
بسم الله الرحمن
الرحيم
مقدمة
بسم الله الرّحمن
الرّحيم الحمد لله على جزيل نعمائه وكريم آلائه ، والصلاة والسلام على عبده ونبيّه
محمد بن عبد الله الذي أكرمه بالرسالة وحمّله الأمانة ، فكان خير مبلّغ وأصدق
محدّث ، وعلى آله الكرام البررة المطهّرين ، وأصحابه الجاهدين المجاهدين المنتجبين
، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد.
فقد اهتمّ
المسلمون بدراسة الأديان والمذاهب اهتماما لم يسبقهم إليه أحد من الأمم الأخرى ،
فوضعوا في ذلك كتبا ورسائل مطوّلة ومختصرة ، عامّة وخاصة ، في الردّ على أصحاب
المذاهب ونقض معتقداتهم وأقوالهم. فمن الكتب العامّة «كتاب مقالات الإسلاميين»
لأبي الحسن الأشعري ، وألّف عبد القاهر البغدادي كتابه «الفرق بين الفرق» كما ألّف
أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني كتابه «الملل والنحل». أما الكتب الخاصّة
بالردّ على طائفة من الطوائف ، فمنها كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في
العقل أو مرذولة» للبيروني ، والكتب الكثيرة التي وضعت في الردّ على النصارى
واليهود ، أو في ردّ بعض الفرق الإسلامية على بعضها الآخر.
غير أن كتاب «الفصل
في الملل والأهواء والنحل» للإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري ، يمتاز عن غيره من
الكتب التي ألّفت في هذا الموضوع بميزة جعلته فريدا في بابه ، هذه الميزة هي
الالتزام الصارم بقواعد الجدل والحجاج ، من عرض حجج الخصوم عرضا مجردا واستيفائها
استيفاء وافيا ، ومن ثمّ الردّ عليها ونقضها واحدة واحدة ، إما من العقل فيما
يتعلّق بالطوائف التي لا تدين بالإسلام ، أو من العقل والنقل معا فيما يتعلق
بالذين يدينون به. مع التزامه في كل ذلك الوضوح التام واجتنابه التعقيد في طرح
المسائل التي يعرضها. يقول في مقدمة كتابه «الفصل» :
«إنّ كثيرا من
الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتبا كثيرة جدا ، فبعضهم أطال
وأسهب وأكثر وهجّر واستعمل الأغاليط والشغب ، فكان ذلك شاغلا عن الفهم وقاطعا دون
العلم ، وبعض حذف وقصّر وقلّل واختصر وأضرب عن كثير من قويّ معارضات
أصحاب المقالات ،
فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة ، وظالما لخصمه في
أن لم يوفه حقّ اعتراضه ، وباخسا حقّ من قرأ كتابه إذ لم يفنّد به غيره.
وكلّهم ـ إلّا
تحلّة القسم ـ عقّد كلامه تعقيدا يتعذّر فهمه على كثير من أهل الفهم وحلّق على
المعاني من بعد ، حتى صار ينسي آخر كلامه أوّله. وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد
معانيهم ، فكان هذا منهم غر محمود في عاجله وآجله» .
ويبدو فنّ الجدل
عند ابن حزم وكأنه مطيّة امتلك زمامها فسلس قيادها ، ويبدو هذا واضحا في تضاعيف
كتابه ، وخاصة عند مناقشته لنصوص من التوراة والإنجيل ، فيبيّن ما في هذه النصوص
من تحريف وتخبّط وتخليط ، ففي أحد أسفار التوراة يعدّد واضعوه أولاد لاوي والجنود
الذين ينتسبون إليهم ، وفي سفر آخر تأتي هذه الأعداد بشكل مخالف بالزيادة أو
بالنقص ؛ وكذلك الحال بالنسبة للمدن ورؤساء العشائر. ويذكر سفر آخر من أسفار
التوراة أن عدد بني إسرائيل كان عند خروجهم من مصر ستمائة ألف ونيّف ، فيناقش ابن
حزم هذا العدد ويبيّن استحالته في موجب العقل ، إلى استحالات أخرى تتّضح للقارىء
عند اطلاعه على هذا الكتاب.
ولا يفوتنا أن
نشير إلى حدّة ابن حزم وانفعاله الزائد عند عرض آراء خصومه ومناقشتها ، حتى ليدفعه
هذا إلى استعمال تعابير أقل ما يقال فيها إنها جارحة في كثير من المواضع ، كقوله :
«فعليهم ما يخرج من أسافلهم» ، وقوله : «ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة
وحدها لكفت في أنها موضوعة مبدّلة من حمار في جهله» ، «وأراد أن يخرج هذا الساقط
من مزبلة فوقع في كنيف عذرة» ، «وما افتراه الكفرة أسلافهم الأنتان» ، «لقد كان الثور
أهدى منه والحمار أنبه منه بلا شكّ» إلى غير ذلك من التعابير التي لا تكاد تخلو
صفحة منها. ولا شكّ أن هذه الحدّة ناشئة عن إخلاصه العميق لما يؤمن به ، ونفوره
البالغ مما يعتنقه خصومه.
ونكتفي هنا بما
أوردناه من هذه العجالة في الكلام على هذا الكتاب الفريد ، داعين القارئ الكريم
إلى الاطّلاع عليه بتأنّ وعناية ، ونقدّم ـ قبل عرض الكتاب ـ ترجمة موجزة للمؤلف.
والحمد لله أولا
وآخرا ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه الطيّبين
الطاهرين.
أحمد شمس الدين
بيروت ١٥/ ٩/ ١٩٩٥
__________________
ابن حزم الأندلسي
نسبه :
هو أبو محمد عليّ
بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد
الفارسيّ الأصل ، ثم الأندلسي القرطبي اليزيديّ مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن
حرب الأموي المعروف بيزيد الخير.
مولده ونشأته
وسيرته ووفاته
: ولد ابن حزم
بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة للهجرة . ونشأ في تنعّم ورفاهية ، ورزق ذكاء مفرطا وذهنا سيّالا.
وكان والده من كبراء أهل قرطبة ، عمل الوزارة في الدولة العامرية ، وكذلك وزر أبو
محمد في شبيبته. وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر والمنطق والفلسفة ، ثم
اتجه إلى التعمق في الفقه ، فتفقّه
__________________
أولا للشافعي ، ثم
أدّاه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليّه وخفيّه والأخذ بظاهر النصّ وعموم
الكتاب والحديث والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال ، وصنّف في ذلك كتبا كثيرة
وناظر عليه. وقد بسط لسانه وقلمه في جماعة من الأئمة العلماء ، فكان أن امتحن في
ذلك ، فشرّد عن وطنه ، وجرت له أمور ، وقام عليه جماعة من المالكية. وجرت بينه
وبين أبي الوليد الباجي مناظرات ومنافرات ، ونفّروا منه ملوك الناحية ، فأقصته
الدولة ، وأحرقت مجلدات من كتبه ، وتحوّل إلى بادية لبلة فأقام في قرية له. وقال
أبو الخطاب بن دحية : كان ابن حزم قد برص من أكل اللّبان ، وأصابه زمانة ، وعاش
ثنتين وسبعين سنة غير شهر.
وقال صاعد
الأندلسي : ونقلت من خطّ ابنه أبي رافع أن أباه توفي عشية الأحد لليلتين بقيتا من
شعبان سنة ستّ وخمسين وأربعمائة ، فكان عمره إحدى وسبعين سنة وأشهرا ، رحمهالله.
أقوال العلماء فيه
:
قال أبو حامد
الغزالي : وجدت في أسماء الله تعالى كتابا ألّفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدلّ
على عظم حفظه وسيلان ذهنه.
وقال أبو القاسم
صاعد بن أحمد الأندلسي : كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام
وأوسعهم معرفة ، مع توسّعه في علم اللسان ووفور حظّه من البلاغة والشعر والمعرفة
بالسير والأخبار.
وقال أبو عبد الله
الحميدي (صاحب جذوة المقتبس) : كان ابن حزم حافظا للحديث وفقهه ، مستنبطا للأحكام
من الكتاب والسنّة ، متفننا في علوم جمّة ، عاملا بعلمه ، ما رأينا مثله فيما
اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتديّن ، وكان له في الأدب والشعر
نفس واسع وباع طويل ، وما رأيت من يقول الشعر على البديه أسرع منه.
وقال الإمام
الذهبي : كان ينهض بعلوم جمّة ، ويجيد النقل ، ويحسن النظم والنثر ، وفيه دين وخير
، ومقاصده جميلة ، ومصنفاته مفيدة ، وقد زهد في الرئاسة ، ولزم منزله مكبّا على
العلم.
وقال اليسع بن حزم
الغافقي : أما محفوظه فبحر عجّاج وماء ثجّاج ، يخرج من بحره مرجان الحكم ، وينبت
بثجّاجه ألفاف النعم في رياض الهمم ، لقد حفظ علوم المسلمين وأربى على كل أهل دين
، وألّف «الملل والنحل» ، وكان في صباه يلبس الحرير ولا يرضى من المكانة إلا
بالسرير.
مصنفاته :
ذكر ياقوت في معجم
الأدباء أن مبلغ تصانيف ابن حزم في الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنسب والأدب
والردّ على المخالفين نحو من أربعمائة مجلد. وسنذكر فيما يلي بعض هذه التصانيف.
١ ـ كتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل». وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.
٢ ـ كتاب «الخصال
الحافظ لجمل شرائع الإسلام». وهو مجلدان ، كما في سير أعلام النبلاء للذهبي. وذكره
حاجي خليفة في كشف الظنون تحت اسم : «الخصال الجامعة لمحصل شرائع الإسلام في
الواجب والحلال والحرام» وذكر أنه مجلد.
٣ ـ كتاب «الإيصال
إلى فهم كتاب الخصال». قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : «خمسة عشر ألف ورقة» ،
وقال في تذكرة الحفاظ : «أورد فيه أقوال الصحابة فمن بعدهم والحجة لكل قول». وهذا
الكتاب هو شرح لكتابه «الخصال» وقد اختصر هذا الكتاب ابنه أبو رافع ليكمل بعض
أجزاء «المحلى».
٤ ـ كتاب «المجلّى»
في الفقه. وهو المتن الذي عمل عليه شرحا سماه بالمحلّى ، وهو التالي.
٥ ـ كتاب «المجلّى
في شرح المجلّى بالحجج والآثار». له أكثر من طبعة ، منها طبعة دار الكتب العلمية.
٦ ـ كتاب «حجّة
الوداع». طبع في دار اليقظة العربية بدمشق سنة ١٩٥٩ بتحقيق الأستاذ ممدوح حقي.
__________________
٧ ـ كتاب «التلخيص
والتخليص في المسائل النظرية». كذا ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. وزاد ياقوت
في اسمه : «... وفروعها التي لا نصّ عليها في الكتاب ولا الحديث».
٨ ـ كتاب «الإحكام
لأصول الأحكام» له أكثر من طبعة ، منها طبعة دار الكتب العلمية.
٩ ـ كتاب «ما
انفرد به مالك وأبو حنيفة والشافعي». وقد ذكره ابن حزم في كتابه المحلى فقال : «وقد
أفردنا أجزاء ضخمة فيما خالف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي جمهور العلماء ، وفيما
قاله كل واحد منهم مما لا يعرف أحد قال به قبله ، وقطعة فيما خالف فيه كل واحد
منهم الإجماع المتيقن المقطوع به».
١٠ ـ كتاب «الإملاء
في شرح الموطأ».
١١ ـ كتاب «الإملاء
في قواعد الفقه».
١٢ ـ كتاب «الإجماع»
كما في سير أعلام النبلاء ، وسماه الذهبي في تذكرة الحفاظ : «منتقى الإجماع» ،
وزاد ياقوت في اسمه : «... وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف».
١٣ ـ كتاب «نقط
العروس» في تواريخ الخلفاء. وسمّاه ابن حيّان في المقتبس : «نقط العروس في نوادر
الأخبار». وقد نشره المستشرق زيبولد في مجلة مركز الدراسات التاريخية بغرناطة سنة
١٩١١ ، وأعاد نشره الدكتور شوقي ضيف بمجلة كلية الآداب (العدد ١٣ ، سنة ١٩٥١).
ونشره الدكتور إحسان عباس ضمن مجموع رسائل ابن حزم الأندلسي.
١٤ ـ كتاب «أسماء
الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد». نشرته دار الكتب العلمية ـ بيروت.
١٥ ـ كتاب «الأصول
والفروع». صدر عن دار الكتب العلمية.
١٦ ـ كتاب «الأخلاق
والسير في مداواة النفوس». صدر عن الدار.
١٧ ـ كتاب «جمهرة
أنساب العرب». صدر عن الدار.
١٨ ـ كتاب «جوامع
السيرة النبوية». صدر عن الدار.
١٩ ـ كتاب «طوق
الحمامة في الألفة والألّاف». صدر عن الدار.
٢٠ ـ كتاب «مراتب
الإجماع». صدر عن الدار.
٢١ ـ كتاب «الناسخ
والمنسوخ في القرآن الكريم». صدر عن الدار.
٢٢ ـ كتاب «النبذة
الكافية في أحكام أصول الدين». صدر عن الدار.
إلى غير ما ذكرنا
من الكتب التي يضيق المقام عن حصرها. منها ـ إضافة إلى ما ذكرنا بعضه من كتب الفقه
والحديث والأصول والجدل وغيرها ـ كتب في الطب ، ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء
، فقال : ولابن حزم «رسالة في الطب النبوي» وذكر فيها أسماء كتب له في الطب منها :
«مقالة العادة» ، و «مقالة في شفاء الضدّ بالضدّ» ، و «شرح فصول بقراط» ، و «كتاب
بلغة الحكيم» ، و «كتاب حدّ الطبّ» ، و «كتاب اختصار كلام جالينوس في الأمراض
الحادة» ، و «كتاب في الأدوية المفردة» ، و «مقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب»
، و «مقالة في النحل» ، وأشياء سوى ذلك.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
[مقدمة المصنف]
بسم الله الرحمن
الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. قال الشيخ
الإمام الأوحد ، الحافظ ، العلم ، ناصر الدين أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
(رضي الله عنه) :
الحمد لله حمدا
كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه بكرة وأصيلا ، وسلم تسليما.
أما بعد : فإن
كثيرا من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتبا كثيرة جدّا ،
فبعض أطال وأسهب ، وأكثر وهجّر ، واستعمل الأغاليط والشغب ، فكان ذلك شاغلا عن الفهم ،
وقاطعا دون العلم. وبعض حذف وقصّر ، وقلّل واختصر ، وأضرب عن كثير من قويّ معارضات
أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة
وظالما لخصمه في أن لم يوفّه حق اعتراضه ، وباخسا حقّ من قرأ كتابه ، إذ لم يفنّد به غيره. وكلهم ـ إلّا تحلّة القسم ـ عقد كلامه
تعقيدا يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم ، وحلّق على المعاني من بعد حتى صار ينسي
آخر كلامه أوّله ، وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد
__________________
معانيهم ، فكان هذا عملا منهم غير محمود في عاجله وآجله.
قال «أبو محمد رضي
الله عنه» : فجمعنا كتابنا هذا مع استخارتنا الله عزوجل في جمعه ، وقصدنا به إيراد البراهين المنتجة عن المقدّمات
الحسية أو الرّاجعة إلى الحسّ من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا
تخون أصلا مخرّجة إلى ما أخرجت له ، وألّا يصح منه إلّا ما صححت البراهين المذكورة
فقط ، إذ ليس الحق إلا ذلك ، وبالغنا في بيان اللفظ وترك التعقيد ، راجين من الله عزوجل على ذلك الأجر الجزيل ، وهو تعالى وليّ من تولّاه ، ومعطي
من استعطاه لا إله إلّا هو ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) فنقول وبالله التوفيق : رءوس الفرق المخالفة لدين الإسلام ستّ ، ثم
تتفرق كل فرقة من هذه الفرق السّتّ على فرق ، وسأذكر جماهيرها إن شاء الله تعالى.
فالفرق السّت التي
ذكرناها على مراتبها في البعد عنّا.
أولاها : مبطلو
الحقائق : وهم الذين يسميهم المتكلمون «السوفسطائية».
وثانيتها :
القائلون بإثبات الحقائق ، إلّا أنهم قالوا : إنّ العالم لم يزل ، وأنه لا محدث له
ولا مدبر.
وثالثتها :
القائلون بإثبات الحقائق ، وأن العالم لم يزل ، وأنّ له مدبّرا لم يزل.
ورابعتها :
القائلون بإثبات الحقائق. وقال بعضهم : إنّ العالم لم يزل ، وقال بعضهم : بل هو
محدث. واتفقوا على أن له مدبّرين لم يزالوا ، وأنهم أكثر من واحد ، واختلفوا في
عددهم.
وخامستها :
القائلون بإثبات الحقائق ، وأن العالم محدث ، وأن له خالقا واحدا لم يزل ، وأبطلوا
النبوّات كلّها.
وسادستها :
القائلون بإثبات الحقائق ، وأن العالم محدث ، وأن له خالقا واحدا لم يزل ، وأثبتوا
النبوّات ، إلّا أنهم خالفوا في بعضها فأقروا ببعض الأنبياء عليهمالسلام ، وأنكروا بعضهم.
__________________
قال : «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد تحدث في خلال هذه الأقوال آراء هي منتجة من هذه الرءوس ، ومركبة
منها ، فمنها ما قد قالت به طوائف من الناس مثل ما ذهبت إليه فرق من الأمم من
القول بتناسخ الأرواح ، أو القول بتواتر النبوّات في كلّ وقت ، وأنّ في كل نوع
من أنواع الحيوان أنبياء ، ومثل ما قد لقيت جماعة من القائلين به ، وناظرتهم عليه
من القول بأن العالم محدث وله مدبّر لم يزل ، إلّا أن النفس والمكان المطلق ، وهو
الخلاء والزمان المطلق لم تزل معه.
قال «أبو محمد» :
وهذا قول قد ناظرني عليه عبد الله بن خلف بن مروان الأنصاري ، وعبد الله بن محمد
السلمي الكاتب ، ومحمد بن علي بن أبي الحسين الأصبحي الطبيب ، وهو قول يؤثر عن
محمد بن زكريا الرازي الطبيب ، ولنا عليه فيه كتاب مفرد في نقد كتابه في ذلك ، وهو
المعروف بالعلم الإلهي ، وكمثل ما ذهب إليه قوم من أن الفلك لم يزل ، وأنه غير
الله تعالى ، وأنه هو المدبر للعالم الفاعل له إجلالا بزعمهم لله عزوجل عن أن يوصف بأنه فعل شيئا من الأشياء وقد كنّى بعضهم عن
ذلك بالعرش. ومنها ما لا نعلم أن أحدا قال به إلّا أنه غير الله تعالى ، وأنه هو
المدبر للعالم الفاعل له إجلالا بزعمهم لله عزوجل من أن يوصف بأنه فعل شيئا من الأشياء وقد كنّى بعضهم عن
ذلك بالعرش. ومنها ما لا نعلم أن أحدا قال به إلّا أنه مما لا يؤمن أن يقول به
قائل من المخالفين عند تطبيق الحجج عليهم ، فيلجئون إليها ، فلا بدّ إن شاء الله
تعالى من ذكر ما يقتضيه مساق الكلام منها.
وذلك مثل القول :
بأنّ العالم محدث ولا محدث له ، فلا بدّ بحول الله تعالى من إثبات المحدث بعد
الكلام في إثبات الحدوث ، وبالله تعالى التوفيق والعون لا إله إلّا هو.
باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة
الحق في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا باب قد أحكمناه في كتابنا المرسوم
__________________
بـ «التقريب في
حدود الكلام» وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين. إلّا
أننا نذكر هاهنا جملة كافية لتكون مقدمة لما يأتي بعدهم مما اختلف الناس فيه ، يرجع
إليها إن شاء الله تعالى عزوجل فنقول وبالله التوفيق :
إن الإنسان يخرج
إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول : إنها كانت قبل ذلك ذاكرة
، أو لا ذكر لها البتة في قول من يقول : إنها حدثت حينئذ ، أو أنها مزاج عرض ، إلا
أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلّا ما لسائر الحيوان من الحسّ
والحركة الإرادية فقط ، فتراه يقبض رجليه ويمدّهما ، ويقلب أعضاءه حسب طاقته ،
ويألم إذا أحسّ البرد ، أو الحرّ ، أو الجوع ، وإذا ضرب ، أو قرص ، وله سوى ذلك
مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي مما ليس حيوانا ، من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه
ولنمائه ، فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه ـ من سائر الأعضاء ـ بفيه دون سائر أعضائه ،
كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ،
ولنمائها ، فإذا قويت النفس على قول من يقول : إنها مزاج ، أو إنها حدثت حينئذ ،
أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول : إنها كانت ذاكرة قبل ذلك ، أو
إنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان
فهم ما أدركت بحواسّها الخمس ، كعلمها : أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها ،
والرائحة الرديئة منافرة لطبعها ، وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر ، وللأصفر
وللأبيض ، وللأسود ، وكالفرق بين الخشن والأملس ، والمكتنز والمتهيّل واللزج ، والحار والبارد والدافىء ، وكالفرق بين الحلو
__________________
والحامض ، والمرّ
والمالح والعفص ، والزاعق والتفه ، والعذب والحريف ، وكالفرق بين الصوت الحادّ والغليظ ، والرقيق والمطرب
والمفزع.
قال «أبو محمد» :
فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها.
والإدراك السادس :
علمها بالبديهيات ، فمن ذلك علمها بأن الجزء أقلّ من الكل ، فإنّ الصبيّ
الصغير في أوّل تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى ، وإذا زدته ثالثة سرّ ، وهذا علم
منه بأن الكل أكثر من الجزء ، وإن كان لا يتنبه لتحديد ما يعرف من ذلك ، ومن ذلك
علمه بأن لا يجتمع المتضادّان ، فإنك إذا وقّفته قسرا بكى ونازع إلى القعود ، علما
منه بأنه لا يكون قائما قاعدا معا. ومن ذلك : علمه بأنه لا يكون جسم واحد في
مكانين ، فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسرا بكى ، وقال كلاما معناه :
دعني أذهب ، علما منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في
مكان واحد. ومن ذلك : علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد ، فإنك تراه ينازع على
المكان الذي يريد أن يقعد فيه ، علما منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه ،
فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أنه ما دام في المكان ما
يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه. وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه
قال : لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه ، وتراه
يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه ، وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع
بالعدو ، وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك. ومنها : علمه بأنه لا يعلم
الغيب أحد ، وذلك أنك إذا سألته عن شيء لا يعرفه أنكر ذلك وقال : لا أدري. ومنها :
فرقه بين الحق والباطل فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدّقه حتى إذا
تظاهر عنده بمخبر آخر وآخر صدّقه وسكن إلى ذلك. ومنها : علمه بأنه لا يكون
__________________
شيء إلا في زمان
فإنك إذا ذكرت له أمرا ما قال : متى كان ؟ وإذا قلت له : لم تفعل كذا وكذا ، قال : متى كنت أفعله؟
وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلّا في زمان. ويعرف أن للأشياء
طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها ، فتراه إذا رأى شيئا لا يعرفه قال : أيّ شيء
هذا؟ فإذا شرح له سكت. ومنها : علمه بأنه لا يكون فعل إلّا من فاعل ، فإنه إذا رأى
شيئا قال : من عمل هذا؟ ولا يقنع البتة بأنه انعمل بدون عامل. وإذا رأى بيد آخر
شيئا قال : من أعطاك هذا؟ ومنها : معرفته بأن في الخبر صدقا أو كذبا ، فتراه يكذّب
بعض ما يخبر به ، ويصدّق بعضه ، ويتوقف في بعضه. هذا كلّه مشاهد من جميع الناس في
مبدأ نشأتهم.
قال «أبو محمد»
فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل ، وهاهنا أيضا أنبياء غير ما ذكرنا
إذا فتّشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره ، وليس يدري أحد كيف وقع له
العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه.
ولا يشك ذو تمييز
صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحاح لا امتراء فيها ، وإنما يشكّ فيها بعد صحة علمه
بها من دخلت عقله آفة وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضا
آفة دخلت على تمييزه كالآفة الدّاخلة على من به هيجان الصفراء ، فيجد العسل مرّا ، ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى
خيالات لا حقيقة لها ، وكسائر الآفات الدّاخلة على الحواسّ.
قال «أبو محمد» :
فهذه المقدمات الصحاح التي ذكرنا هي التي لا شك فيها ، ولا سبيل إلى أن يطلب عليها
دليلا إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه ، وهذا أمر
يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم عليهالسلام وصغارهم في أقطار الأرض ، إلّا من غالط حسّه ، وكابر عقله
، فيلحق بالمجانين ، لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلّا في زمان ، ولا بدّ
ضرورة أن يعلم ذلك بأوّل العقل ، لأنه قد علم بضرورة العقل : أنه لا يكون شيء مما
في العالم إلّا في وقت ، وليس بين أوّل أوقات تميز النفس في هذا العالم ، وبين
إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة ، لا دقيقة
__________________
ولا أقل ولا أكثر
فلا سبيل إلى الاستدلال عليها ، إذ لا وقت يمكن فيه الاستدلال على ذلك فصح أنها
ضرورات أوقعها الله تعالى في النفس ، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلّا من هذه
المقدمات ، ولا يصح شيء إلّا بالردّ عليها ، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات
بالصحة فهو صحيح متيقّن ، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط.
إلّا أن الرجوع
إليها قد يكون من قرب ، وقد يكون من بعد ، فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس ،
وأمكن للفهم ، وكلما بعدت المقدّمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في
ذلك الغلط إلا للفهم القويّ الفهم والتمييز ، وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع
إلى مقدّمة من المقدّمات التي ذكرنا حق ، كما أن تلك المقدمة حق ، لا فرق بينهما
في أنهما حقّ ، وهذا مثل الأعداد فكلما قلّت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط ،
حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلّا للحاسب
الكافي المجيد ، وكلّ ما قرب من ذلك وبعد فهو كلّه حق ، ولا تفاضل في شيء من ذلك ،
ولا تعارض مقدمة كما ذكرنا مقدمة أخرى منها ، ولا يعارض ما يرجع إلى مقدّمة أخرى
منها رجوعا صحيحا ، وهذا كله يعلم بالضرورة. ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعرف
صحّ ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبرا كاذبا طويلا فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك
الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك
الخبر عالما بالغيب ، لأن هذا هو علم الغيب نفسه ، وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر
عنه بما هو عليه ، فإذ ذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعدا
مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا ، فلم يختلفا فيه ، فبالضرورة يعلم أنه حقّ متيقّن مقطوع
به على غيبه ، وبهذا علمنا صحّة موت من مات وولادة من ولد ، وعزل من عزل ، وولاية
من ولي ، ومرض من مرض ، وإفاقة من أفاق ، ونكبة من نكب ، والبلاد الغائبة عنّا ،
والوقائع والملوك ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وديانتهم ، والعلماء
وأقوالهم ، والفلاسفة وحكمهم ، لا شك عند أحد يوفّي عقله حقه في شيء مما نقل من
ذلك مما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق.
__________________
القسم الأوّل
«السوفسطائية»
باب الكلام على أهل القسم الأول ، وهم مبطلو الحقائق
وهم السوفسطائية.
قال «أبو محمد» :
ذكر من سلف من المتكلمين أنهم ثلاثة أصناف ، فصنف منهم نفى الحقائق جملة ، وصنف
منهم شكّوا فيها ، وصنف منهم قالوا : هي حقّ عند من هي عنده حق ، وهي باطل عند من
هي عنده باطل.
وعمدة ما ذكر من
اعتراضهم : هو اختلاف الحواس في المحسوسات ، كإدراك البصر من بعد عنه صغيرا ، ومن
قرب منه كبيرا ، وكوجود من به حمى صفراء حلو المطاعم مرّا ، وما يرى في الرؤيا مما
لا يشك فيه رائيه أنه حقّ من أنه في البلاد البعيدة.
قال «أبو محمد» :
وكل هذا لا معنى له ، لأن الخطاب وتعاطي المعرفة إنما يكون مع أهل المعرفة ، وحسّ
العقل شاهد بالفرق بين ما يخيّل إلى النائم ، وبين ما يدركه المستيقظ ، إذ ليس في
الرؤيا من استعمال الجري على الحدود المستقرة في الأشياء المعروفة ، وكونها أبدا
على صفة واحدة ما في اليقظة ، وكذلك يشهد الحسّ أيضا بأنّ تبدّل المحسوس عن صفته
اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حسّ الحاسّ له لا في المحسوس ، جار كل ذلك
على رتبة واحدة لا تتحول ، وهذه هي البداية والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها
برهان إذ لو طلب على كل برهان برهان لاقتضى ذلك وجود موجودات لا نهاية لها ، ووجود
أشياء لا نهاية لها محال لا سبيل إليه ، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. والذي
يطلب على البرهان برهانا فهو ناطق بالمحال ، لأنه لا يفعل ذلك إلا وهو مثبت لبرهان
ما ، فإذا وقف عند البرهان الذي ثبت لزمه الإذعان له.
فإن كان لا يثبت
برهانا فلا وجه لطلبه ما لا يثبته لو وجده ، والقول بنفي الحقائق مكابرة للعقل
والحسّ.
ويكفي من الردّ
عليهم أن يقال لهم : «قولكم إنه لا حقيقة للأشياء» ، أحقّ هو أم باطل؟ فإن قالوا «هو
حق» أثبتوا حقيقة ما ، وإن قالوا : «ليس هو حقّا» ، أقرّوا ببطلان قولهم ، وكفوا
خصومهم أمرهم.
ويقال للشّكاك
منهم ـ وبالله تعالى التوفيق ـ : أشكّكم موجود صحيح منكم أم غير صحيح ولا موجود؟
فإن قالوا : هو موجود صحيح منّا أثبتوا أيضا حقيقة ما ، وإن قالوا : هو غير موجود
نفوا الشك وأبطلوه. وفي إبطال الشك إثبات الحقائق أو القطع على إبطالها.
وقد قدّمنا بعون
الله تعالى إبطال قول من أبطله فلم يبق إلا الإثبات.
ويقال ـ وبالله
التوفيق ـ لمن قال هي حق عند من هي عنده حق ، وهي باطل عند من هي عنده باطل : إن
الشيء لا يكون حقا باعتقاد من اعتقد أنه حق ، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد
أنه باطل. وإنما يكون الشيء حقا بكونه موجودا ثابتا ، سواء اعتقد أنه حق أو اعتقد
أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوما موجودا في حال واحدة في ذاته. وهذا عين
المحال.
وإذا أقروا بأن
الأشياء حق عند من هي عنده حق ، فمن جملة تلك الأشياء التي تعتقد أنها حق عند من
يعتقد أن الأشياء حق بطلان قول من قال إن الحقائق باطل ، وهم قد أقروا أن الأشياء
حق عند من هي عنده حق ، وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء ، فقد أقروا بأن بطلان
قولهم حق ، مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة ، إذ حسّه يشهد
بخلافها ، وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المتنطّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق.
القسم الثاني
من قال بان العالم لم يزل وانه لا مدبر له
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : لا يخلو العالم من أحد وجهين : إمّا أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثا
لم يكن ثم كان. فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدّهرية ، وذهبت طائفة من الناس
إلى أنه محدث.
__________________
فنبتدئ بحول الله
تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل ، وتوفية اعتراضهم
بها ، ثم نبين بحول الله تعالى نقضها وفسادها ، فإذا بطل القول بأنه لم يزل وجب
القول بالحدوث وصح ، إذ لا سبيل إلى وجه ثالث ، لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي
بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم.
ولا قوة إلّا
بالله العلي العظيم.
الاعتراض الأول :
فمما اعترضوا به
أن قالوا : لم نر شيئا حدث إلّا من شيء أو في شيء ، فمن ادّعى غير ذلك فقد ادّعى
ما لا يشاهد ولم يشاهد.
الاعتراض الثاني :
وقالوا أيضا : لا
يخلو محدث الأجسام ـ الجواهر والأعراض ، وهي كل ما في العالم ـ إن كان العالم
محدثا من أن يكون أحدثه لأنه ، أو أحدثه لعلّة ، فإن كان أحدثه لأنّه ، فالعالم لم يزل
لأنّ محدثه لم يزل إذ هو علة خلقه فالعلّة لا تفارق المعلول ، وما لم يفارق من لم
يزل فهو أيضا لم يزل ، إذ هو مثله بلا شك ، فالعالم لم يزل.
وإن كان أحدثه
لعلة ، فتلك العلّة لا تخلو من أحد وجهين ، إما أن تكون لم تزل ، وإمّا أن تكون
محدثة.
فإن كانت لم تزل
فمعلولها لم يزل ، فالعالم لم يزل.
وإن كانت تلك
العلة محدثة لزم من حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه ، أو
لعلة.
فإن كان لعلة لزم
ذلك أيضا في علة العلة ، وهكذا أبدا.
وهذا يوجب وجوب
محدثات لا أوائل لها. قالوا : وهذا قولنا.
قالوا : وإن كان
أحدثها لأنه ، فهذا يوجب أن العلّة لم تزل. كما بينا آنفا.
__________________
الاعتراض الثالث :
وقالوا أيضا : إن
كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه :
إمّا أن يكون
مثلها من جميع الوجوه.
وإمّا أن يكون
خلافها من جميع الوجوه.
وإمّا أن يكون
مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه.
قالوا : فإن كان
مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثا مثلها ، وهكذا في محدثه أيضا أبدا.
وإن كان مثلها في
بعض الوجوه لزمه أيضا من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع
الوجوه من الحدوث ، إذ الحدوث لازم للبعض كلزومه للكل ولا فرق.
وإن كان خلافها من
جميع الوجوه فمحال أن يفعلها ، لأن هذا هو حقيقة الضد والتناقض إذ لا سبيل إلى أن
يفعل الشّيء ضدّه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد.
الاعتراض الرابع :
وقالوا أيضا : لا
يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة ، أو لدفع مضرة ، أو طباعا
، أو لشيء من ذلك.
قالوا : فإن كان
فعله لإحراز منفعة ، أو لدفع مضرة ، فهو محل المنافع والمضار ، وهذه صفة المحدثات
عندكم فهو محدث مثلها.
قالوا : وإن كان
فعله طباعا فالطباع موجبة لما حدث بها فالفعل لم يزل معه.
قالوا : وإن كان
فعله لا لشيء أصلا فهذا لا يعقل ، وما خرج عن المعقول فمحال.
الاعتراض الخامس :
وقالوا أيضا : لو
كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلا لتركها ، قالوا وتركها لا
يخلو من أن يكون جسما أو عرضا. وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عوّل عليه القائلون بالدّهر قد تقصيناها
لهم. ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحدا واحدا.
إفساد الاعتراض
الأول
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئا حدث إلّا من شيء أو في
شيء :
هل تدرك حقيقة شيء
عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة ، أو لا يدرك شيء من الحقائق إلّا من طريق
الرؤية فقط؟
فإن قالوا : إنه
قد تدرك حقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه ، إذ قد
أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة ، وقد نفوا ذلك قبل هذا.
فإذا صاروا إلى
الاستدلال نوظروا في ذلك إلّا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى.
فإن قالوا : لا
يدرك شيء إلّا من طريق الرؤية والمشاهدة.
قيل لهم : فهل
شاهدتم شيئا قط لم يزل؟
فلا بدّ من نعم أو
لا. فإن قالوا لا ، صدقوا وأبطلوا استدلالهم. وإن قالوا : نعم ، كابروا وادّعوا ما
لا سبيل إلى مشاهدته ، إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أوّل بلا شك ، وذو
الأول هو غير الذي لم يزل ، لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ، ولا سبيل إلى أن
يشاهد ما له أوّل ما لا أوّل له مشاهدة متصلة. فبطل هذا الاستدلال على كل وجه.
والحمد لله رب العالمين.
إفساد الاعتراض
الثاني
قال «أبو محمد» : (رضي
الله عنه) : ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنّه ، أو لعلّة : هذه قسمة ناقصة.
وينقص منها القسم الثالث وهو الصحيح وهو أنه فعل لا لأنّه ، ولا لعلّة أصلا ، لكن
كما شاء.
لأن كلا القسمين
المذكورين أوّلا ، وهما : أنّه فعل لأنّه ، أو لعلّة ، فقد بطلا بما قدّمنا هنالك
، لأن العلّة توجب إما الفعل وإمّا الترك ، وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصحّ بذلك
أنّه لا علّة لفعله أصلا ، ولا لتركه البتة.
فبطل هذا الشغب ،
والحمد لله رب العالمين.
فإن قالوا : إنّ
ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ، ففعله الذي هو الترك لم يزل. قلنا
وبالله تعالى التوفيق : إنّ ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلا أصلا على ما نبين في
إفساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى.
إفساد الاعتراض
الثالث
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه : إمّا أن
يكون مثلها من جميع الوجوه. أو من بعض الوجوه لا من كلّها ، أو خلافها من جميع
الوجوه .. إلى انقضاء كلامهم .. بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه ، وإدخالكم ـ
على هذا الوجه ـ أنه حقيقة الضد والتناقض والضد لا يفعل ضدّه ، كما لا تفعل النار
التبريد إدخال فاسد. لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضدّ لخلقه ،
لأن الضد : ما حمل على التضاد ، والتضادّ : هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس
واحد ، فإذا وقع أحد الضدّين ارتفع الآخر .
وهذا الوصف بعيد
عن الباري تعالى.
وإنما التضادّ
كالخضرة والبياض اللذين يجمعهما اللون.
أو الفضيلة
والرذيلة اللتين تجمعهما الكيفية والخلق.
__________________
ولا يكون الضدّان
إلّا عرضين تحت جنس واحد ولا بدّ.
وكل هذا منفي عن
الخالق عزوجل ، فبطل بالضرورة أن يكون عزوجل ضدّا لخلقه إذ ليس كلّ خلاف ضدّا ، فالجوهر خلاف العرض من
كل وجه ـ حاشا الحدوث فقط ـ وليس ضدّا له.
ويقال أيضا لمن
قال هذا القول : هل تثبت فاعلا وفعلا على وجه من الوجوه؟ أو تنفي أن يوجد فاعل
وفعل البتة؟
فإن نفى الفاعل
والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن .
ومن دفع هذا كان
في نصاب من لا يكلّم .
وإن أثبت الفعل
والفاعل فيما بيننا ، قيل له : هل يفعل الجسم إلّا الحركة والسكون؟ فلا بدّ من نعم
.
والحركة والسكون
خلاف الجسم ـ وليسا ضدّا له ، إذ ليسا معه تحت جنس واحد أصلا ، وإنما يجمعهما
وإيّاه الحدوث فقط.
فلو كان كلّ خلاف
ضدّا لكان الجسم فاعلا لضدّه ، وهو الحركة أو السكون.
وهذا نفس ما
أبطلوا.
فصحّ بالضرورة أنه
ليس كل خلاف ضدّا. وصحّ أن الفاعل يفعل خلافه ، لا بدّ من ذلك. فبطل اعتراضهم ،
والحمد لله رب العالمين.
إفساد الاعتراض
الرابع
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ويقال لمن قال : لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة
، أو لدفع مضرة ، أو طباعا أو لا لشيء من
__________________
ذلك ، إلى انقضاء
كلامهم :
أمّا الفعل لإحراز
منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون ، وأمّا فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين
.
وكل صفات
المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو خالق لكل ما دونه.
وأمّا القسم
الثالث : وهو أنه فعل لا لشيء من ذلك فهذا هو قولنا .
ثم نقول لمن قال :
«إنّ الفعل لا لشيء من ذلك أمر غير معقول» : «ما ذا تعني بقولك غير معقول؟
أتريد أنه لا يعقل
حسّا أو مشاهدة؟ أم تقول : إنه لا يعقل استدلالا؟ فإن قلت : إنه لا يعقل حسّا
ومشاهدة ، قلنا لك : صدقت ، كما أن أزلية الأشياء لا تعقل حسّا ومشاهدة. وإن قلت :
إنه لا يعقل استدلالا. كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل ، والدّعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة ، فالاستدلال بها ساقط
، فكيف والفعل لا لشيء من ذلك متوهم ممكن متشكل غير داخل في الممتنع . وما كان هكذا فالمانع منه مبطل ، والقول به يعقل. فسقط
هذا الاعتراض.
ثم نقول : لما كان
الباري تعالى ـ بالبراهين الضرورية ـ خلافا لجميع خلقه من جميع الوجوه ـ كان فعله
خلافا لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه ، وجميع خلقه لا يفعل إلا طباعا ، أو
لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة ـ فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك. وبالله التوفيق.
إفساد الاعتراض
الخامس
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ويقال لمن قال إنّ ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو من أن يكون
جسما أو عرضا إلى منتهى كلامهم :
__________________
إنّ هذه قسمة
فاسدة بينة العوار ، وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق ، وترك الفعل ليس طويلا ، ولا عريضا ، ولا عميقا ، فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ،
والعرض هو المحمول في الجسم ، وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولا فليس
عرضا ، فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس جسما ولا عرضا ، وإنما هو عدم ،
والعدم ليس معنى ولا هو شيئا ، وترك الله تعالى للفعل ليس فعلا البتة بخلاف صفة
خلقه ، لأن الترك من المخلوق للفعل فعل.
برهان ذلك : أن
ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة ، كتارك الحركة لا يكون إلا
بفعل السكون. وتارك الأكل ، لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضا
، أو في مباعدة بعضها بعضا ، وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول.
وكتارك القيام لا
يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره.
فصحّ أن فعل
الباري تعالى بخلاف فعل خلقه ، وأن تركه للفعل ليس فعلا أصلا. فبطل استدلالهم ،
وبالله التوفيق.
البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ، ولم يبق لهم شغب أصلا بعون الله
وتأييده ، فنحن مبتدئون بتأييده ـ عزوجل ـ في إيراد
البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكن ، وتحقيق أن له محدثا لم
يزل لا إله إلا هو.
برهان اوّل
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فنقول ـ وبالله التوفيق ـ إن كل شخص في العالم ، وكل عرض في شخص ، وكل
زمان ، وكل ذلك متناه ذو أوّل نشاهد ذلك حسا وعيانا ، لأن تناهي الشخص ظاهر
بمساحته بأول جرمه وآخره ، وأيضا بزمان وجوده.
__________________
وتناهي الزمان
موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي ، وفناء كل وقت بعد وجوده ، واستئناف آخر
يأتي بعده ، إذ كل زمان نهايته الآن ، وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي ، وما بعده ابتداء
للمستقبل ، وهكذا أبدا يفنى زمان ويأتي آخر.
وكل جملة من جمل
الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ، ذات أوائل كما قدمنا.
وكل جملة أشخاص
فهي مركبة من أشخاص متناهية بعددها ، وذوات أوائل كما قدمنا ، وكل مركب من أجزاء
متناهية ذات أوائل فليس هو شيئا غير أجزائه ، إذ الكل ليس هو شيئا غير الأجزاء
التي ينحل إليها ، وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل ، فالجمل كلها بلا شك
متناهية ذات أوائل ، والعالم كله إنما هو أشخاصه ، ومكانه ، وأزمانها ، ومحمولاتها
، ليس العالم كله شيئا غير ما ذكرناه ، فالعالم كله متناه ذو أول ولا بدّ.
فإن كانت أجزاؤه
كلها متناهية ذات أول بالمشاهدة والحس ، وكان هو غير ذي أول. وقد أثبتنا بالضرورة
والعقل والحس أنه ليس شيئا غير أجزائه فهو إذا ذو أوّل ، لا ذو أوّل ، وهذا عين
المحال.
ويجب من ذلك أيضا
أن لأجزائه أوائل محسوسة ، وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول ، فأجزاؤه إذن «لها
أول ليس لها أول» وهذا محال وتخليط .
فصحّ بالضرورة أن
للعالم أولا ، إذ كل أجزائه لها أول ، وليس هو شيئا غير أجزائه. وبالله تعالى
التوفيق.
برهان ثان
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : كل موجود بالفعل فقد حصره العدد ، وأحصته طبيعته.
ومعنى الطبيعة
وحدّها : هو أن تقول : الطبيعة هي القوة التي تكون في الشيء ، فتجري بها كيفيات
ذلك الشيء على ما هي عليه.
وإن أوجزت قلت :
هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه ، وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة
، إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر له ، إذ ليس
__________________
معنى الحصر
والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصى والمحصور ، والعالم موجود بالفعل ، وكل محصور
بالعدد محصى بالطبيعة فذو نهاية ، فالعالم كله ذو نهاية ، وسواء في كل ذلك ما وجد
في مدة واحدة أو في مدد كثيرة إذ ليست تلك المدة إلّا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة
، فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشياء التي ركب منها ، فهي
كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول. فصحّ من كل ذلك أنّ ما لا نهاية له فلا
سبيل إلى وجوده بالفعل ، وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده
أبدا ، لأن وقوع البعديّة فيه هو وجود نهاية له.
وما لا نهاية له
فلا بعد له ، فعلى هذا لا يوجد شيء أبد الآبدين. والأشياء كلها موجودة بعضها بعد
بعض فالأشياء كلها ذات نهاية.
وهذان الدليلان قد
نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) [سورة الرعد : ٨].
برهان ثالث
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه ، إذ معنى الزيادة إنّما هو
أن نضيف إلى ذي النهاية شيئا من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته.
فإن كل الزمان لا
أول له يكون به متناهيا في عدده الآن ، فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من
الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئا.
وفي شهادة الحس أن
كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتد
بالله هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فإن لم يكن هذا
صحيحا فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة في كل ثلاثين سنة ـ وزحل لم يزل يدور ـ دار
الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غير خمسين دورة ـ والفلك لم
يزل يدور ـ وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك. فإذن ما لا
نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة ، وهذا محال لما قدمنا.
__________________
ولأن ما لا نهاية
له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه ، فوجبت النهاية في الزمان
من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها.
ويجب أيضا من ذلك
: أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص الإنس مضافة إلى أشخاص الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ، ولو
كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أنّ ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له ، وهذا
محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن.
وأيضا فلا شك في
أنّ الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا.
ولا شك أيضا في أن
الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كلّ للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ، ولما بعده إلى
وقتنا هذا.
فلا يخلو الحكم في
هذه القضية من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها :
إما أن يكون
الزمان مذ كان موجودا إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة.
وإمّا أن يكون أقل
منه.
وإمّا أن يكون
مساويا له.
فإن كان الزمان مذ
كان إلى وقتنا هذا أقل من الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة فالكل أقل من الجزء ،
والجزء أكثر من الكل ، وهذا هو الاختلاط وعين المحال. إذ لا يخيل على أحد أن الكل
أكثر من الجزء ، وهذا ما لا شك فيه ببديهة العقل وضرورة الحس.
وإن كان مساويا له
، فالكل مساو للجزء ، وهذا عين المحال والتخليط.
وإن كان أكثر منه
، وهذا هو الذي لا شك فيه ، فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية.
ومعنى الجزء إنما
هو أبعاض الشيء ، ومعنى الكل إنما هو جملة تلك الأبعاض فالكل والجزء واقعان في كلّ
ذي أبعاض. والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها ومكانها ،
فالعالم كل لأبعاضه ، وأبعاضه أجزاء له ، والنهاية ـ كما
__________________
قدمنا ـ لازمة لكل
ذي كل ، وذي أجزاء. والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكنا ، أو متحركا ، ولو فارقه
لم يكن الجرم موجودا ، ولا كان الزمان أيضا موجودا ، والجرم والزمان موجودان
فكلاهما لم يفارق صاحبه. والزمان ذو أول ، فالجرم ذو أول ، وهذا مما لا انفكاك له
البتة.
وأمّا ما لم يأت
بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئا ، فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا
نهاية ، ولا يوصف بشيء أصلا لأنه لا وجود له بعد. فإذا وجد لزمه حينئذ ما لزم سائر
ما قد وجد من أجناسه وأنواعه ، من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات.
وأيضا فلا شك في
أن ما وقع ووجد من الزمان إلى يومنا هذا مساو لما هو من يومنا هذا إلى ما وقع من
الزمان معكوسا. وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان. والمساوي لا يقع إلا في ذي
نهاية ، فالزمان متناه ضرورة.
وقد ألزمت بعض
الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني في هذا البرهان ، فأراد أن يعكسه على بقاء الباري عزوجل ووجودنا إياه. فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط ، لأن
الباري تعالى ليس في زمان ، ولا له مدة ولا فناء لأن الزمان إنما هو حركة كلّ ذي
الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان ، أو مدة بقائه ساكنا في مكان واحد. والباري
تعالى ليس متحركا ولا ساكنا ، فلا شك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا فناء ، ولا
هو في مكان أصلا ، وليس هو جرما ، ولا جوهرا ، ولا عرضا ، ولا عددا ، ولا جنسا ،
ولا نوعا ، ولا فصلا ، ولا شخصا ، ولا متحركا ، ولا ساكنا ، وإنما هو تعالى حق في
ذاته ، موجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره ، واحد لا واحد في العالم سواه ،
مخترع للموجودات كلها دونه ، لا يشبه شيئا من خلقه بوجه من الوجوه. وبالله تعالى
التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) [سورة فاطر : ١].
__________________
برهان رابع
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له ، فالإحصاء منّا له بالعدد والطبيعة
إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه ، إذ لو أحصي ذلك
كله لكان له نهاية ضرورة ، فإذن لا سبيل إليه.
فكذلك أيضا هو
محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى
يبلغا إلينا ، وإذا كان ذلك محالا فالعدد والطبيعة إذن لم يبلغا إلينا ، وقد
تيقّنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك. فإذا
قد أحصى العدد والطبيعة كلّ ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا ، فكذلك
الإحصاء منا إلى أوّلية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك.
وإذ ذلك كذلك
فللعالم أوّل ضرورة. وبالله تعالى التوفيق.
برهان خامس
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ، ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان ،
وهكذا أبدا. ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان. ولو لم يكن ثان لم يكن
ثالث. ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود.
وفي وجودنا جميع
الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان ، وثان بعد أوّل.
وفي صحّة هذا وجوب
أوّل ضرورة. وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل ، وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله
تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ
شَيْءٍ عَدَداً) [سورة الجن : ٢٨].
وأيضا فالآخر
والأوّل من باب المضاف ، فالآخر آخر للأول ، والأول أوّل للآخر. ولو لم يكن أوّل
لم يكن آخر.
ويومنا هذا بما
فيه ، آخر لكل موجود قبله ، إذ ما لم يأت بعد فليس شيئا ، ولا وقع عليه بعد شيء من
الأوصاف فله أول ضرورة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو : محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمهالله تعالى : أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين ، وهو : «عبد
الله بن عبد الله بن شنيف» فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال
له ابن عقبة : إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا
الوجه ، ولكن على أنّ الله تعالى ينشئ لكل ذلك بقاء محدودا ، وحركات حادثة ،
ولذّات مترادفة
أبدا وقتا بعد وقت ، إلّا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك ،
وإذا ثبت الأوّل فغير ممتنع تمادي الزمان حينا بعد حين أبدا بلا نهاية ، وهذا مثل
العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عدّ أي شيء أبدا ، فالعدد له أول
ضرورة ، يعرف ذلك بالحس والمشاهدة ، وهو قولنا واحد فإنّ هذا مبدأ العدد الذي لا
عدد قبله ، ثم الأعداد يمكن فيها الزيادة أبد الأبد لا إلى غاية ، لكن كلما خرج
منه جزء إلى حدّ الوجود وجد ، فالفعل فله نهاية ، وهكذا أبدا سرمدا. وبالله تعالى
التوفيق.
فانقطع الشنيفي ،
ولم يكن عنده إلّا الشغب.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد قال بعض أهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة
وجود موجودات لا أوائل لها : أتقولون إن الله تعالى يوفي أهل الجنة ما وعدهم من
النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك؟
فإن قلتم : إنه
تعال يوفيهم إياه. دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ، ولا فرق.
وإن قلتم : إنه
تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد والكذب ، وهو كفر عندكم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه شغيبة قد طالما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود
المنطق. وهي منفسخة من وجهين :
أحدهما : أن تعلق
المرء بما يقول خصمه ضعف ، وإنما يلزم المرء أن يخلّص قوله مجردا ، ولا أسوة له في
تناقض خصمه ، بل لعل خصمه لا يقول ذلك.
الثاني : أن
المسئول بها إن كان جهميّا سقط عنه هذا السؤال المذكور.
__________________
وأمّا نحن فعلينا
بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه ، فنقول ـ وبالله التوفيق ـ إنّ
من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يؤبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب ، فيموّهون بها
على الجهّال مما يبنون عليها.
وهذا الاعتراض من
هذا الباب.
وذلك أنهم أرادوا
إلزامنا بأن الله عزوجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيما لا نهاية له ، وهذا خطأ
وكذب ، وما وعدهم الله عزوجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ، ولو وعدهم بذلك لكان ذلك
النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى ، وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له. وكل ما
ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية ، وما لم يخرج إلى حدّ الفعل فهو عدم
بعد ، ولا يقع عليه عدد ولا صفة ، وهكذا أبدا. فقد ظهر أن لفظة «يوفيهم» هي
الشغيبة المفسدة التي موّهوا بها ، فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة
وصحت القضية. وبالله التوفيق.
فإن قال قائل :
فإن الله عزوجل يقول : (وَإِنَّا
لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) [سورة هود : ١٠٩]
قلنا : صدق الله
تعالى وهذا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن يكون أراد
بذلك نصيبهم من الجزاء ، أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة.
فإن كان عنى ـ عزوجل ـ بذلك نصيبهم من
الجزاء والنعيم فهو صحيح ، لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين
وهكذا أبدا. وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار ، فهذا صحيح ،
لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة ، وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء
بلا زيادة فيها. وقد قال ـ عزوجل ـ (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة النساء :
١٧٣]. وقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [سورة الزمر : ١٠].
وهاتان الآيتان
تبينان أن الأجر المستوفى هو كل ما يعطونه من مساحة الجنة ، وكل ما خرج إلى الوجود
من النعيم ، ثم لا يزال تعالى يزيدهم من فضله كما قال تعالى : (بِغَيْرِ حِسابٍ) فهذا لا يستوفى أبدا لأنه لا نهاية له ، ولا كل ، ولو
استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة ، إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفي فلا زيادة فيه
، وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد.
والله تعالى قد نص
على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه ، وأن ما لا نهاية
له فلا يستوفى أبدا.
فقد ثبت بكل ما
ذكرنا أن العالم ذو أول ، وإذا كان ذا أول فلا بدّ ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا
رابع لها ، وهي :
١ ـ إما أن يكون
أحدث ذاته.
٢ ـ وإما أن يكون
حدث بغير أن يحدثه غيره ، وبغير أن يحدث هو نفسه.
٣ ـ وإما أن يكون
أحدثه غيره.
فإن كان هو أحدث
ذاته ، فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي :
١ ـ إمّا أن يكون
أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة.
٢ ـ أو أحدث ذاته
وهو موجود وهي معدومة.
٣ ـ أو أحدثها
وكلاهما موجود.
٤ ـ أو أحدثها
وكلاهما معدوم.
وكل هذه الأربعة
الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها.
لأن الشيء ، وذاته
هي هو ، وهو هي.
وكلّ ما ذكرنا من
الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته.
وهذا محال وباطل
بالمشاهدة والحس.
فهذا وجه قد بطل.
ثم نقول : إن كل
ما خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته ، أو يخرجه غيره. فهو أيضا محال
، لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ، ولا حال أصلا هناك.
فإذا لا سبيل إلى
خروجه ، وخروجه مشاهد ممكن. فحال الخروج غير حال اللاخروج ، وحال الخروج هي علّة
كونه. وهذا لازم في تلك الحال ، أعني أن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في
حدوث العالم من أن تكون أخرجت نفسها ، أو أخرجها غيرها ، أو خرجت بغير هذين
الوجهين ، وهكذا في كل حال. فإن تمادي الكلام يوجب ألا نهاية. ولا نهاية في العالم
من مبدئه باطل ممتنع محال بما قدمنا.
فإذا قد بطل أن
يخرج العالم بنفسه ، وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره ، فقد ثبت الوجه الثالث ضرورة
، إذ لم يبق غيره البتة فلا بدّ من صحته ، وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى
الوجود وبالله تعالى التوفيق.
ادلة أخرى على حدوث العالم
وأيضا فإن الفلك
بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية ، وحركة دورية ، في كون كل جزء من
أجزائه في مكان الذي يليه ، والأثر مع المؤثّر من باب المضاف فإن لم يكن أثر لم
يكن مؤثّر ، وإن لم يكن مؤثّر لم يكن أثر ، فوجب بذلك أنه لا بد لهذه الآثار
الظاهرة من مؤثر أثّرها ، ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر ،
لأنه هو المؤثّر فيه ، والمؤثّر فيه مع المؤثّر والأثر من باب المضاف أيضا ، ومعنى
قولنا أنّ المؤثّر والأثر والمؤثّر فيه من باب المضاف إنما هو أنّ الأثر والمؤثّر
فيه يقتضيان مؤثّرا ولا بد.
ولم يرد أن الباري
تعالى يقع تحت الإضافة فلا بدّ ضرورة من مؤثّر ليس مؤثّرا فيه ، وليس هو شيئا مما
في العالم ، فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى.
فصحّ بهذا أنّ
العالم كلّه محدث ، وأنّ له محدثا هو غيره.
هذا إلى ما نراه
ونشاهده بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشك فيها ذو عقل.
ومن بعض ذلك :
تراكيب الأفلاك وتداخلها ، ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ، ثم أفلاك تداويرها
، والبون بين حركة أفلاك التداوير ، والأفلاك الحاملة لها ، ودوران الأفلاك كلها
من غرب إلى شرق ، ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب ، وإدارته
لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك ، فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة.
فبالضرورة نعلم أن
لها محركا على هذه الوجوه المختلفة.
ثم تراكيب أعضاء
الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدّبة في المقعّرة ، وتركيب العضل على تلك
المداخل ، والشدّ على ذلك بالعصب والعروق.
صناعة ظاهرة لا شك
فيها ، لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط.
ومن ذلك ما يظهر
في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ، ووبره ، وشعره ، وظفره ،
وقشره ، على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه ، كأصباغ الحجل ، والشفانين (اليمام)
، والسّمان ، والبزاة ، وكثير من الطير والسلاحف ، والحشرات والسمك ، لا يختلف
تنقيطه البتة ، ولا تكون أصباغه موضوعة إلّا وضعا واحدا كأذناب الطواويس ـ وفي
السمك والجراد والحشرات ـ نوعا واحدا كالذي يصوّره المصور بيننا. ثم منها ما يأتي
مختلفا كأصباغ الدّجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان.
فبالضرورة والحس
نعلم أنّ لذلك صانعا مختارا يفعل ذلك كله كما شاء ، ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبدا عمّا
شاء من ذلك ، وليس يمكن البتة في حسّ العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطا
لا تفاوت فيه من فعل الطبيعة ، ولا بد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك.
ومن درى ما
الطبيعة ، علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط ،
وبالضرورة يعلم أن لها واضعا ، ومرتّبا ، وصانعا ، لأنها لا تقوم بنفسها ، وإنما
هي محمولة على ذي الطبيعة.
ومنها ما يرى في
ليف النخل ، والدّوم من النسج المصنوع يقينا بنيرين وسدى كالذي يصنعه النسّاج ، ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط ،
وليس هذا البتة من فعل طبيعة ، ولا بنسج ناسج ، ولا بنّاء ، ولا صانع أصباغ مرتبة.
بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء.
هذا أمر معلوم
بضرورة العقل وأوله يقينا ، كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين. فصحّ أنه
خالق أوّل واحد حقّ لا يشبه شيئا من خلقه البتة لا إله إلّا هو الواحد الأول
الخالق عزوجل.
القسم الثالث
باب الكلام على من قال : إن العالم لم يزل
،
وله مع ذلك فاعل لم يزل
قال «أبو محمد» : (رضي
الله عنه) : قد أفسدنا بحول الله وقوته بالبراهين التي قدمنا هذه المقالة. ولكن
بقي لهم اعتراض وجب إيراده تقصّيا لكلّ ما موّهوا به.
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : اعتمد أهل هذه المقالة على أن قالوا : إنّ علة فعل الباري تعالى لما
فعل إنما هو : جوده ، وحكمته ، وقدرته ، وهو تعالى لم يزل جوادا حكيما قادرا.
فالعالم لم يزل ، إذ علته لم تزل.
وهذا فاسد البتة
بالأدلة التي قدمنا التي لا تضطر إلى المعرفة والتيقن بحدوث العالم.
ثم نقول : إنه
إنما يلزم هذا من أقر بهذه المقدمة أعني أن للعالم علة ، وأما نحن فإنّا نقول :
إنه لا علّة لتكوين الله عزوجل كلّ ما كوّنه ، وأنه لا شيء غير الخالق وخلقه ، ثم نقول
على علم هؤلاء قولا كافيا إن شاء الله تعالى :
وهو أن المفعول هو المتنقل من العدم إلى الوجود ، بمعنى من ليس ، إلى شيء
، فهذا هو المحدث.
ومعنى المحدث : هو
ما لم يكن ثم كان.
وهم يقولون : إنه
الذي لم يزل ، وهذا هو خلاف المعقول ، لأن الذي لم يكن ثم كان هو غير الذي لم يزل
، فالعالم إذن هو غير نفسه ، وهذا هو عين المحال ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال لنا قائل
:
لما كان الباري
تعالى غير فاعل على قولكم ثم صار فاعلا ، فقد لحقته استحالة ، وتعالى الله عن ذلك.
قلنا له وبالله
التوفيق : هذا السؤال راجع عليكم إذ صححتموه فهو لكم لازم ، لا لنا لأنا لا نصححه
، وذلك أنه إن كان عندكم الفعل منه بعد أن كان غير فاعل يوجب الاستحالة على الفاعل
تعالى ، فإنّ فعله لما أحدث من الأعراض عندكم بعد أن كان غير محدث لها ، وإعدامه
ما أعدم منها بعد أن كان غير معدم لها موجب عليه الاستحالة.
فأجيبوا عن سؤالكم
الذي صححتموه ، ولا جواب لكم إلا بإفساده.
وأمّا نحن فنقول :
إنّ الاستحالة ليست ما ذكرتم. وإنما معنى الاستحالة : أنه
__________________
حدوث شيء في
المستحيل لم يكن فيه قبل ذلك ثم صار فيه مستحيلا عن صفته المحمولة عليه إلى غيرها.
وهذا المعنى منفي
عن الله تعالى ، أي أنه تعالى يجل عن أن يكون حاملا لصفة فيه. بل بذاته لم يفعل إن
كان غير فاعل ، وبذاته فعل إن فعل ، ولا علة لما فعل ، ولا علّة لما لم يفعل.
وأيضا : فإنّ الذي
لم يزل هو الذي لا فاعل له ، ولا مخرج له من عدم إلى وجود ، فلو كان العالم لم يزل
لكان لا مخرج له ولا فاعل له.
وقد أقرّ أهل هذه
المقالة بأنّ العالم لم يزل ، وأن له فاعلا لم يزل يفعل وهذا عين المحال والتخليط
والفساد. وبالله تعالى التوفيق.
القسم الرابع
باب الكلام على من قال إن للعالم خالقا لم يزل ، وإن النفس والمكان المطلق
الذي هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل
موجودة ، وأنها غير محدثة
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : والنفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه ، حامل لأعراضه لا متحرك ، ولا
منقسم ، ولا متمكن أي لا في مكان.
وقد ناظرني قوم من
أهل هذا الرأي ، ورأيته كالغالب على ملحدي أهل زماننا ، فألزمتهم إلزامات لم
ينفكوا عنها ، أظهرت بطلان قولهم بعون الله تعالى وقوّته. ولم نر واحدا ممن تكلم
قبلنا ذكر هذه الفرقة ، فجمعت ما ناظرتهم به وأضفت إليه ما وجبت إضافته إليه مما
فيه تزييف قولهم. وما توفيقنا إلّا بالله تعالى.
وهذا الزمان
والمكان عندهم هما غير الزمان والمكان المعهودين عندنا لأن المكان المعهود عندنا :
هو المحيط بالمتمكّن فيه من جهاته أو من بعضها.
وهو ينقسم قسمين :
إمّا مكان يتشكل
المتمكّن فيه بشكله كالبرى ، أو الماء في الخابية ، أو ما أشبه ذلك.
__________________
وإمّا مكان يتشكل
هو بشكل المتمكّن فيه كالماء لما حلّ فيه من الأجسام ، وما أشبهه.
والزمان المعهود
عندنا : هو مدة وجود الجرم ساكنا أو متحركا ، أو مدة وجود العرض في الجسم.
ويعمّه أن نقول :
هو مدة وجود جرم الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات.
وهم يقولون : إنّ
الزمان المطلق والمكان المطلق هما غير ما حدّدناه آنفا من الزمان والمكان. ويقولون
: إنهما شيئان متغايران.
ولقد كان يكفي في
بطلان قولهم إقرارهم بمكان غير ما يعهد ، وزمان غير ما يعهد بلا دليل على ذلك.
ولكن لا بدّ من
إيراد البراهين على إبطال دعواهم في ذلك بحول الله وقوته.
فيقال لهم وبالله
تعالى التوفيق :
أخبرونا عن هذا
الخلاء الذي أثبتم وقلتم إنه كان موجودا قبل حدوث الفلك وما فيه. هل بطل بحدوث
الفلك ما كان منه في مكان الفلك قبل أن يحدث الفلك أو لم يبطل؟.
فإن قالوا : لم
يبطل وبذلك أجابني بعضهم.
فيقال لهم : فإن
كان لم يبطل ، فهل انتقل عن ذلك المكان بحدوث الفلك في ذلك المكان أو لم ينتقل؟
فإن قالوا : لم
ينتقل ـ وهو قولهم ـ قيل لهم : فإذا لم يبطل ، ولا انتقل ، فأين حدث الفلك وقد كان
في موضعه قبل حدوثه عندكم معنى ثابتا قائما بنفسه موجودا؟ وهل حدث الفلك في ذلك
المكان المطلق الذي هو الخلاء أم في غيره؟
فإن كان حدث في
غيره. فها هنا إذا مكان آخر غير الذي سميتموه خلاء.
وهو إمّا مع الذي
ذكرتم في حيز واحد أم هو في حيّز آخر.
فإن كان معه في
حيز واحد ، فالفلك فيه حدث ضرورة ، وقد قلتم إنه لم يحدث فيه. فهو إذا حادث فيه
غير حادث فيه ، وهذا تناقض ومحال.
وإن كان في حيز
آخر فقد أثبتم النهاية للخلاء ، إذ الحيز الآخر الذي حدث فيه
الفلك ليس هو في
ذلك الخلاء ، وهذا ينطوي فيه بالضرورة نهاية الخلاء الذي ذكرتم فهو متناه لا متناه
، وهذا تناقض وتخليط.
وإذا بطل أن يكون
غير متناه ، وثبت أنه متناه ، فهو المكان المعروف المعهود المضاف إلى المتمكن فيه
، وهذا هو المكان الذي لا يعرف ذو عقل سواه.
وإن كان الفلك حدث
فيه والفلك ملاء بلا شك ، ولم ينتقل الخلاء عندكم ولا بطل ، فالفلك إذا خلاء وملاء
معا في مكان واحد. وهذا محال وتخليط.
فإن قالوا : بطل
بحدوث الفلك ما كان منه في موضع الفلك قبل حدوث الفلك ، أو قالوا : انتقل. فقد
أوجبوا له النهاية ضرورة. إمّا من طريق الوجود بالبطلان ، إذ لا يفسد ويبطل إلّا
ما كان حادثا لا ما لم يزل. وإمّا من طريق المساحة بالنقلة ، إذ لو لم يجد أين
ينتقل لم تكن له نقلة ، إذ معنى النقلة إنما هو تصيير الجرم إلى مكان لم يكن فيه
قبل ذلك ، أو إلى صفة لم يكن عليها قبل ذلك.
ووجوده مكانا
ينتقل إليه موجب أنه لم يكن في ذلك المكان الذي انتقل إليه قبل انتقاله إليه وهذا
هو إثبات النهاية ضرورة فهذا هو الذي أبطلوا.
ويلزمهم في ذلك
أيضا أن يكون متحيزا ضرورة لأن الذي بطل منه هو غير الذي لم يبطل ، والذي انتقل
هو غير الذي لم ينتقل.
وهو إذا كان كذلك
، فإمّا هو جسم ذو أجزاء ، وإمّا هو محمول في جسم فهو ينقسم بانقسام الجسم.
وقد أثبتنا
النهاية للجسم في غير هذا المكان من كتابنا هذا بما فيه البيان الضروري ، والحمد
لله رب العالمين.
وأيضا ، فإن كان
لم يبطل : فالذي كان منه في موضع الفلك ثم لم يبطل ، ولا انتقل لحدوث الفلك فيه ،
فهو والفلك إذا موجودان في حيز واحد معا ، فهو إذا ليس مكانا للفلك لأن المكان لا
يكون مع المتمكن فيه في مكان واحد ، وهذا يعرف بأولية العقل. ولو كان ذلك لكان
المكان مكانا لنفسه ، ولما كان واحدا منهما أولى بأن يكون مكانا للآخر من الآخر
بذلك. ولا كان أحدهما أولى أيضا بأن يكون متمكنا في
__________________
الآخر من الآخر
فيه. وكل هذا فاسد ومحال بالضرورة.
وأيضا فإن الخلاء
عندهم مكان لا متمكّن فيه ، والفلك عندهم موجود في الخلاء إذ لا نهاية للخلاء
عندهم من طريق المساحة ، فإذا كان الفلك متمكنا في الخلاء عندهم والخلاء عندهم
مكان لا متمكّن فيه ، فالخلاء إذن مكان فيه متمكن ليس فيه متمكن. وهذا محال
وتخليط.
وهذا بعينه لازم
في قولهم إن ذلك الجزء من الخلاء لم ينتقل لحدوث الفلك فيه ، فإن قالوا انتقل ،
فإنما صار إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك خلاء ولا ملاء فقد ثبت عدم الخلاء والملاء
فيما فوق الفلك ضرورة ، وهذا خلاف قولهم.
وإن قالوا بطل ،
لزمهم أيضا أنه قد عدّته المدد ضرورة ، فإذا عدّته المدد فقد تناهى من أوله
بالمبدإ ضرورة.
فإن قالوا : بل لم
يحدث الفلك في شيء من ذلك المكان الذي هو الخلاء. فقد أثبتوا حيزا آخر ، ومكانا
للفلك غير الخلاء الشامل عندهم.
وإذا كان ذلك فقد
تناهى كلا المكانين من جهة تلاقيهما ضرورة ، وإذا تناهيا من جهة تلاقيهما لزمتهما
المساحة ، ووجب تناهيهما لتناهي ذرعهما ضرورة.
ويسألون أيضا عن
هذا الخلاء الذي هو عندهم مكان لا متمكّن فيه : هل له مبدأ متصل بصفحات الفلك
العليا أم لا مبدأ له من هنالك؟ ولا بد من أحد الأمرين ضرورة.
فإن قالوا : لا
مبدأ له. وهو قولهم. قيل لهم إنّ قول القائل «مكان» ، إنما يفهم منه ما يتمثل في
النفس من المقصود بهذه اللفظة وموضعها في اللغة لتكون عبارة عن التفاهم بالمراد
بها أنه مساحة ، ولا بدّ للمساحة من الذرع ضرورة ، ولا بد للذرع من مبدأ لأنه كمية ، والكمية أعداد
مركبة من الآحاد.
فإن لم يكن له
مبدأ من واحد ، اثنين ، ثلاثة ، لم يكن عدد. وإذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلا.
وإذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة ، ولا انفساح ولا مسافة.
وكل هذه الألفاظ
واقعة إما على ذرع المذروع ، وإما على مذروع بالذرع
__________________
ضرورة. فإن قالوا
: له مبدأ من هنالك. وجبت له النهاية ضرورة لحصر العدد لمساحته بوجود المبدأ له.
ويسألون أيضا : أمماس
هو للفلك أم غير مماس ، وباين عنه أم غير باين ؟
فإن قالوا : لا
مماس ولا مباين. فهذا أمر لا يعقل بالحس ، ولا يتشكل في النفس ، ولا يقوم على صحته
برهان أبدا إلّا في الأعراض المحمولة في الأجسام. وهم يقولون : إن الخلاء عرض
محمول في جسم. وكل دعوى لم يقم عليها دليل فهي باطلة مردودة.
وإن أثبتوا المماسة
أو المباينة وجب عليهم ضرورة إثبات النهاية له كما لزم بإثبات المبدأ ، إذ النهاية
منطوية في ذكر المبدأ ، والمماسة أو المباينة ضرورة لا شك فيها. وبالله التوفيق.
ويسألون أيضا عن
هذا الخلاء الذي يذكرون ، والزمان الذي يثبتون : أمحمولان هما أم حاملان؟ أم أحدهما
محمول والثاني حامل؟ أم كلاهما لا حامل ولا محمول؟
فأيهما أجابوا فيه
بأنه حامل فلا شك في أن محموله غيره ، إذ لا يكون الشيء حاملا لنفسه ، فله إذا
محمول لم يزل وهو غير الزمان. فإن قالوا ذلك كلّموا بما قدّمنا قبل على أهل الدّهر
القائلين بأزلية العالم.
وأيضا فإن كان
المكان حاملا فلا يخلو ضرورة من أحد وجهين :
إما أن يكون حاملا
لجرم متمكن فيه ، وهذا يوجب النهاية له لوجوب نهاية الجرم المتمكن فيه بالدلائل
التي قدمنا في إثبات نهايات الأجرام. وإمّا أن يكون حاملا لكيفياته ، فإن كان
حاملا لكيفياته فهو مركب من هيولاه وأعراضه ، وجنسه وفصوله.
وبالضرورة يعلم كل
ذي حس سليم أن كل مركب فهو متناه بالجرم والزمان بالدلائل التي قدمنا. ولا سبيل
إلى حمل ثالث.
وأيهما قالوا فيه
إنه محمول فإنه يقتضي حاملا ، وبعكس الدليل الذي ذكرنا آنفا سواء بسواء.
__________________
وأيهما قالوا فيه
إنه حامل محمول وجب كل ما ذكرنا فيه أيضا بعكسه.
وأيهما قالوا فيه
لا حامل ولا محمول ، فلا يخلو من أن يكون باقيا أو يكون بقاء.
فإن كان باقيا فهو
مفتقر إلى بقاء وهو مدته إذ لا باقي إلا ببقاء.
وإذا كان بقاء فلا
بدّ له من باق به ، وهذا من باب الإضافة.
والمدة وهي البقاء
إنما هي محمولة ، وباعثة للباقي بها ضرورة ، هذا الذي لا يقوم في العقل سواه ، ولا
يقوم برهان إلّا عليه.
ويسألون أيضا عن
هذا الزمان الذي يذكرون : هل زاد في مدة اتصاله مذ حدث الفلك إلى يومنا هذا ، أو
لم يزد في أمده؟
فإن قالوا : لم
يزد ذلك في أمده ، كانت مكابرة لأنها مدة متصلة بها مضافة إليها وعدد زائد على
عدد.
فإن قالوا : زاد
ذلك في أمده سئلوا : متى كانت تلك المدة أطول؟ أقبل الزيادة أم هي وهذه الزيادة
معا؟
فإن قالوا : هي
والزيادة معها ، فقد أثبتوا النهاية ضرورة ، إذ ما لا نهاية له فلا يقع فيه زيادة
ولا نقص ، ولا يكون شيء مساويا له ، ولا أكثر منه ، ولا أنقص منه. ولا يكون هو
أيضا منفصلا أصلا ، فلا يكون مساويا لنفسه كما هو ، ولا أكثر من نفسه ولا أقل منه.
فإن قالوا : ليست
هي والزيادة معها أطول منها قبل الزيادة ، فقد أثبتوا أن الشيء وغيره معه ليس أكثر
منه وحده ، وهذا باطل.
وهم يقولون : إن
الخلاء والزمان المطلق شيئان متغايران ، فيقال لهم : فإذا هما كذلك فبأي شيء انفصل
بعضهما من بعض؟
فإن قالوا :
انفصلا بشيء ما وذكروا في ذلك أيّ شيء ذكروه ، فقد أثبتوا لهما التركيب من جنسهما
وفصلهما.
وأيضا فجعلهم لهما
شيئين إيقاع منهم للعدد عليهما ، وكل عدد فهو متناه محصور ، وكل محصور فقد سلكته الطبيعة ، وكل ما سلكته الطبيعة فهو متناه ضرورة.
__________________
فإن أرادوا
إلزامنا في الباري تعالى مثل ما ألزمناهم في هذا السؤال ، فقالوا : أيما أكثر :
الباري تعالى وحده أم الباري وخلقه معا؟
قلنا : هذا سؤال
فاسد بالبرهان الضروري ، لأن هذا البرهان إنما هو على وجوب حدوث الزمان ، وما لم
ينفك من الزمان ، وعلى حدوث النوامي كلها فقط. والباري تعالى لا زمان له ولا هو من
النوامي.
وأيضا فإن الباري
تعالى ليس عددا ، ولا بعض عدد ، ولا هو أيضا معدود ولا بعض المعدود ، لأن واحدا
ليس عددا بالبرهان الذي نورده في الباب الذي يتلو هذا الباب إن شاء الله تعالى.
ولا واحد على
الحقيقة إلّا الله عزوجل فقط. فهو الذي لا يتكثر البتة ولا ينضاف إلى سواه ، إذ لا
يجمعه مع شيء سواه عدد ولا صفة البتة ، لأن كل ما وقع عليه اسم واحد مما دونه
تعالى ، فإنما هو مجاز لا حقيقة. لأنه إذا قسّم استبان أنه كان كثيرا لا واحدا.
فلذلك وقع العدد على الأجرام والأعداد المسماة آحادا في العالم. وأما الواحد في
الحقيقة فهو الذي ليس كثيرا أصلا ، ولا يتكثر بوجه من الوجوه فلا يقع عليه عدد
بوجه من الوجوه ، لأنه يكون حينئذ واحدا لا واحدا كثيرا وهذا تخليط ومحال وممتنع
لا سبيل إليه.
فلا يجوز أن يضاف
الواحد الأول إلى شيء مما دونه لا في عدد ، ولا كمية ، ولا في جنس ، ولا في صفة ،
ولا في معنى من المعاني أصلا.
وبالله تعالى
التوفيق.
فإن ذكر ذاكر قول
الله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) [سورة المجادلة :
٧].
فمعنى قوله تعالى
: «هو رابعهم ، وهو سادسهم» ، إنما هو فعل فعله فيهم وهو أنه ربّعهم بإحاطته بهم
لا بذاته ، وسدّسهم بإحاطته بهم لا بذاته ، أو قد يربّعهم بملك يشرف عليهم ،
ويسدّسهم كذلك.
وبرهان هذا القول
: أن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الآية ـ بلا خلاف بل بضرورة العقل من كل
سامع ـ أنه لا تخفى عليه نجواهم ، وهذا نص الآية لأنه تعالى افتتحها بذكر نجوى
المتناجين ، إنما أراد عزوجل علمه بنجواهم لا أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم. حاشا
لله من ذلك. إذ من المحال الممتنع الخارج عن رتبة الأعداد
والمعدودين أن
يكون الله عزوجل معدودا بذاته مع ثلاثة بالهند ، ومع ثلاثة بالسند ، ومع
ثلاثة بالعراق ، ومع ثلاثة بالصين في وقت واحد ، لأنه لو كان ذلك لكان الذين هو
رابعهم بالهند ، مع الثلاثة الذين هو رابعهم بالصين ، ثمانية كلهم لأنهم أربعة
وأربعة بلا شك ، فكان تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال.
وكذلك إذا كان
بذاته سادسا لخمسة هاهنا فهم ستة ، ورابعا لثلاثة هنالك فهم أربعة فهم كلهم بلا شك
عشرة فهو إذا اثنان.
وكذلك قوله تعالى
في الآية نفسها (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ
أَيْنَ ما كانُوا) [سورة المجادلة :
٧].
إنما أضاف تعالى
الأينية إليهم لا إلى نفسه تعالى ـ معناه أينما كانوا فهو تعالى معهم بإحاطته ، إذ
محال أن يكون بذاته في مكانين.
فبطل اعتراضهم
والحمد لله رب العالمين كثيرا.
وليس قول القائل :
الله ورسوله ، أو الله وعمر ، مما يعترض به علينا ، لأننا لم نمنع من ضم اسمه
تعالى إلى اسم غيره معه ، لأن الاسم كلمة مركبة من حروف الهجاء ، وإنما منعنا من
أن تعد ذاته تعالى مع أي شيء غيره ، إذ العدد إنما هو جمع شيء إلى غيره في قضية ما
والله تعالى لا يجمعه وخلقه شيء أصلا ، فصح انتفاء العدد عنه تعالى. وإذ صحّ
انتفاء العدد عنه صح أنه ليس معدودا البتة ، والحمد لله رب العالمين.
ويسألون أيضا : أهذا
الزمان والمكان اللذان يذكران ، أهما واقعان تحت الأجناس والأنواع أم لا؟ وهل هما
واقعان تحت المقولات العشر أم لا؟
فإن قالوا : لا ،
فقد نفوهما أصلا ، وأعدموهما البتة ، إذ لا مقول من الموجودات إلّا هو واقع تحتها
، وتحت الأجناس والأنواع. حاشا الحق الأول الواحد الخالق عزوجل الذي علم بضرورة الدلائل ، ووجب لها خروجه عن الأجناس
والأنواع والمقولات.
وبالجملة شاءوا أو
أبوا ، فالخلاء والزمان المطلق اللذان يذكران إن كانا موجودين فهما واقعان تحت جنس
الكمية والعدد ضرورة ، فإذا كان ذلك كذلك فهذا الزمان الذي ندريه نحن وهم ، وذلك
الزمان الذي يدّعونه هما واقعان جميعا تحت جنس «متى».
__________________
وكذلك المكان الذي
يدّعونه واقع مع المكان الذي نعرفه نحن وهم تحت جنس «أين».
وبالضرورة يجب أن
ما لزم بعض ما تحت الجنس مما يوجبه له الجنس ـ فإنه لازم لكل ما تحت ذلك الجنس ،
وإذ لا شك في هذا فهما مركبان ، والنهاية فيهما موجودة ضرورة إذ المقولات كلها
كذلك.
وأيضا فإن المكان
لا بدّ له من مدّة يوجد فيها ضرورة ، فنسألهم : هل تلك المدة هي الزمان الذي
يدّعونه أم هي غيره؟
فإن كانت هي هو ،
فهو زمان للمكان فهو محمول في المكان ، فهو ككل زمان لذي الزمان فلا فرق.
وإن كانت غيره ،
فها هنا إذن زمن ثالث غير مدة ذلك المكان ، وغير الزمان الذي ندريه نحن وهم ، وهذه
وساوس لا يعجز عن ادّعائها كل من لم يبال بما يقول ولا استحيا من فضيحة.
ويقال لهم : إذ
ليس المكان الذي تدّعونه والزمان الذي تدّعونه واقعين مع المكان المعهود والزمان
المعهود تحت جنس وحدّ واحد ... فلم سميتموه مكانا وزمانا؟ وهلّا سميتموهما باسمين
مفردين لهما ليبعدا بذلك عن الإشكال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشتركة؟!
فإن كانا مع الزمان والمكان المعهودين تحت جنس واحد ، فقد بطلت دعواكم زمانا
ومكانا غير الزمان والمكان المعهودين بالضرورة. وبالله تعالى التوفيق.
ويسألون أيضا عن
هذا الزمان والمكان غير المعهودين : أهما داخل الفلك أم خارجه؟ أم لا داخل ولا
خارج؟
فإن قالوا : هما
داخل الفلك فالخلاء إذا هو الملاء ، والمكان إذا في المتمكن يعني في داخله. وهذا
محال ، والزمان إذن هو الذي لا يعرف غيره.
وإن قالوا : هما
خارج الفلك ، أوجبوا لهما نهاية ابتداء مما هو خارج الفلك.
وإن قالوا : لا
خارج ولا داخل ، فهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ، ولا برهان على صحتها فهي باطل.
فإن قالوا : أنتم
تقولون هذا في الباري تعالى؟ قلنا لهم : نعم ، لأن البرهان قد قام على وجوده ،
فلما صحّ وجوده تعالى قام البرهان بوجوب خلافه لكل ما في العالم على
أنه لا داخل ولا
خارج ، وأنتم لم يصح لكم برهان على وجود الخلاء والزمان الذي تدّعونه ، فصار
كلامكم كله دعوى. وبالله التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ولم نجد لهم سؤالا أصلا ، ولا أتونا قط بدليل فنورده عنهم ، ولا وجدنا
لهم شيئا يمكن الشغب به في أزلية الخلاء والمدة فنورده عنهم ، وإن لم يتنبهوا له ،
وإنما هو رأي قلدوا فيه بعض قدماء الملحدين فقط. وبالله التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكانا مطلقا ، وذكروا أنه لا يتناهى ،
وأنه مكان لا متمكن فيه ، وأنه برهان ضروري لا انفكاك منه ـ وأطرف شيء أنه برهانهم
الذي موّهوا به وشغبوا بإيراده ، وأرادوا به إثبات الخلاء ـ وهو أننا نرى الأرض
والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبدا ، وطلب
الوسط والمركز ، وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلّا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهرا ، فإذا
رفعناهما ارتفعا ، فإذا تركناهما عادا إلى طبعهما بالرسوب ، ونجد النار والهواء
طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط ، ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسر
تدخل عليهما. ويرى ذلك عيانا كالزقّ المنفوخ ، والإناء المجوف المصوب في الماء ، فإذا زالت تلك
الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما ، ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقى الماء
فيها صعدا ولا يسفل. ونجد الزرّاقة ترفع التراب والزئبق والماء ، ونجد إذا حفرنا بئرا امتلأ
هواء وسفل الهواء حينئذ. ونجد المحجمة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها.
فليس كل هذا إلّا
لأحد وجهين لا ثالث لهما ، إمّا عدم الخلاء جملة كما نقول نحن وإمّا لأن طبع
الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء.
__________________
فنظرنا في قولهم :
إن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فوجدناه دعوى
بلا دليل فسقط.
ثم تأملناه أخرى :
فوجدناه عائدا عليهم ، لأنه إذا اجتذبت الأجسام ولا بد فقد صار ملاء ، فالملاء
حاضر موجود ، والخلاء دعوى لا برهان عليها ؛ فسقطت وثبت عدم الخلاء.
ثم نظرنا في قولنا
، فوجدناه يعلم بالمشاهدة ، وذلك أننا لم نجد لا بالحس ولا بتوهم العقل بالإمكان
مكانا يبقى خاليا قطّ دون متمكّن ، فصحّ الملاء بالضرورة وبطل الخلاء ، إذ لم يقم
عليه دليل ولا وجد قط ، وبالله تعالى التوفيق.
ثم نقول لهم : إن
كان خارج الفلك خلاء على قولكم فلا يخلو من أن يكون جنس هذا الخلاء الذي تدّعون
أنه يجتذب الأجسام بطبعه ، أو يكون من غير جنسه ، لا بد من أحد هذين الوجهين ضرورة
، ولا سبيل إلى ثالث البتة.
فإن قالوا : هو من
جنسه ـ وهو قولهم ـ فقد أقروا بأن طبع هذا الخلاء الغالب بجميع الطبائع هو أن
يجتذب المتمكنات إلى نفسه فيمتلئ بها ، حتى أنه يحيل قوى العناصر عن طباعها ، فوجب
أن يكون ذلك الخلاء الخارج عن الفلك كذلك أيضا ضرورة ، لأن هذه صفة طبعه وجنسه ،
فوجب بذلك ضرورة أن يكون متمكنا فيه ولا بدّ وإذا كان هذا ـ وذلك الخلاء عندهم لا
نهاية له ـ فالجسم المالئ له أيضا لا نهاية له ، وقد قدّمنا البراهين الضرورية أنه
لا يجوز وجود جسم لا نهاية له وهذا القول يوجب وجود جسم لا نهاية له ، وكل ما أوجب
كون ما لا يكون فهو باطل لا يكون أصلا فالخلاء باطل.
ولو كان ذلك أيضا
لكان ملاء لا خلاء ، وهذا خلاف قولهم.
ثم يقال لهم : بأي
شيء عرفتموه؟ وبم استدللتم عليه؟ وكيف وجب أن تسموه خلاء ، وهو ليس خلاء ، وهذا لا
مخلص لهم منه. وبالله تعالى التوفيق. وهم في هذا سواء ومن قال : إنّ في مكان خارج
من العالم ناسا لا يحدّون بحدّ الناس ، ولا هم كهؤلاء الناس ، أو من قال : إنّ في
خارج الفلك نارا غير محرقة ليست من جنس هذه النار وكل هذا حمق وهوس.
قال «أبو محمد» :
وكل ما أدخلنا في الباب من إبطال قولهم بأزلية المكان والزمان ، فهو لازم في قولهم
بأزلية النفس أيضا ولا فرق ، وبالله تعالى التوفيق.
باب الكلام على من قال : إن فاعل العالم ومدبّره أكثر من واحد
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : افترق القائلون بأن فاعل العالم أكثر من واحد فرقا ، ثم ترجع هذه
الفرق إلى فرقتين :
(أ)
فإحدى الفرقتين
تذهب إلى أن العالم غير مدبّريه ، وهم القائلون بتدبير الكواكب السبعة ، وأزليتها
، وهم المجوس ، فإن المتكلمين ذكروا عنهم أنهم يقولون : إن الباري عزوجل لما طالت وحدته استوحش ، فلما استوحش فكر فكرة سوء فتجسمت
فاستحالت ظلمة ، فحدث منها «اهرمن» وهو إبليس ، فرام البارئ تعالى إبعاده عن نفسه
فلم يستطع ، فتحرز منه بخلق الخيرات ، وشرع «اهرمن» في خلق الشر ، ولهم في ذلك
تخليط كثير.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا أمر لا تعرفه المجوس بل قولهم الظاهر هو أن الباري تعالى ، وهو «أورمن»
، وإبليس وهو «اهرمن» ، و «كام» وهو الزمان ، و «جام» وهو المكان ، وهو الخلاء
أيضا ، و «توم» وهو الجوهر ، وهو أيضا «الهيولى» ، وهو أيضا «الطينة» و «الخميرة»
خمسة لم تزل. وأن «أهرمن» هو فاعل الشرور. وأن «أورمن» فاعل الخيرات. وأن «توم» هو
المفعول فيه كل ذلك.
وقد أفردنا في نقض
هذه المقالة كتابا في نقض كلام محمد بن زكريا الرازي الطبيب ، في كتابه الموسوم ب «العلم
الإلهي».
والمجوس يعظمون
الأنوار ، والنيران ، والمياه ، إلّا أنهم يقرون بنبوّة «زرادشت» ، ولهم شرائع
يضيفونها إليه.
ومنهم «المزدكية»
: وهم أصحاب مزدك الموبذ ، وهم القائلون بالمساواة في المكاسب ، والنساء.
والخرّمية : أصحاب بابك. وهم فرقة من فرق المزدكية ، وهم أيضا سر
مذهب
__________________
الإسماعيلية ، ومن
كان على قول القرامطة ، وبني عبيد وعنصرهم.
وقد يضاف إلى جملة
من قال إن مدبّر العالم أكثر من واحد الصابئون ، وهم يقولون بقدم الأصلين على ما
قدمنا من نحو قول المجوس ، إلّا أنهم يقولون بتعظيم الكواكب السبعة ، والبروج
الاثني عشر ، ويصورونها في هياكلهم ويقولون بقدمها ، ويقربون الذبائح ، والدخن ، ولهم صلوات خمس في اليوم والليلة تقرب من صلوات المسلمين
، ويصومون شهر رمضان ، ويستقبلون في صلاتهم الكعبة والبيت الحرام ، ويعظمون مكة
والكعبة ، ويحرمون الميتة ، والدّم ، ولحم الخنزير ، ويحرمون من القرائب ما يحرم
على المسلمين ، وعلى نحو هذه الطريقة تفعل الهند بالبددة في تصويرها على أسماء الكواكب وتعظيمها ، وهو كان أصل
الأوثان في العرب ، والدقاقرة في السودان ، حتى آل الأمر طول الزمان إلى عبادتهم
إيّاها. وكان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر ، والغالب على أهل
الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث ، وبدّلوا شرائعه بما ذكرنا ، فبعث الله عزوجل إليهم إبراهيم خليله صلىاللهعليهوسلم بدين الإسلام الذي نحن عليه الآن ، وتصحيح ما أفسدوه
بالحنيفية السمحة التي أتى بها محمد صلىاللهعليهوسلم ، من عند الله تعالى. فبيّن لهم كما نصّ في القرآن بطلان
ما أحدثوه ، من تعظيم الكواكب وعبادتها وعبادة الأوثان ، فلقي منهم ما نصّه الله
في كتابه ، وكانوا في ذلك الزمان وبعده يسمّون بالحنفاء ، ومنهم اليوم بقايا «بحرّان» ، وهم قليل جدّا فهذه فرقة. ويدخل في هذه الفرقة من وجه ،
ويخرج منها من وجه آخر النصارى.
فأما الوجه الذي
يدخلون به فهو قولهم بالتثليث ، وأن خالق الخلق ثلاثة.
وأمّا الوجه الذي
يخرجون به فهو أنّ للصابئين شرائع يسندونها إلى «هرمس» ويقولون إنه «إدريس» ، وإلى
قوم آخرين ، يذكرون أنهم أنبياء «كإيلون» ويقولون إنه «نوح» عليهالسلام ، و «اسفلانيوس» صاحب الهيكل الموصوف و «عاظيمون» و «يوداسف»
__________________
وغيرهم. والنصارى
لا يعرفون هؤلاء ، لكن يقرون بنبوة كل نبي تعرفه من بني إسرائيل ، وإبراهيم وإسحاق
، ويعقوب عليهمالسلام ، ولا يعرفون نبوة إسماعيل ، وصالح ، وهود ، وشعيب.
وينكرون نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وعلى إخوته الأنبياء
عليهمالسلام ، والصابئون لا يقرون بنبوة أحد ممن ذكرنا أصلا ، وكذلك
المجوس لا يعرفون إلّا زرادشت فقط.
(ب)
وأما الفرقة
الثانية فإنها تذهب إلى أنّ العالم هم مدبروه لا غيرهم البتة ، وهم : الديصانية ،
والمرقيونية ، والمانية : القائلون بأزلية الطبائع الأربع وأنها بسائط غير ممتزجة
، ثم حدث الامتزاج فحدث العالم بامتزاجها. فأمّا المانية فإنهم يقولون إنّ أصلين
لم يزالا وهما نور وظلمة ، وأن النور والظلمة حيان ، وأن كليهما غير متناه إلّا من
الجهة التي لاقى منها الآخر ، وأما من جهاته الخمس فغير متناه ، وأنهما جرمان ، ثم
لهم في وصف امتزاجهم أشياء شبيهة بالخرافات ، وهم أصحاب «ماني». وقال المتكلمون :
إن «ديصان» كان تلميذ «ماني» وهذا خطأ بل كان أقدم من «ماني» لأن «ماني» ذكره في
كتبه وردّ عليه. وهما متفقان في كل ما ذكرنا إلّا أنّ الظلمة عند «ماني» حية ،
وقال «ديصان» : هي موات.
وكان «ماني» راهبا
بحرّان ، وأحدث هذا الدّين ، وهو الذي قتله الملك «بهرام بن بهرام» وإذ ناظره
بحضرته «أذرباذ بن ماركسفند موبذ موبذان» في مسألة قطع النسل ، وتعجيل فراغ العالم
، فقال له «الموبذ» : أنت الذي تقول بتحريم النكاح ليستعجل فناء العالم ، ورجوع كل
شكل إلى شكله ، وإن ذلك حقّ واجب؟
فقال له «ماني» :
واجب أن يعان النور على خلاصه بقطع النسل مما هو فيه من الامتزاج.
فقال له : «أذرباذ»
فمن الحق الواجب أن يعجّل لك هذا الخلاص الذي تدعو إليه ، وتعان على إبطال هذا
الامتزاج المذموم. فانقطع «ماني». فأمر «بهرام» بقتل «ماني» فقتل هو وجماعة من
أصحابه. وهم لا يرون الذبائح ، ولا إيلام الحيوان ، ولا يعرفون من الأنبياء عليهمالسلام إلا عيسى عليهالسلام وحده ، ويقرون بنبوة «زرادشت» ويقولون بنبوة «ماني».
وقالت : «المزدقية»
أيضا كذلك إلّا أنهم قالوا : نور وظلمة لم يزالا ، وثالث أيضا بينهما لم يزل ،
إلّا أن هؤلاء كلهم متفقون على أن هذه الأصول لم تحدث شيئا هو غيرها ، لكن حدث من
امتزاجها ومن أبعاضها بالاستحالة صور العالم كله.
فهذه الفرق كلها
مطبقة على أن الفاعل أكثر من واحد ، وإن اختلف في العدد والصفة ، وكيفية الفعل ،
وإلزامات الشرائع.
وكلامنا هذا كلام
اختصار وإيجاز وقصد إلى استيعاب قواعد الاستدلال ، والبراهين الضرورية ، والنتائج
الواجبة من المقدمات الأولية الصحيحة ، وإضراب عن الشغب والتطويل الذي يكتفى بغيره
عنه ، فإنما وعدنا بعون الله تعالى أن نبين بالبراهين الضرورية : أن الفاعل واحد
لا أكثر البتة ، ونبين بطلان أن يكون أكثر من واحد كما فعلنا بتأييد الله عزوجل ، إذ بينا بالبراهين الضرورية أن العالم محدث كان بعد أن
لم يكن ، وأن له مخترعا ومدبرا لم يزل فإذا ثبت أنه تعالى واحد بطلت الأقوال التي
ذكرنا كلها وسقطت خرافاتهم المضافة إلى الأوائل الفاسدة في وصفهم الفاعلين وكيفية
أفعالهم ، إذ لا تكون صفة إلّا لموصوف ، فإذا بطل الموصوف بطلت الصفة التي وصفوه
بها.
وأما الاشتغال
بأحكامهم الشرعية فلسنا من ذلك في شيء ، لأنه ليس من الشرائع العلمية شيء يوجبه
العقل ، ولا شيء يمنع منه العقل ، بل كلها من باب الممكن ، فإذا قامت البراهين
الضرورية على صحة قول الآمر بها ، ووجوب طاعته ، وجب قبول كل ما أتى به كائنا ما
كان من الأعمال ، ولو أنه قتل أنفسنا ، وأبناءنا ، وآباءنا ، وأمهاتنا ، وإذا لم
يصح قول الآمر بها ، ولم يصح وجوب طاعته لا يلتفت إلى ما يأمر به أي شيء كان من
الأعمال.
وكل شريعة كانت
على خلاف هذا فهي باطلة.
فكلامنا مع الفرق
التي ذكرنا في إثبات أن الفاعل الأول واحد لا أكثر ، وإبطال أن يكون أكثر من واحد.
وهو حاسم لكل شغب يأتون به بعد ذلك ، وكاف من التكلف لما قد كفته المرء بيسير من
البيان. وما توفيقنا إلا بالله تعالى.
ونبدأ بحول الله
تعالى وقوته بإيراد عمدة ما موّهوا به في إثبات أن الفاعل أكثر من واحد. ثم ننقضه
بحول الله تعالى وقوّته بالبراهين الواضحة ، ثم نشرع إن شاء الله تعالى في إثبات
أنه تعالى واحد بما لا سبيل إلى ردّه ولا اعتراض فيه كما فعلنا فيما خلا من كتابنا
والحمد لله رب العالمين.
فنقول وبالله
تعالى التوفيق :
حجج القائلين بأن الفاعل أكثر من واحد
إنّ عمدة ما عوّل
عليه القائلون بأن الفاعل أكثر من واحد ، استدلالان فاسدان :
أحدهما
: هو استدلال : المانية ، والديصانية ، والمجوس ، والصابئة ،
والمزدكية
ومن ذهب مذاهبهم ،
وهو أنهم قالوا : وجدنا الحكيم لا يفعل الشر ، ولا يخلق خلقا ثم يسلط عليه غيره ،
وهذا عيب في المعهود. ووجدنا العالم كله ينقسم قسمين ، كل قسم منهما ضد الآخر
كالخير والشر ، والفضيلة والرذيلة ، والحياة والموت ، والصدق والكذب.
فعلمنا أن الحكيم
لا يفعل إلّا الخير ، وما يليق فعله به ، وعلمنا أن الشرور لها فاعل غيره ، وهو شر
مثلها.
والاستدلال
الثاني : وهو استدلال من قال بتدبير الكواكب السبعة ، والاثني عشر
برجا ، ومن قال بالطبائع الأربع. وهو أن قالوا :
لا يفعل الفاعل
أفعالا مختلفة إلّا بأحد وجوه أربعة :
إمّا أن يكون ذا قوى
مختلفة.
وإمّا أن يفعل
بآلات مختلفة.
وإما أن يفعل
باستحالة.
وإما أن يفعل في
أشياء مختلفة.
قالوا : فلما بطلت
هذه الوجه كلها ، إذ لو قلنا : إنه يفعل بقوى مختلفة لحكمنا عليه بأنه مركب ، فكان
يكون من أحد المفعولات.
ولو قلنا : إنه
يفعل باستحالة ، لوجب أن يكون منفعلا للشيء الذي أحاله ، فكان يدخل في جملة
المفعولات.
ولو قلنا إنه يفعل
في أشياء مختلفة لوجب أن تكون تلك الأشياء معه ، وهو لم يزل ، فتلك الأشياء لم تزل
فكان حينئذ لا يكون مخترعا للعالم ولا فاعلا له.
قالوا : فعلمنا
بذلك أن الفاعلين كثير ، وأن كل واحد يفعل ما يشاكله.
إبطال هذه الأدلة
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فهذه عمدة ما عوّل عليه من لم يقل بالتوحيد ، وكلا هذين الاستدلالين
خطأ فاحش على ما نبين إن شاء الله تعالى.
فيقال وبالله
تعالى التوفيق ، لمن احتج بما احتجت به المانية ، من أنه لا يفعل الحكيم الشر ولا
العبث :
ـ لا يخلو علمكم
بأن هذا الشيء شر وعبث من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن تكونوا
علمتموه بسمع وردكم وخبر.
وإمّا أن تكونوا
علمتموه بضرورة العقل.
فإن قلتم : إنكم
علمتموه بطريق السمع. قيل لكم : هل معنى السمع شيء غير أن مبتدع الخلق ومرتبة سمّى
هذا الشيء شرّا وأمر باجتنابه ، وسمّى هذا الشيء الآخر خيرا وأمر بإثباته؟
ـ فلا بدّ من نعم
، إذ هو هذا معنى اللازم عند كل من قال بالسمع.
فيقال لهم : فإنما
صار الشرّ شرّا لنهي الواحد الأول عنه ، وإنما صار الخير خيرا لأمره به.
فلا بدّ من نعم.
فإذا كان هذا ، فقد ثبت أن من لا مبدع ولا مدبر له ولا آمر فوقه لا يكون شيء من
فعله شرّا ، إذ السبب في كون الشرّ شرّا هو الإخبار بأنه شر ، ولا مخبر يلزم طاعته
إلا الله تعالى.
فإن قالوا : فكيف
يفعل هو شيئا قد أخبر أنه شر؟
قيل لهم : ليس
يفعل الجسم فيما يشاهد غير الحركة والسكون ، والحركة كلها جنس واحد في أنها نقلة
مكانية ، وكذلك السكون جنس واحد كله ، فإنما أمرنا تعالى بفعل بعضها ، ونهانا عن
فعل بعضها ، ولم يفعل هو تعالى الحركة قط على أنه متحرك بها ، ولا السكون على أنه
ساكن به ، وإنما فعلهما على سبيل الإبداع. فتحرّكنا نحن بحركة نهينا عنها ،
وسكوننا بسكون نهينا عنه هو الشر لا شر غيره أصلا. وكذلك اعتقاد النفس ما نهيت عنه
ـ وهذا كله غير موصوف به الباري تعالى.
وإن قالوا : علمنا
ذلك ببداهة العقل.
قيل لهم وبالله
التوفيق :
أليس العقل قوة من
قوى النفس وداخلا تحت الكيفية على الحقيقة أو تحت الجوهر على قول من لا عقل؟ فلا
بد من نعم ، إنما يؤثر العقل ما هو من شكله في باب الكيفيات فيميز بين خطئها
وصوابها ، ويعرف أحوالها ومراتبها.
وأمّا فيما هو
فوقه ، وفيما لم يزل والعقل معدوم ، وفي مخترع العقل ومرتبه كما هو ، فلا تأثير
للعقل فيه ، إذ لو أثّر فيه لكان محدثا ، لما قدّمنا من أنّ الأثر من باب المضاف ،
فهو يقتضي مؤثرا فكان يكون الباري تعالى منفعلا للعقل ، وكان يكون العقل فاعلا فيه
تعالى ، وحاكما عليه جلّ الله عن ذلك.
وقد بيّنا في
كتابنا هذا أن الباري تعالى لا يشبهه شيء من خلقه بوجه من الوجوه ، ولا يجري مجرى
خلقه في معنى ولا حكم.
وذكرنا أيضا فيه
إبطال قول من قال بتسمية الباري حيّا ، أو حكيما ، أو قادرا ، أو غير ذلك من سائر
الصفات من جهة الاستدلال حاشا أربعة أسماء فقط ، وهي : الأول ، الواحد ، الحق ،
الخالق فقط. وهذه الأسماء هي التي لا يستحقها شيء في العالم غيره ، فلا أول سواه
البتة ، ولا واحد سواه البتة ، ولا خالق سواه البتة ، ولا حقّ سواه البتة على
الإطلاق. وكل ما دونه تعالى فإنما هو حق بالباري تعالى ، ولو لا الباري تعالى ما
كان شيء في العالم حقّا ، وما دونه تعالى فإنما حقّ بالإضافة.
ولو لا أن السمع
قد ورد بسائر الأسماء التي ورد الخبر الصادق بها ، ما جاز أن يسمى الله عزوجل بشيء منها ، ولكن قد بيّنا في مكانه من هذا الكتاب على أي
شيء تسميته بما ورد السمع ، وأن ذلك تسمية لا يراد بها غيره تعالى ، ولا يرجع منها
إلى شيء سواه البتة.
وأيضا فإنّ دليلهم
فيما سموا به الباري تعالى ، وأجروا عليه إقناعيّ شغبيّ وفيه تشبيه للخالق بخلقه.
وفي تشبيههم له
بخلقه حكم عليه بالحدوث ، وأن يكون الفاعل مفعولا ، وقد قدمنا إبطال ذلك.
ويقال لهم : إن
التزمتم أن يكون فاعل الشر فيما عندنا عابثا فقررتم بذلك على أن يكون فاعل العالم
واحدا ، فقد علمنا فيما بيّنّا أن تارك الشيء لا يغيره وهو قادر على تغييره عابث
ظالم.
ولا يخلو فاعل
الخيرات عندكم من أن يكون قادرا على تغيير الشر والمنع منه أو لا يكون قادرا على
ذلك ، فإن قلتم إنه قادر على تغييره والمنع منه ولم يغيّره ، فقد صار عندكم عابثا
ضرورة ، فقد وقعتم فيما عنه فررتم ضرورة.
وإن قلتم : إنه
غير قادر على تغييره ، ولا المنع منه ، فهو بلا شك عاجز ضعيف.
وهذه صفة سوء
عندكم ، فهلا تركتم القول بأنه أكثر من واحد لهذا الاستدلال ، فإنه أصح على أصولكم
ومقدّماتكم؟
وأما نحن فمقدمتكم
عندنا فاسدة بالبرهان الذي ذكرناه.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : والمانية تزعم أن النور كان في العلو إلى ما
لا نهاية له ، وأن
الظلمة في السفل إلى ما لا نهاية له ، وأن كل واحد منهما متناهي المساحة من الجهة
التي لاقى منها الآخر ، وغير متناه من جهاته الخمس ، وأن اللذة للنور خاصة لا للظلمة
، وأن الأذى للظلمة خاصة لا للنور.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فأما بطلان هذا القول في عدم التناهي من الجهات الخمس ، فيفسد بما أوجبنا به تناهي جسم العالم.
وأمّا قولهم
بالعلو والسفل فظاهر الفساد ، لأن السفل لا يكون إلا بالإضافة ، وكذلك العلو.
فكل علو فهو سفل
لما فوقه حتى تنتهي إلى الصفحة العليا من الفلك الأعلى التي لا صفحة فوقها ، وهم
يقرون بهذا.
وكل سفل فهو علو
لما تحته حتى تنتهي إلى المركز ، وهم يقرون بهذا.
فصح ضرورة أن في
الظلمة على قولهم علوّا وأن في النور سفلا.
وأمّا قولهم في
اللّذة والأذى ففاسد جدّا ، لأن اللذة لا تكون إلّا بالإضافة ، وكذلك الأذى.
فإنّ الإنسان لا
يلتذ بما يلتذ به الحمار ، ويتأذى بما لا تتأذى به الأفعى ، فبطل هوسهم بيقين
والحمد لله رب العالمين.
سؤال على المانية
دامغ لقولهم بحول الله وقوته ، وهو أن يقال لهم :
ألهذه الأجساد أنفس
أم لا؟
فإن قالوا : لا.
قيل لهم : فهذه الأجساد لا تخلو على أصولكم من أن يكون في كل جسد منها نور وظلمة
أو يكون بعض الأجساد نورا محضا ، وبعضها ظلمة محضة؟
فإن قالوا : في كل
جسد نور وظلمة ـ قيل لهم : فهل يجوز من الظلمة فعل الخير؟ فلا بدّ من لا ، لأنه لو
فعلت الخير لانتقلت إلى النور ، وكذلك لا يجوز أن يفعل النور شرّا لأنه كان يصير
ظلمة.
__________________
فيقال لهم : فأي
معنى لدعائكم إلى الخير ، ونهيكم عن النكاح والقتل؟ وأخبرونا ، من تدعون إلى كل ذلك؟
فإن كنتم تدعون
النور فهو طبعه ، وهو فاعل له بطبعه قبل أن تدعوه إليه ، لا يمكنه أن يحول عنه.
فدعاؤكم له إلى ما يفعله ، وأمركم له بترك ما لا يفعله عبث من النور ، داع إلى
المحال. وهذا خلاف أصلكم.
وإن كنتم تدعون
للظلمة فذلك عبث من النور الداعي لها إلى ذلك ، إذ لا سبيل لها إلى ترك طبعها.
وهكذا يقال لهم
سواء بسواء ، إن قالوا : إنّ من الأجساد ما هو نور محض ، ومنها ما هو ظلمة محضة.
وهكذا يسألون في
الأرواح إن أقروا بها.
ثم يسألون عمن
رأيناه ينكح ، ويقتل ، ويظلم ، ويكذب ثم تاب عن كل ذلك من القاتل الظالم؟ أهو
النور أم الظلمة؟ ومن التائب؟ النور أم الظلمة؟
فأيّ ذلك قالوا
فهو هدم مذهبهم ، وقد جوّزوا الاستحالة.
فإن قالوا : معنى
دعائنا إلى ما ندعو إليه من ذلك إنما هو حض للنور على المنع للظلمة من ذلك.
قيل لهم : أكان
النور قادرا على منعها قبل دعائكم أم لا؟
فإن قالوا : كان
قادرا. قيل لهم : فقد ظلم بتركه إيّاها تظلم وهو يقدر على منعها قبل دعائكم.
وإن قلتم : لم
يذكر حتى نبّه. قيل لهم : فهذا نقص منه وجهل ، وصفات شر لا تليق بالنور على قولكم.
وهذا ما لا انفكاك
لهم منه.
وأيضا فيقال لهم :
إنّ الدّاعي منكم إلى دينه لا يقول لمن دعاه كف غيرك عن ظلمه ، إنما يقول له : كفّ
عن ظلمك ، وارجع عن ضلالك ، ولقد أحسنت في رجوعك عن الباطل إلى الحق.
فإن كنتم تأمرون
بأن يخاطب بذلك الظلمة فالآمر بذلك كاذب آمر بالكذب.
__________________
وإن كنتم تأمرون
بأن يخاطب بذلك النور ، فالآمر بذلك أيضا كاذب آمر بالكذب.
فإن قالوا : فأي
معنى لدعائكم إلى الخير ، وقد سبق علم الله تعالى فيمن يعلمه ومن لا يعلمه؟
قيل لهم : جواب
بعضنا في هذا هو أنّ كل من يدعى إلى الخير فممكن وقوعه منه ، وممكن أيضا فعل الشر
منه ، ومتوهم كل ذلك منه ، فوجه دعائنا له معروف ، وليس علم الله تعالى إجبارا ،
وإنما هو أنه تعالى علم ما يختاره العبد.
وجواب بعضنا في
ذلك هو : أن فاعل كل ما يبدو في العالم فعل خلق وإبداع فهو لله عزوجل لا يتعقب عليه ، فهو خالق دعائنا من ندعوه . فإذ ذلك كذلك فلا يجوز سؤال الخالق لما شاء بلم فعلت؟
وهذا هو الجواب الذي نختاره.
ويقال لهم أيضا :
أخبرونا عن «ماني» و «المسيح» و «زرادشت» وأنتم تعظمونهم ، أفيهم ظلمة أم كانوا
أنوارا محضة؟
فمن قولهم ولا بد
: إن فيهم ظلمة ، لأنهم يتغوّطون ، ويجوعون ويألمون. فيقال لهم : فبعض من تعظمون
ظلمة مسخوطة ، ويقال لهم : من فعل تلك العجائب التي تنسبون إليهم؟ فمن قولهم :
النور الذي فيهم. فيقال لهم : فلم عجز النور الذي فيكم عن مثل ذلك؟
فإن قالوا :
لقلّته. قيل لهم : فكان يجب أن يأتي من المعجزات ولو بيسير على قدره. وهذا ما لا
مخلص لهم منه البتة أصلا.
ويقال لهم أيضا :
إنّ من العجائب التزامكم ترك النكاح لتعجلوا قطع التناسل فهبكم قدرتم على ذلك في
الناس ، فكيف تصنعون في الوحش ، والطير ، وسائر الحيوان البري ، والحشرات ، وحيوان
المياه والبحار التي تقتل بعضها بعضا أشدّ من قتل بعض الناس لبعض وأكثر؟ فكيف
السبيل إلى قطع تناسلها وفراغ امتزاجها؟ وهذا ما لا سبيل لكم إليه أصلا.
فإن كان النور
عاجزا عن قطعها عن ذلك فلا سبيل له إلى خلاص أجزائه أبد الأبد. وإن كان على ذلك
قادرا فلم لم يعجل خلاص أجزائه؟ ولم يتركها تتردّد في الظلمات؟
__________________
وأعجب شيء منعهم
من القتل ، وهذا عون منهم على بقاء المزاج ، وعلى منع الخلاص وتأخره ، وكان القتل
أبلغ شيء في تمام مرادهم وبغيتهم من تعجيل الخلاص واستنقاذ النور وقطع المزاج.
وهذا تناقض ظاهر منهم لا خفاء به ، وبالله تعالى نتأيد.
وكل ما قدمنا من
البراهين على حدوث العالم ، وإيجاب النهاية في جرمه وأشخاصه وأزمانه فهو لازم
للأصلين النور والظلمة على أصول المانية ، وعلى كل من يقول بأن الفاعل أكثر من
واحد ، وأنه لم يزل مع الفاعل غيره لزوم ضرورة. وبالله تعالى التوفيق.
وأما الاستدلال
الثاني الذي عوّلوا فيه على أقسام من يفعل أفعالا مختلفة فهو استدلال فاسد أيضا ،
لأنهم إنما عوّلوا فيه على الأقسام الموجودة في العالم.
وقد قدمنا
البراهين الضرورية على حدوث العالم ، وعلى أنّ محدثه لا يشبهه في شيء من الأشياء ،
فلا سبيل إلى أن يدخل تحت شيء من أقسام العالم ، لكنه تعالى يفعل الأشياء المختلفة
والأشياء المتفقة مختارا لكل ذلك كما شاء وحين شاء ، لا علة لشيء من ذلك ، إذ
قدّمنا أنّ كل ما حصرته الطبيعة فهو متناه ، والمتناهي محدث على ما قدّمنا ، وكل
من فعل فعلا واحدا لا يفعل غيره فإنما يفعل بطباعه كالنار التي لا تفعل إلا فعلا
واحدا وهو الإحراق ، وتصعيد الرطوبات ، وسائر ما يفعل بطباعه. فلو كان الباري
تعالى لا يفعل إلا فعلا واحدا لوجب أن يكون ذا طبيعة ، وإذ ليس ذا طبيعة فواجب في
العقل ألا يكون يفعل فعلا واحدا بل أفعالا مختلفة ، وبطلت الأقسام الأربعة التي
قدمنا من أن يكون ذا قوة مختلفة أو فاعلا بآلات ، أو فاعلا باستحالة ، أو فاعلا في
أشياء ، لأن هذا كله يقتضي أن يكون محدثا تعالى الله عن ذلك ، وهو لم يزل ، فقد
وجب ضرورة أن يكون الباري تعالى يفعل ما يشاء من مختلف ومتفق ، مختارا دون علة
موجبة عليه شيئا من ذلك ، ولا بقوة هي غيره. وبالله تعالى التوفيق.
وكلّ ما ألزمناه
من يقول إنّ العالم لم يزل من البراهين الضرورية فهو لازم للمانية ، والدّيصانية ،
والمرقونية ، والقائلين بأزلية الطبائع والهيولى ، لأن العالم عند هؤلاء ليس هو
شيئا غير تلك الأصول التي لم تزل عندهم ، وإنما حدثت فيهم عندهم الصورة فقط.
ويدخل أيضا عليهم
القول بتناهي الأصلين لأنهما عندهم جسمان ، والجسم متناه ضرورة لبرهانين نوردهما
إن شاء الله تعالى. وذلك أننا نقول :
لا يخلو كل جرم من
الأجرام من أن يكون متحركا أو ساكنا.
فإن كان متحركا
فقد علمنا أن المسافة التي تتناهى لا تقطع أصلا ، لا في زمان متناه ، ولا في زمان
غير متناه.
ثم لا تخلو حركته
من أن تكون ، إمّا باستدارة وإمّا إلى جهة من الجهات ، ولا ثالث لهذين الوجهين.
فإن كان متحركا
باستدارة وهو غير متناه فهذا محال ، لأن الخطّين الخارجين من الوسط إلى الشرق وإلى
العلو غير متناهيين إذن ، فكان يجب أن يكون الجزء الذي في سمت المشرق منه لا يبلغه
إلى العلو الذي هو سمت الرأس منه أبدا ، فقد بطلت الحركة إذن على هذا ، فهو متحرك
لا متحرك ، وهذا محال مع مشاهدة العيان ، لقطع كل جزء من الفلك الكلي جميع مسافته
ورجوعه إلى حيث ابتدأ منه في كل أربع وعشرين ساعة.
وإن كان متحركا
إلى جهة من الجهات فهذا أيضا محال ، لأن الحركة نقلة من مكان إلى مكان ، فإذا وجد
هذا الجسم مكانا ينتقل إليه لم يكن فيه قبل ذلك فقد ثبتت النهاية له ضرورة ، لأن
وجوده غير كائن في المكان الذي انتقل إليه موجب لانقطاعه قبله.
وإن كان لم يزل في
المكان الذي انتقل إليه ، وهكذا فيما بعده من الأمكنة فلم يزل غير منتقل ، وقد
قلتم : إنه لم يزل منتقلا ، فهو إذن متحرك لا متحرك ، وهذا محال.
وإن قلتم : ساكن.
قلنا لكم : اقطعوا من هذا الجرم قطعة بالوهم ، فإذا توهّموا ذلك سألناهم : متى كان
هذا الجرم أعظم؟ أقبل أن تقطع منه هذه القطعة؟ أو بعد أن قطعت؟ فأيّا ما قالوا ،
أو إن قالوا : إنه مساو لنفسه قبل أن تقطع منه هذه القطعة ، فقد أثبتوا النهاية ،
إذ لا تقطع الكثرة والقلة والتساوي إلّا في ذي نهاية.
وأيضا فإن المكان
والجرم مما يقع تحت العدد كوقوع الزمان تحت العدد إلّا في نهاية ، وأيضا فإن كان
المكان والجرم مما يقع تحت العدد فكل ما أدخلناه ـ فيما خلا من تناهي الزمان ـ من
طريق العدد فهو لازم في تناهي المكان والجرم من طريق العدد بالمساحة. وبالله تعالى
التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وكل ما ألزمنا من يقول بأن الأجسام لم تزل فهو لازم بعينه لمن يقول
بأن السبعة الكواكب والاثني عشر برجا لم تزل لأنها أجسام جارية تحت أقسام الفلك
وحركته ، فانظر هنالك ما ألزمناه في حدوث الأجسام وأزمانها فهو لازم لهؤلاء ،
وتركنا ما يلزم المانية وغيرها في فروع أقوالهم ، كقولهم في المزاج
والخلاص وصفات
النور والظلمة إذ إنما قصدنا اجتثاث أصول المذاهب الفاسدة في أن الفاعل أكثر من
واحد ، واعتمدنا البيان في إثبات الواحد فقط ، فإذ قد ثبت ذلك ببراهين ضرورية بطل
كل ما فرعوه من هذا الأصل الفاسد ، إذ إنما قصدنا ما تدفع إليه الضرورة من
الاستيعاب لما لا بدّ منه بإيجاز بحول الله تعالى وقوته.
وأمّا من جعل
الفاعل أكثر من واحد إلّا أنهم جعلوهم غير العالم كالمجوس والصابئين ، والمزدكية ،
ومن قال بالتثليث من النصارى ، فإنه يدخل عليهم من الدلائل الضرورية بحول الله
وقوته ما نحن نورده إن شاء الله تعالى. فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إنّ ما كان أكثر
من واحد ، فهو واقع تحت جنس العدد ، وما كان واقعا تحت جنس العدد فهو نوع من أنواع
العدد ، وكل ما كان نوعا فهو مركب من جنسه العام له ولغيره ، ومن فصل خصّه ليس في
غيره ، وله موضوع وهو الجنس القابل لصورته وصورة غيره من أنواع ذلك الجنس ، وله
محمول وهو الصورة التي خصته دون غيره ، فهو ذو موضوع وذو محمول ، فهو مركب من جنسه
وفصله ، والمركب مع المركب من باب المضاف الذي لا بد لكل واحد منهما من الآخر ،
فأما المركب فإنما يقتضي وجود المركب من وقت تركبه ، وحينئذ يسمى مركبا لا قبل
ذلك.
وأمّا الواحد فليس
عددا لما سنبينه إن شاء الله تعالى بعد انقضاء الكلام في هذا الباب وبالله تعالى
التوفيق.
ومن البرهان على
أن الفاعل للعالم ليس إلّا واحدا : أن العالم لو كان مخلوقا لاثنين فصاعدا لم يخل
من أن يكون لم يزالا مشتبهين أو مختلفين ، فأيّا ما قالوا فقد أثبتوا معنى فيهما أو في
أحدهما به اشتبها أو به اختلفا ، فإن نفوا ذلك فقد نفوا الاختلاف والاشتباه
معا ، ولا يجوز ارتفاعهما معا أصلا ، لأن ذلك محال وموجب للعدم ، لأن وجود شيئين
لا يشتبهان في شيء ولا يختلفان بوجه من الوجوه محال ، إذ في ذلك عدمهما ، لأن هذه
الصفة معدومة ، وإذا كانت الصفة معدومة فحاملها معدوم ، وهم قد أثبتوا وجودها
فيلزمهم القول بموجود معدوم في وقت واحد من وجه واحد وهذا محال. وهم إذا أثبتوهما
موجودين لم يزالا فقد أثبتوا لهما معاني قد اشتبها فيها ،
__________________
وهي كونهما
مشتبهين في الوجود ، مشتبهين في الفعل ، مشتبهين في أن لم يزالا. ولا يجوز أن تكون
هذه الأشياء ليست غيرهما لأنها صفات عمّتهما : أعني اشتباههما في المعاني المذكورة
، فإن كان اشتباههما هو هما فهما شيء واحد ، وكذلك أيضا يلزم في كونهما مختلفين في
أن كلّ واحد منهما غير صاحبه ، فإن كان هذا الاختلاف فيهما هو غيرهما ، فها هنا
ثالث ، وهكذا أيضا أبدا. وسنذكر ما يدخل في هذا إن شاء الله تعالى. وإن كان التغاير
هو هما ، والاشتباه هو هما فالتغاير هو الاشتباه ، وهذا هو عين المحال ، لأنه لا
بدّ من معنى موجود في المتغاير ليس اشتباها لأن معنى التغاير هو أن هذا هو غير هذا
ولا يجوز أن يكون الشيئان مشتبهين بالتغاير. فإذ قد ثبت ما ذكرناه ، ولم يكن بد من
اشتباه أو اختلاف هو معنى غيرهما ، فقد ثبت ثالث ، وإذ ثبت ثالث لزم فيهم ثلاثتهم
مثل ما لزم في الاثنين من السؤال ، وهكذا أبدا. وهذا يوجب ضرورة أن كل واحد منهما
أو أحدهما مركب من ذاته ، ومن المعنى الذي بان به عن الآخر ، أو به أشبه الآخر.
فإن أثبتوا ذلك
لهما جميعا ، وكلاهما مركب ، والمركب محدث فهما مخلوقان لغيرهما ولا بدّ.
وإن أثبتوا ذلك
لأحدهما فقط كان مركبا ، وكان الآخر هو الفاعل له ، فقد عاد الأمر إلى واحد غير
مركب ولا بدّ ضرورة.
ويوجب أيضا إن
تمادوا على ما ألزمناهم من وجوب معنى به بان كلّ من الآخر وجود قدماء لم يزالوا ،
ووجود فاعلين آلهة أكثر من المألوهين. وهذا محال ، لأنه لا سبيل إلى وجوب أعداد
قائمة ظاهرة في وقت واحد لا نهاية لها ، لأنه إن كان لها عدد فقد حصرها ذلك العدد
على ما قدّمنا ، وكل ما حصر فهو متناه ، وقد أوجبنا عليهم القول بأنها غير متناهية
، فلزمهم القول بأعداد متناهية لا متناهية ، وهذا من أعظم المحال.
فإن لم يكن لها
عدد فليست موجودة ، لأن كلّ موجود فله عدد ، وكل ذي عدد متناه كما قدمنا.
فإن قال قائل :
فبأيّ شيء انفصل الخالق عن الخلق؟ وبأي شيء انفصل الخلق بعضه من بعض؟ وأراد أن
يلزمنا في ذلك مثل الذي ألزمناه في الأدلة المتقدمة ، قيل له وبالله التوفيق :
الخلق كله حامل
ومحمول ، فكل حامل فهو منفصل من خالقه ، ومن غيره من
الحاملين بمحموله
، وبما هو عليه مما باين به سائر الحاملين من فصله ، ونوعه ، وجنسه ، وخواصه ،
وأعراضه ، في مكانه وسائر كيفياته.
وكل محمول فهو
منفصل من خالقه ومن غيره من المحمولات بحامله ، وبما هو عليه مما باين فيه سائر
المحمولات ، من نوعه ، وجنسه ، وفصله.
والباري تعالى غير
موصوف بشيء من ذلك كله. وبالله تعالى التوفيق.
وقد ذكرنا في باب
الكلام في بقاء الجنة والنار ، وبقاء الأجسام فيها بلا نهاية ، وفيما خلا من
كتابنا ، الانفصال ممن أراد أن يلزمنا هنالك ما ألزمناهم نحن هنالك من القول
بالأعداد التي لا تتناهى. إلا أننا نذكر هنا من ذلك إن شاء الله تعالى طرفا كافيا ـ
وبالله تعالى التوفيق وبه نستعين ـ فنقول :
إن الفرق بين
المسألتين المذكورتين أننا لم نوجب نحن في الجنة والنار وجود أعداد لا تتناهى. بل
قولنا : إن أعدادهم متناهية لا تزيد ولا تنقص ، وأن مساحة النار والجنة محدودة
متناهية لا تزيد ولا تنقص ، وأن كل ما ظهر من حركاتهم ومددهم فيها فمحصورة
متناهية. وإنما نفينا عنها النهاية بالقوة بمعنى أن الباري تعالى محدث لهم في كلتا
الدارين بقاء ومددا ، ونعيما وعذابا ، أبدا لا إلى غاية. وليس ما ظهر من ذلك بعضا
لما لم يظهر ، فيلزمنا أن يكون اسم كل ما يقع على الموجود والمعدوم لأن الموجود لا
يكون بعضا للمعدوم ، وإنما هو بعض لموجود مثله ، هذا يعلم بالحس لأن الأسماء إنما
تقع على معانيها. ومعنى الوجود إنما هو ما كان قائما في وقت من الأوقات ، ماض من
الأوقات أو حالّ منها. فما لم يكن هكذا فليس موجودا ، وأبعاض الموجودات كلها
موجودة ، فكلها موجود ، وكلها كان موجودا فليس الموجود بعضا للمعدوم ، والعدم هو
إبطال الوجود ونفيه ، ولا سبيل إلى أن تكون أبعاض الشيء التي يلزمها اسمه الذي لا
اسم لها سواه يبطل بعضها بعضا.
وقد يمكن أن يشغب
مشغب في هذا المكان فيقول : قد وجدنا أبعاضا لا يقع عليها اسم كلها كاليد والرجل
والرأس ، وسائر الأعضاء ليس شيء منها يسمى إنسانا فإذا اجتمعت وقع عليها كلها اسم
إنسان.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا شغب لأننا إنما تكلمنا على الأبعاض المتساوية التي كان بعض منها
يقع عليه اسم الكل كالماء الذي كل بعض منه ماء ، وكله ماء ، وليس الإنسان الجزء من
هذا الباب. وكل بعض من أبعاض الموجود فإنه يقع عليه اسم موجود.
وقد يمكن أن يشغب
أيضا مشغب في قولنا : إن الأبعاض لا تتنافى ، فيقول : إن الخضرة تنافي البياض ،
وكلاهما بعض للون الكلي ، فهذا أيضا ليس مما أردناه في شيء ، لأن قولنا موجود ليس
جنسا فيقع على أنواع المتضادات ، وإنما هو إخبار عن وجود أشياء قد تساوى كلها في
وجودنا إياها حقا ، فهو يعم بعضها كما يعم كلها ، وأيضا فإن الخضرة لا تضاد البياض
في أن هذا لون ، بل يجتمعان في هذا المعنى اجتماعا واحدا لا يختلفان فيه ، وإنما
اختلفا بمعنى آخر. وكذلك لا يخالف موجود موجودا في أنه موجود ، والموجود يخالف
المعدوم في هذا المعنى نفسه ، وليس بعضا للمعدوم ، والمعدوم ليس شيئا ، ولا له
معنى حتى يوجد ، فإذا وجد كان حينئذ شيئا موجودا.
وقد تخلصنا أيضا
في باب التجزؤ ، وكلامنا في هذا الديوان من مثل الإلزام هنالك.
الكلام على النّصارى
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : النصارى وإن كانوا أهل كتاب ، ويقرون بنبوة بعض الأنبياء عليهمالسلام ، فإن جماهيرهم وفرقهم لا يقرون بالتوحيد مجردا ، بل
يقولون بالتثليث ، فهذا مكان الكلام عليهم.
والمجوس أيضا وإن
كانوا أهل كتاب لا يقرون ببعض الأنبياء عليهمالسلام ، ولكنا أدخلناهم في هذا المكان لقولهم بفاعلين لم يزالا.
فالنصارى أحق منهم
بالإدخال هاهنا ، لأنهم يقولون بثلاثة لم يزالوا.
والنصارى فرق :
منهم أصحاب «آريوس»
وكان قسيسا بالإسكندرية. ومن قوله : التوحيد المجرد ، وأن عيسى عليهالسلام عبد مخلوق ، وأنه كلمة الله تعالى التي بها خلق السموات
والأرض. وكان في زمن قسطنطين الأول ، باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم
، وكان على مذهب «آريوس» هذا.
ومنهم أصحاب «بولس
الشمشاطي» : وكان بطريركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية. وكان قوله : التوحيد
المجرد الصحيح ، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهمالسلام ، خلقه الله تعالى في بطن مريم من غير ذكر ، وأنه إنسان لا
إلهية فيه البتة. وكان يقول : لا أدري ما الكلمة ولا روح القدس؟
وكان منهم أصحاب «مقدونيوس»
وكان بطريركا في «القسطنطينية» بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنيطين باني «القسطنطينية»
، وكان هذا الملك «آريوسيّا» كأبيه. وكان من قول «مقدونيوس» هذا : التوحيد المجرد
، وأن عيسى عليهالسلام عبد مخلوق ، إنسان نبي ، رسول الله كسائر الأنبياء عليهمالسلام. وأن عيسى هو روح القدس ، وكلمة الله عزوجل. وأن روح القدس والكلمة مخلوقان ، خلق الله كل ذلك.
ومنهم «البربرانية»
: وهم يقولون إن عيسى وأمه إلهان من دون الله عزوجل. وهذه الفرقة قد بادت.
وعمدتهم اليوم
ثلاث فرق :
فأعظمها فرقة «الملكانية»
: وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ، ومذهب جميع نصارى
إفريقية ، وصقلية ، والأندلس وجمهور الشام ، وقولهم : إن الله تعالى ـ عبارة عن
قولهم ـ ثلاثة أشياء : أب وابن وروح القدس ، كلها لم تزل ، وأن عيسى عليهالسلام : إله تام كله ، وإنسان تام كله ، ليس أحدهما غير الآخر ،
وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل ، وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك ، وأن مريم
ولدت الإله والإنسان وأنهما معا شيء واحد ابن الله. تعالى الله عن كفرهم.
وقالت النسطورية
مثل ذلك سواء بسواء ، إلّا أنهم قالوا : إنّ مريم لم تلد الإله ، وإنما ولدت
الإنسان ، وأن الله تعالى لم يلد الإنسان وإنما ولد الإله. تعالى الله عن كفرهم.
وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان. وهم منسوبون إلى «نسطور»
وكان بطريركا بالقسطنطينية.
وقالت «اليعقوبية»
: إن المسيح هو الله تعالى نفسه ، وإن الله ـ تعالى عن عظيم كفرهم ـ مات وصلب وقتل
، وإن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر ، والفلك بلا مدبر ، ثم قام ورجع كما كان ،
وإن الله تعالى عاد محدثا ، وإن المحدث عاد قديما ، وإنه تعالى هو كان في بطن مريم
محمولا به.
وهم في أعمال مصر
، وجميع النوبة ، وجميع الحبشة ، وملوك الأمتين المذكورتين.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ولو لا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ
اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة :
١٧] وإذ يقول تعالى حاكيا عنهم : (إِنَّ اللهَ ثالِثُ
ثَلاثَةٍ) [سورة المائدة :
٧٣] وإذ يقول تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [سورة المائدة :
١١٦] لما انطلق
لسان مؤمن بحكاية
هذا القول العظيم الشنيع ، السمج ، السخيف ، وتالله لو لا أننا شاهدنا النصارى ما
صدقنا أن في العالم عقلا يسع هذا الجنون ونعوذ بالله من الخذلان.
