي الجزء الثالث بتحقيقنا.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ٦٩ والصواعق ص ٢٧ والبداية والنهاية ٥ / ٢٥١.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٥.

(٤) من رواته بهذا اللفظ المحب في الرياض ٢ / ١٥٧ وقال أخرجه ابن قتيبة في المعارف.

ينسبهما الى ذلك ثم يقول هما خير الناس فيكون خير الناس عنده الظالم الغاصب هذا من المحال ثم كيف يصرح على المنابر بانه الصديق الأكبر ، وأنه أولى الناس بالناس ، وانه وارث رسول الله ووصيه ، وخازن علمه كما مر عليك بيان جميعه ثم يقول : ما انا الا رجل من المسلمين الذي يعطي بواسطة المقام انه لا فضل له على احد من الناس فأين اذن دعوى الوصية والوراثة للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودعوى الأولوية بالناس ثم كيف يقول : انا وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) ثمّ يقول : ان رسول الله لم يوص؟ وهذا تناقض عظيم في الأقوال لا يصدر مثله من عاقل فكيف يصدر من باب مدينة العلم والحكمة ومستودع اسرار النبوة ، وكيف يدعون على محمد بن الحنفية ما سمعت والمروي عنه خلاف ذلك؟ ومن جملته ما رواه جامعوا اخبار صفين من محدثيهم ما مضمونه ان عبيد الله بن عمر بن الخطاب خرج يوما يطلب المبارزة فاراد محمد بن الحنفية مبارزته فمنعه ابوه من ذلك ، ومضى هو بنفسه الى عبيد الله فلما رأى عبيد الله عليا (عليه‌السلام) قد اتاه رجع عن المبارزة الى صفه ، فرجع امير المؤمنين فقال محمد له يا امير المؤمنين اني لأرغب بك عن مبارزة ابيه الى آخر الخبر (٢) ، وهذا صريح في تفضيل محمد اباه على عمر فكيف يسمع محمد من أبيه ان عمر خير الناس ثم يقول اني لأرغب بك عن مبارزته ، ومن ذا يرغب بنفسه أو بأبيه عن مبارزة خير الناس؟ وانما يرغب اشراف الناس عن مبارزة غير الكفوء وخير الناس فوق الكفاءة فمن المعلوم ان احاديثهم الثلاثة اختلقوها ليضاهئوا ما ذكرناه من اقوال امير المؤمنين (عليه‌السلام) من بيان

__________________

(١) اخرج المحب في الرياض ٢ / ١٧٨ عن مناقب احمد ان سلمان سأل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : من وصيك؟ فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جملة كلام له (فان وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن ابي طالب).

(٢) شرح نهج البلاغة ٥ / ١٧٩.

تفضيل نفسه وظلم حقه وغير ذلك فتكون باطلة ، ومع هذا كله يلزم عليهم في الحديث الآخر محذوران لو صح.

الأول : مخالفة ابي بكر للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص الى احد وابو بكر اوصى الى عمر ومتابعة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واجبة وابو بكر قد خالف الواجب ويكون الحديث مناقضا أيضا لما مر في احاديثهم من دعواهم قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي بكر : (وخليفتي على أمّتي) فان هذا القول وصية بالخلافة ونص صريح ومناقضا لقول القوشجي أيضا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوصى اجماعا اما عند الشيعة فلعلي (عليه‌السلام) واما عند الأشاعرة فلأبي بكر ، ومناقضا أيضا لما رواه البخاري من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ويأبى الله الا أبا بكر) ، وهذا القول وصية ظاهرة فما أدري بهؤلاء القوم على أي اخبارهم يعوّلون ، والى اي ادلتهم يستندون؟ ما تراهم الا يستدلون في كل باب بما يناقض دليلهم في باب آخر ويعانده ، هذا القوشجي يستدل بهذا الحديث المصرح بأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص على افضلية ابي بكر وهو قبل يورد الحديث المصرح بأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوصى الى ابي بكر بالخلافة ، ثم هو يرد على الامامية في مسألة انكارهم على ابي بكر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الوصية بما ذكرناه من ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوصى اجماعا ويحتج على ذلك بخبر البخاري ومع ذلك كله يروون عن ابي بكر انه قال في حديث طويل : وددت اني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن صاحب هذا الأمر من هو حتى لا ننازعه (١) هذا ودعواه الاجماع على استخلاف النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) تكرر مرارا.

وآله وسلم) منافية لدعواه الإجماع في مسألة نصب الامام علي ان إمامة ابي بكر برأي الصحابة لا بالنص ولاستدلاله هناك بقول ابي بكر في خطبته لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به فانظروا وهاتوا آراءكم ، واذا كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد استخلف رجلا بعينه فما حاجة خليفته في نظر الصحابة في ذلك وآرائهم ، فانظر الى هذا التناقض العظيم ، وما ذاك الا لخروج القوم عن الصراط المستقيم ، وعدو لهم عن الحق القويم ، فاي حجة لهم في اخبار متعارضة متناقضة يكذب بعضها بعضا ويدفع بعضها الآخر؟ وكفى بذلك فيها بطلانا ، فكيف تقاوم الادلة الصحاح المتوافقة المتطابقة على افضلية امير المؤمنين بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الخلق اجمعين هذا لا يعقل ولا يحمل.

الثاني : انه يلزم ان معاوية الباغي بنص رسول الله الملعون على لسانه بقوله لعمار : (تقتلك الفئة الباغية تدعوهم الى الجنة ويدعونك الى النار) (١) وقوله؟ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أبي سفيان وابنيه احدهما معاوية : (لعن الله الراكب القائد والسائق) (٢) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :

__________________

(١) هذا الحديث مشهور بل متواتر ويظهر ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قاله في اكثر من موطن لاختلاف الوجوه والأسباب واتفاق المعنى وبحسبك ان ترجع الى صحيح البخاري ، كتاب الصلاة باب التعاون في بناء المسجد / وكتاب الجهاد والسير باب مسح الغبار عن الناس ، وصحيح مسلم كتاب الفتن ج ٨ ص ١٨٥ فما بعدها من عدة طرق ، واسد الغابة ٢ / ٢١٧ وحلية الأولياء ٤ / ١٧١ وغيرها ومن المؤسف حقا ان الطبعة المشكولة بتصحيح الشيخ محمد ذهني المطبوعة سنة ١٣١٥ حذف منها جملة (الفئة الباغية) مع انها مثبتة في الطبعات الأخرى مثل طبعة المطبعة الخيرية بالقاهرة سنة ١٣٢٠ ه‍ ـ وهكذا تضيع الحقائق ويحرف الكلم من بعد مواضعه.

(٢) نقل ذلك ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٦ / ٢٨٩ عن كتاب المفاخرات للزبير بن بكار.

(اذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه فان لم تفعلوا لن تفلحوا) (١) وغير ذلك من الأقوال الشديدة فيه مما صح نقله عند مشايخ القوشجي وكان امير المؤمنين (عليه‌السلام) يقنت بلعنه ولعن جماعة من أصحابه في الصلاة يكون خير الأمة لأن الله جمع الناس عليه فدانت له الناس بالقهر والغلبة ، فيكون افضل من سعد بن ابي وقاص وهو احد العشرة المبشرة بالجنة والذي اختاره عمر بن الخطاب للخلافة وجعله من اصحاب الشوري ، وافضل من الحسن الحسين اللّذين هما سيدا شباب اهل الجنة ، وافضل من باقي المهاجرين والأنصار الذين كانوا في ذلك الزمان ، وهذا من أبطل ما يكون بغير ريبة ، أو ان الله لم يرد بالناس خيرا حين جمعهم على معاوية بل اراد بهم شرا ، وهذا لا يرضى به القوشجي واصحابه لاستلزامه بطلان اجماعاتهم التي يحتجون بها على اقوالهم المتناقضة ، ومذاهبهم المتنافية ، والحاصل ان من نظر فيما حررناه ، وتبصر فيما رسمناه لا يكاد يتوقف في بطلان احاديثهم هذه وما شاكلها ، ولا يرتاب في اختلاقها وافتعالها ان كان ذا روية وانصاف ، واذا بطل ما استند إليه القوشجي من الأخبار وانهدم ما اعتمد عليه من الآثار فلا حاجة الى التعرض لما ذكره من الامارات الدالة بزعمه على تفضيل الثلاثة على معدن الفضل امير المؤمنين من كثرة الفتوح والغنائم وغير ذلك مما سنوضح طرقه ونذكر اسبابه ، واغرب ما في كلامه جعله جمع عثمان الناس على مصحف واحد يعني قراءة زيد بن ثابت واسقاطه جميع القراءات المروية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بطرق ثقات الصحابة كعبد الله بن مسعود وابي بن كعب وشبههما وحرقه المصاحف من الامارات الدالة على فضله وافضليته وهذا مما يقضي بالعجب العجاب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٣٢ وصفين لنصر بن مزاحم ص ٢٤٣ ونقل ابن ابي الحديد تعليقا لطيفا للحسن البصري قال : «فو الله ما فعلوا ولا أفلحوا».

حيث يكون ذلك سببا لأفضليته مع انه من جملة ما نقم عليه وسبب عليه وسببت قتله ، مع ما يلزم أيضا من مخالفة القوشجي مذهبه لأن ما ذكره ان كان يقتضي تفضيل عثمان على علي (عليه‌السلام) كما هو زعمه ومرامه فيجب ان يقتضي تفضيله أيضا على أبي بكر وعمر لأنهما لم يفوزا بهذه المنقبة اذ لم ينقل ناقل عنهما انهما احرقا المصاحف ولا اسقطا القراءات المروية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برواية الثقات والقوشجي لا يسلم ذلك ولا يذعن به فامارته باطلة من الرأس ولا حول ولا قوة الا بالله وليت شعري أين هم لو سلموا من الطعن وبرئت ساحتهم من الظلم ، واين غيرهم من اخ الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخليفته ووزيره ومعينه وسيد المؤمنين به وساقي عطاشى امته من حوضه يوم الورود على الله ، واين يقع فضل الفضلاء من فضله وهو منبع الفضائل ومعدن المفاخر والوسائل ، وهل سبقه الى الفضل الا السابق لكل خير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأتى بعده مصليا ليكون ذلك المنذر ويكون هو الهادي كما صح في روايات غير لشيعة فقد اخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال ما انزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلّا وعلي اميرها وشريفها ، ولقد عاتب الله اصحاب محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في غير مكان وما ذكر عليا (عليه‌السلام) الا بخير (١) واخرج ابن عساكر عنه قال ما نزل في احد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي (٢) ، واخرج عنه أيضا قال : نزل في علي (عليه‌السلام) ثلاثمائة آية (٣) واخرج الطبراني عنه قال : كانت لعلي (عليه‌السلام) ثمانية عشر منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة (٤) واخرج ابن عساكر عن ابن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ٤٦.

(٢) رواه الشبلنجي في نور الأبصار ص ٧٨ و ٨١ عن ابن عساكر.

(٣) كذلك ص ٨١.

(٤) نقلها في اسعاف الراغبين ص ١٦١ عن الطبراني.

مسعود قال افرض اهل المدينة واقضاها علي (عليه‌السلام) (١) وروى الطبراني عن ابن عباس قال لما انزل قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٢) قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انا المنذر وعلي الهادي وبك يا علي يهتدي المهتدون) (٣) ، وروى ابو اسحاق الثعلبي في تفسيره عن ابي ذر (رضي الله عنه) في حديث قال فيه : قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم اني محمد نبيك وصفيك ، اللهم فاشرح لي صدري ، ويسر لي امري واجعل لي وزيرا من اهلي عليا اشدد به ظهري) قال أبو ذر : فما استتم دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل من عند الله عزوجل وقال اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٤) الآية وروى ابو المؤيد في مناقبه عن ابي بردة قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونحن جلوس ذات يوم : (والذي نفسي بيده لا يزال قدم عن قدم يوم القيمة حتى يسأل الله تعالى الرجل عن اربع عن عمره فيم افناه ، وعن جسده فيم ابلاه ، وعن ماله مما كسبه وفيم انفقه ، وعن حبنا اهل البيت) فقال له عمر : ما آية حبكم فوضع يده على رأس علي (عليه‌السلام) وهو جالس الى جانبه وقال : (آية حبي حب هذا من بعدي) (٥).

وروى الواحدي في اسباب النزول عن الحسن والثعلبي والقرطبي قالوا : ان عليا (عليه‌السلام) وطلحة بن شيبة والعباس افتخروا فقال طلحة : انا صاحب البيت مفتاحه بيدي ولو شئت كنت فيه ، فقال العباس : وانا صاحب السقاية والقائم عليها ، فقال علي (عليه‌السلام) : (لا أدري لقد صليت

__________________

(١) نور الأبصار ص ٨٠.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) نور الأبصار ص ٧٨.

(٤) المائدة : ٥٥ واخرجه في نور الأبصار ص ٧٧ عن الثعلبي.

(٥) مجمع الزوائد ١٠ / ٣٤٦ وقال : «اخرجه الطبراني في الأوسط».

ستة اشهر قبل الناس وانا صاحب الجهاد) فانزل الله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) الى قوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (١).

وروى في الأسعاف عن ابن السماك ان أبا بكر قال : سمعت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (لا يجوز على الصراط إلّا من كتب له علي الجواز) (٢) فهذا من جملة ما ورد فيه صلوات الله عليه في حديثهم من المحامد العظام فانى يجازيه من لم يفز بشيء من تلك الأوصاف ، وكيف يوازنه من لم ينل واحدة من هذه الخصال ، وكيف يدرك شأوه من لم يحرز فعلا واحدا مما له من محمود الفعال ، فوضح من جميع ما بيناه ان عليا (عليه‌السلام) هو الأفضل للأدلة السالمة من القدح ، والأحاديث البعيدة عن الطعن ، ووضوح بطلان ما عارضها مما تعلق به الخصم ، فهو الامام بعد الرسول اذ لا يقدم على الأفضل المفضول ، وهذه الأدلة المذكورة في الفصول كلها نصوص صريحة في إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) واضحة في استخلافه وبها يبطل ما انكره ابن ابي الحديد من النص على إمامته حيث قال بعد ذكر جملة من اخبار السقيفة واخراج امير المؤمنين من بيته على اصعب وجه : واعلم ان الآثار والأخبار في هذا الباب كثيرة جدا ومن تأملها وأنصف علم انه لم يكن هناك نص صريح مقطوع به لا تختلجه الشكوك ، ولا تتطرق إليه الاحتمالات كما تزعم الامامية ، فانهم يقولون ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص على امير المؤمنين نصا صريحا جليا ليس بنص يوم

__________________

(١) التوبة ١٩ و ٢٠ وانظر اسباب النزول ١٨٢.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٦١ والرياض النضرة ٢ / ٧٧ و ٢٢٤.

الغدير ، ولا خبر المنزلة ولا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة وغيرها ، بل نص عليه بالخلافة وبإمرة المؤمنين وامر المسلمين ان يسلموا عليه بذلك فسلموا عليه بها ، وصرح لهم في كثير من المقامات بانه خليفة عليهم من بعده ، وامرهم بالسمع والطاعة ولا ريب ان المنصف اذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يعلم قطعا انه لم يكن هذا النص ، ولكن قد يسبق الى النفوس والعقول انه قد كان هناك تعريض وتلويح وكناية وقول غير صريح ، وحكم غير مبتوت ، ولعله يصده عن التصريح بذلك امر يعلمه ومصلحة يراعيها ، ووقوف مع اذن الله تعالى في ذلك (١) انتهى.

اقول : ان العارف المنصف اذا نظر هذا الكلام ووقف على ما ذكره قائله من النصوص المتقدمة يعلم قطعا ان قائل هذا القول قد سلك مسلك العناد ، وخاض بحر العصبية واللداد ، وأي نص لم يصرح به الرسول مما يدل على استخلافه عليا حتى يقال : يصده عن ذاك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها ، وأي لفظ مما ذكره هذا المورد واقر بانه موجب للنص على الامامة واكثر منه لم يرد عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حق علي (عليه‌السلام) قال فيه : (امام المتقين) (٢) وقال فيه : (سيد المسلمين) (٣) وقال فيه : (هو ولي كل مؤمن من بعدي) (٤) وقال فيه : (خليفتي) (٥) في حديث الموازرة ، وقال : (اسمعوا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٥٩.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٧.

(٣) المصدر السابق.

(٤) مسند احمد ٤ / ٤٣٧.

(٥) تاريخ الطبري ٣ / ١١٧٢ ط ليدن.

له واطيعوا) (١) وقال فيه : (وصيي ووزيري واحق بمقامي بعدي واختاره الله بعدي) (٢) وغير ذلك مما سمعت مفصلا فاي نص يريد ابن ابي الحديد اجلى واوضح من هذه النصوص ، واي لفظ يطلبه للدلالة على الامامة اصرح من تلك الألفاظ ، وهل يرتاب عاقل او يختلجه شك في ان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي (عليه‌السلام) امام أوليائي ، وامام المتقين ، وإمامكم من بعدي) يريد به الامامة المعروفة ذلك الوقت وما بعده ، وهل يوجد لفظ أجلى في الامامة من هذا اللفظ ، أليس بقبيح من عاقل أن يقول : ما أراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلفظ امام الامام ولا عنى الامامة ، أو ليس يقال : لو اراد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن ينص على علي (عليه‌السلام) بالامامة ما ذا كان يقول أيحتاج في ذلك الى اكثر من قوله : (علي الامام بعدي) أو (إمامكم بعدي) فانه لا يجد سبيلا عن ان يقول بلى يكفيه هذا اللفظ ولا يحتاج في ذلك الى اكثر منه ، وقد قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك مرارا فيما روى الرجل ودع عنك ما رواه غيره زيادة عليه ، فهو النص الصريح ، ولو تحمل ابن ابي الحديد وقال : لا يكفي في ذلك الا ما نسبنا الى الامامية ادعاءه في كلامنا قلنا له انك قد رويت ذلك كله فيما رويت عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلفظه أو بمرادفه ، ولم يبق الا امره بالتسليم على علي (عليه‌السلام) بالإمرة ، فانه وان كان صحيحا لكنك لم تروه (٣) وليس هذا مما يتوقف النص الصريح عليه حتى تحتج على عدم النص بعدمه فانك تسلم ان أبا بكر نص على عمر نصا صريحا باستخلافه بمجرد قوله : اني عهدت الى عمر بن الخطاب ولم تحتج انت ولا غيرك في نصبه عليه الى إمرة المسلمين ان يسلموا عليه بالخلافة ، فليس

__________________

(١) نفس المصدر في نفس الصفحة.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) رواه ابن عساكر بترجمة علي (عليه‌السلام).

لك ان تلزمنا بما لم تلزم به نفسك ولم نلتزم به نحن ، فانا نقول : انه وقع ولسنا نقول ان النص على علي (عليه‌السلام) من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يصح الا به فان ادعيت ذلك فاثبته علينا وحينئذ قد حصل النص الذي لا تختلجه الشكوك من قولك وروايتك ، على ان الامامية لا يحتاجون في اثبات النص على امير المؤمنين الى اكثر من خبر الغدير وخبر المنزلة كما زعمت لصراحتهما في ذلك ، وهل ابقيا شيئا من معنى الامامة والخلافة حتى يحتاج الامامية في اثباته الى دليل غيرهما لو كنت تنصف ، وهل مشابههما وغيره من الأخبار الا مؤكد لهما ، ومقو لدلالتهما ، ومضاعف لصراحتهما اضعافا مضاعفة ، فسبحان الله ما هذا النص الصريح بعد ما طلبت واقترحت؟ ألا تدلنا عليه ما هو وما صفته وما لفظه وما معناه حتى نعلمه ونقف عنده؟ فليس بيننا وبين الحق عداوة ، ولم يكن قدّمنا عليّا على غيره من الصحابة في الفضل والامامة طمعا في دنيا نصيبها ، ولا رغبة في ثروة ننالها ، فانا نعلم وانتم تعلمون ان الرئاسة في الدنيا قديما وحديثا لمن ناواه ، والمال والثروة والغلبة فيها لمن عاداه ، وان اولياءه ومحبيه ما زالوا مقهورين مغلوبين خائفين ، وانما صرنا الى ما صرنا إليه لما ساقنا إليه الدليل الواضح ، والبرهان المبين الذي اقررتم بصحته ، فدلونا على ما ينقضه مما اجتمعنا نحن واياكم على صحته وسلامته من مناقضة بعضه بعضا حتى نعدل إليه ، واما التأويلات الركيكة والاستبعادات الواهنة والتمحلات (١) الممتنعة والتعللات الباردة فليست مما يجوز ان يترك لها الدليل ، ولا ان يعدل بها عنه ، وبالجملة فما ادري ما هذه النصوص التي تدل على الامامة عند ابن ابي الحديد واصحابه التي لا يختلجها الشك ولا تطرق إليها الاحتمالات ، وما تلك الألفاظ الصريحة فيها غير تلك الألفاظ المذكورة حتى نعرفها ، فانا لا

__________________

(١) التمحل : الاحتيال والمماكرة

نفهم لفظا في الإمامة والخلافة اصرح من لفظ الامام والخليفة وما رادفهما مما رقمناه ورسمناه حتى نأتيهم به ، والصريح جئناهم به من حديثهم فما اذعنوا به ، وما ذلك الا تعللات عن قبول الحق ومدافعة للحجة بالراح ، وما اظن القوم الا انهم يريدون منا ان نرقي في السماء ثم نأتيهم بكتاب من الله تعالى يقرءونه وفيه الى عبادي المعتزلة فلان وفلان باسمائهم اما بعد فان رسولي محمد بن عبد الله قد نص على علي بالامامة والخلافة وقد صدق الامامية فيما قالوا فيكون حينئذ عند القوم نصا ، وهذا شيء تعذر على الأنبياء والأوصياء فكيف يمكن مثله لرواة اخبارهم ونقله آثارهم والمقتبسين من شعاع انوارهم ، واظن انه لو تيسر ذلك لم يقبلوه ولم يصدقوه ولتأولوه ودافعوا فيه ، والا لصدقوا ما رووه وصححوه عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ذلك ، وكأنهم اقتدوا بأم المؤمنين عائشة لروايتهم في شأنها (خذوا نصف دينكم من الحميراء) (١) قد روت في حق علي (ع) ما سمعته قريبا وحضرت وصية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليه كما قاله خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين في شعره الذي مر عليك ، وقد خرجت تحاربه مع انها سمعت رسول الله يقول لها في حق علي (عليه‌السلام) (ستقاتلينه يوما وانت ظالمة له وتنبحك في طريقك كلاب الحوأب) فلما سارت الى البصرة ووصلت ذلك الماء نبحتها كلابه فسألت عن اسمه فقيل ماء الحوأب فقالت : ردوني فاني سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول كذا وكذا وذكرت الحديث ، فلفق لها طلحة والزبير رجالا من الأعراب وقد جعلوا لهم جعلا

__________________

(١) انكر ابن حجر هذا الحديث وقال عنه : «لا اعرف له اسنادا ولا رأيته في شيء من كتب الحديث الا في النهاية لابن الأثير ذكره في (ح م ر) ولم يذكر من خرجه» قال : «ورأيته أيضا في كتاب الفردوس لكن بغير لفظه ذكره من حديث انس بغير اسناد ولفظه (خذوا ثلثي دينكم من بيت الحميراء) ونقل عن ابن كثير انه سأل المزي والذهبي عنه فلم يعرفاه عن (التقرير والتحبير ٣ / ٩٩).

ورشوة فشهدوا عندها انه ليس بماء الحوأب فقبلت الإنكار بعد الاقرار وصدقت شهادة الأعراب كأن رسول الله لم يخبرها بذلك ، والعجيب انها بعد ذلك كتبت الى حفصة تبشرها ان عليّا لما بلغه كثرة جمعنا بقى متحيرا وصار كالفرس الأشقر ان تقدم عقر وان تأخر نحر حتى قال في ذلك كله سهل بن حنيف الأنصاري رحمه‌الله

عذرنا الرجال بحرب الرجال

فما للنساء وما للسباب

اما حسبنا ما اتينا به

لك الخير من هتك ذاك الحجاب

ومخرجها اليوم من بيتها

يعرفها الذنب نبح الكلاب

الى ان اتانا كتاب لها

مشوم باقبح ذاك الكتاب

وكل هذا ذكره ابن ابي الحديد ورواه غيره من اهل السير فروايته واصحابه شيئا والقول بخلافه شيء آخر : ولا ادري كيف قال : ليس على علي بالامامة نص صريح وانما هو تعريض وتلويح بعد روايته لحديث الغدير وقول عمر لعلي (عليه‌السلام) ذلك اليوم : هنيئا لك يا بن ابي طالب اصبحت مولى كل مؤمن ومؤمنة (١) كما روى أيضا عن ابن عباس قال دخلت على عمر في اوّل خلافته وقد القى له صاع من تمر على خصفة فدعاني الى الأكل فاكلت تمرة واحدة واقبل يأكل حتى اتى عليه ثم شرب من جر كان عنده ، واستلقى على مرفقة له وطفق يحمد الله يكرر ذلك ، ثم قال : من اين جئت يا عبد الله قلت : من المسجد قال : كيف خلفت ابن عمك فظننته يعني عبد الله بن جعفر فقلت خلفته يلعب مع اتراب له ، فقال : لم أعن

__________________

(١) هذه التهنئة رواها جماعة من العلماء منهم الامام احمد في المسند ٤ / ٢١١١ والطبري في تفسيره ٣ / ٤٢٨ والشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢٢٠ وابن حجر الهيثمي في الصواعق ص ٢٦ الخ.

ذلك وانما عنيت عظيمكم اهل البيت ، قلت : خلفته يمتح بالغرب (١) على نخيلات بني فلان وهو يقرأ القرآن ، قال : يا عبد الله عليك دماء البدن ان كتمتنيها هل بقي في نفسه شيء من امر الخلافة؟ قلت : نعم قال : أيزعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص عليه ، قلت : نعم وازيدك اني سألت أبي عما يدعيه فقال : صدق ، فقال عمر : لقد كان من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أمره ذرو (٢) من القول لا يثبت حجة ولا يقطع عذرا ، ولقد كان يربع (٣) في أمره وقتا ولقد اراد في مرضه ان يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا وحيطة على الاسلام ، لا ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش ابدا ، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من اقطارها ، فعلم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اني علمت ما في نفسه فامسك ، وابى الله الا امضاء ما حتم (٤).

قال ابن ابي الحديد : ذكر هذا الخبر احمد بن ابي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا (٥) انتهى فانظر الى قولهم انه ليس على إمامة علي (عليه‌السلام) نص صريح وانما هو تعريض وتلويح فانه مأخوذ من قوله هنا : لقد كان من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أمره ذرو من القول لا يثبت حجة ، ولا يقطع عذرا ، وقوله : فمنعت من ذلك ، لا يريد به الحقيقة بمعنى انه قال للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا تفعل لعدم قدرته على ذلك في ذلك الوقت ، لكنه اراد اني قلت قولا علم من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انا نخالفه لو صرح باسم علي (عليه‌السلام) فترك ذلك لعدم الفائدة ، واشار بهذا الى قصة الكتاب حيث قال النبي

__________________

(١) الغرب : الدلو.

(٢) الذرو : الشيء.

(٣) يربع يقوله وقتا ويتركه في أوقات.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٠.

(٥) أيضا ٦ / ٤٦.

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للحاضرين عنده : (هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا) فقال عمر : اهجر استفهموه ، فاختلف الحاضرون ، فقالت طائفة : قربوا إليه يكتب لكم ، وقالت طائفة اخرى : القول ما قاله عمر ، فغضب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : (قوموا عني فلا ينبغي عند نبي تنازع) وهذا الحديث مروي في صحاح القوم كصحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما وهو بالغ حد التواتر في الجملة ، والفاظه مختلفة بالزيادة والنقص ، وصورة ما ذكرناه متفق عليها وذكره ابن ابي الحديد بلفظه مرة واشار إليه مرارا.

ثم يقال لابن ابي الحديد : أليس دل هذا الحديث على النص من قول علي (عليه‌السلام) ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص عليه وقوله حق عندك لأنه مع الحق ، ومن شهادة عمه العباس له بذلك ، فاين قولك ، انه لا نص هناك وانكارك على الامامية دعواه؟ او لست بانكارك النص كذبت عليا ، ورددت شهادة العباس ولم تكن كذبت الامامية خاصة؟ واين قولك في كثير من المواضع : ان عليا لم يحتج على الصحابة بالنص ، وهذا الخبر ينص على ذلك من قول عمر : أيزعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص عليه ، ومن قول ابن عباس : نعم ، أفما في هذا دلالة صريحة على أن عليا (عليه‌السلام) كان طالبا للخلافة محتجا على ذلك بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان عمر قد علم ذلك وسمعه ، وان ابن عباس كذلك وان العباس سمعه وشهد له ، افترى باقي الصحابة لم يسمعوا ذلك! ولا ضير أيضا لو لم يسمعوا اذا كان الخصم قد سمع الدعوى والحجة عليها.

ثم يقال له أيضا أليس في كلام عمر تناقض بيّن لأنه انكر النص او لا وذكر انه لا نص وانما هو شيء من القول لا تقوم به الحجة ولا يقطع العذر

ثم قال ولقد أراد رسول الله في مرضه ان يصرح باسمه ، أفليس يدل هذا القول على ان عمر قطع ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يريد التصريح باسم علي (عليه‌السلام) وتعيينه للخلافة فاخبر ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص عليه بهذه الإرادة ، واذا علم ذلك فلا يحتاج الى اللفظ لأن الحاجة الى اللفظ انما هي لإبراز ما في الضمير ، واذا كان القصد معلوما من الاشارة فلا حاجة الى اللفظ ، واذا علم عمر من اشارة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الكتاب ارادته النص على علي (عليه‌السلام) فقد علم النص عليه ، فكيف يقول لا نص؟ فدل قوله على انه رد على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قضاءه ومنعه من انفاذ حكمه.

ثم يقال له أيضا : أي ضرر على الاسلام اذا ولى الأمة اعلمهم بالكتاب والسنة واشجعهم وأتقاهم واقربهم الى الرسول قرابة حتى يشفق على الاسلام من ولايته وهو الذي شيد الاسلام بسيفه ومهد قواعده بجهاده؟ وكيف لا تجتمع عليه قريش بعد نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه وانت تزعم ان الصحابة لا يخالفون نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ وكيف تنتقض عليه العرب مع النص عليه من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أليس هذا اخبارا صريحا من عمر عن تعمد قريش لمعصية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومخالفته وعدم اعتنائهم بنصه فاين زعمك ان الصحابة لو سمعوا نصا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما خالفوه ، وهذا عمر يخبر عنهم وهو منهم انهم ملتزمون بمخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) اذا نص عليه وصرح باسمه ، فحديثك كله نص فيما نقول وشاهد على ما ندعي ، فبطل انكارك ما قلناه ، وكل ما أوردناه على ابن ابي الحديد وارد عن عمر حرفا بحرف ، ثم يقال له أيضا : هب ان قريشا تخالف نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتعصيه لم ابتدأت أنت بذلك وبادرت الى المخالفة ومنعته من التصريح باسم علي

(عليه‌السلام) ، وتحملت مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وابتدعتها لقريش وجرأتهم عليها وطرقتها لهم والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حي ، ولم وافقتهم وشاركتهم في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومعصيته بعد وفاته في عدولهم عن وصيه الى غيره وكنت انت المتقدم لهم في ذلك واوّل الساعين فيه واعظم المساعدين عليه؟ وهلا كنت مساعدا لمن نص عليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما ساعدت غيره؟ وكيف تركت من قصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) توليته وعدلت عنه وبادرت الى بزه خلافته وسارعت الى نصب من لم يشر إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في هذا الأمر وادعيت ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رضيه للدين فرضيته للدنيا؟ وهلا عدلت عن ذلك كله الى طاعة الرسول حيا وميتا ولا يضرك عصيان من عصى؟ فما ادرى ما ذا تصنع المعتزلة أيكذبون هذه الأحاديث المروية من الكتب الصحيحة عندهم؟ أم يكذبون عليا (عليه‌السلام) في دعواه نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ويردون شهادة العباس بذلك له؟ أم يكذبون عمر الذي افتعلوا في شأنه (ان الملك ينطق على لسانه) في اخباره عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه اشار الى علي (عليه‌السلام) بالخلافة في أيام حياته وقصد التصريح به في مرضه وان المنع من التصريح باسمه انما جاء من قبله مع ان ذلك معاندة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وردا لأمره وجرأة على الله في مخالفته ، وليت شعري كيف يتابع هؤلاء القوم من يحرم الحلال ويحلل الحرام ويقبلون قوله ويقدمونه على نص الكتاب والسنة ، فاذا اخبر عن نفسه بانه عصى وخالف الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كذبوه ، وهذا يدلك على انهم قد تحيلوا على التقليد المحض في مذهبهم والتصديق الصرف لأسلافهم ، فهم مذعنون لهم فيما قالوه وان خالف ما رووه وصححوه وجملة الأمران الأولين قصدوا الى انكار النصوص الواردة عن النبي (صلى الله عليه

وآله وسلم) على علي (عليه‌السلام) واخفائها وسترها ما استطاعوا قولا وفعلا والآخرون من معتزلة واشاعرة ورعاع الناس واهل الأطماع في الدنيا قلدوهم في ذلك واتبعوهم على غير بصيرة ، فتراهم يروون النص الصريح ويقولون ليس هذا بنص صريح ، والمنصف المتأمل في امرهم اذا نظر الى اقوالهم لا يختلجه الشك ولا يدخله الريب في ان هذه طريقتهم ودأبهم ، وليتهم اذا اخفوا نصوص إمامة علي (عليه‌السلام) اقتصروا على ذلك ولم يتعدوا عنه الى تزويرهم الأخبار في ذمه واختلاقهم الأحاديث في فضائل المتقدمين عليه ليعارضوا بها ما لم يجدوا الى اخفائه وستره سبيلا من مناقبه مثل خطبة ابنة ابي جهل وان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غضب عليه لذلك وانه قال : (ان آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء) إلى غير ذلك مما ذكروا من الأكاذيب وسيأتي لهذا المبحث كشف وبيان في موضع هو اخلق بذكره من هنا فترقب والحاصل انه لو لا فعل الشيخين بامير المؤمنين وتهجينهما امره وتصغيرهما قدره لكانت النصوص المذكورة على إمامته زاهرة اقمارها ، مشرقة شموسها ، مضيئة انوارها تملأ عين كل ناظر وتقرع سمع كل باد وحاضر ، لكنهما اطفئا تلك الأنوار الظاهرة واخفيا تلك الشموس الزاهرة ولولاهما لم يخالف امير المؤمنين (عليه‌السلام) احد من الناس ولكان اجل قدرا من ان يضام ويجترئ احد من الناس على منازعته ولقد صرح بهذا معاوية بن أبي سفيان في كتابه الى محمد بن أبي بكر وهو غير متهم على الشيخين قال في ذلك الكتاب (فقد كنا وابوك معنا في حياة نبينا نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا ، وفضله مبرزا علينا ، فلما اختار الله لنبيه ما عنده ، وأتمّ له ما وعده ، واظهر دعوته وافلج حجته قبضه الله إليه فكان ابوك وفاروقه أول من ابتزه وخالفه ، على ذلك اتفقا واتسقا الى آخر ما قال من شبه هذا فلقد صدق وليس بصدوق روى هذا الكتاب ابن ابي الحديد عن نصر بن

مزاحم المنقري وكان عند ابن أبي الحديد ثقة ثبتا في الحديث (١) فاعطى قول معاوية ان مخالفته لعلي (عليه‌السلام) ومناواته له انما كانت لما فعلاه من ابتزاز حقه في اوّل الأمر فكان ذلك مطمعا لمعاوية في نيل الرئاسة ومجسرا له على المخالفة ، ولم يكن ذلك منه لعدم علمه بفضل علي (عليه‌السلام) ولا لجهالته بعدم لزوم حقه على الناس في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما ذاك الا لما بينه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من فضله وما الزمه الناس من حقه بالقول والفعل ، ولا يكون ذلك الا بنص عليه ، فلعمري ان في قول معاوية اقرارا بالنص من جهة اللزوم وتصريحا بمخالفة الشيخين له وذلك هو ما نقول ، وهو اعظم حجة على معاوية حيث صرح بتعمده مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في خلعه ما لزمه من حق علي (عليه‌السلام) تقليدا لفلان وفلان فقد ظهر الحق وتوجه النقض على ابن ابي الحديد واصحابه وبطل ما كانوا يعملون.

فان قيل : كيف قبحتم على المعتزلة صرف الفاظ الأخبار عن نصوصها والعدول بها عن ظواهرها مع انهم قصدوا بذلك التوفيق بينها وبين فعل الصحابة وانتم جوزتم لأنفسكم صرف الفاظ القرآن الدالة على صدور المعصية من الأنبياء مثل (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢) وغيرها عن نصوصها وظواهرها الى مجازات بعيدة كترك الأولى وفعل المرجوح وغير ذلك ، فكيف جاز لكم صرف اللفظ عن صريحه الى بعض محتملاته البعيدة ولم يجز للمعتزلة ذلك؟ قلنا : هذه الحجة هي التي ركن إليها ابن ابي الحديد وقوم من اصحابه واستطالوا على الامامية بها وهي أوهن من بيت العنكبوت ، والجواب عنها ان نقول : انا انما صرنا الى ما صرنا إليه من صرف الألفاظ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ / ١٨٩.

(٢) طه ١٢١.

القرآنية الدالة على صدور المعاصي من الأنبياء عن ظواهرها الى المجازات مثل ترك الأولى وفعل المرجوح لما ثبت من وجوب عصمة الأنبياء عليهما‌السلام عن مواقعة الذنوب والخطايا كبائرها وصغائرها بالدليل القاطع من العقل والنقل ، فلذلك حملنا الألفاظ الواردة في صدور المعاصي منهم على ترك الأولى وفعل المرجوح وما أشبه ذلك ، وعدلنا بها عن مفادها ظاهرا الى مجازات بعيدة طلبا للتوفيق بين الدليلين المعلومين ، وهربا من تناقض الأمرين القطعيين ، ولو لا ما قام من الدليل المقطوع به من العقل والنقل على نزاهة الأنبياء من مباشرة الذنوب وطهارتهم من مقارفة المعاصي والعيوب لتركنا الألفاظ على حالها ، وأبقيناها على مفادها ، ولم نحتج الى تكلف التأويلات ، على ان المعتزلة قد شاركونا في تأويلها ووافقونا على صرفها في غير معانيها لوجوب عصمة الأنبياء عندهم ، غاية الأمر انهم حملوها على الصغائر المكفرة لوجوب عصمة الأنبياء عندهم عن الكبائر خاصة ، أما التأويل فعليه الاتفاق بيننا وبينهم وليس الأمر في الصحابة كذلك فانهم غير معصومين باتفاق الأمة ولم يكن منهم من قيل بعصمته الا صاحبنا الذي نحن بصدد اثبات النص عليه ، فلما كان الصحابة غير معصومين قطعا لم يجز صرف الألفاظ الصريحة عن معانيها اذا خالفت افعالهم ولم يسغ رد نصوص الكلمات الصحيحة اذا ناقضت سيرتهم اذ لا داعي الى ذلك بعد انتفاء عصمتهم وجواز وقوع المعصية منهم والسهو والغلط عليهم ، فهذا فصل ما بين الأمرين والفارق ما بين الحالين فما ظنك بعد هذا بما اذا كان وقوع العصيان منهم معلوما وصدور المخالفة لله ورسوله منهم متحققا ، ا فيجوز تخلية اليد من نص اللفظ المعلوم الصدور ممن قوله حجة وتركه والعدول به الى غير معناه لتصحيح افعالهم الباطلة في نفسها فنكون قد تركنا المعلوم للموهوم؟ حاشا ما يقول بذا ذو عقل فضلا عن ذي فضل فثبت المراد واندفع الإيراد.

واما الأمور الصادرة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شأن امير المؤمنين

من افعال واقوال تنبئ عن عظيم منزلته وجلالته قدره ورفعة شأنه وتدل على ابانته اياه على غيره ، وتومي الى إرادة رئاسته وتشير الى قصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اظهار إمامته فهي كثيرة.

فأما الأفعال فمنها مؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) فانه قد اتفق الناس على ان النبي (عليه‌السلام) حين آخى بين اصحابه آخى بين علي ونفسه ، وصفة المؤاخاة رووها عن عبد الله بن عمرو عن عبد الله بن العباس ، قال ابن عمر : لما آخى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين صحابته جاءه علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وعيناه تدمعان فقال : يا رسول الله آخيت بين اصحابك ولم تؤاخ بيني وبين احد فسمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (انت اخي في الدنيا والآخرة) (١).

وفي حديث ابن عباس قال : لما آخى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين اصحابه من المهاجرين والأنصار وهو انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) آخى بين ابي بكر وعمر وآخى بين عثمان بن عفان وبين عبد الرحمن بن عوف وآخى بين طلحة والزبير وآخى بين أبي ذر والمقداد ولم يؤاخ بين علي بن أبي طالب وبين احد منهم خرج علي مغضبا الى ان قال : (اغضبت حين آخيت بين المهاجرين والأنصار ولم أؤاخ بينك وبين احد منهم؟ أما ترضى ان تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي بعدي الا من أحبك فقد حف بالأمن والايمان ومن ابغضك أماته الله ميتة

__________________

(١) حديث المواخاة من الآثار الثابتة كما في الاستيعاب ٣ / ٣٥ ورواه غير واحد من حملة الآثار منهم الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤ والترمذي في السنن ٢ / ٢٩٩ والمحب في الرياض ٢ / ١٧ الخ ...

جاهلية) (١).

وأما قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي اخي فهو كثير في الأحاديث المتقدمة والآتية وغيرها ، وهذا الفعل من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعلي (عليه‌السلام) يدل على امرين.

احدهما : ان عليا (عليه‌السلام) لا يماثله احد من الصحابة ولو كان له مثيل او شبيه منهم لآخاه.

والثاني : ان عليا (عليه‌السلام) مماثل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في صفاته الا ما خرج بدليل قاطع لأن حقيقة الأخوة رجوع شيئين أو اكثر الى اصل واحد فهي اذن مماثلة بين اثنين في صفة او صفات ، فمن النسب مماثلة شخصين في التولد من ابوين معا او من احدهما ، وبين المؤمنين مماثلتهم في الإيمان ، واخوة علي (عليه‌السلام) للرسول (عليه‌السلام) مماثلة في صفاته ، ولما كانت غير معينة في شيء ولا مخصوصة بصفة كانت عامة لكل الصفات الا ما علم انتفاؤه كالتولد من ابوين او من احدهما للعلم بانتفاء ذلك ، ومثل النبوة لختمها بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما دل عليه الكتاب والسنة واجماع الأمة ، فبقي ما سواهما من الصفات داخلا في عموم المماثلة مثل العلم والعصمة والأفضلية على الخلق والامامة كما قال الحسن البصري فرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خير الناس نفسا وخيرهم أخا ، فمؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي دالة على ان عليا هو الصالح لمماثلته في صفاته والقيام مقامه بعد وفاته ، لأن من جملة ما ماثله فيه الامامة فهو الامام بعده وأن من سواه غير صالح لمماثلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والا لآخاه ، ولا مستحقا لمشاكلة علي (عليه‌السلام)

__________________

(١) مجمع الزوائد ٩ / ١١١.

والا لآخى بينه وبينه ، فمفاده أنه لا يصلح احد من الصحابة غير علي (عليه‌السلام) للقيام مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في دينه وامته من بعده ، فهذا الفعل يكاد يلحق بالنصوص الصريحة على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ان لم يكن من أدلها واوضحها عند اعطاء التأمل حقه وليس من ادلة الاشارات والامارات كما ترى ، والعجب كيف تقتضي صحبه ابي بكر لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الغار عند أبي عبيدة وعمر إرادة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تقديمه عليهما بزعمهما فيمتنعان من التقدم عليه يوم السقيفة كما رواه ابن ابي الحديد (١) وغيره من قولهما مع ما في امر صحبته الغار من الايراد وعدم تحقق السلامة من الطعن كما سلف منا اشارة إليه ولا تقتضي مؤاخاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا عندهما إرادة تقديمه على الناس كافة مع ما فيها من التشريف الظاهر ، والتفضيل البين ، والتنويه الواضح بشأن امير المؤمنين (عليه‌السلام) مع ما يشاركه من الأفعال والأقوال ، والمدح العظيم والثناء الجسيم من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ما هذا الا عناد وانكار صريح لفضل امير المؤمنين (عليه‌السلام)؟ فاعاذنا الله تعالى من الغفلات وقد تقدم هذا كلام في موضع دعت الحاجة الى ذكره فيها واوضحنا هناك فيه ما ينتفع به هاهنا.

ومنها إباتة النبي (عليه‌السلام) عليا (عليه‌السلام) على فراشه لما اراد مشركوا قريش قتله في داره ، ونحن نذكر من ذلك ما ذكره ابن ابي الحديد عن شيخه ابي جعفر الاسكافي المعتزلي في نقضه على الجاحظ ، ونكتفي به فانه قد أتى من ذلك بما لا ينبغي الزيادة عليه ، قال في جواب الجاحظ : (ثم يقال له : ما بالك اهملت امر مبيت علي (عليه‌السلام) على الفراش بمكة ليلة الهجرة هل نسيته أم تناسيته؟ فانها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٠.

اذا امتحنها الناظر واجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متفاوتة وذلك انه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مجمع على الخروج من بينهم والهجرة الى غيرهم قصدوا الى معاجلته وتعاقدا على ان يبيتوه في فراشه وان يضربوه باسياف كثيرة بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب ويتفرق بين القبائل ولا يطلب بنوا هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش وتحالفوا على تلك الليلة واجتمعوا عليها فلما علم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده وأمثلهم في نفسه وأبذلهم في ذات الله لمهجته واسرعهم اجابة الى طاعته فقال له : (إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة فامض الى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج واني خارج إن شاء الله تعالى) فمنعه أولا من التحرز واعمال الحيلة وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من انواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم والجأه الى ان يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من ارباب الحنق والغيظة فاجاب الى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه ونام على فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته ينتظر القتل ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر ولا يبلغها طالب (والجود بالنفس اقصى غاية الجود) ولو لا إن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) علم انه اهل لذلك لما اهله ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك لكان من اختاره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منقوصا في رأيه مقصّرا في اختياره ولا يجوز أن يقول هذا احد من اهل الاسلام وكلهم يجمعون على ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عمل بالصواب واحسن في الاختيار ثم في ذلك اذا تأمله المتأمل وجوه من الفضل منها انه وان كان عنده في موضع الثقة فانه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بافشائه تلك الليلة الى من يلقيه الى الأعداء ومنها انه وان كان ضابطا للسر ثقة عند من اختاره

فغير مأمون عليه الجبن عند مفاجاة المكروه ومباشرة الأهوال فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة ويطلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيظفر به ومنها انه وان كان ثقة ضابطا للسر شجاعا نجدا فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش لأن هذا خارج عن الشجاعة اذ قد أقامه مقام المكتوف الممنوع ، بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع ، لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه انه لا سبيل الى الهرب وهذا يجد السبيل الى الهرب والى الدفع عن نفسه ولا يهرب ولا يدافع ، ومنها انه وان كان ثقة ضابطا للسّر شجاعا محتملا للمبيت على لفراش فانه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة والعذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده ويصير الى الإقرار بما يعلمه وهو انه اخذ طريق كذا فيطلب فيؤخذ فلهذا قال علماء المسلمين : ان فضيلة علي (عليه‌السلام) تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحاق وابراهيم عند استسلامه للذبح ولو لا ان الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إنّ محنة علي أعظم لأنه قد روي ان اسحاق تلكأ لما امره ان يضطجع وبكى على نفسه وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة ولذلك قال له (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) (١) وحال علي (عليه‌السلام) بخلاف ذلك فانه ما تلكأ ولا تعتع ولا تغير لونه ولا اضطربت اعضاؤه» ـ ان قال ـ : «وذلك لعلم كل واحد منهما أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة ولا يتورط هذه الهلكة الا من خصه الله بالصبر على مشقّتها والفوز بفضيلتها وله من جنس ذلك افعال كثيرة» ثم قال : «انه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش» قال : «وقال اهل التفسير ان قوله تعالى : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٢) كناية عن علي (عليه‌السلام) ثم ذكر ان مكرهم توزيع السيوف على بطون قريش ومكر الله هو منام علي على الفراش» قال : «وقد روى المفسرون كلهم ان قول الله

__________________

(١) الصافات : ١٠٢.

(٢) الأنفال : ٣٠.

تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) (١) انزلت في علي (عليه‌السلام) ليلة المبيت على الفراش» ثم ذكر جوابه عن دعوى الجاحظ ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي ليلة المبيت (نم فلن يخلص أليك شيء تكرهه) فقال قال شيخنا ابو جعفر : هذا هو الكذب الصراح والتحريف والادخال في الرواية ما ليس منها والمعروف المنقول انه قال له ثم اورد الرواية وقال : ولم ينقل ما ذكره الجاحظ وانما ولده ابو بكر الأصم واخذه الجاحظ ولا اصل له ، ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه مكروه وقد وقع الاتفاق انه ضرب ورمى بالحجارة الى آخر ما قال (٢).

اقول وهذا الأمر اذا تدبره منصف عرف يقينا أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما كان يؤهل للأمور العظائم إلا أخاه عليا فيشير الى أن عليا هو الذي يقوم مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في عظام الأمور فهو خليفته في امره حيا وميتا فأين عمرو (٣) عن هذا فإذا ذكر لصاحبه الغار لم يذكر لصاحبنا الفراش أليس في تركه ذكر ذلك والأعراض عنه دليل واضح على ان قصد القوم صرف الأمر منه الى غيره واخفاء ماله من الفضل فكيف يستبعد منهم كتمان النص ومخالفته وهذا ظاهر لكل فاهم.

ومنها ابقاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا بمكة بعد خروجه لأداء أماناته قال ابن ابي الحديد : قال شيخنا ابو جعفر : والمعروف المنقول انه قال له : (اذهب فاضطجع في مضجعي وتغش ببردى الحضرمي فان القوم سيفقدوني ولا يشهدون مضجعي فلعلهم اذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا فاذا اصبحت فلتقم في اداء امانتي).

__________________

(١) البقرة : ٢٠٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ج ١٣ من ص ١٦٠ ـ ٢٦٢ عن نقض العثمانية.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٦٣. والمراد بعمرو الجاحظ.

وقال ابن ابي الحديد قال محمد بن اسحاق في كتاب المغازي لم يعلم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احدا من المسلمين ما كان عزم عليه من الهجرة الا علي بن أبي طالب وأبا بكر بن أبي قحافة اما علي (عليه‌السلام) فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخبره بخروجه وامره ان يبيت على فراشه يخادع المشركين عنه ليروا انه لم يبرح فلا يطلبوه حتى تبعد المسافة بينهم وبينه وان يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الودائع التي عنده للناس وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) استودعه رجال من مكة ودائع لهم لما يعرفونه من امانته واما ابو بكر فخرج معه (١) انتهى. وهذا الفعل من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه اشارة ظاهرة الى ان عليا (عليه‌السلام) هو القائم مقامه فيما ينوبه والمؤدي عنه اذا غاب ما يلزم عليه اداؤه في حضوره فهو خليفته في جميع الأمور واين غيره من هذين الأمرين واين يقعون في منزلة هذين الموضعين كلا بل ليس لهما الا ابو حسن على صلوات الله وسلامه عليه.

ومن الأفعال التي ابان بها الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) واظهره بفضل لا يدانية فيه احد تركه بابه مفتوحا الى المسجد حين سد ابواب الصحابة مع اخباره ان ذلك عن امر الله تعالى والأمر فيه مشهور (٢).

قال ابن ابي الحديد الحديث العشرون كانت لجماعة من الصحابة ابواب

__________________

(١) أيضا ١٣ / ٣٠٣.

(٢) حديث سد الأبواب الشارعة في مسجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلا باب علي (عليه‌السلام) رواه اكثر المحدثين كالإمام احمد في المسند ٤ / ٣٦٩ والنسائي في الخصائص ص ١٣ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٥ والمحب في الرياض ٢ / ١٩٢ الخ.

شارعة في مسجد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال يوما سدوا كل باب في المسجد الا باب علي فسدت فقال في ذلك قوم حتى بلغ ذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقام فيهم فقال ان قوما قالوا في سد الأبواب وتركى باب علي (عليه‌السلام) اني ما سددت ولا فتحت ولكني أمرت بأمر فاتبعته رواه احمد في المسند مرارا وفي كتاب الفضائل (١).

قلت : في هذا ما لا يخفى على عارف منصف من الاشارة البينة الى إمامة امير المؤمنين لأن الله حيث لم يجز لأحد من الصحابة مساواته في فتح باب الى المسجد ولم يرض بمشاركتهم اياه في ذلك ، بل جعله في ذلك شريكا للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومثيلا فيرضى بعد ذلك لهم ان يتقدموه الى مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، أو يجوز ان يكون ابو بكر وعمرو عثمان أمراء عليه وحكاما وأئمة له كما يزعم الخصم وهؤلاء هم الذين لم يرض الله بالأمس بمساواتهم اياه في باب شارع الى المسجد ، أترى يعقل ذلك عاقل ويعتقده رشيد ، وفي الحديث أيضا دلالة على ان بعض الصحابة كانوا يتهمون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) ولا يسلمون له فيه ما فعل به وما قال ، ويطلبون مخالفته في ذلك ما استطاعوا ولذلك قالوا فيه ما اوجب ان يقوم فيهم ويخبرهم ان ما فعل بعلي (عليه‌السلام) من التشريف عليهم عن الله لا عن نفسه وذلك في حياته وسلطانه فما ظنك بعد وفاته.

ومنها مناجاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) يوم الطائف روى ابن أبي الحديد عن احمد بنت حنبل في المسند ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دعا عليا (عليه‌السلام) في غزاة الطائف فانتجاه وأطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ذلك ، فقال قائل منهم :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢.

لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه فبلغه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك فجمع منهم قوما ثم قال : (ان قائلا قال لقد اطال اليوم نجوى ابن عمه ، اما اني ما انتجيته ولكن الله انتجاه) (١) فأنظر الى ما تضمنه هذا الفعل من الرفعة لعلي (عليه‌السلام) وعلو المنزلة التي تقصر عن تناول ادناها يد المتناول ، أو ليس صريحا في ان عليا (عليه‌السلام) هو المخصوص بالعناية الإلهية بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمؤهل من الله تعالى : للفيوضات القدسية؟ أفليس في هذا اشارة بينة الى انه (عليه‌السلام) هو التالي للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الدرجة والمرشح من الله من بعده للرئاسة فهو الامام بعده والخليفة؟ ثم ان هذا الحديث كسابقة في الدلالة على ان بعض الصحابة يسؤهم ما كان يفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعلي (عليه‌السلام) من التشريف والتفضيل ، وينكرون عليه ما يميزه به من التعظيم والتبجيل ، ويتهمونه في ذلك بانه لحجبه اياه وميله إليه لا لأمر الله اياه بذلك ولذا قال في جوابهم : (ما انتجيته ولكن الله انتجاه) والمراد ان الله امرني بنجواه وان الله لا ينتجى أحدا ولا يخلو بأحد واذا كانوا ينكرون على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعله وقوله في علي (عليه‌السلام) وهو حي فهم الى انكار فعله به بعد وفاته اقرب ولمخالفة قوله فيه اذ ذاك اشد لزوال ما كانوا يحذرونه من عقوبته لقهره عليهم وقوته ويرشدك الى هذا ترك عمر واصحابه يوم السقيفة ذكر ما كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خص به عليا (عليه‌السلام) من هذا الفعل وشبهه مما هو معلوم عند كل الصحابة بل تركهم ذكر علي بالمرة واكثارهم من ذكر الغار والاحتجاج به لأبي بكر فمن كان هذا شأنهم لا يبعد منهم انكار النص على علي (عليه‌السلام) اذ ليس ذلك الا كإنكارهم مناقبه ذلك اليوم وقد حصل منهم كما ترى فأين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٣ عن مسند أحمد ورواه الترمذي ٢ / ٣٠٠ وفي كنز العمال ٦ / ٣٩٩ ان القائل هو ابو بكر (رضي الله عنه) وقال اخرجه الطبراني.

المستبعدون عليهم مخالفة نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) عن هذا وشبهه مما تقدم ويأتي؟ وهل بقي للاستبعاد بعد ذلك مجال فتأمل.

ومنها اختصاص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) في أسفاره وحضره ومشاركته له في أموره من حله وارتحاله ومسيره ونزوله ، وانه صاحب رحله في سفره والملاصق له وقت سيره ، ومستودع سره في كل احواله واوقاته ، وكل ذلك مذكور مشهور وفي التواريخ والسير مسطور بحيث لا ينكره الا جاهل او متجاهل ولقد ذكر (عليه‌السلام) من ذلك ما روى في النهج قال (عليه‌السلام) وهو يخبر عن حاله مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ويمسني جسده ، ويشمني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل) ـ الى ان قال ـ : (ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل اثر أمه ، يرفع لي كل يوم علما من اخلاقه ، ويأمرني بالاقتداء به ، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فاراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة ، واشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه ، فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنة؟ فقال : (هذا الشيطان قد أيس من عبادته انك تسمع ما أسمع وترى ما ارى الا انك لست بنبي ولكنك لوزير وانك لعلى خير) (١).

قال ابن ابي الحديد روى الفضل بن العباس قال : سألت أبي عن ولد

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٩٠ وهي القاصعة.

رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذكور أيهم كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) له أشد حبا فقال : علي بن أبي طالب فقلت سألتك عن بنيه ، فقال : انه كان أحب إليه من بنيه جميعا وأرأف ما رأيناه زايله (١) يوما من الدهر منذ كان طفلا إلا ان يكون في سفر لخديجة ، وما رأينا أبا أبرّ بابن منه بعلي ولا ابنا اطوع لأب من علي له (٢).

وروى ابن ابي الحديد عن ابي مخنف قال جاءت عائشة الى أمّ سلمة تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان فقالت لها : يا بنت أبي امية أنت أول مهاجرة في ازواج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانت كبيرة امهات المؤمنين ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقسم لنا من بيتك ، وكان جبرئيل (عليه‌السلام) اكثر ما يكون في منزلك ، فقالت أمّ سلمة : لأمر ما قلت هذه المقالة ، فقالت عائشة : ان عبد الله اخبرني ان القوم استتابوا عثمان فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام ، وقد عزمت على الخروج الى البصرة ومعي الزبير وطلحة فاخرجي معنا لعل الله يصلح هذا الأمر على أيدينا وبنا ، فقالت أم سلمة ، انك بالأمس تحرضين على عثمان وتقولين فيه اخبث القول ، وما كان اسمه عندك الا نعثلا ، وانك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب اي منزلة كانت عند رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فاذكرك؟ قالت : نعم ، أتذكرين يوم اقبل (عليه‌السلام) ونحن معه حتى اذا هبط من قديد (٣) ذات الشمال خلا بعلي (عليه‌السلام) يناجيه فاطال فاردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني فهجمت عليهما ، فما لبثت ان رجعت باكية فقلت : ما شأنك فقلت اني هجمت عليهما وهما يتناجيان

__________________

(١) زايلة : فارقة.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٠٠.

(٣) قديد ـ بالتصغير ـ : موضع قيل نزله تبع فهبت ريح قدت خيام اصحابه فسمى قديد.

فقلت لعلي : ليس لي من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا يوم من تسعة ايام أفما تدعني يا ابن ابي طالب ويومي؟ فاقبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) علي وهو غضبان محمر الوجه ، فقال : (ارجعي وراءك والله لا يبغضه احد من اهل بيتي ولا من غيرهم من الناس الا وهو خارج من الايمان) فرجعت نادمة ساقطة؟ فقالت عائشة : نعم اذكر ذلك ، ثم ذكرتها أيضا حديث : (ايتكن صاحبة الجمل الأزب تنبحها كلاب الحوأب) (١) وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لها : (اياك ان تكونيها يا حميراء) قالت عائشة : نعم اذكر هذا فهذا الخبر يدل على اختصاص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخلواته بعلي (عليه‌السلام) دون جميع اصحابه واكثر من خلواته بازواجه ، ويصرح بان مبغض علي (عليه‌السلام) كائنا من كان خارج من الايمان ، وان عائشة كانت منطوية على بغضه من ذلك الزمان ، وبالجملة فشدة تقريب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا وأدنائه منه وتخصيصه اياه بالخلوات دون الأباعد والأقارب امر معلوم لا يحتاج الى كثرة الاستدلال عليه ، ولصوق علي (عليه‌السلام) بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من حين كان طفلا الى ان اختار الله لنبيه دار البقاء معروف ، قال ابو جعفر الإسكافي في ذكر اسلام علي (عليه‌السلام) : «وما بال هذا الطفل لم يأنس باقرانه» ـ الى ان قال ـ : «بل ما رأيناه الا ماضيا على اسلامه مصمما في امره محققا لقوله بفعله ، قد صدق اسلامه بعفافه وزهده ولصق برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من بين جميع من بحضرته ، فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته ، فاسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه احد غيره ، وما سبيله في ذلك الا كسبيل الأنبياء ليعلم ان منزلته من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كمنزلة هارون من موسى ، وانه وان لم يكن نبيا فقد كان في سبيل

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٢١٧.

الأنبياء سالكا ، ولمنهاجهم متبعا ، وكانت حاله كحال ابراهيم (عليه‌السلام) الى آخر ما قال (١) ، ولقد أجاد وأتى من فضل امير المؤمنين ببعض ما يجب ان يقال فيه ، ومن الطف الأشياء واطرفها معتزلي يقول في على هذا القول حتى يبلغ به الى مساواته لإبراهيم الخليل ، وهذا من عظيم نعمة الله على امير المؤمنين بان اظهر فضله على لسان كل ناطق من اهل ولايته واهل ولاية غيره ، وهذه الأفعال كلها مشيرة الى تقديم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا (عليه‌السلام) على جميع الصحابة من الأقارب والأجانب ، فهو المخصوص بالتعظيم والتفخيم والمقصود بالرئاسة والتقديم ، مع ما يضاف الى ذلك من مواقفه المشهودة ومشاهده المحمودة ، افترى يحق مقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لغيره؟ وهل تظن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يحل محله سواه؟ كلا ورب الراقصات (٢) ان هذا ما لا يذهب إليه وهم عاقل لبيب ولا يظنه فطن اريب.

وأما الأقوال المشيرة الى إمامة امير المؤمنين :

فمنها : ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في مسنده واحمد البيهقي في صحيحه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (من اراد ان ينظر الى نوح في عزمه ، والى آدم في علمه ، والى ابراهيم في حمله ، والى موسى في فطنته ، والى عيسى في زهده ، فلينظر الى علي بن ابي طالب) (٣) وهذا الحديث دال بظاهره على افضلية علي (عليه‌السلام) على

__________________

(١) نفس المصدر ١٣ / ٢٤٩.

(٢) الراقصات : الابل ومنه قول الناصر العباسي :

قسما بمكة والحطيم وزمزم

والراقصات ومشيهن الى منى

بغض الوصيّ علامه بين الورى

كتبت على جبهات اولاد الزنا

من لم يوالي في البرية حيدرا

سيان عند الله صلى أم زنى

(٣) هذا الحديث يعرف بحديث الاشباه وما ذكره المؤلف رحمه‌الله هنا منقول عن شرح

الأنبياء لأنه اذا جمع خصال الكل كان افضل من كل واحد البتة ، وهو يكاد يصرح بالنص اذ المقصد من تشبيه علي (عليه‌السلام) بالأنبياء اظهار ماله من الفضل الفائق على جميع الورى وإرادة تعظيمه من الأمة وتقديمه على من لم يكن فيه خصلة من تلك الخصال ، وهذا ينافي ما قاله ابن ابي الحديد من جواز جعله سوقة يحكم عليه من لا يساويه ولا يدانيه في فضله فسبحان الله ما اوهن هذا المقال.

ومنها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي : (والذي نفسي بيده لو لا ان تقول طوائف من امتي فيك ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمر بملإ من المسلمين إلا اخذوا التراب من تحت قدميك للبركة) رواه ابن الحديد عن احمد بن حنبل في المسند (١).

أقول : انظر ايها الناظر المتقن الى ما احتوى عليه هذا الحديث من الفضل الذي لا يدرك العقل معناه ولا يبلغ الادراك الى الاحاطة بادناه ، حيث دل على ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد خاف من اظهار ذلك المقال في علي (عليه‌السلام) ذهاب طوائف من الأمة الى القول بربوبيته ، والمصير الى اعتقاد إلهيته ، كما قالت النصارى في ابن مريم ، مع انه قال فيه من الأقوال الجليلة ما شاع ذكره في الآفاق ، ورواه على كثرته كل قوم على اختلاف

__________________

نهج البلاغة لابن ابي الحديد ٩ / ١٦٨ ، ونضيف الى ذلك ان هذا الحديث مشهور بين المحدثين ورواة الأخبار على اختلاف في بعض الألفاظ ففي كفاية الطالب للكنجي ص ٤٥ (والى نوح في حكمته) ورواية المحب في الرياض ٢ / ٢١٨ (والى يحيى بن زكريا في زهده والى موسى في بطشه) والمظنون ان «بطشه» اقرب وفي نزهة المجالس للصفوري ٢ / ٢٤٠ (والى محمد في بهائه) ولأبي عبد الله محمد بن احمد بن عبيد الله المصري المعروف بالمفجع قصيدة تعرف بالاشباه لاشتمالها على هذا الحديث كما في معجم الأدباء للحموي ١٧ / ٢٠٠.

(١) شرح نهج البلاغة ٥ / ٤ و ٩ / ١٦٨ عن مسند أحمد.

مذاهبهم ، فصرح الحديث ان قدر علي (عليه‌السلام) فوق ما ظهر له من الفضل ، وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يقل فيه مقدار ما هو حقه من المنزلة الرفيعة عند الله تعالى : ولم يبين من كراماته حقيقة ما له من الفضيلة الجليلة ، بل بقي بعد ذكر تلك الفضائل العظام ، وبيان تلك المناقب الجسام ، ما لو قاله فيه لذهب اكثر الأمة فيه الى الغلو ، فليت شعري ما هذا المقال بعد تلك الأقوال ، ثم اعظم من ذا أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يقل ان ذلك المقال الذي أخفاه في علي (عليه‌السلام) هو منتهى فضله ولا غاية مجده فيكون له فيه فوق ذلك المقال اقوال ، وعلى ذلك الفضل افضال ، فاين مبلغ العقول من معرفة حقيقة هذا النور القدسي؟ واين محل الإدراك من الاحاطة بكنه هذا الجوهر العلوي؟ أفيسوغ لعاقل يروى هذا الخبر ويدريه أدنى دراية ان يشك في ان المراد منه الاشارة الى نصب علي إماما ، وانه لا يجوز لأحد ان يتقدمه بعد الرسول ولا يخالفه فيما يقول؟ ولا شك ان من رواه ولم يقل ما قلناه ، وما عرف معناه ولا دراه ولا فهم اشارته ولا معزاه كابن ابي الحديد واصحابه والقوشجي وقبيله وغيرهم فجوزوا ان يتقدم على المنصوص عليه بهذا التبجيل من يقول (وليتكم ولست بخيركم وعليّ فيكم فاقيلوني) (١) وتارة يقول (ان لي شيطانا يعتريني فاذا

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ١٦٩ وفي مواضع اخرى من الشرح كذلك كما رواها ابن هشام في السيرة ٤ / ٣٤٠ والطبري في التاريخ ٢ / ٢٠٣ وابن كثير في البداية والنهاية ٥ / ٢٤٧ وليس فيما ذكروه «وعلي فيكم» قال ابن ابي الحديد ١ / ١٦٩ : «وقد اختلف الرواة في هذه اللفظة فكثير من الناس رواها : «أقيلوني ولست بخيركم» ومن الناس من انكر هذه اللفظة ولم يروها وانما روى قوله : «وليتكم ولست بخيركم» واحتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الامامة» وقال ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٨ معلقا على قوله : «ولست بخيركم» : فقد صدق عند كثير من اصحابنا لأن خيرهم علي بن ابي طالب (عليه‌السلام).

زغت فقوموني) (١) ويترأس عليه من يقول : (كل الناس افقه من عمر حتى ربات الحجال) (٢) وكل ذا رواه المذكور ولا شك ان الشبهات اغشت افهامهم ، والفتنة اعمت قلوبهم كما قيل : الفتنة اذا اقبلت اعمت عين البصير ، فان قيل : ان الحديث دال على ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخفى ذلك القول في علي خوفا من القول بالغلو فيه مع ان هذا القول بالغلو فيه قد حصل ، فذهب قوم الى القول بربوبيته وهم الغلاة عليهم لعاين الله وقريب منهم المفوضة ، فما خاف منه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد وقع؟ :

قلت : ان الحديث دال على ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يخف من ابداء ذلك المقال في علي (عليه‌السلام) ذهاب قوم قليلين من الأمة الى الغلو فيه ، وانما خاف من ذهاب معظم الأمة الى ذلك ، الا تراه يقول : (لو لا ان تقول طوائف الأمة من امتي) ولم يقل طائفة ولا قوم ، ومن البين ان الغلاة اقل طوائف الأمة فما وقع لم يخفه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما خافه واخفى لخوفه ذلك المقال لم يقع ، وكيف يريد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الخوف من حدوث هذا القول مطلقا وهو يقول لعلي (عليه‌السلام) : (يهلك فيك اثنان محب غال وعدو قال) (٣) وغيره مما يشبهه فاخبر ان قوما يغلون فيه ، كما اخبر ان قوما سيعادونه ، فمراد النبي (صلى الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٨.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٨٢ ، وسبب هذا القول انه نهى الناس عن زيادة مهور النساء على أربعمائة درهم وان كل زيادة على ذلك يردها الى بيت المال فهابه الناس ان يردوا عليه فقامت إليه امرأة فقالت : الله يعطينا وانت تمنعنا وتلت قوله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فقال : (كل الناس افقه من عمر) انظر تفسير القرطبي ٥ / ٩٩ وتفسير الخازن ١ / ٣٥٣.

(٣) هذا الحديث مشهور بل متواتر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

عليه وآله وسلم) ما ذكرناه فلا تناقض ولله الحمد.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن انس بن مالك انه لما كانت ليلة بدر قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من يستقي لنا ماء؟) فاحجم الناس فقام علي (عليه‌السلام) فاحتضن قربة ثم اتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها فاوحى الله الى جبرئيل وميكائيل واسرافيل ان تأهبوا لنصر محمد واخيه وحزبه ، فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه ، فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم اكراما له واجلالا ، فقال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها وركبتك مع ركبتي حتى تدخل الجنة) (١).

قلت : ولهذا قال عبد الله بن العباس لما سئل عن علي (عليه‌السلام) : ما اقول في رجل كانت له في ليلة واحدة ثلاثة آلاف منقبة ، او قال : فضيلة ، (٢) اراد بذلك تسليم الملائكة عليه تلك الليلة وهم كانوا ثلاثة آلاف ملك بنص القرآن ، وتسليم كل ملك عليه منقبة فلله درّ ابن عباس في فطنته ومعرفته بالتأويل ، ويا له فضلا حازه امير المؤمنين (عليه‌السلام) لا يسبقه فيه سابق ولا يلحقه لاحق وهو به لحقيق وبنيله لخليق فهو المؤهل من الله للامارة كما يشير إليه تسليم الملائكة عليه لا من قال فيه ابن ابي الحديد الذي هو من شيعته ومواليه حيث قال مشيرا الى علي (عليه‌السلام) وإليه.

ولا كان يوم الغار يهفو جنانه

حذارا ولا يوم العريش تسترا (٣)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢.

(٢) نفس المصدر ١ /.

(٣) هذا البيت من علوية ابن ابي الحديد التي مطلعها :

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن احمد بن حنبل في كتاب الفضائل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (الصديقون ثلاثة ، حبيب النجار الذي جاء من اقصى المدينة يسعى ، ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم ايمانه ، وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) وهو افضلهم) (١) وهذا الحديث يصدق ما قاله امير المؤمنين (عليه‌السلام) : (انا الصديق الأكبر وانا الفاروق الأعظم) ويبطل ما قاله القوم في تسمية غيره بالصديق ولو كان ما قالوه حقا لقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الصديقون أربعة وعده منهم.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي جعفر الإسكافي قال : روى ابو صادق عن ربيعة بن ناجذ عن علي (عليه‌السلام) قال : قال لي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : أن فيك لشبها من عيسى بن مريم احبته النصارى حتى انزلته بالمنزلة التي ليست له وابغضته اليهود حتى بهتت أمه) (٢).

ومنها ما قال ابن ابي الحديد : روى الناس كافة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي (عليه‌السلام) : (هذا وليي وانا وليه عاديت من عاداه وسالمت من سالمه) (٣) ونحو هذا اللفظ وهو يدل على ان موالاته هي الإيمان ولذا قال ابو سعيد الخدري فيما رواه ابن ابي الحديد عن ابراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات ، كنّا نبور ابناءنا بحب علي ابن ابي طالب

__________________

جللت فلما دق في عينك الورى

نهضت الى أمّ القرى أيد القرا

وأيد بوزن جيد : اي قوي القرا بالفتح ـ الظهر.

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢.

(٢) نفس المصدر ٣ / ١٠٥ و ٥ / ٥.

(٣) كذلك ٤ / ١٠٧.

(عليه‌السلام) فمن احبه عرفنا انه منا ، وعن علي في ذلك الكتاب (لا يحبني كافر ولا ولد زنا) (١).

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن ابراهيم بن ديزيل في كتاب صفين مسندا عن ابي سعيد الخدري ، قال : كنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فانقطع شسع نعله فالقاها الى علي (عليه‌السلام) يصلحها ثم قال : (ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله) فقال ابو بكر انا هو يا رسول الله؟ فقال : لا ، فقال عمر بن الخطاب : انا هو يا رسول الله؟ قال : (لا ولكنه ذاكم خاصف النعل) ويد علي (عليه‌السلام) على نعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يصلحها ، قال ابو سعيد : فأتيت عليا فبشرته بذلك فلم يحفل به كأنه شيء قد كان علمه من قبل (٢) ، وهذا الحديث مشهور وهو ظاهر أي ظهور في النص على إمامة علي (عليه‌السلام) لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جعله التالي له في المنزلة ، وذلك لأن المنازل ثلاث منزلة النبوة وهو مقام الوحي ، ومنزلة الامامة وهي مقام التأدية عن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتبليغ احكام الكتاب الى الأمة ومنزلة القبول والطاعة وهي منزلة الرعية فبين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان منزلة التأدية عنه ، والتبليغ وتبيين معاني الكتاب لعلي (عليه‌السلام) فهو الامام بعده المبلغ امته احكام التنزيل ، والمفصل لهم مجملات الوحي ، وهو المقاتل الناس على قبولهم تأويل القرآن منه ، وتصديقهم ما يقول عنه ، كما ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قاتل الناس ليقروا بأن القرآن منزل من الله تعالى عليه ويصدقوا بانه كلام الله ليس بمختلق ولا مكذوب ، فرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مؤسس

__________________

(١) أيضا ٤ / ١٦٠.

(٢) أيضا ٣ / ٢٠٧.

الملة وعلي (عليه‌السلام) موضح احكام الشريعة ، ومبين تأويل الكتاب والسنة ، فهو الخليفة بعده على الأمة ، فاين يذهب بابن ابي الحديد عن هذا ولقد فهم شيخاه ما أشار إليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في هذا الحديث من الامامة؟ فكل تمناها وطلبها ولو لم يعقلوا ذلك من قصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما تطاول كل واحد منهما الى ذلك ، وسأل : النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انا هو يا رسول الله فوا عجباه كيف كان الشيخان افهم من هذا المعتزلي الجدلي المحقق والخبر رواه اكثر المحدثين.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ان الملائكة صلت علي وعلى علي سبع سنين ولم تصل على احد من الناس) (١) وذلك انهما كانا يعبدان الله ولم يكن على وجه الأرض من يصلي لله غيرهما فشريك النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في صلاة الملائكة عليه هو الأحق بمقامه.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد ، وعن محمد بن حبيب في أماليه وقال بعد نقله : روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الأخبار المشهورة ، وأنه وجده في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق ، قال : وسألت شيخي عبد الله بن سكينة عن هذا الخبر فقال : خبر صحيح (٢) وهو انه لما انهزم الناس عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوم احد وافردوه فوقاه علي بنفسه وفداه بمهجته وجالد الكتائب دونه حتى قتل من قتل منهم ورجعوا ناكصين ، فقال جبرئيل لرسول

__________________

(١) أيضا ١٣ / ٢٣٠.

(٢) أيضا ١٤ / ٢٥١ قال ابن ابي الحديد : «فقلت له : فما بال الصحاح لم تشتمل عليه؟ قال : أو كلما كان صحيحا تشتمل عليه الصحاح ، كم قد اهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة»!

الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان هذه المواساة عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى) فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وما يمنعه وهو مني وأنا منه) فقال جبرئيل (عليه‌السلام) : (وأنا منكما) فانظر الى هذا المقام وعظم هذا المرام بحيث ان الملائكة الكرام عجبت من صبره وبلائه ومواساته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ذلك الموقف المهول الذي ذهلت فيه العقول ، وان جبرئيل سيد الملائكة يطلب الاضافة إليه كما يطلب ذلك من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ويعد ذلك من جملة مفاخره وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (هو مني وانا منه) أليس في هذا كله ما يدل او يشير الى ان عليا هو المستحق لمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأولى به دون كل احد (١).

ومنها ما في الخبر المذكور أيضا قال وسمع ذلك اليوم صوت من قبل السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مرارا (لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي (عليه‌السلام) فسئل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عنه فقال (هذا جبرئيل) (٢) فانظر أيضا الى هذه المنقبة الجليلة التي لا يشك من سمعها ان عليا هو المخصوص بعناية الله بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والمستحق لمنزلته دون غيره من الصحابة ، وكيف يتوهم رشيد أن الرجل الذي كان بالأمس نوه الله بذكره ، وامر الملائكة ان تعلن بمدحه لمشاركته الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في صعاب الأمور ، وخوضه دونه غمرات الحروب والذي لا فتى في نصرة الدين وجهاد المشركين واعزاز الاسلام وحماية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وطاعة الله مثله ، ولا سيف في كل ذلك كسيفه ، والمخصوص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) أيضا ٩ / ١٨٢.

(٢) أيضا ٩ / ١٨٢ و ١٤ / ٢٥١.

وسلم) بالتقديم في كل شأنه ، والتفضيل على اقاربه واعوانه ، والمعدود عنده للنوائب والمدخر لكشف الشدائد يكون بعده مؤخرا عن مقامه ، ومباعدا عن محله يحكم البعداء عليه في ماله ودمه او يتصور ان الله بذلك راض ورسوله! ـ حاشا وكلا ، بل كل ما ذكرناه من تنويه الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باسم علي (عليه‌السلام) واعلان الملائكة بمدحه لبيان انه خليفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعده في امته ، كما انه الباذل نفسه في حياته في طاعة الله وطاعته ، والصابر المجاهد في اعلاء كلمته ، وهذا ظاهر لمن كان له قلب او القى السمع وهو شهيد ، وهذا الحديث وما قبله يبطلان ما رواه بعض الخصوم من ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بكت (١) عليا (عليه‌السلام) ذلك اليوم حين قال لفاطمة : امسكي هذا السيف غير ذميم فنظر إليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مختضبا بالدم فقال : (لئن كنت احسنت القتال اليوم فلقد احسن عاصم بن ثابت ، والحارث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وسيف ابي دجانة غير ذميم) (٢) فان هؤلاء وان كانوا ثبتوا ولم يفروا كما فر غيرهم لكن ليس جهادهم في ذلك اليوم وغيره يشبه جهاد امير المؤمنين او يدانيه كما علمت من قول جبرئيل (عليه‌السلام) في امر المواساة حتى يقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي ان كنت فعلت كذا فلقد فعل فلان وفلان مثل فعلك ، ومن هذا الوجه يضعف حمل الخبر على إرادة اظهار فضل المذكورين دون تبكيت علي (عليه‌السلام) ليرتفع التعارض اللهم الّا على وجه بعيد والله اعلم.

ومنها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) يوم برز لعمرو بن عبد ود (برز الايمان كل الى الكفر كله) رواه ابن ابي

__________________

(١) التبكيت : التقريع والتعنيف.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٣٥.

الحديد وهو خبر مشهور بل متواتر وما ظهر من شدة حب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) فقد روى ابن ابي الحديد (١) وغيره ان رسول الله اذ ذاك ما زال رافعا يديه مقمحا رأسه نحو السماء داعيا ربه قائلا : (اللهم انك اخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم احد فاحفظ عليّ اليوم عليا (عليه‌السلام) رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) قال ابن ابي الحديد : قال شيخنا ابو الهذيل وقد سأله سائل : ايما اعظم منزلة عند الله علي أم ابو بكر ، فقال : يا بن اخي والله لمبارزة علي (عليه‌السلام) عمرا يوم الخندق تعدل اعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربى عليها فضلا عن ابي بكر وحده ، قال : وروى قيس بن الربيع عن ابي هارون العبدي عن ربيعة بن مالك السعدي قال : اتيت حذيفة بن اليمان فقلت : يا أبا عبد الله إنّ الناس ليتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه فيقول لهم اهل البصيرة : انكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل فهل انت محدثي بحديث عنه أذكره للناس؟ فقال : يا ربيعة وما الذي تسألني عن علي وما الذي أحدثك عنه ، والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع اعمال امة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كفة الميزان منذ بعث الله محمدا الى يوم الناس هذا ووضع عمل واحد من اعمال علي (عليه‌السلام) في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها ، فقال ربيعة : هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل اني لأظنه اسرافا يا أبا عبد الله ، فقال حذيفة ، يا لكع وكيف لا يحمل واين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو واصحابه فملكهم الهلع والجزع ، ودعا الى المبارزة فاحجموا عنه حتى برز إليه علي فقتله؟ والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم اعظم اجرا من اعمال امة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى هذا اليوم والى ان تقوم القيامة (٢) انتهى.

__________________

(١) نفس المصدر ١٣ / ٢٨٥ عن نقض العثمانية للإسكافي و ١٩ / ٦١.

(٢) المصدر السابق ١٣ / ٢٨٣ و ١٩ / ١٦٠ وانما قال حذيفة استنادا الى قول رسول الله (صلى

اقول وفي هذه القصة وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (برز الايمان كله ...) (١) من الاشارة الى تقديمه على القوم ما لا يخفى علي ذي حجى ، ولا يحتاج الى تبيين وتوضيح ، وهل كان شبه علي (عليه‌السلام) وعمرو ذلك اليوم الا داود وجالوت كما قاله جابر بن عبد الله أو غيره من الصحابة ، فهذه الأفعال والأقوال كلها شواهد حق على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وادلة صدق على انه خليفة رب العالمين ، لا يكاد يرتاب فيها الا من جانب الإنصاف ، وسلك فج الاعتساف.

ومما يقوى ما ندعيه ما رواه ابن أبي الحديد عن نصر بن مزاحم في كتاب صفين عن عمر بن سعد (٢) عن مسلم الأعور عن حبة العرني ، ورواه أيضا عن ابراهيم بن ديزيل الهمداني في كتاب صفين ، بهذا الاسناد أيضا عن حبة العرني قال نصر : فروى حبة ان عليا لما نزل على الرقة نزل بموضع يقال له البلخ (٣) على جانب الفرات فنزل راهب هناك من صومعته فقال لعلي (عليه

__________________

الله عليه وآله وسلم) : (لمبارزة علي بن ابي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق افضل من اعمال امتي الى يوم القيامة) وقد تقدم تخريج هذا الحديث.

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٨٥ عن نقض العثمانية للإسكافي.

(٢) هو عمر بن سعد بن ابي الصيد الأسدي وكثيرا ما يروى عنه نصر بن مزاحم في كتاب صفين وقد توهمه بعضهم عمر بن سعد بن ابي وقاص قاتل الحسين (عليه‌السلام) ونسي ان من البعد بمكان ان يروى نصر بن مزاحم المتوفي سنة ٢٠٢ عن عمر بن سعد المقتول سنة ٦٦ ، ونذكر بالمناسبة ان الذهبي في ميزان الاعتدال ذكر العمرين فقال عن ابن ابي الصيد : «شيعي بغيض متروك الحديث» وقال عن الثاني : «هو في نفسه غير متهم ولكنه باشر قتل الحسين وفعل الأفاعيل) انظر ج ٣ ص ٩٨ وص ١٩٩»!!

(٣) في شرح النهج «البليخ» وهو الصواب قال عبيد الله بن قيس الرقيات :

ذاك خير من البيلخ وم

ن صوت ذئاب علي يدعون ذيبا

وانظر معجم البلدان مادة البليخ.

السلام) : ان عندنا كتابا توارثناه من آبائنا كتبه اصحاب عيسى بن مريم اعرضه عليك فقرأ الراهب الكتاب : بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما كتب انه باعث في الأميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويدلهم على سبيل الله ، لا فظا ولا غليظا ولا صخابا في الأسواق ، ولا يجزى بالسيئة السيئة ، بل يعفو ويصفح امته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشز وفي كل صعود وهبوط تدل ألسنتهم بالتكبير والتهليل والتسبيح ، وينصره الله على من ناواه فاذا توفاه الله اختلفت امته من بعده ثم اجتمعت فلبثت ما شاء الله ثم اختلفت فيمرّ رجل من امته على شاطئ الفرات يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويقضي بالحق ولا يركس (١) الحكم ، الدنيا اهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح ، والموت عنده اهون من شرب الماء على الظمآن ، يخاف الله في السر وينصح له في العلانية ، لا يخاف في الله لومة لائم ، فمن ادرك ذلك النبي من اهل هذه البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة ، ومن ادرك ذلك العبد الصالح فلينصره ، فان القتل معه شهادة ثم قال : انا مصاحبك فلا افارقك حتى يصيبني ما اصابك ، فبكى (عليه‌السلام) ثم قال : (الحمد لله الذي لم اكن عنده منسيا ، الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار) فمضى الراهب معه ثم ذكر انه اصيب بصفين ، وان عليا (عليه‌السلام) صلى عليه ودفنه ، وقال : (هذا منا اهل البيت) واستغفر له مرارا (٢) ، فهذا الحديث مصرح بان عليا (عليه‌السلام) هو المخصوص بالذكر بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بتعيينه في كتب الله السابقة المنزلة على الأنبياء فيكون هو الخليفة من بعده ، لأن ذكره معه يشير الى انه وصيه والقائم مقامه من بعده ، ثم انظر

__________________

(١) الركس : رد الشيء مقلوبا وفي كتاب صفين «ولا يرتشي في الحكم».

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٦ وكتاب صفين ص ١٦٤.

الى ما وصفه الله به في هذا الكتاب مما لا يوازن به وصف ولا يبلغه الا الأنبياء المرسلون ، وهو ادل دليل على كون المراد من الكتاب بيان انه (عليه‌السلام) خليفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ووصيه اذ لم يذكر غيره على الخصوص بشيء مما يشير الى معنى الامامة بالمرة ، فليسوا عند الله بخلفاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقينا ، وانت اذا نظرت ما رسمناه وتدبرت في جميع ما حررناه نظر متأمل متبصر قطعت وجزمت بأنها نصوص صراح متضحة أي اتضاح في إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وعلمت يقينا ان انكار النص عليه ممن روى تلك الروايات او اطلع عليها في الكتب الصحيحة عنده ناش عن رأي غير سديد ، وعقل غير رشيد ، كما صدر من امثال ابن ابي الحديد ونحن نسأل الله التوفيق الى ولاية مولانا امير المؤمنين (عليه‌السلام) ونرغب الى الله في التسديد.

فان قيل : انكم رويتم هذه الأحاديث من كتب خصومكم واعتمدتم عليها في مطلبكم ، فان يكن ذلك لوثاقتهم عندكم فيلزمكم قبول روايتهم في ائمتهم ، وان لم يكونوا عندكم موثوقا بهم فليس لكم ان تعتمدوا على شيء مما رووه ، وليس لكم أن تأخذوا من روايتهم ما يوافق مطلوبكم دون ما يخالفه لأن ترجيح بلا مرجح ، ومن قبلته لك لا بد أن تقبله عليك.

قلنا : أما اعتمادنا على الروايات المروية في كتب خصومنا الواردة في مناقب ائمتنا عليهم‌السلام فليس لأنهم عندنا ثقات ، ولا ان روايتهم مقبولة ، ولا لأنها موافقة لمطلوبنا ، بل لأنها مذكورة بألفاظها ومعانيها وامثال امثالها مما لا يحصى كثرة في كتب اصحابنا المعتبرة من الطرق الموثوق بها ، والأسانيد الموثوق برجالها ، ولو لم تكن موجودة عندنا ، ومروية من طرقنا ، ومثبتة في صحاح اخبارنا ، وكثير منها منقول بالتواتر لضربنا عنها الذكر صفحا ، ولما عرجنا عليها ، ولا التفتنا إليها ، وهذا بخلاف روايتهم في

ائمتهم فانهم يختصون بنقلها ، وليس في رواية اصحابنا منها عين ولا اثر ، فلذا نحن لا نقبلها لعلمنا بعدم وثاقة ناقليها ، بل علمنا باصطناعهم اياها ، على ان اكثرها او جميعها ينتهي اسناده الى من علمت منهم العداوة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) واولاده وذويه ، وتزويره الأحاديث في عيبهم وذمهم ، فهو يضيف إليها اختلاق اخبار في فضائل المتقدمين عليهم لتكون معارضة لروايات فضائلهم ومناقبهم ، ليبلغ غرضه من تهجينها عند الرعاع والغوغاء وينال بذلك الأنعام الوافر عند اعدائهم كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص وابن عمر وعروة بن الزبير وسمرة بن جندب واضرابهم وكل هؤلاء مصرحون ببغض امير المؤمنين (عليه‌السلام) والانحراف عنه ، وقد ذكر ابن ابي الحديد في بيان المنحرفين عن علي (عليه‌السلام) هؤلاء وجماعة كثيرة من امثالهم وذكر اقوالهم الشنيعة فيه كل ذلك في شرح النهج (١) وذكر تفصيل ذلك وبيانه قبله أبو جعفر الاسكافي (٢) ، ومنها ما اصطنعه اتباعهم من القرّاء والفقهاء والمحدثين لمثل اغراضهم كما اسلفنا بيانه في رد حجة القوشجي ، فمن هذه حالهم كيف يصح الثقة برواياتهم؟ على ان كثيرا منها مدخول فيه ، وكثير منها لائح عليه آثار الوضع ، وجلها مخالف لصريح القرآن ، وقد أمرنا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) برد ما خالف القرآن من الأخبار المروية عنه ، وقد طعن فيها جماعة من الخصوم بالوضع بعضهم صريحا وبعضهم لزوما من حيث لا يشعرون ، وطعن ابن ابي الحديد في بعضها صريحا ، والكلام في هذا قدمنا منه ما فيه الكفاية في ابطال احتجاج القوشجي بجملة منها ، فهذا هو الفارق بين قبولنا رواية الخصوم في فضائل ائمتنا (عليه‌السلام) دون روايتهم في فضائل اصحابهم وهو المرجح للقبول

__________________

(١) نفس المصدر ٤ / ٧٤ ـ ١٠٣.

(٢) المصدر السابق ٤ / ص ٦٣ فما بعدها.

والرد ، واما ذكرنا اياها من كتبهم فلأنا في مقام خصام والحجة ما لم يعترف بصحتها الخصم لا تثبت بها الدعوى ولا يقطع بها العذر ، فلذا اخترنا نقلها من كتبهم من باب الزام كل انسان بما التزم به ، ولعدم قدرتهم على انكارها اذ لا سبيل لهم إليه الا بانكار تلك الكتب ، وفي انكارها ابطال مذهبهم واستئصال طريقتهم ، ونقض حجتهم ، وذلك هو المطلوب فاندفع الاعتراض بعون الله.

تتميم وتكميل

واذا قد انتهينا الى هنا فلنذكر طائفة من الأحاديث والأخبار الدالة على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) والمشيرة الى ذلك والمصرحة بفضله مما لم يذكره ابن ابي الحديد ولا اشار إليه ، وننقلها من كتب الموافقين له في انكار النص على امير المؤمنين والمشاركين له في تقديم غيره عليه ومن رواياتهم لانا التزمنا في اوّل ايراد النصوص ان لا نورد منها الا ما رواه المعتزلي المذكور بلفظه وبمعناه ومضمونه أو اشار إليه فلذا لم نذكر في تلك المباحث الا ما كان كذلك على انا لم نقطع بانا قد استقصينا جميع ما ذكره المشار إليه في كتابه مما يدخل في تلك الأبواب ، ولم نجزم بان ما ذكرناه وما سنذكره ـ إن شاء الله تعالى ـ في مواضعه الآتية جميع ذلك لطول الكتاب وتفرقها فيه فلعلنا اغفلنا ذكر شيء منه ان نسينا وقت جمع هذا الكتاب موضعه ، لكني ارجو انّ ما نذكره ـ ان كان ـ لا يكون خارجا عن حدود الأنواع المذكورة فنذكر هنا ما اشرنا إليه.

فمن ذلك ما رواه الطبراني سليمان بن احمد بسنده عن عبد الله بن حكيم الجهني قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله تبارك وتعالى اوحى لي في علي ثلاثة أشياء ليلة اسرى بي بأنه سيد المؤمنين ، وامام المتقين ، وقائد الغر المحجلين) (١).

__________________

(١) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٢١ وقال : «رواه الطبراني في الصغير» كما رواه

وروى ابو اسحاق الثعلبي في تفسيره في حديث طويل عن ابي ذر انه قال : ايها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فانا ابو ذر الغفاري ، سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بهاتين والا صمتا يقول في علي بن ابي طالب : (قائد البررة ، قاتل الكفرة ، منصور من نصره مخذول من خذله) (١).

وروى الترمذي والنسائي عن ابي سعيد الخدري قال : ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله الا ببغضهم عليا (٢) (عليه‌السلام).

وفي كتاب الخصائص عن العباس بن عبد المطلب ، قال : سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول : كفوا عن ذكر علي بن أبي طالب الا بخير فاني سمعت رسول الله يقول في علي ثلاثة خصال وددت لو ان لي واحدة منها كل واحدة منهن احب الي مما طلعت عليه الشمس ، وذاك اني كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح ونفر من اصحاب رسول الله اذ ضرب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على كف علي بن ابي طالب وقال : (يا علي انت اوّل المسلمين اسلاما وانت اوّل المؤمنين ايمانا ، وانت منى بمنزلة هارون من موسى ، كذب من زعم انه يحبني وهو يبغضك ، يا علي من أحبك فقد أحبني ، ومن أحبني احبه الله تعالى ، ومن احبه الله تعالى ادخله الجنة ، ومن ابغضك فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد ابغضه الله تعالى وادخله النار) (٣).

