بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

إن الحمد لله نحمده تعالى ونشكره ، ونتوب إليه ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادى له.

ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير ، ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبد الله ورسوله ، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله فبلغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة ، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يضل عنها إلا زائغ هالك ؛ صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين.

أما بعد :

فإن العداوة بين الحق والباطل قائمة دائمة ، والصراع بينهما مستمر ما استمرت السموات والأرض ، وإلى أن تقوم الساعة ...!

والحق واحد لا يتلون ولا يتبدل ، فالله تعالى هو الحق الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، أما الباطل فإنه يتلبس صورا وأشكالا وألوانا ، حسب مقتضيات أحوال المعارك التى يخوضها ، فلكل حال لبوسها ، ولكل معركة جندها وسلاحها وأعوانها من شياطين الإنس والجنّ.

ولقد نفخ إبليس نفخته الأولى حين وسوس لآدم ـ عليه‌السلام ـ فعصى ربه ثم غوى ، وكان الخروج من الجنة ، والهبوط إلى الدنيا ، وشقاء بنى آدم.

ثم إن الله تعالى رحم الإنسانية والبشرية برسله وأنبيائه يهدونهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ؛ وأنذر المخالفين بسوء العاقبة.

(قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) (١٢٧) [طه : ١٢٣ ـ ١٢٧].

وعلى مدى قرون طوال ، وأجيال استمرت المعركة ، وأوار الحرب بين الحق والباطل ، فمن الناس من آمن ووقى العثار ، ومنهم من سقط فى الدرك الأسفل من النار.

منهم من لاذ بالفرار إلى ظل ظليل ، فاتبع الرسل ، ومنهم ـ بل أكثرهم ـ لجوا فى عتو ونفور ، وغرقوا فى لجج البحور ، أو زلزلت بهم الأرض أو خسفت ، فكانوا عبرة للأولين والآخرين.

قوم نوح وقوم لوط وعاد وثمود ، وأصحاب الأيكة وقوم تبع وغيرهم كثير.

وكانت نفخة إبليس ووسوسته ـ وما تزال ـ من داخل النفس البشرية وباطنها ؛ (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) [الشمس : ٧ ـ ١٠].

وكما تنوعت أشكال حروب الباطل مع الحق ، عبر مسيرة الحياة الإنسانية ، تنوعت أيضا مع بزوغ فجر الإسلام ، وسطوعها على الدنيا ، واتخذ سبيله إلى الميدان من خلال النفس ، من الباطن أيضا.

واضطرمت واشتعلت منذ أبى جهل الّذي تلبّسه إبليس إلى عهود متقدمة.

ولقد كان من شأن إمامنا الجليل أبى حامد الغزالى ـ عليه الرحمة والرضوان ـ أن يكون جنديا من جنود الحق ، وعلى مستوى عال ، فى الدفاع عن حوزة الإسلام ، وبروزه إلى الميدان ، متسلحا بالإيمان والمعرفة والنباهة ، وقد درس ووعى ، ثم شرع قلمه ليسطر تحفته العلمية : «فضائح الباطنية».

ولسوف ترى عزيزى القارئ من خلال الكتاب نموذجا رائعا راقيا للعالم ، بكل ما فى كلمة العالم الغيور من معنى وحقيقة.

ويشرفنى أن أعيد إلى المكتبة الإسلامية كتابا تراثيا له قيمته وأثره ، إذ طال حجبه واحتجابه.

ويسعدنى أن تكون (المكتبة العصرية) ـ لبنان ـ صاحبة الفضل فى النشر والإذاعة ، وكم لها من أياد بيضاء فى هذا المجال.

والله أسأل أن ينفع به ، وأن يجعله فى ميزان حسناتى يوم القيامة.

والحمد لله رب العالمين

محمد على القطب

نبذة عن الكتاب

أول دراسة تحقيقية له كانت على يد المستشرق جولد تسهير ؛ ولكنها لم تكن كاملة ، فقد أتى بمقطعات منها ؛ معتمدا على نسخة المتحف البريطانى [مخطوط رقم (٧٧٨٢) ـ شرقى ـ].

ثم كانت الدراسة الوافية المستكملة على يد الدكتور «عبد الرحمن بدوى» أجزل الله له الثواب ؛ وقد نشرت فى الخمسينات.

اقتنيت واحدة ولكنها استعيرت منى ، ولم تعد. رحم الله الصديق وغفر له.

وظللت أتمنى العثور على نسخة أخرى ، تكون فى مكتبتى ، ولكن على غير طائل.

ووفقت أخيرا إلى نسخة ، يقول محققها إنها تعتمد على نسختى : المتحف البريطانى ، ونسخة القرويين بفاس تحت رقم (٤٤٢٨).

وقد بذل فيها ـ أجزل الله ثوابه ـ جهدا مشكورا ، ولكنها مع الأسف سيئة الطباعة لا تستوى أبدا مع قيمة الكتاب العلمية.

فعولت مستعينا بالله تعالى على إعادة المراجعة والضبط والشرح ، وإتقان ذلك بجهد المقل ، راجيا حسن القبول.

تعريف بالإمام أبى حامد الغزالى ـ عليه رحمة الله ـ

اسمه ونسبه :

هو : محمد بن محمد بن محمد الطوسى الملقب : زين الدين ؛ والطوسى ، نسبة إلى طوس ؛ وكانت من المدن الشهيرة بخراسان.