فأما «اليعقوبية»
: فإنهم ينسبون إلى «يعقوب» البرذعاني ، وكان راهبا بالقسطنطينية ، وهم فرقة نافرت
العقل والحس منافرة وحشية تامّة ، لأن الاستحالة نقلة ، والنقلة والاستحالة لا
يوصف بهما الأول الذي لم يزل تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
ولو كان كذلك لكان
مخلوقا ، والمحدث يقتضي محدثا خالقا له ، ويكفي من بطلان هذا القول دخوله في باب
المحال والممتنع الذي أوجب العقل والحس بطلانه ، وليس في باب المحال أعظم من أن
يكون الذي لم يزل يعود محدثا لم يكن ثم كان ، وأن يصير غير المؤلف مؤلّفا ، ويلزم
هؤلاء القوم أن يعرفونا من دبر السماوات والأرض وأدار الفلك هذه الثلاثة الأيام
التي كان فيها ميتا؟! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
ثم يقال للقائلين
بأن الباري تعالى ثلاثة أشياء أب وابن وروح القدس : أخبرونا ، إذ هذه الثلاثة
الأشياء لم تزل كلها ، وأنها مع ذلك شيء واحد إن كان ذلك كما ذكرتم؟ فبأي معنى
استحق أن يكون أحدهما يسمى أبا والثاني ابنا والثالث روح القدس وأنتم تقولون : إن
الثلاثة واحد ، وأن كل واحد منها هو الآخر؟ فالأب هو الابن والابن هو الأب وهما
روح القدس ، وليس روح القدس سواهما؟ وهذا هو عين التخليط ، وإنجيلهم يبطل هذا
بقولهم فيه «سأقعد عن يمين أبي». وبقولهم فيه : «إن القيامة لا يعلمها إلا الأب
وحده ، وإن الابن لا يعلمها».
فهذا يوجب أن
الابن ليس هو الأب.
وإن كانت الثلاثة
متغايرة ـ وهو لا يقولون بهذا ـ فيلزمهم أن يكون في الابن معنى من الضعف ، أو من
الحدوث ، أو من النقص به وجب أن ينحط عن درجة الأب.
والنقص ليس من صفة
الذي لم يزل ، مع ما يدخل على من قال بهذا من وجوب أن تكون محدثة لحصر العدد وجري
طبيعة النقص والزيادة فيها ، على حسب ما قدمناه في حدوث العالم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد لفق بعضهم أشياء قالوا إنها لا معنى لها ، إلا أننا ننبّه عليها
ليتبين هجنة قولهم وضعفه بحول الله تعالى وقوّته ، وذلك أنّ بعضهم قال : لما وجب
أن يكون الباري تعالى حيّا وعالما وجب أن تكون له حياة وعلم ، فحياته هي التي تسمى
روح القدس ، وعلمه هو الذي يسمى الابن.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا من أغث ما يكون من الاحتجاج ، لأننا قد قدّمنا أن الباري تعالى
لا يوصف بشيء من هذا من طريق الاستدلال ، لكن من طريق السمع خاصة ، ولا يصح لهم
دليل لا من إنجيلهم ولا من غيره من الكتب أن العلم يسمّى ابنا ، ولا في كتبهم أن
علم الله هو ابنه. وقد ادّعى بعضهم أنّ هذا تقتضيه اللغة اللاتينية من أنّ علم
العالم يقال فيه : إنّه ابنه.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا باطل ظاهر الكذب ، لأن الإنجيل الذي كان فيه ذكر الأب والابن
وروح القدس ، لا يختلف أحد من الناس في أنه إنما نقل عن اللغة العبرانية إلى
السريانية وغيرها. فعبّر عن معاني تلك الألفاظ العبرانية ، وبها كان فيه ذكر الأب والابن وروح القدس. وليس في اللغة العبرانية شيء
مما ذكر وادّعى.
وإن كانوا ممن
يقولون بتسمية الباري عزوجل من طريق الاستدلال ، فقد أسقطوا صفة القدرة ، إذ ليس
الاستدلال على كونه عالما بأصح ولا أولى من الاستدلال على كونه قادرا ، لا سيما مع
قول «بولس» وهو عندهم فوق الأنبياء : «إن المسيح قدرة الله وعلمه تعالى».
قال هذا النص في
رسالته الأولى إلى أهل قونية : فليضيفوا إلى هذه الثلاث صفة رابعة وهي القدرة ،
وأخرى وهي السمع ، وأخرى وهي البصر ، وأخرى وهي الكلام ، وأخرى وهي العقل ، وأخرى
وهي الحكمة ، وأخرى وهي الجود.
فإن قالوا :
القدرة هي الحياة.
قيل لهم : والعلم
هو الحياة.
فإن قالوا : ليس
العلم الحياة لأنه قد يكون حيّ ليس عالما كالمجنون ، قيل لهم : قد يكون حي ليس
قادرا كالمغشى عليه ونحو ذلك ، فالقدرة ليست الحياة.
وأيضا فإن كان
الابن هو العلم وروح القدس هو الحياة ، فما بال إقحامهم المسيح عليهالسلام في أنه الابن وروح القدس. أترى المسيح هو حياة الله وعلمه؟
وما بال قول بعضهم إنّ مريم ولدت ابن الله؟ أتراها ولدت علم الله؟!
أيكون في التخليط
أكثر من هذا؟ وهل حظ المسيح عليهالسلام من علم الله وحياته إلّا كحظ غيره ولا فرق؟
__________________
وهذا لا مخلص منه.
وبالله التوفيق.
وقال بعضهم : لما
وجدنا الأشياء قسمين حيّا ولا حيّا ، وجب أن يكون الباري عزوجل حيّا ، ولمّا وجدنا الحيّ ينقسم قسمين : ناطقا وغير ناطق ،
وجب أن يكون الباري تعالى ناطقا.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا الكلام في غاية الكلال لوجهين : أحدهما : أن هذه القسمة قسمة طبيعية واقعة تحت
جنس ، لأنه إذا كان تسمية الباري تعالى حيّا إنما هو من هذا الوجه ، فهو إذا يقع
مع سائر الأجسام تحت جنس الحي ، ويحدّ بحدّ الحي وبحد الناطق.
وإذا كان كذلك فهو
مركب من جنسه وفصله ، وكل ما كان محدودا فهو متناه ، وكل ما كان مركبا فهو محدث.
والوجه الثاني :
أن هذه القسمة التي قسموها منقوضة مموّهة ، لأنه يلزمهم أن يبدءوا بأول القسمة
الذي هو أقرب إلى الطبيعة ، فيقولوا : وجدنا الأشياء جوهرا ولا جوهرا ، ثم يدخلوه
تحت أي القسمين شاءوا ، وهم إنما يدخلونه تحت الجوهر ، فإذا أدخلوه تحت الجوهر فقد
وجب ضرورة أن يحدّوه بحد الجوهر.
فإذا كان ذلك وجب
أن يكون محدثا ، إذ كل محدود فهو محدث كما قدمنا.
ثم نعترضهم في
قسمتهم من قبل أن يبلغوا إلى الحي الناطق.
وعلى بعض القسم
قبله يقع الثاني.
وهذه كلها
مخلوقات.
فلو كان الباري
تعالى بعضها ، أو كانت هذه الصفات واقعة عليه من طريق وجوب وقوعها علينا ، لكان
مخلوقا. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال بعضهم : لما
كانت الثلاثة تجمع الزوج والفرد ، وهذا أكمل الأعداد ، وجب أن يكون الباري تعالى
كذلك لأنه غاية الكمال.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا من أغث الكلام لوجوه ضرورية أحدها : أن الباري تعالى لا يوصف
بكمال ولا تمام ، لأن الكمال والتمام من باب الإضافة ، لأن
__________________
التمام والكمال لا
يقعان البتة إلا فيما فيه النقص ، لأن معناهما إنما هو إضافة شيء إلى شيء به كملت
صفاته ، ولولاه لكان ناقصا. ولا معنى للكمال والتمام إلّا هذا فقط.
والوجه الثاني :
أن كل عدد بعد الثلاثة فهو أتم من الثلاثة ، لأنه يجمع إما زوجا وفردا وإمّا زوجا
وزوجا ، وإمّا زوجا وزوجا وفردا ، وإمّا أكثر من ذلك.
وبالضرورة يعلم أن
ما جمع أكثر من زوج فهو أتم وأكمل مما لم يجمع إلا زوجا وفردا فقط ، فيلزمه أن
يقول : إن ربّه أعداد لا تتناهى ، أو أنه أكثر الأعداد ، وهذا أيضا ممتنع محال لو
قاله ، ويكفي فسادا بقول يؤدي إلى المحال.
والوجه الثالث :
أن هذا الاستدلال مضاد لقولهم : إن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة ، لأن الثلاثة التي
تجمع الزوج والفرد هي غير الثلاثة التي هي عندكم واحد بلا شك ، لأن الثلاثة التي
تجمع الزوج والفرد ليست الفرد الذي هو فيها ، وهي جامعة له ولغيره ، بل ذلك الفرد
بعض لها ، وهي كل له ولغيره والباري تعالى لا كل له ولا بعض ، والكل ليس هو الجزء
، والجزء ليس هو الكل ، والفرد جزء للثلاثة والثلاثة كل للفرد وللزوج معه ، فالفرد
غير الثلاثة ، والثلاثة غير الفرد ، والعدد مركب من واحد يراد به الفرد ، وواحد
كذلك ، وواحد كذلك إلى نهاية العدد المنطوق به ، فالعدد ليس الواحد ، والواحد ليس
هو العدد ، لكن العدد مركب من الآحاد التي هي الأفراد ، وهكذا كل مركب من أجزاء ،
فذلك المركب ليس هو جزء من أجزائه ، كالكلام الذي هو مركب من حرف وحرف حتى يقوم
المعنى المعبر عنه ، فالكلام ليس هو الحرف ، والحرف ليس هو الكلام.
والوجه الرابع :
أنّ هذا المعنى السخيف الذي قصده هذا الجاهل نجده في الاثنين ، لأن الاثنين عدد
يجمع فردا وفردا ، وهو زوج مع ذلك ، فقد وجدنا في الاثنين الزوج والفرد ، فيلزمه
أن يجعل ربه اثنين.
والوجه الخامس :
أن كلّ عدد فهو محدث ، وكذلك كل معدود يقع عليه عدد فهو أيضا محدث ، على ما قد
بينا فيما خلا من كتابنا هذا.
والمعدود لم يوجد
قط إلا ذا عدد ، والعدد لا يوجد قط إلّا ذا معدود ، والواحد ليس عددا على ما نبينه
بعد هذا إن شاء الله تعالى ، وبه يتم الكلام في التوحيد بحول الله وقوته.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهم يقولون : إن الإله اتحد مع الإنسان بمعنى أنهما صارا شيئا واحدا.
فقالت اليعقوبية :
كاتحاد الماء يلقى في الخمر فيصيران شيئا واحدا.
وقالت النسطورية :
كاتحاد الماء يلقى في الزيت فكل واحد منهما باق بحسبه .
وقالت الملكية :
كاتحاد النار في الصفيحة المحماة .
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وكل هذا في غاية الفساد.
أول
ذلك : أنها دعاوى لا
يعجز عن مثلها متحامق ، وليس في إنجيلهم شيء من هذه الأقسام.
والثاني
: أنها كلها محال ،
لأن قول الملكية في تمثيلهم بما مثلوا إنما هو عرض في جوهر لا يجوز ولا يمكن إلا
من عرض في جوهر ولا يتوهم غير ذلك ، فالإله على قولهم عرض والإنسان جوهر وهذا في
غاية الفساد.
وقول اليعقوبية
أفسد ، لأننا نقول لهم إن كان استحال الإله إنسانا ، فالمسيح إنسان وليس إلها ،
وإن كان الإنسان استحال إلها ، فالمسيح إله وليس بإنسان ، وإن كان كلاهما لم يستحل
واحد منهما إلى الآخر فهذا قول النسطورية لا قولهم. وإن كان كل واحد منهما استحال
إلى الآخر فقد صار الإله إنسانا لا إلها ، وصار الإنسان إلها لا إنسانا ، وحصلوا
بعد هذا الحمق على قول النسطورية ولا مزيد. وإن كان استحالا إلى غير الإنسان
والإله ، فالمسيح لا إله ولا إنسان ، وكل هذا خلاف قولهم.
وأما قول
النسطورية ، فلم يزيدوا على أن قالوا : إن الإنسان إنسان ، والإله إله. وهكذا كل
فاضل وفاسق في العالم هو إنسان والإله إله ، فالمسيح وغيره من الناس سواء.
وأيضا فإنّ ما
قالوا محال ، لأن الباري عزوجل الذي لم يزل لا يستحيل إلى طبيعة الإنسان المحدث ، ولا
يستحيل المحدث إلها لم يزل ، وهذا محال بذاته لا يتشكل وكذلك الإنسان : لا يجاوز
الإله مجاوزة مكانية ، لأنه محال أيضا ، وكذا لا يتوهم ولا يمكن أن يكون الإله
عرضا يحمله جوهر الإنسان.
ولا يمكن أيضا أن
يكون الإنسان عرضا يحمله الإله في ذاته كما تدّعي الملكية من تشبيه ذلك الاتحاد
بضوء الشمس في البيت ، وبالنار في الحديدة المحماة ، فقد
__________________
صح أنّ كل ما
قالوا محال وباطل وسخف لا يقبله إلّا مخذول.
ولا يمكنهم ادعاء
وجود شيء من هذا في كتب الأنبياء أصلا.
وأيضا فإنهم
يضيفون إلى ذكرهم الأب والابن وروح القدس شيئا رابعا وهو الكلمة ، وهي المتحدة
عندهم بالإنسان ، الملتحمة في مشيمة مريم عليهاالسلام. فإنّ أمانتهم التي اتفقوا عليها كلهم هي كما نورده نصا : «نؤمن
بالله الأب مالك كل شيء ، صانع ما يرى وما لا يرى ، وبالرّب الواحد يسوع المسيح ،
بكر الخلائق كلها ، وليس بمصنوع. الإله حق من الإله حق ، من جوهر أبيه الذي بيده
أتقنت العوالم كلها وخلق كل شيء ، الذي من أجلنا معشر الناس ، ومن أجل خلاصنا نزل
من السماء ، وتجسد من روح القدس ، وصار إنسانا ، وولد من مريم البتول ، وألم وصلب
أيام «قيطوش بلاطش » ، ودفن وقام في اليوم الثالث ، كما هو مكتوب ، وصعد إلى
السماء ، وجلس عن يمين الأب ، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات
والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد ، روح الحق الذي هو مشتق من أبيه روح محبة ،
وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا ، وبجماعة قدسية سليحية جاثليقية ، وبقيامة
أبداننا ، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين».
وقال في أول إنجيل
«يوحنا التلميذ» : «في البدء كانت الكلمة ، والكلمة عند الله ، والله كان الكلمة».
قال «أبو محمد»
رضي الله عنه : فهذه أقوال إذا تأملها ذو عقل علم أنها وساوس أو جنون ملقّى من
الشيطان لا يمتحن به إلّا مخذول مشهود له ببراءة الله تعالى منه.
ويقال لهم :
الكلمة هي الأب؟ أو الابن أو روح القدس؟ أم شيء رابع؟
فإن قالوا : شيء
رابع. فقد خرجوا عن التثليث إلى التربيع.
وإن قالوا : إنها
أحد الثلاثة ، سئلوا عن الدليل على ذلك ؛ إذ الدعوى لا يعجز عنها أحد.
ثم يقال لهم :
الأب هو الابن أم هو غيره؟
فإن قالوا : هو
غيره ، سئلوا أيضا :
من الملتحم في
مشيمة مريم؟ المتحد مع طبيعة المسيح ، الأب أم الابن؟ فإن قالوا : الابن. فقد بطل
أن يكون هو الأب ، وخالفوا «يوحنا» إذ يقول في أول إنجيله : إن
__________________
الكلمة هي الله
والتحمت. فإذا كانت هي الله ، والكلمة التحمت في مشيمة مريم فالله تعالى هو نفسه
التحم في مشيمة مريم فعلى هذا فالأب والابن والكلمة كلهم التحموا في مشيمة مريم ،
وفي أمانتهم : أن الابن هو الذي التحم في مشيمة مريم.
وهذه وساوس لا
نظير لها.
ويقال لهم أيضا :
هل معنى التحم إلّا صار لحما؟ وهذا غير قول النسطورية والملكية.
وإن قالوا : بل
الأب ، فقد بطل أن يكون هو الابن ، وخالفوا «يوحنا» والأمانة.
وإن قالوا : هو
الأب وهو الابن. تركوا قولهم : إن الابن يقعد عن يمين أبيه ، وأن الأب يعلم وقت
القيامة ، والابن لا يعلمها ، وقولهم في إنجيل «يوحنا» : الأب فوّض الأمر إلى ابنه
، والأب أكبر من الابن ، فهذه نصوص على أن الابن غير الأب ، إذ لا يقعد المرء عن
يمين نفسه ، ولا يفوض الأمر إلى نفسه ، ولا يجهل ما يعلم ، وهذا كله يبطل قولهم :
إن الابن هو العلم والقدرة أو غير ذلك ، لأن هذه الصفات لا تقعد عن يمين حامله ،
ولا يفوّض إليها شيء.
وإن قالوا : لا هو
هو ، ولا هو غيره ، دخل عليهم من الجنون ما يدخل على من ادّعى أن الصفات لا هي
الموصوف ولا هي غيره.
وإن قالوا : الأب
هو الابن وهو غيره ـ لم يكن ذلك ببدع من سخافاتهم وخروجهم عن المعقول ، ولزمهم أن
الابن ابن لنفسه ، وأب لنفسه ، وأن الأب أب لنفسه وابن لنفسه ، وليس في الحمق
والهوس أكثر من هذا. ولا متعلق لهم بشيء مما في «الزبور» وفي كتاب «شعياء» وغيره ،
لأنه ليس في شيء منها أن المراد بما ذكر هنالك هو عيسى ابن مريم عليهماالسلام.
وقد قال «لوقا» في
آخر إنجيله : «إنه كان نبيّا مقتدرا عبد الله». وهذا كله بيّن عظيم مناقضتهم ، وما
توفيقنا إلا بالله عزوجل.
فإن تعلقوا بما في
الإنجيل من ذكر المسيح أنه ابن الله ، قيل لهم : في الإنجيل أيضا : أبي وأبيكم
الله ، «إلهي وإلهكم». وأمرهم إذا دعوا أن يقولوا : يا أبانا السماوي ، فله من ذلك
كالذي لهم ولا فرق.
فإن قالوا : إنه
أتى بالعجائب. قيل لهم : والحواريون أيضا عندكم أتوا بالعجائب ،
وموسى قبله «وإلياس»
وسائر الأنبياء عليهمالسلام قد أتوا بمثل ما أتى به من إحياء الموتى وغيره ، فأي فرق
بينه وبينهم؟
على أنه ليس في
شيء من الإنجيل نص الأمانة التي لا يصح الإيمان عندهم إلّا بها من ذكر أب وابن
وروح القدس معا وسائر ما فيها. وإنما هي تقليد لأسلافهم من الأساقفة ، ونعوذ بالله
من الخذلان.
وأمانتهم التي
ذكروا أنهم متفقون عليها موجبة أن الابن هو الذي نزل من السماء وتجسّد من روح
القدس ، وصار إنسانا ، وقتل وصلب ، فيقال لهم : هذا الابن الذي في أمانتكم أنه نزل
من السماء وتجسّد من روح القدس ، وصار إنسانا ، أخبرونا قبل أن ينزل من السماء أمخلوقا
كان أو غير مخلوق أم كان لم يزل؟ فإن قالوا : كان مخلوقا. فقد تركوا قولهم ، لا
سيما إن قالوا : إنه ليس هو غير الأب بل يصير الأب وروح القدس مخلوقين.
وإن قالوا : كان
قبل أن ينزل غير مخلوق. قيل لهم : فقد صار مخلوقا إنسانا. وهذا محال وتناقض.
وأيضا فقد لزم من
هذا أن الابن مخلوق ، وروح القدس مخلوق ، إذ صار إنسانا ، ثم يقال لهم : أخبرونا
عن هذا الابن الذي أخبرتم عنه بما لم تخبروا عن الأب ، والذي يقعد عندكم عن يمين
أبيه ، ثم ينزل لفصل القضاء أله علم وحياة أم لا علم له ولا حياة؟
فإن قالوا : لا
علم له ولا حياة ، فارقوا إجماعهم ، ولزمهم ضرورة أن قالوا مع ذلك إنه غير الأب
الذي له حياة وعلم ، إذ ما لا علم له هو بلا شك غير الذي له علم ، والذي لا حياة
له هو بلا شك غير الذي له حياة. وهذا ترك منهم للنصرانية.
وإن قالوا : بل له
علم وحياة لزمهم أن الأزليين خمسة : الأب وعلمه وحياته ، والابن الذي هو علم الأب
وعلمه وحياته ، وهكذا يسألون أيضا عن روح القدس ، ولا فرق.
وقد قال «يوحنا»
في أول إنجيله : فمن تقبله منهم وآمن به أعطاهم سلطانا أن يكونوا أولاد الله ،
أولئك المؤمنون باسمه الذين لم يتوالدوا من دم ولا شهوة اللحم ، ولا باه رجل ،
ولكن توالدوا من الله.
فصح بهذا أن كلّ
نصراني من ولادة والأزلية والكون من جوهر الأب كالذي للمسيح سواء بسواء ولا فرق.
وإلّا فقد كذب «يوحنا»
اللعين قائل هذا الكفر ، وأهل للكذب هو. وهذا ما لا انفكاك منه.
وهذا يلزم الأشعرية
الذين يقولون بأن علم الله تعالى وقدرته هما غير الله. تعالى الله عما يقولون
علوّا كبيرا.
وممّا يعترض به
علينا اليهود والنصارى ومن ذهب إلى إسقاط الكواف من سائر الملحدين : أن قال قائلهم : قد نقلت اليهود
والنصارى أن المسيح عليهالسلام قد صلب وقتل ، وجاء القرآن بأنه صلىاللهعليهوسلم لم يقتل ولم يصلب. فقولوا لنا كيف كان هذا؟
فإن جوّزتم على
هذه الكواف العظام المختلفة الأهواء والأديان والأزمان والبلدان والأجناس نقل
الباطل ، فليست بذلك أولى من كافتكم التي نقلت أعلام نبيكم وشرائعه وكتابه.
فإن قلتم : اشتبه
عليهم ، فلم يتعمدوا نقل الباطل ، فقد جوزّتم التلبيس على الكواف ، فلعل كافتكم
أيضا ملتبس عليها. فليس سائر الكواف أولى بذلك من كافتكم.
وقولوا لنا : كيف
فرض الإقرار بصلب المسيح عندكم قبل ورود الخبر عليكم ببطلان صلبه وقتله؟ فإن قلتم
كان الفرض على الناس الإقرار بصلبه وجب من قولكم الإقرار أن الله تعالى فرض على
الناس الإقرار بالباطل ، وأن الله تعالى فرض على الناس تصديق الباطل والتدين به ،
وفي هذا ما فيه.
وإن قلتم كان
الفرض عليكم الإنكار لصلبه ، فقد أوجبتم أن الله تعالى فرض على الناس تكذيب الكواف
، وفي هذا إبطال قول كافتكم ، بل إبطال جميع الشرائع ، بل إبطال كل خبر كان في
العالم عن كل بلد وملك ونبي وفيلسوف وعالم ، ووقعتم ـ وفي هذا ما فيه.
قال «أبو محمد»
رضي الله عنه : هذه الإلزامات كلها فاسدة في غاية الحوالة والاضمحلال بحمد الله تعالى. ونحن مبينون ذلك بالبراهين
الضرورية بيانا لا يخفى على من له أدنى فهم بحول الله تعالى وقوته.
فنقول وبالله
التوفيق : إن صلب المسيح عليهالسلام لم يقله قط كافّة ، ولا صحّ
__________________
بالخبر قط ، لأن
الكافّة التي يلزم قبول نقلها هي : إمّا الجماعة التي يوقن أنها لم تتواطأ لتنابذ
طرقهم ، وعدم التقائهم ، وامتناع اتفاق خواطرهم على الخبر الذي نقلوه عن مشاهدة ،
أو رجع إلى مشاهدة ولو كانوا اثنين فصاعدا.
وإمّا أن يكون عدد
كثير يمتنع منه الاتفاق في الطبيعة على التمادي على سنن ما نواطئوا عليه ، فأخبروا
بخبر شاهدوه ولم يختلفوا فيه ، فما نقله أحد أهل هاتين الصفتين عن مثل إحداهما
وهكذا حتى يبلغ إلى مشاهدة ، فهذه صفة الكافة التي يلزم قبول نقلها ، ويضطر خبرها
سامعها إلى تصديقه ، وسواء كانوا عدولا أو فساقا أو كفّارا وما
عدا هذا من الخبر فليس كافة ، ولا يضطر سامعه إلى تصديقه ، وسواء أكانوا عدولا أم
غير عدول ولا يقطع على صحته إلا ببرهان. فلما صح ذلك نظرنا فيمن نقل خبر صلب
المسيح عليهالسلام فوجدناه كواف عظيمة صادقة بلا شك في نقلها جيلا بعد جيل
إلى الذين ادّعوا مشاهدة صلبه ، فإنّ هنالك تبدّلت الصفة ورجعت لى شرط مأمورين
مجتمعين مضمون منهم الكذب وقبول الرشوة على قول الباطل.
والنصارى مقرون
بأنهم لم يقدموا على أخذه نهارا خوف العامة ، وإنما أخذوه ليلا عند افتراق الناس عن
الفصح ، وأنه لم يبق في الخشبة إلّا ست ساعات من النهار ، وأنه أنزل إثر ذلك ،
وأنه لم يصلب إلّا في مكان نازح عن المدينة في بستان فخار متملك للفخار ، ليس موضعا معروفا
بصلب ولا موقوفا لذلك ، وأنه بعد هذا كله رشي الشّرط على أن يقولوا إن أصحابه
سرقوه ففعلوا ذلك ، وأن مريم المجدلانية وهي امرأة من العامة لم تقدم على حضور
موضع صلبه ، بل كانت واقفة على بعد تنظر ، هذا كله في نص الإنجيل عندهم فبطل أن
يكون صلبه منقولا بكافة ، بل بخبر يشهد ظاهره على أنه مكتوم متواطأ عليه. وما كان
الحواريون ليلتئذ بنص الإنجيل إلا خائفين على أنفسهم ، غيّبا عن ذلك المشهد ،
هاربين بأرواحهم مستترين. وأنّ «شمعون الصفا» غرّر ودخل دار «قيقان» الكاهن أيضا بضوء فقال له : أنت من
أصحابه فانتفى وجحد ،
__________________
وخرج هاربا عن
الدار. فبطل أن ينقل خبر صلبه أحد تطيب النّفس عليه على أن تظن به الصدق ، فكيف أن
ينقله كافة؟ وهذا معنى قوله تعالى : (وَلكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ) [سورة النساء :
١٥٧]. إنما عنى بذلك تعالى : أنّ أولئك الفساق الذين دبّروا هذا الباطل وتواطئوا
عليه ، هم شبهوا على من قلّدهم . فأخبروهم أنهم صلبوه وقتلوه وهم كاذبون في ذلك ، عالمون
أنهم كذبة. ولو أمكن أن يشبه ذلك على ذي حاسة سليمة لبطلت الحقائق كلها ، ولأمكن
أن يكون كل واحد منا يشبه عليه فيما يأكل ويلبس ، وفيمن يجالس ، وفي حيث هو فلعله نائم أو مشبه على حواسه. وفي هذا خروج إلى السخف ،
وقول السفسطائية والحماقة.
وقد شاهدنا نحن
مثل ذلك ، وذلك أننا أندرنا للجبل لحضور دفن المؤيد هشام ابن الحكم المستنصر فرأيت أنا
وغيري نعشا فيه شخص مكفن ، وقد شاهد غسله رجلان شيخان جليلان حكيمان من حكام
المسلمين ، ومن عدول القضاة في بيت ، وخارج البيت أبي رحمهالله وجماعة عظماء البلد ، ثم صلينا في ألوف من الناس عليه. ثم
لم يلبث إلّا شهورا نحو السبعة حتى ظهر حيّا ، وبويع بعد ذلك بالخلافة. ودخلت عليه
أنا وغيري وجلست بين يديه ورأيته ، وبقي ثلاثة أعوام غير شهرين وأيام .
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأما قوله قد جوزتم التمويه على الكافة فقد بينا أنها لم تكن كافة قط
، وحتى لو صح أنها كانت كافة فكيف لا يجوز ذلك في كل آية تحيل الطبائع والحواس؟
فهو ضرورة لا يحمل على الممكنات ، فلو صحّ أنها كانت كافة لكان خبر الله تعالى أنه
شبّه لهم حاكما على حواسهم ومحيلا لها كخروج النبي صلىاللهعليهوسلم ليلة هاجر بحضرة مائة رجل من قريش ، وقد حجب الله سبحانه
أبصارهم عنه فلم يروه.
وأما ما لم يأت
خبر عن الله عزوجل بأنه شبّه على الكافة فلا يجوز أن يقال ذلك لأنه قطع
بالمحال وإحالة طبيعة ، وإحالة الطبائع لا تدخل في الممكن إلا أن يأتي بذلك يقين
عن الله عزوجل فيلزم قبوله.
__________________
وأمّا التشبيه على
الواحد والاثنين ونحو ذلك فإنه جائز ، وكذلك فقد العقل والسخافة يجوز ذلك على
الواحد والاثنين ونحو ذلك ، ولا يجوز على الجماعة كلها.
وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ
لَهُمْ) [سورة النساء :
١٥٧] إنما هو إخبار عن الذين يقولون بتقليد أسلافهم من النصارى واليهود : إنه عليهالسلام قتل وصلب ، فهؤلاء شبّه لهم القول أي أدخلوا في شبهة منه.
وكان المشبهون لهم شيوخ السوء في ذلك الوقت وشرطهم المدّعون لهم أنهم قتلوه وصلبوه
وهم يعلمون أنه لم يكن ذلك ، وإنما أخذوا من أمكنهم فقتلوه ، وصلبوه في استتار
ومنع من حضور الناس ، ثم أنزلوه ودفنوه تمويها على العامة الذين شبّه لهم الخبر.
ثم نقول لليهود
والنصارى بعد أن بينا بحول الله وقوته فساد ما شغبوا به في هذه المسألة : إنّ
كوافّكم قد نقلت عن بعض أنبيائكم فسوقا ووطء إماء وهو حرام عندكم ، وعن هارون عليهالسلام : أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل وأمرهم بعبادته
والرقص أمامه ، وقد نزه الله تعالى الأنبياء عليهمالسلام عن عبادة غيره ، وعن الأمر بذلك ، وعن كل معصية ورذيلة ،
فإذا جوّزوا كلهم هذا على أنبياء منهم موسى عليهالسلام وسائر الأنبياء كان كل ما أمروهم به من جنس عمل العجل
والرقص والأمر بعبادته ، ومن جنس وطء الإماء وسائر ما نسبوه إلى داود وسليمان عليهماالسلام ، وسائر أنبيائهم ، لا سيما وهم يقرون بأن العجل كان يخور
بطبعه.
وأمّا نحن فجوابنا
في هذا كله بأن ليس شيء منه نقل كافة ، ولكن نقل آحاد كذبوا فيه ، وأمّا خوار
العجل فإنما هو على ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنه من أنه إنما كان صفير الريح
تدخل من فيه وتخرج من دبره ، لا أنه خار بطبعه قط ، وحتى لو صح أنه خار بطبعه لكان
ذلك من أجل القوة التي كانت في القبضة التي قبضها السامري من أثر جبريل عليهالسلام ، والذي يعتمد عليه قول ابن عباس رضي الله عنه الذي ذكرناه
، وبالله تعالى التوفيق.
وأمّا قوله : كيف
كان الغرض قبل ورود النص ببطلان صلبه؟ الإقرار بصلبه أم الإنكار له؟
فهذه قسمة فاسدة
شغبية قد حذّر منها الأوائل كثيرا ، ونبه عليها أهل المعرفة بحدود الكلام ، وذلك
أنهم أوجبوا فرضا ثم قسموه على قسمين : إمّا فرض بإنكار وإمّا فرض بإقرار ،
وأضربوا عن القسم الصحيح فلم يذكروه ، وهذا لا يرضى به لنفسه إلّا جاهل أو سخيف
مغالط غابن لنفسه غاشّ لمن اغتر به. وإنما الحقيقة هاهنا أن يقول :
هل لزم الناس قبل
ورود القرآن فرض بالإقرار بصلب المسيح أو بإنكار صلبه ، أو لم يلزمهم فرض بشيء من
ذلك؟
فهذه هي القسمة
الثابتة من السؤال الصحيح .
وحق الجواب : أنه
لم يلزم الناس قط قبل ورود القرآن فرض بشيء من ذلك لا بإقرار ولا بإنكار ، وإنما
كان خبرا لا يقطع العذر ولا يوجب العلم الضروري ، ممكن صدق قائله ، فقد قتل أنبياء
كثيرة ، وممكن أن يكون ناقله كذب في ذلك. وهو بمنزلة شيء مغيب في دار ، فيقال لهذا المعرّض بهذا السؤال الفاسد : ما
الفرض على الناس فيما في هذا الدار؟ الإقرار بأن فيها رجلا أم الإنكار لذلك؟ فهذا
كله لا يلزم منه شيء ، ولم ينزل الله عزوجل كتابا قبل القرآن بفرض إقرار بصلب المسيح صلىاللهعليهوسلم ولا بإنكاره. وإنما لزم الفرض بعد نزول القرآن بتكذيب
الخبر بقتله وصلبه. فإن قالوا : قد نقل الحواريون صلبه ، وهم أنبياء وعدول.
قيل لهم وبالله
التوفيق :
الناقلون لنبوتهم
وإعلامهم ولقولهم بصلبه عليهالسلام هم الناقلون عنهم الكذب في نسبه ، والقول بالتثليث الذي من قال به فهو كاذب على الله تعالى
مفتر عليه كافر.
فإن كان الناقل
لذلك عنهم صادقا ، أو كانوا كافة ، فما كان «يوحنا» و «متّى» و «بولس» إلّا كفارا
كاذبين ، وما كانوا قط من صالحي الحواريين.
وإن كان ناقل ما
ذكرنا عنهم كاذبا فالكاذب لا يقوم بنقله حجة. فبطل التمويه المتقدم والحمد لله رب
العالمين.
طبيعة المسيح
وقال متكلموهم :
إن الاتحاد المذكور إنما هو تقليد للإنجيل ، ولم يكن نقلة ولا حركة ، ولا فارق
الباري ولا العلم ما كانا عليه ولا انتقلا.
__________________
فيقال لهم : هذا
إبطال للاتحاد ، وقول منكم بأن حظه وحظ غيره في ذلك سواء وخلاف لأمانتكم التي فيها
أن الابن نزل من السماء ، وتجسّد وولد ، وقتل ودفن.
وقالت طائفة منهم
: المسيح حجاب خاطبنا الله تعالى منه.
فيقال لهم : أنتم
تقولون إن المسيح رب معبود ، وإله خالق ، والحجاب عندكم مخلوق والمسيح عند بعضكم
طبيعة واحدة ، وعند بعضكم طبيعتان ناسوتية ولاهوتية.
فأخبرونا أتعبدون
الطبيعتين معا اللاهوتية والناسوتية أم تعبدون إحداهما دون الأخرى؟
فإن قالوا :
نعبدهما جميعا أقروا بأنهم يعبدون إنسانا وحجابا مخلوقا مع الله تعالى. وهذا أقبح
ما يكون من الشرك.
وإن قالوا : بل
نعبد اللاهوت وحده قيل لهم فإنما تعبدون نصف المسيح لا كله لأنه طبيعتان عندكم
ولستم تعبدون إلّا إحداهما دون الأخرى.
وكذلك يسألون عن
موت المسيح وصلبه؟
فمن قول الملكية
والنسطورية : إن الموت والصلب إنما وقع على الناسوت خاصة. فيقال لهم : فأنتم في
قولكم «مات المسيح وصلب» : كاذبون ، لأنه إنما مات نصفه فقط وصلب نصفه فقط ، لأن
اسم المسيح عندكم واقع على اللاهوت والناسوت كليهما معا لا على أحدهما دون الآخر.
وكل من قال من
اليعقوبية : الإنسان والإله شيء واحد فإنه يلزمه أن يعبد إنسانا لأنه إذا عبد
الإله ، والإله هو الإنسان ، فقد عبد إنسانا وربه إنسان مخلوق.
وكل من قال منهم :
الإله غير الإنسان فقد أبطل الاتحاد. وهكذا يقال لهم في الحجاب مع الله تعالى سواء
بسواء ، ويلزمهم جميعهم إذ قد أقروا بعبادة المسيح هكذا جملة ، وأنه رب خالق ـ وفي
الإنجيل أنه جاع وأكل الخبز والحيتان وعرق ، وضرب ـ أن ربهم أكل وجاع ، وأن الإله ضرب ولطم وصلب. وكفى بهذا رذالة وفحش
قول وبيان بطلان.
ويقال للملكية
واليعقوبية القائلين بأن المسيح ابن الله وابن مريم وقد أقررتم أن المسيح إنسان
وإله ، فالإنسان هو ابن الله وابن مريم ، والإله هو ابن مريم وابن الله وهذه غاية
الشناعة.
__________________
فإن قالوا : ما
تقولون فيما في كتابكم : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [سورة الشورى : ٥١].
وأنه تعالى كلم موسى من جانب الطور من الشجرة من شاطئ الوادي؟
قلنا : التكليم
فعل الله تعالى مخلوق ، والحجاب إنما هو للتكليم ، والتكليم هو الذي حدث في الشجرة
وشاطئ الوادي وجانب الطور ، وكل ذلك مخلوق محدث وكذلك تحوّل جبريل عليهالسلام في صورة دحية إنما هو أن الله تعالى جعل للملائكة والجن
قوى يتحولون بها فيما شاءوا من الصور ، وكلهم مخلوق تتعاقب عليهم الأعراض بخلاف
الله تعالى في ذلك.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وما يعترض به على النصارى ـ وإن كان ليس برهانا ضروريا لكنه يقرب من
فهم كل ذي فهم ، وينقض عليهم به جميع شرائعهم نقضا ضروريا على جميعهم لكنه برهان
ضروري على كل من تقلد منهم الشرائع التي يعمل بها الملكيون والنساطرة واليعاقبة
والمارونية ـ قاطع لهم ، وهي مسألة جرت لنا مع بعضهم ، وذلك أنهم لا يخلون من أحد
وجهين ، إمّا أن يكونوا يقولون ببطلان النبوة بعد عيسى عليهالسلام ، وإمّا أن يقولوا بإمكانها بعده عليهالسلام.
فإن قالوا بإمكان
النبوة بعده عليهالسلام لزمهم الإقرار بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم إذ ثبت نقل أعلامه بالكواف التي بمثلها نقلت أعلام عيسى
وغيره عليهم الصلاة والسلام ، وإن قالوا ببطلان النبوة بعد عيسى عليهالسلام لزمهم ترك جميع شرائعهم من صلاتهم ، وتعظيمهم الأحد ،
وصيامهم وامتناعهم من اللحم ومناكحهم ، وأعيادهم ، واستباحتهم الخنزير والميتة ،
والدّم ، وترك الختان ، وتحريم النكاح على أصل المراتب في دينهم ، إذ كل ما ذكرنا ليس منه في أناجيلهم الأربعة
شيء البتة ، بل أناجيلهم مبطلة لكل ما هم عليه اليوم ، إذ فيها أنه عليهالسلام قال : «لم آت لأغير شيئا من شرائع التوراة». وأنه كان
يلتزم هو وأصحابه بعده السبت ، وأعياد اليهود من الفصح وغيره ، بخلاف كل ما هم
عليه اليوم ، فإذا منعوا من وجود النبوة بعده وكانت الشرائع لا تؤخذ إلّا عن
الأنبياء عليهمالسلام ، وإلّا فإنّ شارعها عن غير الأنبياء عليهمالسلام حاكم على الله تعالى وهذا أعظم ما يكون من الشرك والكذب
والسخف ، فشرائعهم التي هي دينهم
__________________
غير مأخوذة عن نبي
أصلا فهي معاص مفتراة على الله عزوجل بيقين لا شك فيه. وبالله تعالى التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا حين نبدأ بعون الله وتوفيقه وتأييده إن شاء الله لا إله إلّا هو
في تبيين أن الواحد ليس عددا فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إن خاصة العدد هو
أن يوجد عدد آخر مساو له ، وعدد آخر ليس مساويا له ، هذا شيء لا يخلو منه عدد
أصلا.
والمساواة هي : أن
تكون أبعاضه كلها مساوية له إذا جزئت ، ألا ترى أن الفرد والفرد مساويان للاثنين ،
وأن الزوج والفرد ليسا مساويين للزوج الذي هو الاثنان ، والخمسة مساوية للاثنين
والثلاثة ، غير مساوية للثلاثة وهكذا كل عدد في العالم؟ فهذا معنى قولنا : إن
المساوي وغير المساوي هو خاصة العدد ، وهذه المساواة أردنا لا غيرها ، فلو كان
للواحد أبعاض مساوية له لكان كثيرا بلا شك ، لأن الواحد المطلق على الحقيقة هو
الذي ليس كثيرا ، هذا ما لا شك فيه عند كل ذي حس سليم. وكان ما كان له أبعاض فهو
مركب كثيرا بلا شك ، فهو إذا بالضرورة ليس واحدا ، فالواحد ضرورة هو
الذي لا أبعاض له ، فإذ لا شك فيه فالواحد الذي لا أبعاض له تساويه عددا ، وهو
الذي أردنا أن نبين ، وأيضا فإن الحسّ وضرورة العقل يشهدان بوجود الواحد إذ لو لم
يكن الواحد موجودا لم يقدر على عدد أصلا ، إذ الواحد مبدأ العدد والمعدود الذي لا
يوصل إلى عدد ولا معدود إلّا بعد وجوده ، ولو لم يوجد الواحد لما وجد في العالم
عدد ولا معدود أصلا ، والعالم كله أعداد ومعدودات موجودة ، فالواحد موجود ضرورة.
فلما نظرنا في العالم كله نظرا طبيعيا ضروريا لم نجد فيه واحدا على الحقيقة البتة
بوجه من الوجوه ، لأن كل جرم من العالم فمنقسم محتمل للتجزئة متكثر بالانقسام أبدا
بلا نهاية ، وكل حركة فهي أيضا منقسمة بانقسام المتحرك بها والزمان حركة الفلك فهو
منقسم بانقسام الفلك ، فكل مدة فمنقسمة أيضا بانقسام المتحرك بها الذي هو المدة ،
وكذلك كل معقول من جنس أو نوع أو فصل ، وكذلك كل عرض محمول في جرم فإنه منقسم
بانقسام حامله ، هذا أمر يعلم بضرورة العقل والمشاهدة ، وليس العالم كله شيئا غير
ما ذكرنا ، فصح ضرورة أنه ليس في العالم واحد البتة.
__________________
وقد قدمنا ببرهان
ضروري آنفا أنه لا بدّ من وجود الواحد ، فإذ لا بدّ من وجود الواحد ، وليس هو في
شيء من العالم البتة ، فهو إذا بالضرورة شيء غير العالم ، فإذ ذلك كذلك فبالضرورة
التي لا محيد عنها فهو الواحد الأول الخالق للعالم ، إذ ليس يوجد بالعقل البتة شيء
غير العالم ولا بوجه من الوجوه ، ولا واحد سواه البتة ، ولا أول غيره أصلا ، ولا
مخترع فاعلا خالقا إلا هو وحده لا شريك له.
وإنما قلنا في كل
فرد في العالم ، وهو الذي يسمى في اللغة عند العد واحدا على المجاز ، أنه كثير
بمعنى أنه يحتمل أن يقسم ، وأن له مساحة كثيرة الأجزاء فإذا قسم ظهرت الكثرة فيه ،
وأمّا ما لم يقسم فهو يعد فردا حقيقيا ، وقد ذكرنا برهان وجوب احتمال الانقسام لكل
جزء في العالم في آخر كتابنا هذا ببراهين ضرورية لا محيد عنها ، وبالله تعالى
التوفيق.
فإن قال قائل :
فما تقول في الباء والتاء وسائر حروف الهجاء؟ أليس كل واحد منها واحدا لا ينقسم؟
قيل له وبالله التوفيق : إنّ هذا شغب ينبغي أن يتحفظ من مثله ، لأن الحرف إنما هو
هواء يندفع من مخرج ذلك الحرف بعصر بعض آلات الصوت له من الرئة ، وأنابيب الصدر
والحلق ، والحنك واللسان والأسنان والشفتين ، فإذ لا شك في هذا فذلك الهواء
المندفع جسم طويل عريض عميق ، فهو محتمل الانقسام ضرورة ، فذلك الهواء هو الحرف ،
فالحرف هو جسم محتمل للقسمة ضرورة ، وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من يقول إن البارئ خلق العالم جملة
كما هو بجميع أحواله بلا زمان
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ، من يذهب إلى ذلك ،
وناظرناه على ذلك ، فقلت : إنّ الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى ، والذي نقول نحن
من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكرا واحدا وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم
منهما لا يمكنك إخراجه عن الإمكان. فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه؟ فتردد
ساعة فلما لم يجد دليلا قال : فمن أين ملتم أنتم إلى هذه الحيثية دون تلك؟ فقلت :
لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم.
منها : أنه لو كان
ما قلت ، لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود ، من الشبان
والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ، ويوقنون أنهم الآن به
حدثوا ، وأنهم لم
يكونوا قبل ذلك ، لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من
حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك.
ولو كان هذا
لنقلوه إلى أولادهم نقلا يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولا بد ، كما يقتضي العلم
الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع ،
ولبلغ الأمر إلينا كذلك ، ولعلمه جميع الناس علما ضروريا ، لأن شيئا ينقله جميع
أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبدا ، كما نقل طلوع الشمس وغروبها
والموت والولادة وغير ذلك.
ونحن نجد الأمر
بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض قاطبة لا يعرفون هذا ، بل لا يدريه أحد منهم ،
وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن ، لا بخبر ونقل أصلا.
هذا ما لا تخالفنا
فيه أنت ولا أحد من الناس ، فمن المحال الممتنع أن يكون خبر نقله جميع سكان العالم
أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عما شاهدوه يخفى حتى لا يعرفه أحد من سكان
الأرض ، هذا أمر يعرف كذبه بأول العقل وبديهته.
فقال : والذي
تحكونه أنتم أيضا قد وجدنا جماعات ينكرونه فينبغي أن يبطل بما عارضتنا به. فقلت :
بين النقلين فرق لا خفاء فيه ، لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل
واحد ، وامرأة واحدة فقط ، وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني ، وما
كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري ، إذ التواطؤ ممكن في ذلك ، ولو لا أن
الأنبياء عليهمالسلام الذين جاءوا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صحّ قولنا من
جهة النقل وحده ، بل كان ممكنا أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق
منهم ، لكن لما أخبر من صممت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدئ من النوع
الإنساني إلا رجلا واحدا وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم.
وبرهان آخر : وهو
أنكم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنساني بأن خلق ذكرا
وأنثى ، ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك
ببرهان أصلا ولا بدليل إقناعي فضلا عن برهاني. وقد صحت البراهين التي قدمنا قبل ،
أنه لا بد من مبدأ ضرورة ، فوجب ولا بدّ حدوث ذكر وأنثى ، وكان من ادّعى حدوث
أكثر من ذلك مدّعيا لما لا دليل له عليه أصلا ، وما
__________________
كان هكذا فهو باطل
بيقين لا مرية فيه ، وكل ما ذكرت عنه نبوة في الهند والمجوس والصابئين
واليهود والنصارى والمسلمين فلم يختلفوا في أن الله تعالى إنما أحدث الناس من ذكر
وأنثى ، وما جاء هذا المجيء فلا يجوز الاعتراض عليه بالدّعوى. وإنما اختلف عنهم في
الأسماء فقط وليس في هذا معترض لأنه قد يكون للمرء أسماء كثيرة فلم يمنع من هذا
مانع وبالله تعالى التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فلم نجد عندهم في ذلك معارضة أصلا ، وما علمنا أحدا من المتكلمين ذكر
هذه الفرقة أصلا.
قال «أبو محمد»
وقلت له في خلال كلامي معه : أترى العالم إذ خرج دفعة أخرج فيه الحوامل يطلقن ،
والطباقون قعودا على أطباقهم يبيعون التين والسّرقين ؟ فضحك وعلم أني سلكت به مسلك السخرية في قوله لفساده ،
وقال لي : نعم. فقلت : ينبغي أن يكونوا كلهم أنبياء يوحى إليهم أولهم عن آخرهم بما
هم عليه من العلوم والصناعات ، أو يلهمون ذلك.
وفي هذا من بطلان
الدّعوى ما لا خفاء به.
وكان مما اعترض به
: أن ذكر الجزائر المنقطعة في البحار ، وأنه يوجد فيها النمل والحشرات ، وكثير من
الطير ، وكثير من حشرات الأرض ، فقلت : إن كل ذلك لا ينكر ذو حس دخوله في جملة
رحالات المسافرين الداخلين إلى تلك البلاد فقد شاهدنا دخول الفئران في جملة الرحل
كذلك ، وليس في ذلك ما يوجب ما ذكرت أصلا. مع أن الحيوان نوعان ، نوع متولد يخلقه الله تعالى من عفونات الأبدان ، وعفونات الأرض ،
فهذا لا ينكر تولده بإحداث الله تعالى له في كل حين.
وقسم آخر متوالد قد رتب الله تعالى في بنية العالم أنه لا يخلقه إلّا عن
منيّ ذكر وأنثى ، فهذا هو الذي صار في تلك الجزائر عن دخول المسافرين إليها بلا شك
وبالله تعالى التوفيق.
وما ننكر في كل
نوع ما عدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين ، فهذا
__________________
ممكن في قدرة الله
تعالى ، ولم يأت خبر صادق بخلافه ، لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليهالسلام وسفينته حين الطوفان : (احْمِلْ فِيها مِنْ
كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) [سورة هود : ٤٠].
ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليهالسلام مأمورا بأن يحمل من كلّ زوجين اثنين ، ولا يمنع ذلك من
بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم.
وإنما نقول فيما
لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط.
وبرهان آخر : وهو
أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم ، من المعلوم ، والعلماء بها ،
والصناعات ، والصانعين لها ، دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن يكون ذلك
بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى.
وإمّا بطبع مركب
فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك ما صنعوا.
فإن كان بوحي
إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم ، إذ ليست النبوة معنى غير هذا ، وهذه دعوى
ممن قال بهذا القول بلا دليل ، وما لا دليل عليه فهو باطل ، لا يجوز القول به ، لا
سيما والقائلون بها منكرون للنبوة ، فلاح تناقض قولهم.
وإن كان كل ذلك عن
طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم ، متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا
تعليم ولا توقيف ، فهذا محال ضرورة ، وممتنع في العقل وفي الطبيعة ، إذ لو كان ذلك
لوجدوا أبدا كذلك ، إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد
أبدا في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلا يأتي بعلم من العلوم لم يعلّمه إياه أحد
، ولا يتكلم بلغة لم يعلّمه إيّاها أحد ، ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها
أحد.
وبرهان ذلك ما
قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة ، والسودان ، والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها
أبدا أحد يدري شيئا من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم ، وأنه لا ينطق
أحد
__________________
حتى يعلمه معلم ،
فظهر فساد هذا القول ببرهان وقبل البرهان بتعرية من البرهان ، وبالله تعالى
التوفيق.
الكلام على من ينكر النبوّة والملائكة
البراهمة وإبطال
آرائهم
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ذهبت البراهمة وهم قبيلة بالهند فيهم أشراف أهل الهند ، ويقولون إنهم
من ولد برهمي ملك من ملوكهم قديم ، ولهم علامة ينفردون بها ، وهي خيوط ملونة بحمرة
وصفرة يتقلدونها تقلد السيوف ، وهم يقولون بالتوحيد على نحو قولنا إلّا أنهم
أنكروا النبوات.
وعمدة احتجاجهم في
دفعها أن قالوا : لما صحّ أن الباري عزوجل حكيم ، وكان من بعث رسولا إلى من يدري أنه لا يصدقه فلا شك
في أنه متعنت عابث فوجب نفي بعث الرسل عن الله عزوجل لنفي العبث والعنت عنه.
وقالوا أيضا : إن
كان الله تعالى إنما بعث الرسل إلى الناس ليخرجهم بهم من الضلال إلى الإيمان فقد
كان أولى به في حكمته وأتم لمراده أن يضطر العقول إلى الإيمان به ، قالوا : فبطل
إرسال الرسل على هذا الوجه أيضا.
ومجيء الرسل عندهم
من باب الممتنع. وأمّا نحن فنقول : إنّ مجيء الرسل قبل أن يبعثهم الله تعالى واقع
في باب الإمكان ، وأمّا بعد أن بعثهم الله عزوجل ففي حدّ الوجوب.
ثم أخبر الصادق عليهالسلام عنه تعالى : أنه لا نبيّ بعده ، فقد جدّ الامتناع ولسنا نحتاج إلى تكلف ذكر قول من قال
من المسلمين : إن مجيء الرسل من باب الواجب واعتلالهم في ذلك بوجوب الإنذار في
الحكمة إذ ليس هذا القول صحيحا.
__________________
وإنما قولنا الذي
بيناه في غير موضع أنه تعالى لا يفعل شيئا لعلّة ، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ، وأن كل ما فعله فهو عدل وحكمة
أي شيء كان.
فيقال وبالله
تعالى التوفيق لمن احتج بالحجة الأولى من أن الحكمة تضاد بعثة الرسل ، وأن الحكيم
لا يبعث الرسل إلى من يدري أنه يعصيه إنكم اضطركم هذا الأصل الفاسد الحاكم بذلك
إلى موافقة المانية على أصولها في أن الحكيم لا يخلق من يعصيه ، ولا من يكفر به
ويقتل أولياءه. وهم يقولون : إن الله تعالى خلق الخلق ليدلّهم به على نفسه.
ويقال لهم : قد
علمنا وعلمتم أنّ في الناس كثيرا يجحدون الربوبية والوحدانية فقولوا : إنه ليس
حكيما من خلق دلائل لمن يدري أنه لا يستدل بها.
فإن قالوا : إنه
قد استدلّ بها كثير ، قيل لهم : وقد صدّق الرسل أيضا كثير.
فإن قالوا : إنه
خلق الخلق كما شاء. قيل لهم : وكذلك بعث الرسل أيضا كما شاء ، فبعثته تعالى الرسل
هي بعض دلائله التي خلقها تعالى ليدل بها على المعرفة به تعالى ، وعلى توحيده.
ويقال لمن احتج
بالحجة الثانية من أن الأولى به أنه كان يضطر العقول إلى الإيمان به : إن هذا قول
مرذول مردود عليكم في قولكم : إن الله عزوجل خلق الخلق ليدلّهم بهم على نفسه ووحدانيته.
فيلزمكم على ذلك
الأصل الفاسد أنه كان الأولى إذ خلقهم أن لا يدعهم والاستدلال ، وقد علم أن فيهم
من لا يستدل ، وأن فيهم من يغمض عليه الاستدلال. فكان الأولى في الحكمة أن يضطر
عقولهم إلى الإيمان به ، ولا يكلفهم مئونة الاستدلال ، وأن يلطف بهم ألطافا يختار
جميعهم معها الإيمان كما فعل بالملائكة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وملاك هذا كله ما قد قلناه في غير موضع من أن الخلق لما كانوا لا يقع
منهم فعل إلّا لعلّة ، ووجب بالبراهين الضرورية أن البارئ تعالى بخلاف جميع خلقه
من جميع الجهات ، وجب أن يكون فعله لا لعلة بخلاف أفعال جميع الخلق ، وأنه لا يقال
في شيء من أفعاله تعالى أنه فعل كذا لعلّة ، ولا إذ جاء الإنسان بالنطق وحرمه سائر الحيوان ، وخلق بعض الحيوان صائدا وبعضه
__________________
مصيدا ، وباين بين
جميع مفعولاته ، كما شاء ، فليس لأحد أن يقول لم خلق الإنسان ناطقا وحرم الحمار
النطق ، وجعل الحجر جامدا لا حياة فيه ولا نطق ، وهذا أصل قد وافقتنا البراهمة
عليه ، وسائر من خالفنا من تفريع هذا المعنى ممن يقول بالتوحيد. وهكذا إذا بعث
الله تعالى الرسل ليس لأحد أن يقول : لم بعثهم؟ أو لم بعث هذا الرجل ولم يبعث هذا
الآخر؟ ولا لم بعثهم في هذا الزمان دون غيره من الأزمان؟ ولا لم بعثهم في هذا
المكان دون غيره من الأمكنة؟ كما لا يقال لما حبا هذا المكان بالخصب دون غيره ،
ولا لم حبا هذا الإنسان بالجمال دون غيره ، ولا لم حباه بالسّعد في الدنيا دون
غيره؟ وهكذا كل ما في العالم إذا نظر فيه تعالى الذي لا يسأل عن شيء. قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء :
٢٣].
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وإذ قد نقضنا شغبهم بحول الله تعالى وتأييده ، فلنقل الآن بعون الله
تعالى وتأييده في إثبات النبوة إذ وجدت قولا بيّنا وبالله تعالى التوفيق : فنقول وبالله
تعالى نستعين : قد قدّمنا فيما خلا إثبات حدوث الأشياء وأن لها محدثا لم يزل واحدا
لا مبدأ له ، ولا كان معه غيره ، ولا مدبر سواه ، ولا خالق غيره. فإذ قد ثبت هذا
كله وصح أنه تعالى أخرج العالم كله إلى الوجود بعد أن لم يكن بلا كلفة ، ولا
معاناة ، ولا طبيعة ، ولا استعانة ، ولا مثال سلف ، ولا علّة موجبة ، ولا حكم سابق
قبل الخلق يكون ذلك الحكم لغيره تعالى ، فقد ثبت أنه لم يفعل إذ لم يشأ ، وفعل إذ
شاء ، كما شاء ، وينقص ما شاء ، فكل منطوق به مما يتشكك في النفس أو لا يتشكك فهو
داخل له تعالى في باب الإمكان على ما بيّنا في غير هذا المكان ، إلّا أننا نذكر
منه هاهنا طرفا إن شاء الله عزوجل فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إن الممكن ليس
واقعا في العالم وقوعا واحدا ، ألا ترى أن نبات اللحية للرّجال ما بين الثماني
عشرة إلى عشرين سنة ممكن؟ وهو في حدود الاثني عشرة سنة إلى العامين ممتنع ، وأن فك
الإشكالات العويصة ، واستخراج المعاني الغامضة ، وقول الشعر البديع ، وصناعة
البلاغة الرائقة ممكن لذي الذهن اللطيف والذكاء النافذ ، وغير ممكن من ذي البلادة
الشديدة والغباوة المفرطة؟
فعلى هذا ما كان
ممتنعا بيننا ـ إذ ليس في بنيتنا ولا في طبيعتنا ، ولا من عادتنا ـ فهو غير ممتنع
على الذي لا بنية له ، ولا طبيعة له ، ولا عادة عنده ، ولا رتبة
__________________
لازمة لفعله ، فإذ
قد صح هذا ، فقد صح أنه لا نهاية لما يقوى عليه تعالى ، فصح أن النبوة في الإمكان.
وهي بعثة قوم قد
خصهم الله تعالى بالحكمة والفضيلة والعصمة لا لعلة إلّا أنه شاء ذلك ، فعلّمهم
الله تعالى العلم بدون تعلم ، ولا تنقل في مراتبه ، ولا طلب له ، ومن هذا الباب ما
يراه أحدنا في الرؤيا فيخرج صحيحا ، وما هو من باب تقدّم المعرفة ، فإذ قد أثبتنا أن النبوّة
قبل مجيء الأنبياء عليهمالسلام واقعة في حدّ الإمكان ، فلنقل الآن بحول الله تعالى وقوته
على وجوبها إذا وقعت ولا بدّ. فنقول :
إذ قد صحّ أن الله
تعالى ابتدأ العالم ولم يكن موجودا حتى خلقه الله تعالى فبيقين ندري أن العلوم
والصناعات لا يمكن البتة أن يهتدي أحد إليها بطبعه فيما بيننا دون تعليم كالطب ،
ومعرفة الطبائع ، والأمراض وسببها على كثرة اختلافها ووجود العلاج لها بالعقاقير
التي لا سبيل إلى تجريبها كلها أبدا ، وكيف يجرّب كل عقار في كل علة؟ ومتى يتهيأ
هذا؟ ولا سبيل له إلا في عشرة آلاف من السنين؟ ومشاهدة كل مريض في العالم ، وهذا
يقطع دونه قواطع الموت والشغل بما لا بدّ منه من أمر المعاش وذهاب الدول ، وسائر
العوائق. وكعلم النجوم ، ومعرفة دورانها وقطعها وعودها إلى أفلاكها مما لا يتم
إلّا في عشرة آلاف من السنين ، ولا بدّ من أن يقطع دون ضبط ذلك العوائق التي قلنا.
وكاللغة التي لا يصح تربية ولا عيش ولا تصرف إلا بها ، ولا سبيل إلى الاتفاق عليها
إلا بلغة أخرى ولا بد ، فصحّ أنه لا بدّ من مبدأ ما للغة. وكالحرث والحصاد ، والدراس
، والطحن وآلاته ، والعجن ، والطبخ والحلب وحراسة المواشي ، واتخاذ الأنسال منها ،
والغرس واستخراج الأدهان ، ودق الكتان والقنب ، والقطن وغزله ، وحياكته ، وقطعه ،
وخياطته ، ولبسه وآلات كل ذلك ، وآلات الحرث والأرحاء ، والسفن ، وتدبيرها في القطع بها للبحار ، والدواليب ،
وحفر الآبار ، وتربية النحل ودود الخز ، واستخراج المعادن ، وعمل الأبنية منها ،
ومن الخشب والفخار.
وكل هذا لا سبيل
إلى الاهتداء إليه دون تعليم. فوجب بالضرورة ولا بدّ أنه لا بدّ من إنسان واحد
فأكثر علّمهم الله تعالى ابتداء كلّ هذا دون معلم ، لكن بوحي
__________________
حققه عنده. وهذه صفة
النبوة. فإذا لا بدّ من نبيّ أو أنبياء ضرورة. فقد صح وجود النبوّة والنبي في
العالم بلا شك.
ومن البرهان على
ما ذكرنا : أننا نجد كل من لم يشاهد هذه الأمور لا سبيل له إلى اختراعها البتة ،
كالذي يولد وهو أصم فإنه لا يمكن له البتة الاهتداء إلى الكلام ، ولا إلى مخارج
الحروف.
وكالبلاد التي
ليست فيها بعض الصناعات وهذه العلوم المذكورة كبلاد السودان والصقالبة ، وأكثر
الأمم ، وسكان البوادي نعم والحواضر لا يمكن البتة منذ أول العالم إلى وقتنا هذا
ولا إلى انقضائه اهتداء أحد منهم إلى علم لم يعرفه ، ولا إلى صناعة لم يعرّف بها ،
فلا سبيل إلى تهدّيهم إليها البتة حتى يعلّموها ، ولو كان ممكنا في الطبيعة
التهدّي إليها دون تعليم لوجد من ذلك في العالم على سعته وعلى مرور الأزمان من
يهتدي إليها ، ولو واحدا ، وهذا أمر يقطع على أنه لا يوجد ولم يوجد.
وهكذا القول في
العلوم ، ولا فرق ، ولسنا نعني بهذا ابتداء جمعها في الكتب لأن هذا أمر لا مئونة
فيه ، إنما هو كتاب ما سمعه الكاتب وإحصاؤه فقط كالكتب المؤلفة في المنطق وفي الطب
، وفي الهندسة وفي النجوم ، وفي الهيئة والنحو ، واللغة ، والشعر ، والعروض. إنما
نعني ابتداء مئونة اللغة والكلام بها ، وابتداء معرفة الهيئة وتعلمها ، وابتداء
تعلم أشخاص الأمراض وأنواعها وقوى العقاقير ، والمعاناة بها ، وابتداء معرفة
الصناعات. فصح بذلك أنه لا بدّ من وحي الله تعالى في كل ذلك.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا أيضا برهان ضروري على حدوث العالم ، وأن له محدثا مختارا ولا
بدّ. إذ لا بقاء للعالم البتة إلا بنشأة ومعاش ، ولا نشأة ولا معاش إلّا بهذه
الأعمال والصناعات والآلات ، ولا يمكن وجود شيء من هذه كلها إلا بتعليم الباري
تعالى. فصح أن العالم لم يكن موجودا ، إذ لا سبيل إلى بقائه إلا بما ذكرنا. ثم
أوجد معلما مدبرا مبتدأ بتعليمه على ما ذكرنا ـ وبالله تعالى التوفيق.
البراهين الدّالة
على صدق مدّعي النبوّة
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وإذ قد تكلمنا على أنه لا بدّ من نبوّة وصحّ ذلك ضرورة ، فلنتكلم على
براهينها التي صحّ بها علم صدق مدّعيها إذ وقعت فنقول : إنه قد صح أن الباري تعالى
هو فاعل كل شيء ظهر وأنه قادر على إظهار كلّ متوهّم
لم يظهر ، وعلمنا بكل ما قدمنا أنه تعالى مرتب هذه المراتب التي في
العالم ومجريها على طبائعها المعلومة منا الموجودة عندنا ، وأنه لا فاعل على
الحقيقة غيره تعالى ، ثم رأينا خلافا لهذه الرتب والطبائع قد ظهرت ، ووجدنا طبائع
قد أحيلت ، وأشياء في حدّ الممتنع قد وجبت ووجدت ، كصخرة انفلقت عن ناقة ، وعصا انقلبت حية ، وميّت أحياه إنسان ، ومئين من الناس رووا وتوضئوا كلهم من ماء يسير في قدح
صغير يضيق عن بسط اليد فيه ، لا مادة له ، فعلمنا أن محيل هذه الطبائع ، وفاعل هذه المعجزات هو
الأول الذي أحدث كل شيء. ووجدنا هذه القوى قد أصحبها الله تعالى رجالا يدعون إليه
، ويذكرون أنه تعالى أرسلهم إلى الناس ، ويستشهدون به تعالى فيشهد لهم بهذه
المعجزات المحدثة منه تعالى ، في حين رغبة هؤلاء القوم إليه فيها ، وضراعتهم إليه
في تصديقهم بها ، فعلمنا علما ضروريا يقينيا لا مجال للشك فيه أنهم مبعوثون من
قبله عزوجل ، وأنهم صادقون فيما أخبروا به عنه تعالى ، إذ لا سبيل في
طبيعة مخلوق في العالم إلى التحكم على البارئ ، ولا على طبائع خلقه مثل هذا ،
ووجوب النبوة إذ ظهر على مدّعيها معجزة من إحالة الطبائع المخالفة لما بني عليه
العالم.
وقد تكلمنا في غير
هذا المكان على أنّ هذه الأشياء لها طرق توصل إلى صحة اليقين بها عند من لم
يشاهدها كصحتها عند من شاهدها ولا فرق. وهي نقل الكافة التي قد استشعرت العقول
ببدايتها والنفوس بأوّل معارفها أنه لا سبيل إلى جواز الكذب
__________________
ولا الوهم عليها ،
وأن ذلك ممتنع فيها. فمن تجاهل وأجاز ذلك عليها خرج عن كل معقول ، ولزمه أن لا
يصدق أن من غاب عن بصره من الإنس بأنهم أحياء ناطقون كمن شاهد ، وأن صورهم على حسب
الصورة التي عاين ، ولزم أن يكون عنده ممكنا في بعض من غاب عن بصره من الناس أن
يكونوا بخلاف ما عهد من الصورة ، إذ لا يعرف أحد أن كل من غاب عن حسه فإنه في مثل
كيفية ما شاهد من نوعه إلا بنقل الكواف ذلك ، كما نقلت أن بعضهم بخلاف ذلك في بعض
الكيفيات ، فوجب تصديق ذلك ضرورة كبلاد السودان وما أشبه ذلك. ويلزم من لم يصدق
خبر الكافة ، ويجيز فيه الكذب والوهم أن لا يصدق ضرورة بأن أحدا كان قبله في
الدنيا ، ولا أن في الدنيا أحدا إلّا من شاهد بحسه. فإن جوّز هذا عرف بعقله أنه
كاذب ، وخرج عن حدود من يتكلم معه ، لأن هذا الشيء لا يعرف البتة إلّا من طريق
الخبر لا غير ، فإن نفر عن هذا وأقر بأنه قد كان قبله ملوك وعلماء ، ووقائع وأمم ،
وأيقن بذلك ، ولم يكن في كثير منها شك بل هي عنده في الصحة كما شاهد ولا فرق ـ سئل
: من أين عرفت ذلك وكيف صح عندك؟ فلا سبيل له أصلا إلى أن يصح ذلك عنده إلا بخبر
منقول نقل كافة. وبالله تعالى التوفيق. فنقول له حينئذ : فرّق بين ما نقل إليك من
كل ذلك ، وبين كل ما نقل إليك من علامات الأنبياء عليهمالسلام! ولا سبيل له إلى الفرق بين شيء من ذلك أصلا. فإن قال :
الفرق بينها وبينها أنه لا ينكر أحد هذه الأمور ، وكثير من الناس ينكرون أعلام
الأنبياء ، قيل له وبالله تعالى التوفيق : إن كثيرا من الناس لا يعرفون كثيرا مما
صح عندك من الأخبار العارضة لمن كان في بلادك قبلها فليس جهلهم بها ودفعهم لها لو
حدثوا بها مخرجا لها عن الصحة ، وكذلك جحد أعلام الأنبياء ليس مخرجا لها عن الوجوب
والصحة.
فإن قال : إنه ليس
نجد الناس على الكذب فيما كان قبلنا من الأخبار ما نجدهم على الكذب في أعلام
النبوة. قيل له وبالله التوفيق :
هذا كذب ، بل
الأمران سواء لا فرق بينهما. ومن الملوك من يشتد عليهم وصف أسلافهم بالجور والظلم
والقبائح ، ويحمي هذا الباب بالسيف فما دونه ، فما انتفعوا بذلك في كتمان الحق.
قد نقل ذلك كله
وعرف ، كما نقلت فضائل من تغضب ملوك الزمان من مدحه كفضائل علي بن أبي طالب رضي
الله عنه ، ما قدر قط ملوك بني مروان على سترها وطيها.
وقد رام المأمون
والمعتصم والواثق على سعة ملكهم لأقطار الأرض قطع القول بأن القرآن غير مخلوق فما قدروا على ذلك.
وكل نبي فله عدو
من الملوك والأمم يكذبونهم ، فما قدروا قط على طيّ أعلامهم ولا على تحقيق ما زادوا
على ذلك لمن يغضب له من لا دين له. فصح أن الأمرين سواء ، وأن الحقّ حق. فإن قال
قائل : فلعلّ هذا الذي ظهرت منه المعجزات قد ظفر بطبيعة وخاصية قدر معها على إظهار
ما أظهر. قيل له وبالله التوفيق :
إن الخواصّ قد
علمت ، ووجوه الحيل قد أحكمت ، وليس في شيء منها عمل يحدث عنه اختراع جسم لم يكن
كنحو ما ظهر من اختراع الماء الذي لم يكن ، ولا في شيء منه إحالة نوع آخر دفعة على الحقيقة ، ولا
جنس إلى جنس آخر دفعة على الحقيقة ، وهذا كله قد ظهر على أيدي الأنبياء عليهمالسلام فصح أنه من عند الله تعالى ، لا مدخل لعلم إنسان ولا حيلته
فيه.
الفرق بين المعجزة
والسحر
ونحن نبين إن شاء
الله تعالى الفرق الواضح بين معجزات الأنبياء عليهمالسلام وبين ما يقدر عليه بالسحر وبين حيل العجائبيين. فنقول
وبالله تعالى التوفيق :
إن العالم كله
جوهر وعرض ، لا سبيل إلى وجود قسم ثالث في العالم دون الله تعالى.
فأمّا الجواهر
فاختراعها من ليس إلى أيس وهو من العدم إلى
الوجود فممتنع غير ممكن البتة لأحد دون الله تعالى ، مبتدئ العالم ومخترعه. فمن
ظهر عليه اختراع جسم كالماء النابع من أصابع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحضرة الجيش فهي معجزة شاهدة من الله تعالى بصحة نبوته لا
يمكن غير ذلك أصلا.
وكذلك إحالة الأعراض
إلى جوهريات ذاتيات ، وهي الفصول التي تؤخذ من
__________________
الأجناس ، وذلك
كقلب العصا حية ، وحنين الجذع ، وإحياء الموتى الذين رمّوا وصاروا عظاما ، والبقاء في
النار ساعات لا تؤذيه ، وما أشبه ذلك.
وكذلك الأعراض
التي لا تزول إلا بفساد حاملها كالغطس والرزق ونحو ذلك. فهذا لا يقدر عليه أحد دون
الله تعالى بوجه من الوجوه.
وأما إحالة
الأعراض من الغيرات التي تزول بغير فساد حاملها فقد تكون بالسحر. ومنه طلسمات كتنفير بعض الحيوان عن مكان ما فلا يقرب أصلا ، وكإبعاد
البرد ببعض الصناعات ، وما أشبه هذا ، وقد يزيد الأمر ويفشو العلم ببعض هذا النوع
حتى يحسنه أكثر الناس كالطب والأصباغ وما أشبه هذا.
وأمّا التخييل
بنوع من الخديعة كسكين مثقوبة النصاب تدخل فيها السكين ويظن من رآها أنها دخلت في
جسد المضروب بها ، في حيل غير هذه من حيل أرباب العجائب كالحلاج وأشباهه فأمر يقدر عليه من تعلمه ، وتعلمه ممكن لكل من
أراده. فالذي يأتي به الأنبياء عليهمالسلام هو إحالة الذاتيات ، ومن ذلك صرف الحواس عن طبائعها كمن
أراك ما لا يراه غيرك ، أو مسح يده على مريض فأفاق ، أو سقاه ما يضر علته فبرئ ، أو
أخبر عن الغيوب في الجزئيات عن غير تعديل ولا فكرة ، فهذه كلها إحالة الذاتيات وما
ثبت ، إذ ثباتها لا يكون إلّا لنبي.
__________________
فإذ قد تكلمنا على
إمكان النبوة قبل مجيئها ووجوبها حين وجودها ، فلنتكلم الآن بحول الله وقوته على
امتناعها بعد ذلك. فنقول وبالله تعالى التوفيق :
إذ قد صح كل ما
ذكرناه من المعجزات الظاهرة من الأنبياء عليهمالسلام شهادة من الله تعالى لهم مصدقا بها أقوالهم ، فقد وجب
علينا الانقياد لما أتوا به ، ولزمنا تيقن كل ما قالوا. وقد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنقل الكواف التي نقلت نبوته وأعلامه وكتابه أنه أخبر أنه
لا نبي بعده ، إلّا ما جاءت الأخبار الصحاح عن نزول عيسى عليهالسلام الذي بعث إلى بني إسرائيل وادّعى اليهود قتله وصلبه ، فوجب
الإقرار بهذه الجملة ، وصحّ أن وجود النبوة بعده عليهالسلام باطل لا يكون البتة.
وبهذا يبطل أيضا
قول من قال بتواتر الرسل ووجوب ذلك أبدا وبكل ما قدمناه مما أبطلنا به قول من قال
بامتناعه البتة ، إذ عمدة حجة هؤلاء هي قولهم : إن الله حكيم ، والحكيم لا يجوز في
حكمته أن يترك عباده هملا دون إنذار.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد أحكمنا بحول الله تعالى وقوته قبل هذا أن الله تعالى عزوجل لا شرط عليه ، ولا علة عليه أن يفعل شيئا ، ولا ألا يفعله
، وأنه تعالى لو أهمل الناس لكان حقا وحسنا لو خلقهم كما خلق سائر الحيوان الذي لم
يلزمه شريعة ، ولا حظر عليه شيء ، وأنه تعالى لو واتر الرسل والنذارة أبدا لكان
حقا وحسنا ، كما فعل بالملائكة الذين هم حملة وحيه ورسله أبدا ، وأنه تعالى لو خلق
الخلق كفارا كلهم لكان ذلك منه حقا وحسنا ، أو لو خلقهم مؤمنين كلهم لكان حقا
وحسنا ، كما أن الذي فعل تعالى من كل ذلك حق وحسن ، وأنه لا يقبح شيء إلّا من
مأمور ومنهي قد تقدّمت الأوامر وجوده وسبقت الحدود المرتّبة للأشياء كونه ، وأما
من سبق كلّ ذلك فله أن يفعل ما يشاء ويترك ما يشاء لا معقب لحكمه.
وأمّا الملائكة
فكل من له معرفة ببنية العالم والأفلاك والعناصر فإنه يعلم أن الأرض وعمقها أقرب
إلى الفساد من سائر العناصر ، ومن سائر الأجرام العلوية ، وأنها مواتية كلها ، وأن الحياة إنما هي في النفس المنزلة قسرا إلى
مجاورة البدن الترابي
__________________
المواتي من سائر
جميع الحيوان. فقد ثبت يقينا بضرورة المشاهدة أن محلّ الحياة وعنصرها ، ومعدنها ،
وموضعها إنما هو هنالك من حيث جاءت النفوس الحية الناقصة بما في طبعها من مجاورة
هذه الأجساد ، والتثبت بها عن كمال ما خصّ بالحياة الدائمة ولم يشن ولا نقص فضله
وصفاؤه بمجاورة الأجساد الكدرة المملوءة آفات ودرنا وعيوبا ، فصحّ أن العلو الصافي
هو محل الأحياء الفاضلين السالمين من كل رذيلة ، ومن كل نقص ، ومن كل مزاج فاسد ،
المحبوّين بكل فضيلة في الخلق ، وهذه صفة الملائكة عليهمالسلام. وصح بهذا أن على قدر سعة ذلك المكان يكون كثرة من فيه من
أهله وعمّاره ، وأنه لا نسبة لما في هذا المحل الضيق والنقطة الكدرة مما هنالك كما
لا نسبة لمقدار هذا المكان من ذلك ، وبهذا صحت النبوة وهكذا أخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن كثرة الملائكة في الأخبار المسندة الثابتة عنه صلىاللهعليهوسلم ، وبهذا وجب أن يكونوا هم الرسل والوسائط بين الأول تعالى
الذي خصهم بالنبوّة والرسالة وتعليم العلوم ، وبين إنقاذ النفوس من الهلكة.
الردّ على من ادّعى أنّ في البهائم رسلا
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ذهب أحمد بن حابط وكان من أهل البصرة من تلاميذ إبراهيم النظام يظهر الاعتزال ، وما نراه الكافر كان إلا منانيا.
وإنما استجزنا
إخراجه عن الإسلام لأن أصحابه حكوا عنه وجوها من الكفر ، منها التناسخ ، والطعن
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالنكاح ، وكان من قوله إن الله عزوجل نبأ أنبياء من كل نوع من أنواع الحيوان ، حتّى البق
والبراغيث والقمل وحجته في ذلك قول الله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام :
٣٨] ، ثم ذكر قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤].
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله عزوجل يقول : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [سورة النساء :
١٦٥] ، وإنما يخاطب الله بالحجة من يعقلها قال الله تعالى : (يا أُولِي الْأَلْبابِ). وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق الذي
هو التصرف في العلوم ، ومعرفة الأشياء على ما هي عليه ، والتصرف في الصناعات على
اختلافها ـ الإنسان خاصة. وأضفنا إليهم بالخبر الصادق مجرد الجن ، وأضفنا إليهم
بالخبر الصادق ، وببراهين أيضا ضرورية الملائكة ، وإنما شارك من ذكرنا سائر
الحيوان في الحياة خاصة وهي الحس والحركة الإرادية ، فعلمنا بضرورة العقل أن الله
تعالى لا يخاطب بالشرائع إلّا من يعقلها ويعرف المراد بها ، وبقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) [سورة البقرة : ٢٨٦].
ووجدنا جميع الحيوان حاشا الناس يجري على رتبة واحدة في تصرفها في معاشها وتناسلها
، لا يجتنب منها واحد شيئا يفعله غيره. هذا الذي يدرك حسا فيما يعاشر الناس في
منازلهم من المواشي والخيل والبغال والحمير والطير وغير ذلك. وليس الناس في أحوالهم
كذلك ، فصح أن البهائم غير مخاطبة بالشرائع وبطل قول ابن حابط. وصح أن معنى قول
الله تعالى : (أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) أي أنواع أمثالكم ، إذ كل نوع يسمى أمة. وأن معنى قوله
تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) إنما عنى تعالى تلك الأمم من الناس ، وهم القبائل والطوائف
، ومن الجن لصحة وجوب العبادة عليهم. فإن قال قائل : فما يدريك لعل سائر الحيوان
له نطق وتمييز؟
قيل له وبالله
التوفيق : بقضية العقول وبديهيّها عرفنا الأشياء على ما هي عليه ، وبها عرفنا الله
عزوجل وصحة النبوات وهي التي لا يصح شيء إلّا بموجبها. فما عرف
بالعقل وجوبه فهو واجب بيننا ـ نريد في الوجود في العالم ـ وما عرف بالعقل أنه
محال فهو محال في العالم ، وما وجد بالعقل إمكانه فجائز أن يوجد ، وجائز أن لا
يوجد ، وبضرورة العقل والحس علمنا أن كل نوعين واقعين تحت جنس واحد فإن ذلك الجنس
يعطيهما اسمه وحدّه عطاء مستويا. فلما كان جنس الحي يجمعنا مع سائر الحيوان
استوينا معها كلها استواء لا تفاضل فيه ، فما اقتضاه اسم الحياة من الحس والحركة
الإرادية ، وهذان المعنيان هما الحياة لا حياة غيرهما أصلا. وعلمنا ذلك بالمشاهدة
لأننا رأينا الحيوان يألم بالضرب والنخس ، ويحدث لها من الصوت والقلق ما يحقق
ألمها كما نفعل نحن ولا فرق. ولذلك لما تشاركنا والحيوان وجميع الشجر والنبات في
النماء استوى جميع الحيوان فيما اقتضاه اسم النمو من طلب الغذاء ، واستحالته في
المتغذّى به إلى نوعه ، ومن طلب بقاء النوع مع جميع الشجر والنبات استواء واحدا لا
تفاضل فيه.
ولما شاركنا وجميع
الحيوان والشجر والنبات وسائر الجمادات في أن كل ذلك أجسام طويلة عريضة عميقة ـ
جميع الأجرام استوى كل ذلك فيما اقتضاه له اسم الجسمية في ذلك استواء لا تفاضل
فيه. ولم يدخل ما لم يشارك شيئا مما ذكرنا في الصفة التي انفرد بها عنه. هذا كله
يعلمه ضرورة من وقف عليه مما له حس سليم.
فلما كان النطق
الذي هو التصرف في العلوم والصناعات قد خصنا دون سائر الحيوان وجب ضرورة أن لا
يشاركنا شيء من الحيوان في شيء منه ، إذ لو كان فيه شيء منه لما كنا أحق بكله من
سائر الحيوان. كما أنا لسنا بالحياة أحق منها ، ولا بالنمو ولا بالحركة ولا
بالجسمية ، فصح بهذا أنه لا نطق لها أصلا.
فإن قال قائل :
لعل نطقها بخلاف نطقنا؟ قيل له وبالله التوفيق :
لا يتشكل في
العقول البتة حياة على غير صفة الحياة عندنا ، ولا نماء على غير صفة النماء عندنا
، ولا حمرة على غير الحمرة عندنا ، ولا جسم على خلاف الأجسام عندنا ، وهكذا في كل
شيء ، ولو كان شيء بخلاف ما عندنا لم يقع عليه ذلك الاسم أصلا ، وكان كمن سمّى
الماء نارا ، والعسل حجرا ، وهذا هو الحمق والتخليط فبالضرورة وجب أن كل صفة هي
بخلاف نطقنا فليس نطقا. والنطق عندنا هو التصرف في العلوم والصناعات ومعرفة
الأشياء على ما هي عليه ، فلو كان ذلك النطق بخلاف هذا لكان ليس معرفة للأشياء على
ما هي عليه ، ولا تصرفا في العلوم والصناعات ، فهو إذا ليس نطقا ، فبطل هذا الشغب
السخيف والحمد لله رب العالمين.
فإن اعترض معترض
بفعل النحل ونسج العنكبوت ، قيل له وبالله التوفيق :
إنّ هذا طبيعة
ضرورية ، لأن العنكبوت لا يتصرف في غير تلك الصفة من النسج ولا توجد أبدا إلّا
كذلك. وأمّا الإنسان فإنه يتصرف في عمل الديباج والوشي والقباطي ، وأنواع الأصباغ والدباغ ، والخرط والنقش ، وسائر
الصناعات من الحرث والحصاد والطحن والطبخ والبناء والتجارات. وفي أنواع العلوم من
النجوم ومن الأغاني والطب والنبل والجبر ، والعبارة والعبادة وغير ذلك.
ولا سبيل لشيء من
الحيوان إلى التصرف في غير الشيء الذي اقتضاه له طبعه ،
__________________
ولا إلى مفارقة
تلك الكيفية. فإن اعترض معترض بقول الله تعالى : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ) [سورة النمل : ١٦].
وبما ذكر الله تعالى من قول النملة : (يا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [سورة النمل : ١٨]
الآية. وقصة الهدهد. قيل وبالله تعالى التوفيق :
لم ندفع أن يكون
للحيوان أصوات عند معاناة ما تقتضيه له الحياة من طلب الغذاء ، وعند الألم ، وعند
المضاربة ، وطلب السّفاد ، ودعاء أولادها ، وما أشبه ذلك فهذا هو الذي علمه الله
تعالى سليمان رسوله عليهالسلام ، وهذا الذي يوجد في أكثر الحيوان ، وليس هذا من تمييز
دقائق العلوم والكلام فيها ، ولا من عمل وجوه الصناعات كلها في شيء. وإنما عنى
الله تعالى : ب «منطق الطير» أصواتها التي ذكرنا لا تمييز العلوم والتصرف في
الصناعات التي من ادعاها لها أكذبه العيان ، والله تعالى لا يقول إلّا الحق.
وأما قصة النملة
والهدهد : فهما معجزتان خاصتان لذلك النمل ولذلك الهدهد ، وآيتان لسليمان رسول
الله صلىاللهعليهوسلم. ككلام الذراع وحنين الجذع ، وتسبيح الطعام لمحمد صلىاللهعليهوسلم آيات لنبوته عليهالسلام ، وكذلك حياة عصا موسى عليهالسلام آية لرسول الله موسى عليهالسلام ، لأن هذا النطق شامل لأنواع هذه الأشياء.
قال «أبو محمد»
رضي الله عنه : وقد قاد السخف والضعف والجهل من يقدّر في نفسه أنه عالم وهو
المعروف بخويزمنداد المالكي إلى أن جعل للجمادات تمييزا.
قال «أبو محمد»
رضي الله عنه : ولعلّ معترضا يعترض بقول الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
بِحَمْدِهِ) [سورة الإسراء :
آية ٤٤] وبقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الحج : آية
رقم ١٨] الآية. وبقوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا
الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ
يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) [سورة الأحزاب :
٧٢] الآية. وبقوله تعالى حاكيا أنه قال للسماوات والأرض : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا
أَتَيْنا طائِعِينَ) [سورة فصلت : ١١]
وبقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يوم يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء» فهذا كله حق ولا
__________________
حجة لهم فيه
والحمد لله رب العالمين. لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره ، كذلك كلام رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عزوجل مبدلا لكلماته ، ما لم يأت نص في أحدهما ، أو إجماع متيقن
، أو ضرورة حسّ على خلاف ظاهره ، فيوقف عند ذلكم ، ويكون من حمله على ظاهره حينئذ
ناسبا الكذب إلى الله عزوجل ، أو كاذبا عليه وعلى نبيه عليهالسلام نعوذ بالله من كلا الوجهين. وإذ قد بينا قبل بالبراهين
الضرورية أن الحيوان غير الإنس والجن والملائكة لا نطق له نعني أنه لا تصرف له في
العلوم والصناعات ، وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة لا ينكره إلا وقح
مكابر لحسه ، وبينا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا فإنه ليس تمييزا ،
وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة ، فوجب أنه بخلاف ما يسمى في
الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا ، فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت
ألفاظها ، وأما معانيها فمختلفة لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا ، لأنه إن فعل
كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى
ولولاه ما عرفناه ، ومن أجاز هذا كان كافرا مشركا ، ومن أبطل العقل ، فقد أبطل التوحيد
إذ كذب شاهده عليه ، إذ لو لا العقل لم يعرف الله عزوجل أحد ، ألا ترى المجانين والأطفال لا يلزمهم شريعة لعدم
عقولهم؟ ومن جوّز هذا فلا ينكر على النصارى ما يأتون به من خلاف المعقول ، ولا على
الدهرية ، ولا على السوفسطائية ما يخالفون به المعقول ، لكنا نقول : إنّ اللفظ
مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه ، كما فعلنا في النزول وفي الوجه واليدين
والأعين ، وحملنا كل ذلك على أنه حق بخلاف ما يقع عليه اسم «ينزل» عندنا ، واسم «يد»
و «عين» عندنا ، لأن هذا عندنا في اللغة واقع على الجوارح والنقلة ، وهذا منفيّ عن
الله تعالى.
فإذ لا شك في هذا
فلنقل الآن على معاني الآيات التي ذكرنا أنه ربما اعترض بها من لا يمعن النظر بحول
الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق :
أما تسبيح كل شيء
فالتسبيح عندنا إنما هو قول «سبحان الله وبحمده». وبالضرورة نعلم أن الحجارة
والخشب والهوام والحشرات والحيوان غير الناطق لا تقول «سبحان الله» بالسين والباء
والحاء والألف والنون واللام والهاء. هذا ما لا يشك فيه من
__________________
له مسكة عقل ، فإذ
لا شك في هذا فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق ، وهو معنى
غير تسبيحنا نحن بلا شك. فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله
تعالى عن السوء. فإذ قد صح هذا فإن كل شيء في العالم بلا شك منزه لله تعالى عن
السوء الذي هو صفة الحدوث ، وليس في العالم شيء إلا وهو دال بما فيه من دلائل
الصنعة ، واقتضائه صانعا لا يشبه شيئا مما خلق تعالى ، على أن الله تعالى منزه عن
كل سوء ونقص. وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس ، كما قال تعالى : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤].
فهذا هو تسبيح كل
شيء بحمد لله تعالى بلا شك. وهذا المعنى حق لا ينكره موحد.
فإن كان قولنا هذا
متّفقا على صحته وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا ، فقد ثبت
قولنا ، وانتفى قول من خالفنا بظنه الكاذب.
وأيضا فإن الله
تعالى يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤]
والكافر الدّهري شيء ، لا يشك في أنه شيء ، وهو لا يسبح بحمد الله تعالى البتة.
فصح ضرورة أن الكافر يسبح إذ هو من جملة الأشياء التي تسبح بحمد الله تعالى ، وأن
تسبيحه ليس هو قوله سبحان الله وبحمده بلا شك ، ولكنه تنزيه الله تعالى بدلائل
خلقه وتركيبه عن أن يكون الخالق مشبها لشيء مما خلق. وهذا يقين لا شك فيه. فصح بما
ذكرنا أن لفظة التسبيح هي من الأسماء المشتركة ، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا.
وأما السجود الذي
ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : آية
رقم ١٥].
فقد علمنا أن السجود
المعهود عندنا في الشريعة واللغة هو وضع الجبهة واليدين والركبتين ، والرجلين ،
والأنف في الأرض بنية التقرب بذلك إلى الله تعالى.
هذا ما لا يشك فيه
مسلم ، وكذلك نعلم ضرورة لا شك فيها أن الحمير والهوام والخشب والحشيش والكفار لا
تفعل ذلك ، لا سيما من ليس له هذه الأعضاء. وقد نص تعالى على صحة ما قلنا ، وأخبر
تعالى أن في الناس من لا يسجد له السجود المعهود عندنا بقوله تعالى : (وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي
خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ
عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) [سورة فصلت : الآيتان
٣٧ و ٣٨].
فأخبر تعالى أن في
الناس من يستكبر عن السجود له فلا يسجد ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) [سورة الرعد : آية
١٥].
فبين تعالى أن
السجود كرها غير السجود بالطوع الذي هو السجود المعهود عندنا. وإذ قد أخبر الله
تعالى بهذا وصح أيضا بالعيان ، فقد علمنا بالضرورة أن السجود الذي أخبر الله تعالى
أنه يسجده له من في السموات والأرض هو غير السجود الذي يفعله المؤمنون طوعا ،
ويستكبر عنه بعض الناس ، ويمتنع منه أكثر الخلق. هذا مما لا يشك فيه مسلم ، فإذ هو
كذلك بلا شك فواجب علينا أن نطلب معنى هذا السجود ما هو؟ ففعلنا فوجدناه مبينا بلا
إشكال في آيتين من كتاب الله وهما قوله تعالى : (وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [سورة الرعد : ١٥].
وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) [سورة النحل : ٤٨].
فبين تعالى في
هاتين الآيتين بيانا لا إشكال فيه : أن ميل الفيء والظل بالغدوات والعشيات من كل ذي
ظل هو معنى السجود المذكور في الآية ، لا السجود المعهود عندنا. وصح بهذا أن لفظة
السجود هي من الأسماء المشتركة التي تقع على نوعين فأكثر. وأما قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). فقد علمنا بالضرورة والمشاهدة أن القول في اللغة التي نزل
بها القرآن إنما هو دفع آلات الكلام من أنابيب الصدر والحلق والحنك ، واللسان
والشفتين والأضراس بهواء يصل إلى أذن السامع فيفهم به مرادات القائل ، فإذ لا شك
في هذا فكل من لا لسان له ولا شفتين ولا أضراس ولا حنك ولا حلق فلا يكون منه القول
المعهود منا. هذا ما لا يشك فيه ذو عقل ، فإذ هذا هكذا كما قلنا بالعيان فكل قول
ورد به نص ولفظ مخبر به عمن ليست هذه صفته فإنه ليس هو القول المعهود عندنا ، لكنه
معنى آخر فإذ هذا كما ذكرنا فبالضرورة قد صح أن معنى قوله تعالى : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) إنما هو الجري على نفاذ حكمه عزوجل فيهما وتصريفه لهما. وأما عرضه تعالى الأمانة على السموات
والأرض والجبال وإباية كل واحد منها وإشفاقها فلسنا نعلم نحن ولا أحد من
الناس كيفية ذلك.
وهذا نص قوله
تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ)
__________________
[سورة الكهف : ٥١]
فمن تكلف أو كلف غيره معرفة ابتداء الخلق وأن له مبدأ لا يشبهه البتة ، فأراد
معرفة كيف كان فقد دخل في قوله تعالى : (وَتَقُولُونَ
بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ
عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) [سورة النور : آية
١٥].
إلا أننا نوقن أنه
تعالى لم يعرض على السماوات والأرض والجبال الأمانة إلّا وقد جعل فيها تمييزا لما
عرض عليها ، وقوة تفهم بها الأمانة فيما عرض عليها ، فلما أبتها وأشفقت منها سلبها
ذلك التمييز وتلك القوة ، وأسقط عنها تكليف الأمانة. هذا ما يقتضيه كلامه عزوجل ، ولا مزيد عندنا على ذلك. وأمّا ما كان بعد ابتداء الخلق
فمعروف الكيفيات قال تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [سورة الأنعام :
١١٥].
فصح أنه لا تبديل
لما رتبه الله تعالى مما أجرى عليه خلائقه ، حاشا ما أحال فيه الرتب والطبائع
للأنبياء عليهمالسلام. فإن اعترضوا أيضا بقول الله تعالى يصف الحجارة : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ
الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [سورة البقرة : ٧٤].
فقد علمنا بالضرورة
أن الحجارة لم تؤمر بشريعة ولا بعقل ولا بعث إليها نبي قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً) [سورة الإسراء آية
: ١٥].
فإذ لا شك في هذا
فإن القول المذكور منه تعالى يخرج على أحد ثلاثة أوجه :
إحداها أن يكون
الضمير في قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ) راجع إلى القلوب المذكورة في أول الآية في قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) الآية.
فذكر تعالى : أن
من تلك القلوب القاسية ما يقبل الإيمان يوما ما فيهبط عن القسوة إلى اللين من خشية
الله تعالى. وهذا أمر يشاهد بالعيان فقد تلين القلوب القاسية بلطف الله تعالى
ويخشى العاصي.
وقد أخبر عزوجل أن من أهل الكتاب من يؤمن بالله وما أنزل إلينا وما أنزل
إليهم. وكما أخبر تعالى أن من الأعراب من يؤمن بالله من بعد أن أخبر تعالى أن (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً
وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) [سورة التوبة آية
: ٩٧]. فهذا وجه ظاهر متيقّن الصحة.
والوجه الثاني :
أن الخشية المذكورة في الآية إنما هي التصرف بحكم الله تعالى وجري أقداره كما قلنا
في قوله تعالى عزوجل حاكيا عن السماء والأرض : (قالَتا أَتَيْنا
طائِعِينَ). وقد بيّن جل وعز ذلك موصولا بهذا اللفظ فقال جل وعزّ : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي
يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها) [سورة فصلت : آية
رقم ١٢] فبين الله تعالى بيانا رفع كل إشكال : أن تلك الطاعة من السماوات والأرض
إنما هي تصرفه لها ، وقضاؤه تعالى إياهن سبع سماوات ، ووحيه في كل سماء أمرها ،
فصح قولنا نصّا جليا ببيان الله تعالى لذلك والحمد لله رب العالمين.
وصح بهذا أن إباية
السماوات والأرض والجبال من قبول الأمانة إنما هو لما ركبها الله تعالى عليه من
الجمادية وعدم التمييز ، وقد علم كل ذي عقل امتناع قبول ما هذه صفته للشرائع
والأوامر والنواهي ، وقد ذم الله تعالى من (يَنْعِقُ بِما لا
يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) [سورة البقرة ١٧١].
ولا يحل لمسلم أن
ينسب إلى الله تعالى فعلا ذمه.
والوجه الثالث :
أن يكون الله تعالى عنى بقوله : (وَإِنَّ مِنْها لَما
يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : الجبل الذي صار دكّا ، إذ تجلى الله تعالى له يوم سأله
كليمه عليهالسلام الرؤية ، فذلك الجبل من جملة الحجارة ، وقد هبط عن مكانه
من خشية الله تعالى.
وهذه معجزة وآية
وإحالة طبيعة في ذلك الجبل خاصة. ويكون «يهبط» بمعنى «هبط» كما قال الله عزوجل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) [سورة الأنفال :
آية ٣٠].
ومعناه بلا شك :
وإذ مكر.
وبين قوله تعالى
مصدقا إبراهيم خليله صلىاللهعليهوسلم في إنكاره على أبيه عبادة الحجارة (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ
وَلا يُبْصِرُ) [سورة مريم : آية
٤٢].
وقوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ
شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ) [سورة الزمر : آية
٤٣] ما هي عليه من الجمادية وعدم التمييز.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فصح بهذا صحة لا مجال للشك فيها أن الحجارة لا تعقل لأنها التي كانوا
يعبدون مما يعقل.
وأما سائر ما
كانوا يعبدون من الملائكة ، والمسيح وأمه عليهماالسلام ، ومن الجن فكل هؤلاء عاقلون مميزون ، فلم يبق إلا الحجارة
فصح بالنص أنها لا تعقل ، وإذ تيقن ذلك بالنص وبالضرورة وبالمشاهدة ، فقد انتفى
عنها النطق والتمييز والخشية المعهودة كل ذلك عندنا وصحّ أن هذه الألفاظ واقعة على
معان غير المعهودة عندنا وهذا نص قولنا «والحمد لله رب العالمين».
وأما الأحاديث
المأثورة في أن الحجر له لسان وشفتان ، والكعبة كذلك ، وأن الجبال تطاولت ، وخشع
جبل كذا فخرافات موضوعة نقلها كل كذاب وضعيف لا يصح شيء منها من طريق الإسناد ولا
يصح شيء من ذلك أصلا.
ويكفي من التطويل
في ذلك أنه لم يدخل شيئا منها من انتدب من الأئمة لتصنيف الصحيح من الحديث ، أو ما
يستجاز روايته مما يقارب الصحة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وكل من يخالفنا في هذا فإنه إذا أقر لنا أن القول المذكور في الآيات
التي تلونا ، والسجود والخشية ليس شيء منه على الصفة المعهودة بيننا ، فقد وافقنا
أحب أو كره ، وهم كلهم مقرون بذلك ، وقد جاء ذلك في أشعار العرب :
قال الشاعر :
يشكو إليّ جملي
طول السّرى
وقال آخر :
فقالت له العينان
سمعا وطاعة
وقال الراعي :
قلق الفئوس إذا
أردن نصولا
ومن هذا الباب
قوله تعالى : (جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ) [سورة الكهف : آية
٧٧].
وهذا بلا شك غير الإرادة
المعهودة من الحيوان. فصح قولنا بالنص والضرورة ، والحمد لله رب العالمين.
__________________
وأما قول رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «يوم يقتص للشاة الجمّاء من الشاة القرناء» فقد قال الله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [سورة الأنعام :
٣٨]. وقال تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) [سورة التكوير :
آية رقم ٥].
فصح أنها تحشر بلا
شك ، ويسلط الله تعالى ما يشاء من خلقه على من يشاء فإذا سلط القرناء على الجماء
في الدنيا فله تعالى أن يسلط الجماء على القرناء في الآخرة يوم القيامة. ولم يأت
نص ولا إجماع ولا دليل عقل ولا دليل خبر على أن المواشي متعبدة بشريعة. وهذا مما
نقرّ به ونقول : يفعل الله ما يشاء ، ولا علم لنا إلا ما علمنا. وبالله تعالى
التوفيق.
الرد على من زعم أن الأنبياء عليهمالسلام
ليسوا أنبياء اليوم ولا الرسل اليوم رسلا
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : حدثت فرقة مبتدعة تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلىاللهعليهوسلم ليس هو الآن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولكنه كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذا قول ذهب إليه الأشعرية.
وأخبرني «سليمان
بن خلف الباجي» وهو من مقدميهم اليوم «أن محمد بن الحسن بن فورك» الأصبهاني على هذه المسألة قتله بالسم «محمود بن سبكتكين» صاحب ما دون وراء النهر من خراسان رحمهالله.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذه مقالة خبيثة مخالفة لله تعالى ولرسوله صلىاللهعليهوسلم ، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام إلى يوم القيامة ،
وإنما حملهم على
__________________
هذا قولهم الفاسد
إن الروح عرض ، والعرض يفنى أبدا ، ويحدث ولا يبقى وقتين ، فروح النبي صلىاللهعليهوسلم عندهم قد فنيت وبطلت ، ولا روح له الآن عند الله تعالى.
وأما جسده ففي قبره موات فبطلت نبوته عندهم بذلك ورسالته.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ونعوذ بالله من هذا القول فإنه كفر صراح لا تردد فيه ، ويكفي من بطلان
هذا القول الفاحش الفظيع أنه مخالف لما أمر الله عزوجل به ، ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، واتفق عليه جميع أهل الإسلام من كل فرقة وكل نحلة من
الأذان في الصوامع كل يوم خمس مرّات في كل قرية من شرق الأرض إلى غربها بأعلى
أصواتهم ، وقد قرنه الله تعالى بذكره : أشهد أن لا إله إلّا الله ، وأشهد أن محمدا
رسول الله ، فعلى قول هؤلاء الموكلين إلى أنفسهم يكون الأذان كذبا ، ويكون من أمر
به كاذبا وإنما كان يجب أن يكون الأذان على قولهم أشهد أن محمدا كان رسول الله
وإلا فمن أخبر عن شيء كان وبطل أنه كائن الآن فهو كاذب ، فالأذان كذب على قولهم ،
وهذا كفر مجرد ، وكذلك ما اتفق عليه جميع أهل الإسلام بلا خلاف من أحد منهم من
تلقين موتاهم : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإنه باطل على قول هؤلاء ، وكذلك
ما عمل به رسول الله صلىاللهعليهوسلم مدة قتاله الأمة ، وأمره عن الله عزوجل بأن يعمل به بعده أبدا ، وأجمع على القول به والعمل جميع
أهل الإسلام من أول الإسلام إلى آخره ، ومن شرق الأرض إلى غربها ، إنسهم وجنهم
بيقين مقطوع به دون مخالف فيما تخرج به الدماء من التحليل إلى التحريم ، أو إلى
الحقن بالجزية من أن يعرض على أهل الكفر أن يقولوا : لا إله إلّا الله محمد رسول
الله ، فيجب على قول هؤلاء المخذولين أن هذا باطل وكذب ، وإنما كان يجب أن يكلفوا
أن يقولوا محمد كان رسول الله ، وكذلك قوله تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء :
١٦٤].
وكذلك قوله تعالى
: (يَوْمَ يَجْمَعُ
اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [سورة المائدة : ١٠٩].
وقوله تعالى : (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ) [سورة الزمر : ٦٩].
فسماهم الله رسلا
وقد ماتوا ، وسماهم نبيين ورسلا وهم في القيامة ، وكذلك ما أجمع الناس عليه وجاء
به النص من قول كل مصلّ فرضا أو نافلة : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله
وبركاته ، فلو لم يكن روحه عليهالسلام موجودا قائما لكان السلام على العدم هذرا.
فإن قالوا : كيف
يكون ميتا رسول الله؟ وإنما الرسول هو الذي يخاطب عن الله بالرسالة.
قيل لهم : نعم
يكون من أرسله الله تعالى مرة واحدة فقط رسولا لله تعالى أبدا ، لأنه حاصل على
مرتبة جلالة لا يحطّه عنها شيء أبدا ولا يسقط عنه هذا الاسم أبدا.
ولو كان ما قلتم
لوجب ألا يكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم رسولا إلى أهل اليمن في حياته لأنه لم يكلمهم ولا شافههم.
ويلزم أيضا أن لا
يكون رسول الله إلا ما دام يكلم الناس ، فإذا سكت أو أكل أو نام أو جامع لم يكن
رسول الله. وهذا حمق مشوب بكفر ، وخلاف للإجماع المتيقن ، ونعوذ بالله من الخذلان.
وأيضا فإن خبر
الإسراء الذي ذكره الله عزوجل في القرآن وهو منقول نقل التواتر ، وأحد أعلام النبوة ذكر
فيه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه رأى الأنبياء عليهمالسلام في سماء سماء فهل رأى إلّا أرواحهم التي هي أنفسهم؟! ومن
كذّب بهذا أو بعضه فقد انسلخ عن الإسلام بلا شك ونعوذ بالله من الخذلان. وهذه
براهين لا محيد عنها.
وقد صح عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : أنه أخبر أن لله ملائكة يبلّغونه منّا السلام ، وأنه من
رآه في النوم فقد رآه حقا ، ولقد بلغني عن بعضهم أنهم يقولون : «إن أمهات المؤمنين
رضوان الله عليهم لسن الآن أمهات المؤمنين ، لكنهن كن أمهات المؤمنين».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا ضلال بحت وحماقة محضة ، ولو كان هذا لوجب أن لا تكون أم المرء
التي ولدته ، وأبوه الذي ولده أباه ، ولا أمه ، إلّا في حين الولادة والحمل من
الأم فقط ، وفي حين الإنزال من الأب فقط لا بعد ذلك ، وهذا من السخف الذي لا يرضى
به لنفسه ذو مسكة .
فإن قالوا : أتقولون
إن عمر أمير المؤمنين أو عثمان أيضا كذلك؟
قلنا لهم : لا ،
وهذا إجماع لأنه لا يكون أمير المؤمنين إلّا من يكون الائتمار
__________________
بأمره واجب ، وليس
هذا لأحد بعد موته إلّا للنبي صلىاللهعليهوسلم وإنما هو لخليفة بعد خليفة طول حياته فقط.
فبطل أن يكون لهم
فيها متعلق. وبالله تعالى التوفيق.
الكلام على من قال بتناسخ الأرواح
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : افترق القائلون بتناسخ الأرواح على فرقتين : فذهبت الفرقة الواحدة إلى
أن الأرواح تنتقل بعد مفارقتها الأجساد إلى أجساد أخر ، وإن لم تكن من نوع الأجساد
التي فارقت. وهذا قول «أحمد بن حابط» تلميذ النظام و «أحمد بن نانوس» تلميذ أحمد بن حابط و «أبي مسلم الخراساني» و «محمد بن زكريا
الرازي» الطبيب ، صرّح بذلك في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي ، وهو قول القرامطة من الإسماعيلية ، وغالية الرافضة الذين
رفضوا الإسلام جملة ، لا أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، ومنهم النضرية
والمحمدية وانقسمت النضرية على فرق تزيد على خمس عشر فرقة ، أولها : السبابية ،
وكل هذه الفرق تقول بألوهية على رضي الله عنه ، وسنذكر في الكلام على الشيعة طرفا
من أمرهم ، وقد صرح بهذا محمد بن زكريا الرازي في كتابه الموسوم بالعلم الإلهي ،
فقد قال في بعض كتبه : لو لا أنه لا سبيل إلى تخليص الأرواح عن الأجسام المتصوّرة بالصور
البهيمية إلى الأجساد المتصوّرة بصور الإنسان إلا بالقتل والذبح لما جاز ذبح شيء
من الحيوان البتة. وقد ادّعى بعضهم : أن النسخ لا يكون إلا في الأنفس فقط ، فنجد
الإنسان يتخلق بأخلاق غير نوع الإنسان ، قال : فهذا هو النسخ.
والمسخ : هو تغيير
الصورة ونفسها معا ، والنسخ هو تغيير النفس عن أخلاقها فقط ، ولهم في هذا خباط
كثير لا يحصى ، وبالله تعالى التوفيق.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذه كما ترى دعاوى وخرافات بلا دليل.
وذهب هؤلاء إلى أن
التناسخ إنما هو على سبيل العقاب والثواب ، قالوا : فالفاسق المسيء الأعمال تنتقل
روحه إلى أجساد البهائم الخبيثة المرتطمة في الأقذار ، والمسخرة المؤلمة الممتهنة
بالذبح.
__________________
واختلفوا في الذي
كانت أفاعيله كلها شرّا لا خير فيها ، فقال بعضهم : أرواح هذه الطبقة هي الشياطين.
وقال «أحمد بن حابط» : إنها تنتقل إلى جهنم فتعذّب بالنّار أبد الأبد.
واختلفوا في الذي
كانت أفاعيله كلها خيرا لا شرّ فيها ، فقال بعضهم : أرواح هذه الطبقة هي الملائكة.
وقال «أحمد بن حابط» : إنها لا شك أنها تنتقل إلى الجنة فتنعم فيها أبد الأبد.
واحتجت هذه الطائفة المرتسمة بالإسلام أعني «أحمد بن حابط» و «أحمد بن نانوس» بقول
الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار :
آية رقم ٦ ـ ٨].
وبقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) [سورة الشورى :
آية رقم ١١].
واحتج من هذه
الطائفة من لا يقول بالإسلام بأن قالوا : إن النفس لا تتناهى ، والعالم لا يتناهى
لأمده ، فالنفس متنقلة أبدا ، وليس انتقالها إلى نوعها بأولى من انتقالها إلى غير
نوعها.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وذهبت الفرقة الثانية إلى أن منعت انتقال الأرواح إلى غير أنواع
أجسادها التي فارقت ، وليس من هذه الفرقة أحد يقول بشيء من الشرائع ، وهم من
الدهرية. وحجتهم هي حجة الطائفة التي ذكرنا قبلها ، القائلة إنه لا تناهي للعالم
فوجب أن تردد النفس في الأجساد أبدا. قالوا : ولا يجوز أن تنتقل إلى غير النوع
الذي أوجب لها طبعها الإشراف عليه وتعلّقها به.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : أما الفرقة المرتسمة باسم الإسلام فيكفي من الردّ عليهم إجماع جميع
أهل الإسلام على تكفيرهم ، وعلى أن من قال بقولهم فإنه على غير الإسلام ، وأن
النبي صلىاللهعليهوسلم أتى بغير هذا ، وبما المسلمون مجمعون عليه من أن الجزاء لا
يقع إلّا بعد فراق الأجساد للأرواح بالنكر أو التنعم قبل يوم القيامة ، ثم بالجنة
أو بالنّار في موقف الحشر فقط ، إذا جمعت أجسادها مع أرواحها التي كانت فيها.
وأما احتجاجهم
بالآيتين فكفى من بطلان قولهم أيضا ما ذكرناه من الإجماع وأن الأمّة كلها مجمعون
بلا خلاف على أن المراد بهاتين الآيتين غير ما ذكر هؤلاء الملحدون ، وأن المراد
بقوله تعالى : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما
شاءَ رَكَّبَكَ) أنها الصورة التي ركّب الإنسان عليها من طول أو قصر ، أو
حسن أو قبح ، أو بياض أو سواد ، وما أشبه ذلك.
وأما الآية الأخرى
فإنّ معناها أن الله تعالى امتنّ علينا في أن خلق لنا من أنفسنا أزواجا نتولّد
منها ، ثم امتنّ علينا بأن خلق لنا من الأنعام ثمانية أزواج ، ثم أخبر تعالى أنه
يذرؤنا في هذه الأزواج يعني التي هي من أنفسنا فتبيّن ذلك بيانا ظاهرا لا خفاء به
أن الله تعالى أخبرنا في هذه الآية نفسها أن الأزواج المخلوقة لنا ، إنما هي
أنفسنا ، ثم فرّق بين أنفسنا وبين الأنعام ، فلا سبيل إلى أن يكون لنا أزواج نتولد
فيها غير أنفسنا ، ويكفي من هذا أن قولهم إنما هو دعوى بلا برهان ، وإنّما رتبوه
على أصلهم في العدل فأخرجوا هذا الوجه لما شاهدوه من إيلام الحيوان ، وكل قول لم
يوجبه برهان فهو باطل ، ولم يأتي هذا القول قط عن أحد من الأنبياء. وهؤلاء القوم
مقرّون بالأنبياء عليهمالسلام فلاح يقينا فساد قولهم.
وأما الفرقة
الثانية القائلة بالدّهر ، فإننا نقول وبالله التوفيق :
إنه يكفي من فساد
قولهم هذا أنّه دعوى بلا برهان لا عقلي ولا حسي ، وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا
شك فيه ، لكننا لا نقنع بهذا بل نبيّن عليهم بيانا لائحا ضروريا بحول الله وقوته ،
فنقول وبالله تعالى نستعين :
إن الله تعالى خلق
الأنواع والأجناس ، ورتب الأنواع تحت الأجناس ، وفصل كل نوع من النوع الآخر بفصله
الخاص له الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهذه الفصول المذكورة لأنواع الحيوان إنما هي
لأنفسها التي هي أرواحها ، فنفس الإنسان حية ناطقة ، ونفس الحيوان حية غير ناطقة
هذا هو طبيعة كل نفس وجوهرها الذي لا يمكن استحالته عنه ، فلا سبيل إلى أن يصير
غير الناطق ناطقا ، ولا الناطق غير ناطق ، ولو جاز هذا لبطلت المشاهدات ، وما
أوجبه الحس وبديهة العقل والضرورة من انقسام الأشياء على حدودها.
وأما الفرقة
الثالثة التي قالت : إن الأرواح تنتقل إلى أجساد نوعها ، فيبطل قولهم بحول الله
تعالى وقوّته بطلانا ضروريّا بكل ما كتبناه في إثبات حدوث العالم ووجوب الابتداء
له والنهاية من أوله. وبما كتبناه في إثبات النبوة ، وأن جميع النبوات وردت بخلاف
قولهم ، وببرهان ضروري عليهم ، وهو أنه ليس في العالم كله شيئان يشتبهان بجميع أعراضهما
اشتباها تامّا من كل وجه ، يعلم هذا من تدبّر اختلاف الصور ، واختلاف الهيئات ،
وتباين الأخلاق ، وإنما يقال هذا الشيء يشبه هذا على معنى أن ذلك في أكثر أحوالهما
لا في كلها ، ولو لم يكن ما قلنا ما فرّق أحد بينهما البتة.
وقد علمنا
بالمشاهدة أن كل من يتكرر عليه ذلك الشيئان المشتبهان تكررا
كثيرا متصلا أنه
لا بد أن يفصل بينهما ، وأن يميّز أحدهما عن الثاني ، وأن يجد في كل واحد منهما
أشياء بان بها عن الآخر ، لا يشبهه فيها ـ فصحّ بهذا أنه لا سبيل إلى وجود شخصين
يتفقان في أخلاقهما كلها حتى لا يكون بينهما فرق في شيء منها ، وقد علمنا بيقين أن
الأخلاق محمولة في النفس ، فصح بهذا أن نفس كل ذي نفس من الأجساد من أيّ نوع كانت
غير النفس التي في غيره من الأجساد كلها ضرورة.
وقال أيضا بعض من
ذهب إلى التناسخ من الحاملين ذلك على سبيل الجزاء : إن الله تعالى عدل حكيم رحيم
كريم ، فإذ هو كذلك ، فمحال أن يعذّب من لا ذنب له ، قال : فلما وجدناه تعالى يقطع
أجسام الصبيان الذين لا ذنب لهم بالجدري والقروح ويأمر بذبح بعض الحيوان الذي لا
ذنب له ، وبطبخه وأكله ، ويسلط بعضها على بعض فيقطعه ويأكله ، ولا ذنب له ، علمنا
أنه تعالى لم يفعل ذلك إلّا وقد كانت الأرواح عصاة مستحقة للعقاب فركبت في هذه
الأجساد لتعذّب فيها.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد تكلمنا على إبطال هذا الأصل الفاسد في غير هذا المكان في باب
الكلام على «البراهمة» في كتابنا هذا بما يكفي ، وقد ردّدنا الكلام أيضا في بيان
بطلانه في غير ما موضع من كتابنا ، وفي باب الكلام على من أبطل القدر من المعتزلة
في كتابنا هذا ، والحمد لله رب العالمين.
ويكفي من بطلان
هذا الأصل الفاسد أن يقال لهم : إن طردتم هذا الأصل وقعتم في مثل ما أنكرتم ولا
فرق ، وهو أن الحكيم العدل الرحيم على أصلكم لا يخلق من يعرضه للمعصية حتى يحتاج
إلى إفساده بالعذاب بعد إصلاحه ، وقد كان قادرا على أن يطهر كل نفس خلقها ولا
يعرضها للفتن ، ويلطف بها ألطافا فيصلحها بها ، حتى تستحق كلّها إحسانه والخلود في
النعيم ، وما كان ذلك ينقض شيئا من ملكه ، فإن كان عاجزا عن ذلك فهذه صفة نقص ، ويلزم
حاملها أن يكون من أجل نقصه محدثا مخلوقا ، فإن طردوا هذا الأصل خرجوا إلى قول
المانوية في أن للأشياء فاعلين. وقد تقدّم إبطالنا لقولهم وبالله تعالى التوفيق.
وبينا أن الذي لا
آمر فوقه ولا مرتب عليه فإن كل ما يفعله فهو حق وحكمة ، وإذ قد تعلق هؤلاء القوم
بالشريعة فحكم الشريعة أن كل قول لم يأتي عن نبي تلك الشريعة فهو كذب وفرية ، فإذ
لم يأتي عن أحد من الأنبياء عليهمالسلام القول بتناسخ الأرواح فقد صار قولهم به خرافة وكذبا
وباطلا. وبالله تعالى التوفيق.
فصل في الكلام على
من أنكر الشرائع من المنتمين إلى الفلسفة بزعمهم
وهم أبعد الناس عن العلم بها جملة
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : نبين في هذا الفصل بحول الله تعالى وقوته وجوب صحة الشرائع على ما
توجبه أصول الفلاسفة على الحقيقة أولهم عن آخرهم على اختلاف أقوالهم في غير ذلك إن
شاء الله تعالى.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : الفلسفة على الحقيقة إنما معناها وثمرتها والغرض المقصود نحوه بتعلمها
، ليس هو شيئا غير إصلاح النفس ، بأن تستعمل في دنياها الفضائل وحسن السيرة
المؤدية إلى سلامتها في المعاد ، وحسن السياسة والرّعية ، وهذا نفسه لا غيره هو
الغرض في الشريعة ، هذا ما لا خلاف فيه بين أحد العلماء بالفلسفة ، ولا بين أحد من
العلماء بالشريعة ، فيقال لمن انتمى إلى الفلسفة بزعمه وهو ينكر الشريعة بجهله على
الحقيقة بمعاني الفلسفة ، وبعده عن الوقوف على غرضها ومعناها :
أليست الفلسفة
بإجماع من الفلاسفة مبينة للفضائل من الرذائل؟ موقفة على البراهين المفرّقة بين
الحق والباطل؟ فلا بد من بلى ضرورة. فيقال له أليس الفلاسفة كلهم قد قالوا : صلاح
العالم بشيئين : أحدهما باطن والآخر ظاهر؟ فالباطن : هو استعمال النفس للشرائع
الزاجرة عن تظالم الناس وعن القبائح. والظاهر : هو التحصين بالأسوار ، واتخاذ السلاح
لدفع العدو الذي يريد ظلم الناس والإفساد ، ثم أضافوا إلى إصلاح النفوس بما ذكرنا
إصلاح الأجساد بالطب؟ فلا بدّ من بلى ضرورة. فيقال لهم : فهل صلاح العالم وانكفاف
الناس عن القتل الذي فيه فناء الخلق ، وعن الزنى الذي فيه فساد النسل وخراب
المواريث ، وعن الظلم الذي فيه الضرر على الأنفس والأموال وخراب الأرض ، وعن
الرذائل من البغي والحسد والكذب والجبن والبخل والنميمة والغش والخيانة وسائر
الرذائل إلّا بشرائع زاجرة للناس عن كل ذلك؟ فلا بد من نعم ضرورة ، وإلّا وجب
الإهمال الذي فيه فساد كل ما ذكرنا ، فإذا لا بدّ من ذلك ، ولو لا ذلك لفسد العالم
كله ، ولفسدت العلوم كلها ، ولكان الإنسان قد بطلت فضيلة الفهم والنطق والعقل الذي
فيه صار كالبهائم ، فلا تخلو تلك الشرائع من أحد وجهين :
إمّا أن تكون
صحاحا من عند الله عزوجل الذي هو خالق العالم ومدبره كما يقول أصحاب الشرائع.
وإمّا أن تكون
موضوعة باتفاق من أفاضل الحكماء لسياسة الناس بها وكفّهم عن التظالم والرذائل.
فإن كانت موضوعة
كما يقول هؤلاء المخاذيل ، فقد تيقنا أن ما ألزموا الناس من ذلك كذب لا أصل له ،
وزور مختلق ، وإيجاب لما لا يجب ، وباطل لا حقيقة له ، ووعيد ووعد كلاهما كذب ،
فإن كان ذلك كذلك فقد صار الكذب هو أرذل الرذائل وأعظم الشر لا يتم صلاح العالم
الذي هو الغرض من طلب الفضائل إلا به ، وإذ ذلك كذلك ، فقد صار الحق باطلا ،
والصدق رذيلة وصار الباطل حقا وصدقا ، والكذب فضيلة ، وصار لا قوام للعالم أصلا
إلا بالباطل ، وصار الكذب نتيجة الحق ، وصار الباطل ثمرة الصدق ، وصار الغرور
والغش والخديعة فضائل ونصيحة ، وهذا أعظم ما يكون من المحال والممتنع والخلف الذي لا مدخل له في العقل ، فإن قالوا إنه لو كشف السرّ في
ذلك إلى العامة لم ترغب في الفضائل ، فوجب لذلك أن يؤتى بما ترهبه وتتقيه ، فاضطرّ
في ذلك إلى الكذب لهم كما يفعل بالصبيان ، وكما أبحتم أنتم في شرائعكم كذب الرجل
لامرأته ليستصلحها بذلك ، وفي دفاع الظالم على سبيل التقية ، وفي الحرب كذلك
فيلزمكم في هذا ما ألزمتموه إيانا من أن الكذب صار حقا وفضيلة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فيقال لهم وبالله التوفيق :
أما نحن فقولنا :
إنه ليس ـ كما ذكرتم ـ قبيحا ، إذ أباحه الله عزوجل الذي لا حسن إلّا ما حسّن وما أمر به ، ولا قبيح إلا ما
قبّح وما نهى عنه ، ولا آمر فوقه ، فلا يلزمنا ما أردتم إلزامنا إياه.
ثم أيضا على
أصولكم فإنه ليس ما ذكرتم معارضة ، ولا ما شبهتم به مشبها لما شبهتموه به ، لأننا
إنما أبحنا الكذب في الوجوه التي ذكرتم للضرورة الدافعة إلى ذلك بالنص الوارد
علينا بذلك كما جاز بالنص عند الضرورة دفع القتل عن النفس بقتل المريد لقتلها ،
ولو أمكننا كفّ الصبي والمرأة بغير ذلك لما جاز أصلا فإذا ارتفعت الضرورة وجب
الرجوع إلى استعمال الصدق على كل حال ، ولو لا النص لم نبح شيئا من ذلك ولا حرمناه
، وأنتم فيما تدعونه من مداراة الناس كلهم مبتدئون لاختيار
__________________
الكذب دون أن
يأمركم به من يسقط عنكم اللّوم بطاعته ، فأنتم لا عذر لكم على خلاف حكمنا في ذلك.
ثم أنتم لا تخلون
من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إما أن تطووا هذا
السر عن كل أحد فتصيرون إلى ما ألزمناكم من أن قطع الصدق جملة فضيلة ، وأن الكذب على
الجملة حق واجب ، وهذا هو الذي ألزمناكم ضرورة.
وإمّا أن تبوحوا
بذلك لمن وثقتم به فهذا إن قلتم به يوجب ضرورة كشف سركم في ذلك ، لأنه لا يجوز
البتة أن ينكتم أصلا على كثرة العارفين به ، هذا أمر يعلم بالضرورة ، أن الشيء إذا
كثر العارفون به فبالضرورة لا بد من انتشاره ، فإن كنتم تقولون إن طيّه واجب إلا
عمن يوثق به ، وفي كشفه إلى من يوثق به ما يوجب انتشاره إلى من لا يوثق به فقد
رجعتم إلى وجوب كشفه ، لأن كشفه البتة هو نتيجة كشفه إلى خاص دون عام ، وفي كشفه
بطلان ما دبرتموه صلاحا ، فقد بطل حكمكم بالضرورة ، لا سيما والقائلون بهذا القول
مجدون في كشف سرهم هذا إلى الخاص والعام ، فقد أبطلوا علّتهم جملة وتناقضوا أقبح
تناقض ، وعلى كل ذلك فقد صار الباطل والكذب لا يتم الخير والفضائل البتة في شيء من
الأشياء إلّا بهما ، وهذا خلاف الفلسفة جملة.
وأيضا فإن كانت
الشرائع موضوعة فليس ما وضعه واضع ما بأحق بأن يتّبع ممّا وضعه واضع آخر ، هذا أمر
يعلم بالضرورة.
وقد علمنا بموجب
العقل وضرورته أن الحق لا يكون من الأقوال المختلفة والمتناقضة إلّا في واحد ،
وسائرها باطل. فإذ لا شك في هذا فأي تلك الموضوعات هو الحق أم أيها هو الباطل؟ ولا
سبيل إلى أن يأتوا بما يحق منها شيئا دون سائرها أصلا ، فإذ لا دليل على صحة شيء
منها بعينه فقد صارت كلها باطلة ، إذ ما لا دليل على صحته فهو باطل ، وليس لأحد أن
يأخذ بقول ويترك غيره بلا دليل فبطل بهذا بطلانا ضروريا كل ما تعلقوا به والحمد
لله رب العالمين ، وبطل بهذا البرهان الضروري ما توهمه هؤلاء الجهال المجانين ،
وصح يقينا أن الشرائع صحاح من عند منشئ العالم ومدبره الذي يريد بقاءه إلى الوقت
الذي سبق في علمه تعالى أنه يبقيه إليه كما هو ، وإذ ذلك كذلك ضرورة لا يخلو الحكم
في ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أن تكون الشرائع
كلها حقا ـ قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) ـ وقد رأيت منهم من يذهب إلى هذا.
وإمّا أن يكون
بعضها حقا وسائرها باطلا. لا بدّ من أحد هذين الوجهين ضرورة.
فإن كانت كلها حقا
، فهذا محال لا سبيل إليه ، لأنه لا شريعة منها إلّا وهي تكذب سائرها ، وتخبر
بأنها باطل وكفر وضلال وإلحاد.
فوجدنا هذا
المخذول الذي أراد بزعمه موافقة جميع الشرائع ، قد حصل على خلاف جميعها أولها عن
آخرها ، وحصل على تكذيب جميع الشرائع له كلها بلا خلاف ، وعلى تكذيبه هو لجميعها ،
وما كان هكذا وهو يقول إنها كلها حق ، وهي كلها مكذبة له وهو مصدق لها كلها فقد
شهد على نفسه بالكذب وبطلان قوله ، وصحّ باليقين أنه كاذب فيه.
وأيضا فإن كل
شريعة فهي مضادّة في أحكامها لغيرها ، تحرّم هذه ما تحلّ هذه ، وتوجب هذه ما تسقط
هذه ، ومن المحال الفاسد أن يكون الشيء وضده حقا معا في وقت واحد حراما حلالا في
حين واحد على إنسان واحد ووجه واحد ، واجبا غير واجب كذلك ، وهذا أمر يعلمه باطلا
كل ذي حسّ سليم ، وليس في العقل تحريم شيء مما جاء فيها تحريمه ، ولا إيجاب شيء
مما جاء فيها إيجابه ، فبطل أن يرجح بما في العقل ، إذ كل ذلك في حدّ الممكن في
العقل ، فإذ قد بطل هذا الوجه ضرورة فقد وجبت صحة الوجه الآخر ضرورة ، وهو أن في
الشرائع شريعة واحدة صحيحة عند الله عزوجل ، وأن سائر الشرائع كلها باطل. فإذ ذلك كذلك ففرض على كل
ذي حس طلب تلك الشريعة ، واطّراح كل شريعة دون ذلك وإن جلت ، حتى يوقف عليها
بالبراهين الصحاح ، إذ بها يكون صلاح النفس في الأبد ، وبجهلها يكون هلاك النفس في
الأبد.
فالحمد لله الذي
وفّقنا لتلك الشريعة ، ووقفنا عليها ، وهدانا إلى طريقها وعرفناها ، حمدا كثيرا
طيبا كما هو أهله. ونحن نسأله تعالى أن يثبتنا عليها حتى نلقاه ونحن من أهلها
وحملتها آمين يا رب العالمين. وصلّى الله على محمد خاتم النبيين ، وسلم تسليما
كثيرا.
فمن نازعنا في هذا
القول وادعاه لنفسه فنحن في ميدان النظر وحمل الأقوال على السير بالبراهين ،
فسنزيف الباطل والدعاوى التي لا دليل عليها حيثما كانت ، وبيد من
كانت ، ويلوح الحق ثابتا حيثما كان وبيد من كان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي
العظيم.
__________________
الكلام على اليهود وعلى من أنكر التثليث من النصارى
ومذهب الصابئين وعلى من أقر بنبوة زرادشت
من المجوس ، وأنكر من سواه من الأنبياء عليهمالسلام
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : إن أهل هذه الملّة يعني اليهود ، وأهل هذه النحلة يعني من أنكر
التثليث من النصارى موافقون لنا في الإقرار بالتّوحيد ، ثم بالنبوة وبآيات
الأنبياء عليهمالسلام ، وبنزول الكتب من عند الله عزوجل ، إلّا أنهم فارقونا في بعض الأنبياء عليهمالسلام دون بعض. وكذلك وافقتنا الصابئة والمجوس على الإقرار ببعض
الأنبياء دون بعض. فأمّا اليهود فإنهم افترقوا على خمس فرق وهي :
١ ـ السّامريّة : وهم يقولون إنّ مدينة القدس هي : «نابلس» وهي من بيت
المقدس على ثمانية عشر ميلا ، ولا يعرفون حرمة لبيت المقدس ، ولا يعظمونه ولهم
توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود ، ويبطلون كل نبوّة كانت في بني إسرائيل
بعد موسى عليهالسلام وبعد «يوشع» عليهالسلام ، فيكذبون بنبوة «شمعون» و «داود» و «سليمان» و «إشعيا» و
«اليسع» و «إلياس» و «عاموص» ، و «حبقوق» و «زكريا» و «إرميا» وغيرهم ، ولا يقرون
بالبعث البتة. وهم بالشام لا يستحلون الخروج عنها.
٢ ـ والصدوقية : ونسبوا إلى رجل يقال له «صدوق» وهم يقولون من بين سائر
اليهود إن العزير هو ابن الله تعالى الله عن ذلك. وكانوا بجهة اليمن.
٣ ـ والعنانية : وهم أصحاب «عانان» الداودي اليهودي ، وتسميهم اليهود
القرّائين والمين ، وقولهم إنهم لا يتعدون شرائع التوراة ، وما جاء في كتب
الأنبياء عليهمالسلام ، ويتبرءون من قول الأحبار ، ويكذبونهم ، وهذه الفرقة
بالعراق ومصر والشام ، وهم من الأندلس «بطليطلة» و «طلبيرة» .
__________________
٤ ـ والربانية : وهم الأشعثية ، وهم القائلون بأقوال الأحبار ومذاهبهم وهم
جمهور اليهود.
٥ ـ والعيسوية : وهم أصحاب أبي عيسى الأصبهاني ، رجل من اليهود كان
بأصبهان وبلغني أن اسمه كان محمد بن عيسى ، وهم يقولون بنبوة عيسى ابن مريم ،
ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، ويقولون : إن عيسى بعثه الله عزوجل إلى بني إسرائيل على ما جاء في الإنجيل ، وأنه أحد أنبياء
بني إسرائيل. ويقولون إن محمدا صلىاللهعليهوسلم نبي أرسله الله تعالى بشرائع القرآن إلى بني إسماعيل عليهمالسلام ، وإلى سائر العرب ، كما كان أيوب نبيا في «بني عيص» وكما
كان «بلعام» نبيا في «بني موآب» بإقرار من جميع فرق اليهود.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد لقيت من ينحو إلى هذا المذاهب من خواص اليهود كثيرا ، وقرأت في
تاريخ لهم جمعه رجل هاروني كان قديما فيهم ، ومن كبارهم وأئمتهم ، وممن عصبت به ثلث
بلدهم ، وثلث حروبهم ، وثلث جيوشهم أيام حرب «طيطوس» وخراب البيت ، وكان له في تلك
الحروب آثار عظيمة. وكان قد أدرك أمر المسيح عليهالسلام ، واسمه يوسف بن هارون ، فذكر ملوكهم وحروبهم إلى أن وصل
إلى قتل «يحيى بن زكريا» عليهالسلام فذكره أجمل ذكر ، وعظّم شأنه ، وأنه قتل ظلما لقوله الحق ،
وذكر أمر «المعمودية» ذكرا حسنا ، لم ينكرها ولا أبطلها ، ثم قال في ذكره لذلك
الملك «هردوس بن هردوس» : وقبل هذا الملك من حكماء بني إسرائيل وخيارهم جماعة ،
ولم يذكر من شأن المسيح ابن مريم عليهماالسلام أكثر من هذا.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وإنما ذكرت هذا الكلام لأري أن هذا المذهب كان فيهم ظاهرا ، فاشيا في
أئمتهم من حينئذ إلى الآن ، ثم انقسم اليهود جملة على قسمين :
قسم أبطل النسخ
ولم يجعلوه ممكنا.
والقسم الثاني
أجازوه ، إلّا أنهم قالوا لم يقع.
وعمدة من أبطل
النسخ أن قالوا : إن الله عزوجل يستحيل منه أن يأمر بالأمر ثم ينهى عنه ، ولو كان كذلك
لعاد الحق باطلا ، والطاعة معصية ، والباطل حقا ، والمعصية طاعة.