اقول غير خفي على من له اطلاع ان الراوي من القسم الثاني وبيان ذلك

__________________

الحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٧ والمحب في الرياض ٢ / ١٧٧ وغيرهم.

(١) نقله في نور الأبصار ص ١٧ عن تفسير الثعلبي.

(٢) رواه الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٥٦ واشار الى ان الترمذي اخرجه عن ابي سعيد وانظر الترمذي ٢ / ٢٩٩.

(٣) وشرح نهج البلاغة ٣ / ٢٣٠ عن نقض العثمانية.

مضى منه شيء ويأتي منه شطر.

وروى ابن خالويه في كتاب الآل عن ابي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي : (حبك ايمان وبغضك نفاق ، واوّل من يدخل الجنة محبك ، واوّل من يدخل النار مبغضك) (١).

وعن ابن عباس ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نظر الى علي بن أبي طالب فقال له : (انت سيد في الدنيا ، سيد في الآخرة ، من احبك فقد أحبني ومن ابغضك فقد ابغضني وبغضك يغضب الله تعالى فالويل كل الويل لمن ابغضك) (٢).

روى الثعلبي في تفسيره ان سفيان بن عيينة سئل عن قول الله عزوجل (سأل سائل بعذاب واقع) فيمن نزلت فقالت للسائل لقد سألتني عن مسألة ما سألني احد عنها حدثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا فاخذ بيد علي (عليه‌السلام) وقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه) فشاع ذلك فطار في البلاد وبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري فأتى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على ناقة له فاناخ راحلته ونزل عنها وقال : يا محمد أمرتنا عن الله عزوجل ان نشهد الا إله الا الله وانك رسول الله فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك ، وامرتنا بالزكاة فقبلناه منك ، وأمرتنا ان نصوم فقبلناه ، وامرتنا بالحج فقبلناه ، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعى ابن عمك تفضله علينا فقلت : (من كنت مولاه فعلي مولاه) فهذا شيء منك أم من عند الله عزوجل؟ فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (والذي لا إله الا هو ان هذا من عند الله عزوجل)

__________________

(١) نور الأبصار ص ٨٠ عن كتاب الآل لابن خالويه.

(٢) المصدر السابق ص ٨٠.

فولى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم ان كان ما يقول محمد حقا فامطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل الى راحلته حتى رماه الله عزوجل بحجر سقط على هامته فخرج من دبره فقتله ، فانزل الله عزوجل : (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) (١).

قال في المناقب مختصر مناقب الحافظ ابي عبد الله البلخي الشافعي وهو يذكر حديث مبيت علي (عليه‌السلام) على فراش النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليلة الغار : وقال بعض اصحاب الحديث : وأوحى الله تعالى الى جبرئيل وميكائيل ان انزلا الى علي (عليه‌السلام) واحرساه في هذه الليلة الى الصباح ، فنزلا إليه وهما يقولان بخ بخ من مثلك يا علي قد باهى الله بك ملائكته (٢).

قال : ونقل الامام حجة الاسلام ابو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ان ليلة بات علي بن أبي طالب على فراش رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أوحى الله الى جبرئيل وميكائيل : اني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فايكما يؤثر صاحبه بالحياة فاختار كل منهما الحياة فأوحى إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة فاهبطا الى الأرض فاحفظاه من عدوه ، فكان جبرئيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه ينادي فيقول : بخّ بخّ من مثلك يا بن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فانزل الله عزوجل : (وَمِنَ

__________________

(١) المصدر السابق ص ٨٧ عن تفسير الثعلبي.

(٢) مباهاة الجليل جل وعلا ملائكته بعلي (عليه‌السلام) نقلها جماعة من علماء اهل السنة نذكر منهم الرازي في تفسيره ج ٥ / ٢٠٤ ، وابن الأثير في اسد الغابة ج ٤ ص ٥ والغزالي في احياء العلوم كما يأتي قريبا وغيرهم.

النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١) انتهى (٢).

اقول وهذا الخبر كما ترى يدل على فضل لا يعلم منتهاه ولا يعرف لأحد من اولياء الله مثل هذه الفضيلة وهو يكذب ما ولده ابو بكر الأصم في حديث المبيت من ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي (عليه‌السلام) : (لن يصل أليك منهم امر تكرهه) اذ لو كان الأمر هكذا لم يكن علي (عليه‌السلام) فدى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفسه ولا اثره بالحياة ولم يكن شرى نفسه ابتغاء مرضاة الله اذ لا يكون ذلك الا اذا كان يجوز القتل على نفسه في مبيته بل يظنه فيكون قد سخى بنفسه في فداء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، اما اذا كان قاطعا بالسلامة لأخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اياه بعدم وصول مكروه من المشركين إليه فلا شيء من ذلك بحاصل لأنه اذ ذاك لم يقدم على مخوف ، ولا وطن نفسه على ملاقاة المكروه ، فلا مشقة عليه في ذلك التكليف ومن كان هذا شأنه لا يستحق شيئا من المدح فكيف يباهى الله به سادات الملائكة ويفضله عليهم كما ترى؟ فدل المدح من الله تعالى لعلي (عليه‌السلام) على ان تلك الزيادة مكذوبة لتهجين هذه الفضيلة حيث لم يكن لغيره ما يدانيها تلك الليلة فلم يباه الله به ملكا ولم تنزل بالتصريح بمدحه آية والحق لا يخفى.

ووجه آخر وهو انه قد صح في رواية الخصوم من غير خلاف ان المشركين كانوا يرجمون عليا بالحجارة تلك الليلة حتى اثر في جسده ، وهذا لا شك مكروه وصل إليه من المشركين ، ولو كان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخبره بعدم وصول مكروه إليه منهم اذن ما وصل إليه من ذلك شيء ، اذ لا تجوز المخالفة في اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فبطل ما قاله

__________________

(١) البقرة ٢٠٧.

(٢) احياء العلوم ٣ / ٢٣٨ ونقله عن الاحياء الشبلنجي في نور الأبصار ص ٨٦.

الأصم وتابعوه وبالله التوفيق.

وروى البيهقي ان عليا (عليه‌السلام) ظهر من البعد فقال النبي : (هذا سيد العرب) فقالت عائشة الست سيد العرب؟ فقال : (انا سيد العالمين وهذا سيد العرب) ورواه الحاكم عن ابن عباس بلفظ : (انا سيد ولد آدم وعلى سيد العرب) (١).

وروى الترمذي والحاكم وصححه عن بريدة قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله امرني بحب أربعة واخبرني انه يحبهم) قيل : يا رسول الله سمهم لنا قال : (علي منهم) يقول ذلك ثلاثا (وأبو ذر والمقداد وسلمان) (٢).

اقول : هؤلاء محبّو علي (عليه‌السلام) حقا ومحب علي يحبه الله ويأمر بمحبته.

واخرج احمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حبيش بن جنادة قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (عليّ مني وانا من علي ولا يؤدي عني الا علي) (٣).

روى الطبراني والحاكم وصححه عن أمّ سلمة (رضي الله عنها) قالت : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذا غضب لم يجترئ ان يكلمه الا علي (٤).

__________________

(١) رواه في الصواعق ص ٧٣ عن البيهقي ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٢٤.

(٢) الترمذي ٢ / ١٩٩ والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٠ وابن ماجه في السنن ص ١٤ ، وابن عبد البر في الاستيعاب ١ / ٥٥.

(٣) مسند احمد ٤ / ١٦٤ و ١٦٥ ، والترمذي ٢ / ٢٩٩ وخصائص النسائي ١٩ و ٢٠ وسنن ابي ماجه ١٢.

(٤) فيض القدير ٥ / ١٥٠ وقال : «اخرجه الطبراني» ومستدرك الحاكم ٣ / ١٣٠.

واخرجا باسناد حسن عن ابن مسعود ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (النظر الى وجه علي عبادة) (١).

وروى ابو يعلى والبزاز عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله : (من أذى عليا فقد اذاني) (٢).

وروى الطبراني بسند حسن عن أمّ سلمة (رضي الله عنها) عن رسول الله قال : (من احب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد احب الله ومن ابغض عليا فقد ابغضني ومن ابغضني فقد ابغض الله) (٣).

وروى احمد والحاكم وصححه عنها (رضي الله عنها) قالت : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (من سب عليا فقد سبني) (٤).

واخرج الملا في سيرته انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ارسل أبا ذر ينادي فرأى رحى تطحن في بيته وليس معها احد فاخبر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بذلك فقال : (يا أبا ذر أما علمت ان لله ملائكة سياحين في الأرض قد وكلوا بمعاونة آل محمد) (٥).

اقول هذه المنقبة ان لم تكن من المعاجز كرد الشمس وما اشبهها فهي من الكرامات العظيمة الدالة على فضل لا يدرك كنهه وهل سمعت بولي من اولياء الله البررة وأنبيائه الكرام تطحن الملائكة بره وتخدمه في مئونة طعامه

__________________

(١) مستدرك لحاكم ٣ / ١٤٠ و ١٤٢ وفيض القدير ٥ / ١٥٢ وقال : «اخرجه الطبراني».

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٢٩ وقال : «اخرجه ابو يعلى والبزار» وكذلك في نور الأبصار ص ٧٢.

(٣) كنز العمال ٦ / ١٥٨ واشار الى ان الطبراني اخرجه من طريق ابي رافع وأمّ سلمة.

(٤) مسند احمد ٦ / ٣٢٣ ، ومستدرك الحاكم ١ / ١٢١.

(٥) رواه المحب في الرياض ٢ / ٢٢٢ عن سيرة الملأ وفيه «بمعونة آل محمد».

غير علي (عليه‌السلام).

واخرج الطبراني في الأوسط عن أمّ سلمة قالت سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (عليّ مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا على الحوض) (١).

قال في الأسعاف وقد روى من طرق عديدة منها صحيح وحسن ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي (عليه‌السلام) : (اشقى الناس رجلان الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذه) واشار الى يافوخه (حتى تبتل منه هذه واشار الى لحيته (٢).

وروى البيهقي والديلمي عن انس ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (علي يزهر في الجنة ككوكب الصبح لأهل الدنيا) (٣).

أقول : وظنى ان القوم لمعارضته هذا الخبر وضعوا حديث (سراج اهل الجنة عمر) (٤).

وروى الديلمي عن ابن عباس ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (عليّ مني بمنزلة رأسي من بدني) (٥).

اقول لينظر الناظر في هذا المقام العلي الذي ثبت لمولانا علي من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث جعله بمنزلة الجزء من بدنه ، ثم لم يرض

__________________

(١) الصواعق ص ٧٤ ونور الأبصار ص ٧٢ وقالا : «اخرجه الطبراني في الأوسط».

(٢) اسعاف الراغبين والحديث رواه جملة من المحدّثين.

(٣) كنز العمال ٦ / ١٥٣ ـ ١٥٥ وقال : «اخرجه البيهقي في فضائل الصحابة».

(٤) نور الأبصار ص ٦١.

(٥) المصدر السابق ص ٨٠ واسعاف الراغبين ص ١٦٠ وفيهما ان الديلمي اخرجه عن ابن عباس.

له الا باشرف الأعضاء كلها افترى ان هذا الكلام ليس بنص على إمامته ، ولا حث على تقديمه في خلافته! بل والله هو من اصرح النصوص على ذلك واوضحها ، اذ لا يعقل ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يرضى بتقدم احد من الناس على من كان منه بمنزلة الرأس من البدن ، وهذا ظاهر لمن وعى قال أبو علي : صح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه سئل عن بعض أصحابه فقال قائل : فعلى فقال : (انما سألتني عن الناس ولم تسألني عن نفسي) (١).

وروى الترمذي والحاكم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ان الجنة لتشتاق الى ثلاثة علي وعمار وسلمان) (٢).

وروى البخاري ومسلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجد عليا مضطجعا في المسجد وقد سقط رداؤه عن شقه فاصابه تراب فجعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يمسحه عنه ويقول : (قم أبا تراب قم أبا تراب) فكانت هذه الكنية أحبّ الكنى إليه لأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كناه بها (٣).

وروى احمد في المناقب عن علي (عليه‌السلام) قال : جلس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حائط فضربني برجله فقال : (قم فو الله لأرضينك انت اخي وابوك والدي قاتل على سنتي ، من مات على عهدي فهو في كنز الجنة ، ومن مات على

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٤٥٣.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٦٠ عن الترمذي والحاكم.

(٣) صحيح البخاري ١ / ١١٤ كتاب الصلاة باب نوم الرجال في المسجد وج ٤ / ٢٠٨ كتاب المناقب وج ٧ / ١١٧ كتاب الأدب باب التكني ، وصحيح مسلم ٧ / ١٢٠ باب فضائل الصحابة من فضائل علي بن أبي طالب.

عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والايمان ما طلعت شمس او غربت) (١).

وروى الطبراني ان عليا (عليه‌السلام) قال : ان خليلي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (يا علي انك ستقدم على الله انت وشيعتك راضيين ومرضيين ويقدم اعداؤك غضابا مقمحين) (٢).

وروى الحاكم ابو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل باسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه‌السلام) انه قال : ان الله تعالى ايانا عنى بقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٣) فرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) شاهد علينا ونحن شهداء الله على خلقه وحجته في ارضه ونحن الذين قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).

وروى ابو علي (رضي الله عنه) عن أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني قال : حدثنا ابو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني قال : اخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال : اخبرنا ابو بكر الجرجاني قال : حدثنا ابو احمد البصري قال : حدثنا احمد بن عمار بن خالد قال : حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني قال : حدثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي عن ابي سعيد الخدري ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما نزلت (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) الآية قال : (الله اكبر على اكمال الدين واتمام النعمة ورضا الرب برسالتي وولاية علي بن أبي طالب من بعدي) وقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من

__________________

(١) نقله المحب في الرياض ٢ / ١٦٧. وقال : «اخرجه احمد في المناقب».

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٥٨ ونور الأبصار ص ٨٠ عن الطبراني.

(٣) البقرة : ١٤٣.

نصره واخذل من خذله) قال الربيع بن انس : نزلت الآية في المسير في حجة الوداع (١) قال علي بن ابراهيم من اصحابنا : كان نزولها بكراع الغميم فاقامها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالجحفة (٢).

وروى الثعلبي في تفسيره باسناده مرفوعا الى ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) في علي (عليه‌السلام) امر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يبلغ فيه فاخذ رسول الله بيد علي (عليه‌السلام) فقال : (من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه) (٣).

وروى الحاكم ابو القاسم الحسكاني باسناده عن ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري قالا : امر الله محمدا ان ينصب عليا للناس ويخبرهم بولايته فتخوف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يقولوا حابى ابن عمه وان يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه هذه الآية فقام بولايته يوم غدير خم (٤).

وروى الواحدي في كتابه المسمى باسباب النزول عن ابي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) يوم غدير خم قال بعض الشافعية هكذا ذكره الشيخ محيى الدين النووي (٥) انتهى.

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ١٥٩.

(٢) نقله عن تفسير علي بن ابراهيم الطبرسي في مجمع البيان ٣ / ١٥٩.

(٣) رواه النيسابوري في تفسيره (الكشف والبيان) بطريقين الأول عن ابي جعفر الباقر (عليه‌السلام) والثاني عن ابن عباس كما في العمدة لابن البطريق ص ٤٢.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٢٣٣ عن شواهد التنزيل للحسكاني.

(٥) اسباب النزول للواحدي ص ١٥٠.

وروى ابو طالب الهروي باسناده عن علقمة والأسود عن ابي أيوب الأنصاري ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعمار : (يا عمار سيكون بعدي هنات حتى يختلف وله السيف فيما بينهم وحتى يقتل بعضهم بعضا وحتى يبرأ بعضهم من بعض فاذا رأيت ذلك فعليك بهذا الاصلع عن يميني علي بن ابي طالب فان سلك الناس كلهم واديا وسلك علي واديا فاسلك وادي علي وخل عن الناس يا عمار ان عليا لا يردك عن هدى ولا يدلك على ردى يا عمار طاعة علي طاعتي وطاعتي طاعة الله) (١).

وروى الحاكم ابو القاسم الحسكاني قال : حدثني محمد بن القاسم بن احمد قال : حدثنا ابو سعيد محمد بن الفضيل بن محمد قال : حدثنا محمد بن صالح العرزمي قال : حدثنا عبد الرحمن بن ابي حاتم قال : حدثنا ابو سعيد الأشجع عن ابي خلف الأحمر عن ابراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) (٢) قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من ظلم عليا مقعدي هذا بعد وفاتي فكأنما جحد نبوتي ونبوة الأنبياء قبلي) (٣).

أقول وهذا الحديث نص في المطلب وصريح في المقصد قد دل بصراحته على ان من تقدم على علي (عليه‌السلام) في خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهو بمنزلة من جحد نبوته ونبوة من قبله من الأنبياء كما اسلفنا بيانه ويأتي ما هو واضح فيه ان شاء الله ودعوى الخصوم رضاه معلومة البطلان بالبيان والبرهان.

__________________

(١) نقله في مجمع البيان ٤ / ٥٣٤ عن ابي طالب الهروي بسنده عن ابي أيوب الأنصاري.

(٢) الأنفال : ٢٥.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٥٣٤ عن الحسكاني وانظر انوار التنزيل للحسكاني ١ / ٢٠٧.

وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : (كونوا مع الصادقين) (١) مع علي (عليه‌السلام) واصحابه (٢).

روى مشهورا في قوله تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) (٣) انه يعني حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن ابي طالب : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) انه يعني علي بن أبي طالب وفي رواية بزيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب شهيد بدر (٤).

واتفق المفسرون ان عليا (عليه‌السلام) هو المؤمن في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (٥) فأمير المؤمنين (عليه‌السلام) هو الصادق على الاطلاق وهو واصحابه الثلاثة هم الصادقون بما عاهدوا الله عليه (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) كغيرهم وهو المؤمن وهو البر في قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) (٦) وهو (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) في قوله تعالى : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٧). كما عن ابن مسعود وابي عبد الرحمن السلمي ويشهد لذلك ما روى عن علي (عليه‌السلام) انه قال : (والله ما نزلت آية الا وقد علمت فيمن نزلت واين نزلت وعلى من انزلت ان ربي وهب لي قلبا

__________________

(١) التوبة : ١١٩.

(٢) في الدر المنثور في تفسير سورة التوبة «مع علي بن ابي طالب» وقال : «اخرجه ابن مردويه عن ابن عباس واخرجه ابن عساكر عن ابي جعفر الباقر (عليه‌السلام).

(٣) الأحزاب : ٢٣.

(٤) نور الأبصار ص ٩٧ والصواعق ص ٨٠.

(٥) السجدة : ١٨.

(٦) الانسان : ٥.

(٧) الرعد : ٤٣.

عقولا ولسانا ناطقا) ، رواه ابن سعد (١) وروى هو وغيره عن ابي الطفيل قال : ل علي (عليه‌السلام) : (سلوني عن كتاب الله فانه ليس من آية الا وقد عرفت بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل) (٢).

اقول انى يداني هذا من يقول أي ارض تقلني وأي سماء تظلني اذا قلت في كتاب الله بالرأي فيخبر عن نفسه انه لم يعرف معاني الكتاب ولم يستعلم احكامه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثم هو يتقدم على عالم الكتاب في انفاذ احكامه فيا لله للعجب العجاب قال في المناقب سأل معاوية خالد بن يعمر فقال له علام احببت عليا فقال على ثلاث خصال على حلمه اذا غضب وعلى صدقه اذا قال وعلى عدله اذا حكم (٣).

وروى مشهورا أن معاوية قال لضرار بن ضمرة ، صف لي عليا فقال : اعفني فقال : اقسمت عليك لتصفه ، قال : اما اذا كان كلّا ولا بد فانه والله كان بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلا ، ويحكم عدلا ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من لسانه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويأنس بالليل ووحشته ، وكان غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب ، وكان فينا كأحدنا يجيبنا اذا سألناه ، ويأتينا اذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له ، يعظم اهل الدين ، ويقرب المساكين ، لا يطمع القوى في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، واشهد لقد رأيته في بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، قابضا على لحيته ، يتململ تململ السليم ، ويبكي بكاء الحزين ، ويقول : يا دنيا غري غيري ، ابى تعرضت

__________________

(١) الطبقات لابن سعد ٢ / ق ٢ ص ١٠١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٦ / ١١١.

أم الى تشوفت ، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعمرك قصير ، وخطرك يسير ، وعيشك حقير ، اه من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق ، فبكى معاوية وقال : رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟ فقال : حزن من ذبح ولدها في حجرها فهي لا يرقى دمعها ولا يخفى فجعها (١).

وفي مختصر (٢) مناقب البلخي الشافعي لبعض الشافعية قال روى عن علي أنه قال في مجلسه العام : (سلوني قبل أن تفقدوني ، سلوني عن علم السماء فاني اعلمها زقاقا زقاقا وملكا ملكا) فقال رجل من الحاضرين : حيث أدعيت ذلك يا ابن ابي طالب اين جبرئيل هذه الساعة فغطس قليلا وتفكر في الأسرار ثم رفع رأسه قائلا اني طفت السموات السبع فلم اجد جبرئيل واظنه انت ايها السائل فقال السائل : بخ بخ من مثلك يا ابن ابي طالب وربك يباهي بك الملائكة ثم سجى عن الحاضرين (٢).

اقول ويصدق هذا الخبر قول امير المؤمنين في بعض خطبه «اني بطرق السماء اعلم مني بطرق الأرض» (٣) ويزيل استبعاد النفوس الضعيفة عنه ما اوضحناه في مسألة توقف الامامة على النص حيث أقمنا هناك ادلة الحكمة والشرع على جواز الالهام لأولياء الله.

__________________

(١) ضرار بن ضمرة ـ وقد تصحف ضمرة الى حمزة ـ مولى أمّ هاني بنت ابي طالب ، وكان من اشد الناس حبا لعلي (عليه‌السلام) واخلاصا له ، وقد روى بعض كلامه سلام الله عليه ومنه هذا الخبر الذي رواه كثير من حملة الآثار كابن عبد البر في الاستيعاب ٣ / ٤٢ بترجمة علي (عليه‌السلام) وابو نعيم في الحلية ١ / ٨٤ والقالي في الأمالي ٢ / ١٤٣ والمسعودي في مروج الذهب ٣ / ٤٣٣.

(٢) نقله المؤلف عن مختصر مناقب الشافعي ولو نقل مثل في كتب الامامية لعد من الإسراف في الغلو.

(٣) نهج البلاغة من الخطبة ١٨٧.

وروى مستفيضا ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان جالسا في المسجد وعنده اناس من الصحابة اذا جاء رجلان يختصمان فقال احدهما يا رسول الله ان لي حمارا ولهذا بقرة وان بقرته نطحت حماري فقتلته فبدر رجل من الحاضرين فقال لا ضمان على البهائم فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اقض بينهما يا علي) فقال علي (عليه‌السلام) : أكان الحمار والبقرة موثقين أم كانا مرسلين أم احدهما موثقا والآخر مرسلا فقال لا كان الحمار موثقا والبقرة مرسلة وصاحبها معها فقال علي (عليه‌السلام) على صاحب البقرة الضمان وذلك بحضرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقرر حكمه وامضى قضاءه (١) قال بعض العامة : هناك قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأصحابه : (اقضاكم علي) (٢).

قلت : ما اشبه هذه الواقعة بواقعة الحرث والغنم ، وما اشبه حكم امير المؤمنين فيها بحكم سليمان بن داود ، وله (عليه‌السلام) مثل ذلك ما تضيق صدور الأرقام عن سطره وتعيى رءوس الأقلام عن نقله ونظمه ونثره ، وتكل الألسن عن ذكره ونشره ، وقد ذكرنا جملة من الأخبار التي تدخل في سلك هذا الباب في رد احتجاج القوشجي على افضلية الثلاثة وجميع ما اثبتناه من الأحاديث والآيات هنا بين ناص على إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومصرح بخلافته ، وبين ظاهر فيها ومشير إليها ، وكلها تصرح بافضليته وتنطق بعلو شأنه وجلالته ، فهي لما ذكرناه من النصوص المرتبة في الفصول السابقة معاضدة

__________________

(١) الصواعق المحرقة ص ٧٣ ونور الأبصار ص ٧٩ واسعاف الراغبين ص ١٥٧.

(٢) نور الأبصار ٧٩ واسعاف الراغبين ص ١٥٧ وقال ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١ / ١٨ : «قد روت العامة والخاصة قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) :

(اقضاكم علي).

ولما حررناه من ادلة الاشارات والظواهر مساعدة ، وكلها أو جلها مأخوذ من الكتاب التي يقر بصحتها خصمنا المعتزلي كما يعترف بثبوتها الأشعري تكون حجة على كل منهما فيما ندعيه من النص الجلي ، على مولانا امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، ومن يهدي الله فهو المهتدي.

احتج ابن ابي الحديد على فقدان النص بحديث السقيفة وان عليّا (عليه‌السلام) لم يحتج اذ ذاك بالنص ونقل الخبر من كتاب الجوهري وكان يثنى عليه بانه من الثقات المأمونين ، قال : ونحن نذكر خبر السقيفة روى ابو بكر احمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة قال : اخبرنا احمد بن اسحاق قال : حدثنا احمد بن سيار قال حدثنا سعيد بن كثير [بن عفير] (١) الأنصاري : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة فقالوا ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد قبض ، وساق الرواية وهي طويلة فذكر فيها قول سعد بن عبادة للأنصار واجابتهم الى توليته ، ثم اختلافهم عليه في الاستبداد بالأمر واختيارهم لأن يكون منهم امير ومن قريش امير ، ومضي أبي بكر وعمر وأبي عبيدة الى السقيفة واحتجاجهم على الأنصار بقرابتهم من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وعرض ابي بكر على عمر وأبي عبيدة المبايعة لواحد منهما وإبائهما التقدم عليه لأنه ثاني اثنين في الغار ولأن رسول الله امره بالصلاة وكلام الأنصار ، ومخاصمتهم لأبي بكر وصاحبيه ، ورضا عمر وأبي عبيدة بخلافة ابي بكر ، وموافقة بشير بن سعد الخزرجي ، وكان من سادات الخزرج لهما حسدا لابن عمه سعد بن عبادة ـ وموافقة اسيد بن حضير رئيس الأوس لهم حسدا لسعد أيضا ومنافسة له ان يلي الأمر ، وان الأوس كلهم بايعوا أبا بكر لما تابعه رئيسهم ، وحمل سعد بن عبادة وهو مريض الى منزله

__________________

(١) ما بين المعقوفين زيادة في شرح النهج.

وامتناعه من بيعة ابي بكر ، واجتماع بني هاشم ومعهم الزبير الى علي بن أبي طالب ، واجتماع بني امية الى عثمان ، وبني زهرة الى سعد وعبد الرحمن بن عوف ، وقول عمر لهم لما اقبل من السقيفة مع ابي بكر ومن بايعه هناك : ما لي اراكم حلقا (١) قوموا فبايعوا أبا بكر فقد بايعه الناس وبايعه الأنصار! فقام عثمان ومن معه وسعد وعبد الرحمن ومن معهما فبايعوا أبا بكر ، قال : وذهب عمرو معه عصابة الى بيت فاطمة معهم اسيد بن حضير وسلم بن اسلم فقال لهم : انطلقوا فبايعوا فابوا عليه وخرج الزبير بسيفه فقال عمر : عليكم الكلب ، فوثب عليه سلم بن اسلم فاخذ السيف من يده فضرب به الجدار ، ثم انطلقوا به وبعلي ومعهما بنوا هاشم وعلي يقول : (انا عبد الله واخو رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى انتهوا به الى أبي بكر فقيل له : بايع ، فقال : انا احق بهذا الأمر منكم لا ابايعكم وانتم اولى بالبيعة لي اخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاعطوكم المقادة ، وسلموا إليكم الامارة ، وانا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار فانصفونا ان كنتم تخافون الله من انفسكم ، واعرفوا لنا من الأمر مثلما عرفته الأنصار لكم والا فبوءوا بالظلم وانتم تعلمون ، فقال عمر : انك لست متروكا حتى تبايع ، فقال له علي (عليه‌السلام) : أحلب يا عمر حلبا لك شطرة ، اشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا لا والله لا أقبل قولك ولا ابايعه فقال له ابو بكر : فان لم تبايعني لم اكرهك ، فقال له ابو عبيدة : يا أبا الحسن انك حدث السن (٢) وهؤلاء مشيخة قريش ليس لك تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا ارى أبا بكر الا اقوى على هذا الأمر منك واشد احتمالا له واضطلاعا به ، فسلم له هذا الأمر وارض به ، فانك ان تعش ويطل عمرك فانت بهذا الأمر خليق ، وبه

__________________

(١) في الشرح : «ما لي اراكم ملتاثين».

(٢) في الشرح «حديث السن».

حقيق في فضلك وقرابتك وسابقتك وجهادك ، فقال علي : يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته الى بيوتكم ودوركم ، ولا تدفعوا اهله عن مقامه في الناس وحقه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن اهل البيت احق بهذا الأمر منكم ، أما كان منا القارئ كتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بالسنة المضطلع بامر الرعية ، والله انه لفينا فلا تتبعوا الهوى فتزدادوا عن الحق بعدا فقال بشير بن سعد : لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان ولكنهم قد بايعوا ، وانصرف علي الى منزله ولم يبايع ولزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع (١).

اقول : وهذه الرواية قد رويت من طرقنا بزيادات من جملتها ذكر علي (عليه‌السلام) بعض ما قيل فيه من النصوص وان بشيرا قال ما قال بعد سماعه من علي (عليه‌السلام) ذكر النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وان أبا بكر جاء في تلك الحال برواية (لم يكن الله ليجمع لنا بين النبوة والخلافة) وصدقه من اصحابه من هو على مثل رأيه الى آخره ما هناك ولا اشك في ان تلك الأمور اسقطها محدثوا القوم من الخبر لتصريحها بمذهب الامامية كما هي عادتهم ، ويشهد لذلك ما اسلفناه في حديث احمد بن ابي طاهر عن ابن عباس حين قال له عمر وهو يسأل عن علي (عليه‌السلام) : هل بقي في نفسه شيء من امر الخلافة؟ قال ابن عباس : قلت : نعم قال : أيزعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص عليه؟ قلت : نعم وازيدك اني سألت ابي عما يدعيه فقال : صدق فقد بينا صراحة هذا الكلام في ان عليا (عليه‌السلام) ما زال طالبا للخلافة محتجا عليها بالنص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه وان العباس قد شهد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٢ وج ٦ من ص ٥ ـ ١٢.

له بالنص عليه ، وان ابن عباس قد علم ذلك وسمعه ، وان عمر قد علم ذلك ولم يخف عليه ، ولا يجوز ان يكون غيرهم من الصحابة غير عالم بذلك ، لأن الكلام يدل على ان امير المؤمنين كان يجهر بذلك ولا يخفيه في جميع اوقاته ، ومن البين ان اولى الأوقات بذكره هذا الوقت المذكور الذي كشف فيه عن مقصدهم بالتغلب عليه وبين لهم استحقاقه للأمر دونهم بالدليل ، وليس من الجائز ان يتركه في هذا الحين ويذكره بعد ذلك بسنين ، فمن اليقين انه دونهم بالدليل ، وليس من الجائز ان يتركه في هذا الحين ويذكره بعد ذلك بسنين ، فمن اليقين انه ذكره في وقته ذاك لكن القوم كتموه وستروه ، والمحدثين من الخبر أسقطوه ، ولا ضير علينا في ذلك فقد بقي في الرواية ما يرمي الخصوم بسهام نافذة ، ويضربهم بسيوف شحيذة ، وسنبينه ان شاء الله تعالى.

قال ابن ابي الحديد بعد انتهاء الرواية : قلت : هذا الحديث يدل على بطلان ما تدعى الامامية (١) من النص على امير المؤمنين وغيره لأنه لو كان هناك نص صريح لأحتج به ، ولم يجر للنص ذكر وانما كان الاحتجاج منه ومن أبي بكر ومن الأنصار بالسوابق والفضائل والقرب ، فلو كان هناك نص على امير المؤمنين أو على ابي بكر لأحتج به أبو بكر على الأنصار ولأحتج به امير المؤمنين على أبي بكر ، فان هذا الخبر وغيره من الأخبار المستفيضة يدل على انه قد كان كاشفهم ، وهتك القناع بينه وبينهم. الا تراه كيف نسبهم الى التعدي عليه وظلمه ، وتمنع من طاعتهم ، واسمعهم من الكلام اشده واغلظه ، فلو كان هناك نص لذكره أو ذكره من كان من شيعته وحزبه ، لأنه (لا عطر بعد عروس) وهذا أيضا يدل على ان الخبر الذي في أبي بكر في صحيح البخاري

__________________

(١) في الشرح «ما يدعى».

ومسلم غير صحيح ، وهو ما روى من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعائشة : (ادعى لي اباك واخاك حتى اكتب لأبي بكر كتابا فأني اخاف ان يقول قائل أو يتمنى متمن ويأبى الله والمؤمنون الا أبا بكر) وهذا هو نص مذهب المعتزلة (١) انتهى.

وها نحن ذا نبدأ بذكر ما يخالف مذهبه من صريح الخبر ثم نعود الى الجواب عن قوله ، لنعلمك ان الحجة التي بها علينا يصول عليه لا له وذلك من وجهين :

الأول اشتمال الخبر عن منازعة امير المؤمنين (عليه‌السلام) القوم ومكاشفته اياهم ، ونسبتهم الى الظلم والتعدي ، والتظاهر على اهل البيت باخذ مقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واخراجهم سلطانه من داره الى دورهم ، ورميهم بالمواطاة على ذلك بقوله لعمر : (أشدد له اليوم أمره ليرده عليك غدا) ، ونحو ذلك مما اشتمل عليه الخبر ، ولقد صدق فيما قال ولم يزل صادقا فان أبا بكر أوصى بالأمر الى عمر وعمر تحسر على فقد ابي عبيدة وسالم مولى ابي حذيفة حين طعن ، وقال : لو كان احدهما حيا لم يتخالجه الشك فيه وذلك يصرح بما تدعيه الامامية من معاقدة الجماعة على ابتزاز الأمر واخراج الخلافة عن اهل بيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته ، وان الأمر لأبي بكر وبعده لعمر وبعده لأحد الرجلين المذكورين فصرح الخبر تصريح الليل عن صبحه بان امير المؤمنين (عليه‌السلام) طاعن في خلافة من تقدم عليه ، ويعضد ذلك ما في آخر الخبر من تركه (عليه‌السلام) مبايعة ابي بكر وملازمته منزله ، ولو لم يكن ساخطا ولايته ما ترك بيعته ولا تقاعد عنها لأن الراضي بشيء لا يتركه لا سيما وهو من الأمور الواجبة لوجوب طاعة الامام ومساعدته وهذا خلاف ما يدعيه ابن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٢.

ابي الحديد واصحابه من رضى امير المؤمنين بخلافتهم ، وعدم منازعته اياهم ، وانه لم يطعن عليهم بظلم ، ولا باتباع هوى ، ولا بتظاهر على منعه حقا له ، وكان الخصم قد ملأ كتابه من ذكر هذه الدعوى ، والتظاهر بها على الامامية ، والخبر المذكور الذي به يصول ويجول يخدش هذه الدعوى ويبطلها كما اعترف هو به في كلامه المنقول فتبين انه فيما يدعيه من رضا امير المؤمنين بخلافة من تقدم عليه غير مصيب ، وان الامامية في انكارهم رضاه (عليه‌السلام) بها على الحق والهدى والصواب والمحجة البيضاء وهذا هو المراد والمطلوب.

الثاني ان الخبر قد صرح بانهم قد سلكوا طريق العناد والعصبية ، ولم يسلكوا مسلك الرشاد والحق ، وذلك انهم احتجوا على الأنصار بالقرابة من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واخرجوهم من الأمر بهذه الحجة فلما احتج امير المؤمنين عليهم بها اعرضوا عن قبولها ، وابوا العمل بموجبها ، وضربوا عنها صفحا حيث كانت في هذا المقام مفسدة لما يريدون من الاستبداد بالأمر ، واغتصاب علي (عليه‌السلام) حقه فاجاب بعضهم : بانك لست متروكا حتى تبايع ، فاظهر ما في نفسه من حمية الجاهلية وبعض أجاب : بانا لا نكرهك ، وبعض أجاب : بانك حدث السن ، وبعض : بانا لم نسمع هذا الكلام منك قبل ، وأي شيء في هذا كله من الجواب عما احتج به امير المؤمنين (عليه‌السلام) أما الأول والثاني فظاهر ، واما الثالث فيقال له : أولا انكم لم تحتجوا على الأنصار بشيخوخة ابي بكر بل احتججتم بقربه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فهذا علي يحتج عليكم بهذه الحجة ، فان كانت عندكم حقا وجب عليكم تسليم الأمر إليه ، وان كانت عندكم باطلا فلا يجوز لكم ان تدفعوا الأنصار عن الأمر بشيء باطل ، وحجة فاسدة عندكم ، ويقال له ثانيا اين كبر السن يوم المؤاخاة بين الصحابة لم لا استحق بها اخوة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ما نرى استحق اخوة

الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا حدث السن أفتعجز شيبة ابي بكر عن استحقاقه بها اخوة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته ويستحق بها خلافته بعد وفاته اهذا من الحق والإنصاف؟ واين التقدم بالسن يوم براءة كيف ما استحق بها التبليغ عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واين كانت ذلك يوم عمرو بن عبد ود؟ واين كانت يوم مرحب وغيرها من الأيام التي يطول بعدها المقام؟ ما نرى كانت كلها الا لذلك الحدث السن فما يمنعه من الخلافة وهو الشجاع العالم التقى الناصر للاسلام ، والمحامي عن الدين الفائز بالجهاد والسبق والقرابة بقولك ويقال له : أيضا أي امر من الأمور له فيه تجربة تزيد على تجربة علي (عليه‌السلام) أفي حرب أم في سلم أم في سياسة أم في حكم؟ واين كانت هذه التجربة له في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم لا استحق بها عنده التقدم في قيادة الجيوش ، وسياسة الأمور؟ ما رأينا استحق ذلك الا ذلك الحدث السن الذي ادعيت انه قليل التجربة ومن لم يكن له من التجربة ما يستحق بها ان يكون امير سرية يسوس امرها أيستحق بتجربته ولاية الأمة؟! ثم يقال له : ان كان المعتمد عندكم في الخلافة كبر السن والتجربة فالعباس عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اسن من ابي بكر لا خلاف بين اهل التاريخ في ذلك ، وهو كثير التجربة ثاقب الروية زين العقل عظيم الحلم على ذلك اتفق الناس من اهل الرواية والسيرة والمعرفة باحوال السلف مع قربه من رسول الله فهو على هذا أحق بالأمر على قولكم فلن تعدوا عن ان تكونوا ظلمتم عليّا (عليه‌السلام) الا ان تكونوا ظلمتم العباس فالظلم لكم لازم على كل حال.

ويقال للرابع وهل يخفى عليك قرب علي (عليه‌السلام) من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانه اقرب الخلق منه فما منعك حين احتج ابو بكر وصاحباه على قومك بقرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتركت نصرة قومك

لصحة هذه الحجة عندك من ان تقول لهم صدقتم الأقرب الى الرسول احق بمقامه وعلى اقرب إليه منكم فهو الأحق بمقامه من كل احد فامضوا بنا إليه جميعا لنبايعه ونسلم إليه خلافة ابن عمه ثم يقال له هب انك لا تدري أولا بقرابة علي (عليه‌السلام) من رسول الله ، او نسيت ذلك ثم علمت الآن أنّ الأمر حق لعلي (عليه‌السلام) بمقتضى حجة ابي بكر على قومك أليس من الواجب عليك اذ كنت قادرا انتزاع الحق من غير اهله وايصاله الى ربه ومستحقه ومساعدته على ذلك ، وهل ذلك الا بمنزلة شيء تداعاه اثنان فاقام احدهما بنية على استحقاقه اياه فحكم له به ، ثم جاء ثالث فاستشهد لك البينة فشهدت له بانه حقه فان ينزع من يد الأول ويدفع إلى هذا أفليس في اعراضهم عن قبول الحجة التي دفعوا بها خصومهم على انفسهم اذا احتج بها أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عليهم دليل واضح وبرهان راجح وعلم لائح ، على انهم مجانبون للحق ومتعمدون على انكار الحجة التي يوردها امير المؤمنين عليهم كائنة ما كانت نصا او الزاما لا يخفى ذلك من امرهم على ذي فطنة وكل هذا نص مذهب اصحابنا الامامية ومخالف لمذهب اصحاب ابن ابي الحديد المعتزلة ومناقض لأقوالهم من ان الجماعة لم يرتكبوا منكرا ولم يأتوا بباطل ، ولم يردوا حجة صحيحة على امير المؤمنين ، ولم يفعلوا ما يجوز نسبتهم لأجله الى الظلم والتعدي ، وانهم كانوا على غاية من الديانة والصلاح ومنزلة رفيعة من العدل والإنصاف ، وانما غاية امرهم انهم فعلوا غير الأولى ، وهذا امير المؤمنين (عليه‌السلام) قد رماهم بجميع ما برئتموهم منه بموجب روايتكم ، ونسبهم الى ارتكاب المعصية ورد الحجة وعدم الخوف من الله ، فما ادري أتكذبون روايتكم التي بها تحتجون ، أم تفسقون من تعدلون ، أم تطعنون في صدق امير المؤمنين (عليه‌السلام) لنسبته الظلم إليهم ، وهو الصديق الأمين لا محيص لكم عن اختيار واحد من هذه الوجوه الثلاثة فاختاروا منها ـ أكرمكم الله ـ ما شئتم يكن فيه قطع حجتكم واستئصال اصل

مذهبكم ، على ان في قولهم : ان القوم بولاية ابي بكر وتركهم عليا (عليه‌السلام) تركوا الأولى وقولهم ان الصحابة فعلوا ما هو الأصلح للإسلام والمسلمين اذ ولوا أبا بكر تناقضا بينا لأن فعل الأصلح واجب ، فكيف يكون خلاف الأولى والتخالف في اقوالهم كثير ، هذا كله على تقدير تسليم قول المعتزلي ان الرواة لم يذكروا لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) فيها نصا ، وليس الأمر كما ذكر بل الرواية مذكور فيها بعض ذلك صريحا كقوله (عليه‌السلام) فيها : (واخو رسول الله) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فانا قد بينا ان الاخوة تقتضي المماثلة وهي نص في الامامة ، واحتج بالأعلمية عليهم ، في قوله : (أما كان منا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله) وقد قدمنا ان الامام يشترط ان يكون اعلم اهل زمانه ، فهذا من النصوص ، واحتج بالقرابة وهي من شروط الامام أيضا ، وقد ذكرنا ان المنصوص عليه بالأقربية كالمنصوص عليه بالامامة ، فهذه من جملة النصوص والقوم لم يقبلوها منه ، ولم يجيبوه عنها بشيء من الحجة ، واحتجاج ابي بكر على علي (عليه‌السلام) بالسابقة غير ذلك كما يوهمه كلام المعتزلي لا اثر له في الخبر ، نعم النص الذي يريده ابن ابي الحديد من علي (عليه‌السلام) ان يذكره وهو انزال كتاب من السماء لم يأت به امير المؤمنين ثم ان في قوله (عليه‌السلام) (نحن اهل البيت احق بمقامه) اشارة الى النص لأن الأحقية في الخلافة لا تكون بدون تعيين من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وليس من مذهب علي (عليه‌السلام) الاجتهاد في الأحكام ، والقول بالرأي ، بل طريقته الوقوف عند النص والاقتصار على السماع من الكتاب والسنة ، وقد شهد بذلك ابن ابي الحديد في مواضع من كتابه ، فاذن دعوى على الأحقية بمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بدون نص منه عليه ممتنعة لكنه ادعى ذلك فالنص عليه موجود فتبصر ، مما يحسن نقله هنا من تظلمات اهل البيت من ائمة المعتزلي ودعواهم النص من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

عليهم ما ذكره من كلام ابي جعفر الباقر مرارا قال في موضع منها وقد روى ان أبا جعفر محمد بن على الباقر قال لبعض اصحابه : «يا فلان ما لقينا من ظلم قريش ايانا وتظاهرهم علينا وما لقى شيعتنا ومحبونا من الناس ، ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قبض وقد اخبر انا اولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريش حتى اخرجت الأمر من معدنه ، واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا ، ثم تداولتها قريش واحدا بعد واحد حتى رجعت إلينا ، فنكثت بيعتنا ونصبت الحرب لنا ، ولم يزل صاحب الأمر في صعود كئود حتى قتل فبويع ابنه الحسن وعوهد ثم غدر به واسلم ، ووثب عليه اهل العراق حتى طعن بخنجر في جنبه وانتهب عسكره ، واولجت خلاخيل امهات اولاده ، فوادع معاوية وحقن دمه ودم اهل بيته وهم قليل حق قليل ، ثم بايع الحسين (عليه‌السلام) من اهل العراق عشرون الفا ثم غدروا به ، وخرجوا عليه وبيعته في اعناقهم ، ثم لم نزل اهل البيت نستذل ونستضام ونقصى ونمتهن ونحرم ونقتل ونخاف ، ولا نأمن على دمائنا ودماء اوليائنا ، ووجد الكاذبون الجاحدون لكذبهم وجحودهم موضعا يتقربون به الى أوليائهم ، وقضاة السوء وعمال السوء في كل بلدة فحدثوهم بالأحاديث الموضوعة المكذوبة ، ورووا عنا ما لم نقله ولم نفعله ليبغضونا الى الناس ، وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه‌السلام) ، فقتلت شيعتنا بكل بلدة ، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة ، وكان من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن او نهب ماله او هدمت داره ، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد الى زمن عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه‌السلام) ، ثم جاء الحجاج فقتلهم كل قتله ، واخذهم بكل ظنة وتهمة حتى ان الرجل ليقال له زنديق او كافر احب إليه من ان يقال شيعة علي (عليه‌السلام) وحتى صار الرجل الذي يذكر بالخير ولعله يكون ورعا صدوقا يحدث باحاديث عظيمة عجيبة من تفضيل بعض من سلف من الولاة ، ولم يخلق الله تعالى

شيئا منها ولا كانت ولا وقعت ، وهو يحسب انها حق لكثرة من قد رواها ممن لم يعرف بكذب ولا بقلة ورع» (١) انتهى. وقد صرح صدر الرواية بان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخبر الناس ان اهل بيته اولى بالناس من انفسهم ، وهذا هو النص عليهم ثم قوله (عليه‌السلام) : (فتمالأت علينا قريش حتى اخرجت الأمر من معدنه) صريح في نسبة الظلم الى المتقدمين ، وقوله : (واحتجت على الأنصار بحقنا وحجتنا) واضح في ان القرابة من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر يستحق به الخلافة ، وان ذلك الأمر حقهم وحجتهم ، اخذها غيرهم واحتج بها على الأنصار ، والواجب عليه ان يسلم لهم الحق والحجة لأنها لهم دونه ، والباقي من الخبر ظاهر وآخره يصرح بوضع القوم واتباعهم الأحاديث المكذوبة على ما يشتهون ويدعون ، وان اكثر ذلك كان في زمان معاوية ، وقد اوضحنا هذا المطلب فيما مرّ فقد بان من جميع ما ذكرنا واتضح ان الخبر الذي استند إليه ابن ابي الحديد وعليه اعتمد في ابطال النص عاد بالآخرة دليلا لنا ومستندا لقولنا فاندفع لوم اللائمين وعذل العادلين ، وتبين الغث من السمين ، والحمد لله رب العالمين.

ثم نشرع الآن في الجواب عن شبهته والكلام على دفع ريبته ، وان كان فيما ذكرناه كفاية في ابطال حجته ، لكن لا ندع الازدياد من الخير وكثرة الاستظهار بالحجج بعون الله فنقول : من تأمل وتبصر وتدبر وتفكر ، ونظر في الأخبار والآثار نظر من انصف واعتبر علم يقينا ان القوم اذ ارتكبوا من أخذ الخلافة ما ارتكبوا ، وحين انتهزوا ما انتهزوا من الفرصة في ادراك الرئاسة ، قد عضوا عليها باسنانهم وقبضوا عليها باناملهم ، لا يرجعون عنها بنص ولا ينتظرون فيها مشاورة ذي فضل ، ولا ينزلون عنها بحجة ، ولا يبالون فيها من غضب ولا عدول لهم عنها الا بالسيف لو حصل قد سلكوا فيها مسلك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ٤٣.

الجبرية والقهر ، يلزمون من رأوه ببيعتهم ولا يعذرونه عنها بعذر ولا يقبلون منه عدلا ولا صرفا ، حتى استتم لهم ما ارادوا واستتب لهم ما طلبوا ، ألا ترى لعمر كيف قال في السقيفة حين تم له ما اراد : اقتلوا سعدا قتل الله سعدا وكيف قال للزبير : عليكم الكلب اذا خرج يدافعهم عن الهجوم على بيت فاطمة كما ذكر في الحديث المذكور ، فهم معرضون عن كل حجة ترد عليهم من كل محتج لا يلتفتون إليها ولا يبالون بمن أوردها عليهم ، وانهم مصرون على انكار النص ان اورده مورد ، ومصممو العزم عليه ومهيئون من الشبه الى ما لا يسعهم انكاره ، ولا يمكنهم ستره وكتمانه ما يدفعون به عند العامة سورة المحتج به عليهم ، ولم يكونوا في امرهم مراعين لحجة ولا ناظرين لدليل ولا راجعين عما دخلوا فيه لبرهان مبين والذي يدل على ذلك وجوه.

الأول : ما مر في الخبر من اعراضهم عن قبول الحجة بالقرابة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين احتج بها عليهم امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وروى ابن ابي الحديد : في موضع آخر انه (عليه‌السلام) اذ ذاك خاطب أبا بكر في معرض الحجة بهذين البيتين.

فان كنت بالشورى ملكت امورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

وان كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبي وأقرب (١)

وهي كانت حجتهم العظمى التي ابطلوا بها دعوى الأنصار وغلبوهم وفلجوا بها عليهم ، لا السابقة والفضل كما ذكر المعتزلي ، وان كان ذلك مخالفا لمذهبه اذ لا يجب عنده تقديم الأفضل فلما احتج بها عليهم من هو اولى بها منهم اعرضوا عنها كأن لم يسمعوها ولم يصغ واحد منهم الى قبولها ولا

__________________

(١) المصدر السابق ١٨ / ٤١٦.

التفت إليها ، بل جنحوا الى افسادها وابطالها بالشبهات ، فمال بعضهم الى التعلل بحداثة السن وآخر الى عدم سماعها قبل بيعته لأبي بكر فصرح انه لا يقبل حجة بعد البيعة مع كونها عنده صحيحه ، وما النص الا حجة وقد صرحوا انهم لا يقبلون الحجة من امير المؤمنين (عليه‌السلام) لحداثة سنه ولسبق بيعة ابي بكر على احتجاجه ، فمن بلغ امرهم الى هذا المقدار من ترك الإصغاء الى سماع الحجة والعمل بها وهي الحجة التي يحتجون بها على خصومهم كيف يمتنع منهم انكار النص لو أورد عليهم ويبعد عليهم رده لو احتج عليهم؟

الثاني : ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) احتج عليهم غير القرابة باشياء اخر كأخوة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والعلم بكتاب الله ، والفقه في دين الله وغير ذلك مما اشتمل عليه الخبر ، فلم يعرجوا ولا واحد منهم على قبول ذلك منه وكانهم لم يسمعوا ما قال وهم في السقيفة يحتجون على احقية ابي بكر بالخلافة بفضيلته بصحبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الغار ، فلما احتج امير المؤمنين (عليه‌السلام) لنفسه عليهم بالفضل الفائق اعرضوا عنه ورفضوه فمن لم يقبل حجته لنفسه على نفسه كيف يقبل غيرها من الحجج او يلتزم بها.

الثالث : اقتحامهم على بيت فاطمة واخراجهم عليّا ومن معه يسوقونهم سوقا عنيفا بعد التهديد باحراق البيت عليهم ان لم يفتحوا الباب وتسمية الزبير كلبا كما مر ذكره في الخبر وغيره من الأخبار ، وقد ذكر الخصم من ذلك في كتابه الكثير الواسع وذلك كله من دون ان يقيموا عليه حجة او يوردوا عليه دليلا ، ولو لم يكن من ذلك كله الا قول عمر له (عليه‌السلام) : لست متروكا حتى تبايع ، لكفى في الدلالة على ما نسبناه الى القوم من عدم استماعهم للحجة وقبولهم للعذر أو وقوفهم عند النص.

الرابع : ان العباس بن عبد المطلب لما احتج على أبي بكر بمحضر جماعة من اصحابه كعمر وابي عبيدة كما في رواية طويلة ذكرها الخصم من كتاب الجوهري عن البرآء بن عازب حيث قال له : فان كنت برسول الله طلبت فحقنا اخذت ، وان كنت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدمنا في امركم فرطا ، ولا حللنا وسطا ولا نزحنا سخطا فان كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب اذ كنا كارهين ، وما ابعد قولك : انهم طعنوا فيك من قولك انهم مالوا أليك الى ان قال : واما قولك : ان رسول الله منا ومنكم فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من شجرة نحن اغصانها وانتم جيرانها ، واما قولك يا عمر انك تخاف الناس علينا فهذا الذي قدمتموه اوّل ذلك وبالله المستعان (١) ، لم يجبه هو ولا اصحابه بشيء بل تركوا الحجة واعرضوا عنها كأنهم لم يفهموها ، وكانوا في اوّل الكلام يحتجون بها على العباس ويقرعونه بها فلما أوردها عليهم وعرفوا انها له ولأهل بيته دونهم ضربوا عنها صفحا ولم ينقادوا لها ولا نزعوا عما هم فيه لأجلها ولاحتجوا الى العمل بها ، ومن يعرض عن قبول حجته التي يجادل بها على نفسه فهو بعدم قبول غيرها من الحجج اخلق ، والى الأعراض عن النص ورده اقرب ، وهذه المجادلة وقعت بعد بيعة ابي بكر بيومين والرواية صريحة في ان بني هاشم كانوا كارهين إمارة الرجل ومكرهين على بيعته ، فاين الرضا بخلافته واين رجوعه واصحابه الى الحجة والعمل بمقتضاها حتى يستنكر منهم كتمان النص ودفعه لو اورد عليهم؟

الخامس : ما رواه ابن ابي الحديد عن ابي بكر الجوهري قال : حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه وعمر بن شبة من كتابه باسناد رفعه الى ابي سعيد الخدري قال : سمعت البرآء بن عازب يقول : لم أزل لبني هاشم محبا

__________________

(١) كذلك ١ / ٢٢١.

فلما قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خفت أن تتمالأ قريش على اخراج هذا الأمر عنهم فاخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسه من الحزن لوفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكنت اتردد الى بني هاشم وهم عند النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحجرة ، واتفقد وجوه قريش اذ فقدت أبا بكر وعمر واذا قائل يقول : القوم في سقيفة بني ساعدة ـ واذا قائل آخر يقول : قد بويع ابو بكر : فلم البث واذا انا بأبي بكر قد اقبل ومعه عمر وابو عبيدة وجماعة من اصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون باحد الا خبطوه وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى ، فأنكرت عقلي وخرجت اشتد حتى انتهيت الى بني هاشم والباب مغلق فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا وقلت : قد بايع الناس لأبي بكر بن ابي قحافة ، فقال العباس : تربت ايديكم الى آخر الدهر أما اني امرتكم فعصيتموني ، فمكثت اكابد ما في نفسي ، ورأيت في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمارا وهم يريدون ان يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين ، الى آخر ما قال من اخبار حذيفة الجماعة بما علمه من امر القوم ومسير المذكورين الى ابي بن كعب للمساعدة وطلبهم منه فتح بابه وقوله لهم وبالله ما يفتح علي بابي حتى تجري على ما هي عليه جارية ولما يأتي بعدها شر منها والى الله المشتكى (١) ، وقد دل الخبر على امور.

منها ان الناس يعلمون بغض قريش لبني هاشم في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولذا خاف البرآء من تمالئهم على اخراج الخلافة عن بني هاشم ولو لا ذلك ما كان للخوف معنى.

__________________

(١) أيضا ١ / ٢١٩.

ومنها ان الناس يعلمون ان خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لبني هاشم اما من جهة النص واما من جهة القرابة ، وان اخراجها عنهم لا يكون الا بتمالي قريش عليهم.

ومنها ان بيعة الناس لأبي بكر لم تكن برضى واختيار.

ومنها ان أبا بكر واصحابه لم يسمعوا لأحد حجة ولا يحتجوا عليه بدليل ولا يقيموا على مدعاهم بينة ، بل يلزمون الناس بالبيعة قهرا ويصرح بهذين الأمرين من الخبر قوله : لا يمرون بأحد الا خبطوه الى آخر الجملة ، وذلك كله عين ما نسبناه إليهم من دون زيادة ولا نقص ، فمن كانت حالهم هذه كيف يرجعون عما ملكوه بحجة او يسلموا ما في ايديهم الى صاحبه ومالكه بنص وبينة؟

ومنها ان جماعة من خيار الصحابة كسلمان ومن معه كانوا رادين بيعة ابي بكر ومنكرين خلافته ، وكانوا يسعون في خلعه واخراجه عن الامارة جهدهم فما استطاعوا ، فاين الاجماع والرضا؟

ومنها ان علماء الصحابة كحذيفة وأبي يرون ان تلك البيعة كانت شرا وما بعدها شر منها وذلك نص ما نقول ، فهذه الوجوه كلها شواهد حق وادلة صدق على ما ادعيناه ، وما الى القوم عزوناه من دخولهم في الأمر دخول مشاغبة وتغطرس واستكبار عن استماع الحجة ، لا دخول متبصر منصف يميل مع الدليل حيثما مال ويقف مع النص اينما وقف ، وينضاف الى ذلك ما كان القوم عليه من الرأي والطريقة فانه كان من هديهم وسجيتهم رد النصوص بالرأي وتخصيصها بالاستحسان ، لا سيما فيما يوطد أساس الامارة ، ويقرر قاعدة الرئاسة وقد وصف ابن ابي الحديد ذلك قاطعا وجازما به في كلام له في سياسة علي وعمرو أن عمر كان مدار سياسته على ما يراه ما حكم به الشرع قال : ولسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب ولا

ناسبين له ما هو منزه عنه ، ولكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة ، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء بالاستنباط من اصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص ، ويكيد خصمه ويأمر امراءه بالكيد والحيلة ويؤدب بالدرة والسوط من يغلب على ظنه انه يستوجب ذلك ، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤدي إليه نظره ، ولم يكن امير المؤمنين يرى ذلك وكان يقف مع النصوص والظواهر ولا يتعداها الى الاجتهاد والأقيسة ، ويطبق امور الدنيا على أمور الدين ويسوق الكل مساقا واحدا ولا يضع ولا يرفع الا بالكتاب والنص (١) انتهى وهو صريح فيما ذكرنا سابقا من ان عليا (عليه‌السلام) لو لم يكن منصوصا عليه لما ادعى انه اولى بالخلافة من غيره واحق بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون من سواه لأنّه لا يرفع ولا يضع الا بالكتاب والنص ، واعتراف من المعتزلي بان عمر واصحابه كان دأبهم الاعتماد على آرائهم ورد النصوص بها وعدم التفاتهم الى حكم الشرع اذا خالف ما يريدون ، واذا كان القوم على هذه لحال فما يمنعهم من مخالفة النص على علي (عليه‌السلام) وما ذا يصدهم عن كتمانه ورده؟ وأي مجال يبقى لاستبعاد ذلك منهم. وديدنهم رد النصوص اذا خالفت اجتهاداتهم؟ وهل يخفى على احد من اهل الروية مخالفة النص على امير المؤمنين (عليه‌السلام) لرأي عمر واجتهاده؟ فهو اذن يرى رد النص على علي (عليه‌السلام) ومخالفته واجبا وليس يجوز لأحد من اتباعه ان يستنكروا منه فعل الواجب عليه باجتهاده ، بل يجب عليهم الحكم بانه يفعله وما يهمله ولازم ذلك انه انكر النص على علي (عليه‌السلام) البتة وهو عين ما ندعى ، ولعمري لو لم يكن لنا الا هذا الوجه لكفانا في الدلالة على مدعانا فكيف والوجوه كثيرة كما

__________________

(١) أيضا ١١.

ترى ، ومن البين الذي لا شك فيه أن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) كان عالما بذلك من شأنهم ومطلعا عليه ، وكيف يخفى عليه من امرهم مع المعاشرة المطلعة على الحال ، ورؤيته منهم ما رأى سابقا ، وفي ذلك الوقت ما علمه ابن ابي الحديد من امرهم من جهة الرواية مع بعد المدة وتطاول الزمان ، فكان (عليه‌السلام) قاطعا بانكارهم النص لو احتج به ابتداء وصرح لهم به ، أو القائهم بعض الشبه عليه كشبهة النسخ بأمر ابي بكر بالصلاة كما زعموا فلم يكن لذكر النص والحال هذه فائدة ، ولم تكن في احتجاجه به عليهم مصلحة اذ لا تقوم به عندهم له حجة لو ذكره ولو شهد به من هناك من شيعته كسلمان وابي ذر والمقداد وامثالهم ان جوزنا قدرتهم في تلك الحال على الشهادة لم يقبل القوم شهادتهم ولم يلتفتوا إليها لمخالفتها غرضهم ، وما ادتهم إليه آراؤهم ، فكان مقتضى الحكمة وموجب معرفة قواعد الخصوم ترك التعرض للنص لعدم الانتفاع به في المقام لانكار الخصم اياه ، والاتيان بحجة لا يستطيع الخصم انكارها ولا الطعن فيها ، فلذا عدل امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن الاحتجاج عليهم بالنص واحتج تارة باخوة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واخرى بالأعلمية ، وكلاهما مما لا يمكنهم التشبيه فيه ، واحتج عليهم بالقرابة التي لا يسعهم انكارها ولا القدح فيها لأنها حجتهم التي دفعوا بها الأنصار عن الأمر وابطلوا بها دعواهم من حيث كانت هي النافعة له في المقام ، فما مثله في ذلك الا كرجل يدعي قبل آخر شيئا له على دعواه حجتان كل منهما تثبت دعواه منفردة وتوجب له ما ادعاه الا انه يقطع بانكار الخصم واحدة من الحجتين لو أوردها عليه ، أو ان يلقى عليها شبهة تدفع عنه الاحتجاج عليها بها والأخرى يأمن عليها من ذلك كله فان الواجب العدول عن تلك الحجة التي يخاف عليها ذلك المحذور وان كانت اقوى الى ذكر الحجة الأخرى التي لا يخشى عليها محذورا ، فالمانع لأمير المؤمنين من ذكر النص عليه خوفه انكار القوم اياه لعلمه ذلك منهم يقينا لا

عدم وجوده ، وهو مانع قوي وصارف جلي ، وكيف لا يكون النص موجودا وهو بعد ذلك يدعيه ويشهد له عمه العباس به ، ويعترف سعد بن عبادة بسماعه ، ويشهد له ابن عباس بادعائه اياه ، وعمر بن الخطاب كذلك كما مر فيما مضى ذكره ، فعدوله عن النص والاحتجاج عليهم في موقفه ذاك بالقرابة من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع أنها من جملة أسباب استحقاق الخلافة ، بل من شروطه كما ذكرناه في موضعه ومع عدم قدرة الخصم على انكارها وردها والقدح فيها بوجه من الوجوه هو عين الحكمة وحقيقة المعرفة وقوة نفاذ البصيرة في قطع الخصومة ، فان الحجة المذكورة كافية له فيما طلب وافية له بصحة ما ادعا واثبات ما رام لو قبلوها منه كما قبلتها الأنصار منهم ، أو أذعنوا لها كما اذعن لها خصمهم ، وكيف يقبلونها ويذعنون لها وهم مصرون على العناد متواطئون على ابتزاز الأمر من صاحبه كما سمعت في الخبر من تعللاتهم العليلة ومما يؤيد ذلك ويوضحه ويكشف عن سره تدافعهم الخلافة في السقيفة وتراميهم بها بعد ان غلبوا الأنصار عليها بين ثلاثة فاشار بها ابو بكر الى عمر أو أبي عبيدة وعرضها أبو عبيدة على عمر وردها عمر الى ابي بكر ، ولم يشيروا ولا واحد منهم الى احد من بني هاشم ولا ذكروهم في الأمر ولا في المشورة مع تحقق قرابتهم من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وظهور شرفهم وفضلهم ، خصوصا علي بن أبي طالب الذي شاعت مناقبه واشتهرت سوابقه ، وما اختفى على احد علمه وفضله ، فاعراضهم عن ذكره وذكر بني ابيه دليل صريح على تواطئهم على سلب بني هاشم خلافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وابتزازهم سلطانه ودفعهم عن مقامه ، ولازم ذلك تواطئهم على انكار النص على اهل البيت ولم يكن علي (عليه‌السلام) ليجهل ذلك منهم.

ووجه آخر وهو ان مقصد القوم من العدول عن اهل بيت النبي (صلى

الله عليه وآله وسلم) الى ابي بكر اتساع امر الخلافة في قريش لتنال كل بطن منهم وتكون دولة بينهم يرجوها كل قوم كما رواه ابن ابي الحديد عن الجوهري من قول المغيرة بن شعبة لأبي بكر وعمر : أتريدون ان تنتظروا خيل الحلبة من اهل هذا البيت وسعوها في قريش تتسع (١) ، فقاما الى السقيفة وقد مر الحديث بتمامه ، وكذلك ذكر امير المؤمنين (عليه‌السلام) ان مقصدهم ذلك في حديث رواه ابن ابي الحديد عنه ، وصرح بعض المحققين من غير اصحابنا من جهة الاستنباط ان مقصد القوم ما ذكرناه نقله عنه المعتزلي المذكور (٢) ومن الواضح ، ان هذا مقتض قوي لإنكار جميعهم النص على امير المؤمنين ، ومظاهرتهم أبا بكر وعمر عليه وتظاهرهم على جملة بني هاشم لعلمهم انها اذا صارت لهم واستقرت فيهم لا تخرج عنهم الى سائر بطون

__________________

(١) أيضا ٦ / ٤٣.

(٢) هو ابو جعفر النقيب ذكر الأسباب التي منعت من تسليم الأمر لعلي (عليه‌السلام) في كلام له مع ابن ابي الحديد ومنها رجاء تداول قبائل العرب الخلافة اذا لم يقتصر بها على بيت مخصوص فيكون رجاء كل حي وصولهم إليها ثابتا مستمرا وسيأتي هذا الكلام في بيان ان عليا منصوص عليه وقد نقل ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٣ / ٩٩ ان عمر لما طعن قال : يا أصحاب محمد تناصحوا فانكم ان لم تفعلوا غلبكم عليها عمرو بن العاص ومعاوية وذكر ابن ابي الحديد عن المفيد انما اراد عمر بهذا القول اغراء معاوية وعمرو بن العاص بطلب الخلافة واطماعهما فيها لأن معاوية كان عامله واميره على الشام وعمرو بن العاص عامله واميره على مصر وخاف ان يضعف عثمان عنها وان تصير الى علي (عليه‌السلام) فالقى هذه الكلمة الى الناس لتنتقل إليهما وهما بمصر والشام فيتغلبا على هذين الاقليمين ان افضت الى علي (عليه‌السلام) قال ابن ابي الحديد : «وهذا عندي من الاستنباطات التي يوجبها الشنئان والحنق وعمر كان اتقى لله من ان يخطر له هذا ولكنه من فراسته الصادقة التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة» اما انا فلم اجد هذا فيما بين يدي من كتب المفيد رحمه‌الله ولعله وهم في النقل اوراه فيما لم تصل إليه يدي من كتبه.

قريش أبدا بخلاف باقي قريش فانها تنتقل فيهم ، فربما يقدم احدهم صاحبه لغرض وليردها عليه عند موته كما فعل الثلاثة في السقيفة ، فلذلك استقر رأيهم على منع اهل البيت ميراثهم من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ودفعهم عن حقهم ، ولأجل هذا كله عدل امير المؤمنين عن ذكر النص واستغنى عنه! في مخاصمتهم بالقرابة وغيرها مما ذكره من حيث لا محيص لهم عن الاعتراف به ، فحاله (عليه‌السلام) في ذلك الموقف غير حال أبي بكر في السقيفة ، فان عمر وأبا عبيدة كانا له ظهيرا ، وعويم بن ساعدة ومعن بن عدي الأنصاريين كانا له ردءا ، وهما على ما روى خصومنا اللذان استنهضاه على حضور السقيفة ، واستحثاه على المبادرة الى طلب الخلافة ، وجشّماه الدخول في هذه الورطة ، مخالفة منهما لقومهما الأنصار ، وان بشير بن سعد وكان من رؤساء الخزرج كان له سندا يخاصم عنه قومه ، وأسيد بن حضير رئيس الأوس كان إليه مائلا ، وكلهم طالبون منه الازدياد من الحجة ، ومتعطشون الى تظاهره على دفع الأنصار بالبيّنة ، والباقون مصغون الى ذكر الحجج غير مستنكفين عن قبولها منه ، فلا مانع له من ذكر نص عليه لو كان موجودا ولا صارف له عن الاتيان بقول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوجب له الفضيلة لو كان حاصلا ، ومع هذا لم نره ذكر نصا عليه ولا قولا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوجب المدح له ، ولا حجة يختص بها تثبت له دعواه ، ولا ذكر له صاحباه شيئا من ذلك ، بل رأيناه وصاحبيه ذكروا حجة كانت برمتها لغيره ، وكانت يده منها خلوا وهي القرابة ، وأشياء لا توجب شيئا من مطلبه ولا تقضي بصحة مأربه وهي الصحبة في الغار والأمر بالصلاة كما زعم ، وكل ذلك لا يفيده شيئا مما اراد لو كان للخصومة معه مجال ، ولم يكن أمره مبنيا على التغلب لأن كون الحجة الأولى لعلي (عليه‌السلام) مما لا غباوة فيه.

والثانية أيضا لأن لقائل ان يقول : ان كان اختصاص النبي (صلى الله

عليه وآله وسلم) بأبي بكر وخلوته معه في الغار مما يوجب له خلافته فعلي اولى منه بذلك لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اختص به مرة وخلا معه وقتا واحدا واختص بعلي مرات كثيرة وخلا معه خلوات متعددة في اوقات لا تحصى ، ودع ما لعلي (عليه‌السلام) ليلة الغار مما لا يوازنه فضل وهو مبيته على الفراش فكانت هذه أيضا كالقرابة.

والثالثة يقال : لهم انا لا نسلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امره بالصلاة ، وان صح ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد امره بالصلاة فقد عزله عنها اذ خرج ونحاه عن المحراب لا سيما والتقدم في الصلاة لا يوجب العدالة على مذهبكم فضلا عن الفضل فأي حجة في الصلاة على ما ادعي فاذن ليس له حجة على ما طلب واراد فعدوله وصاحبيه عن ذكر نص عليه من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أو قول منه في مدحه وفضله مع احتياجه إليهما وعدم المانع من ذكرهما وانتفاء الصارف عن ايرادهما الى ذكر حجة هي لغيره لا له واخرى قريبة منها وثالثة لا توجب عدالته ان سلمت له فضلا عن ايجابها خلافته دليل صريح على انه لم يكن مما ذكروه من النص عليه شيء موجود ، ولا مما رووه في فضله بعد من الأحاديث عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حديث معروف ، ولا من ذاك عين ولا اثر ولم يطلع هو ولا اصحابه على شيء من ذلك الى آخر أيامهم ، ولو كان في يدهم شيء من ذلك وعندهم منه خبر لأوردوه للحاجة إليه خصوصا لما نسبهم امير المؤمنين الى الظلم والتظاهر عليه وعدم الخوف من الله وغير ذلك مما في الخبر ، فلم لا درءوا عنهم قوله فيهم بخبر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في فضل أبي بكر وأي موضع اولى بذكره من ذلك الموضع ، ثم في ايام مقاولة المهاجرين والأنصار وما شاع بينهم من الخصام والجدال بعد بيعة ابي بكر مدة وشاعت فيما بينهم في ذلك الخطب والأشعار حتى قال في ذلك

النعمان بن عجلان الأنصاري وكان من سادات الأنصار يخاطب اصحاب ابي بكر :

وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم

عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

وليس ابو بكر لها خير قائم

وان عليا كان اخلق بالأمر

وكان هوانا في علي وانه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري

في ابيات كثيرة (١) ومثله قال غيره من الأنصار وما احتج عليهم ابو بكر ولا احد من اعوانه بخبر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الشيخ يقتضي استحقاقه الخلافة مع اقتضاء الحاجة الى ذكره ، وعدم الصارف عنه وانتفاء الموانع من ايراده ، وغاية ما عندهم في المدافعة ما تشبثوا به في السقيفة من قضية الغار والصلاة فعلم من ذلك انه ليس لهم في فضل الرجل في ذلك الوقت حديث ولا خبر وانما أولياؤه بعد ذلك فيه زوروا ما ارادوه فتبين انه ليس حال ابي بكر في عدم ايراد نص عليه كحال امير المؤمنين (عليه‌السلام) في تركه ايراد النص لوجود الداعي الى تركه هنا ووجود المانع من ايراده وهو تحققه منهم انكاره ورده مع قيام ما ذكره بثبوت حقه لو انصفوه وعدم حصول شيء من ذلك في ابي بكر ، فهذا فرق ما بين الحالين وتمييز ما بين الأمرين ، ويزيد ما بيناه توضيحا وصراحة ما جرى يوم الشورى ان عليا (عليه‌السلام) ذكر له جملة من النصوص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وطائفة من مناقبه ، وناشدهم ذلك كحديث براءة والإخاء وما شابههما ، وخبر الغدير والمنزلة وما ضارعهما ، التي عددناها في ذكر النصوص ، كل ذلك يقرون به ولا ينكرون منه شيئا ، والقصة مشهورة عند الخصوم ، وقد أقر بها القوشجي وابن ابي الحديد وذكر انها مشتهرة لكنه اقتصر

__________________

(١) ذكر ابن ابي الحديد في شرح النهج ٦ / ٣١ ثمانية عشر بيتا.

في نقلها على ذكر جملة مما ذكره امير المؤمنين من النصوص عليه محتجا به على القوم ، وهم مع تصديقهم اياه واعترافهم بصحة نصوصه لم ينصرفوا بها عن صرف الخلافة عنه الى غيره ، بل بايعوا عثمان وتركوه ولم يعتنوا بتلك النصوص والمناقب وهددوه ان لم يبايع عثمان ان يقتلوه او يقاتلوه ، وعثمان لم يذكر لنفسه فضلا ولا أورد في استحقاقه الخلافة خبرا ، وانما وعدهم بان يسير فيهم بسيرة الشيخين ، وما الأولون بدونهم في رد نصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومخالفة أقواله لأنهم اتباعهم ومقلدوهم ، وهذا من اعدل شاهد على ما قلناه من عدم اعتناء القوم بنصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حق علي (عليه‌السلام) طلبا للدنيا وحبا للرئاسة فترك ذكره امير المؤمنين لهذا.

ووجه آخر : وهو ان عليا (عليه‌السلام) في ذلك الوقت غير محتاج الى ايراد النص ان سلمنا انه لم يورده ، لأن ايراده انما هو لاثبات انه المستحق لمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون خصمه ، وابو بكر واصحابه مقرون له بذلك لأنهم قد اثبتوا استحقاق الخلافة بقرابة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ودفعوا الأنصار عن طلبها وخصموهم بها عن المطالبة فيها ، فكان ذلك اقرارا منهم لعلي (عليه‌السلام) بالحق لأن قرابته من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واقربيته من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) معلومة غير مجهولة ، ومعروفة غير منكورة ، فلذا قال لهم كما في الخبر : (اني احتج عليكم بما احتججتم به على الأنصار ، فان كانت الخلافة بالقرابة فانا احق الناس بها لأني اقربهم من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) فلم ينكر منهم احد ذلك ، بل أقروا به لكنهم أصروا على منعه حقه وقالوا له : لا نسلم لك هذا الحق لأنك صغير السن ، فأي حاجة بعد هذا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ١١.

لذكر النص؟ وأي فائدة في ايراده وتعداده؟ وهل هو في ذلك الا كرجل يدعى قبل اخر حقا وله على صحة دعواه بيّنة عادلة لكن المدعى عليه في حال المخاصمة أقر له بحقه وقال لا أدفعه أليك ولا اسلمه ، فهل ترى يحتاج المدعي في اثبات حقه بعد اقرار خصمه به الى احضار بينته ، أو يحكم عليه حاكم عادل بلزوم احضارها في ثبوت حقه مع ان البينة لا يصار إليها الا اذا لم يقر المدعى عليه بصحته دعوى المدعي؟ واذا حصل الاقرار من المدعى عليه فلا حاجة الي البينة ، أفليس لا يبقى للمدعي بعد اقرار المدعى عليه له بحقه واصراره على منعه الا اجباره على تسليم الحق واخذه منه قهرا؟ واذا لم يجد المدعي من يأخذ له بحقه أو يعينه على استخراجه من خصمه ويخاف من مطالبته به وصول الضرر إليه لا يبقى له إلا الكف والسكوت الى وقت التمكن ، وكذا امير المؤمنين (عليه‌السلام) فعل ما يلزم فعله في الشرع والعقل فانه قرر خصومه بالحجة فاقروا له بالحق لقضية القرابة واصروا على ترك تسليم حقه إليه ، فلم يبق عليه بعد هذا الا استخلاص حقه منهم بالجبر ، واستخراجه من ايديهم بالقهر ، فطلب الأعوان على ذلك وطاف على دور اهل السوابق من الصحابة مركبا فاطمة على حمار آخذا بيد الحسن والحسين يدعو الناس الى معاونته على استيفاء حقه بالسيف اذ لم يبق غيره ، فكان يبايعه بالليل أربعون رجلا على ذلك ويعدهم ان يوافوه صبحا فاذا اصبح لم يوافه الا أربعة أو خمسة ، حتى فعل ذلك ثلاث ليال وهذه حالهم معه كما صح عند خصومنا واشتهر بينهم ، فلما تبين له الخذلان من الناس سكت وكف على ما في صدره من المضض وفي قلبه من الألم ، اذ لم يبق بعد فقد الناصر وعدم المعين على أخذ الحق من الممتنع عن تسليمه الا الكف والسكوت ، لا سيما اذا كان الضرر في ترك الكف عنه مظنونا وصوله الى صاحب الحق من ذلك الظالم أو من تابعيه ، فليس لذكر علي (عليه‌السلام) النص في المقام موضع ، ولا لايراده موقع ، وهو واضح لا خفاء فيه ومكشوف

لا سترة عليه وهذا بخلاف أبي بكر واصحابه فانهم في تمام الحاجة الى ذكر نص عليه أو خبر في مدحه ، لأن امير المؤمنين (عليه‌السلام) يرميهم جميعا بالظلم والعدوان واغتصاب حقه والعباس بن عبد المطلب كذلك وجماعة من الأنصار وهكذا ، فلو كان ثمة له دليل من النصوص لأورده ومنع به خصمه عن نفسه ، أو حجة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لنا ضل بها منازعه ، لكنه وصحبه لم يذكروا من ذلك شيئا مع دعاء الحاجة إليه فعلم انه لا شيء منه بموجود فافترق الأمران ، وبالله المستعان ، وقد وضح من هذا كله بطلان ما اورده ابن أبي الحديد في المقام وما شنع به على أصحابنا في موضع آخر حين قال : فان قالت الامامية : كان يخاف القتل لو ذكر ذلك يعني النص ، قيل لهم : فهلا خاف القتل وهو يعتل ويدفع ليبايع وهو يستصرخ تارة بقبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتارة بعمه حمزة واخيه جعفر وهما ميتان ، وتارة بالأنصار ، وتارة ببني عبد مناف ، ويجمع الجموع في داره ويبث الرسل والدعاة ليلا ونهارا الى الناس يذكرهم فضله وقرابته ، ويقول للمهاجرين خصمتم الأنصار بكونكم اقرب الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانا اخصمكم بما خصمتم به الأنصار لأن القرابة ان كانت هي المعتبرة فأنا اقرب منكم؟ وهلا خاف من هذا الامتناع ومن هذا الاحتجاج ومن الخلف في داره باصحابه ومن تنفير الناس عن البيعة التي عقدت حينئذ لمن عقدت له (١)» انتهى وفيه مع اندفاعه بما مضى من البيان فساد واضح من وجهين.

الأول : دعواه ان الامامية يقولون خاف علي (عليه‌السلام) من ذكر النص والحال انه ولا واحده من الامامية بقائل ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) لم يذكر النص ، بل كلهم متفقون على أنه (عليه‌السلام) ذكر

__________________

(١) المصدر السابق ١١ / ١١١.

النص للقوم وذاكرهم لما ساموه البيعة لأبي بكر وخاصمهم به اشد خصام ، فلم يقبلوا منه فعدل الى القرابة التي احتجوا بها على الأنصار فتعللوا عليه كما رويتم فلم يجد شيئا يكفهم به عن ظلمه وينتزع به من ايديهم حقه الا السيف ، فصمم العزم على مناجزتهم فلم يجد ناصرا طلب اربعين رجلا ذوي عزم فلم يوافقه ولم يجبه إلا أربعة أو خمسة فكف وسكت ، وهذا المشنع ذكر ذلك مرارا في كتابه وصححه واعترف به هنا كما ترى ، فليس احد من الامامية يقول : ان عليا (عليه‌السلام) لم يذكر النص عليه ، بل يقطعون بانه ذكره ويجزمون بان القوم ردوه ولم ينقادوا له ، ورواياتهم بذلك ناطقة ومصنفاتهم بذلك مصرحة.

الثاني قوله : انه خاف القتل ، فان الامامية ان قالوا خاف القتل فانهم يريدون انه (عليه‌السلام) خاف القتل من استمراره على ترك بيعتهم فضرع لها واجاب دفعا للقتل عن نفسه اذ لا معين له وهو قد صرح بهذا المعنى في كثير من خطبه كالشقشقية وغيرها وقد ذكرنا شطرا من كلامه في هذا المعنى فيما تقدم وسيأتي منه الكثير إن شاء الله لا انه خاف القتل من ذكر النص فانه لا قائل به من الامامية ، فان كان صادقا فليدلنا على هذا القائل ، نعم ان قال احد منهم انه خاف من ذكر النص مجاراة للخصم فانه يريد انه خاف منهم انكاره ورده وذلك صحيح وقد اوضحناه وبيناه فزال تشنيعه على اصحابنا بقوله هلا خاف من كذا وهلا خاف من كذا هذا كله مع ما يعود عليه في هذا التشنيع من بطلان مذهبه وفساد عقيدته وذلك من وجهين.

الأول : انه ملأ كتابه من الدعوى برضا علي (عليه‌السلام) بخلافة ابي بكر وروى في ذلك احاديث كثيرة عن اسلافه ، وان عليا (عليه‌السلام) لم يدع أحدا الى نقض بيعة ابي بكر ولا استصرخ الناس لحربه ولا نازعه واصحابه ، وقد قدمنا بعضا من كلامه في هذا في فصل احاديث لفظ الامام

ثم هو الآن يقول : انه استصرخ الناس لحرب ابي بكر وكاشف ونازع وعتل ودفع وبثّ الرسل والدعاة يدعون الناس الى نقض بيعة الشيخ ومحاربته ، فانظر الى هذا التناقض العظيم في اقواله والتعارض الشديد في كلامه.

الثاني : انه شحن الكتاب أيضا من قوله ان عليا (عليه‌السلام) لو كاشف القوم ونازعهم وسخط إمارتهم ولم يرضها فضلا عن ان يكون شهر السيف عليهم لحكمنا بضلالهم وهلاكهم كما حكمنا بهذا كله على من خالفه ايام خلافته لأنه على الحق دائما ونقل ذلك أيضا عن مشايخه البغداديين ثم هو هنا وغير هنا يذكر انه (عليه‌السلام) خالفهم ونازعهم واستصرخ الناس عليهم ، ودعا الناس الى قتالهم ، وجمع الجموع في داره لذلك واستغاث منهم بالأموات والأحياء فلازم ذلك عليه ان يحكم عليهم بالضلال ومخالفة الحق وهو لا يحكم عليهم ، بل يصرح في مواضع من كتابه بانهم من الدين والايمان وصحة اليقين بمكان مكين وغير ذلك من الأوصاف الجميلة التي تزيد على الوصف ، وكان اللازم من هذا عليه تكذيبه في معتقده ، أو افتراؤه في اخباره ، أو حكمه بضلال ائمته فما كان اغناه عن كشف هذه القبائح ، وبيان الفضائح ، ونشر هذه المعايب وهذا يصرح لك عن هذا الرجل بانه نهج منهج الخلط والتخبيط ، يقول الشيء وضده ويأتي بالأمر ونقيضه ويعتقد مذهبا ومنافيه كل ذلك عنده صحيح وفي خياله رجيح لا يقف على حد محدود ولا يقتصر على مذهب معلوم اعاذنا الله والمؤمنين من المضلات ومن الانغماس في الجهالات.

واحتج القوشجي على فقد النص مطلقا على امير المؤمنين وخصوصا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (سلموا على عليّ بإمرة المؤمنين) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي : (انت الخليفة بعدي) وقوله (صلى الله

عليه وآله وسلم) مشيرا إليه (هذا خليفتي فيكم فاسمعوا له واطيعوا) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين جمع بني عبد المطلب (أيكم يبايعني ويوازرني يكون اخي ووصيي وخليفتي من بعدي) (١) فبايعه علي (عليه‌السلام) وهي التي استدل بها سلطان الحكماء والمتكلمين نصير الملة والحق والدين بان هذه النصوص لم تثبت من يوثق به من المحدثين مع شدة محبتهم لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في امر الدنيا والدين ، ولم ينقل عنه في خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته وعندنا تأخره عن البيعة اشارة الى تلك النصوص وجعل عمر الخلافة شورى بين ستة ودخل على في الشوري ، وقال عباس لعلي : امدد يدك ابايعك حتى يقول الناس هذا عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان ، وقال ابو بكر وددت اني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو وكنا لا ننازعه ، وحاج علي (عليه‌السلام) معاوية ببيعة الناس لا بنص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) انتهى. كلامه.

والجواب اما قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (سلموا على علي بامرة المؤمنين) و (انت الخليفة بعدي) فمتواتر عند الشيعة فضلا عن كونه مرويا وليس التواتر عند الشيعة على كثرتهم يقصر في الخبر عن كونه خبرا صحيحا لا سيما اذا لم يكن له مناقض يعتد به وكان له معاضد من الأدلة

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ١١٧٢ ليدن وفيه «وخليفتي فيكم» وشرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٤٤. وأمر النبي (ص) بالتسليم على علي بالإمرة رواه ابن عساكر بترجمة علي (عليه‌السلام).

(٢) أي كلام القوشجي في خدش الروايات التي استدل بها الطوسي في التجريد على إمامة علي (عليه‌السلام) وانظر كشف المراد للعلامة الحلي عند شرحه للمسألة الرابعة في وجوب النص على الامام.

الصحيحة ، وقد ذكرنا في النصوص ما يصرح به عن محدثيهم.

وأما قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (هذا خليفتي فيكم) الخ. وقوله : (يا بني عبد المطلب ايكم يبايعني ويوازرني) الخ فكلاهما في حديث الوزارة حين جمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بني عبد المطلب بعد نزول قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقد رواه الثقات من محدثي العامة واستدل به متكلموهم كابن اسحاق وابن جرير الطبري وابي جعفر الاسكافي وغيرهم فلا معنى لقول المعترض : ان هذه النصوص لم تثبت عمن يوثق به من المحدثين ، وأمّا خطب امير المؤمنين (عليه‌السلام) وكلماته فهي مشتملة على ذكر النص عليه كثيرا مثل قوله : (واني لأولى لناس بالناس واني وارث رسول الله واني وصي رسول الله وان رسول الله عهد الي) ومعناه باليقين استخلفني وكلامه لمن سأله بم ورثت ابن عمك دون عمك وغير ذلك مما مضى ويأتي ، ومخاصماته بالنصوص مشهورة فانه كان دائما يدعي النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما مر في حديث ابن عباس مع عمر بن الخطاب ومخاصمته اهل الشورى بالنصوص امر معلوم قد اعترف به هذا المعترض وغيره ، وبالجملة فدعوى علي (عليه‌السلام) النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واضحة كالشمس الضاحية لا يجهله الا جاهل محض ، ولا ينكره الا معاند صرف ، فلا معنى لقول المعترض أنه لم ينقل في كلامه اشارة الى تلك النصوص لأنه قد اشتهر بها التصريح في كلامه دون الاشارة.

واما دخوله في الشورى فلوجهين.

الأول : انه خاف القتل في امتناعه من الدخول في الشورى بعد ما عينه عمر لأن امتناعه صريح في الخروج عن طاعته ورد إمامته فلا يأمن ان يأمر بقتله فيقتل وعمر مطاع في اصحابه ، واكثرهم مبغضون لعلي (عليه

السلام) ، وكيف يحاذر من قتل علي (عليه‌السلام) لو خالف امره وقد اوصى بقتل من يخالف عبد الرحمن بن عوف من اهل الشورى ، وبقتل ستتهم ان مضت ثلاثة ايام ولم يتفقوا على واحد منهم وعلي فيهم ، فاطيع في ذلك كله ، واخذ الستة بذلك من أبي طلحة الأنصاري وصي عمر على انفاذ هذه الوصية ، ولو لم يفعلوا كما قال لقتلوا جميعا كما صح في روايات القصة عند الخاصة والعامة (١) ، وهذا امر ظاهر لا ينبغي التشكيك فيه ، واقل الأمور انه (عليه‌السلام) يظن الضرر لو امتنع من انفاذ قول عمر ودفع الضرر المظنون واجب عقلا وشرعا.

الثاني : انه من الجائز ان امير المؤمنين دخل في الشورى ليتمكن من المطالبة بحقه والأدلاء بحجته على ذلك واذا لم يدخل فيها لم يتمكن من ذلك ، ولذا انه خاصم القوم وحاجهم بالنصوص عليه لا بغيرها ، وقال هناك (ان لنا حقا ان نعطه نأخذه وان نمنعه نركب اعجاز الإبل وان طال السرى) (٢) وعرض عليه ابن عوف المبايعة على سيرة الشيخين فأبى الا على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان ذلك اما لاحتماله قبول القوم قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واما لالقاء الحجة لئلا يقول قائل من القوم لا ادري او نسيت فلم يذكرني احد ، وقد ارسل الله موسى الى فرعون وهو يعلم انه لا يؤمن فليس من المقطوع به ان يكون دخول امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الشورى لرضاه بها وجواز الامامة عنده بالاختيار ، بل ولا من المظنون مع قيام الاحتمالين القويين ،

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٨ فما بعدها عن الجاحظ والطبري والعسكري وغيرهم.

(٢) هذا الكلام رواه عنه الشريف الرضي في نهج البلاغة في باب الكلمات القصار برقم ٢١ ونقله الطبري في التاريخ ٥ / ٢٧٩١ ليدن حوادث سنة ٢٣ كما رواه الهروي في الجمع بين الغريبين وانظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٩٥.

واذا لم يكن رضاه بالشورى معلوما من دخوله فيها سقط الاحتجاج بها على مراد القوشجي ، وهنا وجه ثالث ذكره اصحابنا عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) انه انما دخل في الشورى للرد على عمر وصاحبه في روايتهما عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ولم يكن الله ليجمع لنا اهل البيت بين النبوة والخلافة) وهو وجه ظاهر الصحة ، واما قول العباس امدد يدك ابايعك ففيه ثلاثة وجوه.

الأول : انها رواية يختص الخصم بنقلها فلا حجة فيها مع انهم رووا ما يعارضها وهو الخبر المتقدم المشتمل على شهادة العباس لعلي (عليه‌السلام) بالنص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وابلاغ ابن عباس عمر ذلك عنه واقرار عمر ببعض ذلك ، بل بكله والترجيح لهذا الخبر لأنه أوضح دلالة ولاعتضاده بالأخبار الصريحة في النص على علي (عليه‌السلام).

الثاني : ان الرواية لا تدل على نفي النص بحال لأن قوله : امدد يدك ابايعك الخ ليس فيه ما يدل على عدم النص لا بالمطابقة ولا بالتضمن وهما ظاهران ، ولا بالالتزام اذ لا ملازمة في العقل بين البيعة لئلا يختلف الناس وبين عدم النص الا بالجزم بعدم مخالفة القوم لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لو كان موجودا ، والمقطوع به من حالهم خلاف ذلك ، نعم هناك ظاهر ضعيف وهو لا يعارض القاطع.

الثالث : انه من الجائز ان يكون العباس دعا عليا (عليه‌السلام) الى المبايعة لا لفقد النص عليه ، بل دعاه الى ذلك خوفا من اختلاف الناس عليه لعمله منهم ذلك كما اشار إليه بقوله : حتى يقول الناس هذا عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلفون فيك (١) فدعاه الى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٠.

المبايعة لدفع اختلاف الناس عليه لا لأحداث إمامته بالبيعة ، بل ظاهر الحال ان إمامة علي (عليه‌السلام) كانت معلومة عند العباس واراد بالبيعة توكيدها ودفع الاختلاف فيها ، او لأنه خاف ان يسبق سابق بالبيعة لعلمه ان القوم لا يقفون مع قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي ونصه عليه لما ظهر له من الامارات الواضحة وقرائن الأحوال فاراد السبق بمبايعة علي (عليه‌السلام) ليستقر امره فلا تفيد بيعة غيره بعد ذلك في النقض عليه ويزول الاختلاف ، واذا جاز ذلك بطل الاستدلال بالخبر ان صح اذ لا حجة فيه حتى يحصل العلم بان دعاء العباس عليا (عليه‌السلام) للبيعة لفقد النص عليه لا لفائدة اخرى ، وليس ذلك بحاصل ولا ظاهر ان لم يكن الظاهر من ذلك خلافة ، لأن تقديم العباس عليا على نفسه في خلافة النبي (ص) مع كونه اسن منه يظهر منه انه كان لسماع العباس من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان عليا هو خليفته والأحق بمقامه ، فكان الخبر لنا لا علينا.