وفى غزالة إحدى قرى طوس كان مولده رحمه‌الله سنة خمسين وأربعمائة (٤٥٠) ه.

وكان والده يغزل الصوف ويبيعه فى دكانه بطوس ؛ ومن هنا كان الاختلاف فى النسبه ، هل هى الغزّالى بالتشديد أم الغزالى ـ بالتخفيف؟

ولكن صاحب سير أعلام النبلاء نقل عن ابن الصلاح ، بسنده عن الإمام الغزالى قوله : الناس يقولون لى : الغزالى ، ولست الغزّالى ، وإنما الغزالى ، منسوب إلى قرية «غزالة».

النشأة :

كان والد الإمام الغزالى شغوفا بالعلم ، محبا للعلماء ، كثير التردد على مجالسهم ، ولكنه لم يكن عالما ، ولعل ظروف الحياة المعيشية كانت صعبة وقاسية عليه ، مضطرا إلى الانصراف للعمل ، فحرم من طلب العلم ، ولما حضرته الوفاة ، وصى صديقا له من أهل الخبرة والفضل أن يتولى من بعده رعاية ولديه محمد وأحمد ، ولو أنفق فى ذلك كل ما يخلفه لهما من مال وثروة.

وفعل الصديق بوصية الأب ، ولكن قصرت يداه عن إتمام الغاية ، فنصحهما بالالتحاق بمدرسة يكون لهما فيها طلب العلم وكفاية المسعى ؛ ففعلا ذلك.

وبدأ الإمام الغزالى ـ رحمه‌الله ـ رحلته الكبرى فى طلب العلم ، وتنقل بين طوس وجرجان ونيسابور ، وتزود بالمعرفة ، وكانت فيه نباهة وذكاء ، وذهن وقاد ،

فأوتى ما لم يؤت غيره ؛ واشتهر ذكره ، وذاع صيته ؛ وأصبح علما يشار إليه بالبنان.

يقول الحافظ عبد الغفار إسماعيل :

(وجد واجتهد حتى تخرج فى مدة قريبة وبز الأقران ، وحمل القرآن ، وصار أنظر أهل زمانه وأوحد أقرانه ، وكان الطلبة يستفيدون منه ، ويدرس لهم ويرشدهم ، ويجتهد فى نفسه ، وبلغ به الأمر إلى أن أخذ فى التصنيف).

إلى بغداد. إلى المدرسة النظامية :

وكان الوزير نظام الملك الحسن بن على الطوسى عالى الهمة واسع المعرفة أنشأ العديد من المدارس ، ودور العلم ، فلما التقى بالإمام الغزالى وسبر غوره ، أعجب به وقدمه ، ثم وجهه إلى بغداد ؛ وكانت المدرسة النظامية أشبه بالجامعات فى مستواها ورقيها.

وهناك قام بالتدريس. فالتف حوله كبار العلماء ، وطلاب المعرفة ، ينهلون من علمه الجم ، وغزير معرفته.

وبلغ الإمام الغزالى فى تلك الأيام قمة المجد ، وأتته الدنيا خاضعة ذليلة ، أتته بالمال والشهرة وذيوع الاسم ، كما أتته بالجاه ، ونفوذ الكلمة.

التحول :

يقول الإمام الغزالى رحمه‌الله فى كتابه المنقذ من الضلال :

(... ثم لاحظت أحوالى ، فإذا أنا منغمس بالعلائق ، وقد أحدقت بى من كل الجوانب ، ولاحظت أعمالى ـ وأحسنها التدريس والتعلم ـ فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمّة ، ولا نافعه فى طريق الآخرة).

(فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ، ودواعى الآخرة ، قريبا من ستة أشهر ، أولها شهر رجب سنة ثمان وثمانية وأربعمائة (٤٨٨ ه‍) ؛ وفى هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار ، إذ قفل الله على لسانى حتى اعتقل عن

التدريس ، فكنت أجاهد نفسى أن أدرس يوما واحدا تطييبا للقلوب المختلفة إلى ، فكان لسانى لا ينطق بكلمة واحدة ، ولا أستطيعها البتة).

عزلته :

قصد إلى مكة المكرمة فأدى فريضة الحج ثم أتى دمشق.

وفى دمشق عاش أكثر وقته طوال عشر سنين فى عزلة وخلوة ، ومجاهدة للنفس ، واشتغال بتزكيتها وتطهيرها مما علق بها من الدنيا وزخرفها وزينتها ، وتصفية للقلب بالذكر الدائم ، وكان اعتكافه وإقامته فى أسفل منارة المسجد الأموى ، فى غرفة ضيقة صغيرة. يقضى فيها سحابة النهار

العودة إلى طوس :

بعد هجرة وعزلة ورياضة للنفس عاد الإمام الغزالى إلى وطنه طوس بقلب جديد ، وروح جديدة.

وتحت ضغط الطلب ، اضطر إلى التدريس ثانية ، فالعلم لا يحبس عن طالبيه ؛ ولكنه عاد بروح جديدة قال عنها :

(... وأما الآن فأدعو إلى العلم الّذي يترك به الجاه ، ويعرف به سقوط مرتبة الحياة ، هذا هو الآن نيتى وقصدى وأمنيتى ، يعلم الله ذلك منى)

وإلى نيسابور :

كان لا بدّ للإمام الغزالى رحمه‌الله أن يوسع مدى العطاء العلمى ، فعاد من طوس إلى نيسابور ، وسكنها ؛ واتخذ بجوار بيته مدرسة لطلبة العلم ، ومنزلا «خانقاه» للصوفية ، ونظم أوقات عمله على : ختم القرآن ، ومجالسة أهل القلوب ، وتدريس طلبه العلم ، ومداومة العبادة صوما وصلاة ؛ وكان ذلك عام تسعة وتسعين وأربعمائة (٤٩٩ ه‍).