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : لا نعلم لهم حجة غير هذه ، وهي من أضعف ما يكون من التمويه الذي لا
يقوم على ساق ، لأن من تدبّر أفعال الله كلّها ، وجميع أحكامه وآثاره تعالى في هذا
العالم تيقن بطلان قولهم هذا ، لأن الله تعالى يحيي ثم يميت ثم يحيي ، وينقل
الدولة من قوم أعزّة فيذلهم ، إلى قوم أذلّة فيعزّهم ، ويمنح من شاء ما شاء من
الأخلاق الحسنة والقبيحة ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء :
٢٣].
ثم نقول لهم
وبالله التوفيق : ما تقولون فيمن كان قبلكم من الأمم المقبول دخولها فيكم إذا
غزوكم؟ أليس دماؤهم لكم حلالا ، وقتلهم حقا وفرضا وطاعة؟ فلا بدّ من بلى.
فنقول لهم : فإن
دخلوا في شريعتكم أليس قد حرمت دماؤهم ، وصار عندكم قتلهم حراما وباطلا ومعصية بعد
أن كان فرضا وحقا وطاعة؟
فلا بدّ من بلى.
ثم إن عدوا في
السبت وعملوا أليس قد عاد قتلهم فرضا بعد أن كان حراما؟ فلا بدّ من بلى.
فهذا إقرار ظاهر
منهم ببطلان قولهم ، وإثبات منهم لما أنكروه من أن الحق يعود باطلا ، والأمر يعود
نهيا ، وأن الطاعة تعود معصية ، وهكذا القول في جميع شرائعهم ، لأنها إنما هي
أوامر في وقت محدود بعمل محدود ، فإذا خرج ذلك الوقت عاد ذلك الأمر منهيا عنه ،
كالعمل هو عندهم مباح في الجمعة محرم يوم السبت ، ثم يعود مباحا يوم الأحد ،
وكالصيام والقرابين وسائر الشرائع كلها ، وهذا بعينه هو نسخ الشرائع الذي أبوه
وامتنعوا منه ، إذ ليس معنى النسخ إلا أن يأمر الله عزوجل بأن يعمل عمل ما ، مدة ما ، ثم ينهى عنه بعد انقضاء تلك
المدة ، ولا فرق في شيء من العقول بين أن يعرف الله تعالى ، ويخير عباده بما يريد
أن يأمرهم به قبل أن يأمرهم به ، ثم بأنه سينهى عنه بعد ذلك ، وبين ألّا يعرفهم به
إذ ليس عليه تعالى شرط أن يعرف عباده بما يريد أن يأمرهم قبل أن يأتي الوقت الذي
يريد إلزامهم فيه الشريعة. وأيضا فإن جميعهم مقر بأن شريعة يعقوب عليهالسلام كانت غير شريعة موسى عليهالسلام ، وأن يعقوب تزوج «ليّا» و «راحيل» ابنتي «لابان» وجمعهما
معا في عصمته ، وهذا حرام في شريعة موسى عليهالسلام.
هذا مع قولهم : إن
أم موسى عليهالسلام كانت عمة أبيه أخت جدّه ، وهي
«يوحانذا» بنت «لاوي»
وهذا في شريعة «موسى» حرام ، ولا فرق في العقول بين شيء أحلّه الله تعالى ثم حرّمه
، وبين شيء حرّمه الله ثم أحلّه.
والمفرق بين هذين
مكابر للعيان ، مجاهر بالقحة ، ولو قلب عليه قالب كلامه ما كان بينهما فرق ، وفي
توراتهم أن الله تعالى افترض عليهم بالوحي إلى موسى عليهالسلام ، وأوهم موسى بذلك في نص توراتهم : ألّا يتركوا من الأمم
السبعة الذين كانوا سكانا في فلسطين والأردن أحدا أصلا إلا قتلوه ثم إنه لما
اختدعتهم الأمة التي يقال لها «عباوون» : وهي إحدى تلك الأمم التي افترض عليهم
قتلهم واستئصالهم ، فتحيّلوا عليهم ، وأظهروا لهم أنهم أتوا من بلاد بعيدة حتى
عاهدوهم ، فلما عرفوا بعد ذلك أنهم من السكان في الأرض التي أمروا بقتل أهلها حرّم
الله عزوجل عليهم قتلهم على لسان «يوشع» النبي بنص كتاب «يوشع» عندهم
، فأبقوهم ينقلون الماء والحطب إلى مكان التقديس ، وهذا هو النسخ الذي أنكروا بلا
كلفة.
وفي توراتهم «البداء»
الذي هو أشدّ من النسخ ، وذلك أنّ فيها : أن الله تعالى قال لموسى عليهالسلام : سأهلك هذه الأمة ، وأقدمك على أمة أخرى عظيمة ، فلم يزل
موسى يرغب إلى الله تعالى في أن لا يفعل ذلك حتى أجابه وأمسك عنهم ، وهذا هو «البداء»
بعينه ، والكذب المنفيان عن الله تعالى ، لأنه ذكر أن الله تعالى أخبر أنه سيهلكهم
، ويقدمه على غيرهم ثم لم يفعل فهذا هو الكذب بعينه تعالى الله عنه. وفي سفر «إشعيا»
أن الله تعالى سيرتب في آخر الزمان من الفرس خدّاما لبيته.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا هو النسخ بعينه لأن التوراة موجبة أن لا يخدم في البيت المقدس
أحد غير «بني لاوي» بن يعقوب على حسب مراتبهم في الخدمة. فعلى أيّ وجه أنزلوا هذا
القول من «إشعيا»؟. فهو نسخ لما في التوراة على كل حال ، وأما في الحقيقة فهو إنذار
بالملة الإسلامية التي صار فيها الفرس والعرب
__________________
وسائر الأجناس في
المساجد ببيت المقدس وغيره ، التي هي بيوت الله تعالى.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأمّا الطائفة التي أجازت إلّا أنها أخبرت أنه لم يكن فإنه يقال لهم ـ
وبالله تعالى التوفيق ـ بأيّ شيء علمتم صحة نبوة موسى عليهالسلام ، ووجوب طاعته؟
فلا سبيل إلى أن
يأتوا بشيء غير إعلامه وبراهينه ، وأعلامه الظاهرة.
فيقال لهم ـ
وبالله تعالى التوفيق ـ : إذا وجب تصديق موسى ، والطاعة لأمره لما ظهر من إحالة
الطبائع على ما بيناه الكلام في بيان إثبات النبوات ، فلا فرق بينه وبين من أتى
بمعجزات غيرها ، وبإحالة لطبائع أخر ، وبضرورة العقل يعلم كل ذي حس أن ما أوجبه
لنوع فإنه واجب لأجزائه كلها. فإذا كانت إحالة الطبائع موجبة تصديق من ظهرت عليه
فوجوب تصديق موسى وعيسى ومحمد عليهمالسلام واجب وجوبا مستويا ، ولا فرق بين شيء منه بالضرورة.
ويقال لهم : ما
الفرق بينكم في تصديقكم بعض من ظهرت عليه المعجزات وتكذيبكم بعضهم؟ وبين من صدق من
كذبتم ، وكذب من صدقتم كالمجوس المصدقين بنبوة «زرادشت» المكذبين بنبوة موسى ،
وسائر أنبيائكم ، أو «المانوية» المصدقة بنبوة «عيسى» و «زرادشت» المكذبة بنبوة
موسى ، أو «الصابئين» المكذبين بنبوة إبراهيم عليهالسلام فمن دونه ، المصدقين بنبوة «إدريس» وغيره.
وكل هذه الفرق
والملل تقول في «موسى» عليهالسلام ، وفي سائر أنبيائكم أكثر مما تقولون أنتم في «عيسى» و «محمد»
عليهماالسلام ، تنطق بذلك تواريخهم وكتبهم ، وهي موجودة مشهورة. وأقرب
ذلك إليكم «السامرية» الذين ينكرون نبوّة كل نبي لكم بعد موسى عليهالسلام ، ولا سبيل إلى أن تأتوا على جميع من ذكرنا بفرق إلا أتوكم
بمثله ، ولا أن تدّعوا عليهم دعوى إلّا ادعوا عليكم بمثلها ، ولا أن تطعنوا في
نقلهم بشيء إلا أروكم في نقلكم مثله سواء بسواء.
وقد نبه الله
تعالى على هذا البرهان بقوله تعالى :
(وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا
مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [سورة العنكبوت :
٤٦].
فنص تعالى على أن
طريق الإيمان بما آمنوا به من النبوة ، وطريق ما آمنا به نحن منها واحد ، وأنه لا
فرق بين شيء من ذلك ، وأن الإيمان بالإله الباعث لموسى هو
الإيمان بالإله
الباعث لمحمد صلىاللهعليهوسلم. وأن طريق كل ذلك طريق واحدة ، لا فرق فيها. وبالله
التوفيق.
وأما شغب من شغب
منهم بأننا نؤمن بموسى ، وهم لا يؤمنون بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، فهو شغب ضعيف بارد لأنهم لا يخلون من أن يكونوا إنما
صدّقوا بنبوة موسى من أجل تصديقنا نحن ، ولو لا ذلك لم يصدقوا به ، أو يكون إنما
صدّقوا به لما أظهر من البرهان فقط.
فإن كانوا إنما
صدّقوا به من أجل تصديقنا نحن فواجب عليهم أن يصدقوا بمحمد صلىاللهعليهوسلم من أجل تصديقنا نحن به ، وإلا فقد تناقضوا.
وإن كان إنما
صدّقوا به لما أظهر من الآيات فلا معنى لتصديق من صدّقه ولا لتكذيب من كذبه ،
والحق حق صدقه الناس أو كذّبوه ، والباطل باطل صدّقه الناس أو كذبوه ، ولا يزيد
الحق درجة في أنه حقّ إطباق الناس كلّهم على تصديقه ، ولا يزيد الباطل مرتبة في
أنه باطل تكذيب الناس كلهم له.
ولا يظن ظانّ أننا
في مناظرتنا من نناظره من أهل ملتنا المخالفين لنا في بعض أقوالنا بالإجماع قد
نقضنا كلامنا في هذا المكان ، فليعلم أننا لم ننقضه لأن الإجماع حجة قد قام
البرهان على صحتها في الفتيا في دين الإسلام. وما قام على صحته البرهان فهو حجة
قاطعة على من خالفه ، وعلى من وافقه. وأمّا أن نحتج على مخالفنا بأنه موافق لنا في
بعض ما نختلف فيه فليس حجة علينا ، فإن وجد لنا يوما من الأيام فإنما نخاطب به
جاهلا نستكفّ تخليطه بذلك ، أو نبكته لنريه تناقضه فقط.
وأيضا فإنا إنما
آمنا بنبوة «موسى» الذي أنذر بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وبالتوراة التي فيها الإنذار برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم باسمه ونسبه وصفة أصحابه رضي الله عنهم.
وهكذا نقول في «عيسى»
والإنجيل حرفا حرفا ، لا بنبوة من لم ينذر بنبوة النبي صلىاللهعليهوسلم. ولا نؤمن «بموسى» و «عيسى» اللذين لم ينذرا برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم ولا نؤمن بتوراة ولا إنجيل ليس فيهما الإنذار برسالة محمد صلىاللهعليهوسلم وبصفة أصحابه ، بل نكفر بكل ذلك ، ونبرأ منهم ، فلم
نوافقهم قط على ما يدّعونه. فبطل شغبهم الضعيف وبالله تعالى التوفيق.
وجملة القول في
هذا أن نقل اليهود والنصارى فاسد لما ذكرنا ، ونذكر إن شاء الله تعالى من عظيم المفتريات
الداخلة في كتبهم المبينة أنها مفتعلة ، ونبيّن فساد نقلهم.
فإنما صدّقنا
بنبوة موسى وعيسى عليهماالسلام لأن محمدا صلىاللهعليهوسلم صدّقهما وأخبرنا عنهما وعن أعلامهما ، ولو لا ذلك لما
صدقنا بهما ولا قطعنا بصحتهما ، وكذلك نقول في «إلياس» و «اليسع» و «يونس» و «لوط»
في ذلك.
كما أننا لا نقطع
بصحة نبوة «سموال» و «حقاي» و «حبقوق» وسائر الأنبياء الذين عندهم كموسى وسائر من
ذكرنا ولا فرق.
ولكن نقول «آمنا
بالله وكتبه ورسله» فإن كان المذكورون أنبياء فنحن نؤمن بهم ، وإن لم يكونوا
أنبياء فلا ندخل في أنبياء الله تعالى من ليس منهم بأخبار اليهود والنصارى الكاذبة
التي لا أصل لها ، الراجعة إلى قوم كفار كاذبين ، وبالله تعالى نتأيد.
وقال تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها
نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤].
وقال تعالى في
الرسل : (مِنْهُمْ مَنْ
قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [سورة غافر : ٧٨].
فنحن نؤمن
بالأنبياء جملة ، ولا نسمي منهم إلّا من يسمي محمد صلىاللهعليهوسلم فقط.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ويقال لسائر فرق اليهود حاشا السامرية : ما الفرق بينكم وبين السامرية
الذين كذبوا بنبوّة كل نبي صدقتم أنتم به بعد يوشع بمثل ما كذبتم أنتم به «عيسى» و
«محمدا» صلىاللهعليهوسلم؟ .. وهذا ما لا انفكاك منه بوجه من الوجوه.
فإن ادّعوا أن
عيسى ومحمدا عليهماالسلام لم يأتيا بالمعجزات بان كذبهم ومجاهرتهم ، إذ قد نقلت
الكواف عن النبي صلىاللهعليهوسلم : أنه سقى العسكر في «تبوك» وهم ألوف كثيرة من قدح صغير
نبع فيه الماء من بين أصابعه عليهالسلام . وفعل أيضا مثل ذلك بالحديبية ، وأنه أطعم عليهالسلام في منزل «أبي طلحة» أهل الخندق حتى شبعوا .
__________________
وفي منزل «جابر»
أيضا .
ورمى «هوازن» في
جيش فعميت عيون جميعهم بتراب يده ، وفيها أنزل الله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [سورة الأنفال :
١٧].
__________________
وشق القمر إذ سأله
قومه آية فأنزل الله تعالى في ذلك :
(اقْتَرَبَتِ
السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا
سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ
مُسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) [سورة القمر : ١ ـ
٤].
وكذلك حنين الجذع الذي سمعه كل من حضره من الصحابة رضوان الله عليهم. ومن
أبهر ذلك وأعظمه قوله لليهود الذي كانوا في وقته وهم زيادة على ألف بلا شك ،
ولعلهم كانوا ألوفا وهم بنو قريظة ، وبنو النضير ، وبنو أهدل ، وبنو قينقاع ، أن
يتمنوا الموت إن كانوا صادقين في تكذيبهم نبوته ، وأعلمهم أنهم لا يستطيعون ذلك
أصلا ، فعجزوا عن ذلك أي عن تمني الموت ، وحيل بينهم وبين النطق بذلك ، وهذه قصة
منصوصة في سورة الجمعة يقرأ بها كل يوم جمعة في جميع جوامع المسلمين من شرق الدنيا
إلى غربها. وقد كان أسهل الأمور عليهم أن يكذبوا بأن يتمنوا الموت لو استطاعوا ،
وهم يسمعونه يقول : (فَتَمَنَّوُا
الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ
أَيْدِيهِمْ) [سورة الجمعة : ٦
، ٧].
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا أمر لا يدفعه إلّا وقاح جاهل مكابر للعيان ، لأن القرون والأعصار
نقلت هذه الآيات جيلا جيلا يخاطبون بها. فكل أذعن وأقر ، ولم يمكن أحد دفعه.
ودعا عليهالسلام من حيث مبعثه العرب كلهم ـ على فصاحة ألسنتهم ، وكثرة
استعمالهم لأنواع البلاغة من الإطالة والإيجاز ، والتصرف في أفانين البلاغة ،
والألفاظ المركبة على وجوه المعاني ـ إلى أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، ثم ردّهم إلى
سورة فعجزوا كلّهم عن ذلك على سعة بلادهم طولا وعرضا ، وأنه صلىاللهعليهوسلم أقام بين أظهرهم ثلاثة وعشرين عاما ، يستسهلون قتله ،
والتعرض لسفك دمائهم ، واسترقاق ذراريهم ، وقد أضربوا عمّا دعاهم إليه من المعارضة
للقرآن جملة.
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا لا يخفى على من له أقل فهم : أنه إنما حملهم على ذلك العجز عما
كلفهم من ذلك وارتفاع القوة عنهم ، وأنه قد حيل بينهم وبين ذلك ، ثم عمر الدنيا من
البلغاء الذين يتخللون بألسنتهم تخلل الباقر ويطيلون في المعنى التافه إظهارا لاقتدارهم على الكلام ،
جماعات لا بصائر لهم في دين الإسلام منذ أربعمائة عام وعشرين عاما ، فما منهم أحد
يتكلّف معارضته إلا افتضح وسقط ، وصار مهزأة ومعيرة يتماجن به ، ويتطايب عليه ،
منهم «مسيلمة» بن حبيب الحنفي ، لما رام ذلك لم ينطق لسانه إلا بما يضحك الثكلى ،
وقد تعاطى بعضهم ذلك يوما في كلام جرى بيني وبينه ، فقلت له : اتق الله على نفسك ،
فإن الله تعالى قد منحك من البيان والبلاغة نعمة سبقت بها ، وو الله لئن تعرضت
لهذا الباب بإشارة ليسلبنك الله هذه النعمة ، وليجعلنك فضيحة وشهرة ومسخرة وضحكة ،
كما فعل بمن رام هذا من قبلك. فقال لي : صدقت والله. وأظهر الندم ، والإقرار
بقبحه.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا الذي ذكرنا مشاهد ، وهي آية باقية إلى اليوم ، وإلى انقضاء
الدنيا ، وسائر آيات الأنبياء عليهمالسلام قد فنيت بفنائهم فلم يبق منها إلّا الخبر عنها فقط.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد ظنّ قوم أن عجز العرب ومن تلاهم من سائر البلغاء عن معارضة القرآن
إنما هو لكون القرآن أعلى طبقات البلاغة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا خطأ شديد ، ولو كان ذلك وقد أبى الله عزوجل أن يكون لما كان حينئذ معجزة ، لأن هذه صفة كل باسق في
طبقته والشيء الذي هو كذلك ، وإن كان قد بسق في وقت ما ، فلا يؤمن أن يأتي في غد
ما يقاربه بل ما يفوقه. ولكن الإعجاز في ذلك إنما هو أنّ الله عزوجل حال بين العباد وبين أن يأتوا بمثله ، ورفع عنهم القوة في
ذلك جملة ، وهذا مثل لو قال قائل إنّي أمشي اليوم في هذا الطريق ، ثم لا يمكن أحد
بعدي أن يمشي فيها ، وهو ليس بأقوى من سائر
__________________
الناس ، وأما لو
كان العجز عن المشي لصعوبة الطريق وقوة هذا الماشي لما كانت آية ولا معجزة ، وقد
بيّنا في غير هذا المكان أن القرآن ليس من نوع بلاغة الناس لأنّ فيه الأقسام التي في
أوائل السور والحروف المقطعة التي لا يعرف أحد معناها وليس هذا من نوع بلاغة الناس
المعهودة وقد روينا عن «أنيس» أخي أبي ذي الغفاري رضي الله عنهما : أنه سمع القرآن
فقال : لقد وضعت هذا الكلام على ألسنة البلغاء ، وألسنة الشعراء ، فلم أجده يوافق
ذلك ، أو كلاما هذا معناه. فصح بهذا ما قلناه من أن القرآن خارج عن نوع بلاغة
المخلوقين ، وأنه على رتبة قد منع الله تعالى جميع الخلق عن أن يأتوا بمثله ، ولنا في هذا رسالة مستقصاة كتبنا بها إلى «أبي عامر أحمد
بن عبد الملك بن شهيد» . وسنذكر منها هنا إن شاء الله تعالى ما فيه كفاية في
كلامنا مع المعتزلة والأشعرية في خلق القرآن من ديواننا هذا. ولا حول ولا قوة إلا
بالله العلي العظيم.
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فإن قال قائل : إنّه منع المعارضون حينئذ من المعارضة أو عارضوا فستر
ذلك. قيل له وبالله التوفيق : لو أمكن ما تقول لأمكن لغيرك أن يدّعي في آيات موسى عليهالسلام مثل ذلك ، بل كان يكون أقرب إلى التلبيس ، لأن في توراتكم
أن السحرة عملوا مثل ما عمل موسى عليهالسلام حاشا البعوض خاصة فإنهم لم يطيقوه.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا هو الباطل والتبديل الظاهر ، لأن السحر لا يحيل عينا ولا يقلبها
، ولا يحيل طبيعة ، إنما هو حيل قد بينا الكلام فيها بعون الله تعالى في موضعه من
هذا الكتاب وفي غيره.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا الاعتراض هو على سبيل إبطال الكواف لا سبيل من أقر بشيء منها ،
ثم يقال كل من ولي الأمر بعده عليهالسلام معروف ليس منهم أحد إلا وله أعداء يخرجون من عداوته إلى
الغايات من الحنق والغيظ فأبو بكر وعمر تعاديهما «الرافضة» وتبلغ في عداوتهما
وتكفيرهما أقصى الغايات. وما قال قط أحد مؤمن ولا كافر عدوّ لهما ولا وليّ : إن
أحدا منهما أجبر أحدا على الإقرار بآيات محمد صلىاللهعليهوسلم ، ولا على ستر شيء عورض به ، ولا قدر أن يقول هذا أيضا
يهوديّ ولا نصراني.
وكذلك عثمان أيضا
وعليّ تعاديهما الخوارج ، وتخرج في عداوتهما وتكفيرهما إلى أبعد الغايات ، ما قال
قط قائل في أحدهما شيئا من هذا ، وحتّى لو رام أحد من الملوك ذلك لما قدر عليه ،
لأنه لا يملك أيدي الناس ولا ألسنتهم ، يصنعون في منازلهم ما أحبّوا ، وينشرونه
عند من يثقون به حتى ينتشر.
وهذا أمر لا يقدر
على ضبطه والمنع منه أحد ، لا سيما مع انخراق الدنيا وسعة أقطارها من أقصى السند
إلى أقصى الأندلس ، فلو أمكنت معارضته ما تأخر عن ذلك من له أدنى حظ من استطاعة
عند نفسه على ذلك ممن لا بصيرة له في الإسلام في شرق الأرض وغربها. فإن قال قائل
من اليهود : إن موسى عليهالسلام قال لهم في التوراة : «لا تقبلوا من نبي أتاكم بغير هذه
الشريعة وإن جاءكم بآيات».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : قلنا له وبالله تعالى التوفيق :
لا سبيل إلى أن
يقول موسى عليهالسلام هذا بوجه من الوجوه ، لأنه لو قال ذلك لكان مبطلا لنبوة
نفسه ، وهذا كلام ينبغي أن يتدبّر ، وذلك أنه لو قال لهم : لا تصدقوا من دعاكم إلى
غير شريعتي وإن جاء بآيات ، فإنه يلزمه إذا كانت الآيات لا
توجب تصديق غيره
إذا أتى بها في شيء دعا إليه ، فهي غير موجبة تصديق موسى عليهالسلام فيما أتى به ، إذ لا فرق بين معجزاته ومعجزات غيره ، إذ
بالآيات صحّت الشرائع ، ولم تصح الآيات بالشرائع ، لأن تصديق الشريعة موجبة للآية
، والآية موجبة تصديق الشريعة ، ومن قال خلاف هذا ممن يدين بشريعة وبنبوة فهو عظيم
المجاهرة بالباطل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأيضا فإن هذا القول المنسوب إلى موسى عليهالسلام كذب موضوع ليس في التوراة شيء منه ، وإنما فيها : «من
أتاكم يدّعي نبوّة وهو كاذب فلا تصدقوه» ، فإن قلتم من أين نعلم كذبه من صدقه؟
فانظروا فإذا قال عن الله شيئا ، ولم يكن كما قال فهو كاذب. هذا نص ما في التوراة
فصح بهذا أنه إذا أخبر عن الله تعالى بشيء فكان كما قال فهو صادق ، وقد وجدنا كلّ
ما أخبر به النبي صلىاللهعليهوسلم في غلبة الروم على كسرى ، وإنذاره بقتل الكذاب العنسي ،
ويوم ذي قار ، وبخلع كسرى ، وبغير ذلك. فإن قالوا : إن في التوراة أن هذه الشريعة
لازمة لكم في الأبد ، قلنا : هذا محال في التأويل ، لأنه كذلك أيضا فيها : أن هذه
البلاد يسكنونها أبدا ، وقد رأيناهم بالعيان خرجوا عنها.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فإن قال قائل : فقد قال لكم محمد صلىاللهعليهوسلم : لا نبي بعده. قيل لهم وبالله تعالى نتأيد : ليس هذا
الكلام مما ادعيتموه على موسى عليهالسلام ، لأننا قد علمنا من إخباره عليهالسلام أنه لا سبيل إلى أن يظهر أحد آية بعده أبدا ، ولو جاز
ظهورها لوجب تصديق من أظهرها ، ولكنا قد أيقنا أنه لا تظهر آية على أحد بعده عليهالسلام بوجه من الوجوه.
فإن قال قائل :
وكيف تقولون في «الدجال» وأنتم ترون أنه يظهر له عجائب؟
فالجواب وبالله
تعالى التوفيق : أن المسلمين فيه على أقسام ، فأما «ضرار بن عمرو»
__________________
وسائر فرق الخوارج
، فإنهم ينفون أن يكون الدجال جملة فكيف أن يكون له آية.
وأما سائر فوق
المسلمين فلا ينفون ذلك. والعجائب المذكورة عنه إنما جاءت بنقل الآحاد.
وقال بعض أصحاب
الكلام : إن الدّجال إنما يدّعي الربوبية ، ومدّعي الربوبية في نفس قوله بيان
كذبه.
قالوا : فظهور
الآية عليه ليس موجبا لضلال من له عقل.
وأمّا مدّعي
النبوة فلا سبيل إلى ظهور الآيات عليه ، لأنه كان يكون ضلالا لكل ذي عقل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأما قولنا في هذا فهو أن العجائب الظاهرة من الدجال إنما هي حيل من
نحو ما صنع سحرة فرعون ، ومن باب أعمال «الحلّاج» وأصحاب العجائب ، يدل على ذلك
حديث «المغيرة بن شعبة» إذ قال للنبي صلىاللهعليهوسلم : إن معه نهر ماء ونهر خبز ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : هو أهون على الله من ذلك .
حدثنا «يونس بن
عبد الله بن مغيث» حدثنا «أحمد بن عبد الرحيم» ، حدثنا «محمد بن عبد السلام الخشني»
، حدثنا «محمد بن بشار بندار» ، حدثنا «يحيى بن سعيد القطان» ، حدثنا «هشام بن
حسان القردوسي» ، حدثنا «حميد بن هلال» عن «أبي الدّهماء» ، عن «عمران بن
حصين» عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من سمع من أمتي بالدّجال فلينأ عنه ، فإن الرجل
يأتيه وهو يحسبه مؤمنا فيتبعه مما يرى من الشبهات» .
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وبهذا تتآلف الأحاديث. وقد بيّن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في هذا الحديث أن ما يظهر الدّجال من نهر ماء ونار وقتل
إنسان وإحيائه ـ أنّ هذا حيل.
ولكلّ ذلك وجوه
إذا طلبت وجدت. فقد تحيّل ببعض الأجساد المعدنية إذا أذيب أنه ماء ، وتحيّل بالنفط
الكاذب أنه نار ، ويقتل إنسان ويغطى وآخر معه مخبوء فيظهر ليرى أنه قتل ثم أحيي
كما فعل «الحسين بن منصور الحلاج» في الجدي الأبلق ، وكما فعل «الشريعي» و «النميري»
بالبغلة ، وكما فعل «زيروب» بالزرزور.
وأنا أدري من يطعم
الدجاج الزرنيخ فيخدّر ولا يشك في موتها ثم يصبّ في حلوقها الزيت فتقوم صحاحا.
وإنما كانت معجزة
لو أحيا عظاما قد أرمّت ، فيظهر نبات اللحم عليها ، فهذه كانت تكون معجزة ظاهرة لا
شك فيها ، ولا يقدر غير نبي عليها البتة يظهرها الله عزوجل على يديه آية له.
وقد رأينا الدّبر يلقى في الماء حتى لا يشك أحد أنها ميتة ، ثم كنا نضعها
للشمس فلا تلبث أن تقوم وتطير ، وقد بلغنا مثل ذلك في الذباب المسترخي في الماء
إذا ذرّ عليه سحق الآجر الجديد.
وآيات الأنبياء عليهمالسلام لا تكون من وراء حائط ، ولا في مكان بعينه ، ولا من تحت
ستارة ، ولا تكون إلّا بادية مكشوفة.
وقد فضحت أنا حيلة
«أبي محمد» المعروف بالمحرق في الكلام المسموع بحضرته ولا يرى المتكلم ، وسمت بعض أصحابه أن يسمعني ذلك في مكان آخر ، أو بحيث الفضاء
دون بنيان ، فامتنع من ذلك ، فظهرت الحيلة ، وإنما هي قصبة مثقوبة توضع وراء
الحائط على شق خفي ، ويتكلم الذي طرف القصبة على فيه على حين غفلة ممن في المسجد
كلمات يسيرة ، الكلمتين والثلاث لا أكثر من ذلك ، فلا يشك
__________________
من في البيت مع
المحرّق الملعون في أن الكلام اندفع بحضرتهم. وكان المتكلم في ذلك «محمد بن عبد
الله الكاتب» صاحبه.
فإن اعترض معترض
بقول الله تعالى :
(وَما مَنَعَنا أَنْ
نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) [سورة الإسراء :
٥٩].
قيل له وبالله
تعالى التوفيق : هذا يخرّج على وجهين ، أحدهما أنّ معنى قوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) إنما هو على معنى التبكيت لمن قال ذلك ، وأورد تعالى
كلامهم ، وحذف ألف الاستفهام ، وهذا موجود في كلام العرب كثيرا.
والثاني : أنه
إنما عنى تعالى بذلك الآيات المشترطة في الرّقيّ إلى السماء وأن يكون معه ملك ، وما أشبه هذا ، وليس على الله تعالى شرط لأحد.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : والقول الأول هو جوابنا ، لأن الله تعالى لا شيء يمنعه عما يريد.
وكذلك إن اعترض
معترض بقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما من الأنبياء إلّا من قد أوتي ما على مثله آمن البشر
، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيا أوحي إليّ ، وإنّي لأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم
القيامة» .
قيل له وبالله
التوفيق : إنما عنى رسول الله صلىاللهعليهوسلم بهذا القول آيته الكبرى الثابتة الباقية أبد الآباد التي
هي أول معجزته حين بعث وهي القرآن ، لبقاء هذه الآية على الآباد. وإنما جعلها عليهالسلام بخلاف سائر آيات الأنبياء عليهمالسلام ، لأن تلك الآيات يستوي في معرفة إعجازها العالم والجاهل.
وأما إعجاز القرآن فإنما يعرفه العلماء بلغة العرب ، ثم يعرفه سائر الناس بإخبار
العلماء لهم بذلك. مع ما في التوراة من الإنذار
__________________
البيّن برسول الله
صلىاللهعليهوسلم من قوله تعالى فيها : «سأقيم لبنى إسرائيل نبيّا من إخوتهم
، أجعل على لسانه كلامي فمن عصاه انتقمت منه».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ولم تكن هذه الصفة لغير محمد صلىاللهعليهوسلم. وإخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل. وقوله في السفر الخامس
منها : «جاء الله من سيناء ، وأشرق من ساعير ، واستعلن من جبال فاران».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وسيناء هو موضع مبعث موسى عليهالسلام بلا شك ، و «ساعير» هو موضع مبعث «عيسى» عليهالسلام ، و «فاران» بلا شك هي مكة موضع مبعث «محمد» صلىاللهعليهوسلم. بيان ذلك : أن «إبراهيم» عليهالسلام أسكن «إسماعيل» «فاران» ، ولا خلاف بين أحد في أنه إنما
أسكنه مكة. فهذا نصّ على مبعث النبي صلىاللهعليهوسلم.
والرؤيا التي
فسرها «دانيال» في أمر الحجر الذي رأى الملك في نومه الذي دق الصنم الذي كان بعضه
ذهبا ، وبعضه فضة ، وبعضه نحاسا ، وبعضه حديدا ، وبعضه فخارا ، وخلطه كله وطحنه
وجعله شيئا واحدا ثم ربا الحجر حتى ملأ الأرض ، ففسره «دانيال» : أنه نبي يجمع
الأجناس ، ويبلغ ملك أمره ملء الآفاق ، فهل كان نبي قط غير «محمد» صلىاللهعليهوسلم جمع الأجناس كلها على اختلافها ، واختلاف لغاتها ،
وأديانها ، وممالكها ، وبلادها ، فجعلهم جنسا واحدا ، ولغة واحدة ، وأمة واحدة ،
ومملكة واحدة ، ودينا واحدا؟
فإن العرب ،
والفرس ، والنبط ، والأكراد ، والترك ، والديلم ، والجبل ، والبربر ، والقبط ، ومن
أسلم من الروم والهند والسودان ، على كثرتم كلهم ينطقون بلغة واحدة ، وبها يقرءون
القرآن ، وقد صار كل من ذكرنا أمة واحدة والحمد لله رب العالمين. فصحت النبوة
المذكورة بلا إشكال ، والحمد لله رب العالمين.
وكل ما ذكرنا في
هذا الباب أنه يدخل على النصارى الذين يقولون بنبوة «عيسى» عليهالسلام فقط من «الآريوسية» ، و «المقدونية» و «البولقانية» سواء
بسواء مع ما في الإنجيل من دعاء المسيح عليهالسلام في قوله : «اللهم ابعث البارقليط ليعلم الناس أن ابن البشر
إنسان».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا غاية البيان لمن عقل ، لأن المسيح عليهالسلام علم أنه سيغلو قومه فيه ، فيقولون : إنه الله ، وإنه ابن
الله ، فدعا الله في أن يبعث الذي يبين للناس أنه ليس إلها ، ولا ابن إله ، وإنما
هو إنسان ولد من امرأة من البشر.
__________________
فهل أتى بعده نبي
يبين هذا إلا «محمد» صلىاللهعليهوسلم؟ وهذا أمر لا يحيل بيانه على ذي حسّ سليم وإنصاف ، ونسأل
الله إيزاع الشكر على ما وفق له من الهدى.
فإن قال قائل :
فإن المجوس تصدّق بنبوة «زرادشت» ، وقوم من اليهود يصدقون بنبوة «أبي عيسى
الأصبهاني» ، وقوم من كفرة الغالية يصدّقون بنبوة «بزيع الحائك» ، و «المغيرة بن
أبي سعيد» ، و «بنان بن سمعان التميمي» وغيرهم من كلاب الغالية.
فالجواب وبالله
تعالى التوفيق : أن أبا عيسى ، وبنان ، وبزيعا وسائر من تدّعي له الغالية بنبوة أو
إلهية من خيار الناس وشرارهم ، لم تظهر لواحد منهم آية بوجه من الوجوه. والآيات لا
تصح إلّا بنقل الكواف ، وكل هؤلاء كان بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقد أخبر الذي جاءت البراهين بصدقه صلىاللهعليهوسلم ـ أنه لا نبي بعده
، فقد صحّ البرهان ببطلان ما ادّعي لهؤلاء من النبوة. وأمّا «زرادشت» فقد قال كثير
من المسلمين بنبوته.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ليست النبوة بمدفوعة قبل رسول الله صلىاللهعليهوسلم لمن صحت عنه معجزة. قال الله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ
إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [سورة فاطر : ٢٤].
وقال عزوجل : (وَرُسُلاً قَدْ
قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء :
١٦٤].
وقالوا : إن الذي
ينسب إليه المجوس من الأكذوبات باطل مفترى منهم. وبرهان ذلك أن «المانية» تنسب
إليه مقالتهم ، وأقوال هؤلاء كلهم متضادة لا سبيل إلى أن يقول بها قائل واحد صادق
ولا كاذب في وقت واحد.
وكذا المسيح عليه
المسيح عليهالسلام ينسب إليه «الملكانية» قولهم في التثليث ، وتنسب إليه «النسطورية»
قولهم أيضا ، وكذلك «اليعقوبية». وتنسب إليه «المانية» أيضا قولهم ، وكذلك «المرقيونية».
وهذا برهان ظاهر على كذب جميعهم عليهما بلا شك.
وقد رامت الغالية
مثل هذا في القرآن ، ولكن قد تولّى الله حفظه ، وبالجملة فكل كتاب وشريعة كانا
مقصورين على رجال من أهلهما ، وكانا محظورين على من سواهما فالتبديل والتحريف
مضمون فيهما. وكتاب المجوس وشريعتهم إنما كانا طول مدة دولتهم عند «الموبذ» وعند ثلاثة وعشرين
__________________
«هربذا» لكل «هربذ» سفر قد أفرد به وحده لا يشاركه فيه غيره من
الهرابذة ولا من غيرهم ، ولا يباح بشيء من ذلك لأحد سواهم. ثم دخل فيها الخرم
بإحراق «الإسكندر» لكتابهم أيام غلبته «لدارا بن دارا» وهم مقرون بلا خلاف منهم
أنه ذهب منه مقدار الثلث. ذكر ذلك «بشير الناسك» وغيره من علمائهم.
وكذلك التوراة ،
إنما كانت طول مدة ملك بني إسرائيل عند «الكوهن الأكبر» الهاروني وحده ، لا ينكر
ذلك منهم إلّا كذاب مجاهر.
وكذلك الإنجيل :
إنما هي كتب أربعة مختلقة من تأليف أربعة رجال ، فأمكن في كل ذلك التبديل ، وقد
نقلت كواف المجوس الآيات المعجزات عن زرادشت «كالصفر» الذي أفرغ وهو مذاب على صدره فلم يضره ، وقوائم الفرس التي
غاصبت في بطنه فأخرجها. وغير ذلك.
وممن قال : إنّ
المجوس أهل كتاب علي بن أبي طالب ، و «حذيفة» رضي الله عنهما ، و «سعيد بن المسيب»
، و «قتادة» ، و «أبو ثور» ، وجمهور أصحاب أهل
__________________
الظاهر. وقد بينا
البراهين الموجبة لصحة هذا القول في كتابنا المسمى «الإيصال» في كتاب الجهاد منه ، وفي كتاب الذبائح منه ، وفي كتاب
النكاح منه ، والحمد لله رب العالمين ، ويكفي من ذلك صحة أخذ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الجزية منهم وقد حرّم عزوجل في نص القرآن في آخر سورة نزلت منه وهي براءة أن تؤخذ
الجزية من غير كتابيّ.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأما العيسوية من اليهود فإنه يقال لهم : إذا صدقتم الكافة في نقل
القرآن عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، وفي نقل معجزاته ، وصحة نبوته فقد لزمكم الانقياد لما في
القرآن من أنه عليهالسلام بعث إلى الناس كافة بقوله تعالى فيه آمرا لرسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [سورة الأعراف :
١٥٨].
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) [سورة آل عمران :
٨٥].
وقوله تعالى فيه :
(قاتِلُوا الَّذِينَ
لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا
الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) [سورة التوبة : ٢٩].
وما فيه من دعاء
اليهود إلى ترك ما هم عليه ، والرجوع إلى شريعته عليهالسلام وهذا ما لا مخلص منه. فإن اعترضوا بما في القرآن بما حرّم
عليهم يعني اليهود وحضهم على التزام السبت ، فإنّما هو تبكيت لهم فيما سلف من
أسلافهم الذي قفوا هم آثارهم ، يبين هذا نص القرآن في قوله تعالى عن عيسى عليهالسلام : «أنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى بني إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرّم عليهم» وهذا نصّ جليّ على
__________________
نسخ شريعتهم
وبطلانها ، ثم ما لا ينكره أحد مؤمن ولا كافر من أنه عليهالسلام حارب يهود بني إسرائيل من «بني قريظة» و «النضير» و «هذل» و
«بني قينقاع» وقتلهم وسباهم ، وألزمهم الجزية ، وسمّاهم كفّارا إذا لم يرجعوا إلى
الإسلام ، وقبل إسلام من أسلم منهم ، فلو لم يكن دينهم منسوخا ما حل له إجبارهم
على تركه ، أو الجزية والصغار ، ولا جاز له قبول ترك ما ترك منهم بدين بني
إسرائيل. ومن المحال الممتنع أن يكون عند العيسويين رسولا صادقا نبيا ، ثم يجور
ويظلم ويبدل دين الحق. فوضح فساد قولهم وتناقضه بيقين لا إشكال فيه ، والحمد لله
رب العالمين.
وهكذا يقال لمن
أقر بنبوة بعض الأنبياء عليهمالسلام من فرق الصابئين «كإدريس» وغيره ممن لا يوقن بصحة قولهم
فيه «كعادمون» و «اسقلابيوس» و «أيلون» ، وغيرهم. وللمجوس المقتصرين على «زرادشت»
فقط : أخبرونا بأي شيء صحت نبوة من تدّعون له النبوة؟ فليس هاهنا إلّا صحة ما أتوا
به من المعجزات.
فيقال لهم : فإنّ
النقل إلى محمد صلىاللهعليهوسلم في معجزاته أقرب عهدا ، وأظهر صحة ، وأكثر عدد ناقلين ،
وأدخل في الضرورة. ولا فرق ولا مخلص لهم من هذا أصلا ، لأنه نقل ونقل ، إلّا أنّ
نقلنا أفشى وأظهر وأقوى انتشارا ، ومبدأ هذا مع ذهاب الصّابئين وانقطاعهم ، ورجوع
نقلهم إلى من لا يقوم بهم حجة لقلتهم ولعلهم اليوم في جميع الأرض يبلغون أربعين ،
وأما المجوس فإنهم معترفون مقرون بأن كتابهم الذي فيه دينهم أحرقه «الاسكندر» ، إذ
قتل «دارا بن دارا» ، وأنه ذهب منه الثلثان وأكثر ، وأنه لم يبق منه إلا أقلّ من
الثلث ، وأنّ الشرائع كانت فيما ذهب ، فإذ هذا صفة دينهم فقد بطل القول به جملة
لذهاب جمهوره ، وإنّ الله تعالى لا يكلف أحدا ما لا يتكفل بحفظه حتى يبلغ إليه.
وفي كتاب لهم اسمه «خذاي نامة» يعظمونه جدّا ـ أن «أنوشروان» الملك منع من أن
يتعلم دينهم في شيء من البلاد إلّا في «أردشيرخره» و «فسا» من «دارابجرد» فقط ،
وكان قبله لا يتعلّم إلا «باصطخر» فقط ، وكان لا يباح إلا لقوم خصائص. وكتابهم
الذي بقي بعد ما أحرق «الإسكندر» ثلاثة وعشرين سفرا ـ فلهم ثلاثة وعشرون «هربذا»
لكل «هربذ» سفر لا يتعداه إلى غيره. و «موبذ موبذان» يشرف على جميع تلك الأسفار.
وما كان هكذا فمضمون تبديله وتحريفه. وكل نقل هكذا فهو فاسد لا يوجب القطع بصحته.
هذا إلى ما في كتبهم التي لا يصح دينهم إلّا بالإيمان
__________________
بها من الكذب
الظاهر ، كقولهم إن جرم الملك كان يركب إبليس حيث شاء. وأن مبدأ الناس من بقلة «الريباس»
وهي «الشرالية» وأنّ من ولادة «بيروان سياوش بن كيفاوش» من بني مدينة «كنكدر»
بين السماء والأرض ، وأسكنها ثمانين ألف رجل من أهل البيوتات هم فيها إلى
اليوم ، فإذا ظهر «بهرام هماوند» على البقرة ليرد ملكهم نزلت تلك المدينة إلى
الأرض ، ونصروه وردّوا دينهم وملكهم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وكل كتاب دوّن فيه الكذب فهو باطل موضوع ليس من عند الله عزوجل ، فظهر من فساد دين المجوس كالذي ظهر من فساد دين اليهود
والنصارى سواء بسواء ، والحمد لله رب العالمين.
فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة في الكتاب الذي
تسميه اليهود التوراة ، وفي سائر كتبهم وفي الأناجيل
الأربعة يتيقّن بذلك تحريفها وتبديلها وأنها غير
الذي أنزل الله عزوجل
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : نذكر إن شاء الله تعالى ما في الكتب المذكورة من الكذب الذي لا يشك كل
ذي مسكة تمييز في أنه كذب على الله تعالى وعلى الملائكة عليهمالسلام وعلى الأنبياء عليهمالسلام ، إلى أخبار أوردها لا يخفى الكذب فيها على أحد كما لا
يخفى ضوء النهار على ذي بصر.
وقد كنا نعجب من
إطباق النصارى على تلك الأقوال الفاسدة المتناقضة التي لا يخفى فسادها على أحد به
رمق ، إلى أن وقفنا على ما بأيدي اليهود فرأينا أن سبيلهم وسبيل النصارى واحدة كشق
الأبلمة . وثبت بذلك عند كل منصف من المخالفين
__________________
صحة قولنا : إنّ
كل من خالف دين الإسلام ، ونحلة السّنة ومذهب أصحاب الحديث ، فإنه عارف بضلال ما
هو عليه ، إلّا أنهم بخذلان الله تعالى إياهم مكابرون لعقولهم ، مغلّبون لأهوائهم
وظنونهم على يقينهم تقليدا لأسلافهم وعصبية واستدامة لرئاسة دنيوية. وهكذا وجدنا
أكثر من شاهدناه من رؤسائهم.
فنحمد الله كثيرا
على ما هدانا له من الإسلام ، ونحلة السنة ، واتباع الآثار الثابتة ، ونسأله
تثبيتنا على ذلك ، وأن يجعلنا من الدّعاة إليه حتى يدعونا إلى رحمته ورضوانه عند
لقائه آمين.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وليعلم كل من قرأ كتابنا هذا أننا لم نخرج من الكتب المذكورة شيئا
يمكن أن يخرّج على وجه ما وإن دقّ وبعد ، فالاعتراض بمثل هذا لا معنى له ، وكذلك
أيضا لم نخرج منه كلاما لا يفهم معناه وإن كان ذلك موجودا فيها ، لأن للقائل أن
يقول قد أصاب الله به ما أراد ، وإنما أخرجنا ما لا حيلة فيه ولا وجه أصلا إلا
الدّعاوى الكاذبة التي لا دليل عليها أصلا لا محتملا ولا خفيا.
فصل
التوراة السامرية
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : أول ذلك أن بأيدي السامرية توراة غير التوراة التي بأيدي سائر اليهود
، يزعمون أنها المنزّلة ، ويقطعون أن التي بأيدي اليهود محرّفة مبدّلة. وسائر
اليهود يقولون إنّ التي بأيدي السّامريّة محرّفة مبدّلة ، إلى آخره ، ولم يقع
إلينا توراة السّامرية لأنّهم لا يستحلّون الخروج عن فلسطين والأردن أصلا ، إلّا
أننا أتينا ببرهان ضروري على أن التوراة التي بأيدي السّامرية أيضا محرّفة مبدّلة
مكذوبة عند ما ذكرنا في آخر هذه الفصول أسماء ملوك بني إسرائيل ، ولا حول ولا قوة
إلّا بالله العلي العظيم.
__________________
فصل
عدم الاختلاف في توراة اليهود
في أول ورقة من
توراة اليهود التي عند ربّانيهم ، وعانانيهم ، وعيسويهم حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها ـ لا
يختلفون فيها على صفة واحدة ولو رام أحد أن يزيد فيها لفظة أو ينقص أخرى لافتضح
عند جميعهم مبلغة ذلك إلى أحبارهم الذين كانوا أيام ملك الهارونية لهم قبل «الخراب
الثاني» بدهر ، يذكرون أنها مبلغة ذلك من أولئك إلى عزرا الوراق الهاروني ، ففي
صدرها قال الله تعالى :
«أصنع بناء
كصورتنا كشبهنا».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ولو لم يقل إلا كصورتنا لكان له وجه حسن ومعنى صحيح ، وهو أن نضيف
الصورة إلى الله تعالى إضافة الملك والخلق ، كما تقول هذا عمل الله ، وتقول للقرد
والقبيح والحسن هذه صورة الله ، أي تصوير الله ، والصفة التي انفرد بملكها وخلقها
، لكن قوله «كشبهنا» منع التأويلات ، وسدّ المخارج ، وقطع السبل وأوجب شبه آدم لله
عزوجل ولا بد ضرورة.
وهذا يعلم بطلانه
ببديهة العقل ، إذ الشبه والمثل معناهما واحد ، وحاشا لله أن يكون له مثل أو شبيه.
فصل
الكلام عن الأنهر في التوراة
وبعد ذلك قال :
«ونهر يخرج من عدن
فيسقي الجنان ، ومن ثمّ يفترق فيصير أربعة أرؤس ، اسم أحدها النيل ، وهو محيط
بجميع بلاد زويلة الذي به الذّهب ، وذهب ذلك البلد
__________________
جيد ، وبها
اللّؤلؤ وحجارة البلور. واسم الثاني «جيحان» وهو محيط بجميع بلاد الحبشة. واسم الثالث الدّجلة ، وهو
السائر شرق «الموصل». واسم الرابع الفرات «وأخذ الله آدم ووضعه في جنّات عدن».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الكلام من الكذب وجوه فاحشة قاطعة بأنها من توليد كذاب مستهزئ.
أول ذلك : إخباره
أن هذه الأربعة تفترق من النهر الذي يخرج من جنات عدن التي أسكن الله فيها آدم ،
إذ خلقه ثم أخرجه منها إذ أكل من الشجرة التي نهاه الله تعالى عن أكلها ، وكل من
له أدنى معرفة بالهيئة وبصفة الرّبع المعمور من الأرض الذي هو في شمال الأرض أو من
مشى إلى مصر والشام والموصل ـ يدري أن هذا كلّه كذب فاضح ، وأن مخرج النيل من عين
الجنوب من خارج المعمور ، ومصبه قبالة «تنيس» ، وقبالة الإسكندرية في آخر أعمال مصر في البحر الشامي.
وأن مخرج الدجلة والفرات وجيحان من الشمال.
فأما «جيحان»
فيخرج من بلاد الروم ، ويمر ما بين «المصيصة» وربضها المسمى «كفربيّا» حتى يصب في البحر الشامي على أربعة أميال من «المصيصة».
وأما «دجلة»
فمخرجها من أعين بقرب «خلاط» من عمل «أرمينية» بقرب
__________________
«آمد» من ديار بكر ، وتصب مياها في البطائح المشهورة بقرب البصرة في أرض
العراق متاخمة أرض العرب.
وأما الفرات
فمخرجه من بلاد الروم على يوم من «قالي قلا» قرب «أرمينية» ثم يخرج إلى «ملطية» ، ثم يأخذ على أعمال «الرقة»
إلى العراق ، وينقسم على قسمين : كلاهما يقع في «دجلة».
فهذه كذبة شنيعة
كبيرة لا مخلص منها. والله تعالى لا يكذب. وأخرى وهي قوله : إنّ النيل محيط ببلد «زويلة»
، و «جيحان» محيط ببلد الحبشة ، وهذه كذبة شنيعة ما في جميع أرض السودان والحبشة
وغير الحبشة نهير غير النيل وما ثم غيره أصلا ، ويتفرع سبعة فروع كلها مخرج واحد ،
ثم يجتمع فوق بلاد النوبة.
وكذبة ثالثة : وهي
قوله : إن ببلد «زويلة» اللؤلؤ الجيد وهذا كذب ، وما للؤلؤ بها مكان أصلا إنما
اللؤلؤ في مغاصاته في بحر فارس وبحر الهند والصين ، وهذه فضائح لا خفاء بها لم
يقلها الله تعالى قط ، ولا إنسان يهاب الكذب.
فإن قال قائل :
فقد صح عن نبيكم صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «النيل والفرات وسيحان
__________________
وجيحان
من أنهار الجنة» قلنا : نعم. هذا حق لا شك فيه ، ومعناه هو على ظاهره بلا تكلف تأويل أصلا ،
وهي أسماء لأنهار الجنة كالكوثر والسلسبيل.
فإن قيل : قد صح
عنه عليهالسلام أنه قال :
«ما بين بيتي ومنبري
روضة من رياض الجنة» .
قلنا : هذا حق ،
وهو من أعلام نبوته ، لأنه أنذر بمكان قبره فكان كما قال ، وذلك المكان لفضله وفضل
الصلاة فيه يؤدي العمل فيه إلى دخول الجنة ، فهي روضة من رياضها ، وباب من
أبوابها. ومعهود اللغة أن كل شيء فاضل طيب فإنه يضاف إلى الجنة. ونقول لمن بشرنا
بخبر حسن : هذا من الجنة. وقال الشاعر : «روائح الجنة في الشباب».
وليس كذلك هذا
الذي في توراة اليهود لأن واضعها لم يدعنا في لبس من كذبه بل بين أنه عنى النيل
المحيط بأرض زويلة بلد الذهب الجيد ، ودجلة التي بشرقي «الموصل» ، و «جيحان»
المحيط ببلاد الحبشة الذي لم يخلق بعد ، فلم يدع لطالب تأويل لكلامه حيلة ولا مخرجا.
وأيضا فإنهم لا يمكنهم البتة تخريج ما في توراتهم المكذوبة على ما وصفنا نحن الآن
في نص توراتهم أن الجنة التي أخرج منها آدم لأكله من الشجرة التي فيها إنما هي شرق
عدن ، في الأرض لا في السماء كما نقول نحن. فثبتت الكذبة لا مخرج منها أصلا ، ولو
لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في بيان أنها موضوعة لم يأت بها «موسى»
قط ، ولا هي من عند الله تعالى ، فكيف ولها نظائر ونظائر ونظائر؟
فإن قيل : في
القرآن ذكر سد «يأجوج» و «مأجوج» ولا يدرى مكانه ولا مكانهم. قلنا : مكانه معروف
في أقصى الشمال في آخر المعمور منه. وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي
يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسد «أرسطاطاليس» في كتابه
في الحيوان عند كلامه على «الغرانيق» ، وقد ذكر سدّ يأجوج ومأجوج «بطليموس» في
كتاب المسمى «جغرافيا» وذكر طول بلادهم وعرضها.
__________________
وقد بعث إليه «الواثق»
أمير المؤمنين «سلام الترجمان» في جماعة معه حتى وقفوا عليه. ذكر ذلك «أحمد
بن الطيب السرخسي» وغيره ، وقد ذكره «قدامة بن جعفر» والناس ، فهيهات خبر من خبر. وحتى لو خفي مكان «يأجوج» و «مأجوج»
والسدّ فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه لما ضر ذلك خبرنا شيئا ، لأنه كان يكون
مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها وبعدها كما هو في الجهة
الشمالية ، بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة ، والهواء كهواء بعض البلاد
التي يوجد فيها النبات والتناسل.
واعلموا أن كل ما
كان في عنصر الإمكان فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان فهو كاذب مبطل جاهل
أو متجاهل ، لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره ، وإنما الشأن في
المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل ، فمن جاء بهذا فإنما
جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر ونعوذ بالله من البلاء.
فصل
ادعاء التوراة أن آدم إله من الآلهة
ثم قال : وقال
الله : «هذا آدم قد صار كواحد منا معرفة في الخير والشر والآن
__________________
كيلا يمدّ يده
ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيا إلى الدّهر فطرده الله من جنات عدن».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) :
حكايتهم عن الله
تعالى أنه قال هذا آدم قد صار كواحد منّا مصيبة من مصائب الدّهر ، وموجب ضرورة
أنهم آلهه أكثر من واحد ، ولقد أدّى هذا القول الخبيث المفترى كثيرا من خواص
اليهود إلى الاعتقاد أن الذي خلق آدم لم يكن إلّا خلقا خلقه الله تعالى قبل آدم ،
وأكل من الشجرة التي أكل منها آدم فعرف الخير والشر ، ثم أكل من شجرة الحياة فصار
إلها من جملة الآلهة ، نعوذ بالله من هذا الكفر الأحمق ، ونحمده إذ هدانا للملّة
الزاهرة الواضحة التي تشهد سلامتها من كل دخل بأنّها من عند الله تعالى.
فصل
وبعد ذلك ، «وأسكن
في شرقيّ جنّة عدن الكروبيم ، ولهيب سيف متقلب بحراسة شجرة الحياة».
ورأيت في نسخة
أخرى منها : «ووكل بالجنان المشتهر «إسرافيل» ونصب بين يديه رمحا ناريا ليحفظ طريق
شجرة الحياة».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : إن لم يكن أحدهما خطأ من المترجم وإلا فلا أدري كيف هذا؟
فصل
عن قاتل قابيل
وبعد ذلك قال الله
تعالى : «كل من قتل قابيل يقاد به إلى سبعة». ولا تناكر بين جميعهم في أن «لامك بن
متوشائيل» بن محويائيل بن عيراد بن حنوك بن قابين «هو
__________________
الذي قتل قابين جد
جدّ أبيه ، وأنه لم يقد به ، فنسبوا إلى الله تعالى الكذب لأنه وعده أن يقيد به
إلى السبعة ولم يقد به ، وأيضا فإن ذكر السبعة هنا حمق ، لأن «لامك» الذي قتله هو
الخامس من ولد قابين ، و «قابين» هو الخامس من آباء «لامك» ، فلا مدخل للسبعة
هاهنا.
فصل
كلام التوراة عن هابيل
وقبل هذا ذكر «هابيل»
بن آدم وأنه راعي غنم ، ثم قال قبل ذلك بنحو ورقتين : «إن «لامك» المذكورة آنفا
اتخذ امرأتين اسم إحداهما «عادة» والثانية «صلة» وولدت «عادة» «يابال» وهو أول من
سكن الأخبية ، وملك الماشية.
وهاتان قضيتان
تكذب إحداهما الأخرى ولا بد.
فصل
ادعاء التوراة أن أولاد الله اتخذوا نساء
وبعد ذلك قال : «فلما
ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض وولد لهم البنات فلما رأى أولاد الله بنات آدم
أنهنّ حسان اتخذوا منهن نساء».
وقال بعد ذلك : «كان
يدخل بنو الله إلى بنات آدم ، ويولد لهم حراما ، وهم الجبابرة الذين على الدهر لهم
أسماء».
وهذا حمق ناهيك به
، وكذب عظيم إذ جعل لله أولادا ينكحون بنات آدم ، وهذه مصاهرة تعالى الله عنها ،
حتى أن بعض أسلافهم قال : إنما عنى بذلك الملائكة ، وهذه كذبة إلّا أنها دون
الكذبة الأولى في ظاهر اللفظ.
فصل
وفي خلال هذا قال
: «لا يدين روحي في الإنسان إلى الدّهر إذ هم منتشرون لزيغانه هو بشر فتكون
أعمارهم مائة وعشرون سنة».
__________________
وهذا كذب فاحش ،
ومصيبة الأبد ، لأنه ذكر بعد هذا القول أن «سام بن نوح» عاش بعد ذلك ستمائة سنة ، و
«أرفخشاذ بن سام» عاش أربعمائة وخمسا وستين سنة ، و «شالخ» بن أرفخشاذ عاش
أربعمائة سنة وثلاثا وثلاثين سنة. و «عابر» بن شالخ عاش أربعمائة سنة وأربعا وستين
سنة ، و «فالغ» بن «عابر» عاش مائتي سنة وسبعا وثلاثين سنة ، و «رعو بن فالغ» عاش
مائتي سنة وتسعا وعشرين سنة ، و «سروغ بن رعو» عاش مائتي سنة وثلاثين سنة ، و «ناحور
بن سروغ» عاش مائة وثمان وأربعين سنة ، و «تارح بن ناحور» عاش مائتي سنة وخمسين
سنة ، و «إبراهيم بن تارح» عاش مائة سنة وخمسا وسبعين سنة ، و «إسحاق بن إبراهيم»
عاش مائة سنة وثمانين سنة ، و «إسماعيل بن إبراهيم» عاش مائة سنة وسبعا وثلاثين
سنة ، و «يعقوب بن إسحاق» عاش مائة وسبعا وأربعين سنة ، و «لاوي بن يعقوب» عاش
مائة سنة وسبعا وثلاثين سنة. و «عمران بن فهث» عاش كذلك أيضا ، و «فهث بن لاوي»
عاش مائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة. وأن «سارح بنت أشر» و «مريم بنت عمران» و «هارون
بن عمران» عاش كل واحد منهم أزيد من مائة وعشرين سنة بسنيهم. فاعجبوا لهذه الفضائح
ولعقول تتابعت على التصديق والتدين بمثل هذا الإفك الذي لا خفاء به.
فصل
اضطراب التوراة في أعمار البشر
وبعد ذلك ذكر أنّ «متوشالح
بن حنوك بن مارد» عاش تسعمائة سنة وتسعا وستين سنة ، وأنه ولد له «لامك» وهو ابن
مائة سنة وسبع وثمانين سنة. وأن «لامك» المذكور إذ بلغ مائة سنة واثنين وثمانين
سنة ولد له «نوح» عليهالسلام. فلا شك من أن «متوشالح» كان إذ ولد له نوح ابن ثلاثمائة
سنة وتسع وستين سنة. فوجب من هذا ضرورة أن نوحا عليهالسلام كان ابن ستمائة سنة إذ مات «متوشالح» فاضبطوا هذا.
ثم قال : «إن في
اليوم السابع عشر من الشهر الثاني من سنة ستمائة من عمر «نوح» ، اندفعت المياه
بالطوفان». ثم قال : «إن في اليوم سبعة وعشرين يوما من الشهر الثاني من سنة إحدى
وستمائة لنوح ، خرج نوح من التابوت ـ يعني السفينة ـ وأنه فيها مات قبل خروجهم
منها بشهرين غير ثلاثة أيام ، وقد قطع فيها وبتّ على أنه لم يدخل التابوت أحد من
الناس إلّا نوح وبنوه الثلاثة وامرأة نوح ، وثلاثة نساء لأولاده ، وقد قطع فيها
وبتّ على أنه لم ينج من الغرق إنسي أصلا ولا حيوان في غير التابوت.
وهذه كذبات واضحة
نعوذ بالله من مثلها ، لأن في نصوص توراتهم كما أوردنا : أن «متوشالح» لم يغرق ،
لأنه لو غرق لم يستوف تمام السنة الموفية ستمائة سنة «لنوح». وفي نصها أنه
استوفاها. وأيضا فإنه عندهم محمود ممدوح لم يستحق الهلاك قط. وأبطلوا أيضا أن يكون
دخل التابوت إذ قطعوا بأنه لم يدخلها إنسيّ أعني السفينة إلا نوح وبنوه الثلاثة
ونساؤهم ، وأبطلوا أن ينجو في غير التابوت بقطعهم أنه لم ينج إنس ولا حيوان في غير
التابوت. ولا بد «لمتوشالح» من أحد هذه الوجوه الثلاثة ، فلاح الكذب البحت في نقل
توراتهم ضرورة. وتيقن كل ذي عقل أنها غير منزلة من الله تعالى ولا جاء بها نبي
أصلا ، لأن الله تعالى لا يكذب ، والأنبياء لا تأتي بالكذب ، فصح يقينا أنها من
عمل زنديق جاهل ، أو مستخفّ متلاعب بها. ونعوذ بالله من مثل مقالهم ، وفي هذا
الفصل كفاية فكيف ومعه أمثال كثيرة.
فصل
مباركة نوح لابنه سام
وبعد ذلك ذكر أن
نوحا إذ بلغه فعل ابنه حام أبي كنعان فقال : ملعون «كنعان» عبد العبيد يكون لإخوته
مستعبدا يكون لأخويه. يبارك الإله ساما ويكون أبو كنعان عبدا لهم ، إحسان الله «ليافث»
، ويسكن في أخبية سام ، ويكون أبو كنعان عبدا لهم. ثم نسي المحرف أو تعاظم
استخفافا بهم فلم يطل لكنه بعد ستة أسطر قال إذ ذكر أولاد حام فقال : بنو حام «كوش»
و «مصرايم» و «فوحا» و «كنعان». وبنو كوش : «وصبان» و «زويلة» و «رغاوة» و «رعمة» و
«سفتخا». وبنو «رعمة» : «السند» و «الهند» و «كوش ولد نمرود» الذي ابتدأ يكون
جبارا في الأرض الذي كان جبار صيد بين يدي الله عزوجل ، وكان أول مملكته «بابل». فحصل من هذا الخبر تكذيب نوح في
خبره ، وهو بإقرارهم نبي معظم جدّا. وإذ وصف أن ولد أبي كنعان صاروا ملوكا على
إخوة بني كنعان وعلى بنيهم ، ثم العجب كله أن على ما توجبه توراتهم كان ملك نمروذ
بن كوش بن كنعان بن حام على جميع الأرض ونوح حي ، وسام بن نوح حي ، لأن في نص
توراتهم أن نوحا عاش إلى أن بلغ إبراهيم بن تارح عليهالسلام ثمانية وخمسين عاما. وأن سام بن نوح عاش إلى أن بلغ يعقوب
وعيصا ابنا إسحاق بن إبراهيم عليهماالسلام خمسا وأربعين سنة ، على ما ذكره من مواليدهم أبا فأبا.
فما لنا نرى خبر
نوح معكوسا؟ فإن قالوا : إنّ السودان تملكوا اليوم قلنا وفي
السودان ملك عظيم
جدّا ، وممالك شتى «كخانة» و «الحبشة» و «النوبة» و «الهند» و «التبت» والأمر
بينهم سواء يملكون طوائف من بين سام كما يملك «بنو سام» طوائف منهم ، وحاش لله أن
يكذب نبي.
فصل
اضطراب التوراة في أعمار أبناء نوح
وقالت توراتهم :
إن نوحا لما بلغ خمسمائة سنة ، ولد له «يافث وسام وحام» ثم ذكرت أن نوحا إذ بلغ
ستمائة سنة كان الطوفان ، ولسام يومئذ مائة سنة. وقالت بعد ذلك : إن «سام بن نوح»
لما كان ابن مائة سنة ولد «أرفخشاذ» لسنتين بعد الطوفان ، وهذا كذب فاحش ، وتلون
سمج ، وجهل مظلم ، لأنه إذا كان نوح إذ ولد له «سام» ابن خمسمائة سنة ، وبعد مائة
سنة كان الطوفان ، فسام حينئذ ابن مائة سنة ، وإذ ولد له بعد الطوفان بسنتين «أرفخشاذ»
فسام كان إذ ولد له «أرفخشاذ» ابن مائة سنة وسنتين. وفي نص توراتهم أنه كان ابن
مائة سنة ، وهذا كذب لا خفاء به حاش لله من مثله.
فصل
التوراة وتشريد نسل إبراهيم عليهالسلام
وبعد ذلك : أن
الله تعالى قال لإبراهيم : اعلم علما أنه سيكون نسلك غريبا في بلد ليس له ،
ويستعبدونهم ويعذبونهم أربعمائة سنة ، وأيضا القوم الذين يعذبونهم يحكم لهم ...
وبعد ذلك يخرجون بسرح عظيم وأنت تسير لآبائك بسلام وتدفن بشيبة صالحة ، والجيل
الرابع من البنين يرجعون إلى هاهنا.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل على قلته كذبتان فاحشتان شنيعتان منسوبتان إلى الله
تعالى ، وحاش لله من الكذب والخطأ.
__________________
فأحدهما قوله : «والجيل
الرابع من البنين يرجعون إلى هاهنا».
وهذا كذب فاحش لا
خفاء به ، لأن الجيل الأول من بني إبراهيم عليهمالسلام هم «إسحاق» وإخوته عليهمالسلام ، والجيل الثاني هم : «يعقوب وعيصا» وبنو أعمامهما ،
والجيل الثالث : أولاد يعقوب لصلبه ، وهم «دوبان» و «شمعون» و «يهوذا» و «لاوي» و
«ساخار» و «زابلون» و «يوسف» و «بنيامين» و «داي» و «هباد» و «عاذ» و «أشاد»
وأولاد «عيصا» ، ومن كان في تعدادهما من سائر عقب إبراهيم ، والجيل الرابع : هم
أولاد هؤلاء المذكورين ، وهم الجيل الثالث آباؤهم ، ويعقوب جدهم هم الداخلون مصر
لا الخارجون منها بنص توراتهم وإجماعهم كلهم بلا خلاف من أحد منهم. وإنما رجع إلى
الشام بنص توراتهم وإجماعهم كلهم الجيل السادس من أبناء إبراهيم ، وهم أولاد الجيل
الرابع المذكور ، وما رجع من الجيل الرابع ولا من الجيل الخامس ولا واحد إلى
الشام. وحاش لله من أن يكذب في خبره.
فإن قيل : إنما
تعد الأجيال من الجيل المعذب قلنا : هذا خلاف نص توراتهم ، لأن نصها : «الجيل
الرابع من الأبناء».
وأيضا : فإنه لم
يعذّب أحد من أولاد يعقوب بل كانوا مبرورين ، وهم الجيل الثالث بنص توراتهم حرفا
حرفا ، على ما نورد بعد هذا إن شاء الله تعالى.
إنما ابتدأ
التعذيب في أبناء يعقوب ، وهم الداخلون مع آبائهم ، وهم الجيل الرابع ، فعدّ من
حيث شئت لست تخرج من شرك الكذب الفاضح وفي هذا كفاية.
والكذبة الثانية :
طامة من الطامات ، وهي قوله لإبراهيم : «إن نسلك سيكون غريبا ، في بلد ليس له ،
ويستعبدونهم أربعمائة سنة وبعد ذلك يخرجون».
فهذه سوءة وعار
الدهر ، لأنه إذا عذب الأربعمائة سنة من وقت بدأ بتعذيب بني إسرائيل بمصر ، فإنما
ذلك بعد موت يوسف عليهالسلام إلى أن خرج بهم موسى عليهالسلام نصا ، إذ في سياق توراتهم :
«ولما مات يوسف
وجميع إخوته وذلك الجيل كله ، كثر بنو إسرائيل وتكاثروا وتقوّوا ، فملكوا الأرض ،
وولي عند ذلك بمصر ملك جديد لم يعرف يوسف فقال لأهل مملكته : إن بني إسرائيل قد
كثروا ، وصاروا أقوى منا فأذلّوهم بيننا لئلا يزدادوا كثرة ويكونوا عونا لمن رام
محاربتنا فقدّم عليهم أصحاب صناعته لسخرتهم».
هذا نص توراتهم
شاهدة بما قلنا. وقد ذكر في توراتهم إذ ذكر من دخل مع
«يعقوب» من ولده ،
وولد ولده : أن «فاهث» بن لاوي بن يعقوب والد عمران بن «فاهث» وهو جد موسى عليهالسلام ـ كان ممن ولد
بالشام ودخل مصر مع أبيه «لاوي» وجده «يعقوب» ـ وذكر فيها أيضا : أن جميع عمر «فاهث»
المذكور ابن لاوي كان مائة سنة وثلاثا وثلاثين سنة ، وأن جميع عمر «عمران بن فاهث»
المذكور كان مائة سنة وسبعا وثلاثين سنة. وذكر فيها نصا : «أن موسى عليهالسلام كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر ابن ثمانين سنة».
هذا كله نص
توراتهم حرفا بحرف بإجماع منهم أولهم عن آخرهم ، فهبك أن «فاهاث» كان إذ دخلها ابن أقل من شهر ، وأن «عمران» ولد له سنة
موته ، وأن «موسى» ولد لعمران سنة موته. فالمجتمع من هذا العدد كله ثلاثمائة سنة
وخمسون سنة ، وهذه كانت مدتهم بمصر من يوم دخولها إلى أن خرجوا منها على هذا
الحساب فأين الأربعمائة سنة؟ فكيف ولا بد أن يسقط سن «فاهاث» إذ دخل مصر مع أبيه «لاوي»
والمدة التي كانت من ولادة «عمران» لفاهث إلى موت «فاهث» والمدة التي كانت من
ولادة «موسى» عليهالسلام إلى موت أبيه «عمران».
وفي كتب اليهود :
أن «فاهث» دخل مصر وله ثلاث سنين ، وأنه كان إذ ولد له «عمران» ابن ستين سنة ، وأن
«عمران» كان إذ ولد له موسى عليهالسلام ابن ثمانين سنة.
فعلى هذا لم يكن
بقاء بني إسرائيل بمصر مذ دخلوها مع «يعقوب» إلى أن خرجوا منها مع موسى إلا مائتي
عام وسبعة عشر عاما فأين الأربعمائة عام؟
فكيف ولا بد أن
يسقط من هذا العدد الأخير مدة حياة يوسف مذ دخل إخوته وأبوهم وبنوهم مصر إلى أن
مات يوسف عليهالسلام؟
فطول هذا الأمد لم
يكونوا مستخدمين ، ولا معذبين ، ولا مستعبدين بل كانوا أعزّاء مكرّمين.
وفي نصّ توراتهم
أن يوسف عليهالسلام كان إذ دخل على فرعون ابن ثلاثين سنة ، ثم كانت سنو الخصب
سبع سنين ، وبدأت سنو الجوع ودخل يعقوب ونسله مصر بعد سنتين من سني الجوع ، فليوسف
حينئذ تسع وثلاثون سنة.
__________________
وفي نص توراتهم :
أن يوسف كان إذ مات ابن مائة سنة وعشر سنين ، فصح أن مدّتهم مذ دخلوا مصر إلى أن
مات يوسف عليهالسلام كانت إحدى وسبعين سنة فقط ولا بد ، فالباقي مائة سنة وست
وأربعون سنة يسقط منها ولا بد بنص توراتهم مدة بقاء من بقي من إخوة يوسف بعده ،
ولم نجد من ذلك إلّا عمر «لاوي» فقط على نص التوراة كان يزيد على يوسف ثلاثة أعوام
أو أربعة ، فعاش بعد يوسف ثلاثة وعشرين عاما فقط تسقط ولا بد من هذا العدد ،
فالباقي مائة سنة وثلاث وعشرون سنة ، هذه مدة عذابهم واستخدامهم واستعبادهم على
أبعد الأعداد ، وقد تكون أقل ، فأين الأربعمائة سنة؟!
ولعل وقاح الوجه
أن يقول : ما أعدّ ذلك إلّا من دخول يوسف مصر مستعبدا مستخدما معذبا ثم مسجونا ،
فاعلم أنه لا يزيد على المائتي عام وسبعة عشر عاما التي ذكرنا قبل إلا اثنين
وعشرين عاما فقط. فذلك مائتا عام وتسعة وثلاثون عاما. فأين الأربعمائة سنة؟ فظهر
الكذب المفضوح الذي لا يدرى كيف خفي عليهم جيلا بعد جيل.
ورأيت لنذل منهم
مقالة ظريفة ، وهي أنه ذكر هذه القصة وقال : إنما ينبغي أن تعد هذه الأربعمائة سنة
من حين خاطب الله عزوجل إبراهيم بهذا الكلام.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأراد هذا الساقط الخروج من مزبلة فوقع في كنيف عذرة لأنه جاهر
بالباطل وتعجل الفضيحة ونسبة الكذب إلى الله تعالى. إذ نص ما حكوه عن الله تعالى
أنه قال لإبراهيم :
«إنّ نسلك يستعبد
أربعمائة سنة». ولم يقل له قط «من الآن إلى انقضاء استخدامهم أربعمائة سنة». وأيضا
فإنّ نص توراتهم : أن الله تعالى إنما قال هذا الكلام لإبراهيم قبل ولادة إسماعيل
هذا أيضا فكان إبراهيم حينئذ ابن أقل من ستة وثمانين عاما ثم عاش بعد ذلك أربعة
عشر عاما وولد له إسحاق ، وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات إسحاق وليعقوب مائة
وعشرون سنة ، ودخل يعقوب مصر وله مائة وثلاثون سنة ، كل هذا نصوص توراتهم بلا
اختلاف منهم ، فمات إسحاق قبل دخول يعقوب مصر بعشرة أعوام فمن حين ادعوا أن الله
تعالى قال هذا الكلام لإبراهيم إلى دخول يعقوب مصر مائتا عام وأربعة أعوام ، ومن
دخول يعقوب مصر إلى خروج موسى عنها كما ذكرنا مائة عام وسبعة عشر عاما ، فحصلنا
على أربعمائة عام وأربعة وعشرين عاما فلا منجى من الكذب إما بزيادة أو نقصان ،
وحاش لله أن يكذب في حساب بدقيقة فكيف بأعوام؟ والله خالق الحساب ومعلمه عباده ،
ومعاذ الله أن
يكذب موسى عليهالسلام أو يخطئ فيما أوحى الله تعالى به ، فوضح لكل من له أدنى
فهم وضوحا يقينيّا كما أن أمس قبل اليوم ـ أنها ليست من عند الله تعالى ، ولا من
أخبار نبي ولا من تأليف عالم يتقي الكذب ، ولا من عمل من يحسن الحساب ، ولا يخطئ
فيما لا يخطئ فيه صبي يحسن الجمع والطرح والقسمة والتسمية ، ولكنها بلا شك من عمل
كافر مستخف ماجن سخر بهم ، وتطايب عليهم ، وكتب لهم ما سخّم الله به وجوههم عاجلا في الدنيا بالفضيحة ، وآجلا في
الآخرة بالنار والخلود فيها ، أو من عمل تيس أرعن تكلف إملاء ما لم يقم بحفظه جاهل
مع ذلك مظلم الجهل بالهيئة وصفة الأرض وبالحساب وبالله تعالى وبرسله عليهمالسلام ، فأملى ما خرج إلى فهمه من خبيث وطيب ، ولقد كان في هذا
الفصل كفاية لمن نصح نفسه لو لم يكن غيره فكيف ومعه عجائب جمة؟ ونحمد الله تعالى
على نعمة الإسلام كثيرا.
فصل
ادعاء التوراة بأن نسل إبراهيم يملكون من النيل إلى الفرات
وبعد ذلك أن الله
تعالى قال لإبراهيم عليهالسلام :
«لنسلك أعطي هذا
البلد من نهر مصر النهر الكبير إلى نهر الفرات». وهذا كذب وشهرة من الشهر ، لأنه إن كان عنى بني إسرائيل ، وهكذا يزعمون ،
فما ملكوا قط من نهر مصر ، ولا على نحو عشرة أيام منه شبرا مما فوقه ، وذلك من
موقع النيل إلى قرب بيت المقدس ، وفي هذه المسافة الصحارى المشهورة الممتدة ،
والحضار ، ثم «رفح» و «غزة» و «عسقلان» و «جبال
__________________
الشراة» التي لم تزل تحاربهم طول مدة دولتهم ، وتذيقهم الأمرين إلى
انقضاء دولتهم ، ولا ملكوا قط من الفرات ولا على عشرة أيام منه ، بل بين آخر حوز
بني إسرائيل إلى أقرب مكان من الفرات إليهم نحو تسعين فرسخا فيها «قنسرين» و «حمص» التي لم يقربوا منها قط ، ثم «دمشق» و «صور» و «صيدا» التي لم يزل أهلها يحاربونهم ، ويسومونهم الخسف طول مدة
دولتهم بإقرارهم ونصوص كتبهم ، وحاش لله عزوجل أن يخلف وعده في قدر دقيقة من سرابه فكيف في تسعين فرسخا
في الشمال ونحوها في الجنوب.
ثم قوله : «النهر
الكبير» وما في بلادهم التي ملكوا نهر يذكر إلا الأردن وحده ، وما هو بكبير ، إنما
مسافة مجراه من بحيرة الأردن إلى مسقطه في البحيرة المنتنة نحو ستين ميلا فقط. فإن قال قائل : إنما عنى الله بهذا
الوعد بني إسماعيل عليهالسلام ، قلنا : وهذا أيضا خطأ ، لأن هذا القدر المذكور هاهنا من
الأرض أقل من جزء من مائة جزء مما ملّك الله عزوجل بني إسماعيل عليهالسلام. وأين يقع ما بين مصب النيل عند «تنّيس» وبين الفرات ، و «كابل»
مما يلي بلاد الهند ، ومن ساحل اليمن إلى ثغور «أرمينية» و «أذربيجان» فما
بين ذلك والحمد لله رب العالمين.
فكيف وهذه الدعوى
باطلة لأن ذلك الكلام بعضه معطوف على بعض ،
__________________
فالموعودون بملك
ذلك البلد هم المتوعدون بأنهم يمتلكون ويعذبون في البلد الآخر. وقد أكرم الله
تعالى بني إسماعيل وصانهم عن ذلك فوضح الكذب الفاحش في الأخبار المذكورة ، وصح أنه
ليس من عند الله عزوجل ، ولا من كلام نبي أصلا بل من تبديل وغد جاهل كالحمار
بلادة ، أو متلاعب بالدين وفاسد المعتقد ونعوذ بالله من الخذلان.
فصل
إخراج إبراهيم من أتون الكردانيين إلى بلد آمن
ومنها أن الله
تعالى قال لإبراهيم :
«أنا الله أخرجتك
من أتون الكردانيين لأعطيك من هذا البلد حوزا. فقال له إبراهيم : يا رب بما ذا
أعرف أني أرث هذا البلد؟».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : حاش لله أن يقول إبراهيم عليهالسلام لربه هذا الكلام ، فهذا كلام من لم يثق بخبر الله عزوجل حتى طلب على ذلك برهانا. فإن قال قائل جاهل : ففي القرآن
قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى) [سورة البقرة : ٢٦٠]
وأن زكريا قال لله تعالى إذ وعده بابن يسمى «يحيى» : (رَبِّ اجْعَلْ لِي
آيَةً) [سورة آل عمران :
٤١]. قلنا : بين المراجعات المذكورة فرق كما بين المشرق والمغرب ، أما طلب إبراهيم
عليهالسلام رؤية إحياء الموتى فإنما طلب ذلك ليطمئن قلبه المنازع له
إلى رؤية الكيفية في ذلك فقط.
بيان ذلك قوله
تعالى له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ
قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) [سورة البقرة :
٢٦٠] فوضح أن إبراهيم لم يطلب ذلك برهانا على شك أزاله عن نفسه ، لكن ليرى الهيئة
فقط. وأما زكريا عليهالسلام فإنما طلب آية تكون له عند الناس لئلا يكذّبوه ، هذا نص
كلامه ، والذي ذكروه عن إبراهيم عليهالسلام كلام شاكّ يطلب برهانا يعرف به صحة وعد ربه له. تعالى الله
عن ذلك ، وحاش لإبراهيم منه.
فصل
التقاء إبراهيم بالملائكة عليهمالسلام
وبعد ذلك قال :
«وتجلّى الله
لإبراهيم عند بلّوطات ممرا وهو جالس عند باب الخباء عند حمى
النهار ، ورفع
عينيه ونظر فإذا بثلاثة نفر وقوف أمامه فنظر وركض لاستقبالهم عند باب الخباء وسجد
على الأرض ، وقال : يا سيدي ، إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ
قليل من ماء ، واغسلوا أرجلكم ، واستندوا تحت الشجرة ، وأقدم لكم كسرة من الخبز
تشتد بها قلوبكم وبعد ذلك تمضون ، فمن أجل ذلك مررتم على عبدكم فقالوا : اصنع كما
قلت ، فأسرع إبراهيم إلى الخباء إلى سارة ، وقال لها : اصنعي ثلاث صيعان من دقيق
سميذ ، اعجنيه واصنعي خبز ملّة ، وحضر إبراهيم إلى البقر ، وأخذ عجلا رخيصا سمينا ودفعه للغلام واستعجل بإصلاحه ، وأخذ سمنا ولبنا ،
والعجل الذي صنعوه وقدّم بين أيديهم وهو واقف عليهم تحت الشجرة وقال : كلوا».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل آيات من البلاء شنيعة نعوذ بالله من قليل الضلال وكثيرة.
فأوّل ذلك إخباره
أن الله تعالى تجلّى لإبراهيم وأنه رأى الثلاثة النفر فأسرع إليهم وسجد وخاطبهم
بالعبودية ، فإن كان أولئك الثلاثة هم الله فهذا هو التثليث بعينه بلا كلفة بل هو
أشد من التثليث ، لأنه إخبار بشخوص ثلاثة والنصارى يهربون من التشخيص ، وقد رأيت
في بعض كتب النصارى الاحتجاج بهذه القضية في إثبات التثليث ، وهذا كما ترى في غاية
الفضيحة. وإن كان أولئك الثلاثة ملائكة وهكذا يقولون فعليهم في ذلك أيضا فضائح
عظيمة ، وكذب فاحش من وجوه.
أولها : من المحال
والكذب أن يخبر بأن الله تعالى تجلّى له ، وإنما تجلّى له ثلاثة من الملائكة.
وثانيها : أنه
يخاطب أولئك الملائكة بخطاب الواحد ، وهذا مما يزيد في ضلال النصارى في هذا الفصل
، وهذا أيضا محال في الخطاب.
وثالثها : سجوده
للملائكة فإنّ من الباطل أن يسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخليله لغير الله تعالى ولمخلوق مثله ، فهذه كذبة. وإن
قالوا بل لله سجد فهذه كذبة ولا بد ، أو يكون الله عندهم هم الثلاثة المتجلون. لا
بدّ من إحداها ، وعادت البلية أشد ما كانت.
__________________
ورابعها : خطابه
لهم بأنه عبدهم ، فإن كان المخاطب بذلك هو الله تعالى وهو المتجلي له فقد عادت
البلية ، وإن كان المخاطبون بذلك الملائكة فحاش لله أن يخاطب إبراهيم عليهالسلام بالعبودية غير الله تعالى ومخلوقا مثله ، مع أن من المحال
أن يخاطب ثلاثة بخطاب واحد.
وخامسها : قوله : «يؤخذ
قليل من ماء ويغسل أرجلكم ، وأقدم كسرة من الخبز تشتد بها قلوبكم».
فهذه الحالة لئن
كان خاطب بهذا الخطاب الله تعالى فهي التي لا سوى لها ولا بقية بعدها ، والتي تملأ
الفم ، وإن كان خاطب بذلك الملائكة فهذا أكذب ، لأن إبراهيم عليهالسلام لا يجهل أن الملائكة لا تشتد قلوبهم بأكل كسر الخبز. فهذه
على كل حال كذبة باردة سمجة. فإن قالوا : ظنهم ناسا. قلنا : هذا كذب لأن في أول
الخبر يخبر أن الله تجلّى له ، وكيف يسجد إبراهيم ويتعبد لخاطر طريق ؟ حاش له من هذا الضلال.
وسادسها : إخباره
أنهم أكلوا الخبز والشوى والسمن واللبن ، وحاش له أن يكون هذا خبرا عن الله تعالى
، لا ولا عن الملائكة ، أين هذا الكذب البارد الفاضح الذي يشبه عقول اليهود
المصدقين به من الحق المنير الواضح عليه ضياء اليقين من قول الله عزوجل في هذه القصة نفسها :
(وَلَقَدْ جاءَتْ
رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ
جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ
لُوطٍ) [سورة هود : ٦٨ ـ
٧٠].
هيهات نور الحق من
ظلمات الكذب! والحمد لله رب العالمين كثيرا.
وفيها أيضا وجه
سابع ليس كهذه الوجوه في الشناعة : وهو إقرارهم بأن إبراهيم أطعم الملائكة اللحم
واللبن والسمن معا. والربانيون منهم يحرّمون هذا اليوم. فأقل ما فيه النسخ على أن
يكون سلامته من أطم الدّواهي ، والسلامة والله منهم بعيدة.
فصل
بشرى إبراهيم بإنجاب ولد
ثم قال متصلا بهذا
الفصل : «وقالوا له : أين سارة زوجتك؟ فقال : ها هي ذه في
__________________
الخباء. قال :
سأرجع إليك مثل هذا الوقت من قابل ويكون لها ابن ، وسارة تسمع في الخباء وهو وراءها
، وكان إبراهيم وسارة شيخين قد طعنا في السن ، وانتهى لسارة أن لا يكون لها عادة
كالنساء فضحكت سارة في نفسها قائلة : أبعد أن بليت يصير لي ذا وسيدي شيخ؟! قال
الله لإبراهيم : لما ضحكت سارة قائلة هل لي أن ألد وأنا عجوز وهل يخفى عن الله
أمري في هذا الوقت إذ قال عزّ من قائل : يكون لسارة ابن فجحدت سارة وقالت : لم
أضحك لأنها خافت ، وقال السيد : ليس كما تقولين بل قد ضحكت فقام القوم من ثمّ».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : عاد الخبر بين سارة وإبراهيم وبين الله عزوجل وعاد الحديث الماضي ، ثم في هذا زيادة : أن الله تعالى قال
: «إنّ سارة ضحكت» وقالت سارة : لم أضحك. فقال الله : بلى ، قد ضحكت. فهذه مراجعة
الخصوم وتعارض الأكفاء ، حاش لسارة الفاضلة المنبأة من الله عزوجل بالبشارة من أن تكذب الله عزوجل فيما يقول ، وتكذب هي في ذلك فتجحد ما فعلت ، فتجمع بين
سوأتين ، إحداهما كبيرة من الكبائر ، قد نزه الله عزوجل الصالحين عنها ، فكيف الأنبياء؟ والأخرى أدهى وأمر ، وهي
التي لا يفعلها مؤمن ولو أنه أفسق أهل الأرض لأنها كفر ، ونعوذ بالله من الضلال.
فصل
وبعد ذلك وصف أن
الملكين باتا عند لوط ، وأكلا عنده الخبز الفطير ، وأن لوطا سجد لهما على وجه
الأرض وتعبد لهما ، وقد مضى مثل هذا وأنه كذب ، وأن الملائكة لا تأكل فطيرا ، ولا
مختمرا ، وأن الأنبياء عليهمالسلام لا يسجدون لغير الله تعالى ، ولا يتعبدون لسواه.
فصل
طلب إبراهيم من ربه عدم هلاك قوم لوط جميعا
وذكر أن إبراهيم عليهالسلام قال لله عزوجل إذ ذكر له هلاك قوم لوط في كلام كثير : «أنت معاذ من أن
تصنع هذا الأمر لا تقتل الصالح مع الطالح فيكون الصالح كالطالح فأنت معاذ يا حاكم
جميع العالم من هذا».
ولم ينكر الله
تعالى عليه هذا القول. وقال بعد ذلك :
«إن الملكين قالا
للوط انظر من لك هنا من صهر بنيك وبناتك وكل ما لك في القرية أخرجهم من هذا الموضع
لأنّا مهلكون هذا الموضع».
وقال بعد ذلك : «إن
لوطا كلّم أصهاره المتزوجين بناته» وقال لهم : «اخرجوا من هذا الموضع فإنّ الله
مهلكهم ، وأنّه صار عندهم كاللاعب».
ثم قال بعد ذلك :
«إن الملائكة
أمسكوا بيد لوط وبيد زوجته وابنتيه لشفقة الله عليهم وأخرجوهم خارج القرية ، ثم
ذكر هلاك القرية بكل ما فيها».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : لا يخلو أصهار لوط وبنوه وبناته الناكحات من أن يكونوا صالحين أو
طالحين ، فإن كانوا صالحين فقد هلكوا مع الطالحين ، وبطل عقد الله تعالى مع إبراهيم
في ذلك ، وحاش لله من هذا. وإن كانوا طالحين فكيف تأمر الملائكة بإخراج الطالحين ،
وهم كانوا مبعوثين لهلاكهم؟ فلا بدّ من الكذب في أحد الوجهين ، وبالجملة فأخبارهم
معفونة جدا.
فصل
ادعاء التوراة على لوط عليهالسلام بمضاجعة ابنتيه
وبعد ذلك قال : «وأقام
لوط في المغارة هو وابنتاه فقالت الكبرى للصغرى : أبونا شيخ وليس في الأرض أحد
يأتينا كسبيل النساء ، تعالي نسق أبانا الخمر ونضاجعه ونستبق منه نسلا فسقتا
أباهما خمرا في تلك الليلة فأتت الكبرى فضاجعت أباها ولم يعلم بنومها ولا بقيامها
فلما كان من الغد قالت الكبرى للصغرى قد ضاجعت أبي أمس تعالي نسقيه الخمر هذه
الليلة وضاجعيه أنت ، ونستبقي من أبينا نسلا. فسقتاه تلك الليلة خمرا ، وأتت
الصغرى فضاجعته ولم يعلم بنومها ولا بقيامها ، وحملت ابنتا لوط من أبيهما ، فولدت
الكبرى ابنا وسمته «موآب» ، وهو أبو المؤابيين إلى اليوم ، وولدت الصغرى ابنا سمته
«عمون» وهو أبو العمونيين إلى اليوم. وفي السفر الخامس من التوراة يزعمهم أن موسى
قال لبني إسرائيل : «إن الله تعالى قال : لما انتهينا إلى صحراء بني موآب قال لي :
لا تحارب بني موآب ولا تقاتلهم فإني لم أجعل لكم فيما تحت أيديهم سهما لأني قد ورثت
بني لوط (ادوا) وجعلتها مسكنا لهم» ثم ذكر أن موسى قال لهم : «إن الله تعالى قال
له أيضا أنت تخلف اليوم حوز بني موآب المدينة التي تدعى عاد ، وتنزل في حوز بني
عمون فلا تحاربهم ، ولا تقاتل أحدا منهم فإني لم
أجعل لكم تحت
أيديهم سهما لأنهم من بني لوط ، وقد ورثتهم تلك الأرض».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذه الفصول فضائح وسوآت تقشعر من سماعها جلود المؤمنين بالله تعالى
العارفين حقوق الأنبياء عليهمالسلام.
فأولها : ما ذكر
عن بنتي لوط عليهالسلام من قولهما : «ليس أحد في الأرض يأتينا كسبيل النساء ،
تعالي نسق أبانا خمرا ، ونضاجعه ونستبق منه نسلا» فهذا كلام أحمق في غاية الكذب
والبرد ، أترى كان انقطع نسل ولد آدم كله حتى لم يبق في الأرض أحد يضاجعهما؟ إنّ
هذا لعجب فكيف والموضع معروف إلى اليوم؟ ليس بين تلك المغارة التي كان فيها لوط عليهالسلام مع بنتيه ، وبين قرية سكنى إبراهيم عليهالسلام إلّا فرسخ واحد لا يزيد ، وهو ثلاثة أميال فقط ـ فهذه
سوأة.
والثانية : إطلاق
الكذاب الواضع لهم هذه الخرافة لعنه الله ـ هذه الطومة ـ على الله عزوجل من أنه أطلق نبيّه ورسوله صلىاللهعليهوسلم على هذه الفاحشة العظيمة من وطء ابنتيه واحدة بعد أخرى.
فإن قالوا : لا
ملامة عليه في ذلك لأنه فعل ذلك وهو سكران ، وهو لا يعلم من هما ، قلنا : فكيف عمل
إذ رآهما حاملتين؟ وإذ رآهما قد ولدتا ولدين لغير رشدة؟ وإذ رآهما تربيان أولاد
الزنى؟
هذه فضائح الأبد ،
وتوليد الزنادقة المبالغين في الاستخفاف بالله تعالى وبرسله عليهمالسلام.
والثالثة :
إطلاقهم على الله تعالى أنه نسب أولاد ذينك الزنيمين فرخي الزنى إلى ولادة لوط عليهالسلام ، حتى ورثهما بلدين كما ورث بني إسرائيل وبني عيسو ابني
إسحاق سواء بسواء. تعالى الله عن هذا علوا كبيرا.
فإن قالوا : كان
مباحا حينئذ. قلنا : فقد صح النسخ الذي تنكرونه بلا كلفة. وقال قبل هذا : «إن
إبراهيم إذ أمره الله تعالى بالمسير من حران إلى أرض كنعان أخذ مع نفسه امرأته
سارة ، وابن أخيه لوط بن هاران ، وذكروا في بعض توراتهم أنه كلمته الملائكة ، وأن
الله تعالى أرسلهم إليه ، فصح بإقرارهم أنه نبي الله عزوجل ، وهم
__________________
يقولون : إنه بقي
في تلك المغارة شريدا طريدا فقيرا لا شيء له يرجع إليه. فكيف يدخل في عقل من له
أقل إيمان أن إبراهيم عليهالسلام يترك ابن أخيه الذي تغرب معه ، وآمن به ، ثم تنبأ مثله
يضيع ويسكن في مغارة مع ابنتيه فقيرا هالكا وهو على ثلاثة أميال منه؟! وإبراهيم
على ما ذكر في التوراة عظيم المال ، مفرط الغنى ، كثير اليسار من الذهب والفضة ،
والعبيد والإماء ، والجمال والبقر والغنم والحمير ، ويقولون في توراتهم : إنه ركب
في ثلاثمائة مقاتل وثمانية عشر مقاتلا لحرب الذين سبوا لوطا وماله حتى استنقذوه
وماله. فكيف يضيعه بعد ذلك هذا التضييع؟ ليست هذه صفات الأنبياء ولا كرامتهم ، ولا
صفات من فيه شيء من الخير ، لكن صفات الكلاب الذي وضعوا لهم هذه الخرافات الباردة
التي لا فائدة فيها ، ولا موعظة ، ولا عبرة حتى ضلوا بها ، ونعوذ بالله من
الخذلان.
فصل
أسر فرعون لسارة زوجة إبراهيم عليهالسلام
وفي موضعين من توراتهم
المبدّلة : أنّ سارة امرأة إبراهيم عليهالسلام أخذها فرعون ملك مصر ، وأخذها ملك الخلص أبو مالك مرة
ثانية ، وأن الله سبحانه وتعالى أرى الملكين في منامهما ما أوجب ردّها إلى إبراهيم
عليهالسلام. وذكر أن سنّ إبراهيم عليهالسلام إذ انحدر من «حران» خمسة وسبعون عاما ، وأن إسحاق ولد له وهو ابن مائة سنة ،
ولسارة إذ ولد تسعون عاما فصح أنه كان يزيد عليها عشر سنين. وذكر أن ملك الخلص
أخذها بعد أن ولدت إسحاق ـ وهي عجوز مسنة بإقرارها بلسانها إذ بشرت بإسحاق ـ فكيف
بعد أن ولدته وقد جاوزت تسعين عاما؟ ومن المحال أن تكون في هذا السن تفتن ملكا ،
وأن إبراهيم قال في كلتا المرتين هي أختي ، وذكر عن إبراهيم أنه قال للملك هي أختي
بنت أبي لكن ليست من أمي فصارت لي زوجة. فنسبوا في نص توراتهم إلى إبراهيم عليهالسلام أنه تزوّج أخته. وقد وقفت على هذا الكلام من بعض من
شاهدناه منهم ، وهو إسماعيل بن يوسف الكاتب المعروف بابن النغرالي ، فقال لي : إن
نص اللفظة في التوراة «أخت»
__________________
وهي لفظة تقع في
العبرانية على الأخت وعلى القريبة ، فقلت : يمنع من صرف هذه اللفظة إلى القريبة
هاهنا قوله : «لكن ليست من أمي وإنما بنت أبي». فوجب أنه أراد الأخت بنت الأب.
وأقل ما في هذا إثبات النسخ الذي تفرون منه. فخلط ولم يأتي بشيء.
فصل
إبراهيم عليهالسلام له أكثر من زوجة
ثم ذكرت موت سارة وقال : «تزوّج إبراهيم عليهالسلام امرأة اسمها «قطورة» وولدت له «زمران» و «يقشان» و «مدان» و
«مديان» و «يشبق» و «شوحا» وأعطى إبراهيم جميع ماله لإسحاق ، وأعطى بني الإماء
عطايا وأبعدهم عن إسحاق».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا نص الكلام كله متتابعا مرتبا ، ولم يذكر له زوجة في حياة «سارة» ،
ولا أمة لها ولد إلا «هاجر» أم إسماعيل عليهالسلام ، ولا ذكر له بعد سارة زوجة ولا أمة ، ولا ولدا غير «قطورة»
وبنيها ، وفي كتبهم أن «قطورة» هذه بنت ملك «الربذ» وهو موضع «عمان» اليوم بقرب
البلقاء ، وهذه أخبار يكذب بعضها بعضا.
فصل
ثم ذكر أن «رفقة»
بنت شوال بن تارح زوجة إسحاق عليهالسلام كانت عاقرا. قال فشفعه الله وحملت ، وازدحم الولدان في
بطنها وقالت : لو علمت أن الأمر هكذا كان يكون ما طلبته. ومضت لتلتمس علما من الله
عزوجل. فقال لها : في بطنك أمّتان وحزبان يفترقان منه ، أحدهما
أكبر من الآخر ، والكبير يخدم الصغير. فلما كانت أيام الولادة إذا بتوأمين في
بطنها وخرج الأول أحمر كله كفروة من شعر فسمي «عيسو» وبعد ذلك خرج أخوه ويده ممسكة
بعقب «عيسو» فسماه «يعقوب».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : لا مئونة على هؤلاء السفلة في أن ينسبوا
__________________
الكذب إلى الله عزوجل ، وحاش لله أن يكذب ، ولا خلاف بينهم في أن «عيسو» لم يخدم
قط «يعقوب» ، وأن بني عيسو لم تخدم قط بني يعقوب ، بل في التوراة نصا : أن «يعقوب»
سجد على الأرض سبع مرات «لعيسو» إذ رآه. وأن يعقوب لم يخاطب «عيسو» إلا بالعبودية
والتذلل المفرط وأن جميع أولاد يعقوب حاش «بنيامين» الذي لم يكن ولد بعد ـ كلهم
سجدوا لعيسو. وأن «يعقوب» أهدى لعيسو ـ مداراة له ـ خمسمائة رأس وخمسين رأسا من
إبل وبقر وحمير وضأن ومعز ، وأن يعقوب رآها منة عظيمة إذ قبلها منه ، وأن بني عيسو
لم تزل أيديهم على أقفاء بني إسرائيل من أول دولتهم إلى انقطاعها ، إما يتملكون
عليهم ، أو يكونون على السواء معهم ، وأن بني إسرائيل لم يملكوا قط أيام دولتهم
بني عيسو. فاعجبوا لهذه الفضائح أيها المسلمون ، واحمدوا الله على السلامة مما ابتلي
به غيركم من الضلال والعمى.
فصل
طلب إسحاق من ابنه عيسو أن يصيد صيدا
ثم ذكر أن إسحاق
قال لابنه «عيسو» : يا بني قد شخت ولا أعلم يوم موتي فاخرج وصد لي صيدا ، واصنع لي
منه طعاما كما أحب ، وائتني به لآكله كي تباركك نفسي قبل أن أموت ، وأن «رفقة» أم
عيسو ويعقوب ، أمرت يعقوب ابنها أن يأخذ جديين ، وتصنع هي منهما طعاما ، ويأتي
يعقوب إلى إسحاق أبيه ليأكله ويبارك عليه ، وأن يعقوب قال لأمه : إن عيسو أخي أشعر
وأنا أجرد ، لعل أبي أن يحس بي وأكون عنده كاللاعب وأجلب على نفسي لعنة لا بركة ،
فقالت له أمه : عليّ استدفاع لعنتك. وأن يعقوب فعل ما أمرته به أمه ، فأخذت هي
ثياب عيسو ابنها الأكبر وألبستها يعقوب ، وجعلت جلود الجديين على يديه وعلى حلقه ،
وأعطته الطعام. جاء به إلى أبيه : فقال له : يا أبي. فقال له إسحاق : من أنت يا
ولدي؟ قال يعقوب : أنا ابنك عيسو بكرك صنعت جميع ما قلت لي ، فاجلس وتأكل من صيدي
لتبارك عليّ. وأن إسحاق قال ليعقوب : تقدم حتى أجسّك يا بني ، هل أنت ابني عيسو أم
لا؟ فتقدم يعقوب فجسه إسحاق وقال : الصوت صوت يعقوب واليدان يدا عيسو. وقال : هل
أنت هو ابني عيسو؟ فقال : أنا. فبارك عليه وقال له في بركته تلك : تخدمك الأمم
وتخضع لك الشعوب ، وتكون مولى إخوتك ، وتسجد لك بنو أمك. ثم ذكر أن «عيسو» أتى
بالصيد إلى إسحاق ، فلما عرف إسحاق القصة قال لعيسو عن يعقوب : قد صيّرته سلطانا
وجعلت جميع إخوته
عبيدا ، فرغب إليه عيسو في أن يباركه أيضا ففعل وقال في بركته : «هو ذا بلا دسم
الأرض يكون مسكنك ، وبلا ندى السماء من فوق ، وبسيفك تعيش ، ولأخيك تستعبد ، ولكن
يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وفي هذا الفصل فضائح وأكذوبات وأشياء تشبه الخرافات.
فأول ذلك :
إطلاقهم على نبي الله يعقوب عليهالسلام أنه خدع أباه وغشه ، وهذا مبعد عمن فيه خير من أبناء الناس
مع الكفار والأعداء ، فكيف من نبي مع أبيه النبي أيضا؟ هذه سوءات مضاعفات. أين
ظلمة هذا الكذب من نور الصدق في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [سورة البقرة : ٩].
وثانية : وهي
إخبارهم أن بركة يعقوب إنما كانت مسروقة مأخوذة بغش وخديعة وتخابث. وحاش للأنبياء عليهمالسلام من هذا. ولعمري إنها لطريقة اليهود فما تلقى منهم إلّا
الخبيث المخادع إلّا الشاذ .
وثالثة : وهي
إخبارهم أن الله تعالى أجرى حكمه وأعطى نعمته على طريق الغش والخديعة. وحاشا لله
من هذا.
ورابعة : وهي التي
لا يشك أحد في أن إسحاق عليهالسلام إذ بارك يعقوب إذ خدعه ـ يزعم النذل الذي كتب لهم هذا
الهوس إنما قصد بتلك البركة عيسو وله دعا لا ليعقوب ، فأي منفعة للخديعة هاهنا لو
كان لهم عقل؟ وما أشبه هذه العقول في هذه القضية بحمق الغالية من الرافضة القائلين
: إن الله تعالى بعث جبريل إلى علي فأخطأ جبريل وأتى إلى محمد ، وهكذا بارك إسحاق
على عيسو فأخطأت البركة ومضت إلى يعقوب. فعلى كلتا الطائفتين لعنة الله. فهذه وجوه
الخبث والغش في هذه القضية.
وأمّا وجوه الكذب
فكثيرة جدّا ، من ذلك : نسبتهم الكذب إلى يعقوب عليهالسلام وهو نبي الله تعالى ورسوله في أربعة مواضع :
أولها : قوله
لأبيه إسحاق أنا ابنك «عيسو» وبكرك. فهذه كذبتان في نسق لأنه لم يكن ابنه «عيسو»
ولا كان بكره.
__________________
وثالثة : قوله
لأبيه : صنعت جميع ما قلت لي فاجلس وكل من صيدي فهذه كذبتان في نسق ، لأنه لم يكن
قال له شيئا ولا أطعمه من صيده.
وكذبات أخر : وهي
بطلان بركة إسحاق إذ قال له «تخدمك الأمم ، وتخضع الشعوب وتكون مولى إخوتك ، ويسجد
لك بنو أبيك» ـ وقوله لعيسو : «ولأخيك تستعبد» وهذه كذبات متواليات ، والله ما
خدمت الأمم قط «يعقوب» ولا بنيه بعده ، ولا خضعت لهم الشعوب ، ولا كانوا موالي
إخوتهم ، ولا سجد لهم ولا له بنو أبيه بل بنو إسرائيل خدموا الأمم في كل بلدة وفي
كل أمة ، وهم خضعوا للشعوب قديما وحديثا في أيام دولتهم وبعدها. فإن قالوا سيكون
هذا قلنا لهم :
قد حصلتم على
الصّغار قديما
|
|
والأماني بضائع
السخفاء
|
هيهات :
ترجّى ربيع أن
ستحيا صغارها
|
|
بخير وقد أعيا
ربيعا كبارها
|
لا سيما مع تقضي
جميع الآماد التي كانوا ينبئون بأنها لا تنقضي حتى يرجع أمرهم ، واعلموا أن كل أمة
أدبرت فإنهم ينتظرون من العودة ، ويمنون أنفسهم من الرجعة بمثل ما تمنّي به بنو
إسرائيل أنفسهم ، ويذكرون في ذلك مواعيد كمواعيدهم ، فأمل كأمل ولا فرق ، كانتظار
مجوس الفرس «بهرام هماوند» راكب البقرة ، وانتظار الروافض للمهدي ، وانتظار النصارى
الذين ينتظرون في السحاب ، وانتظار الصابئين أيضا لقصة أخرى ، وانتظار غيرهم
للسفياني.
تمنّ يلذ
المستهام بمثله
|
|
وإن كان لا يغني
فتيلا ولا يجدي
|
وغيظ على الأيام
كالنار في الحشا
|
|
ولكنّه غيظ
الأسير على القدّ
|
وأما قوله «تكون
مولى إخوتك ويسجد لك بنو أبيك» فلعمري لقد صح ضد ذلك جهارا ، إذ في توراتهم أن «يعقوب»
كان راعي ابن عمه «لابان» بن ناحور بن لامك وخادمه عشرين سنة ، وأنه بعد ذلك سجد
له وجميع ولده حاش من لم يكن خلق منهم بعد لأخيه «عيسو» مرارا كثيرة ، وما سجد «عيسو»
قط ليعقوب قط ولا ملك قط أحد من بني يعقوب بني عيسو ، وأن يعقوب تعبد لعيسو في
جميع خطاب له ، وما تعبد قط عيسو ليعقوب ، وسأله «عيسو» عن أولاده فقال له يعقوب :
هم أصاغر منّ الله بهم على عبدك ، وأن يعقوب طلب رضا «عيسو» وقال له : «إني نظرت
إلى وجهك كمن نظر إلى بهجة الله فارض عنّي واقبل ما أهديت إليك» ، وأن عيسو
بالحريّ قبل هدية يعقوب حينئذ ، فما نرى عيسو وبنيه إلّا موالي يعقوب وبنيه ،
وكذلك ملك بنو عيسو بإقرار
توراتهم ميراثهم
بساعير وهي جبال الشراة ، وبنو لوط ميراثهم بموآب وعمان ، قبل أن يملك بنو إسرائيل
ميراثهم بفلسطين والأردن بدهر طويل ، ثم لم يزالوا يتغلبون على بني إسرائيل أو
يساوونهم طول دولة بني إسرائيل بإقرار كتبهم ، وما ملك بنو إسرائيل قط بني عيسو ،
ولا بني لوط ، ولا بني إسرائيل بإقرارهم ، ولقد بقي بنو عيسو وبنو لوط بإقرار
كتبهم في ميراثهم بساعير وموآب وعمان بعد هلاك دولة بني إسرائيل وأخرجهم عن
ميراثهم ثم ملكهم بنو إسماعيل إلى اليوم ، فما نرى تلك البركة كانت إلّا معكوسة. ونعوذ
بالله من الخذلان ، ولكن حق البركة المسروقة المأخوذة بالخبث في زعمهم أن تخرج
معكوسة منكوسة.
فصل
ذكر خدمة يعقوب لخاله لابان
ثم ذكر أن يعقوب
إذ مضى إلى خاله «لابان بن بثوال» خطب إليه ابنته «راحيل» وقال له : أخدمك سبع
سنين في «راحيل» ابنتك الصغرى ، فقال له : «لابان» : «أن أعطيك إياها أحسن من أن
أعطيها رجلا آخر. أقم عندي».
وخدم «يعقوب» في «راحيل»
سبع سنين ، وصارت عنده أياما يسيرة في محبته لها ، وقال «يعقوب» «للابان» : أعطني
زوجتي إذ قد كملت أيامي ، فأدخل بها ، وجمع «لابان» جميع أهل الموضع وصنع وليمة ،
فلما كان بالعشي أخذ «ليئة» ابنته وزفها إليه ودخل بها ، فلما كان بالغد ورأى أنها
«ليئة» قال «للابان» : ما ذا صنعت؟ أليس في «راحيل» خدمتك؟ فلم خدعتني؟ فقال «لابان»
: لا نصنع هكذا في موضعنا : أن نزوج الصغرى قبل الكبرى ، أكمل أسبوع هذه ، وأعطيك
أيضا هذه بخدمة تخدمها سبع سنين أخرى ، وصنع «يعقوب» كذلك ، وأكمل أسبوع «ليئة»
وأعطى راحيل ابنته لتكون له زوجة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل آبدة الدهر : وهي إقرارهم أن «يعقوب» عليهالسلام تزوج «راحيل» ، فأدخلت عليه غيرها ، فحصلت «ليئة» إلى جنبه
بلا نكاح ، وولد لها منه ستة ذكور وابنة ، وهذا هو الزنى بعينه ، أخذ امرأة لم
يتزوجها بخديعة ، وقد أعاذ الله نبيه من هذه السوأة ، وأعاذ أنبياءه عليهمالسلام «موسى وهارون
وداود وسليمان» من أن يكونوا من مثل هذه الولادة ، وهذا يشهد ضرورة أنها
__________________
من توليد زنديق
متلاعب بالديانات.
فإن قالوا : لا بد
أنه قد تزوجها إذ يعلم أنها ليست التي تزوج. قلنا : فعلى أن يسمح لكم بهذا فقد دخل
بها بغير نكاح ، لأنه ذكر أنه لم يدر أنها «ليئة» إلا بالغداة ، وقد صرّح بالدخول
بها ، إلا أن يقولوا : لم يدخل بها بل علم أنها ليست «راحيل» فإن قلتم هذا كذبتم
النص في قوله «دخل بها فلما كان بالغداة» فليس لكم من الفضيحة بد ، وإن سكتّم عن
هذا فالنسخ ثابت ولا بدّ ، لأن نكاح أختين معا حرام في توراتكم ، وقد قال لي بعضهم
في هذا : لم تكن الشرائع نازلة من الله تعالى قبل موسى. فقلت : هذا كذب ، أليس في
نص توراتكم : أن الله تعالى قال لنوح عليهالسلام : «كل دبيب حي يكون لكم أكله كخضراء العشب أعطيتكم ، لكن
اللحم بدمه لا تأكلوه ، وأمّا دماؤكم في أنفسكم فسأطلبها».
فهذه شريعة إباحة
وتحريم قبل موسى عليهالسلام.
فصل
عودة يعقوب من رحلته
وبعد ذلك ذكر أن «يعقوب»
رجع من عند خاله «لابان» بنسائه وأولاده قال : ولما أصبح أجاز امرأتيه وجاريته
وأحد عشر من ولده المخاضة ، وبقي وحده ، وصارعه رجل إلى الصبح ، فلما عجز عنه ضرب
حقّ فخذه فانخلع حقّ فخذ يعقوب في مصارعته معه ، وقال له خلّني لأنه قد طلع الفجر
، قال : لست أدعك حتى تبارك عليّ ، فقال له كيف اسمك؟ قال : «يعقوب». قال له : لست
تدعى من اليوم «يعقوب» بل «إسرائيل» من أجل أنك كنت قويا على الله ، فكيف على
الناس؟ فقال له «يعقوب» : عرفني باسمك. فقال له : لم تسألني عن اسمي؟ وبارك عليه
في ذلك الموضع ، فسمّى يعقوب ذلك الموضع «فنيئيل» وقال : رأيت الله تعالى مواجهة
وسلمت نفسي ، وبزغت له الشمس بعد أن جاوز «فنيئيل» وهو يعرج من رجله ولهذا لا يأكل
بنو إسرائيل العقب الذي على حقّ الفخذ إلى اليوم ، لأنه ضرب حق فخذ يعقوب لمسّ
الله وانقباضه.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل شنعة عفت على كل ما
__________________
سلف يقشعر منها
جلود أهل العقول ، وبالله العظيم لو لا أن الله عزوجل قصّ علينا كفرهم بقولهم (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) [سورة المائدة :
٦٤] وبقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ
وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [سورة آل عمران :
١٨١] لما نطقت ألسنتنا بحكاية هذه العظائم ، لكنا نحكيه منكرين له ، كما نتلوه
فيما نصّه عزوجل تحذيرا من إفكهم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ذكر في هذا المكان أن يعقوب صارع الله عزوجل تعالى الله عن ذلك ، وعن كل شبهة لخلقه ، فكيف عن لعب
الصراع الذي لا يفعله إلّا أهل البطالة؟! وأما أهل العقول فلا يفعلونه لغير ضرورة.
ثم لم يكتفوا بهذه الشوهة حتى قالوا : إن الله عزوجل عجز عن أن يصرع «يعقوب» بنص كلام توراتهم ، وحقق ذلك قولهم
عن الله تعالى أنه قال له : «كنت قويا على الله تعالى فكيف على الناس؟!».
ولقد أخبرني بعض
أهل البصر بالعبرانية أنه لذلك سمّاه إسرائيل. و «إيل» بلغتهم هو اسم الله تعالى
بلا شك ولا خلاف. فمعناه «إسر الله» تذكيرا بذلك الضبط الذي كان بعد المصارعة ، إذ
قال له : دعني. فقال له «يعقوب» : لا أدعك حتى تبارك عليّ. ولقد ضربت بهذا الفصل
وجوه المتعرضين منهم للجدال في كل محفل ، فثبتوا على أن نصّ التوراة أن «يعقوب»
صارع «ألوهيم» وقال : إن لفظ «ألوهيم» يعبر بها عن الملك ، فإنما صارع ملكا من
الملائكة. فقلت لهم : سياق الكلام يبطل ما تقولون ضرورة أن فيه : «كنت قويا على
الله فكيف على الناس؟!». وفيه أن «يعقوب» قال : «رأيت الله مواجهة وسلّمت نفسي»
ولا يمكن البتة أن يعجب من سلامة نفسه إذ رأى الملك! ولا يبلع من مسّ الملك ـ كما
نصّ يعقوب ـ أن يحرّم على بني إسرائيل أكل عروق الفخذ إلى الأبد من أجل ذلك. وفيه
: أنه سمّى الموضع بذلك «فنيئيل» لأنه قابل فيه «إيل» وهو الله عزوجل بلا احتمال عندكم.
ثم لو كان ملكا ـ
كما تدعون عن المناظرة ـ لكان أيضا من الخطأ تصارع نبي وملك لغير معنى. فهذه صفة
المتحدين في العنصر لا صفة الملائكة والأنبياء.
فإن قيل : قد
رويتم أنّ نبيكم صارع «ركانة بن عبد يزيد» . قلنا : نعم لأن «ركانة» كان من القوة بحيث لا يجد أحدا
يقاومه في جزيرة العرب ولم يكن رسول الله صلىاللهعليهوسلم موصوفا بالقوة الزائدة فدعاه إلى الإسلام فقال له : إن
صرعتني آمنت بك ، ورأى أن هذا من المعجزات فأمره عليهالسلام بالتأهب لذلك ، ثم صرعه للوقت وأسلم
__________________
«ركانة» بعد مدة.
فبين الأمرين فرق ، كما بين العقل والحمق ، ولكل مقام مقال ، ولكن إذا أكل
الملائكة عندكم كسر الخبز حتى تشتد بها قلوبهم ، والشواء واللبن والسمن والفطائر ،
فما ينكر بعضهم للصراع مع الناس في الطرقات!! وهذه مصائب شاهدة بضلالهم وخذلانهم
وصحة اليقين بأن توراتهم مبدّلة.
فصل
الفصل المذكور أن
الله تعالى قال ليعقوب : «لست تدعى من اليوم يعقوب لكن إسرائيل».
ثم في السفر
الثاني من توراتهم : قال الله تعالى : «قل لآل يعقوب وعرف بني إسرائيل». فقد سماه
بعد ذلك «يعقوب» وهذه نسبة الكذب إلى الله تعالى.
فصل
ثم قال : وبينا «إسرائيل»
بذلك الموضع ضاجع رؤوبين بن ليئة سريّة أبيه «بلهة» وهي أم «دان» ، و «نفثالي»
وهما أخواه وابنا يعقوب ثم أكد هذا بأن ذكر في قرب آخر السفر الأول ذكر موت «يعقوب»
عليهالسلام ، ومخاطبته لبنيه ابنا ابنا ، وأن يعقوب قال «لرءوبين»
ابنه : «إنك صعدت على سرير أبيك ، ووسخت فراشه ، وليس مما ابتذلت فراشي تخلص».
بعد أن ذكر في
توراتهم : «أن شكيم بن حمور الحوي» أخذ «دينة» بنت يعقوب عليهالسلام ، واضطجع معها وأذلها ، ثم بعد ذلك خطبها إلى «يعقوب»
أبيها ، إلى أن ذكر قتل «لاوي» و «شمعون» لحمور وشكيم ابنه ، وجميع أهل مدينته ،
وإنكار «يعقوب» على ابنيه قتلهما لهم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : معاذ الله أن يخذل الله نبيه ولا يعصمه في حرمة امرأته وابنته من هذه
الفضائح ، ثم لا ينكر ذلك بأكثر من التعزير الضعيف فقط.
فصل
بعد ذلك قال : «وأولاد
يعقوب اثنا عشر فأولاد ليئة : رؤوبين بكر يعقوب ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ،
ويساخر ، وزبولون ، وأبناء راحيل : يوسف وبنيامين. وابنا بلهة أمة راحيل : دان ،
ونفثالي. وابنا زلفة أمة ليئة : جادا وأشير. هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا له بفدان
آرام».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا كذب ظاهر ، لأنه ذكر قبل : أنّ بنيامين لم يولد ليعقوب إلّا «بأقراشا»
بقرب بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس بعد رحيله من «فدان آرام» بدهر. والله
تعالى لا يتعمد الكذب ولا ينسى هذا النسيان.
فصل
محبة يعقوب لابنه يوسف عليهالسلام
وبعد ذلك قال : «وكان
إسرائيل يحب يوسف لأنه كان ولد له في شيخوخته».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه العلة توجب محبة بنيامين لأنه ولد له بعد يوسف بأزيد من ست سنين
بنص توراتهم. وتوجب مشاركة «يساكر» و «زبولون» في المحبة ليوسف لأنه ذكر قبل هذا
أن يعقوب قال «للابان» خاله : «خدمتك عشرين سنة من ذلك أربع عشرة سنة لابنتيك وست
سنين لأدواتك» وذكر أن بعد سنين أعطاه «ليئة» ، وبعد سبعة أيام أعطاه «راحيل» ، لم
يكن بينهما إلا سبعة أيام وهو أسبوع «ليئة» فقط ، وأن «ليئة» ولدت له «رؤوبين» ثم «شمعون»
ثم «لاي» ثم «يهوذا» ثم قعدت عن الولد. وأنّ «راحيل» أعطت بعد ذلك يعقوب أمتها «بلهة»
فتزوجها فولدت له «دانا» ثم «نفثالي» ثم أعطت «ليئة» أمتها «زلفة» ليعقوب فتزوجها
فولدت له «جادا» ثم «أشير» ثم أطلقت له «راحيل» مماسة «ليئة» في لفّاح أخذته منها
فولدت له «راحيل» «يوسف» ثم بعد ولادة «يوسف» ابتدأ «يعقوب» بمعاملة خاله «لابان»
على أجرة ذكرها لرعاية غنمه فرعاها له ست سنين ، هذا كله نص توراتهم ، فصح أنّ «يوسف»
كان له عند تمام الست سنين ست سنين فقط بلا شك. وأن جميع أولاد يعقوب حاشا بنيامين
فإنما ولدوا ولا بدّ في السبع سنين التي كانت قبل الست سنين المذكورة بلا شك.
والأولاد سبعة ، ففي كل عشرة أشهر ولدت ولدا لا يمكن أقل من هذا فلا شك في أن «زبولون»
لا يزيد على «يوسف» إلّا سنة واحدة فقط ، ولا يزيد عليه «يساكر» إلا سنتين فقط ،
وأقل من هذا على أن تلغى المدة التي ذكرنا أن «ليئة» قعدت فيها عن الولد ، والمدة
التي اعتزلها فيها «يعقوب» ولا بدّ أن لها مقدارا ما. فعلى هذا «فزبولون» و «يوسف»
ولدا معا ، والمدة المذكورة تضيق عن هذه القسمة. ففي هذا الخبر كذب مقطوع به ضرورة
ولا بدّ. ولا يجوز قليل الكذب ولا كثيره على الله تعالى ، ولا على الأنبياء. فصح
أنها مفتعلة مبدلة ولو كان لهذا الخبر وجه وإن غمض ، ومخرج وإن بعد ، أو أمكنت فيه
حيلة أو ساغ فيه تأويل ما ذكرناه. ونسأل الله تعالى العافية.
وفي توراتهم عند
ذكر أولاد «عيسو» خبال شديد ، وتخليط في الأسماء والوالدات ، إلّا أنه ربما خرّج
على وجوه بعيدة ضعيفة ، فلم نعتن بإيراده لذلك. ولكن نبهنا عليه فالأظهر الأغلب
فيه الكذب وأنه إيراد جاهل بتلك القضية بلا شك. وبالله تعالى نستعين.
فصل
ذكر بيع يوسف عليهالسلام
ثم ذكر بيع إخوة
يوسف ليوسف ، وأن إخوته كانوا مجتمعين حينئذ يرعون أذوادهم. ثم قال : «وفي ذلك
الزمان اعتزل «يهوذا» عن إخوته وكان مع رجل من أهل «عدلّام» يدعى اسمه «حيرة» فبصر
في ذلك الموضع بابنة رجل كنعاني اسمه «شوع» فتزوجها وضاجعها فحملت وولدت ولدا اسمه
«عيرا» ثم حملت ووضعت ثانيا وسماه «أونان» ، ثم حملت ووضعت ثالثا وسمته «شيلة» ثم
أمسكت عن الولد فزوج «يهوذا» «عيرا» بكر ولده امرأة ، وكان «عيرا» بكر «يهوذا»
مذنبا بين يدي السيد ، ولذلك قتل. فقال «يهوذا» لابنه «أونان» : «ادخل إلى امرأة
أخيك وضاجعها لتحيي نسله» فلما علم أنه لا ينسب إليه من ولد منها دخل إلى امرأة
أخيه وكان يعزل عنها لئلا يولد لأخيه منه ، ولذلك أهلكه السيد للفاحشة التي اطلع
عليها منه فعند ذلك قال «يهوذا» «لثامار» كنّته كوني أرملة في بيت أبيك إلى أن
يكبر ابني «شيله». وكان يتوقع أن يصيبه من الموت ما أصاب أخاه إن ضاجعها ، فسكنت
في بيت أبيها ، وبعد أيام كثيرة توفيت بنت «شوع» امرأة «يهوذا» فتصبّر «يهوذا»
وتسلى عن حزنها. وتوجه إلى جزّاز أغنامه مع «حيرة» صديقه العدلامي إلى «تمنة».
وقيل «لثامار» إن ختنك صاعد إلى «تمنة» ليجزّ أغنامه ، فألقت عن نفسها ثياب
الأرامل وتقنعت وقعدت في مجمع الطرق المسلوكة إلى «تمنة» فعلت ذلك مذ كبر «شيلة» ولم
تزوج مه. فلما رآها «يهوذا» ظنها زانية ، وكانت غطت وجهها لئلا تعرف فمال إليها ،
وقال : ائذني لي في مضاجعتك ، وكان يجهل أنها كنته. فقالت له : ما ذا تعطيني إن
أمكنتك من مضاجعتي؟ قال لها : أبعث إليك جديا من الغنم ، فقالت : نعم ، إن أعطيتني
رهنا إلى أن تبعث ما وعدت. فقال لها : «يهوذا» : وما أرهنه لك؟ قالت : ارهن لي
خاتمك وحزامك والعصا التي بيدك. فحبلت من مضاجعة واحدة ، ثم انطلقت وألقت الشكل
التي كانت فيه ، وعادت إلى شكل الأرامل ، وبعث «يهوذا» الجدي مع صديقه العدلامي
ليأخذ من المرأة الرهن الذي
وضعه عندها. فسأل
عنها إذ لم يجدها من سكان ذلك الموضع. فقال : أين المرأة القاعدة في مجمع الطرق؟
فقالوا له : لم تكن في هذا الموضع زانية ، فانصرف إلى «يهوذا» فقال له : لم أجدها.
وقال لي سكان ذلك الموضع لم تكن هاهنا زانية. فقال له «يهوذا» تأخذ ما عندها مخافة
أن تكون ضحكة فإني قد أرسلت الجدي إليها ، وأنت تقول لم أجدها.
وبعد ثلاثة أشهر
قبل ليهوذا : إنّ كنّتك «ثامار» قد زنت ، وقد بدأ بطنها يظهر. فقال «يهوذا»
أخرجوها لتحرق ، فلمّا أخرجت بعثت إلى «يهوذا» إنما حبلت من الذي له هذا فاعرف هذا
الخاتم والزنار والعصا. فلما عرف قال : هي أعدل مني إذ منعتها «شيلة» ولدي. ولم
يضاجعها بعد ذلك.
فلما أدركتها
الولادة ظهر فيها توأمان ، ففي وقت خروجهما بدر أحدهما وأخرج يده ، فربطت القابلة
في يده خيطا أرجوانا ، وقالت : هذا يخرج أولا. فأدخل يده إلى نفسه وأخرج الولد
الآخر. فقالت له القابلة : لم افترصت أخاك؟ فسمي «فارصا» وبعده خرج الذي ربط في يده الخيط
الأرجوان. وسمي «زارح». تم الفصل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ثم بعد فصول وقصص ذكر أولاد يعقوب المولودين بالشام الذين دخلوا معه
مصر إذ بعث يوسف عليهالسلام فيهم كلهم. فذكر «يهوذا» وبنيه الثلاثة الأحياء «شيلة» و «فارص»
و «زارح». وذكر لفارص هذا نفسه اثنين ، وهما «حصرون» و «حامول» ابنا «فارص» بن «يهوذا»
المذكور.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ففي هذا الكلام عار وفضيحة مكذوبة وكذب فاحش مفرط القبح ، فأمّا العار
فالذي ذكر عن «يهوذا» من طلبه الزنى بامرأة لقيها في الطريق على أن يعطيها جديا ،
ثم جوره في الحكم عليها بالحرق ، فلما علم أنه صاحب الخصلة أسقط الحكم عن نفسه
وعنها.
ثم شنعة أخرى وهي
قوله : إن «ونان» بن «يهوذا» لما عرف أنه لا ينسب إليه من يولد له من امرأته التي
تزوجها بعد موت أخيه جعل يعزل عنها. وهذا عجب جدّا أن تلد امرأة رجل من زوجها من
لا ينسب إليه لكن إلى غيره ممن قد مات قبل أن يتزوجها هذا. فلعل فيهم الآن ولادات
وأنساب في كتبهم مثل هذه.
__________________
فهذه والله أمور
سمجة.
ثم دع «يهوذا»
فليس نبيا ، ولا ينكر ممن ليس نبيا مثل هذا ، إنما الشأن كله والعجب في أنهم
مطبقون بأجمعهم قطعا على أن «سليمان بن داود» عليهماالسلام ابن «إشماي» بن «عونين» بن «يوغز» بن «بشاي» بن «مخشون» بن
«عمينا ذاب» بن «نورام» بن «حصرون» بن «فارص» المذكور ابن «يهوذا» فجعلوا الرسولين
الفاضلين مولودين من تلك الولادة الخبيثة راجعين إلى ولادة الزنى.
ثم أقبح ما يكون
من الزنى رجل مع امرأة ولده ـ حاش لله من هذا الإفك المفترى!! ولقد قال لي بعضهم
إذ قررته على هذا الفصل : إن هذا كان مباحا حينئذ ، فقلت له : فلم امتنع من
مضاجعتها بعد ذلك؟ وكيف يكون مباحا وهي لم تعرفه بنفسها ولا عرفها عند تلك
المعاملة الخبيثة بالجدي المسخوط ، والرهن الملعون؟ وإنما وطئها على أنها زانية ،
إذ اغتلم إليها لا على أنها امرأة الميت ولده ، إلّا إن قلتم إن
الزنى جملة كان مباحا حينئذ فقد قرت عيونكم فسكت خزيان كالحا.
وتالله ما رأيت
أمة تقر بالنبوّة وتنسب إلى الأنبياء ما ينسبه هؤلاء الأنذال الكفرة ، فتارة
ينسبون إلى إبراهيم عليهالسلام أنه تزوج أخته فولدت له إسحاق عليهماالسلام. ثم ينسبون إلى «يعقوب» أنه تزوج امرأة فدست إليه أخرى
ليست امرأته فولدت له أولادا منهم انتسل «موسى» و «هارون» و «داود» و «سليمان»
وغيرهم من الأنبياء عليهمالسلام. ثم ينسبون إلى «روبان» بن «يعقوب» أنه زنى بربيبته زوج
النبي أبيه ، وأم أخويه ، ثم ينسبون إلى «يهوذا» ما ذكرنا من زناه بامرأة ولديه
فحبلت وولدت من الزنى ولدا منه انتسل «داود» و «سليمان» عليهماالسلام. ثم ينسبون إلى «يوشع بن نون» أنه تزوج «رحب» الزانية
المشهورة الموقفة نفسها للزنى لكل من دبّ ودرج في مدينة «أريحا». ثم ينسبون إلى «عمران
بن فهث بن لاوي» أنه تزوّج عمته أخت والده واسمها «يوحانذ» ولدت لجده بمصر فولد له
منها «هارون وموسى» عليهماالسلام. هكذا ذكر نسبها في قرب آخر السفر الرابع ثم ينسبون إلى
داود عليهالسلام أنه زنى جهارا بامرأة رجل من جنده محصنة وزوجها حي ، وأنها
ولدت منه من ذلك الزنى ابنا ذكرا ، ثم مات ذلك الفرخ الطيب ثم تزوجها ، وهي أم
سليمان بن داود عليهماالسلام. ثم ينسبون إلى «أمثون» بن داود عليهماالسلام أنه فسق بسراري أبيه علانية أمام الناس ، ثم ينسبون إلى
__________________
سليمان عليهالسلام العهر ، وأنه تزوج نساء لا يحل له زواجهن ، وأنه بنى لهن بيوت
الأوثان ، وقرّب لهن القرابين للأوثان. مع ما ذكرنا قبل ونذكر إن شاء الله تعالى
من نسبتهم الكذب إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهمالسلام. ولكن أين هذا مما في توراتهم من نسبتهم لعب الصراع إلى
الله تعالى مع «يعقوب» ، والكذب المفضوح فيما وعده وأخبر به؟ فعلى من يصدق بشيء من
كل هذا الإفك لعنة الله وغضبه ، فاعجبوا لعظيم كفر هؤلاء القوم ، وما افتراه
الكفرة أسلافهم الأنتان على الله تعالى وعلى رسله عليهمالسلام. ثم على كل كتاب حقق فيه شيء من هذا وعلى كاتبه لعنة الله
وغضبه عدد كل شيء خلق الله. فاحمدوا الله معاشر المسلمين على ما هداكم له من الملة
الزهراء التي لم يشبها تبديل ولا تحريف ، والحمد لله رب العالمين.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وأما الكذبة الفاحشة المفضوحة التي هي من المحال المحض والافتراء
المجرد فهي ما أذكره إن شاء الله تعالى ، فتأملوه تروا عجبا.
ذكر في توراتهم
نصا : أنّ «يهوذا بن يعقوب» كان مع إخوته يرعون أذوادهم إذ باعوا أخاهم «يوسف» وأن
«يهوذا» أشار عليهم ببيعه وإخراجه من الجب ليخلصه بذلك من الموت. ثم ذكر بعد ذلك
أن «يهوذا» اعتزل عن إخوته وصار مع «حيرة العدلامي» ، ورأى ابنة رجل كنعاني اسمه «شوع»
فتزوجها ، وولدت له ولدا اسمه «عير» ثم ولدا آخر اسمه «أونان» ، ثم ولدا آخر اسمه «شيلة»
كما ذكرنا آنفا حرفا حرفا. وذكر بعد ذلك : أن «عير» تزوج امرأة اسمها «ثامار» ودخل
بها وكان مذنبا ولذلك قتله الله تعالى. فزوجها من أخيه «أونان» فكان يعزل عنها
فمات لذلك ، وبقيت أرملة ليكبر «شيلة» وتزوّج منه ، وأن «شيلة» كبر ولم تزوج منه.