واما قول ابي بكر وددت اني سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الخ فانه قال ذلك تقريرا لانكار النص على علي (عليه‌السلام) وتصنعا منه وتشبيها على من لم يعلم بانه ما ظلم واحدا بعينه في تقدمه ، ولا في استخلافه عمر من بعده ليكون قوله هذا معارضا لدعوى علي (عليه‌السلام) النص عليه ويستتم له ما اراد من حرمان اهل البيت حقهم من خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ظاهر الأمر عند عامة الناس في جميع الأزمنة لما يعلم من ان اهل البيت ان تمكنوا من الخلافة وقتا من الأوقات واستقرت قدمهم فيها ظهر من ظلمه لهم ما كان مستورا عند العامة ، وزال الوثوق به عندهم ، وفسد ما دبره ولو لا ما القاه من الشبه هو وموازروه بالقول والفعل لما خفي على عوام الناس النص على علي (عليه‌السلام) ، ولا انكره احد لوضوحه فضلا عن ان يكون خفيا على المجيب وامثاله من المحققين حتى جادلوا فيه اتم الجدال ، وبلغوا في انكاره الى الجمع بين الأمور المتناقضة

والمذاهب المتخالفة ، فلذلك قال الرجل ما قال ليشبه على الجهال فنال ما طلب ولو انه صرح بما علمه من النص على علي (عليه‌السلام) لطعن فيه العامة لتقدمه على من نص عليه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقدحوا في استخلافه صاحبه وهو لم يترأس ليكون مطعونا عليه عند العوام ، وانما فعل ذلك ليكون عندهم موثقا مطاعا في الحياة والممات ليتم مقصده المذكور وتصريحه بالنص يزيل ذلك كله عند سائر الناس وهو خلاف مطلبه ، فليس في قوله حجة على فقدان النص لأن له في اخفائه غرضا قويا ، ثم ان استدلال القوشجي بكلام ابي بكر على انتفاء النصّ مطلقا على واحد معين يعود عليه بالنقض في دعواه اجماع اصحابه على استخلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر ويرد حديث عائشة الذي هو الدليل عندهم على ذلك : (وهو ادعى اباك واخاك) المتقدم ذكره ، ويبطل روايته في ابي بكر وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه : (وخليفتي في امتي) وهذا دأبه (١) ـ متناقض الأقوال مختل الكلام.

واما محاجة علي (عليه‌السلام) معاوية ببيعة الناس له لا بنص فهي ان سلمت مثل محاجته للصدر الأول بالقرابة ، وذلك ان النصوص الواردة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) وان كانت صريحة واضحة ومعاوية يعلمها ولا يجهلها ويعرفها باطنا ولا ينكرها لكن وهن دلالتها وشبه صراحتها على تابعي معاوية من اهل الشام واكثر تابعي علي (عليه‌السلام) ، اذ جل من معه يرون ان إمامته بالبيعة لا بالنص عليه ويثبتون تقدم الثلاثة عليه في الخلافة فكان الفريقان يذهبان الى ان الامامة بالاختيار لا بالنص وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم ينص على واحد بعينه ، ولو احتج امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالنص على معاوية لم يسلمه له في الظاهر وان كان يعلم صحته كما لم يسلم له الأولون إذا ذكره ، ولم

__________________

(١) أي القوشجي.

يلتفت إليه اهل الشورى اذ أورده ، ولا رآهم الناس من العامة خالفوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ ردوا نصه لتلك الشبهة المرتكزة في نفوسهم وكان يتجه لمعاوية عند اهل الشام واكثر اهل العراق ان يجيبه بان يقول : اذا كنت انت المنصوص عليك بهذه النصوص فلم تقدم عليك فلان وفلان ولم قرن عمر بك في الشورى فلانا وفلانا الى آخره ولم قدم عليك اهل الشورى فلانا وهؤلاء خيار الصحابة؟ أفتقول إنهم ظلموك وانتهبوا حقك ، فان صرح بما لا يحتمل التأويل بانهم ظلموه وغصبوه حقه وخالفوا نص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، وقوله فيه وتقدموا عليه عدوانا كانت هذه هي الطامة الكبرى التي ود معاوية لو تكلم امير المؤمنين (عليه‌السلام) بكلمة تدل عليها ليجعلها من اعظم الموجبات لمخالفته وقتاله ، فما رضاه بقتل عثمان الذي اقتضى لزوم خلافه ووجوب حربه عند اهل الشام الا دونها بمراتب ، فيزدادون بها ضلالا وعتوا عليه ويتفاقم خطبهم ويزيد فسادهم ، وهو (عليه‌السلام) يريد اصلاحهم ، ثم ليست هذه مقصورة على فساد اهل الشام خاصة بل يتمشى الأمر بها الى فساد اكثر جند امير المؤمنين (عليه‌السلام) عليه ، لأن عامتهم يرون في الإمامة ما يرى اهل الشام ويصححون خلافة الثلاثة ، ويوثقونهم ومن معهم من الموازرين لهم فيما فعلوه ، ويناقضون عليا (عليه‌السلام) في مخالفته فتاوى الشيخين كما هو معلوم فكيف يتبعونه اذا صرح بانهما من الظالمين الغاصبين؟ وقد علم كافة اولى الألباب ان الحجة اذا لم يسلمها الخصم ولا تابعوه لم يكن في الاحتجاج بها عليه فائدة وان كانت صحيحة ، وانه يجب العدول عنها الى حجة لا يقدر الخصم على دفعها ولا يجد سبيلا لى منعها اذا كانت موجودة ، هذا كله اذا لم يجر الاحتجاج بها على المحتج ضررا فكيف اذا كان ذلك يجر الدواهي الدهم عليه ويكون موجبا لفساد اصحابه ، وزيادة ضلال اصحاب الخصم وغوايتهم؟ ومع هذا لا يؤمن على معاوية ان يقيم شهودا عند اهل الشام

مثل ابن العاص وابي هريرة وحبيب بن مسلمة الفهري والضحاك بن قيس واضرابهم يكذبون عليا (عليه‌السلام) في دعواه النص ، وان المنصوص عليه فلان وفلان الى آخر من يريد معاوية والكذب عند هؤلاء على الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهون من شرب الماء البارد على الظمآن ، وخصوصا فيما يعيبون به على امير المؤمنين (عليه‌السلام) واهل الشام يصدقونهم في جميع ما قالوا لظنهم فيهم الخير فتبطل الحجة عند اهل الشام مع حصول الضرر ، فلهذا كله عدل امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن ذكر النص الى الاحتجاج ببيعة المهاجرين والأنصار له اذ كانت هي النافعة في المقام والمعتبرة عند العوام ، وان معاوية لا يستطيع انكارها ولا يسعه الطعن فيها ولا يتيسر له انكار ثبوت الامامة ، لأنه هو وجميع من معه والجم الغفير من اصحاب امير المؤمنين (عليه‌السلام) يجعلونها هي الطريق للامامة ويثبتون بها إمامة المتقدمين ، وبها يتعلق معاوية دعواه الطلب بدم عثمان كما زعم وذلك لتقوم بها عليه الحجة ظاهرا ولا يمكنه المدافعة والممانعة ولا يقبل قوله في علي (عليه‌السلام) انه يبرأ من الشيخين ويفسقهما ، كما اكثر من ذلك في كتبه الى علي (عليه‌السلام) وهذه عند اهل الذكى من اعظم الأدلة على بلوغ امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الحكم ومعرفة سياسة الأمور الغاية القصوى ، ولو جرى على من تقدمه من رعيته ما جرى عليه اذن ما استقر في الامارة شهرا ولذا لم يتمكن معاوية ابتداء من التخلف عن بيعته (عليه‌السلام) عند اهل الشام الا بطلب قتلة عثمان منه ، وانه اذا دفعهم إليه كان اسرع الناس الى طاعته فتعلق أولا بامر مقبول عند اهل الشام غير ثبوت إمامة علي (عليه‌السلام) ونفيها لعلمه ان اهل الشام لا يقبلون منه ابتداء ابطال بيعة الصحابة لمن بايعوه وببطلان ما دعاهم إليه من الطلب بدم عثمان لو صرح اوّل الأمر بذلك وتيقنه ان عليا (عليه‌السلام) لا يجيبه الى ما طلبه على الوجه الذي اراد ، لأنه غير جائز شرعا من وجوه لا يحسن هنا بيانها فتتم

له الحيلة المقصودة له في باطن امره بهذه الشبهة ، فلما تمكن ارتفع عن ذلك الى القدح في بيعة علي بأنه قتل عثمان ظلما بزعمه أو راض بقتله ، ولا تصح الخلافة لقاتل خليفة مظلوم لا لأن بيعة الصحابة لا توجب الامامة وكانت هذه أيضا شبهة مقبولة عند اتباعه ثم كان كلما تمكن من امر ارتفع إليه حتى تم له جميع ما حاول وطلب من امر الدنيا فكان تعلله اذ لم يتمكن من القدح في اوّل الأمر في إمامة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ببيعة المهاجرين والأنصار له بما تعلل به شبيها بتعلل الأولين بحداثة السن اذا اعيتهم الحيلة في دفع حجته ، فليس ترك امير المؤمنين (عليه‌السلام) مخاصمة معاوية بالنص لكونه مفقودا بل لكونه غير نافع بل مقتضيا للضرر يقينا ، وترك ما يوجب الضرر واجب قطعا ولأن مراد امير المؤمنين (عليه‌السلام) مطالبة معاوية واصحابه بالبيعة وذلك متوقف على ثبوت الامامة على ما يرون ولا يكون الا بالبيعة فخاصمهم ليكون قد اتاهم بما يعرفون ولا ينكرون ليستحقوا على العصيان من المطيعين القتال ومن الله المقت والنكال ، وهذا في الحقيقة لا يجهله محصل ولا يرتاب فيه محقق وبأقل مما بيناه يتضح وجهه ، فبطل ايراد القوشجي كله وانزاح تعلله بعون الله ومنه ، وقد نتج من كلامنا من اوله الى هنا دعويان.

الأول : ان القوم كانوا يخالفون نصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويردونها بالرأي.

الثانية : ان النص موجود على امير المؤمنين (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكتمه القوم واعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم.

اما الأولى : فدليلنا عليها مع ما بيناه واوضحناه حتى من شهادة اوليائهم عليهم ما شاع من صدور مخالفة بعض الصحابة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسلم) في حياته وما تواتر من مخالفتهم اياه بعد وفاته ، منها ما صدرت من شخص معين ، ومنها ما صدرت من اشخاص معينين ، ومنها ما هو منسوب الى جملة من القوم من غير تعيين ، ونبدأ من القسم الأول بذكر ابي بكر وعمر فانهما رأس هذا الأمر وسنامه ، وجميع البحث في الامامة يدور عليهما فنقول ان مخالفتهما للنص (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جاءت منهما تارة على الاجماع واخرى على الانفراد فممّا اجتمعنا فيه مخالفتهما للرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في التخلف عن جيش اسامة مع حث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على تنفيذه مرارا.

قال ابن أبي الحديد : قال ابو بكر (١) وحدثنا احمد بن سيار عن سعيد بن الكثير الأنصاري عن عبد الله بن عبد الله بن عبد الرحمن : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مرض موته امر اسامة بن زيد على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار منهم ابو بكر وعمر وابو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير ، وامره ان يعبر على مؤتة حيث قتل ابوه زيد ، وان يغزو وادي فلسطين ، فتثاقل اسامة وتثاقل الجيش بتثاقله ، وجعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يثقل ويخف ويؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث حتى قال له اسامة : بابي انت وامي أتأذن لي ان امكث اياما حتى يشفيك الله فقال : (اخرج وسر على بركة الله) فقال : يا رسول الله اني ان خرجت وانت على هذه الحالة خرجت وفي قلبي قرحة منك فقال : (سر على النصر والعافية) فقال : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اني اكره ان اسئل عنك الركبان ، فقال : (انفذ لما امرتك به) ثم اغمى على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقام اسامة فجهز للخروج ، فلما افاق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سأل عن اسامة والبعث فاخبر

__________________

(١) يعني الجوهري.

انهم يتجهزون فجعل يقول : (أنفذوا بعث اسامة لعن الله من تخلف عنه) ويكرر ذلك الخبر ، (١) ومع هذا الحث الأكيد قد تخلف من تخلف عن البعث المذكور ردّا لنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرأي فان احدهما تخلف لطلب الخلافة والثاني لمعاونته ولم ينكر عليهما منكر لأن المتمكن من الانكار عليهما في تلك الحال يرى رأيهما ، والمؤمنون وهم اقل قليل مغلوب عليهم ، فاذا كان هذان الرجلان قد تخلفا عن جيش اسامة مخالفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم تمض من المدة ما يحتمل فيه شبهة كنسخ وغيره ، وكل ذلك لغرض الأمرة وطلب الرئاسة فكيف يستنكر منهما ويستبعد مخالفة نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي وانكاره ذلك الغرض المذكور؟ مع ان مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامامة ورد نصه فيها على مذهب الجماعة اهون من رد نصه في الجهاد لأنهم جعلوا الخلافة من الأمور الدنيوية ولم يجعلوها من الفروض الدينية ، والأحكام الشرعية ، الا ترى قول عمر لأبي بكر في السقيفة وامرك رسول الله بالصلاة رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا (٢) ، فجعل الصلاة من الدين والامامة من امر الدنيا ، ولازم ذلك جعل نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيها كرأي واحد منهم! فكما يجوز مخالفة ذلك الواحد يجوز مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والرجوع الى ما يؤدي إليه الرأي ، واذا كانوا قد خالفوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وردوا نصه في الأمور الدينية فأحرى بهم ان يخالفوا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما زعموا انه من الأمور الدنيوية لا من الأوامر الشرعية ، فتبين هنا ان قول بعضهم : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص ولو اوصى ما تأمر ابو بكر

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٢ كما روى هذا الحديث الشهرستاني في الملل والنحل ١ / ٢١.

(٢) المصدر السابق ٢ / ٢٥ عن المغني لقاضي القضاة.

على وصيه باطل ، لأن أبا بكر قد تآمر في هذه الواقعة على من امره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه والحال في الأمرين واحدة ، ومتى رأينا أبا بكر وصاحبه وقفا مع النص فيما يخالف غرضهما حتى نستبعد منهما مخالفة النص في الامامة مع ظهور مخالفته لمطلوبهما ومنعه اياهما من التوصل الى محبوبهما ما هذا الا تمحل المحال.

ومن ذلك مخالفتهما امره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقتل ذي الخويصرة التميمي (١) قال ابن ابي الحديد : وفي الصحاح المتفق عليها ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بينا هو يقسم قسما جاء رجل من بني تميم يدعى ذي الخويصرة ، فقال : اعدل يا محمد فقال : (قد عدلت) فقال ثانية : اعدل يا محمد فانك لم تعدل فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ويلك ومن يعدل اذا لم اعدل)؟ قال : وفي بعض الصحاح ان رسول الله قال لأبي بكر وقد غاب الرجل عن عينه : قم الى هذا فاقتله فقام ثم عاد فقال : وجدته يصلي ، فقال لعمر مثل ذلك فعاد وقال : وجدته يصلي فقال لعلي (عليه‌السلام) مثل ذلك فعاد وقال : لم اجده ، فقال رسول الله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لو قتل هذا لكان اوّل فتنة وآخرها) (٢) الحديث فانظر الى ترك الشيخين قتل الرجل لأنه يصلي فانك تجده صريحا في ردهما امر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرأي وتخصيصهما عمومه بالاستحسان؟ هذا والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حي نافذ الحكم شديد السلطان ، فاذا تحقق ردا مرة بالرأي في حال حياته وعلو كلمته ولم

__________________

(١) ذو الخويصرة : حرقوص بن زهير رأس الخوارج وهو ذو الثدية قتل يوم النهروان سنة ٤٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٠ وقد اخرج هذا الحديث الامام احمد في مسنده ٣ / ١٥.

الصورة اطول كما ان حديثه هذا من الأحاديث المتفق عليها كما يقول ابن ابي الحديد.

يحذرا من عقوبته فكيف يستنكر منهما مخالفته نصه في إمامة علي (عليه‌السلام) بعد وفاته وعلمهما انه قد فارق الدنيا وأنه لا يأمر بعد ذلك ولا ينهى ، أفيرتاب عاقل عالم قد علم بمخالفتهما الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما ذكرناه في جواز ان يخالفا نصه في الامامة مع ارتكاب خطر العقوبة في الأول والأمن منها في الثاني؟ وهل يصفهما ذو عقل صحيح وذوق رجيح بعدم امكان المخالفة ـ كما فعل ابن ابي الحديد ـ فوا عجبا من قوم هم من ذوي التحقيق يروون شيئا ويحققونه ثم يزعمون عدم امكان واستحالة وقوعه (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) ولعمري لقد اصابتهم الفتنة من غير شك ولا شبهة وبالله المستعان.

وفي حديث : أمّ سلمة المتقدم مع عائشة قالت : واذكرك أيضا كنت انا وانت مع رسول الله في سفر له وكان علي (عليه‌السلام) يتعاهد نعلي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيخصفها ، ويتعاهد أثوابه فيغسلها ، فنقبت له نعل فاخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة ، وجاء ابوك ومعه عمر فاستأذنا عليه ، فقمنا الى الحجاب ، فدخلا عليه فحادثاه فيما اراد ، ثم قالا : يا رسول الله انا لا ندري قدر ما تصحبنا فلو اعلمتنا من تستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا ، فقال لهما : (اما اني قد ارى مكانه ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنوا اسرائيل عن هارون بن عمران) فسكتا ثم خرجا ، فلما خرجنا الى رسول الله (عليه‌السلام) قلت له وكنت اجرأ عليه منا : من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم؟ فقال : (خاصف النعل) فنزلنا فلم نر احدا الا عليا ، فقلت : يا رسول الله ما ارى الا عليا فقال : (هو ذاك) فقالت عائشة : نعم اذكر ذلك ، فقالت : فأي خروج تخرجين

__________________

(١) النور : ٦٣.

بعد هذا (١) وهو صريح في اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لهما بانهما يخالفان نصه ، ولا يطيعان من يستخلفه ، وسكوتهما من دون ان يعتذرا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او يعطياه من العهود بالطاعة فيمن يستخلفه عليهم ما يحصل الوثوق ظاهرا بمثله شاهد صدق على ان ما نسبه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليهما والى امثالهما من التفرق عن خليفته كان ذلك الوقت مضمرا في قلوبهما ، وكانا قد عرفا اشارة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى ما اضمراه من مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان استخلف عليا ، وقد فهما الى من يشير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاستخلاف فسكتا على ما اضمرا ، فأي شاهد عدل من هذا يراد منا على هذه الدعوى؟

ومما اختص به ابو بكر في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان عمر له تابعا اخذه فدك من فاطمة (عليه‌السلام) لروايته التي خالفها بتركه ما ترك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عند علي (عليه‌السلام) كالسيف والدرع والبغلة والعمامة وشبه ذلك وترك حجرات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عند ازواجه (عليه‌السلام) وتوضيح ذلك ان فدك كانت من الأنفال كما صح عند خصومنا رواه ابن ابي الحديد عن الطبري وغيره (٢) وليست فيئا للمسلمين وان فاطمة (عليه‌السلام) اتت تطلبها بالميراث من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بادئ بدء فمنعها ابو بكر وروى انه قد سمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) (٣) وانه بعد ذلك ترك

__________________

(١) من محاورة جرت بين عائشة وأمّ سلمة وقد تقدم بعضها.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٠ فما بعدها وقد اشبع القول في هذه المسألة تفصيلا من جميع وجوهها.

(٣) صحيح البخاري ٥ / ٨٤ كتاب المغازي باب غروة خيبر ، وصحيح مسلم ٥ / ١٥٣

المذكورات عند علي (عليه‌السلام) ولم يتصدق به وترك الحجرات عند الأزواج ، فكيف تترك تلك وتؤخذ هذه؟ والاعتذار بانه لعله تصدق باثمانها لا يدفع الايراد ولا يجدي نفعا لوجهين.

الأول : انه منع فاطمة الميراث بما زعمه من الرواية على رءوس الأشهاد وكانت فاطمة وعلي (عليه‌السلام) وشيعتهما ينسبونه في ذلك الى الظلم وافتعال الرواية وكل هذا مصحح عند الخصم فكان تركه المتروكات موجبا لصدق اتهامه بالرواية والظلم والتصدق باطنا بالأثمان لا يرفع عنه التهمة ولا يوجب براءة ساحته لأن منعه فاطمة الميراث لروايته امر متعالم معروف فالواجب عليه ان يقابله بما يزيل عنه التهمة ويبرئ ساحته من الطعن عليه بافتراء الرواية بامر مثله معلوم معروف بان يحضر جماعة من الصحابة ويحضر ذوي عدل يقومون تلك الأشياء بقيمة عادلة فيحضر من ماله قدر ذلك فيتصدق به علانية في ذلك المشهد لأن المعلوم لا يرفعه الا معلوم مثله وما نراه فعل شيئا من ذلك ولا نقله عنه من أوليائه ناقل ولو فعله لصنفت فيه الكتب وكثرت فيه الأسانيد وكل هذا لم يكن وهو دليل على انه لم يكن في السر شيء منه وهم لا يدعون له العصمة حتى يقطع على باطنه كما يقطع على ظاهره الثاني انا لو جوزنا تصدقه سرا فمن اين نقول انه تصدق باثمان تلك المتروكات فان كان من ماله فهو باطل لأنه اذ ولى الخلافة واشتغل بها عن التجارة لم يجد نفقة له ولعياله حتى جعل له المسلمون قسمة من بيت المال كل يوم ثلاثة دراهم كما صح عند الخصوم ونقله ابن ابي الحديد عن ابي جعفر الإسكافي (١) فاين له مال يتصدق منه باثمان المتروكات وان كان من بيت المال فذلك غير جائز لأن بيت المال حق للمسلمين فليس له ان يؤدي

__________________

باب قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لا نورث ... الخ).

(١) شرح نهج البلاغة و ١٧ / ٢٢٤.

عن ذمته من مالهم شيئا بغير اذنهم ولم ينقل انه استأذنهم في ذلك فاذنوا له ففعل ثم على تقدير جواز ذلك كله لا ترتفع المخالفة لأن الصدقة في حديثه متعلقة باعيان تلك الأشياء لأنه قال ما تركناه صدقة فالواجب دفع اعيان تلك المتروكات في الصدقة ولا يجزى دفع اثمانها وما هو الا كرجل نذر الصدقة بدينار معين فلا يجزيه التصدق بغيره بلا خلاف وقد ترك تلك الأشياء على حالها بيد من هي تحت يده فثبتت مخالفته لما رواه ثم هنا وجه آخر من المخالفة لا يدفع وذلك ان لفظ حديثه (ما تركناه صدقة) ومن البين ان الصدقة للفقراء والمساكين لا لعامة المسلمين ولا في وجوه الجهاد كالكراع والسلاح لم ينقل احد من مواليه انه كان يقسم غلة فدك في الفقراء والمساكين بل صح عندهم انه يجعله في بيت المال ويصرفه في امر الجهاد كما زعم ففعله مخالف لروايته من هذه الجملة قد بان ان الرواية انما افتعلت افتعالا في ذلك الوقت ليدفع بها قول فاطمة (عليها‌السلام) ويسكتها عن مطالبتها الميراث لئلا تدعى بعد ذلك ميراث الخلافة لابن عمها علي (عليه‌السلام) من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقطع بهذا الخبر المادة التي حذر منها وكان ذا مكنة على امثال هذا فلما اندفعت فاطمة عن مطالبة الميراث ترك ما يلزمه من مضمون روايته

وقد نقل ابن ابي الحديد ان عثمان كذب هذه الرواية اذ جاءته عائشة في ايام خلافته تطلب ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وطعن عليها ولا ادري كيف طلبها ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والرواية انه لا يورث أفيكون للزوجة ميراث ولا ميراث للبنت.

ومن ذلك اسقاطه سهم ذوي القربى من الخمس والأنفال وجعلهم كعامة المسلمين فيه وقد خص الله ورسوله ذوي القربى منهما بسهم لا يشركهم

فيه غيرهم بنص الكتاب العزيز (١).

ومن ذلك درؤه الحد عن خالد بن الوليد اذ قتل مالك بن نويرة وزنى بامرأته وعذره لعمر لما طلب أن يقوده بمالك لأنه مسلم ما هو بأول من تأول واخطأ فاكفف يدك ، وارفع لسانك عنه (٢) الى غير ذلك من الاجتهادات في مقابلة النص ، والعمل بالرأي دون الرواية.

واما ما يختص به عمر فمنه مخالفته لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قال (ائتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي) ولم يكفه المخالفة للأمر دون أن قال انه ليهجر استفهموه حسبنا كتاب الله

__________________

(١) قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ...) الآية ٤١ من سورة الأنفال وقد اجمعت الأمة على ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان يختص بسهم من الخمس ويخص ذي قرباه بسهم آخر منه مدة حياته صلوا الله عليه وآله وسلم فلما ولي ابو بكر (رضي الله عنه) اسقط سهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بموته ، ومنع ذوي القربى من الخمس وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وابناء السبيل منهم (انظر النص والاجتهاد).

(٢) قصة زحف خالد بن الوليد الى البطاح ليلقى مالك بن نويرة وقومه من بني يربوع وقتله مالك بن نويرة وجماعة من قومه مع قولهم : انا مسلمون ، ورفعهم الأذان ، واقامتهم الصلاة بمشهد من المسلمين الذين مع خالد ثم قتلهم بعد استيلائهم على اسلحتهم ومبيت خالد مع زوجة مالك في ليلة مقتله ، وانكار ابي قتادة لهذه الفعلة ومفارقته لخالد بعد ان اقسم ان لا يكون ابدا في لواء عليه خالد وغضب عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لذلك وحنقه عليه حتى عزله يوم تولى الأمر حقيقة ثابتة ليس بوسع احد ان ينكرها ويتستر عليها وبحسبك ان ترجع الى كتاب الغدير ٧ / ١٥٨ ـ ١٦٩ فقد ألم بهذه القضية من كل اطرافها وهب ان مالكا قتل مرتدا ، وزوجته سبية ، وخالد لا يرى ان تعتد بابعد الأجلين. أو ليس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (الا لا توطأ الحبالى حتى يلدن ، ولا غير الحبالى حتى يستبرئن) كما نادى مناديه يوم حنين والى الله ترجع الأمور.

مراغمة لقول الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ثم افترق الحاضرون فمن قائل القول ما قاله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن قائل القول ما قاله عمر ذكر هذه الرواية ابن ابي الحديد مرارا وهي في صحاح كتبهم كالبخاري وغيره على اختلاف في الألفاظ وقد مضى هذا الكلام محقق بيّنا فيه بيانا وافيا وقررنا فيه تقريرا شافيا واذا صدرت من عمر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ظاهرا مع قوته ونفاذ امره كيف يبعد منه مخالفته في نصه على امير المؤمنين وهو انما قال ما قال لأنه فهم ان مقصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الكتاب تجديد النص على علي (عليه‌السلام) واشهاد الحاضرين فلما رأى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الاختلاف من الحاضرين حتى انهم جعلوه ندا له في القول فجعلوهما كالمجتهدين المختلفين يذهب الى قول كل منهما فريق عرف انهم لا يجيبونه اذا نص ولا يعتنون بكتابه اذا كتب ، فقال : (قوموا فاخرجوا عني فانه لا ينبغي عند نبي تنازع) كما هو تمام الخبر وهذا اعجب الأمور واغربها حيث يجعلون قوله : ندّا لقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويترددون في ايهما اصح وايهما الأحق بان يتبع حتى يترجح عند قوم منهم ان الصحة في جانب قول عمر وان قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليس بصحيح وكيف لا يجترئ بعد ذلك على انكار النص على علي (عليه‌السلام) وابطاله لو اورده ومن تراه ينكر عليه اليوم وهم بالأمس صيروه لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ندا وقوله لقوله ضدا بل رجحوا قوله على قول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا طائفة من المؤمنين وقليل ما هم فيا له من عجب عجيب ، لا ينقضي التعجب منه ابدا وهذا يرشدك الى صدق ما ندعيه الامامية من التواطؤ على إنكار النص ، ودفع صاحبه.

ومنه رد عمر قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوم الحديبية حين صالح قريشا فقال على م نعطي الدنية في ديننا وهذا رد على الله وعلى رسوله (صلى

الله عليه وآله) بالرأي وهل ترى يعتقد في نفسه انه اوثق في دين الله من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو صاحب الدعوة ومقيم الملة وشارع الشريعة والمؤتمن على الوحي؟ فان كان يعتقد ذلك فما قولك فيه ، وان كان يظن أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخطأ في الحكم حين صالح قريشا فما ذا تجيب عنه؟ والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا ينطق في الاحكام عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، ولا يتقول على الله تعالى ولا أدري كيف يوجه هذا؟ وكيف يجاب عنه ، ويعتذر منه. وان كان يعلم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو المصيب وانه هو المخطئ فهو الرد على الله وعلى رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وفي أدنى هذه المراتب ثبوت ما ندعيه من مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما ذكره الخصوم عن ابي هريرة في قصة النعلين (٢).

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في وضع الدواوين والتفضيل في القسمة والعطاء

__________________

(١) قد فصل القول في هذه القضية السيد شرف الدين (رحمه‌الله) في النص والاجتهاد ص ١٧٧ ـ ١٩٣ فحري بمن يريد الاطلاع الرجوع إليه.

(٢) قصة النعلين رواها ابو هريرة ومجملها : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قام من بين اصحابه فاستبطئوه وكان اوّل من خرج في طلبه ابو هريرة فوجده في حائط لبني النجار فسأله : ما شأنك؟ فقال : ابطأت عنا فخشينا ان تقطع دوننا وانا اوّل من فزع والناس ورائي ، فقال : (يا أبا هريرة خذ نعلي هاتين فكل من لقيته وراء هذا الحائط يشهد ان لا إله الا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة) فكان اوّل من لقيه عمر (رضي الله عنه) فاخبره بذلك فضرب عمر بصدره حتى أوقعه على استه فرجع الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باكيا ، قيل : وانما فعل عمر ذلك كي لا يتكل الناس عليها ويتركوا العمل وان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال :

(دعهم يعملون) والقصة مفصلة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٢ / ٥٦.

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حكم البلاد المفتوحة عنوة وتفصيل ذلك مذكور في كتب المطاعن وكل ذلك برأيه.

ومنه : مخالفته النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تحريم المتعتين (١) واسقاطه من الآذان حي على خير العمل قال القوشجي صعد يعني عمر المنبر وقال ايها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انا انهى عنهن واحرمهن واعاقب عليهن وهي متعة النساء ومتعة الحج وحي على خير العمل ثم قال واجيب بان ذلك مما لا يوجب قدحا فيه فان مخالفة المجتهد لغيره في المسائل الاجتهادية ليس ببدع (٢).

أقول : هذا الكلام من اقبح القبائح وافضح المفاضح واوهن المغالطات واسمجها وهو مناقض لما رد به النصوص على امير المؤمنين (عليه‌السلام) وهي التي ذكرناها في مناقضته حيث قال : «لو كان في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بامر الدين والدنيا مثل هذه النصوص الجلية لتواتر نقله بين الصحابة ولم يتوقفوا في العمل بموجبه ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الامام وانه كيف يزعم ذو مسكة ان الصحابة مع بذلهم مهجهم وذخائرهم وقتلهم اقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خالفوه قبل ان يدفنوه مع وجود هذه النصوص القطعية الظاهرة الدالة على المراد» (٣) فانه جعل علة الرد لتلك النصوص وانكار ورودها عدم

__________________

(١) قال ابن ابي الحديد بعد ان نقل تحريم المتعتين : «وهذا الكلام وان كان ظاهرة منكرا فله عندنا ـ أي المعتزلة ـ مخرج وتأويل ، وقد ذكره اصحابنا الفقهاء في كتبهم.

(٢) تجد البيان حول هذه المسألة في شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٥٢ والشافي للمرتضى ص ٢٥٦ فما بعدها والنص والاجتهاد لشرف الدين ص ٢٠٠.

(٣) نقل ذلك عن القوشجي السيد شرف الدين في النص والاجتهاد ص ٢٠٠ وشيخنا الأميني في الغدير ٦ / ٢٣٦ وللسيد الأمين في اوائل الجزء الأول من اعيان الشيعة تحقيق مهم في مسألة (حي على خير العمل) في الأذان.

تجويزه على الصحابة مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او استبعاده ذلك منهم وهنا اثبت لعمر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجعل العلة في جوازها الاجتهاد مع ان رأس القوم الذين خالفوا تلك النصوص هو عمر الذي اخبر عن نفسه انه خالف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وحرم ما حلله بقطع وجزم واطاعه من اطاعه من الصحابة فكيف يجوز القوشجي لعمر ومتابعيه مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تحريم المتعتين وحي على خير العمل وإعطاء ازواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأقراض ومنع فاطمة واهل البيت خمسهم والتفضيل في القسمة بالاجتهاد ولا يستبعد ذلك منهم ولا ينكره ويستنكف ويستنكر من مخالفتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نصه على علي (عليه‌السلام) ويمنع من جوازها عليهم بالاجتهاد وما الأمران الا سواء في ان كلا منهما رد لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وابطال لحكمه بل حصوله منهم في هذا اقرب لتعلق الأغراض الدنيوية والشهوات النفسية كحب الرئاسة وبغض علي (عليه‌السلام) وإرادة ان تتسع الخلافة في قريش وغيرها به كما اوضحنا ذلك في مواضع دون الأول اذ لا يتعلق به شيء من هذه الأغراض الا في الخمس ولم يكن تواتر هذه الأحكام عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مانعا لعمر وتابعيه عن المخالفة فيها حتى يكون تواتر النصوص على علي (عليه‌السلام) مانعا لهم من مخالفتها ولم يتوقفوا في موافقة عمر في خلاف النبي في تلك الأشياء حتى يتوقفوا في موافقته يوم السقيفة في مخالفة النص الجلي على علي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فما ادري في اي شيء من القولين يصدق القوشجي أفي تجويزه للصحابة الاجتهاد في ابطال حكم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الأحكام الشرعية أم في استبعاده منهم مخالفة نصه في الامامة مع انها عندهم ليست من الأمور الدينية والمخالفة عندهم فيها سهلة وما ادري على اي

القولين يعتمد والى ايهما يرجع او انه مخلط لا يقف على حد ولا يرجع الى قول معين يقول في كل موضع ما يدفع به خصمه وان خالف مذهبه وعاند قوله الآخر وهذا هو المحقق من سيرته والمعروف من طريقته وهو غاية الوهن وضعف الرأي ونهاية الاعوجاج في الطريقة بل العدل والانصاف ان يحكم باحد الأمرين.

اما ان الصحابة يخالفون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مطلقا بآرائهم فلا يجوز له حينئذ الاستبعاد عليهم رد نصه على امير المؤمنين بالامامة واما ان يمنع من صدور المخالفة منهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مطلقا فيكذب الروايات المشهورة والأخبار المتواترة بمخالفتهم حكم الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما انكر نصوص الامامة والوصيّة ، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) (١) وإلا فهو تحكم لا يشبهه إلّا النسىء الذي كان الكفار من أهل الجاهلية (يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢) او متحد به في الطريق وحسبك به نقصا وخروجا عن سواء السبيل وأيضا اذا كان القوشجي قد جوز لعمر ومن يرى رأيه مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الأحكام بالاجتهاد فما الداعي الى تحمله ما تحمل في انكار مخالفتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نص الامامة ويكفيه ان يقول النص موجود ولكن الصحابة خالفوه بالاجتهاد ومخالفة المجتهد لغيره ليس ببدع كما قال هنا ، وما يرد عليه في هذا يرد عليه في ذاك من دون فرق؟ فانا معاشر الامامية نقلوا ان القوم خالفوا نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الامامة كما خالفوه في غيرها كل ذلك

__________________

(١) البقرة : ٥٨.

(٢) التوبة : ٣٧.

باجتهادهم ، لكن الاجتهاد في مقابلة النص في جميع الأمور غير مقبول ، لكن الأشعري المذكور يقبله منهم في كل الأمور فلتكن الامامة من جملتها فلا حاجة له الى الاعتذار عنهم بانكار النص الواضح وتكلف الدليل عليه وهو يكفيه ان ينسبه الى الاجتهاد كغيره.

ثم اعلم ان صريح كلام القوشجي انه وحزبه جعلوا النبي كواحد من المجتهدين فجوزوا لعمر مخالفته بالاجتهاد فاسقطوا بذلك وجوب اتباع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولزوم طاعته ، فكأنهم نسوا آيات الكتاب الناصة على المنع من مخالفته كقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) وقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) وقوله تعالى : (ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣) والآيات الدالة نصا على ان حكمه هو حكم الله ، وانه معصوم عن الحكم بالنظر والاجتهاد مثل قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٤) وقوله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٥) وقوله تعالى : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) من ربي (٦) وغير ذلك من الآيات الدالة على كفر مخالفه وسلوكه طريق الضلال وانه لا

__________________

(١) الحشر : ٧.

(٢) النور : ٦٣.

(٣) الأحزاب : ٣٦.

(٤) النجم : ٣.

(٥) الحاقة : ٤٥ و ٤٦.

(٦) الأعراف : ١٠٣.

حلال إلا ما حلله ولا حرام الا ما نهى عنه وابطله (١) وليس بعده نبي ولا ينسخ بعده حكم وما ورد من الأخبار في ذلك مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ايها الناس لا نبي بعدي ولا سنة بعد سنتي) والمراد انه لا نسخ لما ثبت حكمه في سنته بعد وفاته ، وخالفوا اجماع المسلمين قاطبة على ذلك حتى جعلوا صاحب الشريعة ومهبط الوحي ونبي الرحمة كعمر وان اجتهاده كقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي هو عين حكم الله ومع ذلك لم يتفطنوا الى ان هذا القول يوجب هدم الشريعة ، وابطال الأحكام النبوية ، لأنه اذا جاز مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاجتهاد في تحريم حلال وتحليل حرام جاز لكل مجتهد مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اثبات فريضة لم يفرضها ، واسقاط فريضة فرضها ، وجاز زيادة ركعة في صلاة ونقص ركعة من اخرى ، وغير ذلك من الأحكام ، اذ لا فرق بين عمر وغيره من المجتهدين في ذلك ولا بين المذكورات وغيرها من الأحكام ، ويتمشى ذلك الى قلع اساس الشريعة المحمدية فاين اذن وجوب الأتباع ولزوم القبول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والاستماع وتحريم التشريع في الدين والابتداع؟ على ان ذلك لو صح لا نجر الى جواز الاجتهاد في ترك العبادات اذ لا فرق بين كل ذلك فيبلغ الأمر الى الكفر فلا لوم بعد ذلك على الكفار الذين اداهم اجتهادهم الى تكذيب النبي المختار فقد جوز القوشجي واصحابه لعمر مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باجتهاده ، واذا جاز ذلك لعمر فلا مانع من جوازه لغيره اذ لا فصل بين الأمرين ولا فارق بين الوجهين ، ومن اعجب العجائب انهم جوزوا الاجتهاد لعمر في مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يجوزوا لأحد الاجتهاد في مخالفة عمر فتراهم ينكرون على من احل المتعة انكارا بليغا يعدل

__________________

(١) يشير الى الحديث : (ما احللت الا ما حل الله ولا حرم الا ما حرم الله) انظر طبقات ابن سعد ٤ / ٧٢ ط القاهرة.

الانكار على من احل الزنا أو يربى عليه حتى قال بعض فقهائهم (١) لأبي جعفر محمد بن علي الباقر منكرا عليه تحليله المتعة اني اعيدك بالله يا أبا جعفر ان تحلل شيئا حرمه عمر ، فاجابه الامام بما اسكته وفي هذا دلالة بينة على ان القوم جعلوا لعمر رتبة زائدة على رتبة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومنزلة تفوق منزلته لتجويزهم مخالفته بالاجتهاد ومنعهم به من مخالفة وذلك من اعظم الفساد واشد الإلحاد ، ومن اعظم الخطوب في الدين المقتضية لمحو شريعة سيد المرسلين ، وكان الواجب على القوشجي واهل مذهبه اذ جوزوا لعمر الاجتهاد في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يجوزوا ذلك لغيره ، ويجوزوا للغير مخالفته لأن مخالفة المجتهد لغيره ليست ببدع كما هو علة تجويزهم ، واما ان يمنعوا من مخالفة النبي مطلقا فيحكموا بفسق من خالفه من الصحابة وغيرهم ، ثم الواجب عليهم أيضا اذا اثبتوا لعمر خلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجوزوه له ألا يمتعظوا من قولنا ان عمر قد خالفه في نص الامامة على علي (عليه‌السلام) لتساوي تلك الأمور ، ثم انظر الى قول القوشجي : ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الامام ، فانك تجده صريحا في ان أبا بكر ليس بمنصوص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فاين دعواه الاجماع على أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد استخلفه؟ واين رواية البخاري ومسلم (ويأبى الله والمؤمنون الا أبا بكر) (٢) وروايته قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

__________________

(١) هو عبد الله بن عمير الليثي ، قال له (عليه‌السلام) : «فانت على قول صاحبك وانا على قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهلم ألا عنك ان الحق ما قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ..» انظر الوسائل ٧ / ٤٢٢ كتاب النكاح ابواب المتعة ، باب اباحتها ، الحديث ٤.

(٢) في صحيح البخاري ٨ / ١٢٦ كتاب الأحكام باب الاستخلاف : (لقد هممت ان ارسل الى ابي بكر وابنه فاعهد ان يقول القائلون او يتمنى المتمنون ، ثم قلت : يأبى

في أبي بكر (وخليفتي في امتي) أليس قد كذب الكل بقوله المذكور ، وما زال هكذا بعض كلامه يكذب بعضا وقد بينا ذلك من اقواله مرارا لبيان تعصبه وعناده ، واعتذر ابن ابي الحديد عن عمر في ذلك وفي قوله ان النبي : يهجر بانه اخرج هذه الكلمات على مقتضى جبلته الخشنة وموجب طبعه الجاسي ، وما هو عليه من الجفاء والغلظة (١) وهذا الاعتذار عنه اثبات لقصوره عن المرتبة التي احلوه فيها لأنّه اذا كان مجبولا على الجفوة والخشونة ومطبوعا على عدم الروية والفطنة كما يقول ـ ابن ابي الحديد ـ لم يجز ان يكون خليفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يبلغ عنه الى الأمة الاوامر والنواهي ويسوس الرعية ويؤدبهم وهو في تلك الحال محتاج الى سائس ومؤدب ، ومفهم ومقوم ، وقد قال ابن ابي الحديد في موضع من كتابه ان الخلافة نبوة مختصرة (٢) والأمر كما

__________________

الله ويدفع المؤمنون).

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٣ و ٢ / ٢٧.

(٢) المصدر السابق ١٨ / ٦٤ قال هذه الجملة في كلمة لطيفة جدا قالها عند شرحه لكلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) واصفا معاوية (بالمستثقل النائم تكذبه احلامه) ننقلها بكاملها إتماما للفائدة ، قال : «فان معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه خليفة يخاطب بإمرة المؤمنين ، ويحارب عليا على الخلافة ، ويقوم في المسلمين مقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما طلب لذلك المنام تأويلا ولا تعبيرا ، ولعده من وساوس الخيال ، واضغاث الأحلام ، وكيف وأنى له ان يخطر ذلك بباله وهو أبعد الخلق منه! وهذا كما يخطر للنفاط ان يكون ملكا ، ولا تنظرن الى نسبه في المناقب بل انظر الى (ان الامامة نبوّة مختصرة) وان الطليق المعدود في المؤلفة قلوبهم ، المكذب بقلبه وإن آمن بلسانه ، الناقص المنزلة عند المسلمين ، القاعد في اخريات الصف اذا دخل الى مجلس فيه اهل السوابق من المهاجرين ، كيف يخطر ببال احد انها تصير فيه ويملكها ، ويسمه الناس وسمها ويكون للمؤمنين اميرا ، ويكون هو الحاكم في رقاب اولئك العظماء من اهل الدين والفضل!! وهذا من اعجب العجب ان يجاهد النبي قوما بسيفه ولسانه ثلاثا وعشرين سنة ، ويبعدهم عنه ، وينزل القرآن بذمهم ولعنهم ، والبراءة منهم ، فلما

قال أفيجوز في العقل والشرع أن يكون في موضع النبوة المختصرة ومن وصفه هذا القائل بتلك الأوصاف القبيحة المنفرة ، لعمرك ان هذا التلاعب في الدين موجب للخسران المبين ، ثم اذا حكم عبد الحميد بان منعه للنبي وقوله ذلك القول فيه كان بموجب ما فيه من الجفاء والجسوة فليحكم عليه بانه خالف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نصه على امير المؤمنين (عليه‌السلام) لذلك ولا يستبعد عليه انكار النص ورده لأن هذا ان لم يكن اسهل من الأول فهما متساويان ، فاذا ثبت صدور احدهما لا يستنكر منه الآخر فما باله يغضب من قول الامامية أنهم سمعوا النص على علي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخالفوه وانكروه وهو ينسب عمر الى اعظم من ذلك فحشا واشد قبحا ، ثم انا قد ذكرنا من كلامه سابقا ما اثبت مخالفة عمر للنصوص بالرأي فما باله يجيز المخالفة هناك ويتكلف الاعتذار هنا! نعوذ بالله من مناواة الحق ومتابعة الهوى وليس الغرض هنا ذكر جميع الأحداث لأن ذلك كله يحتاج ذكره وبيانه الى كتاب مفرد ، وانما الغرض هنا ذكر جملة من ذلك لاثبات ما ندعيه عليهم من ردهم نصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولدفع استبعاد من استبعد عليهم مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) ورد نصه عليه ولنوضح ان خلافهم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في هذا اسوة لباقي مخالفاتهم اياه في غيره ، فلذا نقتصر على ما ذكرناه لحصول الغرض به.

__________________

تمهدت له الدولة وصارت شريعة محكمة مات فشيد دينه الصالحون من اصحابه ، واوسعوا رقعة ملته ، وعظم قدرها في النفوس فتسلمها منهم اولئك الأعداء الذين جاهدهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فملكوها وقتلوا الصلحاء والأبرار واقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته وآلت تلك الحركة الأولى ، وذلك الاجتهاد السابق الى ان كان ثمرته لهم! فليته كان يبعث ليرى معاوية الطليق وابنه ، ومروان وبنيه خلفاء يحكمون على المسلمين».

وأما ما صدر من غيرهما من مخالفات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فنحن نشير الى جملة منه.

فمنهم عثمان فانه رد عمه الحكم بن ابي العاص الى المدينة وقد حرم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه سكناها بعد ما طرده عنها وحمى الحمى لنفسه ولبني ابيه وولي مروان امر الخلافة يفعل ما يشاء وهو فاسق ظالم واحرق المصاحف بالنار ونفى أبا ذر الى الربذة واثر اهل بيته باموال الفيء ومنع خيار الصحابة منها الى غير ذلك من مخالفاته وفعلاته مما يزيد على فعل الرجلين مراتب وتفصيله في كتب المطاعن كنهج الحق لجمال الدين الحلي والشافي للمرتضى علم الهدى وغيرهما من الكتب (١) ولا عذر للقوم عنه في اكثرها الا بالاجتهاد وهو اثبات لدعوانا لا نقض علينا.

ومنهم عائشة انكرت الوصية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى امير المؤمنين (عليه‌السلام) مع انها قد حضرت ذلك (٢) كما قال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين في شعره المتقدم.

وصي رسول الله من دون اهله

وانت على ما كان من ذاك شاهده

ثم لم يكفها ذلك دون ان خرجت عليه تقاتله وتجمع الجموع

__________________

(١) اجمل ابن ابي الحديد تلك المطاعن في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة من ص ١١ ـ ٦٩ وذكر هناك اعتذار القاضي عبد الجبار بن احمد الهمداني عنها في كتابه المغني في الامامة ورد الشريف المرتضى عليه في كتابه الشافي في الامامة.

(٢) جاء في صحيح البخاري ٥ / ١٤٣ في باب مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من كتاب المغازي كما جاء ذلك في صحيح مسلم أيضا ٢ / ١٤ في الباب الوصية واللفظ لمسلم «ذكروا عند عائشة (رضي الله عنها) ان عليا كان وصيا فقالت : متى اوصي إليه كنت مسندته الى صدري ـ أو قالت ـ : حجري فدعا بالطشت فقد انخنث في حجري وما شعرت انه مات فمتى اوصى إليه ـ وفي البخاري ـ : فكيف اوصي لعلي؟

الى حربه وتدعو إلى نكث بيعته مع سماعها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ستقاتلينه يوما وانت ظالمة له وتنبحك في طريقك كلاب الحوأب) ومع روايتها ما روت فيه انه احب الرجال الى رسول الله ، وما ذكرتها أمّ سلمة (رضي الله عنها) مما اعترفت به من اقوال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه وافعاله ، وقد مر هذا كله وسماعها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأزواجه : (ايتكن صاحبة الجمل الأزب تنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتلى كثير كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت) (١) رواه ابن ابي الحديد عن المحدثين وقد صححوه واثبتوه وقد قدمنا في هذا المقام من القول ما يبل الغليل.

ومنهم الزبير يصلت سيفه لقتال ابي بكر يوم بويع له ويقول لا احد احق بالخلافة من علي (٢) (عليه‌السلام) ثم هو بعد ذلك يدعو الى نكث بيعته ويؤلب الناس على حربه وما ابعد ما بين الأمرين وقد سمع قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) : (ستقاتله يوما وانت له ظالم) (٣) كل ذلك لأغراض الدنيا واتباع الهوى.

ومنهم سعد بن ابي وقاص فانه رد حكم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ قسم غنائم بدر فساوى بين الناس فقال : أتعطي فارس القوم الذي يحميهم كما تعطي الضعيف فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو غضبان : (ثكلتك امك انما تنصرون بضعفائكم) ثم هو يوم الشورى يطعن على علي (عليه‌السلام) بالحرص على الخلافة مع روايته فيه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٥٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩١ عن الاستيعاب.

(٣) انظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٣٣ و ٦ / ٤٨ ومستدرك الحاكم ٣ / ٣٦٦.

نبي بعدي) ولذا تعجب منه ابن ابي الحديد (١) ولعمري انه تعجب من غير عجب فان ديدن القوم مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما يشتهون لكن تعجبه بمقتضى ما يدعيه فيهم من الديانة.

ومنهم طلحة وخبره مشهور ورده على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مذكور لما نزلت آية الحجاب ولقد قال له عمر بن الخطاب بعد ما ادخله في الشورى : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مات وهو ساخط عليك للكلمة التي قلتها لما نزلت آية الحجاب (٢)

اقول وهذا القول من عمر قد صدر بعد قوله : ان رسول الله مات وهو راض عن الستة جميعا ، وهذا مثل قوله يوم السقيفة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الأئمة من قريش) ثم هو لما طعن تحسر على سالم مولى ابي حذيفة لينصبه إماما وليس هو بقرشي فما ندري في أي رواية نصدق عمر من رواياته وفي اي قول من اقواله يصيب او انه يقول في كل وقت ما يقتضيه ويروى في كل حال ما يناسبه وهذا معلوم من سيرته.

ومنهم : سعد بن عبادة فانه قد سمع حديث الولاية لعلي (عليه‌السلام) من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخالفه وكتمه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ..

(٢) قال ابو عثمان الجاحظ في رسالته السفيانية : «الكلمة المذكورة ان طلحة لما نزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما الذي يعنيه من حجابهن اليوم وسيموت غدا فننكحهن»

ثم قال الجاحظ : «لو قال لعمر قائل انت قلت : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مات وهو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة : انه (عليه‌السلام) مات ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه ولكن من الذي يجسر على عمر ان يقول له ما دون هذا فكيف هذا؟» وانظر شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٦.

لطلب الرئاسة فلما فاته ما رجاه ذكره وصرح به فقال له ابنه قيس ما قال وقد مضى ذكر خبره

ومنهم انس بن مالك فان امير المؤمنين (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين استنشد الناس في الرحبة ايهم سمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول يوم غدير خم من كنت مولاه فعلي مولاه فليشهد فشهد من شهد ولم يشهد انس فقال له امير المؤمنين (عليه‌السلام) انك قد حضرتها يا انس فقم واشهد فتعلل بالنسيان لكبر سنه ونكل عن الشهادة وليس بناس فقال له امير المؤمنين ان كنت كاذبا فرماك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة فاصابه الوضح فسئل عن سببه بعد فقال ذاك دعوة العبد الصالح علي بن أبي طالب ، ثم ذكر للسائل الحديث واعتذاره عن ترك الشهادة بالنسيان ، وانه غير ناس وسئل مرة عن علي (عليه‌السلام) فقال : اني ليت الا اكتم شيئا سمعته من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه بعد يوم الرحبة ، ذاك رأس المتقين ، سمعته من نبيكم (١) أفليس هذا صريحا في انه قبل أن اصابه الوضح بدعاء علي (عليه‌السلام) كان يكتم ما سمعه من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ، وان نص الغدير من جملة المكتوم ، وهل اوقع الناس في الفتنة وصيرهم في الحيرة الا كتمان قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) قبل يوم الرحبة واخفاء نصه عليه قبل ذلك حتى كان ذكره ، بعد ذلك غير مجد في رفع الحيرة عن العامة ، والتصريح به غير مزيل للفتنة لما الفه الناس من الشبهة.

ومنهم ابو هريرة : كان يروى قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان يروى قول النبي في علي (عليه‌السلام) : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٤ و ١٩ / ٢١٧ وذكر ذلك ابن قتيبة في المعارف ص ٥٨٠.

وهو مع ذلك مجمع على حربه وقتاله مع معاوية ، ولم يكفه ذلك دون ان روى الأحاديث المفتعلة في ذمه وتوصل الى لعنه (١) ودع عنك مثل خالد بن الوليد ومعاوية بن ابي سفيان وعمرو بن العاص وامثالهم من الجبابرة وتابعيهم من المبغضين لعلي (عليه‌السلام) كأبي موسى الأشعري والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير في اضرابهم وأشباههم.

واما ما نسب من مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى جماعة من الصحابة معينين أو غير معينين.

فمنه مخالفة قوم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخروج الى احد وقد اختار (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يقيم بالمدينة ثم مخالفة الرماة الذين اقامهم على الثنية وامرهم الا يبرحوا عن مكانهم ، واخبرهم انا لا نزال بخير ما دمتم في موضعكم ، فردوا نصه بالرأي وانصرفوا من مركزهم وبه جرى على المسلمين ما جرى ، وجرح النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جروحا كثيرة ، وعانى مشقة شديدة (٢).

ومنه انكار جملة من الأنصار على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعله في قسمة غنائم هوازن حتى بلغه ذلك منهم فامر سعد بن عبادة ان يجمعهم له في موضع فقام فيهم خطيبا وانبهم على ذلك ولا مهم وابان لهم حسن ما فعله (٣).

ومنه مخالفة قوم للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين قال في مرضه (هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي) فلم يقربوا إليه الدواة والبياض

__________________

(١) نقله ابن ابي الحديد في شرح النهج ٤ / ٦٨ و ٦٩.

(٢) انظر سيرة ابن هشام ٤ / ٦٤.

(٣) سيرة ابن هشام ٤ / ١٠٥.

ليكتب لهم ذلك الكتاب وقالوا مع العصيان القول ما قاله عمر حيث نسب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى الهجر.

ومنه ما قال قوم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غل لما افتقدوا قطيفة من غنيمة بدر فانزل الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) (١) الآية.

ومنه قول قوم منهم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذن يعيبونه بذلك يعني يصدق كل من اخبره بشيء فانزل الله تعالى : (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) (٢) الآية.

ومنهم الذين قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد اسلامهم وهموا بما لم ينالوا ارادوا قتل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في العقبة عند منصرفة من تبوك ودحرجوا الدباب لناقته لتنفر به وكان معه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما احدهما يسوق الناقة والآخر يقودها وكانوا اثني عشر رجلا ثمانية من قريش وأربعة من العرب (٣).

ومنهم اللامزون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «في الصدقات فان اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذاهم يسخطون) (٤) الى غير ذلك من مخالفاتهم لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مما صرح به القرآن الكريم ، وجاءت به الأخبار ، واحتوت عليه كتب السير والمغازي والتواريخ والتفاسير ، وفرارهم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واسلامهم اياه الى الأعداء مشهور في كثير من المشاهد قد بين في القرآن منها ما بين ،

__________________

(١) آل عمران : ١٦١ وانظر تفسير الرازي ٩ / ٧٠.

(٢) التوبة : ٦١ وانظر تفسير الرازي ١٦ / ١١٥.

(٣) التوبة ٧٤ وانظر تفسير الرازي ١٦ / ١٣٦ ومجمع البيان ٥ / ١٦.

(٤) التوبة : ٥٨.

واوضح منها ما اوضح ، ولو لا ان شرحه يطول لشرحناه وذكرنا جميع ذلك من خلافهم.

ومنهم من طعن على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تأميره زيد بن حارثة ثم طعنهم عليه بعد ذلك في تأميره اسامة بن زيد حتى قام خطيبا ولامهم وردعهم ، ودع عنك البانين (مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١) والفرحين بمقعدهم خلاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) والقائلين لا تنفروا في الحر) (٣) ومن قال : اعدل يا محمد فانك لم تعدل ، ومن قال يخاطب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رادا عليه فعله.

أتجعل نهبي ونهب العبيد

بين عيينة والأقرع

فما كان بدر ولا حابس

يفوقان مرداس في مجمع

ولست بدون امرئ منهما

ومن تخفض اليوم لا يرفع

وهو العباس بن مرداس السلمي (٤) وغير ذلك مما يطول تعداده فما ظنك بشرحه وكله مشروح في كتب الخصوم وقد ذكرنا من قبل رد الصحابة على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انتجاءه عليا يوم الطائف دونهم وقولهم السيئ فيه اذ ترك باب علي (عليه‌السلام) شارعا الى المسجد حين سد ابوابهم حتى اخبرهم انما فعله عن الله لا عن نفسه وبالجملة ان تهمتهم للنبي

__________________

(١) التوبة : ١٠٧.

(٢) التوبة : ٨١.

(٣) التوبة : ٨١.

(٤) وذلك لما اعطى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا سفيان بن حرب وصفوان بن امية وعينيه بن حصن والأقرع بن حابس كل انسان منهم مائة من الابل ، واعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال الأبيات المذكورة فاتم له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مائة ، انظر صحيح مسلم ٣ / ١٠٨ كتاب الزكاة باب اعطاء المؤلفة قلوبهم.

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومخالفتهم اياه كثيرة لا تحصى وكل ذلك بآرائهم وما ادتهم إليه انظارهم فكيف يستبعد من هؤلاء انكار النص على امير المؤمنين وهذه حالهم وهي كاشفة عن بذلهم الجهد وتحملهم المشاق في اخفاء فضائل امير المؤمنين وستر مناقبه وطلب التدليس فيها وتلبيسها على الناس بإلقاء الشبه عليها وقصدهم الى توهينها وتهجينها خصوصا الصدر الأول وقد اعترف بذلك ابن ابي الحديد في صريح كلامه فانه لما نقل حديث ذو الكلاع الحميري حين سأل أبا نوح الحميري في صفين عن عمار بن ياسر أهو مع اصحاب علي (عليه‌السلام) وقال له : ان عمرو بن العاص حدثنا انه سمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (يلتقي اهل الشام واهل العراق وفي احدى الكتيبتين الحق وامام الهدى ومعه عمار بن ياسر) فقال له ابو نوح : نعم انه لفينا ، قال قلت : وا عجباه من قوم يعتريهم الشك في امرهم لمكان عمار ولا يعتريهم الشك لمكان علي (عليه‌السلام) ويستدلون على ان الحق مع اهل العراق لكون عمار بين اظهرهم ولا يعبئون بمكان علي (عليه‌السلام) ويحذرون من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (تقتلك الفئة الباغية) ويرتاعون لذلك ولا يرتاعون لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه) ولا لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لا يحبك الا مؤمن ولا يبغضك الا منافق) وهذا يدلك على ان عليا (عليه‌السلام) اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في إخمال ذكره وستر فضائله وتغطية خصائصه حتى محى فضله ومرتبته من صدور الناس الا قليلا انتهى كلامه (١) وهو صريح في ان ائمته وتابعيهم من قريش كلها اجتهدوا في ستر فضائل امير المؤمنين (عليه‌السلام) واخفاء مناقبه ، ولعمري ان النص بالامامة عليه من جملة ذلك. ، وان الذي دعاهم الى ستر مناقبه وخصائصه هو

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٨ / ١٧.

بنفسه الداعي لهم الى ستر النص عليه وتغطيته لما ذكره في كلامه وهو انمحاء فضل علي (عليه‌السلام) ومرتبته من صدور الناس حتى لا يقول قائل ـ ظلموه اذ تقدموا عليه او قدموا غيره ، وهذا فضله وهذه مناقبه ، وهذا النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، فما بال ابن ابي الحديد يثبت على القوم ستر ما لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) من المناقب وبذل الجهد في تغطية ما له من الخصائص ويأبى عن نسبة انكار النص عليه بالامامة إليهم وإخفائه مع ان العلة في كتمان النص اقوى ، والداعي الى ستره اشدّ ، والمقتضى للتغطية عليه في امرهم اتم فنسبته اخفاء النص إليهم على ابن ابي الحديد من ذاك الزم لكنه يقتدي في العناد بأئمته وفي ستر الحق بسادته كما هو الجاري في طبيعته ولما بيناه من فعل القوم بفضائل امير المؤمنين (عليه‌السلام) لو لا شيوعها وانتشارها ، وكثرتها واشتهارها ، وعناية الله بصاحبها لانطمست أعلامها ، وعفت آثارها ، وذهبت نضارتها ، وخبت نارها لكنها بحمد الله لم تزدد على الاخفاء الا ظهورا ، وعلى الستر الا بروزا ، وعلى التهجين الا علوا ، وعلى التغطية الا بهجة وسفورا ، وعلى الأخماد الا توقدا ونورا ، فجاء الأمر على خلاف ما حاولوا ، واقتضت الحال عكس ما راموا ، فلما أعجزهم اعفاء رسوم تلك الفضائل ، واعياهم اطفاء انوار تلك المناقب ، قصدوا الى عيب المخصوص بها ونقصه ، ونسبته الى ما يشينه بما زوروه وافتعلوه من تلقاء انفسهم ، فمرة رموه بالدعابة ، ومرة بالتيه ، وتارة بالزهو ، واخرى بالتكبر ، وغير ذلك من انواع النقص مما صرحت العبر ببراءة ساحته منه ، ولم يزده في قلوب اهل الايمان الا جلالة قدر ، ورفعة شأن ، وكل ما ذكرناه عن القوم واضعافه مروي في كتاب خصمنا وكتب اصحابه ومشبهيه مما لو لا طول المقام بذكره والخروج عن المرام بسطره لرسمناه وشرحناه ، ومن اراده مبينا فليطلبه من الكتاب المشار إليه (١) وهذا الذي قالوه

__________________

(١) يعني شرح النهج.

اذا تأمله الفطن الأريب وجده خارجا من مكنون بغض عظيم ، وبارزا من مخزون حقد جسيم ، وعلم انه ناش من لهب نار حسد قديم ، ومتولد من أصل وجد مقيم فكان الأمر كما قال ابو تمام حبيب بن اوس الطائي.

واذا اراد الله نشر فضيلة

يوما اتاح لها لسان حسود (١)

وقد صح من هذه الجملة ان القوم ما كانوا يتقيدون بنصوص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما يخالف اغراضهم ، ولا يعتنون بها فيما يضاد مطالبهم ، ولا يقدمون من قدمه ويؤخرون من آخره ولا يفضلون من فضله ، ويسودون من سوده ، بل يقدمون من احبوا تقديمه ويفضلون من شاءوا تفضيله ، ويؤخرون من احبوا تأخيره ويذمون من مدحه الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كل ذلك برأي منهم ، وميل من نفوسهم ، لا بدليل شرعي ، ولا بحكم إلهي والسبب في ذلك انهم كانوا يؤثرون اتباع اهوائهم على أوامر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ونواهيه ، ويقدمون طاعة شهواتهم على طاعته وترك معاصيه ، ويجعلون قضاء اوطارهم اولى من استماع دعوته واجابة مناديه ، خصوصا في عترته وذوي قرابته ومواليه ، فاندفع الايراد ، وثبت المراد ، وهذا كله يرشد المتأمل الى الحكم بصحة ما قيل : إن في القوم من لم يدخلوا في دين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دخول ايمان ويقين ، ولم يتبعوه لطلب مرضاة الله ، وانما كان ذلك لأغراض دنيوية ، ومقاصد نفسية ، ولذا تراهم لا يلتفتون من اقواله الى ما لا يوافق آراءهم ، ولا يطابق مشتهاهم ، بل يجعلون أمره كأمر واحد منهم فيرتكبون خلافه بغير تجرح ولا تأثم ، وقد افصح بذلك القرآن الكريم والفرقان العظيم حيث يقول تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً

__________________

(١) ديوانه ١ / ٤٢.

قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) (١) الآية وقوله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) فقد روى صحيحا انها نزلت في رجل من الصحابة لأمر جرى بينه وبين عمار بن ياسر في بناء مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهي قصة معروفة (٣) الى غير واحدة من الآيات الواضحات في هذا المعنى ، وهذا ينادي بانهم لو لا ما رأوا في الاسلام من العزة والسلطان وانقياد الناس لهم واتساق الأمور لرفضوه ، واتبعوا دين آبائهم وطريقة اسلافهم ، لكنهم رأوا في اظهار هذه الدعوة والتمسك بهذه الملة عظيم الملك والمنعة وشديد القوة والغلبة ، ومسارعة الناس لهم بالطاعة ، وانفاذ الأوامر والنواهي ، وانضم الى ذلك انفتاح ممالك القياصرة والأكاسرة والفراعنة والأتراك وغيرهم عليهم وتملكهم تلك الممالك العظام ، فنالوا بذلك من الرفعة والرئاسة ما لم ينله ملك قاهر ، ولم يدركه سلطان ظاهر ، وعلموا ان في رفضهم هذا الدين ورجوعهم الى دين آبائهم الماضين زوال هذه الرئاسة الجليلة ، وفوات هذه المنزلة النبيلة ، وصيرورتهم اذلاء اذنابا تابعين غير متبوعين ، كما كانوا عليه في زمان الجاهلية ، فلذا داموا على اظهار الدعوة وتمسكوا ظاهرا بعرى الملة ، وواظبوا على الاتيان من وظائف الاسلام بما يزيد الناس فيهم وثوقا ولا يخالف لهم مما ارادوه غرضا كالصلاة والصيام والحج وترك المستلذات من المأكل والمشارب والملابس كما قيل :

لئن صبرت عن لذة العيش انفس

فما صبرت عن لذة النهي والأمر

وحثوا منها على ما يشدد لهم الأبهة ويقرر لهم قاعدة الامارة كالجهاد

__________________

(١) النور ٦٣.

(٢) الحجرات : ١٧.

(٣) انظر سفينة البحار ٢ / ٢٧٥ مادة (ع م ر).

واقامة الحدود بمقتضى مرادهم ، وجباية الأموال وايثار من ميله إليهم يقوى امره ويشدده بها ، والقلوب على ما انطوت عليه من اراده الدنيا ، وطلب العاجلة ، وعدم الالتفات الى العقبى وثواب الآجلة ، فانتشر صيت الاسلام وكثر الداخلون فيه ، ورغبوا في التدين به ، وضرب بجرانه وشدت قواعد اركانه ، ولو لا ذلك كله لأعفوا رسومه وطمسوا معالمه ، وكان ذلك لانجاز ما وعد الله رسوله ان يظهر دينه ويفلج حجته وتصديق ما قاله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما رواه الخصم وغيره (ان الله يؤيد هذا الدين باقوام لا خلاق لهم في الآخرة) أو قال : (عند الله يوم القيامة) وفي رواية (بالرجل الفاجر) (١) ومع ذلك فقد غيروا من احكام الشريعة ما قدروا على تغييره وفعلوا ما اوجبه اختلاف الأمة الى آخر الدهر وهو ازاحتهم وصى الرسول عن مقعده وبالله المستعان.

فان قال قائل : فلم لم يضرب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اعناقهم لما ردوا عليه حكمه وقوله لأن رد قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كفر ، واذا لم يكن ذلك صادر الزم اما انهم لم يخالفوه أو أن مخالفته بالرأي جائزة اذ لا مانع له في سلطانه من قتل من خالفه.

قلنا : هذه الشبهة هي التي جرأت القوم على خلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته ، وجسرتهم على رد نصوصه ، حتى انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر في حجة الوداع من لم يسق هديا بالاحلال وان يجعلها عمرة يتمتع بها الى الحج وحث على ذلك غاية الحث وقال : (لو استقبلت من امري ما استبدرت ما سقت هديا) فعصاه كثير منهم ولم يحلوا وقالوا

__________________

(١) يعني بالخصم ابن أبي الحديد وقد روى هذه الرواية في شرح نهج البلاغة ٢ / ٣٠٩ هكذا :

(ان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) وهي مروية في صحيح البخاري ٥ / ٧٥.

نخرج الى الحج تقطر مذاكيرنا من المنى كما في صحيح مسلم (١) وهذا عصيان واستهزاء ولم يكونوا ساقوا هديا وسافر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في شهر رمضان فافطر ولم يفطر جماعة ممن معه من الصحابة فقال : (اولئك العصاة) يكررها ثلاثا رواه مسلم في صحيحه أيضا (١) وكثير من ذلك وكما جرأت اولئك على خلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اوهمت اولياءهم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سوغهم ذلك حيث لم يعاقبهم على ردهم قوله وحكمه بما يقتضي ردعهم ، وهذه شبهة ضعيفة جوابها في كتاب الله تعالى وهو قوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ) (٢) الآية فان الله سبحانه وتعالى امره بالكف عنهم والعفو والصفح عن زلاتهم لئلا يتفرقوا عنه ويخذلوه فلا يبقى معه الا القليل : كما امره الله تعالى بالكف عن المنافقين ودعائهم الى حرب المشركين وإعطائهم من الغنائم يؤلفهم بها ويستميلهم بذلك الى قتال العدو لتظهر كلمة الاسلام وتنتشر دعوته في الآفاق مع علمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنفاق المنافقين ، وشك المؤلفة قلوبهم فأجرى اولئك مجرى هؤلاء على انهم لم يظهروا جحود ربوبية الله ووحدانيته ، ولا انكار نبوة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما كانت مخالفتهم في امور اخر من الأحكام وكان يردعهم على مخالفتهم اياه باخشن الكلام كما قال لهم يوم الحديبية اذ قال عمر فلم نعطي الدنية في ديننا؟ : (ألستم اصحابي يوم احد اذ تصعدون

__________________

(١) صحيح مسلم ٤ / ٣٨ كتاب الحج باب وجوب الاحرام وصحيح البخاري ٨ / ١٦٢ كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب نهي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على التحريم الا ما تعرف اباحته.

(٢) صحيح مسلم ٣ / ١٤٢ كتاب الصوم وفيه (اولئك العصاة) مرتين لا ثلاثا كما في المتن.

ولا تلوون على احد ، ألستم اصحابي يوم كذا؟) يقرعهم بذلك ويبكتهم (١) واظهاره الغضب حين اراد ان يكتب الكتاب في رزية يوم الخميس فقال من قال : انه ليهجر وقوله : (قوموا عني فانه لا ينبغي عند نبي تنازع) (٢) وقوله لسعد بن ابي وقاص : (ثكلتك امك انما تنصرون بضعفائكم) وهكذا كان يردعهم بالكلام الغليظ ويعفو عما زاد عليه ، والسر في ذلك الا يتوهم الناس انه ملك جبار لا نبي حليم متواضع ، ولو كان نبيا لما قتل قوما دعاهم الى دينه فاجابوه وانتصر بهم على عدوه بمجرد زلة أو خطيئة او مخالفة له في حكم ، وهذا ليس من خلق الأنبياء بل من خلق الأنبياء التأني وغفران الزلة وتوضيح الحكم عند المخالفة ، وليس من خلقهم قتل اصحابهم في مثل ذلك ، فان موسى قال له قومه : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) وهذا الكلام فيه تشاؤم من موسى (عليه‌السلام) وتضجر فأجابهم بما قصه الله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) (٣) الآية وقالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) (٤) حين مروا بعد خروجهم من البحر بقوم يعبدون شجرة ، فاجابهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) وهذه من اعظم الجرائم لانهم ارادوا منه ان يصيرهم مشركين وقالوا له : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٥) بعد امتناعهم عن دخول الأرض المقدسة ، وقولهم : (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها) (٥) وغير ذلك ومع هذه المخالفات العظيمة من بني اسرائيل لموسى (عليه‌السلام) مما قصه الله في القرآن لم

__________________

(١) انفه عمر (رضي الله عنه) من الصلح رواها عامة المحدثين وارباب السير نذكر منهم البخاري في صحيحه ٢ / ٨١ ومسلم ٥ / ١٧٥ كتاب الجهاد والسير النص والاجتهاد ص ١٧٠

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) الأعراف : ١٢٩.

(٤) الأعراب : ١٣٨.

(٥) المائدة : ٢٤.

يقتل موسى منهم احدا ولا دعا عليه بالهلاك ، وحال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الرأفة والحلم أعظم من موسى ، ألا تراه في احد حين اصابه الجراح والمشقة جعل يقول : (اللهم اهد قومي فانهم لا يعلمون) (١) وجعل الدعاء لهم محل الدعاء عليهم ، فكيف يقتل قوما مقرين بدينه بصدور مخالفة منهم في قول او فعل ، وانما يكون القتل والتأديب بارتكاب ما يوجب الحدود ، فكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يعمل معهم كعمل الأنبياء مع اصحابهم وذلك من اوضح الأدلة على نبوته ، فكان يعفو ويصفح عن قتل من خالفه ، وان كان يجوز قتله لدفع توهم الناس انه ليس بنبي ، ولو كان كذلك لسار في اصحابه سيرة الأنبياء في اصحابهم فتركه اياهم وصفحه عنهم من جملة ما يثبت نبوته عند الناس ، وقد عفى عن اهل مكة وكانوا مستحقين للقتل وقال : (اذهبوا فانتم الطلقاء) (٢) وكم عفى عن مستحق للقتل لكنه مع ذلك كله يردعهم باللسان واظهار الغضب على الجراءة والمخالفة ، فلو كان خلافهم له جائزا لم يردعهم لكنه جمع بين الأمرين فزالت الشبهة بعون الله ، وكيف يجوز رد أمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والله تعالى يقول : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ويقول : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣) وغيرها من الآيات الواضحات في عدم جواز مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والقرآن مملوء بها.

__________________

(١) رواه اكثر علماء السّير.

(٢) سيرة ابن هشام ٤ / ٤٠.

(٣) الحجرات : ٢.

واما الدعوى الثانية : اعني ان هناك نصا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) وقد خالفه القوم فلنا عليها وجوه من الأدلة.

الأول : دلالة الأخبار الصحاح عند الخصم على المدعي.

فمنها : قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) (ان الأمة ستغدر بك من بعدي) فقد رواه ابن ابي الحديد عن اكثر المحدثين ورواه غيره أيضا (١) ، وهذا الحديث نص صريح في ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد إليهم في علي (عليه‌السلام) عهدا وانهم نقضوا عهده فيه ، لأنه لا يخفى على من له ادنى معرفة باساليب كلام العرب فضلا عن فاضل مدقق ان لفظ الغدر لا يستعمل الا في نقض عهد متقدم ، وقد صرح بذلك الشهاب الفيومي في المصباح المنير وغيره من اهل اللغة ، فلا يقال : غدر فلان الا اذا نقض عهدا معهودا ، وابطل عقدا معقودا يلزمه الوفاء به ، كما أن الوفاء الذي هو ضد الغدر معناه البقاء على مقتضى العهد المتقدم ، والاستمرار على موجب العقد السابق ، فاذن ثبت من هذا القول ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد الى اصحابه عهدا فنقضوه بعد وفاته ، ولا عهد نقض في ذلك غير العهد بالخلافة ، اذ لم يأخذ الصحابة من على غيرها ، ولم يناقضوه في سواها فصح انه منصوص عليه وان القوم خالفوا النص بتعمد فكانوا غادرين وهو عين مدعانا ، ولا يجوز ان يحمل ذلك على ما وقع في ايام خلافة علي (عليه‌السلام) خاصة لوجوه ثلاثة.

الأول : ان الغدر منسوب الى الأمة ، والأمة في ذلك الوقت على الحقيقة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٧ و ٦ / ٤٥ وقد رواه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٠ و ١٤٢ والخطيب في تاريخ بغداد ١١ / ٢١٦ والمتقي في كنز العمال ٦ / ٧٣ وقال : «اخرجه ابن ابي شيبة والحارث والبزاز والحاكم والعقيلي والبيهقي».

هم الصحابة ومن سواهم تبع لهم ، فالغدر لا محالة صادر عنهم وواقع منهم اذ لا مخالفة من غيرهم من جميع الناس الا بسببهم ودعائهم ، او دعاء احد منهم الى المخالفة كما هو معلوم عند اولى العقل والفطنة ، فوجب ان يكونوا هم المعينين بالغدر ورؤساء الجمل وصفين من جملتهم ، اللهم الا ان يتمحل متمحل فيقول ان الصدر الأول من الصحابة ليسوا من الأمة فحينئذ يقال له فهم اذن غير مسلمين لأن امة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من اقر بالشهادتين واذا لم يكونوا من الأمة كانوا من الكفار.

الثاني : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (بعدي) فجعل ما بعده من الزمان الذي اوله وقت وفاته ظرفا لغدرهم فيعم جميع الأوقات ، والتخصيص بوقت يتوقف على المخصص ولا مخصص في المقام الا رأى الخصم وليس الرأي بمقبول.

الثالث : انا انما نتكلم على معنى الحديث وهو مفيد لثبوت العهد من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي (عليه‌السلام) إليهم لثبوت الغدر منهم ، وحيث ثبت الغدر ثبت لتوقفه عليه وذلك هو النص بالامامة ومن ادعى غيره فعليه البيان فتثبت الامامة له في جميع الأوقات فمن زحزحه عنها او حال بينه وبينهما فهو غادر وقد وضح الأمر الا ان يكذب ابن ابي الحديد واصحابه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيكفروا ، وليس ذلك بكثير عليهم في محبة ائمتهم.

ومنها ما رواه ابن أبي الحديد عن يونس بن حبيب (١) عن انس بن مالك قال : كنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) معنا فمرّ بحديقة فقال علي يا رسول الله ألا ترى ما

__________________

(١) في شرح النهج «خباب».

احسن هذه الحديقة؟ فقال : (ان حديقتك في الجنة احسن منها) حتى مررنا بسبع حدائق يقول على ما قاله ويجيبه رسول الله بما اجابه ، ثم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقف فوقفنا فوضع رأسه على رأس علي فبكى فقال علي (عليه‌السلام) : ما يبكيك يا رسول الله؟ قال : (ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حين يفقدوني) فقال : يا رسول الله أفلا اضع سيفي على عاتقي فابيد خضراءهم؟ قال : (بل تصبر) قال : فان صبرت؟ قال : (تلاقي جهدا) قال : أفي سلامة من ديني؟ قال : (نعم) قال اذن لا أبالي (١) وهذا الحديث نص في ان القوم كانت في صدور بعضهم ضغائن على علي (عليه‌السلام) اخفوها في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانهم يبدونها له بعد فقدهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وليس ما ابدوه بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا منعه من الخلافة وجحدهم النص عليه واخراجهم اياه ملببا ليدخل في بيعتهم ، فبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان ذلك من فعلهم وقع لحقد وضغن في قلوبهم على علي (عليه‌السلام) ، فحينئذ ان كانوا علموا انه الأحق بمقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من جهة نصه عليه فهو ما نقول من انهم لم يتقدموا على علي (عليه‌السلام) لجهل منهم باستحقاقه التقدم ، ولا لعدم اطلاع على النص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانما فعلوا ذلك حسدا له وبغضا وهو المطلوب وان كانوا لم يعلموا بشيء من ذلك ولا وقع شيء منه وانهم علموا ان الأمر بين المهاجرين شرع فلا يجوز نسبة الضغن إليهم ورميهم بكتمان الحقد ، وملاقاة امير المؤمنين الجهد في صبره على فعلهم ، لكن ذلك كله ثابت لهم باخبار الصادق الأمين فوجب ان يكونوا جاحدين النص ولا يجوز ان يحمل الخبر على ما كان من اصحاب

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٧.

الجمل وصفين والنهروان لأن عليا (عليه‌السلام) اذ ذاك لم يوص بالصبر ولم يصبر ، بل امر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين بصريح النصوص ، ومنها ما سبق ذكره فوضع السيف في نحورهم ، وترك للسيدان لحومهم وجرعهم كئوس المنية بحدود المشرفية ، وانما امر بالصبر وصبر في تغلب الثلاثة على الأمر فهم المعينون بالضغن بلا مرية.

ومنها ما رواه عن ابي جعفر الإسكافي ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دخل على فاطمة فوجد عليا نائما فذهبت تنبهه فقال : (دعيه فرب سهر له بعدي طويل ورب جفوة لأهل بيتي من اجله شديدة) فبكت فقال : (لا تبكي فانكما معي وفي موقف الكرامة عندي) (١) والتقرير قريب مما مر ولقد صح ما اخبر به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من حصول الجفوة لأهل البيت في تأمر الثلاثة فانهم لم يدعوا طليقا كيزيد بن أبي سفيان ومعاوية وابن ابي سرح ، ولا متهما ولا ظنينا كالوليد بن عقبة وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم واشباه هؤلاء واضرابهم ، ولا متهتكا في دينه معروفا بالهزل في الاسلام كأبي هريرة والمغيرة بن شعبة وامثالهما الا ولوه ولاية ونال من جهتهم إمارة جيش او بلد وجباية ، ولم يولوا احدا من بني هاشم شيئا من ذلك بل ما زالوا يبعدونهم ، ويقصونهم ليكونوا محقورين ويهون أمرهم على الناس ، ويكونوا في زاوية الخمول فيصيروا منسيين غير مذكورين ، ومخفيين غير مشهورين ، كل ذلك ليخفى فضل علي (عليه‌السلام) لأن اهل البيت لو ظهروا لأظهروا فضله ، ونشروا مناقبه ، فمالت الناس إليه ، ورغب اهل الدين فيه ، فانعكس على القوم ما ارادوا واختل عليهم ما دبروا فلذا جفوهم واقصوهم فكان ذلك من اجله ، وهذا يرشدك الى بطلان ما اعتذر به ابن ابي الحديد وغيره تبعا لاسلافهم فقالوا : ان عليا

__________________

(١) نفس المصدر ٤ / ١٠٧.

(عليه‌السلام) لو ولى الخلافة لانتقضت عليه العرب واختل امر الملة ، فان العرب لم يكونوا ليجترءوا على خلافه اذا كان المهاجرون والأنصار في طاعته مع ما تمكن في قلوب الناس من هيبته واشتهر فيما بين العرب من شجاعته وبراعته وكيف تنقاد العرب لمن تقدم عليه وهم دونه في الحسب والنسب بسبب طاعة الصحابة لهم ولا تنقاد لعلي (عليه‌السلام) لذلك مع جلالة قدره وعظيم منزلته ، وشدة موقعه من قلوب الناس ، وعلو شأنه بشرف النسب وكرم الحسب ، وكونه من لب بيت السيادة ومخ بيضة الرئاسة من آباؤه اولياء حرم الله ، والذين هم اصحاب وقادة حجاج بيت الله ، واهل السقاية والكرم ، واطعام الطعام ، واهل الرحلتين واهل الحكومة بين العرب قال الوليد الطائي في صفين.

شدّوا فداء لكم أمي وابي

فانما الأمر غدا لمن غلب

هذا ابن عم المصطفى والمنتجب

تنمية للعلياء سادات العرب (١)

وكم مثل هذا قيل فيهم من الولي والعدو وفي الاسلام والجاهلية ، هذا مع السبق الى الدين والقرابة القريبة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والشجاعة الفائقة ، والجهاد العظيم ، والعلم الغزير ، والجود والسماحة ، والزهد والقناعة ، وبالله اقسم قسما بارا انه لو ولى الأمر بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يخالفوا عليه وسلموا له الأمر ، والقوا إليه ازمة الرئاسة لانساقت العرب الى اجابته طوعا ، ومشوا في طاعته ولو حبوا لكانت إمارته عندهم نعمة مشكورة فضلا عن ان تكون إمرة مبرورة ، ولكثر الشعر في مدحه واسفر ليل سرورهم بولايته عن صبحه ، ولم يتخلف احد من العرب عن طاعته ، ولم يختلف اثنان منهم في إمامته ، وقد ظهر من فرح المسلمين

__________________

(١) المصدر السابق ١٦ / ١٢٩ ، وبعدهما :

ليس بموصوم اذا نص النسب

اوّل من صام وصلى واقترب

ببيعته يوم بويع بعد قتل عثمان ما تواتر في الكتب نقله ، وقيلت الأشعار الكثيرة في السرور ببيعته ، بل هو بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد لقى ما لقى والمدائح تقال فيه والألسن تلهج به ، والأيدي تشير إليه ويؤنب الجماعة على عدولهم عنه ففي قول النعما بن عجلان الأنصاري.

وليس ابو بكر لها خير قائم

وان عليا كان اخلق بالأمر (١)

وفي قول ابي سفيان بن حرب

بني هاشم لا يطمع الناس فيكم

ولا سيما تيم بن مرة او عدي

وما الأمر الا فيكم وإليكم

وليس لها الا ابو حسن علي

أبا حسن فاشدد بها كف حازم

فانك بالأمر الذي تبتغي ملي (٢)

وقول آخر (٣) :

ما كنت احسب ان الأمر منصرف

عن هاشم ثم منها عن ابي حسن

أليس اوّل من صلى لقبلتكم

واعلم الناس بالآيات والسنن

واقرب الناس عهدا بالنبي ومن

جبريل عون له في الغسل والكفن

من فيه ما في جميع الناس كلهم

وليس في الناس ما فيه من الحسن

ما ذا الذي صدكم عنه فنعرفه

ها ان بيعتكم غبن من الغبن (٣)

__________________

(١) هذا البيت من قصيدة روى منها الزبير بن بكار في الموفقيات ثمانية عشر بيتا كما في شرح نهج البلاغة ٦ / ٣١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ١٧ عن الموفقيات للزبير بن بكار.

(٣) هو بعض ولد ابي لهب كما في شرح نهج البلاغة ٦ / ٢١ وقيل هو الفضل بن العباس بن عتبة بن ابي لهب كما في الاستيعاب ٣ / ٦٧ ، ويرويها ابو جعفر الاسكافي عن ابن اسحاق لأبي سفيان بن حرب ـ كما في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٢٣٢ ، واذا صح القول الأخير فالمظنون قويا ان «حرب» تصحيف «حرث» فيكون المراد أبا

الى غير ذلك مما لا يسع المقام نقله وهو مذكور في كتاب خصمنا وغيره ، فاني تنتقض العرب على هذا لو لا ما جرى عليه ، وقد صرح هو (عليه‌السلام) بهذا المعنى وبنينه فيما ـ رواه ابن ابي الحديد عن عوانة عن يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن سلمة ان عليا (عليه‌السلام) لما انصرف الى رحله بعد مبايعة عبد الرحمن لعثمان قال لنبي ابيه : (يا بني عبد المطلب ان قومكم عادوكم بعد وفاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كعداوتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته ، وان يطع قومكم لا تؤمروا ابدا ، وو الله لا ينيب هؤلاء الى الحق الا بالسيف) وعبد الله بن عمر داخل عليهم قد سمع الكلام كله فدخل وقال : يا أبا الحسن أتريد ان تضرب بعضهم ببعض فقال : (اسكت ويحك لو لا ابوك وما ركب مني قديما وحديثا ما نازعني ابن عفان ولا ابن عوف) (١) ، الخبر وهو مصرح بما قلناه ان جراءة المتأخرين عليه انما كانت بسبب الرجلين السابقين وما فعلاه من اخراجه عن مقامه وسترهما فضائله ومزاياه ، ولو لا جرأتهما عليه وتقدمهما قبله لم يخالفه احد من الناس ، ولا جسر على مقامه واحد من المسلمين ، ولا رام التقدم عليه في الأمر ابن حرة أبدا وقد تقدم قبل هذا من كلام معاوية في كتابه جوابا لمحمد بن ابي بكر (رحمه‌الله) ما يصرح بهذا المعنى ، وبعد فهل رأيت احدا من العرب خالفه حين بويع من تلقاء نفسه بدون تسويل احد من الصحابة واملائهم لهم ، وتزيينهم لهم فرقته ومخالفته حتى يخالفه من تلقاء نفسه لو ولى الأمر عفوا بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، هؤلاء اهل البصرة قد انقادوا الى طاعته ورضوا ببيعته ، واطاعوا عماله ، ونفذت فيهم احكامه واوامره ونواهيه ، ولم يسخط احد إمارته ، ولا

__________________

سفيان بن الحارث بن عبد المطلب.

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٥٤.

رد واحد منهم بيعته الى ان جاءتهم عائشة وطلحة والزبير فتنوهم عن دينهم وادخلوهم في الضلالة وزينوا لهم الفرقة وشق العصا بالشبة والخدع فلولا مجيء عائشة والزبير وطلحة وتحميلهم اياهم على نكث البيعة وخلع الطاعة لكانوا ماضين عليها ، ومستمرين على العمل بموجبها ومتحققين بها غير مستنكفين عنها ولا مرتابين فيها ، واولئك اهل الشام لو لم يزين لهم معاوية الشقاق ويعينه على ذلك عمرو بن العاص علم النفاق فيدعوهم الى الخلاف ويحملاهم على عدم الوفاق ويغمساهم في غمرات الغواية ، ويسدا عليهم طريق الهداية بما ألقيا في قلوبهم من التشبيهات والتسويلات وملئا به اسماعهم من الأباطيل والأضاليل ، وقرعا به آذانهم من الأقاويل الملفقة والأكاذيب ما نازعه منهم منازع ولا صرفهم عن المسارعة إليه صارف ، ولا منعهم عن بيعته والقيام بواجب طاعته مانع ، بل لو خيروا ابتداء قبل الشبه عليهم لما اختاروا غيره ولا عدلوا به سواه ، ولو لا صفين لما كانت النهروان ولا ما بعدها من الحروب ، فالاختلاف على امير المؤمنين انما جاء من قبل اولئك ولولاهم لأدت الناس جميعا إليه الطاعة ، واستقاموا له غاية الاستقامة ، وبذلوا له الجهد في النصيحة ، ثم لا تمضي برهة من الزمان حتى يتبين للناس في امر الامامة الرغوة من الصريح ، ويتضح لهم الظالم والمظلوم ، ولكن اولئك افسدوا الأمر عليه ومنعوا العرب الثواب الجزيل في الاجتماع عليه ، والطاعة لأمره ، وادخلوهم في العقاب الأليم الطويل بالتفرق عنه ومعصيته ، وسبب ذلك كله الأولون كما سمعت وبذلك يصرح قوله في الخبر : (وان يطع قومكم لا تؤمروا ابدا) وذلك لصرف أولئك الأصحاب وجوه من اطاعهم من الناس عن مودة اهل البيت وولايتهم ، وذلك لشدة بغضهم لأمير المؤمنين ، فما زال اهل البيت في جفوة من القوم لأجله كما هو صريح قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاعتذارهم عن تقدمهم عليه بانتقاض العرب عليه لو ولى الأمر بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عذر باطل

وقول زائف لا يخفى وهنه وفساده ، وبطلانه وكساده على اهل الفضل والنهي ، ولنقتصر في هذا المطلب هنا على هذا القدر من الكلام فان فيه الكفاية لذوي الإنصاف والغنية لمن حاد عن مزلة الاسراف.

ومنها ما رواه عن كثير من المحدثين عن علي (عليه‌السلام) ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال له : (ان الله قد كتب عليك جهاد المفتونين كما كتب على جهاد المشركين) قال : فقلت : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد؟ قال : (قوم يشهدون أن لا إله الا الله واني رسول الله وهم مخالفون السنة) فقلت : يا رسول الله فعلام اقاتلهم وهم يشهدون كما اشهد؟ قال : (على الأحداث في الدين ومخالفة الأمر) فقلت : يا رسول الله انك كنت وعدتني الشهادة فاسأل الله ان يعجلها لي بين يديك قال : (فمن يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين اما اني وعدتك الشهادة وستستشهد تضرب على هذا فتخضب هذه فكيف صبرك اذن)؟ قلت : يا رسول الله أليس ذا بموطن شكر قال : (اجل اصبت فاعد للخصومة فانك مخاصم) فقلت : يا رسول الله لو بينت لي قليلا ، فقال : (ان امتي ستفتن من بعدي فتتأول القرآن ، وتعمل بالرأي وتستحل الخمر بالنبيذ ، والسحت بالهدية ، والربا بالبيع ، وتحرف الكتاب عن مواضعه ، وتغلب كلمة الضلال ، فكن جليس بيتك حتى تقلدها فاذا قلدتها جاشت عليك الصدور ، وقلبت لك الأمور تقاتل حينئذ على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى) فقلت : يا رسول الله فبأي المنازل انزل هؤلاء المفتونين من بعدك أبمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة؟ فقال : (بمنزلة فتنة يعمهون فيها حتى يدركهم العدل) فقلت : يا رسول الله أيدركهم العدل منا أم غيرنا قال : (بل منا بنا فتح الله وبنا يختم وبنا ألف بين القلوب بعد الشرك ، وبنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة)

فقلت : (الحمد لله على ما وهب لنا من فضله) (١) وهذا الحديث صريح في ان القوم افتتنوا بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وضلوا وعملوا بالرأي وحرفوا الكتاب ، وفعلوا جميع ما ذكره النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من استحلال المحرمات بالشبهات وهذا كله قبل تقلد علي الخلافة ، وانه مأمور بالجلوس في بيته وترك نزاعهم حتى يتقلد الأمر فحينئذ يقاتل ولا فتنة ولا ضلال بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى تخلف امير المؤمنين (عليه‌السلام) الا بتأخيره عن الخلافة وتقدم غيره عليه ، فاذا لم يكن عليه نص خالفوه ، فمن اين جاءهم الضلال ووقعوا في الفتنة وعملوا بالرأي وفعلوا ما ذكر في الخبر ، فهو اصرح من الشمس الضاحية في رابعة النهار فيما قاله الامامية من ضلالتهم وذا مصداق قوله تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢) ـ ومن اعجب العجب قول ابن ابي الحديد ودعواه بعد نقل هذا الخبر صراحته في مذهب المعتزلة ظنا منه ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إنما عنى اهل الجمل وصفين (٣) وذلك من جملة غفلاته أو تغافله ، ولو فكر لوجد الخبر واضحا في ابطال مذهبه وفساد معتقده والله الهادي.

ومنها : ما رواه عن سدير الصير عن ابي جعفر محمد بن علي قال اشتكى على شكاة فعاده ابو بكر وعمر وخرجا من عنده فأتيا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فسألهما من اين جئتما قالا : عدنا عليا قال : (كيف رأيتماه) قالا : رأيناه لما به فقال : (كلا ، انه لن يموت حتى يوسع غدرا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٠٦.