وفاته رحمه‌الله :

ولما كان يوم الإنثين ـ الرابع عشر من جمادى الآخرة ، سنة خمس وخمسمائة

(٥٠٥ ه‍) ، وقت الصبح ، توضأ وصلى ، وقال لأخيه أحمد «أبو الفتوح» : على بالكفن ، فأخذه وقبله ، ووضعه على عينيه ؛ وقال : سمعا وطاعة للدخول على الملك ، ثم مد رجليه ، واستقبل القبلة ، ففاضت روحه قبل الإسفار.

تراثه العلمى :

إحياء علوم الدين ، المنقذ من الضلال ، تهافت الفلاسفة ، البسيط ، الوسيط ، الوجيز ، الخلاصة فى الفقه الشافعى ، المنخول ، المستصفى (فى الأصول) ؛ مقاصد الفلاسفة ؛ فضائح الباطنية.

مقدمة المؤلف

الحمد لله الحى القيوم الّذي لا يستولى على كنه قيامه وصف واصف ؛ الجليل الّذي لا يحيط بصفة جلاله معرفة عارف ، العزيز الّذي لا عزيز إلا وهو بقدم الصغار على عتبة عزه عاكف ؛ الماجد الّذي لا ملك إلا وهو حول سرادق مجده طائف ؛ الجبار الّذي لا سلطان إلا وهو لنفحات عفوه راج وسطوات سخطه خائف ؛ المتكبر الّذي لا ولى إلا وقلبه على محبته وقف وقالبه لخدمته واقف ؛ الرحيم الّذي لا شيء إلا وهو ممتط متن الخطر فى هول المواقف ، لو لا ترصده لرحمته بوعده السابق السالف ؛ المنعم الّذي إن يردك بخير فليس لفضله راد ولا صارف ؛ المنتقم الّذي إن يمسسك بضر فما له سواه كاشف ؛ جل جلاله ، وتقدست أسماؤه ، فلا يغره مؤالف ولا يضره مخالف ؛ وعز سلطانه فلا يكيده مراوغ ولا يناوئه مكاشف ؛ خلق النار أحزابا وأحسابا ، ورتبهم فى زخارف الدنيا أرذالا وأشرافا ، وقربهم فى حقائق الدين ارتباطا وانحرافا وجهلة وعرافا ؛ وفرقهم فى قواعد العقائد فرقا وأصنافا ، يتطابقون ائتلافا ويتقاطعون اختلافا ، فافترقوا فى المعتقدات جحودا واعترافا ، وتعسفا وإنصافا ، واعتدالا وإسرافا ، كما تباينوا أصلا وأوصافا : هذا غنى يتضاعف كل يوم ما له أضعافا ، وهو يأخذ جزافا وينفق جزافا ؛ وهذا ضعيف يعول ذرية ضعافا ، يعوزه قوت يوم حتى يسأل الناس إلحافا ؛ وهذا مقبول فى القلوب لا يلقى فى حاجته إلا إجابة وإسعافا ؛ وهذا مبغض للخلق تهتضم حقوقه ضيما وإجحافا ؛ وهذا تقى موفق يزداد كل يوم فى ورعه وتقواه إسرافا وإشرافا ؛ وهذا مخذول يزداد على مر الأيام فى غيه وفساده تماديا واعتسافا ، ذلكم تقدير ربكم القادر الحكيم الّذي لا يستطيع سلطان عن قهره انحرافا ؛ القاهر العليم الّذي لا يملك أحد لحكمه خلافا ، رغما لأنف الكفرة الباطنية الذين أنكروا أن يجعل الله بين أهل الحق اختلافا ، ولم يعلموا أن الاختلاف بين الأمة يتبعه الرحمة كما تتبع العبرة اختلافهم مراتب وأوصافا.

وشكرا لله الّذي وفقنا للاعتراف بدينه إعلانا وإسرارا ، وسددنا للانقياد لحكمه إظهارا وإضمارا ، ولم يجعلنا من ضلال الباطنية الذين يظهرون باللسان إقرارا ، ويضمرون فى الجنان تماديا وإصرارا ، ويحملون من الذنوب أوقارا (١) ، ويعلنون فى الدين تقوى ووقارا ، ويحتقبون (٢) من المظالم أوزارا ، لأنهم لا يرجون لله وقارا ، ولو خاطبهم دعاة الحق ليلا ونهارا لم يزدهم دعاؤهم إلا فرارا ؛ فإذا أطل عليهم سيف أهل الحق آثروا الحق إيثارا ، وإذا انقشع عنهم ظله أصرّوا واستكبروا استكبارا فنسأل الله أن لا يدع على وجه الأرض منهم ديارا (٣) ؛ ونصلى على رسوله المصطفى ، وعلى آله وخلفائه الراشدين من بعده صلوات بعدد قطر السحاب تهمى مدرارا ، وتزداد على ممر الأيام استمرارا ، وتتجدد على توالى الأعوام تلاحقا وتكرارا.