وقد اعترف بذلك «يهوذا» إذ قال : هي أعدل مني إذ منعتها «شيلة» ابني ، وذكر بعد
ذلك أنها تحيّلت حتى زنت «بيهوذا» نفسه والد زوجها وحبلت منه ، وولدت منه توأمين «فارص»
و «زارح» كما ذكرنا قبل. ثم ذكر بعد ذلك نسل يعقوب وأولاد أولاده المولودين بالشام
، ودخلوا معه مصر فذكر فيهم «حصرون» و «حامول» ابني فارص بن يهوذا ، فاضبطوا هذا.
وذكر في توراتهم :
أن يوسف عليهالسلام إذ بلغ ست عشرة سنة كان يرعى ذودا مع إخوته عند أبيه ،
وأنهم باعوه ، فصح أنه كان ابن سبع عشرة سنة إذ باعوه ، وهكذا ذكر في توراتهم.
ثم ذكر في توراتهم
: أن «يوسف» عليهالسلام كان إذ دخل على فرعون وفسر له رؤياه في البقرات والسنابل
وولاه أمر مصر ابن ثلاثين سنة.
ثم ذكر في توراتهم
: أن «يوسف» عليهالسلام كان إذ دخل أبوه يعقوب مصر مع جميع أهله ابن تسع وثلاثين
سنة. هذا منصوص فيها بلا خلاف من أحد منهم. فصح يقينا أنه لم يكن بين دخول يعقوب
مع نسله مصر ، وبين بيع يوسف إلا اثنان وعشرون سنة وربما أشهر يسيرة زائدة لا أقل
ولا أكثر. هذا حساب ظاهر لا يخفى على جاهل ولا عالم.
وقد ذكر في
توراتهم أن في هذه المدة تزوج «يهوذا» بنت «شوع» وولدت له ولدا ثم ثانيا ثم ثالثا.
وأن الأكبر بلغ فزوّج زوجة ثم مات بعد دخوله بها ، فزوّجت بعده من أخيه فكان يعزل
عنها فمات ، وبقيت مدة حتى كبر الثالث ولم تزوّج منه فزنت «بيهوذا» والد زوجها
فولد له منها توأمان ثم ولد لأحد ذينك التوأمين ابنان وهذا محال ممتنع لا خفاء به
، ولا يمكن البتة في طبيعة بشر ولا سبيل إليه في الجبلة والبنية بوجه من الوجوه.
هبك أن «يهوذا»
اعتزل عن إخوته ، وتزوج بنت شوع بإثر بيع يوسف بيوم وحبلت زوجته ، وولدت له الولد
الأكبر في عامها الثاني ، ثم الثاني في عام آخر ثم الثالث في عام ثالث.
وهبك أن الأكبر
زوّج وله اثنا عشر عاما فهذه ثلاثة عشر عاما من جملة اثنين وعشرين عاما وبقي معها
ما بقي. ثم زوجت من الثاني وله اثنا عشر عاما فبقي يعزل عنها لئلا ينسب إلى أخيه
من يولد له منها ، ثم مات وبقيت تنتظر أن يكبر «شيلة» وتزوّج منه ، حتى طال عليها
، ورأت أنه قد كبر ولم تزوج منه. وهذا لا يكون البتة في أقل من عام. فهذه أربعة
عشر عاما. ثم زنت «بيهوذا» فحملت فولدت ، فهذا عام أو أقل بيسير ، فلم يبق من
الاثنين وعشرين عاما إلا سبعة أعوام إلى ثمانية أعوام لا أكثر البتة. فمن المحال
الممتنع في العقل أن يوجد لرجل ابن ثمان سنين أو سبع سنين ولدان؟!
ما رأيت أجهل
بالحساب من الذي عمل لهم التوراة. وحاش لله أن يكون هذا الخبر البارد الكاذب عن
الله تعالى أو عن موسى عليهالسلام ، ولا عن إنسان يعقل ما يقول ، ويستحي من تعمد الكذب
الفاضح. ونسأل الله العافية.
فصل
أولاد يعقوب المولودين بالشام
وبعد ذلك ذكر عدد
بني يعقوب المولودين بالشام عند خاله «لابان» الداخلين
معه مصر ، فذكر
الذين ولدت له «ليئة» وهم ستة ذكور ، وابنة واحدة. وذكر أولاد هؤلاء الستة وسماهم
، فذكر لرءوبين أربعة ذكور ، ولشمعون ستة ذكور ، وللاوي ثلاثة ذكور ، و «ليهوذا»
ثلاثة ذكور ، وابني ابن له ، فهم خمسة ، و «ليساخر» : أربعة ذكور ، و «لزابلون»
ثلاثة ذكور ، المجتمع من بني «ليئة» ستة ذكور وابنة سابعة وخمسة وعشرون أولاد
الأولاد فهؤلاء اثنان وثلاثون ، وقال في نص توراتهم بعقب تسميتهم :
«هؤلاء بنو ليئة ،
وعدد أولادها وبناتها ثلاثة وثلاثون» ، هكذا نص توراتهم. وهذا خطأ في الحساب تعالى
الله عن أن يخطئ في الحساب أو أن يخطئ فيه موسى عليهالسلام. فصح أنها من توليد جاهل غث أو من عابث سخر بهم ، وكشف
سوءاتهم.
فصل
ثم ذكر بعد هذا
أولاد «راحيل» فذكر «يوسف» و «بنيامين» وبنيهما قال : وهم أربعة عشر ذكرا ، أولاد «زلفى»
: «عاد» و «أشار» وبنيهما قال : وهم ستة عشر. وذكر أولاد «بلهة» : «دان» و «نفتالي»
وبنيهما. وقال : وهم سبعة. ثم وصل ذلك بأن قال : وعدد نسل «يعقوب» الذين دخلوا معه
مصر سوى نساء أولاده ستة وستون. وابنا يوسف اللذان ولدا له بمصر اثنان. فجميع
الداخلين إلى مصر سبعون.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا خطأ فاحش لأن المجتمع من الأعداد المذكورة تسعة وستون ، فإذا
أسقطت منهم ولدي يوسف اللذين ولدا له بمصر بقي سبعة وستون ، وهو يقول : ستة وستون.
فهذه كذبة. ثم قال : فجميع الدّاخلين معه إلى مصر سبعون ، فهذه كذبة ثانية.
وقد قلنا إن الذي
عمل لهم التوراة كان ضعيف البصارة بالحساب وليست هذه صفة الله عزوجل ، ولا صفة من معه مسكة عقل تردعه عن الكذب وتعمده على الله
تعالى ، وعن تكلف ما لا يحسن ولا يقوم به.
وذكر في هذا الفصل
قصة أخرى فيها الاعتراض إلّا أنها تخرّج على وجه ما فلذلك لم نفرد لها فصلا.
وهي : أنه ذكر
أولاد «بنيامين» فقال : «بالع» و «باكر» و «أشبيل» و «أجير» و «نعمان» و «إيجي» و
«روش» و «مفّيم» و «حفّيم» و «أرد».
فصل
بركة يعقوب عليهالسلام لأولاده
ثم ذكر بركة «يعقوب»
عليهالسلام على بنيه ، وأنه وضع يده اليمنى على رأس «أفرايم» بن «يوسف»
، واليسرى على رأس «منسّى» بن «يوسف» ، وأن ذلك شق على «يوسف» عليهالسلام ، وقال : لا يحسن هذا يا أبت لأن هذا بكر ولدي فاجعل يمينك
على رأسه ، يعني منسّى ، فكره ذلك «يعقوب» وقال : علمت يا بني علمت ، وستكثر ذرية
هذا وتعظم ، ولكنّ أخاه الأصغر يكون أكثر نسلا وعددا. يعني أن «أفرايم» يكون عدد
نسله أكثر من عدد «منسى».
ثم ذكر في مصحف «يوشع»
أن بني «منسّى» كانوا إذ دخلوا الشام وقسمت عليهم الأرض اثنين وخمسين ألف مقاتل
وسبعمائة. وأن بني «أفرايم» كانوا حينئذ اثنين وثلاثين ألفا وخمسمائة ، وذكر في
كتاب لهم معظّم عندهم اسمه «سفطيم» أنه ذكر بني إسرائيل قبل داود عليهالسلام أربعة من ملوك بني «منسى» وأربعة من بني «أفرايم» ، وأن من
جملة بني «منسى» المذكورين رجلا اسمه «مفتاح بن علفاذ» قتل من بني «أفرايم» اثنين
وأربعين ألف مقاتل حتى كاد يستأصلهم ، وفي كتاب لهم آخر معظّم عندهم أيضا اسمه «ملاخيم»
: أنه ملك عشرة أسباط من بني إسرائيل بعد سليمان عليهالسلام ، إلى أن ذهب الأسباط المذكورين وسبوا من بني «أفرايم»
ملكين كانت مدتهما جميعا ستة وعشرين سنة فقط ، وهما «باريعام» وابنه «باباط» ووليهم
من بني «منسى» خمسة ملوك ، واتصلت دولتهم مائة عام وعامين وهما «زحريا» بن «باريعام»
بن «نواس» بن «يهويا» و «حار» بن «يهو» كلهم ملك ابن ملك ابن ملك ابن ملك ابن ملك
، ولم يكن فيمن ملك الأسباط العشرة أقوى ملكا من هؤلاء المنسّانيّين ، وهذا ضد قول
«يعقوب» الذي حكوه عنه. وحاش لله أن يكذب نبي فيما ينذر به عن الله عزوجل.
فإن قالوا : إن «يوشع»
بن «نون» و «دبور» أنسه ، وميخا المورشي النبي كلهم كان من بني «أفرايم» ، وكان
بنو «أفرايم» إذ أخرجوا من مصر أربعين ألف مقاتل ، وخمسمائة مقاتل ومائتي مقاتل.
وكان بنو «منسى» يومئذ اثنين وثلاثين ألف مقاتل ومائتي مقاتل. قلنا : لم تذكروا أن
«يعقوب» قال : «يكون الشرف في نسل أفرايم». إنما حكيتم أنه قال : إن «أفرايم» يكون
أكثر نسلا وعددا من «منسى» على التأبيد والعموم ، وإيصال البركة لا على وقت خاص
قليل ، ثم يعود الأمر بخلاف ذلك فتبطل البركة ، ويصير المبارك مدبرا ، والمدبر
مباركا في الأبد.
فصل
ثم ذكر عن «يعقوب»
عليهالسلام أنه قال لرءوبين في ذلك الوقت : أنت أول المواهب مفضل في
الشرف ، مفضل في العز ، ولا تفضل منهملة ماء.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا كلام يكذب أوّله آخره.
فصل
تنبأ التوراة بإعطاء أولاد يهوذا القيادة
ثم ذكر أنه عليهالسلام قال «ليهوذا» حينئذ : لا تنقطع من «يهوذا» المخصرة ولا من نسله قائد حتى يأتيني المبعوث الذي هو رجاء الأمم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا كذب قد انقطعت من ولد «يهوذا» المخصرة وانقطعت من نسله القواد ،
ولم يأت المبعوث الذي هو رجاؤهم. وكان انقطاع الملك من ولد «يهوذا» من عهد «بخت
نصر» مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام إلا مدة يسيرة ، وهي مدة «زربائيل» بن «صلثائيل»
فقط. وقد قررت على هذا الفصل أعلمهم وأجدلهم ، وهو «أشموال بن يوسف اللاوي» الكاتب
المعروف بابن النغرال في سنة أربع وأربعمائة فقال لي : لم تزل رءوس الجواليت
ينتسلون من ولد داود وهم من بني «يهوذا» وهي قيادة وملك ورئاسة ، فقلت : هذا خطأ
لأن رأس الجالوت لا ينفذ أمره على أحد من اليهود ولا من غيرهم ، وإنما هي تسمية لا
حقيقة لها ، ولا له قيادة ، ولا بيده مخصرة ، فكيف وبعد أحزيا بن بورام لم يكن من
بني «يهوذا» وال أصلا مدة ستة أعوام ، ثم بعده نشأ الملقب «صدقيا» بن «يوشيا» ، لم
يكن منهم لأحد له معين ، ولا من يملك على أحد اثنين وسبعين عاما متصلة حتى ولي «زربائيل»
ثم انقطع الولادة منهم جملة ، لا رأس «جالوت» ولا غيره مدة ولاة الهارونيين ملكا
ملكا مئين من السنين ليس لأحد من «يهوذا» في ذلك أمر إلى دولة المسلمين أو قبلها
بيسير ، فأوقعوا اسم رأس الجالوت على رجل من بني «داود» إلى اليوم ، إلّا أنّ بعض
المؤرخين القدماء ذكر أن «هردوس» وابنيه ، وابن ابنه «أعريفاس» بن «أعريفاس» كانوا
من بني «يهوذا» ، والأظهر أنهم من الروم عند كل مؤرخ ، فظهر كذب هؤلاء الأنذال
بيقين ، وحاش لله أن يكذب نبي.
__________________
فصل
ثم ذكر أن «يعقوب»
عليهالسلام قال «للاوي» و «شمعون» سأبددهما في «يعقوب» وأفرقهما في «إسرائيل».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : أما لاوي فكان نسله مبددا في بني إسرائيل كما ذكر ، وأما «بنو شمعون»
فلا ، بل كانوا مجتمعين في البلد الذي وقع لهم كسائر الأسباط ولا فرق ، وليس إنذار
النبوة مما يكذب في قصة ويصدق في أخرى ، هذه صفات إنذارات الحسّاب القاعدين على
الطرق للنساء ولمن لا عقل له.
فصل
إرسال موسى عليهالسلام لفرعون
وقال في السفر
الثاني من توراتهم : إن الله تعالى قال لموسى عليهالسلام : قل لفرعون السيد يقول «إسرائيل» بكر ولدي ، ويقول لك
ائذن لولدي ليخدمني ، وإن كرهت الإذن سأهلك بكر ولدك.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا عجب ناهيك به ، ليت شعري ما ذا ينكرون على النصارى بعد هذا؟ وهل
طرق للنصارى سبيل الكفر في أن يجعلوا لله ولدا ، ونهج لهم طريق التثليث ـ على ما
ذكرنا قبل هذا ـ إلا هذه الكتب الملعونة المبدّلة؟!.
إلّا أنّ النصارى
لم يدعوا بنوّة لله تعالى إلا لواحد أتى بمعجزات عظيمة ، وأما هذه الكتب السخيفة ،
وكل من تديّن بها فإنهم ينسبون بنوّة لله إلى جميع بني إسرائيل ، وهم أوسخ الأمم
وأرذلهم جملة ، وكفرهم أوحش ، وجهلهم أفحش.
فصل
معجزات موسى أمام فرعون
ثم ذكر أن «هارون»
ألقى العصا بين يدي فرعون وعبيده فصارت حية فدعا فرعون بالعلماء والسحرة ، وفعلوا
بالرقى المصري مثل ذلك ، ولكن عصا موسى ازدردت عصيهم. ثم ذكر أن «موسى» و «هارون»
فعلا ما أمرهما السيد ، فرفع العصا وضرب بها ماء النهر بين يدي فرعون وعبيده فعاد
دما ومات كل حوت فيه ، ونتن النهر ، ولم يجد
المصريون سبيلا
إلى الشرب منه ، وصار الماء في جميع مصر دما ، ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم.
ثم ذكر أن «هارون»
مدّ يده على مياه مصر وخرجت الضفادع منها ، وغطت أرض مصر ، ففعل السحرة برقاهم مثل
ذلك ، وأقبلوا بالضفادع على أرض مصر. ثم ذكر أن «هارون» مدّ يده بالعصا وضرب بها
غبار الأرض ، فتخلق منها بعوض في الآدميين والأنعام وعاد جميع الغبار بعوضا في
جميع أرض مصر ، فلم يفعل السحرة مثل ذلك برقاهم ، وراموا اختراع البعوض فلم يقدروا
عليه ، فقال السحرة لفرعون : هذا صنع الله.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه الآبدة المصمئلّة والصّيلم المطبقة ولو صحّ هذا لبطلت نبوة موسى عليهالسلام ، بل نبوة كلّ نبي.
ولو قدر السحرة
على شيء من جنس ما يأتي به النبي لكان باب السحرة ، وباب مدّعي النبوة واحدا ،
ولما انتفع موسى بازدراد عصاه لعصيهم ، ولا بعجزهم عن البعوض وقد قدروا على قلب
العصيّ حيات ، وعلى إعادة الماء دما ، وعلى المجيء بالضفادع ، ولما كان لموسى عليهالسلام عليهم بنبوته أكثر من أنه أعلم بذلك العمل منهم فقط ، ولو
كان كما قال هؤلاء الكذابون الملعونون لكان فرعون صادقا في قوله : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) [طه : ٧١ ،
والشعراء : ٤٩] ولا منفعة لهم في قول السحرة في البعوض : «هذا صنع الله» ، لأنه
يقال لبني إسرائيل : فعلى موجب قول السحرة لم يكن من صنع الله قلب العصا حية ،
والماء دما ، والمجيء بالضفادع ، بل من غير صنع الله؟.
وهذه عظيمة تقشعر
منها الجلود. أين هذا الإفك المفترى البارد من نور الحق الباهر؟! إذ يقول الله عزوجل : (إِنَّما صَنَعُوا
كَيْدُ ساحِرٍ) [سورة طه : ٦٩]
وإذ يقول تعالى : (وَجاءَ السَّحَرَةُ
فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ
وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا
سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا
صاغِرِينَ وَأُلْقِيَ
__________________
السَّحَرَةُ
ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) [سورة الأعراف :
١١٣ ـ ١٢٢].
وإذ يقول تعالى : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [سورة طه : ٦٦].
فأخبر عزوجل أن الذي عمل موسى حق ، وأن عصاه صارت ثعبانا على الحقيقة
بقوله تعالى : (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ
مُبِينٌ) [سورة الأعراف :
١٠٧ ، والشعراء : ٣٢].
فصح أنه تبين ذلك
لكل من رآه يقينا. وأخبر أن الذي عمل السحرة إنما هو إفك وتخييل وكيد ، وهذا هو
الحق الذي تشهد به العقول ، لا في الكتاب المبدّل المحرّف ، فصح أن فعل السحرة
حيلة مموهة لا حقيقة لها ، وهذا الذي يصححه البرهان ، إذ لا يحيل الطبائع إلّا
خالقها ، شهادة لرسله وأنبيائه ، وفرقا بين الصدق والكذب ، لا قولهم عمل السحرة
مثل ما عمل موسى في وقت تكليفه برهانا على صدق قوله ، وعند تحديه لهم على أن يأتوا
بمثله إن كانوا صادقين وهو كاذب ، فأتوا بمثله ، فانظروا النتيجة يرحمكم الله.
هذه سوأة تشهد
شهادة قاطعة صادقة بأن صانع ذلك الكتاب الملعون المكذوب الذي يسمونه «الحماش»
ويدّعون أنه توراة موسى عليهالسلام إنما كان زنديقا مستخفا بالباري تعالى ورسله وكتبه ، وحاش
لموسى عليهالسلام منه ، وأنهم إلى الآن يزعمون أن إحالة الطبائع وقلب
الأجناس عن صفاتها الذاتية إلى أجناس أخر ، واختراع الأمور في المعجزات البينية
يقدر على ذلك بالرّقى والصناعات. واعلموا أنّ من صدّق بهذا فهو مبطل للنبوة بلا
مرية ، لا فرق بين النبي وغيره إلّا في هذا الباب ، فإذا أمكن لغير النبي فلم يبق
إلّا دعوى لا برهان عليها ، ونعوذ بالله من الضلال.
ولقد شاهدناهم
متفقين إلى اليوم على أن رجلا من علمائهم ببغداد دخل من بغداد إلى قرطبة في يوم
واحد ، وأنبت قرنين في رأس رجل من بني الاسكندراني كان ساكنا بقرب دار اليهود عند
فندق الحرقة كان يؤذي يهود تلك الجهة ويسخر منهم ، وهذه كذبة وفضيحة لا نظير لها ،
والموضع مشهور عندنا بقرطبة داخل المدينة ، وبنو عبد الواحد بن يزيد الإسكندري من
بيئة رفيعة مشهورة أدركنا آخرهم. كانت فيهم وزارة وعمالة ليس فيهم مغمور ولا خفيّ
إلى أن بادوا ما عرف قط أحد منهم ولا من جيرانهم هذه الأحموقة المختلقة.
والقوم بالجملة
أكذب البرية ، أسلافهم وأخلافهم ، وعلى كثرة ما شاهدنا منهم ، ما رأيت فيهم قط
متحريا إلّا رجلين فقط.
فصل
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وفي قصة قلب الماء دما فضيحة أخرى ظاهرة الكذب وهي : أن في نص الكلام
الذي يزعمونه التوراة : «ثم قال السيد لموسى : قل لهارون مدّ يدك بالعصا على مياه
مصر ، وأنهارها وأوديتها ، ومروجها ، وجناتها ، لتعود دما ، وتصير ماء في آنية
التراب والخشب دما. ففعل موسى وهارون كل ما أمرهما به السيد» إلى قوله «وصار الماء
في جميع أرض مصر دما. ففعل مثل ذلك سحرة مصر برقاهم ، واشتد قلب فرعون ، ولم يسمع
لهما على حال ، ثم انصرف فرعون ودخل بيته ولم يوجه قلبه إلى هذا أيضا ، وحفر جميع
المصريين حوالي النهر ليصيبوا الماء منها لأنهم لا يقدرون على شرب الماء من النهر».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا نص كتابهم فأخبر أن كلّ ماء كان بمصر في أنهارها وأوديتها ،
ومروجها وجناتها ، وأواني الخشب والتراب ، والماء كله في جميع أرض مصر صار دما.
فأي ماء بقي حتى تقلبه السحرة دما ، كما فعل موسى وهارون؟ أبى الله إلا فضيحة
الكذابين وخزيهم.
فإن قالوا : قلبوا
ماء الآبار التي حفرها المصريون حول النهر. قلنا لهم : فكيف عاش الناس بلا ماء
أصلا؟ أليست هذه فضائح مرددة؟ وهل يخفى أن هذا من توليد ضعيف العقل أو زنديق مستخف
لا يبالي بما أتى به من الكذب؟ ونعوذ بالله من الضلال.
فصل
ذكر بعض المعجزات لموسى
وبعد ذلك ذكر أن
الله تعالى أمر موسى أن يقول لفرعون : «ستكون يدي على مكسبك الذي لك في الفحوص وخيلك وحميرك وجمالك وبقرك وأغنامك بوباء شديد ، ويظهر
السيد أعجوبة فيما يملكه بنو إسرائيل ، ووقّت السيد لذلك وقتا ، وقال غدا يفعل
السيد هذا في الأرض ، ففعل السيد ذلك في يوم آخر ، وماتت جميع دواب المصريين ، ولم
يمت لبني إسرائيل دابة فاشتد قلب فرعون ولم يأذن لهم».
__________________
ثم ذكر بعد ذلك
أمر الله تعالى موسى بأن يأخذ ما حملت الكف من رماد الكانون ويلقيه إلى السماء بين يدي فرعون ليصير غبارا في جميع أرض
مصر فيكون في الآدميين والأنعام خراجات ونفاطات ، فأخذ رمادا من كانون ووقف بين يدي فرعون ورماه موسى إلى
السماء وصارت منه نفاطات في الآدميين والأنعام ، ولم تقدر السحرة على الوقوف عند
موسى لما كان أصابهم من ألم النفاطات ، وكان مثل ذلك في جميع أرض مصر والسحرة ،
فشدّد الله قلب فرعون ، ولم يسمع لهما على حال ما عهد السيّد إلى موسى.
وبعد ذلك قال : إن
الله أمر موسى أن يقول لفرعون : غدا هذا الوقت أمطر بردا كثيرا جدّا لم ينزل مثله
على مصر من اليوم الذي أسست فيه إلى هذا الوقت ، فابعث واجمع أنعامك وكل من تملكه
في الفدّان ، فكل ما أدركه البرد في الفدان ولم يدخل البيوت يموت فمن خاف وعيد
السيد من عبيد فرعون أدخل عبيده وأنعامه في البيوت ، ومن استهان بوعيد السيد أبقى
عبيده وأنعامه في الفدّان.
وقال السيد لموسى
: مدّ يدك إلى السماء لينزل البرد في جميع أرض مصر فمدّ موسى يده بالعصا ، فأتى
السيّد بالرّعد والبرد المختلف على الأرض ، ثم أمطر السيّد البرد في جميع أرض مصر
مخلوطا بنار ، ولم ينزل بعظمة في تلك الأرض من حين سكن ذلك الجنس فأهلك البرد في
جميع أرض مصر كلّ ما ظهر به في الفدادين من الآدميين والأنعام وجميع عشبهما ، وكسر
جميع شجرها ، ولم ينزل منه بشيء في أرض قوص حيث كان بنو إسرائيل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : تأمّلوا هذا الكذب الهجين اللائح. ذكر أولا أنّ موسى أتى بالوباء
وأخبر عن الله تعالى أنه قال لفرعون سأهلك مكسبك الذي في الفحوص ، وخيلك وحميرك
وجمالك ، وبقرك ، وأغنامك فعمّم جميع الناس ، ما أدخل في البيوت وما لم يدخل ، يعم
جميع الحيوان صنفا صنفا ، ثم أخبر : أن جميع دواب المصريين ماتت ولم تمت لبني
إسرائيل ولا دابة. ثم ذكر أمر «النفاطات» ثم ذكر أمر «البرد» ، وأن موسى أنذر
فرعون عن الله تعالى ، وأمره بإدخال أنعامه في البيوت وأن ما أدرك البرد منها في
الفحص يهلك.
__________________
فليت شعري!! أي
دابة بقيت لفرعون وأهل مصر ، وقد ذكر أن الوباء أهلك جميعها؟؟ وأين الإبل والحمير
والخيل والغنم والبقر؟ أليس هذا عجبا!! وليس يمكن أن يقول : إنّ دواب بني إسرائيل
هلكت آخرا إذ سلمت أولا ، لأنه قد بيّن أنه لم يقع من البرد شيء في أرض «قوص» حيث
سكنى بني إسرائيل ، ولم يكن بين آية وآية بإقرارهم وقت يمكن فيه جلب أنعام إليهم
من بلد آخر ، لأنه لم يكن بين الآية والآية إلّا يوم أو يومان أو قريب من ذلك ،
ومصر واسعة الأعمال ، ولا تتصل بشيء من العمائر ، بل بين جميع انتهاء أقطارها من
كل جهة وبين أقرب العمائر إليها مسيرة أيام كثيرة ، كالشام وبلاد الغرب ، وأرض
النوبة والسودان ، وإفريقية ، فظهر كذب من عمل ذلك الكتاب المبدّل المحرّف المفترى
الذي يزعمونه التوراة وحاش لله من ذلك ، والحمد لله على السلامة من مثل عملهم وضلالهم
كثيرا.
فصل
اضطراب التوراة في ذكر مدة بقاء بني إسرائيل بمصر
وبعد ذلك قال : «وكان
مسكن بني إسرائيل بمصر أربعمائة وثلاثين سنة ، فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك
اليوم معكسر السيد من أرض مصر».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه فضيحة الدهر ، وشهرة الأبد ، وقاصمة الظهر ، يقول هاهنا : إنّ
مسكن بني إسرائيل بمصر أربعمائة سنة وثلاثون سنة ، وقد ذكر قبل : أن «فاهاث» بن «لاوي»
دخل مصر مع جده «يعقوب» ومع أبيه «لاوي» ومع سائر أعمامه وبني أعمامه ، وأن عمر «فاهاث»
بن «لاوي» المذكور كان مائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة. وأن «عمران بن فاهاث بن لاوي»
المذكور كان عمره مائة سنة وسبعا وثلاثين سنة. وأن «موسى بن عمران بن فاهاث بن
لاوي» المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة.
هذا كله منصوص كما
نذكره في الكتاب الذي يزعمون أنه التوراة ، فهبك أن «فاهاث» دخل مصر ابن شهر أو
أقل ، وأن «عمران» ابنه ولد بعد موته ، وأن «موسى بن عمران» ولد بعد موت أبيه ليس
يجتمع من كل ذلك إلا ثلاثمائة عام وخمسون عاما فقط. فأين الثمانون عاما الباقية من
جملة أربعمائة سنة وثلاثين سنة؟
فإن قالوا : نضيف
إلى ذلك مدة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته ، قلنا : قد بيّن في التوراة أنه
كان إذ دخلها ابن سبع عشرة سنة ، وأنه كان إذ دخلها أبوه
وإخوته ابن تسع
وثلاثين سنة ، فإذن كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين وعشرين سنة ، ضمها إلى
ثلاثمائة سنة وخمسين سنة يقوم من الجمع بلا شك ثلاثمائة واثنان وسبعون سنة. أين
الثماني والخمسون الباقية من أربعمائة وثلاثين سنة؟ هذه شهرة لا نظير لها ، وكذب
لا يخفى على أحد ، وباطل نقطع بأنه لا يمكن البتة أن يعتقده أحد في رأسه شيء من
دماغ صحيح ، لأنه لا يمكن أن يكذب الله تعالى في دقيقة ، ولا أن يكذب رسوله صلىاللهعليهوسلم عامدا ولا مخطئا في دقيقة فيقره الله تعالى على ذلك ، فكيف؟
ولا بد أن يسقط من هذه المدة سنّ «فاهاث» إذ ولد له «عمران» وسنّ «عمران» إذ ولد
له «موسى» عليهالسلام ، والصحيح الذي يخرّج على نصوص كتبهم : أنّ مدة بني
إسرائيل مذ دخل «يعقوب» وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع «موسى» عليهالسلام ، لم تكن إلا مائتي عام وسبعة عشر عاما ، فهذه كذبة في
مائتي عام وثلاثة عشر عاما ، ولو لم يكن في توراتهم إلّا هذه الكذبة وحدها لكفت في
أنها موضوعة مبدلة من حمار في جهله ، أو مستخف سخر بهم ولا بد.
فصل
التوراة المحرفة تصف الإله بألفاظ لا تليق
وبعد ذلك قال :
وعند ذلك مجد «موسى» و «بنو إسرائيل» بهذه السورة ، وقالوا : مجد بنا السيد فإنه
يعظم ويشرف ، وأغرق في البحر الفرس وراكبه ، قوّتي ومديحي للسيّد الذي صار لي
مسلما ، هذا إلهي أمجده ، وإله أبي أعظمه ، السيد قاتل كالرجل القادر.
وفي السفر الخامس
: «اعلموا أن السيّد إلهكم الذي هو نار أكول».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه سوأة من السوءات لتشبيه الله عزوجل بالرجل القادر ، ويخبر بأنه نار ، هذه مصيبة لا تجبر ،
ولقد قال بعضهم : أليس الله تعالى يقول عندكم : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة النور : آية
٣٥].
قلت : بلى. وقد
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ سأله «أبو ذرّ» : هل رأيت ربك؟. فقال : «نور أنّى أراه» .
__________________
وهذا بيّن ظاهر
أنه لم يعن النور المرئي ، لكن نور لا يرى. فلاح أن معنى «نور السماوات والأرض»
إذا ثبت ، أنه ليس هو النور المرئي الملون ، أنّه الهادي لأهلهما فقط. وأن النور
اسم من أسماء الله تعالى فقط.
وأما قوله تعالى :
(مَثَلُ نُورِهِ
كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) إلى قوله : (وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نارٌ) [سورة النور : آية
٣٥].
فإنه شبه نوره
الذي يهدي به أولياءه بالمصباح الذي ذكر ، فإنه شبه مخلوقا بمخلوق.
وبيان ذلك : قوله
تعالى متصلا بالكلام المذكور في الآية نفسها :
(نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي
اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [سورة النور : ٣٥].
فصحح ما قلناه
يقينا من أنه تعالى إنما عنى بنوره هداه للمؤمنين فقط ، وهذا أصح تشبيه يكون ، لأن
نور هداه في ظلمة الكفر كالمصباح في ظلمة الليل.
فصل
وصف التوراة للمنّ النازل من السماء
ثم وصف المنّ
النازل عليهم من السماء فقال : وكان أبيض شبيها بزريعة الكزبر ومذاقه كمذاق السميذ
المعسل ، ثم قال في السفر الرابع :
«كان المنّ شبيها
بزريعة الكزبر ، ولونه إلى الصّفرة ، وكان طعمه كطعم الخبز المعجون بالزيت».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا تناقض في الصفة واللّون والطعم ، وإحدى الصفتين تكذّب الأخرى بلا
شك.
فصل
تجسيم التوراة للإله ووصفه بصفات البشر
وبعد ذلك قال :
إنّ الله عزوجل قال لبني إسرائيل : لقد رأيتموني كلكم من السماء ، فلا
تتخذوا معي آلهة الفضة. ثم قال بعد ذلك : ثم صعد «موسى» و «هارون» و «ناداب» و «أبيهو»
وسبعون رجلا من المشايخ ونظروا إلى إله إسرائيل ، وتحت رجليه كلبنة من زمرد فيروزي
، وكسماء صافية ، ولم يمدّ الرّبّ يده إلى خيار بني إسرائيل الذين نظروا إلى الله
، وأكلوا وشربوا وقال بمقربة من ذلك : «وكان منظر عظمة السيد
كنار آكلة في قرن
الجبل يراه جماعة من بني إسرائيل».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا تجسيم لا شك فيه ، وتشبيه لا خفاء به ، وليس هذا كقول الله تعالى
:
(وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢].
ولا كقوله تعالى :
(إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة :
٢١٠].
ولا كقول رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : «ينزل الله تبارك وتعالى كل ليلة في ثلث اللّيل الباقي
إلى سماء الدنيا» ، لأن هذا كله على ظاهره بلا تكلف تأويل ، إنما هي أفعال
يفعلها الله عزوجل تسمّى مجيئا وإتيانا وتنزلا. ولا مثل قوله تعالى :
(يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) [سورة الفتح : ١٠](وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [سورة الرحمن : ٢٧].
وسائر ما في
القرآن من مثل هذا ، فكله ليس بمعنى الجارحة ، لكن على وجوه ظاهرة في اللغة قد
بيناها في غير هذا المكان ، عمدتها أن كل ذلك خبر عن الله تعالى لا يرجع بشيء من
ذلك إلى سواه أصلا ، ثم كيف يجتمع ما ذكرنا عن توراتهم مع قوله في السفر الخامس : «كلمكم
الله من وسط اللهيب فسمعتم صوته ، ولم تروا له شخصا».
وهاتان قضيتان
تكذب كلّ واحدة منهما الأخرى ولا بد.
فصل
التوراة تتهم هارون عليهالسلام بصناعة العجل
وبعد ذلك قال :
فلما أطال موسى المقام اجتمع بنو إسرائيل إلى «هارون» وقالوا :
__________________
قم واعمل لنا إلها
يتقدمنا ، فإننا لا ندري ما أصاب موسى الرجل الذي أخرجنا من مصر. فقال لهم هارون :
اقلعوا أقراط الذهب عن آذان نسائكم وأولادكم وبناتكم ، وائتوني بها. ففعلوا ما
أمرهم به وأتوه بالأقراط ، فلمّا قبضها هارون أفرغها وعمل لهم منها عجلا ، وقال :
هذا إلهكم يا بني إسرائيل الذي أخرجكم من مصر فلما بصر بها هارون بنى مذبحا بين
يدي العجل ، وبرح مسمعا : غدا عيد السيد ، فلما قاموا صباحا قربوا له قربانا ،
وأهدوا له هدايا ، وقعدت العامة تأكل وتشرب وقاموا للّعب.
ثم ذكر إقبال موسى
، وأنه لما تدانى من المعسكر بصر بالعجل وجماعات تتغنى. وبعد ذلك ذكر أنه قال
لهارون : ما ذا فعلت بك هذه الأمة إذ جعلتكم تذنبون ذنبا عظيما؟.
فقال له هارون :
لا تغضب سيدي ، فإنك تعرف رأي هذه الأمة في الشر ، قالوا لي : اعمل لنا إلها
يتقدمنا لأننا نجهل ما أصاب موسى الذي أخرجنا من مصر ، فقلت لهم : من كان عنده
منكم ذهب فليقبل به إليّ وألقيته في النار ، وخرج لهم منه هذا العجل. فلما رأى «موسى»
القوم قد تعرّوا ، وكان «هارون» قد عرّاهم بجهالة قلبه ، وصيّرهم بين يدي أعدائهم
عراة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا الفصل عفا على ما قبله وطم عليه ، أن يكون «هارون» وهو نبي مرسل
يتعمد أن يعمل لقومه إلها يعبدونه من دون الله عزوجل وينادي عليه : «غدا عيد السيد» ويبني للعجل مذبحا ،
ويساعدهم على تقريب القربان للعجل ، ثم يجردهم ويكشف أستاههم للرقص وللغناء أمام
العجل إلا أن تكون أحق أستاه كشفت ، إن هذا لعجب!! نبي مرسل كافر مشرك يعمل لقومه
إلها من دون الله ، أو يكون العجل ظهر من غير أن يتعمد «هارون» عمله؟ فهذه والله
معجزة كمعجزات موسى ولا فرق. إلّا أنّ هذا هو الضلال والتلبيس ، والإشكال والتدليس
المبعد عن الله تعالى ، إذ لو كان هذا لما كان موسى أولى بالتصديق من عابد العجل
الملعون. أترى بعد استخفاف النذل الذي عمل لهم هذه الخرافة بالأنبياء عليهمالسلام استخفافا؟ حاشا لله من هذا! أو ترون بعد حمق من يؤمن بأن
هذا من عند «موسى» رسول الله وكليمه عن الله تعالى ـ حمقا؟! نحمد الله على
العافية.
أين هذا الهوس
البارد والكذب المفترى من نور الحق الذي يشهد له العقل بالصحة الذي جاء به «محمد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الله عزوجل حقا؟»
إذ يقول في هذه
القصة نفسها ما لا يمكن سواه :
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا
ظالِمِينَ) [سورة الأعراف :
١٤٨].
وقوله عزوجل :
(فَكَذلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا
إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ
قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ
مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ
فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ
حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ
ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [سورة طه : ٨٨ ـ
٩٤].
وقوله : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) [الأعراف : ١٥٠].
فهذا هو الصدق حقا
، إنما عمل لهم العجل الكافر الضالّ السامري ، وأما «هارون» فنهاهم عنه جهده ،
وأنهم عصوه ، وكادوا يقتلونه ، وقد تبين الصّبح لذي عينين ، ولاح صدق قوله تعالى
من كذب الآفكين.
وأما «الخوار» فقد
صح عن ابن عباس ما لا يجوز سواه ، وأنه إنما كان دويّ الريح تدخل من قبله وتخرج من
دبره ، وهذا هو الحق لأنه تعالى أخبر أنه لا يكلمهم ، ولو خار من عند نفسه لكان
ضربا من الكلام ، ولكانت حياة فيه ، وهو محال ، إذ لا تكون معجزة ، ولا إحالة لغير
نبي أصلا. وبالله تعالى التوفيق.
__________________
فصل
الإله يستجيب لموسى في العفو عن بني إسرائيل
وفي خلال هذه
الفصول ذكر أن الله عزوجل قال لموسى : دعني أغضب عليهم وأهلكهم ، وأقدمك على أمة
عظيمة ، وأن موسى رغب إليه وقال له : تذكّر إبراهيم وإسرائيل وإسحاق عبيدك الذين
خلقتهم بيدك ، وقلت لهم سأكثر ذريتكم حتى يكونوا كنجوم السماء ، وأورثتهم جميع هذه
الأرض التي وعدتهم بها ويملكونها ، فحنّ السيد ولم يتم ما كان أراد إنزاله من
المكروه بأمته.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل عجائب.
أحدها : إخباره
بأن الله تعالى لم يتم ما أراد إنزاله من المكروه بهم ، وكيف يجوز أن يريد الله عزوجل إهلاك قوم قد تقدّم وعده لهم بأمور ولم يتمها لهم بعد؟ وحاش
لله من أن يريد إخلاف وعده فيريد الكذب.
وثانيها : نسبتهم
البداء إلى الله عزوجل ، وحاش لله من ذلك ، والعجب من إنكار من أنكر منهم النسخ
بعد هذا ، ولا نكرة في النسخ لأنه فعل من أفعال الله أتبعه بفعل آخر من أفعاله مما
قد سبق في علمه كونه كذلك ، وهذه صفة كل ما في العالم من أفعاله تعالى.
وأما البداء : فمن
صفات من يهم بالشيء ثم يبدو له غيره ، وهذه صفة المخلوقين لا صفة من لم يزل ولا يخفى عليه شيء في المستأنف.
وثالثها : قوله
فيها : «ويملكونها» ، وهذا كذب ظاهر ما ملكوها إلّا مدة ثم خرجوا عنها إلى الأبد ،
والله تعالى لا يكذب ، ولا يخلف وعده.
فصل
طلب الإله لموسى أن يذهب وقومه لفلسطين
وبعد هذا ذكر أن
الله تعالى قال لموسى : اذهب واصعد من هذا الموضع أنت وأمتك التي أخرجت من مصر إلى
الأرض التي وعدت بها مقسما «إبراهيم» و «إسحاق»
__________________
و «يعقوب» لاورثها
نسلهم ، وأبعث بين يديك ملكا لإخراج «الكنعانيين» ، و «الأموريين» ، و «الحيثيين»
، و «الفرزيين» ، و «الحويين» ، و «اليبوسيين» ـ تدخل في أرض تفيض لبنا وعسلا ،
لست أنزل معكم لأنكم أمة قساة الرقاب لئلا تهلك بالطريق. فلما سمعت العامة هذا
الوعيد الشديد عجبت ولم تأخذ زينتها ، فقال السيد لموسى : قل لبني إسرائيل أنتم
أمة قد قست رقابكم سأنزل عليكم مرة وأهلككم ، فضعوا زينتكم لأعلم ما أفعل بكم.
وبعد ذلك بفصول
قال : «إن موسى قال لله تعالى : إن كنت سيدي عني راضيا فأنا أرغب إليك أن تذهب
معنا».
وبعد ذلك : «إن
الله تعالى قال لموسى : سأخرج بنفسي بين يديك».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل كذبتان وتشبيه محقق أما الكذبتان : فإحداهما قوله : إنه
سيبعث بين يدي موسى ملكا لإخراج الأعداء ، وأما هو تعالى فليس ينزل معهم ثم نزل
معهم ، وهذا كذب لا مخلص منه ، تعالى الله عن هذا ، وحاش له من أن يقول سأفعل ثم
لا يفعل ، وأن يقول لا أفعل ثم يفعل.
والثانية قوله : «إني
سأنزل لكم مرة وأهلككم» ثم لم يفعل. حاش لله من هذا.
وأما التشبيه
المحقق : فامتناعه من أن ينزل بنفسه ، واقتصاره على أن يبعث ملكا لنصرتهم ، ثم
أجاب إلى النزول معهم ، وهذا لا يسوغ فيه ما يسوغ في حديث التنزيل من أنه فعل
بفعله تعالى ، لأنه لو كان هذا لكان إرسال الملك أقوى ما يوجد في العالم ، فإذ قد بطل فقد صح أنه نزول نقلة ولا بد.
فصل
ادعاء التوراة أن الله وعد موسى أن يراه من ظهره لا من وجهه
وفي خلال هذه
الفصول قال : وكان السيد يكلم «موسى» مواجهة فما بفم كما يكلم المرء صديقه ، وأن
موسى رغب إلى الله تعالى أن يراه ، وأن الله تعالى قال له : سأدخلك في حجر ،
وأحفظك بيميني حتى أجتاز ثم أرفع يدي وتبصر ورائي لأنك لا تقدر أن ترى وجهي.
__________________
ففي هذين الفصلين
تشبيه شنيع قبيح جدا من إثبات آخر بخلاف الوجه وهذا ما لا مخرج منه.
فصل
وفي السفر الثالث
: أن الباري تعالى قال له : من ضاجع امرأة عمه أو خاله ، أو كشف عورة بنته فيحملان
جميعا ذنوبهما ويموتان من غير أولاد.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : كنا ذكرنا أننا لا نخرّج عليهم من توراتهم كلاما لا يفهم معناه ، إذ
للقائل أن يقول : قد أصاب الله به ما أراد ، لكن هذا المكان لم يتخلف فيه وعدنا ،
لأنها شريعة مكلّفة ملزمة ، ومن المحال أن يكلّف الله الناس عملا لا يفهمونه ولا
يعقلون معنى الأمر به.
فصل
وفي السفر الرابع
: ذكر أن عدد بني إسرائيل الخارجين من مصر ، القادرين على القتال خاصة ـ من كان
ابن عشرين سنة فصاعدا ـ كانوا ستمائة ألف مقاتل وثلاثة آلاف مقاتل وخمسمائة مقاتل
، وخمسين مقاتلا ، وأنه لا يدخل في هذا العدد من كان له أقل من عشرين ولا من لا
يطيق القتال ، ولا النساء جملة ، وأن عددهم إذ دخلوا الأرض المقدسة ستمائة ألف رجل
، وألف رجل ، وسبعمائة رجل وثلاثون رجلا. لم يعدّ فيهم من له أقل من عشرين سنة ،
وأن على هؤلاء قسمت الأرض المغنومة ، وعلى النساء وعلى من كان دون العشرين أيضا.
وفي كتبهم : أن «داود»
عليهالسلام أحصى في أيامه بني إسرائيل فوجد بني «يهوذا» خاصة :
خمسمائة ألف مقاتل. ووجد التسعة الأسباط الباقية ـ حاش بني لاوي ، وبني بنيامين
فلم يحصهما ـ ألف ألف مقاتل غير ثلاثين ألفا سوى النساء ، وسوى من لا يقدر على
القتال من صبي أو شيخ أو معذور ، وكل هؤلاء ، إنما كانوا في «فلسطين» و «الأردن»
وبعض عمل «الغور» فقط. والبلد المذكور بحالته كما كان لم يزد بالاتساع ولا نقص.
وفي كتبهم أيضا :
أن إبيا بن رحبعام بن سليمان بن داود عليهالسلام قتل من العشرة الأسباط من بني إسرائيل خمسمائة ألف رجل.
وأن ابنه «انتيا بن إبيا» كان معه من بني يهوذا خاصة ثلاثمائة ألف مقاتل ومن بني
بنيامين خاصة اثنين وخمسين ألف مقاتل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : البلد المذكور باق لم ينقص ولا صغرت أرضه. وحدّه بإقرارهم في الجنوب «غزة»
و «عسقلان» و «رفح» وطرف من جبال الشراة ـ بلد «عيسو» ، ولا خلاف بينهم في أنهم لم
يملكوا قط قرية فما فوقها من هذه البلاد ، وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى
آخرها محاربين مرة لبني إسرائيل ومرارا عليهم. وحد ذلك البلد في الغرب : البحر
الشامي. وحدّه في الشمال : «صور» و «صيدا» وأعمال «دمشق» التي لا يختلفون في أنهم
لم يملكوا قط منها مضرب وتد ، وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها محاربين
لهم ، فمرة عليهم ومرة لهم ، وفي أكثر ذلك يملكون بني إسرائيل ويسومونهم سوء
العذاب ، ومرة يخرج بنو إسرائيل عن ملكهم فقط ، وحدّ البلد المذكور في الشرق بلاد «موآب»
و «عمون» وقطعة من صحراء العرب التي هي الفلوات والرمال ، ولا خلاف بينهم في أن
نصّ توراتهم أن الله تعالى قال لموسى وبني إسرائيل : «إلى هنا لا تحاربوا بني «عيسو»
، ولا «بني موآب» ، ولا «بني عمون» فإني لم أورثكم من بلادهم وطأة قدم فما فوقها ،
لأني قد ورثت بني عيسو ، وبني لوط هذه البلاد ، كما ورثت بني إسرائيل تلك التي
وعدتم بها» ، وأنهم لم يزالوا من أول دولتهم إلى آخرها يحاربونهم ، فمرة يملكهم «بنو
عمون» و «بنو موآب» ، ومرة يخرجون عن رقهم فقط ، وطول بلاد بني إسرائيل المذكورة
بمساحة الحلفاء المحققة من «عقبة أفيق» ، وهي على أربعة وخمسين ميلا من دمشق إلى
طبرية ، ثمانية أميال ، وهي «جبل أفرايم» إلى الطور اثني عشر ميلا ، إلى «اللجون»
اثني عشر ميلا ، إلى «علمين» عندهما ينقطع عمل الأردن ، ومبدأ عمل فلسطين ميل واحد
، إلى الرملة نحو أربعين ميلا ، إلى عسقلان ثمانية عشر ميلا. وموضع الرملة هو كان
آخر عمل بني إسرائيل. فذلك ثلاثة وسبعون ميلا. وعرضه من البحر الشامي إلى أول عمل
جبل الشراة ، وأول عمل موآب ، وأول عمل «عمان» ، نحو ذلك أيضا. وعمل صغير شرقي
الأردن يسمى «الغور» فيه مدينة «بيسان» يكون أقل من ثلاثين ميلا في ثلاثين ميلا
ولا يزيد ، وكان هذا العمل الذي بشرقي الأردن بزعمهم وقع لبني رؤوبين و «بني جاد»
ونصف بني منسى بن يوسف عليهالسلام ، لأنه كان يصلح لرعي المواشي وكان هؤلاء أصحاب بقر وغنم.
فاعجبوا لهذا
الكذب الفاحش المفضوح ، وهذا المحال الممتنع أن تكون المسافة المذكورة تقسم أرضها
على عدد يكون أبناء العشرين منهم فصاعدا خاصة أزيد من ستمائة ألف فأين من دون
العشرين؟ وأين النساء؟ والكل بزعمهم أخذ سهمه من الأرض المذكورة ليعيش من زرعها
وثمرتها ، واعلموا أنه لا يمكن البتة أن يكون في
المساحة المذكورة
تكون مساحة كل قرية ميلا في ميل ، مزارعها ومشاجرها إلا ستة آلاف قرية ومائتي قرية
، هذا على أن يكون جميع العمل المذكور عمرانا متصلا ، لا مرج فيه ولا شجر ، ولا
أرض محجرة لا تعمر ، ولا أرض مرملة كذلك ، ولا سبخة ملح كذلك ، وهذا محال أن يكون.
فعلى هذا يقع لكل قرية من الرجال المذكورين مائة رجل أو نحو ذلك ، سوى من هو دون
العشرين منهم ، وسوى النساء ، ولا سبيل البتة على هذا أن يدركوا فيها المعاش ،
وهذا كذب لا خفاء به ، لا سيما إذ بلغوا ألف ألف مقاتل وخمسمائة مقاتل ، سوى من لا
يقاتل ، وسوى النساء.
أين هذا الكذب
البارد من الحق الواضح في قوله تعالى حاكيا عن فرعون أنه قال إذ تبع بني إسرائيل (إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ) [سورة الشعراء :
٥٤].
هذا الذي لا يجوز
غيره ، ولا يمكن سواه أصلا.
وكذبة أخرى : وهي
أنهم ذكروا في كتاب «يوشع» : أن البلد المذكور كان فيه من المدن في سهم بني يهوذا
مائة مدينة وأربعة مدن ، وفي سهم بني شمعون سبع عشرة مدينة ، وفي سهم بني بنيامين
ثمان وعشرون مدينة ، وفي سهم بني زبلون اثنتا عشرة مدينة ، وفي سهم بني نفتالي تسع
عشرة مدينة. وفي سهم بني دان ثماني عشرة مدينة فذلك مائتا مدينة واثنتان وست
وثلاثون مدينة. قال في الكتاب المذكور : «سوى قراها» لا يحصيها إلا الله عزوجل.
وذكر فيه أنه وقع
لنصف «بني منسى» بن يوسف بشرقي الأردن «باشان» وعملها ، وأن مدائنهم المحصنة ستون مدينة سوى قراها لا
يحصيها إلا الله. فالمجتمع من هذه المدن المذكورة ثلاثمائة مدينة غير أربع مدن ،
ولم يذكر عدد مدائن بني «رؤوبين» ولا عدد مدائن بني عاد ، ولا عدد مدائن نصف بني
منسّى الذي بغرب الأردن ، ولا مدائن بني أفرايم.
وهذه الأسباط التي
لم تذكر مدنها تقع على ما توجبه توراتهم في الربع من جميع بني إسرائيل ، يقع لهم
على هذا الحساب نحو مائة مدينة. إذا ضمت إلى العدد الذي ذكرنا فتمام الجميع نحو
أربعمائة مدينة. فاعجبوا لهذه الشهرة أن تكون البقعة
__________________
التي قد ذكرنا
مساحتها على قتلها وتفاهتها تكون فيها هذه المدن. وقد ذكر أن نصف سبط بني منسى
الذين وقعوا بشرقي الأردن ، ووقع في خطهم ستون مدينة كانوا ستة وعشرين ألف رجل
مقاتلين كلهم ليس فيهم ابن أقل من عشرين سنة ، والعمل باق إلى اليوم لعله اثني عشر
ميلا في مثلها ، ما رأيت أقل حياء من الذي كتب لهم تلك الكتب المرذولة ، وسخم بها وجوههم. ونعوذ بالله من الضلال.
فصل
ويتصل بهذا الفصل
فصل آخر هو أشنع منه في شهرة الكذب وشنعة المحال ، وظهور التوليد ، وبشاعة
الافتعال :
ذكر في صدر السفر
الثاني إذ ذكر خروج بني إسرائيل عن مصر مع موسى عليهالسلام : أن الله تعالى أمر موسى أن يعد بني إسرائيل بعد خروجهم
من مصر بسنة واحدة ، وشهر واحد فقط ، فعدّ جميع قبائلهم فقال : هؤلاء أكابر البيوت
في قبائلهم : «حنوك» و «فلو» و «حصرون» و «كرمى» وهم بنو «رؤوبين» بكر ولد «إسرائيل»
، هذه قبائل «رؤوبين».
وذكر في أول السفر
الرابع : أن مقدّمهم كان «اليصور بن شديئور» ، وأن عددهم كان ستة وأربعين ألف رجل
، لم يعدّ فيهم من له أقل من عشرين سنة ولا من لا يطيق الحرب.
وذكر في صدر السفر
الثاني فقال : «وبنو شمعون» «يموئيل» و «يامين» و «أوهد» و «ياكين» و «صوحر» و «شأول»
ابن الكنعانية. هذه قبائل شمعون.
وذكر في أول السفر
الرابع : أن مقدّمهم كان شلوميئيل بن صوريشداي. وأن عددهم كان تسعة وخمسين ألف رجل
، لم يعد فيهم من له أقل من عشرين سنة ، ولا من لا يطيق الحرب.
وقال في صدر السفر
الثاني : هذه تسمية بني لاوي في قبائلهم «جرشون» و «قهاث» و «مراري» و «ابنا جرشون»
و «لبنى» و «شمعي» في قبائلهم ، و «بنو قهاث» : «عمرام» و «يصهار» و «حبرون» و «عزيئيل».
وابنا مراري : «محلى» و «موشى». هذه أنساب بني لاوي في قبائلهم. فتزوج «عمران» «يوكابد»
عمته ، فولدت له «موسى» و «هارون»
__________________
وبنو يصهار : «قورح»
و «نافج» و «ذكرى» وبنو قورح : «أشير» و «القانة» و «أبياساف». وبنو عزيئيل : «ميشائيل»
و «الصافان» ، و «سترى». فتزوج «هارون» إلى «يشيع» بنت «عميناداب» أخت نخشون ،
فولدت له «ناداب» و «أبيهوا» و «العازار» و «إيثامار» فتزوج «العازار» بن هارون في
بنات بني «فوطيئيل» فولدت «فيحاس».
وقال في صدر السفر
الرابع : فكلم السيد موسى في غار سينا ، وقال له : عدّ بني لاوي في بيوت آبائهم
وأهاليهم ، فكل ذكر ابن شهر فصاعدا حسبهم موسى كما عهد إليه السيد فوجد ولد «لاوي»
على أسمائهم مسمين : «جرشون» و «قهاث» و «مراري». وولد جرشون «لبني» و «شمعي».
وولد «قهاث» «عمرام» و «يصهار» و «عزيئيل». وولد مراري : «محلى» و «موشى». وأنه
عدّ عامة ذكور بني «جرشون» ابن شهر فصاعدا فكانوا ستة آلاف وخمسمائة ، كانوا في
ساقة القبة في الغرب تحت أيدي «الياساف» ابن «لايل». وبعد ذلك ذكر أنه حسب ألفي
رجل وستمائة رجل وثلاثين رجلا. ثم قال : هذه نسبة «قهاث» خرج منه رهط «عمرام» و «يصهار»
و «حبرون» و «عزيئيل» فحسب من كان منهم ذكرا ابن شهر فصاعدا ، فوجدهم ثمانية آلاف
رجل وستمائة ذكر مقدّمهم «لصافان» بن «عزيئيل» المذكور. وأمرهم أن يكونوا في جنوب
القبة ، حاش موسى و «هارون» وأولادهما ، فإنهم يكونون أمام القبة في الشرق ، وأنه
حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة إلى ابن خمسين سنة فقط فوجدهم ألفي رجل وسبعمائة
رجل وخمسين رجلا. وذكر أنه حسب بني مراري «محلى» و «موشى» بني مراري ومن كان منهم
ابن شهر فصاعدا من الذكور فوجدهم ستة آلاف ومائتين مقدّمهم : «صوريئيل» بن «أبيحايل»
وأمرهم أن يكونوا في شمال القبة ، وأنه حسب من كان منهم ابن ثلاثين سنة فصاعدا إلى
خمسين سنة فوجدهم ثلاثة آلاف رجل ، ومائتي رجل. وبعد أن ذكر من كان من بني لاوي
ابن شهر فصاعدا من الذكور كما أوردنا قال : فجميع اللاويين الذين حسب موسى وهارون
من كل ذكر من ابن شهر فصاعدا اثنان وعشرون ألفا.
وأن السيد أوحى
إلى موسى : احسب بكور ذكور ولد إسرائيل المذكور من ابن شهر فصاعدا ، وتأخذ لي
اللاويين عن بكور جميع ولد إسرائيل فعدّ موسى بكور ولد بني إسرائيل الذكور من ابن
شهر فصاعدا فوجدهم اثنين وعشرين ألفا ، ومائتين وثلاثة وسبعين. فقال السيد لموسى :
خذ «بني لاوي» عن بكور ذكور ولد إسرائيل ليكون «بني لاوي» لي ، وعن المائتين
والثلاثة والسبعين الزائدين عن عدد بني لاوي ، تأخذ عن
كل واحد خمسة
أثقال بوزن الهيكل ، فأخذ موسى دراهم الزائدين فبلغت ألفا وثلاثمائة وخمسة وستين
ثقلا ، وأعطاها لهارون وولده على ما عهد عليه السيد.
ثم ذكر في سفر «يوشع»
أن «العازار بن هارون» بنفسه أتى إلى «يوشع بن نون» إذ فتحت الأرض المقدسة ، وكلمه
في أن يعطي «بني لاوي» مدائن للسكنى ففعل. وأنه وقع لبني هارون خاصة ثلاثة عشرة
مدينة من مدائن بني «يهوذا» و «بنيامين» و «شمعون». وأنه وقع لسائر بني «قاهاث» بن
«لاوي» عشر مدائن من مدائن بني دان وبني أفرايم ، ونصف سبط منسى الذين مع سائر
الأسباط ، وأنه وقع لبني جرشون بن لاوي ثلاث عشرة مدينة من مدائن «يساخر» ، و «أشار»
، و «نفتالي» ونصف سبط «منسى» الذي بشرق الأردن. وأنه وقع لبني مراري بن لاوي
اثنتي عشرة مدينة من مدائن بني زابلون ، وبني رؤوبين ، وجاد بن يعقوب بشرقي الأردن
فذلك لبني لاوي ثمان وأربعون مدينة.
وذكر في السفر
الرابع : أنه أحصى أيضا بني جاد بن يعقوب الرجال خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة
فصاعدا المبارزين للحرب فوجدهم خمسة وأربعين ألف رجل وخمسين رجلا ، مقدمهم «ألياساف
بن رعوئيل» وأنه أحصى بني «يهوذا» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا
المبارزين للحرب خاصة فوجدهم أربعة وسبعين ألفا وستمائة رجل ، وقد ذكر قبل وبعد أن
هذا العدد كله إنما هم من ولد «شيلة» ، و «فارص» و «زارح» بني يهوذا فقط ، مقدمهم «نحشون»
بن عميناداب بن أرام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن إسرائيل.
وأنه أحصى بني
يساكر الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب خاصة ،
فوجدهم أربعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل ، مقدمهم «نثنائيل بن صوغر» ، وأنه
أحصى «بني زبلون» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين للحرب
خاصة فوجدهم سبعة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل ، مقدمهم «ألباب بن حيلون» ، وأنه
حسب بني «يوسف» عليهالسلام الذكور خاصة ، من كان منهم ابن عشرين فصاعدا المبارزين
للحرب خاصة ، فوجدهم اثنين وسبعين ألف رجل وسبعمائة رجل منهم من ولد «أفرايم بن
يوسف» أربعون ألف رجل ، وخمسمائة رجل ، ومقدمهم «اليشمع بن عميهود» ومن ولد «منسى»
بن يوسف اثنان وثلاثون ألف رجل ، ومائتا رجل ، مقدمهم «جملئيل بن فدهصور» ، وأنه
حسب بني «بنيامين» الذكور خاصة ، من كان منهم ابن عشرين سنة فصاعدا المبارزين
للحرب
خاصة فكانوا خمسة
وثلاثين ألف رجل ، وأربعمائة رجل مقدّمهم «أبيدن بن جدعوني». وأنه حسب «بني دان»
الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعدا من المبارزين للحرب خاصة فكانوا : اثنين
وستين ألف رجل وسبعمائة رجل ، مقدمهم «أخيعزر بن عميشداي» وكلهم من ولد «حوشم بن
دان» وأنه حسب «بني أشير» الذكور خاصة من كان منهم ابن عشرين فصاعدا من المبارزين
للحرب خاصة ، فوجدهم واحدا وأربعين ألف رجل وخمسمائة رجل ، مقدمهم «فجعيئيل بن
عكران» وأنه حسب «بني نفتالي» من كان منهم من الذكور خاصة ابن عشرين فصاعدا
المبارزين للحرب خاصة ، فوجدهم ثلاثة وخمسين ألف رجل وأربعمائة رجل ، مقدمهم «أخيرع
بن عينن» وأن هذا الحساب كان بعد عام واحد وشهر واحد من خروجهم من مصر حاش قسمة
المدائن المذكورة وأنها بعد دخولهم فلسطين والأردن.
فليتأمل كل ذي
تمييز صحيح من الخاصة والعامة هذا الكذب الفاحش الذي لا خفاء به ، والمحال الممتنع
، والجهل المفرط الموجب كل ذلك ضرورة أنها كتب محرفة مبدّلة من تحريف فاسق سخر بهم
، وأنها لا يمكن البتة أن تكون من عند الله ، ولا من عند نبي ، ولا من عمل صادق
اللهجة.
فمن ذلك إخباره :
بأن رجال «بني دان» كانوا إذ خرجوا من مصر اثنين وسبعين ألفا وسبعمائة رجل ، لم
يعد فيهم من كان منهم ابن أقل من عشرين سنة ، ولا من لا يطيق البروز للحرب ، ولا
النساء ، وأنهم كلهم راجعون إلى «حوشيم بن دان» وحده. ولم يكن «لدان» بإقرارهم ولد
غير «حوشيم» مع قرب أنسابهم من «حوشيم» ، لأن في نصّ توراتهم : أن الله تعالى قال
لإبراهيم عليهالسلام : أن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام ، فاضبطوا
هذا يظهر لكم الكذب علانية لا خفاء به ، وأن «بني يهوذا» كانوا أربعة وسبعين ألفا
وستمائة رجل ، ليس غيرهم. وفي الحياة يومئذ رئيسهم : «نحشون» بن عميناداب بن أرام
بن حصرون بن فارص بن يهوذا. وأن «بني يوسف» عليهالسلام : كانوا اثنين وسبعين ألف رجل ، وسبعمائة رجل ، ليس يعد
فهم من له أقل من عشرين سنة وكلهم راجع إلى «أفرايم» و «منسى» لم يعقب ليوسف
غيرهما ، وفيهم يومئذ في الحياة «صلفحاد بن حافر بن جلعاد بن منسى بن يوسف» عليهالسلام.
وقد ذكر أيضا في
توراتهم أولاد «أفرايم» فلم يجعل له إلا ثلاثة ذكور ، ولم يجعل «لمنسى» إلا ولدين.
وذكر أولاد «جلعاد» المذكور ابن «منسى» ولم يجعل له إلا ستة ذكور فقط ، فاجعلوا «لمنسى»
و «أفرايم» أقصى ما يمكن أن يكون للرجل من
الأولاد ، ثم
لجلعاد وإخوته وبني عمه مثل ذلك. ثم «لحافر» وطبقته مثل ذلك. وانظروا هل يمكن أن
يبلغ ذلك ثلث هذا العدد. والأمر في ولد «دان» أفحش من سائر ما في ولد إخوته ، وإن
كان الكذب في كل ذلك فاحشا ، لأن البضع والسبعين ألف رجل وزيادة لم يعد فيهم ابن
أقل من عشرين سنة ، يرجعون إلى ثلاثة من ولد «يهوذا» ، واثنين من ولد «يوسف» وأما
الاثنان وستون ألف رجل ونيف لا يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة ، فإنما يرجع إلى
واحد فقط لم يكن «لدان» غيره بلا خلاف منهم ، فكيف إذا أضيف إلى هذا العدد من له
أقل من عشرين سنة من الرجال؟ والأغلب أنهم قريب من عدد المتجاوزين عشرين سنة أو
أقل بيسير ، وجميع النساء والأغلب أنهن في عدد الرجال أو قريبا من ذلك ، فيجتمع من
ولد «حوشيم بن دان» وحده في مدى مائتي عام وسبعة عشر عاما نحو مائة ألف وستين ألف
إنسان.
هذا المحال الممتنع
الذي لم يكن قط في العالم على حسب بنيته ورتبته.
ويجتمع من ولد «يوسف»
عليهالسلام على هذا أرجح من مائتي ألف إنسان ومن ولد «يهوذا» نحو ذلك
، وليس يمكنهم أن يقولوا إن الطبقات من الولادات كانت كثيرة جدا لوجهين :
أحدهما
: قوله في توراتهم
إن الجيل الرابع من الأولاد يرجعون إلى الشام.
والثاني
: أن الذي ذكر
أنسابهم من «بني لاوي» ، و «بني يهوذا» ، و «بني يوسف» و «بني رؤوبين» كانوا
متقاربين في التعداد «كموسى» و «هارون» و «مريم» بني «عمران بن فاهاث بن لاوي بن
إسرائيل». و «اليصافان بن عزيئيل بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل». وقورح وإخوته «بنو
يصهار بن فاهاث بن لاوي بن إسرائيل». و «نحشون وإخوته بنو عميناداب بن آرام بن
حصرون بن فارص بن يهوذا بن إسرائيل». و «أحار بن كرمى بن سيداي بن شيلة بن يهوذا
بن إسرائيل». و «دابان» و «أبيرام» ابنا «الباب بن ملوكن بن روبان بن إسرائيل»
وإخوتهم ، وأولادهم وأولاد أولادهم ، هذا نص ذكر أنسابهم في توراتهم ، فوضح أن
الأمر متقارب في تعدادهم ، وظهر بهذا عظيم الكذب الفاحش في الأعداد التي ذكروا ،
ولا يمكنهم البتة أن يقولوا : إنه كان لإسرائيل غير من سمينا من الأولاد الاثني
عشر ، ولا أنه كان لأولاد إسرائيل المذكورين غير من سمينا من الأولاد ، وعددهم
واحد وخمسون رجلا فقط ، «لبنامين» عشرة ، و «لجادا» سبعة ، و «لشمعون» ستة و «لرءوبين»
و «أشير» و «يساخر» و «نفتالي» لكل واحد منهم أربعة أربعة. و «ليهوذا» و «لاوي» و
«زبلون» لكل واحد منهم ثلاثة ثلاثة. و «ليوسف» ولدان اثنان.
فيا للناس!! كيف
يمكن أن يتناسل من ولادة واحد وخمسين رجلا فقط في مدة مائتي عام وسبعة عشر عاما
فقط أزيد من ألفي ألف إنسان؟
هذا غاية المحال
الممتنع ، لأنه نص في توراتهم : أنه انتسل منهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف رجل كلهم
لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة. ولعلّ من دون العشرين عاما منهم يقاربون هذا
العدد. ثم النساء ولعلهن نحو هذا العدد. فاعجبوا لهذه الفضائح. وقد رام بعض من
صككت وجهه من علمائهم بهذه الفضيحة أن يلوذ بهذا الشغب. فقلت : دع عنك هذا التمويه
فقد سدّت عليك توراتك كل المذاهب ، لأن فيها ـ بعلمك ـ حيث ذكر خروجهم من مصر ،
وحيث ذكر دخولهم إلى الشام ، وحيث ذكر قسمة الأرض عليهم في سفر «يوشع» ذكر أفخاذ
قبائلهم ، وتسمية أسباطهم اسما اسما ، فلم يزد على من سمينا ولا واحدا.
فلو كان ما تقول ،
لكانت أيضا قد كذبت في هذا الموضع إذ ذكرت بزعمك هذا ، قسمة الأرض ، ورتبة الجيوش
، وأعداد الأسباط بخلاف ما تزعم. فلا بدّ فيها من الكذب المتيقن كيفما تصرفت الحال
، فسكت خاسئا.
فإن قيل : ألم يقل
«يعقوب» إذ عرض عليه «يوسف» ابنه «أفرايم» و «منسى» فقال له «يعقوب» : «أفرايم» و
«منسى» يكونان لي ، وينسبان إليّ ، ومن ولد لك بعدهما ينسبان إليك؟
قلنا : لا يخلو «يوسف»
عليهالسلام من أن لا يكون له ولد غيرهما ممّن أعقب خاصة ، كما نقول
نحن ، وتشهد به نصوص توراتكم ، وجميع كتبكم ، أو يكون ليوسف ولد أعقب غير أفرايم و
«منسى» ، فلو كان ذلك فكتبكم كلها كاذبة أولها عن آخرها من التوراة فما وراءها.
لأنه في كل مكان ذكر فيه رتبة معكسر الأسباط سبطا سبطا وعددهم إذ خرجوا من مصر ،
وعددهم إذ دخلوا الشام ، وعددهم إذ أهدوا الكباش والعجول وحقاق الذهب ، وعددهم إذ
وقفوا على الجبلين للبركة واللعنة ، وعددهم إذ نقشت أسماؤهم في الفصوص المرتبة على
صدر هارون في أزيد من ألف موضع في سائر كتبهم. ولم يذكر ليوسف إلا سبطين فقط ، سبط
«منسّى» ، وسبط «أفرايم» فبطل الاعتراض بذلك الكلام المذكور. وبالله التوفيق.
وقد علم كل من
يميز من الرجال والنساء أن الكثرة الخارجة من الأولاد لم توجد في العالم لصعوبة
الأمر في تربية أطفال الناس ولكون الإسقاط في الحوامل ، ولإبطاء حمل المرأة بين
بطن وبطن ، ولكثرة الموت في الأطفال.
فهذه أربع عوارض
قواطع دون الكثرة الخارجية في الأولاد للناس ، ثم كون الإناث في الولادات أيضا.
ولو طلبنا أن نعد من عاش له عشرون ولدا فصاعدا من الذكور وبلغوا الحلم فما وجدناهم
إلّا في الندرة ، ثم في القليل من الملوك وذوي اليسار المفرط الذين تنطلق أيديه
على الكثير من النساء والإماء ، ثم على الخدام اللواتي هن العون على التربية
والكفاية ، وعلى كثرة المال الذي لا يكون المعاش إلّا به ، وأمّا من لا يجد إلا
الكفاف وفوقه مما لا يبلغ الإكثار من الوفر ، ولا يقدر إلّا على المرأة والمرأتين
ونحو ذلك ، فلا يوجد هذا فيهم البتة بوجه من الوجوه ولا يمكن ذلك أصلا لهم لما
ذكرنا آنفا من القواطع الموانع ، وقد شاهدنا الناس وبلغتنا أخبار أهل البلاد
البعيدة ، وكثر بحثنا عما غاب عنا منا ، ووصلت إلينا التواريخ الكثيرة المجموعة في
أخبار من سلف من عرب وعجم في كثير من الأمم ، فما وجدنا في كل ذلك المعهود من عدد
أولاد الذكور في المكثرين الذين يتحدث بهم عند كثرة الولد إلّا من أربعة عشر ذكرا
فأقل ، وأمّا ما زاد إلى العشرين فنادر جدّا.
هذه الحال في جميع
بلاد أهل الإسلام ، والذي بلغنا عن ممالك النصارى إلى أرض الروم ، وممالك الصقالبة
والترك والهند والسودان قديما وحديثا ، وأما الثلاثون فأكثر فما بلغنا ذلك إلا عن
نفر يسير عمن سلف. منهم «أنس بن مالك الأنصاري» ، وخليفة بن أبي السعدي ، وأبو
بكرة ، فإن هؤلاء لم يموتوا حتى مشى بين يدي كل واحد منهم مائة ذكر من ولده. وعمر
بن عبد الملك فإنه كان يركب معه ستون رجلا من ولده ، وجعفر بن سليمان بن
علي بن عبد الله بن العباس ، فإنه عاش له أربعون ذكرا من ولده سوى أبنائهم ، وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن
عبد الرحمن بن معاوية فإنه ولد له خمسة وأربعون ذكرا عاش منهم نيف وثلاثون ،
وموسى بن
__________________
إبراهيم بن موسى
بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ، فإنه بلغ له
منهم الرجال واحد وثلاثون ابنا ذكورا كلهم ، وكان أبوه أميرا على اليمن مرة قائما
ومرة واليا للمأمون ، ووصيف مولى المعتصم التركي كان له خمسة وخمسون ذكرا بالغين
من ولده الأدنين. و «تامرت» مولى ابن مناد صاحب «طرابلس» فإنه كان يركب معه ثمانون
ذكرا من أولاده الأدنين ، إلا أن هذا كان يغتصب كل امرأة أعجبته من أمة أو حرة
ويولدها ، ورجل من ملوك البربر من «بني دمر» معتزلي كان يركب معه مائتا فارس من
ولده وولد ولده ، وتميم بن زيد بن يزيد بن يعلى بن محمد العرني ، فإنه بلغنا أنه
كان له نيف وخمسون ذكرا بالغين وكان ملك بني يفرن ممن ملك بلادا عظيمة. وأبو النهار بن زيري بن منكاد فكان
يركب معه ثلاثون ذكرا من ولده الأدنين. ومرزوق بن أشكر ابن الثغري بجهة «لاردة» ـ فكان يركب معه
ثلاثون فارسا من ولده الأدنين. وبلغنا عن ملك من ملوك الهند أنه كان له ثمانون
ولدا ذكرا بالغون.
وتذكر اليهود في
تواريخهم أن رئيسا كان يدبر أمرهم كلهم يسمى «جدعون بن بواش» من بني منسى بن يوسف عليهالسلام كان له سبعون ولدا ذكورا ، وأن آخر من مدبريهم أيضا من سبط
منسى يسمى «بايين بن جلعاد» كان له اثنان وثلاثون ولدا ذكورا ، وآخر من مدبريهم
اسمه «عبدون بن هلال» من بني أفرايم بن يوسف كان له أربعون ابنا ذكرا بالغون. وآخر
من مدبريهم من سبط يهوذا اسمه «أفصان» من سكان بيت لحم كان له ثلاثون زوجة ،
وثلاثون ابنا ذكورا ، وثلاثون بنتا. وتزعم الفرس أن «جودرز» الملك على كرمان كان
له تسعون ابنا ذكورا بالغون. فإذا كانت هذه الصفة لم نجدها منذ نحو ثلاثة آلاف عام
إلّا في أقل من عشرين إنسانا في مشارق الأرض ومغاربها في الأمم السالفة والخالفة
ممن علت حاله ، وامتد عمره ، وكثرت أمواله وعياله ، فكيف يتأتى من هذا العدد ما لم
يسمع بمثله قط في الدّهر ، لا في نادر ولا في شاذ لبني إسرائيل كافة بمصر؟ وحالهم
فيها معروفة مشهورة لا يقدر أحد على
__________________
إنكارها ، وهي
أنهم كانوا في حياة يوسف عليهالسلام في كفاف من العيش أصحاب غنم فقط ، ولم يكونوا في يسار فائض
، ثم كانوا بعد موت يوسف وإخوته عليهالسلام في فاقة عظيمة وعذاب ونصب ، وسخرة متصلة ، وذلّ راتب ،
وبلاء دائب ، وتعب زاهق ، يكاد يقطع عن الشبع ، فكيف عن الاتساع في العيال ،
والأشر في الاستكثار من الولد؟ فهذه كذبة عظيمة مطبقة فاضحة.
وثانية : وهي أن
في توراتهم أنهم كانوا ساكنين في أرض «قوص» فقط وأن معاشهم كان من المواشي فقط.
وذكر في توراتهم :
أنهم إذ خرجوا من مصر خرجوا بجميع مواشيهم ، فاعجبوا أيها السامعون وتفكروا ما
الذي يكفي ستمائة ألف وثلاثة آلاف لم يعد فيهم ابن أقل من عشرين سنة ، سوى النساء ـ
للقوت والكسوة من المواضي ، ثم اعلموا يقينا أن أرض مصر كلها تضيق عن مسرح هذا
المقدار من المواشي فكيف أرض قوص وحدها؟
وهم يقولون في
توراتهم : إن إبراهيم ولوطا عليهماالسلام لم تحمل كثرة مواشيهم أرض واحدة ، ولا أمكنهما أن يسكنا
معا ، فكيف بمواش تقوّم بأزيد من ألف ألف وخمسمائة ألف إنسان؟ لقد كان الذي عمل
لهم هذه الكتب الملعونة المكذوبة ضعيف العقل ، قليل الفكرة فيما يطلق به قلمه ،
فهذه كذبة فاحشة ثانية عظيمة جدّا.
وثالثة : أنه ذكر
في توراتهم أنهم كانوا كلهم يسخرون في عمل (الطوب) وتالله إن ستمائة ألف طوّاب لكثير جدا ، لا سيما في «قوص» وحدها ، وليس يمكنهم أن
يقولوا : إنهم كانوا متفرقين ، فإن توراتهم تقول غير هذا وتخبر أنهم كانوا مجتمعين
، ذكر ذلك في مواضع جمة منها ، حيث أمرهم بذبح الخرفان ومس العنب بالدم منها حيث أباح لهم فرعون الخروج مع موسى عليهالسلام ، فكانوا كلهم مجتمعين بمواشيهم يوم خروجهم. وهذه كذبة
عظيمة ثالثة لا خفاء بها.
والرابعة : أنه
ذكر «بني لاوي» ثلاثة رجال فقط : «فهاث» و «جرشون» ، و «مرارى» ، وأن ذكور نسل
هؤلاء الثلاثة فقط كانوا : اثنين وعشرين ألفا من الذكور خاصة من ابن
__________________
شهر فصاعدا ، من
جملتهم ثمانية آلاف رجل وخمسمائة رجل وثمانون رجلا ليس فيهم ابن أقلّ من ثلاثين
سنة ، ولا ابن أكثر من خمسين سنة ، ثم ذكر أولاد «مراري» فلم يذكر له إلّا ولدين :
«محلّى» و «موشي» فقط ، وذكر أولاد «جرشون» بن «لاوي» فلم يذكر له إلّا ولدين فقط
: «لبني» و «شمعي» وذكر أولاد «فهاث» بن «لاوي» فلم يذكر إلّا أربعة فقط : «عمرام»
و «يصهار» و «حبرون» و «عزيئيل». فرجع نسل «لاوي» كله إلى هؤلاء الثمانية و «هارون»
عليهماالسلام فقط ، و «العازار» و «فرصوم» ابني «موسى» عليهالسلام وكانا صغيرين حينئذ جدّا ، وأربعة أولاد لهارون عليهالسلام ، وعد أولاد «يصهار» فذكر «قورح» وإخوته ، وثلاثة أولاد
لقورح وبقي سائر العدد المذكور من الألوف وهي : ثمانية آلاف «حبرون» و «عزيئيل»
وأخوي «قورح» فقط ، هذا و «الصافان» بن «عزيئيل» حي مقدم طبقته سوى النساء ، ولعلّ
عددهن كعدد الرجال ، وهذا من الحمق الذي لا نظير له ، ومن قلة الحياء في الدرجة
العليا ، ومن الكذب البحت في المقدمة ، ومن المحال في المحلّ الأقصى ، وجار مجرى
الخرافات التي تقال عند السمر بالليل ، ولعمري لو ضل بتصديق هذا الهوس الفاجر واحد
واثنان لكان عجبا ، فكيف أن يضل به عالم عظيم ، وجيل بعد جيل مذ أزيد من ألف
وخمسمائة عام مذ كتب لهم «عزرا» الوراق هذا السخام الذي أضلهم به؟ ونحمد الله على عظيم نعمته علينا حمدا
كثيرا. ونسأله العصمة في باقي أعمارنا مما امتحن به من شاء إضلاله آمين آمين.
والخامسة قوله في
سفر يوشع : إنه وقع لبني هارون ثلاث عشرة مدينة ، و «العازار بن هارون» حي قائم ،
فيا للناس!! أفي المحال أكثر من أن يدخل في عقل أحد أن نسل «هارون» بعد موته بسنة
وأشهر يبلغ عددا لا يسعه للسكنى إلا ثلاث عشرة مدينة؟ هل لهذا الحمق دواء إلا الغل
والقيد والمجمعة ، وما يتبع ذلك من الكي والسوط؟ ونعوذ بالله من الخذلان.
وكذبة سادسة ظريفة
جدّا : وهي أنه ذكر في توراتهم أن عدد ذكور «بني جرشون» بن لاوي من ابن شهر فصاعدا
فكانوا ستة آلاف وخمسمائة ، وأن عدد ذكور «بني فهاث» بن «لاوي» من ابن شهر فصاعدا
كانوا ثمانية آلاف وستمائة ، وأن عدد ذكور بني مراري بن لاوي من ابن شهر فصاعدا
كانوا ستة آلاف ومائتين ، ثم قال : فجميع الذكور من بني لاوي من ابن شهر فصاعدا
اثنان وعشرون ألفا ، فكان هذا ظريفا
__________________
جدّا ، وشيئا تندى
منه الآباط. وهل يجهل أحد أن الأعداد المذكورة إنما هي يجتمع منها واحد وعشرون
ألفا وثلاثمائة؟
هذا أمر لا ندرى
كيف وقع؟ أتراه بلغ المسخم الوجه الذي كتب لهم هذا الكتاب الأحمق من الجهل بالحساب
هذا المبلغ؟ إن هذا لعجب!! ولقد كان الثور أهدى منه ، والحمار أنبه منه بلا شك. أترى
لم يأت بعده من اليهود مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام من تبين له أن هذا خطأ
وباطل؟ ولا يمكن أن يدعى هنا غلط من الكاتب ، ولا وهم من الناسخ ، لأنه لم يدعنا
في لبس من ذلك ، ولا في شك من فساد ما أتى به ، بل أكد ذلك وبينه وفضحه وأوضحه بأن
قال : إن بكور ذكور بني إسرائيل كانوا اثنين وعشرين ألفا ومائتين وثلاثة وسبعين ،
وأن الله تعالى أمر «موسى» أن يأخذ بني لاوي الذكور عن بكور ذكور بني إسرائيل ،
وأن يأخذ عن المائتين والثلاثة والسبعين الزائدين من بكور ذكور بني إسرائيل عن
الاثنين وعشرين ألفا من بني لاوي عن كل رأس خمسة أثقال فضة ، فاجتمع من ذلك ألف
ثقل وثلاثمائة ثقل ، وخمسة وستون ثقلا ، فارتفع الإشكال جملة. (وبالله التوفيق).
وتالله ما سمعنا
قط بأخبث طينة ، ولا أفسد جبلة ممن كتب لهم هذا الضلال إلا من اتبعه وصدّق بضلاله.
فهذه ست كذبات في نسق ، لو لم يكن في توراتهم منها إلّا واحدة لكان برهانا قاطعا
موجبا لليقين بأنها كتاب موضوع بلا شك ، مبدّل محرّف مغير مكذوب. فكيف بجميع ما
أوردنا من ذلك ونورد إن شاء الله ، ونعوذ بالله من الخذلان.
ويتلو هذا كذبة
سابعة بشيعة شنيعة ، وهي أنهم لا يختلفون في أن داود عليهالسلام هو ابن «أبشباي بن عونيذ بن بوعز بن شلومون بن نحشون بن
عميناداب بن أرام بن حصرون» لا يختلفون في أن «عونيذ» المذكور جد داود أبا أبيه
كانت أمه «روث» العمونية التي لها عندهم كتاب مفرد من كتب النبوة ، ولا يختلفون في
أن من خروجهم من مصر إلى ولاية «داود» عليهالسلام كانت ستمائة سنة وستّا وستين.
وفي نص التوراة
عندهم وبلا خلاف منهم : أن مقدم بني يهوذا إذ خرجوا من مصر كان «نحشون بن عميناداب»
المذكور ، وأنه أخو امرأة «هارون» عليهالسلام.
وفي نص توراتهم
أنهم قالوا : قال الله تعالى : إنه لا يدخل الأرض المقدسة أحد خرج من مصر ، وله
عشرون سنة فصاعدا إلا «يوشع بن نون» الأفرايمي ، و «كالب بن يفنّة اليهوذاني» ،
فصح ضرورة أن «نحشون» مات في التيه ، وأن الدّاخل في أرض الشام هو
ابنه «شلومون»
الداخل ثم ولادة «داود» عليهالسلام ، ثم «أبشاي» ثم لا تختلف كتبهم في أن «داود» عليهالسلام ولي وله ثلاث وثلاثون سنة عند تمام الستمائة سنة وست وستين
، فينبغي أن تسقط سنو «داود» إذ ولي من العدد المذكور ـ يكون الباقي خمسمائة سنة
وثلاثا وسبعين سنة لثلاث ولادات. وهي ولادة «أبشاي» وولادة «عونيذ» وولادة «بوعز».
فتأملوا : ابن كم كان [عمر كلّ] واحد منهم إذ ولد له ابنه المذكور؟ تعلموا أنه كذب
مستحيل في نسبة ذلك من أعمارهم يومئذ لأن في كتبهم نصّا أنه لم يعش أحد بعد موسى عليهالسلام في بني إسرائيل مائة وثلاثين سنة إلا «يهوباراع» الكوهن
الهاروني وحده ، بالضرورة يجب أن كل واحد ممن ذكرنا كان له أزيد من مائة ونيف
وأربعين إذ ولد له ابنه المذكور.
وهذه أقوال يكذب
بعضها بعضا ، فصح ضرورة لا محيد عنها أنها كلها مبدلة مستعملة محرفة مكذوبة ملعونة
، وثبت أن ديانتهم المأخوذة من هذه الكتب ديانة فاسدة مكذوبة من عمل الفسّاق ضرورة
كالشيء المدرك بالعيان واللمس ، ونحمد الله على السلامة.
فصل
شوق بني إسرائيل إلى خضروات الأرض
ثم وصف قيام بني
إسرائيل على موسى عليهالسلام ، وطلبهم منه اللحم للأكل وذكروا شوقهم إلى القرع ،
والقثاء ، والبصل ، والكرات ، والثوم الذي تشبه رائحته في الروائح عقولهم في
العقول ، وذكروا ضجرهم من المنّ ، والله عزوجل قال لموسى عليهالسلام : «تقول للعامة تقدسوا غدا تأكلوا اللحم ، ها أنا أسمعكم
قائلين : من ذا يطعمنا أكل اللحم؟ قد كنا بخير بمصر ليعطينكم السيد اللحم فتأكلون
، ليس يوما واحدا ولا يومين ، ولا خمسة ، ولا عشرة حتى تكمل أيام الشهر ، حتى يخرج
على مناخركم ، ويصيبكم التخم لما تخليتم عن السيّد الذي هو في وسطكم ، ويبكون
قدامه قائلين : لما ذا خرجنا من مصر؟ فقال موسى لله تعالى : هم ستمائة ألف رجل ،
وأنت تقول : أنا أعطيهم اللحوم شهرا طعما؟ أترى تكثر بذبائح البقر والغنم فيقتاتون
بها؟ أم تجمع حيتان البحر معا لتشبعهم؟. فقال له الرب : أترى يد السيد عاجزة؟!
سترى أن يوافيك كلامي أم لا»؟
ثم ذكر أن الله
تعالى : أرسل ريحا فأتت بالسّمانى من خلف البحر إلى بني
__________________
إسرائيل فأكلوها ،
ودخل اللحم بين أضراسهم ، وأصابهم التخم ، وأخذهم وباء شديد مات منهم به كثير ،
وأن هذا كان في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ذكر في هذا الفصل آيات من الله رب العالمين ، وما تأتي له طامة إلّا
تكاد تنسي ما قبلها. فأول ذلك : إخبار اللعين المبدل للتوراة بأن الله تعالى إذ
قال لموسى : غدا تأكلون اللحم إلى تمام الشهر. قال له موسى : هم ستمائة ألف رجل
وأنت تقول : أنا أعطيهم اللحوم طعاما شهرا. أترى تكثر بذبائح البقر والغنم يقتاتون
بها ، أو تجمع حيتان البحر معا لتشبعهم؟
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : حاش لله أن يراجع رجل له مسكة عقل ربه عزوجل هذه المراجعة ، وأن يشك في قوته على ذلك ، وعلى ما هو أعظم
منه. فكيف رسول نبي؟ أترى «موسى» عليهالسلام دخله قط شك في أن الله تعالى قادر على أن يكثر بذبائح
البقر والغنم حتى يشبعهم؟ أو على أن يأتيهم من حيتان البحر بما يشبعهم منه؟ حاش
لله من ذلك. أتراه خفي على «موسى» عليهالسلام أن الله تعالى هو الذي يرزق جميع بني آدم في شرق الأرض
وغربها اللحم وغير اللحم؟ وأنه تعالى رازق سائر الحيوانات كلها من الطائر والعائم
والمنساب ، والماشي على رجلين ، وأربع ، وأكثر ، حتى يستنكر أن يشبع شرذمة قليلة
لا قدر لها من اللحم. حاش له من ذلك!! فكيف يقول «موسى» عليهالسلام هذا الكلام الأحمق؟ حاش له من ذلك.
وقبل ذلك بعام
وشهر وبعض آخر طلبوا اللحم فأتاهم بالسمانى ، والمنّ ، وأكلوا ذلك بنص توراتهم ، أتراه
نسي ذلك في هذه المدة اليسيرة؟ أو يظن أنه قدر على الأولى ويعجز عن الثانية؟ حاش
له من هذا الهوس. ثم زيادة في بيان هذا الكذب : أن في توراتهم أن بني إسرائيل إذ
خرجوا من مصر مع «موسى» خرجوا بجميع مواشيهم من البقر والغنم ، وأن أهل كل بيت
منهم ذبحوا جديا أو خروفا في تلك الليلة.
وذكر في مواضع
منها : أنهم أهدوا الكباش والتيوس والخرفان والجديان والبقر والعجول إلى قبة
العهد.
وذكروا في آخرها :
أن «بني رؤوبين» و «بني جادا» ونصف سبط «بني منسى» كان معهم غنم كثير ، ومن البقر
عدد لا يحصى ، في حين ابتداء قتالهم ، وفتحهم لأرض الشام ، فأي عبرة في إشباعهم من
اللحم ، واللحم حاضر معهم كثير لا قليل؟ ثلاثة من الغنم كانت تكفي الواحد منهم
شهرا كاملا ، وثور واحد كان يكفي أربعة
منهم شهرا كاملا ،
على أن يأكلوا اللحم قوتا حتى يشبعوا بلا خبز ، فكيف إذا تأدموا به؟ فأي عجب في
إشباعهم باللحم حتى يراجع «موسى» ربه تعالى بإنكار ذلك من قوة ربه عزوجل ، فهل في العالم أحمق ممن كتب هذه الكذبة الشنيعة الباردة
السخيفة الممزوجة بالكفر؟ اللهم لك الحمد على تسليمك لنا مما امتحنتهم به.
فإن قالوا : إنّ
في كتابكم أن الله تعالى قال لزكريا : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى) [سورة مريم : ٧]
الآية.
وأن زكريا قال
لربه تعالى : (أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا قالَ
كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [سورة مريم : ٩]
الآية (قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) [سورة مريم : ١٠].
وفي كتابكم أيضا : أن الملك قال لمريم : (أَنَا رَسُولُ
رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [سورة مريم : ١٩ ،
٢٠] قالت : ربّ أنّى يكون لي غلام؟ الآية (قالَ كَذلِكِ قالَ
رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [سورة مريم : ٢١]
الآية.
قلنا : ليس في
جواب زكريا ومريم عليهماالسلام اعتراض على بشرى الباري عزوجل لهما ، كما في كتابكم عن موسى عليهالسلام ، ولا في كلام زكريا ومريم عليهماالسلام إنكار على أن يعطيهما ولدين ، وهما عقيم وبكر ، إنما سألا
أن يعرفا الوجه الذي منه يكون الولد فقط. لأن «أنّى» في اللغة العربية التي بها
نزل القرآن بلا خلاف معناها «من أين». فصح ما قلنا من أنهما سألاه أن يعرفهما الله
تعالى من أين يكون لهما الولدان؟ أو من أي جهة؟ أبنكاح زكريا لامرأة أخرى؟ أم نكاح
رجل لمريم؟
أم من اختراعه
تعالى وقدرته؟. فإنما سأل زكريا الآية ليظهر صدقه عند قومه ، ولئلا يظن أنهما
أخذاه وادعياه ، هذا هو ظاهر الآيتين اللتين ذكرنا من القرآن دون تكلف تأويل بنقل
لفظ أو زيادة أو حذف ، بخلاف ما حكيتم عن موسى من الكلام الذي لا يحتمل إلا
التكذيب فقط.
فصل
معاندة هارون ومريم لموسى عليهمالسلام
وبعد ذلك ذكر قيام
«مريم» و «هارون» أخي موسى عليهالسلام معاندين «لموسى» من أجل امرأته الحبشية.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وكيف تكون حبشية؟ وقد قال في أول
توراتهم إنها بنت «يثرون»
المدياني ، وهو بلا شك من ولد «مدين بن إبراهيم» عليهالسلام فأحد هذين القولين يكذب الآخر.
فصل
طلب موسى من الأسباط أن يخرجوا للأرض المقدسة
ذكر كما ذكرنا أن
في الشهر الثاني من السنة الثانية من خروجهم من مصر كان طلبهم اللحم كما ذكرنا ،
وأنه بعد ذلك وقع لهارون و «مريم» الشغب مع «موسى» أخيهما عليهالسلام ـ كما ذكرنا ـ وأن
«مريم» مرضت وأخرجت من المعسكر سبعة أيام حتى برئت ثم رجعت ، وأن بعد ذلك وجه «موسى»
عليهالسلام الاثني عشر رجلا الذين كان من جملتهم «هوشع بن نون» الأفرايمي ، و «كالب بن يفنّة» اليهوذاني ، ليروا
الأرض المقدسة وذكر أنهم طافوها في أربعين يوما ، ثم رجعوا ، وخوّفوا بني إسرائيل
، حاشا «كالب» و «هوشع». وأن الله تعالى سخط عليهم ، وأهلكهم ، وأوحى إلى موسى : «أما
جيفكم فستكون ملقاة في المفاز ، ويكون أولادكم سابحين في المفاز أربعين سنة على
عدد الأربعين يوما التي دوختم فيها البلد ، أجعل لكم كل يوم سنة ، وتكافئون أربعين
سنة بخطاياكم». وأنهم بقوا في التيه أربعين سنة ، فلما أتموها أمرهم الله عزوجل بالحركة فتحركوا ، ثم ماتت «مريم» أخت «موسى» عليهالسلام ، ثم مات «هارون» عليهالسلام ، ثم حارب «موسى» «عوج» و «سحون» الملكين ، وأخذ بلادهما ،
وأعطى بلادهما لبني رؤوبين ، و «بني جادا» ، ونصف سبط «منسى» ثم حارب المدنيين وقتل ملوكهما ، ثم إنه عليهالسلام مات وله مائة سنة وعشرون سنة.
وفي صدر توراتهم :
أنه عليهالسلام إذ خرج عن مصر كان له ثمانون سنة هذا كله نص توراتهم حرفا
حرفا.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا كذب فاحش ، وقد قلنا : إن الذي عمل لهم التوراة التي بأيديهم كان
قليل العلم بالحساب ، ثقيل اليد فيه جدّا ، أو عيّارا ،
__________________
ماجنا مستخفّا لا
دين له سخر منهم بأمثال التيوس والحمير. لأنه إذا خرج وله ثمانون سنة وبقي بعد
خروجه سنة وشهرا ، ثم قاتلوا ملوكا عدة وقتلوهم وأخذوا بلادهم وأموالهم ، فقد
اجتمع من ذلك ضرورة زيادة على المائة والعشرين سنة أكثر من سنة ولا بد ، والأغلب
أنهما سنتان زائدتان ، فكذب ولا بدّ في سنّ موسى إذ مات ، أو كذب الوعد الذي أخبر
عن الله تعالى بتيههم أربعين سنة ، حاشا للباري تعالى أن يكذب ، أو أن يغلط في
دقيقة أو أقل ، وحاشا لنبيه صلىاللهعليهوسلم من مثل ذلك ، وصحّ أنها مولدة موضوعة.
فصل
طلب موسى من قومه عدم السماع لأدعياء النبوة
ثم ذكر في السفر
الخامس فقال : إن طلع فيكم نبي وادّعى أنه رأى رؤيا وأتاكم بخبر ما يكون ، وكان ما
وصفه ثم قال لكم بعد ذلك : اتبعوا أبناء آلهة الأجناس فلا تسمعوا له.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : في هذا الفصل شنعة من شنع الدّهر ، وتدسيس كافر مبطل للنبوات كلها ،
لأنه أثبت النبوة بقوله : إن طلع فيكم نبي ويصدقه في الأخبار بما يكون ثم أمرهم
بمعصيته إذا دعاهم إلى اتباع آلهة الأجناس ، وهذا تناقض فاحش ، ولئن جاز أن يكون
نبي يصدق فيما ينذر به يدعو إلى الباطل والكفر ، فلعل موسى صاحب هذه الوصية من أهل
هذه الصفة ، وما الذي يؤمننا من ذلك؟ وهل هاهنا شيء يوجب تصديقه واتباعه ويبينه من
الكذابين إلا ما صحح نبوته من المعجزات؟ فلما لزمت معصيته إذا أمر بباطل فإن معصية
موسى لازمة وغير جائزة في شيء مما أمر به ، إذ لعلّه أمر بباطل إذ كان في الممكن
أن يكون نبي يأتي بالمعجزات يأمر بباطل ، وحاشا لله من أن يقول موسى عليهالسلام هذا الكلام. والله ما قاله قط ، ولقد كذب عليه الكذاب
المبدل للتوراة. وكذلك حاشا لله من أن يكون نبي من الأنبياء يكذب أو يأمر بباطل ،
وحاشا لله أن تظهر آية على يدي من يمكن أن يكذب ، أو يأمر بباطل ، هذا هو التلبيس
من الله على عباده ، ومزج الحق بالباطل وخلطهما حتى لا يقوم برهان على تحقيق حق
ولا إبطال باطل.
واعلموا أن هذا
الفصل من توراتهم ، والفصل الملعون الذي فيه أن السحرة عملوا مثل بعض ما عمل «موسى»
عليهالسلام ، فإنهما مبطلان على اليهود المصدقين بهما
نبوة كل نبي يقرون
له بنبوة قطعا ، لأنه لا فرق فيهما بين «موسى» وسائر أنبيائهم ، وبين الكذابين
والسحرة ، وحاشا لله من هذا ، وبه تعالى نعوذ من الخذلان.
هذا مع قوله بعد
ذلك : «وأيما نبي أحدث فيكم من ذاته نبوة ممّا لم نأمر به ، ولم أعهد إليه به ، أو
تنبأ فيكم يدعو للآلهة والأوثان فاقتلوه».
فإن قلتم في
أنفسكم : من أين يعلم أنه من عند الله أو من ذاته؟ فهذا علمه فيكم ، إذا أنبأ بشيء
ولم يكن ، فاعلموا أنه من ذاته.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا كلام صحيح ، وهذا مضادّ للذي قبله من أنه ينبئ بالشيء فيكون كما
قال ، وهو مع ذلك يدعو إلى عبادة غير الله ، والقوم مخذولون نقلوا دينهم عن زنادقة
مستخفين لا مئونة عليهم أن ينسبوا إلى الأنبياء عليهمالسلام الكفر والضلال والكذب والعهر كالذي ذكرنا قبل ، وكنسبتهم
إلى «هارون» عليهالسلام : أنه هو الذي عمل العجل لبني إسرائيل ، وبنى له مذبحا ،
وقرب له القربان ، وجرّد أستاه قومه للرقص والغناء قدام العجل عراة.
وكما نسبوا إلى
سليمان عليهالسلام : أنه قرّب القرابين للأوثان على الكدى ، وأنه قتل «يواب بن صوريا» صبرا ، وهو نبي مثله.
وكما نسبوا إلى «شاول»
وهو نبي عندهم يوحى إليه قتل النفوس ظلما.
ونسبوا إلى «بلعام
بن ناعورا» وهو نبي عندهم يوحي الله تعالى إليه مع الملائكة العون على
الكفر ، وأن «موسى» وجيشه قتلوه.
ثم نسبوا النبوة
إلى «منسى بن حزقيا» الملك ، وهو بإقرارهم كافر ملعون يعبد الأوثان ، ويقتل
الأنبياء.
وينسبون المعجزات
إلى «شمشون» الدابي ، وهو عندهم فاسق مشهور بالفسق ، متعشق للفواسق ملم بهنّ.
وينسبون المعجزات إلى السحرة.
__________________
فاعجبوا لعظيم
بليتهم ، واحمدوا الله على السلامة ، واسألوه العافية لا إله إلّا هو.
فصل
ثم قال في آخر
توراتهم : فتوفي «موسى» عبد الله بذلك الموضع في أرض «مواب» مقابل بيت «فغور» ،
ولم يعرف آدمي موضع قبره إلى اليوم ، وكان موسى يوم توفي ابن مائة وعشرين سنة لم
ينقص بصره ولا تحركت أسنانه ، فنعاه بنو إسرائيل في أوطنة «مواب» ثلاثين يوما ،
وأكملوا نعيه.
ثم إن «يوشع بن
نون» امتلأ من روح الله ، إذ جعل موسى يديه عليه وسمع له بنو إسرائيل ، وفعلوا ما
أمر الله به «موسى» ، ولم يخلف «موسى» في بني إسرائيل نبي مثله ، ولا من يكلمه
الله مواجهة في جميع عجائبه التي فعل يديه بأرض مصر في فرعون مع عبيده ، وجميع أهل
مملكته ، ولا من صنع ما صنع موسى في جماعة بني إسرائيل.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا آخر توراتهم وتمامها ، وهذا الفصل شاهد عدل وبرهان تام ، ودليل
قاطع ، وحجة صادقة في أن توراتهم مبدّلة ، وأنها تاريخ مؤلف كتبه لهم من تخرّص بجهله ، أو تعمّد بكفره ، وأنها غير منزلة من عند الله
تعالى ، إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزلا على موسى في حياته ، فكان يكون إخبارا
عنهما ، لم يكن بمساق ما قد كان ، وهذا هو محض الكذب تعالى الله عن ذلك.
وقوله «لم يعرف
قبره آدمي إلى اليوم» بيان لما ذكرنا كاف ، وأنه تاريخ ألف بعد دهر طويل ولا بد.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هاهنا انتهى ما وجدنا من التوراة لليهود التي اتفق عليها الربانيون ،
والعانانيون ، والعيسويون ، والصدوقيون منهم مع النصارى أيضا بلا خلاف منهم فيها
من الكذب الظاهر في الأخبار وفيما يخبر به عن الله تعالى ثم عن ملائكته ، ثم عن
رسله عليهمالسلام من المناقضات الظاهرة ، والفواحش المضافة إلى الأنبياء عليهمالسلام ، ولو لم يكن فيها إلّا فصل واحد من الفصول التي ذكرنا
لكان موجبا ولا بدّ لكونها موضوعة محرفة مبدّلة مكذوبة ، فكيف وهي سبعة وخمسون
فصلا ، من جملتها فصول يجمع الفصل الواحد منها سبع كذبات أو مناقضات فأقل ،
__________________
سوى ثمانية عشر
فصلا يتكاذب فيها نص توراة اليهود مع نص تلك الأخبار بأعيانها عند النصارى ، والكذب
لائح ولا بد في إحدى الحكايتين ، فما ظنكم بمثل هذا العدد من الكذب والمناقضة في
مقدار توراتهم؟ وإنما هي مقدار مائة ورقة وعشرة أوراق في كل صفحة منها ثلاثة
وعشرون سطرا إلى نحو ذلك بخط هو إلى الانفساح أقرب يكون في السطر بضع عشرة كلمة.
كيف حرفت التوراة؟
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ونحن نصف إن شاء الله تعالى حال كون التوراة عند بني إسرائيل من أول
دولتهم إثر موت موسى عليهالسلام إلى انقراض دولتهم ، إلى رجوعهم إلى بيت المقدس إلى أن
كتبها لهم «عزرا» الوراق بإجماع من كتبهم ، واتفاق من علمائهم دون خلاف يوجد من أحد
منهم في ذلك ، وما اختلفوا فيه من ذلك ، نبهنا عليه ليتيقن كل ذي فهم أنها محرفة
مبدلة ـ وبالله تعالى نستعين.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : دخل بنو إسرائيل الأردن وفلسطين والغور مع «يوشع بن نون» مدبر أمرهم عليهالسلام إثر موت «موسى» عليهالسلام ، ومع «يوشع» «العازار بن هارون عليهالسلام» صاحب السرادق بما فيه ، وعنده التوراة لا عند أحد غيره
بإقرارهم ، فدبر «يوشع» عليهالسلام أمرهم في استقامة وألزمهم للدّين إحدى وثلاثين سنة مذ مات «موسى»
عليهالسلام إلى أن مات «يوشع» ثم دبرهم «فينحاس بن العازار بن هارون»
وهو صاحب السرادق ، والكوهن الأكبر ، والتوراة عنده لا عند أحد غيره خمسا وعشرين
سنة في استقامة والتزام للدين ، ثم مات وطائفة منهم عظيمة يزعمون أنه حيّ إلى
اليوم وثلاثة أنفس إليه ، وهم «إلياس» النبي الهاروني عليهالسلام ، وملكيصيدق بن قالع بن عامر بن أرفخشاذ بن سام بن نوح عليهالسلام ، والعبد الذي بعثه إبراهيم عليهالسلام ليزوّج إسحاق عليهالسلام «رفقة بنت بتوئيل
بن ناخور» أخي إبراهيم عليهالسلام ، فلما انقضت المدة المذكورة «لفينحاس» «بن العازار» ، كفر
بنو إسرائيل ، وارتدوا كلهم ، وعبدوا الأوثان علانية ، فملكهم كذلك ملك «صور» و «صيدا»
مدة ثمانية أعوام على الكفر ، ثم دبّر أمرهم «عثنيال بن قنار ابن أخي كالب بن يفنة
بن يهوذا» أربعين سنة على الإيمان ، ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم ، وارتدّوا ،
وعبدوا الأوثان علانية ، فملكهم كذلك «عغلون» ملك «بني مواب» ثماني عشرة سنة على
الكفر ، ثم دبر أمرهم «أهوذ بن قار» ، قيل إنه من سبط «أفرايم» ، وقيل من سبط «بنيامين»
، واختلف أيضا في مدة رئاسته ، فقيل ثمانون سنة ، وقيل خمس وخمسون سنة على الإيمان
إلى أن مات. ثم دبرهم «سمعان بن غاث ابن سبط أشار» خمسا وعشرين
سنة على الإيمان ،
ثم مات فكفر بنو إسرائيل كلهم ، وعبدوا الأوثان جهارا ، فملكهم كذلك «مراش»
الكنعاني عشرين سنة على الكفر ، ثم دبّرت أمرهم «دبور» النبتية من سبط «يهوذا» ،
وكان زوجها رجلا يسمى «السدوث» من سبط أفرايم إلى أن ماتت وهم على الإيمان ، فكان
مدة تدبيرها لهم أربعون سنة ، فلما ماتت كفر بنو إسرائيل كلهم وارتدوا وعبدوا
الأوثان جهارا ، فملكهم «عوزيب» و «زاب» ملك بني مدين سبع سنين على الكفر. ثم دبّر
أمرهم «جدعون بن يوآش» من سبط «أفرايم» ، وقيل بل من سبط «منسى» وهم يصفون أنه كان
نبيا وكان له واحد وسبعون ابنا ذكورا ، فملكهم على الإيمان أربعين سنة ، ثم مات
وولي ابنه أبو مالك بن جدعون ، وكان فاسقا خبيث السيرة ، فارتد جميع بني إسرائيل ،
وكفروا وعبدوا الأوثان جهارا ، وأعانه أخواله من أهل «نابلس» من بني إسرائيل من
سبط يوسف بتسعين ديرا من بيت «ماعل» الصنم ، ومضوا معه فقتل جميع إخوته ، حاشا واحدا
منهم أفلت وبقي كذلك ثلاث سنين إلى أن قتل ، ودبّرهم بعده «مولع بن قوا» من سبط «يساخر»
، ولم نجد بيانا هل كان على الإيمان أو على الكفر خمسا وعشرين سنة ، ثم مات ، ثم
دبّر أمرهم بعده «بابين بن جلعاد» من سبط «منسى» اثنين وعشرين عاما على الإيمان
إلى أن مات. وكان له اثنان وثلاثون ولدا ذكورا قد ولي كل واحد منهم مدينة من مدائن
بني إسرائيل ، فارتدّ بنو إسرائيل كلهم بعد موته ، وعبدوا الأوثان جهارا ، وملكهم «بنو
عمون» ثمان عشرة سنة متصلة على الكفر ، ثم قام فيهم رجل من سبط «منسى» اسمه «هيلع»
بن «جلعاد» ولا يختلفون في أنه كان ابن زانية ، وكان فاسقا خبيث السيرة ، نذر إن
أظفره الله بعدوه ، أن يقرب لله سبحانه وتعالى أول من يلقاه من منزله ، فأول من
لقيه ابنته ، ولم يكن له ولد غيرها فوفى بنذره وذبحها قربانا ، وكان في عصره نبي
فلم يلتفت إليه ، وأنه قتل من «بني أفرايم» اثنين وأربعين ألف رجل ، فملكهم ست
سنين ، ثم مات ، فوليهم بعده «أفصان» من سبط «يهوذا» من سكان بيت لحم ، وكان له
ثلاثون ابنا ذكورا ، فوليهم سبع سنين ، وقيل ست سنين ، ثم مات ، والأظهر من حاله
على ما توجبه أخبارهم الاستقامة ، ووليهم بعده «أيلون» من سبط «زبلون» عشر سنين
إلى أن مات. وولي بعده عبدون بن هلال من سبط «أفرايم» ثماني سنين على الإيمان ،
وكان له أربعون ولدا ذكورا ، فلما مات ارتد بنو إسرائيل كلهم ، وكفروا وعبدوا
الأوثان جهارا ، فملكهم الفلسطينيون وهم الكنعانيون وغيرهم أربعين سنة على الكفر ،
ثم دبرهم «شمشون بن مانوح» من سبط «داني» وكان مذكورا عندهم بالفسق واتباع الزواني
، فدبّرهم عشرين سنة ، وينسبون إليه المعجزات ، ثم أسر ومات ، فدبر بنو إسرائيل
بعضهم بعضا في سلامة وإيمان أربعين سنة
بلا رئيس يجمعهم ،
ثم دبرهم الكاهن الهاروني على الإيمان عشرين سنة إلى أن مات ، ثم دبّرهم «شمويل»
بن «فتان» النبي من سبط «أفرايم» قيل عشرين سنة ، وقيل أربعين سنة ، كل ذلك في
كتبهم على الإيمان. وذكروا أنه كان له ابنان «يوهال» و «أبيا» يجوران في الحكم
ويظلمان الناس ، وعند ذلك رغبوا إلى «شمويل» أن يجعل لهم ملكا ، فولّى عليهم «شاول
الدّباغ ابن قيش بن أنيل بن شارون بن بورات بن آسيا بن خس» من سبط «بنيامين» وهو «طالوت»
، فوليهم عشرين سنة ، وهو أول ملك كان لهم ، ويصفونه بالنبوة وبالفسق والظلم
والمعاصي معا ، وأنه قتل من بني «هارون» نيفا وثمانين شابا وقتل نساءهم وأطفالهم ،
لأنهم أطعموا «داود» عليهالسلام خبزا فقط.
فاعلموا الآن أنه
كان مذ دخلوا الأرض المقدسة إثر موت «موسى» عليهالسلام إلى ولاية أول ملك لهم وهو «شاول» المذكور سبع ردّات
فارقوا فيها الإيمان ، وأعلنوا عبادة الأصنام.
فأولها : بقوا
فيها ثمانية أعوام. والثانية : ثمانية عشر عاما. والثالثة : عشرين عاما. والرابعة
: سبعة أعوام. والخامسة : ثلاثة أعوام وربما أكثر. والسادسة : ثمانية عشر عاما. والسابعة
: أربعين عاما.
فتأملوا!! أي كتاب
يبقى مع تمادي الكفر ورفض الإيمان هذه المدد الطوال في بلد صغير مقدار ثلاثة أيام
في مثلها فقط ، ليس على دينهم واتباع كتابهم أحد على ظهر الأرض غيرهم.
ثم مات «شاول»
المذكور مقتولا ، وولي أمرهم «داود» عليهالسلام وهم ينسبون إليه الزنى علانية بأم سليمان عليهالسلام ، وأنها ولدت منه من «الزنى» ابنا مات قبل ولادة سليمان.
فعلى من يضيف هذا
إلى الأنبياء عليهمالسلام ألف ألف لعنة.
وينسبون إليه أنه
قتل جميع أولاد «شاول» لذنب أبيهم ، حاشا صغيرا مقعدا كان فيهم فقط. وكانت مدته عليهالسلام أربعين سنة.
ثم ولي «سليمان» عليهالسلام ، وقد وصفوه بما ذكرنا قبل. وذكروا عنه أن نفقته فرضها على
الأسباط ، لكل سبط شهر من السنة. وأن جنده كانوا اثني عشر ألف فارس على الخيل ،
وأربعين ألفا على الرمك ، خلافا لما في التوراة ، أن لا يكثروا من
__________________
الخيل ، وهو الذي
بنى الهيكل في بيت المقدس وجعل فيه السرادق والمذبح والمنارة الآن والقربان
والتوراة ، والتابوت ، وسكنه بني هارون ، فكانت ولايته أربعين سنة. ثم مات عليهالسلام ، فافترق أمر بني إسرائيل ، فصار «بنو يهوذا» ، و «بنو
بنيامين» لبني «سليمان بن داود» عليهالسلام في بيت المقدس. وصار ملك الأسباط العشرة الباقية إلى ملك
آخر منهم يسكن «بنابلس» على ثمانية عشر ميلا من «بيت المقدس» ، وبقوا كذلك إلى
ابتداء إدبار أمرهم على ما نبين إن شاء الله تعالى ، فنذكر بحول الله تعالى وقوته
أسماء ملوك بني سليمان عليهالسلام وأديانهم ، ثم نذكر ملوك الأسباط العشرة ، وبالله عزوجل نتأيد ، ليرى كل واحد كيف كانت حال التوراة ، والديانة في
أيام دولتهم.
ملوك الأسباط العشرة
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ولي إثر موت «سليمان بن داود» عليهالسلام ابنه «رحبعام بن سليمان» وله ست عشرة سنة. وكانت ولايته
سبعة عشر عاما ، فأعلن الكفر طول ولايته ، وعبد الأوثان جهارا هو وجميع رعيته
وجنده بلا خلاف منهم. ويقولون : إن جنده كانوا مائة ألف وعشرين ألف مقاتل ، وفي
أيامه غزا ملك مصر في سبعة آلاف فارس ، وخمسة عشر ألف رجل بيت المقدس ، فأخذها
عنوة بالسيف وهرب «رحبعام» ، وانتهب ملك مصر المدينة والقصر والهيكل وأخذ كل ما
فيها ، ورجع إلى مصر سالما غانما.
ثم مات «رحبعام»
على الكفر ، فولي مكانه ابنه «أبيا» وله ثماني عشرة سنة ، فبقي على الكفر هو وجنده
ورعيته ، وعلى عبادة الأوثان علانية. وكانت ولايته ست سنين. ويقولون : قتل من الأسباط
العشرة في حروبه معهم خمسمائة ألف إنسان.
ثم ولي بعد موته
ابنه «أشا بن أبيا» وله عشر سنين ، وكان مؤمنا ، فهدم بيوت الأوثان ، وأظهر
الإيمان ، وبقي في ولايته إحدى وأربعين سنة على الإيمان. وذكروا أن جنده كانوا
ثلاثمائة آلاف مقاتل من «بني يهوذا» ، واثنين وخمسين ألفا من «بني بنيامين».
ومات وولي بعده
ابنه : «يهوشافاط بن أشا» وهو ابن خمس وثلاثين سنة ، فكانت ولايته : خمسا وعشرين
سنة ، وذكروا عنه أنه كان على الإيمان إلى أن مات.
فولي ابنه «يهورام
بن يهوشافاط» : ولم نجد أمر سيرته ودينه إلا أنه كان مؤلفا
لعبادة الأوثان من
ملوك سائر الأسباط. وولي وله اثنان وثلاثون سنة ، وكانت ولايته ثمانية أعوام ،
ومات.
فولي مكانه ابنه «أحزياهو»
وله اثنان وعشرون سنة فأظهر الكفر وعبادة الأصنام في جميع رعيته ، وكانت ولايته
سنة وقتل. فوليت أمه «عثليا هو» بنت عمرى ملك العشرة الأسباط ، فتمادت على أشد ما
يكون من الكفر وعبادة الأوثان ، وقتلت الأطفال ، وأمرت بإعلان الزنى في البيت
المقدس ، وجميع عملها ، وعهدت ألا تمنع امرأة ممن أراد الزنى معها ، وعهدت أن لا
ينكر ذلك أحد ، فبقيت كذلك ست سنين إلى أن قتلت.
فولي ابن ابنها «يؤاش
بن أحزياهو» : وله سبع سنين ، فاتصلت ولايته أربعين سنة ، وأعلن الكفر ، وعبادة
الأوثان ، وقتل «زكريا» النبي عليهالسلام بالحجارة ، ثم قتله غلمانه فولي بعده ابنه «أمصياهو بن
يؤاش» : وله خمس وعشرون سنة ، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته فبقي
كذلك إلى أن قتل وهو على الكفر ، وكانت ولايته تسعا وعشرين سنة ، وفي أيامه انتهب
ملك الأسباط العشرة البيت المقدس ، وأغاروا على كل ما فيه مرتين.
ثم ولي بعده «عزياهو
بن أمصياهو» ، وله ست عشرة سنة ، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان هو وجميع رعيته إلى
أن مات. وكانت ولايته اثنتين وخمسين سنة وهو قتل «عاموص» النبي عليهالسلام الداودي.
فولي بعده ابنه «يوثام
بن عزياهو» وله خمس وعشرون سنة ولم نجد له سيرة ، وكانت ولايته ست عشرة سنة فمات.
فولي مكانه ابنه «أحاز
بن يوثام» وله عشرون سنة ، فأعلن الكفر وعبادة الأوثان ، وكانت ولايته ست عشرة سنة
إلى أن مات.
فولي بعده ابنه «حزقيا
بن أحاز» ، وله خمس وعشرون سنة ، وكانت ولايته تسعا وعشرين سنة فأظهر الإيمان ،
وهدم بيوت الأوثان ، وقتل خدمتهما ، وبقي على الإيمان إلى أن مات هو وجميع رعيته ،
وفي السنة السابعة من ولايته انقطع ملك العشرة الأسباط من بني إسرائيل ، وغلب عليهم
«سليمان» الأعسر ملك «الموصل» ، وسباهم ونقلهم إلى «آمد» و «بلاد الجزيرة».
وسكن في بلاد
الأسباط العشرة أهل «آمد» والجزيرة ، فأظهروا دين «السّامرة» الذين هناك إلى
اليوم.
ثم مات «حزقيا» ،
وولي بعده ابنه «منسى بن حزقيا» ، وله اثنتا عشرة سنة ففي السنة الثالثة من ملكه
أظهر الكفر ، وبنى بيوت الأوثان ، وأظهر عبادتها هو وجميع أهل مملكته. وقتل «شعيا»
النبي ، قيل نشره بالمنشار من رأسه إلى مخرجه ، وقيل قتله بالحجارة وأحرقه بالنار
، والعجب كله أنهم يصفون في بعض كتبهم بأن الله أوحى إليه مع ملك من الملائكة ،
وأن ملك «بابل» كان أسره وحمله إلى بلده وأدخله في ثور نحاس ، وأوقد النار تحته ،
فدعا الله فأرسل إليه ملكا فأخرجه من الثور ، وردّه إلى بيت المقدس ، وأنه تمادى
مع ذلك كله على كفره حتى مات ، وكانت ولايته خمسا وخمسين سنة ، فقولوا يا معشر
السامعين ، بلد تعلن فيه عبادة الأوثان ، وتبنى هياكلها ، ويقتل من وجد فيه من
الأنبياء ، كيف يجوز أن يبقى فيه كتاب الله سالما؟ أم كيف يمكن هذا؟
فلما مات «منسى»
ولي مكانه ابنه «آمون بن منسى» وهو ابن اثنين وعشرين عاما ، فكانت ولايته سنتين
على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات.
فولي مكانه ابنه «يوشيا
بن آمون» وهو ابن ثمان سنين. ففي السنة الثالثة من ملكه أعلن الإيمان ، وكسر
الصلبان وأحرقها ، واستأصل هياكلها ، وقتل خدامها ، ولم يزل على الإيمان إلى أن
قتل ، قتله ملك مصر. وفي أيامه أخذ «أرميا» النبي السرادق والتابوت والنار ،
وأخفاها حيث لا يدري أحد لعلمه بفوت ذهاب أمرهم.
ثم ولي بعده ابنه «يهوياحوز
بن يوشيا» ، وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، فأعلن الكفر وردّ عبادة الأوثان ، وأخذ
التوراة من الكاهن الهاروني ونشر منها أسماء الله حيث وجدها ، وكانت ولايته ثلاثة
أشهر ، وأسره ملك مصر.
فولي مكانه «يهوياقيم
بن يوشيا» أخوه ، وهو ابن خمس وعشرين سنة فأعلن الكفر وبنى بيوت الأوثان هو وجميع
أهل مملكته ، وقطع الدين جملة ، وأخذ التوراة من الهاروني فأحرقها بالنار ، وقطع
أثرها ، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة ، ومات.
فولي مكانه ابنه «يهوياكين
بن يهوياقيم» وتلقب «بنخيا» وهو ابن ثماني عشرة سنة فأقام على الكفر وأعلن عبادة
الأوثان. وكانت ولايته ثلاثة أشهر ، وأسره «بختنصر».
فولي مكانه عمه «متنيا
بن يوشيا» وتلقب «صدقيا» وهو ابن إحدى وعشرين سنة فثبت على الكفر ، وأعلن عبادة
الأوثان هو وجميع أهل مملكته ، وكانت ولايته إحدى عشرة سنة ، وأسره «بختنصر» وهدم
البيت والمدينة ، واستأصل جميع بني إسرائيل ، وأخلى البلد منهم ، وحملهم مسبيين
إلى بلد «بابل». وهو آخر ملوك بني إسرائيل ، وبني
سليمان جملة ،
فهذه كانت صفة ملوك بني «سليمان بن داود» عليهماالسلام.
فاعلموا الآن أن
التوراة لم تكن من أول دولتهم إلى انقضائها إلّا عند الهاروني الكوهن الأكبر وحده
في الهيكل فقط.
وأما ملوك الأسباط
العشرة فلم يكن فيهم مؤمن قط ولا واحد فما فوقه ، بل كانوا كلهم معلنين عبادة
الأوثان ، مخيفين للأنبياء ، مانعين القصد إلى «بيت المقدس» ، لم يكن فيهم نبي قط
إلّا مقتولا ، أو هاربا مخافا.
فإن قيل : أليس قد
قتل «إلياس» جميع أنبياء «بابل» لأجل الوثن الذي كان يعبده الملك ، والنخلة التي
كانت تعبدها بني إسرائيل ، وهم ثمانمائة وثمانون رجلا؟ قلنا : إنما كان بإقرار
كتبهم في مشهد واحد ، ثم هرب من وقته وطلبته امرأة الملك لتقتله ، وما أبصره أحد.
فأول ملوك الأسباط
العشرة «يربعام بن ناباط» الأفرايمي ، وليهم إثر موت «سليمان» النبي صلىاللهعليهوسلم ، فعمل من حينه عجلين من ذهب وقال : هذان إلهاكم اللذان
خلصاكم من مصر ، وبنى لهما هيكلين ، وجعل لهما سدنة من غير «بني لاوي» وعبدهما هو
وجميع أهل مملكته ، ومنعهم من المسير إلى بيت المقدس ، وهو كان شريعتهم لا شريعة
لهم غير القصد إليه والقربان فيه ، فملك أربعا وعشرين سنة ، ثم مات.
وولي ابنه «ناداب
بن يربعام» على الكفر المعلن سنتين ثم قتل هو وجميع أهل بيته.
وولي «بعشا بن
إيلا» من «بني يساخر» على عبادة الأوثان علانية أربعا وعشرين سنة.
وولي ولده «إيلا
بن بعشا» على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى أن قام عليه رجل من قواده اسمه «زمري»
فقتله وجميع أهل بيته.
وولي «زمري» سبعة
أيام ، فقتل وأحرق عليه داره ، وافترق أمرهم على رجلين ، أحدهما يسمى «تبنى بن
جينة» والآخر «عمرى» فبقيا كذلك اثني عشر عاما ، ثم مات «تبنى» وانفرد بملكهم «عمرى»
فبقي كذلك ثمانية أعوام على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن مات.
وولي بعده ابنه «أحاب
بن عمرى» على أشد ما يكون من الكفر وعبادة الأوثان إحدى وعشرين سنة. وفي أيامه كان
إلياس النبي عليهالسلام هاربا عنه في الفلوات ،
وعن امرأته بنت
ملك «صيدا» وهما يطلبانه للقتل ، ثم مات «أحاب» وولي ابنه «أحزيا بن أحاب» على
الكفر وعبادة الأوثان ثلاث سنين ثم مات. وولي مكانه أخوه «يهورام بن أحاب» على
الكفر وعبادة الأوثان اثنتي عشرة سنة إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته.
وفي أيامه كان «اليسع»
عليهالسلام وولي مكانه «باهو بن نمشى» من سبط «منسى» فكان أقلهم كفرا
، هدم هياكل ما على الوثن ، وقتل سدنته ، إلا أنه لم ينقض قطع عبادة الأوثان بل
ترك الناس عليها ، ولم يظهر الإيمان ، فولي كذلك ثمانيا وعشرين سنة ومات.
وولي مكانه ابنه «يهوياحاز
بن ياهو» سبع عشرة سنة فبنى بيوت الأوثان ، وأعلن عبادتها هو ورعيته إلى أن مات.
وفي كتبهم أن أمر الأسباط العشرة ضعف في أيامه ، حتى لم يكن معه من الجند إلا
خمسون فارسا وعشرة آلاف رجل فقط ، لأن ملك «دمشق» غلب عليهم وقتلهم.
وولي مكانه ابنه «يواش
بن يهوياحاز» ست عشرة سنة على أشد من كفر أبيه ، وأخذ في عبادة الأوثان ، وهو الذي
غزا «بيت المقدس» وأغار عليه ، وعلى الهيكل ، وأخذ كل ما فيه ، وهدم من سور
المدينة أربعمائة ذراع ، وهرب عنه ملكها «يهوذا» ثم مات.
وولي مكانه ابنه «ياربعام
بن يؤاش» خمسا وأربعين سنة على مثل كفر أبيه ، وعبادة الأوثان ، وغزا أيضا «بيت
المقدس» وهرب أمامه ملكها الداودي ، فأتبعه فقتله ثم مات.
وولي مكانه ابنه «زخريا
بن ياربعام بن يؤاش بن يهوياحاز بن ياهو بن نمشى» ستة أشهر على الكفر وعبادة
الأوثان ، إلى أن قتل هو وجميع أهل بيته.
وولي مكانه «شلوم
بن نامس» من سبط «نفتالي» فملك شهرا واحدا على الكفر وعبادة الأوثان ، ثم قتل.
وولي بعده «مياخيم»
بن «قارا» من سبط «يساخر» عشرين سنة على عبادة الأوثان والكفر ومات.
وولي مكانه ابنه «محيا
بن مياخيم» على الكفر وعبادة الأوثان سنتين إلى إن قتل هو وجميع أهل بيته.
وولي مكانه «ناجح
بن مليا» من سبط «داني» فملك ثمانيا وعشرين سنة على الكفر وعبادة الأوثان إلى أن
قتل هو وجميع أهل بيته.
وفي أيامه أجلى «تباشر»
ملك الجزيرة «بني رؤوبين» و «بني جادا» ونصف سبط «منسى» من بلادهم «بالغور» وحملهم
إلى بلاده وسكّن بلادهم قوما من بلاده.
ثم ولي مكانه «هوسيع
بن أيلا» من سبط «جادا» على الكفر وعبادة الأوثان سبع سنين إلى أن أسره كما ذكرنا «سليمان»
الأعسر ملك «الموصل» ، وحمله والتسعة الأسباط ، ونصف سبط «منسى» إلى بلاده أسرى
وسكّن بلادهم قوما من أهل بلده ، وهم «السامرية» إلى اليوم. و «هوشيع» هذا آخر
ملوك الأسباط العشرة. وانقضى أمرهم.
فبقايا المنقولين
من «آمد» و «الجزيرة» إلى بلاد بني إسرائيل هم الذين ينكرون التوراة جملة ، وعندهم
توراة أخرى غير هذه التي عند اليهود ، ولا يؤمنون بنبي بعد «موسى» عليهالسلام ، ولا يقولون بفضل بيت المقدس ، ولا يعرفونه ، ويقولون :
إن المدينة المقدسة هي «نابلس» فأمر توراة أولئك أضعف من توراة هؤلاء ، لأنهم لا
يرجعون فيها إلى نبي أصلا ولا كانوا هنالك أيام دولة بني إسرائيل ، وإنما عملها
لهم رؤساؤهم أيضا فقد صح يقينا أن جميع أسباط بني إسرائيل حاشا سبط «يهوذا» و «بنيامين»
ومن كان بينهم من بني هارون بعد «سليمان» عليهالسلام مدة مائتي عام وواحد وسبعين عاما لم يظهر فيهم قط إيمان
ولا يوما واحدا فما فوقه ، وإنما كانوا عباد أوثان ، ولم يكن قط فيهم نبي إلا مخاف
، ولا كان للتوراة عندهم لا ذكر ، ولا رسم ، ولا أثر ، ولا كان عندهم شيء من شرائعها
أصلا ، مضى على ذلك جميع عامتهم ، وجميع ملوكهم ، وهم عشرون ملكا ، قد سميناهم إلى
أن جاءوا ودخلوا في الأمم وتدينوا بدين الصابئين الذين كانوا بينهم متملكين ،
وانقطع اسمهم ورسمهم إلى الأبد فلا يعرف منهم عين أحد ، وظهر يقينا أن «بني يهوذا»
و «بني بنيامين» كانت مدة ملكهم بعد موت «سليمان» عليهالسلام أربعمائة سنة غير أعوام على اختلاف من كتبهم في ذلك في
بضعة عشر عاما ، وقد قلنا : إنها كتب مدخولة فاسدة. ملك هذين السبطين في هذه المدة
من «بني سليمان بن داود» عليهماالسلام تسعة عشر رجلا. ومن غيرهم امرأة تمّوا بها عشرين ملكا ، قد
سميناهم كلهم آنفا ، كانوا كفارا معلنين عبادة الأوثان ، حاشا خمسة منهم فقط كانوا
مؤمنين ولا مزيد ، وهم «أشا بن أسا» ولي إحدى وأربعين سنة ، وابنه «يهوشافاط» بن «أشا»
ولي خمسا وعشرين سنة. فهذه ست وستون سنة اتصل فيهم الدين ظاهرا بعد ثلاث وعشرين
سنة اتصل فيها الكفر ظاهرا وعبادة الأوثان ، ثم ثمانية أعوام «ليورام بن يهوشافاط»
لم نجد له حقيقة دين ، فحملناه على الإيمان لسبب أبيه. ثم اتصل الكفر ظاهرا وعبادة
الأوثان في ملوكهم وعامتهم مائة عام وستين عاما ، مع كفر سائر أسباطهم ، فعمهم
الكفر وعبادة الأوثان في أولهم وآخرهم. فأيّ كتاب أو أي دين يبقى مع هذا؟
ثم ولي «حزقيا»
المؤمن تسعا وعشرين سنة ، ثم اتصل الكفر بعده في عامتهم وملوكهم وعبادة الأوثان
سبعا وخمسين سنة.
ثم ولي «يوشا»
المؤمن الفاضل إحدى وثلاثين سنة ، ثم لم يل بعده إلّا كافر معلن عبادة الأوثان مدة
اثنين وعشرين عاما وستة أشهر منهم من نشر أسماء الله من التوراة ، ومنهم من أحرقها
وقطع أثرها ، ولم نجد بعد هؤلاء من ظهر فيهم إلا الكفر وقتل الأنبياء عليهمالسلام إلى أن انقطع أمرهم جملة بغارة «بختنصر» وسبوا كلهم ، وهدم
البيت ، واستأصل أثره ، هذا إلى غارات كانت على مدينة «بيت المقدس» وهيكلها الذي
لم تكن التوراة عند أحد إلا فيه ، لم يترك فيها شيء ، مرة أغار عليهم صاحب مصر
أيام «رحبعام بن سليمان» ، ومرتين في أيام «أمصياهو» الملك من قبل صاحب العشرة
الأسباط إلى أن أملاها عليهم من حفظه «عزرا» الوراق الهاروني ، وهم مقرون أنه
وجدها عندهم وفيها خلل كثير فأصلحه ، وهذا يكفي ، وكان كتابة «عزرا» للتوراة بعد
أزيد من سبعين سنة من خراب بيت المقدس ، وكتبهم تدل على أن «عزرا» لم يكتبها لهم
ولم يصلحها إلا بعد نحو أربعين عاما من رجوعهم إلى البيت بعد السبعين عاما التي
كانوا فيها خالين ، ولم يكن فيهم حينئذ نبي أصلا ، ولا القبة ولا التابوت ، واختلف
في المنارة كانت عندهم أم لا؟
ومن ذلك الوقت
انتشرت التوراة ونسخت ، وظهرت ظهورا ضعيفا أيضا ولم تزل تتداولها الأيدي مع ذلك
إلى أن جعل «أنطاكيوس» الملك الذي بنى «أنطاكية» وثنا للعبادة في «بيت المقدس».