(٢) العنكبوت ٢.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٠٨. قال : وفي قوله : «بمنزلة فتنة تصديق لمذهبنا ـ ويعني المعتزلة ـ في اهل البغي».

وبغيا وليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده) (١) وهذا الخبر صريح في حصول الغدر بامير المؤمنين (عليه‌السلام) من الأمة ، وقد علمت ان الغدر لا يكون الا بنقض عهد سابق ويثبت المطلوب بمثل ما تقرر في الحديث الأول ، ثم انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذكر الغدر والبغي فيكون الغدر اشارة الى ما فعله به القوم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من تقدمهم عليه في الخلافة والبغي اشارة الى ما فعله تابعوهم من خلافه وحربه بعد بيعة الناس له.

ومنها : ما رواه عن جابر الجعفي عن محمد بن علي قال : قال علي (عليه‌السلام) : (ما رأيت منذ بعث الله محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رخاء لقد اخافتني قريش صغيرا وانصبتني كبيرا حتى قبض الله رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكانت الطامة الكبرى ، والله المستعان على ما يصفون) (٢) فلو قال قائل لابن ابي الحديد : اخبرنا عن هذه الطامة بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) التي جعلها علي (عليه‌السلام) اكبر من اخافة المشركين اياه وحربهم اياه في حياة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما هي ، أهي ترك الأولى كما ذكرت وليس كما ذكرت ، فترك الأولى لا يساوي بحرب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وحرب ناصره لأن ذا كفر ، وترك الأولى غير حرام ، فكيف يساوي الجائز بالكفر؟ فما ظنك اذا زيد عليه وقيل انه اكبر من الكفر ، هذا ما لا يجوز اعتقاده ، أم هي انكار القوم النص على علي (عليه‌السلام) من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجحده ومخالفته كما نقول ، وهو كما نقول ، فيثبت النص وضلال القوم بخلافه فما نره يجيب عن هذا السؤال فالعجب كل العجب منه اذ

__________________

(١) المصدر السابق ٤ / ١٠٦.

(٢) نفس المصدر ٤ / ١٠٨.

يقول : لا نص على علي (عليه‌السلام) بالامامة ، مع نقله مثل هذه الروايات وتصحيحه اياها ، وجميعها يحمله على إرادة اهل الجمل وصفين وهي تأبى هذا المحمل آباء ظاهرا وترده ردا بينا كما لا يخفى على ذي دربة باساليب الكلام ، نعم بعضها يتضمن مع الأولين اهل الجمل وصفين.

ومنه ما رواه عن جعفر بن سليمان الضبيعي عن ابي هارون العبدي عن ابي سعيد الخدري قال : ذكر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) ما يلقى بعده من العنت فأطال ، فقال له علي : انشدك الله والرحم يا رسول الله لما دعوت الله ان يقبضني إليه قبلك قال : (كيف اسأله في اجل مؤجل) قال : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعلام اقاتل من امرتني بقتاله؟ قال : (على الحدث في الدين) (١) وصدر الخبر وهو قوله : ما يلقى بعده من العنت ، صريح او ظاهر ظهورا بينا في إرادة ما جرى عليه من القوم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ازاحته عن مقامه واخراجهم الأمر عنه الى غيره ، ويؤكده قوله (عليه‌السلام) : لما دعوت الله ان يقبضني إليه قبلك ، فانه يعطي ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعده بملاقاة العنت بعد موته بلا فصل ، فسأل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يدعو الله يقبضه إليه في حياته لئلا يصيبه ذلك العنت ، فاخبره النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه لا سبيل الى ما طلب واذا لم يستحق ذلك المقام بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا عنت عليه في التأخير عنه ، ولا يعارض ذلك اخر الخبر وهو قوله : فعلام اقاتل الخ لظهوره في إرادة من خالفه بعد البيعة له لأن الأولين لم يؤمر بقتالهم ولو أمر فعل ، فلا يكون العنت المذكور اصابه في ايامهم ، لأنا نقول هو (عليه‌السلام) مأمور بقتال الجميع الأولين والآخرين اذا وجد اعوانا لأن الجميع

__________________

(١) أيضا.

قد حصل منهم الحدث في الدين ، والأصل في الحدث الأولون والآخرون تابعوهم عليه والعنت اصاب امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الزمانين ، ولذا طلب الأعوان على حربهم من اوّل الأمر فلم يجد فكف عن الحرب لفقد شرط تنجز الأمر لا لأنه غير مأمور بحربهم ، اذ لو كان كذلك لما طلب الأعوان على ذلك وقاتل الآخرين لوجود الأعوان له على قتالهم فكانت دلالة الخبر ظاهرة أي الظهور فيما ذكرناه فثبت مرامنا وصح قولنا ان هناك نصا معروفا عند اكثر الصحابة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) ، وانهم كتموه وخالفوه على عمد والأخبار التي تشير الى هذا المعنى كثيرة في كتاب الخصم لكنا نذكر الصريح فيه والقريب من الصريح ، وسيأتي ذكر شيء من هذا الباب عند ذكر النص على العترة ان شاء الله تعالى.

الوجه الثاني مما يدل على وجود النص وان القوم خالفوه ما تواتر من تظلمات امير المؤمنين (عليه‌السلام) وشكاياته من القوم بالتصريح ، ورميه اياهم بغصب حقه ونهب تراثه ، وما ضارع هذا المعنى مما لا يجوز حمله على انه غير منصوص عليه مثل ترك الأولى وشبهه كما قال ابن ابي الحديد واصحابه وهي كثيرة جدا ، نذكر منها قطعة صالحة نكتفي بها في المطلب.

فمنها قوله (عليه‌السلام) في الخطبة الموسومة بالشقشقية : «اما والله لقد تقمصها ابن ابي قحافة وانه ليعلم ان محلى منها محل القطب من الرحى ينحدر عني السيل ولا يرقى الى الطير» الى ان قال : ـ «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ارى تراثي نهبا» الخطبة ودلالتها على المدعى من وجهين.

الأول : قول علي (عليه‌السلام) أنه يعلم ان الخلافة حق له وانه حين تقمصها عالم بانها حق علي (عليه‌السلام) وليس له فيها حق فيقال حينئذ من اين علم ان خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حق لعلي (عليه

السلام) ان كان علم ذلك من الكتاب والسنة فهو النص الذي ندعيه وان كان من غيرهما فلا طريق لمعرفة ذلك سواهما ، والعقل لا يستقل بمعرفة هذا بتمامه ، ولو فرض علمه به من جهة الدلالة العقلية كان ذلك نصا لأنها كالدلالة الشرعية ، ونص العقل كنص الشرع ، والعلم من اينما حصل وجب العمل به والتعويل عليه ، ولا يختص وجوب الاعتماد عليه بحصوله من طريق خاصة دون اخرى كما حقق في الأصول ، ولا يدفع هذا السؤال حمل الكلام على علمه بذلك من جهة الأفضلية لبقائه قائما كما هو ، فيقال ان كان علم ان عليا (عليه‌السلام) افضل منه وان الامامة حق للأفضل من الكتاب والسنة فذلك هو النص وثبت مطلوبنا ، وان كان ذلك من غيرهما فالغير ليس بطريق الى علم هذا على ان مقتضى الكلام نفى استحقاقه للخلافة بالمرة.

الثاني : قوله (عليه‌السلام) «ارى تراثي نهبا» فاثبت ان الخلافة ميراثه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانه نهب ، وانه صبر على ذلك على مضض عظيم والم شديد ، وهذا كالأول فانه يقال من اين علم علي (عليه‌السلام) ان خلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تراث له لا حق فيها لغيره ، ان كان ذلك من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) او من الكتاب العزيز فهذا هو النص المدعى وان كان من غيرهما فليس ذلك الغير بطرق الى معرفة ذلك وهو عندنا وعندكم لا يقول الا عن الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا يتقول عليهما بالرأي وشبهه ، فثبت انه علم ذلك من النص عليه وهو واضح ، فبطل ما ذكره ابن ابي الحديد من حمله على خلاف الأولى وفسد جميع ما قرره في ذلك ، وقوله : انه ليس بابعد من تأويل الامامية قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (١) بالعدول عن الأولى (٢)

__________________

(١) طه. ١٧١

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٥٧.

اذ لا شباهة لهذا بما ذكرناه ولوجود العصمة في آدم دون ابي بكر وقد مضى بيانه ، ومن هذا يظهر أن قول ابي بكر : وددت اني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيمن هذا الأمر فكنا لا ننازعه اهله تمويه.

ومنها قوله : (عليه‌السلام) فيها بعد ان ذكر عمر وادلاء أبي بكر بالخلافة إليه : (فصبرت على طول المدة وشدة المحنة) ومن المعلوم انه لا محنة عليه اذا لم يكن مظلوما في اخذ الخلافة منه ، ولا يكون مظلوما اذا لم يكن منصوصا عليه فخولف النص ، وليس في ترك الأولى ما يبلغ الى المحنة ولا لشيء مما ذكره هناك.

وومنها قوله : لعبد الرحمن بن عوف لما بايع عثمان وعدل عنه : «ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون» (١) والتظاهر معناه المعاونة على الظلم ولا يكون ذلك بترك الأولى وانما يكون بمخالفة النص.

ومنها قوله : في خطبة عند توجهه لحرب اهل البصرة : (فو الله ما زلت مدفوعا عن حقي مستأثرا عليّ منذ قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حتى يوم الناس هذا» (٢) فهي صريحة في دفع القوم اياه عن حقه من بعد ان قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بغير فصل ومنها قوله : (عليه‌السلام) في خطبة له : «زرعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور» الى ان قال ـ : «الآن اذ رجع الحق الى اهله ونقل الى منتقله» (٣) فانظروا الى قوله زرعوا الى آخره ، فانه صريح في نسبتهم الى الضلالة ولا يختص

__________________

(١) أيضا ١ / ١٩٤.

(٢) نهج البلاغة من الخطبة ٦.

(٣) نهج البلاغة من الخطبة ٢.

بمعاوية وغيره من اهل الخلاف عليه ايام خلافته كما زعم ابن ابي الحديد لعدم المخصص اذ ليس معه الا الرجم بالغيب من مكان بعيد وقوله (عليه‌السلام) (الآن) الخ مصرح بان الحق كان عند غير اهله ومنها قوله (عليه‌السلام) في خطبة : «الا ان الشيطان قد ذمر حزبه واستجلب خيله ليعود الجور الى اوطانه ويرجع الباطل الى نصابه» (١) وهو صريح في ان إمرة السابقين عليه جور وباطل ومنها قوله (عليه‌السلام) : في خطبة رواها ابن ابي الحديد عن ابي الحسن المدائنيّ عن عبد الله بن جنادة : (اما بعد فانه لما قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قلنا نحن اهله وورثته وعترته واولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه احد ولا يطمع في حقنا طامع اذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الأمرة لغيرنا وصرنا سوقة يطمع فيها الضعيف ويتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك وخشنت الصدور وجزعت النفوس» (٢) الخطبة وهي مصرحة بان عليا (عليه‌السلام) وارث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون الناس ووليه وان سلطان النبي قد غصبه القوم منه ، وان اعين عترة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم تزل لذلك باكية وصدورهم ما زالت خشنة ونفوسهم جازعة ، أفيكون هذا كله لترك الأولى كما يدعيه الخصم أو يكون تارك الأولى غاصبا كلّا ما هو الا لفعل محرم وارتكاب محظور وما ذاك الا لمخالفة نص معلوم.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : في خطبة مثلها رواها المعتزلي عن الكلبي : (ان الله لما قبض نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) استأثرت علينا قريش بالأمر ودفعتنا عن حق نحن احق به من الناس كافة) (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ٢٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧.

(٣) ستأتي هذه الخطبة بكاملها آخر الكتاب.

ومنها قوله في خطبة يذكر فيها امر السقيفة (فنظرت فاذا ليس لي معين الا اهل بيتي فضننت بهم عن الموت ، واغضيت على القذى ، وشربت على الشجى ، وصبرت على اخذ الكظم ، وعلى امر من طعم العلقم) ومثل ذلك قوله (عليه‌السلام) : (لوجدت اربعين ذوي عزم) أفيجوز ان يكون هذا كله لترك القوم الأولى وهل يطلب مؤمن رجالا ذوي عزم ولو اربعين ليقاتل رجلا مسلما ترك الأولى أو يفعل هذا عاقل متدين؟ فكيف من هو مع الحق والحق معه؟ أليس ذلك القول منه صريحا في استحقاق المتقدمين عليه القتال؟ وهل يستحق القتل والقتال الا من هو ظالم غاصب ،؟ ولا يكون كذلك الا ان يكون على صاحب الأمر بنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واما اذا لم يكن كذلك بل كان الأمر جائزا له ولغيره وان الراجح في الحكم ان يكون هو ولي الأمر وولاية غيره مرجوحة لم يجز له ما طلبه لأن فاعل المرجوح لم يستحق شيئا من اللوم فكيف يستحق ان يقاتل ويقتل؟ وأمير المؤمنين لا يفعل الحرام ولا يطلبه فننتج من ذلك ان من طلب قتالهم كانوا مستحقين ، وان ذلك لارتكابهم امرا عظيما حلت به دماؤهم وما هو الا ردّ النص ومخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا غيره هناك فتأمل.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : في كتاب كتبه لأخيه عقيل رواه ابن ابي الحديد عن ابراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات : (اللهم فاجز قريشا عني الجوازى فقد قطعت رحمي ، وتظاهرت علي ، ودفعتني عن حقي ، وسلبتني سلطان ابن امي ، وسلمت ذلك الى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسابقتي في الاسلام الا ان يدعي مدع ما لا اعرفه ولا اظن الله يعرفه ، والحمد لله على كل حال) (١) وقوله

__________________

(١) كتابه (عليه‌السلام) الى عقيل رواه ابن هلال الثقفي في الغارات ص ٤٣١ كما نقله ابن ابي الحديد في شرح النهج عن الغارات ٢ / ١١٩.

(عليه‌السلام) : (الا ان يدعي مدع) الخ مشير الى بطلان ما اثبته العامة للثلاثة من الفضل في كل وقت ، بل صريح في نفيه بشديد المبالغة لقوله : (ولا اظن الله يعرفه) يعني انه لم يكن في علم الله لهم فضل يماثلون به عليا (عليه‌السلام) فضلا عن ان يكون برز ذلك للناس وظهر وصار معروفا ، فمن ادعى لهم ذلك فقد ادعى ما لا اعرفه لهم ولا يعرفه لهم فدعواه لهم مماثلتي باطلة ، ومنه يعلم ان الأخبار التي رواها الخصوم في التفضيل كلها باطلة مزورة ، وهذا ينضاف الى ما بيناه أولا من الاستدلال على بطلانها فاين يذهب بالقوشجي في قوله ان عليا (عليه‌السلام) قال : خير الناس ابو بكر ثم عمر ، كما مر أفلا يسمع هنا كيف نفى عنهم الفضل بالمرة ، وبالغ في تأكيد نفيه اشد المبالغة ، وهو تصديق ما قلناه هناك.

ومنها قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما رواه الخصم عن ابي جعفر الإسكافي عن جابر عن ابي الطفيل قال : سمعت عليا (عليه‌السلام) يقول : (اللهم اني استعديك على قريش فانهم قطعوا رحمي ، وغصبوني حقي ، واجمعوا على منازعتي امرا كنت اولى به ، ثم قالوا : ان من الحق ان نأخذه ومن الحق ان نتركه) (١) فقد صرح في القول بغصب اقوم حقه وبخطئهم في قولهم ان اخذهم الأمر حق وتركه له كذلك ، ومعناه انه ليس من الحق ان يأخذوه كما قالوا ، واذا لم يكن اخذهم اياه حقا كان باطلا وباقي الكلام كالأول.

ومنها ما رواه عن ابي القاسم البلخي عن سلمة بن كهيل عن المسيب بن نجبة قال : بينا علي (عليه‌السلام) يخطب اذ قام اعرابي فصاح : وا مظلمتاه فاستدناه علي (عليه‌السلام) فلما دنا قال له : (انما لك

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٤ / ١٠٤ وهذه الكلمة من خطبة له (عليه‌السلام) تأتي آخر الكتاب.

مظلمة واحدة وانا قد ظلمت عدد المدر والوبر) (١).

ومنها مناشدته القوم يوم الشورى النصوص عليه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتصديق القوم اياه كخبر الغدير وخبر المنزلة وقصة براءة وغير ذلك مما ذكرناه أولا ، فقطع عبد الرحمن بن عوف كلامه ولم يلتفت الى تلك النصوص ، ولم يعدل بها عن بيعة عثمان ، واضاف الى ذلك تهديده بالقتل ان لم يترك الاحتجاج ، وينفذ لبيعة عثمان ، وقد ذكر ابن ابي الحديد ان ذلك مما استفاض في الروايات ، وهذا من ادل الأدلة على ما ذكرناه من ان القوم لم يعتنوا بنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخالفوه تعمدا ، ويقوّى قولنا ان الذي منعه من ذكر النص في يوم ابي بكر ان صح انه لم يذكره علمه بانهم ينكرونه او لا يلتفتون إليه ، وربما يؤدي الأمر الى قتله ان اطال الخصام بالنصوص ، وما ابن عوف باشد من عمر ولا عثمان بارغب في الخلافة من ابي بكر ولا باقوى على ذلك منه ، والأمر واضح ، فبطل ما قال ابن ابي الحديد من ان ذكر النص كان اسهل عليه حين ساموه البيعة من التظلم والاستصراخ بالاحياء والأموات ، وتبين ان تركه ذكر النص ان كان اسلم له من كثير من الضرر.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : حين اتوا به الى ابي بكر ليبايع وهو ينظر الى قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ابن أم ان القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني) (٢) فجعل نفسه بمنزلة هارون وجعلهم بمنزلة عبدة العجل ، وكفى بهذا وضوحا في تضليله اياهم ، وقد روى الخصم هذا الكلام (٣) وهو صريح أيضا في انه (عليه‌السلام) كان مجبورا على بيعة ابي بكر مهددا بالقتل

__________________

(١) أيضا ٤ / ١٠٦.

(٢) الشافي في الامامة للشريف المرتضى ٣ / ١١٠ بتحقيقنا.

(٣) يعني بالخصم ابن ابي الحديد وكثيرا ما يعبر عنه بذلك.

ان لم يبايع وهذا نص قول الامامية.

ومنها قوله (عليه‌السلام) في خطبة : (حتى اذا اقبض الله رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي امروا بمودته ، ونقلوا البناء عن رص اساسه فبنوه في غير موضعه ، معادن كل خطيئة ، وابواب كل ضارب في غمرة قد ماروا في الحيرة وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون من منقطع الى الدنيا راكن او مفارق للدين مباين) (١) وهذا الكلام من اصرح الصريح في إرادة الأول واتباعه ووصلهم غير الرحم تقديمهم غيره في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومنعهم عليا (عليه‌السلام) من ذلك المقام ، وهو الأقرب الى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهجرهم السبب المأمورين بمودته تركهم قربى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد قال الله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) ونقل البناء عن رص اساسه جعلهم الخلافة في غير موضعها ، ولا يجوز حمله على معاوية واصحابه كما قاله ابن ابي الحديد لأن الرجوع على الأعقاب متعقب في الكلام لقبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا فاصل بينهما اذ هو جواب الشرط فهو متصل به ، وواقع بوقوعه ، ومعاوية قد تأخر امره عن وقت قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بسنين ، ومقتضى الجملة حصول الرجوع على الأعقاب بحصول موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بلا فصل ، فجعل الكلام لمعاوية واصحابه ممتنع من جهة الدلالة اللفظية الا ان يدعى مدع ما لم يكن معروفا في العربية ، ولا مستعملا عند اهل اللسان ، وأيضا قوله : (معادن كل خطيئة وابواب كل

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٤٨.

(٢) الشورى ٢٣.

ضارب في غمرة) يبين ان الأولين هم المرادون لا معاوية لأن معاوية من جملة الضاربين في الغمرات فهم بابه اذ لولاهم ما ولى معاوية الشام ولا تأمر عثمان على المسلمين ، ولو لا قضية عثمان ما قوي معاوية على الخلاف والنزاع وايقاع الفتن ، لكن ابن ابي الحديد يصرف القول عن معناه ويحرف الكلم عن مواضعه محاماة على المشايخ وانى له بذاك وقد لاح الصباح؟ فانظر أيجوز أن يوصف بالرجوع عن الدين على الأعقاب وانه معدن كل خطيئة ، وباب كل ضارب في غمرة المشبه لآل فرعون في ضلالهم مع باقي الأوصاف من ترك الأولى وفعل المرجوح ولم يخالف نصا ولا غصب حقا ولا نهب ميراثا ثابتا بكتاب الله وسنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كلا ما يجوز ذلك الا لمن تعمد خلاف الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانكار نصه ونهب ميراثه من مستحقه على معرفة ويقين وذلك ما نقول.

ومنها قوله (عليه‌السلام) : وقد سأله رجل من بني أسد : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وانتم احق به فقال للسائل : (قد استعلمت فاعلم ، اما الاستبداد علينا بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا ، والأشدون بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نوطا ، فانها كانت اثرة شحت بها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس آخرين ، والحكم الله والمعود إليه) (١) وهذا الكلام في غاية الوضوح في إرادة الأولين سؤالا وجوابا ، لأن من البين ان مراد السائل استعلام السبب الذي لأجله منعت قريش اهل البيت من مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته مع انهم احق به في جميع الأحوال من كل احد من الناس واقامت في ذلك المقام غيرهم ، والاستخبار عن علة ذلك والدفع المسئول عنه هو ما كان بعد قبض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لانه هو الفعل الحادث الذي تعلق السؤال بسبب حدوثه من القوم وما بعده

__________________

(١) نهج البلاغة الكلام ١٦٠.

انما هو استمراره ، وليس المقصود أولا وبالذات السؤال عن استمرار ذلك الفعل الا ان يدخل من جهة اللزوم فأتى الجواب على طبق السؤال بانهم لم يدفعونا عن هذا المقام ويستبدوا علينا به لسبب اوجب ذلك ، ولا لعلة اقتضته من طريق الشرع ، وانما كان ذلك لشح نفوسهم عن تسليم حقنا إلينا ، وقصدهم الاستيثار به علينا ، وهذا القول من جملة مبطلات ما تعلل به قوم من ان الأولين انما عدلوا بالأمر عن امير المؤمنين خوفا من انتقاض العرب عليه ، اذ لو كان ذلك من قصدهم فضلا عن ان يكون صحيحا موجبا لما فعلوا لذكره (عليه‌السلام) فيما دعاهم الى دفعه عن مقام اخيه وابن عمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وان خطأهم بعد فيه لكن ذلك لم يكن ، وقد عرفت ما قررناه ان الكلام سؤالا وجوابا لا يختص بيوم الشورى كما ادعاه ابن أبي الحديد ، بل لا يتوجه السؤال إليه الا تابعا للأمر الأول ولا الجواب الا كذلك ، على انه لا يندفع عن المعتزلي المعاند الوهن في مذهبه بما ادعاه لأنه اذا ثبت ظلم اهل الشورى عليا (عليه‌السلام) من جهة تقديمهم في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غيره لأنه الأحق به من غيره ثبت ان اهل السقيفة ظلموه لذلك بالاجماع اذ لا قول بالفصل بين عثمان ومن قبله فكل من صحح بيعة عثمان صحح بيعة الشيخين وكل من ابطل بيعته ابطل بيعتهما وبالعكس ، فعلى صحة دعواه لا يصح مذهبه كما ترى.

ونحن نذكر هنا ما حكاه من سؤاله النقيب أبا جعفر العلوي واجابة النقيب اياه فانه كلام جيد ، وجواب متين ، ونكتفي به في تمام تقرير الخبر قال المعتزلي : وسألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه عن هذا الكلام وكان (رحمه‌الله) على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفا وافر العقل ، فقلت له : من يعني (عليه‌السلام) بقوله : (كانت اثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين)؟ ومن القوم الذين عناهم الأسدي بقوله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وانتم احق به؟

هل المراد به يوم السقيفة او يوم الشورى؟ فقال : يوم السقيفة ، فقلت : ان نفسي لا تسامحني ان انسب الى الصحابة عصيان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ودفع النص ، فقال : وانا فلا تسامحني أيضا نفسي ان انسب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى اهمال امر الامامة ، وان يترك الناس فوضى سدى مهملين ، وقد كان لا يغيب عن المدينة الا ويؤمر عليها اميرا وهو حي ليس بالبعيد عنها. فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث ، ثم قال : ليس يشك احد من الناس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان عاقلا كامل العقل ، اما المسلمون فاعتقادهم فيه معلوم ، واما اليهود والنصارى والفلاسفة فيزعمون انه حكيم تام الحكمة ، سديد الرأي ، اقام ملة وشرع شريعة ، فاستجد ملكا عظيما بعقله وتدبيره ، وهذا الرجل العاقل الكامل يعرف طباع العرب وغرائزهم ، وطلبهم بالثارات الدخول (١) ولو بعد الأزمان المتطاولة ، ويقتل الرجل من القبيلة رجلا من بيت آخر فلا يزال اهل ذلك المقتول واقاربه يطلبون القاتل ليقتلوه حتى يدركوا ثأرهم منه ، فان لم يظفروا به ، قتلوا بعض أقاربه وأهله ، فان لم يظفروا أبا حدهم قتلوا واحدا أو جماعة من تلك القبيلة ، وان لم يكونوا رهطه الأدنين ، والاسلام لم يحل طباعهم ولا غير هذه السجية المركوزة في اخلاقهم ، والغرائز بحالها فكيف يتوهم لبيب ان هذا العاقل وتر العرب وعلى الخصوص قريشا وساعده على سفك الدماء وازهاق الأنفس وتقلد الضغائن ابن عمه الأدنى وصهره ، وهو يعلم أنه سيموت كما يموت الناس ويتركه بعده وعنده ابنته وعنده منها ابنان يجريان منه مجرى ابنين من ظهره حنوا عليهما ، ومحبة لهما ، ويعدل عنه في الإمرة بعده ولا ينص عليه ولا يستخلفه فيحقن دمه ودم بنيه وأهله باستخلافه؟ الا يعلم هذا العاقل الكامل انه اذا

__________________

(١) الذحول جمع ذحل وهو الثأر.

تركه وترك بنيه واهله سوقة ورعية فقد عرض دماءهم للإراقة بعده ، بل يكون هو الذي قتلهم واشاط بدمائهم ، لأنهم لا يعتصمون بعده بامر يحميهم ، وانما يكونون مضغة للأكل وفريسة للمفترس ، يتخطفهم الناس ، ويبلغ فيهم الأغراض ، فأما اذا جعل السلطان فيهم والأمر إليهم فانه يكون قد عصمهم ، وحقن دماءهم بالرئاسة التي يصولون بها ، ويرتدع الناس عنهم لأجلها ، ومثل هذا معلوم بالتجربة ، ثم ذكر لهذا مثالا وقال بعده : أفترى ذهب عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هذا المعنى أم احب ان يستأصل أهله وذريته من بعده؟ واين موضع الشفقة على فاطمة العزيزة عنده الحبيبة الى قلبه؟ ، أتقول انه احب ان يجعلها كواحدة من فقراء المدينة تتكفف الناس ، وان يجعل عليا المكرم المعظم عنده الذي كانت حاله عنده معلومة كأبي هريرة الدوسي وانس بن مالك الأنصاري يحكم الأمراء في دمه وعرضه ونفسه وولده فلا يستطيع الامتناع وعلى رأسه مائة الف سيف تتلظى أكباد اصحابها عليه؟ قد قتل ابناءهم واخوانهم وآباءهم واعمامهم (١) انتهى المراد من كلامه.

اقول لم يكن لابن ابي الحديد من دفع إرادة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ومن سأله يوم السقيفة الا استبعاده صدور العصيان من الصحابة ، وهذا وان كان في نفسه ليس بدليل معتمد ، لأن الصحابة ليسوا بمعصومين عنده ، بل عند جميع الأمة ، فقد عارضه استبعاد النقيب من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهمال امر الأمة وتركه دم عترته قريبا من السفك ، وبعيدا من الصيانة ، وكل الشيعة على هذا الوجه يعولون ، وهذا اقوى وارجح واقرب الى العقل السليم من الأول ، وان شئت قلت ان العقل لا يجوز صدور خلافه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فهو على كل حال مقدم عليه ، ومن ذلك يثبت النص فافهم على ان استبعاد المعتزلي إرادة الأولين من

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٢٤٨.

الكلام لما ذكره من السبب يستلزم استبعاده من إرادة اهل الشورى ، لأنهم منهم ومن اعوانهم ما خلا الزبير ، وأيضا الشورى كانت بامر من عقد الأمر لأبي بكر في السقيفة ودفع عليا (عليه‌السلام) عنه ، وهو عمر بن الخطاب وهو الذي جعل امر الشورى كله لعبد الرحمن بن عوف وما فعله ابن عوف كله برأيه وعن امره ، ؛ فالدافع عليا يوم الشورى عن مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو بنفسه دافعه عنه يوم السقيفة ، فان لم يكن هو ومن وازره على ذلك المقصودين من السؤال والجواب لم يبق احد يقصد منهما ولا يعني بهما فلزم ان يكون السؤال وقع لا عن احد والجواب مثله ، وهذا محال ، ولم يبق لأحد تشبث بقصد معاوية واصحابه من القول ، لأن امير المؤمنين (عليه‌السلام) ذكر حالهم بعد جوابه المذكور للأسدي بما هو نص في ان الأسدي لم يقصدهم بسؤاله ، وان عليا (عليه‌السلام) لم يقصدهم بجوابه ، والخصم مقر بذلك ، وانما تردده بين إرادة الأولين وتابعيهم جميعا ومنهم اهل الشورى وبين اختصاصه باهلها كما سمعت في سؤاله هذا كله ، مضافا الى ما ذكرناه من عدم اندفاع المحذور ، لو صح ما قال.

ومنها الشعر المنسوب الى امير المؤمنين (عليه‌السلام) بالاشتهار روى منه ابن ابي الحديد ابياتا ، (١) كذلك وذكره بعض الخصوم بتمامه ، ونحن نذكره كذلك وسببه على ما روى ان معاوية كتب الى علي (عليه‌السلام) يفتخر بأشياء يزعم ان فيها مفخرا فغضب علي (عليه‌السلام) وقال أيفتخر علي ابن اكلة الأكباد اكتب إليه يا غلام :

محمد النبي اخي وصنوى

وحمزة سيد الشهداء عمى

__________________

(١) رواه ابن ابي الحديد ٤ / ١٢٢ كما رواه غيره بتقديم وتأخير وزيادة ونقصان نذكر منهم الحموي في معجم الأدباء ١ / ١١٩ ، وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤال ص ١١ والسبط في التذكرة ص ٦٢ ، وابن حجر في الصواعق ٧٩ وابن كثير في البداية والنهاية ٨ / ٨ الخ ...

وجعفر الذي يضحي ويمسي

يطير مع الملائكة ابن امي

وبنت محمد سكنى وعرسى

منوط لحمها بدمى ولحمي

وسبطا احمد ولداي منها

فايكم له سهم كسهمي

سبقتكم الى الاسلام طرا

غلاما ما بلغت أوان حلمي

وصليت الصلاة وكنت طفلا

مقرا بالنبي في بطن امي

واوجب لي ولايته عليكم

رسول الله يوم غدير خم

فويل ثم ويل ثم ويل

لمن يلقى الإله غدا بظلمي

انا البطل الذي لا تنكروه

بيوم كريهة وبيوم سلم

فقد صرح بقوله : واوجب لي ولايته البيت ، بدعوى النص عليه يوم الغدير لأن ولاية النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الامامة ، وهذه الأقوال المذكورة ومثلها من اقواله مما لم نذكره مصرحة بدعوى النص عليه وبظلم من تقدمه في الخلافة ، ونسبتهم الى منع الحق وغصب الأمر ونهب الميراث وغير ذلك ، وهو عندنا وعند المعتزلة صادق لا يكذب ، ولا يجوز الشك في صحة قوله ، ولا اظن الأشاعرة يجوزون تكذيبه وان جوزوا مخالفته ، وجلها قيل في ايام خلافته حين كان له بعض القدرة على الاخبار عما في نفسه على الأولين ، وصار للسانه بعض الانبساط في التعبير عما في ضميره منهم ، وهو دليل ظاهر وشاهد عادل على بقاء اعتقاده فيهم الظلم ، وانه لم يكن لهم عاذرا ، وان ذلك ليس من ترك الأولى في شيء ، وهذا يبطل ما ذكره ابن ابي الحديد من ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) كان في مبدأ الأمر يظن ان العقد لغيره كان لغير نظر في المصلحة ، وانه لم يقصد به الا صرف الأمر عنه والاستيثار عليه فظهر منه ما ظهر من الامتناع والقعود في بيته الى ان صح عنده وثبت في نفسه انهم اصابوا فيما فعلوه ، وانهم لم يميلوا الى هوى ، ولا ارادوا الدنيا ، وانما فعلوا الأصلح في ظنونهم ، وانه لو ولى الأمر لفتقت عليه العرب فتقا يكون فيه استئصال شافة الاسلام ، وهدم اركانه ، فاذعن

بالبيعة ، وجنح الى الطاعة ، وامسك عن طلب الأمرة ، وان كان على مضض ورمض الى آخر ما اتى به من الكلمات الواهنة.

وأقول هذا الرجل وان كان ابطل ما دبر ونقض ما ابرم ، وكفانا مئونة الجواب عما موه به من الزبرج في القول ، بقوله : ان امساك امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن طلب الأمرة كان على مضض ورمض (١) ـ ، اذ لو كان ثبت عنده انهم اصابوا الحق لكان المضض والرمض منهم خطأ منه ، وكيف يحترق قلبه ويتألم من فعل قوم اصابوا الحق ، وعملوا بالصواب وحفظوا الدين عن صولة الكفار ، وكلمة المسلمين عن الانتشار ، ليس هذا من سجية المؤمنين ، ولا من خلق الصالحين ، فكيف يصدر من سيدهم ومقتداهم ومن هو اكثرهم عناء في اظهار الدين ونصر الاسلام والمسلمين ، ونكاية المشركين؟ بل الواجب لمثله (عليه الصلاة والسلام) ان يسر ويفرح بما فعلوه اذ كان موافقا لغرضه ، ويثني عليهم اذ كان ما دبروه مطابقا لمقصده والمعروف من حاله (عليه‌السلام) انه لا يحزن للدنيا ولا يفرح لها ولا نظر له فيها وانما حزنه وسروره للدين ، ونظره الحق اين كان وكيف كان ، فمضضه ورمضه فيما فعلوه من تقديم الأول عليه لا بد أن يكونا راجعين الى امر الدين ، وما ذلك الا لارتكابهم قبيحا لا حسن فيه ، وفعلهم خطأ لا صواب يلم به ويدانيه ، فقد قضى ببقائهما المعتزلي على ائمته اذ اقر بمضض علي (عليه‌السلام) ورمضه منهم وهذا كاف في اثبات دعوانا عدم رضاه عنهم ، وان امرهم غير صحيح عنده ولا جائز لديه ، فيكون كفه لعدم القدرة على انتزاع حقه منهم كما بينا مرارا ، الا انا نتعرض لذكر ما يرد على جمل كلماته فنقول : اما قوله : ان امير المؤمنين كان يظن ان عقد الامر لغيره لم يقصد منه الا صرف الأمر عنه الخ فجوابه ان امير

__________________

(١) المضض : وجع المصيبة ، والرمض ـ هنا ـ : احتراق القلب من شدة الألم.

المؤمنين ما كان يظن ذلك بل يتيقنه ويعلمه ويعتقده الى ان انتقل الى جوار ابن عمه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مقعد صدق عند مليك مقتد ، الا تراه يقول لعمر حين الزمه ببيعة أبي بكر : اشدد له اليوم امره ليرده عليك غدا ، وقوله لعبد الرحمن بن عوف حين عدل عنه بالبيعة لعثمان : ما هو بأول يوم تظاهرتم فيه علينا ، وقوله للأسدي في الخبر المذكور من قريب : انها اثرة شحت بها نفوس قوم ، وغير ذلك من كلماته وقد سبق ذكر جملة منها ، وكيف يجهل ذلك أو يرتاب فيه وقد اخبره الصادق الأمين به وعهد إليه بغدر القوم به ، وما يرتكبون منه ، وفصّل له الأمر تفصيلا ، وأزاح عنه فيه غبار الظنة واوصله فيه الى درجة اليقين ، وقد سبق بيان هذا في الأخبار المتقدمة.

واما قوله الى ان صح عنده وثبت في نفسه انهم اصابوا فيما فعلوه الخ فجوابه ان يقال له : متى كان هذا في حياتهم أم بعد هلاكهم وهو في الحالين يشكو ظلمهم ويحكم بغصبهم حقه ونهبهم تراثه ، أفيجوز ان يقال في ميت مضى على اصابة الحق واحراز الدين انه ظالم غاصب ناهب الميراث وما شاكل هذه الكلمات لا يكون ذلك الا ويكون القائل ظالما قد قال زورا وافترى افكا ، وانت تنزهه عن الظلم والكذب فصح ان الثابت عنده والمستقر في نفسه انهم اخطئوا فيما فعلوه ومالوا الى الهوى وارادوا الدنيا وانه ما صوبهم يوما من الدهر.

واما قوله لو ولى الأمر لفتقت عليه العرب فتقا الخ فكلام مأخوذ عن عمر ولقد اطال المعتزلي واسهب في ذكره بما لا حاجة إليه من شرح امر حرب الجمل وصفين ، وهذا القول قد عرفت جوابه فيما سبق باحسن البيان وسيأتي منه ذكر أيضا ، ونقول هنا اخبرنا أي العرب انف من إمرة علي (عليه‌السلام) ، واستنكف عنها؟ الست رويت عن ابي بكر الجوهري ان الأنصار

لما فاتهم الأمر في السقيفة قالوا وقال اكثرهم : لا نبايع الا عليا ورويت من اشعارهم في ذلك الكثير الواسع مثل قول النعمان بن عجلان وكان من أشرافهم.

وكان هوانا في علي وانه

لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري (١)

ومثل : قول حسان بن ثابت في علي (عليه‌السلام) :

سبقت قريشا بالذي انت اهله

فصدرك مشروح وقلبك ممتحن

تمنت رجال من قريش اعزه

مقامك هيهات الهزال من السمن (٢)

وغير ذلك مما ذكرناه فيما مضى ، ورويت ان جماعة من الأنصار سعوا في نقض بيعة ابي بكر ليبايعوا عليا ومعهم جماعة من المهاجرين ، وقد مرت الرواية والأنصار في ذلك الوقت هم ركن الاسلام ، وبهم قامت الدعوة ، وحصلت للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النصرة ، وتم له بهم على العرب الانتصار ، ولما هدده عامر بن الطفيل بعسكره قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في جوابه : (يكفي الله منك وبنوا قيلة) (٣) فمن يأنف من سائر العرب ذلك الوقت ممن قدمه هؤلاء عليهم مع شهرته في الحسب والنسب عند جميع العرب ، الست رويت ان العباس بن عبد المطلب وأبا سفيان بن حرب عرضا على علي البيعة ورضيا له عليهما بالإمرة وهما اذ ذاك شيخا بني عبد مناف الست رويت ان خالد بن سعيد بن العاص طلب الإمرة لعلي (عليه‌السلام) ورضي بامرته عليه وهو من عمال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأمراء اجناده ، ومن اهل السبق الى الاسلام ، ومن اشراف بني عبد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣١ في ثمانية عشر بيتا نقلها ابن ابي الحديد عن الموفقيات للزبير بن بكار كما تقدم.

(٢) المصدر السابق ٦ / ٣٥ في ابيات نقلها ابن ابي الحديد عن الموفقيات.

(٣) شرح نهج البلاغة ٢٠ / ١٨٤ وكامل المبرد ٢ / ٣٢٤.

شمس؟ الى غير ذلك مما يطول عده فمن هؤلاء العرب الذين أبوا ولاية علي عليهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، دلنا عليهم حتى نعرفهم فانا ما رأينا احدا من الناس استكبر عن ولاية علي (عليه‌السلام) عليه بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلا أصحاب السقيفة ومن انضم إليهم ، واهل الإحن والحقد على علي (عليه‌السلام) من قريش واضاربهم ، وداهنهم قوم آخرون ممّن حليت الدنيا في أعينهم طمعوا في امور منتهم بها انفسهم. واتبعهم غوغاء الناس والعامة فحصلت لهم بذلك الغلبة ووهن الراغبون في علي (عليه‌السلام) عن النصرة تواكلا وتخاذلا ، ولو لا هؤلاء : لم يختلف على علي (عليه‌السلام) احد ممن ذكرناهم فما ظنك بسائر العرب الذين ليس لهم في امر الخلافة حل ولا عقد ، واحب الأمراء إليهم من كان بهم ارفق ، أفرأيت لو أن هؤلاء بايعوا بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا وبايعه بنو هاشم وشيعتهم ، وبايعه جماعة الأنصار يتخلف عن بيعته طلحة وعثمان وابن عوف وابن ابي وقاص واشباههم ، واذا بايعه كل هؤلاء يأبى من بيعته ابن العاص وابن الوليد وابن ابي معيط اذن لضربت اعناقهم قبل ان يرتد إليهم طرفهم ، وتأبى عن طاعته العرب من الأعراب وغيرهم ، أو يفتقوا عليه مقدار خرق ابرة وقد سارت تحت راياته فرسان المسلمين من المهاجرين والأنصار ، فمن اولئك العرب الذين ينطقون في النقض عليه بعد هذا بكلمة فضلا عن ان يفتقوا عليه فتقا يكون فيه استئصال شافة الاسلام وكذا وكذا مما ذكره المعتزلي؟ ومن يستطيع منهم ذلك وهم لا يستطيعوا منه شيئا في ولاية ابي بكر حيث نفذ حكمه من المهاجرين والأنصار أفعلي (عليه‌السلام) عند العرب أدنى من أبي بكر نسبا وحسبا أم ابو بكر أنبه من علي (عليه‌السلام) عند العرب ذكرا أم اشد بأسا وأقوى قلبا؟ فما هذا الكلام الذي لا يتصوره عاقل ولا يتفوه به لبيب.

واما قوله : جنح الى الطاعة الخ فهو صحيح لكن على ما ذكره واثبته من

المضض والرمض وذلك خارج عن قانون الرضا ولا شك عندنا انه (عليه‌السلام) أذعن بطاعتهم ، وانقاد لأمرهم فيما يتعلق بامور الامارة حقنا لدمه ودماء اهل بيته حيث لم يجد معينا يعينه ولا ناصرا ينصره ، فلو امتنع بعد ذلك عن بيعتهم لا هريق دمه كما فعل بابنه الحسين حذو النعل بالنعل فكان تسليمه لهم وكفه عنهم كرها لا اختيارا ، وليس النزاع في انه سلم وكف ظاهرا عن طلب الأمر ، وانما النزاع في انه رضى طوعا لا جبرا فقد سلم الحسن لمعاوية وكف الحسين عن منازعته بعد الحسن والمقطوع به انهما ليسا راضيين بخلافته وامثال هذا كثير ، ومما يؤكد ان القوم غير مصيبين عنده امتناعه يوم الشورى على عبد الرحمن بن عوف عن المبايعة على سيرة الشيخين ، وقوله : بل على كتاب الله وسنة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وفي هذا اشارة بنية الى أن في سيرتهما ما يخالف الكتاب والسنة وذلك السر في امتناعه لا ما فهمه ابن ابي الحديد ، وفي الكلام دلالة على ان عبد الرحمن بن عوف ومن معه لا يريدون من يسير فيهم بكتاب الله وسنة نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، بل غرضهم فيمن يعمل فيهم بالرأي ويؤثرهم بالمال ، ويستشيرهم في الأحكام ، وصريح هذا المعنى عدول القوم عن نصوص الكتاب والسنة الى ما يشتهون ، واوضح من ذلك قول امير المؤمنين (عليه‌السلام) في خطبة يحرض فيها اصحابه على قتال معاوية واصحابه : (سيروا الى بقية الأحزاب ، سيروا الى نبذة الكتاب ، سيروا الى قتال من يقاتل على دم حمال الخطايا) (١) ، والمراد ببقية الأحزاب معاوية ومن معه من قريش وبحمال الخطايا عثمان لا معاوية كما قال ابن ابي الحديد لأن معاوية بزعمه يقاتل على دمه ، وليس يقاتل احد في صفين على دم معاوية لأنه حي بين ظهرانيهم ، وهو الذي اغواهم وساقهم بخدعه الى الضلال وقادهم

__________________

(١) نفس المصدر ٢ / ١٦٤ وفيه «انفروا» بدل «سيروا».

الى قتال امامهم ، فدعوى ان عليّا (عليه‌السلام) صوب القوم في فعلهم يوما ما من باب تقريب البعيد ، وترويج الزيف وستر الظاهر المكشوف وان شئت قلت انها من باب تجويز الممتنع وهو من فعل ابن ابي الحديد غير مستنكر ولا بعيد ، فما زال يدفع عنهم بالراح ، ويبطل لأجلهم الحجج الصحاح ، ويرد للحماية عليهم دلالة الأدلة الصراح ، وليس ذا من عمله بمجد للمتأمل ولا بنافع عند المتبصرة ، ولا بكاف في الذب عنهم لدى المنصف المتدبر ، فما ابين الصبح لذي عينين وهل يصلح العطار ما افسد الدهر.

ومما يدل على ان بعض الصحابة قد احدثوا في الدين وغيروا احكام الكتاب وخالفوا السنة وخرجوا من العدالة دلالة صريحة ما صح في روايات الخصوم من اخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بدخول جماعة من اصحابه النار لأنهم احدثوا بعده ما اوجب لهم دخولها وهي كثيرة نذكر منها بعضا تحصل به الحجة.

فمنها ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين بالسند عن سهل بن سعد من المتفق عليه قال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (انا فرطكم على الحوض من ورد شرب ومن شرب لم يظمأ ابدا وليردن على اقوام اعرفهم ويعرفونني ، ثم يحال بيني وبينهم) قال ابو حازم فسمع النعمان بن ابي العباس وانا احدثهم هذا الحديث فقال : هكذا سمعت سهلا يقول قلت : نعم : قال : اشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته يزيد (واقول انهم من امتي فيقال انك لا تدري ما احدثوا بعدك فاقول سحقا فسحقا لمن بدّل بعدي) (١).

__________________

(١) صحيح البخاري ٧ / ٢٠٥ كتاب الرقاق ، باب الحوض و ٨ / ٨٧ اوّل كتاب الفتن.

وعنه من المتفق عليه بالسند عن ابن عباس قال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الا وانه سيجاء برجال من امتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فاقول يا رب اصحابي ، فيقال انك لا تدري ما احدثوا بعدك ، فاقول كما قال العبد الصالح ، (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) (١) قال فيقال لي : انهم لم يزالوا مرتدين على اعقابهم منذ فارقتهم) (٢).

وعنه من المتفق عليه بالسند عن انس بن مالك قال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ليردن على الحوض رجال ممن صاحبني حتى اذا رأيتهم ورفعوا الى رءوسهم اختلجوا فلأقولن أي رب اصحابي اصحابي فليقال انك لا تدري ما احدثوا بعدك) (٣).

وعنه في افراد مسلم بالسند عن ابن عمر قال ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (اذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم انتم) قال عبد الرحمن : نكون كما امرنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (تتنافسون وتتحاسدون ثم تدابرون ثم تتباغضون وتنطلقون الى مساكن المهاجرين فتحملون بعضهم على رقاب بعض) (٤).

وفي صحيح البخاري (لا تقوم الساعة حتى تأخذ امتي ما اخذ القرون

__________________

(١) المائدة : من الآية ١٢١.

(٢) صحيح البخاري ٤ / ١١٠ كتاب بدأ الخلق.

(٣) صحيح البخاري ١ / ٢٠٧ كتاب الرقاق باب الحوض.

(٤) هذا الحديث روي في صحاح السنن وانظر مسند الامام احمد ج ٢ / ٣٢٥ و ٣٢٧ و ٣٣٦ و ٣٣٧ و ٤٥٠ و ٥١١ و ٥٢٧ وج ٣ / ٨٤ ، ٩٤٨٩.

قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع) وفي غيره : (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا) الخ (١).

وفي صحيح الترمذي عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لتركبن سنن من كان قبلكم) (١).

وفي جامع العلوم لقدوة الحفاظ ابي عبد الله محمد بن معمر عن ابي بن كعب قال : والله ما زالت هذه الأمة مكبوبة على وجهها منذ قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم). وهذه الأحاديث وامثالها صريحة في ان القوم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجعوا عن الدين على اعقابهم القهقري وما نرى شيئا فعلوه بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الدين اعظم من اخذ الخلافة من اهلها ومستحقيها ولو لم يكن هناك نص على واحد بعينه وقد خالفوه واغتصبوا من ذي الحق حقه لما استوجبوا كل ذلك ، وفي هذه الأخبار تكذيب الأشاعرة في قولهم بنجاة كل صحابي وان فعل ما فعل من المعاصي ، ودلت أيضا على صحة تظلم امير المؤمنين (عليه‌السلام) من القوم السابقين في محله وموضعه ، فما ادعيناه عليهم قد وضح بيانه وسطع برهانه والحمد لله على انعامه بالهداية.

الوجه الثالث : مما يدل على وجود النص على امير المؤمنين ما يخطر من فلتات عمر فتارة يعترف بأن عليا مظلوم ، وتارة بانه منصوص عليه لكن خولف النص لمصلحة ، وتارة بأنه اولى بالأمر الى غير ذلك.

فمنها ما رواه ابن ابي الحديد عن الزبير بن بكار الزبيري في كتاب الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال اني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة اذ قال لي : يا بن عباس ما أرى (٢) صاحبك الا مظلوما ،

__________________

(١) الترمذي كتاب الفتن ب ١٨.

(٢) في شرح النهج «ما اظن».

فقلت في نفسي : والله لا يسبقني بها فقلت : يا امير المؤمنين فاردد إليه ظلامته ، فانتزع يده من يدي ومضى (١) يهمهم ساعة ثم وقف ، فلحقته فقال : يا بن عباس ما اظنهم منعهم [من صاحبك] (٢) الا انه استصغره قومه ، فقلت في نفسي هذه شر من الأولى ، فقلت : والله ما استصغره الله ورسوله إذ ان يأخذ براءة من صاحبك (٣) ، فاعرض عني واسرع فرجعت عنه (٤)

قلت : فما ادري ما يصنع ابن ابي الحديد بهذا الاعتراف ، ثم انظر الى عذر عمر الذي اخذه من ابي عبيدة بانه استصغره قومه ، وهل في صغر السن من نقص اذا كان العقل كاملا وقد قال الله تعالى في يحيى : (وآتيناه الحكم صبيا) (٥) وقال حكاية عن عيسى (عليه‌السلام) وهو في المهد (انى عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبيا) (٦) فلم يكن الصغر فيهما مانعا من الكمال ، ولذا ولياه على تبليغ براءة وائتمناه عليها وعزل ابي بكر من تبليغها ولم يكن كبر السن نافعا ، ولا صغره مانعا ولله در ابن عباس ما اوضح حجته ، واقوى برهانه!! ومنها ما رواه عن عبد الله بن عمر قال : كنت عند أبي وعنده نفر من الناس فجرى ذكر الشعر فقال : من اشعر العرب فقالوا فلان وفلان فطلع ابن عباس فقال عمر قد جاء الخبير ، من أشعر العرب يا عبد الله؟ قال : زهير بن أبي سلمى ، قال : فانشدني ما تستجيده له ، فقال : يا امير

__________________

(١) وفيه «وقريهمهم».

(٢) ما بين المعوقين ساقط من المتن.

(٣) في الشرح «من ابي بكر».

(٤) شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٤ وليس في الشرح «فاعرض عني واسرع فرجعت عنه» ولا شك انها ساقطة من المطبوعة.

(٥) مريم : ١٢.

(٦) مريم : ٢٩.

المؤمنين انه مدح قوما من غطفان يقال لهم بنو سنان فقال :

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم بأولهم او مجدهم قعدوا

قوم ابوهم سنان حين تنسبهم

طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا

انس اذا أمنوا جن اذا فزعوا

مرزءون بها ليل اذا جهدوا

محسدون على ما كان من نعم

لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا

فقال عمر : قاتله الله لقد احسن ، ولا ارى هذا المدح يصلح الا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله ، فقال : ابن عباس وفقك الله يا امير المؤمنين فلم تزل موفقا ، قال : يا بن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال : لا يا امير المؤمنين ، قال : لكني ادري ، قال : ما هو؟ قال : كرهت قريش ان تجتمع لكم النبوة والخلافة فتجحفوا الناس جحفا ، فنظرت قريش لأنفسها فاختارت ووفقت فاصابت فقال ابن عباس : أيميط امير المؤمنين عني غضبه فيسمع قال : قل ما تشاء ، قال : اما قول امير المؤمنين بان قريشا كرهت فان الله قال لقوم : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) (١) واما قولك : انا كنا نخجف فلو خجفنا بالخلافة خجفنا (٢) بالقرابة ولكنا قوم اخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي قال الله تعالى فيه : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢) وقال له : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٣). واما قولك : ان قريشا اختارت فان الله تعالى يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (٤) وقد علمت يا امير المؤمنين ان الله اختار من خلقه لذلك من

__________________

(١) محمد : ٩.

(٢) الخجف : الكبر.

(٣) القلم : ٤.

(٤) الشعراء : ٢١٥.

القصص : ٦٨.

اختار ، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت واصابت ، فقال عمر : على رسلك يا بن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشّا في أمر قريش لا يزول ، وحقدا عليها لا يحول ، فقال ابن عباس : مهلا يا امير المؤمنين لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش فان قلوبهم من قلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذي طهره الله وزكاه ، وهم اهل البيت الذين قال الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) وأما قولك : حقدا فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره ، فقال عمر : اما انت يا عبد الله فقد بلغني عنك كلام اكره ان اخبرك به فتزول منزلتك به عندي ، قال : ما هو يا امير المؤمنين اخبرني به فان يكن باطلا فمثلى أماط الباطل عن نفسه وان يك حقا فان منزلتي عندك لا تزول به؟ قال : بلغني انك لا تزال تقول اخذ هذا الأمر منا حسدا وظلما قال : اما قولك حسدا ـ الى ان قال ـ : وأما قولك ظلما فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ، ثم قال يا امير المؤمنين ألم تحتج العرب على العجم بحق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واحتجت قريش على سائر العرب بحق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فنحن احق برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من سائر قريش ، فقال عمر : قم الآن فارجع الى منزلك فقام الخبر (٢).

قلت والشاهد على المدعي في مواضع من الخبر.

الأول قول ابن عباس : ان الله اختار من خلقه لذلك من اختار ، فانه صريح في ان هناك منصوصا عليه بالامامة ، معينا لها من الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اذ لا علم لعمر ولا ابن عباس بان الله اختار لهذا الأمر

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٥٢.

واحدا معينا الا من اخبار الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وذلك هو النص ، وابن عباس لم يقصر علم ذلك على نفسه ، بل قال لعمر : وقد علمت ذلك ، فأتى بقد المفيدة لتحقق الفعل ولا منصوص عليه الا علي (عليه‌السلام) ، وما يريد ابن عباس بما ذكر احدا غيره.

الثاني قوله : فكيف لا يحقد من غصب شيئه ويراه في يد غيره ، فانه صريح في ان الخلافة حق اهل البيت وقد اخذت منهم غصبا ، واذا لم يكن هناك نص على واحد معين منهم بان الخلافة له كيف يتحقق الغصب.

الثالث قوله : أخذ منا هذا الأمر حسدا وظلما ، وتقريره كسابقه.

الرابع قوله : امير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو ، فان علم عمر بصاحب الحق ومن له الأمر بالتعيين بدون نص من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غير ممكن كما لا يخفى ، فيجب ان يكون علمه بذلك من طريق النص وذلك هو المطلوب ثم ان عمر لن ينكر شيئا مما ادعا ابن عباس عليه علمه به فدل على انه كان عالما به لكنه لما عرف العجز من نفسه عن جواب حجة عبد الله بن العباس امره بالرجوع الى منزله حذرا منه ان يظهر من فساد امرهم اكثر مما اظهر ، ثم ان في قول عمر : كرهت قريش ان تجتمع لكم النبوة والخلافة ، ما يشير الى وجود النص لأنه يومي الى أن قريشا علمت بان الخلافة في بني هاشم باخبار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصرفوها عنهم الى من ارادوا مخالفة للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هذا ما يتعلق بالدلالة على مدعانا.

واما ما يدل على بطلان كلام ابن ابي الحديد ورد دعواه من الخبر فهو في مواضع.

الأول قول عمر : كرهت قريش الى تمام الجملة ، فان صريحه ينطق بان

قريشا لم تعدل بالخلافة عن بني هاشم لخوف امر يحدث في الدين ، ولا لحذر ثلم يكون في الاسلام ، وانما كان ذلك لكراهة تأمير قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتشريفهم ، وهو عين العداوة لهم.

الثاني قوله : فنظرت قريش لأنفسها ، فانه صريح في ان القوم لم يصرفوا الخلافة عن بني هاشم نظرا منهم للدين ، وحماية منهم على الاسلام ، وانما فعلوا ذلك نظرا لأنفسهم في امر دنياهم ليتشرفوا بالامارة ، وهذا كما ترى مناقض لما تقدم من قول المعتزلي : ان القوم ارادوا بما فعلوا الدين لا الدنيا ولم يميلوا الى هوى ، وانهم نظروا في ذلك الى مصلحة الاسلام ، فقد كذب قوله ، والكلامان منافيان أيضا لما قاله المتكلم في الخبر السابق من ان المانع لقريش من مبايعة علي (عليه‌السلام) استصغارها سنة ، وعنه اخذ اتباعه التنافي والتناقض في اقوالهم.

الثالث قوله : ابت قلوبكم يا بني هاشم إلا غشا في امر قريش الخ. فانه صريح في ان عمر كان مطلعا على كراهة بني هاشم لخلافته وخلافة صاحبه ، ومن استخلفهما ورضي بخلافتهما ، وبقاء حقدهم عليهم.

الرابع قول ابن عباس ، فكيف لا يحقد من غصب شيئه فانه صريح في حقد بني هاشم على من تولى الأمر دونهم واخذ ذلك الشيء منهم وهذا كله مضاد لقول ابن ابي الحديد : ان عليا (عليه‌السلام) رضي بخلافة الرجلين ، ورءاها صلاحا أفيرضي علي (عليه‌السلام) ويحقد ابن عباس وباقي بني هاشم وهم ذلك الوقت لا يطلبون الخلافة الا له وليس فيهم من يجيز لنفسه التقدم عليه في اقل الأمور.

الخامس قوله : اخذ منا هذا الأمر حسدا وظلما ، وهو كسابقه في المعنى وهذا الخبر مضمونه نص مذهب الامامية فليصدق ابن ابي الحديد حديثه أو يكذبه ففي كلا الأمرين لنا عليه الفلج.

ومنها : ما رواه ابن عباس أيضا قال : خرجت مع عمر الى الشام في احدى خرجاته فانفرد يوما يسير على بعيره فاتبعته ، فقال : يا بن عباس اشكو أليك ابن عمك سألته ان يخرج معي فلم يفعل ولا ازال اراه واجدا أفيم تظن موجدته؟ قلت : يا امير المؤمنين انك لتعلم ، قال : اظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة ، قلت : هو ذاك انه يزعم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد الأمر له ، فقال : يا بن عباس واراد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الأمر له فكان ما ذا اذا لم يرد الله تعالى ذلك ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد امرا واراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله ، أو كلما اراده رسول الله كان انه اراد اسلام عمه (١) ولم يرده الله فلم يسلم (٢).

اقول غير خفي على ذوي الفطن ان معنى قول عبد الله بن عباس : ان رسول الله اراد الأمر له انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عين عليا (عليه‌السلام) للخلافة وقصرها عليه من بعده ، وهذا هو النص المدعي ودل الخبر على ان عليا (عليه‌السلام) لا يزال واجدا على عمر وان موجدته عليه لانه خالف امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ونصه عليه وعمر قد اقر بجميع ذلك في الخبر مرتين صريحا.

والثالثة اشارة وادعاء مع ذلك ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد غير ما اراد الله ولا ادري كيف ينسب الى رسول الله (صلى الله

__________________

(١) المراد بعمه ـ هنا ـ ابو لهب فان مسألة اسلام ابي طالب لم تثر الا في زمن الأمويين ، وركز عليها العباسيون والدليل على ذلك ان معاوية على كثرة ما جرى بينه وبين امير المؤمنين (عليه‌السلام) من المراسلات والمساجلات لم يذكر ذلك لأنه لم يكن معروفا لديه.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٨٧.

عليه وآله وسلم) إرادة ما لم يرده الله وهو الذي يقول الله فيه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) ويقول فيه : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٢) ـ ويقول فيه : (قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) (٣) وغير ذلك ولا ادري أما يريد بقوله ذلك أن يقول بالجبر في الأفعال أو انه لا يدري ما معنى الإرادة فيذهب الى ان كلما وقع فهو مراد الله فكفر أبي جهل عنده مراد الله ومخالف لإرادة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكذلك كفر ابي لهب وان عدم اسلامه مراد الله ومخالف لمراد رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخلافة ابي بكر وخلافته ارادها الله ولم يردها رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)!! وها نحن نبين معنى الإرادة ونشرح مفهومها فنقول : للإرادة في الكتاب والسنة معان ثلاثة.

الأول الإرادة الأمرية الصادر عنها التكاليف فهي الأمر بالشيء من حيث المحبوبية وتقابلها الكراهة وهي النهي عن الشيء من حيث المبغوضية ، وعليها تدور الطاعة والمعصية والمخالفة والموافقة ، وعليها يترتب الثواب والعقاب ، ومن الإرادة بهذا المعنى قوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) وقوله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (٥) وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (٦) على احتمال هذه الإرادة مخالفتها ممكنة غير ممتنعة وضدها كذلك اذ لا جبر في التكليف على المكلفين ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يخالف هذه الإرادة ابدا لأن مخالفتها

__________________

(١) النجم : ٤.

(٢) الحاقة : ٤٥ و ٤٦.

(٣) الأعراف : ٢٠٣.

(٤) البقرة : ١٨٥.

(٥) النساء : ٢٧.

(٦) النساء : ٢٨.

معصية وهو معصوم عن العصيان ، بل أرادته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دائما تابعة لارادة الله لا يعصي لله امرا ، فلما كان (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد اراد عليا (عليه‌السلام) للأمر علمنا ان الله سبحانه وتعالى اراده له بمعنى أمر نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنصبه فنصبه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما تضمنه الخبر ، وقول الشيخ مستلزم لأن رسول الله قد خالف إرادة الله وعصى امره لأن الله امر بنصب ابي بكر وهو عين عليا (عليه‌السلام) ونسبة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى مخالفة امر الله كفر بما انزل الله تعالى في محكم كتابه.

الثاني الإرادة الفعلية وهي عبارة عن ايجاد الشيء ومنه قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ولا تعلق لهذه الإرادة بامر التكليف ، ولا يستطيع أحد ردها ولا مخالفتها لأنها فعل من افعال الله تعالى القادر على ما يشاء ، ولا يجوز ان ينسب احد الى مخالفة هذه الإرادة اذ لا قدرة لأحد على ذلك ، حتى يقال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اراد ما لم يرده الله.

الثالث الإرادة العلمية ومعناها علم الله بما يصدر من المكلف طاعة أو معصية ، ووقت ذلك ومكانه ومتعلقه لا بمعنى المحبوبية والمبغوضية وعليها يحمل قوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (٢). وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٣) وهي قد توافق الإرادة الأمرية كما في المطيع ،

__________________

(١) النحل : ٤٠.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

(٣) المائدة : ٤١.

وقد تخالفها اذ لا ملازمة بينهما كما في العاصي ، وبهذا البيان يرتفع الجبر في الأفعال ، وهذه الإرادة هي التي كانت متعلقة بهم فان الله علم انهم يخرجون بسوء اختيارهم عن الطاعة وقبول الأمر الصادر من الله ومن رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالائتمام بعلي (عليه‌السلام) والانقياد لطاعته بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهم قد خالفوا إرادة الله الأمرية وإرادة رسوله كذلك في امر الامامة ، ووافقوا إرادة الله العلمية بانهم يكونون عاصين فاذا كان اراد من قوله في الخبر ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أراد أمرا واراد الله غيره ان الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر عن أمر الله بطاعة علي (عليه‌السلام) من بعده وعلم الله انا لا نطيعه في امره فقد صدق لكن ذلك لا ينفعه ولا يجدي له عند الله عذرا ، وقد وضح لك ان الخبر المذكور ناطق بصدور النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) وان القوم قد خالفوه احالة على المقادير ، وبئست تلك المعاذير ، ومثل هذا الحديث ما قدمناه أولا من قول عمر في حديث ابن ابي طاهر : ولقد اراد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يصرح به في مرض موته فمنعته وقد مر عليك مبينا بأوضح بيان فراجعه.

ومنها ما رواه عن ابي بكر الجوهري مسندا عن ابن عباس قال مر عمر بعلي (عليه‌السلام) وعنده ابن عباس بفناء داره فسلم فسألناه اين تريد؟ فقال : مالي بينبع ، فقال علي (عليه‌السلام) : أفلا نصل جناحك ونقوم معك؟ قال : بلى؟ فقال لابن عباس : قم معه ، قال : فشبك اصابعه في اصابعي ومضى حتى اذا خلفنا البقيع ، قال : يا بن عباس اما والله ان كان صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا أنّا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه ، فقلت : يا امير المؤمنين ما هما؟ قال : خشيناه على

حداثة السن وحبه بني عبد المطلب (١) وهو صريح في المطلوب لأنّ اولوية (عليه‌السلام) بالأمر لا يعلم الا من جهة النص ، ثم ان الخبر متضمن لأمرين مخالفين لقول الخصوم.

الأول ان القوم لم يكونوا ناظرين اذ منعوا عليا (عليه‌السلام) من خلافة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى مصلحة تعود الى الدين وانما هو لأمر راجع الى هوى النفس وهو كون علي صغير السن ، ومحبا لبني عبد المطلب ، وان الأولى بالخلافة من يكون كبير السن ويكون مبغضا لبني عبد المطلب ، وأي مصلحة للدين في هذا.

الثاني ان القوم كانوا مبغضين لقرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بغضا شديدا حتى جعلوا بغضهم شرطا في الامام وهذا يقتضي انهم لم يقدموا من قدموه الا لعلمهم بشدة بغضه لقرابة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهذا عين ما تقوله الامامية لا يزيدون عليه حرفا ، فاين قول ابن ابي الحديد وامثاله : ان القوم لم يفعلوا ما فعلوا الا النظر للدين؟ وما باله يروي هذا الكلام ويغضي عن معناه كأنه لا يفهمه وهو اصرح من ان يخفى على مثله؟ فالحمد لله الذي اظهر الحق لأهله.

ومنها ما رواه عن ابي بكر الجوهري قال : وحدثني ابو زيد قال : حدثنا هارون بن عمر باسناد رفعه الى ابن عباس قال : تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر فسار كل واحد مع الفه ، ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكى الى تخلف علي عنه ، فقلت : الم يعتذر أليك؟ قال : بلى ، فقلت : هو ما اعتذر به ، قال : يا بن عباس ان اوّل من ريثكم عن هذا الأمر ابو بكر ان قومكم كرهوا ان يجمعوا لكم الخلافة والنبوة ، قلت : لم

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٧ و ٥ / ٥٠ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

ذاك يا امير المؤمنين الم ننلهم خيرا؟ قال : بلى ولكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم خجفا خجفا (١).

اقول : ما في هذا الخبر قد تضمنه حديث ابن عمر المتقدم وتوضيحه يعرف مما ذيلنا به ذلك الخبر.

ومنها ما رواه ان عمر قال لعبد الله بن عباس يوما : ما منع قومكم منكم ، قلت : لا اعلم يا امير المؤمنين ، قال ، اللهم غفرا ان قومكم كرهوا ان تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبوا في السماء بذخا وشمخا ، لعلكم تقولون : ان أبا بكر اراد الإمرة عليكم وهضمكم كلا ، لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل ولو لا رأي ابي بكر في بعد موته لأعاد امركم إليكم ، ولو فعل ما هناكم مع قومكم انهم لينظرون إليكم نظر الثور الى جازره (٢) اقول أي مصلحة للدين وأي صلاح للمسلمين في عدم اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد؟ وأي مفسدة للدين واهله في اجتماعهما في ذلك البيت؟ وكيف تكره قريش ما احبه الله من اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد؟ ومتى وجدنا احدا من اهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تكبر وتجبر وخرج عن قانون التواضع وحيز الرزانة حتى ينسبهم الى ما لا يجوز ان ينسب الى سائر المؤمنين! أليس هذا كله تصريحا بمخالفة الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكاشفا عن بغض شديد لبني هاشم ، ثم ان الخبر مصرح بوجود النص على علي (عليه‌السلام) ، وأن أبا بكر إذ عهد الى عمر انما هو لهوى له فيه لا بجهله بصاحب الأمر من هو وذلك في قوله : ولو لا رأي ابي بكر فيّ لأعاد إليكم امركم ، لأن الاضافة هنا اما للملك او للاختصاص ، وعلى كلا الوجهين يفيد الكلام ان الأمر يعني

__________________

(١) المصدر السابق ٢ / ٨٧ والخجف : الكبر ، وقد تقدم.

(٢) نفس المصدر ١٢ / ٩.

الخلافة حق لأهل البيت وليس لغيرهم فيها نصيب ، وكونها حقا لهم لا يعلم الا من النص ولا منصوص عليه منهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا علي (عليه‌السلام) ، فتبين من القول ان أبا بكر إذ تأمر على أهل البيت يعلم ان الحق لهم وكذلك من ولي الأمر بعده وقوله : ولو فعل ما هناكم مع قومكم الى آخره نص في ان اولئك الصحابة من المهاجرين كانوا معتمدين مخالفة علي (عليه‌السلام) ومخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه ، ومنطوين على عدم اطاعته ان ولي الأمر كائنا ما كان لبغض مقيم عليه في قلوبهم ، وحسد قديم له لا لصلاح الدين ولا لخوف انتقاض العرب ، ولا لغير ذلك مما قاله في بعض كلامه ، وهذا القول منه من شواهد مدعانا عليهم ، فقد تبين صدق قولنا من قول عمر وثبت ما نقول ان القوم اخذوا الخلافة وهم يعلمون انها حق علي (عليه‌السلام) بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ومنها ما قال ابن ابي الحديد : حدثني الحسين بن محمد الشنى قال : قرأت على ظهر كتاب ان عمر نزلت به نازلة فقام لها وقعد وترنح لها وتقطر ، وقال لمن عنده معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر ، فقالوا يا امير المؤمنين انت المفزع والمنزع ، فغضب وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (١) ثم قال : أما والله اني واياكم لنعلم ابن بجدتها (٢) والخبير بها قالوا : كأنك اردت ابن ابي طالب : قال : وانى يعدل بي عنه ، وهل طفحت حرة بمثله ، قالوا : فلو دعوت به يا امير المؤمنين ، قال : هيهات ان هناك شمخا من هاشم ، واثرة من علم ولحمة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه ، فاقصفوا نحوه

__________________

(١) الأحزاب : ٧٠.

(٢) القيامة : ٣٦.

وافضوا إليه ، فالفوه في حائط له عليه تبان وهو يتركل على مسحاته ويقرأ : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (١) الى آخر السورة ، ودموعه تهمى على خديه ، فاجهش الناس لبكائه فبكوا ثم سكت وسكتوا فسأله عمر عن تلك الواقعة فاصدر جوابها فقال عمر : أما والله لقد ارادك الحق ولكن ابى قومك ، فقال : يا أبا حفص خفض عليك من هنا وهنّا : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) (٢) فوضع عمر احدى يديه على الأخرى واطرق الى الأرض وخرج كأنما ينظر في رماد.

وهذا الخبر كما ترى مصرح بان امير المؤمنين كان ينسب القوم في تقدمهم عليه الى الظلم ، ويعدهم بالمطالبة يوم الفصل ، وحسبنا ذلك فيما ندعى ، وانكار ابن أبي الحديد للخبر لأن عليا (عليه‌السلام) كنى عمر ولم يسمه بالإمرة ، ولأن عمر مضى الى علي (عليه‌السلام) والعادة ان يرسل إليه انكار فاسد لأن العادة قد تختلف وينبغي ان يجعل هذا من جملة تواضع عمر الذي كانوا يصفونه به ، والخليفة قد يكنى خصوصا في مقام الحجة على ان ما ادعاه من ان عليا (عليه‌السلام) ما كنى عمر في خلافته ابدا وانما يدعوه بامرة المؤمنين دعوى ما اتى عليها بشهود واحالها على السير والتواريخ ، ولم يذكر حديثا على ما ادعى ، ولا ذكر في كتابه على كثرة ما ذكره من الأخبار موضعا دعا فيه علي (عليه‌السلام) عمر بامرة المؤمنين قط ، وذلك ادحض لحجته ، مع انه روى ان الزبير قد ادمى انف آذن عمر لما حجبه عنه فلما لامه عمر جعل يمطمط في كلامه يحكي كلام عمر أتفعل هكذا يا زبير! وقال مغضبا : أتحتجب يا بن الخطاب (٣) فلم يكنه فضلا عن ان يقول امير المؤمنين

__________________

(١) النبأ : ١٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٧٩.

(٣) المصدر السابق ١٢ / ٤٥.

ولم نره طعن في صحة الرواية بمخالفة العادة ، وبما فيها من الجرأة العظيمة على عمر.

وروى أيضا ان عمر لما اراد ان يوصي بالشورى واحضر الستة وقال في كل واحد ما قال انه نظر الى طلحة فقال : اقول أم اسكت؟ قال له طلحة : قل فانك لا تقول من الخير شيئا (١) ولم يستبعد ذلك بمخالفته العادة ولم ينكر الرواية لتضمنها جرأة طلحة على عمر بهذا القول الغليظ ، وليس علي (عليه‌السلام) عند عمر وعند الناس بدون الزبير وطلحة حتى يحتمل عمر منهما الجرأة الشديدة ولا يحتمل من علي (عليه‌السلام) في وقت من الأوقات ان يكنيه ولا يدعوه بامرة المؤمنين مع ان ذلك حال عن ادنى جرأة ، فسبحان الله لا يكون الرد بخلاف العادة الا لما وافق قولنا من اخبارهم ، فهذا دليل عنادهم فقد بطل انكاره.

ومنها ما رواه مرفوعا الى ابن عباس قال : دخلت على عمر يوما فقال : يا بن العباس لقد اجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء ، قلت : من هو ، قال : هذا ابن عمك ، يعني عليا (عليه‌السلام) ، قلت : وما يقصد بالرياء يا امير المؤمنين؟ قال : يرشح نفسه بين الناس للخلافة ، قلت : وما يصنع بالترشيح قد رشحه لها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصرفت عنه ، قال : انه كان شابا فاستصغرت العرب سنه وقد كمل الآن ، ألم تعلم ان الله لم يبعث نبيا الا بعد الأربعين ، قلت : يا امير المؤمنين أمّا اهل الحجي والنهي فانهم ما زالوا يعدونه كاملا منذ رفع الله منار الاسلام ، ولكنهم يعدونه محروما مجذوذا ، فقال : ما انه سيليها بعد هياط ومياط (٢) ثم تزل فيها قدمه ، ولا يقضي منها اربه ، ولتكونن شاهدا

__________________

(١) نفس المصدر ١ / ١٨٥.

(٢) يقال : ما زالوا في هياط ومياط : أي ما زالوا في ضجيج واختلاف ورواح ومجيء.

ذلك يا عبد الله ثم يبين الصبح لذي عينين ، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين الأولين الذين صرفوها عنه بادئ بدء ، فليتني اراكم بعدي يا عبد الله ، ان الحرص محرمة وان دنياك كظلك كلما هممت به ازداد عنك بعدا.

قال ابن ابي الحديد : نقلت هذا الخبر من أمالي ابي جعفر محمد بن حبيب (١).

قلت : وقد اعرب هذا عما في قلبه لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) حتى رام ابطال عباداته بنسبتها الى الرياء ليحط قدره ، ويزيل من القلوب منزلته ، ويسقط منها رتبته ، ومع ذلك فقد اقر بالنص من الرسول على علي (عليه‌السلام) حيث انه اعترف بدعوى ابن عباس ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد رشح عليا (عليه‌السلام) للخلافة ، والترشيح للشيء التأهيل له وهو تعيينه لها ، وذلك النص ، بانها قد صرفت عنه بعد نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، وان اهل العقل والرأي الصحيح يعدونه محروما مجذوذا من حقه ، ولم ينكر من ذلك شيئا وذهب يتعلل في مخالفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بما لم يزل يتعلل به من صغر السن وخوف العرب ، وما أدري ما يقول ابن أبي الحديد ومن على شاكلته اذا سئلوا أهم اعرف بالمصالح وكمال الناس أم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث اهل عليا (عليه‌السلام) للخلافة وهو صغير السن ، أفيقولون ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهله بغير امر الله فأخطأ وانهم اصابوا حيث صرفوا الأمر الى من هو اكبر منه سنا ، أم يقولون ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يعلم سن علي (عليه‌السلام)؟ أفليس في قوله هذا تصريح بانهم خالفوا نص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٨٠.

(عليه‌السلام) بآرائهم ، وما ابعد قوله : فاستصغرت العرب سنة من قوله ، وتعلم العرب صحة رأي المهاجرين الى آخره ، فان الأول يدل على ان العرب هم الذين صرفوا الأمر عن علي لصغر سنه ، والثاني يدل على ان العرب قد انكرت على المهاجرين صرف الأمر واعتقدوا بطلان رأيهم ، وانه لا يبين للعرب صحة رأي المهاجرين الأولين ، ويعلمونه الا اذا تولى علي (عليه‌السلام) الأمر وحاربه من يحاربه من بقية اولئك المهاجرين ومن يتبعهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء ، والحاصل ان هذا الخبر مصرح بما نقول به من وجود النص على علي (عليه‌السلام) ، فهو شاهد بدعوانا وكاشف عن صحة مذهبنا بأوضح كشف واصرح بيان.

ثم ان في قول عبد الله لعمر : اما اهل الحجى والنهى فما زالوا يعدونه كاملا الخ اشارة ظاهرة الى ان الذين قدحوا في كمال علي (عليه‌السلام) بصغر السن ليسوا من اهل العقل والتمييز ، لأن اهل ذلك ما زالوا حاكمين بكمال علي (عليه‌السلام) فلو كان هؤلاء القوم منهم لحكموا بحكمهم ، والأمر كما قال عبد الله بن العباس.

واما قول عمر : انه سيليها ثم تزل فيها قدمه الخ فلا يصح لأنه ان اراد بزلة قدمه عدم طاعة اهل الضلال له فليس عليه في ذلك بأس عند الله ولا تزل قدمه اذا كان على الحق بل زلت قدم من خالفه ، فقد قاتل الكفار رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلم يضره في دينه ونبوته خلافهم له وقتالهم اياه ، وكذلك امير المؤمنين لم تزل قدمه بقتال الضالين المكذبين ، بل كانوا هم الذين زلت اقدامهم عن الحق وكان هو الثابت القدم على الصراط القويم والهدى الواضح ، لانه يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على تنزيله ، وان اراد بزلة قدمه خروجه عن الحق فهو يعلم انه مع الحق وأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمره بقتال

اولئك الأقوام ووعده انه مع الحق حتى تمنى الشيخان تلك المنزلة وسألاها النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فما ادركاها ، وقد مضى بيان ذلك ومن هذا فهم عمر سيقاتلون عليا (عليه‌السلام) فقال ما قال.

واما قضاء الأرب من الخلافة فان كان يريد ارب الدنيا فليس لعلي (عليه‌السلام) في الدنيا من ارب ، وان اراد عدم تمكنه من اقامة عمود الحق لمخالفة الفجرة امره فليس ذلك بضائر في دينه ولا بناقص ليقينه ، والدبرة على الضالين المكذبين ظفروا او ظفر بهم.

واما وعظه لابن عباس وهو يريد غيره فليته وعظ من خالف نص الرسول على علي كما اعترف به.

ومنها ما رواه عن ابي بكر الأنباري في أماليه : ان عليا (عليه‌السلام) جلس الى عمر في المسجد وعنده قوم فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه الى التيه والعجب ، فقال عمر : حق لمثله ان يتيه ، والله لو لا سيفه لما قام عمود الاسلام ، وهو بعد اقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها ، فقال له ذلك القائل : فما منعكم يا امير المؤمنين عنه؟ قال : كرهناه على حداثة السن وحبه بني عبد المطلب (١).

قلت وما رواه ابن ابي الحديد من طرق العامة مما يعطي هذا المعنى كثير فلنقتصر على ذكر ما اوردناه لحصول الكفاية.

ثم الآن نتكلم على جملة اخبار هذا الوجه بكلام عام فنقول لمنكري النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) : قد اشتملت هذه الأخبار على الإقرار بالنص تارة على علي (عليه‌السلام) وبأنه اولى الناس بهذا الأمر واحقهم به اخرى ، وثالثة على انه مظلوم والمظلوم لا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ٨٢.

يكون الا بأخذ حق له يختص به فيكون الخلافة على هذا حقه وان المتقدم عليه فيها ظالم له غاصب حقه ، واخرى بانه محروم وهو مثل السابق ، واخرى بان الأمر له ، واخرى بان شيئه قد غصب ، فحينئذ ان كان عمر علم بأن الخلافة حق لعلي (عليه‌السلام) وانه صاحبها واولى الناس واحقهم بها حتى يكون من اختزلها عنه غاصبا وظالما من نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه بذلك ، اما بالتعيين لها كما نقول ، وكما تضمنته جملة من اخبار هذا الباب من قول ابن عباس وعمر ، أو بما استوضحه الرجل من قصد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اشاراته إليه ، او من جهة جمعه للخصال الحميدة كالقرابة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والعلم والشجاعة والسبق الى الدين وكثرة الجهاد ، وعلم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان صاحب هذه الصفات هو الأولى بمقامه ، فذلك هو النص من الرسول على علي (عليه‌السلام) وثبت مدعانا وثبت مخالفتهم لنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في توثبهم لأخذ الخلافة ومبادرتهم الى تحصيل الامارة من مهاجرين وانصار ، وثبت رجوعهم على الاعقاب ما خلا من كان مع امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وجاء تصديق قوله تعالى : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) (١) وصح ما نسبه عمر إليهم من ظلمهم عليا وغصبهم حقه ، وذلك هو مطلوبنا ومرادنا لا نزيد في القول على هذا ، وان كان عمر علم ذلك من غير نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فليس غير النص بطريق يعلم منه هذا فكيف ينسب إليهم الظلم والغصب فيظلمهم بهذا النسبة ، فأي الأمرين تختارون!

واما اعتذاره عن مخالفة النص على علي (عليه‌السلام) بحداثة السن فقد اجاب عنه ابن عباس واجبنا عنه فيما تقدم ، ونقول هنا : ان مقصودنا

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

من ايراد اقوال عمر بيان أنهم خالفوا نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بآرائهم واهوائهم وذلك اقرار منه بالمقصود واعتراف بالمطلوب ، فما زاد في عذره على ان اثبت حجتنا عليهم.

واما اعتذاره بخوف انتقاض العرب فقد اجبنا عنه مرارا بأوضح بيان ، ونزيد في هذا المقام فنقول له : اخبرنا أي العرب وأي الناس استشيروا في بيعة علي (عليه‌السلام) فأبوها؟ أم أي العشائر والقبائل بلغهم ان المهاجرين والأنصار بايعوا عليا (عليه‌السلام) فردوا بيعته ولم يقبلوها؟ وهل جاء منعه عن الخلافة إلا ممن حضر السقيفة ، وهل وهن امره عند الناس الا منهم ، وما آفته غيرهم ، فكيف ينسبون فعلهم الى سواهم ، ويحملونه غيرهم ، ثم لو سلمنا لك ما تدعى لاجبناك بان اللازم عليكم طاعة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومراعاة أمره وليس عليكم ان تضل العرب او تهتدي ، والله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (١) فلم لا بايعتم عليا واطعتم الله ورسوله فيه وقاتلتم من خالفه حتى تذللوا له العرب فتستقيم له الأمور وتجتمع عليه الكلمة كما فعلتم ذلك حين بايعتم غيره؟ وما لكم عصيتم وبدأتم بالمخالفة لتوهمكم ان غيركم ربما يعصي؟ هذا كله مع ما في فعلكم من مخالفة قول النبي وحكمه باجتهادكم ومن جوز لكم ذلك وسوغكموه (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ) (٢)

وأما اعتذاره بحب بني عبد المطلب فهو اوهن الأعذار وأوهاها ، فانه لم يقل أحد بأنه يشترط في الامام ان يبغض قرابته ويكره عشيرته ، فليس حب الامام ذوي قرابته قادحا في صحة إمامته حتى يكون ضده شرطا لها ، ولو كان ذلك قادحا في إمامة علي (عليه الصلاة والسلام) لوجب ان يكون قادحا في نبوة

__________________

(١) المائدة : ١٠٥.

(٢) يونس : ٢٩.

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن حبه لبني عبد المطلب متعالم مشهور ، وحثه الناس على إكرامهم تارة بالتخصيص وتارة بالتعميم ، وشدة حنوه عليهم امر ظاهر معروف ومذكور لا يجوز أن يجهله سائر الناس فضلا عن عمر بن الخطاب وعناية الله ببني عبد المطلب اكراما للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واضحة مكشوفة حيث امره الله ان يبدأ بانذارهم ، ويفتتح دعوة الاسلام بدعائهم فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) وأوجب لهم حقا عليه فقال : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (٢) ثم اوجب لهم المودة على الأمة اعظاما لهم واجلالا ، كل ذلك لتكريم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتفخيمه ، ولقد احتج ابن عباس على عمر بذلك فما استطاع انكاره في حديث عبد الله بن عمر السابق ان ابن عباس لما قام بعد قول عمر : قم الآن فارجع الى منزلك هتف به عمر لما انصرف : ايها المنصرف إني على ما كان منك لراع حقك ، فالتفت ابن عباس فقال : ان لي عليك يا امير المؤمنين وعلى كل المسلمين حقا برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فمن حفظه فحق نفسه حفظ ، ومن أضاعه فحق نفسه اضاع ، ثم مضى فقال عمر لجلسائه ، واها لابن عباس ما رأيته لاحى احدا قط الا خصمه ، فمن كان هذا شأنهم يجب ان يكون حبهم شرطا في الامام لا مبطلا لامامته ، وجعل بغضهم شرطا في صحة الامامة مخالفة لله وردّا لكتابه ومراغمة لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وبعد فما يكون في حب الرجل عشيرته من النقص لمرتبته عن الامامة اذا لم يخف منه لذلك جور في حكم ، ولا ايثار بمال ، ولا حيف في قسمه ، وامير المؤمنين بمعزل عن هذه التهمة ، أو لم يأن لعمر بن الخطاب ان يعلم بطول

__________________

(١) الشعراء : ٢١٤.

(٢) الاسراء : ٢٦.

المعاشرة لعلي (عليه‌السلام) ما هو عليه من قوة الذين ، وما هو فيه من صحة اليقين ، فيعلم بذلك ان حبه لبني ابيه لا يكون له صارفا عن اتباع الحق ، ولا مقتضيا له للميل والهوى ، ولا داعيا للجور والحيف في شيء من الأحكام ، ودع ذا أليس قد علم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيث ما دار) (١) وقوله في قصة ماعز (اما لو كان فيكم ابو الحسن ما اخطأتم) (٢) وامثالها ان عليا لا يعدل عن الحق لقرابة ، ولا يميل للباطل لحب احد ولا لبغض احد ، فيكون اذن اجهل الناس حيث يجهل ما كان ظاهرا كلا بل علم ذلك وتيقنه ، وكيف لا وهو يقول لابن عباس في حديث رواه ابن ابي الحديد ينساق مساق ما ذكرناه في المقام من الأخبار تركنا نقله بعد ان عاب عليّا (عليه‌السلام) وانتقصه بالدعابة ، وجعلها مانعة من استحقاقه الامامة وعاب غيره بما عابه قال : ان احراهم ان وليها ان يحملهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لصاحبك ، اما ان ولى الأمر حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم ، فانظر الى التناقض في هذه الأقوال.

ثم نجيب عن هذه الوجوه الثلاثة فنقول : ان الله حين امر رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنصب علي خليفة من بعده كان عالما بحداثة سنه ، وانتقاض العرب عليه إذا ولي الأمر ـ لو انتقضوا ـ وبحبه بني عبد المطلب ، وهو اعلم بالصلاح والفساد ، فلو علم سبحانه بعدم صلاحيته للامامة لتلك

__________________

(١) اما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي مع الحق والحق مع علي) رواه الخطيب في تاريخ بغداد ١٤ / ٣٢١ وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيث دار) رواه الترمذي ٢ / ٢٩٨ والفخر الرازي في التفسير ١ / ٢٠٥ .. الخ.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٢٧ و ١٢ / ٥٢.

الأمور لما امر نبيه بنصبه (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) ، فوضح من جملة ما ذكرناه ان الاعتذار بحداثة السن ، وانتقاض العرب ، وحب بني عبد المطلب اعتذار مضمحل فاسد لا عذر به في مخالفة النص.

واما الاعتذار بالدعابة فهو باطل بالجواب العام عن الوجوه السابقة ، لأنه كما ترى شامل له ، وما هو الا اقتراح على الله وتطلب عليه ، ولعمري ان كانت طلاقة الوجه ، وبشاشة اللسان ، وسجاحة الأخلاق ، وظهور البشر للمؤمنين ، وكثرة الحلم عيبا مانعا من الامامة فيجب ان يكون الأنبياء ظاهري الغضب ، ذوي غلظة وفظاظة لا رفق فيهم لأن الامامة منصبهم بالاصالة ، وذاك خلاف ما وصف الله به انبياءه من الحلم والرأفة فقال في ابراهيم (عليه‌السلام) : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (١) وقال في حق نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢) وقال في حق قوم مدحهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٣) وقال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (٤) وهذه صفة امير المؤمنين فيجب ان تكون شرطا في الامام لوجودها في النبي الذي انتقلت الامامة منه الى الامام ، ولو كانت الغلظة والشدة وصفا حسنا فضلا عن ان تكون شرطا للامام لما نهى الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عنها وجردها عنه في قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ) الآية (٥). وعذر ابن ابي الحديد عنه في امر الدعاية ونسبة امير المؤمنين إليها بانه خشن الطبع ، وان الكلمات القبيحة تخرج منه على مقتضى جبلته

__________________

(١) هود : ٧٥.

(٢) التوبة : ١٢٨.

(٣) الفتح : ٢٩.

(٤) المائدة : ٥٤.

(٥) آل عمران : ١٥٩.

كالكلمة التي في مرض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) يعني بها قوله : «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليهجر» وكقوله : «متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حلال انا محرمهما ومعاقب عليهما متعة الحج ومتعة النساء» (٢) وانه لم يقصد بها ظواهرها ولا يستطيع الا اخراجها كما هي ، فلم يكن قاصدا عيب علي بالدعابة وغير ذلك من الأعذار الركيكة التي اطالها في مواضع من كتابه ليس بشيء وان اراد بالدعابة التي نسبها الى امير المؤمنين (عليه‌السلام) المزاح الموجب للخفة كما نسبه عمرو بن العاص ومعاوية إليه (٣) فقد ابطل في دعواه باجماع مواليه ومعاديه ، وان عليا (عليه‌السلام) : بريء من ذلك كبيرا وشابا وطفلا ، وما زال عليه بهاء الايمان ، وهيبة التقوى ، ونضارة الورع ، وخشونة الدين ، وذلة التواضع ، وعزة الكمال ، وخشوع الزهد ، ورزانة العقل ، ورصانة الحلم ، ونور العرفان ، ورونق الحكمة ، وضياء العلم ، وجمال العفة ، وقميص الأمانة ، ودرع الصيانة ، وجلباب الديانة ، وكمال البصيرة ، وهيئة الزعامة ، ودلائل الشهامة ، وأبهة الرئاسة ، وجلالة السيادة ، بعيد الهمة عن همز كل هامز ، ورفيع القدر عن لمز كل لامز ، قال صعصعة بن صوحان (٤) في وصفه : كان فينا كأحدنا لين جانب وشدة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ١٨٣ و ٢ / ٢٧.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٨٢.

(٣) قال ابن ابي الحديد : «اما ما كان يقول عمرو بن العاص في علي (عليه‌السلام) لأهل الشام : «ان فيه دعابة» يروم ان يعيبه بذلك عندهم فاصل ذلك كلمة قالها عمر فتلفقها حتى جعلها اعداؤه عيبا وطعنا عليه» (شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٢٦).

وقال في الجزء الأول ص ٢٥ : «وعمرو بن العاص انما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : لله ابوك لو لا دعابة فيك.

(٤) صعصعة صوحان العبدي اسلم على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم

تواضع وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه ولما قال معاوية لقيس بن سعد بن عبادة : رحم الله أبا الحسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة ، قال قيس : نعم كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يمزح ويبسم الى اصحابه ، واراك تسر حسوا في ارتغاء وتعيبه بذلك ، اما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة اهيب من ذي لبدتين ، قد مسه الطوى ، وتلك هيبة التقوى ، ليس كما يهابك طغام اهل الشام ، الى غير ذلك مما وصف به من الهيبة والوقار ، روى ذلك ابن ابي الحديد وغيره من معتزلة واشاعرة ، فليس مما نسبه عمر إليه في شيء ، كما أن قول ابن العاص بهت منه وزور وافتراء ، والله ولى الجزاء ، ودع ذا كله أليس في اعتذار عمر عن تقدمه وتقدم صاحبه على امير المؤمنين في الخلافة بما ذكره من الأعذار بعد شهادته بانها حقه وانه اولى الناس بها دليل ظاهر على انه كان رادا لنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالرأي؟ وذلك هو المقصد. والمراد وهو المدعى الذي نحن بصدد اثباته والله الهادي الى الصواب.

قال ابن ابي الحديد بعد روايته الأخبار التي ذكرناها وغيرها مما اورده هناك في المعنى : سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن محمد بن ابي زيد وقد قرأت عليه هذه الأخبار ، فقلت له : ما اراها الا تكاد تكون دالة على النص ، ولكني استبعد ان تجتمع الصحابة على دفع نص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على شخص بعينه كما استبعد من الصحابة رد نصه على الكعبة وشهر رمضان وغيرهما من معالم الدين ، قال : فقال : ابيت الا ميلا الى

__________________

يره لصغره ويعد هو واخوه زيد بن صوحان في اصحاب علي (عليه‌السلام) اما زيد فاستشهد معه يوم الجمل ، وقد روى ابن الأثير في اسد الغابة بترجمة زيد رواية عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تدل على فضل عظيم وبشارة بالشهادة واما صعصعة فقد شهد مع علي (عليه‌السلام) حروبة الثلاثة ومات في ايام معاوية.