أما بعد : فإنى لم أزل مدة المقام بمدينة السلام (٤) متشوفا إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية ضاعف الله جلالها ، ومدّ على طبقات الخلق ظلالها ـ بتصنيف كتاب فى علم الدين أقضى به شكر النعمة ، وأقيم به رسم الخدمة ، وأجتنى بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة ؛ لكني جنحت إلى التوانى لتحيرى فى تعيين العلم الّذي أقصده بالتصنيف وتخصيص الفن الّذي يقع موقع الرضى من الرأى النبوى الشريف ، فكانت هذه الحيرة تغبر فى وجه المراد ، وتمنع القريحة عن الإذعان والانقياد ، حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية (٥) بالإشارة إلى

__________________

(١) أوقارا : أحمالا.

(٢) يحتقبون : يجمعون ويحتبسون.

(٣) إشارة إلى قوله تعالى على لسان نوح عليه‌السلام بدعائه على قومه : (وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦].

(٤) مدينة السلام : بغداد. سماها بذلك أبو جعفر المنصور الذي بناها.

(٥) نسبة إلى الخليفة العباسى أحمد المستنصر بالله (كان خيّرا فاضلا ذكيا بارعا ، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد ، وكان راغبا في البر والخير ، مسارعا إلى ذلك ، لا يرد سائلا ؛ وكان جميل العشرة لا يصغى إلى

الخادم (١) فى تصنيف كتاب فى الرد على الباطنية مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم ، وفنون مكرهم واحتيالهم ، ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم ، وإيضاح غوائلهم فى تلبيسهم وخداعهم ، وانسلالهم عن ربقة الإسلام ، وانسلاخهم وانخلاعهم وإبراز فضائحهم وقبائحهم ، بما يفضى إلى هتك أستارهم وكشف أغوارهم. فكانت المفاتحة بالاستخدام فى هذا المهم فى الظاهر نعمة أجابت قبل الدعاء ولبّت قبل النداء ، وإن كانت فى الحقيقة ضالّة كنت أنشدها وبغية كنت أقصدها ، فرأيت الامتثال حتما ، والمسارعة إلى الارتسام حزما. وكيف لا أسارع إليه!؟ وإن لاحظت جانب الأمر ألفيته أمرا مبلغه زعيم الأمّة وشرف الدين ، ومنشؤه ملاذ الأمم أمير المؤمنين ، وموجب طاعته خالق الخلق رب العالمين ، إذ قال الله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] وإن التفت إلى المأمور به فهو ذب عن الحق المبين ونضال ، دون حجة الدين ، وقطع لدابر الملحدين. وإن رجعت إلى نفسى ، وقد شرفت بالخطاب به من بين سائر العالمين ، رأيت المسارعة إلى الإذعان والامتثال فى حقى من فروض الأعيان ، إذ يقل على بسيط الأرض من يستقل فى قواعد العقائد بإقامة الحجة والبرهان بحيث يرقيها من حضيض الظن والحسبان إلى يفاع (٢) القطع والاستيقان ، فإنه الخطب الجسيم والأمر العظيم الّذي لا تستقل بأعيانه بضاعة الفقهاء ، ولا يضطلع بأركانه إلا من تخصص بالمعضلة الزباء (٣) ، لما نجم فى أصول الديانات من الأهواء ، واختلط بمسالك الأوائل من الفلاسفة والحكماء فمن بواطن غيهم كان استمداد هؤلاء فإنهم بين مذاهب الثنوية (٤) والفلاسفة يترددون ، وحول حدود

__________________

أقوال الوشاة من الناس ، وقد ضبط أمور الخلافة جيدا وأحكمها ، وكان لديه علم كثير) توفي سنة ٥١٢ ه‍. (البداية والنهاية) (ج ١٢ / ٢٢٥).

(١) يعنى الإمام الغزالى نفسه.

(٢) اليفاع : كل ما ارتفع من الأرض.

(٣) الزباء : الكثيرة الفروع.

(٤) الثنوية : مذهب الذين يجعلون مع الله إلها آخر (قديما أو حديثا).

المنطق فى مجادلاتهم يدندنون. ولقد طال تفتيشى عن شبه خصمه لما تقدر على قمعه وخصمه ، وفى مثل ذلك أنشد :

عرفت الشر لا للش

ر لكن لتوقيه

ومن لا يعرف الش

ر من الناس يقع فيه (١)

تظاهرت عليّ أسباب الإيجاب والإلزام ، واستقبلت الآتى بالاعتناق والالتزام ، وبادرت إلى الامتثال والارتسام وانتدبت لتصنيف هذا الكتاب مبنيا على عشرة أبواب ، سائلا من الله سبحانه التوفيق لشاكلة الصواب. وسميته [فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية]. والله تعالى الموفق لإتمام هذه النية.

وهذا ثبت الأبواب :

الباب الأوّل : فى الإعراب عن المنهج الّذي استنهجته فى سياق هذا الكتاب.

الباب الثانى : فى بيان ألقابهم والكشف عن السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة المضلّة.

الباب الثالث : فى بيان درجات حيلهم فى التلبيس والكشف عن سبب الاغترار بحيلهم مع ظهور فسادها.

الباب الرابع : فى نقل مذهبهم جملة وتفصيلا.

الباب الخامس : فى تأويلاتهم لظواهر القرآن واستدلالهم بالأمور العددية (٢) ، وفيه فصلان : الفصل الأول فى تأويلهم للظواهر ، والفصل الثانى فى استدلالاتهم بالأعداد والحروف.