وأخذ بني إسرائيل بعبادته ، وقربت الخنازير على مذبح البيت ، ثم تولى أمرهم قوم من
«بني هارون» بعد مئين من السنين ، وانقطعت القرابين فحينئذ انتشرت نسخ التوراة
التي بأيديهم اليوم ، وأحدث لهم أحبارهم صلوات لم تكن عندهم جعلوها بدلا من
القرابين ، وعملوا لهم دينا جديدا ، ورتبوا لهم الكنائس في كل قرية ، بخلاف حالهم
طول دولتهم وبعد هلاك دولتهم بأزيد من أربعمائة عام ، وأحدثوا لهم اجتماعا في كل
سبت على ما هم عليه اليوم ـ بخلاف ما كان طول دولتهم ، فإنه لم يكن لهم في شيء من
بلادهم بيت عبادة ، ولا مجمع ذكر وتعلم ، ولا مكان قربان قربة البتة إلا بيت
المقدس وحده ، وموضع السرادق قبل بنيان بيت المقدس فقط ، وبرهان هذا أن في سفر «يوشع
بن نون» بإقرارهم أن «بني رؤوبين» و «بني جادا» ونصف سبط «منسى» إذ رجعوا بعد فتح
بلاد الأردن و «فلسطين» إلى بلادهم بشرقي الأردن بنوا مذبحا ، فهمّ «يوشع بن نون»
وسائر بني إسرائيل بغزوهم من أجل ذلك ، حتى
أرسلوا إليه :
إننا لم نقمه لا لقربان ولا لتقديس أصلا. ومعاذ الله أن نتخذ موضع تقديس غير
المجتمع عليه الذي في السرادق وبيت الله. فحينئذ كف عنهم ، ففي دون هذا كفاية لمن
عقل في أنها كتاب مبدّل مكذوب موضوع ، ودين معمول خلاف الدين الذين يقرون أن «موسى»
عليهالسلام أتاهم به ، وما يريد الشيطان منهم أكثر من هذا ، ولا في
الضلال فوق هذا ، ونعوذ بالله من الخذلان.
وأيضا فإن في
التوراة التي ترجمها السبعون شيخا «لبطليموس» الملك بعد ظهور التوراة وأفشوها
مخالفة للتي كتبها لهم «عزرا» الوراق ، وتدّعي النصارى أن تلك التي ترجم السبعون
شيخا في اختلاف أسنان الآباء بين آدم ونوح عليهماالسلام التي من أجل ذلك الاختلاف تولد بين تاريخ اليهود وتاريخ
النصارى زيادة ألف عام ونيف على ما ذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فإن كان هو كذلك
فقد وضح اليقين ، بكذب السبعين شيخا ، وتعمدهم لنقل الباطل ، وهم الذين عنهم أخذوا
دينهم ، وأفّ أفّ لدين أخذ عن متيقن كذبه.
وأيضا فإن في
السفر الخامس من أسفار التوراة الذي يسمونه التكرار : أن الله تعالى قال لموسى : «اصنع
لوحين على حال الأولين ، واصعد إلى الجبل ، واعمل تابوتا من خشب لأكتب في اللوحين
العشر كلمات التي أسمعكم السيد في الجبل من وسط اللهيب عند اجتماعكم إليه. ويرى بهما إليّ فانصرفت من الجبل ، وجعلتهما في التابوت ، وهما
فيه إلى اليوم».
وفي السفر المذكور
أيضا بعد هذا الفصل قال : ومن بعد أن كتب «موسى» هذه العهود في مصحف ، واستوعبها ،
أمر «بني لاوي» حاملي تابوت عهد الرب ، وقال لهم :
خذوا هذا المصحف ،
واجعلوه في المذبح ، واجعلوا عليه تابوت عهد الرب إلهكم ليكون عليكم شاهدا.
وقال قبل ذلك في
السفر المذكور أيضا : إذا استجمعتم على تقديم ملك عليكم على حال ملوك الأجناس فلا
تقدموا إلّا من ارتضاه الرب من عدد إخوتكم ، ولا تقدموا أجنبيا على أنفسكم. إلى أن
قال : فإذا قعد على سرير ملكه فليكتب من هذا التكرار في مصحف ما يعطيه الكوهن
المتقدم من «بني لاوي» بما يشاكله ويكون ذلك معه ، فيقرأه كل يوم طول ولايته ليخاف
الرب إلهه ، ويذكر كتابه وعهده. فهذا كله بيان
__________________
واضح بصحة ما قلنا
من أن العشر كلمات ومصحف التوراة إنما كان في الهيكل فقط تحت تابوت العهد ، وفي
التابوت فقط عند الكوهن الأكبر وحده ، لأنه بإجماعهم لم يكن يصل إلى ذلك الموضع
أحد سواه.
وفيه أيضا : أنه
أمر أن يكتب الكوهن المذكور من السفر الخامس فقط شيئا يمكن أن يقرأه الملك كل يوم
، ومثل هذا لا يكون إلا يسيرا جدّا ورقة أو نحو ذلك. مع أنهم لا يختلفون في أنه لم
يلتفت إلى ذلك البتة بعد «سليمان» عليهالسلام أحد من ملوكهم إلا أربعة أو خمسة كما قدمنا فقط ، من جملة
أربعين ملكا.
وأيضا فإنه قال في
السفر المذكور : ثم كتب «موسى» هذا الكتاب ويرى به إلى الكهنة من «بني لاوي» الذين
كانوا يحسنون عهد الرب ، وقال لهم «موسى» : إذا اجتمعتم للتقديس بين يدي الرب
إلهكم في الموضع الذي تخيره الرب ، فاقرءوا ما في هذا المصحف في جماعة «بني
إسرائيل» عند اجتماعهم فقط يسمعوا ما يلزمهم.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وفي نصّ توراتهم : أنهم كانوا لا يلزمهم المجيء إلى «بيت المقدس» إلّا
ثلاث مرات في كل سنة فقط ، فإنما أمر بنص التوراة كما أوردنا أن يقرأها عليهم الكوهن
الهاروني عند اجتماعهم فقط. فثبت أنها لم تكن إلّا في الهيكل فقط ، عند الكوهن
الهاروني فقط لا عند أحد سواه.
وقد أوضحنا قبل
أنّ العشرة الأسباط لم يدخل قط «بيت المقدس» منهم أحد بعد موت «سليمان» عليهالسلام إلى أن انقطعوا ، وأن «بني يهوذا» و «بنيامين» لم يجتمعوا
إليه إلّا في عهد الملوك الخمسة المؤمنين فقط فظهر بهذا ـ كما قلنا ـ وصح تبديلها
بيقين ، ولا شك في أن تلك المدة الطويلة التي هي أربعمائة سنة غير شيء ، قد كان في
الكهنة الهارونيين ما كان في غيرهم من الكفر والفسق وعبادة الأوثان كالذي يذكرون
عن ابني الكوهن عالي الهاروني ، وغيرهما ، ممن يقرّون في كتبهم أنهم خدموا الأوثان
، وبيوتها من «بني هارون» و «بني لاوي». ومن هذه صفته فلا يؤمن عليه تغيير ما
ينفرد به ، وهذه كلها براهين أضوأ من الشمس على صحة تبديل توراتهم وتحريفها.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : إلّا سورة واحدة ذكر في توراتهم أنّ «موسى» عليهالسلام أمر بأن تكتب وتعلم جميع «بني إسرائيل» ليحفظوها ويقوموا
بها ، ولا يمتنع أحد من نسلهم من حفظها ، وهذا نصها حرفا بحرف : «اسمعي يا سماوات
قولي وتسمع الأرض كلامي ، يكثر كالمطر ، ويسيل الرذاذ كلامي ، ويكون كالمطر على
العشب ، وكالرذاذ على الخصب لأني أنادي باسم الربّ ، فيعظمه الرّب إلهنا الذي
أكمل خلقته
واعتدلت أحكامه ، الله الأمين ، الذي لا يجور ، العدل القيوم ، أذنب لديه غير
أوليائه ، ومحت الأمة العاصية المستحيلة ، وهذا شكر للرّب يا أمة جاهلة نهمة ، أما
هو : أبوكم الذي خلقكم ، ومليككم ، فتذكروا القديم ، وفكروا في الأجناس ، وسلوا
آباءكم فيعلمونكم ، وأكابركم فيعرفونكم ، إذا كان يقسم العلي الأجناس ، ويميز بين
بني آدم جعل قسمة الأجناس على حساب بني إسرائيل ، فهم الربّ أمته ، ويعقوب قسمته ،
وجده في الأرض المقفرة ، وفي موضع قبيح غير مسلوك فأطلقه وأقبل به وحفظه كحفظ
الشعر للعين ، وأطارهم كما يستطير العقاب بفراخها ، وتحوم عليها ، وتبسط جناحها
حفظا لها ، فأقبل بهم وحملهم على منكبيه ، فالرب وحده كان قائدهم ، ولم يكن معه
إله غيره ، فجعلهم في أشرف أرضه ليأكلوا خبزها ، ويصيبوا عسل حجارتها ، وزيت
جنادلها ، وسمن مواشيها ، ولبن ضأنها ، وشحوم خرفانها ، وكباش بني باسان ، ولحوم
التيوس ، بلباب البرّ ، ودم العنب ، وتعاموا ، سمنوا ، ودبروا ، واتسعوا ، ثم
تخلوا من الله خالقهم ، وكفروا بالله مسلمهم ، فألجئوه بعبادتهم الأوثان إلى أن
سخط عليهم ، ولسجودهم للشيطان لا لله ، ولسجودهم لآلهة الأجناس كانوا يجهلونها ،
ولم يعبدها قبلهم آباؤهم فتخلوا من الله الذي ولدهم ، فنسوا الرب خالقهم ، فبصر
الرب بهذا ، وغضب له ، إذ تخلى بنوه وبناته ، فقال : أخفي وجهي عنهم حتى أعلم آخر
أمرهم ، فإنها أمة كافرة عاصية ، وقد أسخطوني بعبادة من ليس إلها ، وأغضبوني
بفواحشهم ، وسأغيرهم على يدي أمة ضعيفة ، وأخسف بهم على يدي أمة جاهلة ، ويتقدم
غضبي نار تحرق إلى الهواء ، فيأتي على الأرض بمعاقبته ، وتذهب أصول الجبال فأجمع
عليهم بأسي ، وأثقبهم بنبلي ، وأهلكهم جوعا ، وأجعلهم طعاما للطير ، وأسلط عليهم
أنياب السباع ، وأصعب عليهم الحياة ، فإن برزوا أهلكتهم رماحا ، وإن تحصنوا أهلكت
الشاب منهم ، والعذار ، والطفل ، والشيخ ، رعبا حتى أقول : أين هم؟ فأقطع من الأرض
ذكرهم ، لكني رفّهت عنهم لشدة حرد أعدائهم لئلا يزهوا ويقولوا أيدينا القوية فعلت
لا الرب ، فهذه الأمة لا رأي لها ولا تمييز فليتها عرفت وفهمت وأبصرت ما يدركها في
آخر أمرها ، كيف يتبع واحدا منهم ألف ويفر عن اثنين عشرة آلاف؟
أما هذا بأن ربهم
أسلمهم ، وربهم أعلق فيهم ، ليس إلهنا مثل آلهتهم ، وصار حكما ، كرمهم من كرم «سدوم»
، وعناقيدهم من أرباض «عامورا» ، فعناقيدهم عناقيد المرارة ، وشرابهم مرارة
الثعابين ، ومن السم الذي لا دواء له ، أما هذا في علمي ، ومعروف في خزائني لي
الانتقام ، وأنا أكافئ في وقته ، فترهق أرجلكم ، فكان قد حان وقت خرابهم ، وإلى
ذلك تسرع الأزمنة ، سيحكم الربّ على أمته ، ويرحم عبيده إذا
أبصرهم قد ضعفوا ،
وأغلق عليهم وذهب أواخرهم ، وقال : أين آلهتهم التي يتقون ، ويأكلون من قربانهم ،
ويشربون منه ، فليقوموا وليغيثوهم في وقت حاجتهم. فتبصّروا تبصروا : أنا وحدي ولا
إله غيري ، أنا أميت ، وأنا أحيي ، وأنا أمرض ، وأنا أبرئ ، ولا ينخلص شيء من يدي
، فأرفع إلى السماء يدي ، وأقول : بحياتي الدائمة ، لئن حددت رمحي كالصاعقة ،
وابتدأت يميني بالحكم ، لا كافاني أعدائي ، وأهل السنان ، ولأسكرن نبلي دما ،
ولأقطعن برمحي لحوما ، فامدحوا يا معشر الأجناس أمة ، فإنه سيأخذ بدماء عبيده ،
وينتقم من أعدائهم ، ويرحم أرضهم».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه السورة التي أبيحت لهم ، وأمروا بحفظها وكتابتها لا ما سواها بنص
توراتهم بزعمهم ، وقد بينا قبل أنهم لم يشتغلوا بعد موت «سليمان» عليهالسلام ، لا بهذه السورة ولا بغيرها إلا مدة الملوك الخمسة فقط ،
لأنهم قد عبدوا كلهم الأوثان ، وقتلوا الأنبياء وأخافوهم ، وشردوهم ، هذا ما لا
يشك فيه كافر ولا مؤمن.
على أن في هذه
السورة من الفضائح ما لا يجوز أن ينسب إلى الله عزوجل ، مثل قوله : إن الله تعالى هو أبوهم الذي ولدهم ، وأنهم
بنوه وبناته حاشا لله من هذا ، وهل طرق للنصارى وسهّل عليهم أن يجعلوا لله ولدا
إلّا ما وجدوا في هذه الكتب الملعونة المكذوبة المبدّلة بأيدي اليهود؟!
وليس في العجب
أكثر من أن يجعلهم أنفسهم أولاد الله تعالى ، وكل من عرفهم يعرف أنهم أوضر الأمم بزة ، وأبردهم طلعة ، وأغثهم مفاظع ، وأتمهم خبثا ،
وأكثرهم غشا ، وأجبنهم نفوسا ، وأشدهم مهانة ، وأكذبهم لهجة ، وأضعفهم همة ،
وأرعنهم شمائل ، بل حاشا لله من هذا الاختيار الفاسد.
ومثل قوله في هذه
السورة : أنه تعالى حملهم على منكبيه.
ومثل قوله : أنه
قد قسم الأجناس من بني آدم ، وجعل قسمة الأجناس على حساب بني إسرائيل ، وجعلهم
سهمه ، فهذا كذب ظاهر حاشا لله منه لأن أولاد بني إسرائيل كانوا اثني عشر ، فعلى
هذا يجب أن يكون أجناس «بني آدم» اثني عشر ، وليس الأمر كذلك ، فإن كان عنى من
تناسل من أولاد إسرائيل ، فالكذب حينئذ أشنع وأبشع ، لأن عددهم لا يستقر على قدر
واحد ، بل كل يوم يزيدون وينقصون بالولادة والموت ،
__________________
هذا ما لا شك فيه
، فكل هذه براهين واضحة بأنها محرّفة مبدّلة مكذوبة ، فإذ هي كذلك فلا يجوز البتة
في عقل أحد أن يشهد في تصحيح شريعة ، ولا في نقل معجزة ، ولا في إثبات نبوة ، بنقل
مكذوب مفترى موضوع. هذا ما لا شك فيه.
وقد قلنا أو نقول
: إنّ نقل اليهود فاسد مدخول ، لأنه راجع إلى قوم اتبعوا من أخرجهم من الذل
والبلاء والسخرة والخدمة في عمل الطوب ، وذبح أولادهم عند الولادة ، ومن حال لا
يصير عليها كلب مطلق ، ولا حمار مسيب إلى العزّ ، والراحة ، والعافية ، والتملك
للأموال ، وأن يكونوا آمرين مخدومين ، آمنين على أولادهم وأنفسهم. ولا ينكر في مثل
هذا الحال أن يشهد المخلص للمخلص بكل ما يريد منه.
ومع هذا كله فإنّ
اتباعهم «لموسى» عليهالسلام الذي أخرجهم من تلك الحالة إلى هذه الأخرى وطاعتهم له كانت
مدخولة ضعيفة مضطربة.
وقد ذكر في نص
توراتهم : أنهم إذ عملوا العجل نادوا هذا إله «موسى» الذي يخلصهم من «مصر».
ومرة أخرى أرادوا
قتله ، وتصايحوا : قدّم على أنفسنا قائدا ونرجع إلى مصر ، ومع هذا كله قولهم : إن
السحرة عملوا مثل كثير مما عمل موسى ، وأن كل ذلك بيان ممكن بصناعة معروفة ، وفي
هذا كفاية.
وهم مقرون بلا
خلاف من أحد منهم : أنه لم يتبع «موسى» أمة سواهم ، ولا نقلت لهم معجزة طائفة
غيرهم ، وأمّا النصارى : فعنهم أخذوا نبوّة موسى ومعجزاته ، وأما سائر الأمم
والملل ، كالمجوس والفرس والصابئين ، والسريانيين ، والمانية ، والسمنية ،
والبراهمة ، والهند والصين ، والترك ـ فلا ، أصلا. ولا على أديم الأرض مصدق بنبوة «موسى»
وبالتوراة التي بأيديهم إلا هم ، ومن هو شعبة منهم كالنصارى.
وأمّا نحن ـ
المسلمين ـ فإنما قبلنا نبوة «موسى» ، و «هارون» ، و «داود» و «سليمان» ، و «إلياس»
و «اليشع» عليهمالسلام ، وصدقنا بذلك وآمنا بهم ، وأنّ «موسى» الذي أنذر «بمحمد» صلىاللهعليهوسلم لإخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم بصحة نبوتهم ، ومعجزاتهم فقط ، ولو لا إخباره عليهالسلام بذلك ما كانوا عندنا إلا «كشموال» ، و «إيراث» ، و «حداث»
، و «حقاي» ، و «حبقوق» ، و «عدوا» ، و «يؤال» ، و «عاموص» ، و «عوبديا» ، و «ميسخا»
، و «ناحوم» ، و «صفينا» ، و «ملاخى» وسائر من تقر اليهود بنبوتهم ، كإقرارهم
بنبوة «موسى» سواء بسواء ، ولا فرق بين طرق نقلهم لنبوة جميعهم ، ونحن لا نصدق نقل
اليهود في شيء من ذلك ، بل نقول : إنه قد كان لله تعالى أنبياء في «بني إسرائيل»
أخبر بذلك الله تعالى
في كتابه المنزل ،
على نبيه الصادق المرسل ، فنحن نقطع بنبوة من سمّي لنا منهم ، ونقول في هؤلاء
الذين لم يسم لنا محمد صلىاللهعليهوسلم أسماءهم : الله عزوجل أعلم ، إن كانوا أنبياء فنحن نؤمن بهم ، وإن لم يكونوا
أنبياء فلسنا نؤمن بهم.
آمنا بالله ،
وكتبه ، ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله.
وهكذا نقر بنبوة «صالح»
، و «هود» ، و «شعيب» ، و «إسماعيل» وبأنهم رسل الله يقينا ، ولا نبالي بإنكار
اليهود لنبوتهم ، ولا بجهلهم بهم ، لأن الصادق عليهالسلام شهد برسالتهم. وأما التوراة فما وافقنا قط عليها ، لأننا
نحن نقر بتوراة حق أنزلها الله تعالى على «موسى» عليهالسلام وأصحابه ، لأنه تعالى أخبرنا بذلك في كتابه الناطق على
لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصادق ، ونقطع بأنها ليست هذه التي بأيديهم بنصها ، بل
حرف كثير منهم وبدّل ، وهم يقرون بهذه التي بأيديهم ، ولا يعرفون التي نؤمن نحن
بها ، وكذلك لا نصدّق بشريعتهم التي هم عليها الآن ، بل نقطع بأنها محرفة مبدّلة
مكذوبة ، وهم لا يؤمنون «بموسى» الذي بشر «بمحمد» صلىاللهعليهوسلم ، وبرسالته وبأصحابه.
فاعلموا أننا لم
نوافقهم قط على التصديق بشيء من دينهم ، ولا مما هم عليه ، ولا مما بأيديهم من
الكتاب ، ولا بالنبي الذي يذكرونه لما قد أوضحناه من فساد نقلهم ، ووضوح الكذب فيه
، وعموم الدواخل فيه.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ونذكر إن شاء الله تعالى طرفا مما في سائر الكتب التي عندهم ، التي
يضيفونها إلى الأنبياء عليهمالسلام من الفساد كالذي ذكرنا في توراتهم ، ولا خلاف في أن
اهتبالهم بالتوراة كان أشد وأكثر أضعافا مضاعفة من اهتبالهم بسائر كتب أنبيائهم.
أما كتاب «يوشع»
فإن فيه براهين قاطعة بأنه أيضا تاريخ ألفه لهم بعض متأخريهم بيقين ، وأن «يوشع»
لم يكتبه قط ، ولا عرفه ولا أنزل عليه ، فمن ذلك أن فيه نصا : (فلما انتهى ذلك إلى
«دوسراق» ملك «بيوس» التي بنى فيها «سليمان بن داود» بيت المقدس ، فعل أمرا ذكره).
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ومن المحال الممتنع أن يخبر «يوشع» أن «سليمان» بنى بيت المقدس ، و «يوشع»
قبل سليمان بنحو ستمائة سنة ، ولم يأت هذا
__________________
النص في كتاب «يوشع»
المذكور على سبيل الإنذار أصلا ، إنما مساقه ـ بلا خلاف منهم ـ مساق الإخبار عما
قد مضى. وفيه قصة بشيعة جدّا ، وهي أن «عخار» بن «كرمى» بن «شذان» بن «شيلة» بن «يهوذا»
بن «يعقوب» عليهالسلام غلّ من المغنم خيطا أرجوانا ، وحقّ ذهب فيه خمسون مثقالا ، ومائتا درهم فضة ، فأمر «يوشع»
برجمه ، ورجم بنيه ، ورجم بناته حتى يموتوا كلهم بالحجارة ، وأمر بإحراق مواشيه
كلها ، وحاشا لله أن يحكم نبي بهذا الحكم فيعاقب بأغلظ العقوبة من لا ذنب له من
ذرية لم تجن شيئا بجناية أبيهم ، مع أن نصّ التوراة : لا يقتل الأب بذنب الابن ،
ولا الابن بذنب الأب. فلا بدّ ضرورة من أن يقولوا نسخ «يوشع» هذا الحكم ، فيثبتوا
النسخ من نبي لشريعة نبي قبله ، وفي شريعة «موسى» أيضا ، أو ينسبوا الظلم وخلاف
أمر الله إلى «يوشع» فيجعلوه ظالما عاصيا لله مبدلا لأحكامه ، وما فيها حظ لمختار
منهم. وبالله تعالى التوفيق.
وفيه : أن كل من
دخل من بني إسرائيل الأرض المقدسة ، فإنهم كانوا مختونين ، وفيه أبناء تسعة وخمسين
عاما ، وأقل ، وأن «موسى» عليهالسلام لم يختن ممن ولد بعد خروجه من مصر أحدا ، هذا مع إقرارهم
أن الله تعالى شدّد في الختان ، وقال : «من لم يختتن في يوم أسبوع ولادته فلتنف
نفسه من أمته» بمعنى : فليقتل.
فكيف يضيع «موسى»
هذه الشريعة الوكيدة؟ حتى يختنهم كلهم «يوشع» بعد موت «موسى» بدهر؟
ولقد فضحت بهذا
وجه بعض علمائهم. فقال لي : كانوا في التيه في حل وارتحال ، فقلت له : فكان ما ذا؟
فكيف وليس كما تقولون؟ بل كانوا يبقون المدة الطويلة في مكان واحد. في نص كتاب «يوشع»
بزعمكم : أنه إنما ختنهم إذ جازوا الأردن قبل الشروع في الحرب ، وفي أضيق وقت ،
وختنهم كلهم حينئذ ، وهم رجال كهول ، وشبان ، وتركوا الختان إذ لا مئونة في ختانهم
أطفالا تحمله أمة مختونا كما تحمله غير مختون ، ولا فرق ، فسكت منقطعا.
__________________
وأما الكتاب الذي
يسمونه (الزبور) : ففي المزمور الأول منه : «قال لي الرّب : أنت ابني أنا
اليوم ولدتك».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فأي شيء تنكرون على النصارى في هذا الباب؟ ما أشبه الليلة بالبارحة!
وفيه أيضا : «أنتم بنو الله ، وبنو العلي كلكم».
هذه أطم من التي
قبلها ومثل ما عند النصارى أو أنتن.
وفيه في المزمور
الرابع والأربعين منه : «عرشك يا الله في العالم ، وفي الأبد ، قضيت العدل ، قضيت
ملكك ، أحببت الصلاح ، وأبغضت المكروه ، من أجل ذلك دهنك إلهك بزيت القرح بين
أشراكك».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه سوأة الأبد ، ومضيعة الدهر ، وقاصمة الظهر ، وإثبات إله آخر على
الله تعالى دهنه بالزيت إكراما له ، ومجازاة على محبته الصلاح ، وإثبات أشراك لله
تعالى ، وهذا دين النصارى بلا مئونة ـ ولكن إثبات إله دون الله ـ وقد ظهر عند
اليهود هذا علانية على ما نذكر بعد إن شاء الله تعالى.
وبعده بيسير يخاطب
الله تعالى : «وقفت زوجتك عن يمينك وعقاصها من ذهب ، أيتها الابنة : اسمعي ، وميلي
بأذنيك ، وأبصري ، وآنسي عشيرتك ، وبيت أبيك ، فيهواك الملك وهو الرب والله فاسجدي
له طوعا».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ما شاء الله كان. أنكرنا الأولاد فأتونا بالزوجة ، والأختان!! تبارك
الله ، فما نرى لهم على النصارى فضلا أصلا ، ونعوذ بالله من الخذلان.
وفيه في المزمور
الموفي مائة وسبعا : «قال الرّب لربّي : اقعد على يميني حتى أجعل أعداءك كرسي
قدميك».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا كالذي قبله في الجنون والكفر ، ربّ فوق ربّ ، وربّ يقعد عن يمين
ربّ ، وربّ يحكم على ربّ. ونعوذ بالله من الخذلان.
وفيه في المزمور
السادس والثمانين منه : «يقول روح القدس لصهيون : يقال رجل ، ورجل ولد فيها ، وهو
الذي أسسها الرب العليّ ، الذي خلقها عند مكتنه الأمة».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا دين النصارى الذي يشنعون به عليهم ، من أن الله ولد «صهيون» ، لو
انهدمت الجبال من هذا ما كان عجبا.
__________________
وفيه في المزمور
السابع والسبعين منه : «الرّب قام كالمنتبه من نومه كالجبار الذي يقربه أثر الخمار
كما يقوم الجريش» .
وفيه : «اتقوا
ربكم الذي قوته كقوة الجريش».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ما سمع في الحمق اللفيف ، ولا في الكفر السخيف بمثل هذا الفعل ، مرة
يشبه قيام الله تعالى بالمنتبه من نومه ، وقد علمنا أنه لا يكون المرء أكسل ولا
أحوج إلى التمدد ، ولا أثقل حركة منه حين قيامه منه ، ومرة يشبهه بجبار ثمل ، وما
عهد للمرء وقت يكون فيه أنكد ولا أثقل عينين ، ولا أخبث نفسا ، ولا آلم صداعا ،
ولا أضعف عويلا منه في حين الخمار. ومرة يمثله بالجريش ، وما الجريش والله ما هو
إلّا ثور من الثيران بقرن في وسط رأسه ، حاشا لله من هذه النحوس التي حقّ من يؤمن
بها السوط حتى يعتدل دماغه ، أو يحمق بالكل ويقذف الناس بالحجارة ، ويسقط عنه
الخطاب ونعوذ بالله من البلاء.
وفيه من المزمور
الحادي والثمانين : «قام الله في مجتمع الآلهة ، وقف إله العزة في وسطهم يقضي».
وهذه حماقة ممزوجة
بكفر سمج ، مجتمع الآلهة ، وقيام الله بينهم ، ووقوفه في وسط أصحابه. ما شاء الله
كان!! ألا إنّ هذا أخبث من قول النصارى ، لأن الآلهة عند النصارى ثلاثة ، وهم عند
هؤلاء السفلة الأراذل جماعة. ونعوذ بالله من الخذلان.
وفيه من المزمور
الثامن والثمانين : «من ذا يكون مثل الله في جميع بني الله»؟ وبعده يقول : «إن
داود يدعوني والدا وأنا جعلته بكر بنيّ» وبعده : «إن عرش داود يبقى ملكه سرمدا
أبدا».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذه كالتي قبلها صارت الآلهة قبيلة وبني أب ، وكان فيهم واحد هو سيدهم
ليس فيهم مثله ، والآخرون فيهم نقص بلا شك ، تعالى الله عن ذلك ونحمده كثيرا على
نعمة الإسلام ، ملّة التوحيد الصادقة التي تشهد العقول بصحتها وصحة كل ما فيها. مع
كذب الوعد في بقاء ملك «داود» سرمدا.
وفيها مما يوافق
قول الملحدين الدهرية : الناس كالعشب إذا خرجت أرواحهم نسوا ، ولا يعلمون مكانهم ،
ولا يفهمون بعد ذلك.
__________________
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وإن دين اليهود ليميل إلى هذا ميلا شديدا ، لأنه ليس في توراتهم ذكر
المعاد أصلا ، ولا الجزاء بعد الموت. وهذا مذهب الدّهرية بلا كلفة ، فقد جمعوا
الدّهرية ، والشكّ ، والتشبيه ، وكل حمق في العالم ، على أن فيه بما أطلعهم الله
على تبديل ما شاء رفعه من كتابهم ، وكف أيديهم عما شاء إبقاءه حجة لنا عليهم ،
ومعجزة لنبينا صلىاللهعليهوسلم.
وفي المزمور
الحادي والستين منه : «أن العرب وبني سبأ يؤدون إليه المال ويتبعونه ، وأن الدم
يكون له عنده ثمن». وهذه صفة الدّية التي ليست إلّا في ديننا. وفيه أيضا : «ويظهر
من المدينة» هكذا نصا. وهذا إنذار بيّن برسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وأمّا الكتب التي
يضيفونها إلى «سليمان» عليهالسلام ، فهي ثلاثة :
أحدها : يسمى «شارهسير»
ثم معناه شعر الأشعار ، وهو على الحقيقة هوس الأهواس ، لأنه كلام أحمق لا يعقل ،
ولا يدري أحد منهم مراده ، إنما هو مرة يتغزل بمذكر ، ومرة يتغزل بمؤنث ، ومرة
يأتي منه بلغم لزج بمنزلة ما يأتي به المصدوع والذي فسد دماغه. وقد رأيت بعضهم
يذهب إلى أنه رموز على الكيمياء ، وهذا وسواس آخر ظريف.
والثاني : يسمى : «مثلا
معناه الأمثال» ، فيه مواعظ ، وفيه أن قال قبل أن يخلق الله شيئا في البدء من
الأبد : أنا صرت. ومن القديم قبل أن تكون الأرض ، وقبل أن تكون النجوم : أنا قد
كنت استلمت ، وقد كنت ولدت ، وليس كان خلق الأرض بعد ، ولا الأنهار ، وإذ خلق الله
السماوات قد كنت حاضرا ، وإذ كان يجعل للنجوم حدّا صحيحا ، ويدق بها ، وكان يوثق
السماوات في العلو ، ويقدر عيون المياه ، وإذ كان يحدق على البحر بتخمة ، ويجعل
للمياه تخما لئلا تجاوز جوزها ، وإذ كان يعلق أساسات الأرض ، أنا معه
كنت مهيئا للجميع.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فهل في الملحدة أكثر من هذا؟ وهل يضاف هذا الحمق إلى رجل معتدل؟ فكيف
إلى نبي مرسل؟ وهل هذا الإشراك صحيح؟ وحاشا لله أن يقول «سليمان» عليهالسلام هذا الكلام. وتالله ما غبط أهل الإلحاد بإلحادهم إلّا هذا
ومثله. ورأيت بعضهم يخرج هذا على أنه إنما أراد علم الله تعالى.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ولا يعجز من لا حياء له عن أن يقلب كل
__________________
كلام إلى ما اشتهى
بلا برهان ، وصرف الكلام عن موضعه ومعناه إلى معنى آخر لا يجوز إلّا بدليل صحيح
غير ممتنع المراد في اللغة.
والثالث : يسمى : «فوهلث»
، معناه الجوامع.
فيه أن قال مخاطبا
لله تعالى : «اخترني أميرا لأمتك ، وحاكما على بنيك وبناتك».
وهذا كالذي سلف.
وحاشا لله أن يكون له بنات وبنون ، لا سيما مثل بني إسرائيل في كفرهم في دينهم ،
وضعفهم في دنياهم ، ورذالتهم في أحوالهم النفسية والجسدية.
وفي كتاب «حزقيا»
يقول السيد : «سأمدّ يدي على «بني عيسو» وأذهب عن أرضهم الآدميين والأنعام ،
وأفقرهم ، وأنتقم منهم على يدي أمتي بني إسرائيل».
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا ميعاد قد ظهر كذبه يقينا ، لأن «بني إسرائيل» قد بادوا جملة ، و
«بنو عيسو» باقون في بلادهم بنص كتبهم ، ثم بعد ذلك باد «بنو عيسو» فما على أديم
الأرض منهم أحد نعرف أنه منهم ، وصارت بلادهم للمسلمين ، وسكانها «لخم» وغيرها من
العرب ، وبطل بذلك أن يدعوا : أن هذا يكون في المستأنف.
وفي كتاب «لشعيا»
: أنه رأى الله عزوجل شيخا أبيض الرأس واللحية ، وهذا تشبيه ، حاشا لنبي أن
يقوله.
وفيه : «قال الرب
من سمع قط مثل هذا! أنا أعطي غيري أن يلد ، ولا ألد أنا؟! وأنا الذي أرزق غيري
البنين أفأكون أنا بلا ابن»؟
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا أطم ما سمع به أن يقيس الله عزوجل نفسه في كون البنين على خلقه ، وكل هذا أشنع من قول
النصارى في إضافة الشرك ، والولد ، والزوجة إلى الله تعالى. ونعوذ بالله من
الخذلان.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : لم نكتب مما في الكتب التي يضيفونها إلى الأنبياء عليهمالسلام إلّا طرفا يسيرا ، دالّا على فضيحتها أيضا وتبديلها ، وقد
قلنا : إنهم كانوا في بلد صغير محاط به ، ثم لا ندري كيف يمكنهم اتصال شيء من ذلك
إلى نبي من أنبيائهم؟ لا سيما من لم يكن إلّا في أيام كفرهم مخافا ومقتولا ، فصح
بلا شك أنها من توليد من عمل لهم الصلوات التي هم عليها ، والشرائع التي يقرون
أنها
من عمل أحبارهم في
دولتهم الثانية ، إذ ظهر دينهم ، وانتشرت بيوت عبادتهم ، فصارت لهم مجامع يتعلمون
فيها دينهم ، وعلماء يعلمونهم في كلّ بلد ، بخلاف ما أوضحنا أنهم كانوا عليه أيام
دولتهم الأولى ، من كونهم كلّهم كفارا مئين من السنين ، وكونهم لا مسجد لهم أصلا
إلا بيت المقدس ، ولا مجمع بعلم لهم أصلا ، ولا عالما يعلمهم بوجه من الوجوه ، ولا
جامع لشيء من كتبهم ـ والحمد لله رب العالمين.
ولو تقصينا ما في
كتب أنبيائهم من المناقضات والكذب لكثر ذلك جدّا. وفيما أوردناه كفاية.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وقد اعترض بعضهم فيما كان يدّعى عليهم من تبديل التوراة ، وكتبهم
المضافة إلى الأنبياء قبل أن نبين لهم أعيان ما فيها من الكذب البحث ، فقال : قد
كان في مدة دولتهم أنبياء وبعد دولتهم ، ومن المحال أن يقر أولئك الأنبياء على
تبديلها.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فجواب هذا القول أن يقال إن كان يهوديا : كذبت ، ما في شيء من كتبكم
أنه رجع إلى البيت مع «زربائيل» بن «صيلئال» بن «صدقيا» الملك بنبي أصلا ، ولا كان
معه في البيت نبي بإقرارهم أصلا ، وكان ذلك قبل أن يكتبها لهم «عزرا» الوراق بدهر
، وقبل رجوعهم إلى البيت مع «زربائيل» مات «دانيال» آخر أنبيائهم في أرض «بابل» ،
وأما الأنبياء الذين كانوا في بني إسرائيل بعد «سليمان» فكلهم كما بينا إما مقتول
بأشنع القتل ، أو مخاف مطرود منفي لا يسمع منهم كلمة إلّا خفية ، حاشا مدة الملوك
المؤمنين الخمسة في «بني يهوذا» أو «بني بنيامين» خاصة ، وذلك قليل تلاه ظهور
الكفر ، وحرق التوراة ، وقتل الأنبياء. وهو كان خاتمة الأمر ، وعلى هذا الحال
وافاهم انقراض دولتهم.
وأيضا : فليس كل
نبي يبعث بتصحيح كتاب من قبله ، فبطل اعتراضهم بكون الأنبياء فيهم جملة.
وإن كان نصرانيا
يقر بالمسيح و «زكريا» و «يحيى» عليهمالسلام ، قيل له : إن المسيح بلا شك كانت عنده التوراة المنزلة
كما أنزلها الله تعالى ، وكان عنده الإنجيل المنزل. قال الله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) [سورة آل عمران :
٤٨ ، ٤٩]. إلّا أنه عرض في النقل عنه بعد رفعه عارض أشد وأفحش من العارض في النقل
إلى «موسى» عليهالسلام ، فلا كافة في العالم متصلة إلى المسيح عليهالسلام أصلا ، والنقل إليه راجع إلى خمسة فقط وهم : «متى» ،
و «باطرة بن نونا»
، و «يوحنا بن سبذاي» ، و «يعقوب» ، و «يهوذا» ، أبناء «يوسف» فقط. ثم لم ينقل عن
هؤلاء إلا ثلاثة فقط ، وهم : «لوقا» الطبيب الأنطاكي ، و «مارقس» الهاروني و «بولس»
البنياميني. وهؤلاء كلهم كذابون ، وقد وضح عليهم الكذب جهارا على ما نوضحه بعد هذا
إن شاء الله تعالى. وكل هؤلاء مع ما صح من كذبهم وتدليسهم في الدين ، فإنما كانوا
متسترين بإظهار دين اليهود ، ولزوم السبت بنص كتبهم ، ويدعون إلى التثليث سرّا ،
وكانوا مع ذلك مطلوبين حيث ما ظفروا بواحد منهم ظاهرا قتل. فبطل الإنجيل والتوراة
برفع المسيح عليهالسلام بطلانا كليا. وهذا الجواب إنما كان يحتاج إليه قبل أن يظهر
من كذب توراتهم وكتبهم ما قد أظهرنا ، وأما بعد ما أوضحنا من عظيم كذب هذه الكتب
بما لا حيلة فيه فاعتراضهم ساقط ، لأن يقين الباطل لا يصححه شيء أصلا ، كما أن
يقين الحق لا يفسده شيء أبدا.
فاعلموا الآن أن
كل ما عورض به الحق المتيقن ليبطل به ، أو عورض به دون الكذب المتيقن ليصحح به ،
فإنما هو شغب ، وتمويه ، وتخييل فاسد بلا شك ، لأن يقينين لا يمكن البتة في البنية
أن يتعارضا أبدا ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قيل : فإنكم
تقرون بالتوراة والإنجيل ، وتستشهدون على اليهود والنصارى بما فيهما من ذكر صفات
نبيّكم ، وقد استشهد نبيكم عليهم بنصها في قصة الراجم للزاني المحصن. وروي «أن عبد
الله بن سلام» ضرب يد «عبد الله بن صوريا» إذ وضعها على آية الرجم. وروي أن النبي صلىاللهعليهوسلم : أخذ التوراة ، وقال : آمنت بما فيك. وفي كتابكم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى
شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة المائدة :
٦٨].
وفيه أيضا : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة آل عمران : ٩٣].
وفيه أيضا : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها
هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ
هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ
وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ) [سورة المائدة :
٤٤].
وفيه : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) [سورة المائدة :
٤٧].
وفيه أيضا : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ
فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [سورة المائدة :
٦٦].
وفيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [سورة النساء : ٤٧].
وفيه : (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ
التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللهِ) [سورة المائدة : ٤٣].
قلنا وبالله
التوفيق : كل هذا حق ، حاشا قوله عليهالسلام «آمنت بما فيك»
فإنه باطل لم يصح قط ، وكله موافق لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما ، وليس
شيء منه حجة لمن ادّعى أنهما بأيدي اليهود والنصارى كما أنزلا ، على ما نبين الآن
إن شاء الله تعالى بالبرهان الواضح.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : أما إقرارنا بالتوراة والإنجيل فنعم ، وأي معنى لتمويهكم بهذا ، ونحن
لم ننكرهما قط بل نكفر من أنكرهما؟ إنما قلنا إن الله تعالى أنزل التوراة على «موسى»
عليهالسلام حقا ، وأنزل الزبور على «داود» عليهالسلام حقا ، وأنزل الإنجيل على «عيسى» عليهالسلام حقا ، وأنزل الصحف على «إبراهيم» و «موسى» عليهماالسلام حقا ، وأنزل كتبا لم تسم لنا على أنبياء لم يسمّوا لنا حقا
، نؤمن بكل ذلك.
قال تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) [سورة الأعلى : ١٩].
وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) [سورة الشعراء :
١٩٦].
وقلنا ، ونقول :
إن كفار بني إسرائيل بدّلوا التوراة والزبور فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى
بعضها حجة عليهم كما شاء (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء :
٢٣] ، (لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ) [سورة الرعد : ٤١]
، وبدل كفار النصارى الإنجيل كذلك فزادوا ونقصوا ، وأبقى الله تعالى بعضها حجة
عليهم كما شاء ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) ، فدرس ما بدّلوا من الكتب المذكورة ، ورفعه الله تعالى ،
كما درست الصحف وكتب سائر الأنبياء جملة فهذا هو الذي قلنا. وقد أوضحنا البرهان على
صحة ما أوردنا من التبديل والكذب في التوراة والزبور. ونورد إن شاء الله تعالى في
الإنجيل ، وبالله تعالى نتأيّد. فظهر فساد تمويههم بأننا نقر بالتوراة والإنجيل
والزبور ، ولم ينتفعوا بذلك في تصحيح ما بأيديهم من الكتب المكذوبة المبدّلة ،
والحمد لله رب العالمين.
وأما استشهادنا
على اليهود والنصارى بما فيهما من الإنذار لنبينا صلىاللهعليهوسلم فحق ، وقد قلنا آنفا إن الله تعالى أطلعهم على تبديل ما
شاء رفعه من ذينك الكتابين ، كما أطلق
أيديهم على قتل من
أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المثل ، وكفّ أيديهم عما شاء
إبقاءه من ذينك الكتابين حجة عليهم ، كما كف أيديهم الله تعالى عمن أراد أيضا
كرامته بالنصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم ، وقد أغرق الله تعالى
قوم نوح عليهالسلام ، وقوم فرعون نكالا لهم ، وأغرق آخرين شهادة لهم ، وأملى
لقوم ليزدادوا إثما ، وأملى لقوم آخرين ليزدادوا فضلا وهذا ما لا ينكره أحد من أهل
الأديان جملة ، وكان ما ذكرناه زيادة في أعلام النبي صلىاللهعليهوسلم الواضحة ، وبراهينه اللائحة ، والحمد لله رب العالمين.
فبطل اعتراضهم علينا باستشهادنا عليهم بما في كتبهم المحرفة من ذكر نبينا صلىاللهعليهوسلم ، وأما استشهاد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالتوراة في أمر رجم الزاني المحصن ، وضرب «ابن سلام» رضي
الله عنه يد «ابن صوريا» إذ جعلها على آية الرجم فحق ، وهو مما قلناه آنفا : إن
الله تعالى أبقاه خزيا لهم وحجة عليهم ، وإنما يحتج عليهم بهذا كله بعد إثبات
رسالته صلىاللهعليهوسلم بالبراهين الواضحة الباهرة بالنقل القاطع للعذر على ما قد
بينا ونبين إن شاء الله تعالى. ثم نورد ما أبقاه الله تعالى في كتبهم المحرّفة من
ذكره عليهالسلام إخزاء لهم وتبكيتا وفضيحة لضلالهم ، لا لحاجة منا إلى ذلك
أصلا ، والحمد صلىاللهعليهوسلم رب العالمين.
وأما الخبر بأن
النبي عليهالسلام أخذ التوراة وقال : «آمنت بما فيك» فخبر مكذوب ، موضوع ،
لم يأت قط من طرق فيها خير ، ولسنا نستحل الكلام في الباطل لو صح ، فهو من التكلف
الذي نهينا عنه ، كما لا يحل توهين الحق ، ولا الاعتراض فيه.
وأما قول الله عزوجل : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة المائدة :
٦٨].
فحق لا مرية فيه ،
وهكذا نقول ، ولا سبيل لهم إلى إقامتهما أبدا لرفع ما أسقطوا منهما ، فليسوا على
شيء إلا بالإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم. فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل ، كلهم يؤمنون
حينئذ بما أنزل منهما وجد ، أو عدم ، ويكذبون بما بدّل فيهما مما لم ينزله الله
تعالى فيهما ، وهذه هي إقامتهما حقا ، فلاح صدق قولنا موافقا لنص الآية بلا تأويل
، والحمد لله رب العالمين.
وأما قوله تعالى :
(قُلْ فَأْتُوا
بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [آل عمران : ٩٣]
فنعم إنما هي في كذب كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم زائد على الكذب
الذي وضعه أسلافهم في توراتهم ، فبكّتهم عليهالسلام في ذلك الكذب المحدث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين فظهر
كذبهم.
وكم عرض لنا هذا
مع علمائهم في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة ، فالقوم لا مئونة عليهم
من الكذب حتى الآن إذا طمعوا بالتخلص من مجلسهم لا يكون ذلك إلّا بالكذب ، وهذا
خلق خسيس ، وعار لا يرضى به مصحح ، ونعوذ بالله من مثل هذا.
وأما قوله تعالى :
(إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [المائدة : ٤٤].
فنعم. هذا حق على
ظاهره كما هو ، وقد قلنا : إن الله تعالى أنزل التوراة ، وحكم بها النبيون الذين
أسلموا «كموسى» و «هارون» و «داود» و «سليمان» ومن كان بينهم من الأنبياء عليهمالسلام ، ومن كان في أزمانهم من الربانيين والأحبار الذين لم يكونوا
أنبياء بل كانوا حكما من قبل الأنبياء عليهمالسلام ، قبل حدوث التبديل ، هذا نص قولنا ، وليس في هذه الآية
أنها لم تبدّل بعد ذلك أصلا ، لا بنصّ ولا بدليل ، وأمّا من ظن لجهله من المسلمين
أن هذه الآية نزلت في رجم النبي صلىاللهعليهوسلم لليهوديين اللّذين زنيا وهم محصنان فقد ظن الباطل ، وقال
بالكذب ، وتأوّل المحال ، وخالف القرآن ، لأن الله تعالى قد نهى نبينا عليهالسلام عن ذلك نصّا بقوله : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ
وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [المائدة : ٤٨].
وقال عزوجل : (وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ
إِلَيْكَ) [المائدة : ٤٩].
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : فهذا نص كلام الله عزوجل الذي ما خالفه فهو باطل ، وأما قوله تعالى : (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما
أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) [المائدة : ٤٧] فحق
على ظاهره لأن الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، واتباع دينه ، ولا يكونون أبدا حاكمين بما أنزل الله
تعالى فيه إلّا باتباعهم دين محمد صلىاللهعليهوسلم ، فإنما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي
ينتمون إليه ، فهم أهله ، ولم يأمرهم قط تعالى بما يسمى إنجيلا ، وليس بإنجيل ،
ولا أنزله الله تعالى كما هو قط. فالآية موافقة لقولنا ، وليس فيها أن الإنجيل لم
يبدّل لا بنص ولا بدليل ، إنما فيها إلزام النصارى الذين يتسمّون بأهل الإنجيل أن
يحكموا بما أنزل الله فيه ، وهم على خلاف ذلك.
وأما قوله تعالى :
(وَلَوْ أَنَّهُمْ
أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) [المائدة : ٤٧].
فحق كما ذكرنا قبل
، ولا سبيل إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزّلين بعد تبديلهما إلا بالإيمان بمحمد
صلىاللهعليهوسلم ، فيكونون حينئذ مقيمين للتوراة والإنجيل حقا لإيمانهم
بالمنزّل فيهما وجحدهم ما لم ينزل فيهما وهذه هي إقامتهما حقا.
وأما قوله تعالى :
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [سورة النساء : ٤٧].
فنعم ، هذا عموم
قام البرهان على أنه مخصوص ، وأنه تعالى : إنما أراد مصدقا لما معكم من الحق ، لا
يمكن غير هذا ، لأننا بالضرورة ندري أن معهم حقا وباطلا ، ولا يجوز تصديق الباطل
البتة ، فصح أنه إنما أنزله تعالى مصدقا لما معهم من الحق.
وقد قلنا : إن
الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقا ليكون حجة عليهم وزائدا في خزيهم ،
وبالله تعالى التوفيق ، فبطل تعلقهم بشيء مما ذكرنا والحمد لله رب العالمين.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون بجهلهم القول بأن التوراة والإنجيل
الذين بأيدي اليهود والنصارى محرفان وإنما حملهم على هذا قلة اهتبالهم بنصوص القرآن والسنن ، أترى هؤلاء ما سمعوا قول الله تعالى
: (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) [سورة آل عمران :
٧١]. وقوله تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً
مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [سورة البقرة : ٤٦]
وقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) [سورة آل عمران :
٧٨] إلى آخر الآية. وقوله تعالى : (يُحَرِّفُونَ
الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [سورة المائدة : ١٣].
ومثل هذا في
القرآن كثير جدّا. ونقول لمن قال من المسلمين إن نقلهم نقل تواتر يوجب العلم وتقوم
به الحجة : لا شك في أنهم لا يختلفون في أن ما نقلوه من ذلك عن «موسى» و «عيسى» عليهماالسلام لا ذكر فيه لمحمد صلىاللهعليهوسلم أصلا ، ولا إنذار بنبوته ، فإن صدّقهم هؤلاء الغافلون في
بعض نقلهم فواجب أن يصدقهم في سائره ، أحبّوا أم كرهوا ، وإن كذّبوهم في بعض نقلهم
وصدقوهم في بعض فقد تناقضوا ، وظهرت مكابرتهم. ومن الباطل أن يكون نقل واحد جاء
مجيئا واحدا بعضه حق وبعضه
__________________
باطل ، فقد
تناقضوا. وما ندري كيف يستحلّ مسلم إنكار تحريف التوراة والإنجيل ، وهو يسمع كلام
الله عزوجل (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ
فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ
الْكُفَّارَ) [سورة الفتح : ٢٩].
وليس شيء من هذا
فيما بأيدي اليهود والنصارى مما يدعون أنه التوراة والإنجيل ، فلا بدّ لهؤلاء الجهال
من تصديق ربهم عزوجل أن اليهود والنصارى بدّلوا التوراة والإنجيل ، وألا يرجعوا
إلى الحمق ويكذبوا ربهم عزوجل ويصدقوا اليهود والنصارى فيلحقوا بهم ، ويكون السؤال عليهم
كلهم حينئذ واحدا فيما أوضحناه من تبديل الكتابين وما أوردناه مما فيهما من الكذب
المشاهد عيانا مما لم يأت نص بأنهم بدّلوهما لعلمنا بتبديلهما يقينا ، كما نعلم ما
نشهده بحواسنا مما لا نصّ فيه فكيف قد اجتمعت المشاهدة والنص؟!
حدثنا أبو سعيد
الجعفري ، حدثنا أبو بكر الأدفوى محمد بن علي المصري ، حدثنا أبو جعفر أحمد بن
محمد بن إسماعيل النحاس ، حدثنا أحمد بن شعيب عن محمد بن المثنى عن عثمان بن عمر ،
حدثنا علي هو ابن المبارك ، حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن
عوف عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية
ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنّا بالذي
أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد» .
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذا نص قولنا ، والحمد لله رب العالمين.
ما نزل القرآن
والسنة عن النبي صلىاللهعليهوسلم بتصديقه صدّقنا به ، وما نزل النص بتكذيبه أو ظهر كذبه
كذّبنا به ، وما لم ينزل نص بتصديقه أو تكذيبه وأمكن أن يكون حقا أو كذبا لم
نصدقهم ولم نكذبهم ، وقلنا ما أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نقوله كما قلنا في نبوّة من لم يأتنا باسمه نصّ ،
والحمد لله رب العالمين.
حدّثنا عبد الله
بن عبد الرحمن بن خالد ، حدثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ، حدثنا
__________________
الفربري ، حدثنا
البخاري ، حدثنا إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، حدثنا ابن شهاب
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال ابن عباس : «كيف تسألون أهل الكتاب
عن شيء ، وكتابكم الذي أنزل على رسوله صلىاللهعليهوسلم حدث تقرءونه محضا لم يشب ، وقد حدّثكم أن أهل الكتاب
بدّلوا كتاب الله تعالى وغيّروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقد قالوا : هو من عند
الله ليشتروا به ثمنا قليلا» .
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هذا أصح إسناد عن ابن عباس رضي الله عنه ، وهو نفس قولنا ، وما له في
ذلك من الصحابة مخالف.
وقد روينا أيضا عن
عمر رضي الله عنه : أنه أتاه «كعب الحبر» بسفر وقال له : هذه التوراة أفأقرؤها؟
فقال له عمر بن الخطاب : إن كنت تعلم أنها التي أنزل الله على «موسى» فاقرأها آناء
الليل والنهار. فهذا عمر لم يحققها.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ونحن إن شاء الله تعالى نذكر طرفا يسيرا من كثير جدّا من كلام أحبارهم
الذين أخذوا كتابهم ودينهم ، وإليهم يرجعون في نقلهم لتوراتهم ، وكتب الأنبياء ،
وجميع شرائعهم ، ليرى كل ذي فهم مقدارهم من الفسق والكذب ، فيلوح له أنهم كانوا
كذابين مستخفين بالدين. وبالله تعالى التوفيق. ولقد كان يكفي من هذا إقرارهم بأنهم
عملوا هذه الصلوات شريعة عوضا مما أمر الله تعالى به من القرابين ، وهذا تبديل
الدّين جهارا.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : ذكر أحبارهم وهو في كتبهم مشهور لا ينكرونه عند من يعرف كتبهم : أن
إخوة يوسف إذ باعوا أخاهم طرحوا اللعنة على كل من بلّغ إلى أبيهم حياة
ابنه يوسف ، ولذلك لم يخبره الله عزوجل بذلك ، ولا أحد من الملائكة. فاعجبوا لجنون أمة تعتقد أن
الله خاف أن يقع عليه لعنة قوم باعوا النبي أخاهم ، وعقّوا النبي أباهم أشدّ
العقوق ، وكذبوا أعظم الكذب ، فو الله لو لم يكن في كتبهم إلّا هذا الكذب ، وهذا
الحمق ، وهذا الكفر لكانوا به أحمق الأمم ، وأكفرهم ، وأكذبهم ، فكيف ولهم ما قد
ذكرنا ونذكر إن شاء الله تعالى؟
وفي بعض كتبهم أن «هارون»
عليهالسلام قال لله تعالى إذ أراد أن يسخط
__________________
على بني إسرائيل :
يا رب لا تفعل ، فلنا عليك ذمام وحق لأن أخي وأنا أقمنا لك مملكة عظيمة.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : وهذه طامة أخرى حاشا لهارون عليهالسلام أن يقول هذا الجنون. أين هذا الهوس وهذه الرّعونة من الحق
النير إذ يقول الله تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة الحجرات :
١٧].
وفي بعض كتبهم أن
الصورتين اللتين أمر الله تعالى «موسى» أن يصورهما على التابوت خلف الحجلة في
السرادق إنما كانتا صورة الله وصورة «موسى» عليهالسلام معه تعالى الله عن كفرهم علوّا كبيرا.
وفي بعض كتبهم :
أن الله تعالى قال لبني إسرائيل : من تعرض لكم فقد تعرض حدقة عيني.
وفي بعض كتبهم :
أن علة تردد بني إسرائيل مع «موسى» في التيه أربعين سنة حتى ماتوا كلهم ، إنما
كانت لأن فرعون كان بنى على طريق مصر إلى الشام صنما سمّاه «باعل صفون» وجعله
طلسما لكل من هرب من مصر يحيّره ولا يقدر على النفاذ.
فاعجبوا لمن يجيز
أن يكون طلسم فرعون يغلب الله تعالى ويحيّر نبيّه «موسى» ومن معه حتى يموتوا!!
فأين كان فرعون من هذه القوة إذ غرق في البحر؟
وفي بعض كتبهم :
أن «دينه» بنت يعقوب عليه السّلام إذ غصبها «شكيم بن حمور» وزنى بها حملت وولدت ابنة
، وأن عقابا خطف تلك الفرخة من الزنى ، وحملها إلى مصر ، ووقعت في حجر «يوسف»
فربّاها وتزوجها ، وهذه تشبه الخرافات التي يتحدث بها النساء بالليل إذا غزلن.
وفي بعض كتبهم :
أن «يعقوب» إنما قال في ابنه «نفتال» : «أيل مطلق» لأنه قطع من قرية «إبراهيم» عليهالسلام التي بقرب بيت
المقدس إلى «منف» التي بمصر ، ورجع إلى قرية الخليل في ساعة من النهار لشدة سرعته
لا لأن الأرض طويت له. ومقدار ذلك مسيرة نيف وعشرين يوما.
وفي بعض كتبهم
ممّا لا يختلفون في صحته : أن السحرة يحيون الموتى على
__________________
الحقيقة ، وأن
هاهنا أسماء لله تعالى ودعاء وكلاما ومن عرفه من صالح أو فاسق أحال الطبائع وأتى
بالمعجزات وأحيا الموتى ، وأن عجوزا ساحرة أحيت لشاول الملك وهو «طالوت» شمؤال
النبي بعد موته ، فليت شعري إذا كان هذا حقا!! فما يؤمنهم أن «موسى» وسائر من يقرون
بنبوته كانوا من أهل هذه الصفة؟ ولا سبيل إلى فرق بين شيء من هذا أبدا.
وفي بعض كتبهم :
أن بعض أحبارهم المعظمين عندهم ذكر لهم أنه رأى طائرا يطير في الهواء ، وأنه باض
بيضة وقعت على ثلاث عشرة مدينة فهدمتها كلها.
وفي بعض كتبهم :
أن المرأة المدنية التي ذكر في التوراة التي زنى بها زمري بن خالوا من سبط «شمعون»
طعنه «فينحاس بن العيزار بن هارون» برمحه فنفذه ، ونفذ المرأة تحته ثم رفعهما في
رمحه إلى السماء كأنهما طائران في سفود ، وقال : هكذا نفعل بمن عصاك.
قال كبير من
أحبارهم ، معظم عندهم : إنه كان تكسير عجز تلك المرأة مقدار مزرعة مدى خردل.
وفي كتبهم : أن
طول لحية فرعون كان سبعمائة ذراع ، وهذه والله مضحكة تسلي الثكالى ، وترد الأحزان.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : عن مثل هؤلاء فلينقل الدين!! وتبّا لقوم أخذوا كتبهم ودينهم عن مثل
هذا الرقيع الكذاب وأشباهه.
وفي بعض كتبهم
المعظمة : أن جباية سليمان عليهالسلام في كل سنة كانت ستمائة ألف قنطار ، وستة وثلاثين ألف قنطار
من ذهب ، وهم مقرون أنه لم يملك قط إلا فلسطين والأردن والغور فقط ، وأنه لم يملك
قط «رفح» ولا «غزة» ولا «عسقلان» ولا «صور» ولا «صيدا» ، ولا «دمشق» ، ولا «عمان»
، ولا «البلقاء» ولا «مواب» ، ولا جبال «الشراة». فهذه الجباية التي لو جمع كلّ
الذهب الذي بأيدي الناس لم يبلغها ، من أين خرجت؟
وقد قلنا : إن
الأحبار الذين عملوا لهم هذه الخرافات كانوا ثقالا في الحساب ، وكان الحياء في
وجوههم قليلا جدّا.
__________________
وذكروا أنه كان
لمائدة سليمان عليهالسلام في كل سنة أحد عشر ألف ثور ، وخمسمائة ثور وزيادة ، وستة
وثلاثين ألف شاه سوى الإبل والصيد ، فانظروا ما ذا يكفي لحوم من ذكرنا من الخبز؟
وقد ذكروا عددا مبلغه ستة آلاف مدي في العام لمائدته خاصة.
واعلموا أن بلاد
بني إسرائيل تضيق عن هذه النفقات. هذا مع قوله : إنه عليهالسلام كان يهدي كل سنة ثلثي هذا العدد من برّ ، ومثله من زيت إلى
ملك «صور». فليت شعري!! لأي شيء كان يهاديه بذلك؟ هل ذلك إلّا لأنه كفؤه ونظيره في
الملك؟! وهذه كلمات كذبات ، ورعونة لا خفاء بها ، وأخبار متناقضة.
وذكروا : أنه كانت
توضع في قصر «سليمان» عليهالسلام كل يوم مائة مائدة ذهب ، على كل مائدة مائة صحفة ذهب ،
وثلاثمائة طبق ذهب ، على كل طبق ثلاثمائة كأس ذهب ، فاعجبوا لهذه الكذبات الباردة
، واعلموا أن الذي عملها كان ثقيل الذهن في الحساب مقصرا في علم المساحة ، لأنه لا
يمكن أن يكون قطر دائرة الصحفة أقل من شبر ، وإن لم تكن كذلك فهي صحيفة لا صحفة
طعام ملك ، فوجب ضرورة أن تكون مساحة كل مائدة من تلك الموائد عشرة أشبار في مثلها
لا أقل سوى حاشيتها وأرجلها.
واعلموا أن مائدة
من ذهب هذه صفتها لا يمكن البتة أن يحركها إلّا فيل ، لأن الذهب أوزن الأجسام
وأثقلها ، ولا يمكن البتة أن يكون في كل مائدة من تلك الموائد أقل من ثلاثة آلاف
رطل ذهب ، فمن يرفعها؟ ومن يغسلها؟ ومن يمسحها؟ ومن يديرها؟ فهذا الذهب كله ، وهذه
الأطباق من أين؟
فإن قيل : أنتم
تصدقون بأن الله تعالى آتاه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وأن الله سخّر له الريح
والجن والطير ، وعلمه منطق الطير والنمل ، وأن الريح تجري بأمره ، وأن الجن كانوا
يعملون له المحاريب والتماثيل ، والجفان ، والقدور. قلنا : نعم ونكفّر من لم يؤمن
بذلك ، وبين الأمرين فرق واضح ، وهو أن الذي ذكرت مما نصدّق به نحن هو من المعجزات
التي تأتي بمثلها الأنبياء عليهمالسلام داخل كله تحت الممكن في بنية العالم ، والذي ذكروه هو خارج
عن هذا الباب داخل في حدّ الكذب والامتناع في بنية العالم.
__________________
وفي بعض كتبهم
المعظمة عندهم أن «زارح» ملك السودان غزا بيت المقدس في ألف ألف مقاتل ، وأن «أسا
بن» ابن الملك خرج إليه في ثلاثمائة ألف مقاتل من «بني يهوذا» وخمسين ألف مقاتل من
«بني بنيامين» فهزم ملك السودان. وهذا كذب فاحش ممتنع ، لأن من أقرب موضع من بلد
السودان ، وهو النوبة إلى «مسقط» النيل في البحر نحو مسيرة ثلاثين يوما ، ومن مسقط
النيل إلى بيت المقدس نحو عشرة أيام صحارى ومفاوز ، وألف ألف مقاتل لا تحملهم إلا
البلاد المعمورة الواسعة ، وأما الصحارى الجرد فلا ، ثم في مصر جميع أعمال مصر
فكيف يخطوها إلى بيت المقدس هذا ممتنع في رتبة الجيوش وسيرة الممالك ، ومن البعيد
أن يكون عند ملك السودان حيث يتسع بلدهم ، ويكثر عددهم اسم بيت المقدس ، فكيف أن
يتكلفوا غزوها لبعد تلك البلاد عن النوبة ، وأما بلد النوبة والحبشة والبجاة فصغير
الخطة قليل العدد. وإنما هي خرافات مكذوبة باردة.
وفي كتاب لهم يسمى
«شعر توما» من كتاب «التلمود» ، والتلمود هو معولهم وعمدتهم في فقههم وأحكام دينهم
وشريعتهم ، وهو من أقوال أحبارهم بلا خلاف من أحد منهم ، ففي الكتاب المذكور أن تكسير
جبهة خالقهم من أعلاها إلى أنفه خمسة آلاف ذراع حاشا لله من الصور والمساحات
والحدود والنهايات.
وفي كتاب آخر من
التلمود يقال له «سادرناشيم» ومعناه تفسير أحكام الحيض أن في رأس خالقهم تاجا فيه
ألف قنطار من ذهب ، وفي إصبعه خاتم له فص تضيء منه الشمس والكواكب ، وأن الملك
الذي يخدم ذلك التاج اسمه «صندلفون» تعالى الله عن هذه الحماقات.
ومما أجمع عليه
أحبارهم ـ لعنهم الله ـ أنّ من شتم الله تعالى وشتم الأنبياء يؤدب ، ومن شتم
الأحبار يموت أي يقتل. فاعجبوا لهذا ، واعلموا أنهم ملحدون لا دين لهم ، يفضلون
أنفسهم على الأنبياء عليهمالسلام ، وعلى الله عزوجل. فعليهم ما يخرج من أسافلهم. وفيما سمعنا علماءهم يذكرونه
، ولا يتناكرونه ، معنى أن أحبارهم الذين أخذوا عنهم دينهم ، والتوراة ، وكتب
الأنبياء عليهمالسلام ، اتفقوا على أن رشوا «بولس» البنياميني ـ لعنه الله ـ
وأمروه بإظهار دين «عيسى» عليهالسلام ، وأن يضل أتباعهم ، ويدخلهم إلى القول بالإلهية ، وقالوا
له : نحن نتحمل إثمك في هذا ، ففعل وبلغ من ذلك حيث قد ظهر.
واعلموا يقينا أن
هذا عمل لا يستسهله ذو دين أصلا ، ولا يخلو أتباع المسيح
عليهالسلام عند أولئك الأحبار ـ لعنهم الله ـ من أن يكونوا على حق أو
على باطل ، لا بدّ من أحدهما. فإن كانوا عندهم على حق فكيف استحلّوا ضلال قوم
محقين وإخراجهم عن الهدى والدين إلى الضلال المبين؟ هذا والله لا يفعله مؤمن بالله
تعالى أصلا. وإن كانوا عندهم على ضلال وكفر فحسبهم ذلك منهم. وإنما يسعى المؤمن ليهدي
الكافر والضال ، وأما أن يقوي بصيرته في الكفر ويفتح له فيه أبوابا أشد وأفحش مما
هو عليه فهذا لا يفعله أيضا من يؤمن بالله تعالى قطعا ، ولا يفعله إلا ملحد يريد
أن يسخر بمن سواه ، فعن هؤلاء أخذوا دينهم وكتب أنبيائهم بإقرارهم ، فاعجبوا لهذا
، وهذا أمر لا نبعده عنهم لأنهم قد راموا ذلك فينا وفي ديننا ، فبعد عليهم بلوغ
أربهم من ذلك ، وذلك بإسلام «عبد الله بن سبأ» المعروف بابن السوداء اليهودي
الحميري لعنه الله ليضل من أمكنه من المسلمين. فنهج لطائفة رذلة كانوا يتشيّعون في
عليّ رضي الله عنه أن يقولوا بالإلهية في عليّ ، كما نهج «بولس» لأتباع المسيح عليهالسلام أن يقولوا بإلهيته ، وهم الباطنية ، والغالية إلى اليوم ،
وأخفهم كفرا الإمامية ـ على جميعهم لعائن الله تترى ـ.
وأشنع من هذا كله
نقلهم الذي لا تمانع بينهم فيه عن كثير من أحبارهم المتقدمين الذين عنه وعن أصحابه
أخذوا دينهم ، ونقلوا توراتهم ، وكتب الأنبياء ـ بأن رجلا اسمه «إسماعيل» كان إثر
خراب البيت إذ خربه طيطش فيذكرون عنه أنه أخبرهم عن نفسه أنه كان ماشيا في خراريب
ببيت المقدس فسمع الله تعالى يئن كما تئن الحمامة ، ويبكي وهو يقول : «الويل لمن
أخرب بيته ، وضعضع ركنه ، وهدم قصره ، وموضع سكينته ، ويلي على ما أخربت من بيتي
ويلي على ما فرقت من بنيّ وبناتي ، قامتي منكسة ، حتى أبني بيتي وأردّ إليه بنيّ
وبناتي».
قال هذا النذل
الموسخ ابن الأنذال إسماعيل : فأخذ الله تعالى بثيابي ، وقال لي : أسمعتني يا بني
يا إسماعيل؟ قلت : لا يا رب. فقال لي : يا بني يا إسماعيل ، بارك علي. قال هذا
الكلب والجيفة المنتنة : فبارك عليه ومضيت.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : «لقد هان من بالت عليه الثعالب» والله ما
__________________
في الموجودات أرذل
ولا أنتن ممن احتاج إلى بركة هذا الكلب الوضر ، فاعجبوا لعظيم ما انتظمت هذه القصة
عليه من وجوه الكفر الشنيع.
فمنها : إخباره عن
الله تعالى أن يدعو على نفسه بالويل مرة بعد مرة ، الويل حقا على من يصدّق بهذه
القصة ، وعلى الملعون الذي أتى بها.
ومنها : وصفه الله
تعالى بالندامة على ما فعل!! ما الذي دعاه إلى الندامة؟ أتراه كان عاجزا عن أن
يردّهم؟ هذا عجب آخر ، وإذا كان نادما على ذلك فلم تمادى على تبديدهم ، وإلقاء
النجس عليهم حتى يبلغ ذلك إلى إلقاء الحكة في أدبارهم ، كما نص في آخر توراتهم؟
ما في العالم صفة
أحمق من صفة من يتمادى على من يندم عليه هذه الندامة.
ومنها : وصفه الله
تعالى بالبكاء والأنين.
ومنها : وصفه لربه
تعالى بأنه لم يدر هل سمعه أم لا؟ حتى سأله عن ذلك.
ثم أظرف شيء
إخباره عن نفسه بأنه أجاب بالكذب ، وأن الله تعالى قنع بكذبه ، وجاز عنده ولم يدر
أنه كاذب.
ومنها : كونه بين
الخرب ، وهي مأوى المجانين من الناس وخساس الحيوان كالثعالب والقطط البرية
ونحوهما.
ومنها : وصفه الله
تعالى بتنكيس القامة.
ومنها : طلبه
البركة من ذلك المتن ابن المنتنة والمنتن.
وبالله الذي لا
إله إلّا هو ما بلغ قط ملحد ولا مستخف هذه المبالغ التي بلغها هذا اللعين ومن
يعظمه. وبالله تعالى نتأيد.
ولو ما وصفه الله
تعالى من كفرهم وقولهم : (يَدُ اللهِ
مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] و (اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١].
ما انطلق لنا لسان بشيء مما أوردنا. ولكن سهّل علينا حكاية كفرهم ما ذكره الله
تعالى لنا من ذلك. ولا أعجب من إخبار هذا الكلب ـ لعنه الله ـ عن نفسه بهذا الخبر
، فإن اليهود كلهم يعني الربانيين منهم مجمعون على الغضب على الله ، وعلى تعييبه
وتهوين أمره عزوجل فإنهم يقولون ليلة «عيد الكبود» وهي العاشرة من تشرين
الأول وهو أكتوبر يقوم «الميططرون» ومعنى هذه اللفظة عندهم «الرب الصغير» ـ تعالى
الله عن كفرهم.
قال : ويقول وهم
قائم ينتف شعره ويبكي قليلا قليلا : «ويلي إذ خرّبت بيتي ،
وأيتمت بنيّ
وبناتي ، قامتي منكسة لا أرفعها حتى أبني بيتي ، وأردّ إليه بنيّ وبناتي». ويردّد
هذا الكلام.
واعلموا أنهم
أفردوا عشرة أيام من أول «أكتوبر» يعبدون فيه ربّا آخر غير الله عزوجل. فحصلوا على الشرك المجرّد.
واعلموا أن الرّب
الصغير الذي أفردوا له الأيام المذكورة يعبدونه فيها من دون الله عزوجل هو عندهم «صندلفون» الملك خادم التاج الذي في رأس معبودهم
، وهذا أعظم من شرك النصارى ، ولقد أوقفت بعضهم على هذا فقال لي : «ميططرون» ملك
من الملائكة. فقلت : وكيف يقول ذلك الملك ويلي على ما خرّبت من بيتي ، وفرّقت بنيّ
وبناتي!! وهل فعل هذا إلا الله عزوجل؟
فإن قالوا : تولّى
ذلك الملك ذلك الفعل بأمر الله تعالى.
قلنا : فمن المحال
الممتنع ندامة الملك على ما فعله بأمر الله تعالى ، هذا كفر من الملك لو فعله ،
فكيف أن يحمد ذلك منه؟ وكل هذا إنما هو تحيّل منهم عند صكّ وجوههم بذلك. وإلّا فهم
فيه قسمان : قسم يقول : إنه الله تعالى نفسه فيصغرونه ويحقرونه ويعيبونه ، وقسم
يقول : إنه ربّ آخر دون الله تعالى.
واعلموا أن اليهود
يقومون في كنائسهم أربعين ليلة متصلة من «أيلول» و «تشرين الأول» وهما : «سبتمبر ،
وأكتوبر» فيصيحون ويولولون بمصائب ، منها قولهم : «لأي شيء تسلمنا يا الله هكذا ،
ولنا الدين القيم ، والأثر الأول؟ لم يا الله تتصمّم عنا وأنت تسمع؟! لم يا الله
لا تعاقب من يكفر النعم ولا تجازي بالإحسان ثم تبخسنا حظنا ، وتسلمنا لكل معتد ،
وتقول إن أحكامك عدلة؟» فاعجبوا لوغادة هؤلاء الأوباش ولرذالة هؤلاء الأنذال
الممتنين على ربهم عزوجل ، المستخفّين به وبملائكته وبرسله.
وتالله ما بخسهم
ربّهم حظهم ، وما حقهم إلا الخزي في الدنيا ، والخلود في النار في الآخرة ، وهو
تعالى موفيهم نصيبهم غير منقوص.
واحمدوا الله على
عظيم منته علينا بالإسلام الملّة الزهراء التي صححتها العقول ، وبالكتاب المنزل من
عنده تعالى بالنور المبين ، والحقائق الباهرة ، نسأل الله تثبيتا على ما منحنا من
ذلك بمنّه إلى أن نلقاه مؤمنين غير مغضوب علينا ولا ضالين.
قال «أبو محمد» (رضي
الله عنه) : هنا انتهى ما أخرجناه من توراة اليهود وكتبهم
من الكذب الظاهر ،
والمناقضات اللائحة التي لا شك معه في أنها كتب مبدّلة محرّفة مكذوبة ، وشريعة
موضوعة مستعملة من أكابرهم ، ولم يبق بأيديهم بعد هذا شيء أصلا ، ولا بقي في فساد
دينهم شبهة بوجه من الوجوه والحمد لله رب العالمين. وإيّاكم أن يجوز عليكم تمويه
من يعارضكم بخرافة أو كذبة ، فإننا لا نصدّق في ديننا بشيء أصلا ، إلّا ما جاء في
القرآن ، أو ما صح بإسناد الثقات ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقط وما عدا هذا فنحن نشهد أنه باطل لا نلتفت إليه.
واعلموا أننا لم
نكتب من فضائحهم إلّا قليلا من كثير ، ولكن فيما كتبنا كفاية قاطعة في بيان فساد
كلّ ما هم عليه.
وبالله تعالى
التوفيق.
ابتداء ذكر الأناجيل
قال أبو محمد :
وأما الإنجيل وكتب النصارى فنحن إن شاء الله عزوجل موردون من الكذب المنصوص في أناجيلهم ومن التناقض الذي
فيها أمرا لا يشك كل من رآه في أنهم لا عقول لهم وأنهم مخذولون جملة.
وأما فساد دينهم
فلا إشكال فيه على من له مشكلة عقل ، ولسنا نحتاج إلى تكلف برهان في أن الأناجيل
وسائر كتب النصارى ليست من عند الله عزوجل ، ولا من عند المسيح عليهالسلام كما احتجنا إلى ذلك في التوراة والكتب المنسوبة إلى
الأنبياء التي عند اليهود ، لأن جمهور اليهود يزعمون أن التوراة التي بأيديهم
منزلة من الله عزوجل على موسى عليهالسلام ، فاحتجنا إلى إقامة البرهان على بطلان دعواهم في ذلك.
وأما النصارى فقد كفونا هذه المئونة كلها لأنّهم لا يدعون أنّ الأناجيل منزلة من
عند الله تعالى على المسيح ، ولا أن المسيح عليهالسلام أتاهم بها ، بل كلهم أولهم عن آخرهم آريوسيهم وملكيهم
ونسطوريهم ويعقوبيّهم ومارونيهم وبولقانيّهم لا يختلفون في أنها أربعة تواريخ
ألّفها أربعة رجال معرفون في أزمان مختلفة.
فأوّلها تاريخ
ألّفه متّى اللّاواني (تلميذ المسيح) بعد تسع سنين من رفع المسيح عليهالسلام وكتبه بالعبرانية في بلد يهوذا بالشام يكون نحو ثمان
وعشرين ورقة بخط متوسط.
والآخر تاريخ
ألّفه مارقش الهاروني (تلميذ شمعون بن يونا المسمّى باطرة) بعد اثنين
وعشرين عاما من رفع المسيح. وكتبه باليونانية في بلد أنطاكية من بلاد الروم ويقولون : إن شمعون المذكور هو ألّفه ثم محا
اسمه من أوله ، ونسبه إلى تلميذه مارقش ، يكون أربع عشرة ورقة بخط متوسط ، وشمعون
المذكور تلميذ المسيح.
والثالث تاريخ
ألّفه لوقا (الطبيب الأنطاكي تلميذ شمعون باطرة) كتبه باليونانية
__________________
في بلدة إقاية ، بعد تأليف مارقش المذكور. يكون من قدر إنجيل متّى .
والرابع تاريخ
ألّفه يوحنا بن سبذاى تلميذ المسيح ، بعد رفح المسيح ببضع وستين سنة وكتبه
باليونانية في بلد أستيه يكون أربعا وعشرين ورقة بخط متوسط ، ويوحنا هذا نفسه هو
ترجم إنجيل متّى صاحبه من العبرانية إلى اليونانية.
ثم ليس للنصارى
كتاب قديم يعظّمونه بعد الأناجيل إلّا الأفركسيس وهو كتاب ألّفه لوقا الطبيب
المذكور في أخبار الحواريين وأخبار صاحبه بولش البنياميني ، وسيرهم وقتلهم يكون نحو خمسين ورقة بخط
مجموع.
وكتاب الوحي
والإعلان ألّفه يوحنا بن سبذاي المذكور ، وهو كتاب في غاية السخف
والركاكة ، ذكر فيه ما رأى من الأحلام وإذ أسري به وخرافات باردة.
والرسائل
القانونية وهي سبع رسائل فقط منها ثلاث رسائل ليوحنا بن سبذاي المذكور ، ورسالتان
لباطرة شمعون المذكور ، ورسالة واحدة ليعقوب بن يوسف النجار ، وأخرى لأخيه يهوذا
بن يوسف تكون كل رسالة من ورقة إلى ورقتين في غاية البرد والغثاثة. ورسائل بولش
تلميذ شمعون باطرة وهي خمس عشرة رسالة تكون كلها نحو أربعين ورقة ، مملوءة حمقا
ورعونة وكفرا ، ثم كتاب لهم بعد ذلك فلا خلاف بينهم أنه من تأليف المتأخرين من
أساقفتهم وبطاركتهم كمجامع البطاركة والأساقفة الكبار الستّة ، وسائر مجامعهم
الصغار وفقههم في أحكامهم الذي عمله لهم «دكريد» الملك وبه يعمل نصارى الأندلس ،
ثم لسائر النصارى أحكام أخرى أيضا عملها لهم من شاء الله تعالى أن يعملها من
أساقفتهم لا يختلفون في هذا كله أنّه كما قلنا. ثمّ أخبار شهدائهم فقط. فجميع نقل
النصارى أوله عن آخره حيث كانوا هو راجع إلى الثلاثة الذين سمينا فقط ، وهم بولش
ومارقش ولوقا ، وهؤلاء الثلاثة لا ينقلون إلا عن خمسة
__________________
فقط ، وهم باطرة ومتّى ويوحنا ويعقوب ويهوذا ولا مزيد.
وكل هؤلاء فأكذب
البرية وأخبثهم على ما نبين بعد هذا ، إن شاء الله تعالى. على أن بولش حكى في
الأفركسيس وفي إحدى رسائله ، أنه لم يبق مع باطرة إلا خمسة عشر يوما ، ثم لقيه مرة
أخرى وبقي معه أيضا يسيرا ، ثم لقيه الثالثة فأخذا جميعا وصلبا إلى لعنة الله. إلا
أن الأناجيل الأربعة والكتب التي ذكرنا أن عليها معتمدهم فإنها عند جميع فرق
النصارى في شرق البلاد وغربها على نسخة واحدة ، ورتبة واحدة ، لا يمكن أحد أن يزيد
فيها كلمة ولا أن ينقص منها أخرى إلا افتضح عند جميع النصارى ، لأنها مبلغة كما هي
إلى مارقس ولوقا ويوحنا لأن يوحنا هذا هو الذي نقل إنجيل متى عن متّى ورسائل بولش
مبلغة كذلك إلى بولش.
واعلموا أن أمر
النصارى أضعف من أمر اليهود بكثير لأن اليهود كانت لهم مملكة ، وجمع عظيم مع موسى عليهالسلام وبعده ، وكان فيهم أنبياء كثير ، ظاهرون آمرون مطاعون ، كموسى
وهارون ويوشع وشموال وداود وسليمان عليهمالسلام. وإنّما دخلت الداخلة في التوراة بعد سليمان عليهالسلام ، إذ ظهر فيهم الكفر وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء وحرق
التوراة ونهب البيت مرة بعد مرة ، واتصل كفر جميعهم إلى أن تلفت دولتهم على ذلك.
وأما النصارى فلا خلاف
بين أحد منهم ولا من غيرهم في أنه لم يؤمن بالمسيح في حياته إلا مائة وعشرون رجلا
فقط ، هكذا في الإفركسيس ، ونسوة منهم امرأة وكيل هردوس وغيرها ، كن ينفقن عليه
أموالهن ، هكذا في نص إنجيلهم ، وأن كل من آمن به فإنهم كانوا مستترين مخافين في
حياته وبعده يدعون إلى دينهم سرا لا يكشف منهم أحد وجهه إلى الدعاء إلى ملته ، ولا
يظهر دينه ، وكلّ من ظفر به منهم فإنّه قتل بالحجارة كما قتل يعقوب بن يوسف النجار
، وأشطيبن الذي يسمونه بكر الشهداء وغيره ، وإما صلب كما صلب باطرة
واندرياش أخوه وشمعون أخو يوسف النجار ، وفلبش وبولش وغيرهم أو قتلوا بالسيف كما قتل يعقوب أخو يوحنا
وطوما وبرتلوما ويهوذا بن يوسف النجار ، ومتّى. أو بالسم كما قتل يوحنا بن سبذاي ،
وبقوا على هذه الحال لا يظهرون البتة ، ولا لهم مكان يأمنون فيه مدة ثلاثمائة سنة
، بعد رفع المسيح عليهالسلام.
__________________
وفي خلال ذلك ذهب
الإنجيل المنزل من عند الله تعالى إلّا فصولا يسيرة أبقاها الله تعالى حجة عليهم ،
وخزيا لهم ، فكانوا كما ذكرنا إلى أن تنصر قسطنطين الملك ، فمن حينئذ ظهر النصارى
وكشفوا دينهم ، واجتمعوا وأمنوا ، وكان سبب تنصره أن أمه هلاني كانت بنت نصراني
فعشقها أبوه وتزوجها ، فولدت له قسطنطين ، فربته على النصرانية سرّا ، فلما مات
أبوه وولي هو أظهر النصرانية بعد أعوام كثيرة من ولايته ، ومع ذلك فما قدر على
إظهارها حتى رحل عن رومية مسيرة شهر إلى القسطنطينية وبناها ، ومع ذلك فإنما كان
آريوسيّا هو وابنه بعده يقولان : إن المسيح عبد مخلوق نبي الله تعالى فقط وكل دين
كان هكذا فمحال أن يصح فيه نقل متصل ، لكثرة الدواخل الواقعة فيما لا يوجد إلا سرا
تحت السيف ، لا يقدر أهله على حمايته ، ولا على المنع من تبديله. ثم لما ظهر دينهم
بتنصر قسطنطين كما ذكرنا فشا فيهم دخول المنّانية تقية ولم يكن فيهم غير منانية
مدلسون عليهم ، فأمكنهم بهذا أن يدخلوا من الضلال ما أحبّوا ولا يمكن البتة أن
ينقل أحد عن شمعون باطرة ولا عن يوحنا ، ولا عن متّى ولا مارقش ولا لوقا ولا بولش
آية ظاهرة ، ولا معجزة فاشية ، لما ذكرنا أنهم كانوا مختفين مستترين مظاهرين بدين
اليهود من التزام السبت وغيره ، طول حياتهم. إلى أن ظفر بهم فقتلوا.
وكلّ ما يضيفه
النصارى إلى هؤلاء من المعجزات فأكذوبات موضوعة ، لا يعجز عن ادعاء مثلها أحد ،
كالذي تدّعي اليهود لأحبارهم ، ورءوس مثانيهم ، وكالذي تدعيه المنانية لماني سواء
بسواء وكالذي تدّعيه الروافض لمن يعظمونه وكالذي تدّعيه طوائف من المسلمين لقوم
صالحين كإبراهيم بن أدهم ، وأبي مسلم الخولاني ، وشيبان
__________________
الراعي ، وغيرهم. وكل ذلك كذب وإفك وتوليد لأن من ذكرنا فإنما
نقله راجع إلى من لا يدرى ، ومن لا يقوم بكلامه حجة ولا صح برهان سمعي ولا عقلي
بصدقه.
وهكذا كان أصحاب
ماني مع ماني إلا أنه ظهر نحو ثلاثة أشهر إذ مكر به بهرام بن بهرام الملك ، وأوهمه
أنه قد آمن به حتى ظفر بجميع أصحابه ، فصلب ماني وصلب جميع أصحابه ، إلى لعنة
الله. فكل معجزة لم تنقل نقلا يوجب العلم الضروري كافة عن كافة حتى تبلغ إلى
المشاهدة فالحجة لا تقوم بها على أحد ، ولا يعجز عن توليدها من لا تقوى له.
قال أبو محمد :
معتمد النصارى كله الذي لا معتمد لهم غيره في قولهم بالتثليث ، وأن المسيح إله
وابن الله ، واتحاد اللاهوت بالناسوت ، والتحامه به إنما هو كله على أناجيلهم وعلى
ألفاظ تعلقوا بها مما في كتب اليهود كالزبور وكتاب أشعيا ، وكتاب أرميا ، وكلمات
يسيرة من التوراة ، وكتب سليمان ، وكتاب زخريا ، وقد نازعهم اليهود في تأويلها
فحصلت دعوى مقابلة لدعوى ، وما كان هكذا فهو باطل ومموّه ، لأن التوراة وكتب
الأنبياء بأيديهم وبأيدي اليهود سواء ، لا يختلفون فيها ليصححوا نقل اليهود لسواد
تلك الكتب ، ثم يجعلوا تلك الألفاظ حجة لهم ، دعواهم وتأويلهم ليس بأيديهم حجة غير
هذا أصلا ولا جملة سوى هذه.
وقد أوضحنا بحول
الله وقوته فساد أعيان تلك الكتب ، وأوضحنا أنها مفتعلة مبدلة لكثرة ما فيها من
الكذب ، وأوضحنا فساد نقلها وانقطاع الطريق منهم إلى من نسبت إليه تلك الكتب بما
لا يمكن أحد دفعه البتة بوجه من الوجوه. وبيّنا أيضا بحول الله وقوته فساد نقل
النصارى جملة ، وإقرارهم بأن أناجيلهم ليست منزلة ولكنها
__________________
مؤلفة لرجال
ألفوها فبطل كل تعلق لهم والحمد لله رب العالمين.
ثم نورد إن شاء
الله تعالى تكذيبهم في دعواهم أن التوراة عند اليهود وعندهم سواء ، ونورد ما
يخالفون فيه نص التوراة التي بأيدي اليهود ، حتى يلوح لكل أحد كذب دعواهم الظاهرة
في تصديقهم لنصوص التوراة التي عند اليهود ، وترى تكذيبهم لنصوصها ، فيبطل بذلك
تعلقهم بما فيها ، وبما نقل اليهود ، إذ لا يصح لأحد الاحتجاج بتصحيح ما يكذب.
ثم نذكر بعون الله
وقوته مناقضات الأناجيل والكذب الفاحش المفضوح الموجود في جميعها ، وبالله تعالى
التوفيق.
فيرتفع الإشكال
جملة في ذلك ويستوي في معرفة بطلان كل ما بأيدي الطائفتين كل من اغترّ بكتمانهم
لما فضحناه منا ومنهم من الخاصة والعامة ، ومن سائر الملل أيضا ، ويصحح عند كل من
طالع كلامنا هذا أن الذين كتبوا الأناجيل وألفوه كانوا كذابين ، مجاهرين لله رب
العالمين على عظيم نعمته علينا بالإسلام ، السالم من كلّ غش ، البريء من كل توليد
، الوارد من عند الله تعالى لا من عمل أحد دونه.
ذكر ما تثبته النصارى بخلاف نص التوراة وتكذيبهم
لنصوصها التي بأيدي اليهود وادعاء بعض علماء
النصارى أنهم اعتمدوا في ذلك على التوراة التي
ترجمها السبعون شيخا لبطليموس لا على كتب
عزرا الوراق ، واليهود مؤمنون بكلتا النسختين ،
والخلاف عند النصارى موجود فيهما
قال أبو محمد : في
توراة اليهود التي لا اختلاف فيها بين الربانية والعنانية والعيسوية منهم : «لما
عاش آدم ثلاثين سنة ومائة سنة ، ولد له ولد كشبهه وجنسه وسماه شيث». وعند النصارى
بلا خلاف من أحد منهم ولا من جميع فرقهم «لما أتى لآدم مائتان وثلاثون سنة ولد له
شيث».
وفي التوراة التي
عند اليهود كما ذكرنا : «فلما عاش شيث خمس سنين ومائة سنة ولد إينوش» وعند النصارى
كلهم : «لما عاش شيث مائتي سنة وخمس سنين ولد إينوش».
وفي التوراة عند
اليهود كما ذكرنا : «أن إينوش لما عاش تسعين سنة ولد قينان» وعند النصارى كلهم «أن
إينوش لما عاش تسعين سنة ومائة ولد قينان».
وفي التوراة عند
اليهود كما ذكرنا : «أن قينان لما عاش سبعين سنة ولد مهللال» وعند النصارى كلهم «أن
قينان لما عاش مائة سنة وسبعين سنة ولد مهللال».
وفي التوراة عند
اليهود كما ذكرنا : «أن مهللال لما بلغ خمسا وستين سنة ولد يارد» وعند النصارى
كلهم : «أن مهللال لما بلغ مائة سنة وخمسا وستين ولد يارد» واتفقت الطائفتان في
عمر يارد إذ ولد له خنوخ.
وفي التوراة عند
اليهود كما ذكرنا أن خنوخ لما بلغ خمسا وستين سنة ولد له متوشالح وأن جميع عمر
خنوخ كان ثلاثمائة سنة وخمسا وستين سنة ، وعند النصارى كلهم أن خنوخ لما بلغ مائة
سنة وخمسا وستين سنة ولد متوشالح ، وأن جميع عمر
خنوخ كان خمسمائة
سنة وخمسا وستين سنة. ففي هذا الفصل تكاذب بين الطائفتين في موضعين.
أحدهما : سن خنوخ
إذ ولد له متوشالح والثاني كمية عمر خنوخ ، واتفقت الطائفتان على عمر متوشالح إذ
ولد لامخ ، وعلى عمر لامخ إذ ولد له نوح ، وعلى عمر نوح إذ ولد له سام وحام ويافث
، وعلى عمر سام إذ ولد له أرفخشاذ.
وفي التوراة التي
عند اليهود كما ذكرنا أن أرفخشاذ لما بلغ خمسا وثلاثين سنة ولد له متشالح وأن عمر
أرفخشاذ كان أربعمائة سنة وخمسا وثلاثين سنة. وعند النصارى كلهم أن أرفخشاذ لما
بلغ مائة سنة وخمسا وثلاثين سنة ولد له قينان ، وأن عمر أرفخشاذ كان أربعمائة سنة
وخمسا وستين سنة ، وأن قينان لما بلغ مائة سنة وثلاثين سنة ولد له شالخ ، فبين
الطائفتين في هذا الفصل وحده اختلاف في ثلاثة مواضع.
أحدها : عمر
أرفخشاذ جملة ، والثاني : سن أرفخشاذ إذ ولد له ولده ، والثالث : زيادة النصارى من
أرفخشاذ وشالخ قينان وإسقاط اليهود له. وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا أن شالخ
لما بلغ ثلاثين سنة ولد له عابر وأن عمر شالخ كان أربعمائة سنة وثلاثين سنة ، وعند
النصارى كلهم أن شالخ لما بلغ مائة سنة وثلاثين سنة ولد له عابر ، وأن عمر شالخ
كله كان أربعمائة سنة وستين سنة.
ففي هذا الفصل
تكاذب من الطائفتين في موضعين :
أحدهما : سن شالخ
إذ ولد له عابر ، والثاني : كمية عمر شالخ. وعند اليهود كما ذكرنا في التوراة أن
قالع إذ بلغ ثلاثين سنة ولد له «راغو» وعند النصارى كلهم أن قالع لما بلغ مائة سنة
وثلاثين سنة ولد له شاروع. وعند النصارى كلهم أن راغو لما بلغ مائة سنة واثنتين
وثلاثين سنة ولد له شاروع ، وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا أن شاروع إذ بلغ ثلاثين
سنة ولد له ناحور. وكان عمر شاروع كله مائتي عام وثلاثين عاما. وعند النصارى كلهم
، أن شاروع إذ بلغ ثلاثين سنة ومائة سنة ولد له ناحور ، وأن عمر شاروع كله كان
ثلاثمائة سنة وثلاثين سنة ، ففي هذا الفصل بين الطائفتين تكاذب في موضعين :
أحدهما : عمر
شاروع جملة ، والثاني : سن شاروع إذ ولد له ناحور. وفي التوراة عند اليهود كما
ذكرنا أن ناحور لما بلغ تسعا وعشرين سنة ولد له تارح ، وأن عمر ناحور كله كان مائة
سنة وثمانيا وأربعين سنة. وعند النصارى أن ناحور لما بلغ تسعا
وسبعين سنة ولد له
تارح ، وأن عمر ناحور كله كان مائتي عام وثمانية أعوام ، ففي هذا الفصل بين
الطائفتين تكاذب في موضعين :
أحدهما : عمر
ناحور كله ، والثاني : سن ناحور إذ ولد له تارح. وفي التوراة عند اليهود كما ذكرنا
أن تارح كان عمره كله مائتي عام وخمسة أعوام ، وعند النصارى كلهم أن تارح كان عمره
كله مائتي عام وثمانية أعوام.
قال أبو محمد :
فتولد بين الطائفتين من الاختلاف المذكور زيادة ألف عام وثلاثمائة عام وخمسين عاما
عند النصارى في تاريخ الدنيا على ما هو عند اليهود في تاريخها ، وهي تسعة عشر
موضعا كما ذكرنا فوضح اختلاف التوراة عندهم.
ومثل هذا من
التكاذب لا يجوز أن يكون من عند الله عزوجل أصلا ، ولا من قول نبي البتة ، ولا من قول صادق عالم من
عرض الناس ، فبطل بهذا بلا شك أن تكون التّوراة وتلك الكتب منقولة نقلا يوجب صحة
العلم ، لكن نقلا فاسدا مدخولا مضطربا. ولا بدّ للنصارى ضرورة من أحد خمسة أوجه ،
لا مخرج لهم عن أحدها :
إما أن يصدقوا نقل
اليهود للتوراة وأنها صحيحة عن موسى عليهالسلام عن الله تعالى ولكتبهم وهذه طريقتهم في الحجاج والمناظرة ،
فإن فعلوا فقد أقرّوا على أنفسهم وعلى أسلافهم الذين نقلوا عنهم دينهم بالكذب ، إذ
خالفوا قول الله عزوجل وقول موسى عليهالسلام. أو يكذبوا موسى في ما نقل عن الله تعالى وهم لا يفعلون
ذلك. أو يكذبوا نقل اليهود للتوراة ولكتبهم ، فيبطل تعلقهم بما في تلك الكتب مما
يقولون إنه إنذار بالمسيح عليهالسلام ، إذ لا يجوز لأحد أن يحتج بما لا يصح نقله. أو يقولوا كما
قال بعضهم : إنهم إنما عوّلوا فيما عندهم على ترجمة السبعين شيخا ، الذين ترجموا
التوراة وكتب الأنبياء لبطليموس. فإن قالوا هذا فإنهم لا يخلون ضرورة من أحد وجهين
:
إما أن يكونوا
صادقين في ذلك ، أو يكونوا كاذبين في ذلك ، فإن كانوا كاذبين فقد سقط أمرهم والحمد
لله رب العالمين ، إذ لم يرجعوا إلا إلى المجاهرة بالكذب.
وإن كانوا صادقين
في ذلك فقد حصلت توراتان مختلفتان متكاذبتان متعارضتان ، توراة السبعين شيخا
وتوراة عزرا. ومن الباطل المحال الممتنع كونهما جميعا حقا من عند الله عزوجل. واليهود والنصارى كلهم مصدق مؤمن بهاتين التوراتين معا ،
سوى توراة السامرة فلا بد ضرورة من أن تكون إحداهما حقا ، والأخرى مكذوبة. فأيهما
كانت المكذوبة فقد حصلت الطائفتان على الإيمان بالباطل ضرورة ،
ولا خير في أمة
تؤمن بيقين الباطل ، ولئن كانت توراتهم السبعين شيخا هي المكذوبة فلقد كانوا شيوخ
سوء كذّابين ملعونين ، إذ حرّفوا كلام الله وبدلوه ، ومن هذه صفته فلا يحل أخذ
الدين عنه ولا قبول نقله ، ولئن كانت توراة عزرا المكذوبة فقد كان كذّابا إذ حرف
كلام الله ولا يحل أخذ شيء من الدين عن كذاب ، ولا بد من أحد الأمرين أو تكون
كلتاهما كذبا وهذا هو الحق اليقين الذي لا شك فيه لما قدمنا ممّا فيها من الكذب
الفاضح الموجب للقطع بأنها مبدلة محرفة وسقطت الطائفتان معا ، وبطل دينهم الذي
إنما مرجعه إلى هذه الكتب المكذوبة. ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
فتأملوا هذا الفصل وحده ، ففيه كفاية في تيقن بطلان دين الطائفتين فكيف سائر ما
أوردناه إذا استضاف إليه ..؟!!
وفي التوراة وعند
اليهود وعند النصارى اختلاف آخر اكتفينا منه بهذا القدر ، والحمد لله رب العالمين
على عظيم نعمته علينا بالإسلام المنقول إلينا نقل الكواف ، إلى رسول الله ،
المعصوم صلىاللهعليهوسلم ، البريء من كل كذب وكل محال ، الذي تشهد له العقول
بالصحة.
ذكر مناقضات الأناجيل الأربعة والكذب الظاهر الموجود فيها
قال أبو محمد :
أول ذلك أن أول مبدأ إنجيل متى اللواتي ، الذي هو أول الأناجيل بالتأليف والرتبة ،
مصحّف نسبة يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم وإبراهيم ولد إسحاق ، وإسحاق ولد
يعقوب ويعقوب ولد يهوذا وإخوته ، وليهوذا ولد من ثامار : فارض وتارح ، ثم إن فارض
ولد حصروم ، وحصروم ولد إدام ، وإدام ولد عميناذاب ، وعميناذاب ولد نجشون ، ونجشون
ولد أشلومون وأشلومون ولد له من راحاب : بوعز ، وبوعز ولد له من ذوث : عوبيذ ،
وعوبيذ ، ولد له إيشاي ، وإيشاي ولد له داود الملك ، وولد داود الملك أشلومون ، وأشلومون ولد رحبعام ، ورحبعام ولد أبيوب ، وأبيوب ولد
أشا ، وأشا ولد يهوشافاط ، ويهوشافاط ولد يهورام ، ويهورام ولد أحزياهو ، وأحزياهو
ولد يوثام ، ويوثام ولد أحاز ، وأحاز ولد أحزياهو ، وأحزياهو ولد منشأ ، ومنشأ ولد
آمون ، وآمون ولد يوشيّاهو ، ويوشياهو ولد يخنيا ، وإخوته وقت الرحلة إلى بابل ،
وبعد ذلك ولد لنحنيا صلثاييل ، وصلثاييل ولد زربابيل ، وزربابيل ولد أبيوب ،
ولأبيوب ولد إلياجيم ،
__________________
ولإلياجيم ولد
آزور ، وآزور ولد شان ، وشان ولد يعقوب ، ويعقوب ولد يوسف خطيب مريم التي ولدت
يسوع الذي يدعى مسيحا ، فصار من إبراهيم إلى داود أربعة عشر أبا ، ومن داود إلى
وقت الرحلة أربعة عشر أبا ، ومن الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا ، فجميع الموالد
من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل خلاف لما في كتب اليهود والتوراة ، التي هي عندهم في النقل كالتوراة ،
وهما كتاب ملاخيهم ، وكتاب وبراهياشيم فقال هاهنا تارح بن يهوذا ، وفي التوراة
زارح بن يهوذا ، وهذا اختلاف في الاسم ، وكذب من أحد الخبرين ، والأنبياء لا
يكذبون. وقال هاهنا احزياهو بن بهورام ، وفي كتب اليهود أحزيا بن يورام ، وهذا
اختلاف في الأسماء ووحي الله تعالى لا يحتمل هذا ، فأحد النقلين كاذب بلا شك. وقال
هاهنا يوثام بن أحزياهو وفي كتب اليهود المذكورة يوثام بن عزريا بن أمصيا بن يواش
بن أحزيا ، فأسقط ثلاثة آباء مما في كتب اليهود وهذا عظيم جدا. فإن صدقوا كتب
اليهود وهم مصدقون لها فقد كذب متّى وجهل. ولئن صدقوا متى فإن كتب اليهود كاذبة ،
لا بدّ من أحد ذلك. فقد حصلوا على التصديق بالشيء وضدّه معا. وقال هاهنا : أحزياهو
بن أحاز بن يوثام. وفي كتب اليهود المذكورة حزقيا بن أحاز بن يوثام ، وهذا اختلاف
في الاسم ، والوحي لا يحتمل هذا. فأحد النقلين كاذب بلا شك. وقال هاهنا : يخنيا بن
يوشياهون بن آمون ، وفي كتب اليهود التي ذكرنا يخنيا بن الياقيم بن يوشيا بن آمون
، فأسقط متى الياقيم وخالف في اسم يوشيا بن آمون ، وهذا عظيم وكما قدمنا من كذبهم
ولا بدّ ، إذ يصدقون بالشيء والضدّ له معا. وهم لا يختلفون في أن متّى رسول معصوم
أجلّ عند الله من موسى ومن سائر الأنبياء كلهم عليهمالسلام ، وهو قد قال في أول كلمة من إنجيله : «مصحف نسبة المسيح
ابن داود بن إبراهيم» ثم لم يأت إلا بنسب يوسف النجار زوج مريم الذي هو عندهم ربيب
إلههم زوج أمه. فكيف يقول : إنه ذكر نسبة المسيح ثم يأتي بنسبة يوسف النجار؟
والمسيح عند هذا التيس البوّال ليس هو ولد يوسف أصلا. فقد كذب هذا القذر كذبا لا
خفاء به ، ولا مدخل للمسيح في هذا النسب أصلا بوجه من الوجوه ، إلا أن يجعلوه ولد
يوسف النجار وهم لا يقولون هذا ولا نحن ولا جمهور اليهود.
أما هم فيقولون :
إنه ابن الله من مريم ، وإنه إله وابن إله وامرأة ، تعالى الله عن هذا. وأما نحن
والعيسوية من اليهود معنا ، والآريوسية والبولقانية والمقدونية من
النصارى ، فنقول
إنه عبد آدمي خلقه الله تعالى ، في بطن مريم عليهاالسلام ، من غير ذكر.
وأما جمهور اليهود
فيقولون إنه لغير رشدة حاشا له من ذلك ، بل إن طائفة قليلة من اليهود يقولون إنه
ابن يوسف النجار ، وما نرى متّى إلا شاهدا لقولهم ومحققا له. وإلا فكيف يبدأ بأنه
يذكر نسب المسيح إلى داود ثم لا يذكر إلا يوسف النجار إلى داود ..؟ ولو أنه ذكر
نسبة أمه مريم لكان لقوله مخرج ظاهر ، لكنه لم يذكر نسب مريم أصلا ، ثم لم يستح
النذل من أن يحقق ما ابتدأ به ، فبعد أن أتم نسب يوسف النجار قال : من الرحلة إلى
المسيح أربعة عشر أبا ، فجميع المواليد من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون
مولودا ، فأكّد هذا الملعون كذبه وأن المسيح ولد يوسف ، لا بد ضرورة من أحدهما ،
وإلا فكيف يكون من الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا والمسيح ليس هو ابنا لأحدهم ،
ولا هم آباء له؟ وكيف يكون من إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا ولا مدخل
للمسيح في تلك الولادات إلا كمدخله في ولادات أهل الهند وأهل الصين وأهل ططفة وسقر
وسقرال ولا فرق؟
هذه فضائح الدهر
وما لا يأتي به إلا أفحش البرية. ونعوذ بالله من الخذلان. ثم كذب آخر وجهل زائد ،
وهما قوله فمن إبراهيم إلى داود أربعة عشر أبا.
قال أبو محمد :
هذا كذب إنما هم على ما ذكرنا ثلاثة عشر : إبراهيم وإسحاق ، ويعقوب ، ويهوذا ،
وزارح ، وحصروم ، وآرام ، وعميناذاب ، ونجشون ، وأشلومون ، وبوعز ، وعوبيذ ،
وأنشاي فهؤلاء ثلاثة عشر أبا ثم داود ، ولا يجوز البتة أن يعد داود في آباء نفسه ،
فيجعل أبا لنفسه وهذه ملحنة. ثم قال : ومن داود إلى الرحلة أربعة عشر أبا ، وليس
كذلك لأن يخنيا هو الراحل بنص قول متّى ، وأنه لم يولد على قوله صلثيال إلا بعد
الرحلة ، فهم : أشلومون ورحبعام وأبيوب وأشا ، ويهوشافاظ ، وبهورام وأحزياهو ،
ويوثام ، وأحاز ، وأجزياهو ، ومنشأ وآمون ويوشاهو ويخنيا.
وقد عدّ داود قبل
فإن عدّه هاهنا فقد حققوا الكذب في الفصل الذي قبله ، وإن لم يعدوه هاهنا فقد
كذبوا في هذا العدد الثاني ، أو جعلوا يخنيا أبا لنفسه وهذا هوس.
ثم قال : ومن
الرحلة إلى المسيح أربعة عشر أبا ، وهذا فصل جمع كذبتين عظيمتين.
__________________
إحداهما : أنه إذا
عد صلثيال من بعده إلى يوسف النجار فليسوا إلا اثني عشر رجلا فقط. وهم صلثيال
وأبيوب والياجيم ، وازور ، وصدوق ، واجيم واليوث ، والعيزار ، وزربابيل ، وماثان ،
ويعقوب ويوسف. فإنّ عدّ فيهم يخنيا كانوا ثلاثة عشر ، وهو يقول أربعة عشر فاعجبوا
لهذا الحمق ولهذا الضلال ، واعجبوا من رعونة كل من جاز هذا عليه واعتقده دينا ..؟!
ثم إن كان عنى
أنهم آباء المسيح فيوسف والد المسيح وكفى ، وهذا عندهم كفر ، فقد كفر متّى أو كذب
وجهل لا بد من أحد ذلك ، ثم قوله فمن إبراهيم إلى المسيح اثنان وأربعون مولودا ،
وهذا كذب فاحش وجهل مفرط ، لأنه إذا عدّ إبراهيم ومن بعده إلى يوسف ، وعد يوسف
أيضا فإنما هم أربعون فقط. فإن عدّ المسيح وجعله ولد يوسف لم يكونوا أيضا إلا
واحدا وأربعين فقط. فاعجبوا ممن يدين الله تعالى بهذا الحمق واحمدوه على السلامة.
هذا إلى الكذب
المفضوح الذي في نسب داود عليهالسلام إلى بخشون بن عميناذاب ، لأن بخشون بنص توراتهم هو الخارج
من مصر ، وهو مقدم بني يهوذا ، ولم يدخل بنص التوراة أرض القدس. لأن كل من خرج من
مصر ابن عشرين سنة فصاعدا ، ماتوا كلهم في التيه بنص التوراة. فإذا عدّت الولادات
من أشلومون بن بخشون الذي دخل أرض القدس إلى داود عليهالسلام وجدوا أربعة فقط. وهم داود بن إنشاي بن عوبيذ بن بوعز بن
أشلومون ، الداخل مصر المذكور ولا يختلفون يعني اليهود والنصارى معا ، أن من دخول
أشلومون المذكور مع يوشع وبني إسرائيل الأرض المقدسة إلى مولد داود عليهالسلام خمسمائة سنة وثلاثا وسبعين سنة. فيجب على هذا أن يقول : إن
أشلومون لم يدخل الأرض المقدسة إلا ابن أقل من سنة ، وإنه لم يولد لكل واحد منهم
ولده المذكور إلا وله مائة سنة ونيف وأربعون سنة ، وكتبهم تشهد ككتاب ملاجيم
وديراهياميم وغيرهما ، ونقطع أنه لم يعش أحد من بني إسرائيل بعد موسى عليهالسلام مائة سنة وثلاثين سنة إلا يهوياراع الكوهين الهاروني وحده.
فكم هذا الكذب وهذا الإفضاح فيه وهذه الشهرة العظيمة؟ لا ينفكون من كذبة إلا إلى
أخرى ، ومن سوأة إلا إلى سوأة ، ونعوذ بالله من البلاء. فاعجبوا لما افتتح به هذا
الكذاب كتابه وتأليفه ما ذا جمع هذا الفصل على صغره وإنه أسطار يسيرة من الكذب
والجهل ..؟
وأحسن ما في
خالد وجهه
|
|
فقس على الغائب
بالشاهد
|
ثم ذكر لوقا
الطبيب في الباب الثالث منه نسب المسيح عليهالسلام ، فقال : إنه
كان يظن أنه ابن
يوسف النجار ، المنسوب إلى عالي إلى ناثان ، إلى لاوي ، إلى ملكي إلى يمتاع إلى
يوسف إلى متّاثيا إلى حاموص إلى ناحوم إلى أشلا إلى أبجا إلى ماهاث إلى متشيا إلى
صمغي إلى يصداق إلى يهندع إلى يوحنا إلى رشا إلى زربابيل إلى صلثيال إلى ملكي إلى
نادي إلى مرا إلى أربع إلى قرصام إلى اليمدان إلى هار إلى يشوع إلى اليعزار إلى
يوريم إلى ماثا إلى لاوي إلى شمعون إلى يهوذا إلى يوسف إلى يونا إلى الياجيم إلى
ملكان إلى أنان إلى عيشاع إلى مناثان إلى مناثان إلى داود النبي عليهالسلام ، ثم ذكر نسب داود كما نسبه متّى حرفا حرفا.
قال أبو محمد :
فاعجبوا لهذه المصيبة الحالة بهم ما أفحشها وأوحشها ، وأقذرها وأوضرها ، وأرذلها
وأنذلها ، متّى الكذاب ينسب المسيح إلى يوسف النجار ....؟؟ ثم ينسب يوسف إلى
الملوك من ولد سليمان بن داود عليهماالسلام أبا فأبا. ولوقا ينسب يوسف النجار إلى آباء غير الذين ذكر
متّى حتى يخرجه إلى ناثان بن داود ، أخي سليمان بن داود ، ولا بد ضرورة من أن يكون
أحد النسبين كذبا فيكذب متّى أو لوقا ، ولا بد أن يكون كلا النسبتين كذبا فيكذب
الملعونان لوقا ومتّى جميعا ، ولا يمكن البتة أن تكون كلا النسبتين حقا ، ولوقا
عندهم ـ لوّق الله صورهم وألاق وجوههم ولقّاهم البلاء ، وألقى عليهم الدمار
واللعنة ، في الحالة ـ فوق جميع الأنبياء عليهمالسلام فهذه صفة أناجيلهم. فاحمدوا الله تعالى أيها المسلمون على
السلامة والعصمة.
وقال بعض أكابر من
سلف منهم من مضلّيهم : إن أحد هذين النسبتين هو نسب الولادة ، والنسب الآخر نسب
إلى إنسان تبنّاه على ما كان في قديم زمن بني إسرائيل من أن من مات ولا ولد له
تزوج أخوه امرأته ، وينسب إلى الميت من ولدت من هذا الحي ، فقلنا لمن عارضنا منهم
بهذا الهوس : من لك بهذا؟ وأين وجدته للوقا أو لمتّى؟ والدعوى لا يعجز عنها أحد
وهي باطلة ، إلا أن يعضدها برهان. وبعد هذا فأيّ النسبتين هو نسب الولادة ..؟
وأيهما هو نسب الإضافة لا الحقيقة؟ فأيهما قال قلب عليه قوله ، وقيل له هذه دعوى
بلا برهان. فإن قيل : إن لوقا لم يقل إن فلانا ولد فلانا كما قاله متّى لكن قال :
المنسوب إلى على قلنا : وهكذا قال في آباء على أبا فأبا إلى داود ثم إلى إبراهيم ،
ثم إلى نوح ثم إلى آدم عليهمالسلام سواء سواء ، في اسم بعد اسم وفي أب بعد أب ولا فرق. أفترى
نسب داود إلى إبراهيم ، وإبراهيم إلى نوح ، ونوح إلى آدم ، كان أيضا على الإضافة
لا على الحقيقة كما قلت في نسب يوسف إلى علي؟ هذا
عجب. فإذ لا سبيل
إلى ما يصحح هذه الدعوى فهي كذب ، ووضح الكذب في أحد النسبين ضرورة عيانا ، والحمد
لله رب العالمين.
فصل
وفي الباب الثالث
من إنجيل متى : فلحق يسوع ـ يعني المسيح ـ بالمفاز وساقه الروح إلى هنالك ، ولبث
به ليقيس إبليس فيه ، فلما أن صام أربعين يوما بلياليها جاع ، فوقف إليه الجساس
وقال له : إن كنت ولد الله فأمر هذه الجنادل تصير لك خبزا. فقال يسوع : قد صار مكتوبا بأن عيش المرء
ليس بالخبز وحده ، لكن في كل كلمة تخرج من فم الله تعالى.
وبعد هذا أقبل
إليه إبليس في المدينة المقدسة ، وهو واقف في أعلى بنيانها وقال له : إن كنت ولد
الله فترام من فوق ، فإنه قد صار مكتوبا بأنه سيبعث ملائكته يرفدونك ، ويدفعون عنك
، حتى لا يصيب قدمك مكروه ، فأجابه يسوع وقال له : قد صار مكتوبا أيضا ألا يقيس
أحد العبيد إلهه. ثم عاد إليه إبليس وهو في أعلى جبل منيف فأظهر له زينة جميع
الدنيا وشرفها وقال له : إني سأملكك كل ما ترى إن سجدت لي. فقال له يسوع : اذهب يا
منافق مقهقرا ، فقد كتب ألّا يعبد أحد غير السّيّد الإله ، ولا يخدم سواه ، فتأيس
عنه إبليس عند ذلك وتنحى عنه ، وأقبلت الملائكة وتولت خدمته.
وفي الباب الرابع
من إنجيل لوقا : «فانصرف يسوع من الأردن محشوا من روح القدس ، وقاده الروح إلى
القفار ، ومكث به أربعين يوما ، وقايسه إبليس فيه ، ولم يأكل شيئا في تلك الأربعين
يوما ، فلما كملها جاع فقال له إبليس : إن كنت ابن الله فأمر هذا الحجر أن يصير
خبزا فأجابه يسوع وقال له : قد صار مكتوبا أنه ليس عيش الآدمي في الخبز وحده إلا
في كل كلمة لله ، ثم قاده إبليس إلى جبل منيف عال ، وعرض عليه ملك جميع الدنيا في
وقته. وقال له : سأملكك هذا السلطان ، وأبرأ إليك بعظمته لأني قد ملكته وأنا أعطيه
من وافقني ، فإن سجدت لي كان لك أجمع. فأجابه يسوع : قد صار مكتوبا أن تعبد السيد
إلهك ، وتخدمه وحده ، ثم ساقه إلى برشلام وصعده ووقفه على صخرة البيت في أعلاه وقال له : إن كنت ولد
الله فتسيب من هاهنا ، لأنه
__________________
مكتوب أنه يبعث
ملائكته لحرزك وحملك في الأكف حتى لا تعثر بقدمك في حجر ، ولا يصيبك مكروه ،
فأجابه يسوع وقال له : قد كتب أيضا أن لا تقيس السيد إلهك».
قال أبو محمد : في
هذا الفصل عجائب لم يسمع بأطمّ منها.
أولها : إقرار
الصادق عندهم بأن إبليس قاد المسيح عليهالسلام مرة إلى جبل منيف وانقاد له ومضى معه ، وقاده مرة أخرى إلى
أعلى صخرة ببيت المقدس ، فما تراه إلا ينقاد لإبليس حيث قاده ، ولا يخلو من أن
يكون قاده فانقاد له مطيعا سامعا ، فما تراه إلا منصرفا تحت حكم الشيطان وهذه
والله منزلة رذلة جدا ، أو يكون قاده كرها فهذه منزلة المصروعين ، الذين يتخبطهم
الشيطان من المس ، وحاشا للأنبياء من كلتا الصفتين فكيف إله وابن إله بزعمهم ..؟
وما سمع قط بأحمق من هذا الهوس ، ونحمد الله تعالى على عظيم نعمته. ثم الطامّة
الأخرى ، كيف يطمع إبليس عند هؤلاء النّوكى في أن يسجد له خالقه وفي أن يعبده ربه في أن يخضع له من
فيه روح اللاهوت ..؟ أم كيف يدعو إبليس ربه وإلهه إلى أن يعبده ..؟ والله إني
لأقطع أن كفر إبليس وحمقه لم يبلغا قط هذا المبلغ. فهذه آبدة الدهر. ثم عجب آخر
كيف يمنّي إبليس رب الدنيا وخالقها وخالقه ، ومالكها ومالكه ، وإلهها وإلهه في أن
يملكه زينة الدنيا ..؟ فهذه كما تقول عامتنا «أعطه من خبزه كسيرة» ما هذه الوساوس
التي لا ينطق بها إلّا لسان من حقّه سكنى المارستان ، أو عيّار كافر مستخف بقوم
نوكى يوردهم ولا يصدرهم!! ما شاء الله كان.
فإن قالوا : إنما
دعا الناسوت وحده وإياه عنى إبليس.
قلنا : فإن
اللّاهوت والناسوت عندكم متّحدان بمعنى أنهما صارا شيئا واحدا ، والمسيح عندكم إله
معبود وقد قلتم هاهنا : إن إبليس قاد المسيح فانقاد له المسيح ، ودعاه إبليس إلى
عبادته والسجود له ، ومنّاه إبليس بملك الدنيا ، وقال للمسيح وقال له المسيح أو
قال ليسوع وقال له يسوع ، وعلى قولكم أنه إنما خاطب الناسوت وحده فإنما دعا نصف
المسيح ونصف يسوع ، وإنما منّى بزينة الدنيا نصف المسيح ، فقد كذب لوقا ومتى على
كل حال ، وأهل الكذب هما ، فكيف ونص كلامهما ـ جذّت ألسنتهما في لظى ـ يمنع من هذا
..؟ ويوجب أن إبليس إنما دعا اللاهوت لأنه قال له :
__________________
إن كنت ابن الله
فافعل كذا ، ولو لم يكن في الأناجيل إلا هذا الفصل الأبخر وحده لكفى ، فكيف وله فيها نظائر جمّة ..؟!! ونحمد الله
على السلامة.
فصل
قال أبو محمد :
وذكر في الفصل الذي تكلمنا عليه أن المسيح عليهالسلام أحشي من روح القدس ، وفي أول باب من إنجيل لوقا أن يحيى بن
زكريا أحشي من روح القدس في بطن أمه ، وأن أم يحيى أحشيت أيضا من روح القدس ، فما
ترى للمسيح من روح القدس إلا كالذي ليحيى ولأم يحيى من روح القدس ، ولا فرق فأي
فضل له عليهما.
فصل
قال أبو محمد :
وفي الباب الثالث من إنجيل متّى : فلما بلغه عن حبس يحيى بن زكريا تنحى إلى جلجال
، وتخلى من مدينة الناصرة ، ورحل وسكن في كفر «ناحوم» ، على الساحل في زابلون
وتفتالي ، ليتم قول شعيا النبي حيث قال : أرض زابلون وتفتالي وطريق البحر خلف
الأردن وجلجال الأجناس ، وكل من كان بها في ظلمة يبصرون نورا عظيما ، ومن كان
ساكنا في ظلل الموت فيها يطلع النور عليهم ، ومن ذلك الموضع ابتدأ يسوع بالوصية ،
وقال : توبوا فقد تدانى ملكوت السماء. وبينا هو يمشي على ريف بحر جلجال إذ بصر
بأخوين ، أحدهما : يدعى شمعون المسمى باطرة ، والآخر : اندرياش وهما يدخلان
شباكهما في البحر ، وكانا صيادين فقال لهما : اتبعاني أجعلكما صيادي الآدميين ،
فتخليا وقتهما من شباكهما واتّبعاه ، ثم تحرك من ذلك الموضع وبصر بأخوين أيضا وهما
يعقوب ويوحنا ابني سيذاي ، في مركب مع أبيهما يعدان شباكهما فدعاهما ، فتخليا ذلك
الوقت من شباكهما ومن أبيهما ومتاعهما ، واتّبعاه. هذا نص كلام متّى في إنجيله
حرفا حرفا.
وفي أول باب من
إنجيل مارقش قال : فبعد أن ثل بيحيى أقبل يسوع إلى جلجال ملك الله ، وقال : إن
الزمان قد تمّ وتدانى ملك الله ، فتوبوا وتقبلوا الإنجيل. فلما خطر جوار بحر جلجال
، نظر إلى شمعون واندرياش وهما يدخلان شباكهما في البحر ، وكانا صيادين ، فقال
لهما يسوع : اتبعاني أجعلكما صيادين للآدميين ، فتركا تلك
__________________
الشبكة واتبعاه ،
ثم تمادى قليلا وأبصر يعقوب بن سبذاي ، وأخاه يوحنا وهما في المركب يهندمان
شباكهما ، فدعاهما فتركا والدهما مع العمالين بأجرة في المركب ، واتبعاه. هذا نص
كلام مارقش في إنجيله حرفا حرفا.
وقال في الباب
الرابع من إنجيل لوقا : وبينما الجماعات يوما تزدحم عليه رغبة في استماع كلام الله
، وكان في ذلك الوقت واقفا على ريف بحيرة بشيرات إذ بصر بمركبين في البحيرة ، قد
نزل عنهما أصحابهما لغسل شباكهم ، فدخل يسوع أحدهما الذي كان لشمعون ، وسأله أن
ينتحى به عن الريف قليلا ، فقعد في المركب وجعل يوصي الجماعات منه ، فلما أمسك عن
الوصية قال لشمعون : تنحّ وألقوا جرافاتكم للصيد ، فقال له شمعون : يا معلم قد
عنينا طول الليل ولم نصب شيئا ، ولكن سنلقي الجرافة بأمرك وقولك. فلما ألقاها قبضت
على حيتان كثيرة جليلة ، فكادت تنقطع الجرافة من كثرتها ، فاستعانوا بأصحاب المركب
الثاني ، وسألوهم أن يعينوا على إخراجهم لها ، فاجتمعوا عليها وشحنوا منها
المركبين حتى كادا أن يغرقا. فلما بصر بذلك شمعون الذي يدعى باطرة سجد ليسوع ،
وقال اخرج عنّي يا سيدي لأني إنسان مذنب.
وكان قد حاروا كل
من كان معه لكثرة ما جمعا من الحيتان ، وحار يعقوب ويوحنا ابنا سيذاي ، قال يسوع
لشمعون : لا تخف فإنك ستصطاد اليوم الآدميين. فأخرجوا إلى الريف الآخر مركبهم ،
وتخلوا من جميع ما كان معهم واتّبعوه. هذا نص كلام لوقا في إنجيله حرفا حرفا.
وفي أول باب من
إنجيل يوحنا بن سيذاي قال : وفي يوم آخر كان يحيى بن زكريا المعمد واقفا ومعه
تلميذان من تلاميذه ، فبصر يسوع ماشيا فقال : هذا خروف الله فسمع ذلك منه
التلميذان ، واتّبعا يسوع فالتفت إليهما يسوع إذ رآهما يتبعانه وقال لهما : ما
الذي طلبتما ..؟ قالا له يا معلم أين مسكنك؟ فقال لهما : أقبلا فأبصراه فتوجها معه
ورأيا مسكنه وباتا عنده ذلك اليوم.
وكانوا في الساعة
العاشرة وكان أحد التلميذين اللذين اتبعاه أندرياش أخو شمعون المسمى باطرة ، أحد
الاثنى عشر فلقي أخاه شمعون ، وهو أحد اللّذين سمعا من يحيى واتبعاه ، إذ نظر إليه
وقال له : وجدنا المسيح. ثم أقبل إليه به فلما بصر به المسيح قال له : أنت شمعون
بن يونا ، وأنت تسمى كيفا وترجمته الحجر. وهذا نص كلام يوحنا في إنجيله حرفا حرفا.
قال أبو محمد :
فاعجبوا لهذه الفضائح وتأملوها ، اتفق متى ومارقش ، على أن أول ما كانت صحبة شمعون
باطرة ، وأخيه أندرياش ابني يونا للمسيح عليهالسلام ، فإنها كانت بعد أن سجن يحيى بن زكريا عليهالسلام ، إذ وجدهما المسيح وهما يدخلان شبكتهما في البحر للصيد ،
وقال لوقا : إنه وجدهما أول ما صحباه ، إذ وجدهما قد نزلا من المركب لغسل شباكهما
، وأنهما كانا قد تعبا طول الليل ولم يصيدا شيئا.
وقال يوحنا : إن
أول ما صحباه إذ رآه أندرياش أخو شمعون باطرة وهو واقف مع يحيى بن زكريا ، وأنه
كان تلميذا ليحيى ، وأن يحيى حينئذ كان يعمد الناس ، فلما سمع أندرياش قول يحيى
إذا رأى المسيح هذا خروف الله ، ترك يحيى وصحب المسيح ، وذلك في الساعة العاشرة ،
وبات عنده تلك الليلة ، ثم مضى إلى أخيه شمعون باطرة وأخبره ، وأتى به إلى المسيح
فصحبه ، وهي أول صحبته له. فبعضهم يقول : أول صحبة باطرة وأخيه أندرياش للمسيح
كانت بعد سجن يحيى بن زكريا ، وهو قول متى ومارقش ، وبعضهم يقول : إن أول صحبة
شمعون باطرة وأندرياش للمسيح كانت قبل أن يسجن يحيى بن زكريا وهو قول يوحنا ،
وبعضهم يقول : أول صحبة باطرة وأندرياش للمسيح كانت إذ وجدهما يدخلان شبكتهما
للصيد جميعا ، فتركاها وصحباه من حينئذ ، وهو قول متّى ومارقش. وبعضهم يقول : أول
صحبة باطرة وأندرياش للمسيح كانت إذ رآه أندرياش وهو واقف مع يحيى ، وهو تلميذ
ليحيى يومئذ ، فرأى المسيح ماشيا فقال يحيى : هذا خروف الله ، فترك أندرياش يحيى
وصحب المسيح من حينئذ ، ثم مضى إلى أخيه شمعون وعرفه أنه وجد المسيح وأتى به إليه
فصحبه من حينئذ ، وهو قول يوحنا. فهذه أربع كذبات في نسق.
أحدها : في الوقت
الذي كان ابتدأ صحبتهما للمسيح فيه.
والأخرى : في
الموضع الذي كان فيه أول صحبتهما للمسيح عليهالسلام.
والثالثة : في
رتبة صحبتهما للمسيح أمعا أم أحدهما قبل الثاني ..؟
والرابعة : في صفة
الحال التي وجدهما عليها أول ما صحباه. وبالضرورة ندري أن أحد هذه الاختلافات
الأربعة كذب بلا شك ، ومثل هذا لا يمكن البتة أن يكون من عند الله عزوجل ، ولا من عند نبي ولا من عند صادق ، بل من كذّاب عيّار لا
يبالي بما حدث ، وأغرب شيء في ذلك قولهم كلهم : إن يوحنا بن سيذاي هو ترجم إنجيل
متّى من العبرانية إلى اليونانية ، فإذ رأى هذه القصص في إنجيل متّى بخلاف ما عنده
فلا بد ضرورة من
أن يكون عرف أن قول متّى كذب أو عرف أنه حق ، لا بدّ من أحدهما ضرورة.
فإن كان قول متّى
كذبا فقد استجاز يوحنا أن يورد الكذب عن صاحبه المقدس ، الذي هو عندهم أكبر من
موسى ، ومن سائر الأنبياء عليهمالسلام ، وإن كان قول متّى حقا فقد قصد يوحنا إيراد الكذب فيما
أخبر هو به في إنجيله ، لا بدّ من أحدهما ، ولقد كانت هذه وحدها تكفي في بيان أن
الأناجيل من عمل كذابين ملعونين ، شاهت وجوههم ، وحاقت بهم لعنة الله تعالى.
فصل
وفي الباب الرابع
من إنجيل متّى ، أن المسيح قال لتلاميذه : لا تحسبوا أني أتيت لنقض التوراة وكتب
الأنبياء ، إنما أتيت لإتمامها آمين. أقول لكم : إلى أن تبيد السماء والأرض لا
تبيد «يا» واحدة ، ولا حرف واحد من التوراة ، حتى يتم الجميع فمن حلّل عهدا من هذه
العهود الصغيرة وحمل الناس على تحليله ، فسيدعى في ملكوت السموات صغيرا ، ومن أتمه
وحضّ الناس على إتمامه فسيدعى في ملكوت السموات عظيما.
وفي الباب السادس
عشر من إنجيل متّى : ستحول السموات والأرض ولا يحول كلامي.
قال أبو محمد :
وهذه نصوص تقتضي التأبيد وتمنع من النسخ جملة ، ثم لم يمض بعد الفصل الأول المذكور
إلا أسطار يسيرة حتى ذكر متّى أنه قال لهم المسيح : قد قيل من فارق امرأته فليكتب
لها كتاب طلاق. قال : وأنا أقول لكم : من فارق امرأته إلا لزنا فقد جعل لها سبيلا
إلى الزنا ، ومن تزوج مطلقة فهو فاسق. وهذا نقض لحكم التوراة الذي ذكر أنه لم يأت
لنقضها لكن لإتمامها.
ثم يحكون عن بولش
الملعون أنه نهى عن الختان ، وهو أوكد شرائع التوراة ، وعن شمعون باطرة المسخوط
أنه أباح أكل الخنزير ، وكل حيوان وطعام حرمته التوراة ، ثم هم قد نقضوا شرائع
التوراة كلها أولها عن آخرها من السبت وأعياد اليهود وغير ذلك ، وهم مع هذا العمل
لا يختلفون في أن المسيح وجميع تلاميذه بعده لم يزالوا يلتزمون السبت وأعياد
اليهود وفصحهم إلى أن ماتوا على ذلك ، وأن المسيح إنما أخذ ليلة الفصح وهو يفصح
على سنة اليهود ، وشريعتهم فكيف هذا ..؟ ولا بد لهم من أن
يضيفوا الكذب إلى
المسيح جهارا إذ أخبر أنه لم يأت لنقض التوراة ثم نقضها ، فصح أنه أتى لما أخبر
أنه لم يأت له من نقضها ، وهذا كذب لا مرحل عنه. ولا بدّ لهم من أن يقروا أن
المسيح مسخوط ، يدعى في ملكوت السموات صغيرا لا عظيما لأنه هكذا أخبر عن من حلّل
عهدا صغيرا من عهودها ، وهو قد حل عهودا كبارا من عهودها ، إذ حرم الطلاق وقد
أباحته التوراة ونهى عن القصاص الذي جاءت به التوراة وقال قد قيل : العين بالعين ،
والسن بالسن ، وأنا أقول لا تكافئوا أحدا بسيئة ، ولكن من لطم خدك الأيمن فانصب له
الآخر.
قال أبو محمد :
ولا بد لهم من أن يشهدوا على أنفسهم أولهم على آخرهم ، وسالفهم عن خالفهم بمعصية
الله تعالى ومخالفة المسيح ، وأنهم يدعون في ملكوت السموات صغارا ، إذ نقضوا حكم
التوراة ، أولها عن آخرها ، ولا يمكنهم هاهنا دعوى النسخ البتة ، لأنهم حكوا كما
أوردنا عن المسيح أنه قال : أقول لكم : إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد «يا»
واحدة ولا حرف واحد ، من التوراة حتى يتم الجميع. فمنع من النسخ جملة ، وإن في هذا
لعجبا لا نظير له ، وحمقا وضلالا ما كنا نصدق بأن أحدا يدين به ، لو لا أنا
شاهدناهم ونسأل الله السلامة.
ثم ذكر في الباب
الثامن عشر من إنجيل متى أن المسيح قال للحواريين الاثني عشر بأجمعهم وفي جملتهم
يهوذا الاشكريوطا الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهما : كل ما حرمتموه
على الأرض يكون محرما في السماء ، وكل ما حللتموه على الأرض يكون محللا في السماء.
وفي الباب السادس
عشر من إنجيل متّى أنه قال هذا القول لباطرة وحده.
قال أبو محمد :
وهذا تناقض عظيم ، كيف يكون التحليل والتحريم للحواريين ، أو لباطرة مع قوله إنه
لم يأت لتبديل التوراة لكن لإتمامها ..؟ وأنه من نقض عهدا من عهودها صغيرا دعي في
ملكوت السموات صغيرا ، وأن السماء والأرض تبيدان قبل أن تبيد من التوراة «يا» واحدة
أو حرف واحد ، ولئن كان صدق في هذا فإن في نص التوراة أن الله قد لعن من صلب في
خشبة ، وهم يقولون إنه صلب في خشبة ، ولا شك في أن باطرة وشمعون أخوا يوسف ،
وأندرياش أخو باطرة ، وفليش وبولش صلبوا في الخشب. فعلى قول المسح عليهالسلام لا يبيد شيء من التوراة حتى يتم جميعها ،
__________________
فكل هؤلاء ملعونون
بلعنة الله تعالى. فاعجبوا لضلال هذه الفرقة المخذولة ، فما سمع بأطمّ من هذه
الفضائح أبدا.
فصل
وفي الرابع من
إنجيل متّى : أن المسيح قال لهم أنا أقول لكم : كل من سخط على أخيه بلا سبب فقد
استوجب القتل ، وإن أضرت إليك عينك اليمنى فافقأها وأذهبها عن نفسك ، فذهابها عنك
أحسن من إدخال جميع جسدك الجحيم. وإن أضرّت يدك اليمنى إليك فابرأ منها ، فذهابها
منك أحسن من إدخال جميع جسدك النّار.
قال أبو محمد :
وهذه شرائع يقرّون أن المسيح عليهالسلام أمرهم بها كلهم بلا خلاف من أحد منهم لا يرون القضاء بشيء
منها ، فهم على مخالفة المسيح بإقرارهم ، وهم لا يرون الختان ، والختان كان ملة
المسيح ، وكان مختونا. والمسيح وتلاميذه لم يزالوا إلى أن ماتوا يصومون صوم اليهود
، ويفصحون فصحهم ، ويلتزمون السبت إلى أن ماتوا ، وهم قد بدّلوا هذا كله ، وجعلوا
مكان السبت الأحد وأحدثوا صوما آخر بعد أزيد من مائة عام بعد رفع المسيح ، فكفى
بهذا كله ضلالا وكفرا ، وليس منهم أحد يقدر على إنكار شيء من هذا.