المعتزلة ، وذكر عن النقيب المذكور اجوبة طويلة في دفع استبعاده من الصحابة مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وذكر ان ذلك خلاصة ما حفظه من كلام النقيب ، ونحن نستخلص من تلك الخلاصة زبدة فنوردها وحاصل ذلك : ان القوم لم يذهبوا الى ان الامامة من معالم الدين كالصلاة والصيام والحج وانما كانوا يجرونها مجرى الأمور الدنيوية كتأمير الأمراء وسياسة الرعية ، وما كانوا يرون بأسا بمخالفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في امثال ذلك اذا رأوا مصلحة في المخالفة ، كما ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نص على اخراج ابي بكر وعمر في جيش اسامة فلم يخرجا لما رأياه من المصلحة في التأخير ، واسقطوا سهم ذوي القربى من الخمس وسهم المؤلفة قلوبهم بالرأي ، وهما ادخل في باب الدين منهما في ابواب الدنيا ، وان القوم كانوا يخالفون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو حي في امثال ذلك ، ولقد اوصاهم في مرضه (ان اخرجوا النصارى من جزيرة العرب) فلم يخرجوهم حتى مضى صدر من خلافة عمر ، وعملوا في زمن ابي بكر برأيهم ، وهم الذين هدموا المسجد بالمدينة ، وحولوا المقام بمكة عما وضعه فيه ابراهيم الخليل ونبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى ما وضعته الجاهلية.

قلت : وكان المحول له عمر.

قال : ولم يقفوا على موارد النصوص ، واقتدى بهم الفقهاء فرجح الكثير منهم القياس على النص فاستحالت الشريعة الى شريعة جديدة على ما ادى إليه القياس ، واكثر ما كانوا يعملون بآرائهم فيما يجري مجرى الولايات والتأمير وتقرير قواعد الدولة ولا يقفون مع نصوص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتدبيراته اذا رأوا المصلحة في خلافة كأنهم يقيدون اطلاق نصوصه بقيد غير مذكور لفظا ، وليس ذلك يمكن بهم فيما هو جار مجرى

محض الدين كالصلاة والوضوء ، مثل ان يقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الوضوء شرط في الصلاة فيجمعوا على خلافه ، وكذا في الصوم والحج اذ لا غرض لهم فيه ولا يقدرون على اظهار مصلحة كانت خفيت على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بزعمهم كما امكنهم اظهار ذلك في إمامة علي (عليه‌السلام) من كراهية العرب له اما للوتر والثأر ، واما لمحض الحسد والبغض ، واما لصغر السن وغير ذلك مما زعموه ، واسكتوا به من يخاطبهم ويذاكرهم بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه ، وتعللوا مع اقرارهم بالنص في المبادرة الى عقد الأمر لأبي بكر بخوف الفتنة ، ورجاء تداول الخلافة في بطون قريش فلا يختص بها قوم الى غير ذلك من الزخارف التي ذكروها ، وكان عمر جريا على مخالفة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في زمانه كما خالفه في وقت مرضه لما امر باحضار الدواة وقال : (هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي ابدا) فقال : انه ليهجر حسبنا كتاب الله ، وان الحاضرين افترقوا فصوب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فريق ، وصوب عمر فريق ، وهذا من اغرب الأمور ، فمن بلغت همته الى مثل هذا كيف يبعد عليه رد نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد موته على علي (عليه‌السلام) بالخلافة؟ ومن كان ينكر عليه ذلك؟ مع ان ذاك اشد من مخالفة النص في الخلافة وافضع ، على ان الرجل ما أهمل نفسه ، بل اعد لذلك اعذارا وذلك انه قال لقوم عرضوا له بحديث النص : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجع عن ذلك بأمره أبا بكر بالصلاة وأوهمهم ان ذلك يجري مجرى النص عليه بالخلافة ، وقال يوم السقيفة : رضيك رسول الله لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟ واعانه على مثل ذلك قوم افتعلوا كذبا كافتعاله وجعلوه كالناسخ لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) فكان حال الصلاة والكعبة والصوم والحج غير حال الخلافة.

قال ابن ابي الحديد بعد سرد كلام النقيب جميعه : ان النقيب لم يكن امامي المذهب ، ولا كان يبرأ من السلف ، ولا يرتضي قول المسرفين من الشيعة ، ولكنه كلام اجراه على لسانه البحث والجدل بيني وبينه انتهى (١).

قلت : واكثره وان كان على قواعد القوم منطبقا وانه كلام من يحملهم على الخير لكنه كاف في دفع الاستبعاد واف بالمراد ، والا فالوجه في مثل هذا ما قدمناه من ان القوم كانوا يخالفون النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما يحصل لهم فيه غرض دنيوي ، لأنهم طلبوا الدنيا دون محض الدين واقامتهم على دعوة الاسلام انما هي لحصول الغرض الأعظم هي الرئاسة الكبرى فما كان يخرجهم في ظاهر الحال عند عامة المسلمين من الاسلام كترك الصلاة ، وتغيير القبلة ، واشباه ذلك لا يردون نص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه حفظا لأنفسهم من ان ينسبوا الى الردة فترضخ رءوسهم بالجندل ، او يرجعوا اذنابا ويملكهم غيرهم ، ان وافقهم الناس على تغيير الشريعة ، وما لم يكن بهذه المنزلة من الأمور الدينية والدنيوية فكثيرا ما غيروه وبدلوه وادخلوا فيه ما ليس منه كالوضوء وما ادخلوا فيه من غسل الرجلين والمسح على الخفين وغير ذلك ، وكما اسقطوا من الأذان ما اسقطوا وزادوا فيه ما زادوا او كتحريم المتعتين وتجويز صوم شهر رمضان للمسافر وغير ذلك من الأحكام التي غيروها في ابواب العبادات والمعاملات والمواريث والسياسات مما يطول بذكره الكلام ، ومن نظر كتب الفقه والحديث اطلع على ذلك ، ثم ان الأولين كانا بمكان مكين من البصيرة في الأمور الدنيوية فلازما مع ذلك كله ما يصلحهما عند العامة ، وواظبا على ما يوجب لهما صرف قلوب الخاصة ، فظلفا انفسهما عن الملاذ الظاهرية ، وعن الرغبة في المال وسلكا مسلك الزهد

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١٩ ولا يخفى ان ما نقله المؤلف من كلام النقيب هنا هو زبدة كلام النقيب كما اشار الى ذلك.

والقناعة ، واظهرا الخشوع والورع ، وعمدا الى من تقبل قوله العامة ومن ينتصرون به ان خاصمهم مخاصم في امر الخلافة فحملوهم على الرقاب ، وولوهم الولايات والأعمال ، ووفروهم في العطاء ، وحثوا لهم الأموال حثوا ، واغمضوا عنهم في الحدود ، واسقطوا عنهم عقوبات الجنايات بالمدافعة والرأي ، فلذا اطيعا وبجلا في الحياة والممات ، ولم يكن الثالث كذلك ، بل اراد ان يسلك مسلك الملوك مع ادعائه انه في مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فجرى عليه ما جرى ولو انهما فعلا مثل فعله لأصابهما مثل ما أصابه ، فليسا باعز ناصرا منه ، ولا اكثر نفرا ، ولو فعل مثلما فعلا لنال من طاعة العامة ما نالا ، ولما ذا لم يفرق ابن ابي الحديد بين امر الخلافة وما يتعلق بها من الأغراض الدنيوية ، والشهوات النفسية ، ولم يستلزم مخالفة النص فيها الخروج عن الملة سند جمهور الصحابة ، بل تزيد تقوية في الدين عندهم وبين تغيير الكعبة وشهر رمضان الذي يوجب عند كافة المسلمين الارتداد والخروج من دين الاسلام مع انه لا يتعلق لهم به غرض ، ولا يوجب لهم صلاح امر لو سلموا من الضرر اذا فعلوه ، ألا تراهم اذا أمنوا في تحويل المقام عن موضعه حولوه فاستبعد منهم تغيير النص في الخلافة كما استبعد منهم تغيير الكعبة التي كان اهل الجاهلية يعظمونها ويهدون الهدى إليها فضلا عن المسلمين ، وشهر رمضان الذي هو عند اهل الاسلام بمنزلة الصلاة تارك صومه كافر واين هذا من ذاك؟ وهل يرتاب لبيب في الفرق بين الأمرين او يشك فطن في ان ما يتعلق بالخلافة من الأغراض غير ما يتعلق بالكعبة وشهر رمضان؟ ثم اترك ذا جانبا واقض عجبا من ابن ابي الحديد فانه يسمع من يقول انا ظلمنا عليا وغصبنا حقه لأنه صغير السن او كذا مما ذكر فيجيبه بنفي هذا الاعتراف ويقول : انا استبعد منك ذلك كما استبعد منك ان تترك الصلاة والصوم ، او تصلي لغير الكعبة ، وهذه الشبهة الضئيلة المتهافتة هي أيضا معتمد الاشاعرة في انكار النص كما هي معتمد المعتزلة ، وفي بعض

كلام القوشجي الذي نقلناه عنه سابقا إليها اشارة بينة ، وهذا معتمد ضعيف ومستند واه ، لأن الاستبعاد ليس دليلا في نفسه فكيف يعارض به الدليل القاطع بل يرجح عليه ولو عارضنا بالاستبعاد والاستغراب الأدلة الشرعية لارتفع اكثر الشريعة لغرابته مثل الطواف والأحرام والسعي والهرولة ، ورمى الجمار ، ولذا انكره الزنادقة بان الحكيم لا يأمر بمثل هذه الأفعال ، والسجود في الصلاة والوضوء لها ولذا انكرها المشركون لاشتمالها على السجود وفيه اعتلاء الاست على الرأس ، وهو مستغرب وغير ذلك مما يعرفه المتتبع مما لا يسع المقام ذكره ، فبطل ما اعتمدوا عليه في انكار النص من الاستبعاد ، وثبت وجود النص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على علي (عليه‌السلام) بالامامة صريحا ، وانهم قد خالفوه وهو المراد وهذا اخر الطريق الثاني.

واما الطريق الثالث : وهو ظهور المعجز على يد علي (عليه‌السلام) فمعروف مشهور ومعاجزة كثيرة.

فمنها : قلع باب خيبر وعجز عن حمله سبعون رجلا من الأقوياء. (١).

ومنها مخاطبة الثعبان على منبر الكوفة فسأل عنه فقال : انه من حكام الجن اشكل عليه مسألة فاجبته عنها (٢).

__________________

(١) قلع علي (عليه‌السلام) لباب خيبر مروية في اكثر كتب السيرة النبوية والتاريخ نذكر منها تاريخ الطبري في حوادث سنة ٨ ، مسند الامام احمد ج ٦ ص ٨ والرياض النضرة ٢ / ٨٨ وفيه اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم ان اعادوا الباب» وتاريخ الخطيب البغدادي ١١ / ٣٠٤ وفيه «وانهم جربوه بعد ذلك فلم يحمله الا اربعون رجلا» .. الخ ..

(٢) مخاطبة علي (عليه‌السلام) للثعبان ممكنة لا يمكن من يؤمن بالقرآن ردها خصوصا إذا نظر الى ما قصه الله علينا من قصص سليمان بن داود (عليه‌السلام) وكيف ان

ومنها رفع الصخرة العظيمة عن القليب وذلك انه لما توجه الى صفين مع اصحابه اصابهم عطش عظيم ، فامرهم ان يحفروا بقرب دير فوجدوا صخرة عظيمة عجزوا عن نقلها فنزل علي (عليه‌السلام) فاقتلعها ورمى بها مسافة بعيدة فظهر قليب فيه ماء فشربوا ، ثم اعادها ولما رأى ذلك صاحب الدير اسلم (١).

ومنها محاربة الجن فقد روى ان جماعة من الجن ارادوا وقوع الضرر بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين مسيره الى بني المصطلق فرد علي (عليه‌السلام) كيدهم بما آتاه الله سبحانه (٢).

ومنها رد الشمس له لما كان رأس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حجره والوحي ينزل عليه وعلي لم يصل العصر ، فما سرى عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا وقد غربت الشمس فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم انه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس) فطلعت الشمس بعد ما غربت فصلى العصر ، قال في اسعاف الراغبين : وحديث ردها صححه الطحاوي والقاضي في الشفاء ، وحسنه شيخ الاسلام ابو زرعة وتبعه غيره ، وردوا على جمع قالوا انه موضوع ، وزعم فوات الوقت بغروبها فلا فائدة لردها في محل المنع لعود الوقت بعودها كما ذكره ابن العماد واعتمده غيره ـ الى ان قال ـ : وعلى تسليم عدم عود الوقت نقول : كما ان

__________________

(الذي عنده علم من الكتاب آتاه) الله ما لم يؤت عفريتا من الجن وعلي باب مدينة علم سيد الأنبياء كما صح ذلك من طرف جمهرة علماء المسلمين ، فلما ذا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض! على انه لا اثر لأمثال هذه الرواية في ردها وقبولها وصحتها وعدم صحتها في العقيدة الحقة ، والمذهب السليم.

(١) انظر شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٤ و ٢٠٥.

(٢) محاربة علي (عليه‌السلام) للجن ذكر شيئا منها ابن حجر في الاصابة ٤ / ٢٣٥ والكلام فيها كالكلام في مخاطبته (عليه‌السلام) للثعبان.

ردها خصوصية كذلك ادراك العصر اداء له خصوصية (١) انتهى.

اقول واعترف بحديث رد الشمس ابن ابي الحديد حتى نظمه في اشعاره في مدح امير المؤمنين (٢) واعترف به القوشجي وبجميع ما ذكرناه وما نذكره من المعاجز ، وقول بعض العامة : لو كانت الشمس طلعت بعد ما غابت لكان ذلك معلوما لكل الناس يشبه قول منكري انشقاق القمر للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بانه لو وقع لعلمه كل الناس ، وما يجيبون به عن هذا هو جوابنا عن ذاك.

ومنها اقتلاعه هبل من أعلى الكعبة ورميه به الى الأرض قال ابن ابي الحديد : وكان عظيما جدا (٣).

ومنها اخباره بالمغيبات وذلك كثير حصره مفصلا يحتاج الى كتاب مفرد كاخباره عن قاتله ووقت قتله ، واخباره عن قتل الحسين (عليه‌السلام) في كربلاء (٤) وقوله في الخوارج : (ان مناياهم دون النهر والله لا يفلت منهم عشرة ولا يقتل منا عشرة) وكإخباره عن ملك بني امية ، وان له مدة يسيرة (٥) وعن ملك بني العباس (٦) واخباره جماعة من اصحابه بما يصيب كل واحد منهم ، وبأي قتلة يقتل كعمرو بن الحمق الخزاعي (٧) وحجر بن عدي

__________________

(١) اسعاف لراغبين ص ١٦٢.

(٢) بقوله.

يا من له ردت ذكاء ولم يفز

بنظيرها من قبل الا يوشع

(٣) شرح نهج البلاغة ١ / ٢١.

(٤) أيضا ٣ / ٦٩ / و ٧ / ٤٨.

(٥) أيضا تكرر ذلك في كلامه وخطبة في نهج البلاغة وغيرها.

(٦) أيضا ٧ / ٤٨.

(٧) أيضا ٢ / ٢٨٩ و ١٠ / ١٥.

الكندي (١) ورشيد الهجري (٢) وجورية بن مسهر العبدي (٣) وميثم التمار (٤) ومزرع (٥) وقنبر (٦) وغيرهم ، وكاخباره عن الحجاج وما يعمل في الكوفة (٧) واخباره انه يضرب عنق اعشى باهله (٨) واخباره عن خراب البصرة على يد الزنج (٩). وعن غرقها الا الجامع ، وعن واقعة الترك (١٠) وسلامة اهل العراق منهم ، وعن القرامطة ، واخذهم الحجر الأسود من الكعبة (١١) وعن ملك بني بويه وانه مائة سنة (١٢) وغير ذلك من الملاحم والوقائع والحوادث المتفرقة مما يطول تعداده وقد اشتملت كتب المناقب والسير والتواريخ عليه واشتمل كلامه المجموع في نهج البلاغة على كثير منه ، ولنذكر طرفا من الأخبار الواردة في هذا الباب لنزيد بها شرف هذا الكتاب المحتوي على اثبات إمامة اهل بيت النبي الانجاب ، فنقول :

__________________

(١) كان (عليه‌السلام) قال له لما ضربه ابن ملجم : (كيف بك لو دعيت الى البراءة مني فكان كما قال (سلام الله عليه) والقصة مشهورة.

(٢) أيضا ٢ / ٢٩٤.

(٣) أيضا ٢ / ٢٩٠.

(٤) أيضا ٢ / ٢٩١.

(٥) أيضا ٢ / ٢٤٩.

(٦) قنبر مولى علي (عليه‌السلام) قتله الحجاج وكان علي (عليه‌السلام) قد اخبره بذلك.

(٧) شرح نهج البلاغة ٧ / ٤٨.

(٨) أيضا ٢ / ٢٨٩.

(٩) أيضا ٧ / ٤٨ و ٨ / ١٢٥ فما بعدها.

(١٠) أيضا ٨ / ٢١٥ فما بعدها.

(١١) انظر تفصيل ذلك في تاريخ الكوفة للبراقي.

(١٢) شرح نهج البلاغة ٧ / ٤٨.

قال ابن ابي الحديد : ذكر المدائني في كتاب الخوارج قال : لما خرج علي (عليه‌السلام) الى اهل النهر اقبل رجل من اصحابه ممن كان على مقدمته يركض حتى انتهى الى علي (عليه‌السلام) ، فقال : البشرى يا امير المؤمنين ، قال : ما بشراك؟ قال : ان القوم عبروا النهر لما بلغهم وصولك فابشر فقد منحك الله اكتافهم ، فقال له : الله انت رأيتهم قد عبروا؟ قال : نعم ، فاحلفه ثلاث مرات في كلها يقول : نعم ، فقال علي (عليه‌السلام) : (والله ما عبروه ولن يعبروه وان مصارعهم لدون النطفة ، والذي فلق الحبة وبرا النسمة لن يبلغوا الا ثلاث ولا قصر بوران حتى يقتلهم الله ، وقد خاب من افترى) قال : ثم اقبل فارس آخر يركض فقال كقول الأول ، فلم يكترث علي (عليه‌السلام) بقوله ، وجاءت الفرسان تركض كلها تقول مثل ذلك ، فقام علي فجال في متن فرسه قال : فيقول شاب من الناس والله لأكونن قريبا منه فان كانوا عبروا النهر لأجعلن سنان هذا الرمح في عينيه ، أيدعي علم الغيب؟ فلما انتهى (عليه‌السلام) الى النهر وجد القوم قد كسروا جفون سيوفهم ، وعرقبوا خيلهم ، وجثوا على ركبهم ، وحكموا تحكيمة واحدة بصوت عظيم له زجل ، فنزل ذلك الشاب فقال : يا امير المؤمنين اني كنت شككت فيك آنفا ، واني تائب الى الله وأليك فاغفر لي ، فقال علي (عليه‌السلام) : (ان الله هو الذي يغفر الذنوب فاستغفره) (١) وقال المعتزلي : وروى جميع اهل السيرة ان عليا (عليه‌السلام) لما طحن القوم طلب ذا الثدية طلبا شديدا وقلب القتلى ظهرا لبطن فلم يقدر عليه ، فساءه ذلك ، وجعل يقول : (والله ما كذبت ولا كذبت اطلبوا الرجل وانه لفي القوم) فلم يزل يتطلبه حتى وجده.

قال : وروى ابراهيم بن ديزيل في كتاب صفين عن الأعمش عن

__________________

(١) أيضا ١ / ٢٧١.

زيد بن وهب قال لما شجرهم علي (عليه‌السلام) بالرماح قال : (اطلبوا ذا الثدية) فطلبوه طلبا شديدا حتى وجده في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى فأتى به ، فاذا رجل على ثدية مثل سبلات السنور ، فكبر علي (عليه‌السلام) وكبر الناس معه سرورا بذلك.

وروى في صفه استخراجه غير ذلك روى العوام بن حوشب عن ابيه عن جده يزيد بن رويم قال : قال علي (عليه‌السلام) : (يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج احدهم ذو الثدية فاتبعه) فلما طحن القوم ورام استخراج ذي الثدية فاتبعه امرني ان اقطع له أربعة آلاف قصبة ، وركب بغلة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال : (اطرح على كل قتيل منهم قصبة) فلم ازل كذلك وانا بين يديه وهو راكب خلفي والناس يتبعونه حتى بقيت في يدي واحدة فنظرت إليه فاذا وجهه اربد واذا هو يقول : (والله ما كذبت ولا كذبت) فاذا خرير ماء عند موضع دالية (١) فقال : فتش هذا ففتشته ، فاذا قتيل قد صار في الماء واذا رجله في يدي فجذبتها وقلت : هذه رجل انسان فنزل عن البغلة مسرعا فجذب الرجل الأخرى وجررناه حتى صار على التراب فاذا هو المخدج فكبر علي (عليه‌السلام) باعلا صوته ثم سجد ، فكبر الناس كلهم (٢).

وروى أيضا في استخراجه غير ذلك.

قال وروى ابن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد بن علي قال قال لما قال : علي (عليه‌السلام) : (سلوني قبل ان تفقدوني فو الله لا تسألوني عن فئة تضل مائة وتهدي مائة ما

__________________

(١) أيضا ٢ / ٢٦٧ و ٢٧٦.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٥.

ألا انبأتكم بناعقها وسائقها) فقام إليه رجل فقال : اخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر فقال له علي (عليه‌السلام). لقد حدثني خليلي ان على كل طاقة شعر من رأسك ملكا يلعنك وان على كل طاقة من شعر من لحيتك شيطانا يغويك ، وان في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكان ابنه قاتل الحسين يومئذ طفلا يحبو وهو سنان بن انس النخعي (١).

وروى الحسن بن محبوب عن ثابت الثمالي عن سويد بن غفلة ان عليا (عليه‌السلام) خطب ذات يوم فقام رجل من تحت منبره فقال يا امير المؤمنين اني مررت بوادي القرى فوجدت خالد بن عرفطة قد مات فاستغفر له فقال (عليه‌السلام) والله ما مات ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب لوائه حبيب بن حمار فقام رجل آخر من تحت المنبر فقال يا امير المؤمنين انا حبيب بن حمار واني لك شيعة ومحب فقال انت حبيب بن حمار قال نعم فقال له ثانية والله انك لحبيب بن حمار فقال اي والله قال اما والله انك لحاملها ولتحملنها ولتدخلن بها من هذا الباب واشار الى باب الفيل بمسجد الكوفة قال ثابت فو الله ما مت حتى رأيت ابن زياد وقد بعث عمر بن سعد الى الحسين بن علي (عليه‌السلام) وجعل خالد بن عرفطة على مقدمته وحبيب بن حمار صاحب رايته فدخل بها من باب الفيل (٢).

وروى محمد بن جبلة الخياط عن عكرمة عن زيد الأحمسي ان عليا (عليه‌السلام) كان جالسا في مسجد الكوفة بين يديه قوم منهم عمرو بن حريث اذ اقبلت امرأة مختمرة لا تعرف فوقفت فقالت لعلي (عليه‌السلام) يا من قتل الرجال وسفك الدماء وايتم الصبيان وارمل النساء فقال (عليه‌السلام) وانها

__________________

(١) أيضا ٢ / ٢٨٦.

(٢) أيضا ٢ / ٢٨٧.

لهي هذه السلقلق الجلعة المجعة (١). وانها لهي هذه شبيهة الرجال والنساء التي ما رأت دما قط قال فولت هاربة منكسة رأسها فتبعها عمرو بن حريث فلما صارت بالرحبة قال لها والله لقد سررت بما كان منك اليوم الى هذا الرجل فادخلي منزلي حتى اهب لك واكسوك فلما دخلت منزلة امر جواريه بتفتيشها وكشفها ونزع ثيابها لينظر صدقه فيما قاله عنها فبكت وسألته ان لا يكشفها وقالت انا والله كما قال لي ركب النساء وانثيان كأنثي الرجال وما رأيت دما قط فتركها واخرجها ثم جاء الى علي (عليه‌السلام) فاخبره فقال ان خليلي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اخبرني بالمتمردين عليّ من الرجال والمتمردات من النساء الى ان تقوم الساعة.

وروى عثمان بن سعيد عن يحيى التيمي عن الأعمش عن اسماعيل بن رجا قال قام أعشى باهلة وهو غلام يومئذ حدث الى علي (عليه‌السلام) وهو يخطب ويذكر الملاحم ، فقال : يا امير المؤمنين ما اشبه هذا الحديث بحديث خرافة فقال (عليه‌السلام) ان كنت آثما فيما قلت يا غلام فرماك الله بغلام ثقيف ، ثم سكت ، فقام رجال وقالوا : ومن غلام ثقيف يا امير المؤمنين؟ قال : غلام يملك بلدتكم هذه لا يترك لله حرمة الا انتهكها ، يضرب عنق هذا الغلام بسيفه ، فقالوا : كم يملك يا امير المؤمنين؟ قال : عشرين ان بلغها ، قالوا : فيقتل قتلا أم يموت موتا؟ قال : بل يموت حتف انفه بداء البطن يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه ، قال اسماعيل بن رجا : فو الله لقد رأيت بعيني اعشى باهلة وقد احضر في جملة الأسرى الذين اسروا من جيش عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بين يدي الحجاج ، فقرعه ووبخه ، واستنشده شعره الذي يحرض فيه عبد الرحمن على الحرب ، ثم ضرب عنقه

__________________

(١) قال ابن ابي الحديد : «السلقلقة : السليطة ، واصله من السلق وهو الذئب ، والسلقة : الذئبة ، والجلعة المجعة : البذية اللسان ، والركب : موضع العانة».

في ذلك المجلس (١).

روى محمد بن علي الصواف عن الحسين بن سفيان عن ابيه عن شهر بن سدير الأزدي قال : قال علي لعمرو بن الحمق الخزاعي : اين نزلت يا عمرو؟ قال : في قومي قال : لا تنزلن فيهم ، قال : فأنزل في بني كنانة جيراننا ، قال : لا قال : فانزل في ثقيف ، قال : فما تصنع بالمعرة والمجرة ، قال : وما هما؟ قال : عنقان من نار يخرجان من ظهر الكوفة يأتي احدهما على تميم وبكر بن وائل ، فقل ما يفلت منه احد ، ويأتي العنق الآخر فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة فقل من يصيب منهم ، انما تدخل النار فتحرق البيت والبيتين قال : فاين انزل؟ قال : انزل في بني عمرو بن عامر من الأزد ، قال : فقال قوم حضروا هذا الكلام : ما نراه الا كاهنا يتحدث بحديث الكهنة ، فقال : يا عمرو انك لمقتول بعدي وان رأسك لمنقول وهو اوّل رأس نقل في الاسلام ، والويل لقاتلك ، اما انك لا تنزل بقوم الا اسلموك برمتك الا هذا الحي من بني عمر بن عامر من الأزد فانهم لن يسلموك ولن يخذلوك ، قال : فو الله ما مضت الأيام حتى تنقل عمرو بن الحمق في خلافة معاوية في بعض احياء العرب خائفا مذعورا حتى نزل في قومه من بني خزاعة فاسلموه فقتل ، وحمل رأسه من العراق الى معاوية بالشام وهو اوّل رأس حمل في الاسلام من بلد الى بلد (٢).

وروى ابراهيم بن ميمون الأزدي عن حبة العرني قال : كان جويرية بن مصهر العبدي صالحا ، وكان لعلي بن أبي طالب (عليه‌السلام) صديقا ، وكان علي يحبه ، ونظر يوما إليه وهو يسير فناداه : يا جويرية الحق بي فاني اذا رأيتك هويتك ، قال اسماعيل بن ابان فحدثني الصباح عن مسلم العرني قال :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٨٩.

(٢) أيضا ٢ / ٢٩٠.

سرنا مع علي (عليه‌السلام) يوما فالتفت فاذا جويرية خلفه فناداه : يا جويرية الحق بي لا أبا لك الا تعلم اني اهواك واحبك؟ قال : فركض نحوه فقال له : اني محدثك بامور فاحفظها ، ثم اشتركا في الحديث سرا فقال له جويرية : يا امير المؤمنين اني رجل نسي فقال : انا اعيد عليك الحديث لتحفظه ، ثم قال له في آخر ما حدثه إيه : يا جويرية احب حبيبنا ما احبنا فاذا ابغضنا فابغضه ، وابغض بغيضنا ما ابغضنا فاذا احبنا فاحبه ، قال : فكان ناس ممن يشك في امر علي (عليه‌السلام) يقولون : أتراه جعل جويرية وصيه كما يدعي هو من وصية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : يقولون ذلك لشدة اختصاصه به حتى دخل على علي (عليه‌السلام) يوما وهو مضطجع وعنده قوم من اصحابه فناداه جويرية : ايها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك ، قال : فتبسم امير المؤمنين (عليه‌السلام) قال : واحدثك يا جويرية بامرك ، اما والذي نفسي بيده لتقبلن الى العتل الزنيم فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر قال : فو الله ما مضت الأيام على ذلك حتى اخذ زياد جويرية فقطع يده ورجله وصلبه الى جانب جذع بن مكعبر ، وكان جذعا طويلا فصلبه على جذع قصير الى جانبه (١).

وروى ابراهيم في كتاب الغارات عن احمد بن الحسن الميثمي قال : كان ميثم التمار مولى علي بن أبي طالب عبدا لامرأة من بني اسد فاشتراه علي (عليه‌السلام) منها واعتقه ، وقال له : ما اسمك؟ فقال : سالم ، فقال : ان رسول الله اخبرني ان اسمك الذي سماك به ابوك في العجم ميثم ، فقال : صدق الله ورسوله وصدقت يا امير المؤمنين فهو والله اسمى ، قال : فارجع الى اسمك ودع سالما فنحن نكنيك به ، فكناه أبا سالم قال : وقد كان

__________________

(١) أيضا ٢ / ٢٩٠.

قد اطلعه علي (عليه‌السلام) على علم كثير واسرار خفية من اسرار الوصية ، فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك فيه قوم من اهل الكوفة وينسبون عليا (عليه‌السلام) في ذلك الى المخرفة والايهام والتدليس ، حتى قال له يوما بمحضر من خلق كثير من اصحابه وفيهم الشاك والمخلص : يا ميثم انك تؤخذ بعدي وتصلب فاذا كان اليوم الثاني ابتدر منخراك وفمك دما حتى يخضب لحيتك فاذا كان اليوم الثالث طعنت بحربة يقضي عليك فانتظر ذلك والموضع الذي تصلب على باب دار عمرو بن حريث انك لعاشر عشرة انت اقصرهم خشبة واقربهم من المطهرة يعني الأرض ولأرينك النخلة التي تصلب على جذعها ثم اراه اياها بعد ذلك بيومين ، وكان ميثم يأتيها فيصلي عندها ويقول : بوركت من نخلة لك خلقت ولي نبت ، فلم يزل يتعاهدها بعد قتل علي (عليه‌السلام) حتى قطعت فكان يرصد جذعها ويتعاهده ويتردد إليه ويبصره ، وكان يلقي عمرو بن حريث فيقول له : اني مجاورك فاحسن جواري ، فلم يعلم عمرو ما يريد فيقول له : أتريد ان تشتري دار ابن مسعود أم دار ابن حكيم؟ قال : وحج في السنة التي قتل فيها فدخل على أمّ سلمة (رضي الله عنها) فقالت له : من انت قال : عراقي ، فاستنسبته فذكر لها انه مولى علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) فقالت : انت هيثم قال : بل انا ميثم ، فقالت : سبحان الله ، والله لربما سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يوصي بك عليا (عليه‌السلام) في جوف الليل فسألها عن الحسين بن علي (عليه‌السلام) ، فقالت : هو في حائط له ، قال : اخبريه اني قد احببت السلام عليه ونحن ملتقون عند رب العالمين إن شاء الله ولا اقدر اليوم على لقائه واريد الرجوع ، فدعت بطيب فطيبت لحيته ، فقال لها : اما انها ستخضب بدم ، فقالت : من انبأك هذا؟ قال : انبأني سيدي ، فبكت أمّ سلمة وقالت له : انه ليس بسيدك وحدك وهو سيدي وسيد المسلمين ، ثم ودعته ، فقدم الكوفة فأخذ وأدخل على

عبيد الله بن زياد ، وقيل له : هذا كان من آثر الناس عند ابي تراب ، قال : ويحكم هذا الأعجمي ، قالوا : نعم ، قال له عبيد الله : اين ربك ، قال : بالمرصاد ، قال : قد بلغني اختصاص ابي تراب بك ، قال : قد كان بعض ذلك فما تريد؟ قال : وانه ليقال انه قد اخبرك بما سيلقاك ، قال : نعم انه اخبرني ، قال : ما الذي اخبرك اني صانع بك؟ قال : اخبرني انك تصلبني عاشر عشرة وانا اقصرهم خشبة واقربهم من المطهرة ، قال : لأخالفنه ، قال : ويحك كيف تخالفه انما اخبر عن رسول الله ، واخبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن جبرئيل ، واخبر جبرئيل عن الله ، فكيف تخالف هؤلاء؟ اما والله لقد عرفت الموضع الذي اصلب فيه اين هو من الكوفة ، واني لأول خلق الله الجم في الاسلام بلجام كما تلجم الخيل ، فحبسه وحبس معه المختار بن ابي عبيدة الثقفي ، فقال ميثم للمختار وهما في حبس ابن زياد : انك تفلت وتخرج ثائرا بدم الحسين (عليه‌السلام) فتقتل هذا الجبار الذي نحن في حبسه ، وتطأ بقدمك هذا على جبهته وخديه ، فلما امر عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله طلع البريد بكتاب يزيد بن معاوية الى عبيد الله بن زياد يأمره بتخلية سبيله ، وذاك ان اخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطاب فسألت بعلها ان يشفع فيه الى يزيد فشفع ، فأمضى شفاعته وكتب بتخلية سبيل المختار على البريد وقد اخرج لتضرب عنقه فاطلق ، واما ميثم فاخرج بعده ليصلب ، وقال عبيد الله : لأمضين حكم ابي تراب فيه ، فلقيه رجل فقال له ما كان اغناك عن هذا يا ميثم فتبسم ، وقال لها خلقت ولي غذيت فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث ، فقال عمر : ولقد كان يقول لي اني مجاورك فكان يأمر جاريته كل عشية ان تكنس تحت خشبة وترشه وتجمر بالمجمر تحته ، فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم ومخازي بني امية وهو مصلوب على الخشبة ، فقيل لابن زياد : قد فضحكم هذا العبد ، فقال : الجموه ،

فكان اوّل خلق الله الجم في الاسلام ، فلما كان في اليوم الثاني فاضت منخراه وفمه دما ، فلما كان في اليوم الثالث طعن بحربة فمات ، وكان قتل ميثم قبل قدوم الحسين (عليه‌السلام) العراق بعشرة ايام (١)

قال ابراهيم :

وحدثني ابراهيم بن العباس النهدي قال حدثني مبارك البجلي عن ابي بكر بن عياش قال : حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي قال : كنت عند زياد وقد أتى برشيد الهجري وكان من خواص اصحاب علي (عليه‌السلام) فقال له زياد : ما قال خليلك لك انا فاعلون بك؟ قال : تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني ، فقال زياد : اما والله لأكذبن حديثه ، خلوا سبيله ، فلما اراد ان يخرج قال ردوه لا نجد شيئا اصلح مما قال لك صاحبك انك لا تزال تبغى لنا سوءا ان بقيت اقطعوا يديه ورجليه ، فقطعوا يديه ورجليه وهو يتكلم فقال : اصلبوه خنقا في عنقه ، فقال رشيد : قد بقي لي عندكم شيء ما اراكم فعلتموه ، فقال زياد : اقطعوا لسانه فلما اخرجوا لسانه ليقطع قال : نفسوا عني اتكلم كلمة واحدة فنفسوا عنه ، فقال هذا والله تصديق خبر امير المؤمنين (عليه‌السلام) اخبرني بقطع لساني فقطعوا لسانه وصلبوه (٢).

وروي ابو داود الطيالسي عن سليمان بن زريق عن عبد العزيز بن صهيب قال حدثني ابو العالية قال : حدثني مزرع صاحب علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) انه قال : ليقبلن جيش حتى اذا كانوا بالبيداء خسف بهم ، قال ابو العالية : فقلت له انك لتحدثني بالغيب! فقال : احفظ ما اقوله لك فانما حدثني به الثقة علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) وحدثني أيضا شيئا

__________________

(١) أيضا ٢ / ٢٩١.

(٢) أيضا ٢ / ٢٩٤.

آخر : (ليؤخذن رجل فليقتلن وليصلبن بين شرفتين من شرف المسجد) فقلت : انك لتحدثني بالغيب! فقال : احفظ ما اقول لك ، قال ابو العالية : فو الله ما اتت علينا جمعة حتى اخذ مزرع فقتل وصلب بين شرفتين من شرف المسجد (١).

وروى محمد بن موسى العنزي قال : كان مالك بن ضمرة الرواسي من اصحاب علي (عليه‌السلام) وممن استبطن من جهته علما كثيرا وكان أيضا قد صحب أبا ذر فاخذ من علمه وكان يقول في ايام بني امية : اللهم لا تجعلني اشقى الثلاثة ، فيقال له : وما الثلاثة فيقول رجل يرمي من فوق طمار ، ورجل تقطع يداه ورجلاه ولسانه ويصلب ، ورجل يموت على فراشه ، فكان من الناس من يهزأ به ويقول : هذا من اكاذيب ابي تراب قال : وكان الذي رمى به من طمار هاني بن عروة ، والذي قطع وصلب رشيد الهجري ، ومات مالك على فراشه (٢).

وقال نصر بن مزاحم : وحدثنا منصور بن سلام التميمي عن ابي عبيدة عن هرثمة بن سليم ، قال : غزونا مع علي (عليه‌السلام) صفين فلما نزل بكربلاء صلى بنا فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ثم قال : واهالك يا تربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب ، قال : فلما رجع هرثمة من غزاته الى امرأته جرداء بنت شمير وكانت من شيعة علي (عليه‌السلام) حدثها هرثمة فيما حدث فقال لها : الا اعجبك من صديقك ابي حسن لما نزلنا كربلاء وقد اخذ حفنة من ترابها فشمها وقال : واها لك ايتها التربة ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب وما علمه بالغيب فقالت المرأة له : دعنا منك ايها الرجل ان امير المؤمنين لم يقل الا حقا ، قال : فلما بعث

__________________

(١) أيضا ٢ / ٢٩٤.

(٢) أيضا ٢ / ٢٩٥.

عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه الى الحسين (عليه‌السلام) كنت في الخيل الذي بعث إليهم ، فلما انتهيت الى الحسين واصحابه عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع علي (عليه‌السلام) والبقعة التي رفع إليه من تربتها والقول الذي قاله فكرهت مسيري ، فاقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين (عليه‌السلام) فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من ابيه في هذا المنزل ، فقال الحسين (عليه‌السلام) أمعنا أم علينا؟ فقلت : يا بن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا معك ولا عليك تركت ولدي وعيالي اخاف عليهم من ابن زياد؟ فقال الحسين : فول هربا حتى لا ترى مقتلنا فو الذي نفس حسين بيده لا يرى اليوم مقتلنا احد ثم لا يعيننا الا دخل النار ، قال : فاقبلت في الأرض اشتد هربا حتى خفي على مقتلهم (١).

قال نصر : وحدثنا سعيد بن حكيم العبسي عن الحسن بن بكير عن ابيه : ان عليا (عليه‌السلام) اتى كربلاء فوقف بها فقيل له : يا امير المؤمنين هذه كربلاء ، فقال : ذات كرب وبلاء ، ثم اومى بيده الى مكان فقال : هاهنا موضع رحالهم ، ومناخ ركابهم ، ثم اومى بيده الى مكان آخر فقال هاهنا مراق دمائهم ثم مضى الى ساباط (٢).

وروى قيس بن الربيع عن يحيى بن هاني المرادي عن رجل من قومه يقال له : زياد بن فلان ، قال : كنا في بيت مع علي نحن وشيعته وخواصه فالتفت فلم ينكر منا احدا ، فقال : ان هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون ايديكم ، ويسملون اعينكم ، فقال له رجل منا : وانت حي يا امير المؤمنين ، قال : اعاذني الله من ذلك ، فالتفت فاذا واحد يبكي فقال له : يا بن الحمقاء أتريد اللذات في الدنيا والدرجات في الآخرة انما وعد الله

__________________

(١) أيضا ٣ / ١٦٩ وصفين لنصر بن مزاحم ١٥٧.

(٢) أيضا ٣ / ١٧. وصفين ١٥٨.

الصابرين جميع ذلك ذكره ابن ابي الحديد في كتابه (١) وذكر غيره من هذا الباب اضعافه فلنقتصر على ما ذكرناه لحصول الغرض به اذ لا منكر لهذا الأمر من مطلعي الخصوم ، واذا كان علي (عليه‌السلام) ادعى الامامة وظهر المعجز على يديه وجب ان يكون إماما ، لأنا قدمنا ان الامامة تثبت بالمعجز كما تثبت به النبوة.

واجاب القوشجي عن هذا بعد اعترافه بصحته : بانا لا نسلم انه ادعى الامامة قبل ابي بكر ولو سلم فلا نسلم ظهور تلك الأمور في مقام التحدي.

اقول هذا الجواب تشبيه على الواضحات وتغطية للظاهرات فان ادعاء علي (عليه‌السلام) الامامة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واحتجاجه على الصحابة وتظلمه منهم اذ منعوه عن الخلافة بين مشهور ، وظاهر غير مستور ، بل من متواترات الأمور ، وقد سبق بيانه وسطع في كلامنا المتقدم برهانه ، واشرقت شموسه وزهر تبيانه بحيث لا ينكره الا جاهل جاحد أو متعصب معاند.

واما معجزاته ، فمنها ما هو جار على سبيل الارهاص وهي التي في زمان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واكثرها واقع بعد دعواه الامامة فيكون مقرونا بالتحدي ، وكم كان يستدل على إمامته بذلك مثل قوله : (سلوني قبل ان تفقدوني) (٢) وقوله وهو شابك يديه على بطنه : (هذا سفط العلم

__________________

(١) أيضا ٤ / ١٠٩.

(٢) في الاستيعاب ٣ / ٤٠ عن سعيد بن المسيب قال : «ما كان احد من الناس يقول : سلوني غير علي بن ابي طالب» قال شيخنا الأميني في الغدير ٦ / ١٩٥ : «وما تفوه بهذا المقال احد بعد امير المؤمنين (عليه‌السلام) إلا وفضح ووقع في ربيكة وأماط بيده الستر عن جهله المطبق» ثم ذكر (رحمه‌الله) نوادر وقعت لجماعة خانهم التوفيق فتفوهوا بها ففضحوا أنفسهم ، وظهر عجزهم وقد سئلوا عن أبسط المسائل امثال ابراهيم بن هشام المحزومي ومقاتل بن سليمان وقتادة وغيرهم.

هذا لعاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقوله (عليه‌السلام) احق الناس بهذا الأمر اقواهم عليه واعلمهم بامر الله فيه) وقوله ما مضمونه ان الله تعالى قال في طالوت : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (١) فاوجب له التقدم عليهم بذلك ، فهل ترون لمعاوية زيادة على علي في العلم والجسم ، ويكفي في ذلك قوله لأبي بكر واصحابه : (فو الله يا معشر المهاجرين لنحن اهل البيت احق بهذا الأمر منكم أما كان منا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بالسنة ، المطلع بامر الرعية ، والله انه لفينا) أفليس هذا القول منه صريحا في دعواه الامامة دون كل الناس وتحديهم بالعلم وغيره ، لكن الأعراض عن الحق والانصراف عن الحجة داء لا دواء له ، والله المستعان على ما يصفون ، فظهر لك صحته ما قلناه واندفاع جوابه ، وانت ايها الناظر المنصف اذا تأملت فيما حررناه وتبصرت فيما سطرناه تبين لك ان مذهب الامامية هو الحق الذي يحق اتباعه ، قد أيدته الآيات القرآنية ، ونصرته الأخبار النبوية ، وعضدته الأدلة الاعتبارية؟ وساعدته البراهين العقلية ، والحمد لله على هدايته ايانا للحق الواضح والطريق القويم وتوفيقه ايانا لنهج الصواب.

__________________

(١) سورة البقرة آية : ٢٤٧.

سؤال وجواب

ان قال قائل : انكم حكمتم بان عليّا (عليه‌السلام) هو امام الحق بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنصه عليه وانهم قد ظلموه وردوا نص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليه بغير حجة ولا برهان ، وهذا عندكم رجوع على الأعقاب وخروج من الحق الى الضلال ، فما الذي منع امير المؤمنين من قتلهم وقتالهم مع انه عندكم اشجع الخلق ، وغيركم أيضا مقر بشجاعته وانتم تقولون لو قاتله اهل الأرض كلهم لغلبهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب؟ فاذ حكمتم بضلالهم لزمكم الحكم بخطإ علي (عليه‌السلام) في ترك جهادهم ، وعدوله عن قتالهم كما فعل بالناكثين والقاسطين والمارقين ، والحكم بصحة ما فعلوه قلنا له ، لهذا السؤال وجوه متعددة من الأجوبة كل منها كاف في دفعه وشاف في رفعه.

الأول ان عليا (عليه‌السلام) عندنا كما ذكرت من الشجاعة الا انه مع ذلك لا يمكنه الجهاد بنفسه ولا القتال بمفرده لانه بشر مكلف ، وله شواغل من الضروريات البدنية كالنوم والأكل والشرب وغيرها وله شواغل من لوازم التكليف كالصلاة والصوم وغيرهما ، ويشغله شأن عن شأن والنوم والصلاة والأكل والشرب من الضروريات واللوازم الدائمة المستمرة على الانسان لا يخلو منها في اليوم والليلة ابدا ، فليس بمنكر من القوم لو قاتلهم بنفسه ان

يفروا عنه في وقت تجرده لجلادهم ولا يلاقوه في معركة النزال ويتربصوا به ساعة شغله ووقت تلبسه بما يمنعه من مدافعة خصمه وكف عدوه كالصلاة والنوم فينتهزوا فيه الفرصة ويدركوا من قتله الأرب لعلمهم انه واحد لا حارس له ولا ممانع عنه ، وقد علمت ان عبد الرحمن بن ملجم قتله في صلاته مع علو كلمته واستمداد سلطنته ، وانقياد جيوش المسلمين الى أمره ، ووقوفهم على حدود طاعته ، لا سيما في مثل تلك الأيام من زمان خلافته فانه اجتمعت إليه كلمة اصحابه واستقام له أودهم ، فجمع الجموع وعقد الرايات ليسير بهم الى حرب معاوية ولم تكن بسطة يده وكثرة جنده مانعة من قتله في وقت اشتغاله بصلاته ، فكيف وهو واحد متفرد بنفسه وليس ابن ملجم باجرأ عليه من خالد بن الوليد والوليد بن عقبة وطلحة وعمرو بن العاص واسيد بن حضير وسالم مولى ابي حذيفة واضرابهم واشباههم ولا باشجع من احدهم ، ولا اشد بغضا لعلي (عليه‌السلام) وحقدا عليه من واحد منهم ، فلا امتناع من اقتحام بعض هؤلاء او غيرهم او جماعة منهم عليه وقت نومه أو صلاته فيقتل حينئذ ولا مانع من ان ينازلوه أيضا فتلاقيه منهم شرذمة وتأتي من ورائه طائفة وقوم عن يمينه وآخرون عن شماله فيبلغون فيه الغرض ، وهو مشغول بجلاد الفرقة التي هي أمامه وجائز أيضا ان يلجئوا عند حملته عليهم الى الدور ، ويغلقوا الأبواب فيرمونه من أعلى السطوح بالسهام والحجارة من كل الجوانب فيصيبوه قبل ان يصل إليهم ، وكل هذا ممكن غير ممتنع وقريب غير بعيد ، فعلى هذا يكون قتاله اياهم منفردا تغريرا بنفسه وإلقاء بيده الى التهلكة ، وذلك غير جائز شرعا ومن المعلوم المقرر عند اهل العلم ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسترجاع المظلمة من الظالم يسقط وجوبه عند حصول الظن القوي بوصول الضرر الى النفس فكيف مع تيقنه؟ فلذلك لم يجز لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) ان يقاتل القوم وهو واحد ، بل الواجب عليه الكف حتى يحصل التمكن ففعل ما وجب عليه

الثاني انا وان قلنا في علي (عليه‌السلام) من الشجاعة ما قلنا الا انه لم يقل منا احد بانه اقوى بأسا من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا أمضى منه عزيمة في انفاذ امر الله ، وقد علمت ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد بقي في مكة ثلاث عشرة سنة من بعد المبعث وهو يؤذي ويشتم ويكذب ويرتكب منه القبيح ويطلب قتله مع وجود جماعة عنده قد اتبعوه ومنهم علي (عليه‌السلام) لكن لا يقومون بقتال اعدائه فلم يكلفه الله بجهاد ولا امره بقتال ، بل أمره بالكف وذم من اراد فتح باب الحرب هناك من اصحابه بقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) (١) الآية فلما وجد الأعوان وحصل الناصر بعد الهجرة امره الله بقتالهم ، فرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اسوة (٢) لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) يجب عليه الكف عند عدم الناصر والجهاد في طلب حقه عند وجود المعاون ، لم يكن الله ليكلفه بما لم يكلف به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيوجب عليه القتال بنفسه منفردا ، ولو جاز ذلك لوجب ان يكون افضل من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأن شدة المشقة في التكليف توجب زيادة الثواب وهذا باطل عندنا ، واعتقاده كفر صريح ، بل المحقق ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) افضل المخلوقات ، وان تكليفه اشد مشقة من تكليف علي كوجوب المجاهرة بالحق ، ورفع التقية ، ووجوب صلاة الليل عليه ، وغير ذلك من خصائصه المذكورة في كتب الفقه ولقد قال علي (عليه‌السلام) (انما انا عبد لمحمد) لما قال له يهودي أنبي انت؟ وعلي (عليه‌السلام) لم يقعد عما وجب عليه فانه طلب الناصر على ظالميه واستصرخ الناس للمعونة على

__________________

(١) النساء : ٧٧.

(٢) الأسوة : القدوة.

غاصبيه كما صح باتفاق النقل من طريق الرواية فلما لم يجد معينا يعينه ، ولم يظفر بمساعد يساعده كف متأسفا واغضى حزينا ، الا تراه كيف يقول : (فنظرت فاذا ليس لي معين الا اهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، واغضيت على القذى وشربت على الشجى (١) واقواله في هذا المعنى كثيرة قد تقدم جملة منها ، فلم يزل كافا وهو يتجرع الغيظ والغصص كما كف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن قتال اهل مكة قبل الهجرة الى ان وجد الأعوان على الحق بعد قتل عثمان فبادر الى قتال من اراد احياء الضلال ، واتخاذ دين الله عوجا ، مشمر الذيل ماضي العزيمة ، كادحا نفسه في اعلاء كلمة الله ، باذلا جهده في اقامة عمود الدين ، مستفرغا وسعه في ازالة الفساد من الأرض ، ألا تسمع قوله : (والله لا اكون كالضبع تنام على اللدم حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها ، ولكني اضرب بالمقبل الى الحق المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصي المريب ابدا حتى يأتي علي يومي) (٢) فكفه أولا ليس الا لعدم وجود الناصر ، وقتاله اخيرا لم يكن الا لوجوده المعين ، وما كان كفه عن قتال الأولين تصويبا لهم فيما ارتكبوه ، ولا تصحيحا لما فعلوه ، ومما يوضح هذا المعنى ويؤكده ان عليا (عليه‌السلام) مع مضي عزيمته واجماعه على قتال معاوية كف عن قتاله بعد رفع المصاحف في صفين مع علمه وتصريحه لصحبه ان معاوية واهل الشام لم يريدوا حكمها وانما رفعوها خديعة وذلك لمخالفة جماعة كثيرة من اصحابه امره بالمضي في الجهاد وطلبهم الموادعة ، وميلهم الى المحاكمة ، وما ذاك الا لأن من بقي على طاعته من اصحابه لا يقوم في ذلك الوقت بقتال الخارجين منهم عن الطاعة ، وقتال اهل الشام ، ثم كفه بعد تحكيم الحكمين عن قتال معاوية ومعاوية يغزوا أطرافه ، ويشن الغارات على اعماله ، ويتغلب على بعض بلاده كمصر

__________________

(١) هذه الكلمة من خطبة له (عليه‌السلام) تأتي في آخر الكتاب.

(٢) نهج البلاغة الخطبة ١٤٦.

وغيرها لم يكن عدولا عن نيته في قتاله ، ولا رجوعا عن ايثار قتاله ، ولا ترددا في عزمه المصمم على حربه ، ولكن لانتكاث عزم اصحابه ، وتكاسلهم عن اجابته ، وتثاقلهم عن الخروج معه الى حرب معاوية ، لأنه كان يحثهم على الشخوص ، ويوبخهم على القعود عن الجهاد ، ويقرعهم اشد التقريع كقوله لهم : (يا اشباه الرجال ولستم بالرجال) (١) وقوله : (وددت ان اصارف بكم معاوية اهل الشام مصارفة الدينار بالدرهم العشرة بواحد) (٢) وقوله (عليه‌السلام) : (اذا دعوتكم الى الجهاد في الصيف قلتم يمنعنا الحر ، وإذا دعوتكم في الشتاء قلتم يمنعنا القر ، فاذا كنتم من الحر والقر تفرون فانتم من السيف افر (٣) وغير ذلك من شديد اقواله فيهم ، الى ان اجابوه واصفقوا اصفاقا واحدا على طاعته فعقد الرايات وصمم العزم على مناهضة معاوية بعد شهر رمضان فاغتاله ابن ملجم فتفرق الجمع ، وتشتت الكلمة ، ولله امر هو بالغه فما حاله في امره الأول والآخر الا واحدة يجاهد الظلمة عند وجود الناصر ، ويكف عنهم عند عدمه لا فرق بين حاليه ولقد كشف عن هذا المعنى قوله في خطبه الشقشقية : (اما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو لا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما اخذ الله على العلماء الا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس اولها) (٤) يقول لو لا قيام الحجة على من الله بوجود الناصر على اقامة الحق واني مكلف بها عند القدرة لتركت قتال الناكثين والقاسطين والمارقين كما تركت جهاد ائمتهم السابقين.

الثالث ان عليا (عليه‌السلام) وان كان على ما هو عليه من الشجاعة

__________________

(١) نفس المصدر الخطبة ٢٧.

(٢) أيضا الخطبة ٩٥.

(٣) أيضا الخطبة ٢٧.

(٤) أيضا الخطبة ٣.

لكن لم يكن عليه القتال مفروضا بعد موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا وهو أمير متبع ورئيس مطاع ، ولم يجز أن يكلف بالقتال منفردا ، والسر في ذلك انه لو قاتل وحده لكان السامع بأمره من الناس يجريه مجرى اللص المحارب أو المفسد المشاغب ولم يكن احد يتوهم انه مصيب في فعله ، ولا يذهب ذاهب الى رشده في علمه ، مع اتفاق الصحابة على التقاعد عن نصرته ، وخلود جملتهم الى خذلانه ، ولم يكن الله ليكلف وصي نبيه بما تتسرع العقول لأجله الى الحكم بخطئه ، وتعجل الأفهام بسببه الى نسبته لارتكاب ما لا يحل له ، بخلاف ما اذا نهض لجهاد القوم ومعه جماعة معروفون بالخير والصلاح من خيارا لصحابة يمنعون حوزته ، ويجالدون بين يديه ، فان العقول تتسرع الى اعتقاد اصابته الحق لقيام اولئك الرهط الأخيار دونه وبذلهم الجهد في طاعته وقتال مخالفه ، وينضاف الى ذلك ما يعلمونه من قربه من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وما طرق اذانهم من اقواله الجميلة فيه ، فينشط الى نصرته من يطلب الحق ، ويدنو من اجابته من يحب الصدق ، واقل الأمور ان يكون الناس بين مصوب له وواقف متردد بين الأمرين ، الا ان الأكثر يكونون على تصويبه كما جرى له في ايام خلافته ليسرع الى نصرته من صوبه ، ويقف عن قتاله من تردد في امره وهو (عليه‌السلام) طلب الناصر والمعين من ذوي السابقة فما اجابه الا أربعة او خمسة مما لا تحصل بهم الكفاية ويقتلون في اوّل المنازلة ، فكان يقول : (لو وجدت اربعين ذوي عزم لناهضت القوم) وهذا هو السر في عدم اصغائه الى قول ابي سفيان بن حرب اذ عرض عليه نصرته لعلمه بان الغرض لا يحصل بمثله ، وهذه الوجوه الثلاثة من جملة الأسرار التي لأجلها اوصاه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالكف والصبر حتى يجد اربعين رجلا فصاعدا لا اقل من الأربعين ، وتخصيص الأقل بالأربعين من الأسرار الغيبية لم اجد الى معرفتها سبيلا الا بالظن والتخمين ، فعلمه مردود الى اهله ، فليس امير المؤمنين

(عليه‌السلام) اذ لم يقاتل القوم بنفسه حين لم يجد الناصر مصوبا لهم ولا مرتكبا للمحظور بترك الانكار لما بيناه من لزوم القبح في تكليفه بالقتال منفردا فكان الواجب عليه اذ ذاك ان يصبر ويكف ففعل ما وجب عليه كما هو شأنه.

الرابع انه (عليه‌السلام) خاف من قتالهم بنفسه انمحاء دعوة الاسلام ، وارتداد العرب وذلك ان الناس حديثوا عهد بجاهلية ، ولم يرسخ الاسلام في قلوبهم ، على ان اكثرهم انما اسلموا كرها وانهم اذ جاءهم خبر وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اظهر قوم الفرح ، وارتدوا ، وآخرون انتظروا حال اهل المدينة من الصحابة هل يكون فيهم بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من يقوم بهذه الدعوة ويكون مطاعا متبوعا أم لا؟ فان لم يصر احد بهذه المثابة ارتدوا ظاهرا ، والأقل منهم من هو متمسك بالاسلام بنية صحيحة الا ان دوامها لا يكون الا باستمرار الدين عند اصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا شك ان الجماعة الذين توثبوا على اخذ حق امير المؤمنين (عليه‌السلام) قد صحت عزائمهم في قتاله ان نازعهم في الأمر ولم يسالمهم ، فيلزم حينئذ من قتالهم بنفسه اما قتله (عليه‌السلام) كما وجهناه في اوّل الوجوه ، أو ان يبيدهم من جديد الأرض فتجد العرب الى ارتدادها سبيلا وتتخذ هذا الأمر على بطلان هذا الدين حجة ودليلا ويعود الأمر الى الجاهلية الأولى ، ويفسد ما اصلحه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وينهدم ما بناه في ثلاث وعشرين سنة في ساعة واحدة ، وقد دل على ذلك ما رواه ابن ابي الحديد من ان فاطمة (عليه‌السلام) حرضت امير المؤمنين (عليه‌السلام) يوما على النهوض والوثوب فسمع صوت المؤذن اشهد ان محمدا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال لها : ايسرك زوال هذا النداء من الأرض؟ قالت : لا قال : فانه ما

اقول لك (١) وقد ذكر (عليه‌السلام) ذلك كثيرا واعتذر لا عن تركه مناهضة القوم بخوف ان تقع ثلمة في الاسلام لا تلتئم في جملة من خطبه وكلماته كما هو مذكور في نهج البلاغة وغيره ، ويكفي من ذلك هنا قوله في الخطبة التي رواها ابو الحسن المدائني عن عبد الله بن جنادة وهو : (اما بعد ، فانه لما قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قلنا ، نحن اهله وورثته وعترته واولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه احد ، ولا يطمع في حقنا طامع ، اذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فصارت الأمرة لغيرنا ، وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ، ويتعزز علينا الذليل ، فبكت الاعين منا لذلك ، وخشنت الصدور ، وجزعت النفوس ، وايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين وان يعود الكفر ، ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم) (٢) الخطبة.

وفي اخرى رواها الكلبي : (ان الله لما قبض نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) استأثرت علينا قريش بالأمر ، ودفعتنا عن حق نحن احق به من الناس كافة ، فرأيت ان الصبر على ذلك افضل من تفريق كلمة المسلمين ، وسفك دمائهم ، والناس حديثوا عهد بالاسلام ، والدين يمخض مخض الوطب يفسده ادنى وهن يعكسه اقل خلق) (٣) الخطبة ... ذكرهما جميعا ابن ابي الحديد في شرحه وهما صريحتان فيما نقول من اغتصاب القوم حقه وميراثه ، وانه ترك قتالهم حذرا من زوال كلمة الاسلام ، وعود الأمر الى انكار الربوبية والرسالة ، ومن المتيقن ان انكار الامام مع الاقرار بالله وبالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان اوجب الضلال الا انه اقل قبحا واهون

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١١ / ١١٣ و ٢٠ / ٣٢٦.

(٢) رواها ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١ / ٣٠٧. عن المدائني.

(٣) رواها ابن ابي الحديد في الشرح ١ / ٣٠٧ عن ابن الكلبي.

ضررا من انكار الجميع ، فهو قد ترك قتالهم ارتكابا لأقل الضررين في الدين كما هو الواجب فيما اذا تعارض الضرران ان يرتكب اقلهما قبحا فأمير المؤمنين فعل ما هو تكليفه في ذلك الوقت بخلاف حاله في زمان خلافته ، فانه ليس هناك الا انكار الامام والضرر الأعظم مأمون من وقوعه ، فقاتل لرفع ذلك الضرر عن الدين ، وهذا كله بخلاف ما لو وجد في اوّل الأمر اعوانا وانصارا فان كثيرا من الناس اذا رأوا انتصاره ينحازون إليه ، ويكثرون عنده لأن الناس مع الظاهر الغالب ومن في نفسه شك او ريبة تزول فتبقى الدعوة قائمة مستمرة ، ومن ارتد من العرب بعث إليه من يقاتله من جنود المسلمين فيستقيم امر الملة ، ولا يحصل الضرر بزوال كلمة الاسلام ، لكنه لم يجد الأنصار اذ طلبهم فكف وسكت حذرا من لزوم ذلك اللازم الأعظم ضررا على الدين.

الخامس ما روى عن سيدنا ابي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه‌السلام) من طرقنا حين سأل ألم يكن علي (عليه‌السلام) قويا في بدنه قويا في امر الله؟ فقال : بلى قيل : ما منعه ان يدفع او يمتنع قال سألت فافهم الجواب ، منع عليا (عليه‌السلام) من ذلك آية من كتاب الله فقيل وأية آية فقرأ : (لَوْ تَزَيَّلُوا) (١) الآية انه كان لله تعالى ودائع مؤمنون في اصلاب قوم كافرين ومنافقين ، فلم يكن علي (عليه‌السلام) ليقتل الآباء حتى تخرج الودائع فلما خرجت ظهر على من ظهر وقتله وكذلك قائمنا اهل البيت لن يظهر ابدا حتى تخرج ودائع الله ، فاذا خرجت يظهر على من يظهر فيقتله (٢) وفي هذا اشارة صريحة الى ان عناية الله تعالى باخراج المؤمن من حيز العدم الى عالم الوجود التكليفي اشد من عنايته بقتل الكافر وازالة كفره ، كما أن عنايته

__________________

(١) الفتح ، ٢٥.

(٢) تفسير نور الثقلين ٥ / ٧٠ عن تفسير علي بن ابراهيم القمي.

بحفظ المؤمن وحقن دمه اشد من عنايته بقتل الكافر ، ولذا كف الله ايدي المسلمين من اصحاب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عن قتال اهل مكة ، وامره بالصلح لوجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات قد اخفوا ايمانهم فلم يتميزوا من الكفار ، فلو كان ثم قتال لقتلوا وأصاب السبي النساء ، فكان لآية المؤمنين والمؤمنات عن القتل والسبي اثر عند الله تعالى من قتل الكافرين ، وسبى الكفارات فقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) الى قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١) ـ واذا جاز للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ترك قتال الكفار لحفظ دم بعض المؤمنين ، وصيانة بعض المؤمنات عن السبي ، فاولي بان يجوز لعلي (عليه‌السلام) ترك القتال لخروج تلك الذرية المؤمنين من اصلابهم ، وهكذا لم تزل افعاله (عليه‌السلام) تابعة لأفعال رسول الله في كل الأحوال ، وهذا بحمد الله ظاهر بيّن ، فزال بهذه الوجوه الأشكال وسقط السؤال ، وذهب الأعضال ، وتبين صدق مقالنا وحقيه مذهبنا ، وسلامة طريقتنا من التعسف والميل عن الصواب ، والانحراف عن الصراط ، وذلك بنعمة الله وفضله.

فائدة مهمة في بيان بطلان دعوى القوم ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر أبا بكر بالصلاة وذلك من ثلاث جهات.

الأولى ما اشرنا إليه في مطاوي هذا الكتاب من انكار امير المؤمنين ذلك ونسبته صدور الأمر بالصلاة الى عائشة من تلقاء نفسها من غير رضا من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد روى الخصم (٢) عن جملة من اصحابه ذلك

__________________

(١) الفتح ٢٥.

(٢) يعني بالخصم ابن ابي الحديد والرواية ذكرها في شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩٧ و ١٦٨ في

عن امير المؤمنين وصححوه عنه ورووا عنه أيضا ان قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (انكن كصويحبات يوسف) في عائشة وحفصة حيث امرت كل واحدة منهما بلالا ان يأمر اباها ان يصلي بالناس ، يعني ان صويحبات يوسف كذبن عليه في رميهن له بإرادة الفاحشة وان المرأتين كذبتا على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تأمير ابويهما بالصلاة فاذا صح عندهم النقل بهذا كله عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) كما هو عندنا وجب ان تكون دعوى امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر بالصلاة كاذبة لأن عليا (عليه‌السلام) ينكرها وهو لا ينكر حقا ولا يكذب صدقا لأنه مع الحق دائما بنص الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا ينكر ذلك ولا يرتاب فيه الا من ليس بمؤمن ولا مسلم وحيث ان عليا انكر صدور الأمر من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي بكر بالصلاة وجب ان يكون غير صادر ولا واقع وصح ان مدعيه مبطل.

الثانية انهم اتفقوا على ان أبا بكر وعمر وأبا عبيدة كانوا في بعث اسامة الا ما كان من شاذ متعصب من الرواة لا يعبأ به وقد اتفقت رواياتهم على ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد حثهم على المسير ونهاهم عن التأخير كما قدمنا رواية ذلك ، وهذا يدل على عدم جواز الأمر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي بكر بالصلاة وذلك ان امر الحاضرين بالصلاة خلف رجل يقتضي يقينا كونه حاضر البلد متمكنا شرعا وعقلا من حضور المسجد غير ممنوع بشيء من الموانع ، وليس يجوز ولا يعقل ان يأمر الحاضرون بالصلاة خلف رجل غير حاضر البلد ، ولا متمكن من الحضور حالة الأمر في المسجد ، لأنه قد وجب عليه السفر شرعا فهو ممنوع من حضور المسجد ، فلو ترك الرحيل وحضر البلد لكان عاصيا واذا كان النبي (صلى

__________________

كلام نقله عن شيخه ابي يعقوب يوسف بن اسماعيل اللمعاني.

الله عليه وآله وسلم) قد امر أبا بكر بالنفوذ كغيره في جيش اسامة ونهاهم عن تأخير المسير ، وحثهم على تعجيل الرحيل ، ولعن المتخلف من المأمورين عن الجيش ، وعلم انهم خرجوا من المدينة فكيف يجوز ان يصدر منه الأمر بصلاة حاضري البلد خلف ذلك الرجل المسافر الذي اوجب عليه في تلك الحال مفارقة البلد والبعد عنها وأي عاقل يخفى عليه التناقض الشديد والتمانع البعيد بين الأمرين ، وأي فطن يجوز صدور مثل هذا التناقض من عاقل فكيف يصدر عن سيد المرسلين وافضل المخلوقين حيث يقول لحاضري المدينة صلوا في مسجدي خلف فلان الذي اوجبت عليه المسير حالة الصلاة الى الشام ونهيته عن اللبث في المدينة أو يقول للرجل الذي هذا حاله احضر وقت الصلاة في المسجد وصل بالناس وقد حرمت عليك في ذلك الوقت دخول المدينة مضافا الى ان رواياتهم مصرحة بان أبا بكر وعمر كانا خارج المدينة في الوقت الذي ادعوا ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر أبا بكر بالصلاة فيه ففي الرواية الي قدمناها بعد قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (نفذوا بعث اسامة لعن الله من تخلف عنه) ويكرر ذلك ما نصه فخرج اسامة واللواء على رأسه والصحابة بين يديه حتى اذا كان بالجرف (١) نزل ومعه ابو بكر وعمر واكثر المهاجرين ومن الأنصار اسيد بن حضير (٢) وبشير بن سعد وغيرهم من الوجوه فجاءه رسول أمّ ايمن يقول له ادخل فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يموت فقام من فوره فدخل المدينة

__________________

(١) الجرف ـ بضم فسكون ـ : موضع على ثلاثة اميال من المدينة نحو الشام (معجم البلدان).

(٢) اسيد بن حضير الأنصاري الأوسي ، قال ابن الأثير بترجمته في اسد الغابة ١ / ٩٢ : «وكان ابو بكر الصديق (رضي الله عنه) يكرمه ولا يقدم عليه احدا» قال : «وله في بيعة ابي بكر اثر عظيم» قال : «توفي في شعبان سنة عشرين وحمل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) السرير حتى وضعه في البقيع وصلى عليه».

واللواء معه ، فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ورسول الله قد مات في تلك الساعة ، فما كان ابو بكر وعمر يخاطبان اسامة الى ان ماتا بالأمير (١) وفي رواية اخرى رواها ابن ابي الحديد أيضا وفيها بعد ذكر طعن القوم على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تأمير اسامة على جلة الصحابة وخروج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد ان بلغه ذلك عنهم وخطبته فيهم وما قال فيها : (لأن طعنتم في تأميري اسامة فقط طعنتم في تأميري اباه من قبل) (٢) في كلام مر في ابحاث هذا الكتاب ما هذا لفظه : وجاء المسلمون يودعون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويمضون الى عسكر اسامة بالجرف ، وثقل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واشتد ما يجده فارسل بعض نسائه الى اسامة وبعض من كان معه يعلمونهم ذلك ، فدخل اسامة من معسكره والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مغمور وهو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ اسامة عليه فقبله ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد اسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه الى السماء ويضعهما على اسامة كالداعي له ، ثم اشار إليه بالرجوع الى عسكره والتوجه لما بعثه فيه فرجع اسامة الى عسكره ، ثم ارسل نساء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى اسامة يأمرنه بالدخول ويقلن ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد اصبح بارئا ، فدخل اسامة من معسكره يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مفيقا فامره بالخروج ، وتعجيل النفوذ ، وقال : (اغد علي بركة الله) وجعل يقول : (انفذوا بعث اسامة) ويكرر ذلك فودع رسول الله وخرج ومعه ابو بكر وعمر ، فلما ركب جاء رسول أمّ ايمن فقال ان رسول الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٢.

(٢) نفس المصدر ١ / ١٥٩ وعيون الأثر لابن سيد الناس ٢ / ٣٥٥.

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يموت فاقبل ومعه ابو بكر وعمر وابو عبيدة فانتهوا الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين زالت الشمس من هذا اليوم وهو الاثنين وقد مات واللواء مع بريدة بن الحصيب (١) فدخل باللواء فركزه عنده باب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو مغلق ، وعلي (عليه‌السلام) وبعض بني هاشم مشتغلون باعداد جهازه (٢) ، وذكر في آخر الخبر اقعاد الأنصار سعدا في السقيفة للبيعة ، وسبق ابي بكر اياهم (٣) بها ، وهذان الخبران مشهوران معلومان خصوصا عند الخصوم ، وهما كما ترى مصرحان بان أبا بكر أقبل قبل ان يثقل مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وفي حال ثقله وحال موته كان خارج المدينة ، وانه لا يدخل الا احيانا مع اسامة بن زيد ويخرج معه فكيف يأمره النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان يصلي بالناس في المسجد وهو قد امره ان يأتم باسامة خارج المدينة ، وفي الطريق التي امرهم بسلوكها ذهابا وايابا أفيأمره بذا في حالة امره بان يؤم الناس في المسجد ، وهل يسع ان يقع مثل هذا التضاد والتعاند في أوامر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الحكيم مع استلزامه تكليف ما لا يطاق ، وكل ذلك لا يجري على مذهب المعتزلة ولا يتمشى على قواعدهم وهذا يدل صريحا على بطلان ما ادعاه ابن ابي الحديد من ان أبا بكر كان يصلي بالناس

__________________

(١) بريدة ـ بضم الباء وفتح الراء والدال ـ ابن الحصيب ـ بضم الحاء المهملة والصاد المهملة أيضا ـ الأسلمي اسلم حين مر به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسلم مهاجرا هو ومن معه وكانوا ثمانين بيتا فصلى بهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صلاة العشاء ، ثم قدم على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد احد وشهد معه مشاهده ، وكان من ساكني المدينة ثم تحول الى البصرة وابتنى بها دارا ، ثم خرج منها غازيا الى خراسان واقام بمرو حتى مات ودفن بها ، وبقي بها ولده.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٠.

(٣) المصدر السابق ٢ / ٥٢.

في مسجد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مريض يومين حتى قبض (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) ، ولم يكن صلى إلا صلاة واحدة فقط ولا ادري متى صدر الأمر من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على انه وقت الأمر المدعى غير حاضر المسجد ولا هو داخل المدينة! وانما هو خارج منها ونازل بالجرف ملزوم بالصلاة خلف اسامة ، ولا ادري من اخذوه ويعلم من هذا بطلان ما ذكره بعض محدثيهم من ان أبا بكر ليس في جيش اسامة لأن تلك الرواية مع معارضتها ما صح عند اكثرهم كما سمعته قد تضمنت ان أبا بكر كان معروفا بانه خليفة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قبل موته وانه بويع والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حي وهذا مخالف لما صح عليه الاتفاق من الأمة ان بيعة ابي بكر انما وقعت في السقيفة بعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكيف تصح الرواية المخالفة لاتفاق الأمة ، ويبطل أيضا ما ذكره قاضي القضاة من استدلاله على ان أبا بكر ليس في جيش اسامة بان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امره بالصلاة وهو رد للروايات الصحيحة بالمشكوك فيه واستدلال بالموهوم على بطلان المعلوم ، وليس الاستدلال على ان أبا بكر ليس في بعث اسامة بان رسول الله امره بالصلاة باولى من الاستدلال على ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يأمره بها بانه في ذلك البعث ان لم يكن هذا اولى ، ثم وا عجباه من عبد الحميد المعتزلي في عدم اكتفائه لأبي بكر بصلاة واحدة كغيره من الأقوام حتى ادعا له ما سمعت بعد روايته لذينك الخبرين فما اكذب دعواه وما اشد تلبيسه ، واعظم تدليسه وما اكثر تلاعبه بدينه وحمايته على باطله ، وما امضى عزيمته في تصحيح الأباطيل والأضاليل ، وليس هذا باغرب من دعواه ان روح الله عيسى بن مريم (عليه‌السلام) كان يشرب الخمر ، وكم له مثل هذه الدعاوى.

__________________

(١) أيضا ١٠ / ١٨٤.

ومما يعجبني من كلامه في هذا المقام ما اورده في موضع من كتابه بعد نقل رواية رواها هناك ، وانا اذكرها واذكر كلامه بعدها في مطلبنا هذا ليتضح للناظر صحّة ما قلناه من ان هذا الرجل يعدل عن الحق على عمد وينصرف عن الصواب على معرفة ويدخل في الباطل بغير شبهة.

قال روى الأرقم بن شرحبيل قال سألت ابن عباس : هل أوصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ قال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال في مرضه : (ابعثوا الى علي فادعوه) فقالت عائشة : لو بعثت الى ابي بكر ، وقالت حفصة : لو بعثت الى عمر فاجتمعوا عنده جميعا هكذا لفظ الخبر على ما اورده الطبري في التاريخ (١) ولم يقل فبعث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إليهما قال ابن عباس : فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (انصرفوا فان تكن لي حاجة ابعث إليكم) فانصرفوا ، وقيل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الصلاة فقال : (مروا أبا بكر ان يصلي بالناس) فقالت عائشة ان أبا بكر رجل رقيق فمر عمر ، فقال مروا عمر فقال عمر ما كنت لأتقدم وابو بكر شاهد ، فتقدم ابو بكر فوجد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خفا فخرج فلما سمع ابو بكر حركته تأخر فجذب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثوبه فاقامه مكانه وقعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقرأ حيث انتهى ابو بكر قلت (٢) عندي في هذه الواقعة كلام ويعترضني فيها شكوك واشتباه اذا كان قد اراد ان يبعث الى علي (عليه‌السلام) ليوصي إليه فنفست عائشة فسألت ان يحضر ابوها ، ونفست حفصة فسألت ان يحضر ابوها ثم حضرا ولم يطلبا فلا شبهة ان

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ٤ / ١٨١١ ليدن.

(٢) القائل هو ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣٤.

ابنتيهما طلبتاهما ، هذا هو الظاهر ، وقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد اجتمعوا كلهم عنده : (انصرفوا فان تكن لي حاجة بعثت إليكم) قول من عنده ضجر وغضب باطن لحضورهما وتهمة للنساء في استدعائهما فكيف يطابق هذا الفعل وهذا القول ما روى ان عائشة قالت : لما عين ابوها للصلاة ان ابي رجل رقيق فمر عمر واين ذلك الحرص من هذا الاستعفاء والاستقالة؟ وهذا يوهم صحة ما تقوله الشيعة من ان صلاة ابي بكر كانت عن امر عائشة وان كنت لا اقول بذلك ولا اذهب إليه ، الا ان تأمل هذا الخبر ولمح مضمونه يوهم ذلك هذا كلامه وهو مصرح بإرادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الوصية الى علي (عليه‌السلام) وباستفادته من الخبر مع ذلك صحة ما تقوله الشيعة من ان صلاة ابي بكر كانت عن امر عائشة ، ثم يقول : انه لا يقول بذلك ولا يذهب إليه ، وانظر الى قوله : ان قول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (انصرفوا) ـ الى ان قال ـ : قول من عنده ضجر وغضب باطن لحضورهما وتهمة للنساء في استدعائهم ، ثم هو يقول برضا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بخلافتهما ورضاه عن بنتيهما ومن يضجر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويغضب من حضوره لئلا يسمع وصيته على شخص آخر ويتهم من احضره كيف يأمره بالصلاة بالناس وكيف يرض بتخلفه من بعده على امته ، وكيف يكون راضيا على من احضره ، وهذا يدلك على ان هذا الرجل واشباهه يتركون العمل باخبارهم اذا وافقت اقوال ائمتنا (عليهم‌السلام) ومذاهب اصحابنا ، ويضربون عنها صفحا ، ولو لا ذلك لما قال بعد فهمه صحة قولنا من الخبر انه لا يقول به ولا يذهب إليه وهذه الطريقة بعينها هي التي انكروا بها النص على امير المؤمنين (عليه‌السلام) مع روايتهم الكثير الوافر منه ، وهي عين العصبية واذا روى لهم ما يخالف مذهبنا وان كان عمن يحكمون بفسقه تلقوه بالقبول ، واذعنوا له تمام الإذعان ، ورضوا به غاية

الرضا ، وذلك دليل ما نسبناه إليهم من تعمدهم ارتكاب الخطأ وترك الصواب ، ولو انهم تركوا التعصّب والعناد وعملوا بما دل من اخبارهم على صحة قولنا اذن لارتفع الخلاف ، وحصل الايتلاف فانها كثيرة ومخالفها ضعيف ، ولو لم يكن من ضعفه الا الخلاف في صحته بيننا وبينهم بل بينهم في بعضها والاتفاق على صحة الموافق منا ومنهم لكفى ، فان الاجتماع اقوى اسباب الترجيح واوثق المرجحات عند جميع الأصوليين ، بل عند جميع الأمة لا يشك فيه احد لكنهم ارتكبوا خلاف التحقيق ، واخلدوا الى الشك ، ونبذوا اليقين فقامت منهم سوق الخلاف على ساق فالحاكم الله بيننا وبينهم يوم فصل القضاء.

الثالثة اختلاف رواياتهم الواردة في امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر بالصلاة لفظا ومضمونا بما يدل على كذبها وبطلانها واصطناعها ووجوب رفع اليد عنها ، ففي رواية ابن ابي مليكة عن عائشة : ان بلالا لما نادى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالصلاة قال قولوا له : (فليقل لأبي بكر يصلي بالناس) وان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد خرج يتهادى بين علي (عليه‌السلام) والفضل بن العباس وان أبا بكر اراد التنحي عن مقامه لما احس برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فدفعه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فاقامه مقامه ، وقعد الى جانبه فجعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يكبر والناس يكبرون بتكبير ابي بكر ، قالت : فصلّى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالناس (١).

وفي الحديث المتقدم عن الأرقم عن ابن عباس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر أبا بكر ثم عمر بمشورة عائشة ، وان رسول الله خرج فصلى بالناس ، وفيه تصريح بمخالفة عمر لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) أيضا : ١٣ / ٣٤.

وسلم) حيث امره بالتقدم فلم يتقدم وقدم أبا بكر ، وان أبا بكر تقدم بعد نسخ امره بالصلاة بأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عمر بها فكانت صلاته بامر عمر لا بأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهذا المعنى مما لم يلتفت إليه ابن ابي الحديد ولا لحظه ، اما لعدم تفطن أو لإخفاء وكلا الخبرين دال على أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عزله عن إمامة الصلاة وجعله مسمعا الناس التكبير ، وهذا يدل على انه لو أمر أبا بكر بالصلاة لما جاز عزله عنها لأنه يكون نسخا للأمر قبل تقضي زمان العلم به وهو غير مجوز عند العدلية منا ومن المعتزلة ، فآخر الحديثين يعارض اولهما وكل منهما مخالف للآخر في كيفية صدور الأمر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالصلاة خلف الرجل مع ما في حديث الأرقم من النقص العظيم على الشيخين الذي بينه ابن ابي الحديد واوضحناه نحن وهو دليل واضح على كذب الخبرين.

وفي الخبر الذي رواه الخصم باسناده عن الزهري عن انس بن مالك قال : لما مرض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مرضه الذي مات فيه اتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال بعد مرتين : (يا بلال قد ابلغت فمن شاء فليصل بالناس ومن شاء فليدع) قال : ورفعت الستور عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فنظرنا إليه كأنه ورقة بيضاء عليه خميصة له فرجع إليه بلال فقال : (مروا أبا بكر فليصل بالناس) قال : رأيناه بعد ذلك (١) مخالفة للأولين في كيفية صدور الأمر وفي عدم خروج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وان أبا بكر اتم الصلاة بالناس ، فان صح الأولان بطل هذا ، وان صح هذا بطل الأولان لا محالة.

وفي حديث عبد الله بن عمر انه جاء ابن أمّ مكتوم فاذن النبي (صلى الله

__________________

(١) أيضا ٦ / ٤٤.

عليه وآله وسلم) في مرضه الذي مات فيه بالصلاة الأولى فلم يستطع ان يقوم من شدة المرض فقال له : (قل لأبي بكر يقيم للناس صلاتهم) وان عائشة طلبت من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اقالة ابيها من ذلك ، وان ابن أمّ مكتوم انتظر ما يكون من جواب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال له : (مر أبا بكر ان يقيم للناس صلواتهم) ولم يجب عائشة بشيء فنظرت عائشة الى حفصة واشارت إليها ان تسأله أن يأمر اباها فقالت : يا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لو امرت عمر فصفق رسول الله بيده وقال : (انكن صويحبان يوسف) (١) مخالفة للجميع في ان المؤذن للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو عبد الله بن أمّ مكتوم ، وفي كيفية صدور الأمر ومخالفة المرأتين رسول الله حتى اغضبتاه وهذا الخبر اكذب الأخبار في هذا الباب ومن اشد مخالفته للأخبار الأول قوله في آخره : فكان ابو بكر يقيم للناس صلاتهم اياما حتى قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ووجه المخالفة اشتمال تلك الأخبار على ان الأمر كان في آخر مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وانه انما ثقل عن الصلاة في آخر مرضه ، واشتمال هذا على وقوع الأمر اوساط مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، قد ثقل عن الصلاة في المسجد قبل موته بايام ، وجهة اخرى وهي عدم ذكره خروج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعزله أبا بكر في شيء من الصلاة واشتمال السابقة على ذلك.

وفي حديث الزهرى ان اوّل شكوى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في بيت ميمونة وانه قال لعبد الله بن عتبة : (قل للناس فليصلوا) فلقى عمر فقال : صل بالناس فتقدم عمر فسمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) أيضا ٩ / ١٩٨.

وسلم) فقال : (أليس هذا صوت عمر) قالوا نعم قال : (يأبى الله ذلك والمسلمون فليصل بالناس ابو بكر) وفيه ان عائشة طلبت منه اقالة ابيها وراجعته في ذلك مرتين او ثلاثا فقال : (ليصل بالناس ابو بكر فانكن صويحبات يوسف) (١) وهو مخالف لجميع ما تقدم في جميع الوجوه فمن تأمل هذه الأخبار واختلافاتها ، وما فيها من التعارض والتدافع القاضيين عليها باختلاق علم انها مزورة مصنوعة ، وتأكد عنده ان الصحيح ما رواه اصحابنا مما مضمونه ان عائشة وحفصة لما ثقل مرض النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ارسلتا الى ابويهما تخبرانهما بذلك وهما خارج المدينة في جيش اسامة فدخلا المدينة ليلا ومعهما ابو عبيدة بعد ان ذكروا لاسامة ما اذن لهم لأجله ان يدخلوا وامرهم ان يخفوا انفسهم لئلا يرجع غيرهم من الجيش ، وانهم ان عوفي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رجعوا الى معسكرهم وان حدث به حدث عرفوه حتى يدخل فيما يدخل فيه الناس ، فلما كان وقت الصلاة أرسلت عائشة الى ابيها تأمره ان يتقدم الى المحراب وانها تأمر بلالا أن يأمر الناس بالصلاة خلفه لتوهم الناس ان ذلك عن امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيتم ما دبروا من الحيلة ، وان بلالا لما اتى يؤذن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالصلاة قالت : لبلال ان رسول الله قد ثقل ورأسه في حجر علي (عليه‌السلام) فمر أبا بكر ليصلي بالناس فلما رأت حفصته ذلك قالت : مر عمر ليصلي بالناس ، فسمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك منهما فقال : (انكن كصويحبات يوسف) فاغمى عليه فخرج بلال وهو يظن ان قول عائشة عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : للناس صلوا خلف ابي بكر فتمت الشبهة ، فلما افاق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسمع تكبير ابي بكر خرج متحاملا يتهادى بين

__________________

(١) أيضا.

علي والفضل بن العباس لتلافي الأمر وازالة الشبهة فعزل أبا بكر ونحاه قصدا لذلك فما زالت الشبهة ولا ذهبت.

وقد ذكر ابن ابي الحديد عن بعض اصحابه وهو شيخه ابو يعقوب يوسف بن اسماعيل اللمعاني ان رجوع ابي بكر من جيش اسامة كان بارسال عائشة إليه بان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يموت وان خروج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تلك الحال لما ذكرناه من قصده عزل ابي بكر عن الصلاة لئلا تكون شبهة له في دعوى الخلافة فما تم له ما اراد ، ويصدق ذلك ما ورد في رواياتهم المتقدمة لقد اقر الرجل المزبور بان جملة من محدثيهم قائلون ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نحى أبا بكر وصلى بالناس ، وقال في موضع من كتابه : ثم جرى حديث صلاة ابي بكر بالناس فتزعم الشيعة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يأمر بذلك ، وانه انما صلى بالناس عن امر عائشة ابنته ، وان رسول الله خرج متحاملا وهو مثقل فنحاه عن المحراب وزعم معظم المحدّثين ان ذلك كان عن امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقوله ، ثم اختلفوا فمنهم من قال نحاه وصلى هو بالناس ، ومنهم من قال : بل ائتم بابي بكر كسائر الناس ، ومنهم من قال كان الناس يصلون بصلاة ابي بكر وابو بكر يصلي بصلاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) انتهى.

قلت اما القول الأول فهو موافق لقول الشيعة ومن المحال ان يأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر بالصلاة ثم يخرج متحاملا لينحيه ويعزله بل المعروف ان فعله هذا يدل على ان صلاة ابي بكر ليست عن امره ، وانه انما خرج على تلك الحال لازالة الشبهة كما ذكرناه أولا ، ويدل خروجه أيضا

__________________

(١) أيضا. ٩ / ١٩٧.

على الحال المذكورة على ان في نفسه غضبا شديدا من فعل الرجل ومن امره لتقدم.

واما الثالث فهو أيضا موافق لنا في عزل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أبا بكر عن الامامة وجعله مبلغا يبلغ الناس التكبير للركوع والسجود ، اذ لا يجوز ان يكون في الصلاة إمامان ، فهو راجع الى القول الأول فلم يبق الا الثاني وهو مع ضعفه لمخالفته اتفاق معظم الأمة وقلة القائل به لا يوافق شيئا من رواياتهم ، فكيف يصح الاعتماد على هذه الروايات والأقوال مع ما سمعته فيها من الاختلاف؟ ومن اين يحصل الظن فضلا عن القطع بصحة دعوى القوم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر أبا بكر بالصلاة وحال رواياتهم التي استندوا إليها فيها واقوالهم ما رأيت؟ فلا شك انها بملاحظة الجهات الثلاث المذكورة تكون واضحة البطلان ، منهدمة الأركان ، على ان بعض المصنفين قد نقل عن كثير من اهل الرواية علماء المعتزلة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما ثقل جاء بلال ليؤذنه بالصلاة فقالت عائشة : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ثقيل قد اغمى عليه فلا تؤذه ، وقل لأبي بكر فليصل بالناس فخرج إليه فاخبره ، فتقدم فسمع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صوته فقال : (ما هذا) فقالت عائشة أنا امرت أبا بكر ان يصلي بالناس ، فقال : (انكن صويحبات يوسف) واخذ بيد علي يتوكأ عليه فخرج واخرج أبا بكر من الصلاة وصلى بالناس ومات من يومه وهذه الرواية توافق مضمون القصة وتطابق خروج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) متحاملا في حال شدة المرض ، وهي مبطلة لدعواهم ويشهد لصحتها ما رواه ابن ابي الحديد عن شيخه من ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما روى قال : (ليصل بهم احدهم) ولم يعين وكانت صلاة الصبح فخرج رسول الله (صلى الله عليه

وآله وسلم) وهو في آخر رمق يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر ثم دخل فمات ارتفاع الضحى هذا كلامه ، وقد سمعت السابق منه وقد ذكر ابن ابي الحديد ان هذا الشيخ كان شديد الاعتزال ولم يكن يتشيع (١) وهذا القول دال أيضا على بطلان ما قاله : ان أبا بكر صلى بالناس قبل موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيومين ، فهذا حال صلاته وقد سمعت ما فيها من الكلام وبلغت ان شاء الله تعالى في ابطالها غاية المرام.

واعلم انه ليس مرادنا من اقامة الدليل على بطلان ما ادعوا من كون صلاة الرجل عن امر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انها لو صحت انها بأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأوجب ذلك الامامة او كانت معارضة للنصوص الواردة على إمامة علي (عليه‌السلام) ، وانما مرادنا توضيح بطلان تلك الدعوى بالدليل ، وبيان ان من تمسكوا بها واعتمدوا عليها تمسكوا بغير متمسك واعتمدوا على غير معتمد لكنهم شبهوا بها على ضعفاء العقول ، وناقصي الروية ، وشيدها من نصب العداوة لأهل البيت ، ورام التوصل الى اغتصاب مقامهم ، ولو ان ذلك كان صحيحا لم يقتض نصا على إمامة الرجل لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امر جماعة كثيرة من اصحابه يصلون بالناس فامر تارة على المشايخ الثلاثة وغيرهم أبا عبيدة ، واخرى عمرو بن العاص ، وخالد بن الوليد وتارة عليهم وعلى ابي عبيدة معهم اسامة بن زيد وصلوا خلفهم ، واستخلف على المدينة في غزواته وسفره رجالا من اصحابه كابن أمّ مكتوم وغيره ، واستخلف في غزوة تبوك عليها امير المؤمنين ، واستخلف على مكة عتاب بن اسيد الأموي يصلي بالناس ، وغير هؤلاء ممن استعملهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩٩.

السرايا وعلى البلدان ولم يجعل احد من مخالفينا صلاة احد من اولئك بالناس نصا على إمامته ولامومية إليها ، بل ولا يجعلون لواحد منهم فضلا بها ولا يذكرونه بها في مدح ولا تشريف ، فما الفارق بين صلاة ابي بكر بالناس لو صح انها بأمر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبين صلاة اولئك المذكورين ، على ان الخصوم قد رووا ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صلى خلف عبد الرحمن بن عوف حيث انتهى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى محل ، وعبد الرحمن يصلي بقوم هناك (١) وهذا اعظم منزلة من صلاة ابي بكر بالناس بامره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما رأينا عمر ولا غيره جعلوا لعبد الرحمن خلافة بهذا فكيف اوجبت صلاة الاشارة الى ابي بكر بالخلافة فاين تقع من النصوص الواردة في استخلاف امير المؤمنين (عليه‌السلام)؟ ومن اي وجه تقوى على معارضتها؟ هذا كله مع جواز ان يكون التقدم لأبي بكر ما لم يكن على حاضرا أو متمكنا من الحضور ، ومن المتفق عليه ان عليا (عليه‌السلام) لم يكن حاضر المسجد وكان مشغولا بتمريض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يفارقه ، خصوصا في ذلك الوقت الذي ثقل فيه حاله كما يدل عليه ما في الروايات من ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) خرج يتوكأ عليه وعلى الفضل بن العباس ، فصرحت الروايات لو صحت بان أبا بكر لم يأمر بالتقدم على علي (عليه‌السلام) لأنه مع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيختص جواز تقديمه بما اذا لم يكن علي (عليه‌السلام) حاضرا كما ان تأمير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الأمراء على الجيوش اذا لم يكن علي (عليه‌السلام) معهم فاذا كان معهم كان هو الأمير من قبله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على الكل ، وهذا على مجاراة الخصم وجه جامع تزول به المعارضة بين النصين لو صحت المعارضة ، والكل ـ بعون الله وتسديده ـ

__________________

(١) المصدر السابق ١٧ / ١٩٨.

ظاهر واضح والشك فيه زائل ، والحمد لله على سلوك طريق الصواب.