__________________

(١) وقد أثر عن عمر رضى الله عنه أنه كان يردد هذين البيتين أيضا.

(٢) ولقد ظهرت كراسة منذ بضع سنوات تحمل عنوان (عليها تسعة عشر) ؛ كاتبها يدعى رشاد خليل. زوق فيها كثيرا كثيرا من التأويلات والتفسيرات العددية للآيات والسور القرآنية. خدع بها العامة ، وتداولوها ، وهي ولا شك بدعة ليست مستحدثة ، بل مردها ومنبتها أصول الباطنية ، وقد ردها على صاحبها كثير من العلماء الفضلاء ، وبينوا عوارها ، وأغراضها الخبيثة.

الباب السادس : فى إيراد أدلتهم العقلية على نصرة مذهبهم والكشف عن تلبيساتهم التى زوقوها بزعمهم فى معرض البرهان على إبطال النظر العقلي.

الباب السابع : فى إبطال استدلالهم بالنص على نصب الإمام المعصوم.

الباب الثامن : فى مقتضى فتوى الشرع فى حقهم من التكفير والتخطئة وسفك الدم.

الباب التاسع : فى إقامة البرهان الفقهى الشرعى على أن الإمام الحق فى عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ضلاله.

الباب العاشر : فى الوظائف الدينية التى بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة.

هذه ترجمة الأبواب. والمقترح على الرأى الشريف النبوى (١) مطالعة الكتاب جملة ، ثم تخصيص الباب التاسع والعاشر لمن يريد استقصاء ليعرف من الباب التاسع قدر نعمة الله تعالى عليه ، وليستبين من الباب العاشر طريق القيام بشكر تلك النعمة ويعلم أن الله تعالى إذا لم يرض أن يكون له على وجه الأرض عبد أرفع رتبة من أمير المؤمنين ، فلا يرضى أمير المؤمنين أن يكون لله على وجه الأرض عبد أعبد وأشكر منه. نسأل الله تعالى أن يمده بتوفيقه ويسدده لسواء طريقه. هذه جملة الكتاب ، والله المستعان على سلوك جادة الحق واستنهاج مسلك الصدق.

__________________

(١) كذا فى الأصل ؛ والصواب : النبوى الشريف.

الباب الأول

فى الإعراب عن المنهج

الّذي استنهجته فى هذا الكتاب

لتعلم أن الكلام فى التصانيف يختلف منهجه ، بالإضافة إلى المعنى : غوصا وتحقيقا ، وتساهلا وتزويقا. وبالإضافة إلى اللفظ : إطنابا وإسهابا واختصارا وإيجازا ، وبالإضافة إلى المقصد : تكثيرا وتطويلا ، واقتصارا وتقليلا. فهذه ثلاثة مقامات. ولكل واحد من الأقسام فائدة وآفة.

وأما المقام الأول فالغرض ـ فى الغوص والتحقيق والتعمق فى أسرار المعانى إلى أقصى الغايات ـ التوقى من إزراء المحققين وقدح الغواصين ، فإنهم إذا تأملوه فلم يصادفوه على مطابقة أوضاع الجدال وموافقة حدود المنطق عند النظار استركوا (١) عمل المصنف واستغثوا (٢) كلامه واعتقدوا فيه التقاعد عن شأو التحقيق فى الكلام والانخراط فى سلك العوام. ولكنّ له آفة وهى قلة جدواه وفائدته فى حق الأكثرين. فإن الكلام إذا كان على ذوق المراء والجدال ، لا على مساق الخطاب المقنع ، لم يستقل بدركه إلا الغواصون ، ولم يتفطن لمغاصاته إلا المحققون. وأما سلوك مسلك التساهل والاقتصار على فن من الكلام ليستحسن فى المخاطبات ففائدته أن يستلذ وقعه فى الأسماع ، ولا تكلّ عن فهمه والتفطن لمقاصده أكثر الطباع ، ويحصل به الإقناع لكل ذى حجى (٣) وفطنة وإن لم يكن متبحرا فى العلوم. وهذا الفن من جوالب المدح والإطراء ولكن من الظاهريين ، وآفته أنه من دواعى القدح والإزراء ولكن من الغواصين. فرأيت أن أسلك المسلك المقتصد بين الطرفين ، ولا أخلى الكتاب عن أمور برهانية ، يتفطن لها

__________________

(١) استركوا : استضعفوا من : رك الشيء ، يرك ركة وركاكة : رق وضعف ، فهو ركيك.

(٢) استغثوا : الغثيث والغث : اللحم المهزول ، وهو أيضا : الحديث الردىء الفاسد.

(٣) ذو الحجى : (الحجا) العقل ، وألفه بالمد وليس بالقصر. (مختار الصحاح للجوهرى).

المحققون ، ولا عن كلمات إقناعية يستفيد منها المتوهمون ، فإن الحاجة إلى هذا الكتاب عامة فى حق الخواص والعوام ، وشاملة جميع الطبقات من أهل الإسلام ، وهذا هو الأقرب إلى المنهج القويم ، فلطالما قيل :

كلا طرفى قصد الأمور ذميم

المقام الثانى

فى التعبير عن المقاصد إطنابا وإيجازا

وفائدة الإطناب الشرح والإيضاح المغنى عن عناء التفكر وطول التأمل ، وآفته الإملال ؛ وفائدة الإيجاز جمع المقاصد وترصيفها وإيصالها إلى الأفهام على التقارب ، وآفته الحاجة إلى شدة التصفح والتأمل لاستخراج المعانى الدقيقة من الألفاظ الوجيزة الرشيقة ؛ والرأى فى هذا المقام الاقتصاد بين طرفى التفريط والإفراط ، فإن الإطناب لا ينفك عن إملال ، والإيجاز لا يخلو عن إخلال ، فالأولى الميل إلى الاختصار ؛ فلرب كلام قل ودل وما أمل.