فإن قالوا : إن
المسيح أمرهم باتباع أكابرهم ، قلنا : لا عليكم ، أرأيتم لو أن بطارقتكم اليوم
أجمعوا على إبطال ما أحدثته بطارقتكم بعد مائة عام من رفع المسيح وأحدثوا صياما
آخر ويوما آخر غير يوم الأحد وفصحا آخر ، وردّوكم إلى ما كان عليه المسيح من تعظيم
السبت وصوم اليهود وفصحهم أكان يلزمكم اتباعهم؟ فإن قالوا : لا ، قلنا : ولم؟ وأي
فرق بين اتباع أولئك ، وقد خالفوا ما مضى عليه الحواريّون ، وبين اتباع هؤلاء فيما
أحدثوه آنفا؟ فإن قالوا : إن أولئك لعنوا ومنعوا من تبديل ما شرعوا. قلنا لهم : وأيّ
لعن وأي منع أعظم من منع المسيح من تبديل شيء من عهود التوراة؟ ثم قد بدّله من
أطعتموه في تبديله له ، فقد صار منع من بعد المسيح أقوى من منع المسيح.
وإن قالوا : نعم
كنا نتبعهم. أقرّوا أن دينهم لا حقيقة له ، وأنه إنما هو اتباع ما شرعه أكابرهم من
تبديل ما كانوا عليه. ويقال لهم : أرأيتم إن أحدث بعض بطارقتكم شرائع وأحدث
الآخرون منهم شرائع أخرى ، ولعنت كل طائفة منهم من عمل بغير ما شرعت ، كيف تكون
الحال؟ فأيّ دين أنتن وأوسخ ، أو أضل أو أفسد ، من دين هذه
صفته؟ ولقد كان
لهم فيما أوردناه في هذا الفصل كفاية في بطلان كل ما هم عليه لو كان لهم مسكة عقل
، وحق لكل دين مرجعه إلى متّى الشرطي ويوحنا المستخف ، ومارقش المرتدّ ولوقا الزنديق
، وباطرة اللعين ، وبولش المدسوس للإضلال لهم في دينهم أن تكون هذه صفته ، والحمد
لله على عظيم نعمته علينا.
فصل
وفي الباب الخامس
من إنجيل متّى : أن المسيح عليهالسلام قال لهم : ليكن دعاؤكم على ما أصف لكم : يا أبانا السماوي
تقدس اسمك. ثم قال بعد ذلك : وقد علم أبوكم أنكم ستحتاجون إلى جميع هذا. وفي آخر
الإنجيل أنه قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم إلهي وإلهكم. فما ترى للمسيح من
البنوة لله تعالى إلا ما لسائر الناس ولا فرق ، فمن أين خصوه بأنه ابن الله دون
سائرهم كلهم؟ إلا إن كذبوه في هذا القول. فليختاروا أحد الأمرين ولا بد. ثم من أين
خصوا كل من سوى المسيح بأن الله تعالى إلهه ، ولم يقولوا : إن الله إلهه المسيح
كما قال هو بلسانه ، فلا بدّ ضرورة من الإقرار بأن الله هو إله المسيح ، وأن سائر
الناس أبناء الله أو يكذبوا المسيح في نصف كلامه ، وحسبك بهذا فسادا وضلالا. تعالى
الله أن يكون أبا لأحد ، أو أن يكون له ابن لا المسيح ولا غيره ، بل هو تعالى إله
المسيح ، وإله كل من هو غير المسيح أيضا.
فصل
وكثيرا ما يحكون
في جميع الأناجيل في غير ما موضع أنه إذا أخبر المسيح عن نفسه سمى نفسه ابن
الإنسان ، ومن المحال والحمق أن يكون إله ابن إنسان ، أو أن يكون ابن إله وابن
إنسان معا ، أو أن يلد إنسان إلها ، ما في الحمق والمحال والكفر أكثر من هذا.
ونعوذ بالله من الضلال.
فصل
وفي الباب التاسع
من إنجيل متّى «فبينا يسوع يقول هذا ، أقبل إليه أحد أشراف ذلك الموضع وقال له :
إن ابنتي توفيت وأنا أرغب إليك أن تذهب إليها ، وتمسها بيديك لتحيا» ثم ذكر أنه
لما دخل بيت القائد ونظر بالنوائح والبواكي قال لهن : اسكتن فإن الجارية لم تمت
ولكنها راقدة ، فاستهزأت الجماعة به. ولما خرجت الجماعة عنها دخل عليها فأخذ بيدها
ثم أقامها حية. وذكر هذه القصة نفسها في
الباب السابع من
إنجيل لوقا ، إلا أنه قال فيها : إن أباها قال له قد أشرفت على الموت وأنه نهض معه
فلقيه رسول يخبره بأن الجارية قد ماتت ، فلا تعنّه . وأن المسيح قال لأبيها : لا تخف وآمن فتحيا. فلما بلغ
البيت لم يدخل مع نفسه في البيت إلا باطرة ويحيى ويعقوب وأبوي الجارية ، وكانت
الجماعة تبكي وتلتدم فقال هم : لا تبكوا فإنها راقدة وليست ميتة ، فاستهزءوا به
معرفة بموتها فأخذ بيدها ودعاها وقال : يا جارية قومي فانصرف فيها روحها ، وقامت
من وقتها وأمرت بأن تطعم طعاما وحار أبوها وأمرهما ألا يعلم أحد بما فعل. وذكر مثل
ذلك في الباب الخامس من إنجيل مارقش.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل مصائب جمة أحدها : كان يكفي في أنه إنجيل موضوع مكذوب أولها حكاياتهم عن
المسيح أنه كذب جهارا إذ قال لهم لم تمت إنما هي راقدة ليست ميتة فإن كان صادقا في
أنها ليست ميتة ، فلم يأت بآية ولا بعجيبة ، وحاشا لله أن يكذب نبي فكيف إله ..؟!!
وليس لهم أن يقولوا : إن الآية هي إبراؤها من الإغماء ، لأن في نص إنجيلهم أنه قال
لأبيها : آمن فتحيا ابنتك ، فلا بد من الكذب في أحد القولين.
والثانية : أن
متّى ذكر أن أباها جاء إلى المسيح وهي قد ماتت وأخبره بموتها ودعاه لحييها ، ولوقا
يقول : إن أباها أتى إلى المسيح وهي مريضة لم تمت وأتى به ليبرئها بعد ، وأن
الرسول لقيه في الطريق وقال له : لا تعنّه فقد ماتت ، فأحد النذلين كاذب بلا شك ،
فعليهما لعائن الله وسخطه فلا يجوز أخذ الدين عن كذاب.
والثالثة : انفراد
المسيح عن الناس عند مجيئه بهذه الآية حاشا أبويها وثلاثة من أصحابه ، ثم استكتامه
إياهم ذلك ، والآيات لا يطلب لها الخلوات ولا تستر عن الناس ، وفي الأناجيل مثل
هذا كثير ، من أنه لم يقدر في بعض الأوقات على آية مرة بحضرة بلاطس ، ومرة بحضرة
اليهود ، وأنه قال لمن طلب منه آية : إنكم لا ترون آية إلا آية يونس عليهالسلام إذ بقي في بطن الحوت ثلاثا ، وما كان هكذا فإنما هي أخبار
مسترابة وكذبات مفتعلة ، ونقل عن من لا خير فيه ، وبالله تعالى التوفيق.
فصل
وفي الباب العاشر
من إنجيل متّى أن المسيح جمع إلى نفسه اثني عشر رجلا
__________________
من تلاميذه ،
وأعطاهم سلطانا على الأرواح النجسة ، أن ينفوها وأن يبرءوا كل مرض وهذه أسماؤهم :
أولهم شمعون
المسمّى باطرة ، وأندرياش أخوه ، ويعقوب بن سيذاي ، ويحيى أخوه ، وفلبش وبرتلوما
وطوما ومتّى بن الجابي ويعقوب ويهوذا أخوه ، وشمعون الكنعاني ، ويهوذا الاشكريوطا
الذي دل عليه بعد ذلك فبعث يسوع هؤلاء الاثني عشر ، وقال لهم : لا تسلكوا في سبيل الأجناس ، ولا تدخلوا
مدائن السامريين ، ولكن اختصروا إلى الضأن التالفة من بني إسرائيل.
ففي هذا الفصل
طامتان إحداهما : قوله : إنه أعطى أولئك الاثني عشر وسماهم بأسمائهم كلهم سلطانا
على الأرواح النجسة ، وأن يبرءوا كل مريض ، وسمى فيهم يهوذا ولم يدع للإشكال وجها
، بل صرح بأنه الذي دلّ عليه بعد ذلك اليهود حتى أخذوه وصلبوه بزعمهم ، وضربوه
بالسياط ، ولطموه واستهزءوا به ، وكذبوه لعنهم الله تعالى ، فكيف يجوز أن يقرب
الله تعالى ويعطى السلطان على الجن والإبراء من كل مرض من يدري أنه هو الذي يدل
عليه ويكفر بعد ذلك؟ هذا مع قول يوحنا ـ من سرقة يهوذا وخبث باطنه في إنجيله ـ أن
يهوذا المذكور كان سارقا ، وأنه كان يخطف كل ما يهدى إلى المسيح ، ويذهب به. فلا
بد ضرورة من أحد وجهين بلا ثالث أصلا :
إما أن يكون
المسيح اطلع على ما اطلع عليه يوحنا من سرقة يهوذا وخبث باطنه ، وأعطاه مع ذلك
الآيات المعجزات ، وجعله واسطة بينه وبين الناس ، وجعل له أن يحرم ويحلّل فيكون ما
حلل وحرم محرّما ومحللا في السموات ، فهذه مصيبة وترفيع بالكفار ، وتقديم لمن لا
يستحق وسخرية بالدّين ، وليس هذا صفة إله ولا من فيه خير. أو يكون خفي على المسيح
من خبث نية يهوذا ما عرف غيره ، فهذه عظيمة من إله يجهل ما خلق. فهل سمع قط بأحمق
من هذه القصص وممن يعتقدها حقّا ..؟!!
والثانية : قوله
لا تسلكوا في سبيل الأجناس ، ولا تدخلوا مدائن السامريين ، واختصروا إلى الضأن
المبددة من نسل إسرائيل ، وأنه لم يبعث إلا إلى الضأن التالفة من بني إسرائيل ،
وهذا إنما أمرهم بأن يكملوه بعد رفعه بإقرارهم كلهم أنه طول كونه في الأرض لم
يفارقه أحد منهم ، ولا نهضوا داعين إلى بلد آخر البتة ، فقد خالفوا أمره
__________________
وعصوه ، لأنهم لم
يذهبوا إلا إلى الأجناس ، فهم عصاة لله تعالى فساق بإقرارهم.
فصل
وفي هذا الباب
نفسه أن المسيح قال لتلاميذه : وإذا طلبتم في هذه المدينة فاهربوا إلى أخرى آمّين
، أقول لكم : لا تستوعبوا مدائن بني إسرائيل ، حتى يأتي ابن الإنسان ـ يعني رجوعه
إلى الدنيا ـ ظاهرا بعد رفعه إلى جميع الناس.
وفي الباب السابع
من إنجيل مارقش ، وفي أول الباب التاسع من إنجيل لوقا ، أن المسيح قال لهم : إن من
هؤلاء الوقوف بعض قوم لا يذوقون الموت ، حتى يروا ملك الله مقبلا بقدرة.
قال أبو محمد :
وكذب هذا القول قد ظهر علانية ، فقد استوعبوا مدائن بني إسرائيل وغيرها ، ولم يروا
ما وعدهم به من رجوعه بالقدرة علانية قبل أن يموت كل من بحضرته يومئذ ، وحاشا لله
أن يكذب نبي ، فكيف إله ..؟!! وفي هذا الفصل وحده كفاية لو كان عقل في أن الذين
كتبوا هذه الأناجيل كانوا كذابين قوم سوء. فإن قالوا : فإن في صحيح حديثكم : «أن
نبيكم صلىاللهعليهوسلم قال وأشار إلى غلام بحضرته من بني النجار : إن استكمل هذا
عمره أدرك الساعة ، فمات ذلك الغلام في حد الصبا وأنه كان يقول للأعراب إذا سألوه
متى تقوم الساعة؟ فيشير إلى أصغرهم ويقول : إن استكمل هذا عمره لم يأته الموت حتى
تقوم الساعة» قلنا : هذا الغلط غلط فيه قتادة ومعبد بن هلال ، فحدثا به
عن أنس على ما توهماه من معنى الحديث ، ورواه ثابت بن أسلم ،
__________________
البناني عن أنس
كما قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلفظه فقال : «قامت عليكم ساعتكم» وهكذا رواه الثقات أيضا
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن النبي صلىاللهعليهوسلم كما رواه ثابت عن أنس وقالت : إنه عليهالسلام قال إن هذا لا يستوفي عمره حتى تقوم عليه ساعتكم يعني وفاة
أولئك المخاطبين له ، وهذا هو الحق الذي لا شك فيه ، ولا خلاف من أن ثابتا البناني
أثقف لألفاظ الأخبار من قتادة ومعبد ، فكيف وقد وافقته أم المؤمنين ...؟ ونحن لا
ننكر غلط الراوي إذا قام البرهان على أنه خطأ ، وقد صح في القرآن والأخبار الثابتة
من طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وابنه وغيرهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لا يدري أحد متى تقوم الساعة ، غير الله تعالى ، ولو قال النصارى واليهود مثل هذا في
نقلة كتبهم ما عنفناهم ، ولا أنكرنا عليهم وجود الغلط في نقلهم ، إنما ننكر عليهم
أن ينسبوا ـ يعني اليهود والنصارى ـ إلى الله تعالى الكذب البحت ، ويقطعون أنه من
عنده تعالى وننكر على النصارى أن يجعلوا من صح عنه الكذب معصوما ، يأخذون عنه
دينهم ، وأن يحققوا كل خبر متناقض وكل قضية يكذّب بعضها بعضا. ونعوذ بالله من
الخذلان.
فصل
وفي هذا الباب
نفسه أن المسيح قال لهم : لا تحسبوا أني جئت لأدخل بين أهل الأرض الصلح إلا السيف
وإنما قدمت لأفرق بين المرء وزوجه وابنه ، وبين الابنة وأمها ، وبين الكنّة
وختنتها ، وأن يعادي المرء أهل خاصته.
وفي الباب الثاني
عشر من إنجيل لوقا أن المسيح قال لهم : إنما قدمت لألقي في الأرض نارا وإنما
إرادتي إشعالها ولنغطس فيها جميعها ، وأنا بذلك منتصب إلى تمامه أتظنون أني أتيت
لأصلح بين أهل الأرض؟ ولكن لأفرق بينهم فيكون خمسة مفترقين في بيت ثلاثة على اثنين
واثنان على ثلاثة ، الأب على الولد والولد على الأب والابنة على الأم والأم على
الابنة ، والختنة على الكنة والكنة على الختنة. فهذان فصلان كما ترى.
__________________
وفي الباب التاسع
من إنجيل لوقا أن المسيح عليهالسلام قال لهم : لم نبعث لتلف الأنفس لكن لسلامتها.
وفي الباب العاشر
من إنجيل يوحنا أن المسيح قال : من سمع كلامي ولم يحفظه فلست أحكم أنا عليه فإني
لم آت لأحكم على الدنيا وأعاقبها لكن لأسلم أهل الدنيا.
قال أبو محمد :
هذان الفصلان ضد الفصلين اللذين قبلهما ، وكل واحد من المعنيين يكذب الآخر صراحا ،
فإن قيل : إنه إنما أراد أنه لم يبعث لتلف الأنفس التي آمنت به. قلنا : قد عمّ ولم
يخصّ ، وبرهان بطلان تأويلكم هذا من أنه إنما عنى أنه لم يبعث لتلف النفوس المؤمنة
به أنّه نص هذا الفصل في الباب التاسع من إنجيل لوقا ، هو كما نورده إن شاء الله
تعالى قال عن المسيح : إنه بعث بين يديه رسلا وجعلوا طريقهم على السامرية ليعدوا
له بها فلم يقبلوه لتوجهه إلى برشلام ، فلما رأى ذلك يوحنا ويعقوب قالا له : يا
سيدنا أيوافقكم أن تدعو فتنزل عليهم نار من السماء وتحرق عامتهم كما فعل إلياس ..؟
فرجع إليهم وانتهرهم وقال : الذي أنتم له أرواح لم يبعث الإنسان لتلف الأنفس لكن
لسلامتها. ثم توجهوا إلى حصن آخر.
قال أبو محمد :
فارتفع الإشكال وصح أنه لم يعن بالأنفس التي بعث لسلامتها بعض النفوس دون بعض ،
لكن عنى كل نفس كافرة به ومؤمنة به لأنه كما تسمعون إنما قال ذلك إذ أراد أصحابه
هلاك الذين لم يقبلوه ، فظهر تكاذب الكلام الأول ، وحاشا لله أن يكذب المسيح عليهالسلام ، لكن الكذب بلا شك من الفساق الأربعة الذين كتبوا تلك
الأناجيل المحرّفة المبدلة.
ثم في هذا الفصل
نصّ جليّ على أنه مبعوث مأمور ، فصح أنه نبي كما يقول أهل الحق إن كانوا صدقوا في
هذا الفصل وبالله تعالى التوفيق.
فصل
وفي الباب المذكور
نفسه أن المسيح قال : من قبل نبيّا على اسم نبي فإنه يكافأ بمثل أجر النبي.
قال أبو محمد :
وهذا كذب ومحال ، لأنه لا تفاضل للناس عند الله تعالى في الآخرة ، إلا بأجورهم
التي يعطيهم الله تعالى فقط ، لا بشيء آخر أصلا ، فمن كان أجره فوق أجر غيره فهو
بالضرورة أفضل منه ، والآخر بلا شك دون ، ومن كان أجره مثل أجر
آخر فهما بلا شك
سواء في الفضل ، هذا يعلم ضرورة بالحس ، فلو كان كل من اتبع نبيا له مثل أجر النبي
لكان أهل الإيمان كلهم في الآخرة سواء لا فضل لأحد على أحد عند الله تعالى ، وهذا
يعلم أنه كذب ومحال بالضرورة ، ولو كان هذا لوجب أن يكون أجر كل كلب من النصارى
مثل أجر باطره والتلاميذ وبولش ومارقش ولوقا ، وليس منهم أحد يقول بهذا ، ولا
يدخله في الممكن ، فكلهم متفق على أن إلههم كذب ، وحاشا لله من أن يكذب نبي من
أنبيائه ، أو رجل صادق من أهل الإيمان وبالله تعالى التوفيق.
فصل
الكلام في يحيى عليهالسلام
وفي الباب الثاني
عشر من إنجيل متّى أن المسيح عليهالسلام قال وقد ذكر يحيى بن زكريا : أنا أقول لكم إنه أكثر من نبي
وهو الذي قيل فيه وأنا باعث ملكي بين يديك ليعد لك طريقك.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل كذب في موضعين.
أحدهما : قوله في
يحيى إنه أكثر من نبي وهذا محال ، لأنه لا يخلو يحيى وغير يحيى من إلا أن يكون
رسولا نبيا ، ويحيى رسول بإجماعهم ، وإن كان لم يوح إليه فهذه منزلة يستوي فيها
الكافر والمؤمن ، ولا يجوز أن يكون من لا يوحي الله تعالى إليه مثلا لمن استخصه عزوجل بالوحي إليه ، فكيف أن يكون أكثر منه ..؟
والكذبة الثانية :
قوله إن يحيى هو الذي قيل فيه وأنا باعث ملكي بين يديك لأن يحيى عليهالسلام على هذا ملك ، وهذا كذب بحت لأنه إنسان ابن رجل وامرأة ،
عاش إلى أن قتل ، وليس هذا صفة الملك ، ويحيى لم يكن ملكا. وفي هذا الفصل الذي بعد
هذا أنه قال : إنّ يحيى آدمي فهذا القول كذب على كل حال ، وحاشا لله أن يكذب نبي ،
ولا رجل فاضل ، وصح أن متّى الشرطي النذل هو الذي كذب ، فعليه ما على الكذابين
أمثاله.
فصل
وفي الباب المذكور
، أن المسيح قال لهم : آمين أقول لكم لم يولد أحد من الآدميين أشرف من يحيى
المعمّد ، ولكن من كان صغيرا وفي ملكوت السماء فهو أكبر منه.
قال أبو محمد :
تأملوا هذا الفصل تروا مصيبة الدهر فيهم ، وقرة عيون الأعداء ، وقولا لا يمكن أن
يقوله ولا ينطق به صبيّ يرجى فلاحه ، ولا أمة وكفاء إلا أن تكون مدخولة العقل. أثبت أنه لم يولد في الآدميين
أشرف من يحيى وإذا كان كما زعم أن الصغير في ملكوت السماء أكبر من يحيى ، فكل مؤمن
يدخل ملكوت السماء ضرورة فهو أفضل من يحيى ، فوجب من هذا أن كل مؤمن من بني آدم
فهو أفضل من يحيى ، وأن يحيى أرذل وأصغر من كان مؤمن. فما هذا الهوس ..؟ وما هذا
الكذب وما هذا العبارة السمجة في الدين ..؟ وكم هذا التناقض ..؟ والله ما قال
المسيح قط شيئا من هذه الرعونة ، وما قالها إلا الكذاب متّى ونظراؤه عليهم اللعنة
، فلقد كانوا في غاية الوقاحة والاستخفاف بالدين.
فصل
وفي الباب المذكور
: أن المسيح قال لهم : كل كتاب ونبوة فإن منتهاها إلى يحيى.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل كذبتان على صغره. إحداهما : قوله قيل : إن يحيى أكثر من نبي مع ما في
الإنجيل من أن يحيى سئل فقيل له أنبيّ أنت؟ قال : لا. وقال هاهنا : إن كل نبوة
فمنتهاها إلى يحيى ، فمرة ليس هو نبيا ، ومرة هو نبي الأنبياء ، ومرة هو أكثر من
نبي ، تبارك الله كم هذا التخليط والكذب الفاحش ..؟!!
والأخرى قوله فيه
: إن كل نبوة فمنتهاها إلى يحيى ، وليس بعد النهاية نبي فهو على هذا آخر الأنبياء.
وفي الباب الرابع
عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لهم : أنا باعث إليكم أنبياء وعلماء وستقتلون
منهم وتصلبون. فقد كذب بأن يحيى آخر الأنبياء ، ومنتهى النبوة إليه ، والنصارى
مقرّون بأنه قد كان بعده الأنبياء ، وأن نبيا أتى إلى بولش وأنذره بأنه سيصلب. ذكر
ذلك لوقا في الافركسيس. فقد حصلوا على تكذيب المسيح في قوله وفي بعض هذا كفاية.
__________________
فصل
وفي الباب المذكور
أن المسيح قال لهم : أتاكم يحيى وهو لا يأكل ، ولا يشرب ، فقلتم هو مجنون ، ثم
أتاكم ابن الإنسان يعني نفسه فقلتم : هذا جوّاف شروب الخمر ، خليع صديق المستخرجين والمذنبين.
قال أبو محمد : في
هذا كذب وخلاف للنصارى ، أما الكذب ، فإنه قال هاهنا : إن يحيى كان لا يأكل ولا
يشرب ، حتى قيل فيه : إنه مجنون من أجل ذلك.
وفي الباب الأول
من إنجيل مارقش : أن يحيى بن زكريا عليهماالسلام هذا كان طعامه الجراد والعسل الصحراوي وهذا تناقض ، وأحد
الخبرين كذب بلا شك. وأما خلاف قول النصارى فإنه ذكر أن يحيى كان لا يأكل ولا يشرب
، وأن المسيح كان يأكل ويشرب ، بلا شك من أغناه الله عزوجل عن الأكل والشرب من الناس فقد أبانه ورفع درجته على من لم
يغنه عن الأكل والشرب منهم ، فيحيى أفضل من المسيح بلا شك على هذا.
وقصة ثالثة : وهي
اعتراف المسيح على نفسه بأنه يأكل ويشرب ، وهو عندهم إله فكيف يأكل الإله ويشرب؟
ما في الهوس أكثر من هذا. فإن قالوا : إن الناسوت منه هو الذي كان يأكل ويشرب.
قلنا : وهذا كذب منكم على كل حال ، لأنه إذا كان المسيح عندكم لاهوتا وناسوتا معا
فهو شيئان ، فإن كان إنما أكل الناسوت وحده فإنما أكل الشيء الواحد من جملة
الشيئين ، ولم يأكل الآخر ، فقولوا : إذا أكل نصف المسيح ، وشرب نصف المسيح ، وإلا
فقد كذبتم في كل حال ، وكذب أسلافكم في قولهم أكل المسيح ، ونسبتم إلى المسيح
الكذب في خبره عن نفسه أنه يأكل ، وإنما يأكل نصفه لا كلّه ، والقوم أنذال
بالجملة.
فصل
وفي الباب المذكور
أن المسيح قال : لا يعلم الولد غير الأب ، ولا يعلم الأب غير الولد. قال أبو محمد
: هذا عجب جدا ، لأن المسيح عندهم ابن الله بلا خلاف منهم ، والله ـ تعالى عن
كفرهم ـ هو والد المسيح وأبوه ، وهكذا يطلق النذل باطرة في رسائله
__________________
المنتنة متى ذكر
الله عزوجل قال : الله والد ربنا المسيح آمرا كذا وكذا ، ثم هاهنا قال
: إن المسيح قال : إنه لا يعلم الأب إلا الابن ، ولا يعلم الابن إلا الأب ، فقد
وجب ضرورة أن التلاميذ وسائر النصارى لا يعرفون الله تعالى أصلا ، ولا يعرفون
المسيح البتة ، فهم جهّال بالله تعالى وبالابن ، ومن جهل الله تعالى ولم يعرفه فهو
كافر ، فهم كلهم كفار أسلافهم وأخلافهم ، أو كذب المسيح في هذا الكلام ، أو كذب
النذل متّى ، لا بد والله من أحدها ، وقد أعاذ الله تعالى عبده ورسوله من الكذب ،
فبقيت الاثنتان وهما والذي سمك السماء حق ، وإن النصارى لكفار جهال بالله عزوجل ، وإن الشرطيّ متّى لكذاب كافر ملعون ، فعلى جميعهم لعنة
الله. نعم وفي هذا القول الملعون الذي أضافوه إلى المسيح عليهالسلام القطع بأن الملائكة والأنبياء السالفين كلهم ليس منهم أحد
يعرف الله تعالى ، فاعجبوا لكفر هذا اللعين متى وعظيم حماقته ومن قلده في دينه؟
ونحمد الله على السلامة كثيرا.
فصل
مطالبة المسيح بآية
وفي الباب المذكور
أن بعض التوراتيين قال للمسيح : يا معلم إنا نريد أن تأتينا بآية فقال لهم المسيح
: يا نسل السوء ونسل الزنا تسألون آية ولا ترون منها آية غير آية يونس النبي ..؟
فكما أن يونس كان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال ، كذلك يكون ابن الإنسان في
جوف الأرض ثلاثة أيام بلياليها.
قال أبو محمد : لو
لم يكن في أناجيلهم إلا هذا الفصل الملعون وحده لكفى في بطلان جميع أناجيلهم ،
وجميع دينهم. فإنه قد جمع عظيمتين :
إحداهما : تحقيق
أنه لم يأت مخالفيه قط بآية ، وإقرار المسيح بذلك بزعمهم ، وأن آياته التي يذكرون
إنما كانت خفية وفي السر بحضرة النزر القليل الذين اتبعوه ، ومثل هذا لا يقوم حجّة
على المخالف ، أو تحقيق الكذب على المسيح في أنه يخبر أنهم لا يرون آية وهو يريهم
الآيات ، لا بد من إحداهما.
والفصل الثاني وهو
الطامة الكبرى ، حكايتهم عن المسيح أنه قال عنه نفسه : كما بقي يونس في بطن الحوت
ثلاثة أيام بلياليها ، كذلك يبقى هو في جوف الأرض ثلاثة أيام بلياليها ، وهذه كذبة
شنيعة لا حيلة فيها ، لأنهم مجمعون في جميع أناجيلهم أنه دفن قرب مغيب الشمس من
يوم الجمعة في دخول ليلة السبت ، وقام من القبر قبل الفجر من ليلة الأحد ، فلم يبق
في جوف الأرض إلا ليلة وبعض أخرى ، ويوما ويسيرا
من يوم ثان فقط ،
وهذه كذبة لا خفاء بها فيما أخبر به المسيح ، لا بد منها أو كذب أصحاب الأناجيل ،
وهم أهل الكذب وحسبنا الله.
فصل
وفي الباب الثالث
عشر من إنجيل متّى أن المسيح قال : «يشبه ملكوت السماء بحبة خردل ، ألقاها رجل في
فدانه ، وهي أدق الزراريع ، فإذا أنبتت استعلت على جميع البقول والزراريع ، حتى
ينزل في أغصانها طير السماء ويسكن إليها».
قال أبو محمد :
حاشا للمسيح عليهالسلام أن يقول هذا الكلام ، لكن النذل الذي قاله كان قليل
البصارة بالفلاحة ، وقد رأينا نبات الخردل ، ورأينا من رآه في البلاد البعيدة ،
فما رأينا قط ولا أخبرنا من رأى شيئا منه يمكن أن يقف عليه طائر ، ومثل هذه
المسامحات لا تقع لنبي أصلا فكيف لله عزوجل.
فصل
وفي آخر الباب
المذكور أنّ المسيح رجع إلى بلاده ، وجعل يوصي جماعتهم بوصايا يعجبون منها ،
وكانوا يقولون : من أين أوتي هذه العلوم ، وهذه القدرة؟ أما هذا ابن الحدّاد وأمه
مريم ، وإخوته يعقوب ، ويوسف ، وشمعون ، ويهوذا ، وأخواته؟ أما هؤلاء كلهم عندنا
فمن أين أوتي هذا ..؟ وكانوا يشكون فيه. فقال لهم يسوع : «ليس يعدم النبي حرمته
إلّا في بيته وبلده» ولتشككهم وكفرهم لم يطلع في ذلك الموضع عجائب كثيرة.
وفي الباب الخامس
من إنجيل مارقش قال : وكانت الجماعة تسمع منه وتعجب العجب الشديد من وصيته ،
ويقولون : من أين أوتي هذا؟ وما هذه الحكمة التي رزقها؟ ومن أين هذه الأعاجيب التي
ظهرت على يديه؟ أليس هو ابن الحدّاد ، وابن مريم أخو يوسف ويعقوب وشمعون ويهوذا؟ أليس
أخواته هنّ هاهنا معنا؟ وكان يقول لهم يسوع : لا يكون نبي بغير حرمة إلّا في وطنه
وبين عشيرته ، وفي أهل بيته ، وليس كان يقوى أن يفعل هنالك آية ، لكن وضع يديه على
مرضى قليل فأبرأهم.
وفي الباب الثاني
من إنجيل لوقا : «فلما دخل الوالد المسيح البيت» وبعد هذا بيسير قال : «فكان يعجب
منه أبوه وأمه» وبعده بيسير قول مريم أمه له : «وقد طلبك أبوك وأنا معك».
وفي الباب السابع
منه : أقبلت إليه أمه وإخوته.
وفي الباب الثاني
من إنجيل يوحنا : وبعد هذا نزل إلى كفر ناحوم ، ومعه أمه وإخوته وتلاميذه.
وفي الباب السابع
من إنجيل يوحنا : وكان إخوته لا يؤمنون به.
قال أبو محمد : في
هذه الفصول ثلاث طوام نذكرها طامة طامة إن شاء الله تعالى.
أولها : اتفاق
الأناجيل الأربعة على أنه كان له والد معروف من الناس ، وإخوة وأخوات سمّى الإخوة
بأسمائهم ، وهم أربعة رجال سوى الأخوات ، ولا نقول في ذلك إلّا على إقرار منهم :
بأن له والدا طلبه معها ، وهو يوسف الحدّاد أو النجار ، فأمّا أمّه فقد اتفقنا نحن
واليهود ، وجمهور النصارى على أنها حملت به حمل النساء ، وولدته كما تلد النساء
أولادهنّ ، إلّا طائفة من النصارى قالت : لم تحمل به ، لكن دخل من أذنها وخرج من
فرجها في الوقت كالماء في الميزاب ، ولكن بقي علينا أن نعرف : كيف تقول أمّه عليهاالسلام عن النجار أو الحدّاد إنّه أبوه ووالده؟ فإن قالوا : إنّ
زوج الأم يسمّى في اللغة أبا قلنا : هبكم أن هذا كذلك؟! كيف العمل في هؤلاء الذين
اتفقت عليهم الأناجيل على أنهم إخوته وأخواته ، وإنّما هم أولاد يوسف النجّار أو
الحدّاد ..؟ وما وجد في اللغة العبرانية أنّ الربيب من غير الأم يسمّى أخا ، إلّا
أن يقولوا : إنّ مريم ولدته من النجّار ، فقد قال هذا طائفة من قدمائهم منهم : «بيار»
مطران «طليطلة» ، ونحن نبرأ إلى الله تعالى مما يقول هؤلاء الكفرة أن يكون
لإله معبود أمّ أو خال أو خالة ، أو ابن خالة أو ربيب ، أو أخت ، أو أخ ، وتبّا
لعقول يدخل هذا فيها من أن لله تعالى ربيبا هو زوج أمه.
وليس يمكنهم أن
يقولوا : إنّما أراد كتّاب الأناجيل أنّهم إخوته في الإيمان والدّين ، لأن «يوحنا»
قد رفع الإشكال في ذلك وقال : «معه إخوته وتلاميذه» فجعلهم طبقتين.
وقال أيضا : إن
إخوته كانوا لا يؤمنون به. وتالله لو لا أننا شاهدنا النّصارى ما
__________________
صدّقنا أن من يلعب
بعذرة وما يخرج من أسفله يصدّق بشيء من هذا الحمق ، ولكن تبارك من أرادنا بهذا أنه
لا ينتفع أحد ببصره ولا بسمعه ولا بتمييزه إلّا أن يهديه خالق الهدى والضلال. نسأل
الله الذي هدانا لملّة الإسلام البيضاء الواضحة السليمة من كل ما ينافره العقول ،
ألا يضلّنا بعد إذ هدانا حتى نلقاه على ملّة الحق ، ونحلة الحق ، ومذهب الحق ،
ناجين من ملل الكفر ، ونحل الضلال ، ومذاهب الخطاء.
وكلّ ما أوردناه
بيان واضح ، في أنّ الذين ألّفوا الأناجيل كانوا عيّارين ، مستخفّين بمن أضلّوه ، متلاعبين بالدّين.
والثانية :
إقرارهم بأن المسيح لم يكن يقوى في ذلك المكان على آية ، ولو كان لهم عقل لعلموا
أن هذه ليس صفة إله يفعل ما يشاء ، بل صفة عبد مخلوق مدبّر لا يملك من أمره شيئا ،
كما قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم :
(قُلْ إِنَّمَا
الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) [سورة الأنعام :
١٠٩].
الثالثة : إقرارهم
أن المسيح عليهالسلام سمعهم ينسبونه إلى ولادة الحدّاد ، وأنه أبوه ، ولم ينكر
ذلك عليهم.
فقد حققوا عليه
أحد شيئين لا ثالث لهما البتة : إمّا أنه سمع الحق من ذلك فلم ينكره ، وفي هذا ما
فيه من خلاف قولهم جملة.
وإمّا أنه سمع
الباطل والكذب فأقرّ عليه ولم ينكره. وهذه صفة سوء وتلبيس في الدين.
قال أبو محمد :
وفي هذه الفصول مما لم يطلق الله تعالى أيديهم على تبديله من الحق قوله : «لا يعدم
النبي حرمته إلّا في وطنه وأهل بيته».
فيا عقول الأطفال
، ويا أدمغة الإوزّ : لو عقلتم أما كنتم تقولون فيه ما قال في نفسه ، وما يشهد
العيان بصدقه وصحته فيه ، وتتركون الرعونة التي لم تقدروا منذ ألف عام بيان ما
تعتقدونه منها بقلوبكم ، ولا قدرتم على العبارة عنها بألسنتكم؟ وكلما رمتم وجها من
وجوه النّوك انفتق عليكم باب لا قبل لكم به ونعوذ بالله من الضلال.
فصل
وفي الباب السادس
عشر من إنجيل «متّى» أن المسيح قال لباطرة : «إليك أبرأ
__________________
بمفاتيح السماوات
، فكل ما حرّمته في الأرض يكون محرّما في السماوات ، وكل ما حلّلته على الأرض يكون
حلالا في السماوات».
وبعد هذا الكلام
بأربعة أسطر أن المسيح قال لباطرة نفسه متّصلا بالكلام المذكور : «اتبعني يا مخالف
، ولا تعارضني فإنك جاهل بمرضاة الله تعالى ، وإنّما تدري مرضاة الآدميين».
قال أبو محمد رضي
الله عنه : في هذا الفصل على قلته ـ وإنه قليل ومنتن كبعض ما يشبهه ممّا يكره ذكره
ـ سوأتان عظيمتان :
إحداهما : أنه
بريء إلى باطرة النذل بمفاتيح السماوات ، وولّاه خطة إلاهية لا تجوز لغير الله
تعالى وحده ، لا شريك له ، من أنّ كلّ ما حرّمه في الأرض كان حراما في السماوات
وكلّ ما حلّله في الأرض كان حلالا في السماوات.
والثانية : أنه
آثر براءته إليه بمفاتيح السماوات وتوليته له خطة الربوبية ، إمّا شريكا لله تعالى
في التحريم والتحليل ، وإمّا منفردا دونه عزوجل بهذه الصفة.
قال له في الوقت :
«إنه مخالف معارض له جاهل بمرضاة الله تعالى ، مخالف له لا يدري إلّا مرضاة
الآدميين».
فو الله لئن كان
صدق في الآخرة لقد خرق في الأولى ، إذ ولى ما لا ينبغي إلا لله تعالى جاهلا
بمرضاة الله تعالى ، مخالفا له لا يدري إلّا مرضاة الناس ، وإنّ هذه لسوأة الأبد ،
إذ من هذه صفته لا يصلح أن يبرأ إليه بمفاتيح كنيف ، أو بيت زبل. ولئن كان صدق وأصاب في الأولى لقد كذب في
الثانية ، وو الله ما قال المسيح قط ما ذكروا عنه في الأولى ، لأنها مقالة كافر
شرّ خلق الله تعالى ، وما يبعد أنه قال له الكلام الثاني ، فهو والله كلام حق ،
يشهد به اللعين الكافر «باطرة» شاه وجهه ، وعليه سخط الله وغضبه.
ثم عجب ثالث :
أننا قد ذكرنا قبل أن في الباب الثامن عشر من إنجيل «متى» أنّ المسيح أشرك مع «باطرة»
في هذه الخطة التي أفرده بها هاهنا سائر الاثني عشر
__________________
تلميذا ، ومن
جملتهم السّارق الكافر ، الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين درهما أخذها منهم ،
وأنّه قال لجميعهم : «ما حرّمتموه في الأرض كان حراما في السّماوات ، وما حللتموه
في الأرض كان حلالا في السماوات».
فيا ليت شعري كيف
يكون الحال إن اختلفوا فيما ولّاهم من ذلك ، فأحلّ بعضهم شيئا وحرّمه آخر منهم؟
كيف يكون الحال في
السماوات وفي الأرض؟
لقد يقع أهلها مع
هؤلاء السفلة في سفل وفي حرمة وحلّ معا.
فإن قيل : لا يجوز
أن يختلفوا. قلنا : سبحان الله وأيّ خلاف أعظم من تحليل يهوذا إسلامه إلى اليهود ،
وأخذه ثلاثين درهما رشوة على ذلك ، إلا إن كان عزله عن خطته الإلهية بعد أن ولّاه
إيّاها ، فلعمري إنّ من قدر أن يوليها إنه لقادر على أن يعزل عنها ، ولعمري لقد
رذلت هذه المنزلة عند هؤلاء الأرذال حقا إذ وليها السرّاق ومن لا خير فيه ، ثم
يعزلون عنها بلا مئونة ، تعالى الله ، والله لو دكّت الجبال والأرض دكّا ، وخرّت
السماوات العلى ، وصعق بكل ذي روح عند سماع كفر هؤلاء الخسّاس ، لما كان ذلك
بكثير. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ولا يخلو هذا
القول من أحد وجهين لا ثالث لهما :
إمّا أنه أراد أن «باطرة»
والتلاميذ المولين هذه الخطة لا يحلّلون شيئا ، ولا يحرّمون إلّا بوحي من الله عزوجل.
فإن كان هذا فقد
كذب في قوله الذي ذكرنا قبل أنّ كل نبوّة فمنتهاها إلى يحيى بن زكريّا عليهماالسلام ، لأن هؤلاء أنبياء على هذا القول.
وإمّا أنه أراد :
أنه قد جعل لباطرة ولأصحابه ابتداء الحكم في التحريم والتحليل من عند أنفسهم بلا
وحي من الله تعالى.
فيجب على هذا أنهم
متى حرّموا شيئا حرّمه الله تعالى اتباعا لتحريمهم ، ومتى حلّلوا شيئا حلّله الله
تعالى اتّباعا لتحليلهم.
فلئن كان هذا
فإنها لحظة خسف ، وترى «باطرة» وأصحابه الأوغاد قد صاروا حكّاما على الله تعالى ،
وقد صار عزوجل تابعا لهم. وحاشا لله تعالى من هذا كله. وما
__________________
نرى «باطرة»
المنتن وأصحابه الأرذال حصلوا من مفاتيح السماوات ، ومن خطة الألوهية إلّا على حلق
اللّحى ، وإنها أحق لحى بالنتف. وعلى ضرب الظهور بالسياط والصلب. أمّا باطرة دبره
إلى فوق ، ورأسه إلى أسفل. والحمد لله رب العالمين.
بيان أن ما يسميه النصارى بالحواريّين هم غير الحواريين
المنصوص عليهم في القرآن
قال أبو محمد :
ليعلم كل مسلم أن هؤلاء الذين يسمّونهم النصارى ، ويزعمون أنهم كانوا حواريّين
للمسيح عليهالسلام كباطرة و «متّى» الشرطي ، و «يوحنا» و «يعقوب» و «يهوذا»
الأخسّاء لم يكونوا قط مؤمنين ، فكيف حواريّين؟ بل كانوا كذابين كفارا مستخفّين
بالله إمّا مقرين بألوهية المسيح عليهالسلام معتقدين لذلك ، غالين فيه كغلوّ السبئية ، وسائر الفرق الغالية في عليّ رضي الله عنه ، وكقول
الخطابية بألوهية أبي الخطاب ، وأصحاب الحلّاج بألوهية الحلّاج ، وسائر كفار
__________________
الباطنية عليهم اللعنة من الله والغضب. وإمّا مدسوسين من قبل اليهود
كما تزعم اليهود لإفساد دين أتباع المسيح عليهالسلام وإضلالهم ، كانتصاب عبد الله بن سبأ الحميري ، والمختار بن
أبي عبيد ، وأبي عبد الله العرديّ ، وأبي زكريا الخياط ، وعليّ النجار وعلي بن الفضل الجنيد ، وسائر دعاة القرامطة والمشارقة لإضلال شيعة عليّ رضي الله عنه ، فوصلوا من ذلك
إلى حيث عرف ، وسلّم الله من ذلك من لم يكن من الشيعة.
__________________
وأمّا الحواريون
الذين أثنى الله عليهم فأولئك أولياء الله حقّا ندين الله تعالى بمحبتهم ولا ندري
أسماءهم ، لأن الله تعالى لم يسمهم لنا ، إلّا أننا نبت ، ونوقن ، ونقطع ، أن «باطرة»
الكذاب ، و «متّى» الشرطي ، و «يوحنا» المستخف ، و «يهوذا» و «يعقوب» النذلين ، و
«مارقش» الفاسق ، و «لوقا» الفاجر ، و «بولش» اللعين ما كانوا قط من الحواريين لكن
من الطائفة التي قال الله تعالى فيها : (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) [سورة الصف : ١٤]
وبالله تعالى التوفيق.
فصل
وفي آخر الباب
السادس عشر من إنجيل متى : وأعلم يسوع من ذلك الوقت تلاميذه بما ينبغي أن يفعله من
دخول «برشلام» ، وحمل العذاب من أكابر أهلها وعلمائهم ، وقتلهم له ، وقيامه في
الثالث. فخلا به «باطرة» وقال له : «تعفى عن هذا يا سيدي ، ولا يصيبك منه شيء».
وفي الباب السابع
عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لتلاميذه : سيبلى ابن الإنسان في أيدي الناس
ويقتل ويحيا في الثالث ـ يعني نفسه ـ فحزنوا لذلك حزنا شديدا.
وفي أول الباب
الثامن من إنجيل مارقش : أن المسيح قال لتلاميذه : «إن ابن الإنسان سيبلى في أيدي
الآدميين ، ويقتلونه ، فإذا قتل يقوم في اليوم الثالث».
وأنهم لم يفهموا
مراده بهذا الكلام.
وفي قرب آخر الباب
الثامن من إنجيل لوقا : أن المسيح قال للاثني عشر تلميذا «إنا نصعد إلى «برشلام»
ونكمل كل ما نبأت به الأنبياء عليهمالسلام عن ابن الإنسان ، ويسيرون به إلى الأجناس يستهزءون به
ويجلدونه ، ويبصقون فيه. وبعد جلدهم إياه يقتلونه ، ويحيا في اليوم الثالث».
فلم يفهموا عنه
ممّا ألقى شيئا ، وكان هذا عندهم معقّدا لا يفهمونه.
قال أبو محمد رضي
الله عنه : في هذه الفصول ثلاث كذبات من طوامّ الكذب.
إحداها : اتفاق
الأناجيل المذكورة كما أوردنا على أن المسيح أخبرهم عن نفسه أنه يقتل ، وجميع
الأناجيل الأربعة متفقة عند ذكرهم لصلبه على أنه مات على الخشبة حتف أنفه ، ولم
يقتل أصلا ، إلّا أن في بعضها أنه طعنه بعد موته أحد الشرط برمح في جنبه ، فخرج من
الطعنة دم وماء.
وفي هذا إثبات
الكذب على المسيح ، واتفاقهم كما أوردنا على أنه أخبرهم بأنه يقتل ، واتفاقهم كلهم
على أنه لم يقتل ، وهذه سوأة جدّا. وحاشا لله أن يكذب نبيّ أو ينذر بباطل. هذه
علامة الكذابين ، لا علامة أهل الصدق.
وثانيها : اتفاق
الأناجيل المذكورة ـ كما أوردنا ـ على أنه قال : «ويقوم في الثالث». ثم اتفقت
الأناجيل كلها على أنه «لم يحي» ولا قام إلّا في الليلة الثانية ، وأنه دفن في آخر
يوم الجمعة مع دخول ليلة السبت وحسبك أنهم ذكروا أنه لم يحنط استعجالا لئلا تدخل
عليهم ليلة السبت ، وأنه قام ليلة الأحد قبل الفجر ، وهذه كذبة ثالثة فاحشة نسبوها
إلى المسيح ، وحاشا له من مثلها.
وكذبة ثالثة : وهي
إخبار (متّى) أنهم فهموا مراده بهذا القول ، وأنهم حزنوا حزنا شديدا لذلك ، وأنّ «باطرة»
قال له : «تعفى عن هذا يا سيدي ، ولا يصيبك منه شيء». وإخبار «مارقش» و «لوقا»
أنهم لم يفهموا مراده بهذا الكلام ، وهذا كذب فاحش لا يجوز أن يقع من صادقين ،
فكيف من معصومين؟! فلاح يقينا عظيم كذب الذين وضعوا هذه الأناجيل ، وأنهم كانوا
فسّاقا لا خير فيهم. وبالله تعالى التوفيق.
فصل
وفي الباب السابع
عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لتلاميذه : «لئن كان لكم إيمان على قدر حبّة
الخردل ، لتقولن للجبل ارحل من هنا فيرحل ، ولا يتعاصى عليكم شيء» وقبله متصلا به
أن تلاميذه عجزوا عن إبراء رجل به جن ، وأن المسيح أبرأه ، وأن تلاميذه قالوا له :
لم عجزنا نحن عن برائه؟ قال : تشكّككم.
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل متّى : أنّ المسيح دعا على شجره تين خضراء فيبست من وقتها. فعجب
التلاميذ ، فقال لهم المسيح : «آمين أقول لكم ، لئن آمنتم ولم تشكّوا ليس تفعلون
هذا في التينة وحدها ، لكن متى قلتم لهذا الجبل : انقلع واطّرح في البحر ، لم يقف
لكم».
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل يوحنا : أن المسيح قال لتلاميذه : «من آمن بي سيفعل الأفاعيل التي
أفعلها أنا ، وسيفعل أعظم منها».
قال أبو محمد : في
هذه الفصول ثلاث طوام من الكذب عظيمة.
لا يخلو التلاميذ
المذكورون ثم هؤلاء الأشقياء بعدهم إلى اليوم ، من أن يكونوا مؤمنين بالمسيح عليهالسلام أو غير مؤمنين ، ولا سبيل إلى قسم ثالث.
فإن كانوا مؤمنين
فقد كذب المسيح فيما وعدهم به في هذه الفصول جهارا ـ وحاشا له من الكذب ـ وما منهم
أحد قط قدر على أن تأتمر له ورقة ، فكيف على قلع جبل وإلقائه في البحر؟!
وإن كانوا غير
مؤمنين به فهم بإقرارهم هذا ، كفار ، ولا خير في كافر ، ولا يجوز أن يصدّق كافر ،
ولا أن يؤخذ الدّين عن كافر.
ولا بدّ لهم من أن
يجيبوا إذا سألناهم : أفي قلوبكم مقدار حبة خردل من إيمان أم لا؟ وتؤمنون بالمسيح
أم لا؟
إن قالوا : نعم.
نحن مؤمنون به ، والإيمان في قلوبنا.
قلنا : فقد كذب
المسيح يقينا فيما أخبر به من أنّ من آمن به وفي قلبه مقدار حبة خردل من إيمان
يأمر الجبل بأن ينقلع فينقلع ، والله ما فيكم أحد يقدر على تيبيس شجرة بدعائه ،
ولا على قلع جبل من موضعه.
وإن قالوا : ليس
في قلوبنا قدر حبة خردل من إيمان ، ولا نحن مؤمنون به. قلنا : صدقتم والله حقا.
وشهدوا على أنفسهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) [سورة الأعراف :
٥٣] صدق الله عزوجل ، وأنبياؤه عليهمالسلام ـ وكذب «متّى» و «باطرة»
و «يوحنّا» و «مارقش» و «لوقا» ، وسائر النصارى الكذّابين.
ولقد قلت هذا لبعض
علمائهم فقال : إنما عنى شجرة الخردل التي تعلو على جميع الزراريع حتى يسكن الطير
فيها.
فقلت له : لم يقل
في الإنجيل مثل شجرة الخردل ، إنما قال مثل حبة الخردل ، وقد وصفها وصفها المسيح
بإقرارهم بأنها أصغر الزراريع.
وأيضا : فإنه ليس
إلا مؤمن أو كافر. وأمّا الشّاك : فإنه متى دخل الإيمان شكّ بطل ، وحصل صاحبه في
الكفر ، فكيف ولم يدعنا المسيح بإقرارهم في شكّ من هذا التأويل الفاسد ، بل زعموا
أنه قال لهم : «لتشكككم لئن كان لكم إيمان قدر حبة خردل لتقولن للجبل ...».
وقال في إنجيل
يوحنا كما أوردنا : «لئن آمنتم ولم تشكّوا ...» فإنما أراد بيقين بهذه النصوص :
التصديق الذي هو خلاف الشك ، لا غاية العمل الصالح.
وقال كما أوردنا
في إنجيل يوحنا : «من آمن بي سيفعل الأفاعيل التي أفعل أنا» فعن هذا الإيمان به
سألناكم : أفي قلوبكم هو أم لا؟
فقولوا ما بدا
لكم.
قال أبو محمد :
وأما أنا فلو سمعت هذا القول ممّن يدّعي النبوّة لما تردّدت في اليقين بأنه كذب ،
وو الله ما قالها المسيح قط ، وما اخترع هذا الكذب إلّا أولئك السفلة ، متّى
ويوحنا ، وأمثالهم. والعجب كله إقرار متّى في الفصل المذكور كما أوردنا ، أن
المسيح قال له ولأصحابه : إنهم إنما عجزوا عن إبراء المجنون لتشككهم ، فشهد عليهم
بالشك ، وأنه لو كان لهم إيمان لم يعجزوا عن ذلك.
فلا يخلو المسيح عليهالسلام فيما حكوا عنه من أن يكون كاذبا أو صادقا ، فإن كان كاذبا
: فهذه صفة سوء ، والكاذب لا يكون نبيا ، فكيف إلها؟ وإن كان صادقا : فإن الذين
أخذوا عنهم دينهم ويسمونهم تلاميذ ، وأنهم فوق الأنبياء ـ كفّار شكّاك. فكيف
يأخذون دينهم عن كفّار شكّاك؟
لا مخرج لهم من
إحداهما ، ولو لم تكن إلّا هذه في أناجيلهم لكفت في إبطالها ، وإبطال جميع ما هم
عليه من دينهم المنتن.
ثم العجب كله ،
كيف يشهد عليهم بالشك وهم يحكون أنه قد ولّاهم خطة الإلهية وولّاهم رتبة الربوبية
في أنّ كل ما حرّموه في الأرض كان حراما في السماوات ، وكل ما حلّلوه في الأرض كان
حلالا في السماوات؟ فكيف يجتمع هذا مع هذا؟
وهل يأتي التناقض
من دماغه سالم أو فيه آفة يسيرة؟ بل هذا والله توليد أفّاك كاذب ، واختراع عيّار
متلاعب ، ونعوذ بالله من الخذلان.
فصل
وفي قرب آخر الباب
الثامن عشر من إنجيل متّى : أن المسيح قال لتلاميذه : «إذا اجتمع اثنان منكم على
أمر فليس يسألان شيئا على الأرض إلّا أجابهم إليه أبي السّماوي ، وحيث اجتمع اثنان
أو ثلاثة على اسمي فأنا متوسطهم».
قال أبو محمد : هذا
الفصل ظريف جدّا ، وكذب لا يمطل ظهوره ، ولا يخلو أن يكون عنى بهذه المخاطبة
تلاميذه خاصة ، أو كلّ من آمن به.
وأيّ الأمرين كان
فهو كذب ظاهر ، وما يشك أحد في أن تلاميذه سألوه أن يجيبهم من دعوة إلى ما دعوه
إليه من دينهم ، وأن يخلّص من فتن من أصحابهم ، فما أعطاهم شيئا من ذلك الذي أسماه
أباه السّماوي.
فإن قيل : لم
يسألوه قط شيئا من ذلك.
قلنا : هذه طامّة
أخرى. لئن كان هذا فهم غاشّون للناس غير مريدين لصلاحهم ، بل ساعون في هلاكهم.
هيهات ، هذه منزلة ما أعطاها الله تعالى أحدا من خلقه.
صدق الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم إذا أخبر أن ربه تعالى قال : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ
أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [سورة المنافقون :
٦].
وأنه أخبرنا عليهالسلام : أنه دعا ألّا يجعل بأسنا بيننا بعده ، فلم يجبه الله
تعالى إلى ذلك . هذا هو الحق الذي لا نزيد فيه ، والقول الذي صحبه الصدق ،
والحمد لله رب العالمين.
لم يفخر بما لم
يعط ، ولا أنزل نفسه فوق قدرها صلىاللهعليهوسلم.
فصل
وفي الباب المذكور
أن المسيح قال لهم : «إن أساء إليك أخوك فعاقبه وحدك فيما بينك وبينه ، فإن سمع
منك فقد ربحته ، وإن لم يسمع منك فخذ إلى نفسك رجلا أو رجلين لكيما تثبت كلّ كلمة
بشهادة شاهدين أو ثلاثة ، فإن لم يسمع فأعلم بخبره الجماعة ، فإن لم يسمع للجماعة
فليكن عندك بمنزلة المجوسي والمستخرج».
ثم بعده بأسطار
يسيرة قال : وعند ذلك تدانى إليه باطرة وقال له : يا سيدي فإن أساء إليّ أخي أتأمرني
أن أغفر له سبعا؟ فقال له يسوع : لن أقول لك سبعا ولكن سبعين في سبعة.
قال أبو محمد :
هذا ضد قوله في الثالثة : فليكن عندك بمنزلة المجوس والمستخرج ولا سبيل إلى الجمع
بينهما.
فصل
وفي الباب الموفي
عشرين من إنجيل متّى : أنّ أم ابني شيذاي أقبلت إليه مع
__________________
ولديها فخشعا ،
ورغبت إليه فقال لها : ما تريدين؟ فقالت : أحبّ أن تقعد ابنيّ هذين أحدهما عن
يمينك والآخر عن شمالك في ملكك.
فقال يسوع :
تجهلين السؤال. أيصبران على شرب الكأس الذي أشرب؟
فقالا : نصبر.
فقال لهما : ستشربان بكأسي وليس إليّ مجلسكما عن يميني وشمالي ، إلّا من وهب له
ذلك أبي.
قال أبو محمد :
ففي هذا الفصل بيان أنه ليس إليه من الأمر شيء ، وأنه غير الأب كما يقولون ، بخلاف
دينهم ، فإذا هو غير الأب وكلاهما إله ، فهما إلهان اثنان متغايران ، أحدهما قويّ
والآخر ضعيف ، لأنه بإقراره ليس له قدرة على تقريب أحد إلّا من وهب له ذلك الذي
يسمونه أبا ، وليت شعري كيف يجتمع ما ينسبون إليه هاهنا من الاعتراف بأنه ليس بيده
أن يجلس أحدا عن يمينه ولا عن شماله ..؟ وإنما هو بيد الله تعالى مع ما ينسبون
إليه من أنه قدر على إعطاء مفاتيح السماوات والأرض لأنذل من وجد وهو «باطرة» ،
وأنه يفعل كما يفعله الأب ، وأن الله تعالى قد تبرأ إليه من الحكم ، وأن الله عزوجل ليس يحكم بعد على أحد ، وسائر تلك الفضائح المهلكة مع
تكاذبها وتدافعها وشهادتها بأنها ليست من عند الله تعالى ، ولا من عند نبي أصلا ،
لكن توليد كاذب كافر وبالله تعالى نعوذ.
فصل
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل متّى : فلما تدانى المسيح من «برشلام» وكان في موضع يقال له «تتفيا»
جوار جبل الزيتون بعث رجلين من تلاميذه ، وقال لهما : اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما
، وستجدان فيه حمارة مربوطة بفلوها فحلّا عنهما ، وأقبلا إليّ بهما ، فإن تعرضكما أحد فقولا :
إن السيّد يريدها فيدعكما من وقته ، وكان ذلك ليتم به قول النبي القائل لابن صهيون
: سيأتيك ملكك متواضعا على حمارة وابن أتان. فتوجه التلميذان وفعلا كما أمرهما به
، وأقبلا بالحمارة وفلوها ، وألقوا ثيابهم عليها ، وأجلسوه من فوقها.
وفي الباب التاسع
من إنجيل مارقش : فلما بلغ المسيح «تتفيا» إلى جبل الزيتون ، أرسل اثنين من
تلاميذه وقال : اذهبا إلى الحصن الذي بحيالكما ، فإذا دخلتما ستجدان فلوا مربوطا
لم يركبه بعد أحد من الآدميين ، حلّاه وأقبلا به إليّ ، فإن قال لكما أحد ما
__________________
هذا الذي تفعلان؟
فقولا له : إن السيّد يحتاج إليه فيخليه لكما ، فانطلقا ووجدا الفلو مربوطا قبالة
رحبة الباب في رفاقين فحلّاه. فقالوا لهما بعض الوقوف هنالك : ما لكما تحلّان
الفلو؟ فقالا له كالذي أمرهما يسوع فتركوه لهما ، وساقا الفلو إلى يسوع ، ليحملوا
عليه ثيابهم وركب من فوق.
قال أبو محمد :
فهاتان قضيتان كل واحدة منهما تكذب الأخرى ، متّى يقول ركب حمارة ، ومارقش يقول
ركب فلوا ، والعجب كله من استشهادهم لذلك بقول النبي : «يأتيك ملكك راكبا على
حمارة وابن أتان» ، وما كان المسيح قط ملك برشلام فهذه كذبة أخرى.
وأطرف شيء
استشهادهم لصحة أمره بركوبه حمارة ، أتراه لم يدخل «برشلام» إنسان على حمارة سواه؟!!
هذه بالله ضحكة من
مضاحك السخفاء. ولقد أخبرني الحسن بن بقي صاحبنا نوّر الله وجهه : أنه وقف عالم من
علمائهم على هذا الفصل ، قال : فقال : إنما هذا رمز والحمارة : هي التوراة ،
فأضحكني قوله ، وقلت له : فالإنجيل هو : الفلو. وقال : فسكت وعلم أنه أتى بما يوجب
السخرية به.
فصل
وفي الباب الثالث
عشر من إنجيل متّى : أن يسوع قال لهم : إذا قام الناس لا يتزوجون ، ولا يتناكحون ،
لكنهم يكونون كأمثال ملائكة الله تعالى في السماء.
وفي الباب السادس
عشر من إنجيل متّى ، وأيضا في الباب الثاني عشر من إنجيل مارقش ، أن المسيح قال لتلاميذه
ليلة أخذه : لا شربت بعدها من نشل الزرجون حتى أشربها معكم جديدة في ملكوت الله
تعالى.
وفي الباب الرابع
عشر من إنجيل لوقا : أن المسيح قال للحواريين الاثني عشر : أنتم الذين صبرتم معي
في جميع مصائبي ، فأنا ألخص لكم الوصية على حال ما لخص لي أبي ، لتطعموا وتشربوا
على مائدتي في الملك ، وتجلسوا على عروش حاكمين على اثني عشر سبطا من ولد إسرائيل.
قال أبو محمد :
ففي الفصل الأول أن الناس في الآخرة لا يتناكحون ، وفي
__________________
الفصول الثلاثة
بعده أن في الجنة أكلا وشربا للخبز والخمر على الموائد. والنصارى ينكرون كل هذا ،
ولا مئونة عليهم في تكذيبهم للمسيح مع إقرارهم بعبادتهم له ، وأنه ربهم لا سيما في
الفصل الأول ، أن الناس في الجنة كالملائكة ، وفي التوراة التي يصدقون بها أن
الملائكة أكلت عند لوط وعند إبراهيم عليهماالسلام الفطائر واللحم واللبن والسمن ، وإذا كانت الملائكة يأكلون
والناس في الجنة مثلهم ، فالناس في الجنة يأكلون ويشربون بلا شك ، بموجب التوراة
والإنجيل ، ولا سيما وقد أخبروا أن المسيح بعد أن مات ورجع إلى الدنيا ولقي
تلاميذه طلب منهم ما يأكل فأتوه بحوت مشوي ، فأكل معهم وشرب شراب عسل بعد موته ،
فإذا كان الإله يأكل الحيتان المشوية ويشرب عليها العسل فأي نكرة في أكل الناس
وشربهم في الجنة؟ وإذا كان الله تعالى عندهم اتخذ ولدا من امرأة اصطفاها فأيّ عجب
في اتخاذ الناس النساء في الجنة؟ وهذا هو طبعهم الذي بناهم الله عزوجل عليه. إلّا أنّ في دعوة هؤلاء النّوكى لعبرة لمن اعتبر. والحمد لله على السلامة.
وعجب آخر وهو وعده
للاثني عشر تلميذا بأنهم يقعدون على عروش حاكمين على اثني عشر سبطا من بني إسرائيل
، فوجب ضرورة كون يهوذا الأشكريوطي فيهم ، ولا يجوز أن يخاطب بهذا أصحابه دونه ،
لأنه قد أوضح أنهم اثنا عشر على اثني عشر سبطا من بني إسرائيل ـ وجب ضرورة كون
الأشكريوطي فيهم ، وهذا الذي دل عليه اليهود برشوة ثلاثين دريهما ، فلا بدّ من أنه
لم يذنب في ذلك ، وهذا كذب ، لأنه قد قال في مكان آخر : «ويل لذلك الإنسان الذي
قيل فيه : كان أحب إليه لو لم يخلق».
أو كذب المسيح في
الوعد المذكور ، لا بدّ من إحداهما ضرورة.
فصل
وفي الباب الثالث
من إنجيل متّى : أنّ المسيح كاشف علماء بني إسرائيل ، وقال : ما تقولون في المسيح؟
وابن من هو؟
قالوا : هو ابن
داود.
فقال لهم : كيف
يسميه داود بالروح إلها حيث كنت قال الله إلهي : اقعد عن يميني حتى أجعل من أعاديك
كرسيا لقدميك.
فإن كان «داود»
يدعونه إلها كيف هو ولده؟
__________________
فلم يقدر أحد منهم
على مراجعته.
قال أبو محمد :
هذا هو الحق من قول المسيح عليهالسلام ، ولقد أنكر عليهالسلام المنكر حقا ، والعجب أنّ هؤلاء الأنذال المنتمين إلى
أتباعه عليهالسلام لا يختلفون في الاحتجاج بهذا الفصل المذكور ، هو عليهالسلام قد أنكر أن يكون المسيح ابن داود ، وهم يسمونه في الأناجيل
كلها بأنه ابن «داود». فاعجبوا.
فصل
وفي الباب المذكور
أن المسيح قال لتلاميذه : أنتم إخوان ، ولا تنتسبوا إلى أب على الأرض ، فإنّ أباكم
السماوي واحد.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل فضيحتان عظيمتان : إحداهما : إخباره أن الله تعالى هو أبو التلاميذ ،
فنراهم مثله سواء سواء ، فلم خصه النصارى بأن يقولوا : إنه ابن الله دون أن يقولوا
عن تلاميذه متى ذكروهم أنهم أبناء الله ..؟ تعالى الله عن هذا الكفر ، وعن أن يكون
أبا أو ابنا.
والأخرى قوله : «لا
تنتسبوا إلى أب على الأرض».
والنصارى
والأناجيل يطلقون أن شمعون بن يوثا ، ويعقوب ويوحنا ابنا سبذاي ، ويهوذا ويعقوب
ابنا يوسف ، فقد أقروا بثباتهم على معصية المسيح إذ نهاهم أن ينتسبوا إلى أب على
الأرض ، وهم أبدا ملازمون لمخالفة أمره في ذلك متدينون بعصيانه.
فصل
وفي الباب الخامس
عشر من إنجيل متّى : أن المسيح أنذر تلاميذه بما يكون في آخر الزمان من الزلازل
والبلاء ، وقال لهم : فادعوا ألا يكون هروبكم في شتاء ولا سبت.
قال أبو محمد :
هذا بيان واضح بلزومهم حفظ السبت إلى انقضاء أمرهم ، وإلى حلول الزلازل بهم ، وهم
على خلاف ذلك. هذه أمة لا عقول لهم.
فصل
وفي الباب المذكور
: أن المسيح قال لهم : سيعود مسحاء الكذب ، وأنبياء الكذب ، ويطلعون العجائب
العظيمة والآيات حتى يغلط من يظن به الصلاح.
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل مارقس : سيقوم مسيحون كذابون ، وأنبياء كذابون ، ويأتون بالآيات
والبدائع ليخدعوا إن أمكن أيضا المختارين.
قال أبو محمد :
هذا الفصل مع الفصل الأخير الذي في توراة اليهود في السفر الخامس الذي نصه : «إن
طلع فيكم نبي ، أو ادّعى أنه رأى رؤيا وأتاكم بخبر ما يكون ، وكان ما وصفهن ، ثم
قال لهم بعد ذلك : اتبعوا آلهة الأجناس ، فلا تصغوا له».
مع الفصل الذي فيه
من التوراة : أنّ السحرة عملوا مثل عمل موسى عليهالسلام في قلب العصا حية ، وإحالة الماء دما ، والمجيء بالضفادع ـ
كافية في إبطال كل ما أتى به موسى والمسيح عليهماالسلام ، وكل نبي يقرون بنبوته ، لأنه إذا جاز أن يأتي نبي كاذب
بمعجزات ، وأمكن أن يكذب النبي الصادق فيما ينذر به ، وأمكن أن يعمل السحرة مثل
شيء من آيات نبي ، فقد امتزج الحق بالباطل ولم يكن له إلى تمييز أحدهما من الآخر
طريق أصلا ، وهذا إفساد الحقائق ، وإبطال موجب الحق ، وتكذيب الحواس. وإذا أمكن
عند اليهود والنصارى ما ذكرناه مما في توراتهم وأناجيلهم ، فما الذي يؤمنهم أن
موسى والمسيح عليهماالسلام وسائر أنبيائهم ، إنما كانوا سحرة ، أو كذابين ..؟ شهدنا
بالله شهادة حق أن هذه الفصول المذكورة من عمل برهمي مكذب بالنبوة جملة ، أو مناني
مكذب بنبوة الأنبياء المذكورين عليهمالسلام ، وأن موسى وعيسى عليهماالسلام لم يقولا قط شيئا مما في هذه الفصول الخبيثة الملعونة.
وأما نحن فلا نجيز
البتة أن يكذب نبي ، ولا أن يأتي غير نبي بمعجزة ساحرة ولا كذاب ولا صالح الصناعة.
فإن قيل : إنكم
تقولون : إن الدّجال يأتي بالمعجزات.
قلنا : حاشا لله
من هذا ، وما الدّجال إلا صاحب عجائب ، كأبي العجب الشعبذ ولا فرق إنما هو متحيل
يتحيل بحيل معروفة ، كل من عرفها عمل مثل عمله ، وقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن المغيرة بن شعبة سأله : هل مع الدّجال نهر ماء وخبز
ونحو ذلك؟
فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : هو أهون على الله من ذلك .
وصح أيضا عنه عليهالسلام : أن الدّجال صاحب شبه . وبالله تعالى التوفيق.
__________________
فصل
وفي الباب المذكور
: أن المسيح عليهالسلام قال عن ذلك اليوم ، وذلك الوقت : لا يدري أحد ما بعده ، لا
الملائكة ، ولا أحد غير الأب وحده.
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل مارقش : أن المسيح قال : السماوات والأرض تذهب وكلامي لا يبيد أبدا.
ومن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعلم أحد ما بعده ولا الملائكة في السماء ، ولا ابن
الإنسان ما عدا الأب.
قال أبو محمد :
هذا الفصل يوجب ضرورة أن المسيح هو غير الله تعالى ، لأنه أخبر أن هاهنا شيئا
يعلمه الله تعالى ، ولا يعلمه هو ، وإذا كان بنص أناجيلهم أن الابن لا يعلم متى
الساعة والأب يعلم متى هي فبالضرورة القاطعة نعلم أن الابن غير الأب ، وإذا كان
كذلك فهما اثنان متغايران ، أحدهما يجهل ما لا يجهله الآخر. وهذا الشرك الذي عليه
يحومون ، وهذا ما يبطله العقل ، أن يكون إلهان أحدهما ناقص ، فصح ضرورة أن من هو
غير الله تعالى فهو مخلوق ومربوب ، وبطل هوسهم وتخليطهم والحمد لله رب العالمين.
أو يكذبوا المسيح في هذا الفصل ولا بدّ.
فصل
وفي الباب السادس
والعشرين من إنجيل متّى : أن المسيح قال لباطرة ليلة أخذ : آمين أقول لك ، إنك
ستجحدني في هذه الليلة قبل صرخة الديك ثلاثا.
فقال له باطرة :
لا يكون هذا ولو بلغت القتل.
وفي الباب الثاني
عشر من إنجيل مارقش : أن المسيح قال لباطرة : آمين أقول لك ، إنك أنت اليوم في هذه
الليلة قبل أن يرفع الديك صوته مرتين ستجحدني ثلاثا ، فكان باطرة يعيد القول : حتى
لو أمكنني أن أموت معك لست أجحدك.
وفي الباب التاسع
عشر من إنجيل لوقا : أن المسيح قال لباطرة : أنا أعلمك أنه لا يصرخ الديك هذه
الليلة حتى تجحدني ثلاثا ، وأنك لم تعرفني.
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل يوحنا : أن المسيح قال لباطرة : آمين آمين أقول لك لا يصرخ الديك حتى
تجحدني ثلاثا.
__________________
فاتفق متّى ،
ولوقا ، ويوحنا على أنه قال له : إنك تجحدني ثلاث مرات قبل أن يصرخ الديك ، وهكذا
وصف كل واحد منهم عن باطرة أنه هكذا فعل ، إذ ميزه الغلام والأمة والقوم الذين
كانوا يصطلون على النار.
وقال مارقش : إنه
قال قبل أن يصرخ الديك مرتين تجحدني ثلاث مرات ، وهكذا وصف مارقس عن باطرة ، أنه
فعل ليلتئذ.
فإنّ خادم الكوهن
قال له : أنت من أصحاب يسوع فجحد ثم صرخ الديك ثم قالت الخادم للواقفين هنالك :
هذا من أولئك فجحد ثانية ، ثم قال له الواقفون هنالك حقا إنك منهم فجحد ثالثة أيضا
ثم صرخ الديك ثانية. فعلى قول مارقش كذب «متّى» و «لوقا» و «يوحنا» ، لأن الديك
صرخ قبل أن يجحده ثلاث مرات. أو كذب المسيح ـ عليهالسلام ـ في إخباره بذلك
إن كان هؤلاء صدقوا ، لا بدّ من إحداهما.
وعلى قول «متّى» و
«لوقا» و «يوحنا» كذب مارقش أيضا كذلك ، لأن الديك صرخ قبل أن يجحده ثلاث مرّات.
أو كذب المسيح. لابدّ من إحداهما ، والكذب واقع في أحد الخبرين ولا بد.
ثم طامة أخرى ،
وهي اتفاق «متّى» و «مارقش» : على أن المسيح أخبر باطرة بأنه سيجحده تلك الليلة ،
وأنّ باطرة ردّ خبره ، وقال له : لا يكون هذا.
فلو لا أن المسيح
كان عند «باطرة» ممن يكذب في خبره ، ما كذبه مواجهة مرة بعد مرة ، أو كفر باطرة إذ
كذب ربه أو نبيا. لا بدّ من إحداهما.
فإن كان كفر باطرة
، فكيف يعطى مفاتيح السموات لمرتد كافر مكذب لله تعالى؟ أو لنبي من الأنبياء جهارا؟
أم كيف يولى رتبة التحريم والتحليل من يكذب الله تعالى أو نبيه؟ أو كيف يؤخذ الدين
عن من يكذب ربه ، أو كذب خبر نبي من الله تعالى جهارا في آخر ساعة كان فيها معه ،
وختم بذلك عمله؟
ما سمعنا بأوسخ
عقولا من أمة هذه صفة دينهم ، وكتابهم ، وأئمتهم ، ونعوذ بالله من الخذلان.
وفي الباب الثامن
والعشرين من إنجيل متّى : أن الخشبة التي صلب عليها أخذ لحملها سخرة شيمون.
وفي الباب الثالث
عشر من إنجيل مارقش : أن تلك الخشبة التي صلب عليها يسوع أخذ لحلمها شيمون
القيرواني والد الاسكندر ، ودونه.
وفي الباب الموفي
عشرين من إنجيل لوقا : أنه سخر لحمل تلك الخشبة شمعون القيرواني.
وفي الباب الرابع
عشر من إنجيل يوحنا : أن يسوع نفسه هو الذي حملت عليه الخشبة التي صلب فيها ، وهذا
خلاف ما حكاه أصحابه.
ولقد قررت بعض
علمائهم على هذا فقال لي : كانت طويلة جدّا فحملها هو وشمعون المذكور. فقلت له :
ومن أين لك هذا؟ وأين وجدته؟ وسياق أخبار مؤلفي الأناجيل لا تدل على هذا ، ولو قلت
إنه ممكن أن سخر كل واحد منهما لحملها بعض الطريق لكان أدخل في سياق الخبر.
فصل
وفي الباب الثامن
عشر من إنجيل متّى أنه صلب معه لصّان ، أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، وكانا
يشتمانه ، ويتناولانه محركين رءوسهما ويقولان : يا من يهدم البيت ويبنيه في ثلاث
سلّم نفسك إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب.
وفي الباب الثالث
عشر من إنجيل مارقش : أنه صلب معه لصان ، أحدهما عن يمينه ، والثاني عن شماله ،
واللذان صلبا معه كانا يستعجزانه.
وفي الباب الموفي
عشرين من إنجيل «لوقا» : وكان أحد اللصين المصلوبين معه يسبه ويقول : إن كنت أنت
المسيح فسلّم نفسك وسلّمنا ، فأجابه الآخر وكشر عليه وقال : أما تخاف الله وأنت في
آخر عمرك وفي هذه العقوبة؟ أما نحن فكوفئنا بما استوجبنا ، وهذا لا ذنب له. ثم قال
ليسوع : يا سيدي : اذكرني إذا نلت ملكك. فقال له يسوع : آمين أقول لك اليوم تكون
معي في الجنة.
قال أبو محمد :
إحدى هاتين القضيتين كذب بلا شك ، لأن متّى ومارقش أخبرا بأن اللصين جميعا كانا
يسبّانه ، و «لوقا» يخبر بأن أحدهما كان عن يمينه وهو يسبه ، والآخر كان ينكر على
الذي كان يسبه ويؤمن به ، والصادق لا يكذب في مثل هذا ، وليس يمكن هنا أن يدّعي أن
أحد اللصين سبّه في وقت ، وآمن به في وقت آخر ، لأنّ سياق خبر «لوقا» يمنع من ذلك
، ويخبر أنه أنكر على صاحبه سبّه إنكار من لم يساعده قط على ذلك ، وكلهم متفق على
أن كلام اللصين وهم ثلاثتهم مصلوبون على الخشب. فوجب ضرورة أن «لوقا» كذب ، أو كذب
من أخبره ، أو أنّ «متّى» كذب ، وكذب «مارقش» أو الذي أخبره ولا بدّ.
فصل
وفي آخر إنجيل «متّى»
بعد أن ذكر صلب المسيح وإنزاله برغبة يوسف الأرماذي العريف : ودفنه في قبر جديد
محفور في صخرة ، وغطاه بصخرة عظيمة.
وفي آخر إنجيل
مارقش بعد أن ذكر صلب المسيح وإنزاله برغبة يوسف الأرماذي العريف : ودفنه في قبر
عشي الجمعة والسبت داخل.
وفي آخر إنجيل «لوقا»
بعد أن ذكر صلب المسيح ، وأن يوسف الأرماذي أتى أول الليل فرغب فيه فأجابه بلاطش
إلى إنزاله وجعله في قبر جديد.
وفي آخر إنجيل
يوحنا بعد أن ذكر صلب المسيح وأن يوسف الأرماذي رغب فيه وأنزله ودفنه في قبر في
بستان.
ثم قال متى : وعند
عشاء ليلة السبت التي تصبح يوم الأحد أقبلت مريم المجدلانية ومريم الأخرى لمعاينة
القبر فتزلزل بهما الموضع زلزلة عظيمة ، ثم نزل ملك السيد من السماء ، وأقبل ورفع
الصخرة وقعد عليها ، وكان منظره كمنظر البرق ، وثيابه أنصع بياضا من الثلج ، فمن
خوفه صعق الحرس ، وصاروا كالأموات.
فقال الملك
للمرأتين : لا تخافا ، قد علمت أنكما أردتما يسوع المصلوب ، ليس هو هاهنا ، وقد
حيي ، وقد تقدمكما إلى جلجال كما قال. فانظروا إلى الموضع الذي جعل فيه السيد
وانهضا إلى تلاميذه ، وقولا لهم : إنه قد حيي وفيها ترونه ، فنهضتا مسرعتين بفرح
ونوح عظيم وأقبلتا إلى التلاميذ وأخبرتاهم الخبر ، فتلقاهما يسوع وقال : السلام
عليكما. فوقفتا ، وتراميتا إلى رجليه ، وسجدتا له.
فقال لهما يسوع :
لا تخافا ، اذهبا إلى إخواني ليتوجهوا إلى جلجال وفيها يرونني. فأقبل بعض الحرس
إلى المدينة ، وأعلم قواد القسيسين بما أصابهم فرشوهم بمال عظيم ليقول الحرس : إن
التلاميذ طرقوهم ليلا وسرقوه ، وذهبوا به وهم رقود. ففعلوا وانتشر الخبر في اليهود
إلى اليوم.
وتوجه الأحد عشر
تلميذا إلى الجلجال إلى الجبل الذي كان دلهم عليه يسوع ، فلما بصروا به خنعوا له ،
وبعضهم شك فيه.
وقال مارقش : فلما
خلا يوم السبت اشترت «مريم» المجدلانية ، ومريم أم يعقوب و «شلوما» حنوطا ليأتين
به ، ويدهنه ، وأقبلن يوم الأحد بكرة جدّا إلى القبر وبلغن هنالك وقد طلعت الشمس ،
وهن يقلن من يحوّل لنا الحجر عن القبر؟ فنظرن فإذا بالحجر قد
حوّل ، فدخلن في
القبر ، فأبصرن فتى جالسا عن اليمين متغطيا بثوب أبيض فقال لهن : لا تفزعن فإن
يسوع الناصري المصلوب قد قام ، وليس هو هاهنا ، فانطلقن وقلن لتلاميذه ولباطرة :
إنه قد حيي ، وقد تقدمكم إلى جلجال ، وهناك تلقونه. فقام بكرة يوم الأحد وتراءى
أولا لمريم المجدلانية فمضت وأعلمت الذين كانوا معه ، فلم يصدقوها ، وبعد هذا
تظاهر لاثنين منهم وهما مسافران إلى قرية في صفة أخرى ، فأخبرا سائرهم فلم يصدقوا
أيضا.
وآخر الأمر بينما
الأحد عشر تلميذا متكئين إذ تظاهر لهم وقبّح كفرهم ، وقسوة قلوبهم.
وقال «لوقا» :
فلما انفجر الصبح يوم الأحد بكرة جدّا أقبل النسوة إلى القبر يحملن حنوطا فوجدن
الحجر مقلوعا عن القبر ودخلن فيه فلم يجدن السيد فيه؟؟؟ فتحزن؟؟؟ فوقف لهن رجلان
في ثياب بيض وقالا لهن : لا تطلبن حيّا بين أموات ، قد قام ليس هو هاهنا. فانصرفن
وأعلمن الأحد عشر تلميذا ، ومن كان معهم ، فلم يصدقوهن ، وقام باطرة مسرعا إلى
القبر فرأى الكفن وحده فعجب وانصرف.
ثم تراءى المسيح
لرجلين منهم كانا ناهضين إلى حصن يقال له : أماؤش على سبعة أميال ونصف من أورشليم
ولم يعرفاه حتى ارتفع عنهما وغاب. وانصرفا في الوقت إلى «أورشليم» ووجدا الأحد عشر
تلميذا مجتمعين مع أصحابهم فأخبراهم بالخبر ، فبينما هم يخوضون في هذا وقع يسوع في
وسطهم وقال : السلام عليكم أنا هو فلا تخافوا ، فجزعوا وظنوه شيطانا فقال لهم : لم
فزعتم؟ أبصروا قدميّ ويديّ أنا هو فإن الشيطان ليس له لحم ولا عظام ، ثم قال : أعندكم
شيء يؤكل؟ فأتوه بقطعة حوت مشوي وشربة عسل فأكل وبرئ إليهم بالبقية ، ثم أوصاهم
وارتفع عنهم.
وقال يوحنا : ففي
يوم الأحد أقبلت مريم صباحا ، والظلمات لم تنجل بعد إلى القبر فرأت الصخرة مقلوعة
عن القبر فرجعت إلى شمعون باطرة ، وإلى التلميذ الآخر يعني يوحنا بهذا نفسه ، وقال
لهما : نزع سيدي من القبر ، ولا ندري أين وضعوه.
فنهض «باطرة»
والتلميذ الآخر إلى القبر فوجد الأكفان موضوعة ، ثم رجعوا ووقفت «مريم» باكية
فتميلت إلى القبر فرأت ملكين منتصبين فقالا لها : من تريدين؟ فظنت أنه الجان ،
فقالت له : يا سيدي إن كنت أخذته أنت فقل لي أين وضعته؟ فقال لها : يا مريم.
فالتفتت وقالت : يا معلمي. فقال لها يسوع : لا تمسيني لم أصعد بعد إلى أبي ، اذهبي
إلى إخواني وقولي لهم : إني صاعد إلى أبي وأبيكم ، إلهي وإلهكم.
فأتت فأخبرتهم. ثم
بينا التلاميذ مجتمعون أقبل يسوع ووقف في وسطهم وقال : السلام عليكم وعرض عليهم
يديه وجنبه ثم ذكر أن «طوما» أحد التلاميذ الاثني عشر لم يكن حاضرا فيهم في هذا
الظهور ، فلما أتى وأخبروه قال : لئن لم أبصر في يديه إلصاق المسامير ، ولم أدخل
إصبعي في موضع المسامير في جنبه لا آمنت ، فلما كان بعد ثمانية أيام اجتمعوا كلهم
والأبواب مغلقة ، فأقبل يسوع ووقف وسطهم وقال لطوما : أدخل إصبعك وأبصر كفّيّ ،
وهات يدك وأدخلها إلى جنبي ، ولا تكن كافرا بل كن مؤمنا.
فقال له طوما :
سيدي وإلهي ، ثم تراءى عند بحيرة الطبرية لشمعون باطرة ، وطوما ، وتطهالي ، وابني
سيذاي ، واثنين من التلاميذ سواهم ، وهم يصيدون في مركب في البحر.
قال أبو محمد :
فاعجبوا لهذه القصة وما فيها من الكذب والشنع ، يقول «متّى» : إنّ مريم ومريم أتتا
إلى القبر عشية ليلة السبت التي تصبح في يوم الأحد ، فوجدتاه قد قام.
ويقول مارقش : إن
مريم ومريم وغيرهما أتتا إلى القبر بعد طلوع الشمس من يوم الأحد فوجدتاه قد قام
قبل ذلك.
ويقول لوقا : إن
النسوة أتين إلى القبر بكرة يوم الأحد فوجدتاه قد قام ، والظلمة لم تنجل بعد ،
فهذه كذبات منهم في وقت بلوغهن إلى القبر ، وفيمن جاء إلى القبر ، أمريم وحدها؟ أم
مريم ومريم أخرى معها؟ أما كلتاهما ومعهما نسوة أخرى.
ويقول متّى : إنّ
مريم ومريم رأتا الملك إذ نزل من السماء ، ورفع الصخرة بحضرتهما بزلزلة عظيمة ،
وصعق الحرس. وقال الملك للمرأتين : لا تخافا إنه قد قام.
ويقول مارقش : إن
النسوة وجدن الصخرة قد قلعت بعد ، وأنه وقف إليهم رجلان مبيضان فأخبراهن بقيامه.
ويقول يوحنا : إن
مريم وحدها أتت ووجدت الصخرة قد قلعت ولم تر أحدا ورجعت حائرة وأخبرت شمعون ويوحنا
حاكي القصة ، فنهضا معها إلى القبر فلم يجدا فيه أحدا ، وانصرفا فالتفتت هي فإذا
المسيح نفسه واقف وسلم عليها ، وأخبرها بقيامه ، فهذا كذب آخر في وقت قلع الصخرة ،
وهل وجد عند القبر ملك واحد ، أو ملكان اثنان ، أو لم يوجد فيه أحد أصلا ..
ويقول متّى : إن
المرأتين أتتهم بوصية فصدقوهما ، وأنهم نهضوا كلهم إلى جلجال وهنالك اجتمعوا معه.
ويقول مارقش : إنه
تراءى لمريم وأخبرتهم ، ولم يصدقوها ، ثم تراءى لاثنين فأخبراهم فلم يصدقوها ، ثم
نزل عليهم كلهم.
ويقول لوقا : إنهم
لم يصدقوا النساء ، وأن باطرة نهض إلى القبر ولم يجد شيئا ، ولا رأى أحدا ، وأنه
نزل منهم بأورشليم فرأوه حينئذ وأكل معهم الحوت المشوي ، وهذه صفة من لم يقصده
إليهم إلا الجوع وطلب الأكل.
ويقول يوحنا : إنه
تراءى لعشرة منهم حاشا «طوما» ثم تراءى لهم ولطوما.
قال أبو محمد :
ومثل هذا الاختلاف في قصة واحدة عن مقام واحد كذب لا شك فيه ، ولا يمكن أن يقع من
معصومين ، فصح أنهم كذابون لا يتحرّون الصدق فيما حدثوه وما كتبوه في هذه القضية.
ثم في هذه القصة :
قول مارقش عن المسيح «إنه بعد موته قبّح كفر تلاميذه ، وقسوة قلوبهم». فإذا شهد
المسيح على تلاميذه بعد رفعه بالكفر وقسوة القلوب ، فكيف يجوز أخذ الدّين عنهم؟ أم
كيف يجوز أن يعطي الإله مفاتيح السماوات ، ويولي منزلة التحريم والتحليل كافرا
قاسي القلب؟!!
وكل هذا برهان
واضح على أنّ أناجيلهم كتب مفتراة ، ومن عمل كذّابين كفّار.
ثم في هذه القصة :
أنّ مريم والتلاميذ كلهم كانوا يلتزمون بعد المسيح صيانة السبت وتعظيمه ، وترك
العمل فيه ، ولذلك أخّر عمل الحنوط إليه حتى دخل يوم الأحد ، فقد صحّ يقينا أنّ
هؤلاء المخاذيل ليسوا على دين المسيح ، ولا على ما مضى عليه تلاميذه ، بل على دين
آخر ، فسحقا لهم وبعدا ، والحمد لله رب العالمين على عظيم نعمته علينا معشر أهل
الإسلام.
فصل
وفي الثامن من
إنجيل مارقش : أن المسيح عليهالسلام قال لتلاميذه : إن دخول الجمل في سمّ الخياط أهون من دخول
المثري في ملكوت الله.
قال أبو محمد :
هذا قطع من كلامه بأن كل غني لا يدخل الجنة أبدا ، وفي أتباعه أغنياء كثير ، وما
رأينا قط أمة أحرص على جمع المال من الدراهم وغير ذلك وادخاره ومنعه دون أن
ينتفعوا منه بشيء ولا أن يتصدقوا منه بشيء من الأساقفة والقسيسين والرّهبان في كل
دير ، وكل كنيسة ، في كل بلد ، وكل وقت. فعلى موجب كلام إلههم أنهم لا يدخلون
الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، وهذا والله حق ، وأنا على ذلكم من الشّاهدين.
فصل
وفي الباب الثامن
من إنجيل مرقش : أن باطرة قال ليسوع المسيح : ها نحن قد خلينا الجميع واتّبعناك ،
فأجابه يسوع وقال له : «آمين أقول لكم ، ليس من أحد ترك بيتا أو إخوة ، أو أخوات ،
أو والدا ، أو والدة ، أو أولادا لأجل الإنجيل إلا ويعطى مائة ضعف مثله الآن في
هذا الزمان من البيوت ، والإخوة والأخوات ، والأمهات والأولاد ، والفدادين مع
السعادة وفي العالم الكائن الحياة الدائمة».
قال أبو محمد :
هذا موعد كاذب مضمون لا يمكن الوفاء به ، وهبك يخرّجون هذا على أنه يعوّض هذا من
أهل دينه أولادا أو إخوة وأخوات ، وأمهات ، كيف الحين في وعده من آمن به ، وترك ما
له أن يعوّض عن الفدان الذي يترك مائة فدّان وعن البيت مائة بيت الآن عاجلا في
الدنيا سوى ما له في الآخرة؟ وهذا كما ترى.
فصل
وفي الباب الثامن
من إنجيل مارقش : أن رجلا قال للمسيح أيها المعلم الصالح ، فقال له المسيح : لم
تقول لي «يا صالح» الله هو الصّالح وحده.
وفي الباب التاسع
من إنجيل يوحنا : أن المسيح قال : أنا الرّاعي الصالح.
فمرة ينكر أن يكون
صالحا وأن لا صالح إلا الله ، ومرة يقول : إنه صالح. وكل هذا كذب عليه من توليد
هؤلاء الأنذال.
فصل
وفي آخر إنجيل
مارقش : أن المسيح قال لتلاميذه : اذهبوا إلى جميع الدنيا وبشروا جميع الخلائق
بالإنجيل ، فمن آمن وعمّد يكون سالما ، ومن لم يؤمن يعاقب. وهذه الآيات تصحب الذين
يؤمنون وهي سيماهم على اسمي ، ينفون الجن ، ويتكلمون باللغات الجديدة ، ويقلعون
الثعابين ، وإن شربوا شربة قاتلة لم تضرّهم ، ويضعون أيديهم على المرضى فينقهون.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل أعجوبتان من الكذب.
إحداهما : بشروا
بالإنجيل ، فدلّ هذا على إنجيل أتاهم به المسيح ، وليس هو عندهم الآن ، وإنما
عندهم أناجيل أربعة متغايرة من تأليف أربعة رجال معروفين ليس منهم إنجيل ألّف إلّا
بعد رفع المسيح عليهالسلام بأعوام كثيرة ، ودهر طويل ، فصح أن
ذلك الإنجيل الذي
أخبر المسيح بأنه أتاهم به ، وأمرهم بالدعاء إليه قد ذهب عنهم لأنهم لا يعرفون له
أصلا. هذا لا يمكن سواه.
والفصل الثاني
قولهم : إنه وعد كل من آمن بدعاء التلاميذ فإنهم يتكلمون بلغات لم يعرفوها ، وأنهم
ينفون الجنّ عن المجانين ، وأنهم يضعون أيديهم على المرضى فينقهون ، وأنهم يقلعون
الثعابين ، وإن شربوا شربة قتالة لا تضرّهم.
قال أبو محمد :
وهذا وعد ظاهر الكذب جهارا ، ما منهم أحد يتكلم بلغة لم يعلمها ، ولا منهم أحد
ينفى جنيّا ، ولا منهم أحد يضع يده على مريض فيبرأ ، ولا منهم أحد يقلع ثعبانا ،
ولا منهم أحد يسقى السمّ فلا يؤذيه ، وهم معترفون بأن يوحنا صاحب الإنجيل قتل
بالسمّ ، وحاشا لله أن يأتي نبي بمواعيد خاسئة كاذبة ، فكيف الإله؟!
فاعلموا أن
الأنذال الذين كتبوا هذه الأناجيل أسهل شيء عليهم نسبة الكذب إلى المسيح عليهالسلام.
فصل
وبعد هذا الفصل متصلا
به : «والرّبّ لما أن تكلم بهذا قبض إلى السماء ، وجلس عن يمين الله».
قال أبو محمد :
هذا شرك أحمق ، رب يقبض ، إن هذا لعجب!! ورب يجلس عن يمين الله تعالى!!
هذان ربّان ،
وإلهان ، الواحد أجلّ من الثاني لأن المقعود عن يمينه أسنى مرتبة من المقعد على
اليمين بلا شك. ونعوذ بالله من الخذلان.
فصل
وفي أول إنجيل
لوقا : إن نفرا قبلنا راموا وصف الأشياء التي كملت فينا كالذي دلنا عليه معشر
الذين عاينوا الأمر ، وكانوا حملة الحديث ، فرأيت أن أقفو أثرهم من أوله على
التجريد ، وأكتب لك أيها الكريم لأن تفهم حق الكلام الذي علمته ، واطلعت عليه ،
وأنت به ماهر.
هذا يبين أن
الأناجيل تواريخ مؤلفة ، كما ترى بنص كلام «لوقا».
فصل
وفي أول إنجيل «لوقا»
الذي هو تاريخه المؤلف في أخبار المسيح ، قال لوقا : كان بعد «هيرودس» والي بلد «يهوذا»
كوهن يدعى «زكريا» من دولة أيحا ، وزوجته من بنات هارون ، وتسمى «الثيبات» ثم ذكر كلاما فيه يجيء جبريل الملك عليهالسلام إلى مريم أم المسيح عليهماالسلام وأنه قال في جملة كلام كثير : وقد حملت «الثيبات» قرينتك
على قدمها ، وعقرها. فأخبر أن «الثيبات» هارونية ، وأنها قريبة مريم ، فعلى هذا
فمريم أيضا هارونية ، والنصارى كلهم متفقون على ما في جميع الأناجيل من أن المسيح
هو ابن «داود» ، ومن نسل «داود» عليهالسلام.
وفي مواضع كثيرة
منها : «يورثه الله ملك أبيه داود» ، وأن العمي ، والمباطين والمرضى ، والمجانين ،
والجن كانوا يقولون له : يا ابن «داود» فلا ينكر ذلك عليهم. ولا تختلف النصارى
واليهود في أن المسيح المنتظر هو من ولد «داود».
والمسيح مع هذا
كله كان قد أنكر في الباب السادس عشر من إنجيل «متى» كما أوردنا من قبل أن يكون
المسيح من ولد «داود» فكيف هذا الاختلاط والتلون؟ ومع هذا كله فما ترى على ما
ذكرنا نسبة النصارى إلا إلى أنه ولد يوسف النجار الداودي ، الذي يزعمون أنه كان
زوج مريم ، وهذه طامة وسوأة لا يدرى لها وجه أن ينتسبوا إلى رجل لم يلده!! وأقل ما
في هذا الكذب الذي هو في الدنيا عار ، وبرهان على الضلال ، وفي الآخرة نار ، ونعوذ
بالله من الخذلان.
فصل
وفي الباب الثاني
من إنجيل «لوقا» : فلما دخل أبوا المسيح به البيت ليقربا عنه ما أمر به أخذه شمعون
في يديه.
وبعد ذلك في الباب
المذكور : «وكان أبواه مختلفين إلى يورشليم كل سنة أيام الفصح ، فلما بلغ اثنتي
عشرة سنة وصعد إلى يورشليم على حال سنتهما في يوم العيد فهبطا عند انقراضه بقي
يسوع في يورشليم ، وجهل ذلك أبواه ، وظناه في الطريق مقبلا ، فسارا يومهما وهما
يطلبانه عند الأقارب والأخوات ، فلما لم يجداه انصرفا إلى
__________________
«يورشليم» طالبين
له ، فوجداه في الثالث قاعدا مع العلماء في البيت وهو يسمع منهم ، ويكاشفهم ، فكان
يعجب منه كلّ من سمعه ومن يراه ، من حسن حديثه وحسن مراجعته ، فقالت له أمه : لم
أشخصتنا يا بني ، وقد طلبك أبوك وأنا معه محزونين؟
فقال لهما : لم
طلبتماني؟ أتجهلان أنه يجب عليّ ملازمة أمر أبي؟ فلم يفهما عنه جوابه ، فانطلق معهما
إلى ناصرة ، وكان يطوع لهما.
قال أبو محمد :
كيف يطلق لوقا النذل القميار ، وهو عندهم أجلّ من موسى عليهالسلام أن يوسف النجار والد المسيح في غير ما موضع ، ويكرر ذلك
كأنه يحدث بحديث معهود. أم كيف تقول مريم لابنها : طلبك أبوك تعني زوجها بزعمكم؟
وكيف يكون أباه
ولا أب له؟
وإنما يطلق هذا
الإطلاق في الربيب لا يعرف أبوه ، فيقال له : أبوك عن ربيبه بمعنى (كافله) لأنه لا
إشكال هاهنا. وأما من لا أب له من بني آدم ، فإطلاق الأبوة فيه على زوج أمه إشكال
وتلبيس ، وتطريق إلى البلاء.
أم كيف تبقى «مريم»
مع زوجها بزعمهم ـ فض الله أفواههم ـ أزيد من ثلاث عشرة سنة كما يبقى الرجل مع
امرأته ، يغلقان عليهما بابا واحدا؟
أم كيف يصح مع هذا
عند هؤلاء الأنتان أنه مولود من غير ذكر؟
أين هذا الزور
المفترى من النور المقتفى؟ قول الله تعالى حقا في وحيه الناطق إلى رسوله الصادق
الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، حيث قال :
(فَأَرْسَلْنا
إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ
بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ
لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ
يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ
هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً
مَقْضِيًّا فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ
نَسْياً مَنْسِيًّا) ... إلى قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ
هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ
إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي
عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً
أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) [سورة مريم : ١٧ ـ
٣١].
قال أبو محمد :
هذا هو الحق الواضح الذي يصدق بعضه بعضا ، لا كذب ولا
تناقض ، وهذا الذي
لا يمكن سواه ، لأنه لو كان لها زوج لم ينكر أحد ولادتها ، ولو لم يقم برهان
بكلامه في المهد لما جاز عندنا ولا عند أحد من الناس أنها حملت به من غير ذكر ،
ولكان ذلك دعوى كاذبة ، لا يجوز أن يصدّقها أحد لا سيما مع زعمهم أنها سكنت مع
زوجها أزيد من ثلاثة عشر عاما في بيت واحد ، يهديان عند ولادته ما يهدي الأبوان من
اليهود بحكم التوراة عن ابنهما ، وتقول له أمه : هذا أبوك ، وفعل أبوك ، ثم أطم من
هذا ، إقرارهم أن له أربعة إخوة ذكور : «شمعون» ، و «يهوذا» ، و «يعقوب» ، و «يوسف»
، وأخوات ، ثمّ لا يذكرون للنجار امرأة غير مريم.
فلو أن هؤلاء
الأولاد للنجار من تلك المرأة ، وهذه فضيحة الدّهر وقاصمة الظهر ، ومطلق ألسنة
القائلين أنها أتت به من زوج أو من عهر ـ وحاشا لله من ذلك ـ لقد يصحح هذا كله
أنهم مدسوسون من هذا عن اليهود لإفساد مذاهبهم ، ونعوذ بالله من الخذلان.
فصل
وفي الباب الرابع
من إنجيل لوقا : وكانت العامة تشهد له ، وتعجب لقوله ، وما كان يوصيهم به ، وكانت
تقول : أما هذا ابن يوسف النجار؟ فقال لهم : نعم ، قد علمت أنكم ستقولون لي يا
طبيب داو نفسك ، وافعل في موضعك كما بلغنا أنك فعلت بكفر ناحوم آمين. أما إني أقول
لكم : إنه لا يقبل أحد من الأنبياء في موضعه.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل ثلاث عظائم ، أحدها قولهم : أمّا هذا فابن يوسف فقال : نعم ، فهذا تحقيق
أنه ولد النجار ، وحاشا لله من ذلك.
والثانية :
اعترافهم واتفاقهم على أنه لم يأت بآية بحضرة الجماعة ، وإنما ذكر أنه أتى بالآيات
في القفار.
والثالثة : وهي
الحق قوله لهم : إنه نبي ، وهذا الذي أفلت من تبديلهم ، وأبقاه الله عزوجل حجة عليهم. والحمد لله رب العالمين.
فصل
وفي الباب الثاني
عشر من إنجيل لوقا : أن المسيح قال : «من قال شيئا في ابن الإنسان يغفر له. ومن
سبّ روح القدس لا يغفر له».
قال أبو محمد :
هذا إبطال لقولهم كاف ، لأن ابن الإنسان عند هؤلاء الأقذار هو روح القدس نفسه.
ونص كلام المسيح
هاهنا يبين أنهما شيئان متغايران ، أحدهما يغفر لمن سبّه ، والآخر : لا يغفر لمن
سبّه ، وهذا بيان دافع للإشكال جملة ، فإن كان المسيح هو ابن الإنسان ، فليس هو
روح القدس أصلا ـ بنص كلامه. وإن كان هو روح القدس فليس هو ابن الإنسان كذلك أيضا.
ولئن كان ابن الإنسان هو روح القدس فقد كذب المسيح ، إذ فرّق بينهما بجعل أحدهما
يغفر لمن سبه ، والآخر لا يغفر لمن سبه وفي هذا كفاية.
فصل
وفي الباب الموفي
عشرين من إنجيل لوقا : فلما بلغوا إلى الموضع الذي يدعى الأجرد صلبوه فيه ، وصلبوا
معه السارقين العابثين عن يمينه وعن شماله.
فقال يسوع : يا
أبتاه ، اغفر لهم ، لأنهم يجهلون ما يصنعونه ، ولا يدرون فعلهم.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل شنعتان عظيمتان على النصارى كافيتان في وساخة دينهم ، وبيان فساد كل ما
هم عليه جهارا.
أولاهما : أن
نسألهم فنقول لهم : المسيح إله عندكم أم لا؟
فمن قولهم : نعم.
فيقال لهم : إلى من دعا ، ورفع طلبته؟
فإن كان دعا غيره
، فهو إله يدعو إلها آخر. وهذا شرك وتغاير بين الآلهة.
وهم لا يقولون
هذا.
وإن كان دعا نفسه
: فهذا هوس ، إنما حكمه أن يقول : قد غفرت لكم ، وهم يصرحون في الإنجيل : بأنه
يغفر ذنوب من شاء. فأين كان عن هذه الصفة إذ يدعو إلها غيره؟
والثانية : أن
يقال لهم : هل أجيبت دعوته هذه أم لا؟
فإن قالوا : لم
تجب دعوته. قلنا : ليس في الخزي أكثر من إله يدعو فلا يستجاب له ولا في النحس فوق
هذا.
وعلى هذا فما بيده
من الربوبية إلا ذنب ثور ، شارد في حدود ، كما بيد سائر المخلوقين يدعو فيجاب مرة
، ولا يجاب مرة.
وإن قالوا : بل أجيبت
دعوته. قلنا لهم : فاعلموا أنكم وأسلافكم كلكم في سبكم اليهود الذين صلبوه ظالمون
لهم. وكيف يستحلون سبّ قوم قد غفر لهم إلههم ،
وأسقط عنهم
الملامة في صلبهم له؟ أما لكم عقول تعرفون بها مقدار ما أنتم عليه من الضلال الذي
ليس في العالم أحد على مثله؟ بل كلّ ضلالة فهي دونه.
فإن قيل : وما
أنكرتم من هذا وأنتم تقولون : إن الله تعالى دعا الكفار إلى الإيمان فلم يجيبوه؟
قلنا : نعم ،
فكانوا عصاة ، والله تعالى لم يرد كون الإيمان منهم ، إنما أمرهم أمر تعجيز ،
فأخبرونا أنتم من هو المدعو لهم ليغفر لهم فيجيبه أو يعصيه ..؟ ولا مخلص من هذا.
فصل
وفي آخر إنجيل
لوقا : أنه بعد صلبه تراءى لرجلين من تلاميذه ، وهما لا يعرفانه فقال لهما : ما
هذا الذي تخوضان فيه ، وتحزنان له؟
فقال أحدهما وهو
الذي يسمى كلوباش : أنت وحدك غريب بأورشليم ، إذ تجهل ما كان بها هذه الأيام.
فقال لهم : وما
ذلك؟
فقالا له من خبر
يسوع الناصري الذي كان نبيا مقتدرا على أفعاله وكلامه عند الله وعند الناس ، وكيف
اجتمع قواده القسيسون على قتله وصلبه إلى آخر كلامهما ، وأنه قال : يا جهال ، ويا
من عجزت عن فهم مقالة الأنبياء قلوبهم : أما كان هذا واجبا أن يلقاه المسيح ، وبعد
ذلك يبلغ إلى عظمته؟
قال أبو محمد :
فهؤلاء أصحابه يقولون : إنه كان نبيا عند الله وعند الناس ، وهو يسمع بزعمهم ولا
ينكر ذلك. فهلّا قالوا فيه هكذا! لقد طمس الشيطان على قلوب أبصارهم عن ذلك ، ولوى
ألسنتهم عن أن يقولوا ذلك ولا مرة من الدّهر ، بل كذبوه أشد الكذب ، وحسبنا الله
ونعم الوكيل.
فصل
وفي إنجيل متّى
ومارقش ولوقا : أنه قبل أخذه سجد ودعا وقال : يا أبت ، كل شيء عندك ممكن ، فاعفني
من هذا الكأس ، لكن لا أسأل إرادتي لكن إرادتك ، زاد لوقا في إنجيله قال : فتراءى
له ملك السيد معزيا له فأطال صلاته حتى سال العرق منه ، وتساقطت نقط منه كتساقط
نقط الدم إذا انسكب في الأرض.
وفي إنجيل متّى
ومارقش : أنه صاح بأعلى صوته وهو مصلوب : إلهي إلهي ، لم أسلمتني ، ثم فاضت نفسه.
قال أبو محمد :
فيا للناس؟ أهذه صفة إلهه؟ وهل يحتاج الإله إلى ملك يعزيه؟ وهل يدعو الإله في أن
يصرف عنه كأس المنية ، وإله يعرق من صعوبة الحال إذا أيقن بالموت ، وإله يسلمه
الإله؟! أفي الحمق شيء يفوق هذا؟
فإن قالوا : إنما
هذا كله خبر عن الطبيعة الناسوتية. قلنا لهم : أنتم تقولون في كل هذا : فعل المسيح
، وقال المسيح ، فللمسيح عندكم طبيعتان : ناسوتية ولاهوتية وعند اليعقوبية منكم
طبيعة واحدة ، وكلكم تقولون : إن اللّاهوت اتحد بالناسوت ، وأنتم كذبتم ، وأنتم
طرقتم إلى كل هذا ، وأنتم أضفتم كل هذا إلى اللّاهوت ، وإنما كان الحمق على أصلكم
هذا الملعون أن تقولوا : فعل نصف المسيح وقال نصف المسيح. فعلى كل حال قد كذبتم
وسخفتم. وفي هذا كفاية لمن عقل.
فصل
وفي أول إنجيل
يوحنا وهو أعظم الأناجيل كفرا ، وأشدها تناقضا ، وأتمها رعونة فأول كلمة فيه : «في
البدء كانت الكلمة ، والكلمة كانت عند الله ، والله كان الكلمة ، بها خلقت الأشياء
، ومن دونها لم يخلق شيء ، فالذي خلق هو حياة فيها».
فهل سمع بأعظم
سخفا ، وأتم تناقضا من هذا الكلام الملعون هو وقائله؟!! كيف تكون الكلمة هي الله؟
وتكون عند الله؟ فالله إذا كان عند نفسه. ثم قوله : «إن الذي خلق بالكلمة هو حياة
فيها». فعلى هذا حياة الله مخلوقة فروح القدس على نص كلام هذا العيّار مخلوق ، لأن
روح القدس عند جميعهم هو حياة الله وهذا بخلاف جميع قول النصارى ، لأن الحياة التي
في الكلمة مخلوقة بنص كلام يوحنا ، والله تعالى بنص كلام يوحنا هو الكلمة ، وهذا
هدم لملّة النصارى من قرب.
ثم أطم من هذا كله
إذا كانت حياة الكلمة مخلوقة ، والكلمة هي الله ، فالله هو حامل لأعراض مخلوقة
فيه. فاعجبوا ثم اعجبوا.
وبعد هذا الفصل ـ
على ما نورد إن شاء الله تعالى ـ والكلمة كانت بشرا ، مع قوله الكلمة هي الله ،
فالله بشر على نصّ كلام هذا النذل يوحنا ـ عليه من الله اللعائن المتواترة.
فصل
وبعد ذلك ذكر
المسيح فقال : فإنه كان في الدنيا ، وبه خلقت الدنيا ، ولم يعرفه أهل الدنيا.
قال أبو محمد :
هذا من الحمق المزور. كيف يكون في الدنيا ، وبه خلقت الدنيا؟! لئن كان إلها كما
يقولون ، فهو خلق الدنيا ، ولا يجوز أن تخلق به.
وإن كان إنما به
خلقت الدنيا ولم يخلقها هو : فليس هو إلها ولا خالقا ، إنما هو آلة من الآلات ،
خلقت الدنيا بها ، وحاشا لله أن يخلق بآلة ، لكن كما قال في وحيه الناطق إلى رسوله
الصادق الذي لا يتناقض كلامه ، ولا تتعارض أخباره (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [سورة يس : ٨٢].
وأين يجتمع قوله
هاهنا أنه به خلقت الدنيا مع الكذب الذي يضيفونه إلى المسيح من أنه قال بزعمهم : «أنه
أخلق ، وأبي يخلق ، وإن لم أعمل كما يعمل أبي فلا تصدقوني».
حاشا لله من أن
يقول نبي هذا الكذب وهذا الحمق إذ كان يكونان إلهين متغايرين اثنين كل واحد منهما
غير الآخر ، وكل واحد منهما يخلق كما يخلق الآخر ، ثم مرة هو إله يخلق ، ومرة هو
آلة يخلق بها. ألا هذا هو الضلال المبين ، والخيال المنتن.
فصل
وبعد ذلك قال :
فمن تقبله منهم ، وآمن باسمه أعطاهم سلطانا أن يكونوا أولاد الله ، أولئك المؤمنون
باسمه ، الذين لم يتوالدوا من دم ولا من شهوة اللحم ، ولا باه رجل لكن توالدوا من
الله ، فالتحمت الكلمة ، والكلمة كانت بشرا ، وسكنت فيها ، رأينا عظمتها كعظمة ولد
الله.
قال أبو محمد : في
هذا الفصل من الكفر ما لو انهدت الجبال منه ، لكان غير نكير ، نسأل الله العافية.
أيها الناس :
تأملوا قول هذا النذل ، إن المؤمنين بالمسيح هم أولاد الله ، فالنصارى كلهم إذن
أولاد الله ، فأيّ ميزة للمسيح عليهم ، إذ هو ولد الله وهم أولاد الله؟ ثم انظروا
لقول هذا المستخف المستهزئ بالسفلة الذين قلدوا دينهم مثله : إن المؤمنين بالمسيح
لم يتوالدوا من دم ، ولا من شهوة اللحم ، ولا باه رجل ، ولكن توالدوا من الله هكذا
هم!!
أهكذا توالد «يوحنا»
من سبذاي وامرأته؟
ألا حياء من عظيم
المجاهرة بالباطل والكذب؟
فإن قالوا : هذا
مجاز. قلنا : في ما ذا؟ بل هو الكذب البحت البارد الأحمق ، وهذا نفسه قلتم عن
المسيح. فما الفرق بين القولين؟
ولعل ذلك أيضا
مجاز ، كما هذا مجاز ، فما رأينا أحمق من هؤلاء ، ولا أوقح من خدودهم.
ثم اعجبوا لقوله :
«فالتحمت الكلمة وسكنت فيها» فكيف تصير الكلمة لحما ، وقد قال : إنها هي الله ،
فالله إذا صار لحما ، وسكن في أولئك الأقذار. حسبنا الله ونعم الوكيل.
فصل
ثم قال إثر هذا : «إن
الله لم يره أحد ما عدا ما وصف عنه الولد الفرد الذي هو في حجر أبيه».
قال أبو محمد :
هذا عجب آخر ، قد قال آنفا : إن الكلمة هي الله ، وأنها التحمت ، وصارت لحما ،
وسكنت فيهم ، فالله عزوجل على قولهم : صار لحما وسكن فيهم. فكيف لم يره أحد؟
ثم قوله : «إلّا
ما وصف عنه الولد الفرد الذي هو في حجر أبيه».
فوجب من هذا : أن
الولد غير الأب لأن من المحال الممتنع أن يكون الله في حجر نفسه فصح ضرورة أن
الابن عندهم على نصوص الأناجيل هو غير الأب ، وهم لا يثبتون على هذا ، بل مرة هو
والأب عندهم شيء واحد. وكل هذا منصوص في أناجيلهم ، وكل قضية منها تكذب الأخرى ،
فكلها كذب بلا شك. ونعوذ بالله من الخذلان.
فصل
وفي الباب الأول
من إنجيل يوحنا إذ ذكر شهادة يحيى بن زكريا ـ عليهماالسلام ـ إذ بعث إليه
اليهود من «برشلام» ـ الكهنة واللاويين ، وكاشفوه عن نفسه. فأقرّ ولم يجحد وقال
لهم : لست أنا المسيح.
قالوا : أتراك
إلياس؟ قال : لا. قالوا : أفأنت نبي؟ قال : لا.
قال أبو محمد :
كيف يكون هذا مع قول المسيح في إنجيل متّى ومارقش كما أوردنا قبل : إن كل نبوّة
وكلّ كتاب فمنتهاها إلى يحيى. وقوله فيه : إنه أكثر من نبي ، فمرة هو نبي انتهت كل
نبوة إليه ، ومرة : هو أكثر من نبي ، ومرة يقول هو عن نفسه : إنه ليس نبيا.
فلا بدّ ضرورة من
الكذب في إحدى هذه الأقوال. وحاش لله أن يكذب المسيح ويحيى ـ عليهماالسلام ـ لكن كذب والله
النذلان متّى الشرطي ، ويوحنّا العيّار.
فصل
وبعده في الباب
نفسه قال : «ويوما آخر رأى يحيى المسيح مقبلا فقال : هذا خروف الله».
قال أبو محمد :
هذه طامّة أخرى ... بينما كان كلمة الله ، وابن الله ، وإلها يخلق صار خروف الله ـ
وحاش لله أن يضاف إليه خروف إلّا على سبيل الخلق والملك ، إنما يضاف الخروف إلى من
يتخذه للأكل أو الذبح ، أو لمن يربيه للفحلة ، أو لصبي يلعب به ويصبغه بالحناء.
وتعالى الله عن كل هذا.
فصح أنها من عمل
عيّار مستخف. ونعوذ بالله من الضلال.
فصل
وبعده بيسير في
الباب نفسه أن يحيى بن زكريا قال عن المسيح : «شهدت بأن هذا سليل الله».
قال أبو محمد :
شهدت أنا ، ونفسي ، وجسدي ، وعقلي بشهادة الله التامة أن هذه كذبة كذبها اللعين
يوحنا على رسول الله وابن رسوله يحيى بن زكريا عليهماالسلام ، وأن الله تعالى عن أن يكون له سليل.
وأعجب شيء نسبتهم
إلى يحيى عليهالسلام أنه قال في المسيح : هذا خروف الله ، هذا سليل الله ،
وإنما الخروف سليل الكبش والنعجة اللهم العن هؤلاء الأنتان فما سمعنا بأعظم
استخفافا بالله تعالى وبرسله ـ عليهمالسلام ـ منهم.
فصل
وفي الباب الثالث
من إنجيل يوحنا أن يحيى عليهالسلام قال عن المسيح : «قد رضي الأب عن الولد ، وبرئ إليه بجميع
الأشياء».
وفي الباب الخامس
من إنجيل يوحنا أيضا : «ولهذا كانت اليهود تريد قتله لأنه كان ليس يفسح عليهم سنّة
السبت فقط ، لكنه كان يدعي الله أبا ويسوّي نفسه به».
وبعده بيسير : أن
المسيح قال : كما يحيي الأب الموتى ويقيمهم كذلك يحيى
الابن من وافقه ،
وما يحكم الأب على أحد لأنه بريء بالحكم إلى سليله.
قال أبو محمد :
هذه الطامة أنست كل طامة سلفت ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ كيف ينطق لسان أحد
بهذا الكفر الفاحش الفظيع من أن الله تعالى قد اعتزل الحكم فلا يحكم على أحد لأنه
بريء بالحكم وبجميع الأشياء إلى ولده ـ حاشا لله من هذا ـ إنما عهدنا هذا من فعل
الملوك إذا شاخوا ، وضعفوا ، وأرادوا الانفراد براحاتهم ، وترتيب الأمر لأولادهم
لئلا ينازعهم الأمر بعدهم غيرهم ، فحينئذ يسلمون الأمر إليهم في الظاهر ، وأمّا في
باطن الأمر فلا.
هذا كفر ، ما
قدرنا أحدا ينطق به لسانه حتّى سمعناه من قبل هذا الكافر يوحنا ـ لعنه الله ـ
والحمد لله رب العالمين.
فصل
وبعده بيسير في
الباب الخامس من إنجيل يوحنا : أن المسيح قال : «فكما احتوى الأب الحياة في ذاته ،
كذلك ملك ولده الاحتواء على الحياة في ذاته ، وأعطاه سلطانا ، وملكه الحكومة
والسلطان والحياة ، كما هي للأب لأنه ابن الإنسان».
قال أبو محمد :
فهل سمع قط بأسخف من هذه العلة إذ أخبر أن من أجل أن المسيح هو ابن الإنسان ،
ساواه الله بنفسه ، وهذا كله يوجب أنه غير الله ، ولا بدّ ، لأن المعطي المملّك هو
غير المعطى ، بلا شك.
فصل
وبعده بيسير في
الباب نفسه : أن المسيح قال : «ولا أقوى أن أفعل من ذاتي شيئا ، لكن أحكم بما أسمع
، وحكمي عدل ، لأني لست أنفذ إرادتي إلّا إرادة أبي الذي بعثني ، فإن كنت أشهد
لنفسي فإنّ شهادتي غير مقبولة ، ولكن غيري يشهد لي.
وفي الباب السادس
من إنجيل يوحنا أيضا أن المسيح قال : إنما نزلت من السماء لأتم إرادة أبي الذي
بعثني ، لا إرادتي.
وفي الباب السابع
من إنجيل يوحنا أنه قال المسيح : «ليس علمي لي لكن للذي بعثني».
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل يوحنا أيضا : أن المسيح قال لهم : لو أحببتموني لفرحتم بمسيري إلى
الأب ، لأن الأب أكبر مني.
قال أبو محمد :
فهل في العبودية والتذلل بالحق لله تعالى أكثر من هذا؟
وكيف يجتمع هذا
الكلام مع الذي قبله بأسطار من أنه مساو لله ، وأن الله لا يحكم بعد على أحد ، لكن
تبرّأ بالحكم كله إلى ولده ، أما في هذه المناقضات السخيفة عبرة لمن اعتبر؟! ثم
عجب آخر قوله هاهنا : «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة».
ثم قال في آخر
الباب السابع من إنجيل يوحنا : «إن كنت شهدت لنفسي فشهادتي حق» فاعجبوا لهذا
الاختلاط.
وهكذا ذكر في
الباب السادس من إنجيل يوحنا : أن جماعة من تلاميذه لما سمعوا هذه الأقوال
المختلطة ارتدوا وفارقوه ، كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فصل
وفي الباب السادس
من إنجيل يوحنا : أنه لما أطعم الخمسة آلاف من خمس خبزات وحوتين فضل من شبعهم
اثنتا عشرة سلة من خبز. قالت الجماعة : هذا النبي حقا. فيا للعجب هلّا قالوا فيه
مثل هذا القول ولو مرة واحدة.
فصل
ثم ذكر في الباب
السادس المذكور أنه أتى بكلام كثير لا يعقل من جملته أنه قال لهم : «آمين أقول لكم
لئن لم تأكلوا لحم ابن الإنسان ، وتشربوا دمه لن تنالوا الحياة الدائمة فيكم ، فمن
أكل لحمي وشرب دمي ينال الحياة الدائمة ، وأنا أقيمه يوم القيامة ، فلحمي هو طعم
صادق ، ودمي شراب صادق ، فمن أكل لحمي وشرب دمي كان فيّ وكنت فيه».
ثم ذكر يوحنا أنه
قال جماعة من التلاميذ : هذا الكلام شاق ، ومن أجل ذلك ارتدّ جماعة من التلاميذ ،
وذهبوا عنه.
قال أبو محمد :
وهذا الكلام وسواس صحيح لا يقوله إلا مختلط ، وقد أعاذ الله نبيه منه.
فصل
وفي الباب السابع
من يوحنا : أن إخوة يسوع قالوا : اذهب إلى بلد يهوذا ، واخرج
من هاهنا لتعاين تلاميذك
عجائبك التي تطلع ، فليس يختفي أحد بفعل يريد أن يطلع عليه ، فإذا كنت تريد هذا
فأطلع على نفسك أهل الدنيا ، وكان إخوته لا يؤمنون به.
قال أبو محمد :
ففي هذا أنه كان يختفي بمعجزاته ، وهذا كما نرى.
فصل
وفي هذا الباب
السابع من إنجيل يوحنا : أنه أتي إلى المسيح بامرأة قد زنت ، فلم يوجب عليها شيئا
، وأطلقها.
قال أبو محمد :
وهو على خلاف هذا فقد زوروا المسيح ، وجوّروه ، أو فليشهدوا على أنفسهم بالجور
والظلم.
فصل
وفي آخر الباب
السابع من إنجيل يوحنا أن المسيح قال : «أنا لا أحكم على أحد ، وإن حكمت فحكمي عدل
، لأني لست وحيدا لكني أنا وأبي الذي بعثني. وفي توراتكم : أن شهادة رجلين مقبولة
، وأنا أؤدي الشهادة عن نفسي ، ويشهد لي الذي بعثني».
قال أبو محمد :
ليت شعري!! كيف يجتمع هذا الفصل مع الذي أوردنا في الباب الثالث من إنجيل يوحنا
أيضا ..؟ من أن الله تعالى لا يحكم بعد على أحد لأنه قد برئ بالحكم كله إلى ولده
المسيح.
فصل
وفي الباب الثامن
من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لهم : أنا رجل أديت إليكم الحق الذي سمعته عن الله.
فهذا إقراره بأنه
رجل يؤدي ما سمع فقط. مع استشهادهم في الباب الثاني عشر من إنجيل متّى بقول أشعيا
النبي في المسيح : إن الله تعالى قال فيه : «هذا غلامي المصطفى ، وحبيبي الذي
تخيرت» ، فصح أنه نبي من الأنبياء ، وعبد الله.
فصل
وفي الباب التاسع
من إنجيل يوحنا ، أن اليهود قالوا للمسيح : لسنا نرجمك لعمل صالح إلّا للشتيمة ،
ولا لادّعائك الربوبية ، وأنت إنسان.
فقال لهم المسيح :
أما قد كنت في كتابكم الزبور حيث يقول : أنا قلت : أنتم آلهة ، وبنو العلي كلكم ،
فإن كان اسمي : الله الذي كلمهم آلهة ـ ولا سبيل إلى تحريف الكتاب ولا تبديله ـ
فلم تقولون فيمن بارك الله عظيم ، وبعثه إلى الدنيا إنه شتم. إذا قلت إني ابن الله
، إني كنت لا أفعل أفعال أبي فلا تصدقوني ، إلى قوله : لتعلموا أني الأب ، والأب
مني.
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل يوحنا : أن فيلتش الحواري قال للمسيح : يا سيدنا أرنا الأب ،
ويكفينا. فقال له المسيح : طول هذا الزمان كنت فيكم ولا تعرفوني ، من رآني فقد رأى
الأب ، فكيف تقول أنت : أرنا الأب؟ أليس تؤمن أنّي أنا في الأب ، وأن الأب هو فيّ؟
فكيف هذا ..؟!! مع قول يوحنا الذي ذكرنا في أول إنجيله إن الأب لم يره أحد قط.
فصل
وفي الباب الحادي
عشر من إنجيل يوحنا المذكور أن المسيح قال لتلاميذه : أنا في أبي وأنتم فيّ ، وأنا
فيكم.
قال أبو محمد :
إذا كان هو الأب ، والأب فيه ، وهو في التلاميذ ، والتلاميذ فيه فالأب في التلاميذ
، والتلاميذ في الأب ضرورة. فأيّ مزية له عليهم ، وهل هو وهم إلا سواء في كونه
وكونهم في الله ، وكون الله فيهم وفيه؟
ثم هذا الكلام لا
يعقل ولا يفهم منه إلا الاستخفاف والكفر فقط ، لأنه إذا كان فيهم بذاته فقد صاروا
له مكانا ، وصار تعالى محدودا ، وهذه صفة المحدث ، فإن كان فيهم بتدبيره فهكذا
يدبر في كل حي وميت ، وكل جماد ، وكل عرض. ولا فرق. ولا فضيلة في هذا أصلا إلّا
الضلال.
فصل
وفي الباب الثاني
عشر من إنجيل يوحنا أن المسيح قال لهم : لست أسميكم بعد عبيدا لأن العبد لا يدري
ما يصنع سيده ، وقد سميتكم إخوانا.
ففي أحد هذين
الفصلين : أن التلاميذ قد عتقوا من عبودية الباري عزوجل ، وأنهم إخوانه ، وهو خرج من الله ، ومنه انبثق ، فهم كذلك
أيضا فأيّ مزية له عليهم؟ مع سخف هذا الكلام ، وأنه لا يدرى لهذا الانبثاق معنى
أصلا ، والانبثاق لا يكون إلّا من الأجسام ضرورة.
فصل
وفي الباب الثالث
عشر من إنجيل يوحنا في أوله : أن المسيح قال رافعا عينيه إلى السماء : «يا أبتاه
قد آن الوقت فشرّف ولدك لكيما يشرفك ولدك».
وبعده بيسير : أن
المسيح قال لله : أنا شرفتك على الأرض.
قال أبو محمد :
هذه مصيبة الدهر لم يقنعوا للمسيح ببنوّة الله حتى وصفوه بمساواته لله تعالى ، ثم
لم يقنعوا بمساواته لله حتى قالوا : إن الله تعالى قد انعزل له عن الحكم ، وليس
يحكم على أحد ، وأنه قد برئ بالملك والحكم كله إلى المسيح ، ثم لم يقنعوا له بالعزلة
والخمول حتى جعلوا المسيح يشرف الله تعالى.
يا للناس!! هل
سمعتم بأعظم من هذا الكفر؟ والله والله قطعا ما قال هذا الكلام قط مؤمن بالله
تعالى أصلا ، وما كانوا إلّا دهرية مستخفين رقعاء ، فعليهم أضعاف كل لعنة لعنها
الله تعالى سواهم من الكفرة.
قال أبو محمد : في
إنجيل يوحنا : «أنّ المسيح قال : أنا أميت نفسي ، وأنا أحييها» ، فليت شعري!! كيف
يمكن أن يحيي نفسه وهو ميت؟
قال أبو محمد :
فهذه سبعون فصلا في أناجيلهم من كذب بحت ، ومناقضة لا حيلة فيها. ومنها فصول يجمع
الفصل منها ثلاث كذبات فأقل أو أكثر ، على قلّة مقدار أناجيلهم. وجملة أمرهم في
المسيح ـ عليهالسلام ـ أنه مرة بنص
أناجيلهم : ابن الله ، ومرة هو ابن يوسف ، وابن داود ، وابن الإنسان ، ومرة هو إله
يخلق ويرزق ، ومرة هو : خروف الله ، ومرة هو في الله ، والله فيه ، ومرة هو في
تلاميذه ، وهم فيه ، ومرة : هو علم لله وقدرته ، ومرة لا يحكم على أحد ، ولا تنفذ
إرادته ، ومرة هو : نبي وغلام. ومرة أسلمه الله إلى أعدائه. ومرة قد انعزل الله له
عن الملك ، وتولّاه هو ، وصار يشرف الله تعالى ، ويعطي مفاتيح السماوات ، ومرة
يولي أصحابه خطة التحريم والتحليل في السماوات والأرض. ومرة يجوع ويطلب ما يأكل ،
ويعطش ويشرب ويعرق من الخوف ، ويلعن الشجرة إذا لم يجد فيها تينا يأكله ، ويفشل
فيركب حمارة ، ويؤخذ ويلطم وجهه ، ويضرب رأسه بالقصبة ، ويبزق في وجهه ، ويضرب
ظهره بالسياط ، وتمر به الشرط ، ويتهكمون به ، ويسقى الخل في الحنظل ، ويصلب بين
سارقين ، وتسمّر يداه ، ومات في الساقة ودفن ثم يحيا بعد الموت ، ولم يكن له هم إذ
حيي بعد الموت واجتمع بأصحابه إلا طلب ما يأكل فأطعموه الحوت المشوي ، وسقوه العسل
، ثم انطلق إلى شغله.
هذا كله نص
أناجيلهم ، وهم قد اقتصروا في دينهم من كل هذا على أنه إله معبود فقط ، وهم يأنفون
من إله مع الله. وأناجيلهم وأمانتهم توجب أن المسيح إله آخر غير الله ، بل يقعد عن
يمين الله ، وأنه أكبر منه ، وهو يخلق كما يخلق ، ويحيي كما يحيي ، فبالضرورة توجب
أنهم قائلون بإلهين ولا بدّ متغايرين.
ذكر بعض ما في كتبهم غير الأناجيل من
الكذب والكفر والهوس
قال أبو محمد :
قال يوحنا بن سبذاي في إحدى رسائله الثلاث : يا أحبابي! نحن الآن أولاد الله ، ولم
يظهر بعد ما نحن كائنون ، وقد نعلم أنه إذا ظهر سنكون أمثالا له ، لأننا نراه كما
هو.
قال أبو محمد : أفي
الكفر أعظم من قول هذا الكذب؟ إنهم أولاد الله ، وإنهم سيكونون مثل الله إذا ظهر.
وقال اللعين في كتاب الوحي والإعلان : «إنه رأى الله عزوجل شيخا أبيض الرأس واللحية ، ورجلاه من لاطون ، والمسيح يقرأ
بين يديه في كتاب من ذهب والملائكة يقولون : هذا خروف الرب ، والأسواق قائمة بين
يديه ، القمح كذا وكذا قفيزا بدينار ، والشعير كذا وكذا قفيزا بدينار ، والخمر كذا
وكذا قسطا بدينار ، والزيت كذا وكذا قسطا بدينار. فهل هذا إلّا هزل وعيارة ،
وتماجن وتطايب.
وقال شمعون في
إحدى رسالتيه : «يومئذ يأتي الربّ كمجيء اللص» ، فلعمري!! لقد شبه ربّه تشبيها هو
أولى به ، ولا مئونة على هذين الكلبين ، وعلى يهوذا ويعقوب اللعينين في رسائلهم
الفارغة من كل خير ، الباردة المملوءة من كل كفر وهوس أن يقولوا : «قال الله والد
ربنا المسيح ، وفعل الله والد سيدنا المسيح» ، كأنهم والله إنما يخبرون عن نسب من
الأنساب وولادة من الولادات.
وقال بولس اللعين
في إحدى رسائله ـ وهي التي إلى أهل غلاذية في الباب السادس منها : «نشهد لكل إنسان
يختتن أنه يلزمه أن يحفظ شرائع التوراة». وقال أيضا قبل ذلك : «إن اختتنتم فإن
المسيح لا ينفعكم».
فاعجبوا لهذه ،
واعلموا أنه قد ألزمهم دينين ، أما من كان مختونا فإن شرائع التوراة كلها تلزمه
ولا ينفعه المسيح. وأما من كان غير مختون فالمسيح ينفعه ولا تلزمه شرائع التوراة.
وهو النذل وسائر التلاميذ كانوا بإجماع من النصارى مختونين كلهم ، فوجب أن المسيح
لا ينفعهم ، وأن شرائع اليهود في التوراة كلها لهم لازمة ، وأكثر من بين أظهر
المسلمين منهم اليوم مختونون ، فإن كان بولس صادقا فإن المسيح لا ينفعهم
وإن شرائع التوراة
كلها لازمة لهم. وإن كان كاذبا في ذلك فكيف يأخذون دينهم عن كذاب؟ ولا بدّ من
أحدهما.
وقال أيضا في إحدى
رسائله : «إن يوحنا بن سبذاي ، ويعقوب بن يوسف النجار ، وباطرة : أمروه أن يكون هو
يدعو إلى ترك الختان ، ويكونون هم يدعون إلى الختان.
قال أبو محمد :
هذا غير طريق التحقيق في الدعاء إلى الدين ، وإنما هي دعوة حيلة وإضلال مبينة لا
حقيقة لها.
وقال بولس : إن
يعقوب بن يوسف النجار كان مرائيا يتحفظ من مداخلة الأجناس بحضرة اليهود ، وأن بولش
واجهه بذلك بأنطاكية وعنفه على ذلك.
أفيجوز أخذ الدين
من امرئ مدلس؟
وقال هذا اللعين
بولش أيضا في إحدى رسائله : «إن يسوع بينما كان في صورة الله لم يغتنم أن يكون
مساويا لله ، بل أذل نفسه ولبس صورة عبد».
قال أبو محمد :
فهل سمع قط بأوحش من هذا الكفر؟ أو أحمق من هذا الكلام؟
أو أسخف من هذا
الاختيار؟ وهل يتذلل الإنسان ، ويحمل كلّ بلاء في الدنيا إلّا ليصل إلى رضا الله عزوجل فقط؟
فليت شعري!! هل
بعد الوصول إلى مساواة الله تعالى عند هؤلاء الأقذار منزلة تبتغى فيرفضها المسيح
لينال أعلى منها؟
اللهم قد ذكرنا
تلك المنزلة ، وهي التي وصفها يوحنا اللعين في إنجيله : من أن الله تعالى عن كفرهم
ـ اعتزل عن الملك والحكم وتولّاهما المسيح ، وتبرّأ إليه بكل شيء. ثم إن المسيح
شرفه تعالى عن ذلك ـ اللهم العن ـ وقد فعلت ـ عقولا يجوز منها هذا الحمق.