المسألة الثانية (١) في النص على إمامة العترة المحمدية وينبغي أولا بيان معنى العترة ومن يطلق عليه هذا اللفظ من هذه الأمة على الحقيقة فنقول : قال الشهاب الفيومي في المصباح المنير : العترة نسل الانسان ، قال الأزهري : وروى ثعلب عن ابن الأعرابي : ان العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه ولا تعرف العرب من العترة غير ذلك ، ويقال : رهطه الأدنون ويقال : أقرباؤه وعليه قول ابن السكيت : العترة والرهط بمعنى ورهط الرجل قومه وقبيلته الأقربون انتهى وقد اختلفوا في عدد الرهط فقال الأكثر : هو ما دون عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وهو قول ابي زيد ، وقيل : من سبعة الى عشرة وقيل ما فوق العشرة الى الأربعين وهو قول الاصمعي ونقله ابن فارس ، وقيل : هو بمعنى العشيرة وهو المنقول عن ابن السكيت وقريب منه على تأويل قول ثعلب ذكر هذه الأقوال جميعها في المصباح (٢) فعلى ما قال الأزهري وابن الأعرابي في معنى العترة فالأمر ظاهر ان عترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذريّته من فاطمة (عليها‌السلام) وعلى ما قيل ان العترة هي الرهط فعلى جميع الأقوال في معنى الرهط تختص العترة ببني هاشم حتى على قول ابن السكيت ، لأن اقرب الناس الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بنوا هاشم فهم قومه وعشيرته الأقربون على الحقيقة دون باقي بطون قريش فما سواهم ، انما يقال له عترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على طريق المجاز والتوسع في الألفاظ او بالنسبة الى الأبعد كالقرشي بالنسبة الى باقي بطون مضر ، وكالمضري بالنسبة الى الربيعي والأيادي ، وكالنزاري بالنسبة الى القحطاني ، وقد قال المعتزلي ذلك واعترف به قال : وعترة النبي (صلى

__________________

(١) لا يخفى ان المسألة الاولى كانت بعد الفصل الثاني مباشرة.

(٢) المصباح المنير ص ٥٣٤ في (عتر) وانظر تهذيب اللغة للأزهري ٢ / ٢٦٤.

الله عليه وآله وسلم) اهله الأدنون ونسله ، وليس بصحيح قول من قال انهم رهطه وان بعدوا ، وانما قال ابو بكر يوم السقيفة او بعده : نحن عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبيضته التي تفقأت عنه ، على طريق المجاز لأنهم بالنسبة الى الأنصار عترة له لا في الحقيقة ، الا ترى ان العدناني يفاخر القحطاني ، فيقول انا ابن عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليس يعني انه ابن عمه على الحقيقة وانما هو بالإضافة الى القحطاني ابن عمه (١) انتهى.

وحكى أحمد بن يحيى الشيباني عن محمد بن عبد الجبار عن ابي العباس ثعلب عن ابن الأعرابي : ان العترة ولد الضب وذريته من صلبه ولذلك سميت ذرية محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من علي وفاطمة (عليهم‌السلام) عترة محمد قال ثعلب : فقلت لابن الأعرابي : فما معنى قول ابي بكر في السقيفة : نحن عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : فان قال اراد بلدته وبيضته وعترة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولد فاطمة (٢) انتهى.

قلت : ويؤيد ذلك ان عليا (عليه‌السلام) لما احتج على ابي بكر واصحابه بالقرابة من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث احتجوا هم بها على الأنصار لم يجيبوه بانا واياك جميعا عترة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا مزية لك علينا في ذلك بل سلموا له القرابة دونهم واجابوه بغير ذلك من الأعذار كحداثة السن وغير ذلك مما تقدم في الرواية ، وهو ظاهر ان لم يكن صريحا في ان المعروف عند العرب بحيث لا ينكر ان العترة هم الأدنون من الرجل نسبا والأشدون به نوطا دون الاباعد في النسب وان كانوا من القبيلة والعشيرة ، وان اطلاق لفظ العترة على غيرهم انما هو على

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٧٥.

(٢) أيضا.

ضرب من المجاز فعترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هم الأقربون منه وشيجة ، والأدنون منه نسبا ، من بني هاشم دون غيرهم من قريش ، هذا باعتبار اللغة العربية ، واما باعتبار العرف الشرعي فان العترة هم امير المؤمنين (عليه‌السلام) وفاطمة وولداهما الحسن والحسين والأئمة من ذرية الحسين (عليهم‌السلام) قال ابن ابي الحديد : وقد بين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عترته من هي لما قال : (اني تارك فيكم الثقلين) فقال : (عترتي اهل بيتي) وبين من اهل بيته حين طرح عليهم كساء وقال حين نزلت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) : (اللهم هؤلاء اهل بيتي فاذهب الرجس عنهم) فان قلت : فمن هي العترة التي عناها امير المؤمنين بهذا الكلام قلت : نفسه وولداه والأصل في الحقيقة نفسه ، لأن ولديه تابعان له ونسبتهما إليه نسبة الكواكب المضيئة مع طلوع الشمس المشرقة ، وقد نبه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على ذلك بقوله : (وابوهما خير منهما) (١) انتهى.

قلت عني المعتزلي بالكلام قول امير المؤمنين (عليه‌السلام) في الخطبة التي هذا الكلام من جملة شرحها : (وكيف تعمهون وفيكم عترة نبيكم) واما البيت فسيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى.

وقال في الصواعق : المراد باهل البيت والآل وذوي القربى في كل ما جاء في فضلهم مؤمنو بني هاشم والمطلب وكان الثلاثة العترة فالألفاظ الأربعة بمعنى واحد.

قلت لعمري ان الألفاظ الأربعة بمعنى واحد ، لكن ليس المراد منها الا عليا وفاطمة وابنيهما كما قال به اكثر القوم من المتقدمين والمتأخرين كأبي عامر

__________________

(١) أيضا ٦ / ٣٧٦ وفيه (وأبوكما خير منكما) و ٤ / ٩٦.

الشعبي ويحيى بن يعمر وابن الأعرابي ومحمد بن طلحة الشافعي وظاهر الحسن البصري ، ويشهد لذلك ما روى اهل الصحاح ممن لا ينكر روايتهم معتزلي ولا اشعري وهم الطبراني وابن ابي حاتم وابن مردويه وابو الحسن البغوي في تفسيره عن ابن عباس انه لما نزلت : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) قالوا : يا رسول الله من قرابتك الذين نزلت فيهم الآية قال : (علي وفاطمة وابناهما) ولفظ البغوي من هؤلاء الذين امرنا الله بمودتهم قال : (علي الخ) وغيره سيأتي على كثرته وهو مبطل لما قاله ابن حجر وما قال غيره مما يخالف ما ذكرناه.

وروى الديلمي عن ابن ابي سعيد انه يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (اشتد غضب الله على من اذاني في عترتي) (٢) وروى ابو داود الطيالسي عن عبد الرحمن بن عوف (واوصيكم بعترتي خيرا وان موعدكم الحوض) فالمعنى بهذا علي (عليه‌السلام) وفاطمة والحسن والحسين (عليهم‌السلام) ، وقد صح في اخبارهم ان الحسن والحسين ذرية رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبنوه لصلبه وقد تقدم ان العترة ذرية الرجل وعقبه من صلب.

فمن ذلك ما رواه الطبراني مرفوعا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله جعل ذرية كل نبي من صلبه وجعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب) (٣) واخرج الطبراني وغيره انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) فيض القدير ١ / ٥١٥ وقال : «اخرجه الديلمي في الفردوس ومثله في اسعاف الراغبين ص ١١٤.

(٣) اسعاف الراغبين ص ١٣٢ وفيض القدير ٢ / ٢٢٣ والصواعق ص ٧٤ وفيه اخراج الطبراني له.

وسلم) قال : (كل بني أم ينتمون الى عصبتهم الا ولد فاطمة فانا وليهم وانا عصبتهم) (١).

قال محمد الصبان الشافعي في اسعاف الراغبين وفي رواية صحيحة (كل بني انثى عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فاني انا ابوهم وعصبتهم) (٢) الى غير ذلك ومما يدل على ان ذرية الحسين عترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما اخرجه مسلم وابو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي وآخرون عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (المهدي من عترتي) (٣) وما اخرج احمد والترمذي وابو داود وابن ماجه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لو لم يبق من الدهر الا يوم لبعث الله فيه رجلا من عترتي يملأها عدلا كما ملئت جورا) (٤) واخرج الحاكم في صحيحه عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (يحل بامتي في آخر الزمان بلاء شديد من سلطانهم لم يسمع ببلاء اشد منه حتى لا يجد الرجل ملجأ فيبعث الله رجلا من عترتي اهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا) (٥) الخبر ..

واخرج ابو نعيم عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ليبعثن الله رجلا من عترتي افرق الثنايا اجلا الجبهة يملأ الأرض عدلا يفيض المال فيضا) (٦).

__________________

(١) كنز العمال ٦ / ٢٢٠ وذكر ان الطبراني اخرجه.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١٣٣ ورواه في كنز العرفان ٦ / ٢٢٠ بحروف رواية الصبان واشار الى اخراج الطبراني له.

(٣) سنن الترمذي ٢ / ٣٦ وفيه (من اهل بيتي) سنن ابي داود ٧ / ١٣٤.

(٤) مسند احمد / ٩٩ و ٣ / ١٠ و ٢٨ و ٣٧ و ٧٠.

(٥) مستدرك لحاكم ٤ / ٤٦٥.

(٦) حلية الأولياء ٣ / ١٠١.

واخرج احمد والماوردي انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (ابشروا بالمهدي رجل من قريش من عترتي يخرج في اختلاف من الناس وزلزال فيملأ الأرض عدلا وقسطا) (١) الخبر الى غير ذلك وكل هذه الأخبار مصرحة بان المهدي من عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمهدي من ذرية الحسين (عليه‌السلام) كما سنبينه ، فيكون ذرية الحسين من عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذوي قرباه واهل بيته وآله ، وبهذا يبطل ما ذكره المعتزلي من اختصاص العترة بعلي (عليه‌السلام) والحسن والحسين ، نعم ان اريد انهم الأصل في العترة والأئمة بعدهم تابعون لهم في ذلك كان صحيحا لا اشكال فيه ، لأن وصلتهم بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بسبب اولئك الكرام صلوات الله عليهم اجمعين.

والامامة يختص بها العترة بهذا المعنى الخاص لا بما يفيده اصل اللغة العربية فيختص بها أطايب عترة علي (عليه‌السلام) وابرار ذريته ، لأن هؤلاء هم عترة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) شرعا كما ذكرناه ، وقد اشار امير المؤمنين (عليه‌السلام) الى هذا في خطبة رواها المعتزلي عن شيخه الجاحظ عن ابي عبيدة وهي طويلة ومحل الاستدلال منها قوله (عليه‌السلام) : (الا ان ابرار عترتي ، وأطايب ارومتي ، احلم الناس صغارا ، واعلم الناس كبارا الا وانا اهل بيت من علم الله علمنا ، وبحكم الله حكمنا ، ومن قول صادق سمعنا فان تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا) الخطبة (٢) حيث جعل الاقتداء بهم كالاقتداء ورتب عليه الاهتداء ، وهذا الكلام مشير الى اهل الطهارة والعلم الغزير والحلم الواسع من ذريته (عليه‌السلام) ، ولم يكن

__________________

(١) كل ما ذكره المؤلف ابتداء من رقم ٥ الى هنا نقله المؤلف من اسعاف الراغبين ص ١٣٣ فما بعد فلاحظ.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٧٦ والبيان والتبيين للجاحظ ١ / ١٧٥.

بهذا الوصف الا ائمتنا المعروفون ذرية الحسين (عليهم‌السلام) ، لأنهم تميزوا عن جميع الذرية المحمدية والسلالة الحيدرية بغزارة العلم وسعة الحلم ، وصحة اليقين ، وصدق النية ، والزهد في الدنيا ، شهد بذلك لهم اولياؤهم واعداؤهم ومن قال بامامتهم ومن لم يقل بها ، هذا دليل واضح على صحة مذهب الامامية من اصحابنا ومبطل لما سواه من مذاهب فرق الشيعة وغيرهم ، فالأئمة الأحد عشر من ذرية امير المؤمنين هم العترة بالمعنى الخاص ، فما ورد من النصوص الدالة على إمامة العترة فهو مختص بهم دون غيرهم من باقي الذرية ، وكما يختص بهم ما ورد من النص على العترة كذلك يختص بهم ما ورد من النص على ذوي القربى واهل البيت والآل بالمعنى الخاص لاتفاق الألفاظ الأربعة في المعنى كما سمعت ، والذي يدل على ان العترة بالمعنى الأخص مختص بالأئمة دون سائر ذرية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما رواه ابن ابي الحديد عن حلية الأولياء فيما تقدم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وليقتد بالأئمة من بعدي فانهم عترتي خلقوا من طينتي) الخبر فانه صريح في ان العترة هم الأئمة وان الأئمة هم العترة ، وان من ليس من العترة ليس بامام ، ومن ليس بامام ليس من العترة لافادة الحمل ذلك لأنه في القضية المذكورة بمعنى حمل الشيء على الآخر على انه هو هو لا الحمل المشهور ومثله قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث الثقلين (كتاب الله وعترتي اهل بيتي) لمعلومية ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يأمر الأمة بالتمسك الا بمن كان من الذرية معروفا بالطهارة والعلم والزهد والورع ، معلوما بملازمة القرآن ، غير مخالف لأحكامه ولا صادف عنه الى غيره من رأى او قياس او غير ذلك ، ولا يكون كذلك الا من اجتباه الله وهداه وسدده وايده ، وهذه صفة الامام على ما يقول اصحابنا ، وليس كل الذرية الفاطمية على هذا الوصف لأن منهم من هو قاصر العلم ، ومنهم من لا علم له ، ومنهم من ليس مرضيا مذهبه ولا محمودا هديه ، فليس يجوز ان

يأمر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتمسك بمثل هؤلاء ، ولما كان العترة يختص بها من امر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتمسك به ، وهو يختص بمن جمع اوصاف الامامة كان الأئمة هم العترة والعترة هم الأئمة ، وهم اهل البيت أيضا ، ويدل عليه أيضا قول امير المؤمنين في الخطبة التي قدمنا ذكرها : (فانه لما قبض الله نبيه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قلنا نحن اهله وورثته وعترته) (١) ـ لظهور انه (عليه‌السلام) لا يريد باستحقاق الامامة وخلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا نفسه وولديه دون باقي بني هاشم كأخيه عقيل وغيره ، وسيأتي في ذكر النصوص ما يعاضد هذا الدليل ويزيد هذا المعنى توضيحا وبيانا ، وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في المهدي (رجلا من عترتي) يعني انه من الأئمة ، لأنا نقول انه خاتمهم وتمام عدتهم فلا نقض علينا به اذ ليس يتعين ان المراد به رجلا من ذرّيتي ، لأن المعنى الأول يقتضيه فصح من هذا ان كلما ورد من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على إمامة العترة او ذوي القربى او اهل البيت او الآل او وجوب مودتهم او التمسك بهم او عصمتهم عن مقارفة الذنوب فيراد بهم الأئمة (عليهم‌السلام) فهو شامل لهم بالتبعية وان كان موردها في امير المؤمنين (عليه‌السلام) والحسنين بالاصالة للمماثلة الحاصلة والمشابهة الصحيحة ، وسيأتي للفظ ذوي القربى واهل البيت والآل زيادة توضيح وتصريح في ذكر الأدلة ان شاء الله بما يزيد شبهات المشبهين فترقب.

اذا تقرر هذا فلنذكر النصوص على العترة ، واعلم انها انواع.

فمنها ما ورد بلفظ الامامة وما ورد بلفظ التمسك ومنها ما ورد بلفظ السيادة ، ومنها ما ورد بلفظ المودة والمحبة وغير ذلك ، وسنذكرها مفصلة.

__________________

(١) حلية الأولياء ١ / ٨٦.

فما ورد بلفظ الامامة الحديث المتقدم عن الحلية وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (من سره ان يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه وليقتد بالأئمة من بعدي فانهم عترتي ، خلقوا من فاضل طينتي ، ورزقوا فهما وعلما فويل للمكذبين من امتي القاطعين فيهم صلتي لا انا لهم الله شفاعتي وهذا الخبر صريح في النص على إمامة العترة الطاهرة بما لا مزيد عليه من الصراحة وذلك من وجوه.

الأول ايجابه الاقتداء بهم ولا يجب الاقتداء عينا الا بالامام.

الثاني تسميتهم ائمة وهو اصرح الألفاظ في الامامة العامة ، اذ من المعلوم انه لا يريد هنا مطلق الأئمة كامام الجماعة وامام الحاج وأمراء البلدان والجيوش والفقهاء ولا يحتمل كلامه ذلك لأن وصفهم بانهم عترته وما بعده من الأوصاف موجب لاخراج المذكورين منهم ، ويخصص الأئمة بالخلفاء المستحقين لمقامه.

الثالث خلقهم من فاضل طينته فانه يدل على الوصلة التامة والمماثلة الخاصة كما ذكرنا سابقا في خلق علي من نور النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك يقتضي كونهم قائمين مقامه وحالين في منزلته وحيث امتنعت فيهم النبوة لختمها به فهم قائمون مقامه في الامامة فيكونون خلفاءه على الأمة.

الرابع قوله : (رزقوا فهما وعلما) فانه مصرح بانهم كانوا مستحقين للامامة لأن الله اختصهم بالفهم والعلم فهم احق بمنصب الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واولى بخلافته ممن ليس له هذه الصفة وفيه اشارة الى انه لا يجوز لمن يجهل شيئا من امر الأمة في دينهم ان يكون إماما وهو حقيقة قول اصحابنا ونصه.

الخامس قوله : (فويل للمكذبين من امتي) الخ فانه صريح في ان من كذب بامامتهم فقد استحق الويل وقطع صلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكان اهلا لحرمان الشفاعة والخلود في الهاوية ، فهو في مقابلة المقتدي فانه مستحق لأن يحيى حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويموت مماته ويدخل جنة عدن التي غرسها ربه واي نص اصرح من هذا النص في الامامة لو لا تنكب القوم الطريق وسلوكهم في المضيق.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للحسن والحسين (عليهما‌السلام) : (انتما الامامان ولأمكما الشفاعة) في حديث رواه في المناقب مختصر مناقب الحافظ ابي عبد الله محمد بن يوسف البلخي الشافعي نقلا من مسند احمد بن حنبل (١) وهو صريح في المطلوب لا يحتاج الى بيان.

وما ورد بلفظ التمسك الخبر المتواتر وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في خطبته : (ايها الناس انما انا بشر مثلكم يوشك ان يأتيني رسول ربي فاجيب ، واني تارك فيكم ثقلين كتاب الله فيه الهدى والنور فتمسكوا بكتاب الله عزوجل وخذوا به واهل بيتي ، اذكركم الله في اهل بيتي اذكركم الله في اهل بيتي ، اذكركم الله في اهل بيتي) وفي رواية : (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) والروايتان بهذا اللفظ لمسلم بن الحجاج القشيري في صحيحه (٢) واما لفظ احمد بن حنبل فهذا : (اني اوشك ان ادعى فاجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض ، وعترتي اهل بيتي وان اللطيف الخبير اخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا بما تخلفوني فيهما) (٣) ولفظ ابن ابي

__________________

(١) مسند الامام احمد

(٢) صحيح مسلم / كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي بن ابي طالب.

(٣) مسند الامام احمد ٣ / ١٧ و ٥ / ١٨١.

الحديد : (خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي حبلان ممدودان من السماء الى الأرض لا يفترقان حتى يردا على الحوض) وفي رواية : (قد خلفت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله واهل بيتي) الى تمام الأول وفيه زيادة (حوضي ما بين بصرى وصنعاء عدد انيته عدد النجوم ان الله مسائلكم كيف خلفتموني في كتابه واهل بيتي) وهذا اللفظ للزهري وذكره في حديث الغدير وهذا الخبر على اختلاف لفظ رواته صريح في النص على العترة بالامامة وانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد بذلك الى الناس حين تحقق دنو انتقاله من الدنيا الى الرفيق الأعلى ، الا ترى الى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (يوشك ان يأتيني رسول ربي) و (اوشك ان ادعى فاجيب) فانه مشعر بذلك ومنبه لهم على قرب رحيلة عنهم ، لأن اوشك فعل معناه المقاربة ومشارفة الأمر ، واصرح منه في ذلك قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية ابي الفتوح اسعد بن ابي الفضائل في كتابه الموجز في فضل الخلفاء الأربعة : (ايها الناس اني قد نبأني اللطيف الخبير انه لن يعمر نبي الا نصف عمر النبي الذي كان قبله ، واني لأظن باني ادعى فاجيب) الخبر (١) فأوصاهم بالتمسك بالكتاب والعترة ، ولا معنى للتمسك الا الأخذ باحكامهما والرجوع إليها عند الاختلاف ، فهذا معنى الامامة ، فالكتاب الامام الصامت ، والعترة الامام الناطق ، كل منهما يصدق صاحبه ، فلا يجوز لأحد مخالفة واحد منهما وبين (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ان التمسك بهما عاصم من الضلالة ومخالفتهما موجبة للهلاك ، وصرح بانهما حبلان ممدودان من السماء الى الأرض ، فهما وصلة بين الله وبين خلقه ، من اقتدى بهما توصل الى مرضاة الله ، ومن تركهما باء بسخط من الله ، اذ لا سبب الى الله بعد

__________________

(١) لم اعثر على كتاب الموجز لأبي الفتوح والخبر المشار إليه رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ١٦٤.

النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) غيرهما ، فأي دليل على الامامة ووجوب الطاعة وتحريم عصيان العترة ادل من هذا وبه يبطل قول من قال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص ، أفليست هذه وصيّة صريحة وايجاب طاعة للعترة على الناس ظاهرا ، فابلغ شاهد من هذا يريد منا الخصوم كابن ابي الحديد وأشباهه من المنكرين النص وتأمل الى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (اذكركم الله في اهل بيتي) ويكررها ثلاثا وقوله : (فانظروا كيف تخلفوني فيهما) وقوله : (ان الله مسائلكم كيف خلفتموني في كتابه واهل بيتي) فانك تجده صريحا في التوصية بطاعتهم ، والانقياد لأمرهم ، وتحريم مخالفتهم ، والتوعد عليها باعظم القول ، وابلغ الوصية ، افترى الوصية بالامامة تحتاج الى اكثر من هذا اللفظ او تزيد على هذا القول حتى يقال : ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يوص الى احد بعينه بعد اقرارهم بصدور هذا الكلام عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)؟ وفي قوله : (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يفترقان حتى يراد علي الحوض) ايماء بل دلالة على بقاء الامامة واستمرارها الى انقضاء زمان التكليف ، وانها لا تنقطع وقد بين هذا في مقدمة الكتاب باحسن بيان.

واعلم انما ابطلت دلالة هذه الأدلة على الامامة عند المخالفين ، وقالوا : لا وصية ولا نص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على احد بعينه ، مع وضوحها وكونهم ذوي فطن شبهة خلافة الثلاثة وتقدمهم ووثوقهم في الصحابة على جهل وتقليد واتباعهم السواد الأعظم فقابلوا الصريح في خلافهم بالأغراض ونظروا إليه نظرا اغماض فقد لعمري تركوا الحق وسفهوا الهدى (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً).

وما ورد بلفظ السيادة الحديث المتواتر وهو قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للحسن والحسين : (هما سيدا شباب اهل الجنة وابوهما خير

منهما) (١) وفي بعض الروايات بصورة الخطاب (انتما سيدا شباب اهل الجنة وابوكما خير منكما) (٢) ولفظ المسند لأحمد بن حنبل عن حذيفة بن اليمان : (ان الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة وفاطمة سيدة نساء العالمين) (٣) فلفظ الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة متفق عليه وقد تقدم من البيان ان السيادة بمعنى الرئاسة والطاعة كما يقال : فلان سيد بني فلان يعني رئيسهم المطاع فيهم واكرمهم ، وأصل السيادة الملك ، ومنه سمى مالك العبد سيده ، وسمى الزوج سيدا للمرأة لأنه يملك امرها ، ثم استعمل اللفظ في المجد والشرف ، كل ذا نص عليه اهل اللغة ، وبالجملة فالسيد اذا اطلق في العرف العام من دون قرينة دل على الرئاسة والمجد والشرف واذا اطلق شرعا ولم تكن ثمة قرينة تعين احد معانيه فانه يفهم منه مالك الأمر الذي تجب طاعته ، فلما كان الحسن والحسين سيدي شباب اهل الجنة كان معنى ذلك انهما اشرف اهل الجنة ، ولا يجوز أن يكونا اشرف اهل الجنة وهما في الدنيا مشروفان ، بل يجب ان يكونا في الدنيا هما الرئيسان المطاعان ليحصل لهما الشرف العالي بعد ابويهما محمد وعلي صلوات الله عليهما وآلهما ، فهذا القول من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيهما إظهارا لامامتهما اذ لا يكون سيد في الجنة الا وهو السيد في الدنيا ويشهد لذلك صريحا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث ذكره كثير من المحدثين ورواه المعتزلي في شرحه (سادة اهل المحشر سادة اهل الدنيا انا وعلي وحسن وحسين وحمزة وجعفر) (٤) ـ فقد ثبت بهذا الحديث ان الحسن والحسين سيدا اهل الدنيا كما

__________________

(١) اسعاف الراغبين ١١٥ و ١١٦ وسنن ابن ماجه باب فضائل الصحابة ومستدرك الحاكم ٣ / ١٦٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٣٧٦.

(٣) اسد الغابة ٥ / ٥٧٤ وحلية الأولياء ٤ / ١٩٠ ومسند أحمد ٥ / ٣٩١.

(٤) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٢. ومستدرك الحاكم / ٢١١.

انهما سيدا اهل الجنة فيكونان الرئيسيين الذين تحب طاعتهما.

فان قيل : ان لفظ السيادة لا يدل على ملك الأمر والرئاسة في هذا الحديث وانما يدل على المجد والشرف فيستفاد منه الأفضلية فقط ، لأن حمزة وجعفر ليسا عندكم بامامين ، وقد اثبت لهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) السيادة فلو كان المراد بها هنا الامامة لأخرجهما النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منها لأنه لازم على قولكم وحيث لم يخرجهما وجب ان يكون اراد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالسيادة هنا الأفضلية دون الرئاسة العامة.

قلنا : انا قد بينا ان لفظ السيادة له معان متعددة وان الأصل فيه ملك الأمر ، وانه اذا اطلق بدون قرينة انصرف الى هذا المعنى ، وان قامت قرينة على بعض معانيه انصرف إليه بسببها ، فالقرينة هنا في حمزة وجعفر المعينة لإرادة المجد والشرف من سيادتهما قائمة وهي الاتفاق الحاصل من الأمة على انهما ليسا بامامين فتنصرف السيادة المنسوبة إليهما الى الأفضلية تقديما للدليل القاطع على الظاهر وذلك بخلاف الحسن والحسين فان جميع الشيعة يقولون بامامتهما من جهة النص وقوم من الصحابة والتابعين قائلون بها فلا قرينة تصرف معنى السيادة فيهما الى غير الرئاسة العامة الي هي بمعنى الامامة.

وقولك : يلزم على قولكم ان السيادة بمعنى الامامة اخراج حمزة وجعفر منها لأنهما ليسا بامامين عندكم.

قلنا لا يلزم ذلك فانه غاية الأمر لزوم استعمال اللفظ المشترك في كلا معنييه على قولنا ولا بأس به فقد اجازه جملة من الأصوليين ويشهد لصحته وروده في القرآن الكريم قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ

وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١) فجمع في اللفظ بين صلاة الله وهي الرحمة وبين صلاة الملائكة وهي الاستغفار واستعمل اللفظ فيهما معا على اختلافهما فزال الايراد ثم يقال ويلزم على قولك أيضا ما نريده لانا نوجب الامامة للأفضل ويفهم من كلام قوم من العامة القرب الى اختيار ذلك فاذا كان الحسنان افضل الناس وجبت لهما الامامة وكان الخبر نصا على إمامتهما ، وما ذكره المعتزلة من جواز تقديم المفضول على الأفضل قد ابطلناه فيما سبق ، ثم ان الخبر نص في افضلية امير المؤمنين والحسنين وحمزة وجعفر على جميع الصحابة ومن بعدهم وبذلك قال ابن ابي الحديد وجمع كثير من اصحابه المعتزلة كجعفر بن مبشر وبشر بن المعتمر وابي موسى وسائر قد ماء البغداديين من المعتزلة ، وابي القاسم البلخي وابي الحسين الخياط وهو شيخ المتأخرين من معتزلة بغداد ، وابي جعفر الإسكافي والتفضيل عندهم مرتب بين الخمسة فالأفضل علي ثم الحسن ثم الحسين ثم حمزة ثم جعفر ثم بعده ابو بكر ثم عمر ثم عثمان (٢).

قال ابو جعفر الاسكافي في هذا المقام : والمراد بالأفضل اكرمهم عند الله ، واكثرهم ثوابا ، وارفعهم في دار الجزاء منزلة (٣).

وقال ابن ابي الحديد : اعجبني هذا المذهب وسررت بان ذهب الكثير من شيوخنا إليه.

قلت : ويدل على افضلية حمزة وجعفر على ما سوى علي والحسنين من الصحابة قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (خير الناس حمزة وجعفر) وعلى ما رواه ابو الفرج الاصفهاني وغيره من محدثي القوم وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لجعفر : (اشبهت خلقي وخلقي) ذكره ابن ابي الحديد

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٧.

(٣) المصدر السابق.

وغيره (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (حمزة سيد الشهداء) وهو خبر مشهور بل متواتر وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لجعفر : (خلق الناس من اشجار شتى وخلقت انا وجعفر من شجرة واحدة) أو قال : (طينة واحدة رواه ابو الفرج أيضا (٢) وغيره.

ولما قدم جعفر من الحبشة وقد فتحت خيبر التزمه وجعل يقبل عينيه ويقول : (ما ادري بايهما انا اشد فرحا بقدوم جعفر أم بفتح خيبر) ذكره جملة من المحدثين (٣) وما اولانا هنا بذكر ابيات في هذا المعنى لحسان بن ثابت من قصيدة يرثى بها جعفر واصحابه بمؤتة قال في جملتها :

رأيت خيار المسلمين تواردوا

شعوب وخلق بعدهم يتأخر

غداة غدوا بالمؤمنين يقودهم

الى الموت ميمون النقيبة ازهر

اغر كضوء البدر من آل هاشم

أبيّ اذا سيم الظلامة اصعر

وكنا نرى في جعفر من محمد

وقارا وامرا حازما حين يأمر

وما زال في الاسلام من آل هاشم

دعائم صدق لا ترام ومفخر

هم جبل الاسلام والناس حولهم

رضام الى طود يطول ويقهر

بها ليل منهم جعفر وابن أمه

علي ومنهم احمد المتخير

وحمزة والعباس منهم ومنهم

عقيل وماء العود من حيث يعصر

بهم تفرج الغماء في كل مأزق

عماس اذا ما ضاق بالناس مصدر

هم اولياء الله انزل حكمه

عليهم وفيهم والكتاب المطهر

__________________

(١) أيضا ١٥ / ٧٢ و ١٩ / ٢٢١.

(٢) شرح نهج البلاغة ٥ / ٧٢ عن مقاتل الطالبين.

(٣) منهم ابن هشام في السيرة ٣ / ٢٣٢ وابو عمر في الاستيعاب ١ / ٢١٠ وابن الأثير في اسد الغابة ١ / ٢٨٧.

روى ذلك محمد بن اسحاق بن يسار في كتاب المغازي (١) وما ادري ما تصنع الأشاعرة في هذا الحديث الذي صرح بافضلية حمزة وجعفر على ائمتهم؟ وما ذا يقولون فيه وقد رواه محدثوهم كالديلمي وغيره ولفظه في روايته (نحن بنو عبد المطلب سادات اهل الجنة انا وحمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي) مع انهم يقولون ان افضل الصحابة ابو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ويبنون على ذلك ثبوت إمامتهم وهذا الحديث وغيره يبطل ما زعموه ، ولازم ذلك بطلان إمامة مشايخهم كما ترى وما عسى ان اقول في الفريقين فان كلا منهما فارق الصواب وتاه في غمرات الشك والارتياب.

ثم نرجع الى اتمام الكلام واستيفاء المرام في اثبات النص على السبطين بالامامة فنقول : ومما يصرح بما ذكرناه من ذهاب قوم من الصحابة الى إمامة الحسنين من جهة النص ما رواه ابن ابي الحديد قال : لما تقاعس محمد يوم الجمل وحمل علي بالراية فضعضع اركان عسكر الجمل دفع إليه الراية وقال امح الأولى باخرى وهذه الأنصار معك وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير منهم من اهل بدر فحمل حملات كثيرة ازال بها القوم عن مواقفهم وابلا بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي (عليه‌السلام) اما أنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح الى ان قال وقالت الأنصار : يا امير المؤمنين لو لا ما جعل الله للحسن والحسين ما قدمنا على محمد احدا من العرب ، فقال علي (عليه‌السلام) : «اين النجم من الشمس والقمر اما انه قد اغنى وابلا وله فضله» ـ الى ان قال ـ : فقالوا : يا امير المؤمنين انا والله ما نجعله كالحسن والحسين ولا نظلمهما له ولا نظلمه لفضلهما عليه

__________________

(١) سيرة ابن هشام ٤ / ١٨ وشرح نهج البلاغة ١٥ / ٦٣ والأبيات من وصيدة مطلعها :

تأوبني ليك بيثرب اعسر وهمّ ـ

اذا نوم الناس ـ مسهر

وانظر ديوان حسان ص ١٧٩.

حقه قال : فقال خزيمة بن ثابت فيه :

محمد ما في عودك اليوم وصمة

ولا كنت في الحرب الضّروس مغردا

ابوك الذي لم يركب الخيل مثله

على وسماك النبي محمدا

وانت بحمد الله اطول غالب

لسانا وأنداها بما ملكت يدا

واقربها من كل خير تريده

قريش واوفاها اذا قال موعدا

واطعنهم صدر الكمي برمحه

واكساهم للهام عضبا مهندا

سوى اخويك السيدين كلاهما

امام الورى والداعيان الى الهدى

الأبيات ... (١) فاثبت خزيمة (رحمه‌الله) لهما الامامة بمحضر من الأنصار وغيرهم من الصحابة ، ولا يجوز ذلك لغير نص اذ على القول بان الامامة لا تثبت الا باختيار المسلمين ، ولا يكون الامام إماما الا بالبيعة من نفر تثبت بمبايعتهم له الامامة والحسن والحسين اذ ذاك غير امامين اذ لم تجر لهما بيعة ولا وقع للمسلمين اختيار فيهما فيكون اثبات الامامة لهما غير جائز ، ولكان امير المؤمنين (عليه‌السلام) والصحابة لا يقرون خزيمة على ذلك ، لكنه اثبت لهما الامامة وهو ذو الشهادتين وقرره علي (عليه‌السلام) الذي لا يقرر على باطل قط وخيار الصحابة فيجب ان يكون استفاد إمامتهما من النص وباقي الجماعة مطلعون على ذلك فلنا ما قرروه على ما قال فيثبت المطلوب ، وما ذلك النص إلى ما نذكره هاهنا وامثاله مما رواه الصحابة.

وروى ابن ابي الحديد أيضا عن نصر بن مزاحم في حديث قال : قام الأعور الشني الى علي (عليه‌السلام) في صفين فقال : يا امير المؤمنين زاد الله في سرورك وهداك ، نظرت بنور الله فقدمت رجالا واخرت رجالا عليك ان تقول وعلينا ان نفعل انت الامام فان هلكت فهذان يعني حسنا وحسينا

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١ / ٢٤٥.

الحديث (١) والأمر فيه كالأول فانه اثبت للحسن والحسين الامامة ، فان كان من حيث البيعة لهما فلم تجر لهما بيعة على الناس في ذلك الوقت ، وان كان لنص معلوم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بين الصحابة والتابعين ، أو لأن الامامة ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فهي لاقرب الناس إليه وهما الأقرب ، فقد ثبت ما نقول وتقرير امير المؤمنين (عليه‌السلام) اياه مع باقي الجماعة الأخيار حجة ظاهرة في المقصود.

وما ورد بلفظ المودة فقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) وينبغي أولا ان نذكر من المراد بالقربى ثم نبين بعد ذلك دلالة الآية على الامامة.

فنقول قد ذكرنا في بيان العترة ما يدل من الأخبار صريحا على ان القربى علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم‌السلام) وابن أبي الحديد قد وافقنا على ذلك واثبت ان القربى في الآية هم العترة ، وقد سمعت النقل عنه هنالك ان العترة مختصة بمن ذكرناهم دون باقي العشيرة وسائر الذرية ، وتقدم عن ابن حجر في الصواعق : ان القربى مؤمنو بني هاشم والمطلب ، وقال صاحب المواهب : المراد بالقربى من ينسب الى جده الأقرب عبد المطلب ، وقال ابن عطية : قريش كلها قربى ، وقال في اسعاف الراغبين : وفي الآية تفسير آخر وهو ان المعنى ولكن اسألكم ان تودوني وتكفوا عني اذاكم بسبب ما بيني وبينكم من القرابة انتهى (٣) ولا ريب في بعد هذا المعنى او عدم كونه مقصودا من اللفظ ، لأنه لو كان هذا هو المراد تعين ان تكون الآية خاصة بقريش او ببعضهم على ما يقتضيه معنى القرابة في اللغة فيكون

__________________

(١) أيضا

(٢) الشورى : ٢٣.

(٣) اسعاف الراغبين : ١٠٥.

الخطاب لهم خاصة دون باقي الأمة فلا تجب عليهم مودة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من هذه الآية لفقدان سببها فيهم وهو القرابة بين النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبينهم ، وهذا باطل قطعا والاتفاق على ان الخطاب في الآية لجميع الأمة حاصل فالوجه المذكور فاسد باليقين.

واخبرني بعض الاخوان عن بعض اهل التعصب انه كان يقول : أن المراد بالقربى العمل والمعنى قل لا أسألكم عليه اجرا الا المودة فيما يقربكم الى الله وهو اقرب الى اللفظ من سابقه لكنه مقدوح فيه بما ذكره جماعة من اهل اللغة من ان القربى لا يستعمل الا في الرحم كالقرابة ، والقربة فيما يقرب الى الله تعالى ذكره في المصباح المنير وتبطل هذه الأقوال جميعها غير الأول بما قدمنا في معنى العترة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما نزلت الآية فسئل من قرابتك الذين نزلت فيهم الآية؟ قال : (علي وفاطمة وابناهما) وما رواه السدى عن ابي مالك عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) (١) قال : «المودة لآل محمد» (٢) ومما يدل صريحا على اخراج قريش من القربى واختصاصها بمن ذكرنا ما رواه ابن ابي الحديد فيما قدمناه عن احمد بن حنبل من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (قدموا قريشا ولا تقدموها) قال : (ايها الناس اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن ابي طالب) (٣) فخصص (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذا القربى بعلي (عليه‌السلام) وأخرج سائر قريش وبني هاشم منها.

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

(٢) الصواعق ص ١٠١ وقال : «اخرجه احمد عن ابن عباس» وفي الكشاف / عن السدي.

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٢.

اما فاطمة والحسن والحسين فهم مثل امير المؤمنين لم يقل احد باختصاصه (عليه‌السلام) دونهم بالقرابة وما رواه أيضا عن احمد بن حنبل من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي ان السعيد كل السعيد حق السعيد من احب عليا في حياته وبعد موته) (١) فخص القرابة بعلي (عليه‌السلام) كما ترى فصح من هذا كله ان المراد بالقربى علي وفاطمة والحسن والحسين ومن حل محلهم من الأئمة كما ذكرناه في العترة ، فمعنى القربى ذي القربى ومعنى المودة المحبة ، وقد ورد في لزوم محبّة اهل البيت احاديث كثيرة بلغت حد التواتر فمنها ما تلوناه عليك فيما سبق.

ومنها ما رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين عن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (احبوا الله لما يغنيكم به واحبوني بحب الله واحبوا اهل بيتي بحبي) (٢).

واخرج الحاكم عن ابي هريرة ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (خيركم خيركم لأهلي من بعدي) (٣) واخرج ابن سعد والملّا في سيرته انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (استوصوا باهل بيتي خيرا فاني اخاصمكم عنهم غدا ومن اكن خصمه اخصمه ومن اخصمه خصمه الله) (٤)

__________________

(١) رواه المحب في ذخائر العقبى ص ٩٢ وقال : «اخرجه احمد»

(٢) اسعاف الراغبين ص ١١١ وقال : «رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرط الشيخين» والظاهر ان ما في المتن نقله المؤلف (رحمه‌الله) عن الاسعاف.

(٣) اسعاف الراغبين ص ١١١ وقال : «اخرجه الحاكم عن ابي هريرة».

(٤) رواه المحب في الذخائر ص ١٨ وقال : «اخرجه ابو سعد والملأ في سيرته» والصحيح «عن ابي سعد» كما في الذخائر العقبى فاني فحصت عن هذا الحديث في طبقات ابن سعد فحصا دقيقا فلم اجده بهذا اللفظ والذي فيه كما في ج ٢ ق ٢ ص بسنده عن ابي سعيد الخدري.

وقال في اسعاف الراغبين : وروى انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الزموا مودتنا اهل البيت فانه من لقي الله عزوجل وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله الا بمعرفة حقنا) (١).

وروى الديلمي والطبراني والبيهقي وابو الشيخ بن حيان مرفوعا انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (لا يؤمن عبد حتى اكون احب إليه من نفسه وتكون عترتي احب إليه من عترته واهلي احب إليه من اهله وذاتي احب إليه من ذاته) (٢).

وفي الاسعاف وروى ابو الشيخ عن علي (عليه‌السلام) قال خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مغضبا حتى استوى على المنبر فحمد الله واثنى عليه ثم قال : (ما بال رجال يؤذونني في اهل بيتي والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذريتي) (٢).

وروى احمد مرفوعا : (من ابغض اهل البيت فهو منافق).

وعن ابي سعيد انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (لا يبغضنا اهل البيت احد الا ادخله الله النار) رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين (٣).

واخرج مسلم من حديث ابي هريرة انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال في حسن وحسين (عليه‌السلام) : (اللهم اني احبهما واحب من يحبهما) (٤).

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١٣.

(٢) اسعاف الراغبين ١١٣.

(٣) أيضا ص ١١٤.

(٤) الذي في صحيح مسلم ٧ / ١٢٩ كتاب فضائل الصحابة باب فضائل الحسن والحسين رضي الله عنهما هكذا : «عن ابي هريرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال لحسن : (اللهم اني احبه فاحبه واحبب محبيه) اه».

وروى الترمذي واحمد عن علي (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من أحبني واحب هذين واباهما وامهما كان معي في درجتي يوم القيامة) (١) والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة وكلها مصرحة بوجوب حبهم وتحريم بغضهم واستحقاق مبغضهم دخول النار.

قال الفخر الرازي : ان اهل بيته يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ساووه في خمسة اشياء الى ان قال وفي المحبة قال الله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٢) وقال تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣).

واعلم انه يفهم من هذه الأخبار ان المحبة واجبة لمن ذكرناهم دون قريش وسائر بني هاشم وبعضها مصرح بذلك لتخصيص المحبة فيها بعلي وفاطمة والحسنين فيحمل عليه غيره وأيضا لو وجبت المودة لقريش وبني هاشم كافة لوجبت معرفتهم لأنها هنا مودة خاصة بمعنى المتابعة لهم ومخالفة من يخالفهم ، وليست بمودة عامة كمودة سائر المؤمنين بعضهم لبعض من حيث الايمان والاخوة في الدين واذا كانت المودة هنا بمعنى المتابعة التامة كما سنبينه وحيث معرفة متعلقها لأن من ليس بمعروف ليس بمتبوع فليس بمحبوب ، بل مطلق المحبة اذا وجبت وجب ان يعرف من وجبت له وليس تجب معرفة احد من ذوي رحم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالاجماع غير الأئمة وفاطمة (عليهم‌السلام) فيتعين ان يكونوا هم المعينين بالمودة والمخصوصين بالقربى والمجتبين للمتابعة دون من سواهم ، اذا تحققت ذلك فاعلم ان الآية دالة

__________________

(١) نقله في اسعاف الراغبين ص ١١٦ عن الترمذي واحمد.

(٢) آل عمران : ٣١.

(٣) الشورى : ٢٣ وقد مر هذا منقولا عن تفسير الرازي.

على إمامة ذوي القربى من جهة وجوب مودتهم ولزوم محبتهم ، وحقيقة المحبة الميل الى المحبوب وايثار مرضاته ومحبوباته على مرضاة النفس ومحبوباتها ، والتأدب بآداب المحبوب والتخلق باخلاقه كما يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وهذه الحالة هي المتابعة او انها تستلزمها ، وقد قال الصبان الشافعي في معنى المحبة : ان المحبة المعتبرة الممدوحة هي ما كانت مع اتباع سنة المحبوب (١) وبالجملة ان المحبة الحقيقية اما انها نفس المتابعة للمحبوب لأنها عبارة عن الميل إليه وانجذاب النفس الى طلب رضاه ومرجعها الى طاعة المحب للمحبوب ، واما انها مستلزمة للمتابعة يجعلها حالة في النفس لأجلها يطلب مراضي المحبوب ويجتنب لها مسخوطاته الا ان الأول هو المراد من الآية لأنه تعالى أراد المودة الخاصة التي هي بمعنى الموالاة لهم وقبول اقوالهم والأخذ بها ويوضح هذا المعنى انه تعالى اوجب مودة ذوي القربى على المكلفين ولا يكلف الله العباد ما لا يطيقون لأنه قبيح عقلا ومنفي شرعا ، ومن المتيقن ان المكلفين قادرون على المودة التي هي بمعنى المتابعة وليسوا بقادرين على تحصيل تلك الحالة التي تدعو الى المتابعة لأنها من فعل الله لا من فعل المكلف فلا يستطيع احد ان يلقي في نفسه محبة احد ولا بغض احد ، وانما تحدث المحبة باسباب اخر خارجة عن نفس إرادة الانسان كما قال الله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) (٢) فلا تكون المحبة بهذا المعنى مطلوبة من المكلف لعدم قدرته عليها وقبح تكليف الانسان بما ليس في وسعه ، والحاصل ان هذه المودة قبل حصولها لا تطلب من المكلف لخروجها عن طاقته وبعد حصولها له لا معنى لطلبها منه ، لأنه تحصيل حاصل وهو ممتنع ، ولأن المطلوبية تقتضي

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١٨.

(٢) النساء : ١٢٩.

التكليف وهو يستلزم المشقة ولا مشقة في المودة بعد حصولها ، وانما المشقة في تركها فلا فائدة في التكليف بها حينئذ فيتعين ان المطلوب هو المودة بالمعنى الأول ، عنى المتابعة لأنها هي المقدور عليها والحصول المشقة فيها وتعلّق فائدة التكليف وهو بيان المطيع من العاصي بها ، فالتكليف بها حسن ويشير الى ما ذكرنا قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما رواه ابن خالويه : (من مات على حب الى محمد مات شهيدا الا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا الا ومن مات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى زوجها) (١) لعدم حصول الايمان وغيره من المذكورات بدون المتابعة في القول والعمل اذ لو كان المراد غير المتابعة من المحبة في الخبر لاستحق ما ذكر الفساق بل الكفار اذا حصل لهم حالة تقتضي الميل الى آل محمد وهذا باطل البتة ، فالمعنى من مات على متابعة آل محمد مات شهيدا الخ نعم المودة بمعنى المتابعة يحصل منها المعنى الآخر لأن متابعة شخص لآخر وقبول قوله ورضاه بحكمه مما يبعث على زيادة الميل إليه والأخذ عنه واقتفاء آثاره في افعاله فاذا تكررت صارت صفة حاصلة في النفس حتى تصير ملكة كباقي الملكات لا ينكر هذا ذو روية ، ومن جملة ما حررناه تبين وتعين ان المراد بالمودة في القربى هي متابعتهم ، واذا وجبت متابعتهم في الأقوال والأفعال وجب ان يكونوا هم الأئمة اذ لا مفروض طاعته غير الامام ولا يجب اتباعه على التعيين الا الرئيس العام ، على ان حمل الآية على المعنى الثاني من المودة لا يضرنا في الاستدلال بها على المقصود ، لأن فرض المتابعة وفرض ما لأجله تحصل المتابعة سيان في

__________________

(١) ونقله كل من الزمخشري والرازي في تفسير أية المودة من تفسيريهما وعلق الرازي على هذا الحديث بقوله : «آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هم الذي يئول امرهم إليه ، فكل من كان امرهم إليه اشد واكمل كانوا هم الآل ، ولا شك ان فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اشد التعلقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب ان يكونوا هم الآل».

افادة ايجاب الطاعة وانما ذكرنا ما ذكرنا لبيان ان المودة في الآية لا يصح جعلها بمعنى الحالة المستلزمة للمتابعة لمكان المطلوبية ولا يطلب غير المقدور والا فالآية على الاطلاق تدل على مطلوبنا.

ومما يناسب المقام ما اخرجه السلفي عن محمد بن الحنفية في قوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (١) انه قال : لا يبقى مؤمن الا وفي قلبه ود لعلي (عليه‌السلام) واهل بيته ، قال في الاسعاف : وذكر النقاشي في تفسيره انها نزلت في علي (٢) (عليه‌السلام) فيكون المراد ان محب علي واهل بيته لا بد ان يكون مؤمنا ، وان المؤمن لا محالة يكون مودا لهم ومبغضهم ليس بمؤمن البتة فصح ان الايمان لا يتم الا بمتابعتهم ، وما لا يتم الايمان الا بمتابعته فهو امام بلا شك.

وما ورد بلفظ الاعتصام ما اخرجه الثعلبي في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) عن جعفر الصادق انه قال : (نحن حبل الله) وهو مناسب لما تقدم من جعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الكتاب والعترة حبلين ممدودين (٣) وفي معناه ما رواه في الاسعاف عن جماعة من اصحاب السنن عن عدة من الصحابة ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (مثل اهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجيء ومن تخلف عنها هلك) ، وفي رواية (غرق) ، وفي اخرى (زج في النار) قال : وفي اخرى عن ابي ذر زيادة وسمعته يقول : (اجعلوا اهل بيتي منكم مكان

__________________

(١) رواه لمحب في الرياض ٢ / ٢٠٧ عن محمد بن الحنفية ـ كما في المتن ـ وقال : «أخرجه الحافظ السلفي ، وكذلك رواه ابن حجر في الصواعق ص ١٠٢ والشبلنجي في نور الأبصار ص ١١٢.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١١٠.

(٣) الصواعق ص ٩٠ ـ كما في المتن ـ واسعاف الراغبين ص ١١٠.

الرأس من الجسد ومكان العينين من الرأس ولا يهتدى الرأس الا بالعينين). (١)

أقول : وهذه الأحاديث مصرحة بوجوب اتباع العترة والاقتداء بهم ، ناصّة على نجاة متبعهم وهلاك مخالفهم ، وان الهداية لا تحصل الا بهم ، لأن الاعتصام والركوب وجعلهم كالعينين من الرأس كله كناية عن متابعتهم وعبارة عن الأخذ بقولهم لا معنى له غير ذلك ، وهذه هي الامامة بعينها اذ لا يجب على المكلفين متابعة غير الامام ، فهذه من اوضح النصوص على إمامة العترة وبطلان اقوال جميع من سواهم من الناس مما يخالف اقوالهم وفسادها ، لأن من عمل بقول غيرهم أو مخالفهم في قول او عمل فقد ترك الاعتصام بحبل الله وتخلف عن سفينة النجاة ، وتبع العجز وترك الرأس ومن كان كذلك زج في النار فاين يذهب بابن ابي الحديد واصحابه والأشعري وفريقه ومن اعرض عن اهل البيت ، وقدم عليهم غيرهم ، وفضله عليهم مع علمهم بورود هذه الأدلة أليسوا بذلك قد تعمدوا الهلاك واقتحموا في غمرة الضلال فتراهم يكفرون من لعن احدا من الصحابة ولا يكفرون معاوية وتابعيه اذ لعنوا امير المؤمنين (عليه‌السلام) واولاده وهو تاج الصحابة وسيد المسلمين مع اشتهار قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه بينهم (من سبك فقد سبني ومن سبني فقد سب الله) (٢) وهذا من ادل الأدلة على تركهم العمل بمضمون ما رووه في حق اهل البيت (عليه‌السلام) ، واعراضهم عنه على عمد ، ومن اعجب الأمور انكارهم النص عليهم والوصية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واي نص اصرح من هذه النصوص واي وصية ابلغ من هذه الوصية؟ وما ادري لو أراد احد ان يوصي بمتابعة آخر عند هؤلاء ما ذا يقول باجلا من هذه الأقوال ينطق كلا ؛ ولكنهم مالوا عن الحق

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١١.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٢١.

واعرضوا عنه صفحا.

ومما ورد في ان الولاية والوصية والوراثة في اهل البيت قول امير المؤمنين في بعض خطبه في النهج : (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة احد ولا يسوي بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذ رجع الحق الى اهله ونقل الى منتقله) (١) الخطبة والمراد بالولاية ولاية النبي (عليه‌السلام) على الأمة بقوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) (٢) وهذه هي الامامة ، والمراد بالوصية وصية النبي (عليه‌السلام) بمتابعتهم ونصه عليهم بالامامة ، والمراد بالوراثة وراثة العلم والمنزلة وهي الامامة اذ لا نبوة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وليس كما ذكره ابن ابي الحديد من ان الوصية ليست النص والخلافة ، بل هي امور اخر كما تقدم ذكره عنه اذ لا تمدح ولا فضيلة في الوصية بدون الخلافة من الأمور التي عظمها هناك ، وليس مقصود امير المؤمنين (عليه‌السلام) من الكلام كله الا اظهار إمامة الآل وتقدمهم على جميع الأمة بسبب ولاية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ووصيته إليهم بالأمر ، ولهم بالطاعة من الأمة والمتابعة ، ولو كان غير ذلك لما كان فيه عظيم خطر يوجب ألا يقاس بهم احد ، فقد اوصى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى كثير من اصحابه في امور عهد إليهم في اشياء كثيرة كسلمان وابي ذر وحذيفة وعمار حين قال له : (تقتلك الفئة الباغية) (٣) وغيرهم من الصحابة يطول تعدادهم وعهد الى جملة من الانصار أن يقاتلوا مع علي الناكثين والقاسطين

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ٢.

(٢) الأحزاب : ٦.

(٣) صحيح البخاري كتاب الطلاق. وكتاب الجهاد والسير وصحيح مسلم كتاب الفتن ٨ / ١٨٥ فما بعدها من عدة طرق.

والمارقين كما روى عن ابي أيوب الأنصاري (١) وقد روى المعتزلي وغيره ، ذلك ولم يقل احد انهم اوصياء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك ، وعهد الى عائشة والزبير (٢) انهما يخرجان الى قتال علي (عليه‌السلام) وهما له ظالمان ، واخبر عائشة انها تركب الجمل الازب وتنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتلى كثير كلهم في النار وتنجو بعد ما كادت رواه المعتزلي (٣) وغيره ، وأخبر معاوية على ما رووا انه يلي الأمة ويتخذ السنة بدعة والبدعة سنة (٤) الى غير ذلك ، ولم يصر احد من هؤلاء وصي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بذلك فليس المراد من الوصية الا النص والخلافة ، لأنهما هم المتبادران من قولنا : فلان وصي النبي ، وأيضا ان مقام المدح يقتضي اختصاص الممدوح بتلك الصفة دون غيره ، ومن المعلوم ان امير المؤمنين (عليه‌السلام) قصد اختصاص اهل البيت بهذا الوصف

__________________

(١) عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي أيوب الأنصاري بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مروي في كثير من الكتب منها مستدرك الحاكم ٣ / ١٣٩ واسد الغابة ٤ / ٣٤ وتاريخ بغداد للخطيب ٨ / ٣٤٠ و ١٣ / ١٨٦ في حديث طويل لعلقمة والأسود مع ابي أيوب الأنصاري ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨ و ٩ / ٢٣٥.

(٢) تقدم عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأم المؤمنين عائشة بقول لأزواجه : (ايتكن صاحبة الجمل الأدبب) الخ وقوله لها : (اياك ان تكوني انت) قد تقدم كما تقدم عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للزبير : (اما انك ستقاتله وانت ظالم له).

(٣) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٩١ ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب ٤ / ٤٦١ بعين الألفاظ المذكورة في المتن الا انه ذكر مكان «الأزب» «الأديب» ومعنى الأدبب الطويل الوبر وفي بعضها «الأذنب» وهو طويل الذنب.

(٤) شرح نهج البلاغة ٤ / ٧٩ قال روى العلاء بن حريز القشيري ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لمعاوية : (لتتخذن يا معاوية البدعة سنة والقبيح حسنا اكلك كثير وظلمك عظيم).

واخويه دون من سواهم من الأمة كما يصرح بذلك قوله في اوّل الكلام : (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة احد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه) ثم ذكر ما لهم من الأوصاف التي اختصوا بها ولم تكن في غيرهم حتى يصح ما قاله من عدم مقايسة غيرهم بهم وعدم تسويته بهم فقال : (هم اساس الدين) الى آخر الأوصاف التي من جملتها ان فيهم الوصية ، ولو شاركهم غيرهم في هذه الصفات اذن لارتفع المدح بزوال الاختصاص ، ولم يقع الكلام موقعه والوصية ببعض الامور كما ذكر الخصم لا يختصون بها لما ذكرناه من ايصاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بامور مخصوصة لأناس كثير من اصحابه بالخصوص ولجملتهم بقوله : (خلفت فيكم الثقلين) وقوله : (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب حتى لا يبقى فيها الا مؤمن) او قال : (مسلم موحد واجيزوا الوفد بمثل ما أجيزه) وقوله : (كفنوني في كذا وكذا وادخلوا علي فوجا فوجا للصلاة علي) ولقريش خاصة بقوله : (اوصيكم بالأنصار خيرا فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم) (١) وكثير من امثال هذا ، ولما كانت الوصية ببعض الأمور ليست مما تميزوا بها عن غيرهم واختصوا بها دون من سواهم وجب حمل الوصية على ما لم يشاركهم فيه غيرهم ، وليس الا النص والخلافة وثبت المطلوب واما قول ابن ابي الحديد : لعلها اي تلك الأمور اذا لمحت اشرف واجل يعني من النص والخلافة ، فهو باطل مخدوش اذ لا منصب اجل من الامامة ، ولا منزلة أشرف من الخلافة ، فانها مقام الأنبياء ومنزلته الأولياء الأصفياء قال الله تعالى لابراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ

__________________

(١) هذه الوصايا وردت عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كثير من الكتب وقد مر حديث الثقلين ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اخرجوا المشركين من جزيرة العرب» رواه الطبري في تاريخه ٦ / ١٨٠٦ ليدن ، وابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣١ عن تاريخ الطبري.

إِماماً) (١) فمن عظمها عنده قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يعني واجعل من ذريتي إماما فكان فرحه بها اعظم من فرحه بالنبوة لسر لا يعلمه ابن ابي الحديد ولا اصحابه وقال تعالى لداود : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) (٢) فاي مقام اشرف وأعلى من مقام يمن الله على انبيائه الكرام بجعلهم من اهله وإعطائهم اياه ، ولعمري ما عرف ابن ابي الحديد واصحابه قدر الامامة ، بل ولا فهموا معناها وانما فهموا منها ما فهمه بعضهم حيث جعلها من امور الدنيا ولم يدر انها الشرف الأسنى ، والمقام الأعلى الذي لا يصلح له الا الأنبياء وكرام الأوصياء ، وان جميع الأمور الدينية والدنيوية تبع لها ، والأعمال مشروطة بها ومنوط صحتها بمعرفتها ، وان (من مات ولم يعرف امام زمانه مات جاهليا) ولو عرف المعتزلي ذلك حق المعرفة لما تفوه بما قال ولما حكم بان غير المنصب من الله والمنصوص عليه من رسول الله اهل للامامة ، فقد لعمر الله جهل هو واصحابه مقامها ، وصغروا قدرها ، وهونوا امرها ، وحقروا جلالتها ، ووضعوا شرفها ، وجعلوا امرها إليهم وزمامها بايديهم ، وهي التي جعلها الله لرسله واوصيائهم ، واختص بها انبيائه والأصفياء من اوليائهم فقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) وكذلك الوراثة كما ذكرنا ليس كما قال ابن ابي الحديد : انها وراثة العلم خاصة ، لما بيناه في لفظ الوصية لأن الكلام يقتضي اختصاصهم بالوراثة دون سائر الأمة وعدم مشاركة احدهم فيها ، اذ لو لا ذلك لما كانوا هم الوارثين خاصة ؛ بل هم شركاء غيرهم وحملها على وراثة العلم يزيل الاختصاص فان كثير من الصحابة قد أخذوا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) علما ورواية كعبد الله بن مسعود وسلمان وابي ذر والمقداد وعمار وابي بن كعب وجابر بن

__________________

(١) البقرة : ١٢٠.

(٢) ص : ٢٦.

عبد الله وزيد بن ثابت وعبد الله بن العباس في اضرابهم واشباههم وقد روى الخصم حديث : (العلماء ورثة الأنبياء) (١) فاي مزية لأهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأية خصوصية لهم في شيء شاركهم فيه جمع كثير من الناس وساهمهم فيه جم غفير من الأمة حتى يقال لهم وراثة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون غيرهم ، والحال ان غيرهم قد قاسمهم اياها واخذ نصيبه منها ، فوجب لهذا حمل الوراثة على المنزلة والعلم معا ليثبت الاختصاص وعلى المال أيضا لبطلان رواية (لا نورث) كما سبق بيانه فتبين ان منزلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ميراث لهم كما ان جميع ماله وعلمه لهم فهم خلفاؤه واولياؤه وسفراؤه ويصدق هذا قول الله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٢) على انا لو قبلنا قول ابن ابي الحديد لم يكن الكلام خارجا عن الدلالة على ما نقول ، لأن اهل البيت اذا كانوا وارثين على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجب ان يكونوا خلفاؤه لوجوب الرجوع إليهم في الحلال والحرام والقضايا والأحكام لأن علم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عندهم وغيرهم خلو منه ، واذا وجب الاقتداء بهم في احكام الدين وجب ان يكونوا هم الأئمة لأن المقتدى به عندنا هو الامام ، ومن ليست له هذه المنزلة اذا ادعى الامامة فهو ظالم غاصب ومتقول كاذب ولاشتراط الأعلميّة عندنا في الامامة كما بين من قبل ويثبت المقصود ، وليس لأحد ان يترك الاقتداء بهم ويعدل عنهم الى غيرهم لأنه يكون تاركا للعمل بقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تعمدا لأن علمه عندهم فمن اخذ يقول من خالفهم فقد خالف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقينا ، فتثبت لهم بذلك الامامة قطعا والله الهادي وقوله (عليه‌السلام) : (الآن اذ

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه ١ / ٢٤ كتاب العلم باب العلم قبل القول والعلم.

(٢) الأنفال : ٧٥.

رجع الحق الى اهله) الخ صريح في ان الخلافة قبل ان يملك هو امرها ظاهرا كانت في غير اهلها فهي مغصوبة منهوبة وهو نص مذهبنا وبالله المستعان.

ومما ورد في المعنى قول امير المؤمنين في بعض خطبة في النهج : (نحن شجرة النبوة ، ومحط الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة ، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة) (١) وهذه الخطبة ظاهرة في ان اهل البيت وارثو منزلة الرسول وعلمه وحكمه لأن قوله : (نحن شجرة النبوة) يشير به الى ان ميراث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد صار لهم لأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) منهم اذ ليس يجوز ان يريد انهم انبياء لأن النبوة قد ختمت بنبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكذلك قوله : (ومحط الرسالة) فان مقام رسالة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صار لهم فهم المؤدون عنه الى الأمة احكام الدين التي بعث بها ، والحافظون لها الا تسمع الى قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لا يؤدي عني الا انا او رجل مني) وفي حديث مضى قبل انه قال لعلي (عليه‌السلام : (وانت تؤدي عني) وقوله في حديث رواه احمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن جيش بن جنادة قال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي مني وانا من علي ولا يؤدي عني الا علي) (٢) فهم خلفاؤه وأمناؤه وخلصاؤه وسفراؤه وليس يريد انهم رسل لأن الرسالة كملت برسولنا محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واما قوله : (ومختلف الملائكة) فلأن الأئمة (عليه‌السلام) تنزل عليهم الملائكة وتخاطبهم وليس ذلك ببدع فقد خاطبت الملائكة مريم بما حكاه الله تعالى : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ) الآية وقول جبرئيل لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٠٧.

(٢) رواه الترمذي ٢ / ٢٢٩ وفيه (ولا يؤدي عني الا انا او علي).

زَكِيًّا) (١) وخاطبت سارة بما قصه الله قالوا : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) (٢) فلا يمتنع في خلفاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما جاز في حق سارة ومريم ، وقد قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) في حديث مر ذكره : (انك ترى ما ارى وتسمع ما اسمع الا انك لست بنبي) وهو صريح في المطلب ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٣) الآيتين فهم اولئك اذ لا غيرهم من الأمة هكذا ، وباقي الخطبة ظاهر المعنى وهو ينادي بنجاة متبعهم وهلاك معاديهم ، ويصرح بانهم وارثوا منازل الرسول ومراتبه وذلك هو المراد.

ومما ورد بانهم اوتوا من فضل الله ما حسدهم الناس عليه قوله تعالى : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٤) فقد ذكر ابن ابي الحديد ان الآية نزلت في علي (عليه‌السلام) (٥) وذكر في اسعاف الراغبين عن بعضهم في الآية عن الباقر انه قال : (اهل البيت هم الناس) (٦) وهذه الآية صريحة في إمامة اهل البيت ، وانها هي الشيء الذي اتاهم الله اياه من فضله وحسدهم الناس عليه ، لأن الناس لم يحسدوهم على مال اوتوه ولا ثروة حصلوها ولا جواهر اختزنوها ، وانما حسدوهم على الخلافة ونازعوهم في الامامة ، فالآية دالة على ان الله آتاهم الامامة وجعلها فيهم وذلك ظاهر.

__________________

(١) مريم : ١٩.

(٢) هود : ٧٣.

(٣) فصلت : ٣٠ ـ ٣١.

(٤) النساء : ٥٤.

(٥) نهج البلاغة من الخطبة القاصعة ١٩٠.

(٦) اسعاف الراغبين ص ١٠٩.

وأما الأقوال والأفعال الدالة على تعظيم اهل البيت وجلالة شأنهم ، ورفعة قدرهم ، والمشيرة الى انهم خلفاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الراشدون ، والمومية الى انهم الأئمة المرضيون ، فكثيرة نذكر منها جملة وافرة.

فمنها قوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) الى قوله تعالى : (إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً) (١) فقد صح في الرواية ان هذه السورة نزلت في حق علي وفاطمة والحسن والحسين حين جادوا بقوتهم ثلاث ليال على المسكين واليتيم والأسير وهم مع ذلك يصومون النهار ، قال ابن ابي الحديد مشيرا الى علي (عليه‌السلام) وفيه انزل قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) (٢) انتهى فانظر الى ما وصفهم الله تعالى به في هذه الآيات من الأوصاف الجليلة ، والى ما مدحهم به من الخصال الجميلة من كونهم ابرارا وانهم يوفون بالنذر ، ويخافون يوم القيامة وخوف الآخرة من وصف اهل الايمان الكامل كما ان عدم خوفها من وصف اهل الكفران قال تعالى : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ) (٣) ووصفهم بالسخاء والجود ، وهو اطعام الطعام على حبه اي في وقت حاجتهم إليه وذلك غاية الجود ، ووصفهم بصفاء النية وصدق الطوية وانهم لم يقصدوا بفعلهم الا وجهه الكريم ورجاء ما عنده من الثواب الجسيم ، ولم يريدوا بما فعلوا جزاء ولا محمدة من المسكين والأسير واليتيم ، ثم انظر الى ما وعدهم الله من الثواب الجزيل وما اعد لهم من العطاء العميم بقوله : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً

__________________

(١) الدهر : ٩ و ١٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٢١.

(٣) الشورى : ١٨.

وَسُرُوراً وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) (١) الى آخر الآيات المشتملة على ذكر ما اعد لهم من افضل الهبات ، فهل رأيت وليا من الأولياء غيرهم جمعت له في القرآن هذه الصفات ، او صفيا من الأصفياء سواهم حين اعدت لهم هذه العطيات ، وهل هذه الأوصاف الا اوصاف النبيين والمرسلين؟ فانهم وان لم يكونوا انبياء ورسلا فانهم كانوا من سبلهم سالكين ، ولمآثرهم ولمراتبهم ومنازلهم وارثين أفليس في ذلك كله اشارة الى إمامتهم ، وايماء الى خلافتهم ، ان لم تكن دلالة واضحة وعلامة لائحة.

ومنها ما رواه ابن ابي الحديد عن ابن ديزيل في كتاب صفين عن بعل بن بعيد الحنفي عن اسماعيل السدى عن زيد بن ارقم قال : كنا مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو في الحجرة يوحى إليه ونحن ننتظره حتى اشتد الحر فجاء علي بن أبي طالب ومعه فاطمة والحسن والحسين (عليه‌السلام) فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه ، فلما خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) رآهم فاتاهم ووقفنا نحن مكاننا ثم جاء إلينا وهو يظلهم بثوبه ممسكا بطرف الثوب وعلي ممسك بطرفه الآخر ، وهو يقول : (اللهم اني احبهم فاحبهم اللهم اني سلم لمن سالمهم وحرب لمن حاربهم) (٢) قال : فقال ذلك ثلاث مرات ورواه الحاكم في مستدركه أيضا وهو شاهد بان مقام الرسول لهم حيث جعل سلمهم سلمه وحربهم حربه.

ومنها ما رواه احمد بن حنبل عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اذا ذهب النجوم ذهب اهل السماء واذا ذهب اهل بيتي ذهب أهل الأرض) وفي رواية صححها الحاكم على شرط الشيخين : (النجوم امان لأهل الأرض

__________________

(١) الدهر : ٨ فما بعدها.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٠٧ ومستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.

من الغرق واهل بيتي أمان لأهل الأرض من الاختلاف).

واخرج جماعة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (النجوم امان لأهل السماء واهل بيتي أمان لأمتي) وفي اخرى : (اهل بيتي امان لأهل الأرض فاذا هلك اهل بيتي جاء اهل الأرض من الآيات ما كانوا يوعدون) (١).

قال في الاسعاف : وقد يشير الى هذا المعنى قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (٢) اقيم اهل بيته مقامه في الامان لأنهم منه وهو منهم كما ورد في بعض الطرق انتهى (٣) وهذا دال على انهم خلفاؤه والقائمون مقامه وتدل أيضا ، على وجود امام منهم في كل زمان قائم مقام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليحصل به الأمان لأهل الأرض من الذهاب والاختلاف ، وهو عين ما نقول وقد تقدم ذكر هذه الأخبار وتمام تحقيقها في مقدمة الكتاب.

ومنها ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال في حسن وحسين : (اللهم اني احبهما واحب من يحبهما) (٤) وروى الترمذي عن اسامة انه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجلس الحسن والحسين يوما على فخذيه وقال : (هذان ابناي وابنا ابنتي اللهم اني احبهما فاحبهما) (٥) وروى عن انس بن مالك ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) نقله المحب في ذخائر العقبى ص ١٧ عن فضائل احمد ومستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.

(٢) الأنفال : ٣٣.

(٣) اسعاف الراغبين ص ١٣٠.

(٤) الترمذي ٢ / ٢٤٠ وفيه «وركية» مكان «فخذيه» وفيه «فاحبهما واحب من يحبهما».

(٥) المصدر السابق ٢ / ٣٠٦.

وسلم) سئل أي اهل بيتك احب أليك؟ فقال : (الحسن والحسين) (١).

وروى الطبراني وابن ابي شيبة ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال فيهما : (اللهم اني احبهما فاحبهما وابغض من ابغضهما) (٢).

وروى ابن عساكر وابن مندة عن انس ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا) (٣) ومثله في الصحيحين عن ابن عمر ، ومن هذا الباب كثير من الأحاديث المروية في صحاح القوم مما لا ينكر روايتهم ابن ابي الحديد ولا غيره ، ولا يرتاب فيها ، وليسوا من الشيعة الذين قال انه لا يحفل بروايتهم ولا يلتفت إليها وكلها دالة على تفضيل الحسن والحسين لأن محبّة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لهما يلزم منها محبة الله لهما اذ لا يحب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا من يحبه الله ومحبة الله لهما يلزم منها كثرة ثوابهما ، وذلك هو الفضل فيجب لهما الامامة اذ لا يجوز تقديم المفضول على الأفضل ، وأيضا ان تلك الأقوال من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تقتضي وجوب محبتهما على الأمة وولايتهما وتشير الى عدم رضاه بتقدم غيرهما عليهما.

ومنها ما رواه ابن عساكر وابن مندة ان فاطمة اتت بابنيها فقالت : (يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا) فقال : (اما حسن فله هيبتي وسؤددي واما حسين فله جرأتي وجودي) وفي رواته : (اما الحسن فقد نحلته حلمي وهيبتي واما الحسين فقد نحلته نجدتي وجودي) (٤) فهذا الحديث يصرح بان

__________________

(١) كنز العمال ٦ / ٢٢١ وقال : «اخرجه الطبراني وابن ابي شيبة».

(٢) كنز العمال ٦ / ٢٢٠ وقال : «اخرجه ابن عساكر».

(٣) صحيح البخاري ط المنيرية ٧ / ١١ كتاب الأدب ، و ٥ / ١٠٠ كتاب بد الخلق باب مناقب الحسن والحسين ، وصحيح مسلم.

(٤) كنز العمال ٦ / ٢٢٠ وقال : «أخرجه ابن مندة» وابن عساكر والوجه الثاني في ص

الحسن والحسين قد ورثا خصال النبي الحميدة فيكونان وارثي مقامه كما ورثا اخلاقه.

ومنها ما رواه ابن ابي شيبة واحمد وجماعة من اصحاب الصحاح عن بريدة قال : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يخطب اذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصان احمران يمشيان ويعثران ويقومان فنزل (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وحملهما واحدا من ذا الشق وواحد من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال : (صدق الله : انما اموالكم واولادكم فتنة اني نظرت الى هذين الغلامين يمشيان ويعثران فلم اصبر فقطعت كلامي ونزلت إليهما) (١).

واخرج الحاكم عن ابن عباس قال اقبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل فقال : نعم المركب ركبت يا غلام ، فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ونعم الراكب) (٢).

وروى الترمذي عن يعلى بن مرة قال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (حسين مني وانا من حسين احب الله من احب حسينا حسين سبط من الأسباط) (٣).

وعن زيد بن ابي زياد قال خرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من بيت عائشة فمر على بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي فقال : (ألم تعلمي

__________________

٢٢١ وقال : «أخرجه ابن عساكر».

(١) هذا الحديث خرجه جماعة من المحدثين والمفسرين كابن جرير في تفسيره ٢٨ / ٨١ والسيوطي في الدر المنثور في تفسير سورة التغابن والترمذي ٥ / ٣٥٤ والحاكم في المستدرك ١ / ٢٨٧ وابن الأثير في اسد الغابة ٢ / ١٢ الخ ...

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٧٠.

(٣) الترمذي ٢ / ٣٠٧.

ان بكاءه يؤذيني) (١) عن البراء بن عازب قال رأيت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حامل الحسين على عاتقه وهو يقول : (اللهم اني احبه فاحبه) ومثل ذلك روى في الحسن (٢).

وروى النسائي بسنده عن عبد الله بن شداد عن ابيه قال : خرج علينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لصلاة العشاء وهو حامل الحسين فتقدم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للصلاة فوضعه ثم كبر وصلى فسجد بين ظهراني صلاته سجدة فاطالها قال فرفعت رأسي فاذا الصبي على ظهر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو ساجد فرجعت الى سجودي فلما قضى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صلاته قال : الناس يا رسول الله سجدت بين ظهراني صلاتك سجدة اطلتها حتى ظننا انه قد حدث امر ، وانه يوحى أليك فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (كل ذلك لم يكن ولكني ارتحلني الحسن فكرهت ان اعجله حتى ينزل) (٣) وقريب (٤) منه رواه ابن سعد عن عبد الله بن الزبير وزاد فيه ولقد رأيته يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو راكع يفرج له يعني الحسن بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر (٥) فانظر الى هذا التعظيم الجليل من النبي (صلى الله عليه

__________________

(١) رواه المحب في ذخائر العقبى ص ١٤٣.

(٢) صحيح البخاري ٥ / ١٠٠ ط المنيرية كتاب المناقب باب مناقب الحسن والحسين اخرجه عن البراء وفيه «والحسن بن علي على عاتقه» بدل «حامل الحسين» ولكن في مستدرك الحاكم ٣ / ١٧٧ عن ابي هريرة «وهو حامل الحسن والحسين».

(٣) سنن النسائي ١ / ١٧٠ وفيه «وهو حامل حسنا وحسينا» وفيه «ولكن ابني ارتحلني».

(٤) ذخائر العقبى ص ١٣٢.

(٥) رواه في اسعاف الراغبين ص ١٣٠ عن تفسير الثعلبي وفي الصواعق ص ٥٦ والرياض النضرة ٢ / ٢٠٩ رواه الزمخشري في الكشاف كما في المتن.

وآله وسلم) للحسن والحسين ، أتراه يرضى ان يكونا سوقه يتأمر عليهما غيرهما أو ما في هذا التبجيل منه لهما اشعار بإرادته تقديمهما وتنبيه للأمة على تعظيمهما وتفخيمهما وتسليم الأمر إليهما وانقياد الناس الى حكمهما بلى والله فيه دليل ظاهر وبيان واضح زاهر.

ومنها ما رواه الثعلبي عن علي (عليه‌السلام) قال شكوت الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حسد الناس فقال لي : (أما ترضى ان تكون رابع أربعة اوّل من يدخل الجنة انا وانت والحسن والحسين وازواجنا عن ايماننا وشمائلنا وذريتنا خلف ازواجنا).

وروى الطبراني عن ابي رافع ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعلي : (انا اوّل أربعة يدخلون الجنة انا وانت والحسن والحسين وازواجنا خلف ذرياتنا).

وروى أيضا عن علي (عليه‌السلام) ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (اوّل من يرد على الحوض اهل بيتي ومن أحبني من امتي) (١).

وروى الديلمي مرفوعا (من اراد التوسل وان تكون له عندي يد اشفع له بها يوم القيامة فليصل اهل بيتي ويدخل السرور عليهم) (٢) وهذه الأحاديث كما ترى ظاهرة في مشاركة اهل البيت للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مزاياه وصريحة في اتصالهم به في آخرته كما انهم متصلون به في دنياه لا يزايلهم ، ولا يزايلونه ولا يفارقهم ولا يفارقونه فهم اوّل وارد عليه حوضه ، وهم الداخلون معه جنته ، والراقون على اثره درجته ، وان من

__________________

(١) كنز العمال ٦ / ٢١٨ وقال : «اخرجه الطبراني عن ابي رافع» ومثله في اسعاف الراغبين ص ١٣٠.

(٢) الصواعق ص ١٥٠ وقال : «اخرجه الديلمي».

وصلهم وادخل السرور عليهم كانت له يد على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يستحق بها شفاعته ويستوجب بها عنايته أفليس في هذا دلالة على انهم اولى بمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واشارة الى انهم احق بخلافته من كل احد والأحاديث في تبجيلهم وتفضيلهم كثيرة في كتب الخصوم استقصاؤها يوجب الأطناب والملال وليس هذا بكتاب حديث وانما هو كتاب استدلال فالاقتصار على ما ذكرنا اولى وفيه كفاية للعقلاء وسيأتي جملة من النصوص نذكرها في مقامات تليق بها فارتقب.

تحقيق مقام وايراد كلام لبلوغ مرام

الأئمة اثنى عشر إماما لا يزيدون ولا ينقصون لما استفاض عند الخصوم من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لا يزال امر الناس ماضيا ما وليهم اثنى عشر إماما كلهم من قريش) وما روى عن عبد الله بن مسعود انه قال ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عهد إلينا انه يكون بعده اثنى عشر خليفة (١) ولتواتر النقل عندنا في ذلك عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعن علي (عليه‌السلام) ودعوى قوم من الخصوم ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا) (٢) باطلة وكثير منهم يبطل هذا الحديث الذي لا شك في بطلانه ، والمعتزلة كافة يبطلون هذه الدعوى ولا ريب ان هذا حديث موضوع ، ويكفي في رده حديث : (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) (٣) وهو متفق

__________________

(١) حديث الاثني عشر خليفة رواه كثير من المحدثين بطرقهم عن ابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن سمرة باختلاف يسير في بعض الألفاظ كالبخاري في صحيحه ١ / ١٢٧ كتاب الأحكام ومسلم في صحيحه ٦ ص ٣ في كتاب الامارة باب الناس تبع لقريش ، والامام احمد في مسنده ١ / ٣٨٩ و ٤٠٦ و ٥ / ٨٩ و ٩٠ و ٩٢ و ٩٤ و ٩٩ و ١٠٦ و ١٠٨ وابو نعيم في الحلية ٤ / ٣٣٣ والترمذي ٢ / ٣٥ الخ ...

(٢) هذا الحديث موقوف على راويه وهو سفينة والعدد غير صحيح والخلل في كلام المعصوم محال.

(٣) هذا الحديث متواتر وقد تقدم في اوّل الكتاب.

عليه وصريحة ان لكل زمان إماما تجب معرفته ولا تجب معرفة ملك جائر البتة كما اوضحناه سابقا ، والأحاديث المتفق عليها في المهدي وانه خليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حقا ، وبالجملة بطلان تلك الدعوى ظاهر لا يحتاج الى تطويل القول فيه ما بيناه في المقدمة من وجوب استمرار الامامة وما اقمنا عليه من الأدلة واوّل الأئمة الاثني عشر وسيدهم امير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) ، ثم ابنه الحسن ، ثم اخوه الحسين ، ثم ابنه علي بن الحسين زين العابدين ، ثم ابنه محمد بن علي الباقر ثم ابنه جعفر بن محمد الصادق ، ثم ابنه موسى بن جعفر الكاظم ، ثم ابنه علي بن موسى الرضا ، ثم ابنه محمد بن علي الجواد المعروف بالتقي ، ثم ابنه علي بن محمد الهادي الموصوف بالنقي ، ثم ابنه الحسن بن علي الزكي العسكري ، ثم ابنه المنتظر المهدي سمى جده النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقد تواتر النقل عندنا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) باسمائهم وانهم الأئمة من بعده ، ووصفهم لجماعة من اصحابه منهم جابر بن عبد الله الأنصاري ، واخبره انه يدرك محمد بن علي الباقر وامره ان يقرأه عنه السلام ففعل (١) والقصة مشهورة عند مخالفينا ، وفضل هؤلاء الأئمة عند خصومنا مشهور ، وفي مصنفاتهم مذكور ، قد ذكرهم ابن ابي الحديد في ذكره مفاضلة هاشم وعبد شمس بجميل الذكر واثنى عليهم باحسن الثناء وذكرهم ابو العباس الدمشقي في تاريخه ووصفهم بالامامة ومدحهم بالعلم والشهامة وذكر لهم جملة من الكرامات والأخبار عن المغيبات والكلام على اسرار القلوب

__________________

(١) نور الابصار ص ١٤٣ وقال ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٧٧ : «هو سيد فقهاء الحجاز ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه ، وهو الملقب بالباقر ، باقر العلم ، لقبه به رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يخلق بعد ، وبشر به ، ووعد جابر بن عبد الله برؤيته ، وقال : (ستراه طفلا فاذا رأيته فابلغه عني السلام) فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وصيّ به».

المضمرات وصنف محمد بن طلحة الشامي كتاب مطالب السئول في ذكرهم ونعتهم ، وصاحب كتاب الفصول المهمة صنفه في وجوب معرفتهم ، وعلي بن عيسى الأربلي جمع كتاب كشف الغمة في جمع مناقبهم وفضائلهم ، وذكرهم محمد بن علي الصبان الشافعي في اسعاف الراغبين ، ووصفهم بالأوصاف الجليلة مع شدة عداوته للشيعة وكثرة تعصبه عليهم كما يعرفه منه من رأى كتابه المشار إليه وذكرهم ابن خلكان في تاريخه بجميل الذكر وكم فاضل من مخالفينا صنف في فضائلهم ، وكم من مؤلف من خصومنا الف في جمع مناقبهم.

واما اصحابنا فقد صنفوا في ذلك وجمعوا منه الكثير الواسع ، وهذا يدلك على عظيم عناية الله بأئمتنا الطاهرين ، حيث اجرى مدحهم على السن أوليائهم واعدائهم ، وهذا أدل دليل على إمامتهم ، واوضح برهان على رئاستهم ، وانها من الله تعالى عند من تأمل وانصف ، وقد اشتهر من كراماتهم واستجابة دعائهم ومعاجزهم ، وعلمهم بالأسرار واخبارهم عن المغيبات ما هو مذكور في كتب التواريخ والسير وكتب الأخبار من الخاصة والعامة ، وليس هذا الكتاب مصنفا لذكر الفضائل ولا لجمع المناقب فمن ارادها فليطلبها من الكتب التي سميناها وغيرها فان هذا الكتاب انما هو مصنف لاثبات النص عليهم بالامامة واردنا من هذا الكلام بيان انهم معروفون بالفضل والعلم موصوفون بالجود والحلم عند الولي والخصم ، فليس من انكر إمامتهم انكرها لجهل بفضلهم ولا لعدم معرفته بشرفهم ومجدهم وقربهم من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وطيب اصلهم ، ولا لخفاء خصالهم الحميدة وجميل فعلهم ، وكيف يخفى فضل اهل البيت على القوم وهم قد رووا في حقهم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما مر عليك في هذا المصنف من الأخبار على كثرتها مع ما سيأتي ذكره منها ، وهذا كله جزء مما رووه في فضلهم ، ولا بأس بذكر بعض الأحاديث في هذا المقام ممّا

يستدل به على فضل ائمتنا الكرام.

روى ابن حجر في الصواعق ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (من احب ان ينسئ الله اجله وان يمتع بما خوله فليخلفني في اهلي خلافة حسنة فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره وورد علي يوم القيامة مسودا وجهه) (١).

وروى احمد بن حنبل عن العباس بن عبد المطلب ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صعد المنبر فقال : (من انا) قالوا انت رسول الله قال : (انا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ان الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا) (٢) وروى احمد والمحاملي عن عائشة انها قالت قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (قال جبرائيل قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد افضل من محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم اجد بني أب أفضل من بني هاشم) (٣) فبنوا هاشم أفضل الناس بمقتضى الخبر ، والأئمة صفوتهم فانهم اعلام بني هاشم ، ونجوم بني عبد المطلب ، فلهم الشرف الأعظم والمجد الأقدم ، ولقد اجاد ابو فراس الحمداني (٤) حيث يقول في خطاب بني العباس من قصيدة طويلة.

__________________

(١) الصواعق ص ١١١.

(٢) رواه الترمذي ٢ / ٦٩ والمظنون ان المؤلف رحمه‌الله نقله عن مناقب احمد.

(٣) رواه في فيض القدير / ٤٩٩ بحروف ما في المتن.

(٤) ابو فراس الحمداني : الحارث بن سعيد بن حمدان ابن عم سيف الدولة شاعر مبرز شهد له المتنبي بالتقدم ، وفيه يقول الصاحب بن عباد : «بدئ الشعر بملك ـ يعني امرئ القيس ـ وختم بملك ـ يعني أبا فراس» والبيت المذكور من قصيدته المعروفة بالشافية واولها :

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا

مأمونكم كالرضا ان انصف الحكم

ولما قال معاوية لعبد الله بن العباس بعد موت الحسن انك اليوم زعيم بني هاشم قال : عبد الله اما والحسين فيهم فلا (١) ولما قال معاوية لعبد الله بن جعفر انك سيد بني هاشم ، قال له عبد الله ان الحسن والحسين هما سيدا بني هاشم لا يدافعان (٢) وقال مرة وقد قال له معاوية كلاما يفضله فيه وأباه جعفرا على الحسن والحسين وابيهما : هما خير مني وابوهما خير من ابي وامهما خير من امي.

وروى في اسعاف الراغبين ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : (يرد علي الحوض اهل بيتي ومن احبهم كهاتين) يعني السبابتين (٣).

وروى الطبراني ان عليا (عليه‌السلام) قال لمعاوية : (اياك وبغضنا فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : لا يبغضنا ولا يحسدنا احد الا ذيد عن الحوض يوم القيامة بسياط من نار) (٤) قال : وقال في الاسعاف بعد ذكر جملة من الأخبار في محبة اهل البيت : علم من الأحاديث السابقة وجوب محبة اهل البيت ، وتحريم بغضهم التحريم الغليظ ، وبلزوم محبتهم صرح البيهقي والبغوي بل نص عليه الشافعي في ما حكى من قوله :

__________________

الحق مهتضم والدين مخترم

وفيء آل رسول الله مقتسم

يروى انه دخل معسكر الخليفة العباسي وشهر خلفه اكثر من خمسمائة سيف وانشد القصيدة وخرج ، له وقائع معلومة مع الروم ، واسر عدة مرات وله اشعار في اسره قتل سنة ٣٥٧ في واقعة جرت بينه وبين ابن اخته ابي المعالي بن سيف الدولة.

(١) في محاورة بين معاوية وعبد الله بن جعفر.

(٢) شرح نهج البلاغة ٦ / ٦٩٧.

(٣) اسعاف الراغبين ١١٣.

(٤) أيضا ص ١١٤ وقال : «رواه الطبراني في الأوسط».

يا آل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن انزله

يكفيكم من عظيم الفخر انكم

من لم يصل عليكم لا صلاة له (١)

وقال الفخر الرازي : «ان اهل بيته يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ساووه في خمسة اشياء في الصلاة عليه وعليهم في التشهد وفي السلام يقال في التشهد السلام عليك ايها النبي وقال تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (٢) وفي الطهارة قال الله تعالى : (طه) اي يا طاهر وقال تعالى : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣) وفي تحريم الصدقة وفي المحبة قال تعالى : (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٤) وقال تعالى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٥) انتهى (٦).

وقال محيي الدين ابن عربى.

ولائي إليكم آل طه فريضة

على رغم اهل البعد يورثني القربا

فما طلب المبعوث اجرا على الهدى

بتبليغه الا المودة في القربى

رواه عنه في الاسعاف (٧) ، فهذه شهادة الفضلاء من اهل السنة على فضل أئمتنا ووجوب محبتهم ، ومساواتهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخصائص والمزايا ، وكفى بذلك لنا تصديقا.

فان قيل : لم قصرتم الامامة في ذرية الحسين دون ذرية الحسن وهما جميعا

__________________

(١) أيضا ص ١١٩.

(٢) الصافات : ١٣٠.

(٣) الأحزاب : ٣٣.

(٤) آل عمران : ٣١.

(٥) الشورى : ٢٣.

(٦) اسعاف الراغبين ص ١١٧ نقله عن الرازي.

(٧) أيضا ص ١١٧ والصواعق ص ٨٩.

سبطا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم خصصتم بها من ذكرتم ، دون باقي ذرية الحسين.

قلنا : اما جعلنا الامامة في ذرية الحسين دون ذرية الحسن وهما معا ابنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلنا عليه دليلان.

الأول ان الامامة لا شك انها منصب رسول الله ومقامه وميراثه فصارت بعده لعلي (عليه‌السلام) بنصه عليه ثم صارت بعد علي للحسن والحسين (عليه‌السلام) مشتركين فيها بنص رسول الله عليهما الا ان التقدمة للحسن لأنه الأكبر سنّا ثم صارت بعده للحسين خالصة لا يشركه فيها غيره فوجب ان تكون بعده للأقرب إليه لآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فمحال ترجع الى ولد الحسن ، وهي ميراث الحسين ، والامام يجب ان يكون اقرب الناس الى الامام الذي قبله ولو لا وجود النص على الحسين من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومن علي (عليه‌السلام) لجعلناها بعد الحسن للأكبر من ولده ولم تصر للحسين ولا لأحد من ذريته ، ولكن النص عليه قد ورد فكان هو الامام بعد الحسن ، فالامامة يجب ان تكون في عقبة للآية.

الثاني تواتر الأخبار عندنا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي والحسن والحسين (عليه‌السلام) ان الامامة بعد الحسين تكون في ذريته وكتب اصحابنا مملوءة من ذلك ، وبهذين الدليلين يبطل مذهب الزيدية والكيسانية ومن شابههم.

وأما تخصيص الامامة بمن ذكرناهم فلوجوه.

الأول تواتر الأخبار عندنا عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعن علي باسمائهم وانهم فلان بن فلان وفلان بن فلان الى آخرهم ، وتلك

الأخبار مودعة في كتب اصحابنا فوجب اتباع ما قاله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

الثاني تواتر النص عندنا عن كل سابق على لاحقه ، وقد علمت ان الامامة عندنا دائرة مدار النص ، وقد اوضحنا بطلان الاختيار فيها في اوّل الكتاب فيجب الحكم بامامة من ذكرنا نصّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهم ونص بعضهم على بعض.

الثالث انك قد علمت فيما مضى انا اقمنا الدليل على اشتراط الأعلمية في الامام وانه لا يجوز ان يكون في رعيته من هو اعلم منه ولم نجد من ذرية الحسين ولا من ذرية الحسن اعلم من هؤلاء القوم ، فانهم ما سألوا عن شيء الا اجابوا فيه ، واستخرجوه من كتاب الله تعالى وبثوا من العلوم ما لم يحط به احد ومن اخبار الماضين ما لم يعلمه من قرأ كتب الأولين مع تصريحهم بانهم لم يجدوا لعلومهم حملة ، فلو انهم وجدوا من يحمل علومهم لبرز عنهم من العلم ما يكون الظاهر الآن من علومهم على كثرته عشر عشر عشره واستغفر الله من النقصان ، فان العبارة لا تؤدي عنه والعقول لا تحيط بكنهه ، فقولنا على جهة التقريب فقد قالوا لمن سألهم عن الألف باب التي علمها رسول الله امير المؤمنين (عليه‌السلام) فانفتح من كل باب الف باب (١) وانها صارت إليكم فكم نروي منها عنكم فقالوا : (انكم ترون منها

__________________

(١) في كنز العمال ٦ / ٣٩٢ عن علي قال : «علمني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الف باب كل باب يفتح الف باب) وقال : «اخرجه ابو احمد الفرمني في جزئه ، وفي رواية الثعلبي في قصص الأنبياء ص ٥٦٧ «علمني الف باب من العلم فتشعب لي من كل باب الف باب» ذكر ذلك في قصة اهل الكهف ، وفي كنز العمال ٦ / ٤٠٥ عن ابن عباس : «علمه الف الف كلمة كل كلمة تفتح الف كلمة».