المقام الثالث

فى التقليل والتكثير

ولقد طالعت الكتب المصنفة فى هذا الفن فصادفتها مشحونة بفنين من الكلام : فن فى تواريخ أخبارهم وأحوالهم من بدء أمرهم إلى ظهور ضلالهم ، وتسمية كل واحد من دعاتهم فى كل قطر من الأقطار ، وبيان وقائعهم فيما انقرض من الأعصار ، فهذا فن أرى التشاغل به اشتغالا بالأسمار ، وذلك أليق بأصحاب التواريخ والأخبار ، فأما علماء الشرع فليكن كلامهم محصورا فى مهمات الدين وإقامة البرهان على ما هو الحق المبين ؛ فلكل عمل رجال (١).

__________________

(١) يقصد الإمام الغزالى رحمه‌الله : الاختصاص.

والفن (١) الثانى ـ فى إبطال تفصيل مذاهبهم من عقائد تلقوها من الثنوية والفلاسفة وحرفوها عن أوضاعها وغيروا ألفاظها قصدا للتغطية والتلبيس ، وهذا أيضا لا أرى التشاغل به ، لأن الكلام عليها وكشف الغطاء عن بطلانها بإيضاح حقيقة الحق وبرهانها ليس يختص بالطائفة الذين هم نابتة الزمان. فتجريد القصد إلى نقل خصائص مذهبهم التى تفردوا باعتقادها عن سائر الفرق هو الواجب المتعين ، فلا ينبغى أن يؤم (٢) المصنف فى كتابه إلا المقصد الّذي يبغيه والنحو الّذي يرومه وينتحيه ، فمن حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه (٣) ، وذلك مما لا يعنيه فى هذا المقام ، وإن كان الخوض فيه على الجملة ذبا عن الإسلام ، ولكن لكل مقال مقام. فلنقتصر فى كتابنا على القدر الّذي يعرب عن خصائص مذهبهم ، وينبه على مدارج حيلهم ، ثم نكشف عن بطلان شبههم بما لا يبقى للمستبصر ريب فيه ، فتنجلى عن وجه الحق كدورة التمويه. (٤)

ثم نختم الكتاب بما هو السر واللباب ، وهو إقامة البراهين الشرعية على صحّة الإمامة للمواقف القدسية النبوية المستظهرية ، بموجب الأدلة العقلية والفقهية ، على ما أفصح عن مضمونه ترجمة الأبواب.

__________________

(١) الفن : العلم.

(٢) يؤم : يقصد.

(٣) جزء من حديث نبوي شريف.

(٤) كدورة التمويه ؛ الكدورة : ضد الصفو ، والتمويه : التلبيس ؛ أو الطلاء بالذهب والفضة وتحته نحاس أو حديد.

الباب الثانى

فى بيان ألقابهم والكشف عن السبب الداعى لهم على

نصب هذه الدعوة وفيه فصلان

الفصل الأول

فى ألقابهم التى تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة

وهى عشرة ألقاب : الباطنية ، (والقرامطة والقرمطية) (١) ،

(والخرمية والخرمدينية) (٢) ، والإسماعيلية ، والسبعية ،

والبابكية ، والمحمرة ، والتعليمية

ولكل لقب سبب : أما «الباطنية» فإنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجرى فى الظواهر مجرى اللب من القشر ، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية ، وهى عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة ؛ وأن من تقاعد عقله عن الغوص على الخفايا والأسرار ، والبواطن والأغوار ، وقنع بظواهرها مسارعا إلى الاغترار ؛ كان تحت الأواصر والأغلال معنى بالأوزار (٣) والأثقال ؛ وأرادوا ب «الأغلال» التكليفات الشرعية. فإن من ارتقى إلى علم الباطن انحط عن التكليف واستراح من أعبائه ، وهم المرادون بقوله

__________________

(١) القرامطة والقرمطية : مسمى واحد.

(٢) الخرمية ، والخرمدينية : مسمى واحد أيضا ؛ ومعهم البابكية.

أ. القرامطة : نسبة إلى حمدان قرمط.

ب. الخرمية : نسبة إلى بابك الخرمى.

(٣) الأوزار : الآثام.

تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧] الآية ؛ وربما موهّوا بالاستشهاد عليه بقولهم إن الجهّال المنكرين للباطل هم الذين أريدوا بقوله تعالى : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) [الحديد : ١٣]. وغرضهم الأقصى إبطال الشرائع ، فإنهم إذا انتزعوا عن العقائد موجب الظواهر قدروا على الحكم بدعوى الباطن على حسب ما يوجب الانسلاخ عن قواعد الدين ، إذ سقطت الثقة بموجب الألفاظ الصريحة فلا يبقى للشرع عصام (١) يرجع إليه ويعول عليه.