وقال هذا النذل في
بعض رسائله : «إنّي كنت أتمنى أن أكون محروما من المسيح».
قال أبو محمد :
ليت شعري من ضغطه؟ وما المانع له من أن يكفر بالمسيح فيبلغ مناه ويصير محروما منه
..؟ وو الله إنه لمحروم منه بلا شك.
وقال هذا النذل
بولس أيضا في بعض رسائله الخسيسة : اليهود يطلبون الآيات واليونانيون يطلبون
الحكمة ، ونحن نشرع أن المسيح صلب.
وهذا القول عند
اليهود فتنة الزلق ، وعند الأجناس جهل ونقص. وعند المجتبين
من اليهود
واليونانين : أن المسيح علم الله وقدرته ، لأن ما كان جهلا عند الله هو أحكم ما
يكون عند الناس ، وما هو ضعيف عند الله هو أقوى ما يكون عند الناس.
قال أبو محمد : فهل
في بيان قحة هذا النذل وسخريته بمن اتبعه ، وتحقيق ما تدعيه اليهود : أن أسلافهم
دسّوا هذا النذل بولش لإضلال أتباع المسيح عليهالسلام ـ أكثر من هذا
الكلام في إبطاله الآيات والحكم؟!
إن أحكم ما يكون
عند الناس هو الجهل عند الله فمحصول كلامه : اتركوا العقل وموجبه ، واطلبوا الحمق
وتدينوا به. نعوذ بالله مما ابتلاهم به.
وقال بولس أيضا في
بعض رسائله : إنه لا تبقى دعوة كاذبة في الدين أكثر من ثلاثين سنة.
قال أبو محمد : هو
عندهم ـ لعنه الله ـ أصدق من موسى بن عمران عليهالسلام فإن كان صدق هاهنا فما يحتاج معهم إلى برهان في صحة دين
الإسلام ، ونبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ سوى هذا ، فإن
لهذه الدعوة أربعمائة عام ونيفا وخمسين عاما ظاهرة ، والحمد لله رب العالمين ،
فيلزمهم أن يرجعوا إلى الحمق ، أو يكذبوا بولس بشيرهم.
وقال بعض من
يعظمونه من أسلافهم ، وهو يوحنا فم الذهب ، بطريارك القسطنطينية ، في كتاب له
معروف عندهم : إن الشجرة التي منها آدم ، وبسببها أخرج من الجنة كانت شجرة تين ،
وإن الله أنزل تلك الشجرة بعينها إلى الأرض ، وهي التي دعا المسيح عليها فيبست ،
إذ طلب فيها تينا يأكله فلم يجد ، وهي نفسها الخشبة التي صلب عليها قال : وبرهان
ذلك أنك لا تجد غارا إلّا وعلى فمه شجرة تين نابتة.
فاعجبوا لهذا
الهزل والعبارة والمجون ، والبرهان البديع. واعلموا أنهم بأجمعهم متفقون على أن
يصوروا في كنائسهم صورة يقولون : هي صورة البارى عزوجل ، وأخرى صورة المسيح ، وأخرى صورة مريم ، وصورة باطرة ، وصورة
بولش ، والصليب ، وصورة جبريل ، وصورة ميكائيل وصورة إسرافيل ، ثم يسجدون للصور
سجود عبادة ، ويصومون لها تدينا. وهذا هو عبادة الأوثان بلا شك والشرك المحض ، وهم
ينكرون عبادة الأوثان ثم يعبدونها علانية ، وحجتهم في هذا حجة عباد الأوثان أنفسهم
، وهي أنهم يتقربون بذلك إلى أصحاب تلك الصور ، لا إلى الصور بأعيانها. واعلموا
أنهم لم يزالوا بعد المسيح بأزيد من مائة عام يصومون في شهر كانون الآخر إثر عيد
الحجيج ، أربعين يوما متصلة ثم يفطرون ثم يعيدون الفصح مع اليهود اقتداء بالمسيح ،
إلى أن أبطل ذلك عليهم خمسة من البطاركة اجتمعوا على ذلك ونقلوا صيامهم وفصحهم إلى
ما هم عليه اليوم
، فكيف ترون هذا الدين ولعب أهله به ، وحكمهم بأن ما مضى عليه المسيح والحواريون
ضلال وكفر ..؟ ولا يختلفون أصلا في أن شرائعهم كلها إنما هي من عمل أساقفتهم
وملوكهم علانية. فهل تطيب نفس من به مسكة عقل على أن يبقى ساعة على دين هذه صفته؟
فكيف يلقى الله على دين يقرّ بلسانه ويعلم بقلبه أنه ليس من عند الله تعالى ، ولا
مما أتى به نبي ، ونعوذ بالله من الضلال.
ومن عظيم هوسهم
قولهم كلهم : إن المسيح أتى ليأخذ بجراحه آلامنا وبكلومه ذنوبنا ، وهذا كلام في
غاية السّخف!! ليت شعري أي ألم أخذ بجراحه أم كيف تؤخذ ذنوب الناس بكلوم المسيح؟!
وما نراهم إلا يألمون ويذنبون كما يألم غيرهم ولا فرق.
ومن فضائحهم
دعواهم أن إهلاني والدة قسطنطين أول من تنصر من ملوك الروم ، وذلك بعد أزيد من
ثلاثمائة سنة من رفع المسيح ، وجدت الخشبة التي صلب فيها المسيح والشوك الذي جعل
على رأسه ، والدم الذي طار من جنبه ، والمسامير التي ضربت في يديه. فليت شعري أين
وجد هذا السخام كله ..؟ وأهل ذلك اللعين كلهم مطرودون مقتولون حيث وجدوا ،
والمدينة خربة أزيد من مائتي عام لا أنيس فيها ، ثم من لهم بأنها تلك ..؟ وأين بقي
أثر الدم والمسامير والشوك والخشبة تلك المدة العظيمة ، في البلاد الخالية المقفرة؟
ولا شك في أنه إذ صلب ـ كما يقولون ـ كان أصحابه مختفين وأعداؤه لا يلتفتون إلى
أمره ، أيكون في السخف أعظم من هذا؟! وما عقولهم إلا عقول من يصدق بالأغرقون ،
والعنقاء ، وبكل ما لا يمكن.
واعلموا أن كل ما
يدعونه لباطرة ويوحنا ومارقش وبولش من المعجزات فإنها أكذوبات موضوعة ، لأن هؤلاء
الأربعة لم يكونوا قط مذ رفع المسيح عليهالسلام ، ومذ تنصر بولش إلا مطلوبين ، مشردين ، مضروبين ،
كالزنادقة مستترين.
وقد ذكر بولش عن
نفسه أن اليهود ضربوه خمس مرات بالقضبان ، كل مرة تسعا وثلاثين جلدة ، وأنه رجم
بالحجارة في جمع عظيم ، وتدلى من سور دمشق في قفة خوف القتل ، ومع ذلك تظاهروا
بدين اليهود إلى أن صلبوا أو قتلوا إلى لعنة الله ، ولا يجوز أن تصحّ معجزة إلا
بنقل كافة من مثلها ممن شاهد ذلك ظاهرا ، ولكن دعوى النصارى ذلك لمن ذكرنا أو
لغيرهم من أسلافهم معجزة كدعوى المنّانيّة لماني سواء بسواء ، فإنه لم يزل مستترا
إلا شهورا يسيرة ، إذ اختدعه «بهرام بن بهرام الملك»
__________________
حتى ظفر به
وبأصحابه فقتلهم كلهم. وكدعوى اليهود لأحبارهم السالفين ، ولرءوس المثايب المعجزات
بالصناعات ، وكدعوى أصحاب الحلاج للحلاج ، وكدعوى طوائف من المسلمين مثل ذلك من
المعجزات لشيبان الراعي ، ولإبراهيم بن أدهم ، ولأبي مسلم الخولاني ولعبد الله بن
المبارك .. رحمة الله عليهم وعلى غيرهم من الصالحين ، وكل ذلك كذب وتوليد من لا
خير فيهم ، وإحالة على أشياء مغيبة لا يعجز عن ادعاء مثلها أحد ، وكل طائفة ممن
ذكرنا تعارض دعواها بدعوى سائر الطوائف ، ولا سبيل إلى الفرق بين شيء من هذه
الدعاوى.
وقد قلنا لا يمكن
البتة وجود معجزة إلا لنبي فقط ، ثم لا تصلح إلا بنقل يقطع العذر ، ويوجب العلم
للكافر والمؤمن ، إلا من كابر حسّه وغالط نفسه ، وقال هذا سحر فقط ، وكذلك ما اغتر
به كثير من جهالهم مما رأوا من عظيم اجتهاد رهبانهم ، أصحاب الصوامع والدّيرات
والمطموس عليهم أبواب البيوت ، فليعلموا أنه ليس عندهم من الاجتهاد في العبادة إلا
جزء من أجزاء كثيرة مما عند المنانية ، وشدة اجتهادهم ، والذي عند الصّابئين من
ذلك أعظم ، فإنه يبلغ الأمر بهم إلى أن يخصي الواحد نفسه ، ويسمل عيني نفسه ،
اجتهادا في العبادة.
والذي عند الهند
أكثر من هذا كله فإنهم لا يزالون يحرقون أنفسهم في النار تقرّبا إلى البدّ ولا يزالون يرمون أنفسهم من أعالي الجبال كذلك ، فأين
اجتهاد من اجتهاد؟ وعبّاد الهند لا يمشون إلا عراة ، ولا يلتبسون من الدنيا بشيء
أصلا ، فأين هذا من هذا لو عقلوا؟! وإن شئت فتأمل أساقفة النصارى وقسيسيهم وحثالتهم
تجدهم جملة أفسق الخلق ، وأرياهم وأجمعهم للمال ، لا سبيل أن تجد منهم واحدا بخلاف هذا ،
وكذلك إن اعتبروا بصبر أوائلهم للقتل على دينهم ، حتى عملوا لهم الشائنات إلى
اليوم ، فإن ذلك لا يتحرى من صبر المنّانية على القتل في الثبات على دينهم ، ومن
صبر دعاة القرامطة على القتل أيضا ، وكل هذا لا يتعلق به إلا جاهل سخيف ، مقلد
متهالك ، وإنما الحق فيما أوجبته براهين العقول ، والتي وضعها الله تعالى فينا
لتمييز الحق من الباطل ، ونبا بها عن البهائم فقط ، ثم في الاعتدال والاقتصار على
ما جاء به صاحب الشريعة ، التي قام البرهان بصحتها عن الله تعالى ، وجماع ذلك ما
جرى عليه أصحاب
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حياته وبعده عليهالسلام.
وقال أبو محمد :
وبقي لهما اعتراضان نذكرهما إن شاء الله تعالى.
أحدهما : أن قالوا
قال الله عزوجل في كتابكم ، حكاية عن المسيح عليهالسلام ، أنه قال : (مَنْ أَنْصارِي إِلَى
اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ
فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) [سورة الصف : ١٤].
وقال تعالى أيضا
مخاطبا للمسيح عليهالسلام : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ
وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ
اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [سورة آل عمران :
٥٥].
قلنا : نعم هذا
خبر حق ، ووعد صدق ، وإنما أخبر تعالى عن المؤمنين ولم يسمهم ، ولا شك في أن من ثبت
عليه الكذب من «باطرة» و «متّى» و «يوحنا» و «يعقوب» ليسوا منهم لكنهم من الكفار
المدعين له الربوبية كذبا وكفرا ، وأمّا الموعودون بالنصر إلى يوم القيامة ،
المؤمنون بالمسيح عليهالسلام ، فهم نحن المسلمين المؤمنين به حقا وبنبوّته ورسالته ، لا
من كفر به وقال إنه كذّاب ، أو قال إنه إله أو ابن الله ـ تعالى الله عن ذلك ـ.
والثاني : أنهم
قالوا : إن في كتابكم : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [سورة الفجر : ٢٢].
وفيه (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة :
٢١٠].
فهلا قلتم فيما في
التوراة والإنجيل كما تقولون فيما في كتابكم؟
قلنا : بين
الأمرين فرق بيّن كما بين قطبي الفلك ، وذلك أن الذي في القرآن ظاهر لا يحتاج فيه
إلى تأويل ، فمعنى «وجاء ربك» و «يأتيهم الله» هو أمر معلوم في اللغة التي بها نزل
القرآن ، مشهور فيها تقول : جاء الملك وأتانا الملك ، وإنما أتى جيشه وسطوته وأمره
، فليس فيما تلوتم أمر ينكر ، وليس كذلك ما كتب في توراتكم وأناجيلكم ، من التكاذب
والتناقض ، والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
واعترضوا أيضا بأن قالوا : كيف تحققون نقلكم لكتابكم وأنتم مختلفون أشد خلاف في
قراءتكم له ...؟ وبعضكم يزيد حروفا كثيرة وبعضكم يسقطها ...؟ فهذا باب. وأيضا :
فإنكم تروون بأسانيد عندكم في غاية الصحة ، أن طوائف نبيكم عليهالسلام ومن تابعيهم الذين تعظمون وتأخذون دينكم عنهم قرءوا
القرآن بألفاظ
زائدة ومبدّلة ، لا تستحلّون أنتم القراءة بها ، وأن مصحف عبد الله بن مسعود خلاف
مصحفكم ، وأيضا فإن طوائف من علمائكم الذين تعظمون وتأخذون دينكم عنهم يقولون إن
عثمان بن عفان رضي الله عنه أبطل قراءات كثيرة صحيحة ، وأسقطها إذ كتب المصحف الذي
جمعكم عليه ، وعلى حرف واحد من الأحرف السبعة ، التي بها نزل القرآن عندكم ، وأيضا
فإن الروافض يزعمون أن أصحاب نبيكم بدّلوا القرآن ، وأسقطوا منه ، وزادوا فيه؟
قال أبو محمد : كل
هذا لا متعلق لهم بشيء منه على ما نبين بما لا إشكال فيه عند أحد وبالله تعالى
التوفيق.
وأما قولهم : إننا
مختلفون في قراءة كتابنا فبعضنا يزيد حروفا وبعضنا يسقطها ، فليس هذا اختلافا بل
هو اتفاق منّا صحيح ، لأن تلك الحروف وتلك القراءات كلها مبلغ بنقل الكواف إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنها نزلت كلها عليه ، فأيّ تلك القراءات قرأنا فهي قراءة
صحيحة ، وهي محصورة كلها مضبوطة معلومة لا زيادة فيها ولا نقص ، فبطل التعلق بهذا
الفصل ولله تعالى الحمد.
وأمّا قوله : إنه
قد روي بأسانيد صحاح عن طائفة من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومن التابعين الذين نعظم ونأخذ ديننا عنهم ، أنهم قرءوا
في القرآن قراءات لا نستحل نحن القراءة بها ، فهذا حق ونحن وإن بلغنا الغاية في
تعظيم أصحاب نبينا صلىاللهعليهوسلم ورضوان الله عليهم ، وتقرّبنا إلى الله عزوجل بمحبتهم فلسنا نبعد عنهم الوهم والخطأ ، ولا نقلدهم في شيء
مما قالوه ، وإنما نأخذ عنهم ما أخبرونا به عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، مما هو عندهم بالمشاهدة والسماع ، لما ثبت من عدالتهم
وثقتهم وصدقهم.
وأما عصمتهم من
الخطأ فيما قالوا برأي أو بظن فلا نقول بذلك ، ولو أنكم أنتم فعلتم كذلك بأحباركم
وأساقفتكم الذين بينكم وبين الأنبياء عليهمالسلام ما عنفناكم ، بل كنتم على صواب وهدى ، متبعين للحق المنزل
، مجانبين للخطأ المهمل ، لكن لما لما تفعلوا هكذا بل قلدتموهم في كل ما شرعوه لكم
هلكتم في الدنيا والآخرة ، وتلك القراءات التي ذكرتم إنما هي موقوفة على الصاحب أو
التابع ، فهي ضرورة وهم من الصاحب ، والوهم لا يعرّى منه أحد بعد الأنبياء عليهمالسلام. أو وهم ممن دونه في ذلك.
وأما قولهم : إن
مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه خلاف مصحفنا ، فباطل وكذب وإفك ، مصحف عبد
الله بن مسعود إنما فيه قراءته بلا شك ، وقراءته هي
قراءة عاصم
المشهورة عند جميع أهل الإسلام ، في شرق الأرض وغربها ، نقرأ بها كما ذكرنا كما
نقرأ بغيرها ، مما صح أنه كل منزل من عند الله تعالى ، فبطل تعلقهم بهذا والحمد
لله رب العالمين.
وأما قولهم : إن
طائفة من علمائنا الذين أخذنا ديننا عنهم ، ذكروا أن عثمان بن عفان رضي الله عنه
إذ كتب المصحف الذي جميع الناس عليه أسقط ستة أحرف من الأحرف المنزلة واقتصر على
حرف منها ، فهو مما قلنا. وهو ظن ظنّه ذلك القائل أخطأ فيه وليس كما قال ، بل كل
هذا باطل ببرهان كالشمس ، وهو أن عثمان رضي الله عنه لم يل إلا وجزيرة العرب كلها
مملوءة بالمسلمين ، والمصاحف والمساجد والقراء يعلّمون الصبيان والنساء ، وكل من
دب وهب. واليمن كلها ، وهي في أيامه مدن وقرى ، والبحرين كذلك ، وعمان كذلك ، وهي
بلاد واسعة مدن وقرى وملكها عظيم ، ومكة والطائف ، والمدينة والشام ، كلها كذلك ،
والجزيرة كلها كذلك ومصر كلها كذلك ، والكوفة والبصرة كذلك ، في كل هذه البلاد من
المصاحف والقراء ما لا يحصي عددهم إلا الله تعالى وحده ، فلو رام عثمان ما ذكروا
ما قدر على ذلك أصلا.
وأما قولهم : إنه
جمع الناس على مصحف فباطل ، ما كان يقدر على ذلك لما ذكرنا ، ولا ذهب عثمان قط إلى
جمع الناس على مصحف كتبه ، إنما خشي عثمان رضي الله عنه أن يأتي فاسق يسعى في كيد
الدّين ، وأن يهمّ واهم من أهل الخير فيبدل شيئا من المصحف عمدا ، وهذا وهم فيكون
اختلاف يؤدي إلى الضلال ، فكتب مصاحف مجمعا عليها ، وبعث إلى كل أفق مصحفا ، لكي
إن وهم واهم ، أو بدّل مبدل رجع إلى المصحف المجتمع عليه ، فانكشف الحقّ وبطل
الكيد والوهم.
وأما قول من قال
أبطل الأحرف الستة فقد كذب من قال ذلك ، ولو فعل عثمان ذلك وأراده لخرج عن الإسلام
، ولما مطل ساعة. بل الأحرف السبعة عندنا موجودة كلها قائمة ، كما كانت مثبوتة في
القراءات المشهورة والمأثورة ، والحمد لله رب العالمين.
وأما قولهم في
دعوى الروافض تبديل القرآن ، فإن الروافض ليسوا من المسلمين ، إنما هي فرقة حدث
أولها بعد موت رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخمس وعشرين سنة ، وكان مبدؤها إجابة ممن خذله الله تعالى
لدعوة من كاد الإسلام ، وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر ،
وهي طوائف أشدهم غلوا يقولون بإلاهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وإلاهية
جماعة معه. وأقلهم غلوا يقولون : بأن الشمس ردت على
علي بن أبي طالب
مرتين ، فقوم هذا أقل مراتبهم في الكذب أيستشنع منهم كذب يأتون به ..؟ وكل من لم
يزجره عن الكذب ديانته أو نزاهة نفس أمكنه أن يكذب ما شاء ، وكل دعوى بلا برهان
فليس يشتغل بها عاقل ، سواء كانت له أو عليه ، ونحن إن شاء الله تعالى نأتي
بالبرهان الواضح الفاضح لكذب الروافض ، فيما افتعلوه من ذلك.
قال أبو محمد :
مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب ، من منقطع
البحر المعروف ببحر القلزم ، مارا إلى سواحل اليمن كلها ، إلى بحر فارس إلى منقطعه
مارا إلى الفرات ، ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام ، إلى بحر القلزم.
وفي هذه الجزيرة
من المدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله عزوجل ، كاليمن والبحرين ، وعمان ونجد ، وجبلي طيئ ، وبلاد مضر
وربيعة ، وقضاعة والطائف ، ومكة كلهم قد أسلم وبنوا المساجد ، ليس منها مدينة ولا
قرية ولا حلة لأعراب إلا قد قرئ فيها القرآن في الصلوات ، وعلمه الصبيان والرجال
والنساء ، وكتب. ومات عليهالسلام ، والمسلمون كذلك ، ليس بينهم اختلاف في شيء أصلا ، بل
كلهم أمة واحدة ، ودين واحد ، ومقالة واحدة ، ثم ولي أبو بكر رضي الله عنه عنه
سنتين وستة أشهر ، فغزا فارس والروم ، وفتح اليمامة وزادت قراءة الناس للقرآن ،
وجمع الناس المصاحف كأبي بكر ، وعمر وعثمان وعلي وزيد ، وأبي زيد وابن مسعود ،
وسائر الناس في البلاد ، فلم يبق بلد إلّا وفيه المصاحف.
ثم مات رضي الله
عنه والمسلمون كما كانوا لا اختلاف بينهم في شيء أصلا ، أمة واحدة ، ومقالة واحدة
، إلا ما حدث في آخر حياة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأول ولاية أبي بكر رضي الله عنه ، من ظهور الأسود
العنسي في جهة صنعاء ، ومسليمة في اليمامة ، يدعيان النبوة ، وهما في ذلك مقران
بنبوة محمد صلىاللهعليهوسلم معلنان بذلك ، وقد انقسم العرب ومن باليمن وغيرهم أربعة
أقسام ، إثر موته عليهالسلام ، فطائفة ثبتت على ما كانت عليه من الإسلام لم تبدّل شيئا
، ولزمت طاعة أبي بكر رضي الله عنه وهم الجمهور والأكثر.
وطائفة بقيت على
الإسلام أيضا ، إلا أنهم قالوا : نقيم الصلاة وشرائع الإسلام ، إلا أننا لا نؤدي
الزكاة إلى أبي بكر ، ولا نعطي طاعة لأحد بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان هؤلاء كثيرا إلا أنهم دون من ثبت على الطاعة ،
ويبين هذا قول الحطيئة العبسي :
__________________
أطعنا رسول الله
إذ كان نبيا
|
|
فيا لهفا ما بال
دين أبي بكر
|
أيورثها بكرا
إذا مات بعده
|
|
فتلك لعمرو الله
قاصمة الظهر
|
وإن التي طالبتم
فمنعتم
|
|
لكالتمر أو أحلى
لديّ من التمر
|
يعني الزكاة ثم
ذكر القبائل الثابتة على الطاعة فقال :
فباست بني سعد
وأستاه طيئ
|
|
وباست بني دودان
حاشى بني نضر
|
قال أبو محمد :
لكن والله بأستاه بني نضر ، وباست الحطيئة ، حلت الدائرة والحمد لله رب العالمين.
وطائفة ثالثة
أعلنت الكفر والردة ، كأصحاب طليحة وسجاح ، وسائر من ارتد ، وهم قليل بالإضافة إلى من ذكرنا ، إلا
أن في كل قبيلة من المؤمنين من يقاوم المرتدين ، فقد كان باليمامة ثمامة بن أثال
الحنفي ، في طوائف مسلمين ، محاربين لمسيلمة ، وفي قوم الأسود أيضا كذلك ، وفي بني
تميم ، وبني أسد الجمهور من المسلمين ، وطائفة رابعة توقفت فلم تدخل في أحد من
الطوائف المذكورة ، وبقوا يتربّصون لمن تكون الغلبة كمالك بن نويرة وغيره ، فأخرج
أبو بكر رضي الله عنه إليهم البعوث فقتل مسيلمة ، وقد كان فيروز وذادوند الفارسيّان الفاضلان رضي الله عنهما قتلا «الأسود العنسي»
فلم يمض عام واحد حتّى راجع الجميع الإسلام ، أوّلهم عن آخرهم ، وأسلمت سجاح
وطليحة وغيرهم ، وإنما كانت نزغة من الشيطان كنار اشتعلت فأطفأها الله تعالى للوقت
، ثم مات أبو بكر وولي عمر رضي الله عنهما ، ففتحت بلاد فارس طولا وعرضا ، وفتحت
الشام كلها والجزيرة ، ومصر كلّها ، ولم يبق بلد إلّا وبنيت فيه المساجد ، ونسخت
المصاحف ، وقرأ الأئمة القرآن وعلّمه الصبيان ، في المكاتب شرقا وغربا ، وبقي كذلك
عشرة أعوام وأشهرا والمؤمنون كلهم لا اختلاف بينهم في شيء بل ملّة واحدة ومقالة
واحدة ، وإن لم يكن عند المسلمين إذ مات عمر مائة ألف مصحف ، من مصر إلى العراق
إلى الشام إلى اليمن ، فما بين ذلك ، فلم يكن أقل.
ثم ولي «عثمان»
رضي الله عنه فزادت الفتوح ، واتسع الأمر ، فلو رام أحد إحصاء
__________________
مصاحف أهل الإسلام
ما قدر ، وبقي كذلك اثني عشر عاما حتّى مات ، وبموته حصل الاختلاف ، وابتدأ أمر
الرّوافض.
واعلموا أنه لو
رام أحد أن يزيد في شعر النابغة أو شعر زهير كلمة أو ينقص أخرى ، ما قدر لأنه كان
يفتضح للوقت ، وتخالفه النسخ المثبوتة ، فكيف والقرآن في المصاحف ..؟ وهي من آخر
الأندلس وبلاد البربر وبلاد السودان ، إلى آخر «السند» و «كابل» ، و «خراسان» ، و
«الترك» ، و «الصقالبة» ، وبلاد الهند ، فما بين ذلك. فظهر حمق الرّافضة ومجاهرتها
بالكذب.
وممّا يبيّن كذب
الروافض في ذلك ، أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه ، الذي هو عند أكثرهم إله خالق
، وعند بعضهم نبيّ ناطق ، وعند سائرهم إمام معصوم ، مفترضة طاعته ـ ولي الأمر فبقي
خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعا ، ظاهر الأمر ، ساكنا بالكوفة ، مالكا للدنيا ،
حاشا الشّام ومصر والفرات ، والقرآن يقرأ في المساجد وفي كل مكان ، وهو يؤم الناس
به ، والمصاحف معه وبين يديه ، فلو رأى فيه تبديلا كما تقول الرّافضة أكان يقرّهم
على ذلك ..؟
ثم ولي ابنه الحسن
رضي الله عنه ، وهم عندهم كأبيه فجرى على ذلك. كيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا : إنّ في المصحف حرفا زائدا أو ناقصا أو مبدّلا
مع هذا ..؟ ولقد كان جهاد من حرّف القرآن ، وبدّل الإسلام ، أوكد عليه من قتال أهل
الشام الذين إنّما خالفوه في رأي يسير رأوه ، ورأى خلافه فقط ، فلاح كذب الرّافضة
، ببرهان لا محيد عنه. والحمد لله رب العالمين.
وجوه نقل المسلمين لكتابهم ودينهم
قال أبو محمّد رضي
الله عنه : ونحن إن شاء الله تعالى نذكر صفة وجوه النقل الذي عند المسلمين لكتابهم
ودينهم ، ثم لما نقلوه عن أئمتهم حتّى يقف عليه المؤمن والكافر والعالم والجاهل
عيانا إن شاء الله تعالى فيعرفون أين نقل سائر الأديان من نقلهم ، فنقول وبالله
تعالى التوفيق :
إنّ نقل المسلمين
لكلّ ما ذكرنا ينقسم أقساما ستة :
أولها
: شيء ينقله أهل
المشرق والمغرب عن أمثالهم جيلا جيلا ، لا يختلف فيه
__________________
مؤمن ولا كافر ،
منصف غير معاند للمشاهدة ، وهو القرآن المكتوب في المصاحف في شرق الأرض وغربها لا
يشكّون ولا يختلفون في أنّ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب أتى به ، وأخبر أن الله
عزوجل أوحى به إليه ، وأنّ من اتبعه أخذه عنه كذلك ، ثم أخذ عن
أولئك حتى بلغ إلينا. ومن ذلك الصلوات الخمس ، فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ، ولا
يشك أحد في أنّه صلّاها بأصحابه كلّ يوم وليلة في أوقاتها المعهودة وصلّاها كذلك
كلّ من اتبعه على دينه حيث كانوا كل يوم هكذا إلى اليوم ، لا يشكّ أحد في أنّ أهل
السند يصلّونها كما يصليها أهل الأندلس ، وأن أهل أرمينية يصلّونها كما يصليها أهل
اليمن ، وكصيام شهر رمضان فإنه لا يختلف كافر ولا مؤمن ، ولا يشك أحد في أنه صامه
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وصامه معه كل من اتبعه في كل بلد كلّ عام ثم كذلك جيلا
فجيلا إلى يومنا هذا ، وكالحج فإنه لا يختلف مؤمن ولا كافر ولا يشك أحد في أنه عليهالسلام حج مع أصحابه ، وأقام مناسك الحج ، ثم حجّ المسلمون من كل
أفق من الآفاق كل عام في شهر واحد معروف إلى اليوم ، وكجملة الزكاة ، وكسائر
الشرائع ، التي في القرآن من تحريم القرائب والميتة والخنزير ، وسائر شرائع
الإسلام وكآياته من شق القمر ، ودعاء اليهود إلى تمنّي الموت ، وسائر ما هو في نصّ
القرآن مقروء ومنقول ، وليس عند اليهود ، ولا عند النصارى من هذا النقل شيء أصلا ،
لأنّ نقلهم لشريعة السبت وسائر شرائعهم إنما يرجعون فيها إلى التوراة. ويقطع عن
نقل ذلك ونقل التوراة إطباقهم أن أوائلهم كفروا بأجمعهم ، وبرئوا من دين موسى عليهالسلام ، وعبدوا الأوثان علانية دهورا طوالا ، ومن الباطل المحال
أن يكون ملك كافر عابد أوثان وأمته كلّها معه ، كذلك يقتلون الأنبياء ويخنقونهم ،
ويقتلون من دعا إلى الله عزوجل ، يشتغلون بسبت أو بشريعة مضافة إلى الله تعالى ، هذا
الكذب الذي لا شك فيه.
ويقطع النصارى عن
مثل هذا عدم نقلهم إلّا عن خمسة رجال فقط قد وضح الكذب عليهم إلى ما أوضحنا من
الكذب الذي في التوراة وفي الإنجيل القاضي بتبديلهما بلا شك.
والثاني
: شيء نقلته الكافّة
عن مثلها حتى يبلغ الأمر كذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ككثير من آياته ومعجزاته التي ظهرت يوم الخندق ، وفي
تبوك بحضرة الجيش. وككثير من مناسك الحج ، وكزكاة التمر والبرّ والشعير ، والورق والإبل
__________________
والذّهب والبقر
والغنم ، ومعاملته أهل خيبر ، وغير ذلك كثير مما يخفى على العامّة ، وإنما يعرفه
كوافّ أهل العلم فقط ، وليس عند اليهود والنصارى من هذا النقل شيء أصلا ، لأنه يقطع
بهم دونه ما قطع بهم دون النقل الذي ذكرنا قبل من إطباقهم على الكفر الدّهور
الطوال ، وعدم اتصال الكافة إلى عيسى عليهالسلام.
والثالث
: ما نقله الثقة
كذلك حتى يبلغ به إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، يخبر كل واحد منهم باسم الذي أخبر عنه ونسبه ، وكلّهم
معروف الحال والعين ، والعدالة والزمان والمكان ، على أن أكثر ما جاء هذا المجيء
فإنه منقول نقل الكواف إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم من طرق جماعة من الصحابة رضي الله عنهم ، وإمّا إلى الصاحب
وإمّا إلى التّابع ، وإمّا إلى إمام أخذ عن التابع ، يعرف ذلك من كان من أهل
المعرفة بهذا الشأن ، والحمد لله رب العالمين.
وهذا نقل خصّ الله
عزوجل به المسلمين دون سائر أهل الملل كلها ، وأبقاه عندهم غضّا
جديدا على قديم الدّهور مذ أربعمائة عام وخمسين عاما في المشرق والمغرب والجنوب
والشمال يرحل في طلبه من لا يحصي عددهم إلّا خالقهم ، إلى الآفاق البعيدة ، ويواظب
على تقييده من كان من الناقل قريبا منه ، قد تولّى الله تعالى حفظه عليهم ، والحمد
لله رب العالمين ، فلا تفوتهم زلة في كلمة فما فوقها في شيء من النقل إن وقعت
لأحدهم ، ولا يمكن لفاسق أن يقحم فيه كلمة موضوعة ، ولله تعالى الشكر.
وهذه الأقسام
الثلاثة هي التي نأخذ ديننا منها ، ولا نتعدّاها إلى غيرها ، والحمد لله رب
العالمين.
والرابع
: شيء نقله أهل
المشرق والمغرب أو الكافة أو الواحد الثقة عن أمثالهم إلى أن يبلغ إلى من ليس بينه
وبين النبي صلىاللهعليهوسلم إلّا واحد فأكثر ، فسكت ذلك المبلوغ إليه عن من أخبره بتلك
الشريعة عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلم يعرف من هو ، فهذا نوع يأخذ به كثير من المسلمين ،
ولسنا نأخذ به البتة ، ولا نضيفه إلى النبي صلىاللهعليهوسلم إذ لم يعرف من حدّث به عن النبي صلىاللهعليهوسلم وقد يكون غير ثقة ، ويعلم منه غير الذي روى عنه ما لم يعرف
منه الذي روى عنه. ومن هذا النوع كثير من نقل اليهود ، بل هو أعلى ما عندهم ، إلّا
أنهم لا يقربون فيه من موسى عليهالسلام كقربنا فيه من محمد صلىاللهعليهوسلم ، بل يقفون ولا بدّ حيث بينهم وبين موسى عليهالسلام أزيد من ثلاثين عصرا ، في أزيد من ألف وخمسمائة عام ،
وإنما يبلغون بالنقل إلى هلال ، وشماي ، وشمعون ، ومرعقيبا ،
وأمثالهم ، وأظن
أن لهم مسألة واحدة فقط يروونها عن حبر من أحبارهم عن نبيّ من متأخري أنبيائهم ،
أخذها عنه مشافهة في نكاح الرّجل ابنته إذا مات عنها أخوه.
وأمّا النصارى :
فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطّلاق وحده فقط على أنّ مخرجه من كذّاب
قد صح كذبه.
والخامس
: شيء نقل كما ذكرنا
، إما بنقل أهل المشرق والمغرب ، أو كافة عن كافة ، أو ثقة عن ثقة حتى يبلغ إلى
النبي صلىاللهعليهوسلم إلّا أن في الطريق رجلا مجروحا يكذب أو غفلة ، أو مجهول
الحال ، فهذا أيضا يقول به بعض المسلمين ، ولا يحل عندنا القول به ولا تصديقه ،
ولا الأخذ بشيء منه ، وهذه صفة نقل اليهود والنّصارى فيما أضافوه إلى أنبيائهم
لأنه يقطع بكفرهم بلا شك ولا مرية.
والسادس
: نقل نقل بأحد
الوجوه التي قدّمنا ، إما بنقل من بين المشرق والمغرب أو بالكافة ، أو بالثقة عن
الثقة ، حتى يبلغ ذلك إلى صاحب أو تابع ، أو إمام دونهما ـ أنه قال كذا ، أو حكم
بكذا غير مضاف ذلك إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كفعل أبي بكر رضي الله عنه في سبي أهل الردّة ، وكصلاة
الجمعة صدر النهار ، وكضرب عمر رضي الله عنه الخراج ، وإضعافه القيمة على رقيق
حاطب وغير ذلك كثير جدّا.
فمن المسلمين من
يأخذ بهذا ، ومنهم من لا يأخذ به ، ونحن لا نأخذ به أصلا ، لأنه لا حجة في فعل أحد
دون من أمرنا الله تعالى باتباعه وأرسله إلينا ببيان دينه ، ولا يخلو فاضل من وهم
، ولا حجة فيما يهم ، ولا يأتي الوحي ببيان وهمه.
وهذا الصنف من
النقل هو صفة جميع نقل النصارى واليهود لشرائعهم التي هم عليها الآن ممّا ليس في
التوراة ، وهو صفة جميع نقل النصارى حاشا تحريم الطلاق ، إلّا أن اليهود لا يمكنهم
أن يبلغوا في ذلك إلى صاحب نبيّ أصلا ، ولا إلى تابع له ، وأعلى من يقف عنده
النّصارى «شمعون» ثم «بولس» ثم أساقفتهم عصرا عصرا.
هذا أمر لا يقدر
أحد منهم على إنكاره ، ولا إنكار شيء منه ، إلّا أن يدّعي أحد منهم كذبا من يطمع
في تجويزه عليه ممن يظن به جهلا بما عنده فقط ، وأما إذا قرّرهم على ذلك من يدرون
أنه يعرف كتبهم ، فلا سبيل لهم إلى إنكاره أصلا. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
ونقل القرآن وما فيه من إعلام النبي صلىاللهعليهوسلم كالإنذار بالغيوب ، وشق القمر ، ودعاء اليهود إلى تمنّي
الموت ، والنّصارى إلى المباهلة ، وجميع العرب إلى المجيء بمثل القرآن ، وتوبيخهم
بالعجز عنه ، وتوبيخ اليهود بأنهم لا يتمنّون
الموت ، وقصة
الطير الأبابيل ، ورميها أصحاب الفيل بحجارة من سجيل وكثير من الشرائع ، وكثير من
السنن فإنه نقل كل ذلك عن اليماني والمضري ، والرّبعي ، والقضاعي ، وكلهم أعداء
متباينون متحاربون يقتل بعضهم بعضا ، ليس هنالك شيء يدعوهم إلى المسامحة في نقلهم
له ، ثم نقله عن هؤلاء من بين المشرق والمغرب ، وكانت العرب بلا خلاف قوما لقاحا لا يملكهم أحد كمضر وربيعة ، وإياد ، وقضاعة ، أو ملوكا في
بلادهم يتوارثون الملك كابرا عن كابر كملوك اليمن وعمان ، وشهر بن باذام ملك صنعاء
، والمنذر بن ساوى ملك البحرين ، والنجاشي ملك الحبشة ، وجيفر وعباد ابني الجلندى
ملكي عمان ، فانقادوا كلهم لظهور الحق وبهوره ، وآمنوا به عليهالسلام طوعا وهم آلاف آلاف ، وصاروا إخوة كبني أب وأم ، وانحلّ
كلّ من أمكنه الانحلال عن ملكه منهم إلى رسله طوعا بلا خلاف غزو ولا إعطاء مال ،
ولا يطمع في عزّ بل كلهم أقوى جيشا من جيشه ، وأكثر مالا وسلاحا منه ، وأوسع بلدا
من بلده «كذي الكلاع» وكان ملكا متوّجا ابن ملوك متوّجين ، تسجد له جميع رعيته ،
يركب أمامه ألف عبد من عبيده سوى بني عمه من حمير ، وذي ظليم ، وذود وذي مران ،
وذي عمرو ، وغيرهم كلهم ملوك متوجون في بلادهم ، هذا كله أمر لا يجهله أحد من حملة
الأخبار ، بل هو منقول كنقل كون بلادهم في مواضعها ، وهكذا كان إسلام جميع العرب ،
وأولهم الأوس والخزرج ، ثم سائرهم قبيلة قبيلة ، لما ثبت عندهم من آياته ، وبهرهم
من معجزاته ، وما اتبعه الأوس والخزرج إلّا وهو شريد طريد ، قد نابذه قومه حسدا له
، إذ كان فقيرا لا مال له ، يتيما لا أب له ولا أخ له ، ولا ابن أخ ولا ولد ،
أميّا لا يقرأ ولا يكتب ، نشأ في بلاد الجهل ، يرعى غنم قومه بأجرة يتقوّت بها ،
فعلّمه الله تعالى الحكمة دون معلم ، وعصمه من كل من أراده بلا حرس ولا حاجب ولا
بوّاب ، ولا قصر يمتنع فيه على كثرة من أراد قتله من شجعان العرب وفتّاكهم ، كعامر
بن الطفيل ، وأربد بن [قيس] بن جزء ، وغورث بن الحارث ، وغيرهم مع إقرار أعدائه بنبوته
كمسيلمة وسجاح وطليحة ، والأسود ، وهو مكذّب لهم ، فهل بعد هذا برهان أو بعد هذه
الكفاية من الله تعالى كفاية ..؟ وهو لا يبغي دنيا ، ولا يمنّي بها من اتبعه بل
أنذر الأنصار بالأثرة عليهم بعده ، وبايعوه على الصبر على ذلك ، قام له أصحابه
__________________
على قدم فمنعهم
وأنكر ذلك عليهم ، وأعلمهم أن القيام لله تعالى لا لخلقه ، ورضوا بالسجود له
فاستعظم ذلك وأنكره إلّا لله وحده ، ولا شكّ في أنّ هذه ليست صفة طالب دنيا أصلا ،
ولا صفة راغب في غلبة ، أو بعد صيت ، بل هذه حقيقة النبوة الخالصة لمن كان له أدنى
فهم ، فهذا هو الحق لا ما تدّعيه النصارى من الكذب البحت ، في أن الملوك دخلوا
دينهم طوعا ، وقد كذبوا في ذلك لأنّ أول ملك تنصّر «قسطنطين» باني القسطنطينية بعد
نحو ثلاثمائة عام من رفع المسيح عليهالسلام ، فأيّ معجزة صحّت عنده بعد هذه المدّة ، وإنما نصّرته
أمّه لأنها كانت نصرانية بنت نصراني تعشّقها أبوه فتزوجها ، هذا أمر لا تناكر بين
النّصارى فيه ، والنشأة لا خفاء بما تؤثّره في الإنسان ، وأمّا من اتّبع النبيّ صلىاللهعليهوسلم فإنهم اتبعوه إذ بلغهم خبره في حياته عليهالسلام للآيات التي كانت له بحضرة جميع أصحابه كإعجاز القرآن ،
وانشقاق القمر ، ودعاء اليهود إلى تمنّي الموت وإخبارهم بعجزهم عن ذلك ، وأنّهم لا
يتمنونه أصلا ، والإنذار بالغيوب ، ونبعان عين تبوك ، فهي كذلك إلى اليوم ، ونبعان
الماء من بين أصابعه بحضرة العسكر ، وإطعامه النفر الكثير من طعام يسير مرارا جمّة
بحضرة الجموع وإخباره بأكل الأرضة كل ما في الصحيفة على بني هاشم وبني المطلب حاشا أسماء
الله تعالى فقط ، وإنذاره بمصارع أهل بدر بحضرة الجيش ، موضعا موضعا ، وبالنور
الواقع في سوط الطفيل بن عمرو الدّوسي ، وحنين الجذع بحضرة جميعهم ، ودفع أربد عنه
، وقضاء غرماء جابر ، وتزويد عمر أربعمائة راكب من تمر يسير بقي بجنبه ، ورميه
هوازن بتراب عمّ عيونهم ، وخروجه بحضرة مائة من قريش ، وهم لا يرونه ، ودخول الغار
، وهم لا يرونه ، وفتح الباب في حجر صلد في جنب الغار لم يكن قط فيه ، ولو كان
هنالك يومئذ لما أمكنه الاختفاء فيه لأنه ليس بين البابين إلا أقل من ثمانية أذرع
، وهو ظاهر إلى اليوم ، كل عام وكل حين يزوره أهل الأرض من المسلمين ، ولو رام فتح
الباب الثاني في ذلك الحجر أهل الأرض ما قدروا على إزاحته سالما عن مكانه ، ولو
كان ذلك الباب هنالك حينئذ لرآه الطالبون له بلا مئونة ، ولأنهم لم يكونوا إلّا
جمع قريش لعلهم مؤن كثيرة ، وآثار رأسه المقدس في ذلك الحجر ، وآثار كتفه ومعصمه
وظاهر يده باق إلى اليوم ، فعل الله تعالى ، نقل الكواف جيلا عن جيل.
ورمي الجمار الذي
رميه ما لا يحصيه إلّا تعالى كل عام ثم لا يزيد حجمه في ذلك المكان.
__________________
ورمي الله تعالى
جيش أبرهة صاحب الفيل إذ غزا مكة عام مولده صلىاللهعليهوسلم بالحجارة المنكرة بأيدي طير منكرة ، ونزلت في ذلك سورة من
القرآن متلوّة إلى اليوم ، وكان ذلك ببركته عليهالسلام وإنذاراته ، وشكوى البعير إليه ، وإبراء عيني عليّ من
الرّمد بحضرة الجماعات في ساعة. وسوخ قوائم فرس سراقة إذ تبعه. ودرور الشاه التي
لا لبن لها مرارا ، وتسبيح الطعام ، وكلام الذّئب ومجيئه ، وقوله للحكم إذ حكى
مشيته كن كذلك ، فلم يزل يرتعش إلى أن مات ، ودعاؤه للمطر فأتى للوقت وفي الصحو
فانجلى للوقت. وظهور جبريل عليهالسلام مرّتين مرة في صورة دحية ، ثم أتى دحية بحضرة الناس ،
وأخرى في صفة رجل لم يعرفه أحد ، ولا رئي بعدها. وقوله إذ خطب بنت الحارث بن عوف
بن أبي حارثة المرّي فقال له أبوها : إنّ بها بياضا فقال : لتكن كذلك فبرصت في
الوقت ، وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر المشهور ، وغير هذا كثير جدّا.
ومع ما ذكرنا من
أن أوّل من تنصّر من الملوك فقسطنطين بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليهالسلام ، فو الله ما قدر على إظهار النصرانية حتى رحل عن رومة
مسيرة شهر ، وبنى بزنطية وهي القسطنطينية ، ثم أجبر الناس على النصرانية بالسيف
والعطاء وكان من عهوده المحفوظة إلّا يولي ولاية إلّا من تنصر والناس سراع إلى
الدنيا ، نافرون عن الأذى ، وكان مع هذا كله على مذهب آريوس لا على التثليث ، ولكن
هذا من دعوى النصارى وكذبهم ، مضاف إلى ما يدّعونه من أنهم بعد هذه المدة الطويلة
، وبعد خراب بيت المقدس مرة بعد مرة ، وبقائه خرابا لا ساكن فيه نحو مائتي عام
وسبعين عاما ، وجدوا الشوك الذي وضع على رأس المسيح بزعمهم ، والمسامير التي ضربت
في يديه ، والدّم الذي طار من جنبه ، والخشبة التي صلب عليها ، فلا أدري ممّن
العجب؟!! ممن اخترع مثل هذه الكذبة الغثّة المفضوحة ، أم ممن قبلها وصدّق بها ،
ودان باعتقادها ، وصلّب وجهه للحديث بها؟ ليت شعري أين بقي ذلك الشوك وذلك الدّم
سالمين وتلك المسامير ، وتلك الخشبة طول تلك المدة؟ وأهل ذلك الدّين مطرودون
مقتولون كقتل من تستّر بالزّندقة اليوم ، وتلك المدينة خراب يباب الدّهور الطوال ،
لا يسكنها أحد إلا السباع والوحش ، وقد شاهدنا ملوكا جلّة لهم الأتباع والأولاد
والشيع والأقارب ، صلبوا فما مضت إلّا مدة يسيرة حتى لم يبق لتلك الخشب أثر ، فكيف
بأمر من لا طالب له ، وبدول قد انقطعت ، وبلاد قد أقفرت وخلت ونسيت أخبارها؟!
وهذه البردة التي
كانت للنبي صلىاللهعليهوسلم ، والقصعة والسيف على أن الدّولة متّصلة لم
تنخرم منذ حينئذ ،
والحمد لله رب العالمين ، قد دخلت الدّاخلة في القصعة والسيف ، حتى لا يقين فيهما
عندنا اليوم ، ولو لا تداول الخلفاء للباس البرد أبدا أبدا فنقل أمرها جيلا بعد
جيل ، والمنبر كذلك لما قطعنا عليهما ، ولكنّ التداول لهما أمّة بعد أمة وهما
قائمان ظاهران للناس ، هو أوجب اليقين بهما ، ورفع الشك فيهما ، وكذلك كل ما جرى
هذا المجرى. ثم لم يلبث دين النّصارى أن مات قسطنطين أول من تنصر من ملوك الدنيا ،
ثم مات ابنه قسطنطين بن قسطنطين ، وولي ملك ترك النّصرانية ، ورجع إلى عبادة
الأوثان إلى أن مات ، ثم ولي رجل من أقارب قسطنطين فرجع إلى النصرانية.
وأمّا ديانة
اليهود فما صفت فيها نيات بني إسرائيل ، وموسى عليهالسلام حيّ بين أظهرهم ، وما زالوا مائلين إلى إظهار عبادة
الأوثان ، ثم تكذيبهم كلهم بالشريعة ، التي أتاهم بها بعد موته عليهالسلام طبقة بعد طبقة إلى انقطاع دولتهم ، فكيف أن يتبعه غيرهم.؟!!
قال أبو محمّد :
وبرهان ضروري لمن تدبّره ، حسّيّ لا محيد عنه ، وهو أنه لا خلاف بين أحد من اليهود
والنصارى وسائر الملل في أن بني إسرائيل كانوا في مصر في أشدّ عذاب يمكن أن يكون
من ذبح أولادهم ، وتسخيرهم في علم الطوب بالضرب العظيم ، والذّلّ الذي لا يصبر
عليه كلب مطلق ، فأتاهم موسى عليهالسلام يدعوهم إلى فراق هذا الأسر الذي قتل النفس أخف منه ، وإلى
الحرية ، والملك ، والغلبة والأمن ، ومضمون ممن هو في أقل من تلك الحال أن يسارع
إلى كل من طمع على يديه بالفرج ، وإن يستجيب له إلى كل ما دعاه إليه ، وأن أكثر من
في هذا البلاء يستجيز عبادة من أخرجه منه لا سيما إلى العز والحرمة ، وكانوا أيضا
أهل عسكر مجتمع ، وبني عمّ يمكن منهم التواطؤ ، ثم كانوا أهل بلد صغير جدّا قد
تكنّفهم الأعداء من كل جانب.
وأما عيسى عليهالسلام فما اتبعه إلا نحو اثني عشر رجلا معروفين ونساء قليل ،
وعدد لا يبلغ جميعهم وفي جملتهم الاثني عشر إلّا مائة وعشرين فقط هكذا في نصّ
إنجيلهم ، وكانوا مشردين مطرودين غير ظاهرين ، ولا يقوم بمثل هذا ضرورة يقين
العلم.
وأمّا محمّد صلىاللهعليهوسلم : فلا يختلف أحد في شرق الأرض وغربها في أنه عليهالسلام أتى إلى قوم لقاح لا يقرّون بملك ، ولا يطيعون لأحد ولا ينقادون لرئيس ، نشأ
على
__________________
هذا آباؤهم
وأجدادهم وأسلافهم مذ ألوف من الأعوام ، قد سرى الفخر ، والعزّ ، والنخوة ، والكبر
، والظلم ، والأنفة ، في طباعهم وهم أعداد عظيمة قد ملئوا جزيرة العرب ، وهي نحو
شهرين في شهرين ، قد صارت طباعهم طباع السباع ، وهم ألوف الألوف ، قبائل وعشائر
يتعصب بعضهم لبعض أبدا ، فدعاهم بلا مال ولا أتباع ، بل خذله قومه إلى أن ينحطوا
من ذلك العز إلى غرم الزكاة ، ومن الحرّية والظلم إلى جري الأحكام عليهم ، ومن طول
الأيدي بقتل من أحبوا ، وأخذ مال من أحبّوا إلى القصاص من النفس. ومن قطع الأعضاء
، ومن اللطمة من أجلّ من فيهم لأقل علج غريب دخل فيهم ، وإلى إسقاط الأنفة والفخر ،
إلى ضرب الظهور بالسياط أو بالنّعال إن شربوا خمرا ، أو قذفوا إنسانا ، وإلى الضرب
بالسياط والرّجم بالحجارة إلى أن يموتوا إن زنوا ، فانقاد أكثرهم لكل ذلك طوعا بلا
طمع ولا غلبة ولا خوف ، وما منهم أحد أخذ بغلبة إلا مكة وخيبر فقط ، وما غزا قط
غزوة يقاتل فيها إلا تسع غزوات ، بعضها عليه ، وبعضها له ، فصحّ ضرورة أنّهم إنما
آمنوا به طوعا لا كرها ، وتبدّلت طبائعهم بقدرة الله تعالى من الظلم إلى العدل ،
ومن الجهل إلى العلم ، ومن العسف والقسوة إلى العدل العظيم الذي لم يبلغه أكابر
الفلاسفة ، وأسقطوا كلهم أولهم عن آخرهم طلب الثأر ، وصحب منهم الرّجل قاتل أبيه
وابنه ، وأعدى الناس له ، صحبة الإخوة المتحابين دون خوف يجمعهم ، ولا رئاسة
ينفردون بها دون من أسلم من غيرهم ، ولا مال يتعجلونه.
فقد علم الناس كيف
كانت سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وكيف كانت طاعة العرب لهما بلا رزق ولا
عطاء ولا غلبة ، فهل هذا إلّا بغلبة من الله تعالى على نفوسهم ..؟ وقسره عزوجل لطباعهم ، كما قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ) [سورة الأنفال :
٦٣].
ثم بقي عليهالسلام كذلك بين أظهرهم بلا حرس ، ولا ديوان جند ، ولا بيت مال
محروسا معصوما ، وهكذا نقلت آياته ومعجزاته ، فإنّما يصح من أعلام الأنبياء عليهمالسلام المذكورين ما نقله هو عليهالسلام لصحة الطريق إليه ، وارتفاع دواعي الكذب والعصبية جملة عن
أتباعه فيه ، فجمهورهم غرباء من غير قومه لم يمنّهم بدنيا ، ولا وعدهم بملك ، وهذا
ما لا ينكره واحد من الناس.
وأيضا فإنّ سيرة
محمد صلىاللهعليهوسلم لمن تدبّرها تقتضي تصديقه ضرورة ، وتشهد له بأنه رسول الله
حقّا ، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته صلىاللهعليهوسلم لكفى ، وذلك أنه عليهالسلام نشأ كما قلنا في بلاد الجهل لا يقرأ ولا يكتب ، ولا خرج عن
تلك البلاد قط إلّا
خرجتين ، إحداهما
: إلى الشام وهو صبيّ مع عمه إلى أرض الشام ورجع. والأخرى : أيضا إلى أول أرض
الشام ، ولم يطل بها البقاء ، ولا فارق قومه قط ، ثم أوطأه الله تعالى على رقاب
العرب كلّهم ، فلم تتغيّر نفسه ، ولا حالت سيرته إلى أن مات ، ودرعه مرهونة في
شعير لقوت أهله أصواع ليست بالكثيرة ، ولم يبت قط في ملكه درهم ولا دينار ، وكان
يأكل على الأرض ما وجد ، ويخصف نعله بيده ، ويرقع ثوبه ، ويؤثر على نفسه. وقتل رجل
من أفاضل أصحابه ـ وفقد مثله يهدّ عسكرا ـ قتل بين أظهر أعدائه من اليهود فلم
يتسبب إلى أذى أعدائه بذلك ، إذ لم يوجب ربه تعالى له ذلك ، ولا توصل بذلك إلى
دمائهم ، ولا إلى دم أحد منهم ، ولا إلى أموالهم بل وداه من عند نفسه بمائة ناقة ،
وهو في تلك الحال محتاج إلى بعير واحد يتقوّى به ، وهذا أمر لا تسمح به نفس ملك من
ملوك الأرض وأهل الدنيا ، من أصحاب بيوت الأموال بوجه من الوجوه ، ولا يقتضي هذا
أيضا ظاهر السيرة والسياسة ، فصحّ يقينا بلا شك أنه إنما كان متّبعا ما أمره به
ربه عزوجل كان ذلك مضرّا به في دنياه غاية الإضرار أو كان غير مضرّ
به ، وهذا عجب لمن تدبره. ثم حضرته المنية ، وأيقن بالموت وله عمّ أخو أبيه هو أحب
الناس إليه ، وابن عمّ هو من أخصّ الناس به ، وهو أيضا زوج ابنته التي لا ولد له
غيرها ، وله منها ابنان ذكران وكلا الرجلين الذكورين عمه وابن عمه عندهما من الفضل
في الدين ، والسياسة في الدنيا ، والبأس والحلم ، وخلال الخير ما كان كل واحد
منهما حقيقا بسياسة العالم كله ، فلم يحابهما ، وهما من أشدّ الناس غناء به ومحبة
فيه ، وهو من أحبّ الناس فيهما ، إذ كان غيرهما متقدّما لهما في الفضل وإن كان
بعيد النسب منه ، بل فوّض الأمر إليه قاصدا إلى أمر الحق ، واتباع ما أمر به ، ولم
يورث ورثته ، ابنته ونساءه وعمه فلسا فما فوقه ، وهم كلهم أحب الناس إليه ،
وأطوعهم له ، وهذه أمور لمن تأملها كافية مغنية في أنه إنّما تصرّف بأمر الله عزوجل له ، بسياسة لا بهوى ، فوضح ما ذكرنا والحمد لله كثيرا أن
نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم حق وأن شريعته التي أتى بها هي التي وضحت براهينها ،
واضطرت دلائلها إلى تصديقها ، والقطع على أنّها الحق الذي لا حقّ سواه ، وأنّها
دين الله تعالى الذي لا دين له في العالم غيره ، والحمد لله رب العالمين عدد خلقه
، ورضى نفسه ، وزنة عرشه ، ومداد كلماته ، على ما وفقنا من الملّة الإسلامية ، ثم
على ما يسّرنا عليه من النّحلة الجماعية السنية ، ثم على ما هدانا له من التدين ،
والعمل بظاهر القرآن وبظاهر السنن الثابتة عنه صلىاللهعليهوسلم عن باعثه عزوجل ، ولم يجعلنا ممن يقلد أسلافه وأحباره ، دون برهان قاطع ،
وحجة قاهرة ، ولا ممن يتّبع الأهواء المضلّلة ،
المخالفة لقوله ،
وقول نبيّه صلىاللهعليهوسلم ، ولا ممن يحكم برأيه وظنه ، دون هدى من الله ورسوله.
اللهم كما
ابتدأتنا بهذه النعمة الجليلة فأتمها علينا ، وأصحابنا إيّاها ، ولا تخالف بنا
عنها حتّى تقبضنا إليك ونحن متمسكون بها فنلقاك بها غير مبدّلين ولا مغيّرين اللهم
آمين يا رب العالمين. وصلّ اللهم على محمد عبدك ورسولك ، وخليلك ، وخاتم أنبيائك
خاصة ، وعلى أنبيائك عامّة ، وعلى ملائكتك كافة ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله
العلي العظيم.
ذكر فصول يعترض بها جهّال الملحدين
على ضعفة المسلمين
قال أبو محمد :
إنّا لما تدبرنا أمر طائفتين ممن شاهدنا في زماننا هذا ، وجدناهما قد تفاقم الداء
بهما.
فأمّا إحداهما :
فقد جلت المصيبة فيها وبها ، وهم قوم افتتحوا عنوان فهمهم ، وابتداء دخولهم إلى
المعارف بطلب علم العدد وبرهانه وطبائعه ، ثم تدرجت إلى تعديل الكواكب وهيئة
الأفلاك ، وكيفية قطع الشمس والقمر والدراري الخمسة وتقاطع فلكي النيرين ، والكلام
في الأجرام العلوية ، وفي الكواكب الثابتة وانتقالها ، وأبعاد كل ذلك وأعظامه ،
وفيما دون ذلك من الطبيعيات ، وعوارض الجو ومطالعة شيء من كتب الأوائل وحدودها
التي نصبت في الكلام ، وما مازج بعض ما ذكرنا من آراء الفلاسفة في القضاء بالنجوم
، وأنها ناطقة مدبّرة ، وكذلك الفلك ، فأشرفت هذه الطائفة من أكثر ما طالعت مما
ذكرنا على أشياء صحاح براهينها ضرورية لائحة ، ولم يكن معها من قوة المنة ، وجودة
القريحة ، وصفاء النظر ما تعلم به أن من أصاب في عشرة آلاف مسألة فجائز أن يخطئ في
مسألة واحدة ، لعلها أسهل من المسائل التي أصاب فيها.
فلم تفرق هذه
الطائفة بين ما صح مما طالعوه بحجة برهانية ، وبين ما في أثناء ذلك وتضاعيفه مما
لم يأت عليه من ذكره من الأوائل ، إلّا بإقناع أو بشغب وربما بتقليد ليس معه شيء
مما ذكرنا ، فحملوا كل ما أشرفوا عليه محملا واحدا ، وقبلوه قبولا مستويا فسرى
فيهم العجب ، وتداخلهم الزّهو ، وظنّوا أنهم قد حصلوا على مباينة العالم في ذلك ،
وللشيطان موالج خفية ، ومداخل لطيفة ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه يجري من ابن آدم مجرى الدّم» فتوصل إليهم من باب غامض نعوذ بالله منه ، وهو
__________________
أنهم كما ذكرنا
أصفار من كل شيء ، من علوم الديانة التي هي الغرض المقصود من كل ذي لب ، والتي هي
نتيجة العلوم التي طالعوا لو عقلوا سبلها ومقاصدها ، فلم يعنوا بآية من كتاب الله عزوجل الذي هو جامع علوم الأولين والآخرين ، والذي لم يفرّط فيه
من شيء ، والذي من فهمه كفاه ، ولا بسنن من سنن رسول الله صلىاللهعليهوسلم التي هي بيان الحق ونور الألباب.
ولم تلق هذه
الطائفة المذكورة من حملة الدّين إلّا أقواما لا عناية لهم بشيء مما قدمنا ، وإنما
عنيت من الشريعة بأحد ثلاثة أوجه :
إمّا بألفاظ
ينقلون ظاهرها ولا يعرفون معانيها ، ولا يهتمون بفهمها.
وإمّا بمسائل من
الأحكام لا يشتغلون بدلائلها ومنبعها ، وإنما حسبهم منها ما أقاموا به جاههم
وحالهم.
وإمّا بخرافات
منقولة عن كل ضعيف وكذاب وساقط ، لم يهتبلوا قط بمعرفة صحيح منها من سقيم ، ولا مرسل من مسند ، ولا ما
نقل عن النبي صلىاللهعليهوسلم مما نقل عن كعب الأحبار ، أو وهب بن منبه عن أهل الكتاب.
فنظرت الطائفة الأولى من هذه الآخرة بعين الاستهجان والاحتقار والاستجهال ، فتمكن
الشيطان منهم ، وحلّ فيهم حيث أحب ، فهلكوا وضلّوا واعتقدوا أن دين الله تعالى لا
يصح منه شيء ولا يقوم عليه دليل ، فاعتقد أكثرهم الإلحاد والتعطيل ، وسلك بعضهم
طريق الاستخفاف والإهمال ، واطراح نقل الشرائع ، واستعمال الفرائض والعبادات ،
وآثروا الرّاحات وركوب اللذات من أنواع الفواحش المحرمات من الخمر والزنا واللياطة
والبغاء ، وترك الصلاة والصيام ، والزكاة والحج والغسل ، وقصدوا كسب المال كيف
تيسر ، وظلم العباد واستعمال الأهزال ، وترك الجد والتحقيق ، وتدين الأقل منهم
بتعظيم الكواكب ، فأسفت نفس المسلم الناصح لهذه الملة وأهلها على هلاك هؤلاء
المساكين ، وخروجهم عن جملة المؤمنين ، بعد أن غذوا بلبان الإسلام ، ونشئوا في
حجور أهله ، نسأل الله العصمة من الضلال لنا ، ولأبنائنا ولكل إخواننا من المسلمين
، ونسأله تدارك من زلّت به قدمه ، وهوت نعله ، إنه على كل شيء قدير.
__________________
وأمّا الطائفة
الثانية : فهم قوم ابتدءوا الطلب بحديث النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلم يزيدوا على طلب علوّ الإسناد ، وجمع الغرائب ، دون
أن يهتمّوا بشيء مما كتبوا أو يعملوا به ، وإنما يحملونه حملا لا يزيدون على
قراءته هذا دون تدبير معانيه ، ودون أن يعلموا أنهم المخاطبون به ، وأنه لم يأتي
هملا ، ولا قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبثا ، بل أمرنا بالتفقه فيه والعمل به ، بل أكثر هذه
الطائفة لا يعمل أكثرهم إلا ما جاء من طريق مقاتل بن سليمان ، والضحاك بن مزاحم ، وتفسير الكلبي ، وتلك الطبقة ، وكتب البدي التي إنما هي خرافات موضوعة ،
وأكذوبات مفتعلة ، ولّدها الزنادقة تدليسا على الإسلام وأهله ، فأطلقت هذه الطائفة
كل اختلاط لا يصح : من أن الأرض على حوت ، والحوت على قرن ثور ، والثور على صخرة ،
والصخرة على عاتق ملك ، والملك على الظّلة ، والظلة على ما لا يعلمه إلّا الله عزوجل.
وهذا يوجب أنّ جرم
العالم غير متناه ، وهذا هو الكفر بعينه ، فنافرت هذه الطائفة التي ذكرنا كل برهان
، ولم يكن عندها أكثر من قولهم نهينا عن الجدال!! فليت شعري من نهاهم عنه؟!. والله
عزوجل يقول في كتابه المنزل على نبيّه المرسل صلىاللهعليهوسلم :
__________________
(وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة النحل : ١٢٥].
وأخبر الله تعالى
عن قوم نوح عليهالسلام أنهم قالوا : (يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) [سورة هود : ٣٢].
وقد نص تعالى في
غير موضع من كتابه على أصول البراهين ، وقد نبهنا عليها في غير ما موضع في كتابنا
هذا. وحضّ تعالى على التفكر في خلق السماوات والأرض ، ولا يصح الاعتبار في خلقهما
إلّا بمعرفة هيئاتهما ، وانتقال الكواكب في أفلاكهما واختلاف حركاتها في التغريب
والتشريق ، وأفلاك تداويرها ، وتعارض فلك الأدوار على رتبة واحدة ، وكذلك معرفة
الدوائر ، والمنطقة ، والميل والاستواء ، وكذلك معرفة الطبائع ، وامتزاج العناصر
الأربعة وعوارضها ، وتركيب أعضاء الحيوان من عصبه وعضله وعظامه وعروقه وشرايينه ،
واتصال أعضائه بعضها ببعض ، وقواه المركبة. فمن أشرف على ذلك وعلمه ، رأى عظيم
القدرة ، وتيقّن أنّ ذلك كله صنعة ظاهرة ، وإرادة خالق قاصد مختار ، لأن اختلاف
تلك الحركات تضطر إلى المعرفة بأنّ شيئا منها لا يقوم بنفسه دون ممسك مدبّر لا إله
إلا هو ، ولا خالق سواه ، ولا مدبّر حاشاه ولا فاعل مخترع إلا هو. ثم زاد قوم منهم
فأتوا بالأفيكة التي تقشعرّ منها الذوائب ، وهي أن أطلقوا أنّ الدّين لا
يؤخذ بحجة ، فأقروا عيون الملحدين ، وشهدوا أنّ الدين لا يثبت إلا بالدّعاوى
والغلبة ، وهذا خلاف قول الله عزوجل : (قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سورة البقرة :
١١١].
وقوله تعالى : (فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا
بِسُلْطانٍ) [سورة الرحمن : ٣٣].
هذا قول الله عزوجل ، وما جاء به نبيه صلىاللهعليهوسلم. وفي ذلك الكفاية والغناء عن قول كل قائل بعده.
وقد حاجّ ابن عباس
الخوارج ، وما علمنا أحدا من الصحابة رضي الله عنهم ، نهى عن الاحتجاج ، فلا معنى
لرأي من جاء بعدهم ، فكان كلام هذه الطائفة مغريا للطائفة الأولى بكفرها ، ومغبطا
لهم بشركهم ، إذ لم يروا في خصومهم في الأغلب إلّا من هذه صفته ، ثم زادت هذه
الطائفة الثانية غلوّا في الجنون فعابوا كتبا لا معرفة لهم بها ، ولا طالعوها ،
ولا رأوا منها كلمة ، ولا قرءوها ، ولا أخبرهم عمّا فيها ثقة ، كالكتب التي فيها
هيئة الأفلاك ، ومجاري النجوم ، والكتب التي جمعها «أرسطاطاليس» في حدود الكلام.
__________________
قال أبو محمد :
وهذه الكتب كلها سالمة مفيدة ، دالة على توحيد الله عزوجل وقدرته ، عظيمة المنفعة في انتقاد جميع العلوم ، وعظم
منفعة الكتب التي ذكرنا في الحدود في مسائل الأحكام الشرعية فيها يتعرف كيف يتوصل
إلى الاستنباط وكيف تؤخذ الألفاظ على مقتضاها ، وكيف يعرف الخاص من العام ،
والمجمل من المفسر ، وبناء الألفاظ بعضها على بعض. وكيف تقديم المقدمات وإنتاج
النتائج ، وما يصح من ذلك صحة ضرورية أبدا ، وما يصح مرة ويبطل أخرى ، وما لا يصح
البتة وضروب الحدود التي ما شذّ عنها كان خارجا عن أصله ، ودليل الخطاب ، ودليل
الاستقراء ، وبرهان الدّور وغير ذلك مما لا غناء للفقيه المجتهد لدينه ولأهل ملته
عنه.
قال أبو محمد :
فلما رأينا عظيم المحنة فيما تولّد في الطائفتين اللتين ذكرنا ، رأينا من عظيم
الأجر ، وأفضل العمل ، بيان هذا الباب المشكل بحول الله تعالى ، وقدرته وتأييده ،
فنقول وبه عزوجل نتأيّد ونستعين :
إنّ كلّ ما صح
ببرهان أيّ شيء كان فهو في كلام الله عزوجل ، وكلام النبي صلىاللهعليهوسلم منصوص مسطور يعلمه كل من أحكم النظر ، وأيّده الله تعالى
بفهم ، وأمّا كل ما عدا ذلك مما لا يصح ببرهان وإنما هو إقناع أو شغب ، فالقرآن
وكلام النبي صلىاللهعليهوسلم منه خاليان. والحمد لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
ومعاذ الله أن يأتي كلام الله عزوجل ، وكلام نبيه صلىاللهعليهوسلم بما يبطله عيان أو برهان ، وإنما ينسب هذا إلى القرآن
والسنة من لا يؤمنون بهما ، ويسعى في إبطالهما ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا
أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [سورة التوبة : ٣٢].
ولسنا من تفسير
الكلبي الكذاب ومن جرى مجراه في شيء ، ولا نحن من نقل المتّهمين
في شأن ، إنما نحتجّ بما نقله الأئمة الثّقات والأثبات من رؤساء المحدثين مسندا ،
فمن فتّش الحديث الصحيح وجد فيه كل ما قلنا ، والحمد لله رب العالمين.
وإنما الباطل ما
ادّعته الطائفة الأولى من نطق الكواكب وتدبيرها ، وهذا كفر لا حجة عندهم على ما قالوه
منه أكثر من أن المحتجّ لهم قال :
لما كنا نعقل ،
وكانت النجوم تدبّرنا كانت أولى بالعقل منا. وهذا الذي ذكروه
__________________
ليس بشيء ، لأن
الكواكب وإن كان لها تأثير في العالم ظاهر ، فليس تأثيرها تأثير ملك واختيار ، يدل
على ذلك ما ذكرناه في كتابنا هذا من الدلائل على أن الكواكب مضطرة لا مختارة ،
وإنما تأثيرها كتأثير النار بالإحراق ، والماء بالتبريد ، والسمّ بإفساد المزاج ،
والطعام بالتغذية ، والفلفل بحذو اللسان ، والإهليلج بالقبض للفم ، وما جرى هكذا من سائر ما في العالم ، وكل
ذلك غير ناطق ، والكواكب والأفلاك جارية هذا المجرى ، لأن تأثيرها تأثير واحد لا
يختلف ، وحركتها حركة واحدة لا تختلف ، وليس كذلك المختار.
وقد قال لي بعضهم
وقد عارضته بهذا : إنّ المختار الفاضل يلزم أفضل الحركات فلا يتعدّاها ، وتلك
الحركة الدّورية هي أفضل الحركات.
فقلت له : وما
دليلك على أن أفضل الحركات الحركة الدورية؟ ومن أين صارت الحركة من شرق إلى غرب ،
أو من غرب إلى شرق ، أفضل من جنوب إلى شمال ، أو من شمال إلى جنوب؟
وكيف يكون عندكم
أفضل الحركات والأفلاك الثمانية تنتقل من غرب إلى الشرق؟ والتاسع من شرق إلى غرب ،
فأي هاتين الحركتين قلتم إنها أفضل عندكم وقد اختار الآخر الحركة التي ليست أفضل؟
فظهر فساد هذا القول بيقين.
وهذه دعاوى مجردة
بلا برهان ، وما كان هكذا فقد سقط ، ولا فرق بينك وبين من قال : بل الحركة علوّا
أفضل أو على خط مستقيم سائرة وراجعة ، ونحن نجد تلك الأجرام تسفل في بعض ممراتها ،
وتشرف في بعض ، وتسقط في بعض على قولهم ، وتوافق بزعمهم ريح نحس مظلمة ، وأخرى
نيرة سعيدة ، وبعض الأفلاك تقطع من غرب إلى شرق ، وهو حركة جميعها إلّا الأعلى
منها فإنّه يتحرك من شرق إلى غرب ، فليست هذه أفضل الحركات ، فبطل قولهم والحمد
لله رب العالمين.
قال أبو محمد :
وكذلك ما ذكره من ذكر ذلك منهم من الكرور عند انتهاء آلاف من الأعوام ذكروها ،
وانتصاب الكواكب الثابتة على نصب ما من قطعها لفلكها ، فهذا أيضا كذب مجرد ، ودعوى
ساقطة لا دليل عليها ، ولا يعجز عن مثلها أحد ، ولم
__________________
يأتوا على شيء من
ذلك بشغب ولا بإقناع كيف ببرهان ، وإنما هو تقليد لبعض قدماء الصابئين فمثل هذه
الحماقات هو الذي دفعته الشريعة الإسلامية وأبطلته ، وأمّا ما قامت عليه البراهين
فهو في القرآن والسنة موجود نصّا واستدلالا ضروريا ، والحمد لله رب العالمين.
مطلب بيان كروية الأرض
قال أبو محمد :
وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به ، وذلك أنهم قالوا :
إنّ البراهين قد صحّت بأن الأرض كروية والسماء كذلك ، والعامة تقول غير ذلك ،
وجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أنّ أحدا من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة
بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض ، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة ،
بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها.
قال الله عزوجل : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ
عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [سورة الزمر : ٥].
وهذا أوضح بيان في
تكوير بعضها على بعض ، مأخوذ من كور العمامة ، وهو إدارتها ، وهذا نص على تكوير
الأرض ودوران الشمس كذلك ، وهي التي يكون منها ضوء النهار بإشراقها وظلمة الليل
بمغيبها ، وهي آية النهار بنص القرآن ، قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) [سورة الإسراء :
١٢].
فيقال لمن أنكر ما
جهل من ذلك من العامّة : أليس إنما افترض الله عزوجل علينا أن نصلي الظهر إذا زالت الشمس؟ فلا بدّ من بلى.
فيسألون عن معنى زوال الشمس فلا بدّ من أنه إنما هو انتقال الشمس عن مقابلة من
قابل بوجهه القرص ، واستقبل بوجهه وأنفه وسط المسافة ، التي بين مكان طلوع الشمس ،
وبين موضع غروبها في كل زمان وكل مكان ، وأخذها إلى جهة حاجبه الذي يلي موضع غروب
الشمس ، وذلك إنما هو في أول النصف الثاني من النهار ، وقد علمنا أن المدائن من
معمور الأرض آخذة على أديمها من مشرق إلى مغرب ، ومن جنوب إلى شمال فيلزم من قال :
إنّ الأرض منتصبة الأعلى غير مكوّرة ـ أنّ كل من كان ساكنا في أول المشرق ، أن
يصلي الظهر في أول النهار ضرورة ، ولا بدّ إثر صلاة الصبح بيسير ، لأن الشمس بلا
شك تزول عن مقابلة ما بين حاجبي كل واحد منهم في أول النهار ضرورة ولا بدّ ، إن
كان الأمر على ما يقولون.
ولا يحل لمسلم أن
يقول : إنّ صلاة الظهر تجوز أن تصلّى في الوقت المذكور
ويلزمهم أيضا أنّ
من كان ساكنا في آخر المغرب أن الشمس لا تزول عن مقابلة ما بين حاجبي كل واحد منهم
إلّا في آخر النهار ، فلا يصلّون الظهر إلّا في وقت لا يتسع لصلاة العصر حتى تغرب
الشمس ، وهذا خارج عن حكم دين الإسلام.
وأمّا من قال
بتكويرها : فإن كل من على ظهر الأرض لا يصلي الظهر إلا إثر انتصاف نهاره أبدا على
كل حال وفي كل زمان ، وفي كل مكان ، وهذا بيّن لا خفاء به. وقال عزوجل : (سَبْعَ سَماواتٍ
طِباقاً) [سورة الملك : ٨
وسورة نوح : ١٥].
وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ
طَرائِقَ) [سورة المؤمنون :
١٧].
وهكذا قام البرهان
من قبل كسوف الشمس والقمر وبعض الدراري لبعض ـ أنها سبع سماوات ، وعلى أنها طرائق
، وقوله تعالى : (طَرائِقَ) يقتضي متطرقا فيها. وقال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) [سورة البقرة :
٢٥٥].
وهذا نصّ ما قام
عليه البرهان من انطباق بعضها على بعض ، وإحاطة الكرسيّ بالسبع السماوات والأرض ،
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فاسألوا الله الفردوس الأعلى ، فإنه وسط الجنة وأعلى
الجنة وفوق ذلك عرش الرحمن» .
وقال عزوجل : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه : ٥].
فأخبر هذان
النصّان بأنّ ما على العرش هو منتهى الخلق ونهاية العالم ، وقد قال تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا
بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [سورة الصافات : ٦
، ٧].
وهذا هو نص ما قام
عليه البرهان من أن الكواكب المرمي بها هي دون سماء الدنيا لأنها لو كانت في
السماء لكان الشياطين يصلون إلى السماء ، أو كانت هي تخرج عن السماء وإلّا فكانت
تلك الشهب لا تصل إليهم إلا بذلك ، وقد صح أنهم
__________________
ممنوعون من السماء
بالرّجوم ، فصح أنّ الرجوم دون السماء ، وأيضا فإن تلك الرجوم ليست نجوما معروفة
وإنما هي شهب ونيازك من نار ، تتكوكب وتشتعل وتطفأ ، ولا نار في السماوات أصلا ،
فلم نجد الاختلاف إلا في الأسماء لاختلاف اللغات ، وقد اعترض القاضي منذر بن سعيد على رأي «أرسطاطاليس» في الآثار العلوية : أن السماوات
بزعمه مملوءة نارا هذا فجعل الأفلاك غير السماوات ، والسماوات فوقها وقال : لو
كانت السماوات محيطة بالأرض لكان بعض السماوات تحت الأرض.
قال أبو محمد :
وهذا ليس بشيء لأن التحت والفوق من باب الإضافة لا يقال في شيء تحت إلّا وهو فوق
لشيء آخر ، حاشا مركز الأرض ، فإنه تحت مطلق لا تحت له البتة ، وكذلك كل ما قيل
فيه إنه فوق فهو أيضا تحت لشيء آخر ، حاشا الملائكة الذين على الصفحة العليا من
الفلك الأعلى المقسوم بقسمة البروج ، فإنها فوق لا فوق لها البتة ، فالأرض على هذا
البرهان للشاهد هي مكان التحت للسماوات ضرورة ، فمن حيث كانت السماء فهي فوق الأرض
، ومن حيث قابلتها الأرض فالأرض تحت السماء ولا بدّ ، وحيث ما كان ابن آدم فرأسه
إلى السماء ، ورجلاه إلى الأرض ، وقد قال الله عزوجل : (أَلَمْ تَرَوْا
كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً
وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) [سورة نوح : ١٥ ،
١٦].
وقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ
بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) [سورة الفرقان :
٦١] فأخبر الله تعالى إخبارا لا يردّه إلا كافر بأن القمر في السماء ، وأن الشمس
أيضا في السماء ، ثم قد قام البرهان الضروري المشاهد بالعيان على دورانها حول
الأرض من مشرق إلى مغرب ، ثم من مغرب إلى مشرق ، فلو كان على ما يظن أهل الجهل
لكانت الشمس والقمر إذا دارا بالأرض وصارا فيما يقابل صفحة الأرض التي لسنا عليها
قد خرجا عن السماء ، وهذا تكذيب لله تعالى ، فصح
__________________
بهذا أنه لا يجوز
أن يفارق الشمس والقمر السماوات ، ولا أن يخرجا عنها ، لأنهما كيف دارا فهما في
السماوات ، فصحّ ضرورة أن السماوات مطابقة طباقا على الأرض ، وأيضا فقد نص الله تعالى
كما ذكرنا على أن الشمس والقمر والنجوم في السماوات ، ثم قال تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [سورة يس : ٤٠].
وبالضرورة علمنا
أنه لا يمكن أن يكون جرم في وقت واحد في مكانين غير متداخلين فلو كانت السماوات
غير الأفلاك ، وكانت الشمس والقمر بنصّ القرآن في السماوات وفي الفلك لكانا في
مكانين غير متداخلين في وقت واحد ، وهذا محال ممتنع ، ولا ينسب القول بالمحال إلى
الله تعالى إلّا أعمى القلب ، فصح أن الشمس في مكان واحد ، وهو سماء وهو فلك ،
وهكذا القول في القمر وفي النجوم. وقوله تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) [سورة يس : ٤٠]
نصّ جليّ على الاستدارة ، لأنه أخبر تعالى أن الشمس والقمر والنجوم سابحة في الفلك
، ولم يخبر أنّ لها سكونا ، فلو لم تستدر لكانت على آباد الدهور بل في الأيّام
اليسيرة تغيب عنّا ، حتّى لا نراها أبدا لو مشت على طريق واحد ، وخط واحد مستقيم
أو معوج غير مستدير ، لكنّا أمامها أبدا ، وهذا باطل فصحّ ما نراه من كرورها من
غرب إلى شرق ، ومن شرق إلى غرب ، أنها دائرة ضرورة ، وكذلك قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ سئل عن قول الله تعالى عزوجل : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [سورة يس : ٣٨].
فقال عليهالسلام : «مستقرّها
تحت العرش» . وصدق عليهالسلام لأنها أبدا تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقد علمنا أنّ
مستقرّ الشيء هو موضعه الذي يلزم فيه ولا يخرج ، وإن مشى فيه من جانب إلى جانب ، «وسجودها»
هو سيرها فيه.
حدثنا أحمد بن عمر
بن أنس العذري حدثنا عبد الله بن محمد الهروي ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه
السرخي ، حدثنا إبراهيم بن خزيم ، حدثنا عبد بن حميد ، حدثني سليمان بن حرب
الواشحي ، حدثنا : حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية المزني قال : «السماء مقبّبة
هكذا على الأرض».
وبه إلى عبد بن
حميد ، حدثنا : يحيى بن عبد الحميد عن يعقوب عن جعفر هو
__________________
ابن أبي وحشية عن
سعيد هو ابن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال : أرأيت قول الله عزوجل : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [سورة الطلاق : ١٢].
قال ابن عباس : «هنّ
ملتويات بعضهن على بعض».
حدثنا عبد الله بن
ربيع التميمي ، حدثنا محمد بن معاوية القرشي ، حدثنا أبو يحيى زكريا بن يحيى
الساجي البصري قال : أنبأنا عبد الأعلى ومحمد بن المثنى ، وسلمة بن شبيب قالوا
كلهم : حدثنا وهب بن جرير بن حازم قال : سمعت محمد بن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة
، وجبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جدّه قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم : فقال يا رسول الله : جهدت الأنفس ، وضاع العيال ، ونهكت
الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا! فذكر الحديث بطوله ، وفيه أنّ النبي صلىاللهعليهوسلم قال للأعرابي : «ويحك أما تدري ما الله؟! إنّ عرشه على
سماواته وأرضه هكذا» وقال بأصابعه مثل القبة. ووصف لهم وهب بن جرير يده ، وأمال كفّه وأصابعه
اليمنى ، وقال هكذا.
حدثنا محمد بن
سعيد بن نبات ، حدثنا أحمد بن عون الله ، وأحمد بن عبد البصير قالا جميعا أنبأنا
قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن عبد السّلام الخشني ، حدثنا محمد بن بشار بندار ،
حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ، حدثنا شعبة عن الأعمش هو سليمان ، عن
مسلم البطين ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «كلّ في فلك يسبحون» : فلك كفلك
المغزل.
قال أبو محمد :
وذكروا أيضا قول الله عزوجل عن ذي القرنين : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي
عَيْنٍ حَمِئَةٍ) [سورة الكهف : ٨٦].
وقرئ أيضا حامية.
قال أبو محمد :
وهذا هو الحق بلا شك ، وذو القرنين هو كان في العين الحمئة. والحامية حميّة من
حماتها ، حامية من استحرارها ، كما تقول رأيتك في البحر تريد أنك إذ رأيته كنت أنت
في البحر ، وبرهان هذا : أنّ مغربها الشتوي إذا كانت من آخر رأس
__________________
الجدي إلى آخر
مغربها الصيفي إذا كانت من رأس السرطان مرئي مشاهد ومقداره ثمان وأربعون درجة من
الفلك ، وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسي أقل من مقدار السدس ، يكون من
الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيف ، وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم عين
البتة ، لا سيما أن تكون عينا حمية حامية وباللغة العربية خوطبنا ، فلما تيقّنا
أنها عين بإخبار الله عزوجل الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،
علمنا يقينا أنّ ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى
العين المذكورة ، وانقطع له إمكان المشي بعدها ، لاعتراض البحار له هنالك ، وقد
علمنا بالضرورة أنّ ذا القرنين وغيره من الناس ليس يشغل من الأرض إلّا مقدار مساحة
جسمه فقط قائما أو قاعدا أو مضجعا ، ومن هذه صفته فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض
بمقدار مكان المغارب كلها ، لو كان مغيبها في عين من الأرض كما يظن أهل الجهل ،
ولا بدّ من أن يلقى خط بصره من حدبة الأرض أو من نشز من أنشازها ما يمنع الخط من
التمادي ، إلّا أن يقول قائل : إنّ تلك العين هي البحر فلا يجوز أن يسمّى البحر في
اللغة عينا حمئة ولا حامية. وقد أخبر الله عزوجل أن الشمس تسبح في الفلك ، وأنها إنما هي في الفلك سراج ،
وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يجوز أن يختلف ولا يتناقض ، فلو غابت في عين في
الأرض كما يظن أهل الجهل ، أو في البحر لكانت الشمس قد زالت عن السماء ، وخرجت عن
الفلك ، وهذا هو الباطل المخالف لكلام الله عزوجل حقّا نعوذ بالله من ذلك ، فصحّ يقينا بلا شك أنّ ذا
القرنين كان في العين الحمئة الحامية حين انتهى إلى آخر البر في المغارب ، وبالله
تعالى التوفيق ، لا سيما مع ما قام البرهان عليه من أن جرم الشمس أكبر من جرم
الأرض ، وبالله تعالى التوفيق.
وبرهان آخر قاطع :
وهو قول الله عزوجل : (وَجَدَها تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وقرئ حامية ، (وَوَجَدَ عِنْدَها
قَوْماً) [سورة الكهف : ٨٦]
، فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس ، ومن كان عند العين فهو في
العين ، وقال الله عزوجل : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة آل عمران :
١٣٣].
وصح الإجماع والنصّ
على أنّ أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه في الجنة إلّا في قول من لا يعد
في جملة أهل الإسلام ممن يقولون بفناء الأرواح وأنّها أعراض ، وكذلك أرواح الشهداء
في الجنة ، وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه رآهم ليلة أسري به في السماوات سماء سماء ، آدم في
سماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في الثانية ، ويوسف في
الثالثة ، وإدريس
في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى وإبراهيم في السادسة والسابعة ، صلّى الله
على جميعهم ، فصحّ ضرورة أنّ السماوات هي الجنات ، وقد قال عليهالسلام : «إنّ
أرواح الشهداء [في جوف] طير خضر تعلق من ثمار الجنة» .
ومن المحال
الممتنع الذي لا يظنه مسلم ، أن تكون أرواح الشهداء طيورا خضرا في الجنة ، وأرواح
الأنبياء عليهمالسلام في غير الجنة ، إذ هم أولى بكل فضل ، ولا مكان أفضل من
الجنة.
حدثنا أحمد بن عمر
بن أنس العذري ، حدّثنا أبو ذرّ الهروي ، حدّثنا أحمد بن عبدان الحافظ النيسابوري
بالأهواز ، حدثنا محمد بن سهل القرشي ، حدّثنا محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف
الصحيح ، حدثنا أبو عاصم النبيل حدّثنا عبد الله بن أمية بن عبد الله بن خالد بن
أسيد ، حدثنا محمد بن جبير عن صفوان بن يعلى عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «البحر
من جهنم أحاط به سرادقها» .
حدثنا يوسف بن عبد
الله بن مغيث ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم حدّثنا أحمد بن خالد ، حدثنا
محمد بن عبد السّلام الخشني ، حدّثنا محمد بن بشّار ، حدّثنا يحيى بن سعيد القطان
عن عثمان بن غياث عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس رضي الله عنه عن كعب قال : «والبحر
المسجور يسجر فيكون جهنم».
حدّثنا عبد الله
بن ربيع التميمي ، حدّثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الأسدي ، حدّثنا أحمد بن خالد
، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدّثنا الحجّاج بن المنهال السلمي ،
__________________
حدّثنا مهدي بن
ميمون عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب الضبّي عن بشر بن شفاف قال : «كنا مع عبد
الله بن سلام يوم الجمعة في المسجد فقال : إنّ الجنة في السماء ، وإنّ النّار في
الأرض» وذكر كلاما كثيرا نسبه إلى الحجاج بن المنهال.
حدثنا حمّاد بن
سلمة عن داود عن سعيد بن المسيّب أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال ليهودي :
أين جهنم؟ قال : في البحر. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما أظنه إلّا صدق.
حدثنا المهلّب
الأسدي ، حدّثنا ابن مناس ، حدثنا ابن مسرور ، حدّثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدّثنا
عبد الله بن وهب عن شبيب بن سعيد عن المنهال عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود رضي
الله عنه قال : الأرض كلها يومئذ نار ، والجنة من ورائها ، وأولياء الله تعالى في
ظل عرش الله تعالى.
قال أبو محمد :
وقال الله تعالى : (لَا الشَّمْسُ
يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) [سورة يس : ٤٠].
فبيّن تعالى أن
الشمس أبطأ من القمر ، وهكذا قام البرهان بالرّصد أن الشمس تقطع السماء في سنة ،
والقمر يقطعها في ثمانية وعشرين يوما. ثم نصّ تعالى : أنّ الليل لا يسبق النهار ،
فبين بهذا حكم الحركة الثانية التي للفلك الكلي ، وهي التي تتم في كل يوم وليلة
دورة ، ويتساوى فيها جميع الدراري والنجوم والشمس والقمر ، وقال تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ
باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [سورة الحديد : ٣].
وأخبر تعالى أنّ
أرواح الكافرين لا تفتّح لهم أبواب السماء ، ولا يدخلون الجنة ، فصحّ أن من فتحت
له أبواب السماء دخل الجنة.
وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم «أنّ شدّة الحر من
فيح جهنم ، وأنّ لها نفسين نفسا في الشتاء ونفسا في الصّيف ، وأنّ ذلك أشدّ ما نجد
من الحرّ والبرد» وأنّ نارنا هذه أبرد
__________________
صلىاللهعليهوسلم
من نار جهنم بتسع
وستين درجة ، وهكذا نشاهد من فعل الصواعق ، فإنها تبلغ من الإحراق والإذابة في
مقدار اللمحة ما لا تبلغه نارنا في المدد الطوال ، وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ
آخر أهل الجنة دخولا فيها بعد خروجه من النار يعطى مثل الدنيا عشر مرّات» . رويناه من طريق أبي سعيد الخدري مسندا وصحّ أيضا مسندا عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أنّ
الدنيا في الآخرة كإصبع في اليمّ» .
قال أبو محمد :
وهذا إنما هو في نسبة المساحة لا في نسبة المدّة ، لأن مدّة الآخرة لا نهاية لها ،
وما لا نهاية له فلا ينسب شيء منه البتة بوجه من الوجوه ، ولا هو أيضا نسبة من
السرور واللّذة ، ولا الحزن والبلاء لأن سرور الدنيا مشوب بألم ومتناه ، وحزنها
متناه منقض ، وسرور الآخرة وحزنها خالصان غير متناهيين. وهكذا قام البرهان من قبل
روايتنا لنصب السماء أبدا على أنه لا نسبة للأرض عن السماء ولا قدر وقال عزوجل : (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [سورة آل عمران :
١٣٣].
وقال تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ) [سورة الحديد : ٢١].
وقال تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) [سورة الرحمن : ٥٤].
وذكر رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ
للجنة ثمانية أبواب» .
وقال عليهالسلام : «فاسألوا
الله الفردوس الأعلى ، فإنه وسط الجنة وأعلى
__________________
الجنة
، وفوق ذلك عرش الرّحمن» .
فصح يقينا أنهما
جنتان : إحداهما عرضها السماوات والأرض. والأخرى : عرضها كعرض السماء والأرض.
وقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [سورة الرحمن : ٤٦].
إنما هو خبر عن
الجميع أن لهم هاتين الجنتين ، فالتي عرضها السماوات والأرض هي السماوات السبع ،
لأنّ عرض الشيء منه بلا شك ، وكل كروي فإنّ جميع أبعاده عروض فقط. وذكرت الأرض هنا
لدخولها في جملة مساحة السماوات ، وإحاطة السماوات بها. والتي عرضها كعرض السماء
والأرض : هو الكرسي المحيط بالسماوات والأرض ، قال الله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) [سورة البقرة :
٢٥٥].
فصح أنّ عرضه كعرض
السماوات والأرض مضافا بعض ذلك إلى بعض وصحّ أن لها ثمانية أبواب في كلّ سماء باب
، وفي الكرسيّ باب ، وصحّ أنّ العرش فوق أعلى الجنة فهو محل الملائكة وموضعها ليس
من الجنة في شيء بل هو فوقها ، وكذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ
يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) [سورة غافر : ٧]
بيان جليّ بأن العرش جرم آخر فيه الملائكة.
وقد ذكر بأنّ
البرهان يقوم بذلك من أحكم النظر في الهيئة. وهذه نصوص ظاهرة جلية دون تكلف تأويل.
قال أبو محمد :
وقوله تعالى : (كَعَرْضِ السَّماءِ).
ذكر لجنس السماوات
، لأنّ السماوات اسم للجنس يدل عليه قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).
وقال «عليّ» : ومثل هذا كثير ممّا إذا تدبّره المتدبر علم صحّة ما قلنا
من أنّ ما يثبت ببرهان فهو منصوص في القرآن وكلام النبي صلىاللهعليهوسلم.
كذب من ادّعى لمدّة الدّنيا عددا معلوما
قال أبو محمد :
وأما اختلاف الناس في التاريخ ، فإنّ اليهود يقولون : للدنيا أربعة آلاف سنة.
والنصارى يقولون : للدنيا خمسة آلاف سنة ، وأمّا نحن فلا نقطع على علم
__________________
عدد معروف عندنا.
ومن ادّعى في ذلك سبعة آلاف سنة أو أكثر أو أقل فقد كذب ، وقال ما لم يأت عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم فيه لفظة تصح ، بل صحّ عنه عليهالسلام خلافه ، بل نقطع على أنّ للدنيا أمدا لا يعلمه إلّا الله عزوجل ، قال الله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ
خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف : ٥١].
وقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما أنتم في الأمم قبلكم إلّا كالشّعرة البيضاء في
الثّور الأسود ، أو كالشعرة السّوداء في الثّور الأبيض» .
هذا عنه عليهالسلام ثابت ، وهو عليهالسلام لا يقول إلّا عين الحق ولا يسامح بشيء من الباطل لا بإعياء
ولا بغيره ، فهذه نسبة من تدبّرها وعرف مقدار عدد أهل الإسلام ، ونسبة ما بأيديهم
من معمور الأرض وأنه الأكثر ـ علم أنّ للدنيا عددا لا يحصيه إلّا الله تعالى.
وكذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «بعثت والسّاعة كهاتين» . وضم إصبعيه المقدّستين السبّابة والوسطى.
وقد جاء النصّ
بأنّ السّاعة لا يعلم متى تكون إلّا الله عزوجل لا أحد سواه ، فصحّ أنه عليهالسلام إنّما عنى شدّة القرب لا فضل الوسطى على السبّابة ، إذ لو
أراد فضل ذلك لأخذت نسبة ما بين الإصبعين ، ونسب ذلك من طول الوسطى ، فكان يعلم
بذلك متى تقوم الساعة ، وهذا باطل.
وأيضا فكان تكون
نسبته عليهالسلام إيّانا إلى من قبلنا بأنه كالشعرة في الثور كذبا ، ومعاذ
الله تعالى من ذلك.
فصح أنه عليهالسلام إنّما أراد شدة القرب ، وله عليهالسلام مذ بعث أربعمائة عام ونيف ، والله أعلم ما بقي من الدنيا ،
فإذا كان هذا العدد العظيم لا نسبة له عند ما
__________________
سلف ، وتفاهته
بالإضافة إلى ما مضى ، فهذا الذي قاله عليهالسلام من أننا فيمن مضى كالشعرة في الثور أو الرقمة في ذراع
الحمار .
قال أبو محمد :
وقد رأيت بخط الأمير أبي محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الناصر رحمهالله قال حدثني محمد بن معاوية القرشي أنه رأى بالهند بدّا له اثنان وسبعون ألف سنة ، وقد وجد محمود بن سبكتكين بالهند مدينة يؤرخون لها بأربعمائة ألف سنة.
قال أبو محمد :
إلّا أنّ لكل ذلك أولا ومبدأ ولا بدّ من نهاية ، لم يكن شيء من العالم موجودا
قبلها ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومما اعترض به
بعضهم أنه قال : أنتم تقولون : إن أهل الجنة يأكلون ويشربون ، ويلبسون ويطئون
النساء ، وأنّ هنالك جواري أبكارا خلقن لهم ، وذلك المكان لا فساد فيه ولا استحالة
، ولا مزاج ، وهذه أشياء كوائن فواسد فكيف الأمر؟
قال أبو محمد : إن
هاهنا ثلاثة أجوبة :
أحدها : برهان
ضروري سمعي. والثاني : برهان نظري مشاهد. والثالث : إقناعي خارجي على أصول المعارض
لنا.
__________________
فالأول : وهو الذي
يعتمد عليه هو البرهان الضروري قد قدمناه ، على أنّ الله عزوجل خلق الأشياء وابتدعها مخترعا لها لا من شيء ، ولا على أصل
متقدّم ، وإذ لا شك في هذا فليس شيء متوهم أو مسئول عنه يتعذّر من قدرة الخالق عزوجل إذ كان ما شاء كوّنه. ولا فرق بين خلقه عزوجل ، كل ذلك في هذه الدار ، وبين خلقه كذلك في الدار الآخرة.
وقد أخبرنا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم الذي قامت البراهين الضرورية على أن الله عزوجل بعثه إلينا ، ووسّطه للتبليغ عنه وعلى صدقه فيما أخبر به :
أنّ الأكل والشرب واللباس والوطء هنالك ، وكان هذا الخبر قبل أن يخبرنا به الصادق عليهالسلام داخلا في حدّ الممكن لا في حدّ الممتنع ، ثم لما أخبرنا به
الله عزوجل على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم صحّ علمنا به ضرورة فبان أنه في حدّ الواجب.
وأمّا الجواب
الثاني : فهو أنّ الله عزوجل خلق أنفسنا ورتّب جواهرها وطباعها الذاتية رتبة لا تستحيل
البتة على التذاذ المطاعم والمشارب والرّوائح الطيبة ، والمناظر الحسنة ، والأصوات
المطربة ، والملابس المعجبة على حسب موافقة كل ذلك لجوهر أنفسنا ، هذا ما لا مدفع
فيه ، ولا شك في أنّ النفوس هي المتلذّذة بكل ما ذكرنا ، وأنّ الحواسّ الجسدية هي المنافذ
الموصلة لهذه الملاذ إلى النفوس ، وكذلك المكاره كلها. وأمّا الجسد فلا حسّ له
البتة ، فهذه طبيعة جوهر أنفسنا التي لا سبيل إلى وجودها دونها ، فإذا جمع الله
تعالى يوم القيامة في عالم الجزاء بين أنفسنا وبين الأجساد المركبة لها وعادت كما
ذكرنا جوزيت هنالك ، ونعمت بملاذها وبما تستدعيه طباعها التي لم توجد قط إلّا كذلك
، ولا لها لذة سواها ، إلّا أن الطعام الذي هنالك غير معانى بنار ، ولا ذو آفات ،
ولا مستحيل قذرا ودما ، ولا ذبح هنالك ، ولا آلام ولا تغيّر ، ولا موت ولا فساد ،
وقد قال تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها
وَلا يُنْزِفُونَ) [سورة الواقعة :
١٩].
وتلك الملابس غير
محوكة بنسيج ولا فانية ولا متغيرة ولا تقبل البلى ، وتلك الأجساد لا كدر فيها ولا
خلط ولا دم ولا أذى ، وتلك النفوس لا رذيلة فيها من غلّ ولا حسد ولا حرص قال الله عزوجل : (وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً) [سورة الحجر : ٤٧].
وأخبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن المخرجين من النار أنهم يطرحون في نهر على باب الجنة.
فإذا نقّوا وهذّبوا ـ هذا نص لفظ رسول الله صلىاللهعليهوسلم . ثم بعد التنقية أخبر
__________________
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنهم حينئذ يصيرون إلى الجنة. فصحّ أنّ الملاذ من هذه
الأشياء المتناولات تصل إلى النفوس هنالك على حسب اختلاف وجود النفس لها ، وتغاير
أنواع التذاذها بها ، وأوقعت عليها الأسماء لإفهامنا المعنى المراد.
وقد روينا عن ابن
عباس ما حدّثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ، حدثنا قاسم ابن أصبغ ، حدثنا
إبراهيم بن عبد الله العبسي ، حدّثنا وكيع بن الجرّاح ، حدثنا الأعمش ، عن أبي
ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : ليس في الجنة ممّا في الدنيا إلا
الأسماء. وهذا سند في غاية الصحة ، وهو أول حديث في قصة وكيع المشهورة.
قال أبو محمد :
وأما الوطء فهو هنالك كما هو عندنا هاهنا إلّا أنه ليس فيه مئونة ولا استحالة ،
وإنما هو التذاذ للنفس بمداخلة بعض الجسد المضاف إليها لجسد آخر فقط.
وأمّا الجواب
الثالث الإقناعي ، وهو موافق لأصولهم ، ولسنا نعتمد عليه : فهو أنّ قدماء الهند قد
ذكروا في كلامهم في الأفلاك والبروج ووجوه المطالع أنه يطلع مع كل وجه من وجوه
البروج صور وصفوها ، وذكروا أنه ليس في هذا العالم صورة إلّا وهي في العالم الأعلى
.
قال أبو محمد :
وهذا إيجاب منهم أنّ هنالك ملابس ومشارب ومطاعم ووطئا ، وأنهارا وأشجارا ، وغير
ذلك.
قال أبو محمد :
وعارضني يوما نصراني كان قاضيا على نصارى قرطبة في هذا وكان يتكرّر على مجلسي فقلت
له : أوليس فيما عندكم من الإنجيل أنّ المسيح صلىاللهعليهوسلم قال لتلاميذه ليلة أكل معهم الفصح ، وفيها أخذ بزعمكم ،
وقد سقاهم كأسا من خمر وقال : «إنّي لا أشربها معكم أبدا حتى تشربوها معي في
الملكوت عن يمين الله تعالى».
وقال في قصة
الفقير المسمّى «العازار» الذي كان مطرحا على باب الغنيّ
__________________
تلحس الكلاب جراح
قروحه ، وأنّ ذلك الغنيّ نظر إليه في الجنّة متكئا في حجر إبراهيم صلىاللهعليهوسلم فناداه الغنيّ وهو في النّار : «يا أبي يا إبراهيم ، ابعث
العازار إليّ بشيء من ماء يبلّ به لساني». وهذا نص على أن في الجنة شرابا من ماء
وخمر ، فسكت النصراني وانقطع. وأمّا التوراة التي بأيدي اليهود فليس فيها ذكر
لنعيم في الآخرة أصلا ، ولا لجزاء بعد الموت البتة.
قال أبو محمد :
وكذلك الجواب في أكل أهل النّار وشربهم سواء سواء كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
والأرض أيضا سبع نطاق منطبقة بعضها على بعض كانطباق السماوات لإخبار خالقنا بذلك ،
وليس ذلك قبل الخبر في حدّ الممتنع بل في حدّ الممكن ، وذكر قوم قول الله تعالى : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [سورة إبراهيم :
٤٨].
فقلنا : قال الله
تعالى هذا حقّا ، وقال عزّ من قائل : (يَوْمَ نَطْوِي
السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [سورة الأنبياء :
١٠٤].
وقال عزوجل : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ
فَكانَتْ أَبْواباً) [سورة النبأ : ١٩].
وقال تعالى : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) [سورة المعارج : ٨
، ٩].
وقال تعالى : (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ
فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ وَانْشَقَّتِ
السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [سورة الحاقة : ١٤
ـ ١٧].
وقال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [سورة الانشقاق :
١].
وقال تعالى : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ
ما فِيها وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) [سورة الانشقاق :
٣ ـ ٥].
وقال تعالى : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا
الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [سورة الانفطار :
١ ـ ٣].
وقال تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا
النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) [سورة التكوير : ١
ـ ٣].
وقال تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا
رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [سورة الأنبياء : ٣٠].
وقال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ
وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [سورة الأنبياء :
١٠٤].
وقال تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [سورة هود : ١٠٨].
فكل كلامه تعالى
حق لا يحلّ الاقتصار على بعضه دون بعض ، فصحّ يقينا أنّ تبديل السّماوات والأرض
إنما هو تبديل أحوالها لا إعدامها ، ولكن خلاؤها من الشّمس والقمر والكواكب
والنجوم ، وتفتحها أبوابا ، وكونها كالمهل ، وتشققها ووهيها ، وانفطارها ، وتدكدك
الأرض والجبال ، وكونها كالعهن المنفوش ، وتسييرها وتسجر البحار فقط كما قال تعالى
، وبهذا تتآلف الآيات كلّها ، ولا يجوز غير هذا أصلا ، ومن اقتصر على آية التبديل
كذب على كل ما ذكرنا ، وهذا كفر ممن فعله ، ومن جمعها كلها فقد آمن بجميعها ،
وصدّق الله تعالى في كل ما قال ، وهو يوجب ما قلنا ضرورة ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : قد
أكملنا ولله الحمد كثيرا الكلام على الملل المخالفة لدين الإسلام الذي هو دين الله
تعالى على عباده الذي لا دين له في الأرض غيره إلى يوم القيامة ، وأوضحنا بعون
الله وتأييده البراهين الضرورية على إثبات الأشياء ووجودها ثم على حدوثها كلها
جواهرها وأعراضها بعد أن لم تكن ، ثم أنّ لها محدثا واحدا مختارا لم يزل ، لا شيء
معه ، وأنه فعل لا لعلّة ، وترك لا لعلّة ، بل كما شاء لا إله إلّا هو ، ثم على
صحّة النبوّات ، ثم على صحة نبوّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلىاللهعليهوسلم ، وأنّ ملته هي الحق ، وكل ملّة سواها باطل ، وأنه آخر
الأنبياء عليهمالسلام ، وملته آخر الملل.
فلنبدأ الآن بعون
الله وتأييده في ذكر نحل المسلمين وافتراقهم فيها وإيراد ما شغب به من شغب منهم
فيما غلط في شيء من نحلته ، وإيراد البراهين الضرورية على إيضاح نحلة الحق من تلك
النحل ، كما فعلنا في الملل ، والحمد لله رب العالمين كثيرا ، ولا حول ولا قوة
إلّا بالله العلي القدير.
الفرق الإسلامية
قال أبو محمد :
فرق المقرين بملة الإسلام خمسة ، وهم : أهل السنّة ، والمعتزلة ، والمرجئة ،
والشيعة ، والخوارج ، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق ، وأكثر افتراق أهل السنة
في الفتيا ونبذ يسيرة من الاعتقادات سننبه عليها إن شاء الله تعالى ، ثم سائر
الفرق الأربعة التي ذكرنا ففيها ما يخالف أهل السنة الخلاف البعيد ، وفيها ما
يخالفهم الخلاف القريب.
فأقرب فرق المرجئة
إلى أهل السنّة من ذهب مذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت الفقيه رحمهالله تعالى : في أنّ الإيمان هو التصديق باللسان والقلب معا ،
وأنّ الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط.
وأبعدهم أصحاب جهم
بن صفوان ، وأبو الحسن الأشعري ، ومحمد بن كرام
__________________
السجستاني .. فإنّ جهما والأشعري يقولان : إن الإيمان عقد بالقلب فقط
، وإن أظهر الكفر والتثليث بلسانه ، وعبد الصليب في دار الإسلام بلا تقية.
ومحمد بن كرّام
يقول : هو القول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه.
وأقرب فرق المعتزلة
إلى أهل السنة أصحاب الحسين بن محمد بن النجار وبشر بن غياث المريسي ، ثم أصحاب
ضرار بن عمرو.
وأبعدهم أصحاب أبي
الهذيل العلاف.
وأقرب مذاهب
الشيعة إلى أهل السنة المنتمون إلى أصحاب الحسن بن صالح بن حي الهمذاني الفقيه
القائلون بأنّ الإمامة في ولد عليّ رضي الله عنهم والثابت عن الحسن بن صالح رحمهالله هو قولنا : إن الإمامة في جميع قريش ، وتولّي جميع الصحابة
رضي الله عنهم ، إلّا أنه كان يفضّل عليّا رضي الله عنه على جميعهم.
وأبعدهم الإمامية.
وأقرب فرق الخوارج
إلى أهل السنة أصحاب عبد الله بن يزيد الإباضي الفزاري الكوفي.
وأبعدهم الأزارقة.
وأما أصحاب أحمد
بن حابط وأحمد بن باسوس ، والفضل الحدثي ، والغالية من الروافض ، والمتصوفة
والبطيحية أصحاب أبي إسماعيل البطيحي ، ومن فارق الإجماع من العجاردة وغيرهم ،
فليسوا من الإسلام في شيء من أهله ، بل كفار بإجماع الأمة ، ونعوذ بالله من
الخذلان.
ذكر ما اعتمدت عليه كلّ فرقة من هذه الفرق فيما اختصت به
قال أبو محمد :
أما المرجئة فعمدتهم التي يتمسّكون بها فالكلام في الإيمان
__________________
والكفر ما هما؟
والتسمية بهما ، والوعيد ، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم.
وأمّا المعتزلة : فعمدتهم التي يتمسكون بها : الكلام في التوحيد ، وما يوصف
به الباري تعالى ، ثم يزيد بعضهم الكلام في القدر والتسمية بالفسق والإيمان
والوعيد.
وقد يشارك
المعتزلة في الكلام فيما يوصف به الباري تعالى جهم بن صفوان ، ومقاتل بن سليمان ،
والأشعرية وغيرهم من المرجئة ، وهشام بن الحكم وشيطان الطاق ، واسمه محمد بن جعفر
الكوفي ، وداود الجواربي .. وهؤلاء كلهم شيعة ، إلّا أنا اختصصنا المعتزلة بهذا
الأصل لأن كل من تكلّم في هذا الأصل فهو غير خارج عن مذهب أهل السنة أو قول
المعتزلة حاشا هؤلاء المذكورين من المرجئة والشيعة ، فإنهم انفردوا بأقوال خارجة
عن قول أهل السنة والمعتزلة.
وأمّا الشيعة : فعمدة كلامهم في الإمامة والمفاضلة بين أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم ، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم.
وأمّا الخوارج : فعمدة مذهبهم الكلام في الإيمان والكفر ، ما هما؟ والتسمية بهما
، والوعيد ، والإمامة ، واختلفوا فيما عدا ذلك كما اختلف غيرهم.
وإنما اختصصنا هذه
الطوائف بهذه المعاني لأن من قال إنّ أعمال الجسد إيمان ، فإنّ الإيمان يزيد
بالطاعة وينقص بالمعصية ، وإنّ مؤمنا يكفر بشيء من الذنوب ، وإنّ مؤمنا بقلبه أو
بلسانه يخلد في النار فليس مرجئيّا ، ومن وافقهم على أقوالهم هاهنا وخالفهم فيما
عدا ذلك من كل ما اختلف المسلمون فيه فهو مرجئ.
ومن خالف المعتزلة
في خلق القرآن والرؤية والتشبيه والقدر وأنّ صاحب الكبيرة لا مؤمن ولا كافر لكن
فاسق فليس منهم. ومن وافقهم فيما ذكرنا فهو منهم وإن خالفهم فيما سوى ما ذكرنا فيما
اختلف فيه المسلمون.
ومن وافق الشيعة
في أنّ عليّا عليهالسلام أفضل الناس بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي ، وإن خالفهم
فيما عدا ذلك فيما اختلف فيه المسلمون ، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعيا.
ومن وافق الخوارج
في إنكار التحكيم ، وتكفير أصحاب الكبائر ، والقول بالخروج على أئمة الجور ، وأنّ
أصحاب الكبائر مخلدون في النار ، وأنّ الإمامة جائزة في غير قريش فهو خارجي ، وإن
خالفهم فيما عدا ذلك فيما اختلف فيه المسلمون ، وإن خالفهم فيما ذكرنا فليس
خارجيا.
قال أبو محمد :
وأهل السنة الذين نذكرهم أهل الحق ، ومن عداهم فأهل البدعة ، فإنهم الصحابة رضي
الله عنهم ، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمهمالله تعالى ، ثم أصحاب الحديث ومن اتّبعهم من الفقهاء جيلا
فجيلا إلى يومنا هذا ، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها رحمة الله
عليهم.
قال أبو محمد :
وقد تسمّى باسم الإسلام من أجمع جميع فرق أهل الإسلام على أنه ليس مسلما مثل طوائف
من الخوارج غلوا فقالوا : إن الصلاة ركعة بالغداة وركعة بالعشي فقط ، وآخرون
استحلوا نكاح بنات البنين ، وبنات البنات ، وبنات بني الإخوة ، وبنات بني الأخوات
، وقالوا : إن سورة يوسف ليست من القرآن. وآخرون منهم قالوا بحدّ الزاني والسارق
ثم يستتابون من الكفر ، فإن تابوا وإلّا قتلوا.
وطوائف كانوا من
المعتزلة ثم غلوا فقالوا بتناسخ الأرواح.
وآخرون منهم قالوا
: إن شحم الخنزير ودماغه حلال.
وطوائف من المرجئة
قالوا : إن إبليس لم يسأل الله تعالى قط النظرة ، ولا أقرّ بأنّ الله تعالى خلقه
من نار ، وخلق آدم عليهالسلام من تراب.
وآخرون منهم قالوا
: إنّ النبوّة تكتسب بالعمل الصالح.
وآخرون كانوا من
أهل السنّة فغلوا ، فقالوا : قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء ومن الملائكة
عليهمالسلام ، وأن من عرف الله تعالى حقّ معرفته فقد سقطت عنهم الأعمال
والشرائع.
وقال بعضهم بحلول
الباري تعالى في أجسام خلقه كالحلاج وغيره.
وطوائف كانوا من
الشيعة ثم غلوا ، فقال بعضهم بإلاهية علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأئمة بعده.
ومنهم من قال بنبوته وبنبوّتهم ، وبتناسخ الأرواح كالسيّد الحميري الشاعر وغيره.
وقالت طائفة منهم
بإلاهية أبي الخطاب محمد بن أبي زينب مولى بني أسد.
وقالت طائفة بنبوة
المغيرة بن أبي سعيد مولى بني بجيلة ، وبنبوّة أبي منصور العجلي ، وبزيع الحائك ،
وبيان بن سمعان التميمي وغيرهم.
وقال آخرون برجعة
علي إلى الدنيا ، وامتنعوا من القول بظاهر القرآن وقالوا : إن لظاهره تأويلات ،
فمنها أن قالوا : إن السماء محمد والأرض أصحابه «وإن الله يأمركم أن تذبحوا البقرة»
قالوا : هي فلانة يعني أم المؤمنين رضي الله عنها. وقالوا : العدل والإحسان : محمد
وعلي. والجبت والطاغوت هو فلان وفلان يعنون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما. وقالوا :
الصلاة هي دعاء الإمام. والزكاة هي ما يعطى الإمام. والحج :
القصد إلى الإمام.
وفيهم خناقون ورضّاخون. وكل هذه الفرق لا تتعلق بحجة أصلا ، وليس بأيديهم إلّا
دعوى إلهام والقحة ، والمجاهرة بالكذب ، ولا يلتفتون إلى مناظرة. ويكفي من الرّد
عليهم أن يقال لهم : ما الفرق بينكم وبين من ادّعى أنه ألهم بطلان قولكم ..؟ ولا
سبيل إلى الانفكاك من هذا.
وأيضا فإنّ جميع
فرق الإسلام متبرئة منهم ، مكفّرة لهم ، مجمعون على أنّهم على غير الإسلام ، ونعوذ
بالله من الخذلان.
خروج أكثر هذه الفرق عن دين الإسلام
قال أبو محمد :
الأصل في خروج هذه الطوائف عن ديانة الإسلام أن الفرس كانوا من سعة الملك وعلو
اليد على جميع الأمم وجلالة الخطر في أنفسهم حتّى أنهم كانوا يسمّون الأحرار
والأبناء ، وكانوا يعدّون سائر الناس عبيدا لهم ، فلما امتحنوا بزوال الدّولة عنهم
على أيدي العرب ، وكانت العرب أقل الأمم عند الفرس خطرا ، تعاظمهم الأمر ، وتضاعفت
لديهم المصيبة وراموا كيد الإسلام بالمحاربة في أوقات شتى ففي كلّ ذلك يظهر الله
تعالى الحق ، وكان من قائمتهم منقاذ ، والمقنع ، واستايبن ، وبابك وغيرهم. وقبل
هؤلاء رام ذلك عمار الملقب خذاشا ، وأبو مسلم السّراج فرأوا أن كيده على الحيلة
أنجع ، فأظهر قوم منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبّة أهل بيت رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، واستشناع ظلم عليّ رضي الله عنه ، ثم سلكوا بهم مسالك
شتّى حتّى أخرجوهم عن الإسلام.
فقوم منهم أدخلوهم
إلى القول بأن رجلا ينتظر يدعى المهدي عنده حقيقة الدين ، إذ لا يجوز أن يؤخذ
الدّين من هؤلاء الكفار ، إذ نسبوا أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى الكفر. وقوم خرجوا إلى ما ذكرنا من نبوة من ادّعوا له
النبوّة. وقوم سلكوا لهم المسلك الذي ذكرنا من القول بالحلول وسقوط الشرائع.
وآخرون تلاعبوا بهم فأوجبوا عليهم خمسين صلاة في كل يوم وليلة. وآخرون قالوا : بل
هي سبع عشرة صلاة في كل صلاة خمس عشرة ركعة. وهذا قول عمرو بن عبد الله بن الحارث
الكندي ، قبل أن يصير خارجيّا صفريّا ، وقد سلك هذا المسلك أيضا عبد الله بن سبأ
الحميري اليهودي ، فإنه لعنه الله أظهر الإسلام ليكيد أهله ، فهو كان أصل إثارة
الناس على عثمان رضي الله عنه وأحرق عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه طوائف أعلنوا
بإلاهيته.
ومن هذه الأصول
الملعونة حدثت الإسماعيلية والقرامطة ، وهما طائفتان مجاهرتان بترك الإسلام جملة ،
قائلتان بالمجوسية المحضة ، ثم مذهب مزدك الموبذ ،
الذي كان على عهد
أنوشروان بن قباذ ملك الفرس ، وكان يقول بوجوب تواسي الناس في النساء والأموال.
قال أبو محمد :
فإذا بلغ الناس إلى هذين الشعبين أخرجوه عن الإسلام كيف شاءوا ، إذ هذا هو غرضهم
فقط ، فالله الله عباد الله في أنفسكم ولا يغرنكم أهل الكفر والإلحاد ، ومن موّه
كلامه بغير برهان ، لكن بتمويهات ووعظ على خلاف ما آتاكم به كتاب ربكم ، وكلام
نبيكم صلىاللهعليهوسلم فلا خير فيما سواهما ، واعلموا أنّ دين الله تعالى ظاهر لا
باطن فيه ، وجهر لا سرّ تحته ، كلّه برهان لا مسامحة فيه ، واتّهموا كلّ من يدعو
أن يتبع بلا برهان ، وكل من ادّعى أن لله ديانة سرّا وباطنا ، فهي دعاوى ومخارق
واعلموا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها ، ولا أطلع أخص الناس
به من ابنة أو ابن عم أو زوجة أو صاحب على شيء من الشريعة ، كتمه عن الأحمر
والأسود ، ورعاة الغنم ، ولا كان عنده عليهالسلام سرّ ولا رمز ، ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه ، فلو
كتمهم شيئا لما بلّغ كما أمر ، ومن قال هذا فهو كافر ، فإيّاكم وكلّ قول لم يبن
سبيله ، ولا وضح دليله ، ولا تعرجوا عمّا مضى عليه نبيكم صلىاللهعليهوسلم وأصحابه رضي الله عنهم.
قال أبو محمد : قد
أوضحنا شنع جميع هذه الفرق في كتاب لنا لطيف اسمه : «النصائح المنجية من الفضائح
المخزية والقبائح المردية من أقوال أهل البدع من الفرق الأربع : المعتزلة والمرجئة
والخوارج والشيع».
ثم أضفناه إلى آخر
كلامنا في النحل من كتابنا هذا.
وجملة الخير كله
أن تلتزموا ما نصّ عليه ربكم تعالى في القرآن بلسان عربي مبين لم يفرّط فيه من شيء
، تبيانا لكل شيء ، وما صحّ عن نبيكم صلىاللهعليهوسلم برواية الثقات من أئمة أصحاب الحديث رضي الله عنهم مسندا
إليه عليهالسلام فهما طريقان يوصلانكم إلى رضى ربكم عزوجل.
ونحن نبتدئ من هنا
إن شاء الله تعالى بالكلام في المعاني التي هي عمدة ما افترق المسلمون عليه ، وهي
التوحيد ، وهي التوحيد ، والقدر ، والإيمان ، والوعيد ، والإمامة ، والمفاضلة ، ثم
أشياء يسميها المتكلمون اللطائف ، ونورد كلّ ما احتجّوا به ، ونبين بالبراهين
الضرورية إن شاء الله تعالى وجه الحق في كل ذلك ، كما فعلنا فيما خلا ، بعون الله
تعالى لنا وتأييده ، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. فأول ذلك :
__________________
الكلام في التوحيد ونفي التشبيه
قال أبو محمد :
ذهبت طائفة إلى القول بأنّ الله تعالى جسم ، وحجتهم في ذلك أنه لا يقوم في المعقول
إلا جسم أو عرض ، فلما بطل أن يكون تعالى عرضا ثبت أنه جسم ، وقالوا : إن الفعل لا
يصح إلّا من جسم والباري تعالى فاعل فوجب أنه جسم ، واحتجّوا بآيات من القرآن فيها
ذكر اليدين واليد والأيدي والعين والأعين والوجه والجنب ، وبقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) و (يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ
الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة : ٢١٠] و (تَجَلَّى رَبُّهُ) وبأحاديث للجبل فيها ذكر القدم ، واليمين والرجل والأصابع
والتنزل.
قال أبو محمد :
ولجميع هذه النصوص وجوه ظاهرة ، خارجة على خلاف ما ظنوه وتأوّلوه.
قال أبو محمد :
وهذان استدلالان فاسدان.
أمّا قولهم : إنه
لا يقوم في المعقول إلّا جسم أو عرض ، فإنها قسمة ناقصة وأما الصّواب : أنه لا
يوجد في العالم إلّا جسم أو عرض وكلاهما يقتضي بطبيعة وجوده وجوب محدث له ،
فبالضرورة نعلم أنه لو كان محدثهما جسما أو عرضا لكان يقتضي فاعلا فعله ولا بدّ.
فوجب بالضرورة أنّ فاعل الجسم والعرض ليس جسما ولا عرضا. وهذا برهان يضطر إليه كل
ذي حسّ بضرورة العقل ولا بدّ.
وأيضا فلو كان
الباري ـ تعالى عن إلحادهم ـ جسما لاقتضى ذلك ضرورة أن يكون له زمان ومكان هما
غيره!! وهذا إبطال التوحيد وإيجاب الشرك معه تعالى لشيئين سواه ، وإيجاب أشياء معه
غير مخلوقة ، وهذا كفر ، وقد تقدّم إفسادنا لهذا القول.
وأيضا فإنه لا يعقل
البتة جسم إلّا مؤلف طويل عريض عميق ، ونظّارهم لا يقولون
__________________
بهذا ، فإن قالوه
لزمهم أنّ له مؤلفا جامعا مخترعا فاعلا ، فإن منعوا من ذلك لزمهم أن يوجبوا لما في
العالم من التأليف لا مؤلف له ولا جامعا ، إذ المؤلّف كله كيفما وجد يقتضي مؤلّفا
ضرورة.
فإن قالوا : هو
جسم غير مؤلّف قيل لهم : هذا هو الذي لا يعقل حسّا ولا يتشكّل في النفوس البتة.
فإن قالوا : لا
فرق بين قولنا شيء وبين قولنا جسم ، قيل لهم : هذه دعوى كاذبة على اللغة التي بها
تتكلمون.
وأيضا فهو باطل
لأنّ الحقيقة أنه لو كان الشيء والجسم بمعنى واحد لكان العرض جسما لأنه شيء وهذا
باطل بيقين.
والحقيقة هي أنه
لا فرق بين قولنا : شيء ، وقولنا : موجود وحق وحقيقة ومثبت ، فهذه كلها أسماء
مترادفة على معنى واحد لا يختلف ، وليس منها اسم يقتضي صفة أكثر من أنّ المسمّى
بذلك حق ولا مزيد.
وأمّا لفظة جسم
فإنّها في اللغة عبارة عن الطويل العريض العميق ، المحتمل للقسمة ذي الجهات ا لست
، التي هي فوق وتحت ، ووراء ، وأمام ، ويمين ، وشمال ، وربما عدم واحد منها ، وهي
الفوق ، هذا حكم هذه الأسماء في اللغة التي هذه الأسماء منها ، فمن أراد أن يوقع
شيئا منها على غير موضوعها في اللغة فهو مجنون وقاح ، وهو كمن أراد أن يسمّى الحق
باطلا والباطل حقا ، وأراد أن يسمّي الذّهب خشبا ، وهذا غاية الجهل والسخف ، إلّا
أن يأتي نصّ بنقل اسم منها عن موضوعه إلى معنى آخر فيوقف عنده ، وإلّا فلا ، وإنما
يلزم كلّ مناظر يريد معرفة الحقائق أو التعريف بها أن يحقق المعاني التي يقع عليها
الاسم ثم يخبر بعد بها أو عنها بالواجب ، وأمّا مزج الأشياء وقلبها عن موضوعاتها
في اللغة فهذا فعل السوفسطائية الوقحاء الجهال ، العابثون بعقولهم وأنفسهم.
فإن قالوا لنا :
إنكم تقولون إن الله عزوجل حيّ لا كالأحياء ، وعليم لا كالعلماء ، وقادر لا كالقادرين
، وشيء لا كالأشياء ، فلم منعتم القول بأنه جسم لا كالأجسام؟!
قيل لهم وبالله
تعالى التوفيق : لو لا النصّ الوارد بتسميته حيّا وقديرا وعليما ما سميناه بشيء من
ذلك ، لأن الوقوف عند النصّ فرض ، ولم يأت نصّ بتسميته تعالى جسما ، ولا قام
البرهان بتسميته تعالى جسما بل البرهان مانع من تسميته تعالى بذلك ،
ولو أتانا نصّ
بتسميته تعالى جسما لوجب علينا القول بذلك ، وكنا حينئذ نقول : إنه جسم لا
كالأجسام ، كما قلنا في عليم وقدير ، وحي ، ولا فرق. وأمّا لفظه شيء فالنص أيضا
جاء بها والبرهان أوجبها على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وقالت طائفة منهم
إنه تعالى نور واحتجوا بقول الله تعالى : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [سورة النور : ٣٥].
قال أبو محمد :
ولا يخلو النور من أحد وجهين إمّا أن يكون جسما ، وإما أن يكون عرضا ، وأيّهما كان
فقد قام البرهان على أنه تعالى ليس جسما ولا عرضا ، وأمّا قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فإنّما معناه «هدى الله بتنوير النفوس ، إلى نور الله
تعالى في السماوات والأرض». وبرهان ذلك أنه عزوجل أدخل في جملة ما أخبر : أنه نور له فلو كان الأمر على أنه
النّور المضيء المعهود لما خبا الضياء ساعة من ليل أو نهار البتة ، فلما رأينا
الأمر بخلاف ذلك علمنا أن الأمر بخلاف ما ظنّوه.
قال أبو محمد :
ويبطل قول من وصف الله تعالى بأنه جسم ، وقول من وصفه بحركة ـ تعالى عن ذلك ـ أن
الضرورة توجب أن كل متحرك فذو حركة ، وأنّ الحركة لمتحرّك بها ، وهذا من باب
الإضافة والصّورة في المتصوّر لمتصوّر ، وهذا أيضا من باب الإضافة ، فلو كان كلّ
مصوّر متصورا ، وكل محرّك متحركا لوجب وجود أفعال لا أوائل لها ، وهذا قد أبطلناه
فيما خلا من كتابنا بعون الله تعالى لنا وتأييده إيّانا ، فوجب ضرورة وجود محرّك
ليس متحركا ومصوّر ليس متصوّرا ضرورة ولا بدّ. وهو الباري تعالى محرّك المتحرّكات
ومصوّر المتصورات ، لا إله إلّا هو ، وكل جسم فذو صورة ، وكلّ ذي حركة فذو عرض
محمول فيه ، فصحّ أنه تعالى ليس جسما ولا متحركا ، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضا فقد قدمنا
أنّ الحركة والسكون مدّة ، والمدّة زمان ، وقد بينا فيما خلا من كتابنا أن الزمان
محدث ، فالحركة محدثة ، كذلك السكون ، والباري تعالى لا يلحقه الحدث إذ لو لحقه
لكان محدثا ، فالباري تعالى غير متحرك ولا ساكن.
وأيضا فإنّ الجسم
إنما يفعل آثارا في جسم فقط ، ولا يفعل الأجسام ، فالباري تعالى إذن على قول
المجسّمة إنما هو فاعل آثار في الأجسام فقط لا فاعل أجسام العالم ، تعالى الله عن
ذلك علوّا كبيرا.
فإن قالوا :
فإنّكم تسمّونه فاعلا وتسمّون أنفسكم فاعلين ، وهذا تشبيه. قلنا له ـ وبالله تعالى
التوفيق ـ : لا يوجب ذلك تشبيها ، لأن التشبيه إنما يكون بالمعنى الموجود
في كلا المشتبهين
لا بالأسماء ، وهذه التسمية إنّما هي اشتراك في العبارة فقط ، لأن الفاعل متحرّك
باختيار لا بالأسماء ، وهذه التسمية إنّما هي اشتراك في العبارة فقط ، لأن الفاعل
متحرّك باختيار أو عارف ، أو شاكّ ، أو مريد أو كاره باختيار وضمير ، فكلّ فاعل
متحرّك ذو ضمير ، وكلّ متحرّك فذو حركة ، والحركة وأعراض الضمائر انفعالات ، فكل
متحرّك منفعل ، وكل منفعل فلفاعل ضرورة ، وأمّا الباري تعالى ففاعل باختيار
واختراع ، لا بحركة ولا ضمير ، فهذا اختلاف لا اشتباه. وبالله تعالى التوفيق.
وكذلك العرض ليس
جسما ، وقولنا الجسم ليس عرضا ، والباري تعالى ليس جسما ولا عرضا فهذان الحكمان لا
يوجبان اشتباها أصلا بل هذا عين الاختلاف ، لأن الاشتباه إنّما يكون بإثبات معنى
في المشتبهين به اشتبها ، ولو أوجب ما ذكرنا اشتباها لوجب أن يكون يشبه الجسم في
الجسمية لأنه ليس عرضا ، وأن يكون يشبه العرض في العرضيّة لأنّه ليس جسما فكان
يكون جسما عرضا معا ، وهذا محال ، فصحّ أن بالنفي لا يصح الاشتباه وبالله تعالى
التوفيق.
قال أبو محمد :
ومن قال إنّ الله تعالى جسم لا كالأجسام فهو ملحد في أسمائه إذ سماه عزوجل بما لم يسمّ به نفسه.
وأمّا من قال إنه
تعالى كالأجسام فهو ملحد في أسمائه ومشبّه مع ذلك.
مطلب إطلاق الصفات
قال أبو محمد :
وأمّا إطلاق لفظ الصفات لله تعالى عزوجل فمحال لا يجوز لأن الله تعالى لم ينصّ قط في كلامه المنزل
على لفظ الصّفات ، ولا على لفظ الصفة ولا جاء قط عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم بأن الله تعالى صفة أو صفات ، نعم ولا جاء قط ذلك على أحد
من الصحابة رضي الله عنهم ، ولا عن أحد من خيار التّابعين ، ولا عن أحد تابعي
التابعين ، وما كان هكذا فلا ينبغي لأحد أن ينطق به.
ولو قلنا : إن
الإجماع قد تيقّن على ترك هذه اللفظة لصدقنا ، فلا يجوز القول بلفظ الصفات ولا
اعتقاده ، بل ذلك بدعة منكرة قال الله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ
جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) [سورة النجم : ٢٣].
قال أبو محمد : وإنّما
اخترع لفظة الصّفات المعتزلة ، وسلك سبيلهم قوم من أصحاب الكلام ، سلكوا غير مسلك
السلف الصّالح ليس فيهم أسوة ولا قدوة وحسبنا الله ونعم الوكيل ، (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ
ظَلَمَ نَفْسَهُ) [سورة الطلاق : ١].
وربما أطلق هذه
اللفظة من متأخري الأئمة من الفقهاء من لم يحقق النظر فيها ، فهي وهلة من فاضل ،
وزلة من عالم ، وإنّما الحقّ في الدّين ما جاء عن الله تعالى نصّا أو عن رسوله صلىاللهعليهوسلم كذلك ، أو صحّ إجماع الأمة كلها عليه ، وما عدا هذا فضلال.
فإن اعترضوا
بالحديث الذي رويناه من طريق عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي
هلال عن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن عن أمه عمرة عن عائشة رضي الله عنها في
الرّجل الذي كان يقرأ : قل هو الله أحد في كل ركعة مع سورة أخرى ، وأنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمر أن يسأل عن ذلك فقال : هي صفة الرحمن فأنا أحبّها ،
فأخبره رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّ الله يحبّه .