عنا بابا او بابين) وهم في كل ما قالوا وجميع ما بينوا من الأحكام في الحلال والحرام والقصص والأخبار لم يكونوا ناقلين له عن استاذ ولا محدث ، بل يلقيه كل سابق منهم الى لاحقه الى ان ينتهي الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، لا يرجعون في علومهم الا إليه لا الى رأي ولا قياس كغيرهم من بني ابيهم ، ومن جملة الناس وقد اقر بأعلميتهم على من سواهم من اخوانهم واعمامهم جميع العلماء وصنفت الكتب في فضائلهم دون غيرهم من الذرية الحسينية والحسنية من الخاصة والعامة فلا يذكر غيرهم من القبيلين الا بالعرض والاستطراد ، وملئت التواريخ بذكر كراماتهم ووصف علومهم دون بني ابيهم كما ذكرنا في اوّل الكلام ، ومن اراد الاطلاع على ذلك فعليه بالكتب التي اشرنا إليها وغيرها مما ذكر فيه اخبار الماضين ، وحيث كانوا اعلم اهل ازمنتهم وجب ان يكونوا هم الأئمة.

الرابع اجتماع الخصال الحميدة فيهم من الزهادة والعبادة والكرم والحلم واستجابة الدعوة والعفة والصيانة مما لم يجتمع بعضها لأحد من الناس ، قال ابن ابي الحديد في مفاخرة هاشم وعبد شمس : «ومن الذي يعد من قريش او من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك ، فمنهم خلفاء مرشحون ابن ابن ابن ابن هكذا الى عشرة وهم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ، وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم (١) وقال في موضع آخر : واين انتم عن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب الذي يقال له : على الخير ، وعلى الأغر ، وعلى العابد ، وما اقسم على الله بشيء الا وابر قسمه؟ واين انتم عن موسى بن جعفر بن محمد ، واين انتم عن علي بن محمد بن الرضا لابس الصوف طول

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٧٣.

عمره مع سعة امواله وكثرة ضياعه وغلاته (١) وقال في موضع آخر : وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه ويقال ان أبا حنيفة كان من تلامذته ، وكذلك سفيان الثوري وحسبك بهما في هذا الباب ـ الى ان قال ـ ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين ، وقال الشافعي في الرسالة في اثبات خبر الواحد : وجدت علي بن الحسين وهو افقه اهل المدينة يعوّل على اخبار الآحاد (٢) انتهى. ما اردنا نقله من كلام المعتزلي وهو مصرح بما ذكرنا في ائمتنا ونسبناه إليهم من الأوصاف ، واجتماع الخصال الحميدة فيهم مما لم يتفق لغيرهم ، واعظم الأمور ان محمد بن ادريس الشافعي يستند في صحة قوله الى فعل إمامنا علي بن الحسين ويجعله حجة.

وروى ابن خلكان في تاريخه عن ابي العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل ما مثاله يروى عن رجل من قريش لم يسم لنا قال : كنت اجالس سعيد بن المسيب فقال لي يوما : من اخوالك؟ فقلت : امي فتاة ، فكاني نقصت في عينه ، وذكر مجيء سالم بن عبد الله بن عمر ثم بعد قيامه اتيان القاسم بن محمد بن ابي بكر الى ان قال ، فامهلت شيئا حتى جاءه علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) فسلم عليه ثم نهض قلت : يا عم من هذا فقال : هذا الذي لا يسع مسلما ان يجهله هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) الخبر (٢) فانظر الى قول سعيد في علي بن الحسين فانك تجده يكاد ان يصرح بامامته على ما نقول بل هو مصرح بها لأن من لا يسع المسلمين جهله واجبة معرفته عليهم ، وليس تجب على المسلمين بعد معرفة الله ورسوله معرفة احد الا الامام.

وقال في المناقب مختصر مناقب الحافظ ابي عبد الله محمد بن يوسف

__________________

(١) نقل ذلك عن الرسالة المذكورة ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٧٣ و ٢٧٤.

(٢) الكامل للمبرد ١ / ٣١١.

البلخي الشافعي في ترجمة الحسين (عليه‌السلام) مشيرا الى ائمتنا بعد ان ذكرهم قال بعض أهل العلم : «علوم اهل البيت لا تتوقف على التكرار والدرس ولا يزيد يومهم فيها على ما كان بالأمس لأنهم المخاطبون في اسرارهم المحدثون في النفس فسماء معارفهم وعلومهم بعيدة عن الادراك واللمس ، ومن اراد سترها كان كمن اراد ستر وجه الشمس ، وهذا مما يجب ان يكون ثابتا مقررا في النفس ، فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة ويقفون على حقائق المعاني في خلوات العبادة ، وتناجيهم ثواقب افكارهم في اوقات اذكارهم بما تسنموا به غارب الشرف والسيادة ، وحصلوا بتوجههم الى جناب القدس ما بلغوا به منتهى السؤال والإرادة ، فهم كما في نفوس اوليائهم ومحبيهم وزيادة ، فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمن الولادة ، وهذه امور تثبت لهم بالقياس والنظر ، ومناقب واضحة الحجول والغرر ، ومزايا تشرق اشراق الشمس والقمر ، وسجايا تزين عنوان التواريخ وعنون الأثر فما سألهم مستفيد او ممتحن فوقفوا ولا انكر منكر امرا من الأمور الا عرفوا ، ولا جرى معهم غيرهم في مضمار شرف الا سبقوا ، وقصر مجاريهم وتخلفوا ، سنة جرى عليها الذين سلفوا واحسن اتباعها الذين خلفوا ، وكم عاينوا في الجدال والجلاد امور فتلقوها بالرأي الأصيل والصبر الجميل ، فما استكانوا وما ضعفوا فبهذا وامثاله سموا على الأمثال وشرفوا تعدم الشقاشق اذا هدرت شقاشقهم وتصغي الأسماع اذا قال قائلهم ، ونطق ناطقهم ويكثف الهواء اذا قيست به خلائقهم ويقف كل ساع عن شأوهم ، فلا يدرك فائتهم ولا تنال طرائقهم ، سجايا منحهم بها خالقهم ، وفاز بها صادقهم فسر بها اولياؤهم واصدقاؤهم وحزن لها مباينهم ومفارقهم انتهى اقول والكلام في اوصافهم متسع قال فيه كل قائل بما احسن ، ونطق منه كل (١) (٢)

__________________

(١) أيضا ١٥ / ٢٧٨.

(٢) أيضا ١٥ / ٢٧٤.

ناطق بما اتقن ، وقدرهم فوق ما قيل فيهم ، وشأنهم فاق مدح مادحيهم ، فلنكتف من القول في ذلك بهذه الجملة ففيها ما يبل الغليل ويشفي العليل.

واعلم انه ليس في الذرية النبوية من له جميع هذه الأوصاف غير من ذكرناهم بالاتفاق ، فوجب ان يختصوا بالامامة دون غيرهم من اخوانهم واعمامهم ، وبهذا كله يبطل مذهب الاسماعيلية والفطحية ومن ضارعهم مثل مذهب اصحاب جعفر الكذاب بن علي الهادي وغيرهم.

توضيح مقال لدفع اشكال

المهدي هو ابن الحسن العسكري وهو مختف عن الناس لا يعرفون شخصه وهو يعرفهم وانه باق حتى يأذن الله له في الظهور والقيام بالسيف فيطهر الله الأرض به من الفساد ، ويملأها به قسطا وعدلا كما ملئت من الظلمة ظلما وجورا كما تواترت به الأخبار النبوية ، وينزل عيسى بن مريم إليه ويصلي خلفه ، ويملك سبع سنين كما وردت به الأخبار ، ثم يكون بعده ما شاء الله ان يكون من الكرة ، وليس هذا موضع تفصيل تلك الأمور ، وانما هو مقام اثبات الامامة له ، والبقاء بالدليل.

اما انه ابن الحسن العسكري فباجماع الامامية وتواتر اخبارهم ، انه ابنه وان مولده قبل وفاة ابيه بأربع سنين وقد قال بذلك جماعة من مخالفينا كمحيي الدين ابن عربي في فتوحاته وعبد الوهاب الشعراني في كتابه اليواقيت والجواهر والشيخ حسن العراقي وعلي الخواص وابي العباس الدمشقي وهؤلاء من اكابر السنّة والمذكورون قبل ابي العباس من اهل التصوف المعدودين عند خصومنا من الأولياء.

قال الشعراني في الكتاب المذكور : المهدي من ولد الامام الحسن العسكري ومولده ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين وهو باق حتى يجتمع بعيسى سن مريم ، هكذا اخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون

فوق كوم الريش المطل على بركة الرطل بمصر المحروسة عن الامام المهدي حين اجتمع به ووافقه على ذلك سيدي على الخواص رحمهما‌الله تعالى انتهى.

وقال محيي الدين مسافر بن عربي : انه لا بد من خروج المهدي (عليه‌السلام) لكن لا يخرج حتى تمتلأ الأرض جورا وظلما فيملأها قسطا وعدلا وهو من عترة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ولد فاطمة جده الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه‌السلام) ووالده الامام الحسن العسكري بن الامام علي النقي بالنون بن الامام محمد التقي بالتاء بن الامام على الرضا بن الامام موسى الكاظم بن الامام جعفر الصادق بن الامام محمد الباقر بن الامام زين العابدين علي بن الامام الحسين بن الامام علي بن ابي طالب يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يبايعه المسلمون بين الركن والمقام الى آخر (١) ما قال وقد نقل بعض اصحابنا عن

__________________

(١) كل ما نقل هنا عن الفتوحات المكية لابن عربي واليواقيت والجواهر للشعراني نقله المؤلف رحمه‌الله عن اسعاف الراغبين للصبّان المالكي ص ١٤١ وانظر نور الأبصار للشبلنجي ص ١٧٠ وقد نظم شيخنا الامام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء عطر الله مرقده ما نقله المؤلف هنا في رائيته العصماء التي رد بها على الرائية الغفل التي ارسلت من احد علماء بغداد الى جماعة من علماء النجف الأشرف يشكك فيها بوجود الامام المهدي عجل الله فرجه فرد عليه جماعة منهم بقصائد على وزن قصيدته وقافيتها فندوا بها اقواله وبددوا حججه قال رحمه‌الله :

قال رحمه‌الله :

وحسبي بمحي الدين نقضا فان في

الفتوح عليك النقض قد جاء والنصر

وكم في يواقيت الجواهر جوهر

به عاد شعرانيكم وله الفخر

لواقح انوار له انظر فان للعراقي

فيه قصة عدوها نضر

وصدقه فيه الخواص علي من

كراماته لا يستطاع لها ذكر

وتجد القصيدة كاملة في الزام الناصب ٢ / ١٠٧.

حجة الاسلام ابي حامد الغزالي في بعض كتبه اظنه المنخول مثل ذلك ، لكن الكتاب لا يحضرني لأنقل عبارته.

وقال ابو العباس الفصل الحادي عشر في ذكر الخلف الصالح الامام ابي القاسم محمد بن الحسن العسكري رضي الله عنه عند وفاة ابيه خمس سنين اتاه الله فيها الحكمة كما اوتيها يحيى وكان مربوع القامة ، حسن الوجه ، والشعر ، أقنى الأنف ، اجلا الجبهة ـ الى ان قال ـ واتفق العلماء على ان المهدي هو القائم في آخر الوقت ، وقد تعاضدت الأخبار على ظهوره وتظاهرت الروايات على اشراق نوره ، وستسفر ظلمة الأيام والليالي بسفوره ، وينجلي برؤيته الظلم انجلاء الصبح عن ديجوره ، ويسير عدله في الآفاق فيكون اضوء من البدر المنير في مسيره انتهى وكذلك ذكره جماعة من اهل التاريخ كشمس الدين ابن خلكان فقد ذكر انه محمد بن الحسن العسكري واثبت مولده في التاريخ المتقدم ، وذكر انه الرجل الذي تدعى الامامية انه امامهم الثاني عشر وذكره ابن زولاق في تاريخه ، هكذا الا انه زعم ان مولده قبل التاريخ المذكور وكذلك غيرهما من اهل التواريخ والسير ، وقد تلخص من هذا كله ان ولادة المهدي الذي هو ابن الحسن العسكري وقعت يقينا وحصلت جزما فلا التفات لمن انكر ذلك عصبية وعنادا كابن ابي الحديد وامثاله من اصحابه وغيرهم ، ومن هذا يعلم بطلان ما ذكره في اسعاف الراغبين من ان المهدي من ذرية الحسن السبط بن امير المؤمنين (عليه‌السلام) ويعلم منه أيضا وهن قوله : ان رواية كونه من ذرية الحسين واهية (١) بل قوله هو الواهي ولعلهم رأوا في رواية انه من ولد الحسن يعنى به العسكري فظنوه الحسن السبط فأخطئوا فقد روى ابن قتيبة في كتاب غريب الحديث عن امير المؤمنين (عليه‌السلام) : (ان المهدي من ذرية

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٣٧.

الحسين) (١) ورواه أيضا قاضي القضاة عن كافي الكفاة اسماعيل بن عباد باسناد متصل به (عليه‌السلام) فلا محيص عن القول به.

واما اختفاؤه فلخوفه من الطواغيت ان يفعلوا به كما فعل بآبائه وليخرج وليس في عنقه بيعة لأحد من الظلمة.

واما عدم معرفة الناس لشخصه ومكانه فلخوف الاذاعة فاذا عرف شخصه ومحله قصد من الجائرين بالايذاء.

واما بقاؤه حتى يؤذن له في الظهور فلوجوه.

الأول اتفاق الامامية عليه وموافقة جملة من المخالفين لهم على صحته كما سمعت.

الثاني تواتر الأخبار عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والأئمة بعد المفروغية من اثبات كون قولهم حجة باثبات إمامتهم بما ذكرناه من النصوص المتقدمة ، والوجوه المتعددة.

الثالث انا قدمنا في اوّل الكتاب انه لا يجوز خلو زمان من ازمنة التكليف من امام يكون حجة لله على خلقه ، وبينا هنا ان الأئمة اثنى عشر ، وانه تمام عدتهم فوجب الحكم ببقائه لئلا يكون زمان التكليف خاليا من الحجة لله على خلقه ، على انا نقول لهم ان جماعة من مؤرخيكم قد اثبتوا ولادته كما قلنا فنحن نطالبكم باثبات موته ، وبالدلالة على موضع مدفنه ، وليس لهم حجة على ذلك الا الشبهة التي تمسك بها منكروا ولادته او بعضهم وهي مخالفة العادة والطبع ، فان العادة قد قضت بانه لا يعيش احد هذا

العمر الطويل والطبيعة الانسانية لا يمكن بقاء شخص منها هذه المدة والعمر الطبيعي مائة وعشرون سنة ، وهذه الشبهة منقوضة عليهم ومقلوبة بما صح في كتبهم وتواريخهم من بقاء خلق كثير اضعاف ما ذكروه للعمر الطبيعي ، فقد ذكر ان آدم (عليه‌السلام) عاش ستمائة سنة ، وان نوحا بنص القرآن لبث من قومه الف سنة الا خمسين عاما ، بعد مبعثه قبل الطوفان ، وانه بعث وله خمسون سنة وقيل أربعمائة سنة ، وعاش بعد الطوفان ثلاثمائة سنة فعمره يكون على الرواية الأولى الفا وثلاثمائة سنة ، وعلى الثانية الفا وستمائة وخمسين سنة ، وان عمر سام ستمائة سنة ، وعمر ارفخشد أربعمائة سنة وخمس وستون سنة ، وان عمر شالخ بن ارفخشد أربعمائة وثلاثون سنة وان كالب بن يوفنا عاش الف سنة في بني اسرائيل وان انوش بن شيث عاش تسعمائة وخمسا وستين سنة ، وابنه قينان عاش سبعمائة وعشرين سنة وابنه مهلاييل عاش تسعمائة وخمسا وستين سنة ، وادريس رفع وهو ابن ثلاثمائة وخمس وستين وبقي ابوه بعد رفعه خمسمائة وخمسا وثلاثين سنة ، وعاش متوشلخ بن ادريس تسعمائة واثنين وثمانين سنة وابنه لملك سبعمائة سنة ، وذكر في انوار التنزيل ان لقمان الحكيم عاش الف سنة ، وصح ان لقمان بن عاد عاش عمر سبعة انسر.

قال القرماني ابو العباس في تاريخ الدول وقد اختلف الناس في عمر النسر وعامتهم انه يعيش خمسمائة سنة ، فعلى هذا ان لقمان عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة ، قال : وقيل انه عاش ثلاثة آلاف وثمانمائة سنة ، لأنه قبل ان يأخذ النسور له ثلاثمائة سنة انتهى اقول وقد ذكر شعراء العرب لقمان هذا اشارة وتصريحا قال سالم بن عوانة الضبي في ابيات له.

لا تهزئي مني ربيب فما

في ذاك من عجب ولا سخر

أو لم ترى لقمان اهلكه

ما اقتات من سنة ومن شهر

وبقاء نسر كلما انقرضت

ايامه عادت الى نسر

ما طال من امد على لبد

رجعت محاربة الى قصر

وقال التابعة الذبياني :

امست قفارا وامسى اهلها احتملوا

اخنى عليها الذي اخنى على لبد

يعني به نسر لقمان وغير ذلك

وذكر القرماني أيضا ان عوج بن عناق عاش مثل عمر لقمان بن عاد على الرواية الأولى.

وكثير من العرب عاش عمرا طويلا فمنهم عبيد بن شريد الجرهمي عاش ثلاثمائة وخمسين سنة ، وروى عنه انه رأى من عاش الف سنة ، وان الربيع بن ضبيع الفزاري عاش قريبا من أربعمائة سنة ، وان سويا الكاهن عاش ثلاثمائة سنة ، وان شداد بن عاد عاش تسعمائة سنة ، وعاش اكثم بن صيفي التميمي ثلاثمائة سنة ، وعاش المستوغر عمرو بن ربيعة احد بني سعد بن زيد مناة التميمي ثلاثمائة وعشرين سنة ، وعاش الحارث بن كعب مائة وستين سنة ، وعاش دريد بن زيد النهدي القضاعي أربعمائة سنة وستا وخمسين سنة ، وعاش زهير بن جناب العذري الكلبي مائتين وعشرين سنة ، وعاش ذو الأصبع حرثان بن محرث العدواني احد بني قيس عيلان بن مضر ثلاثمائة سنة ، وعاش معدي كرب الحميري عمرا طويلا حتى قال.

اراني كلما افنيت عمرا

اتاني بعده يوم جديد

يعود بياضه في كل فجر

ويأبى لي شبابي ما يعود

وعاش ابو الطمحان القيني حنظلة بن الشرفي الكناني مائتي سنة ، وعاش عبد المسيح بن بقيلة الغساني ثلاثمائة وخمسين سنة ، وعاش النابغة الجعدي قيس بن كعب من بني عامر بن صعصعة مائة وثمانين سنة ، على رواية ابن الكلبي ومائتي سنة على رواية ابن دريد عن ابي حاتم ، وغير هؤلاء ممن عاش

عمرا طويلا كثيرا لو اردنا ذكر جميع من يمكننا ذكره ، وكل من انتهى إلينا خبره لطال الكلام فاين العادة؟ واين العمر الطبيعي؟ فاذا صح عند خصومنا جواز الزيادة على العمر الطبيعي وخرق العادة فيمن ذكرناهم على كثرتهم ومن تركنا ذكره اكثر كيف يمنعون ذلك في المهدي دون غيره لتلك العادة المنخرمة المنخرقة؟ ما هو الا تشبث بما لا يجدي نفعا ثم انهم اثبتوا ان الخضر حي موجود الى ان يقوم المهدي (عليه‌السلام) وهو قبل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بزمان طويل لأنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن ابراهيم الخليل (عليه‌السلام) على رواية المسعودي في اخبار الزمان ، وقيل هو ايليا بن ملكا بن فالغ بن عابر ، وقيل الخضر بن ميشا بن افرائيم بن يوسف الصديق ، وعلى كل حال فهو قبل نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بمدة طويلة وصححوا ان معمر أبا الدنيا علي بن عثمان بن الخطاب الهمداني حي موجود من زمان نبينا الى ان يقوم المهدي واثبتوا ان الدجال حي موجود الى قيام المهدي ، ونزول عيسى من السماء فيقتلانه ، وان الياس حي موجود في السحاب فاثباتهم طول البقاء لهؤلاء وانكارهم البقاء منهم للمهدي عناد صرف ، وتعصب محض لا حجة عليه ، وبعد فما ينكرون من ان يكرم الله نبيه محمدا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما اكرمه بان يعمر رجلا من عترته الى وقت معلوم عنده كما فعل بغيره؟ على ان لازم ما رووه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من قوله : (لتحذون حذو الأمم من قبلكم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة) وقوله : (ليكونن فيكم ما كان في الأمم قبلكم) او ما اشبه هذا اللفظ ان يكون في اولياء هذه الأمة معمرون كما كان في اولياء الأمم السالفة ، وفي هذا كفاية لصحة بقائه (عليه‌السلام) الى وقت معلوم عجل الله فرجه وسهل مخرجه ، وجعلنا من انصاره واكرمنا بجواره.

واما الشبهة في استتاره بانه كيف يكون موجودا ولا يعرف بشخصه

فمندفعة بان الخضر موجود عندهم قطعا وهو لا يعرف بشخصه ، وذكر شيخهم الأكبر مسافر بن عربي ان الياس يجتمع مع الخضر عند سد يأجوج ومأجوج وفي مكة وعرفات ، روى ذلك عنه القرماني في تاريخ الدول ومن المتفق عليه انه لم يكن احد من الناس يعرف الخضر والياس بشخصيهما فما المانع ان يكون المهدي كذلك؟ ثم من المتفق عليه أيضا ان الدجّال موجود ولم يكن احد يعرفه بشخصه ولا ادعى احد من الناس معرفته فكيف يجوز ان يخفى الخضر والياس والدجال على الناس ولا يعرفون اشخاصهم ولا يجوز ذلك في غيرهم وهو المهدي لو لا التعسف وتمحل المحال ، وقد ورد في كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) ما يصرح بوجود هذا الامام المنتظر واستتاره عن البشر وانه حجة الله على خلقه وخليفة انبيائه.

فمنه ما في خطبة اومي فيها الى الملاحم قال في جملتها : (هذا ابان ورود كل موعود ودنو من طلعة ما لا تعرفونه ، الا وان من ادركها منا يسرى فيها بسراج منير ، ويحذو فيها على مثال الصالحين ليحل فيها ربقا ويعتق فيها رقا ويصدع شعبا ويشعب صدعا في سترة عن الناس لا يبصر القائف اثره ، ولو تابع نظره ، ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل يجلي بالتنزيل ابصارهم ، ويرمي بالتفسير في مسامعهم ، ويغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح) (١) انتهى.

فانظر الى قوله (عليه‌السلام) بعد ذكر اوصاف القائم (في سترة من الناس لا يبصر القائف اثره) فانك تراه اصرح شيء في مدعانا واوضح قول في مرامنا.

واما قول ابن ابي الحديد بعد اعترافه بدلالة الكلام على استتار هذا

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٤٨.

الانسان المشار إليه : وليس ذلك بنافع للامامية في مذهبهم ، وان ظنوا ان ذلك تصريح بقولهم وذلك لأنه من الجائز ان يكون هذا الامام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان ويكون مستترا وله دعاة يدعون إليه ويقررون امره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار ، ويملك الممالك ويقهر الدول ويمهد الأرض كما ورد في الخبر (١) فباطل غاية البطلان والكلام نافع لنا في مذهبنا غاية النفع وجواز أن يكون هذا الامام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان معارض بجواز أن يكون خلقه قبل زمان ابن ابي الحديد ، بما يربى على المئات من السنين ويزيد ، وقد اقمنا البرهان على وجوب وجوده في الأرض اثبتنا النقل على حصول ولادته منا ومن الخصوم ، ونحن لا ننكر ما اجازه لو كان الخلف لم يوجد ، ولم يولد ، ولا يضرنا في الحجة نحن ندعي انه (عليه‌السلام) خلق فكان على المعتزلي ان يقيم دليلا على منع ايجاده ، وابطال ميلاده وانّى له بذاك؟ واذا كان يجوز ان يكون ولد والأخبار منا ومنهم وردت بوقوع ذلك الجائز الذي لم يقدر الخصم على منعه وجب ان يكون استتار المنتظر من وقت ميلاده الى وقت ظهوره في هذه الأزمان لا في ذلك الزمان الذي ادعاه المعتزلي ، على انه لو كان كما ذكر لم يكن الامام مستترا عن الناس لأن من يبث الدعاة الى الخلق يدعونهم الى طاعته ومبايعته ويطلبون منهم الانقياد الى امره والوثوب الى نصرته ليس بمستتر عن الناس ، بل مظهر لهم نفسه مبد لهم امره معرف لهم شأنه ملق إليهم خبره ، ومن كان هذا شأنه كيف لا يبصر القائف اثره ولو تابع نظره ، ودعاته يشيرون إليه ويدلون الناس عليه ، وانما يصح الاستتار الذي عناه امير المؤمنين وصرح به في الوقت الذي ليس لهذا الامام ابن السادة الكرام داع يدعو الناس الى مبايعته ولا مشير يشير إليه ويدل عليه ، فهو مخفى الأثر ولذلك انكر وجوده من انكر كهذا القائل ، وهذه الحال لم تكن الا في هذه

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٢٨.

الأزمان التي تغلب فيها على اهل الايمان اهل البغي والعدوان ، وذوو الكفر واولياء الشيطان لا الزمان الذي يدعى فيه لذلك الامام ، وينادى باسمه بين الخاص والعام ، فان ذلك وقت اسفار العدل بسفوره ، وظهور صبح الحق بظهور نوره ، وانهزام ليل الباطل وزوال ديجوره ، بضياء نهار الهدى وسناء تنويره.

ذاك وقت ايامنا فيه بيض

والليالي غر كليل العروس

وليت شعري كيف خفي على المعتزلي هذا المعنى من الظهور والخفاء فلم يعرف الظاهر من المستور واما قوله كما ورد في الخبر ، فهو متعلق بقوله : تملك الممالك الى آخر الكلام لا بقوله : يخلقه الله في آخر الزمان اذ لا خبر بذلك عندهم ، ولو كان ثمة خبر ولو من اضعف الأخبار لصال به علينا وجال لكن لم يجد الى ذلك سبيلا فرجع الى الاستدلال بالامكان ، وترك ما حصل وكان.

ومنه قوله في خطبة اخرى يشير الى الخلف الصالح : (قد لبس للحكمة جنتها واخذها بجميع ادبها ، من الإقبال عليها والمعرفة بها والتفرغ لها فهي عند نفسه ضالته التي يطلبها وحاجته التي يسأل عنها فهو مغترب اذا اغترب الاسلام ، وضرب بعسيب ذنبه والصق الأرض بجرانه ، بقية من بقايا حجته ، خليفته من خلائف انبيائه) الخطبة (١) فقوله (عليه‌السلام) :(مغترب اذا اغترب الاسلام) دال على استتار ذلك الامام اذا عاد الاسلام غريبا كما بدأ غريبا دل عليه الحديث النبوي ، وصار كالبعير البارك الذي يضرب الأرض باصل ذنبه وهو المراد بالعسيب ، ويلصق الأرض بصدره وهو جرانة فلا يكون له تصرف ولا نهوض ، وكل ذا كناية عن عود الإسلام

__________________

(١) نهج البلاغة من الخطبة ١٨٠.

مغلوبا مقهورا معطلة حدوده ، مضيعة احكامه ، فيكون غريبا في الناس لا يعرف لاستيلاء اهل الضلالة على ذوي الهدى ، وغلبة الظلمة المغيّرين لأحكام الشريعة الغراء ، والعاملين في الناس بالشهوات والأهواء فيغترب حينئذ الحجة الذي هو بقية حجج الله وخليفة خلائف انبيائه ، فلا يعرف بشخصه ولا يدرى اين موضعه ، وهذا الكلام كما ترى صريح في وجود هذا الرجل واستتاره في زمان دولة اهل الجور والفساد ، وانه حجة الله ، وخليفة الخلفاء وهو عين ما قلناه من انه ختام الأئمة ، فان بقية الحجج ، وخليفة الخلفاء اخرهم بلا خفاء.

واما ما ذكره ابن ابي الحديد عن الصوفية ان المراد به ولى الله ، فان كان مرادهم به الامام لأنه عندنا حجة الله ووليه على عباده لا ولي على العباد غيره فذلك قولنا ، وان ارادوا به غير الامام وهو القطب عندهم الذي تدور عليه الأوتاد والأبدال فذلك مما لا برهان عليه ولا دليل وهو من الخرافات التي احدثها الصوفية بآرائهم واهوائهم ، والحق ان القطب بالمعنى الذي ذكروه وهو الخليفة الذي نحن نعنيه لا قطب غيره ، فجعلهم اياه غيره من وساوس النفوس ، ولا يطلق لفظ الحجة في كلام امير المؤمنين على الصوفي الكبير الذي سموه قطبا حاش لله.

واما ما نقله عن اصحابه ان المراد به العلماء الذي يتم الاجماع (١) وان امير المؤمنين (عليه‌السلام) يشير الى صفات كل واحد منهم ، فبعيد ظاهر الفساد ، اذ من اليقين انه لا يطلق لفظ الحجة والخليفة على غير الامام العام في كلام النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي واولاده ، وعلى المدعي اثبات ذلك ، نعم ورد في كلامهم اطلاق لفظ العالم على الامام وهو عكس ما قاله المعتزلة كما ورد عنهم (لا تخلوا الأرض من عالم) ، و (لا تكون الا وفيها

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٠ / ٩٦ ونقله المؤلف (رحمه‌الله) ملخصا.

عالم) وهو في أحاديثنا كثير ، ثم ان الكلام يعطي بصريحه ان المراد به شخص واحد على الحقيقة لا جماعة واحد هم هكذا ، ويعطي أيضا بالصريح ان ذلك الشخص مغترب غير معروف بين الناس ، واذا كان مما لا يتم الاجماع بدونه عند الناس لزم ان يكون معروفا عندهم غير مجهول فلم يكن مغتربا البتة ، فاين اذن مصداق قوله عليه‌السلام (مغترب) الخ.

واما ما ذكره عن الفلاسفة من ان المراد بالحجة هو العارف عندهم ، فذاك مما لا يعرف ولا يلتفت إليه وهل يرضى عاقل او يتصور فاهم ان يكون اراد امير المؤمنين (عليه‌السلام) بحجة الله خليفة خلفاء انبيائه مثل ابي نصر الفارابي (١) وابي علي بن سينا (٢) وابي البركات البغدادي (٣) وشهاب الدين يحيى السهروردي (٤) واشباههم من اكابر فلاسفة الاسلام الذين اكثر اقوالهم مخالفة لنصوص الكتاب والسنة واجماع المسلمين؟ فهؤلاء هم العارفون بالفلسفة ، ولو كان مثل هؤلاء هو المقصود لما صدق قوله (عليه

__________________

(١) الفارابي ـ نسبة الى فاراب التركية ـ : ابو نصر محمد بن طرخان الحكيم المشهور ولد في فاراب ونشأ بها ثم انتقلت به الاسفار الى بغداد وحلب ودمشق وتوفي بها سنة ٣٣٩ ويلقب بالمعلم الثاني له كتب في الفلسفة والحكمة تخرج بها الحكماء كالرئيس ابي علي بن سينا وغيره.

(٢) ابن سينا ابو علي الحسين بن عبد الله بن سينا الملقب بالشيخ والرئيس ولد في بخارى من مؤلفاته الاشارات والقانون توفي بهمدان سنة ٤٥٨.

(٣) المراد يأبى البركات كمال الدين بن عبد الرحمن سكن بغداد وكان من ائمة النحو ثم اعتزل الناس وانقطع للعبادة الى ان توفي سنة ٥٧٧.

(٤) شهاب الدين السهروردي عمرو بن محمد بن عبد الله كان من اهل الرياضة والتصوف والعبادة وكان معاصرا للناصر العباسي ، اما يحيى السهروردي فهو يحي بن حبش ولقبه بهاء الدين صاحب كتاب حكمة الاشراق اتهم بانحلال العقيدة فافتى فقهاء حلب بقتله فقتل سنة ٧٨٥ بأمر الملك الظاهر بن صلاح الدين وعمره ستة وثلاثون سنة والله العالم بحاله والى الله ترجع الأمور.

السلام) : (مغترب) لأن هؤلاء وامثالهم معروفون غير منكورين وظاهرون غير مستورين ومعظمون عند العامة غير مغتربين وبهذا أيضا يبطل قول المعتزلة لأن العلماء الذين ادعوا ان الاجماع لا يتم الا بهم معلومين غير مجهولين ان ارادوا مثل الجاحظ والجبائيين والقاضي عبد الجبار وابي القاسم البلخي وثمامة بن اشرس وابي الهذيل العلاف وابراهيم بن سيار النظام وواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد وابي الحسين الخياط (١) وامثالهم ممن يطول تعدادهم وكلهم مذكورون في طبقاتهم ، معروفون عند اصحابهم فأين هم والاغتراب؟ وهل يجوز ان يكون مثل الجاحظ وهو المبغض لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) حجة الله على خلقه ، وخليفة انبيائه؟ او يجوز ان يكون امير المؤمنين (عليه‌السلام) اراد بتلك الأوصاف مثله وامثاله؟ ومن هذا بطل ما ادعاه المعتزلي من جواز اطلاق الحجة والخليفة على العارف والولي عند الفلاسفة واهل التصوف ، وعلى العالم مثل ابي الهذيل عند المعتزلة وتبين ان ذلك قول منهم بألسنتهم وهوى قلوبهم ، وان كلام امير المؤمنين (عليه‌السلام) لا يوافق قول احد منهم ، وانما هو يوافق ما نقول لا سيما والمنصف المتأمل اذا ضم كلام علي (عليه‌السلام) بعضه الى بعض علم انه يريد بهذه الأوصاف رجلا من ذريته ، وهو الذي عناه في كلامه الأول بقوله : (الا وان من ادركها منا) الى آخره وقد اعترف المعتزلي بذلك حيث قال : وليس يبعد عندي أن يريد به القائم من آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر الوقت اذا خلقه الله تعالى وان لم يكن الآن موجودا فانه ليس في الكلام ما يدل على وجوده الآن ، وقد وقع اتفاق الفرق من المسلمين اجمعين على ان الدنيا والتكليف لا ينقضي الا عليه (٢) انتهى وحيث أقر أن المراد هو القائم من آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فلا يضرنا ما قال من انه لم يكن مخلوقا

__________________

(١) مر ذكر هؤلاء.

(٢) شرح نهج البلاغة ١٠ / ٩٦.

لأن هذا القول قد دللنا قبل على ابطاله ، وبينا في هذه الخطبة وجه الدلالة على فساده واسترحنا من كلفة الجواب هنا على هذه الهينمة بما قدمناه فتذكر.

ومنه قوله (ع) في حديث كميل بن زياد : (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة اما ظاهرا مشهورا أو مستترا مغمورا لئلا تبطل حجج الله وبيناته) (١) فهذا الكلام نص صريح في ان الامام القائم لله بحجته لا تخلو الأرض منه ، وهو اما ان يكون ظاهرا مشهورا يعرفه الناس تشير إليه الأكف ، واما ان يكون مستترا مغمورا لا يعرف بشخصه ، وان الامامة لا تنقطع من الأرض اذ بانقطاعها يجب بطلان حجج الله وبيناته ، وذلك محال ممتنع ، فانقطاع الامامة مثله ، وحيث لا امام ظاهر على الوجه المذكور في الكلام من بعد ابي محمد الحسن بن علي العسكري وجب الحكم بوجود امام مختف من بعده ، وما هو الا صاحبنا اذ لم يدع احد من الناس ذلك لغيره ، فوجب ان يكون هو القائم بحجة الله المستتر ، وفي هذا كفاية لصحة قولنا ، ومما يدل على عناد ابن ابي الحديد قوله في شرح هذا الكلام : (وهذا يكاد يكون تصريحا بمذهب الامامية الا ان اصحابنا يحملونه على ان المراد به الابدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم انهم في الأرض سائحون الى آخر كلامه) (٢) وما ادري كيف قال هذا ولا نعرف الأبدال الذين يقول بهم؟ وان الكلام لا يشير الى ما ذكره قطعا وجزما ولا شك انه لا يدري ما يقول وانت خبير ببطلان كلامه بعد الاحاطة بما سبق من القول ، وقد قررنا في مسألة عدم جواز خلو الأرض من الإمام في جميع ازمنة التكليف تقريرا شافيا في هذا الحديث ينفعك هنا فراجع.

ومنه قوله (ع) في خطبة له : (فانظروا اهل بيت نبيكم فان لبدوا

__________________

(١) نهج البلاغة الحكمة ١٤٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٨ / ٣٥١.

فالبدوا ، وان استنصروكم فانصروهم ، فليفرجن الله الفتنة برجل منا أهل البيت بأبي ابن خيرة الاماء لا يعطيهم الا السيف هرجا هرجا) موضوعا على عاتقه ثمانية حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا يغريه الله ببني امية حتى يجعلهم حطاما ورفاتا : (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) الخطبة.

قال ابن ابي الحديد فان قيل من هذا الرجل الموعود به الذي قال (عليه‌السلام) (بابي ابن خيرة الاماء) قيل : اما الامامية فيزعمون انه امامهم الثاني عشر وانه ابن امة اسمها نرجس ، واما اصحابنا فانهم يزعمون انه فاطمي يولد في مستقبل الزمان لأم ولد ، وليس بموجود الآن (١) انتهى.

قلت : نحن والحمد لله قاطعون بذلك غير زاعمين ، قد وضحت به حجتنا وقامت عليه ادلتنا كما ترى.

فان قيل : لم استتر هذا الامام من الظلمة ولم لا يظهر فيقاتلهم ويجالدهم.

قلنا : قد قدمنا من القول في جواب قعود امير المؤمنين (عليه‌السلام) عن القتال في زمن الثلاثة ما يكفي في الجواب هنا عن هذا الايراد ونزيد عليه في هذا المقام فنقول : اخبرونا عن انبياء الله ورسله حين عمل قومهم بالمعاصي وكفروا بالله كقوم نوح وقوم ابراهيم وقوم لوط ، وعن بني اسرائيل حين عبدوا العجل بمشهد من هارون ولم يقاتلوهم وغير اولئك ممن عصوا الله وافسدوا في الأرض ولم تقاتلهم الأنبياء لم لا قاتلوهم وجالدوهم فما تجيب به عن هذا هو جوابنا عن ايرادك فاختر من الجواب ما شئت فان قيل : انما وجب نصب الامام لاقامة الملة ومنع حوزة الاسلام ، واخذ الحقوق ، واقامة

__________________

(١) نفس المصدر ٧ / ٥٩.

الحدود ، وجباية الفيء وجهاد المشركين ، وقتال الباغين ؛ وارشاد العباد ، ورفع الفساد ، ولا خفاء ان المستتر المتوارى لا تحصل به هذا المصالح فاي فائدة في امام مستتر.

قلنا : صدقت في قولك : ان الامام منصوب لهذه المصالح لكن لا يجب عليه القيام بها الا اذا سلمت له الرعية المقادة ، وبسطت له يد الطاعة لو وجد ممن يطيعه اعوانا ينتصر بهم على من يعصيه من الأمة ، فاما اذا منعته الرعية طاعتها ولم تلق له زمام قيادها ، بل تركت نصرته واخافته ولم يجد من اهل طاعته من يقوم بنصرته على اهل المعصية فانه لا يجب عليه القيام بجميع تلك المصالح كما ذكرت ، وجاء منع اللطف من قبل الرعية حيث فوتوا انفسهم منه بكفهم يد الامام عن التصرف ، ولم يلزم من ذلك بطلان إمامة الامام المنصوب من الله لأن سبيله سبيل النبي ، فكما ان النبي (عليه‌السلام) مبعوث لتلك المصالح وغيرها ولا تبطل نبوته بعدم القدرة على القيام بها لعدم طاعة الرعية له كما ذكرنا في الكلام على الايراد الأول ولم يقتض ذلك عدم وجود النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكذلك لا تبطل إمامة الامام اذ كانت من الله بمنع الرعية اياه عن التصرف ، ولا يلزم من ذلك عدمه لأن الامامة خلافة عن النبوة وما لا يبطل به الأصل لا يبطل به الفرع ، وهذا كاف في الجواب عن ترك ائمتنا (عليهم‌السلام) بعد الحسين القتال وقعودهم عن مجاهدة الظلمة ، وقولك اي فائدة في امام مستتر؟ قلت : بلى فيه فائدة جليلة ولطف ظاهر وذلك ان المكلفين اذا علموا ان في العالم إماما مختفيا وانه سيظهر فينتصف للمظلوم من الظالم ويرد الحقوق الى اهلها ويعاقب العاصين وجوزوا ظهوره في كل وقت ، فانهم يكونون الى الصلاح اقرب ومن الفساد ابعد ، فهذه فائدة من اعظم الفوائد في وجود الامام المستتر ، وذلك بخلاف ما اذا علموا ان ليس في العالم امام بذلك الوصف فانهم يكونون على طرف النقيض من الأول ، والحاصل ان وجود الامام لطف

وتصرفه لطف آخر وعدم حصول الثاني لمانع لا يقتضي عدم الأول ، وهنا وجه آخر وهو ان نقول ان الفائدة في نصب الامام مطلقا قيام حجة الله به على المكلفين بحيث لا يستطيع المكلف العاصي ان يقول لم اجد من يرشدني الى الحق ، فانه يقال لهم عن الله اني نصبت لكم من يرشدكم الى سبيلي ، ويوضح لكم ما اختلفتم فيه من ديني ، فلم عصيتموه واخفتموه؟ ولم لا اطعتم امره وقبلتم قوله ووازرتموه؟ فلا تكون لهم على الله حجة وقد نصب لهم منهم من يهديهم الى مراشدهم وازاح علّتهم بتعيين من يدلهم على سبيل مراضيه ، بل تكون لله عليهم الحجة البالغة والى هذا يشير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (١) ويصرح به قول امير المؤمنين (عليه‌السلام) (اللهم بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة) الى قوله : (لئلا تبطل حجج الله وبيناته) (٢) وهذه كما ترى فائدة عظيمة فاندفع الايراد وزالت الشبهة وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون.

ولنذكر جملة من الأحاديث الواردة في حق الخلف المنتظر عجل الله فرجه من طرق الخصوم زيادة على ما مضى.

اخرج الطبراني عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (المهدي منا يختم الدين به كما فتح بنا).

واخرج احمد ومسلم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (يكون في آخر الزمان خليفة يحثوا المال حثوا) (٣).

واخرج الطبراني مرفوعا إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (يلتفت المهدي وقد نزل عيسى (عليه‌السلام) كأنما يقطر من شعره الماء فيقول

__________________

(١) الأنعام ١٤٩.

(٢) نهج البلاغة من الحكمة ١٤٧.

(٣) صحيح مسلم ٦ / ٣ كتاب الفتن من عدة طرق.

المهدي تقدم فصل بالناس فيقول عيسى انما اقيمت الصلاة لك فيصلي خلف رجل من ولدي) (١) وفي صحيح ابن حبان في إمامة المهدي نحوه قال في اسعاف الراغبين وصح مرفوعا : (ينزل عيسى بن مريم فيقول اميرهم المهدي تعال صل بنا فيقول لا انما بعضكم ائمة بعض تكرمة الله لهذه الأمة) (٢) وهذا يبطل ما قاله ابن عربي ان عيسى يتقدم فيصلي بالناس على سنة نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وروى ابن ماجه عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال : (لو لم يبق من الدنيا الا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يملك رجل من اهل بيتي يملك جبل الديلم والقسطنطينية) (٣) زاد في روايات (ورومية ومروية).

قلت : وهذه الأخبار وما قبلها تنطق نطقا فصيحا بان المهدي من ولد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعترته ومن ذريته ومن نسل فاطمة البتول وهي كثيرة متظافرة ، ومنها يعلم فساد ما افتعله بعض الخصوم انه لا مهدي الا عيسى ، وما زوره بعض آخر المهدي من ولد العباس عمي.

قال ابن حجر في الصواعق الأظهر ان خروج المهدي قبل نزول عيسى (عليه‌السلام) ، وقيل بعده وقد تواترت الروايات عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بخروجه وانه من اهل بيته ، وانه يملأ الأرض عدلا وانه يساعد عيسى على قتل الدجال ، بباب لد بأرض فلسطين ، وانه يؤم هذه الأمة ، ويصلي عيسى خلفه ، واكثر الروايات متفقة على تحقق ملكه سبع سنين ـ الى

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٣٥.

(٢) نقل ذلك عن الفتوحات المكية الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٤٣.

(٣) سنن ابن ماجه ابواب الجهاد باب ذكر الديلم ونقل هذه الرواية عن ابن ماجه الصبان في اسعاف الراغبين ص ١٣٦ وقال بعدها : «زاد في رواية : ورومية ومروية» كما في المتن.

ان قال ـ : وانه بعد ان تعقد له البيعة بمكة يسير منها الى الكوفة ، ثم يفرق الجنود الى الأمصار ، وان السنة من سنيه تكون مقدار عشر سنين وانه يبلغ سلطانه المشرق والمغرب وتظهر له الكنوز ولا يبقى في الأرض خراب الا يعمره (١).

قال مقاتل بن سليمان ومن تبعه من المفسرين في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (٢) : إنها نزلت في المهدي.

وقال ابن عربى بعد ذكر ما نقلناه أولا عنه في نسب المهدي وبيعة المسلمين له بين الركن والمقام ، قال : يشبه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخلق بفتح الخاء وينزل عنه في الخلق بضمها اذ لا يكون احد مثل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في اخلاقه اسعد الناس به اهل الكوفة ، يقسم المال بالسوية ، ويعدل به في الرعية يمشي الخضر بين يديه ، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا يقفوا اثر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يخطئ له ملك يسدده من حيث لا يراه ، يفتح المدينة الرومية بالتكبير مع سبعين الفا من المسلمين ، يشهد الملحمة العظمى مأدبة الله بمرج عكا ، يعز الله به الاسلام بعد ذله ، ويحييه بعد موته ، ويضع الجزية ويدعو الى الله بالسيف فمن ابى قتل ، ومن نازعه خذل ، يحكم بالدين الخالص عن الرأي ـ الى ان قال ـ : واعلم ان المهدي اذا خرج يفرح به جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم ، وله رجال الهيون يقيمون دعوته وينصرونه هم الوزراء له ، يتحملون اثقال المملكة عنه ، ويعينونه على ما قلده الله الى آخر ما قال (٣).

وقد ذكروا من علامات ظهوره انكساف القمر في اوّل ليلة من شهر

__________________

(١) الصواعق ٩٨.

(٢) الزخرف : ٦١.

(٣) نقله عن الفتوحات المكية في اسعاف الراغبين ص ١٤٢ فما بعدها.

رمضان ، والشمس يوم النصف منه ، وقريب منه مروي من طرقنا عن اهل البيت (١).

ومن علامات ظهوره (عليه‌السلام) خروج الدجال والسفياني ولا يخفى عليك ان اخبار ظهور المهدي وعلاماته وتفصيل الأمور التي تجري من حين ظهوره الى حين وفاته كثيرة ، وهي مذكورة في محالها كغيبة الصدوق وغيبة النعماني وغيبة شيخ الطائفة وغيرها من كتب اصحابنا المصنفة في هذا الشأن ، من ارادها لم تفته والغرض هنا اثبات إمامة الخلف المنتظر وتصحيح خروجه من روايات المخالفين واقوالهم ، وقد أوردنا ما فيه بل في بعض الكفاية لمن تدبر وانصف ولله الحمد والمنة على التوفيق.

المسألة الثالثة في بيان ثبوت عصمة الأئمة (عليهم‌السلام) وقد علمت في مسألة شروط الامام معنى العصمة وان حقيقتها لطف يفعله الله بالمكلف بحيث يؤمن بسببه من ارتكاب الذنوب واقتراف المعاصي كبائرها وصغائرها ، ومن الخطأ في الأحكام عمدا وسهوا وتأويلا ، ويحكم باصابته الحق في جميع افعاله واقواله ، واصحابنا جازمون بعصمة ائمتنا الاثني عشر (عليه‌السلام) كجزمهم بعصمة الأنبياء ، واما المخالفون فمنهم من وافقنا على عصمة امير المؤمنين (عليه‌السلام) ، وليس من حيث اشتراط العصمة في الامام وهذا قول ابي محمد الحسن بن متّويه من المعتزلة قال ابن ابي الحديد : نص ابو محمد بن متّويه في كتاب الكفاية على ان عليا (عليه‌السلام) معصوم وان لم يكن واجب العصمة ، ولا العصمة شرطا في الامامة ، لكن ادلة النصوص قد دلت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وان ذلك امر اختص هو به دون غيره من الصحابة انتهى (٢) ووافقنا على عصمة المهدي محيي الدين

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٤٦ عن السيرة الحلبية.

(٢) شرح نهج البلاغة ١ / ٨.

مسافر بن عربي قال في الفتوحات المكية نقلا عنه : انه يعني المهدي يحكم بما القى إليه ملك الالهام من الشريعة ، وذلك انه يلهم الشرع المحمدي فيحكم به كما اشار إليه حديث (المهدي يقفوا أثري لا يخطئ) فاخبرنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه متبع لا مبتدع ، وانه معصوم في حكمه فعلم انه يحرم عليه القياس مع وجود النصوص التي منحه الله اياها على لسان ملك الالهام ، بل حرم بعض المحققين القياس على جميع اهل الله لكون رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مشهودا لهم فاذا شكوا في صحة حديث او حكم رجعوا إليه في ذلك فاخبرهم بالأمر الحق يقظة ومشافهة (١).

اقول وهذا الكلام يعطي عصمة باقي ائمتنا عنده أيضا ، لأن اهل الله عنده كما ترى معصومون عن الخطأ في الأحكام وهو يقربان ائمتنا من افضل اهل الله على الوجه الذي ينحو إليه بهذا اللفظ ويعلم ذلك من قوله في ذكر نسب المهدي : انه ابن الامام الحسن العسكري بن الامام علي النقي (٢) الخ ، وقد مر ذكره وبعصمة الاثني عشر صرح حجة الاسلام الغزالي في بعض كتبه كما ذكره عنه بعض اصحابنا من اهل الاطلاع والتثبت في النقل ، وقد وضح من ذلك ان القول بعصمة هؤلاء الأصفياء ليس مما اختص به اصحابنا ، بل بعض مخالفينا يقول به وان كان لغير الوجه الذي يقول به اصحابنا ، واما سائرهم فينكرون عصمة ائمتنا الكرام ، والعجب من ابن ابي الحديد حيث انكر عصمة امير المؤمنين (عليه‌السلام) وقال في مواضع انه عنه غير معصوم مع حكمه في كثير من المواضع بان عليا (عليه‌السلام) مع الحق (٣) دائما ، وهل العصمة الا ذلك ، وليس هذا التناقض

__________________

(١) نقله عن الفتوحات المكية في اسعاف الراغبين ص ١٤٥.

(٢) كذلك ص ١٤٥.

(٣) شرح نهج البلاغة. ٩ / ٨٨ و ١٠ / ٢٧٠ و ١٨ / ٧٢.

بغريب في كلامه فانه قد اشتمل على الجم الغفير من ذلك ، وقد نبهنا على كثير منه سابقا.

اذا عرفت هذا فاعلم ان الدليل على عصمة ائمتنا (عليهم‌السلام) من وجوه ثلاثة.

الأول دليل اللزوم وبيانه انا قد دللنا أولا في مسألة شروط الامام على ان العصمة شرط في الامام ، ودللنا في مسألتي النص على ان هؤلاء هم المنصوص عليهم بالامامة ، فلزم من ذلك ان يكونوا معصومين اذ لا شيء من الامام غير معصوم ، وهؤلاء ائمة بالنص فيكونون معصومين ، وحاصل هذا الدليل ان العصمة شرط في الامام والاثنى عشر المذكورون هم الأئمة بالنص فتجب لهم العصمة.

الثاني دليل الكتاب وهو قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) والرجس هنا الذنب بالاتفاق ونحن نبين وجه استفادة العصمة من الآية ثم نبين من المعنى بها اما الأول فلأن إرادة الله اذهاب الرجس عن اهل البيت وتطهيرهم من الذنوب اما ان يكون المراد بها الإرادة التي يتعقبها الفعل ويصدر عنها اذهاب الرجس والتطهير منه ، واما ان يكون المراد إرادة الله منهم ان يطهروا انفسهم من الرجس التي هي بمعنى الأمر التكليفي ، والثاني غير مراد من الآية لوجهين.

الأول ان المقصود من الآية كما هو ظاهر اختصاص اهل البيت بهذا الأمر دون الناس ، واذا كان المراد منها امر لا بتطهير انفسهم من الذنوب زال الاختصاص ، فان اجتناب الذنوب مطلوب من جميع المكلفين فلا خصوصية في هذا لأهل البيت فوجب لموضع الاختصاص ان يكون المراد هو الأول ومنه

__________________

(١) الأحزاب : ٣٣.

تثبت العصمة.

الثاني ان الآية وردت مورد المدح ولا مدح في مطلوبية اجتناب الذنوب وانما المدح في اذهابها عن المكلف وتطهيره من مقارفتها وهو المعنى الأول فوجب ان يكون هو المراد لئلا يخرج ما هو مدح عن كونه مدحا فيثبت بذلك العصمة لمن عناهم الله بهذه الآية.

واما اهل البيت المعنيّون بهذه الآية فهم بالأصل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ويدخل باقي الأئمة فيهم بالتبعية كما ارشدت إليه الأخبار الواردة في المهدي ، وقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه تارة (انه من عترتي) وتارة (من اهل بيتي) اذ لا يصح ان يكون المهدي من اهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعترته وابوه وآباؤه ليسوا من العترة ولا من اهل البيت ، ونسبه انما اتصل بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من جهتهم ، بل يجب ان يثبت لهم من قرب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما ثبت له وزيادة لما لهم من قرب الولادة من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واقل الأمور المساواة فصح من ذلك دخول الأئمة (عليهم‌السلام) في اهل البيت المعنيين بهذه الآية ونزول الآية فيمن ذكرنا مما اشتهر بين اهل العلم ، وصح عند اعيان المفسرين ، وشاع عند الأمة ، وصرح به المعتزلي فيما نقلناه عنه في بيان معنى العترة ، وتظافرت به الروايات من الفريقين وتواترت به الأخبار من الطرفين ، ولم ينكره محقق ولا ارتاب فيه فاضل ولم يدخل معهم غيرهم في هذه الآية الا شاذ من متعصبي الخصوم ، وهو ابن حجر في الصواعق حيث زعم ان المراد بالبيت في الآية ما يشتمل بيت نسب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبيت سكناه فتشمل الآية ازواجه ، ونقل هذا بعضهم عن الزمخشري والبيضاوي (١) وهو قول

__________________

(١) نقله الصبان في الاسعاف ص ١٠٨ عن الكشاف وتفسير البيضاوي بواسطة الصواعق

فاسد من وجوه.

الأول مخالفته الشهرة العظيمة التي كادت تكون اجماعا من الأمة مع قلة القائل به من ذوي التحقيق فيكون باطلا.

الثاني ان الآية صريحة في عصمة المعنيين بها كما قررناه واعترف به الخصوم ، ونقله في الاسعاف عن البيضاوي حيث قال المراد بالرجس الذنب ، وبالتطهير التطهير من المعاصي (١) ومن الواضح البين انه لم يقل احد من الأمة بعصمة ازواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيخرجن من مدلول الآية على هذا الوجه بالاجماع حتى من القائل بدخولهن لاعترافه بدلالتها على العصمة كما سمعت عن البيضاوي ، وهذا من ابين الوجوه على خروج الأزواج من الآية وعدم شمولها لهن.

الثالث ان المعروف من العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ان مرادهم من قولهم اهل بيت فلان قرابته النسبية لا من كان منه بسبب منقطع ووصلة مستعارة كالزوجة والعبد والأمة ، قال في المصباح المنير : والاهل اهل البيت والأصل فيه القرابة انتهى ومن مارس كلام العرب عرف صحة ما قلناه فان شواهده في كلامهم كثير قال الفرزدق.

ان الذي سمك السماء بني لنا

بيتا دعائمه اعز واطول

بيت زرارة محتب بفنائه

ومجاشع وابو الفوارس نهشل

لا يحتبى بفناء بيتك مثلهم

ابدا اذا عد الفعال الأكمل

ومن البين انه لم يرد بيت السكنى وانما اراد بيت النسب ، وقال بعض ولد ابي لهب.

__________________

المحرقة.

(١) اسعاف الراغبين ص ١٠٥ عن تفسير البيضاوي.

وانا الأخضر (١) من يعرفني

اخضر الجلدة في بيت العرب

من يساجلني يساجل ماجدا

يملأ الدلو الى عقد الكرب

برسول الله وابني بنته

وبعباس بن عبد المطلب (٢)

ومن اليقين انه لم يرد ببيت العرب بيت سكناهم وانما اراد بيت نسبهم ، وقال لبيد العامري.

فبنى لنا بيتا رفيعا سمكه

فسما إليه كهلها وغلامها

ولا شبهة في انه لا يريد بيت السكنى وانما يريد بيت الشرف والحسب ، وقال آخر.

ألا يا بيت بالعلياء بيت

ولو لا حب اهلك ما اتيت

الا يا بيت اهله واعدوني

كاني كل ذنبهم جنيت

اراد بيت النسب كما ذكره بعض الأفاضل وقال عبيد الله بن كثير السهمي.

لعن الله من يسب عليا

وحسينا من سوقة وامام

أيسب المطهرون جدودا

وكرام الآباء والأعمام

يأمن الطير والحمام ولا يأ

من آل الرسول عند المقام

__________________

(١) الأخضر : الأسمر وكانت العرب تفتخر بالسمرة.

(٢) الشعر للفضل بن عتبة بن أبي لهب كما في شرح نهج البلاغة ٥ / ٥٥ وفيه : «وابني عمه» وفي الأغاني ١٤ / ١٧١ واصلها من السجل وهو الدلو المليء كان الرجلان يستقيان فايهما غلب صاحبه كان الفوز له ، والكرب حبل يشد به عراقي الدلو ، يقال : إن الفرزدق مر بالفضل وهو ينشد هذه الأبيات فقال : انا اساجلك فلما قال :

برسول الله وابني عمه البيت ...

قال الفرزدق اعضّ الله من يساجلك بما أبقت المواسي من بظر أمه وفي رواية : «بما القت المواسي الخ.

طبت بيتا وطاب اهلك اهلا

اهل بيت النبي والاسلام

رحمة الله والسلام عليهم

كلما قام قائم بسلام (١)

وهو مصرح بان آل النبي واهل بيته قرابته النسبية وان بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيت نسبه لا بيت سكناه وقال طارق بن عبد الله النهدي وهو يذكر عليا (عليه‌السلام) عند معاوية وكان معاوية قد نال من علي (عليه‌السلام) عند دخول طارق هذا عليه فاجابه طارق بكلام منه قوله : اما بعد فان ما كنا نوضع فيما اوضعنا فيه بين يدي امام تقي عادل ، مع رجال من اصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اتقياء مرشدين ما زالوا منارا للهدى ومعالم للدين خلفا عن سلف ، مهتدين اهل دين لا دنيا كل الخير فيهم ، واتبعهم من الناس ملوك واقيال واهل بيوتات وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين الى آخر ما قال رواه في كتاب الغارات (٢) فقوله اهل بيوتات ، يريد الأنساب الجليلة لا بيوت السكنى وهذا كثير في كلامهم شعرا ونثرا ، فصح منه ان اهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قرابته لا ازواجه ، نعم انا لا ننكر اطلاق لفظ الأهل على الاتباع فتدخل فيهم الأزواج والموالي على جهة التجوز والقلة دون الحقيقة ، لكن الأكثر والأصل ورود الأهل في القرابة ومنه في القرآن كثير قال الله تعالى : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ) وزوجته ليست معهم لانها من المغرقين وقال تعالى حكاية عن نوح : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (٣) وهو صريح في المدعى اذ ليس يجوز ان يكون المراد ان ابني من ازواجي او مماليكي ، بل

__________________

(١) معجم الشعراء للمرزباني ص ٣٤٨ ، وشرح نهج البلاغة ١٥ / ٢٥٦ قال ذلك وقد سمع خالد بن عبد الله القسري يسب عليا والحسنين (عليهم‌السلام).

(٢) الغارات ص ٥٤١ في قصة مفارقة النجاشي الشاعر لعلي (عليه‌السلام) وقد نقلها في شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٧ ـ ٩٢ عن الغارات أيضا.

(٣) هود : ٤٥.

يتعين ان يكون المراد ان ابني من قرابتي واولادي فيكون الأهل هم القرابة التي اخصها الأولاد ، وقوله تعالى في حق أيوب (عليه‌السلام) : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) (١) وفي آية اخرى (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) (٢) نص في المطلوب لأن المردود على أيوب اولاده لا زوجته باتفاق المفسرين واهل السيرة والتواريخ واما قوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) (٣) فلا حجة فيه لجواز ان يكون الاستثناء فيه منقطعا مثله في (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) (٤) والزوجة داخلة في الأهل مجازا لعلاقة المجاورة كما يحتمل أيضا في دخول ابليس في الملائكة وهذا ما لا ننكره لكن لا يحتمل عليه اللفظ عند الاطلاق وعدم القرنية واما قوله تعالى في حكاية خطاب الملائكة لسارة (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) فلا حجة فيه أيضا لأن الخطاب ليس لسارة وحدها بل المعنى ابراهيم واهل بيته ودخول سارة فيهم لم يكن من جهة الزوجية خاصة بل جاز أن يكون دخولها فيهم من جهة النسب فان سارة لها قرابة قريبة بابراهيم (عليه‌السلام) لأنها ابنة عمه وتذكير الضمير يدل على المدعى فاتضح من هذا البيان ان الأزواج لسن داخلات في اهل البيت المذكورين في الآية لاختصاصها ببيت النسب دون بيت السكنى.

الرابع تذكير الضمير العائد الى اهل البيت في (عَنْكُمُ) و (يُطَهِّرَكُمْ) فانه قرينة على ان المراد اقرباء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دون ازواجه والا لقال عليكن ويطهركن اجراء له مجرى سابقه من الكلام ولاحقه فان الضمائر فيه كلها مؤنثة واذا لم يؤنث الضمير وجب ان يفصل الكلام عما قبله وعما بعده ولا اعتراض علينا بقوله تعالى : (إِذْ رَأى

__________________

(١) الأنبياء : ٨٤.

(٢) ص : ٤٣.

(٣) النمل : ٥٧.

(٤) هود : ٧٣.

ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) (١) والخطاب لزوجته لأن ذلك تجوز محض من وجهين الأول تذكير المؤنث الثاني خطاب الواحد بخطاب الجمع ولو لا قيام القرنية على إرادة المجاز دون الحقيقة لوجب حمل اللفظ على الجمع المذكر وصرفه الى الأقرباء لأنه المتبادر منه والتبادر علامة الحقيقة لكن صرفتنا عن ذلك القرنية وهي اتفاق اهل التفسير واهل السيرة والتاريخ على انه لم يكن مع موسى (عليه‌السلام) حين الخطاب الا زوجته فتعين كون الخطاب لها وحمل على المجاز لتعينه فيه من الوجهين المذكورين فاحرى ان يكون كذلك في الوجه الثالث وليس الأمر في المقام كهذا فان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حين نزول الآية معه اقاربه وازواجه واللفظ في الأول حقيقة وفي الآخر مجازا ولا قرينة تعين المجاز فوجب صرفه الى الحقيقة والسياق ليس بقرينة لمعارضته بتذكير الضمير وهو من الأدلة الظاهرية وذاك ليس من الأدلة وان كان فهو من ادلة الاشارات ودلالة الظواهر اقوى فيجب تقديمها عليها باتفاق الأصوليين وأيضا ان قوله تعالى : (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) ليس فيه اشتباه لعدم تقدم مؤنث في اللفظ وتأخره حتى يشتبه الحال في ان المراد بهذا المذكر هو ذلك المؤنث أم غيره فجاز فيه التجوز لعدم الاشتباه وفي آية التطهير اشتباه لتقدم مؤنث عليها وتأخره عنها ، واحتمال اللفظ اذا ذكر لارادة المتقدم وغيره فلو اراد بها المتقدم لأنث الضمير لرفع الاشتباه ولم يأت بالمجاز ، لأن التجوز لا يجوز عند الاشتباه لعدم القرينة الصارفة عن الحقيقة لما فيه من التعمية والأغراء بالجهل الممتنعين على الحكيم جلا وعلا وحيث ذكّر والمقام يقتضي ان لو اراد الأزواج لأنث عرفنا يقينا انه لا يريدهن من الخطاب فخرجن من الآية جزما وهذا مبطل للسياق الذي ادعوه وقالع لأساس التعلق به في المقام.

__________________

(١) طه : ١٠.

قال بعض اصحابنا : ومتى قيل ان صدر الآية وما بعدها في الأزواج فالقول فيه ان هذا الأمر لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم فانهم يذهبون من خطاب الى غيره ويعودون إليه والقرآن من ذلك مملوء وكذلك كلام العرب واشعارهم.

اقول : ويدل عليه صريحا قوله تعالى في سورة لقمان : (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) ثم ذهب في الكلام الى معنى آخر فقال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) (٢) وساق القول الى ان استوفى المراد منه ثم عاد الى اتمام المعنى الأول وهو موعظة لقمان لابنه فقال : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) (٣) الى ان اتى بتمام الكلام المطلوب ، فتراه انتقل في القول من معنى الى غيره ثم عاد الى الأول بعد استكمال الثاني فهو كالآية التي يتكلم في دلالتها ، ومثل هذا في القرآن موجود من تأول فيه عرف مواضعه ، وذكرنا منه هذا الموضع لرفع استبعاد الجاهلين الذين يتعللون بسياق الآية وهم لا يفقهون ظواهر العربية فضلا عن دقائقها واسرارها.

الخامس وهو العمدة الروايات المتواترة من الفريقين على ان الآية نزلت في النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، وفي بعضها ذكر الأربعة خاصة ولا شك ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هو الأصل في ذلك ولأجله شرف الأربعة وذريتهم ، والروايات في هذا المرام متكثرة نحن نذكر منها جملة يحصل بها اليقين للمتأمل المنصف.

روى جميع المفسرين واهل السيرة انه لما نزل قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ) (٤) الآية

__________________

(١) لقمان : ١٣.

(٢) لقمان : ١٤.

(٣) لقمان : ١٦.

(٤) آل عمران : ٦١.

فدعا النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نصارى نجران الى المباهلة فوعدوه في غد فلما اصبحوا جاءوا الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو محتضن الحسين اخذ بيد الحسن وفاطمة خلفه وعلي (عليه‌السلام) خلفهم وهو يقول : (اللهم هؤلاء اهلي اذا انا دعوت فأمّنوا) قال جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) (انفسنا) محمد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي (وابنائنا) الحسن والحسين و (نسائنا) فاطمة صلوات الله عليهم اجمعين (١) ورواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى عن الشعبي مرسلا ورواه عن ابن عباس وقال : صحيح على شرط مسلم ، ورواه ابو داود الطيالسي عن شعبة عن الشعبي مرسلا (٢).

وروى احمد بن حنبل والطبراني والثعلبي عن ابي سعيد الخدري قال قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (انزلت هذه الآية في خمسة في وفي علي وحسن وحسين وفاطمة) يريد آية التطهير وروى ابن ابي شيبة واحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ، عن انس ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان يمر ببيت فاطمة اذا خرج الى صلاة الفجر يقول (الصلاة اهل البيت انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) (٣) وروى ابن مردويه عن ابي سعيد الخدري ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جاء اربعين صباحا الى باب فاطمة يقول : (السلام عليكم اهل البيت ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمكم الله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) وفي

__________________

(١) رواه السيوطي في الدر المنثور عن جابر في تفسير الآية.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ / ١٥٠.

(٣) رواه عن ابن ابي شيبة المتقي في كنز العمال ٧ / ١٠٣ ورواه احمد في المسند ٣ / ٢٥٣ والطبري في تفسيره ٢٢ / ٥ ، واخرجه عن ابن المنذر والطبراني السيوطي في الدر المنثور في تفسير آية التطهير.

رواية له عن ابن عباس سبعة اشهر (١) وفي رواية لابن جرير وابن المنذر والطبراني ثمانية اشهر (٢).

وروى ابن خالويه النحوي في كتاب الآل وابو بكر الخوارزمي في كتاب المناقب عن بلال بن حمامة قال : طلع علينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذات يوم متبسما ضاحكا ووجهه مشرق كدارة القمر فقام إليه عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله ما هذا النور؟ قال : (بشارة اتتني من ربي في اخي وابن عمي وابنتي ، فان الله زوج عليا فاطمة وامر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى فحملت رقاقا يعني صكاكا بعدد محبي اهل بيتي ، وانشأ تحتها ملائكة من نور ودفع الى كل ملك صكا فاذا استوت القيامة باهلها نادت الملائكة بالخلائق فلا يبقى محب لأهل البيت الا دفعت إليه صكا فيه فكاكه من النار ، فصار اخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من امتي) وجه الدلالة من الخبر تفسير النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اهل البيت بعلي وفاطمة في آخر الحديث وهو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (فصار اخي وابن عمي وابنتي) (٣) الخ فكانا هما المرادين بقوله (محبي اهل بيتي) وقوله (فلا يبقى محب لأهل البيت) والامر ظاهر.

وروى الحاكم عن ابن عباس قال سمعت رسول الله يقول باذني والا صمتا : (أنا شجرة وفاطمة حملها وعلي لقاحها والحسن والحسين ثمارها ومحبّو اهل البيت ورقها وكلنا في الجنة حقا حقا) وجه الدلالة ظاهر وغني عن البيان

__________________

(١) نقل الرواية الأولى عن ابن مردويه السيوطي في الدر المنثور عن ابي سعيد الخدري كما نقل عنه الرواية الثانية في تفسير آية التطهير عن ابن عباس ولكنه ذكر مكان «سبعة» ، «تسعة» والتصحيف بينهما قريب.

(٢) انظر الدر المنثور.

(٣) تاريخ بغداد ٤ / ٢١٠.

لصراحته ان اهل البيت هم اهل تلك الشجرة الزكية ، وهذا الخبر ينصر ما قلناه أولا ان المراد باهل البيت اهل بيت النسب لا بيت السكنى فتأمل.

وروى الثعلبي في تفسيره بالاسناد عن أمّ سلمة ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان في بيتها فاتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال لها (ادعى زوجك وابنيك) فجاءت بهم فطعموا ثم القى عليهم كساء له خيبريا فقال : (اللهم هؤلاء اهل بيتي وعترتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فانزل الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) الآية قالت : فاخذ فضل الكساء فغشاهم به ، ثم اخرج يده والوى بها الى السماء وقال : (اللهم هؤلاء اهل بيتي وحامتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فادخلت رأسي البيت وقلت انا معكم يا رسول الله فقال انك الى خير انك الى خير (١).

وذكر ابو حمزة الثمالي في تفسيره حدثني شهر بن حوشب عن أمّ سلمة قالت جاءت فاطمة الى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تحمل خزيرة لها فقال ادعى زوجك وابنيك فجاءت بهم فطعموا ثم القى عليهم كساء له خيبريا وقال : (اللهم هؤلاء اهل بيتي وعترتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) فقلت يا رسول الله وانا معهم قال : (انت الى خير) (٢).

وروى الثعلبي في تفسيره أيضا باسناده عن مجمع قال دخلت مع امي على عائشة فسألتها امي أرأيت خروجك يوم الجمل قالت : انه كان قدرا من الله فسألتها عن علي (عليه‌السلام) فقالت تسأليني عن احب الناس كان الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لقد رأيت عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وجمع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بثوب عليهم ثم قال :

__________________

(١) نقله عن تفسير الثعلبي الطبرسي في مجمع البيان ٨ / ٣٥٧ والبرمة : القدر من الحجر.

(٢) نقله الطبرسي في المجمع ٨ / ٣٥٦ عن تفسير ابي حمزة.

(اللهم هؤلاء اهل بيتي وحامتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا) قالت فقلت : يا رسول الله انا من اهلك قال : (تنحي فانك الى خير) (١) قال ابو علي الطبرسي : اخبرنا السيد ابو الحمد قال حدثنا الحاكم ابو القاسم الحسكاني قال حدثونا عن ابي بكر السبيعي قال حدثنا ابو عروبة الحراني قال حدثنا ابن مصفى قال حدثنا عبد الرحمن بن واقد عن أيوب بن سيار عن محمد بن المنكدر عن جابر قال نزلت هذه الآية على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وليس في البيت الا فاطمة والحسن والحسين وعلي : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (اللهم هؤلاء اهلي) قال وحدثنا السيد ابو الحمد قال حدثنا الحاكم بقوله باسناده عن زاذان عن الحسن بن علي (عليه‌السلام) قال لما نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واياه في كساء لأم سلمة خيبري ثم قال : (اللهم ان هؤلاء اهل بيتي وعترتي) (٢).

وعن ابي سعيد الخدري قال لما نزل قوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الآية كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأتي باب فاطمة وعلي تسعة اشهر عند كل صلاة فيقول : (الصلاة رحمكم الله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا) (٣) ومثله روى عن ابي بردة وابي رافع (٤) وقال في اسعاف الراغبين ، روى من طرق عديدة صحيحة ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جاء ومعه علي وفاطمة وحسن وحسين قد اخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فادنى عليا وفاطمة واجلسهما بين يديه

__________________

(١) انظر مجمع البيان ٨ / ٣٥٨.

(٢) مجمع البيان ٨ / ٣٥٧.

(٣) رواه السيوطي في الدر المنثور ولكن روى «ثمانية اشهر» مكان «تسعة» نعم روى ذلك عن ابن عباس في تفسير آية التطهير.

(٤) مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩ عن ابي برزة وقال : «رواه الطبراني».

واجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه ثم لف عليهم كساء ثم تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) وقال : (اللهم هؤلاء اهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا قال : وفي رواية : (اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على ابراهيم انك حميد مجيد) قال وفي رواية أمّ سلمة قالت فرفعت الكساء لأدخل معهم فجذبه من يدي فقلت وانا معكم يا رسول الله قال : (انك من ازواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١).

اقول هذه الرواية والرواية المتقدمة عن عائشة من اوضح الأدلة على خروج الأزواج من الآية الشريفة بل من حقيقة مفهوم الأهل كما ترى وان كان كل الروايات المذكورة صريحة في ذلك وهي كثيرة وطرقها متعددة ويؤيدها قول امير المؤمنين (عليه‌السلام) في حديث السقيفة : (يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته الى بيوتكم ودوركم ولا تدفعوا اهله عن مقامه في الناس فو الله يا معشر المهاجرين لنحن اهل البيت احق بهذا الأمر منكم) الخبر وقد مر ولم يقل احد من الصحابة لأمير المؤمنين (عليه‌السلام) حين ادعا ان الخلافة اذا كانت له كانت في دار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبيته واذا خرجت عنه لم تكن في بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا داره ، وذكر انه ومن يئول إليه اهل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانهم اهل البيت ان دارك غير دار النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولم يجبه منهم مجيب بان اهل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ازواجه وان اهل بيته نساؤه لا انتم ، بل سلموا له الدعوى

__________________

(١) اسعاف الراغبين : ١٣٧.

واعتذروا عن اخذ حقه بما اعتذروا مما هو مذكور هناك ومبين فيما مضى ، ويستفاد من هذا اتفاق الصحابة على ان اهل البيت في الآية المراد بهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وان البيت فيها بيت النبوة والرسالة وانها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم ، فبطل بذلك ما ادعاه قوم من مشاركة الأزواج لهم (١) وفسد ما ادعاه عكرمة من اختصاص الآية بالأزواج لمخالفته الاجماع (٢) سابقا ولاحقا ، وكذا ما ادعاه بعض الخصوم من دخول اقارب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وباقي بناته في الآية ، وروايتهم في العباس وبنيه لا تساعد على ذلك لأن فيها ستر العباس وبنيه بملاءة ودعا لهم بالستر من النار (٣) وهذا غير اذهاب الرجس والتطهير من الذنب وليست النجاة من النار مختصة باهل آية التطهير حتى يدخل فيها من دعا له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالستر من النار ، وانما اختصوا بالعصمة من الذنوب ، فالرواية على فرض صحتها لا تدل

__________________

(١) قال النيسابوري في غرائب القرآن ج ٢١ / ١٠ بعد ان ذكر اختصاصها باهل العباء بالاتفاق «يغلب على الظن دخولهن فيهم».

(٢) نقل ذلك الطبري في تفسيره ج ٢١ ص ٥ ـ ٧ عن عكرمة بعد ان روى بعدة طرق عن ابي سعيد الخدري وعائشة وانس وأمّ سلمة وابي الحمراء ، وواثلة بن الأصقع وابي هريرة وعمر بن ابي سلمة وسعد بن ابي وقاص ان المعنيين بهذه الآية رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم وروى أيضا ان أمّ سلمة لما رأت ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تجلل هو وهم بالكساء قالت : يا رسول الله ادخلني معهم ، او انا منهم قال : (مكانك انت على خير).

(٣) الظاهر ان الرواية وضعت تزلفا لبني العباس ليقابلوا بها حديث الكساء ليرغموا بذلك انوف ابناء عمهم من العلويين حيث لم يجدوا طريقا لرد حديث الكساء لتواتره واشتهاره وانتشاره وحيث ان الواضع لم يجد من يشهد له بالتصديق استشهد بالجمادات وهي ان النبي حيث وضع الملاءة على العباس وبنيه ودعا لهم بالستر من النار أمنت على دعائه اسكفة الباب وحوائط البيت ثلاثا (انظر اسعاف الراغبين ص ١٠٧).

بشيء من الدلالات على دخول العباس وبنيه في الآية ، ولسنا نخرج العباس وبنيه وباقي بني عبد المطلب من اهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالمعنى العام ، لأن قرابتهم الى النبي ثابتة ، وانما نخرجهم من اهل البيت الذين نزلت فيهم الآية ، وقد تقدمت الرواية بهذا المضمون عن عبد الله بن العباس كما انا اخرجناهم من العترة بالمعنى الخاص كما شهدت به جملة من الأخبار المروية هنا مثل حديث أمّ سلمة وخبر زاذان عن الحسن (عليه‌السلام) مضافا الى ما سبق في محله وكذلك نخرجهم من الآل على هذا المعنى اي من الآل المختصين بخلافة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمشاركين له في خصائصه الا ما يختص بالنبوة ، وعلى المعنى العام في اهل البيت يخرج قول زيد بن ارقم اهل البيت من حرم الصدقة بعده يعني النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس في رواية مسلم والنسائي ان صحت الرواية والا ففيها اشكال من جهة ان من حرمت عليه الصدقة لا يختص بالمذكورين بل هو شامل لجميع بني هاشم فيدخل بنوا الحارث بن عبد المطلب وبنوا ابي لهب الا ان يريد بما ذكره التمثيل ، وعلى كل حال فلا معارضة بها لتلك الأخبار المتواترة فتعين ما قلنا فيها واندفع جميع الايرادات وتبين صحة الوجه في اختصاص الآية بمن ذكرنا ، ويعضده أيضا ما رواه ابو بكر الجوهري في كتاب السقيفة باسناده عن ابي كعب الحارثي في خبر طويل يذكر فيه كلاما جرى بين علي وعمار وعائشة وحفصة وسعد بن أبي وقاص وبين عثمان بن عفان وفيه فتقدم عثمان فصلى بهم فلما كبر قالت امرأة من حجرتها : «يا ايها الناس» ثم تكلمت وذكرت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وما بعثه الله به ثم قالت : «تركتم امر الله وخالفتم عهده» ونحو هذا ثم صمتت ، وتكلمت امرأة اخرى بمثل ذلك فاذا هما عائشة وحفصة ، قال فسلم عثمان ثم اقبل على الناس وقال : ان هاتين لفتانتان يحل لي سبهما ، وانا باصلهما عالم ، فقال له سعد بن ابي وقاص :

أتقول هذا لحبائب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) الخبر فانظر الى قول سعد في الرد على عثمان أتقول هذا لحبائب رسول الله فانه قاض بان الأزواج لسن داخلات في آية التطهير عند جميع الصحابة ، ولا كان دخولهن فيها معروفا فيما بينهم ، ولو كان ذلك كذلك لكان الواجب ان يحتج سعد على عثمان بالآية ويقول له أتقول هذا لأهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فانه اوضح في الحجة على عثمان حيث ادعا عليهما المعصية التي احلت له سبهما وعرض باصلهما كانه يريد الهجنة ، اي انهما ليستا من ذوات الشرف في النسب او غير ذلك ، فكان الاحتجاج عليه في رد قوله بما يصرح بطهارتهما عن الذنب الزم فضلا عن ان يكون اولى من الاحتجاج بانهما حبائب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فان كونهما من الحبائب لا يمنع صدور الذنب منهما فان عثمان أيضا بزعم سعد من احباء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولم يكن ذلك مانعا من صدور الذنب منه عنده ، والا لما انكر عليه قوله على ان عثمان ما ادعا عليهما الا صدور العصيان منهما المجوز سبهما وعلمه بضعف اصلهما ، فرد قوله بشهادة الله لهما بالتطهير اصرح في قطع حجته وابطال دعواه ، فترك سعد الاحتجاج بالآية لهما وتركهما الاحتجاج بها لأنفسهما مع شدة الاحتياج الى ذلك لكثرة ما شتمتا عثمان وشتمهما كما رواه الخصوم دليل صريح على ان الأزواج غير داخلات فيها وكذا قول عمر لابن عباس ، انما عنيت عظيمكم اهل البيت (٢) وقول المغيرة بن شعبة ا تنظران خيل الحلبة من اهل هذا البيت وسعوها في قريش تتسع (٣) دالان على ان اهل البيت قرابة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النسبية لا الأزواج ، وان ذلك هو المعروف بين اصحاب النبي (صلى الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٩ / ٥ عن الجوهري.

(٢) في محاورة جرت بينهما (انظر شرح نهج البلاغة ١٢ / ٢٠).

(٣) شرح نهج البلاغة ٦ / ٤٣.

عليه وآله وسلم) ، ويزيد ذلك وضوحا ما جرى بين عائشة وعلي (عليه‌السلام) يوم الجمل من المخاصمات وتصريحه للناس بارتكابها المعصية وما جرى بينهما وبين عبد الله بن العباس من الملاحات حين دخل عليها بعد الهزيمة ، وما جرى بينها وبين عمار بن ياسر من المجادلة ونسبة الكل منهم اياها الى ارتكاب المعصية ولم تحتج على واحد منهم لبراءتها من المعصية بآية التطهير كما كان دائما يحتج بها علي وولده ، ويحتج لهم بها شيعتهم ، ولو وجدت شبهة تتعلق بها في دخولها في الآية وتصول بها على الطهارة لسارعت إليها وسبقت في انتهاز فرصتها كل سابق ولا دلت بها الى الناس ، لكنها لم تجد الى هذا سبيلا وشواهد هذا كثيرة جدا وقد مر جملة منها متفرقا في الكتاب وفيما ذكرناه هنا كفاية مقنع فقد اتينا فيه كما ترى بالفصل ليس بالهزل ، واوضحنا فيه نهج الحق ، وازحنا تعللات اهل الشك ، ومنه تعلم انه ليس في الصحابة ولا في ازواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من يدعي ان آية التطهير يدخل فيها الأزواج فضلا عن كونهن مختصات بها كما قال عكرمة ، وان ادخالهن فيها انا هو قول مولد من بعض المتعصبين قصد به ابطال احتجاج اهل الحق على عصمة علي وفاطمة وابيهما حتى يساوي بينهم وبين من خالفهم وخاصمهم من ائمته ليحتمل الخطأ في كلا الطرفين فيرجع حينئذ الى.

ونسكت عن حرب الصحابة

فالذي جرى بينهم كان اجتهادا مجردا

وهيهات هيهات واني له بذاك وقد اسفر الصبح وصرح الحق عن النصح

ومما يدل على عصمتهم من الكتاب أيضا قوله تعالى : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (١) فالمروي عن ابن عباس ان المراد بهم آل محمد ، وبه قال الفخر الرازي (٢) وجماعة من مخالفينا : والآل بالمعنى العام هم اهل الرجل وهم

__________________

(١) الصافات : ١٣٠.

(٢) تفسير الرازي ٢٦ / ١٦٣.

ذوو قرابته كما ذكر في المصباح المنير وقد يطلق على المشايعين والأتباع ، وعليه جرى قوله تعالى : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (١) واما الآل بالمعنى الخاص فهم ذرية الرجل وولده وخاصته من اقاربه ، قال الله تعالى : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٢) فالذين اتاهم الله الكتاب والحكمة والملك العظيم من ذوي ابراهيم ولده وذريته وان دخل فيهم لوط ، فذلك لأنه ابن اخيه كما رواه ابو علي الطبرسي عن ابن عباس وابن زيد وجمهور المفسرين (٣) لا جميع اقاربه بالاتفاق ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٤) والمصطفى من ابراهيم ولده ومن عمران ولداه موسى وهارون لا الأقارب ولا الزوجات وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) (٥) اتوا لوطا وخاصة اهله فهم آله وأما قوله تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ) (٦) فيحتمل انقطاع الاستثناء او دخول المرأة من حيث المجاورة او اطلاقه هنا على الاتباع والأشياع فتدخل الزوجة والمملوك لا المعنى الخاص ، وبالجملة الآل كالأهل في معانيه بل قال بعض انه هو بنفسه أبدلت هاؤه الفا وآل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الذين شاركوه في الصلاة عليه وفي التسليم والطهارة ووجوب المودة هم علي وفاطمة والحسن والحسين كما ذكرنا في بيان العترة وذوي القربى والأهل ويدخل باقي الأئمة بالتبعية كما اوضحناه هناك ، ويدل عليه صريحا ما مر من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في علي وفاطمة

__________________

(١) غافر : ٤٦.

(٢) النساء : ٥٤.

(٣) مجمع البيان ٨ / ٣٨٠ وفيه «ابن اخته» بدل «ابن اخيه».

(٤) آل عمران : ٣٣٢.

(٥) الحجر : ٦١.

(٦) الحجر : ٥٩.

والحسنين حين نزلت آية التطهير : (اللهم هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل ابراهيم انك حميد مجيد) (١) واستفادة العصمة من الآية من جهة ان السلام بمعنى السلامة وهي البراءة من العيوب والنجاة من الذنوب كما قال تعالى : (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا) (٢) وقال : (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) (٣) (سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) (٤) (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) (٥) فالمعنى سلامة لآل محمد اي سلموا من العيوب سلامة وبرئوا من الذنوب براءة والسلامة من الذنوب هي العصمة.

ومما يدل عصمتهم من الكتاب أيضا قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٦) فانا قد بينا أولا انها نازلة في ائمتنا وامهم فاطمة وابيهم علي (عليه‌السلام) وبينا أيضا ان المودة هنا بمعنى المتابعة واقمنا على ذلك الأدلة هناك ويشهد للمعنيين جميعا ما رواه الحاكم ابو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفصيل مرفوعا الى ابي إمامة الباهلي قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله خلق الأنبياء من اشجار شتى وخلقت انا وعلي من شجرة واحدة فانا اصلها وعلي فرعها وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها واشياعنا اوراقها فمن تعلق بغصن من اغصانها نجى ومن زاغ عنها هوى ولو ان عبدا عبد الله بين الصفا والمروة الف عام ثم الف عام ثم الف عام حتى يصير كالشن البالي ثم لم يدرك محبتنا كبه الله على منخريه في النار) ثم تلا : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١٠٦.

(٢) هود : ٤٨.

(٣) الصافات : ٥٩.

(٤) الصافات : ١٠٩.

(٥) الصافات : ١٢٠.

(٦) الشورى : ٢٣.

أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) والتعلق بمعنى المتابعة البتة واذا كانت متابعتهم واجبة على الاطلاق من دون تقييد بحال دون حال وجب ان يكونوا معصومين من الخطأ في جميع الأحوال ، ومنزهين عن ارتكاب المعاصي بلا اشكال ، ولو لا ذلك لوجب تقييد طاعتهم بما قيد به طاعة الأبوين بقوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (٢) إذ لا يجوز اطاعة المخطئ ولا متابعة العاصي بنص الكتاب ، وحيث اطلق وجوب متابعتهم ولزوم مودتهم دل على الشهادة لهم بالعصمة والطهارة من الأرجاس والأدناس والأمر ظاهر.

واما من السنة فالذي يدل على عصمة ائمتنا كثير منه ما يعم الجميع ومنه ما يختص بامير المؤمنين فاما الذي يختص به(٣).

فمنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار) فان هذا الحديث نص في عصمة علي (عليه‌السلام) اذ قد علمت ان ليس العصمة الا ملازمة الحق والصواب وعدم الخطأ في الأقوال والأفعال فاذ شهد له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه على الحق في جميع احواله كانت تلك شهادة له بالعصمة عن الذنوب وعن الخطأ في الأحكام والقول والفعل ، لأن العاصي ليس على الحق والمخطي ليس معه وكان امير المؤمنين مصيبا للحق وملازما له كان معصوما بالضرورة.

فمنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه يوم غدير خم في الحديث المتواتر الذي رواه خصومنا عن جملة من الصحابة : (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وادر الحق معه حيثما

__________________

(١) رواه عن الحسكاني الطبرسي في مجمع البيان ٥ / ٤٩ ط مكتبة الحياة.

(٢) لقمان : ١٥.

(٣) تاريخ الخطيب ١٤ / ٦٢١ وتفسير الرازي ١ / ٢٠٥.

دار) (١) فانه صريح في عصمته لأن وجوب موالاته ونصرته على الاطلاق تستلزم ملازمته للحق فهي شهادة له بالعصمة ، ولو صحت منه المعصية لم تجب موالاته في كل حال اذ لا يجوز موالاة العاصي ولا نصرته ، بل الواجب الانكار عليه بالنص والاجماع لكن موالاة علي (عليه‌السلام) واجبة مطلقا بصريح الخبر فوجب ان يكون معصوما والا لوجب لو صدرت منه المعصية خذلانه ومعاداته في حال وجوب نصرته وموالاته وهذا متناقض ، واما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (وادر الحق معه حيثما دار) فدلالته على العصمة اوضح من الشمس في رابعة النهار وتقريره كتقرير الحديث الأول.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيما رواه الحافظ ابو نعيم واحمد بن حنبل : (من احب ان يحيى حياتي ويموت ميتتي ويتمسك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده ثم قال لها كوني فكانت فليتمسك بولاء علي بن ابي طالب) ولفظ احمد (من احب ان يتمسك بالقضيب الأحمر الذي غرسه الله في جنة عدن بيمينه فليتمسك بحب علي بن ابي طالب) (٢) وفي حديث آخر رواه الحافظ (من سرة ان يحيى حياتي ويموت مماتي ويسكن جنة عدن التي غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه) (٣) والتمسك والموالاة هي المتابعة كما اوضحناه فيما مضى ، واذا كان متابعة علي (عليه‌السلام) واجبة على الاطلاق وجب ان يكون ملازما للحق على كل حال وهي العصمة.

ومنه الأحاديث الواردة في وجوب محبته ، وان محبته محبة الله وطاعته طاعة الله ، وفي بعضها ان محبه محب رسول الله وهي كثيرة ، وقد تقدمت ونشير

__________________

(١) مرت مصادر هذا الحديث.

(٢) حلية الأولياء ١ / ٨٦ و ٤ / ١٧٤.

(٣) نقله عن مناقب احمد كما في المتن المحب في الرياض ٢ / ٢١٥.

هاهنا الى بعض.

فمنها قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية الحافظ عن ابي بردة الأسلمي (ان الله قد عهد الي في علي عهدا فقلت : يا رب بينه لي قال اسمع ان عليا راية الهدى) ـ الى ان قال ـ : (وهو الكلمة التي الزمتها المتقين من احبه فقد أحبني ومن اطاعه اطاعني فبشره بذلك فقلت قد بشرته يا رب) ـ الى ان قال ـ : (وقد دعوت له فقلت اللهم اجل قلبه واجعل ربيعه الايمان بك ، قال قد فعلت) الخبر (١) ومثله قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث احمد في حق علي .. (واما الخامسة فاني لست اخشى عليه ان يعود كافرا بعد ايمان ولا زانيا بعد احصان) (٢) الخبر وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي (عليه‌السلام) في حديث احمد : (من احبك أحبني وحبيبي حبيب الله وعدوك عدوي وعدوي عدو الله) (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث احمد أيضا : (اوصيكم بحب ذي قرباها اخي وابن عمي علي بن ابي طالب لا يحبه الا مؤمن ولا يبغضه الا منافق من احبه أحبني) (٤) الخبر وغير ذلك من الأخبار وهي ظاهرة في الشهادة بعصمته واظهرها في المطلب.

الأول لأنه اذا كان طاعة علي (عليه‌السلام) طاعة الله مطلقا وجب ان يكون دائما على الحق والصواب في جميع الأمور لا يجوز عليه الخطأ في الحكم اذ لو اخطأ في الحكم أو ارتكب معصية في قول او فعل لم تكن طاعته طاعة الله ، بل الأمر يكون بالعكس لكن طاعته طاعة الله بنص الخبر فهو معصوم

__________________

(١) حلية الأولياء ١ / ٦٦.

(٢) أيضا ١٠ / ٢١١. ولكنه يختلف قليلا عما في المتن ولعله منقول من مكان آخر من الحلية.

(٣) قال المحب في الرياض ٢ / ٢١٦ : «اخرجه احمد في المناقب».

(٤) رواه المحب في الرياض ٢ / ٢١٤ وقال : «اخرجه احمد في المناقب».

من ارتكاب القبيح ، ويدل أيضا على انه لا يعمل بالاجتهاد كغيره لأن المجتهد لا يصيب دائما وعلى مصيب دائما فهو ليس بمجتهد فيكون علمه نقلا من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والهاما من الله تعالى ، واكثر اخبار الباب مصرحة بهذا المعنى فلنستغن ببيانه هنا عن تكريره فتأمل ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (واجعل ربيعه الايمان) نص في العصمة على قول المعتزلة والربيع هو الجدول ، وهو النهر الصغير كأنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يريدوا جعل مشربه او مورده الايمان والايمان عند المشار إليهم فعل الواجبات واجتناب الكبائر والصغائر عندهم مكفرة لا تنافي العصمة لأنها لا توجب الذم ، واذا كان علي (عليه‌السلام) بنص الخبر ملازما للايمان كما يصرح به قوله بعد الدعاء (قد فعلت) والايمان عندهم لا يتم الا باجتناب القبيح الذي يستحق فاعله الذم وجب ان يكون معصوما منه ، واني لأعجب من ابن ابي الحديد حيث يروى مثل هذا الخبر الواضح في عصمة علي (عليه‌السلام) ثم يقول في مواضع كثيرة من كتابه : «ان عليا ليس بمعصوم» ويعدله بعمر تارة ويقول : «ان الرجلين ليس ولا واحد منهما عندنا بمعصوم» ولم يفرق بين من لم يعبد الا الله ، ولم يجر عليه اسم فسق ابدا وبين من عبد الأوثان وجرى عليه اسم الكفر والعصيان ، واخطأ في كثير من الأحكام فيا لله للمسلمين ايقاس هذا بذاك وهل تستوي الظلمات والنور ، لكن الرجل وامثاله تاهوا في اودية الجهل وسلكوا الطريق الوعر وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا اعاذنا الله والمؤمنين من طاعة الهوى.