وأما «القرامطة» فإنما لقبوا بها نسبة إلى رجل يقال له حمدان قرمط (٢) ، وكان أحد دعاتهم فى الابتداء ، فاستجاب له فى دعوته رجال ، فسموا قرامطة وقرمطية. وكان المسمى حمدان قرمط رجلا من أهل الكوفة مائلا إلى الزهد ، فصادفه أحد دعاة الباطنية فى طريق وهو متوجه إلى قريته وبين يديه بقر يسوقها ، فقال حمدان لذلك الداعى ـ وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله : «أراك سافرت من موضع بعيد ، فأين مقصدك؟» فذكر موضعا هو قرية «حمدان». فقال له حمدان : اركب بقرة من هذه البقر لتستريح عن تعب المشى. فلما رآه مائلا إلى الزهد والديانة أتاه من حيث رآه مائلا إليه فقال : إنى لم أومر بذلك ؛ فقال حمدان : وكأنك لا تعمل إلا بأمر؟ قال : نعم. قال حمدان : وبأمر من تعمل؟ فقال الداعى : بأمر مالكى ومالكك ، ومن له الدنيا والآخرة. فقال حمدان : ذلك إذن هو رب العالمين. فقال الداعى : صدقت ؛ ولكن الله يهب ملكه لمن يشاء. قال حمدان : وما غرضك فى البقعة التى أنت

__________________

(١) عصام : من العصمة ، أى المنع من الزلل والإثم والخطأ.

(٢) قرمط : رأس القرامطة فى الباطنية ، وإليه نسبتهم. قيل اسمه : حمدان أو الفرج بن عثمان أو الفرج بن رغبى وقرمط : لقبه.

أصله من خوزستان ، ظهر فى الكوفة سنة ٢٥٨ ، وأظهر الزهد والتقشف ، واستمال إليه بعض الناس ، وأراهم كتابا قيل أوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، يقول الفرج بن عثمان ، وهو عيسى وهو الكلمة ، وهو المهدي ، وهو أحمد بن محمد بن الحنفية وهو جبريل. وفى الكتاب كثير من كلمات الكفر والتحليل والتحريم.

وكثر أتباعه والمغترون به ، وقبض عليه أيام الخليفة المتوكل وقتل سنة ٢٦٣ ه‍.

متوجه إليها؟ قال : أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ، ومن الضلال إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ؛ وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ، وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب. فقال له حمدان : أنقذنى! أنقذك الله! وأفض على من العلم ما يحببنى به ، فما أشد احتياجى إلى مثل ما ذكرته! فقال الداعى : وما أمرت بأن أخرج السر المخزون (١) لكل أحد إلّا بعد الثقة به والعهد عليه. فقال حمدان : وما عهدك؟ فاذكره لى ، فإنى ملتزم له. فقال الداعي : أن تجعل لى وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه أن لا يخرج سر الإمام الّذي ألقيته إليك ، ولا تفشى سرى أيضا.

فالتزم حمدان سره ، ثم اندفع الداعى فى تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له فى جميع ما دعاه. ثم انتدب حمدان للدعوة ، وصار أصلا من أصول هذه الدعوة ، فسمى أتباعه «القرمطية».

وأما الخرمية فلقبوا بها نسبة لهم إلى حاصل مذهبهم وزبدته ، فإنه راجع إلى طى بساط التكليف ، وحطّ أعباء الشرع عن المتعبدين ، وتسليط الناس على اتباع اللذات وطلب الشهوات ، وقضاء الوطر من المباحات والمحرمات. و«خرم» لفظ أعجمى ينبئ عن الشيء المستلذ المستطاب ، الّذي يرتاح الإنسان إليه بمشاهدته ، ويهتز لرؤيته. وقد كان هذا لقبا للمزدكية (٢) ، وهم أهل الإباحة من المجوس ، الذين نبغوا فى أيام قباذ (٣) ، وأباحوا النساء وإن كن من المحارم ، وأحلّوا كل محظور. وكانوا يسمون «خرمدينية». فهؤلاء أيضا لقبوا بها لمشابهتهم إياهم فى آخر المذهب ، وإن خالفوهم فى المقدمات وسوابق الحيل فى الاستدراج.

__________________

(١) السر المخزون : اعتمدت الباطنية ، من خلال دعاتها على الغموض فى الكلمات والحركات ، والأقوال والأفعال ، والأسرار ؛ والإشارات ، والرموز .. إلخ.

(٢) المزدكية : نسبة إلى مزدك الفارسى.

(٣) قباذ : أحد أكاسرة الفرس.

وأما البابكية فاسم لطائفة منهم بايعوا رجلا يقال له بابك الخرمى (١) ، وكان خروجه فى بعض الجبال بناحية أذربيجان فى أيام المعتصم بالله ، واستفحل أمرهم واشتدت شوكتهم. وقاتلهم أفشين ، صاحب حبس المعتصم ، مداهنا له فى قتاله ومتخاذلا عن الجد فى قمعه ، إضمارا لموافقته فى ضلاله. فاشتدت وطأة البابكية على جيوش المسلمين حتى مزقوا جند المسلمين وبددوهم منهزمين ، إلى أن هبت ريح النصر ، واستولى عليهم المعتصم المترشح للإمامة فى ذلك العصر ، فصلب بابك وصلب أفشين بإزائه (٢).

وقد بقى من البابكية جماعة يقال إن لهم ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم ويطفئون سرجهم وشموعهم ، ثم يتناهبون النساء ، فيثب كل رجل إلى امرأة يظفر بها ؛ ويزعمون أن من استولى على امرأة استحلها بالاصطياد ، فإن الصيد من أطيب المباحات. ويدعون ـ مع هذه البدعة ـ نبوة رجل كان من ملوكهم قبل الإسلام ، يقال له شروين ويزعمون أنه كان أفضل من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن سائر الأنبياء قبله.