فالجواب وبالله
تعالى التوفيق : أنّ هذه اللفظة انفرد بها سعيد بن أبي هلال وليس بالقويّ ، قد
ذكره بالتخليط يحيى وأحمد بن حنبل ، وأيضا فإن احتجاج خصومنا بهذا لا يسوغ لهم على
أصولهم لأنه خبر واحد لا يوجب عندهم العلم ، وأيضا : فلو صحّ لما كان مخالفا
لقولنا ، لأننا إنما أنكرنا قول من قول : إن أسماء الله تعالى مشتقة من صفات ذاتية
فأطلق ذلك على «العلم» و «القدرة» و «القوة» و «الكلام» أنها صفات ، وعلى من أطلق «إرادة»
وسمعا وبصرا وحياة ، وأطلق أنها صفات ، فهذا الذي أنكرنا غاية الإنكار ، وليس في
الحديث المذكور ولا في غيره شيء من هذا أصلا ، وإنّما فيه أنّ «قل هو الله أحد»
خاصة صفة الرحمن ، ولم ننكر هذا نحن بل هو خلاف لقولهم لأنهم لا يخصّون «قل هو
الله أحد» بذلك دون الكلام والعلم وغير ذلك ، و «قل هو الله أحد» خبر عن الله
تعالى بما هو الحق ، فنحن نقول فيها هي صفة الرحمن ، بمعنى أنها خبر عنه تعالى حق
، فظهر أن هذا الخبر حجة عليهم لنا. وأيضا فمن أعجب الباطل أن يحتج بهذا الخبر
فيما ليس فيه شيء من يخالفه ويعصيه في الحكم الذي ورد فيه من استحسان قراءة «قل هو
الله أحد» في كل ركعة مع سورة أخرى ، لهذه الفضائح ، فلتعجب أهل العقول. وأما
الصفة التي يطلقون هم ، فإنما هي في اللغة واقعة على عرض في جوهر لا على ذلك أصلا.
وقد قال الله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) [سورة الصافات :
١٨٠].
__________________
فأنكر إطلاق
الصفات جملة فبطل تمويه من موّه بالحديث المذكور ليستحلّ بذلك ما لا يحل من إطلاق
لفظ الصفات حيث لم يأت بإطلاقها فيه نصّ ولا إجماع أصلا ، ولا أثر عن السلف.
والعجب من اقتصارهم على لفظة الصفات ، ومنعهم من القول بأنها نعوت وسمات ، ولا فرق
بين اللفظتين لا في لغة ولا في معنى ، ولا في نصّ ولا في إجماع ، وبالله التوفيق
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الكلام في المكان والاستواء
قال أبو محمد :
ذهبت المعتزلة إلى أن الله سبحانه وتعالى في كل مكان ، واحتجوا بقول الله عزوجل : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [سورة المجادلة :
٧].
وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ) [سورة ق : ١٦].
وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ
وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) [سورة الواقعة :
٨٥].
قال أبو محمد :
قول الله عزوجل يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر ،
أو إجماع ، أو ضرورة حسّ.
وقد علمنا أن كلّ
ما كان في مكانه فإنه شاغل لذلك المكان ، ومالئ له ومتشكل بشكل المكان ، أو المكان
متشكل بشكله ، ولا بدّ من أحد الأمرين ضرورة.
وقد علمنا أنّ ما
كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان ، ومتناه بتناهي مكانه ، وهو ذو جهات ست أو خمس
متناهية في مكانه ، وهذه كلها صفات الجسم ، فلما صحّ ما ذكرنا علمنا أن قوله تعالى
: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). و (نَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ). و (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) إنما هو التدبير لذلك والإحاطة به فقط ضرورة لانتفاء ما
عدا ذلك.
وأيضا : فإن قولهم
«في كل مكان» خطأ ، فإنه يلزم بموجب هذا القول أن يملأ الأماكن كلها ، وأن يكون ما
في الأماكن فيه ـ الله تعالى عن ذلك ـ وهذا محال.
فإن قالوا : هو
فيها بخلاف كون المتمكن في المكان.
قيل لهم : هذا لا
يعقل ولا يقوم عليه دليل ، وقد قلنا : إنه لا يجوز إطلاق اسم على غير موضوعه في
اللغة ، إلّا أن يأتي به نص فنقف عنده ، وندري حينئذ أنه منقول إلى ذلك المعنى
الآخر ، وإلّا فلا ، فإذ قد صحّ ما ذكرنا فلا يجوز أن يطلق القول بأن الله تعالى
في مكان لا على تأويل ولا على غيره ، لأنه حكم بأنه تعالى في الأمكنة ، لكن يطلق
القول بأنه تعالى معنا في كلّ مكان ، ويكون حينئذ قولنا في كلّ مكان إنّما
هو صلة الضمير
الذي هو النون والألف اللذان في «معنا» لا فيما نخبر به عن الله تعالى ، وهذا هو
معنى قوله : «هو معهم أينما كانوا ، وهو معكم أينما كنتم».
وذهب قوم إلى أن
الله تعالى في مكان دون مكان.
وقولهم هذا يفسد
بما ذكرنا ، ولا فرق.
واحتجّ هؤلاء
بقوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) [سورة طه : ٥].
قال أبو محمد :
وقد تأوّل المسلمون في هذه الآية تأويلات أربعة.
أحدها : قول
المجسمة ، وقد بان بحول الله فساده.
والثاني : قالت
المعتزلة : هو أن معناه «استولى» وأنشدوا :
قد استوى بشر على
العراق
قال أبو محمد :
وهذا فاسد لأنه لو كان كذلك لكان العرش أولى بالاستيلاء عليه من سائر المخلوقات.
ولجاز لنا أن نقول : «الرحمن على الأرض استوى» لأنه تعالى مستول عليها ، وعلى كل
ما خلق. وهذا لا يقوله أحد. فصار هذا القول دعوى مجرّدة بلا دليل فسقط.
وقال بعض أصحاب
ابن كلاب : إن الاستواء صفة ذات ، ومعناه نفي الاعوجاج.
قال أبو محمد :
وهذا القول في غاية الفساد لوجوه :
أحدها : أنه تعالى
لم يسمّ نفسه مستويا ، ولا يحل لأحد أن يسمّي الله تعالى بما لم يسمّ به نفسه ،
لأنه من فعل ذلك فقد ألحد في أسمائه أي مال عن الحق ، وقد حدّ الله تعالى في
تسميته حدودا فقال تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [سورة الطلاق : ١].
وثانيها : أن
الأمة مجمعة على أنه لا يدعو أحد يقول : «يا مستوي ارحمني» ، ولا يسمّي ابنه عبد
المستوي.
وثالثها : أنه ليس
كل ما نفي عن الله عزوجل وجب أن يوقع عليه ضده ، لأننا ننفي عن الله عزوجل السكون ، ولا يحل أن نسمي الله عزوجل متحركا ، وننفي عنه الحركة ، ولا يجوز أن يسمّى ساكنا ،
وننفي عنه الخشم ولا يجوز أن يسمى شمّاما
__________________
وننفي عنه النّوم
، ولا يجوز أن يسمى يقظان ، ولا منتبها ، ولا يسمّى لنفي الانحناء عنه مستقيما ،
وكذلك كلّ صفة لم يأت بها النصّ ، فكذلك الاستواء والاعوجاج منفيان عنه معا ،
سبحانه وتعالى عن ذلك لأن كل ذلك من صفات الأجسام ، ومن جملة الأعراض ، والله قد
تعالى عن الأعراض.
ورابعها : أنه
يلزم من قال بهذا القول أن يكون العرش لم يزل تعالى الله عن ذلك ، لأنه تعالى علّق
الاستواء بالعرش فلو كان الاستواء لم يزل لكان العرش لم يزل فهذا كفر.
وخامسها : أنه لو
كان الاستواء هاهنا نفي الاعوجاج لم يكن لإضافة ذلك إلى العرش معنى ، ولكان كلاما
فاسدا لا وجه له.
فإن اعترضوا
فقالوا : إنكم تسمّونه سميعا بصيرا ، وأنه لم يزل كذلك فيلزم على هذا أن المسموعات
والمبصرات لم تزل.
قلنا لهم وبالله
تعالى نتأيد : هذا لا يلزمنا لأننا لا نسمي الله تعالى إلّا بما سمّى نفسه فنقول
إن الله تعالى السميع البصير لم يزل وهو السميع البصير بذاته كما هو لا بسمع ولا
ببصر ، ولم نزد على ما أتى به النص شيئا. ونحن نقول : إنه تعالى لم يزل بصيرا
بالمبصرات ، سميعا بالمسموعات يرى المرئيات ويسمع المسموعات ، ومعنى هذا كله أنه
عالم بكل ذلك ويعلم كل ذلك على ما يكون عليه ثم على حقيقته وعلى ما هو عليه ، هذا
معنى العلم الذي لا يقتضي وجودا لمعلومات لم تزل ، وهذا نجده حسّا ومشاهدة وضرورة
، لأننا لما بينا زيدا سيموت وأن موته لم يقع بعد وليس هكذا قولهم في الاستواء
لأنه مرتبط بالعرش. فإن قالوا فإذن معنى «سميع بصير» هو معنى «عليم» فقولوا : إنه
تعالى يبصر المسموعات ويسمع المرئيات؟ قلنا وبالله تعالى التوفيق :
ما نمنع من هذا
ولا ننكره ، بل هو صحيح لأن الله تعالى إنما قال : أسمع وأرى. فهذا إطلاق على كل
شيء على عمومه ، وبالله تعالى التوفيق.
والقول الرابع في
معنى الاستواء : هو أنّ معنى قول الله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) : أنه فعل فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه ، فليس بعد
العرش شيء ، ويبيّن ذلك أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذكر الجنات وقال : «فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنّه وسط
الجنة وأعلى الجنة ، وفوق ذلك عرش الرحمن» فصحّ أنه ليس وراء العرش
__________________
خلق ، وأنه نهاية
جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء ، ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من
المسامحة والزمان والمكان أو من جرمه فقد لحق بقوله الدّهرية ، وفارق الإسلام.
والاستواء في
اللغة يقع على الانتهاء ، قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [سورة القصص : ١٤].
أي : فلما انتهى
إلى القوة والخير. وقال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) [سورة فصلت : ١١].
أي أنّ خلقه وفعله
انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه وبالله تعالى التوفيق.
وهذا هو الحق وبه
نقول لصحة البرهان به وبطلان ما عداه. فأمّا القول الثالث في المكان : فهو أن الله
تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلا ، وهو قول الجمهور من أهل السنة وبه نقول ، وهو
الذي لا يجوز غيره لبطلان ما عداه ، ولقوله تعالى : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ مُحِيطٌ) [سورة فصلت : ٥٤].
فهذا يوجب ضرورة
أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطا به من جهة ما أو من
جهات ، وهذا منتف عن الباري تعالى بنص الآية المذكورة ، والمكان شيء بلا شك ، فلا
يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطا بمكانه ، وهذا محال في العقل يعلم
امتناعه ضرورة. وبالله التوفيق.
وأيضا فإنه لا
يكون في مكان إلّا ما كان جسما أو عرضا في جسم ، هذا الذي لا يجوز سواه ، ولا
يتشكل في العقل والوهم غيره البتة ، فإذا انتفى أن يكون الله عزوجل جسما أو عرضا فقد انتفى أن يكون في مكان أصلا وبالله تعالى
نتأيّد.
وأمّا قوله تعالى
: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [سورة الحاقة : ١٧].
فقوله الحق نؤمن به
يقينا والله أعلم بمراده في هذا القول ، ولعلّه عزوجل عنى السماوات والكرسي فهذه ثمانية أجرام ، هي يومئذ والآن
بيننا وبين العرش ، ولعلهم أيضا ثمانية ملائكة ، والله أعلم ، نقول ما قاله ربنا
تعالى ، ونقطع أنه حق يقين على ظاهره ، وهو أعلم بمعناه ومراده ، وأمّا الخرافات
فلسنا منها في شيء ، ولا يصحّ هذا في خبر عن النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولكنا نقول : هذه غيوب لا دليل لنا على المراد بها ،
لكنّا نقول : (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ
مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) [سورة آل عمران :
٧]. وكل ما قاله الله تعالى حق ليس منه
شيء منافيا للعقول
، بل هو كله قبل أن يخبرنا الله به في حدّ الإمكان عندنا ، ثم إذا أخبر به عزوجل صار واجبا حقا يقينا ، وقد قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ) [سورة غافر : ٧].
فصحّ يقينا أنّ
للعرش حملة ، وهم الملائكة المنفذون لأمره تعالى ، كما نقول : أنا أحمل هذا الأمر
أي أقوم به وأتولّاه ، وقد قال تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) [سورة النحل : ٥٠]
وأنهم يتنزلون بالأمر. وأما الحامل للكل والممسك للكل فهو الله تعالى عزوجل ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ
أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [سورة فاطر : ٤١].
الكلام في العلم
قال الله عزوجل : (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) [سورة النساء : ٦٦].
فأخبر تعالى : أن
له علما ، ثم اختلف الناس في علم الله تعالى فقال جمهور المعتزلة : إطلاق العلم
لله تعالى إنما هو مجاز لا حقيقة ، وإنما معناه : أنه لا يجهل.
وقال سائر الناس :
إنّ لله تعالى علما حقيقة لا مجازا ، ثم اختلف هؤلاء فقال جهم بن صفوان وهشام بن
الحكم ، ومحمد بن عبد الله بن مسرة الجيلي وأصحابهم : إنّ علم الله تعالى هو غيره ، وهو محدث مخلوق ،
سمعنا ذلك ممن جالسناه منهم ، وناظرناهم عليه.
وقالت طوائف من
أهل السنة : علم الله تعالى غير مخلوق لم يزل ، وليس هو الله ، ولا هو غير الله.
وقال الأشعري في
أحد قوليه : لا يقال هو الله ، ولا يقال هو غير الله.
__________________
وقال في قول له
آخر وافقه عليه الباقلاني وجمهور أصحابه : إن علم الله تعالى هو غير الله ، وإنه مع
ذلك غير مخلوق لم يزل.
وقال أبو الهذيل
العلّاف وأصحابه : علم الله تعالى لم يزل وهو الله ، وقالت طوائف
من أهل السنة : علم الله تعالى لم يزل وهو غير مخلوق ، وليس هو غير الله ، ولا
نقول هو الله.
وكان هشام بن عمرو
الفوطي أحد شيوخ المعتزلة لا يطلق القول بأنّ الله تعالى لم يزل
عالما بالأشياء قبل كونها ، ليس لأنه لا يعلم ما يكون قبل أن يكون ، بل كان يقول
بأن الله تعالى لم يزل عالما بأنه ستكون الأشياء إذا كانت.
قال أبو محمد :
فأما من أنكر أن يكون لله تعالى علم فإنهم قالوا : لا يخلو لو كان لله علم من أن
يكون غيره أو يكون هو هو ، فإن كان غيره فلا يخلو من أن يكون مخلوقا أو لم يزل.
وأيّ الأمرين كان فهو فاسد ، فإن كان هو الله فالله علم وهذا فاسد.
قال أبو محمد :
أمّا نفس قولهم في أن ليس لله علم فمخالف للقرآن ، وما خالف القرآن فهو باطل ، ولا
يحل لأحد أن ينكر ما نصّ الله تعالى عليه وقد نصّ الله تعالى على أنّ له علما فمن
أنكره فقد اعترض على الله تعالى ، وأمّا اعتراضاتهم التي ذكرنا
__________________
ففاسدة كلها ،
وسنوضح فسادها إن شاء الله تعالى في إفسادنا لقول الجهمية والأشعرية ، لأن هذه
الاعتراضات من اعتراض هاتين الطائفتين ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
احتج جهم بن صفوان بأن قال : لو كان علم الله تعالى لم يزل لكان لا يخلو من أن
يكون هو الله تعالى أو غيره ، فإن كان علم الله تعالى غير الله وهو لم يزل ، فهذا
تشريك لله تعالى ، وإيجاب الأزلية لغيره تعالى معه وهذا كفر ، وإن كان هو الله
فالله علم وهذا إلحاد.
وقال : نسأل من
أنكر أن يكون علم الله تعالى هو غيره ، فنقول : أخبرونا ، إذا قلنا الله ، ثم قلنا
: إنه عليم فهل فهم من قولنا : «عليم» شيئا زائدا غير ما فهمتم من قولنا (الله) أم
لا؟
فإن قلتم : لا.
أحلتم.
وإن قلتم : نعم ،
أثبتم معنى آخر هو غير الله ، وهو علمه ، وهكذا قالوا في (قدير) وفي (قوي) وفي
سائر ما ادّعوا فيه الصفات.
وقال أيضا : إننا
نقول إنّ الله تعالى عالم بنفسه ، ولا نقول قادر على نفسه فصح أن علمه تعالى غير
قدرته ، وإذ هو غيرهما فهما غير الله تعالى ، وقد يعلم الله تعالى قادرا من لا
يعلمه عالما ، ويعلمه عالما من لا يعلمه قادرا ، فصح أن كلّ ذلك معان متغايرة.
واحتج بهذا كله
أيضا من رأى أن علم الله تعالى لم يزل ، وأنه مع ذلك غير الله تعالى ، وأنه غير
قدرته أيضا ، واحتج بآيات من القرآن مثل قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [سورة محمد : ٣١].
ومثل هذه.
قال أبو محمد : من
قال بحدوث العلم فإنه قول عظيم جدّا لأنه نصّ بأن الله تعالى لم يعلم الأشياء حتى
أحدث لنفسه علما ، وإذا ثبت أن الله تعالى يعلم الآن الأشياء فقد انتفى عنه الجهل
يقينا ، فلو كان يوما من الدّهر لا يعلم شيئا مما يكون فقد ثبت له الجهل به ولا بد
من هذا ضرورة ، وإثبات الجهل لله تعالى كفر بلا خلاف ، لأنه وصفه تعالى بالنقص ،
ووصفه يقتضي له الحدوث ولا بدّ ، وهذا باطل مما قدمنا من انتفاء جميع صفات الحدوث
عن الفاعل تعالى ، وليس هذا من باب نفي الضدّين عنه كنفينا عنه تعالى الحركة
والسكون لأنّ نفي جميع الضدّين موجود عما ليس فيه أحدهما ولا كلاهما ، وأمّا إذا
ثبت للموصوف بعض نوع من الصفات ، وانتفى عنه بعض ذلك النوع فلا بدّ هاهنا ضرورة من
إثبات ضدّه ، مثال ذلك الحجر ، انتفى
عنه العلم والجهل
، وأما الإنسان إذا ثبت له العلم بشيء ، وانتفى عنه العلم بشيء آخر فقد وجب ضرورة
إثبات الجهل له بما لم يعلمه ، وهكذا في كل شيء ، فإذ قد صحّ هذا فالواجب النظر في
إفساد احتجاجهم ، فأمّا قولهم : لو كان علم الله لم يزل ، وهو غير الله تعالى لكان
ذلك شركا ـ فهو قول صحيح ، واعتراض لا يرد.
وأمّا قولهم : لو
كان هو الله لكان الله علما ، فهذا لا يلزم على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى
، وجملة ذلك أننا لا نسمّي الله تعالى إلّا بما سمّى به نفسه ، ولم يسمّ نفسه علما
ولا قدرة ، فلا يحل لأحد أن يسميه بذلك.
وأما قولهم : هل
يفهم من قول القائل (الله) كالذي يفهم من قوله (عالم) فقط؟ أو يفهم من قوله (عالم)
معنى غير ما يفهم من قوله (الله)؟.
فجوابنا وبالله
تعالى التوفيق : إننا لا نفهم من قولنا : قدير وعالم إذا أردنا بذلك الله عزوجل إلّا ما نفهم من قولنا الله فقط لأن كل ذلك أسماء أعلام لا
مشتقة من صفة أصلا ، لكن إذا قلنا هو الله تعالى بكل شيء عليم ، ويعلم الغيب ،
فإنما يفهم من كل ذلك أن هاهنا له تعالى معلومات ، وأنه لا يخفى عليه شيء ، ولا
يفهم منه البتة أن له علما هو غيره ، وهكذا نقول في (قدير) وفي غير ذلك ، وأمّا
قولهم إننا نقول : إنّ الله تعالى عالم بنفسه ولا نقول : إنه قادر على نفسه ، فقد
كذب من قال ذلك وأفك بل كلّ ذلك سواء ، وهو تعالى قادر على نفسه كما هو عالم بها
ولا فرق ، فإن كلمونا هاهنا أجبناهم ، وقد سقط عنا هذا السؤال جملة ، وقد تكلمنا
على تفصيل هذا السؤال بعد هذا. ويلزمهم ضرورة إذ قالوا إنه تعالى غير قادر على
نفسه أنه عاجز عن نفسه ، وإطلاق هذا كفر صريح.
وأمّا قولهم إنه
قد يعلم الله قادرا من لم يعلم أنه عالم ، ويعلمه عالما من لا يعلمه قادرا فلا حجة
في ذلك ، لأن جهل من جهل الحق ليس حجة على الخلق ، وقد نجد من يعلم الله عزوجل ويعتقد فيه أنه تعالى جسم ، فليست الظنون حجة في إبطال حق
، ولا تحقيق باطل ، فصحّ أن علم الله تعالى حق وقدرته حق وقوته حق ، وكل ذلك ليس
هو غير الله تعالى ، ولا العلم غير القدرة ، ولا القدرة غير العلم ، إذ لم يأت
دليل بغير هذا لا من نصّ ولا من سمع ، وبالله تعالى التوفيق.
وجهم بن صفوان سمرقندي يكنى أبا محرز ، مولى لبني راسب من الأزد ،
__________________
وكان كاتبا للحارث
بن سريج التميمي ، أيام قيامه على نصر بن سيّار ، أمير مرو بخراسان ، فظفر سلم بن أحوز بجهم في تلك الأيام فضرب عنقه .
قال أبو محمد :
ومعنى كل ما جاء في القرآن من الآيات التي ذكروا هو ما نبينه إن شاء الله تعالى
بحوله عزوجل وقدرته ، وهو أنه لما أخبرنا الله عزوجل بأن أهل النار لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وأخبرنا عزوجل أنه يعلم متى تقوم الساعة ، وأخبرنا بما يقول أهل الجنة
وأهل النار قبل أن يقولا ، وسائر ما في القرآن من الأخبار الصادقة عمّا لم يكن بعد
، علمنا بذلك أن علمه تعالى بالأشياء كلها متقدم لوجودها ولكونها ضرورة ، وعلمنا
أن كلامه عزوجل لا يتناقض ولا يتدافع ، وأن المراد بقوله الله تعالى : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ
مِنْكُمْ) [سورة محمد : ٣١]
وسائر ما في القرآن من مثل هذا إنما هو على ظاهره دون تكلف تأويل ، بل هي على
المعهود بيننا كقوله تعالى : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً
لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [سورة طه : ٤٤].
إنما هذا على حسب
إدراك المخاطب ، ومعنى ذلك : حتى نعلم من يجاهد منكم مجاهدا ، ونعلم من يصير منكم
صابرا ، وهذا لا يكون إلّا في حين جهادهم وحين صبرهم ، وأمّا قبل أن يجاهدوا
ويصبروا فإنما علمهم غير مجاهدين وغير صابرين ، وأنهم سيجاهدون ويصبرون. فإذا
جاهدوا علمهم حينئذ مجاهدين ، وإنما الزّمان في كل هذا للمعلوم ، وأمّا علمه تعالى
ففي غير زمان وليس هاهنا تبدّل علم ، وإنما يتبدّل المعلوم فقط ، والعلم في كل ذلك
لم يزل غير متبدّل.
فإن قالوا : متى
علم الله زيدا ميتا؟ فإن قلتم لم يزل يعلمه ميتا ، وجب أنّ زيدا لم يزل ميتا ،
وهذا محال. وإن قلتم لم يعلمه ميتا حتّى مات فهذا قولنا لا قولكم.
__________________
فالجواب عن هذا
أننا لا نقول شيئا ممّا ذكروا ولكننا نقول : إن الله عزوجل لم يزل أنه سيخلق زيدا ، وأنه سيعيش كذا وكذا وسيموت في
وقت كذا ، فعلم الله تعالى بكل ذلك واحد لا يتبدّل ولا يستحيل ، ولا زاد فيه تبدل
الأحوال التي للمعلوم شيئا ولا نقص منه عدمها شيئا ولا أحدث له حدوث ذلك علما لم
يكن وإنما تغاير المعلومات لا العلم لا العليم ولا القدرة ولا القدير.
والفرق بين القول
متى علم الله زيدا ميتا ..؟ وبين القول متى علمت زيدا ميتا ..؟ فرق بيّن وهو علمي
أن زيدا مات وهو عرض حدث في النفس بحدوث موت زيد ، وهو غير علمي أن زيدا حي وأنه
سيموت ، لأن علمي بأنّ زيدا سيموت إنما هو علم بحدوث حال سيحدث مقتضيه لموته يوما
ما ، لا علمنا بوجود الموت ، وعلمي بأن زيدا ميّت علم بوجود الموت فهو غير العلم
الأول وكلاهما عرض مخلوق في النفس ، وعلم الله تعالى ليس كذلك ، لأنه ليس هو شيئا
غير الله تعالى ، ولو كان علم الله تعالى محدثا لوجب ضرورة أن يكون على حكم سائر
المحدثات ، وبضرورة العقل نعلم أن العلم كيفيّة عرض ، والعرض لا يقوم البتة إلّا
في جسم ، ومحال أن يكون العلم محمولا في غير العالم فكان يجب من هذا القول
بالتجسيم ، وهذا باطل بما قدّمنا من البراهين على وجوب حدوث كل جسم وعرض. فإن قال
قائل : علم الله تعالى عرض حادث في المعلوم قائم به لا بالباري عزوجل ولا بنفسه قلنا وبالله تعالى التوفيق :
بنصّ القرآن علمنا
أنّ الله عزوجل عنده علم الساعة ، وعلم ما لا يكون أبدا ، أو لو كان كيف
كان يكون ، إذ يقول تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [سورة الأنعام :
٢٨].
وعلمه تعالى إذ
قال لنوح عليهالسلام : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [سورة هود : ٣٦].
وأخبر تعالى أنهم
مغرّقون. فلو كان علم الله تعالى عرضا قائما في المعلوم ، والمعلوم الذي هو الساعة
غير موجود بعد ، والعلم موجود بيقين ، فلا بدّ ضرورة من أحد أمرين لا ثالث لهما ،
إمّا أن يكون المعلوم موجودا لوجود العلم ، وهذا باطل بضرورة الحس ، لأنّ المعلوم
الذي ذكرنا معدوم فيكون معدوما موجودا في حين واحد من جهة واحدة ، أو يكون العلم
الموجود قائما بمعلوم معدوم ، فيكون عرضا موجودا محمولا في حامل معدوم ، وهذا
تخليط ومحال فاسد البتة ، وإنما كلامنا هذا مع أهل
ملتنا المقربين
بالقرآن ، وأمّا سائر الملل فلسنا نكلمهم في هذا ، لأنها نتيجة مقدمات سوالف ، ولا
يجوز الكلام في النتيجة إلّا بعد إثبات المقدّمات ، فإن ثبتت المقدّمات ثبتت
النتيجة ، والبرهان لا يعارضه برهان ، فكل ما ثبت ببرهان فعورض بشيء فإنّما هو شغب
بلا شك ، وإن لم تصح المقدّمات فالنتيجة باطلة دون تكلف دليل. ومقدّمات ما ذكرنا
هي إثبات التوحيد ، وحدوث العالم بنقل الكواف لنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم والقرآن فإن ذكروا الآيات التي في القرآن مثل (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) «لعلّكم تؤمنون» (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) ونحو ذلك فإنما هي كلها بمعنى لام العاقبة أي ليتذكر ،
ولتؤمنوا ، وليشكروا وليتذكروا ، وليخشى ، على ظاهر الأمر عندنا من إمكان كل ذلك
منا كما قال عزوجل : (لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [سورة الملك : ٢].
وقال عزوجل : (ثُمَّ لِتَكُونُوا
شُيُوخاً) [سورة غافر : ٦٧].
فهذا أيضا على
الإمكان ممّن عاش ، والأول على الممكن من الناس عند الخطاب والدّعاء إلى الله
تعالى ، وكذلك كل ما جاء في القرآن بلفظة «أو» فإنما هو على أحد وجهين إمّا على
الشّك من المخاطبين لا من الله تعالى ، وإمّا بمعنى التخيير في الكل كقول القائل :
«جالس الحسن أو ابن سيرين».
برهان ذلك : ورود
النص بأنه تعالى لا يضلّ ولا ينسى ، وأنه قد علم أن فرعون لا يؤمن حتى يرى العذاب
، وكما قال تعالى : (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [سورة هود : ٣٦].
وبهذا تتآلف
النصوص كلها ، فلم يبق لأهل القول بحدوث العلم إلّا أن يقولوا إنه تعالى خلق شيئا
ما كان حاملا لعلمه بالسّاعة.
قال أبو محمد :
وهذا من السخف ما هو من العلم لأن علم الله تعالى لا يقوم بغيره ، ولا يحمله سواه
، هذا أمر يعلم بالضرورة والحسّ ، فمن ادّعى دعوة لا يأتي عليها بدليل فهي باطلة
فكيف إذا أبطلها الحسّ وضرورة العقل ، ويبيّن ما قلناه نصا قوله تعالى حاكيا عن
نبيه موسى صلىاللهعليهوسلم أنه قال لبني إسرائيل : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ
تَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف :
١٢٩].
هذا مع قوله تعالى
: (وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا
عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ
وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ
بِأَمْوالٍ
وَبَنِينَ
وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ
وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما
عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [سورة الإسراء : ٤
ـ ٨].
فهذا نصّ قولنا
إنه تعالى قد علم ما يفعلون ، وأخبر بذلك ، ثمّ مع هذا أخرج الخطاب بالمعهود عندنا
بلفظ «عسى» و «فينظر».
قال أبو محمد :
فإذ قد صحّ ما ذكرنا فقد ثبت ضرورة أنّ قول القائل : متى علم الله زيدا ميّتا سؤال
فاسد بالضرورة لأن «متى» سؤال عن زمان وعلم الله تعالى ليس في زمان أصلا لأنه ليس
هو غير الله تعالى ، وقد مضى البرهان على أنّ الله تعالى ليس في زمان ولا في مكان
، وإنّما الزّمان والمكان للمعلوم فقط كما بيّنا ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن اعترض معترض
بقوله الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [سورة البقرة :
٢٥٥].
فقال : إنّ «من»
للتبعيض ، ولا يتبعض إلّا مخلوق محدث ، ولا يحاط إلا بمخلوق محدث ، وقد نص الله
تعالى على أنه لا يحاط إلّا بما شاء من علمه فوجب أنّ علمه مخلوق ، لأنه يحاط
ببعضه ، وهو متبعض.
فالجواب وبالله
تعالى التوفيق : أنّ كلام الله تعالى واجب أن يحمل على ظاهره ، ولا يحال عن ظاهره
البتة إلا أن يأتي نصّ أو إجماع أو ضرورة حسّ ، على أن شيئا منه ليس على ظاهره ،
وأنه قد نقل عن ظاهره إلى معنى آخر ، فالانقياد واجب علينا لما أوجبه من ذلك النص
أو الإجماع أو الضرورة ، لأنّ كلام الله تعالى وأخباره وأوامره لا تختلف والإجماع
لا يأتي إلّا بحق ، والله تعالى لا يقول إلّا الحق ، وكلّ ما أبطله برهان ضروري
فليس بحق ، فإذ هذا كما قلنا ، وقد ثبت ضرورة أنّ علم الله تعالى ليس عرضا ولا جسما
أصلا لا محمولا فيه ، ولا في غيره ولا هو شيء غير الباري تعالى فبالضرورة نعلم أنّ
معنى قوله عزوجل : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) إنما المراد العلم المخلوق الذي أعطاه عباده وهو عرض في
العالمين من عباده محمول فيهم ، وهو مضاف إليه عزوجل بمعنى الملك وهذا لا شك فيه ، لأنه لا علم لنا إلّا ما
علّمنا. قال الله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) [سورة الإسراء :
٨٥].
يريد الله تعالى :
ما خلق من العلوم وبثّها في عباده كما قال الخضر لموسى عليهماالسلام : إنّي على علم من علم الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم
من علم الله
لا أعلمه أنا ،
وما نقص علمي وعلمك من علم الله إلّا كما نقص هذا العصفور من البحر.
قال أبو محمد :
فهذه إضافة الملك كما بينا ، وإنّما أضيف العلم هاهنا إلى الله تعالى إضافة ملك ،
كما قال تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) [سورة لقمان : ١١].
وكما قال تعالى في
عيسى عليهالسلام : «إنه روح الله».
وهذا كله إضافة
الملك ، فهذا معنى قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [سورة البقرة :
٢٥٥].
وقد نفى الله
تعالى الإحاطة من الخلق به ، فقال عزوجل : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) [سورة طه : ١١٠].
أي من العلم بالله
تعالى ، وهذا حقّ لا شكّ فيه لأننا لا نحيط من العلم به تعالى إلّا ما علّمنا فقط
، قال تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً).
فيكون معنى «من
علمه» أي من معرفته.
فإن قالوا : ما
معنى دعائكم الله في الرحمة والمغفرة؟ وهل يخلو أن يكون قد سبق علمه بالرّحمة ،
فأيّ معنى للدّعاء فيما لا بدّ منه؟ وهل يكون إلّا كمن دعا في طلوع الشمس غدا ، أو
في أن يجعل إنسانا إنسانا ، أو في أن تكون الأرض أرضا ، وإن كان قد سبق في علمه
تعالى خلاف ذلك فأيّ معنى للدّعاء فيما لا يكون ..؟ وهل هو إلّا كمن دعا في ألّا
تقوم السّاعة ، أو في ألّا يكون النّاس ناسا؟
فيقال لهم وبالله
تعالى التوفيق : الدعاء عمل أمرنا الله تعالى به لا على أنه يردّ قدرا ولا أنه
يكون من أجله ما لا يكون ، لكن الله عزوجل قد جعل في سابق علمه الدعاء الذي سبق في علمه قبوله يدعى
به سببا لما سبق في علمه كونه ، كما جعل في سابق علمه الغذاء بالطعام والشّراب
سببا لبلوغ الأجل ، الذي سبق في علمه البلوغ إليه ، وكذلك سائر الأعمال ، وقد نص
تعالى أنه يعلم آجال العباد ، قال تعالى : (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [سورة الأعراف :
٣٤].
ومع ذلك فقد جعل
تعالى الأكل والشرب سببا إلى استيفاء ذلك المقدار وكل ذلك سابق في علمه عزوجل ، والدّعاء هكذا ، وكذلك التداوي على سبيل الطب ، ولا فرق
، وقد أخبرنا تعالى أنه يصلّي على نبيّه صلىاللهعليهوسلم وأمرنا مع ذلك بالدّعاء بالصّلاة عليه ، وقال تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) [سورة الأنبياء :
١١٢]. فأمرنا بالدّعاء بذلك ، وقد علّمنا أنه تعالى لا يحكم إلّا بالحق فصح ما
قلنا من أنّ الدّعاء عمل أمرنا به
فنحن نعمله حيث
أمرنا عزوجل ، ولا نعمله حيث لم نؤمر به والحمد لله ربّ العالمين.
فإذ قد بطل بعون
الله تعالى وتأييده قول من قال إنّ علم الله تعالى هو غير الله تعالى وهو مخلوق
فلنتكلم بعون الله تعالى وتأييده على قول من قال : إنّ علم الله تعالى هو غير الله
تعالى وخلافه ، وأنه لم يزل مع الله عزوجل.
قال أبو محمد :
هذا قول لا يحتاج في ردّه إلى أكثر من أنه شرك مجرّد ، وإبطال للتوحيد ، لأنه إذا
كان مع الله تعالى شيء غيره لم يزل معه فقد بطل أن يكون الله تعالى كان وحده بل قد
صار له شريك في أنه لم يزل ، وهذا كفر مجرّد ، ونصرانية محضة مع أنها دعوى ساقطة
بلا دليل أصلا. وما قال بهذا قط أحد من أهل الإسلام قبل هذه الفرقة المحدثة بعد
الثلاثمائة سنة فهو خروج عن الإسلام ، وترك للإجماع المتيقّن ، وقد قلت لبعضهم :
إذا قلتم إنه لم يزل مع الله تعالى شيء آخر هو غير الله تعالى وخلافه لم يزل معه
فلما ذا أنكرتم على النصارى في قولها : إنّ الله ثالث ثلاثة؟ فقال لي مصرّحا : ما
أنكرنا على النّصارى إلّا اقتصارهم على الثلاثة فقط ، ولم يجعلوا معه تعالى أكثر
من ذلك.
فأمسكت عنه إذ
صرّح بأنّ قولهم أدخل في الشّرك من قول النّصارى. وقولهم هذا ردّ لقول الله عزوجل : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) [الإخلاص : ١].
فلو كان مع الله
غير الله لم يكن الله أحد.
قال أبو محمد :
وما كنّا نصدّق أنّ من ينتمي إلى الإسلام يأتي بهذا الكفر لو لا أنّا شاهدناهم
وناظرناهم ، ورأينا ذلك صراحا في كتبهم ككتاب السمناني قاضي الموصل في عصرنا هذا ، وهو من أكابرهم ، وفي كتاب
المجالس للأشعري وفي كتب لهم أخر.
قال أبو محمد :
والعجب من هذا كله تصريح الباقلاني وابن فورك في كتبهما
__________________
في الأصول وغيرها
أن علم الله تعالى واقع مع علمنا تحت حدّ واحد ، وهذه حماقة ممزوجة بكفر ، إذ
جعلوا ما لم يزل محدودا بمنزلة المحدثات ، وكل ما أدخلناه على المنانية والنصارى
ومن يبطل التوحيد فهو داخل على هذه الفرقة حرفا حرفا فأغنانا أن نحيل على ذلك عن
تكراره ، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
هذا مع قولهم إنّ التغاير لا يكون إلّا فيما جاز أن يوجد أحدهما دون الآخر.
قال أبو محمد :
وهذه غاية السخافة لأنها دعوى بلا برهان عليها لا من قرآن ولا من سنّة ، ولا معقول
ولا من لغة أصلا ، وما كان هكذا فهو باطل ، ويلزمهم على هذا أن الخلق ليسوا غير
الخالق ، لأنه لا يجوز أن يوجد الخلق دون الخلق ، فإن قالوا : جائز أن يوجد الخالق
دون الخالق. قلنا : نعم فمن أين لكم أن أحد التغاير هو أنه لا يجوز أن يوجد أحدهما
أيهما كان دون الآخر ..؟ وهذا ما لا سبيل لهم إليه ، ويلزمهم لزوما لا ينفكون عنه
أن الأعراض ليست غير الجواهر ، لأنه لا يجوز البتة ولا يمكن ولا يتوهم وجود أحدهما
دون الآخر جملة ، ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
وحدّ التغاير الصحيح هو ما شهدت له اللغة وضرورة الحسّ والعقل ، وهو كل اسمين جاز
أن يخبر عن أحدهما بخبر لا يخبر به عن الآخر فهما غيران لا بدّ من هذا ، وبالجملة
ما لم يكن هو الشيء نفسه فهو غيره ، وما لم يكن غير الشيء نفسه فهو نفسه وبالله
تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
فإذ قد بطل بعون الله تعالى وتأييده قول من قال إن علم الله تعالى هو غير الله
تعالى ثم جعله مخلوقا أو لم يزل فلنقل في سائر الأقوال في هذه المسألة إن شاء الله
تعالى ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
قال أبو محمد :
وأمّا من قال : إنّ علم الله تعالى ليس هو هو ولا هو غيره ولكنّه صفة ذات لم يزل
فكلام فاسد محال متناقض يبطل بعضه بعضا لأنهم إذا قالوا : إنّ علم الله تعالى ليس
هو الله فقد أوجبوا بهذا القول ضرورة أنه غيره ، ثم إذا قالوا : ولا
__________________
هو غيره فقد
أبطلوا الغيرية ، وأوجبوا بهذا القول ضرورة أنه هو ، فصح أنه سواء قول القائل لا
هو هو ولا هو غيره ، وقول القائل هو هو وهو غيره فإنّ معنى القضيتين واحد لا يختلف
، وكلا العبارتين باطل متناقض لا يعقل نفي وإثبات معا. وهذا تخليط الممرورين نعوذ
بالله من الخذلان ، والعجب من احتجاج بعضهم في هذا الباطل بأن قال : الطول ليس هو
الطويل ولا هو غيره.
قال أبو محمد :
وهذا من أطم ما يكون من الجهل والمكابرة إذ لا يدري هذا القائل : أنّ الطويل جسم
جوهر قائم بنفسه حامل لطوله ولسائر أعراضه ، وأن الطول عرض من الأعراض محمول في
الطويل غير قائم بنفسه ، فمن جهل أنّ المحمول غير الحامل ، وأن القائم بنفسه هو
غير ما لا يقوم بنفسه فهو عديم حس ، وينبغي له أن يتعلّم قبل أن يهذر. ونحن نريه
الطين الطويل يدور فيذهب الطول والتربيع ويأتي التدوير ، والذي كان طويلا باق
بحسّه ، فهل يخفى على سائر التمييز أنّ الذاهب غير الجائي ، وأن الفاني غير الباقي؟
فبالضرورة نعلم أنّ الطول غير الطويل ، ثم نقول لمن تعلّق بهذه العبارة الفاسدة
أخبرونا : هل يخلو كل اسمين متغايرين من أحد وجهين ضرورة لا ثالث لهما البتة ..؟
إمّا أن يكون الاسمان واقعين معا على شيء واحد يعبّر بذينك الاسمين عن ذلك الشيء
الذي علقا عليه ، وإمّا أن يكون الاسمان واقعين على شيئين اثنين يعبّر بكل اسم
منهما على حدته عن الشيء الذي علق عليه ذلك الاسم؟
هذان وجهان لا بدّ
من أحدهما ضرورة لكل اسمين ، وأيّ هذين كان فهو مبطل لتخليط من قال : لا هو هو ،
ولا هو غيره ، وقد زاد بعضهم في الشعوذة والسفسطة وإبطال الحقائق فأتى بدعوى فاسدة
، وذلك أن قال : لا يكون الشيء غير الشيء إلّا إذا أمكن أن ينفرد أحدهما عن الآخر.
قال أبو محمد :
وهذه دعوى مجرّدة لا دليل عليها ، فلو لم يكن إلّا هذا السقط وهذا التمويه ، فكيف
وهي قضية فاسدة ..؟ لأنها توجب أنّ كلية الأعراض ليست غير كلية الجواهر ، لأنه لا
سبيل إلى انفراد الجواهر عن الأعراض ، ولا انفراد الأعراض عن الجواهر ، فكفى فسادا
بكل هذيان أدّى إلى مثل هذا التخليط.
قال أبو محمد :
حدّ التغاير في الغيرين : هو كل شيء أخبر عنه بخبر ما ، لا يكون ذلك الخبر في ذلك
الوقت خبرا عن الشيء الآخر فهو بالضرورة غير ما لا يشاركه في ذلك الخبر ، وليس في
كل ما يعلم ويوجد شيئان يخلوان من هذا الوصف بوجه من الوجوه ، وهذا مقتضى لفظ
الغير في اللغة ، وبالله تعالى التوفيق.
مع أنّ هذا أمر
يعلم بضرورة الحسّ والعقل.
وحدّ الهوية : هو
أنّ كلّ ما لم يكن غير الشيء فهو هو بعينه ، إذ ليس بين الهويّة والغيرية وسيطة
يعقلها أحد البتة ، فما خرج عن أحدهما دخل في الآخر ولا بدّ.
وأيضا فكل اسمين
مختلفين لا يخبر عن مسمى أحدهما بشيء إلّا كان ذلك الخبر خبرا عن مسمى الاسم الآخر
ولا بدّ أبدا فمسماهما واحد بلا شك ، فإذ قد صح فساد هذا القول فلنقل بعون الله
تعالى في عبارة الأشعري الأخرى ، وهو قوله : «لا يقال هو هو ، ولا يقال هو غيره» ،
فنقول : إنه لم يزد في هذه العبارة على أن قال : «لا يقال في هذا شيء».
قال أبو محمد :
وهذا خطأ لأنه لا بدّ ضرورة من أحد هذين القولين أو قول ثالث وهو نفي الغيرية ،
وإن لم يطلق هو هو ، أو نفي الهوية ، وإن لم يطلق أنه غيره فسقط هذا القول أيضا إذ
ليس فيه بيان الحقيقة.
وأمّا قول أبي
الهذيل : إن علم الله تعالى هو الله فإنها تسمية منه للباري تعالى باستدلاله فلا
يجوز أن يسمّى الله تعالى ولا يوصف باستدلال البتة ، لأنه بخلاف كلّ ما خلق فلا
دليل يوجب تسميته بشيء من الأسماء التي يسمّى بها شيء من خلقه ، ولا أن يوصف بصفة
يوصف بها شيء من خلقه ، ولا أن يخبر عنه بما يخبر به عن شيء من خلقه ، إلّا أن
يأتي نص بشيء من ذلك فيوقف عنده. فمن وصفه تعالى بصفة يوصف بها شيء من خلقه ، أو
سمّاه باسم يسمّى به شيء من خلقه استدلالا على ذلك بما وجد في خلقه فقد شبّهه
تعالى بخلقه ، وألحد في أسمائه ، وافترى الكذب.
ولا يجوز أن يسمّى
الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلّا بما سمّى به نفسه ، أو أخبر به عن نفسه في كتابه
أو على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم ، أو صحّ به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقّن ولا مزيد ،
وحتى ولو كان المعنى صحيحا ، فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ ، وقد علمنا يقينا
أنه تعالى بنى السماء ، قال تعالى : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [سورة الذاريات :
٤٧] ولا يجوز أن يسمّى بنّاء : وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان ، وأنه تعالى
قال : (صِبْغَةَ اللهِ) [سورة البقرة :
١٣٨] ولا يجوز أن يسمّى صبّاغا ، وهكذا كل شيء لم يسمّ به نفسه ، وليس يجب أن
يسمّى الله تعالى بأنه هو علمه ، وإن صحّ يقينا أن المراد بقوله تعالى أن له علما
ليس هو غيره لما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق. وقد صحّ يقينا أن المراد بقوله
تعالى أن له علما ليس هو غيره لما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق. وقد صحّ أنّ ذات
الله تعالى ليست غيره ، وأنّ وجهه ليس
غيره ، وأن نفسه
ليست غيره ، وأنّ هذه الأسماء لا يعبّر بها إلّا عنه عزوجل لا عن شيء غيره تعالى البتة ، ولا يجوز أن يقال إنه تعالى
ذات ، ولا أنه وجه ، ولا أنه نفس ، ولا أنه علم ، ولا أنه قدرة ، ولا أنه قوّة لما
ذكرنا من امتناع أن يسمّى بما لم يسمّ به نفسه عزوجل.
وأمّا علم
المخلوقين فهو شيء غيرهم بلا شك لأنه يذهب ويعقبه جهل ، والباري تعالى لا يشبهه
غيره ، ولا شيء من خلقه البتة في شيء من هذه الأشياء البتة بل هو تعالى خلاف خلقه
في كلّ وجه فوجب أن علمه تعالى ليس غيره ، قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [سورة الشورى : ١١].
قال أبو محمد :
فإن قال لنا قائل إذن العلم عندكم ليس هو غير الله تعالى ، وأن قدرته ليست غيره ،
وأن قوته ليست غيره تعالى ، فأنتم إذن تعبدون العلم والقدرة والقوة؟
فجوابنا في ذلك
وبالله تعالى التوفيق : إننا إنما نعبد الله تعالى بالعمل الذي أمرنا به لا بما
سواه ، ولا ندعوه إلّا كما أمرنا تعالى ، قال الله عزوجل : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ) [سورة الأعراف :
١٨٠].
وقال تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا
اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [سورة البينة : ٥].
فنحن لا نعبد إلّا
الله تعالى كما أمرنا ، ولا نقول إننا نعبد العلم لأنّ الله تعالى لم يطلق لنا أن
نطلق هذا اللفظ ، ولا أن نعتقده.
ثم نسألهم عما
سألونا عنه بعينه فنقول لهم : أنتم تقرّون أنّ وجه الله تعالى وعين الله ، ويد
الله ، ونفس الله ، ليس شيء من ذلك غير الله تعالى بل كل ذلك عندكم هو الله ،
فأنتم إذن تعبدون الوجه ، والعين ، واليد ، والذات؟!
فإن قالوا نعم.
قلنا لهم : فقولوا في دعائكم يا يد الله ارحمينا ، ويا عين الله ارضي عنا ، ويا
ذات الله اغفري لنا ، فإيّاك نعبد. وقولوا : نحن خلق وجه الله ، وعبيد عين الله ،
فإن جسروا على ذلك فنحن لا نجيز الإقدام على ما لم يأذن به الله ، ولا نتعدّى
حدوده ، فإن شهدوا فلا نشهد معهم. (وَمَنْ يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [سورة الطلاق : ١].
والذين ألزمونا من
هذا هو لازم لهم لا بدّ ، لأنه سؤال رضوه وصححوه ، ومن رضي شيئا لزمه ، ونحن لم
نرض هذا السؤال ولا صححناه فلا يلزمنا وبالله تعالى التوفيق.
الكلام في سميع بصير وفي قديم
قال أبو محمد :
وأجمع المسلمون على أن القول بما جاء به القرآن من أنه تعالى : سميع بصير ، ثم
اختلفوا فقالت طائفة من أهل السنّة والأشعرية ، وجعفر بن حرب من المعتزلة ، وهشام بن الحكم ، وجميع المجسمة ـ نقطع أنّ
الله سميع بسمع بصير ببصر.
وذهبت طوائف من
أهل السنة منهم : الشّافعي ، وداود بن علي الأصفهاني إمام أهل الظاهر ، وعبد
العزيز بن مسلم الكناني رضي الله عنه ، وغيرهم ـ إلى أن الله سميع بصير ، ولا نقول
بسمع ولا ببصر ، لأن الله تعالى لم يقله ، ولكن سميع بذاته ، بصير بذاته.
قال أبو محمد :
وبهذا نقول. ولا يجوز إطلاق سمع ولا بصر حيث لم يأت به نصّ لما ذكرنا آنفا من أنه
لا يجوز أن يخبر عنه تعالى إلّا بما أخبر به عن نفسه.
واحتجّ من أطلق
على الله تعالى السمع والبصر بأن قال : لا يعقل السميع إلا بسمع ولا البصير إلا
ببصر. ولا يجوز أن يسمّى بصيرا إلا من له بصر ، ولا يسمّى سميعا إلّا من له سمع.
واحتجوا أيضا في
هذا وما ذهبوا إليه «من أنّ الصفات متغايرة» ـ بأنه لا يجوز أن يقال إنه تعالى
يسمع المبصرات ، ولا أنه يبصر المسموعات من الأصوات. وقالوا : هذا لا يعقل.
قال أبو محمد :
وكلا هذين الدليلين شغبي فاسد.
__________________
أمّا قولهم : لا
يعقل السميع إلا بسمع ، ولا البصير إلا ببصر. فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق :
أما فيما بيننا
فنعم ، وكذلك أصلا لم نجد قط في شيء من العالم الذي نحن فيه سميعا إلّا بسمع ، ولا
وجد فيه بصير إلا ببصر ـ فإنه لم يوجد فيه سميع إلّا بجارحة يسمع بها ، ولا وجد
فيه قط عالم إلّا بضمير فلزمهم أن يجروا على الله عزوجل هذه الأوصاف. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وهم لا يقولون هذا
، ولا يستجيزونه.
وأمّا المجسمة :
فإنهم أطلقوا هذا وجوّزوه ، وقد مضى نقض قولهم بعون الله تعالى وتأييده ، ويلزم
الطائفتين كلتيهما إذا قطعوا بأنّ له تعالى سمعا وبصرا لأنه سميع بصير ، ولا يمكن
أن يكون سميع بصير ، إلّا إذا سمع وبصر ، لا سيّما وقد صحّ النصّ بأن له تعالى
عينا وأعينا ، أن يقولوا : إنه ذو حدقة ، وناظر ، وطباق في العين ، وذو أشفار ،
وأهداب لأنه لم يشاهد في العالم ولا يمكن البتة أن تكون عين لذي عين يرى بها ويبصر
إلّا هكذا ، وإلّا فهي عين ذات عاهة ، أو كعيون بعض الحيوان التي لا يطبقها. وكذلك
لا يكون في المعهود ، ولا يمكن البتة أن يكون سميع في العالم إلّا بأذن ذات صماخ ،
فيلزمهم أن يثبتوا هذا كلّه ، وإلّا فقد أبطلوا استدلالهم ، وزوّروا استشهادهم
بالمعهود والمعقول. فإن أطلقوا هذا كلّه تركوا مذهبهم ، وخرجوا إلى أقبح قول
المجسّمة مما لا يرضى به أكثر المجسمة ، وقد ذكرنا فساد قولهم قبل. والحمد لله رب
العالمين.
فإذا جوّزوا أن
يكون الباري تعالى سميعا بصيرا بغير جارحة ، وهذا خلاف ما عهدوا في العالم ،
وجوزوا أن يكون له تعالى عين بلا حدقة ولا ناظر ولا طباق ، ولا أهداب ، ولا أشفار
، وهذا أيضا خلاف ما عهدوا في العالم ، فلا ينكروا قول من قال : إنه سميع لا بسمع
، بصير لا ببصر ، وإن كان ذلك بخلاف ما عهدوا في العالم.
على أن بين
القولين فرقا واضحا ، وهو أننا نحن لم نلتزم أن نحل تسميته عزوجل قياسا على ما عندنا ، بل ذلك حرام لا يجوز ، ولا يحل ،
لأنه ليس في العالم شيء يشبهه عزوجل فيقاس عليه. قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الشورى : ١١].
فقلنا : إنه سميع
بصير لا كشيء من البصراء ولا السامعين ممّا في العالم ، وكل سميع وبصير في العالم
فهو ذو سمع وبصر ، فالله تعالى بخلاف ذلك بنص القرآن فهو
سميع كما قال ، لا
يسمع كالسّامعين ، وبصير كما قال لا يبصر كالمبصرين ، لا يسمّى ربنا تعالى إلّا
بما سمى به نفسه فقط ، ولا يخبر عنه إلّا بما أخبر به عن نفسه فقط.
قال تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
فقلنا : نعم. هو
السميع البصير ، ولم يقل تعالى : إنه له سمعا وبصرا. فلا يحلّ لأحد أن يقول : إنه
له سمعا وبصرا فيكون قائلا على الله تعالى بلا علم ، وهذا لا يحل ، وبالله تعالى
نعتصم.
وأما خصومنا فإنهم
أطلقوا أنه لا يكون إلّا كما عهدوا في العالم من كل سميع وبصير في أنه ذو سمع وبصر
، فيلزمهم ضرورة ألا يكون إلا كما عهدوا من كل سميع وبصير في أنه ذو جارحة يسمع
بها ويبصر بها ولا بدّ. ولو لا تلك الجارحة ما سمي أحد في العالم سميعا ولا بصيرا
، ولا أبصر أحد شيئا ، فإن ذكروا قول الله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا
يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا
يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) [سورة الأعراف :
١٧٩].
قلنا لهم وبالله
تعالى التوفيق :
هذه الآية أعظم
حجة عليكم لأن الله تعالى نصّ فيها على أنهم لم يروا بعيونهم ما يتعظون به ، ولا
سمعوا بآذانهم ما يقبلونه من الهدى ، فلما كانت العيون والآذان لا ينتفع بهما ،
استحقوا الذّم والنكال ـ فلو لا أن العين والأذن بهما يكون السمع والبصر ضرورة لا
بدّ لا بشيء دونهما ـ ما استحق الذّم من رزق أذنا وعينا سالمتين ، فلم يسمع بهما
ويبصر ما يهتدي به بعون الله عزوجل له ، وما كان يكون معنى لذكر الله عزوجل العين والأذن في السمع والبصر بهما لو جاز أن يكون سمع
وبصر دونهما ، فبطل قولهم بالقرآن ضرورة ، وبالحسّ وبديهة العقل ، والحمد لله رب
العالمين.
وأمّا ما موّهوا
به من قولهم : إنه لو أنّ له سمعا وبصرا لجاز أن يقال : إنه يسمع الألوان ، ويرى
الأصوات ، فهذا كلام لا يطلق في كل شيء على عمومه ، لأننا إنما خوطبنا بلغة العرب
، فلا يجوز أن نستعمل غيرها فيما خوطبنا به ، والذي ذكرتم من رؤية الأصوات وسماع
الألوان لا يطلق في اللغة التي بها خوطبنا فيما بيننا ، فليس لنا أن ندخل في اللغة
ما ليس فيها إلّا أن يأتي بذلك نص ، فنغلبه على اللغة.
ثم نقول : إنه لو
قال قائل : إنه تعالى سميع للألوان بصير بالأصوات بمعنى أنه عالم بذلك لكان ذلك
جائزا ولما منع من ذلك برهان ، فنحن نقول سمعنا الله عزوجل يقول كذا وكذا ، ورأينا الله تعالى يقول كذا وكذا ، ويأمر
بكذا ويفعل كذا ، بمعنى علمنا. فهذا لا ينكره أحد ، ولا فرق بين هذا وبين ما سألوا
عنه.
وأيضا فإن الله عزوجل يقول : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا
الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) [سورة الملك : ١٩].
وهذا عموم لكل شيء
كما قلنا ، فلا يجوز أن يخص به شيء دون شيء إلّا بنص آخر أو إجماع ، أو ضرورة ،
ولا سبيل إلى شيء من هذا فصح ما قلناه وبالله تعالى التوفيق.
وقال تعالى : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه : ٧].
فصح أن بصيرا
وسميعا وعليما بمعنى واحد.
ثم نقول لهم
وبالله تعالى التوفيق : إنه تعالى بإجماع منّا ومنكم هو السميع البصير ، وهو أحد
غير متكثّر ، ولا نقول إنّ السميع للألوان ، البصير بالأصوات إلّا على الوجه الذي
قلناه. وليس يوجب أنّ السميع غير البصير ، فالذي أردتم ساقط ، وإنما اختلفت
معلوماته ، وإنما هو تعالى واحد ، وعلمه بها كلها واحد ، يعلمها كلّها بذاته ، لا
بعلم هو غيره البتة ، وبالله تعالى التوفيق.
فإن قال قائل : أتقولون
إنّ الله عزوجل لم يزل سميعا بصيرا؟
قلنا : نعم ، لم
يزل تعالى سميعا بصيرا ، عفوّا غفورا ، عزيزا قديرا وهكذا كل ما جاء في القرآن فيه
، «وكان الله سميعا بصيرا» ونحو ذلك ، لأن قوله عزوجل «كان» إخبار عن ما
لم يزل ، وإذا أخبر بذلك عن نفسه لا عمن سواه.
فإن قالوا : أتقولون
: لم يزل الله خالقا خلّاقا رازقا؟
قلنا : لا نقول
هذا ، لأن الله تعالى لم ينص على أنه كان خالقا خلّاقا ، رازقا رازقا لكنا نقول :
لم يزل الخلّاق الرزّاق ، ولم يزل الله تعالى لا يخلق ولا يرزق ثم خلق ورزق من خلق
، وهذا يوجب ضرورة أنها أسماء «أعلام» لا مشتقة لأنه لو كان «خالق ورازق» مشتقين
من خلق ورزق ، لكان لم يزل ذا خلق يخلقه ويرزقه.
فإن قيل : فإنّ
السميع والبصير ، والرحمن ، والرحيم ، والعفوّ والغفور والملك ، كلّ ذلك يقتضي
مسموعا ومبصرا ، ومرحوما ، ومغفورا له ، ومعفوّا عنه ومملوكا.
قلنا : المعنى في «سميع
وبصير» عن الله تعالى هو المعنى في «عليم» ولا فرق. وليس ما يظن أهل العلم من أنّ
له سمعا وبصرا مختصّين بالمسموع والمبصر تشبيها بخلقه سوى علمه ، لأنّ الله تعالى
لم ينصّ على ذلك فيلزمنا أن نقوله ، ولا يجوز أن يخبر أن الله تعالى بغير ما أخبر
به عن نفسه لأن الله تعالى يقول : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [سورة الشورى : ١١].
فصحّ أنه تعالى : «سميع
ليس كمثله شيء من السّامعين ، بصير لا كمثل شيء من البصراء».
فإن قال قائل : أتقولون
إنّ الله تعالى لم يزل يسمع ويرى ويدرك؟
قلنا : نعم ، لأن
الله عزوجل قال : (إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) [سورة طه : ٤٦].
وقال تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [سورة الأنعام :
١٠٣].
وقال تعالى : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) [سورة المجادلة :
١].
وصحّ الإجماع بقول
«سمع الله لمن حمده» ، وصحّ النص : «ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيّ حسن
الصّوت يتغنّى بالقرآن» .
فنقول : إنه يسمع
ويرى ، ويدرك كل ذلك بمعنى واحد ، وهو معنى يعلم ولا فرق.
وأما الإذن لنبيّ
حسن الصوت ، فهو من الإذن بمعنى القبول ، كما يأذن الحاجب للمأذون له في الدّخول ،
وليس من الأذن التي هي الجارحة ، ولو كان ما تظنون لكان بصره للمبصرات ، وسمعه
للمسموعات محدثا ، ولكان غير سميع حتى سمع ، وغير بصير حتّى أبصر ، ولم يدرك حتّى
أدرك. وحاشا لله من هذا ، فكل هذا بمعنى العلم ، ولا مزيد.
فإن قيل : فإنّ
الله تعالى يقول : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) [سورة القصص : ٦٨].
قلنا : نعم. وخلق
الله تعالى : فعل له محدث ، واختياره تعالى هو خلقه لا غيره. وليس هذا من «يسمع» و
«سمع» و «يرى» و «يدرك» في شيء ، لأنّ معنى كل هذا ومعنى العلم سواء. ولا يجوز أن
يكون معنى «يخلق ويختار» معنى العلم.
وأمّا العفوّ ،
والغفور ، والرحيم ، والحليم ، والملك ، فلا يقتضي وجود شيء من هذا وجود مرحوم معه
، ولا معفوّ عنه ، مغفور له معه ، ولا مملوك مرحوم عنه معه ، بل هو تعالى : رحيم
بذاته ، عفوّ بذاته ، غفور بذاته ، ملك بذاته ، مع النص الوارد بأنه تعالى كان
كذلك ، وهي أسماء أعلام له عزوجل.
__________________
فإن ذكروا الحديث
الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما
بينهم وبين أن يروه إلّا رداء الكبرياء على وجهه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما
انتهى إليه بصره» .
ففي هذا الخبر
إبطال لقولهم ، لأن البصر منته ذو نهاية وكل ذي نهاية محدود ، وكل محدود محدث ،
وهم لا يقولون هذا ، ومعناه : أن البصر قد يستعمل في اللغة بمعنى الحفظ.
قال النابغة :
رأيتك ترعاني
بعين بصيرة
|
|
وتبعث حرّاسا
عليّ وناظرا
|
فمعنى هذا الخبر :
لو كشف تعالى الستر الذي جعل دون سطوته لأحرقت عظمته ما انتهى إليه حفظه ورعايته
من خلقه. وكذلك قول عائشة رضي الله عنها : «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات» . إنما هو بمعنى : أنّ علمه وسع كل ذلك : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [سورة طه : ٧].
ثم نزيد بيانا
بعون الله تعالى فنقول : إنّ قولكم لا يعقل سميع إلا بسمع ، ولا بصير إلا ببصر»
فإن كان هذا صحيحا يوجب أن يقال : إنّ لله تعالى سمعا وبصرا فإنه لا يعقل من له
مكر إلّا وهو ماكر ، ولا من كان من الماكرين إلّا وهو ماكر ، ولا يعقل أحد ممن
يستهزىء إلّا وهو مستهزئ ، ولا يعقل أحد ممن يكيد إلّا وهو كيّاد ، ولا يعقل أحد
ممن له كيد ومكر إلا وهو كيّاد وماكر ، ولا خادع إلّا ويسمى : الخادع.
ولا يعقل من نسي
إلّا وهو ناس وذو نسيان ، وهذا هو الذي لا سبيل إلى أن يوجد في العالم خلافه. وقد
قال تعالى : (وَأَكِيدُ كَيْداً) [سورة الطارق : ١٦].
وقال تعالى : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة : ١٥].
وقال تعالى : (وَهُوَ خادِعُهُمْ) [سورة النساء ١٤٢].
__________________
وقال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ) [سورة الأعراف :
٩٩].
وقال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ
خَيْرُ الْماكِرِينَ) [سورة آل عمران :
٥٤].
وقال تعالى : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) [سورة النمل : ٥٠].
وقال تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) [سورة الرعد : ٤٢].
وقال تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة : ٦٧].
وقال تعالى : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة : ٧٩].
فيلزمهم إذا سمّوا
ربّهم ووصفوه من طريق استدلالهم وقياسهم وما شاهدوه في الحاضر عندهم أن يسمّوه
ماكرا ، فيقولون : يا ماكر ارحمنا ، ويسمّوا بينهم : «عبد الماكر» ، وكذلك القول
في الكيّاد والمستهزئ ، والخدّاع ، والناسي ، والساخر. وإلّا فقد تناقضوا وتلاعبوا
بصفات ربهم تعالى وبدينهم.
فإن قالوا : هذه
الصفات ذمّ وعيب ، وإنما نصفه عزوجل بصفات المدح ، لزمهم مصيبتان عظيمتان ، إحداهما : إطلاقهم
أنّ الله عزوجل أخبر عن نفسه في هذه الآيات بصفات الذمّ والعيب ، وهذا
كفر.
والثاني : أن
يصفوا ربّهم بكل صفة مدح وحمد فيما بينهم ، وإن لم يأت بها نصّ ، وإلا فقد تناقضوا
وقصّروا ، فيصفوه بأنه عاقل ، وأنه شجاع ، جلد ، سخي ، حسن الأخلاق ، نزيه النفس ،
تام المروءة ، كامل الفضائل ، ذو هيئة ، نبيل ، نعم المرء.
ويقولوا : إنّه
تيّاه قياسا على أنه تعالى : جبّار ، متكبر.
ويقولوا : إنه
مستكبر ، فهو والمتكبر في اللغة سواء. وذو تيه وعجب ، وزهو ، ولا فرق بين هذا وبين
المكر والكبرياء. فإن فعلوا هذا خرجوا عن الإسلام بالإجماع إلّا أن يعتذروا بشدّة
الجهل وظلمته وعماه ، وأن يفروا عن ذلك ، ويتركوا ما دانوا به من تسمية الله تعالى
ووصفه بأنّ له سمعا وبصرا ، وسائر ما وصفوه تعالى به بآرائهم الفاسدة ممّا لم يأت
به نص ، كقولهم : قديم ، ومتكلم ، ومريد ، وأن له تعالى إرادة لم تزل ، وسائر ما
اجترءوا عليه بغير برهان من الله عزوجل.
وأيضا : فإنّ هذه
الصفات التي منعوا منها لأنها بزعمهم صفات ذم ، فإن السمع والبصر والحياة أيضا صفات
نقص لأنها أعراض دالّة على الحدوث فيمن هي فيه.
فإن قالوا : ليست
لله تعالى كذلك.
قيل لهم : ولا تلك
الصفات أيضا إذا أطلقتموها عليه أيضا صفات ذم ولا فرق.
ولقد قال لي بعضهم
: إنما قلنا : إن الله تعالى يكيد ، ويستهزىء ويمكر ، وينسى ، وهو خادعهم ،
وتشبيههم بأنه تعالى يقارضهم على هذه الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها.
فقلت له : نعم.
هكذا نقول ، ولم ننازعك في هذا فتستريح إليه ، بل قلنا لكم سمّوه تعالى : مستهزئا
، وكيّادا ، وخدّاعا ، وماكرا ، وناسيا ، وساخرا على معنى أنه مقارضهم على هذه
الأفعال منهم بجزاء يسمى بأسمائها كما قلتم في الأفعال سواء بسواء.
وقد قلتم : إنّ
الأفعال توجب لفاعلها أسماء فعلها ولا فرق. فسكت خاسئا. وهذا ما لا انفكاك منه.
وبهذا وبما ذكرنا يعارض كل من قال : إننا سمّينا الله عزوجل عالما لنفي الجهل ، قادرا لنفي العجز ، متكلما لنفي الخرس
، وحيّا لنفي الموت ، لأنهم لا ينفكّون من هذا البتة.
وأمّا نحن فلو لا
النص الوارد ب «عليم» و «قدير» ، وعالم الغيب والشهادة ، وقادر على أن يخلق مثلهم
، والحي ـ لما جاز أن يسمى تعالى بشيء من هذا أصلا ولا يجوز أن يقال حيّ بحياة
البتة.
فإن قالوا : كيف
يكون حيّ بلا حياة؟
قلنا لهم : وكيف
يكون حيّ غير حسّاس ، ولا متحرك بإرادة ، ولا ساكن بإرادة ..؟ هذا ما لا يعقل
البتة ، ولا يعرف ولا يتوهم ، ولا يجرون عليه تعالى الحسّ ولا الحركة ولا السكون.
فإن قالوا : إنّ
تسميتنا إيّاه حكيما يغني عن «عاقل» وكريما يغني عن سخيّ وجبارا متكبرا يغني عن
متجبر ، ومستكبر ، وتياه وزاه ، وقويا يغني عن شجاع وجلد.
قلنا : هذا ترك
منكم لما أصّلتموه من إطلاق السمع والبصر والحياة والإرادة وأنه متكلم. واحتجاجك :
بأن من كان سميعا لا بدّ له من سمع ، ومن كان بصيرا لا بدّ له من بصر ، ومن كان
حيا لا بدّ له من حياة ، ومن كان مريدا فلا بدّ له من إرادة ، ومن كان له كلام فهو
متكلم فأطلقتم كل هذا على الله تعالى بلا برهان.
فإذا ناب عندكم ما
ورد به النص من حكيم وقويّ وكريم ومتكبر وجبار عن عاقل وشجاع وسخي ومتجبر ومستكبر
وتيّاه وزاه ـ فلم تجيزون أن تسمّوا الباري عزوجل بشيء من هذا؟ فكذلك فقولوا كما قلنا نحن إن سميعا ، وبصيرا
وحيا ، وله كلام ، ويريد ، يغني عن تجويز ذكر السمع ، والبصر والإرادة ، ومتكلم
ولا فرق.
هذا على أن قولكم
: إنّ قويا يغني عن شجاع خطأ ، فرب قوي غير شجاع ، وشجاع غير قوي. وكذلك أيضا كان
الرحمن يغني عن الرّحيم ، والخالق يغني عن الباري وعن المصوّر.
فإن قالوا : لا
يجوز الاقتصار على بعض ما أتى به النص ، ولا يجوز التعدّي إلى ما لم يأت به النص.
قلنا لهم : قد
اهتديتم ، ووفقتم لرشدكم ، ولقيتم ربّكم تعالى بحجة ظاهرة في أنكم لم تتعدّوا
حدوده ، ولا ألحدتم في أسمائه ، ولا خالفتم ما أمركم به وبالله تعالى التوفيق.
مع أنّ الذي
ألزمناهم هو ألزم لهم مما التزموه لأن بالضرورة نعلم نحن وهم أن الفعل لا يقوم
بنفسه ، ولا بدّ له ضرورة من أن يضاف إلى فاعله فلا بدّ أيضا من إضافة الفاعل إليه
، على معنى وصفه بأنه تعالى فعله.
هذا ما لا يقوم في
العقل وجود شيء من العالم بخلاف هذه الرتبة ، وقد وجدنا في العالم أشياء كثيرة لا
تحتاج إلى وصفها بصفة لتنفي عنها ضدّ تلك الصفة كالسماء والأرض ، لا يجوز أن يوصف
منها شيء بالبصر لنفي العمى ، ولا بالعمى لنفي البصر ، فإذا لم نضطر إلى ذلك في
وصف الأشياء فيما بيننا بطل قياسهم الباري تعالى على بعض ما في العالم ، وكان
إطلاق شيء من جميع الصفات على خالق الصفات والموصوفين أبعد وأشد امتناعا إلّا بما
سمّى به نفسه فنقرّ بذلك ، وندري أنه حق ، ولا نتعدّاه إلى ما سواه. أفلا يستحي من
التزم إذا وجد أشياء في العالم توصف بالحياة لنفي الموت ، وبالبصر لنفي العمى ،
فأجرى قياسه هذا الفاسد على ربه تعالى من أن يسمّيه مستهزئا وكيّادا ، وقد قال
تعالى «إنه يستهزىء ويكيد» فهلّا إذ وفقه الله تعالى للإمساك عن تصريف الفعل هاهنا
جرى على ذلك التوفيق فلم يزد على ما نص الله تعالى عليه من سميع وبصير وحي شيئا
أصلا؟ ولكنّ التناقض سهل على من لم يعتصم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، واستعمل رأيه وقياسه في دينه ، وفيما يجريه على الله
تعالى ، نعوذ بالله من الضلال والخذلان. وبهذا يبطل إلزام من أراد من المعتزلة
إلزامنا أن نسمي الله تعالى مسيئا لخلقه السيئات ، وشرّا لخلقه الشرور.
قال أبو محمد :
وقد شغب بعضهم فيما ادّعوه أنّ كل صفة أضافوها إلى الله تعالى فهو غير سائر صفاته ـ
بأنّ الله تعالى موصوف بأنه لا يعلم نفسه ، ولا يوصف بالقدرة على نفسه.
قالوا : فلو كان
العلم والقدرة واحدا لجريا في الإطلاق مجرى واحدا.
قال أبو محمد :
وقد بينا بطلان هذا في كلامنا قبل بعون الله عزوجل.
ونزيد بعون الله
تعالى بيانا فنقول ، وبه نتأيّد :
إنّ التغاير إنما
يقع في المعلومات ، والمقدورات ، لا في القادر ولا في العالم. ولا شك عندنا وعندهم
في أنّ «العليم» و «القدير» ـ واحد ، وهو تعالى «عليم بنفسه» ، ولا يقال عندهم
قدير على نفسه ، فإذا لم يوجب هذا الحكم أن يكون القدير غير العليم ، فهو غير موجب
أن يكون العلم غير القدرة بلا شك.
ثم نقول لهم :
أخبرونا عن علم الله تعالى بحياة زيد قبل موته ، وبإيمانه قبل كفره ، هل هو العلم
بموته وكفره أو هو غير العلم بذلك ..؟
فإن قالوا : إنّ
العلم بموت زيد هو غير العلم بحياته ، وعلمه بإيمانه هو غير علمه بكفره ، لزمهم
تغاير العلم ، والقول بحدوثه ، وهم لا يقولون هذا.
وإن قالوا : علمه
تعالى بإيمان زيد هو علمه بكفره ، وعلمه بكفره هو علمه بإيمانه ، وعلمه بحياة زيد
هو علمه بموته.
قيل : فإنّ تغاير
المعلوم تحت العلم لا يوجب تغاير العلم في ذاته عندكم ، فمن أين أوجبتم أن تغاير
المعلوم والمقدور موجب لتغاير العلم والقدرة ...؟
والحقيقة من كل
ذلك : أنه لا حقيقة أصلا إلّا الخالق تعالى وخلقه ، وأنّ كل ما نصّ الله تعالى
عليه من وصفه لنفسه ومن أسمائه فلا يحل لأحد أن يخبر عنه تعالى إلّا به ، ولا أن
يسميه عزوجل إلّا به.
ونعلم أنّ المراد
بكل ذلك وأن كل ما نص الله عزوجل عليه من أسمائه وما أخبر به تعالى عن نفسه فهو حق ندين
الله تعالى عزوجل بالإقرار به.
ونعلم أنّ المراد
بكل ذلك هو الله تعالى لا شريك له ، وأنها كلّها أسماء يعبّر بها عنه تعالى ، ولا
يرجع منها إلى شيء غير الله البتة. تعالى الله أن يكون معه شيء آخر غيره.
وقد أقرّ بعضهم
بحضرتي أن مع الله تعالى سبعة عشر شيئا متغايرة ، كلها قديم لم تزل ، وكلها غير
الله تعالى. ورأيت في كتاب لبعضهم : أنها خمسة عشر ، تعالى الله عن ذلك علوّا
كبيرا.
وذكروا أن تلك
الأشياء هي : السمع ، والبصر ، واليد ، والوجه ، والكلام ، والعلم ، والقدرة ،
والإرادة ، والعزة ، والرحمة ، والأمر ، والعدل ، والحياة ، والصدق.
قال أبو محمد :
لقد قصروا من طريق النص ومن طريق العقل أيضا عن أصولهم فأين لهم عن النفس ،
والجلال ، والإكرام ، والجبروت ، والكبرياء ، واليدين والأعين ، والأيدي ، والقدم
، والجنب. والقوة ..؟
فهذه كلها منصوص
عليها كالعلم والقدرة ، وأين هم عن : الحلم من حليم والكرم من كريم ، والعظمة من
عظيم ، والتوبة من تواب ، والهبة من وهّاب ، والقرب من قريب ، واللطف من لطيف ،
والسعة من واسع ، والشكر من شاكر ، والمجد من مجيد ، والودّ من ودود والقيام من
قيوم ..؟ ـ وهذا كثير جدّا ويتجاوز أضعاف الأعداد التي اقتصروا عليها بتحكيمهم
بالضلال والإلحاد في أسمائه عزوجل.
وقد زاد بعضهم
فيما ادعوه من صفات الذات : الاستواء ، والتكليم ، والقدم والبقاء.
ورأيت للأشعري في
كتاب المعروف بالموجز ، أن الله تعالى إذ قال : (فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنا) [سورة الطور : ٤٨].
إنما أراد عينين.
وبالجملة فكل من لم يخف الله عزوجل فيما يقول ، ولم يستح من الباطل لم يبال بما يقول. وقد
قلنا : إنه لم يأتي نص بلفظ الصفة قط بوجه من الوجوه لأن الله تعالى أخبرنا بأن
علما وقوة ، وكلاما ، وقدرة ، وهذا كله حق لا يرجع منه إلى شيء غير الله تعالى
أصلا. وبه نتأيد.
قال أبو محمد :
ويقال لهم : إنما سمّي الله تعالى «عليما» لأنّ له علما ، وحكيما لأن له حكمة ،
وهكذا في سائر أسمائه. وادّعى أن الضرورة توجب ألّا يسمّى عالما إلا من له علم ،
وهكذا في سائر أسمائه. وادّعى أن الضرورة توجب ألّا يسمّى عالما إلا من له علم ،
وهكذا في سائر الصفات إذا قستم الغائب بزعمكم تريدون الله عزوجل على الحاضر منكم ، فبالضرورة ندري أنه لا علم عندنا إلّا
ما كان في ضمير ذي خواطر وفكر تعرف به الأشياء على ما هي عليه.
فإن وصفتم ربكم
تعالى بذلك ألحدتم ولا خلاف في هذا من أحد ، وتركتم أقوالكم ، وإن منعتم من ذلك :
تركتم أصلكم في اشتقاق أسمائه تعالى من صفات فيه.
وأيضا : فإنّ
حكيما ، وعليما ، ورحيما ، وقديرا ، وسائر ما جرى هذا المجرى لا يسمى في اللغة
إلّا نعوتا وأوصافا ، ولا تسمّى أسماء البتة.
وأما إذا سمّي
الإنسان حكيما أو حليما أو حيا ، وكان ذلك اسما له فهي حينئذ أسماء أعلام غير
مشتقة بلا خلاف من أحد. وكل هذه فإنما هي لله عزوجل أسماء بنصّ القرآن ، ونص السنة والإجماع من جميع أهل
الإسلام.
قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة الأعراف :
١٨٠].
وقال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا
الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الإسراء :
١١٠].
وقال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا
هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ
اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [سورة الحشر : ٢٢.
٢٤].
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ
لله تسعة وتسعين اسما مائة إلّا واحدا ، من أحصاها دخل الجنّة ، إنّه وتر يحبّ
الوتر» .
ولم يختلف أحد من
أهل الإسلام في أنها أسماء لله تعالى ، ولا في أنها لا يقال : إنها نعوت له عزوجل ، ولا أوصاف لله ، ولو وجد في المتأخرين من يقول ذلك لكان
قولا باطلا ، ومخالفا لقول الله تعالى ولا حجة لأحد في الدين دون رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فإذ لا شكّ فيما قلنا ، فليست مشتقة من صفة أصلا.
ويقال لهم : إذا
قلتم إنّها مشتقة ، فقولوا لنا : من اشتقّها ..؟
فإن قالوا : إنّ
الله تعالى اشتقها لنفسه.
قلنا لهم : هذا هو
القول على الله تعالى بالكذب ، الذي لم يخبر به عن نفسه ، وقفوتم في ذلك ما لم
يأتكم به علم.
وإن قالوا : إن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم اشتقها.
قلنا : كذبتم على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ولقد سمّى الله بها نفسه قبل أن يخلق رسوله صلىاللهعليهوسلم ، أوحى بها إليه فقط. فصحّ يقينا أن القول بأنها مشتقة
فرية على الله تعالى ، وكذب عليه ، ونعوذ بالله من ذلك ، وصح بهذا البرهان الواضح
أنه لا يدل حينئذ «عليم» على «علم» ولا «قدير» على «قدرة» ، ولا «حي» على «حياة».
وهكذا في سائر ذلك.
__________________
قال أبو محمد :
وإنما قلنا بالعلم ، والقدرة ، والقوة ، والعزّة ، بنصوص أخر يجب الطاعة لها ،
والقول بها ، ووجدنا المتأخرين من الأشعرية كالباقلاني وابن فورك وغيرهما قالوا :
إنّ هذه الأسماء ليست أسماء لله تعالى ولكنها تسميات له ، وأنه ليس لله إلا اسم
واحد ، لكنه قول إلحاد ومعارضة لله عزوجل بالتكذيب التي تلونا ، ومخالفة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيما نصّ عليه من عدد الأسماء ، وهتك لإجماع أهل الإسلام
عامّهم ، وخاصّهم ، قبل أن تحدث هذه الفرقة.
فصل
فيما أحدثه أهل الإسلام في أسماء الله عزوجل القديم
قال أبو محمد :
وهذا لا يجوز أن يسمى عزوجل بما لم يسمّ به نفسه ، لأنه لم يصحّ به نصّ البتّة. وقد
قال تعالى : (وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [سورة يس : ٣٩].
فصح أن القديم من
صفات المخلوقين ، فلا يجوز أن يسمّى الله تعالى بذلك ، وإنما يعرف القديم في اللغة
من القدمية الأزلية ، أي أن هذا الشيء أقدم من هذا بمدة محصورة ، وهذا منفيّ عن
الله عزوجل. وقد أغني الله عزوجل عن هذه التسمية بلفظة «أوّل». فهذا هو الاسم الذي لا
يشاركه تعالى فيه غيره ، وهو معنى أنه لم يزل.
وقد قلنا بالبرهان
: إن الله لا يجوز أن يسمّى بالاستدلال ، ولا فرق بين من قال : إنه يسمّي ربّه
تعالى جسما إثباتا للوجود ونفيا للعدم ، وبين من سمّاه «قديما» إثباتا لأنه لم يزل
، ونفيا للحدوث ، لأن كلا اللفظين لم يأت به نص.
فإن قال : من سماه
جسما ألحد لأنه جعله كالأجسام.
قيل له : ومن
سمّاه قديما قد ألحد في أسمائه ، لأنه جعله كالقدماء.
فإن قيل : ليس في
العالم قدماء. أكذبه القرآن بما ذكرنا ، وأكذبته اللغة التي بها نزل القرآن ، إذ
يقول كل قائل في اللغة : هذا الشيء أقدم من هذا ، وهذا أمر قديم ، وزمان قديم ،
وشيخ قديم ، وبناء قديم. وهكذا في كل شيء.
وأمّا نفي خلق
الإيمان فهذا أعجب ما أتوا به. وهل الإيمان إلا فعل المؤمن ، الظاهر منه ، يزيد
وينقص ، ويذهب البتة ، وهو خلق الله تعالى ..؟ وهذه صفات الحدوث نفسها.
فإن قالوا : إنّ
الله تعالى هو المؤمن.
قلنا : نعم. هو
المؤمن المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور.
فأسماؤه بذلك
أعلام ، لا مشتقّة من صفات محمولة فيه عزوجل. تعالى الله عن ذلك. إلّا ما كان مشتقا من فعل محدث ـ فهو
ظاهر كالخالق والمصوّر.
فإن قلتم : إنها
صفات لم تزل لربكم أنه المصور بتصوير لم يزل ، فهذا قول أهل الدّهر مجرّد. وبالله
تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
وقال بعضهم : إنّ قولنا سميع بسمع ، بصير ببصر ، حيّ بحياة ـ لا يوجب تشابها ، ولا
يكون الشيء شبها للشيء إلا إذا ناب منابه ، وسدّ مسدّه.
قال أبو محمد :
وهذا كلام في غاية السخافة لأنه دعوى بلا برهان ، لا من لغة ، ولا من شريعة ، ولا
من طبيعة ، وما اختلفت قط اللغات ولا الطبائع ، ولا الأمم في أنّ الشّبهة بين
المشبهات إنما هو بصفاتها في الأجسام وبذواتها في الأعراض. وأما النص فإنّ الله
تعالى يقول :
(وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [سورة الأنعام :
٣٨].
فليت شعري هل قال
ذو مسكة عقل : إن الحمير ، والكلاب ، والخنافس تنوب منابنا ، وتسدّ مسدّنا ..؟
وقال تعالى حاكيا عن الأنبياء عليهمالسلام ، أنهم قالوا للكفار : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [سورة إبراهيم :
١١].
فهل قال قط مسلم :
إن الكفار ينوبون عن الأنبياء عليهمالسلام ، ويسدّون مسدّهم ..؟
وقال تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [سورة الرحمن : ٥٨].
فهل قال ذو مسكة
عقل : إن الياقوت ينوب مناب الحور العين ، ويسدّ مسدّهم ..؟
ومثل هذا في
القرآن كثير جدّا ، وفي كلام كلّ أمة. والعجب أنهم بعد أن أتوا بمثل هذه العظيمة
نسوا أنفسهم فجعلوا المتشابه في بعض الأحوال يوجب شرع الشرائع قياسا ، وهذا دين لم
يأذن به الله تعالى ، فهم أبدا في الشيء وضده ، والبناء والهدم. ونعوذ بالله من
الخذلان.
قال أبو محمد :
وحقيقة التماثل والتشابه هو : أنّ كل جسمين اشتبها فإنما يشتبهان بصفة محمولة
فيهما ، أو بصفات فيهما ، وكل عرضين فإنما يشتبهان بوقوعهما
تحت نوع واحد
كالحمرة والصفرة والخضرة وهذا أمر يدرك بالعيان وأول الحسّ والعقل. وبالله تعالى
التوفيق.
الكلام في الحياة
قال أبو محمد :
قال قائلون : الاستدلال أوجب أن الباري تعالى حيّ ، لأن الأفعال الحكيمة لا تقع
إلّا من الحي ، وأنه لا يعقل إلّا ميّت أو حيّ ، فلما أبطل إمكان وقوع الفعل من
الميت ، صحّ وقوعه من الحي ولا بدّ.
ثم انقسم هؤلاء
قسمين ، فطائفة قالت : هو تعالى حيّ لا بحياة ، وقال آخرون بل هو تعالى حي بحياة.
واحتجت طائفة بأن
قالت : لا يعقل حيّ إلّا بحياة. ولم يكن الحيّ حيّا ، إلّا لأن له حياة ، ولو لا
ذلك لم يكن حيّا. ولو جاز أن يكون حيا لا بحياة لجاز أن تكون حياة لا لحيّ.
وقال آخرون : لم
يكن الحيّ حيّا لأن له حياة ، لكن لأنه فاعل قادر ، عالم فقط ، إذ لا يكون العالم
القادر الفاعل إلّا حيّا.
قال أبو محمد :
وكلا القولين في غاية الفساد ، لأن اتفاق الطائفتين على أن سمّوا ربهم حيّا من
طريق الاستدلال ، إما لنفي الموت ، والجماد عنه ، وإمّا لأنه فاعل قادر ، عالم.
ولا يكون الفاعل العالم القادر إلّا حيّا ، يلزمهم أن يطردوا استدلالهم هذا ،
وإلّا فهم متناقضون ، وذلك أنه يلزمهم أن يقولوا : إنه تعالى جسم ، لأنهم لم
يعقلوا قط فاعلا ، ولا حكيما ، ولا عالما ، ولا قادرا إلا جسما ـ فإذا لم يكن هذا
دليلا على أنه جسم فليس دليلا على أنه حي.
وأيضا : فإن
اتفاقهم على ما ذكرنا موجب عليهم أن يطردوا استدلالهم ، وإلّا كانوا مناقضين
مبطلين لاستدلالهم ، وذلك يوجب على من قال : حيّ لا بحياة أن يطردوا استدلالهم ،
وإلّا فهو فاسد ، لأنه لا يكون العالم القادر فيما بيننا إلّا ذا حياة ، ولا يكون
حيا إلّا بحياة ـ لا يعقل غير هذا أصلا.
ويقال لهم : ما
الفرق بينكم وبين من عكس قولكم فقال : إذا كان الحيّ لا يجب أن يقال له حي من أجل
أنه حي ، ولا أنه إذا كان حيّا وجب أن يكون له حياة ، ولا أنه سمّى حيّ حيّا لأن
له حياة ـ فكذلك لم يجب أن يكون الفاعل فاعلا لأنه حي لكن لأن له فعلا فقط ، ولا
وجب أن يكون الفاعل فاعلا لأنه قادر عالم ، لكن لأن
له فعلا ، وكذلك
المؤلف ، لم يسمّ مؤلفا لأن فيه تأليفا ولا يسمّى الحكيم حكيما لإحكامه الفعل ،
ولا وجب المؤلف أن يكون محدثا للتأليف الذي فيه.
هذا ، على أنّ من
قال بعض هذه القضايا فهو أصحّ قولا ممن قال : إن كان الحيّ حيّا لا يقتضي بذلك
الاستدلال أن يكون له حياة ، لأننا لم نجد قط حيّا إلّا بحياة ، ولا توهمنا ذلك
إلّا بالفعل ، ولا يتشكل في العقل البتة ، ولا يدخل في الممكن بدليل ، وقد وجدنا
العنكبوت والنحلة والخطاف تحكم أفعالها وبناءها بالطين والشّمع مسدّسا على رتبة
واحدة بالنسج ، ثم لا يجوز أن يسمّى شيء منها حكيما.
فإن قال : إنما
أقول إنه حي استدلالا بأنه لا يموت ، والحي هو الذي لا يموت ، كان قد أتى بأسخف
قول ، وذلك يلزمه أن يقول : إننا لسنا أحياء لأننا نموت ، وأنه لا حيّ في العالم ،
لأنّ من قول هذا القائل : إنّ الملائكة تموت ، فليس في العالم حيّ على قوله.
وقد أتى بعضهم
بهذيان ظريف فقال : قد وجدنا شيئا فيه حياة وليس حيّا وهو يد الإنسان ورجله.
قال أبو محمد :
ولقد كان ينبغي لمن هذا مقداره من الجهل أن يتعلم قبل أن يتكلم. أما علم الجاهل أن
الحياة إنما هي للنفس لا للجسد ، وأن الحيّ إنما هو النفس لا الجسد؟ أما سمع قول
الله تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج : ٤٦].
وليت شعري لو عكس
عليه هذا السخف فقيل له : بل يد الإنسان حيّة ولا حياة فيها ، بما ذا كان ينفصل من
هذا الجنون المطابق لجنونه ..؟
ثم إذ بطل قول
هؤلاء فنقول بحول الله تعالى وقوته للطائفة الأخرى التي قالت : إنه تعالى حي بحياة
استدلالا بالشّاهد : ما الفرق بينكم وبين من قال : إنه تعالى جسم لأن الأفعال لا
تقع إلّا من جسم؟ فإنّه على أصولكم لا يعقل إلّا جسم وعرض ـ فلما بطل إمكان الفعل
من العرض ، صحّ وقوعه من الجسم فقط ولا بد. ولما صحّ أن العالم لا يكون إلّا جسما
ذا ضمير ضرورة صحّ أنه تعالى جسم ذو ضمير. ولما صحّ أنه قادر لا يكون إلّا جسما
صحّ أنه جسم ، فبأي شيء راموا الانفصال به عكس عليهم مثله سواء بسواء في استدلالهم
، وما التزموه لزمهم.
فإن قالوا : إنّ
الله تعالى أخبر أنه حي ، ولم يخبر أنه جسم.
قلنا لهم وبالله
تعالى التوفيق : وإنّ الله تعالى لم يخبر بأن له حياة.
فإن قالوا : إن
الحي يقتضي أن له حياة.
قلنا لهم : والحي
يقتضي أنه جسم ، وهكذا أبدا.
فإن قالوا : إنه
تعالى قال : (وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [سورة الفرقان : ٥٨]
ـ فوجب أن يكون له حياة.
قيل لهم : وإن وجب
هذا ـ فقال تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) [سورة البقرة : ٢٥٥].
فقولوا : إنه
تعالى يقظان.
فإن قالوا : لم
ينصّ تعالى على أنه يقظان.
قيل لهم : ولا نصّ
على أن له حياة.
فإن قالوا : الحيّ
يقتضي حياة.
قيل لهم : ومن ليس
نائما ، ولا وسنان فهو يقظان. ولا فرق.
ويقال لهم :
أخبرونا ما ذا نفيتم عنه تعالى بإيجاب الحياة له ..؟ أنفيتم عنه بذلك الموت
المعهود والمواتية المعهودة ، أم موتا غير معهود ، ومواتية غير معهودة ..؟ ولا
سبيل إلى قسم ثالث.
فإن قالوا : ما
نفينا عنه إلّا الموت المعهود ، والمواتية المعهودة.
قلنا لهم : إنّ
الموت المعهود والمواتية المعهودة لا ينتفيان البتة إلّا بالحياة المعهودة ، التي
هي الحسّ والحركة الإراديان. وهذا خلاف قولكم ، ولو قلتموه لأبطلنا قولكم بما
أبطلنا به قول المجسمة.
وإن قال : ما
نفينا عنه تعالى إلّا موتا غير معهود ، ومواتية غير معهودة.
قلنا لهم وبالله
تعالى التوفيق : هذا لا يعقل ، ولا يتوهم ، ولا قام به دليل ولا يجوز أن ينتفي ما
ذكرتم بحياة يقتضيها اسم الحي المعقول ، وهكذا نقول في قولهم : سميناه تعالى سميعا
لنفي الصمم ، وبصيرا لنفي العمى ، ومتكلما لنفي الخرس.
قلنا لهم : هل
نفيتم بذلك كله الخرس المعهود ، والصمم المعهود ، والعمى المعهود ، أم صمما لا
يعهد ، وعمى غير المعهود ، وخرسا غير المعهود؟
فإن قالوا : نفينا
المعهود من كلّ ذلك.
قلنا : إنّ الصمم
المعهود لا ينتفي إلا بالسمع المعهود ، الذي هو بأذن سالمة ، والعمى المعهود لا
ينتفى إلّا بالبصر المعهود ، الذي هو حدقة سالمة ، والخرس المعهود لا ينتفي إلّا
بالكلام المعهود الذي هو صوت من لسان وحنك وشفتين.
فإن قالوا : بل
نفينا من كلّ من ذلك غير المعهود.
قلنا : هذا لا
يعقل ، ولا يتوهم ، ولا يصح به دليل ، ولا ينتفي بما أردتم نفيه به ، وأيضا : فإنّ
الباري تعالى لو كان حيا بحياة لم يزل ، وهي غيره لوجب ضرورة أن يكون تعالى مؤلفا
مركبا من ذاته وحياته ، وسائر صفاته ولكان كثيرا لا واحدا ، وهذا إبطال الإسلام.
ونعوذ بالله من الخذلان.
قال أبو محمد :
وأما قولهم : إنما خاطبنا الله بما نعقل ، ودعواهم أن في بديهة العقل : أن الفاعل
لا يكون إلا عالما بعلم هو غيره ، حيّا بحياة هي غيره ، قادرا بقدرة هي غيره ،
متكلما بكلام هو غيره ، سميعا بسمع هو غيره ، بصيرا ببصر هو غيره.
فإنا نقول ـ
وبالله تعالى التوفيق : إن هذه القضية كما ذكروا ، ما لم يقم برهان على خلاف ذلك.
ثم نسألهم : هل عقلتم قط ، أو توهمتم نارا محرقة تنبت في الشجر المثمر ..؟ وهذه
صفة جهنم التي إن أنكرتموها كفرتم.
وهل عقلتم قط طيرا
حيّا يؤكل دون أن يموت ، أو يعانى بنار؟ وهذه صفة الجنة التي إن أنكرتموها كفرتم.
ومثل هذا كثير ، وإنما الحق ألا نخرج عما عهدناه ، وما عقلناه ، إلّا أن يأتي
برهان.
فإن قنعوا بهذا
القدر من الدّعوة ، فليقنعوا بمثل هذا من المجسّمة ، إذ قالوا : إنما خاطبنا الله
تعالى بما نفهم ونعقل ، لا بما لا نعقل ، وقد أخبرنا تعالى أنه له عينا ويدا ووجها
، وأنه ينزل في ظلل من الغمام.
قالوا : فكل هذه
محمول على ما عقلنا من أنها جوارح وحركات ، وأنها جسم ، واقنعوا به منهم أيضا إذ
قالوا : ببديهة العقل وأوله عرفنا ، ووجب ألا يكون الفاعل إلا جسما في مكان
وبضرورة العقل علمنا : أنه لا شيء إلا جسم وعرض ، وما لم يكن كذلك فهو عدم ، وإن
لم يكن عرضا فهو جسم. والباري تعالى ليس عرضا فهو جسم ولا بدّ. واقنعوا بمثل هذا
من المعتزلة ، إذ قالوا في إبطال الرؤية بضرورة العقل : علمنا أنه لا يرى إلا جسم
ملون ، وما كان في حيّز ، وإذ قالوا بضرورته وبديهته ، علمنا أنّ كلّ من فعل شيئا
فإنما يوصف به ، وينسب إليه ، فلو أنه تعالى خلق الشرّ والظلم لنسبا إليه ، ووصف
بهما ، واقنعوا بمثل هذا من الدّهرية ، إذ قالوا : بضرورة العقل علمنا أنه لا يكون
شيء إلّا من جسم.
قال أبو محمد :
وكل طائفة من هذه الطوائف تدّعي الباطل على العقول. والصحيح من هذا ، والحسبة فيه
: هو أن كلّ من ادّعى في شيء ما أنه يعرف ببديهة
العقل ، وضرورته ،
وأوله ، أن ينظر في تلك الدعوى ، فإن كانت ترجع إلى الحواس المشاهدة ، فهي دعوى
فاسدة كاذبة ، لأن العقول توجب أشياء لا تشكّل في الحواس ، كالألوان التي يتوهمها
الأعمى ، ولا يتشكلها بحاسة وهو موقن بها بضرورة عقله ، لصحة الخبر وتواتره عليه
بوجودها. وكالصوت الذي لا يتوهمه البتة ، ولا يتشكله من ولد وهو أصم ، وهو موقن
بعقله بصحة الأصوات لتواتر الخبر عليه بصحتها. وإن كانت تلك الدعوى ترجع إلى مجرّد
العقل ، دون توسط الحواس ـ فهي دعوى صادقة ، وهذه الدعاوى التي ذكرنا عن الأشعرية
، والمجسمة ، والمعتزلة ، والدّهرية ـ فإنما غلطوا فيها ، لأنهم نسبوا إلى أول
العقل ما أدركوه بحواسّهم.
وقد قلنا : إنّ
العقل يوجب ولا بد معرفة أشياء لا تدرك بالحواس ، ولا سيما دعوى الدّهرية ، فإنها
تعارض بمثلها من أنه بضرورة العقل وأوله علمنا أنه لا يمكن وجود جسم وعرض في زمان
لا أوّل له ، وهذا هو الحق ، لا دعواهم التي عوّلوا فيها على ما شاهدوه بحواسهم
فقط.
وبالله تعالى
التوفيق.
وأيضا فيقال لهم :
إذا سميتموه حيّا لنفي الموت والمواتية عنه تعالى ، وقادرا لنفي العجز ، وعالما
لنفي الجهل ـ فيلزمكم ولا بد أن تسموه حسّاسا لنفي الخدر عنه ، وشمّاما لنفي الخشم
عنه ، ومتحركا لنفي السكون والجمادية عنه ، وعاقلا لنفي ضد العقل عنه ، وشجاعا
لنفي الجبن عنه.
فإن امتنعوا من
ذلك كانوا قد ناقضوا في استدلالهم في تسميتهم إيّاه حيّا ، عالما ، قادرا ، جوادا.
فإن قالوا : إنه
لا يجوز أن يسمّى بشيء مما ذكرنا لأنه لم يأت به نصّ.
قيل لهم : وكذلك
لم يأت نص بأنّ له تعالى حياة ، ولا أنه تسمّى حيّا ، عالما ، قادرا لنفي أضداد
هذه الصفات عنه ، لكن لما جاء النص بأنه تعالى تسمّى بالحيّ العالم القدير سميناه
بذلك ـ ولو لا النص ما جاز لأحد أن يسمي الله تعالى بشيء من ذلك ، لأنه كان يكون
مشبّها بخلقه ، لا سيما ولفظة الحيّ تقع في اللغة على العالم المميز بالحقائق.
قال تعالى : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ
الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) [سورة يس : ٧٠].
فأراد بالحي هاهنا
: العالم المميز بالإيمان ، المقرّ به.
وأيضا : فإنهم
يدّعون أنهم ينكرون التشبيه ثم يرتكبونه أتم ركوب ، فيقولون : لما
لم يكن الفعّال
عندنا إلّا حيّا ، عالما ، قادرا ـ وجب أن يكون الباري تعالى ، الفاعل للأشياء حيا
، عالما ، قادرا ـ وهذا نصّ قياسهم له تعالى على المخلوقات ، وتشبيهه تعالى بهم ،
ولا يجوز عند القائلين بالقياس أن يقاس الشيء إلّا على نظيره. وأما أن يقاس الشيء
على خلافه من كل جهة وعلى ما لا يشبهه في شيء البتة ـ فهذا ما لا يجوز أصلا عند
أحد ، فكيف والقياس كله باطل لا يجوز ..؟
وأيضا فإنّ الحياة
التي لا يعرف أحد بالعقل حياة غيرها إنما هي الحسّ والحركة الإرادية ، ولا يعرف
أحد الحيّ إلّا الحساس المتحرك بإرادة ـ وهذا أمر يعرف بالضرورة ، فمن أنكر ذلك ،
فقد أنكر الحسّ والمشاهدة والضرورة ، وخرج عن أن يكلم.
فإن قال قائل منهم
: «إنّ الموات قد يتحرك» فلم يزد على أن أبان عن قوة جهله ، لأنه إنما قلنا الحركة
الإرادية ، فإذا لم يفرق هذا الجاهل بين الحركة الإرادية والاضطرارية فينبغي أن
يتعلم قبل أن يتكلم. وكل حركة ظهرت من غير حي ، فليست حركة إرادة له ، ولكنّها
تحريك المحرك له ، إمّا الباري تعالى ، وإمّا من دونه. ومما يبطل قولهم ضرورة :
أنه إنما سمّي تعالى حيّا لأنه عالم قادر ، ووجدنا أحياء كثيرة ليسوا علماء ، ولا
قادرين كالأطفال حين ولادتهم ، وكالنائم المستثقل ، وكالمخدورين ، والجهّال
المجانين ، وكضعاف الدور ، والصّوادب ، وما لا ينتقل عن محلّه كالوصل وغيره ، وكالمريض من سائر
الحيوان ـ فهذه كلها أحياء ليس شيء منها عالما ولا قادرا ، فصح ضرورة أنه لا معنى
للحياة مرتبط بالعلم والقدرة لكن الحق في ذلك : أنّ بعض الأحياء عالم قادر ، وليس
كل حيّ عالما قادرا ولا سبيل إلى وجود شيء غير حسّاس ولا متحرك بإرادة.
فإن ذكروا المغمى
عليه ، فذلك عائد عليهم لأنه ليس عالما ولا قادرا.
وأما الحسّ ففيه
بالضرورة ، فلو جشّ جشّا قويّا لتألم ، ولأخبر بذلك عند انتباه ـ وكذلك الحسّ
والحركة الإرادية باقيان لا بدّ في بعض أعضاء المخدور والمغمى عليه ولا بدّ ـ وقد
بيّنا الواجب في هذا وهو أنه لا يسمّى الله عزوجل ، ولا نخبر عنه من طريق الاستدلال باسم يشاركه فيه شيء من
خلقه ، ولا بخبر يشاركه شيء من خلقه ، ولكن نقول : إنه تعالى لا يجهل شيئا أصلا ،
وهذه صفة لا يستحقها
__________________
أحد دونه تعالى.
ونقول : لا يغفل البتة ، ولا يضل ، ولا يسهو ، ولا ينام ، ولا يتحير ، ولا ينحل ،
ولا يخفى عليه متوهم ، ولا يعجز عن مسئول عنه ، ولا ينسى ، وكل هذا فلا يستحقه
مخلوق دونه تعالى أصلا.
ثم نقر بما جاء به
القرآن والسنن كما جاء لا نزيد فيه ولا ننقص منه ، ولا نحيله ، فنؤمن بأنه بخلاف المعهود فيما يقع عليه ذلك اللفظ من
خلقه.
وأما لفظ الصفة في
اللغة العربية ، وفي جميع اللغات ، فإنها عبارة عن معنى محمول في الموصوف بها ، لا
معنى للصفة غير هذا البتة. وهذا أمر لا يجوز إضافته إلى الله تعالى البتة إلّا أن
يأتي نص بشيء أخبر الله تعالى به عن نفسه فنؤمن به ، وندري حينئذ أنه اسم علم لا
مشتق من صفة ، وأنه خبر عنه تعالى لا يراد به غيره عزوجل ، ولا يرجع منه إلى سواه البتة. والعجب كل العجب أن يسمّى
الله تعالى حيّا ، لأنهم لم يجدوا الفعل يقع إلّا من حيّ ، ثم يقولون : إنه لا
كالأحياء فعادوا إلى دليلهم فأفسدوه ، لأنهم إذا أوجبوا وقوع الفعل من حيّ ليس
كالأحياء الذين لا تقع الأفعال إلّا منهم ، فقد أبطلوا أن يكون ظهور الأفعال دليلا
على أنها من حيّ كما عهدوه وإن كان بخلاف ما عهدوه فلا ينكرون وقوع الفعل ممن لا
يسمّى حيّا ـ وإن كان بخلاف ما عهده ، وقد علمنا يقينا أن القدرة من كل قادر في
العالم إنما هي عرض فيه ، وأنّ الحياة في الحيّ المعهود بضرورة العقل عرض فيه أيضا
، وأن العلم في كل عالم في العالم كذلك ، وقد وافقونا على أن الباري تعالى بخلاف
ذلك ، فإذ قد بطل أن يكون هذا موصوفا بصفة القادر فيما بيننا والعالم منا التي
لولاها لم يكن العالم عالما والقادر قادرا فإن الفعل فيما بيننا لا يقع إلّا من
أهل تلك الصفة ، فقد بطل ضرورة أن يسمّى الباري تعالى باسم قادر أو عالم أو حيّ
استدلالا بأن الفعل فيما بيننا لا يقع إلّا من عالم قادر ، وإذ قد جوّزوا وجود علم
ليس عرضا وحياة ليس عرضا ، وهذا أمر غير معقول أصلا ، فلا ينكرون وجود حيّ بلا
حياة ، وسميع بلا سمع ، وبصير بلا بصر ، وكل هذا خروج عن المعهود ـ ولا فرق. وإنما
يستجاز الخروج عن المعهود إذا جاء به نصّ من الخالق عزوجل ، أو قام به برهان ضروري ، وإلا فلا. ولم يأت نصّ قط بلفظ
الحياة ، ولا الإرادة ، ولا السمع ، ولا البصر. واحتجّ بعضهم في معارضة من قال :
إن الحيّ لا يكون إلّا حسّاسا متحركا بإرادة ، لأننا لم نشاهد قط حيا إلّا حساسا
متحركا
__________________
بإرادة ، فقال هذا
المعترض : إن من اتفق له ألا يرى نباتا إلّا أخضر ، ولا أخضر إلا نباتا فقطع بأن
كل أخضر فهو نبات فقد أخطأ.
قال أبو محمد :
فأول ما يقال له : قل هذا لنفسك في استدلالك بأنك لم تر قطّ فعّالا إلّا حيا ،
عالما ، قادرا ـ ولا فرق.
ثم نعود بعون الله
تعالى إلى بيان ما شغبوا به ، مما لا يعرفون الفرق بينه وبين ما يقطع عليه ـ فنقول
وبالله تعالى التوفيق :
إنّ الأعراض تنقسم
قسمين ، أحدهما ذاتي ، لا يتوهم بطلانه إلّا ببطلان حامله كالحسّ والحركة الإرادية
للحيّ ، وكذلك احتمال الموت للإنسان مع إمكان التمييز للعلوم والتصرف في الصناعات
وما أشبه هذا.
ومن هذه الأعراض
تقوم فصول الأشياء وحدودها التي تفرق بينها وبين غيرها من الأنواع التي تقع معها
تحت جنس واحد ـ فهذا القسم مقطوع على وجوده في كل ما وقع اسم حامله عليه.
والقسم الثاني :
غيريّ وهو ما يتوهم بطلانه ولا يبطل بذلك ما هو فيه كاجترار البعير والغنم ،
وحلاوة العسل ، وسواد الغراب ، فإن وجد عسل مر ـ وقد وجدناه ـ لم يبطل بذلك أن
يكون عسلا ، وكذلك لو وجد غراب أبيض ـ وقد وجد ـ لم يبطل بذلك أن يكون غرابا. فمثل
هذا القسم لا يقطع على أنه موجود ولا بدّ أبدا. فهذا الفرق بين ما شغب به من
النبات ، لأنه إن توهّم النبات أحمر أو أصفر لم يبطل أن يسمّى نباتا ، ولكنه إن
توهّم أن يكون النبات غير نام من الأرض ، ولا متغذّ برطوباتها ، منجذبا نحو الهواء
فإنه لا يكون نباتا أصلا.
وأيضا فقد قال
بعضهم : إنه قد يعرف الباري حيّا من لا يعرفه حسّاسا متحركا بإرادة.
قيل له : وقد
يعرفه حيّا من لا يعرف أنّ له حياة ، وقد يعرفه جسما من لا يعرفه مؤلفا ، ولا
محدثا ، وليس توهم الجهّال ما توهموه من الحماقات حجة على أهل العقول. والحمد لله
رب العالمين.
قال أبو محمد :
برهان ضروري ، وهو أنّ كل صفة في العالم فهي ضرورة ـ ولا بدّ ـ عرض بين الطرفين ،
أو أحد ذينك الطرفين ، وإما ذات ضدّ فحاملها بالضرورة قابل للأضداد. ولا عالم في
العالم إلّا والجهل منه متوهّم ، ولا قادر في العالم إلّا والعجز منه متوهّم ، ولا
حيّ في العالم إلّا والسكون والحركة والحسّ والحذر متوهّمات كلّها
منه ، وقد علمنا
أنّ الله تعالى أرحم الرّاحمين حقّا لا مجازا ، من أنكر هذا فهو كافر ، حلال دمه
وماله ، وهو تعالى يبتلي الأطفال بالجدري ، والأواكل والجن والذبحة والأوجاع حتى
يموتوا ، وبالجوع حتى يموتوا كذلك. ويفجع الآباء بالأبناء ، وكذلك الأمهات ،
والأحياء بعضهم ببعض حتى يهلكوا ثكلا ، ووجدا ، وكذلك الطير بأولادها ، وليس هذه
صفة الرحمن بيننا ـ فصحّ يقينا أنها أسماء لله تعالى ، سمّى الله تعالى بها نفسه
غير مشتقة من صفة محمولة فيه تعالى ـ وحاشا له من ذلك.
فإن قالوا : إن
العالم ، القادر ، الحيّ ، الأوّل ، الرحيم ـ بخلاف هذا.
قيل لهم : صدقتم.
وهذا إبطال منكم لاستدلالكم بالشاهد بينكم على تسمية الباري تعالى وصفاته.
قال أبو محمد :
وأمّا وصفنا الباري تعالى بأنه أوّل ، حيّ ، خالق ، فلا يلزمنا في ذلك شيء مما
ألزمناه خصومنا ، لأنه قد قام البرهان بأنه خالق ما سواه ، وليس في العالم خالق
البتّة بوجه من الوجوه إلّا الباري تعالى.
وقد قام البرهان
على أنه تعالى واحد ، لا واحد في العالم غيره البتة بوجه من الوجوه ، وكلّ ما في
العالم فمتكثر كثير لا واحد ، وقد قام البرهان على أنه تعالى الأول الذي لا أوّل
في العالم غيره ، وكل ما في العالم ينافي الأول.
وقد قام البرهان
على أنه تعالى : الحق بذاته ، وأنّ كل ما في العالم فإنما هو محقّق له تعالى.
وإنما كان حقا بالباري عزوجل ، ولولاه لم يكن حقّا. فهذا هو البرهان الصحيح الثابت ،
الذي لا يعارض ببرهان البتة ، وهذا هو نفي التشبيه.
ثم إننا ننفي عن
الباري تعالى جميع صفات العالم ، فنقول :
إنه تعالى لا يجهل
أصلا ، ولا يغفل البتة ، ولا يسهو ، ولا ينام ، ولا يجبن ، ولا يخفى عليه متوهم ،
ولا يعجز عن مسئول عنه ، لأننا قد بينا فيما خلا من كتابنا هذا : أنّ الله تعالى
بخلاف خلقه من كل وجه.
فإذ ذلك كذلك ـ
فواجب نفي كلّ ما يوصف به شيء في العالم عنه تعالى عن المعهود.
وأمّا إثبات الوصف
أو التسمية له تعالى ، فلا يجوز إلّا بنصّ. ونخبر عنه تعالى في أفعاله عزوجل فنقول :
إنه تعالى يحيي
الموتى ويميت الأحياء إلّا أن يثبت إجماع في إباحة شيء من ذلك. ولو لا الإجماع على
إباحة إطلاق بعض ذلك هاهنا لما أجزناه ونقول : إنه تعالى
بكل شيء عليم ، لم
يزل كذلك ، والمعنى في هذا : أنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأشياء على حسب هيئة كل
مخلوق منها ، لا على أن الأشياء لم تزل موجودة في علمه ، بل معاذ الله من هذا ،
ولكن نقول : لم يزل تعالى يعلم أنه سيحدث كل ما يكون شيئا إذا أحدثه على ما يكون عليه
إذا كان ـ وبالله تعالى التوفيق.
الرّد على من سمّى الله بغير نص
قال أبو محمد :
ونجمع إن شاء الله تعالى هاهنا بيان الردّ على من أقدم على أن يسمّي الله تعالى
بغير نصّ لكن بما دلّه عليه عقله وظنه أنه حسن ومدح ، أو استدلالا بما سمّى به
تعالى نفسه ، أو تصريفا من ذلك ، أو قياسا على ما شاهد من خلقه.
فنقول وبالله
تعالى التوفيق :
إنّ الله تعالى
سمّى نفسه : الرحمن الرحيم ، فسمّه أنت الرقيق من رقة النفس التي هي الرحمة ، فإن
قال «الرحيم» يغني عن ذلك.
قيل له : نقضت
أصلك ، لأنّ الحيّ يغني على هذا عن أن يقال : إن له حياة.
وأيضا : فإن
الرحمن يغني عن الرحيم.
فإن قال : قد ورد
النصّ به.
قيل له : صدقت.
فلا تتعدّ ما جاء به النص ، وامنع ما سواه.
وسمّى نفسه (العليم)
فسمّه : الدّاري ، الحبر ، الفهم ، الذكي ، العارف ، النبيل فكل هذا مدح واحد في
اللغة بمعنى (عليم) ولا فرق.
وسمّى نفسه : «الكريم».
فسمّه : السخيّ ، والجواد.
وسمّى نفسه : «الحكيم».
فسمّه : الناقد ، العاقل.
وسمّى نفسه : «العظيم».
فسمّه : الفخم ، الضخم.
وسمّى نفسه : «الحليم».
فسمّه : المحتمل ، المتأني ، الصابر ، الصبور ، الصبّار.
وأخبر أنه «قريب».
فسمّه : الدّاني ، المجاور ، المياسر.
وسمّى نفسه : «الواسع».
فسمّه : الرّحب ، العريض.
وسمّى نفسه : «العزيز».
فسمّه : الرئيس.
وأخبر أنه «شاكر» و
«شكور» : فسمّه : الحامد ، والحمّاد.
وسمّى نفسه : «القهار».
فسمّه : الظافر.
وسمّى نفسه : «الآخر».
فسمّه : الثاني ، والتالي ، والخاتم.
وسمّى نفسه : «الظاهر».
فسمّه : البادي والمعلن.
وسمّى نفسه : «الخبير».
فسمّه : العارف والدّاري.
وسمّى نفسه : «الكبير».
فسمّه : الرئيس والمتقدّم.
وسمّى نفسه : «القدير».
فسمّه : المطيق والمستطيع.
وسمّى نفسه : «العليّ».
فسمّه : العالي ، والرفيع ، والسّامي.
وسمّى نفسه : «البصير».
فسمّه : المعاين.
وسمّى نفسه : «الجبّار».
فسمّه : المتجبر ، الزّاهي ، التيّاه.
وسمّى نفسه : «المتكبر».
فسمّه : المستكبر ، المتعاظم ، المتنحّي.
وسمّى نفسه : «البرّ».
فسمّه : الزاكي ، والمواصل.
وسمّى نفسه : «المتعالي».
فسمّه : المتعظّم ، المترفع.
وسمّى نفسه : «الغني».
فسمّه : الموسر ، المليء ، المكثر ، الوافر.
وسمّى نفسه : «الوليّ».
فسمّه : الصديق ، المصادق ، الموالي ، الحبيب.
وسمّى نفسه : «القوي».
فسمّه : الجلد ، النجد ، الشجاع ، الجليد ، الشديد ، الباطش ، البطّاش.
وسمّى نفسه : «الحيّ»
وأخبر أنه له : «نفسا». فسمّه : المتحرّك ، الحسّاس ، واقطع بأن له روحا بمعنى
النفس.
وسمّى نفسه : «السميع»
«البصير». فسمّه : الشمّام ، الذّوّاق.
وسمّى نفسه : «المجيد».
فسمّه : الشريف ، الماجد.
وسمّى نفسه : «الحميد».
فسمّه : «المحمّد» ، «المحمود» ، «الممدوح».
وسمّى نفسه : «الودود».
فسمّه : الوادّ ، المحبّ ، الحبيب ، الوديد.
وسمّى نفسه : «الصمد».
فسمّه : المصمت.
وسمّى نفسه : «الحق».
فسمّه : الصحيح ، الثابت.
وسمّى نفسه : «اللطيف».
فسمّه : الخفيف.
وذكر تعالى أن له
: «مكرا» وكيدا. فقل إنّ له : دهاء ، ومكرا ، وخبثا ، وتحيّلا ، وخدائع.
فهذا كله في اللغة
وفيما بيّنا سواء.
وسمّى نفسه : «المبين».
فسمّه : الواضح ، البائن ، اللائح ، البادي.
وسمّى نفسه : «المؤمن».
فسمّه : المسلم ، المصدّق.
وسمّى نفسه : «الباطن».
فسمّه : الخفي ، الغائب ، المتغيّب.
وسمّى نفسه : «الملك».
فسمّه : «السلطان».
وصحّ بالسنة : أنه
يسمّى «جميلا». فسمّه : الصبيح ، الحسن.
قال أبو محمد :
فإن أبى من كل هذا نقض أصله ، وكذلك إن قال : إن بعض ذلك يغني عن بعض ـ لزمه إسقاط
الحياة ، لأن (الحيّ) يغني عن ذكر الحياة على هذا الأصل. ولزمه أن يقول : إنه
متكلم ، لأن الكلام مغن عن ذلك.
ولزمه أيضا :
إسقاط السمع والبصر ، إذا استغنى بالسميع البصير.
ولزمه أيضا :
إسقاط ما جاء به النصّ إذا كان بعضه يغني عن بعض.
والملك يغني عن
مليك. وأحد يغني عن واحد. وجبار يغني عن متكبر ، وخالق يغني عن الباري. وهكذا سائر
الأسماء. فلم يبق إلّا الرجوع إلى النصوص فقط ، فإذ قد صحّ هذا يقينا بيننا فلا
يحل أن يسمّى الله عزوجل : القديم ، ولا الحنّان ، ولا المنّان ، ولا الفرد ، ولا
الدّائن ، ولا الباقي ، ولا الخالد ، ولا العالم ، ولا الداني ، ولا الرّائي ، ولا
السامع ، ولا المعتلي ، ولا العالي ، ولا المتدارك ، ولا الطالب ، ولا الغالب ،
ولا الضار ، ولا النافع ، ولا المدرك ، ولا المبدئ ، ولا المعيد ، ولا الناطق ،
ولا المتكلم ، ولا القادر ، ولا الوارث ، ولا الباعث ، ولا القاهر ، ولا الجليل ،
ولا المعطي ، ولا المنعم ، ولا المحسن ، ولا الحكم ، ولا الحاكم ، ولا الوهّاب ،
ولا الغفار ، ولا المضل ، ولا الهادي ، ولا العدل ، ولا الرضى ، ولا الصادق ، ولا
المتطوّل ، ولا المتفضل ، ولا المانّ ، ولا الجيد ، ولا الحافظ ، ولا البديع ، ولا
الإله ، ولا المجمل ، ولا المحيي ، ولا المميت ، ولا المنصف ، ولا بشيء لم يسمّ به
نفسه أصلا ، وإن كان في غاية المدح عندنا ، أو كان متصرفا من أفعاله تعالى الا أن
نخبر به عنه بكل هذا الذي ذكرنا على الإضافة إلى ما نذكر مع الوصف حينئذ ،
والإخبار عن فعله ـ فهذا جائز حينئذ فيجوز أن نقول : عالم الخفيات ، عالم بكل شيء
، عالم الغيب والشهادة ، غالب على أمره ، غالب على من طغى ، أو نحو هذا. القادر
على ما يشاء ، القاهر للملوك ، وارث الأرض ومن عليها ، المعطي لكل ما بأيدينا ،
الواهب لنا كلّ ما عندنا ، المنعم على خلقه ، المحسن إلى أوليائه ، الحاكم بالحق ،
المبدي لخلقه ، المعيد له ، المضل لأعدائه ، الهادي لأوليائه ، العدل في حكمه ،
الصادق في قوله ، الراضي عمن أطاعه ، الغضبان على من عصاه ، الساخط على أعدائه ،
الكاره لما نهى عنه ، بديع السماوات والأرض ، إله الخلق ، محيي الأحياء والموتى ،
ومميت الأحياء والموتى ، المنصف ممن ظلم ، باني الدنيا وداحيها ، ومسوّيها ، ونحو
هذا ، لأنّ هذا كله إخبار عن فعله تعالى ، وهذا مباح لنا
بإجماع ، وهو من
تعظيمه تعالى ، ومن دعائه عزوجل ، وليس لنا أن نسميه إلا بنص ، وكذلك نقول : إن لله تعالى «كيدا
، ومكرا ، وكبرياء» وليس هذا من المدح فيما بيننا ، بل هو فيما بيننا ذم ، ولا يحل
أن يقال : إن لله تعالى عقلا ، وشجاعة ، وعفة ، وذكاء ، وفهما ، ودعاء ، وهذا غاية
المدح فيما بيننا. فبطل أن يراعى فيما يخبر به عن الله تعالى ما هو مدح عندنا أو
ما هو ذمّ عندنا ، بل بما جاء في النص فقط. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد :
ومن البرهان على هذا أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ
لله تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحد ، من أحصاها دخل الجنة» .
فلو كانت هذه
الأسماء التي منعنا منها جائز أن تطلق لكانت أسماء الله تعالى أكثر من مائة ونيف ـ
فهذا باطل لأن قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم «مائة غير واحد» مانع
من أن يكون له أكثر من ذلك ، ولو جاز كان قوله عليهالسلام كذبا ، وهذا كفر ممن أجازه.
وبالله تعالى
التوفيق.
وقال تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [سورة البقرة : ٣١].
فأسماؤه بلا شك
كما هي داخلة فيما علمه آدم ، وتخصيص كلامه عليهالسلام لا يحل ، فإذ ذلك كذلك فمن الذي اشتقها من الصفات ..؟
فإن قالوا : هو
اشتقها.
كذبوا على الله
تعالى جهارا ، إذ أخبروا عنه بما لم يخبر به تعالى عن نفسه وهذا عظيم نعوذ بالله
منه ، وهذه كلها براهين كافية لمن عقل. وبالله تعالى التوفيق ، والحمد لله رب
العالمين.
تم الجزء الأول ويليه إن شاء الله تعالى
الجزء الثاني ، وأوله : الكلام في الوجه
واليد والعين ... الخ
__________________
الفهرس
المقدمة....................................................................... ٣
ابن حزم الاندلسي : نسبه..................................................... ٥
مولده ونشأته وسيرته ووفاته.................................................... ٥
أقوال العلماء فيه.............................................................. ٦
مصنفاته..................................................................... ٧
مقدمة المصنف.............................................................. ١١
باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق في كل ما
اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها ١٣
القسم
الأول
السوفسطائية................................................................. ١٨
باب الكلام على أهل القسم الأول ، وهم
مبطلو الحقائق وهم السوفسطائية......... ١٨
القسم
الثاني
من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له....................................... ١٩
الاعتراض الأول............................................................. ٢٠
الاعتراض الثاني............................................................. ٢٠
الاعتراض الثالث............................................................ ٢١
الاعتراض الرابع............................................................. ٢١
الاعتراض الخامس........................................................... ٢١
إفساد الاعتراض الأول....................................................... ٢٢
إفساد الاعتراض الثاني....................................................... ٢٢
إفساد الاعتراض الثالث...................................................... ٢٣
إفساد الاعتراض الرابع....................................................... ٢٤
إفساد الاعتراض الخامس..................................................... ٢٥
البراهين
الضرورية على إثبات حدوث العالم..................................... ٢٦
برهان أول.................................................................. ٢٦
برهان ثان.................................................................. ٢٧
برهان ثالث................................................................ ٢٨
برهان رابع.................................................................. ٣١
برهان خامس............................................................... ٣١
أدلة اخرى على حدوث العالم................................................. ٣٥
القسم
الثالث
باب الكلام على من قال إن العالم لم يزل
وله مع ذلك فاعل لم يزل................ ٣٦
القسم
الرابع
باب الكلام على من قال إن للعالم خالقاً لم يزل ، وإن النفس والمكان المطلق
الذي هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة ، وأنها غير محدثة..................................................... ٣٨
باب الكلام على من قال إن فاعل العالم ومدبره أكثر من واحد.................... ٤٩
حجج القائلين بأن الفاعل أكثر من واحد...................................... ٥٢
إبطال هذه الأدلة........................................................... ٥٣
الكلام على النصارى........................................................ ٦٤
طبيعة المسيح............................................................... ٧٨
الكلام على من يقول إن البارىء خلق العالم جملة كما هو بجميع أحواله بلا زمان.... ٨٢
الكلام
على من ينكر النبوة والملائكة........................................... ٨٦
البراهمة وإبطال آرائهم........................................................ ٨٦
البراهين الدّالة على صدق مُدّعي النبوة......................................... ٩٠
الفرق بين المعجزة والسحر.................................................... ٩٣
الردّ على من ادّعى أن في البهائم رسلاً......................................... ٩٦
الرد على من زعم أن الأنبياء عليهم السلام ليسوا أنبياء اليوم ولا الرسل
اليوم رسلاً.. ١٠٦
الكلام على من قال بتناسخ الأرواح.......................................... ١٠٩
فصل في الكلام على من أنكر الشرائع من المنتمين إلى الفلسفة بزعمهم وهم أبعد
الناس عن العلم بها جملة ١١٣
الكلام على اليهود وعلى من أنكر التثليث من النصارى ومذهب الصابئين وعلى من
أقرّ بنبوة زرادشت من المجوس ، وأنكر من سواه من الأنبياء عليهم السلام.............................................. ١١٧
فصل في مناقضات ظاهرة وتكاذيب واضحة في الكتاب الذي تسميه اليهود التوراة ،
وفي سائر كتبهم وفي الاناجيل الأربعة يتيقّن بذلك تحريفها وتبديلها وأنها غير الذي
أنزل الله عز وجل........................ ١٣٨
فصل : التوراة السامرية..................................................... ١٣٩
فصل : عدم الاختلاف في توراة اليهود....................................... ١٤٠
فصل : الكلام عن الأنهر في التوراة........................................... ١٤٠
فصل : ادعاء التوراة أن آدم إله من الآلهة..................................... ١٤٤
فصل : عن قاتل قابيل..................................................... ١٤٥
فصل : كلام التوراة عن هابيل............................................... ١٤٦
فصل : ادعاء التوراة أن أولاد الله اتخذوا نساء.................................. ١٤٦
فصل : اضطراب التوراة في أعمار البشر...................................... ١٤٧
فصل : مباركة نوح لابنه سام................................................ ١٤٨
فصل : اضطراب التوراة في أعمار أبناء نوح.................................... ١٤٩
فصل : التوراة وتشريد نسل ابراهيم عليه السلام................................ ١٤٩
فصل : ادعاء التوراة بأن نسل ابراهيم يملكون من النيل إلى الفرات................ ١٥٣
فصل : إخراج ابراهيم من أتون الكردانيين إلى بلد آمن.......................... ١٥٥
فصل : التقاء ابراهيم بالملائكة عليهم السلام.................................. ١٥٥
فصل : بشرى ابراهيم بإنجاب ولد........................................... ١٥٧
فصل : طلب ابراهيم من ربه عدم هلاك قوم لوط جميعاً......................... ١٥٨
فصل : ادعاء التوراة على لوط عليه السلام بمضاجعته ابتيه...................... ١٥٩
فصل : أسر فرعون لسارة زوجة ابراهيم عليه السلام............................ ١٦١
فصل : ابراهيم عليه السلام له أكثر من زوجة................................. ١٦٢
فصل : طلب اسحاق من ابنه عيسو أن يصيد صيداً........................... ١٦٣
فصل : ذكر خدمة يعقوب لخالة لابان....................................... ١٦٦
فصل : عودة يعقوب من رحلته.............................................. ١٦٧
فصل : محبة يعقوب لابنه يوسف عليه السلام................................. ١٧٠
فصل : ذكر بيع يوسف عليه السلام......................................... ١٧١
فصل : أولاد يعقوب المولودون بالشام........................................ ١٧٥
فصل : بركة يعقوب عليه السلام لأولاده..................................... ١٧٧
فصل : تنبؤ التوراة بإعطاء أولاد يهودا القيادة.................................. ١٧٨
فصل : إرسال موسى عليه السلام لفرعون.................................... ١٧٩
فصل : معجزات موسى أمام فرعون.......................................... ١٧٩
فصل : ذكر بعض المعجزات لموسى.......................................... ١٨٢
فصل : اضطراب التوراة في ذكر مدة بقاء بني إسرائيل بمصر...................... ١٨٤
فصل : التوراة المحرفة تصف الإله بألفاظ لا تليق............................... ١٨٥
فصل : وصف التوراة للمنّ النازل من السماء.................................. ١٨٦
فصل : تجسيم التوراة للإله ووصفه بصفات البشر.............................. ١٨٦
فصل : التوراة تتهم هارون عليه السلام بصناعة العجل......................... ١٨٧
فصل : الإله يستجيب لموسى في العفو عن بني إسرائيل......................... ١٩٠
فصل : طلب الاله لموسى أن يذهب وقومه لفلسطين.......................... ١٩٠
فصل : ادعاء التوراة أن الله وعد موسى أن يراه من ظهره لا من وجهه............. ١٩١
فصل : ذكر عدد بني اسرائيل الخارجين من مصر.............................. ١٩٢
فصل : ذكر قبائل بني اسرائيل............................................... ١٩٥
فصل : شوق بني اسرائيل الى خضروات الارض................................ ٢٠٦
فصل : معاندة هارون ومريم لموسى عليهم السلام.............................. ٢٠٨
فصل : طلب موسى من الأسباط أن يخرجوا للأرض المقدسة.................... ٢٠٩
فصل : طلب موسى من قومه عدم السماح لأدعياء النبوة....................... ٢١٠
كيف حرفت التوراة........................................................ ٢١٤
ملوك الاسباط العشرة...................................................... ٢١٧
ابتداء ذكر الاناجيل........................................................ ٢٥١
ذكر ما تثبته النصارى بخلاف نص التوراة وتكذيبهم لنصوصها التي بأيدي اليهود
وادعاء بعض علماء النصارى أنهم اعتمدوا في ذلك على التوراة التي ترجمها السبعون
شيخاً لبطليموس لا على كتب عزرا الوراق ، واليهود مؤمنون بكلتا النسختين والخلاف
عند النصارى موجود فيهما...................................................... ٢٥٧
ذكر مناقضات الأناجيل الأربعة والكذب الظاهر الموجود فيها.................... ٢٦٠
فصل : لقاء ابليس بعيسى عليه السلام....................................... ٢٦٥
فصل : بعض مناقضات الانجيل............................................. ٢٦٧
فصل : قول المسيح لتلاميذه : لا تحسبوا أني أتيت لنقض التوراة................. ٢٧٠
فصل : قول المسيح كل من سخط على أخيه بلا سبب فقد استوجب القتل....... ٢٧٢
فصل : الوضع عن الانجيل.................................................. ٢٧٣
فصل : الوضع عن المسيح أنه علم تلاميذه إبراء المرض.......................... ٢٧٤
فصل : الكلام عن الساعة.................................................. ٢٧٦
فصل : الكذب عن لسان المسيح عليه السلام................................. ٢٧٧
فصل : لا تفاضل بين الناس إلا بالأعمال.................................... ٢٧٨
فصل : الكلام في يحيى عليه السلام.......................................... ٢٧٩
فصل : نفي أن النبوة منتهاها إلى يحيى........................................ ٢٨٠
فصل : جهل الكفار من هو الله............................................. ٢٨١
فصل : مطالبة المسيح بآية.................................................. ٢٨٢
فصل : قول النصارى أن المسيح عليه السلام له أب وإخوة...................... ٢٨٣
فصل : قولهم أن المسيح أبرأ لباصرة بمفاتيح السماوات.......................... ٢٨٥
بيان أن ما يسميه النصارى بالحوارييّن هم غير الحواريين المنصوص عليهم في
القرآن.. ٢٨٨
ذكر
بعض ما في كتبهم غير الأناجيل من الكذب والكفر والهوس................ ٣٢٤
وجوه نقل المسلمين لكتابهم ودينهم........................................... ٣٣٤
ذكر فصول يعترض بها جُهّال الملحدين على ضعفة المسلمين..................... ٣٤٥
مطلب بيان كروية الأرض................................................... ٣٥٢
كذب من ادّعى لمدة الدنيا عدداً معلوماً...................................... ٣٦١
الفرق
الإسلامية
ذكر ما اعتمدت عليه كل فرقة من هذه الفرق فيما اختصت به.................. ٣٦٩
خروج أكثر هذه الفرق عن دين الاسلام...................................... ٣٧٢
الكلام في التوحيد ونفي التشبيه............................................. ٣٧٤
مطلب اطلاق الصفات..................................................... ٣٧٧
الكلام في المكان والاستواء.................................................. ٣٨٠
الكلام في العلم............................................................ ٣٨٤
الكلام في سميع بصير وفي قديم.............................................. ٣٩٨
فصل : فيما أحدثه أهل الاسلام في أسماء الله عز وجل القديم................... ٤١٠
الكلام في الحياة........................................................... ٤١٢
الرد على من سمّى الله بغير نص.............................................. ٤٢١
الفهرس................................................................... ٤٢٥
|