واما لفظ المحبة الوارد في الأخبار المذكورة فهو مفيد للعصمة لما بيناه مرارا من ان المحبة لعلي (عليه‌السلام) اذا وجبت على الاطلاق وكانت كمحبة الله والرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجب ان يكون منزها عن فعل القبيح اذا العاصي لا تجب محبته البتة ، وعلي (عليه‌السلام) تجب محبته مطلقا فهو لا يعصي ابدا وهو المطلق.

ومنه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية الحافظ ابي نعيم : (يا معشر الأنصار الا ادلكم على ما ان تمسكتم به لن تضلوا ابدا) قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : (هذا علي فاحبوه بحبي واكرموه بكرامتي) (١) الخبر ، ومعنى ذلك طاعته بطاعة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والخبر صريح في ان التمسك بعلي (عليه‌السلام) عاصم من الضلال ابدا فوجب ان يكون معصوما إذ لو ارتكب قبيحا لم يكن التمسك به عاصما من الضلال لكنه عاصم فليس بمرتكب قبيحا ومثله قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حديث أنس (انه ـ يعني ـ عليا راية الهدى ومنار الايمان وامام اوليائي ونور جميع من اطاعني) (٢) وقوله في رواية ابي بردة : (ان عليا راية الهدى) الخبر وتابع راية الهدى يجب ان يكون مهتديا ولو كان علي (عليه‌السلام) ممن يعصون لم يكن راية الهدى ولم يكن اقتفاؤه عاصما من الضلال لكنه راية الهدى بالنص فيجب ان يكون معصوما من الضلال.

ومنه الأخبار الواردة في ان عليا (عليه‌السلام) كنفس رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانه منه ومخلوق من نوره المعتضدة على كثرتها بنص القرآن الحكيم مثل قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (لأبعثن إليكم رجلا كنفسي وفي رواية عديل نفسي) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ان عليا مني وانا من علي) (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (كنت انا وعلي نورا بين يدي الله عزوجل) الى ان ذكر قسمة (٤) ذلك النور فقال : (جزء انا وجزء

__________________

(١) حلية الأولياء ١ / ٦٣ وشرح نهج البلاغة ٩ / ١٧٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٩ / ١٦٩.

(٣) أيضا ١ / ٦ و ٩ / ١٦٨ وحديث أبي برزة رواه ابو نعيم في الحلية ١ / ٦٦.

(٤) أيضا ٩ / ١٦٧.

علي (عليه‌السلام) (١) ومثل ذلك قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تشبيه علي بالأنبياء : (من اراد ان ينظر الى نوح في عزمه) الى آخر الخبر (٢) والأخبار في هذا المعنى كثيرة قد تقدمت واذا كان علي (عليه‌السلام) من نور رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعديل نفسه وشبيها بالأنبياء كان معصوما مثله ومثلهم ، اذ لم تخرج من مشابهة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الا النبوة فيبقى الباقي حاصلا له ومن جملته العصمة فيكون علي معصوما ولذا قال (عليه‌السلام) : (والله ما ضللت ولا ضل بي ولا زللت ولا زل بي) وصدق وهو الأمين المصدق فانه ما زال على الحق ما حاد عنه ولا حال ولم يفارقه ولم يزايله طرفة عين والأخبار الواردة في المعاني المذكورة والمشابهة لها والقريبة منها متعددة واسعة ، وقد ذكرنا جلها وما ذكرناه هنا من التقسيم اصل يرجع إليه في ارجاع كل حديث مما لم نذكره هنا الى بابه فلنقتصر على ما رسمناه ففيه بلوغ المراد ، وتحصيل المطلب ، وكفاية المنصف ، ومقنع المتدبر في هذا الباب والمعاند لا دواء له من الحجة.

واما ما يشتمل على جميع الأئمة من النصوص الشاهدة لهم بالعصمة

فمنه الخبر المتواتر وهو حديث الثقلين وقول رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فيه : (اني تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي اهل بيتي فانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وهذا اللفظ في بعض طرق هذا الحديث عن زيد بن ارقم وقد ذكرنا بعض طرقه والفاظه فيما مضى وهذا الحديث على جميع الفاظه دال على عصمة العترة من وجهين.

الأول شهادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعصمة المتمسك بهم

__________________

(١) أيضا ٩ / ١٧١ عن مسند احمد وفضائله قال : «وذكره صاحب الفردوس وزاد فيه :

(ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب فكان لي النبوة ولعلي الوصية).

(٢) مر هذا الحديث.

من الضلال دائما ولو جاز عليهم الخطأ وارتكاب المعاصي لما كان اتباعهم عاصما من الضلالة مطلقا كما قررناه مرارا فوجب ان يكونوا مأمونين من الخطأ منزهين عن مقارفة الخطايا وتلك هي العصمة.

الثاني شهادة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لهم بانهم مع القرآن لا يفارقونه ولا يفارقهم (١) ، والمراد من ذلك انهم ملازمون لأحكامه ، والقرآن حق لا ريب فيه والملازم له دائما على الحق في كل احواله لا يجوز عليه الخطأ اذ لو جاز عليه الخطأ لم يكن ملازما للقرآن ، ولزوم الصواب دائما هو العصمة ، ويلزم من ذلك علمهم بالقرآن من جهة التوقيف النبوي بنقل السابق الى اللاحق ، او الالهام الإلهي ليكونوا مطلعين على مقاصد الله من جهة القطع والتنصيص لا من جهة الاجتهاد والنظر والأخذ بالظواهر ، فان ذلك لا يوجب الاصابة بل خطؤه اكثر من صوابه ولذا اشتهر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (ان من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) فلو ان اهل البيت يعلمون احكام القرآن من طريق الاجتهاد لم يكونوا ملازمين لحكم القرآن لجواز الخطأ في الاجتهاد ، وحيث كانوا ملازمين له بنص النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجب ان يكون اطلاعهم به من طريق اليقين ومن الجهة التي لا تغير فيها ولا اختلاف ، فهذا الحديث شاهد على عصمتهم وعلمهم بحقيقة احكام القرآن ، وانه لا يخالفهم ولا يخالفونه ، وان علمهم لا يختلف ولا يزول ، وكفى به دليلا على المدعى ، ولذا ورد عنهم صلوات الله عليهم : (لا تقبلوا عنا ما يخالف القرآن وما خالف كتاب الله فانا لم نقله) وفي ذلك بطلان ما ادعته الغلاة والمفوضة واهل المقالات الفاسدة ممن ينسب الى الشيعة

__________________

(١) يشير الى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (هذا علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض) ـ كما في الصواعق ص ٧٥ وغيره وحديث الثقلين قد مرت مصادره.

وتزييف ما اوردوه من الأحاديث المزورة التي يوهم ظواهرها ما ادعوا فيجب لذلك ردها او تأويلها بما يوافق القرآن فلا تغتر بما ينمقه اهل الجهالة مما يخالف هذا ، ويسطرونه من زخرف القول وسرابه يشبهون به على ضعفاء الشيعة ويضلونهم عن طريق الهداية زين لهم سوء اعمالهم ، ولنرجع الى المطلب فنقول : ان الحديث يدل على ان غير العترة غير ملازم للقرآن في جميع احواله ولا موافق له في جميع اموره ، وانه يصيب حكمه تارة ويخطئه تارات ، وان المخالف لهم مخالف للقرآن لا محالة.

ومنه الأخبار الواردة في وجوب محبتهم ولزوم مودتهم ، وتحريم بغضهم على جهة الاطلاق والعموم ، وقد قدمنا جملة منها مثل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية الترمذي والحاكم عن ابن عباس : (احبوا الله لما يغنيكم به ، واحبوني بحب الله ، واحبوا اهل بيتي بحبي) (١) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية : (الزموا مودتنا اهل البيت فانه من لقى الله عزوجل وهو يودنا دخل الجنة) (٢) الخبر وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية ابي الشيخ عن علي (عليه‌السلام) : (والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني ولا يحبني حتى يحب ذريتي) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في رواية احمد : (من ابغض اهل البيت فهو منافق) (٣) الى غير ذلك مما يعطي هذا المعنى ويصرح؟ وهي على كثرتها دالة على عصمتهم من جهة ان لزوم المحبة على الاطلاق ووجوب المودة على العموم يقتضي كون المحبوب على الصواب في جميع الأحوال ، اذ لا تجوز محبة العاصي ولا مودة المخطئ

__________________

(١) الترمذي ٢ / ٣٠٨ وفيه : (لما يغذوكم به من نعمه) ومستدرك الحاكم ٣ / ١٤٩.

(٢) اسعاف الراغبين ص ١١٣.

(٣) أيضا ص ١١٤ وفي ذخائر العقبى ص ١٨ (لا يحبنا الا مؤمن تقي ولا يبغضنا الا منافق شقي).

لأنهما بمعنى المتابعة كما مر عليك بيانه.

ومنها ما رواه جماعة من اصحاب الصحاح عن عدة من قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (مثل اهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك) (١) وفي رواية (غرق) وما شابهه من الأحاديث ، والمراد منه ان من تابعهم نجا ومن خالفهم او سلك غير سبيلهم هلك ، واذا كانت متابعتهم موجبة للنجاة ، ومخالفتهم وسلوك غير سبيلهم موجبين للهلاك ، وجب ان يكونوا على الحق دائما وان مخالفهم على الباطل وكونهم على الحق والهدى لا يفارقونه هو العصمة ـ فالخبر صريح في الشهادة لهم بالعصمة ، وكل هذه الأدلة تعطي ان علمهم لا يختلف ، وانه ليس من طريق الاجتهاد والا لاختلف وحصل فيه الخطأ أحيانا فلم يكونوا على الحق دائما ، وما يعطي هذا المعنى من الأحاديث النبوية كثير من طرق الخصوم قد ذكرنا كثيرا منه سابقا.

واما ما يدل على عصمة العترة من كلام امير المؤمنين فكثير.

فمنه قوله (عليه‌السلام) في خطبة له : (فاين يتاه بكم فكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم ازمة الحق والسنة الصدق فانزلوهم باحسن منازل القرآن وردوهم ورد الهيم العطاشى) الخطبة (٢) وكل من قوله : (وهم ازمة الحق والسنة الصدق) ظاهر في عصمة العترة ، وقوله : (فانزلوهم باحسن منازل القرآن) صريح فيها ، والتقرير في الجميع على سبيل ما تقدم.

ومنه قوله (عليه‌السلام) في خطبته : (نحن شجرة النبوة ، ومحط

__________________

(١) اسعاف الراغبين ص ١١١ وقال : «رواه جماعة من اصحاب السنن عن جماعة من الصحابة واخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٥١ باسناده الى ابي ذر وفيه : «ومن تخلف عنها غرق».

(٢) نهج البلاغة من الخطبة ٨٥.

الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومعادن العلم ، وينابيع الحكم ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة ، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة) (١) وهي صريحة في كونهم على الحق دائما وهو المراد بالعصمة.

ومنه قوله (عليه‌السلام) في خطبته : (انكم لن تعرفوا الرشاد حتى تعرفوا الذي نبذه) ـ الى ان قال ـ : (والتمسوا ذلك من عند اهله ، فانهم عيش العلم ، وموت الجهل يخبركم حكمهم عن علمهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين ، ولا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق) (٢) وهذا الكلام يشير به الى نفسه وولده فانه كثيرا ما يسلك هذا المسلك ، وتارة يصرح وهو دال على ما ذكرناه من وفور علمهم ، وانه ليس على جهة الاجتهاد ، والا لوقع بينهم الاختلاف كسائر المجتهدين ، ودال على العصمة من الخطأ خصوصا قوله : (لا يخالفون الدين) والتوجيه كما مر.

ومنه قوله (عليه‌السلام) في خطبته (ونشهد الا إله غيره ، وان محمدا عبده ورسوله ارسله بامره صادعا) الى قوله (عليه‌السلام) : (ومضى رشيدا وخلف فينا راية الحق ، من تقدمها مرق ، ومن تخلف عنها زهق ومن لزمها لحق ، دليلها مكيث الكلام بطى القيام ، سريع اذا قام ، فاذا ألنتم له رقابكم ، واشرتم إليه باصابعكم جاءه الموت فذهب به) ـ الى ان قال ـ : (الا ان مثل آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كمثل نجوم السماء اذا خوى نجم طلع نجم) (٣) الخطبة اراد براية الحق القرآن ـ وبدليلها هو نفسه (عليه‌السلام) ، ودليل راية الحق لا يجوز ان يكون مخطئا للصواب ، اذ لو

__________________

(١) أيضا من الخطبة ١٠٧.

(٢) أيضا من الخطبة ١٤٥.

(٣) أيضا من الخطبة ٩٨.

اخطأ لما كان دليلا لراية الحق ، ثم صرح بان هذا الأمر يصير من بعده لولده واحدا بعد واحد بقوله : (الا ان مثل آل محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كمثل نجوم السماء) الخ فبين انه لا بد في كل زمان من دليل للقرآن من آل محمد كلما مات امام خلفه من ذريته امام ، وليست تنقطع دلالة القرآن منهم بموته ، وهم كالنجوم التي لا يزال منها غارب وشارق ابدا ما بقي الزمان ، وفيه دليل على علمهم بالقرآن من طريق اليقين لا النظر الذي تارة يخطئ وتارة يصيب ، وعلى بقاء الامامة فيهم حتى ينقطع التكليف ، وهذا صريح مذهب الامامية ، وهو مضمون حديث الثقلين ، ومثل هذا في كلامه الكثير الواسع من اراده لم يفته ، وقد تبين مما حررناه ووضح مما قررناه في هذا الكتاب صحة مذهب الامامية الاثني عشرية ، وثبات اقدامهم على الصراط السوى ، والمنهج الجلي لمتانة ادلتهم ، وقوة حجتهم واعتراف خصومهم بدليلهم ، وثبت ضعف ما سواه من المذاهب والأقاويل الفاسدة التي ليس عليها من دليل ، ولا لأربابها في اثباتها بالحجة الثابتة من سبيل ، سوى زخارف ما انزل بها من سلطان ، وشبه من القول لا يحصل بها وثوق ولا اطمئنان ، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فالحمد لله الذي هدانا لهذا المذهب الواضح ، وألهمنا دليله واسلكنا سبيله وعرفنا برهانه ، واوضح لنا بيانه ، وفهمنا عرفانه ، وارشدنا الى التمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي ولاية اهل بيت الرسول المصطفى الذين اولهم اخوه وابن عمه علي المرتضى واخرهم الامام المنتظر ، والنور الأزهر ، صاحب عصرنا وامام زماننا المهدي بن الحسن العسكري عجل الله فرجه ، وجعلنا من الموالين لأوليائهم ، والمعادين لأعدائهم الى يوم النشور ، ونسأل الله بمنه ولطفه ، ان يثبتنا على هذا المسلك المنير ، ويميتنا على هذا الطريق القويم ، ولنختم كتابنا هذا بذكر شيء من الأحاديث الواردة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من طريق اصحابنا في النص على الأئمة الاثني عشر ثم نعقب ذلك بنقل

خطبة من خطب امير المؤمنين تحتوي على بيان جملة من المطالب التي خضنا فيها وبالله الاستعانة.

روى الشيخ الصدوق رئيس المحدثين ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي في كتاب اثبات الغيبة ورفع الحيرة (١) قال : حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال : حدثني عمي محمد بن ابي القاسم عن محمد بن علي الكوفي عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر عن جابر بن يزيد الجعفي عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (لعن المجادلون في دين الله على لسان سبعين نبيا ومن جادل في آيات الله فقد كفر قال الله عزوجل : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (ومن فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب ، ومن افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض ، وكل بدعة ضلالة سبيلها الى النار) وقال عبد الرحمن بن سمرة فقلت : يا رسول الله أرشدني الى النجاة ، فقال : (يا بن سمرة اذا اختلفت الأهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن ابي طالب ، فانه امام امتي وخليفتي عليهم من بعدي ، وهو الفاروق الذي يميز بين الحق والباطل ، من سأله أجابه ، ومن استرشده ارشده ، ومن طلب الحق عنده وجده ، من التمس الهدى لديه صادفه ومن لجأ إليه امنه ، ومن استمسك به نجاه ، ومن اقتدى به هداه.

يا بن سمرة سلم منكم من سلم له ووالاه وهلك من رد عليه وعاداه.

يا بن سمرة ان عليا مني روحه من روحي وطينته من طينتي وهو اخي وانا اخوه ، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين

__________________

(١) يريد باثبات الغيبة كتاب اكمال الدين واتمام النعمة المشهور وهكذا جرت عادة الأوائل ان يسموا كتبهم باكثر من واحد.

وان منه امامي امتي وابني وسيدي شباب اهل الجنة الحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين تاسعهم قائم امتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا).

قال : الصدوق حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه‌الله) قال : حدثنا محمد بن ابي عبد الله الكوفي قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن الحسن بن علي بن سالم عن ابيه عن ابي حمزة عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (ان الله تبارك وتعالى اطلع على الأرض اطلاعة فاختارني منها فجعلني نبيا ، ثم اطلع الثانية فاختار منها عليا وجعله إماما ، ثم امرني ان اتخذه اخا ووليا ووصيا وخليفة ووزيرا ، فعلي مني وانا من علي ، وهو زوج ابنتي وابو سبطي الحسن والحسين ائمة يقومون بامري ، الا وان الله تبارك وتعالى جعلني واياهم حججا على عباده وجعل من صلب الحسين ائمة يقومون بامري ، ويحفظون وصيتي التاسع منهم قائم اهل بيتي ، ومهدي امتي اشبه الناس بي في شمائله واقواله وافعاله يظهر بعد غيبة طويلة ، وحيرة مضلة فسيعلن امر الله ويظهر دين الله جل وعز يؤيد بنصر الله وينصر بملائكة الله ويملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) (١).

وقال : حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل قال : حدثني محمد بن ابي عبد الله قال : حدثنا موسى بن عمران النخعي عن عمه الحسين بن يزيد عن علي بن بي حمزة الثمالي عن ابيه عن الصادق جعفر بن محمد عن ابيه عن آبائه (عليهم‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (حدثني جبرئيل عن رب العزة جل جلاله انه قال : من علم انه لا إله الا انا وحدي ، وان محمدا عبدي ورسولي ، وان علي بن ابي طالب

__________________

(١) اكمال الدين ٢٥٠.

خليفتي ، وان الأئمة من ولده حججي ادخلته الجنة برحمتي وانجيته من النار بعفوي وابحت له جواري ، له كرامتي واتممت عليه نعمتي ، وجعلته من خاصتي وخالصتي ، ان ناداني لبيته وان سألني اعطيته ، وان سكت ابتدأته ، وان اساء رحمته ، وان فر مني دعوته وان رجع الى قبلته ، وان قرع بابي فتحته ومن لم يشهد الا إله الا انا وحدي ولم يشهد ان محمدا عبدي ورسولي او شهد بذلك ولم يشهد ان علي بن ابي طالب خليفتي أو شهد بذلك ولم يشهد أن الأئمة من ولده حججي فقد جحد نعمتي وصغر عظمتي وكفر بآياتي وكتبت ان قصدني حجبته وان سألني حرمته وان ناداني لم اسمع ندائه وان دعاني لم استجب دعاءه وان رجاني خيبته وذلك جزاؤه مني وما انا بظلام للعبيد) فقام جابر بن عبد الله الأنصاري فقال يا رسول الله ومن الأئمة من ولد علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) قال : (الحسن والحسين سيدا شباب اهل الجنة ثم سيد العابدين في زمانه علي بن الحسين ثم الباقر محمد بن علي وستدركه يا جابر فاذا ادركته فاقرأه مني السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم الكاظم موسى بن جعفر ، ثم الرضا علي بن موسى ، ثم التقي محمد بن علي ، ثم النقي علي بن محمد ، ثم الزكي الحسن بن علي ، ثم ابنه القائم بالحق المهدي ، انه الذي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، هؤلاء يا جابر خلفائي واوصيائي واولادي وعترتي من اطاعهم فقد اطاعني ومن عصاهم فقد عصاني ومن انكرهم وانكر واحدا منهم فقد انكرني بهم يمسك الله عزوجل السماء ان تقع على الأرض الا باذنه وبهم يحفظ الأرض ان تميد باهلها).

وقال : حدثنا علي بن احمد (رضي الله عنه) قال : حدثنا محمد بن ابي عبد الله الكوفي عن موسى بن عمران عن عمه الحسين بن يزيد عن الحسن بن علي بن ابي حمزة عن ابيه عن يحيى بن القاسم عن الصادق جعفر بن محمد عن ابيه عن جده قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله

وسلم) : (الأئمة بعدي اثنى عشر اولهم علي بن ابي طالب وآخرهم القائم المهدي ـ هم خلفائي واوصيائي واوليائي وحجج الله على امتي ، المقر بهم مؤمن والمنكر لهم كافر) (١).

وقال : حدثنا علي بن احمد بن عبد الله بن احمد بن ابي عبد الله البرقي عن ابيه عن جده احمد بن ابي عبد الله عن ابيه محمد بن خالد عن محمد بن داود عن محمد بن الجارود العبدي عن اصبغ بن نباتة قال : خرج علينا امير المؤمنين علي بن ابي طالب ويده في يد ابنه الحسن وهو يقول : (خرج علينا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذات يوم ويدي في يده هكذا وهو يقول : (خير الخلق بعدي وسيدهم اخي هذا وهو امام كل مسلم ، ومولى كل مؤمن بعد وفاتي الا واني اقول ان خير الخلق بعدي وسيدهم ابني هذا وهو امام كل مؤمن ، ومولى كل مسلم ، بعد وفاتي الا وانه سيظلم بعدي كما ظلمت بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخير الخلق وسيدهم بعد الحسن ابني اخوه الحسين المظلوم بعد اخيه المقتول في ارض كربلاء ، اما انه واصحابه من سادات الشهداء يوم القيامة ومن بعد الحسين تسعة من صلبه خلفاء الله في ارضه وحججه على عباده ، وأمناؤه على وحيه ، وائمة المسلمين ، وقادة المؤمنين ، وسادة المتقين ، وتاسعهم قائمهم الذي يملأ الله به الأرض نورا بعد ظلمها وعدلا بعد جورها وعلما بعد جهلها ، والذي بعث محمدا اخي بالنبوة واختصني بالامامة وقد نزل بذلك الوحي من السماء على لسان الروح الأمين جبرئيل ولقد سئل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانا عنده عن الأئمة بعده فقال للسائل : (والسماء ذات البروج ان عددهم بعدد البروج ، ورب الليالي والأيام والشهور ، ان عدتهم بعدة الشهور) فقال السائل من هم يا رسول الله فوضع رسول الله (صلى الله عليه

__________________

(١) أيضا ٢٥٢.

وآله وسلم) يده على رأسي فقال : (اولهم هذا وآخرهم المهدي من والاهم فقد والاني ، ومن عاداهم فقد عاداني ، ومن احبهم فقد أحبني ، ومن ابغضهم فقد ابغضني ، ومن انكرهم فقد انكرني ، ومن عرفهم فقد عرفني ، بهم يحفظ الله دينه ، وبهم تعمر بلاده ، وبهم ترزق عباده ، وبهم ينزل القطر من السماء ، وبهم تخرج بركات الأرض ، هؤلاء اصفيائي وخلفائي وائمة المسلمين وموالي المؤمنين) (١).

وقال : حدثنا محمد بن علي ما جيلويه (رحمه‌الله) قال : حدثنا علي بن ابراهيم عن ابيه عن علي بن معبد عن الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن ابيه عن آبائه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من احب ان يستمسك بديني ويركب سفينة النجاة بعدي فليقتد بعلي بن ابي طالب ، وليعاد عدوه وليوال وليه ، فانه وصيي وخليفتي على امتي في حياتي وبعد وفاتي ، وهو امير كل مسلم وامير كل مؤمن بعدي ، قوله قولي وامره امري ونهيه نهيي وتابعه تابعي وناصره ناصري وخاذله خاذلي) ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (من فارق عليا بعدي لم يرني ولم اره يوم القيامة ، ومن خالف عليا حرم الله عليه الجنة وجعل مأواه النار ، ومن خذل عليا خذله الله يوم يعرض عليه ، ومن نصر عليا نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته عند المنازلة) ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (والحسن والحسين إماما امتي بعد ابيهما ، وسيدا شباب اهل الجنة ، وامهما سيدة نساء العالمين ، وابوهما سيد الوصيين ، ومن ولد الحسين تسعة ائمة تاسعهم القائم من ولدي ، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي ، الى الله اشكو المنكرين لفضلهم والمضيعين لحقهم بعدي وكفى بالله وليا وناصرا لعترتي وائمة امتي

__________________

(١) أيضا ٢٥٣.

ومنتقما من الجاحدين لحقهم وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون) (١).

وقال : حدثنا احمد بن زياد قال : حدثنا علي بن ابراهيم بن هاشم عن ابيه عن علي بن معبد عن الحسين بن خالد عن ابي الحسن علي بن موسى الرضا عن ابيه عن آبائه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (انا سيد من خلق الله وانا خير من جبرئيل وميكائيل واسرافيل وحملة العرش وجميع ملائكة الله المقربين وانبياء الله المرسلين ، وانا صاحب الشفاعة والحوض الشريف ، وانا وعلي ابوا هذه الأمة من عرفنا فقد عرف الله عزوجل ومن انكرنا فقد انكر الله عزوجل ، ومن علي سبطا امتي وسيدا شباب اهل الجنة الحسن والحسين ، ومن ولد الحسين (عليه‌السلام) تسعة طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي تاسعهم قائمهم ومهديهم) (٢).

وقال : حدثنا ابي (رضي الله عنه) قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثنا يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن عبد الله بن مسكان عن ابان بن خلف عن سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) قال : دخلت على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واذا الحسين بن علي على فخذه وهو يقبل عينيه ويلثم فاه ويقول : (انت سيد ابن سيد انت امام ابن امام اخو امام ابو ائمة ، انت حجة ابن حجة ابو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم) (٣).

ومثل هذه الأخبار من طرق اصحابنا ذكر جميعه يحتاج الى كتاب مفرد اضعاف كتابنا هذا ، وكلها كما تصرح بامامة ائمتنا الاثني عشر ، وتنص على خلافتهم وقصر الامامة فيهم دون غيرهم ، تنادي بعصمتهم عن الخطأ

__________________

(١) أيضا ٢٥٣.

(٢) أيضا ٢٥٤.

(٣) أيضا ٢٥٥.

ولزومهم الحق حيث نطقت بان طاعتهم طاعة الله وطاعة رسوله ، والتمسك بهم موجب للنجاة وكل ذلك دال على العصمة كما قررنا سابقا.

وروى الصدوق أيضا من طريق الخصم ما يقارب هذا المعنى عن ابن مسعود وجابر بن سمرة بطرق متعددة نحن نقتصر على ذكر بعض منها قال (رحمه‌الله) حدثنا احمد بن الحسن القطان قال : حدثنا ابو عبد الله احمد بن محمد بن ابراهيم بن ابي الرجا (١) البغدادي قال : حدثنا محمد بن عبدوس الحراني قال : حدثنا عبد الغفار بن الحكم قال : حدثنا منصور بن ابي الأسود عن مطرف عن الشعبي عن عمه قيس بن عبيد قال : كنا جلوسا في حلقة فيها عبد الله بن مسعود فجاء اعرابي فقال : ايكم عبد الله قال عبد الله بن مسعود : انا عبد الله قال : هل حدثكم نبيكم كم يكون بعده من خلفاء قال : نعم اثنى عشر عدة نقباء بني اسرائيل (٢).

قال : (رحمه‌الله) حدثنا ابو علي احمد بن الحسن بن علي عبدويه قال : حدثنا ابو يزيد محمد بن يحيى بن خلف المروزي الرقي في شهر ربيع الأول سنة الثانية والثلاثمائة قال : حدثنا اسحاق بن ابراهيم الحنظلي في سنة ثمان وثلاثين ومائتين المعروف بإسحاق بن راهويه قال : حدثنا يحيى بن يحيى قال : حدثنا هشام بن مجالد عن الشعبي عن مسروق قال : بينا نحن عند عبد الله بن مسعود نعرض مصاحفنا عليه اذ يقول له شاب : هل عهد إليكم نبيكم كم يكون من بعده خليفة قال : انك لحدث السن وان هذا ما سألني عنه احد قبلك ، نعم عهد إلينا نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه يكون من بعده اثنى عشر خليفة بعدد نقباء بني اسرائيل (٣).

__________________

(١) في الاكمال «الرجال» بدل «الرجا»

(٢) اكمال الدين ٢٦٥.

(٣) أيضا ٢٦٥.

وقال : حدثنا احمد بن الحسن القطان قال : حدثنا ابو علي محمد بن علي بن اسماعيل السكري المروزي قال : حدثنا سهل بن عمار النيسابوري قال : حدثنا عمرو بن رزين بن عبد الله قال : حدثنا سفيان عن سعيد بن عمر عن الشعبي عن جابر بن سمرة قال : جئت مع ابي الى المسجد ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يخطب فسمعته يقول : (يكون من بعدي اثني عشر) يعني اميرا ثم خفض من صوته فلم ادر ما يقول فقلت لأبي ما قال : قال قال : (كلهم من قريش) (١).

وقال (رحمه‌الله) حدثنا عبد الله بن محمد الصائغ قال : حدثني ابو الحسن احمد بن محمد بن يحيى القصراني قال : حدثني ابو علي بشر بن موسى بن صالح قال : حدثنا ابو الوليد خلف بن الوليد البصري عن اسرائيل عن سماك قال : سمعت جابر بن سمرة السوري يقول : سمعت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : (يقوم من بعدي اثنى عشر اميرا) ثم تكلم بكلمة لم افهمها فسألت القوم قالوا : قد قال : (كلهم من قريش) (٢) نحمد الله الذي سدد مذهبنا وافلج حجتنا وارشدنا الى سبيل الهدى.

وهذه خطبة امير المؤمنين التي اشتملت على كثير من المطالب التي تكلمنا فيها روى ابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب الغارات (٣) عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن ابيه قال خطب علي (عليه‌السلام) بعد فتح

__________________

(١) أيضا ٢٦٧.

(٢) اكمال الدين ٢٦٧.

(٣) نقلها ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ٦ / ٩٤ عن كتاب الغارات للثقفي وانظر الغارات ص ٣٠٢ والظاهر من رواية الثقفي ان هذا الخطاب قرء بالنيابة عن امير المؤمنين (عليه‌السلام).

مصر وقتل محمد بن ابي بكر فقال : (اما بعد فان الله بعث محمدا نذيرا للعالمين وامينا على التنزيل شهيدا على هذه الأمة وانتم معاشر العرب يومئذ على شردين ، وفي شردار ، منيخون على حجارة خشنة ، وحيات صم ، وشوك مبثوث في البلاد ، وتشربون الماء الخبيث ، وتأكلون الطعام الخبيث ، تسفكون دماءكم ، وتقتلون اولادكم ، وتقطعون ارحامكم ، وتأكلون اموالكم بينكم بالباطل ، سبلكم خائفة ، والأصنام فيكم منصوبة ، ولا يؤمن اكثركم كم بالله الا وهم مشركون ، فمن الله عزوجل عليكم بمحمد فبعثه الله إليكم رسولا من انفسكم بلسانكم فعلمكم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة ، وامركم بصلة ارحامكم ، وحقن دمائكم ، وصلاح ذات البين ، وان تؤدوا الأمانات الى اهلها ، وان توفوا بالعهد ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها ، وان تعاطفوا وتباروا وتباذلوا وتراحموا ، ونهاكم عن التناهب والتظالم والتحاسد والتباغي والتقاذف ، وعن شرب الحرام ، وبخس المكيال ، ونقص الميزان ، وتقدم إليكم الا تزنوا ولا تربوا ولا تأكلوا اموال اليتامى ظلما ولا تعثوا في الأرض مفسدين ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين ، وكل خير يدنى الى الجنة ويباعد من النار امركم به ، وكل شر يدنى الى النار ويباعد من الجنة نهاكم عنه ، فلما استكمل مدته توفاه الله سعيدا حميدا فيا لها مصيبة خصت الأقربين ، وعمت المسلمين ، ما اصيبوا قبلها بمثلها ولن يعاينوا بعدها اختها ، فلما مضى لسبيله تنازع المسلمون الأمر بعده ، فو الله ما كان يلقى في روعي (١) ولا يخطر ببالي ان العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن اهل بيته ، ولا انهم منحوه عني ، فما راعني (٢) الا انثيال الناس على أبي بكر واجفالهم (٣) ليبايعوه ، فامسكت يدي (٤) ورأيت اني احق بمقام محمد (صلى الله

__________________

(١) الروع بضم الراء ـ : الخلد.

(٢) راعني : افزعني تقول للشيء الذي يفجؤك ما راعني الا كذا.

(٣) اجفالهم : ذهابهم مسرعين.

(٤) امسكت يدي : اي امتنعت من البيعة.

عليه وآله وسلم) في الناس ممن تولي الأمر من بعده ، فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الاسلام تدعوا الى محق دين (١) الله ، وملة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فخشيت ان لم انصر الاسلام واهله ان ارى فيه ثلما وهدما يكون المصاب بهما علي اعظم من فوت ولاية اموركم التي انما هي متاع ايام قلائل ثم تزول وما كان منها كما يزول السراب ، وكما ينقشع السحاب ، فمشيت عند ذلك الى ابي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون (٢) ، فتولى ابو بكر تلك الأمور وسدد وقارب واقتصد ، وصحبته مناصحا واطعته فيما اطاع الله فيه جاهدا ، وما طمعت ان لو حدث به حدث وانا حي ان يرد الى الأمر الذي بايعته فيه طمع مستيقن ، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه ، ولو لا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت انه لا يدفعها عني ، فلما احتضر بعث الى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا وناصحنا ، وتولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ، ميمون النقيبة ، حتى اذا احتضر قلت في نفسي ، لن يعد لها عني وليس بدافعها لغيري فجعلني

__________________

(١) محق الدين ابطاله.

(٢) وذلك ما حاصله ان بعض المرتدين من العرب ارادوا بيات المدينة وبلغ المسلمين ذلك فاستعدوا للأمر فخرج علي (عليه‌السلام) بنفسه مع المسلمين لحمايتها وكان على نقب من انقابها فما لبثوا الا قليلا حتى طرق القدم المدينة غارة مع الليل فما ذر قرن الشمس الا وقد ولوهم الأدبار وغلبوهم على عامة ظهرهم ورجعوا ظافرين فهذا ما اشار إليه (عليه‌السلام) وكأنه جواب لمن يقول انه عمل لأبي بكر وجاهد بين يديه فبين عذره في ذلك وقال انه لم يكن كما ظنه القائل ولكنه من باب دفع الضرر عن الدين والمسلمين وهذا واجب على كل حال ونقله ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٧ / ١٥٤ عن تاريخ الطبري وانظر تاريخ الطبري ٣ / ٢٤٤ ط الاستاذ محمد ابو الفضل ابراهيم حوادث ١١ سنة ١١.

سادس ستة فما كانوا لولاية واحد منهم اشد كراهية لولايتي عليهم ، كانوا يستمعون عند وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) احاج (١) أبا بكر واقول يا معشر قريش انا اهل البيت احق بهذا الأمر منكم أما كان فينا من يقرأ القرآن ويعرف السنة ويدين يدين الحق فخشى القوم ان انا وليت عليهم الا يكون لهم من نصيب ما بقوا فاجمعوا اجماعا واحدا فصرفوا الولاية الى عثمان واخرجوني منها رجاء ان ينالوها ويتداولوها اذ يئسوا ان ينالوها من قبلي ، ثم قالوا هلم فبايع والا جاهدناك فبايعت مستكرها وصبرت محتسبا فقال قائلهم : يا بن ابي طالب انك على هذه الأمر لحريص فقلت : انتم احرص مني وابعد أينا احرص انا الذي طلبت تراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى به أم انتم حين تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه ، فبهتوا والله لا يهدي القوم الظالمين ، اللهم اني استعينك (٢) على قريش فانهم قطعوا رحمي واكفئوا إنائي (٣) وصغروا منزلتي واجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه ثم قالوا الا ان في الحق ان تأخذه وفي الحق ان تمنعه فاصبر كمدا أو مت اسفا (٤) فنظرت فاذا ليس معي رافد ولا ذاب ولا ناصر ولا مساعد الا اهل بيتي فضننت بهم عن المنية ، فاغضيت على القذى وتجرعت ريقي على الشجى ، وصبرت من كظم الغيظ على امر من العلقم ، والم للقلب من حزّ الشفار ، حتى اذا نقمتم على عثمان اتيتموه فقتلتموه ، ثم جئتموني لتبايعوني فابيت عليكم وامسكت يدي فنازعتموني وبسطتم يدي فكففتها ، ومددتموها فقبضتها وازدحمتم علي حتى ظننت ان بعضكم قاتل بعض ، أو انكم قاتلي ، فقلتم بايعنا لا نجد

__________________

(١) في شرح النهج «لجاج».

(٢) وفيه «استعديك».

(٣) وفيه «واضاعوا إياي».

(٤) وفيه «اسفا حنقا».

غيرك ، ولا نرضى الا بك بايعنا لا نفترق ولا نختلف فبايعتكم ودعوت الناس الى بيعتي ، فمن بايع طوعا قبلته ومن ابى لم اكرهه وتركته ، فبايعني فيمن بايعني طلحة والزبير ولو ابيا ما اكرهتهما كما لم اكره غيرهما فما لبثا الا يسيرا حتى بلغني عنهما انهما خرجا من مكة متوجهين الى البصرة في جيش ما منهم رجل الا قد اعطاني الطاعة ، وسمح لي بالبيعة ، فقدما على عاملي ، وخزان بيت مالي وعلى اهل مصري الذين كلهم على بيعتي وفي طاعتي فشتتوا كلمتهم وافسدوا جماعتهم ، فقتلوا طائفة منهم غدرا وطائفة صبرا ومنهم طائفة غضبوا لله فشهروا سيوفهم ، وضربوا بها حتى لقوا الله عزوجل صادقين ، والله لو لم يصيبوا منهم الا رجلا واحدا معتمدين لقتله لحل به قتل ذلك الجيش باسره ، فدع ما انهم قتلوا من المسلمين اكثر من العدة التي دخلوا بها عليهم وقد أدال الله منهم فبعدا للقوم الظالمين ، ثم اني نظرت في أمر أهل الشام فاذا اعراب أحزاب وأهل طمع جفاة طغاة يجتمعون من كل أوب ممّن كان ينبغي ان يؤدب وان يولي عليه ، ويؤخذ علي يديه ، ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار ولا التابعين باحسان ، فسرت إليهم فدعوتهم الى الطاعة والجماعة فابوا الا شقاقا وفراقا ، ونهضوا في وجوه المسلمين ينظمونهم بالنبل ، ويشجرونهم (١) بالرماح ، فهناك نهدت (٢) إليهم بالمسلمين فقاتلتهم ، فلما اعضهم السلاح ووجدوا الم الجراح رفعوا المصاحف يدعونكم الى ما فيها ، فأنبئكم انهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن ، وانهم رفعوها مكيدة وخديعة وو هنا وضعفا فامضوا على حقكم وقتالكم ، فابيتم علي وقلتم : اقبل منهم فان اجابوا الى الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من الحق ، وان ابوا كان اعظم لحجتنا عليهم ، فقبلت منهم ، وكففت

__________________

(١) يشجرونهم بالرماح : يطعنونهم.

(٢) نهدت : نهضت.

عنهم ، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين يحييان ما احيى القرآن ، ويميتان ما أمات القرآن ، فاختلف رأيهما ، وتفرق حكمهما ونبذا ما في القرآن ، وخالفا ما في الكتاب ، فجنبهما الله السداد ودلاهما في الضلالة ، فانحرفت فرقة منا فتركناهم ما تركونا حتى اذا عاثوا في الأرض يقتلون ويفسدون أتيناهم فقلنا ادفعوا إلينا قتلة اخواننا ثم كتاب الله بيننا وبينكم ، قالوا : كلنا قتلهم ، وكلنا استحل دماءهم وشدت علينا خيلهم ورجالهم وصرعهم الله مصارع الظالمين ، فلما كان ذلك من شأنهم امرتكم ان تمضوا من فوركم ذلك الى عدوكم فقلتم : كلت سيوفنا ، ونفذت نبالنا ، ونصلت اسنة رماحنا ، وعاد اكثرها قصدا (١) فارجع بنا الى مصرنا لنستعد باحسن عدتنا فاذا رجعت زدت في مقاتلنا بعدد من هلك منا وفارقنا فان ذلك اقوى لنا على عدونا فاقبلت بكم حتى اذا اظللتم على الكوفة امرتكم ان تنزلوا بالنخيلة ، وان تلزموا معسكركم ، وان تضموا قواصيكم ، وان توطنوا على الجهاد انفسكم ، ولا تكثروا زيارة ابنائكم ونسائكم ، فان اهل الحرب لمصابروها ، واهل التشمير فيها الذين لا يتفادون من سهر ليلهم ، ولا ظمأ نهارهم ، ولا خمص بطونهم ، ولا نصب أبدانهم ، فنزلت طائفة منكم معي معذرة ، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية فلا من بقي منكم صبر ، وثبت ولا من دخل المصر عاد ورجع ، فنظرت الى معسكري وليس فيه خمسون رجلا فلما رأيت ما اتيتم دخلت إليكم ، فلما اقدر على ان تخرجوا الى يومنا هذا فما تنتظرون؟ أما ترون اطرافكم قد انتقصت والى مصركم قد فتحت؟ والى شيعتي بها قد قتلت؟ والى مسالحكم تعرى؟ والى بلادكم تغزى؟ وانتم ذوو عدد كثير وشوكة وبأس شديد ، فما بالكم يا لله انتم فمن اين تؤتون! وما لكم تؤفكون ولو انكم عزمتم واجمعتم لم تراموا ، الا ان القوم تراجعوا

__________________

(١) القصد جمع قصدة وهي القطعة المتكسرة.

وتناشبوا وتناصحوا وانتم قد ونيتم وتغاششتم وافترقتم ما انتم عندي على هذا بسعداء فانتهوا واجمعوا على حقكم وتجردوا لحرب عدوكم قد بدت الرغوة عن الصريح وبين الصبح لذي عينين انما تقاتلون الطلقاء وابناء الطلقاء ، واولى الجفاء من اسلم كرها وكان لرسول الله أنف (١) الاسلام كله حربا ، اعداء الله والسنة والقرآن ، واهل البدع والأحداث ، ومن كان بوائقة تتقى وكان على الاسلام مخوفا أكلة الرشا ، وعبدة الدنيا لقد انهى الي ان ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى اعطاه وشرط له أتية هي اعظم مما في يده من سلطانه ، الا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا ، وخزيت امانة هذا المشترى نصرة فاسق غادر باموال المسلمين ، وان فيهم من شرب فيكم الخمر وجلد الحد ، يعرف بالفساد في الدين ، وبالفعل السيئ ، وان فيهم من لم يسلم حتى رضخ له رضيخة (٢) فهؤلاء قادة القوم ومن تركت ذكر مساويه من قادتهم مثل من ذكرت منهم ، بل هو شر ويود هؤلاء الذين ذكرت لو ولوا عليكم فاظهروا فيكم الكفر والفساد والفجور والتسلط بجبرية ، واتبعوا الهوى وحكموا بغير الحق ، ولأنتم على ما كان فيكم من تواكل وتخاذل خير منهم واهدى سبيلا ، فيكم العلماء والفقهاء والنجباء والحكماء ، وحملة الكتاب ، والمتهجدون بالأسحار ، وعمار المساجد بتلاوة القرآن ، أفلا تسخطون وتهتمون ان ينازعكم [الولاية عليكم سفهاؤكم ، والأشرار الأرذال منكم فاسمعوا قولي ، واطيعوا] (٣) امري فو الله لأن اطعتموه لا تغووا ، وان عصيتموه لا ترشدوا خذوا للحرب اهبتها واعدوا عدتها ، فقد شبت نارها ، وعلا سناؤها ، وتجرد لكم فيها الفاسقون كي يعذبوا عباد الله ، ويطفئوا نور الله ،

__________________

(١) انف كل شيء اوله.

(٢) الرضيخة : العطية القليلة تعطى للانسان يصانع عن شيء آخر يطلب منه كالأجر والمراد قوم من المؤلفة قلوبهم اسلموا بعد الفتح.

(٣) ما بين المعقوفين ساقط من المتن.

الا انه ليس أولياء الشيطان من اهل الطمع والمكر والجفاء بأولي بالجد في غيهم وضلالهم من اهل البر والزهادة والأخبات في حقهم وطاعة ربهم ، والله لو لقيتهم فردا وهم ملأ الأرض ما باليت ، ولا استوحشت ، واني من ضلالتهم التي هم فيها والهدى الذي نحن فيه لعلى ثقة وبينة ويقين وبصيرة واني الى لقاء ربي لمشتاق ، ولحسن ثوابه لمنتظر ، ولكن اسفا يعتريني وحزنا ان يلي امر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا وعبادة خولا ، والفاسقين حزبا ، وايم الله لو لا ذلك لما اكثرت تأنيبكم (١) ، وتحريضكم ولتركتكم اذ ونيتم (٢) حتى القاهم بنفسي متى حم الى لقائهم ، فو الله اني لعلى الحق ، واني للشهادة لمحب ، فانفروا خفافا وثقالا وجاهدوا باموالكم وانفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون) (٣) ولا تثاقلوا الى الأرض فتقروا (٤) بالخسف (٥) وتبوروا بالذل ، ويكن نصيبكم الأخسر ان اخا الحرب اليقظان ، ومن ضعف اودي ، ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين.

اللهم اجمعنا واياهم على الهدى وزهدنا واياهم في الدنيا ، واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من الأولى.

انتهت الخطبة الجليلة واولها المشتمل على ذكر الثلاثة مصرح بنصب الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) امير المؤمنين إماما وخليفة ، وان الخلافة

__________________

(١) التأنيب : اشد اللوم.

(٢) ونيتم : فترتم.

(٣) التوبة : ٤١. والفاء من كلام الامام متصلة بالآية الكريمة.

(٤) تثاقلوا ـ بالتشديد ـ اصله تثاقلوا.

(٥) تقرّوا بالخسف : تعترفوا بالضيم وتبوروا : تهلكوا وفي رواية نهج البلاغة «تبوءوا» اي ترجعون به.

ميراثه من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهو قوله (عليه‌السلام) (انا الذي طلبت تراثي وحقي الذي جعلني الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اولى به) وهو نص مذهب اصحابنا الامامية وابن ابي الحديد يروى هذه الخطبة ويصححها ويعدل عما اشتملت عليه فلا يعمل به ، ولا يلتفت إليه كما هي عادته فيما يدل على مذهب الحق ويهدى الى سبيله ، من الأعراض عنه ، وترك دليله ، وصرح انه لم يبايع أبا بكر الا لخوفه على الاسلام من ارتداد من ارتد من العرب لا لأنه صحيح الامامة والا لبايعه قبل ذلك ، وصرح بان السبب الذي دعا القوم الى منعه من الخلافة علمهم انه اذا وليها لن ينالوها ابدا ، واذا كانت في غيره رجوا تداولها بينهم ، وصرح أيضا بانه بايع عثمان مستكرها حين قال له القوم : بايع والا جاهدناك ولم يجد عليهم ناصرا ، وصرح ان اولئك الجماعة من الظلمة حيث قال بعد ذكر حديثهم معه فبهتوا والله لا يهدي القوم الظالمين ، وهم في الحكم عند الخصوم سواء وكذا عندنا.

واما قوله في ابي بكر سدد وقارب واقتصد فنحن نقول بذلك فان أبا بكر لم يكن كثير الظلم للرعية ولسنا نقول انه مثل عثمان في احداثه ومعاوية في ظلم الناس وانما الداء الدوي فيه قعوده في منصب غيره بعلم منه وكذلك قوله (عليه‌السلام) في عمر فكان مرضى السيرة ميمون النقيبة يريد انه كان عند الناس كذلك ، وكان مراده من وصف الرجلين مقابلتهما بعثمان ليبين ان سيرتهما كانت مرضية عند المخاطبين بخلاف عثمان فانه كان غير مرضي السيرة وظهر منه ما اوجب عند العامة قتله بما نقموه عليه من افعاله مع ما في ذلك من التقية واستصلاح العامة بمدح الرجلين وابطال دعوى معاوية في زعمه الطلب بدم الثالث لأن قتله انما كان لما نقمه عليه الناس من مخالفة الشيخين في السيرة فليس لمعاوية ان يطالب بدم رجل قتل بسبب اعدائه وهذا من احسن الاستصلاح والطف الاحتجاج.

واما قوله (عليه‌السلام) (والله لو لم يصيبوا منهم الا رجلا واحدا متعمدين لقتله لحل به قتل ذلك الجيش باسره) فهو وان كان في الظاهر مشكلا من جهة جواز قتل الجماعة بالواحد من غير دية ما زاد عن واحد والمعروف في الحكم انه لو اشترك جماعة في قتل رجل كان لوليه ان يقتل واحدا من اولئك القوم والباقون يدفعون الى ورثته ما زاد من ديته على قدر ما عليه من دية المقتول الأول أو يقتل القاتلين جميعا ويدفع الى ورثة الجميع ما زاد عن دية الواحد مقسطا عليهم لكنه في الحقيقة ظاهر ومطابق للشرع لأن مراده من التعمد استحلال قتل المؤمن أو قتله لايمانه ولا خلاف ان قاتل النفس على احد هذين الوجهين مستحق للخلود في النار لأنه يكون مرتدا فلا فرق حينئذ بين ان يكون القاتل واحدا او جماعة قلوا او كثروا فهذا فقه كلامه (عليه‌السلام) وهو الحق الذي لا مرية فيه وقوله (عليه‌السلام) : (فما لكم تؤفكون) يعني تصرفون عن الحق او عن طاعة امرى ، او عن قتال عدوكم وحماية حوزتكم ونصر من كان على ما انتم عليه وحفظ البلاد التي في ايديكم لئلا يملكها عدوكم وهذا أنسب بالسياق ، والكلام تعجب من تقاعدهم عن الجهاد حتى طمع فيهم العدو وتجرى على أخذ اطرافهم وبلدانهم مع معرفتهم انهم على الحق وان عدوهم على الباطل وذلك موضع العجب اذ يعجز أهل الحق عن القيام به والجهاد دونه ويقوم اهل الباطل دون باطلهم يجالدون وقوله : (بدت الرغوة عن الصريح) مثل لزوال الشبهة وانكشاف الحال عن فسق معاوية وتابعية ووجوب قتالهم لبغيهم وضلالهم وعدم عملهم بالكتاب العزيز فلا حجة في ترك جهادهم والرغوة الزبد الذي يعلوا اللبن ومثله قوله : (وبين الصبح لذي عينين) وهو كناية أيضا عن وضوح الأمر وظهوره يقول بان للبصير استحقاق معاوية واصحابه القتل لنبذهم الحق واقتحامهم في غمرة الباطل.

وقوله (ع) : (ألا صفرت يد هذا البائع دينه) صفرت كتعبت خلت من

ثمن ما باعه وهو اشارة الى قصة عمرو بن العاص ومعاوية حيث شرط عمرو على معاوية لما دعاه الى معونته على حرب امير المؤمنين ان يعطيه مصر طعمة له ولولده فتبا له كانه يظن ان معاوية لا يزول ملكه ولا يتغير امره ، ولقد لبث عمرو قليلا فهلك ولم يف له معاوية بجميع ما شرط له ولم يعط ولده مصر بعد ارتحاله الى الجحيم والعذاب الأليم ، وهكذا حال القوم سجيتهم الغدر وشيمتهم المكر وبضاعتهم التي يبثونها في الناس الكذب يخدعون به الطغام ، ويجلبون به اللئام كجلب الأغنام ، فبعدا لهم كما بعدت ثمود.

وقوله : (وخزيت امانة هذا المشترى نصرة فاسق غادر باموال المسلمين) خزيت اي ذلت وهانت من باب تعب أيضا.

قوله : (حتى رضخت له رضيخة) رضخت مبينا للمفعول من رضخ كنفع والرضيخة فعيلة بفتح الفاء مال ليس بالكثير أي لم يسلم حتى جعلت له عطية يسيرة اسلم لأجلها لا رغبة في الاسلام وهو معاوية وقادة القوم رؤسائهم الذين رضخت لهم الرضائخ على الاسلام جماعة منهم ابو سفيان وابناه معاوية ويزيد ، وحكيم بن حزام بن خويلد ، وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام بن المغيرة ، وحويطب بن عبد العزي ، وصفوان بن امية وعمير بن وهب الحميان ، وعينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي وعباس بن مرداس السلمي ، وجماعة غيرهم أيضا وهم المؤلفة قلوبهم الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن الكريم وذكرهم اهل السير.

قوله : (تواكل وتخاذل) وهو اتكال القوم بعضهم على بعض وخذلان بعضهم بعضا فتضيع بذلك امورهم وتنتشر كلمتهم ويحصل فيهم الوهن والضعف عن مقاومة عدوهم ، ولم شعثهم وشعب صدعهم ، والتهجد قراءة القرآن في جنح الليل في الصلوات ، والمنازعة كالمجاذبة وهي طلب كل واحد ما في يد آخر.

وقوله : (فو الله لأن اطعتموه لا تغووا وان عصيتموه لا ترشدوا) ضمير المفعول في الفعلين يعود الى قوله امري وهو صريح في ملازمته الصواب في جميع الأحوال ومصاحبته للرشد في جميع الأقوال ، وان من اطاع امره هدى الى الحق ومن عصاه فارق الرشد ، وهذه هي العصمة التي ندعيها له وللأئمة من ولده واقمنا عليها الشواهد الصحيحة واثبتنا عليها الحجج القائمة ومثله قوله : (فو الله اني لعلى الحق) والتأنيب التلويم على القعود عن الجهاد ، والتحريض دعاؤهم الى الحرب واغراؤهم بها ، وونيتم من الونى اي ضعفتم وفترتم ، والتثاقل الى الأرض كناية عن عدم النهوض الى اصلاح امرهم وجهاد عدوهم فتقروا بالخسف اي بالهوان قال الشاعر.

ولا يقيم على ضيم يراد به

الا الأذلان عير الحي والوتد

هذا على الخسف مربوط برمته

وذا يشج فلا يرثى له احد

وتبوءوا بالذل ترجعون ملابسين له ، واودي هلك اي من ضعف عن عدوه هلك لضعفه عن المدافعة والمغبون الخاسر ، والمهين الذليل المحتقر ، والزهد ترك زهرة الدنيا وادناه كما روى عن الصادق (عليه‌السلام) (طلب الحلال) والزهد في الشيء الرغبة عنه ، والميل الى غيره ، وبقي في الخطبة اشياء قد نبهنا عليها فيما سبق من مباحث هذا الكتاب واشارات الى امور يطول شرحها وقد تكفلت ببيانها كتب السير والتواريخ فهي لا تخفى على من له اطلاع بها وما رمنا اثباته هنا قد انتهى وبلغنا بحمد الله في توضيحه الى الغاية القصوى وفقنا الله للعمل بما يرضيه وعصمنا عن التهجم على معاصيه وثبتنا على دينه القويم ، وهدانا الى صراطه المستقيم ، ورزقنا صدق النية واعطانا خير الأمنية ، وبصرنا سبيل الهدى ودلنا على سفينة النجاة التي من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى ، وختم لنا بالسعادة وأماتنا على الملة واحيانا حياة طيبة وجعلنا للصالحين رفيقا ، ورفعنا عنده في الجنة درجة ،

واتانا من الخير نصيبا وقربنا إليه زلفى ، ورزقنا شفاعة نبينا وسيدنا محمد المصطفى وآله الكرام المشفعين في يوم الجزاء ، وسقانا من حوضه بكأسه الأوفى شربة لا ظمأ بعدها ابدا اللهم اجب دعوتنا ، وانصر ملتنا وافلج حجتنا وعجل فرج ولينا وانصرنا به نصرا عزيزا ، وافتح لنا به فتحا مبينا بحق نبيك وحبيبك خاتم الأنبياء وآله النجباء ، انك على كل شيء قدير وبالاجابة جدير ، وقد وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب وجمعه وتحريره وزبره وتنميقه وسطره في اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة الحرام من سنة ١٢٩٥ والحمد لله أولا وآخرا ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين الى يوم الدين ، ثم انتقل من السواد الى البياض بعد امضاء العزيمة والانتهاض على يد مؤلفة الفقير الى الله علي بن عبد الله في اليوم ١٩ من شهر رجب الأصب سنة ١٢٩٦ والحمد لله على نعمة الختام والفوز بالكمال والتمام كما تم تنقيحه وتصحيحه ، وتخريج مصادره ، والتعليق عليه على يد العبد الفقير الى الله الغني عبد الزهراء الحسيني الخطيب في ايام آخرها اوّل شعبان سنة ١٤٠٢ اثناء إقامتي في قرية الدراز في البحرين وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الأبيات لخادم مصنف الكتاب في تاريخه ومدح المصنف قلتها بعد نسخ الكتاب وانا الأقل خادم المصنف وتلميذ المؤلف تراب اقدام العلماء احمد بن محمد بن سرحان البحراني (١).

منار الهدى يهدي لمن هو يبصر

ويكمد اعداء الى الحق ينكر

عباراته در تألق نورها

والفاظه شهب لدى الدر تزهر

معانيه اقمار تجاوب مثلها

وابوابه حاطت بها فهي تبهر

اجل من الشافي (٢) وان كان سابقا

فكم حاز فضلا لاحق متأخر

مقدمة فيه حوت جل كنهه

وفصلان كالبدرين بل هما انور

به ذبلت من دوحة الشرك اغصن

وحل بها جدب فها هي تحسر

وقامت به للدين راية رفعة

على شمس هذا الأفق تعلو وتفخر

اقام لما قد كاد من دين احمد

يمال ومن نص الخلافة ينكر

لقد اثبتت بالنص فيه إمامة

لخير الورى وهو الوصي المطهر

وعترته الهادين في كل ريبة

غيوث الورى شبه الأهلة نور

__________________

(١) ناظم الأبيات ابن اخت المؤلف كما في الذريعة.

(٢) يريد الشافي في الامامة للشريف المرتضى وهذا من المبالغة في الشعر والا فكل من كتب في الامامة فمن الشافي استمد وعليه اعتمد.

فيا قد رعاك الله لست بماين

ولا مدع ما ليس فيك فافخر

رضعت ثدي العلم مذ كنت يافعا

وجاريت فيه اهله لست تقصر

حوى صدرك الواعي العلوم باسرها

فها هي في الآفاق تنمو وتنشر

فيا لك من صدر حوى كل حكمة

واسرار علم الله فيه تستر

فعلمك مشهور وفضلك ظاهر

وجاهك اجلى من سنى البدر انور

وربيت في حجر البلاغة لم تزل

تجاوب فيها اهلها ثم تقهر

فها انت بحر العلم في العصر كله

فليس سواك اليوم بالفضل يذكر

وردت حياض المجد عند صفائها

فارويت منها صافيا لا يكدر

منار الهدى الفته طالبا به

نجاة من الباري فهيهات تخسر

لقد قلت فيه مادحا ومؤرخا

منار الهدى يشفى الصدور ويبهر

١٢٩٥

مصادر التحقيق

أسباب النزول للواحدي

ط القاهرة ١٣٨٨ ه

الاستيعاب لابن عبد البر

حاشية الاصابة

اسد الغابة لابن الاثير

ط مصر ١٢٨٠

إسعاف الراغبين لابن الصبّان المالكي

هامش نور الابصار

الإشارات لابن سينا

ط القاهرة ١٩٦٨ م

إكمال الدين للصّدوق

ط النجف الاشرف ١٣٨٩

إلزام الناصب للحائري

ط النجف الاشرف

الامامة والسياسة لابن قتيبة

ط القاهرة ١٣٧٧

أنوار البدرين للشيخ علي البلادي

ط النجف الاشرف

البداية والنهاية لابن كثير

ط القاهرة

تاريخ بغداد للخطيب

ط القاهرة ١٣٦٠

تاريخ دمشق لابن عساكر

مخطوطة الظاهرية

تاريخ الرسل والملوك للطبري

ط الحسينية ، وليدن أيضا

تفسير الرازي

المطبعة البهية / القاهرة ١٣٠٢

تفسير العيّاشي

ط إيران ١٣٨٠

تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي

ط النجف الاشرف.

تهذيب اللغة للازهري

ط الدار المصرية للتأليف والنشر ١٣٨٧

حلية الأولياء لابي نعيم

ط القاهرة ١٣٥١

الخصائص للنسائي

ط النجف وط مصر

دعائم الاسلام للقاضي النعمان

ط مصر

الدر المنثور للسيوطي

ط القاهرة ١٣٤٨

ذخائر العقبى للمحب الطبري

ط القاهرة ١٣٥٦

الرياض النضرة للمحبّ الطبري

ط القاهرة

سفينة البحار للقمي

ط النجف الاشرف

سنن ابن ماجة

ط الهند.

سنن البيهقي

ط حيدرآباد ١٣٤٤

سنن الترمذي

ط القاهرة

السيرة النبويّة لابن هشام

ط دار الجيل / بيروت ١٩٧٥ م

الشافي للمرتضى

ط ايران ١٣٠١ ه

شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد

ط محمد ابو الفضل ابراهيم

شهداء الفضيلة للاميني

ط النجف الاشرف

صحيح البخاري

ط القاهرة ١٣٢٠ ه

صحيح مسلم

ط القاهرة ١٢٩٠ ه

صفين لنصر بن مزاحم

ط القاهرة

الصواعق المحرقة لابن حجر

ط القاهرة

الطبقات الكبرى لابن سعد

ط ليدن

عبقرية الشريف الرضي للدكتور زكي مبارك

ط القاهرة

العقد الفريد لابن عبد ربّه المالكي

ط دار الترجمة والنشر ، القاهر

عيون الاثر لابن سيد الناس

دار الآفاق الجديدة / بيروت

الغارات لابن هلال الثقفي

ط ايران

الغدير للاميني

ط ثانية

الفتوحات المكيّة لابن عربي

ط مصر ١٣٩٢

فتوح الشام للواقدي

ط الحلبي / القاهرة ١٣٨٥

فيض القدير للمناوي

ط القاهرة ١٣٥٦

القاموس المحيط للفيروزآبادي

الكافي للكليني

ط ايران ١٣٨٨

الكامل في التاريخ لابن الاثير

ط بيروت

الكامل للمبرد

ط دار العهد الجديد القاهرة

الكشاف للزمخشري

ط الحلبي / القاهرة ١٣٨٧ ه

كفاية الطالب للكنجي

ط القاهرة

الكنى والالقاب

ط النجف الاشرف ١٣٧٦

كنز العمّال للمتّقي الهندي

١٣١٢

المراجعات لشرف الدين

ط بيروت

مروج الذهب للمسعودي بتحقيق الشيخ محمد

محي الدين عبد الحميد

ط القاهرة

مستدرك الحاكم

ط حيدرآباد ١٣٢٤

مسند الامام أحمد

ط القاهرة ١٣١٣

مصادر نهج البلاغة واسانيده للحسيني

ط بيروت طبعة ثانية

المصباح المنير للفيومي

ط القاهرة

مطالب السئول لابن طلحة الشافعي

ط النجف الاشرف

المعارف لابن قتيبة

ط دار المعارف / القاهرة ١٣٨٨

معجم الأدباء لياقوت الحموي

ط القاهرة

معجم البلدان لياقوت الحموي

ط بيروت

مقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصبهاني

ط السيد احمد الصقر ، القاهرة

المناقب للخطيب الخوارزمي

ط النجف الاشرف

الملل والنحل للشهرستاني

ط دار الاتحاد العربي / القاهرة ١٣٨٧ ه

النهاية في غريب الحديث لابن الاثير

ط القاهرة

نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده

نور الابصار للشبلنجي

ط القاهرة ١٣٧٠

محتويات الكتاب

(١)

الموضوعات

الصفحة

الموضوع

٥

مقدّمة التحقيق.

١٣

ديباجة الكتاب.

١٩

مقدمة وفيها بحثان.

١٩

المبحث الأوّل في الإمامة.

٢٧

المبحث الثاني هل أنّ نصب الامام واجب أم لا؟

٢٩

الإمام لطف من الله تعالى في حقّ عباده.

٣٨

الردّ على من قال : الإمامة واجبة على العباد عقلا

٤٠

طرف من حديث السقيفة.

٥٠

فائدة جليلة.

٥١

لا يجوز خلو الارض من إمام.

٥٢

النبوّة لطف خاصّ والإمامة لطف عام.

٥٥

لله تعالى الحجّة على الناس ولا تقوم إلّا بنصب مرشد وفيه خمس مقدمات.

٥٥

المقدّمة الأولى إنّ حكم الله تعالى واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين.

٦٤

المقدّمة الثانية إنّ النبي (ص) بيّن الأحكام للامة مجملا وللامام مفصلا.

الصفحة

الموضوع

٧٣

المقدّمة الثالثة إنّ الله تعالى في كلّ واقعة حكما ولا يريد إلّا العمل بحكمه.

٧٨

المقدّمة الرابعة لا يكلّف الله سبحانه بما لا سبيل الى معرفته.

٧٩

المقدّمة الخامسة لا طريق الى معرفة الحكم المعين إلّا من جهة بيان الامام.

٨٣

(من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

٨٥

المراد بالإمام إذا أطلق إمام الجميع.

٩٤

الردّ على من قال بجواز خلو العصر من إمام.

الفصل الأوّل في شروط الامام ويشمل على مسائل.

١٠١

المسألة الأولى في عصمة الإمام وأدلّتها.

١١٩

يجب عصمة الإمام عن الغلط والنسيان والسّهو كوجوب عصمته من الآثام.

١٢١

المسألة الثانية يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه.

١٢٣

الإمام يجب أن يكون أعلم الناس.

١٢٣

الإمام يجب أن يكون أسخى الناس.

١٢٤

الإمام يجب أن يكون أحلم الناس.

١٢٤

الإمام يجب أن يكون أشجع الناس.

١٢٥

تقديم المفضول على الأفضل قبيح عقلا ونقلا.

١٣٦

طرف من تظلّم علي عليه‌السلام.

١٣٩

المسألة الثالثة يشترط في أن يكون قريبا من النبي (ص).

١٤٢

القرابة بمفردها لا يستحق بها الإمامة.

١٤٢

بين الرشيد والكاظم عليه‌السلام في هذه المسألة.

١٤٥

المسألة الرابعة في طريق الإمامة.

الصفحة

الموضوع

١٥٠

فحوى بعض الآيات وصراحة بعضها في كون الإمامة موقوفة على النصّ.

١٥٦

الإمامة خلافة الله في أرضه.

١٥٧

لا يجوز لغير الله سبحانه التحليل والتحريم.

١٥٩

يجب طاعة الإمام ولا تجوز معصيته.

١٦٢

الإجماع لم يحصل على أحد بعد الرسول (ص).

١٦٩

وصف الامام الرضا عليه‌السلام للامام.

١٧٧

الفصل الثّاني في ذكر النصوص على علي والأئمة من ولده عليهم‌السلام وفيه مسائل.

١٧٩

المسألة الاولى إيراد النصوص على أمير المؤمنين (ع) خاصّة.

١٨٢

قصة تبليغ براءة في الموسم.

١٨٨

كلمة للحسن البصري حول القصّة.

١٩١

ما ورد من النصوص بلفظ الإمامة.

١٩٣

توجيه ابن ابي الحديد بأنّ المراد بالإمامة في النصوص الإمامة في الفتوى.

١٩٣

ردّ المؤلف عليه.

١٩٨

طرف من أخبار السقيفة.

٢٠٢

ما ورد من النصوص بلفظ الإمرة.

٢٠٣

ما ورد بلفظ الوصيّ.

٢٠٤

أشعار الصحابة والتابعين في الوصاية.

٢٠٧

معنى الوصيّ والوصيّة.

٢٠٨

اعتراف ابن أبي الحديد بالوصيّة وعجزه عن توجيهها والرّد عليه.

٢١٣

ما ورد بلفظ الخليفة.

الصفحة

الموضوع

٢١٤

ما ورد بلفظ الوزارة.

٢١٥

ما ورد بلفظ الطاعة.

٢١٦

عليّ عليه‌السلام نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٢١٩

ما ورد بلفظ التمسك.

٢٢١

استبعاد القوشجي سماع الصحابة للنصوص ومخالفتها وردّ المؤلف عليه.

٢٢٢

(أنا مدينة العلم وعليّ بابها) وأحاديث أخرى.

٢٢٤

حديث الثقلين.

٢٢٦

ما ورد بلفظ الولي في القرآن والسّنّة.

٢٢٦

نزول (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية.

٢٣٠

خبر الغدير.

٢٥١

(إنّ عليّا مني وأنا من عليّ ... الحديث).

٢٥٤

حديث المنزلة.

٢٥٨

ما ورد بلفظ الوراثة.

٢٦١

ما ورد بلفظ الأحقيّة والأولوية.

٢٦٤

ما ورد بلفظ المختار.

٢٦٨

ما ورد بلفظ المحبّة وحديث الطير والراية.

٢٧٠

ما ورد بلفظ الأعلميّة.

٢٧١

ما ورد بلفظ الأقربيّة.

٢٧٣

ما ورد أنّه أشدّ جهادا.

٢٧٤

ما ورد أنّه مع الحقّ.

٢٧٥

ما ورد بأنّه خير الأمّة.

٢٧٦

خبر العقيلي في مجلس عمر بن عبد العزيز.

الصفحة

الموضوع

٢٨٠

نسب علي عليه‌السلام.

٢٨١

عليّ عليه‌السلام أعلم الصحابة.

٢٨٢

جملة من قضاياه عليه‌السلام.

٢٨٤

عليّ أحلم الصحابة.

٢٨٥

قدمه في الإسلام.

٢٨٨

عليّ عليه‌السلام أشجعهم واكثر جهادا.

٢٩٢

سخاؤه عليه‌السلام.

٢٩٣

زهده عليه‌السلام.

٢٩٤

عبادته عليه‌السلام.

٢٩٥

إنّه أحفظ الصحابة للقرآن الكريم.

٢٩٦

إنّه افصح الصّحابة.

٢٩٧

سياسته عليه‌السلام.

٢٩٧

عدله في الرعيّة.

٢٩٨

عليّ أحرص الصحابة على إقامة الحدود.

٢٩٩

ولادته في الكعبة المشرفة.

٣٠٢

من ذهب الى تفضيل علي عليه‌السلام من الصحابة وغيرهم.

٣٠٥

رد المؤلف على القوشجي بتفضيل غيره.

٣٠٨

مناقشة المؤلف لبعض الأحاديث.

٣٢٤

علي هو الصّدّيق الأكبر.

٣٣٦

ما نزل من القرآن في علي عليه‌السلام.

٣٤٢

مناقشة المؤلف لحديث (خذوا نصف دينكم من الحميراء).

٣٤٣

بين عمر وابن عباس حول الخلافة.

٣٥٣

مبيت علي عليه‌السلام ليلة الهجرة في فراش النبي (ص).

الصفحة

الموضوع

٣٥٦

ردّ علي عليه‌السلام للودائع بمكّة.

٣٥٧

حديث سدّ الابواب ، إلّا باب علي عليه‌السلام.

٣٥٨

مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام يوم الطائف.

٣٦٠

اختصاص النبي بعلي في الحضر والسفر.

٣٦١

بين أم سلمة وعائشة حول الخروج إلى البصرة.

٣٦٤

(لو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح ... الحديث).

٣٦٧

لعليّ عليه‌السلام ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة.

٣٦٨

حديث (الصديقون ثلاثة ...).

٣٦٨

حديث (إنّ فيك شبها من عيسى ...).

٣٦٨

حديث (هذا وليي ...).

٣٧٠

حديث (إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن ...).

٣٧٠

حديث (إنّ الملائكة صلّت عليّ وعلى علي سبع سنين).

٣٧١

(لا سيف إلّا ذو الفقار ...).

٣٧٢

(برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه).

٣٧٤

اسلام الراهب على يد عليّ واستشهاده في صفّين.

٣٧٩

تميم وتكميل في ذكر طائفة من الاخبار الدالة على إمامة امير المؤمنين (ع).

٣٨١

نزول (سَأَلَ سائِلٌ).

٣٨٢

نزول (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية.

٣٨٤

احاديث أخرى في فضائل علي (ع).

٣٨٩

نزول (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

٣٩١

نزول (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) الآية.

الصفحة

الموضوع

٣٩١

نزول (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً).

٣٩١

نزول آيات أخرى في علي عليه‌السلام.

٣٩٢

صفة ضرار لعلي عليه‌السلام عند معاوية.

٣٩٥

الردّ على ابن أبي الحديد لقوله (لم يحتج عليّ بالنصر يوم السقيفة).

٤٢٢

رد المؤلف على القوشجي لانكاره النّص على علي عليه‌السلام.

٤٢٤

لما ذا دخل عليّ عليه‌السلام في الشّورى.

٤٣١

الاجتهاد في مقابل النّص.

٤٣٢

مخالفة النبي (ص) في التخلّف عن جيش أسامة.

٤٣٤

مخالفة أمره (ص) بقتل ذي الخويصرة.

٤٣٦

حول فدك.

٤٣٨

إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس.

٤٣٩

رزية يوم الخميس.

٤٤٠

أنفة عمر من الصلح يوم الحديبية.

٤٤١

قصة النعلين ، والتفضيل في العطاء.

٤٤٢

إسقاط (حي على خير العمل من الأذان).

٤٤٢

تحريم المتعتين.

٤٤٥

تجويز القوشجي مخالفة النبي بالاجتهاد والرد عليه.

٤٥٠

ردّ عثمان للحكم بن العاص.

٤٥٠

انكار عائشة الوصيّة.

٤٥١

كيد بداية الزبير وكيف نهايته.

٤٥١

رد سعد حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غنائم بدر.

٤٥٢

ردّ طلحة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في آية الحجاب.

الصفحة

الموضوع

٤٥٢

تجاهل سعد بن عبادة حقّ عليّ وطلبه الرئاسة.

٤٥٣

مناشدة علي انس بن مالك يوم الرحبة ودعاؤه عليه.

٤٥٤

مخالفات أخرى.

٤٥٦

الطعن على النبي (ص) في تأمير زيد بن حارثة.

٤٦١

لما ذا لم يضرب النبي (ص) أعناق مخالفيه.

٤٦٥

قول النبي (ص) لعلي (ع) : (إنّ الأمة ستغدر بك).

٤٧٧

من تظلّم أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٤٩٦

ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أصحابه.

٤٩٩

بين عمر وابن عباس حول الخلافة.

٥٠٥

معنى الإرادة.

٥٠٧

بين ابن عباس وعمر حول الخلافة.

٥١٠

كان علي مفزع عمر في النوازل.

٥١٢

بين عمر وابن عباس حول علي عليه‌السلام.

٥٢٧

ظهور المعجز على يد أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٥٢٩

بعض اخباره بالمغيّبات.

٥٣٥

جويرية بن مصهر العبدي.

٥٣٦

ميثم التّمار.

٥٣٩

رشيد الهجري.

٥٣٩

مزرع صاحب علي.

٥٤٠

مرور علي عليه‌السلام بكربلاء في طريقه الى صفّين.

٥٤٥

سؤال وجواب : لما ذا قعد عليّ عليه‌السلام عن المطالبة بحقّه.

٥٥٤

فائدة مهمة في الصلاة ايام مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الصفحة

الموضوع

٥٧٠

في النّص على إمامة العترة المحمّدية.

٥٧٩

حديث الثقلين.

٥٨١

(الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة).

٥٨٤

فضل حمزة وجعفر عليهما‌السلام.

٥٨٨

آية المودّة.

٥٩٥

آية الاعتصام.

٥٩٧

الولاية والوصيّة والوراثة.

٦٠٣

أهل البيت عليهم‌السلام هم الناس المحسودون على ما آتاهم الله.

٦٠٤

الاقوال والأفعال الدالّة على فضلهم.

٦١٣

الائمة اثنى عشر لا يزيدون ولا ينقصون.

٦١٦

تخصيص الإمامة بهم.

٦٢٥

ما ورد في المهدي عليه‌السلام.

٦٢٩

المعمّرون من الناس.

٦٣١

علّة استتار المهدي عليه‌السلام.

٦٤١

ما ورد فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

٦٤٣

علامات ظهوره عليه‌السلام.

٦٤٤

عصمة الأئمة عليهم‌السلام من الكتاب والسنّة والأخبار.

٦٧٦

ما ورد عن النبي (ص) في الأئمة من طرق الاماميّة.

٦٨٣

خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام تشتمل على مطالب كثيرة.

٦٩٠

شرح الخطبة.

٦٩٥

كلمة الختام.

٦٩٧

ابيات في تاريخ الكتاب.

(٢)

الهوامش

الصفحة

الموضوع

٢٥

ابن أبي يعفور الكوفي.

٢٧

أبو بكر الأصم.

٢٧

هشام بن عمرو الفوطي.

٣٠

علاء الدين القوشجي.

٣٢

نصير الدين الطوسي.

٣٤

الصّدوق.

٣٤

ابن قبّة.

٣٤

العلّامة الحلي.

٤٠

أبو بكر الجوهري.

٤٠

ابن جرير الطبري.

٤٠

البلاذري.

٤٣

مصادر (كانت بيعة أبي بكر فلتة).

٤٣

معن بن عدي البلوي.

٥٤

المحياة بنت خالد بن سنان العبسي.

٦١

مصادر حديث الثقلين.

٦٣

ربيعة الرأي.

٦٣

أبو حنيفة.

الصفحة

الموضوع

٦٨

مسيلمة الكذاب.

٦٩

زيد بن ثابت الانصاري.

٧٠

عبد الله بن مسعود الهذلي.

٧١

كميل بن زياد النخعي.

٧٢

حذيفة بن اليمان العبسي.

٨٢

مصادر (من مات ولم يعرف إمام زمانه .. الحديث).

٨٢

ابو جعفر الاسكافي.

٨٦

كلمة لابي حنيفة بالنسبة للتعاون مع الظلمة.

٩٤

أبو علي الجبائي المعتزلي.

١٠٢

أبو الحسين البصري.

١٠٩

 مصادر (لا تزال طائفة من أمّتي ظاهرين على الحقّ ... الحديث).

١١٦

مصادر وصية الإمام علي لولده الحسن عليهما‌السلام.

١١٨

لا تكون فتنة وعليّ أميرها.

١٢٠

ذو اليدين ورواية سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٢٨

أسامة بن زيد.

١٢٩

أبو الدرداء.

١٣٢

مصادر التأمير على الشيخين.

١٣٥

(لو لا عليّ لهلك عمر).

١٣٩

(الأئمة من قريش).

١٤١

نوح بن درّاج.

١٤١

أبو بكر بن عبّاس.

١٤١

نيّلة أم العباس بن عبد المطلب.

١٤٤

عبد الله الأفطح.

الصفحة

الموضوع

١٦٦

عيينة بن حصين الغزاري.

١٦٧

الاقرع بن حابس.

١٨٤

إجمال قصّة براءة.

١٩٩

مصادر غريق باب فاطمة عليها‌السلام.

٢٠٤

أبو الهيثم بن النّبهان.

٢٠٥

خزيمة بن ثابت الأنصاري.

٢٠٦

النعمان بن العجلان الأنصاري.

٢٠٧

انكار عائشة للوصيّة.

٢١٢

مصادر قول النبي (ص) لعمار (تقتلك الفئة الباغية).

٢١٣

كلمة لأبي جعفر الاسكافي حول مبيت علي (ع) في فراش النبي (ص).

٢٢٥

حول (أصحابي كالنجوم ... الحديث).

٢٢٨

السّدى ومجاهد ، وعطاء ، والثعلبي ، والرازي.

٢٢٩

الرّماني ، والطّبري.

٢٣١

علاء الدين القوشجي.

٢٤٦

تهنئة عمر لعلي (ع) يوم الغدير.

٢٤٧

حول (لا تجتمع أمّتي على ضلال).

٢٥٤

مصادر حديث المنزلة.

٢٦٩

مصادر حديث الطير.

٢٧٤

مصادر حديث الراية.

٢٧٥

تامرا ولخافيق.

٢٨٠

ما كتبه معاوية لابن العاص لما أصيب عليّ عليه‌السلام.

٢٨٢

من قضاء علي عليه‌السلام.

الصفحة

الموضوع

٢٨٥

عليّ أوّل القوم إسلاما.

٢٨٩

بيضة البلد.

٢٩١

قول علي عليه‌السلام : (ما قلعت باب خيبر بقوّة جسدانية).

٢٩٦

مصادر قصّة التحكيم.

٣٠١

ولادة عليّ عليه‌السلام في الكعبة.

٣٠٦

ما وضعه عروة بن الزبير من الحديث في ذمّ عليّ والعباس.

٣١٢

تفسير بيت لجرير.

٣١٥

عليّ ذو قرنيها.

٣١٧

الثابتون مع النبي (ص) يوم حنين.

٣٢٤

عليّ الصّدّيق الاكبر.

٣٢٥

حول (إنّ آل ابي طالب ليسوا لي بأولياء).

٣٢٧

من الأحاديث الموضوعة.

٣٣٤

تلاعب بعضهم في حديث رواه مسلم.

٣٤٢

إنكار ابن حجر لحديث (خذوا دينكم من بيت الحميراء).

٣٥٧

مصادر حديث سد الابواب إلّا باب علي (ع).

٣٦١

قديد (موضع).

٣٦١

أبيات للناصر العباسي فيمن يبغض عليا (ع).

٣٦٥

مصادر (أقيلوني فلست بخيركم).

٣٦٦

قول عمر (رض) : (كلّ الناس أفقه من عمر).

٣٧٤

عمر بن سعد بن أبي الصّيد.

٣٩٣

ضرار بن ضمرة.

٤١٤

ذكر أبي جعفر الاسكافي للاسباب التي دعت لزحزحة علي (ع) عن الخلافة.

الصفحة

الموضوع

٤٣٢

ذو الخويصرة رأس الخوارج.

٤٣٩

زحف خالد بن الوليد على البطاح.

٤٤١

قصة النعلين.

٤٤٧

عبد الله بن عمير الليثي مع الباقر عليه‌السلام حول المتعة.

٤٤٨

كلمة لابن ابي الحديد أنّ معاوية لو رأى في المنام أنه خليفة لما صدّق.

٤٥٢

كلمة للجاحظ في كلام بين طلحة وعمر.

٥١٩

مصادر (علي مع الحق والحقّ مع علي).

٥٢١

صعصعة بن صوحان العبدي.

٥٤٧

قلع علي عليه‌السلام لباب خيبر.

٥٥٦

أسيد بن حضير.

٥٥٨

بريدة الأسلمي.

٥٩٨

عهد النبي (ص) لأبي أيوب الأنصاري بالقتال مع علي عليه‌السلام.

٥٩٩

حديث (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب.

٦١٣

حديث (الاثني عشر خليفة).

٦١٤

بشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإمام الباقر (ع).

٥١٦

ابو فرّاس الحمداني.

٦٢٠

قول علي (ع) : (علّمني رسول الله الف باب من العلم ... الحديث).

٦٢٦

رد الامام كاشف الغطاء على القصيدة الغفل التي وردت الى النجف.

٦٣٦

الفاراببي ، وابن سينا ، والسهروردي.

الصفحة

الموضوع

٦٤٩

بين الفضل اللهبي والفرزدق.

٦٥٩

قول النبي (ص) لأم سلمة : (أنت على خير).

٦٨٥

دفاع أمير المؤمنين (ع) عن المدينة بعد وفاة النبي (ص).

منار الهدى في النصّ على إمامة الأئمّة الإثني عشر

المؤلف: الشيخ علي البحراني
الصفحات: 720
  • مقدّمة التحقيق
  • مخالفة النبي (ص) في التخلّف عن جيش أسامة
  • نزول (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) الآية
  • نزول (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً)
  • نزول آيات أخرى في علي عليه‌السلام
  • صفة ضرار لعلي عليه‌السلام عند معاوية
  • الردّ على ابن أبي الحديد لقوله (لم يحتج عليّ بالنصر يوم السقيفة)
  • رد المؤلف على القوشجي لانكاره النّص على علي عليه‌السلام
  • لما ذا دخل عليّ عليه‌السلام في الشّورى
  • الاجتهاد في مقابل النّص
  • مخالفة أمره (ص) بقتل ذي الخويصرة
  • احاديث أخرى في فضائل علي (ع)
  • حول فدك
  • إسقاط سهم ذوي القربى من الخمس
  • رزية يوم الخميس
  • أنفة عمر من الصلح يوم الحديبية
  • قصة النعلين ، والتفضيل في العطاء
  • إسقاط (حي على خير العمل من الأذان)
  • تحريم المتعتين
  • تجويز القوشجي مخالفة النبي بالاجتهاد والرد عليه
  • ردّ عثمان للحكم بن العاص
  • نزول (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)
  • نزول (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ) الآية
  • كيد بداية الزبير وكيف نهايته
  • (لو لا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النصارى في المسيح ... الحديث)
  • مناقشة المؤلف لحديث (خذوا نصف دينكم من الحميراء)
  • بين عمر وابن عباس حول الخلافة
  • مبيت علي عليه‌السلام ليلة الهجرة في فراش النبي (ص)
  • ردّ علي عليه‌السلام للودائع بمكّة
  • حديث سدّ الابواب ، إلّا باب علي عليه‌السلام
  • مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي عليه‌السلام يوم الطائف
  • اختصاص النبي بعلي في الحضر والسفر
  • بين أم سلمة وعائشة حول الخروج إلى البصرة
  • لعليّ عليه‌السلام ثلاثة آلاف منقبة في ليلة واحدة
  • نزول (سَأَلَ سائِلٌ)
  • حديث (الصديقون ثلاثة ...)
  • حديث (إنّ فيك شبها من عيسى ...)
  • حديث (هذا وليي ...)
  • حديث (إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن ...)
  • حديث (إنّ الملائكة صلّت عليّ وعلى علي سبع سنين)
  • (لا سيف إلّا ذو الفقار ...)
  • (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه)
  • اسلام الراهب على يد عليّ واستشهاده في صفّين
  • تميم وتكميل في ذكر طائفة من الاخبار الدالة على إمامة امير المؤمنين (ع)
  • انكار عائشة الوصيّة
  • رد سعد حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في غنائم بدر
  • علي هو الصّدّيق الأكبر
  • تخصيص الإمامة بهم
  • (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)
  • فضل حمزة وجعفر عليهما‌السلام
  • آية المودّة
  • آية الاعتصام
  • الولاية والوصيّة والوراثة
  • أهل البيت عليهم‌السلام هم الناس المحسودون على ما آتاهم الله
  • الاقوال والأفعال الدالّة على فضلهم
  • الائمة اثنى عشر لا يزيدون ولا ينقصون
  • ما ورد في المهدي عليه‌السلام
  • في النّص على إمامة العترة المحمّدية
  • المعمّرون من الناس
  • علّة استتار المهدي عليه‌السلام
  • ما ورد فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله
  • علامات ظهوره عليه‌السلام
  • عصمة الأئمة عليهم‌السلام من الكتاب والسنّة والأخبار
  • ما ورد عن النبي (ص) في الأئمة من طرق الاماميّة
  • خطبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام تشتمل على مطالب كثيرة
  • شرح الخطبة
  • كلمة الختام
  • حديث الثقلين
  • فائدة مهمة في الصلاة ايام مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
  • ردّ طلحة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في آية الحجاب
  • معنى الإرادة
  • تجاهل سعد بن عبادة حقّ عليّ وطلبه الرئاسة
  • مناشدة علي انس بن مالك يوم الرحبة ودعاؤه عليه
  • مخالفات أخرى
  • الطعن على النبي (ص) في تأمير زيد بن حارثة
  • لما ذا لم يضرب النبي (ص) أعناق مخالفيه
  • قول النبي (ص) لعلي (ع) : (إنّ الأمة ستغدر بك)
  • من تظلّم أمير المؤمنين عليه‌السلام
  • ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في بعض أصحابه
  • بين عمر وابن عباس حول الخلافة
  • بين ابن عباس وعمر حول الخلافة
  • سؤال وجواب : لما ذا قعد عليّ عليه‌السلام عن المطالبة بحقّه
  • كان علي مفزع عمر في النوازل
  • بين عمر وابن عباس حول علي عليه‌السلام
  • ظهور المعجز على يد أمير المؤمنين عليه‌السلام
  • بعض اخباره بالمغيّبات
  • جويرية بن مصهر العبدي
  • ميثم التّمار
  • رشيد الهجري
  • مزرع صاحب علي
  • مرور علي عليه‌السلام بكربلاء في طريقه الى صفّين
  • ما نزل من القرآن في علي عليه‌السلام
  • مناقشة المؤلف لبعض الأحاديث
  • ديباجة الكتاب
  • فحوى بعض الآيات وصراحة بعضها في كون الإمامة موقوفة على النصّ
  • الإمام يجب أن يكون أحلم الناس
  • الإمام يجب أن يكون أشجع الناس
  • تقديم المفضول على الأفضل قبيح عقلا ونقلا
  • طرف من تظلّم علي عليه‌السلام
  • المسألة الثالثة يشترط في أن يكون قريبا من النبي (ص)
  • القرابة بمفردها لا يستحق بها الإمامة
  • بين الرشيد والكاظم عليه‌السلام في هذه المسألة
  • المسألة الرابعة في طريق الإمامة
  • الإمامة خلافة الله في أرضه
  • الإمام يجب أن يكون أعلم الناس
  • لا يجوز لغير الله سبحانه التحليل والتحريم
  • يجب طاعة الإمام ولا تجوز معصيته
  • الإجماع لم يحصل على أحد بعد الرسول (ص)
  • وصف الامام الرضا عليه‌السلام للامام
  • الفصل الثّاني في ذكر النصوص على علي والأئمة من ولده عليهم‌السلام وفيه مسائل
  • المسألة الاولى إيراد النصوص على أمير المؤمنين (ع) خاصّة
  • قصة تبليغ براءة في الموسم
  • كلمة للحسن البصري حول القصّة
  • ما ورد من النصوص بلفظ الإمامة
  • الإمام يجب أن يكون أسخى الناس
  • المسألة الثانية يجب أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه
  • ردّ المؤلف عليه
  • لله تعالى الحجّة على الناس ولا تقوم إلّا بنصب مرشد وفيه خمس مقدمات
  • مقدمة وفيها بحثان
  • المبحث الأوّل في الإمامة
  • المبحث الثاني هل أنّ نصب الامام واجب أم لا؟
  • الإمام لطف من الله تعالى في حقّ عباده
  • الردّ على من قال : الإمامة واجبة على العباد عقلا
  • طرف من حديث السقيفة
  • فائدة جليلة
  • لا يجوز خلو الارض من إمام
  • النبوّة لطف خاصّ والإمامة لطف عام
  • المقدّمة الأولى إنّ حكم الله تعالى واحد لا يختلف باختلاف المجتهدين
  • يجب عصمة الإمام عن الغلط والنسيان والسّهو كوجوب عصمته من الآثام
  • المقدّمة الثانية إنّ النبي (ص) بيّن الأحكام للامة مجملا وللامام مفصلا
  • المقدّمة الثالثة إنّ الله تعالى في كلّ واقعة حكما ولا يريد إلّا العمل بحكمه
  • المقدّمة الرابعة لا يكلّف الله سبحانه بما لا سبيل الى معرفته
  • المقدّمة الخامسة لا طريق الى معرفة الحكم المعين إلّا من جهة بيان الامام
  • (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية)
  • المراد بالإمام إذا أطلق إمام الجميع
  • الردّ على من قال بجواز خلو العصر من إمام
  • الفصل الأوّل في شروط الامام ويشمل على مسائل
  • المسألة الأولى في عصمة الإمام وأدلّتها
  • توجيه ابن ابي الحديد بأنّ المراد بالإمامة في النصوص الإمامة في الفتوى
  • طرف من أخبار السقيفة
  • رد المؤلف على القوشجي بتفضيل غيره
  • عليّ عليه‌السلام أشجعهم واكثر جهادا
  • ما ورد أنّه مع الحقّ
  • ما ورد بأنّه خير الأمّة
  • خبر العقيلي في مجلس عمر بن عبد العزيز
  • نسب علي عليه‌السلام
  • عليّ عليه‌السلام أعلم الصحابة
  • جملة من قضاياه عليه‌السلام
  • عليّ أحلم الصحابة
  • قدمه في الإسلام
  • سخاؤه عليه‌السلام
  • ما ورد بلفظ الأقربيّة
  • زهده عليه‌السلام
  • عبادته عليه‌السلام
  • إنّه أحفظ الصحابة للقرآن الكريم
  • إنّه افصح الصّحابة
  • سياسته عليه‌السلام
  • عدله في الرعيّة
  • عليّ أحرص الصحابة على إقامة الحدود
  • ولادته في الكعبة المشرفة
  • من ذهب الى تفضيل علي عليه‌السلام من الصحابة وغيرهم
  • ما ورد أنّه أشدّ جهادا
  • ما ورد بلفظ الأعلميّة
  • ما ورد من النصوص بلفظ الإمرة
  • استبعاد القوشجي سماع الصحابة للنصوص ومخالفتها وردّ المؤلف عليه
  • ما ورد بلفظ الوصيّ
  • أشعار الصحابة والتابعين في الوصاية
  • معنى الوصيّ والوصيّة
  • اعتراف ابن أبي الحديد بالوصيّة وعجزه عن توجيهها والرّد عليه
  • ما ورد بلفظ الخليفة
  • ما ورد بلفظ الوزارة
  • ما ورد بلفظ الطاعة
  • عليّ عليه‌السلام نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله
  • ما ورد بلفظ التمسك
  • (أنا مدينة العلم وعليّ بابها) وأحاديث أخرى
  • ما ورد بلفظ المحبّة وحديث الطير والراية
  • حديث الثقلين
  • ما ورد بلفظ الولي في القرآن والسّنّة
  • نزول (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الآية
  • خبر الغدير
  • (إنّ عليّا مني وأنا من عليّ ... الحديث)
  • حديث المنزلة
  • ما ورد بلفظ الوراثة
  • ما ورد بلفظ الأحقيّة والأولوية
  • ما ورد بلفظ المختار
  • ابيات في تاريخ الكتاب