وأما الإسماعيلية فهى نسبة لهم إلى أن زعيمهم محمد بن إسماعيل بن جعفر (٣) ، ويزعمون أن أدوار الإمامة انتهت به ، إذ كان هو السابع من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأدوار الإمامة سبعة سبعة عندهم ؛ فأكبرهم يثبتون له منصب النبوة ، وأن ذلك يستمر فى نسبه وأعقابه. وقد أورد أهل المعرفة بالنسب فى كتاب «الشجرة» (٤) أنه مات ولا عقب له (٥).

__________________

(١) بابك الخرمى : أصله من فارس كان بدء خروجه أيام الخليفة المأمون واستفحل أمره طوال عشرين سنة حتى أيام الخليفة المعتصم إلى أن وقع فى يد الأفشين ؛ فساقه إلى المعتصم حيث قتل أبشع قتله.

(٢) هذه مغالطة تاريخية ، تابع فيها الإمام الغزالى ـ البغدادى ـ فى كتابه «الفرق بين الفرق».

إذ لم تكن غضبة المعتصم على الأفشين لممالأته بابك الخرمى ، بل لأمور مالية ومخالفات أخذ بها الأفشين ، ذكرها ابن الأثير فى حوادث سنتى (٢٢٥ ـ ٢٢٦) ه. (ج : ٢) (ص : ١٧٣ ـ ١٧٥).

أما الّذي صلب إلى جانب بابك فهو المازيار بن مازن ، صاحب جبال «طبرستان» ، الّذي خرج أيضا على المعتصم.

(٣) ابن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب.

(٤) شجرة النسب.

(٥) من الثابت تاريخيا أنه مات ولا عقب له.

وأما «السبعية» فإنما لقّبوا بها لأمرين : أحدهما : اعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة ، وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الدور ، وهو المراد بالقيامة ؛ وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر لها قط. والثاني : قولهم إن تدابير العالم السفلى ، أعنى ما يحويه مقعر فلك القمر منوطة بالكواكب السبعة التى أعلاها زحل ، ثم المشترى ، ثم المريخ ، ثم الشمس ، ثم الزهرة ، ثم عطارد ، ثم القمر. وهذا المذهب مسترق من ملحدة المنجمين وملتفت إلى مذاهب الثنوية فى أن النور يدبر أجزاؤه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة ؛ فهذا سبب هذا التلقيب (١).

وأما «المحمرة» فقيل إنهم لقبوا به لأنهم صبغوا الثياب بالحمرة أيام بابك ولبسوها ، وكان ذلك شعارهم ؛ وقيل سببه أنهم يقررون أن كل من خالفهم من الفرق وأهل الحق : حمير ؛ والأصح هو التأويل الأول (٢).

وأما «التعليمية» فإنهم لقبوا بها لأن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأى وإبطال تصرف العقول ، ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم ، وأنه لا مدرك للعلوم إلا التعليم.

ويقولون فى مبتدأ مجادلتهم : الحق إما أن يعرف بالرأى ، وإما أن يعرف بالتعليم ، وقد بطل التعويل على الرأى لتعارض الآراء وتقابل الأهواء واختلاف ثمرات نظر العقلاء ؛ فتعين الرجوع إلى التعليم والتعلم.

وهذا اللقب هو الأليق بباطنية هذا العصر ، فإن تعويلهم الأكثر على الدعوة إلى التعليم وإبطال الرأى وإيجاب اتباع الإمام المعصوم ، وتنزيله ـ فى وجوب التصديق والاقتداء به ـ منزلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) لعل اهتمام الإمام جعفر بن محمد رضي الله عنه بعلم الفلك ـ وقد كان أحد اهتماماته ـ قد جرهم إلى هذا التوهم ، وهذا السقوط.

(٢) ورغم ما ذهب إليه الإمام الغزالى فى اعتماد الرأي الأول وتصحيحه ، فإن المحمرة قد شاعت عنهم وذاعت فكرة الاستعلاء ودمغ العامة من المخالفين لهم بأنهم كالحمر.

الفصل الثانى

فى بيان السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة

وإفاضة هذه البدعة

مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة ، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين. ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية ، وشرذمة من الثنوية (١) الملحدين ، وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين ، وضربوا سهام الرأى فى استنباط تدبير يخفف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين ، وينفس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين ، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع وتكذيب الرسل ، وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله فى آخر الأمر ، وزعموا أنّا بعد أن عرفنا أن الأنبياء كلهم ممخرقون ومنمسون (٢). فإنهم يستعبدون الخلق بما يخيلونه إليهم من فنون الشعبذة والزرق (٣).

وقد تفاقم أمر محمد ، واستطارت فى الأقطار دعوته ، واتسعت ولايته ، واتسقت أسبابه وشوكته حتى استولوا عل ملك أسلافنا ، وانهمكوا فى التنعم فى الولايات مستحقرين عقولنا ؛ وقد طبقوا وجه الأرض ذات الطول والعرض ، ولا مطمع فى مقاومتهم بقتال ، ولا سبيل إلى استنزالهم عما أصروا عليه إلا بمكر واحتيال ؛ ولو شافهناهم بالدعاء إلى مذهبنا لتنمروا علينا ، وامتنعوا من الإصغاء إلينا ، فسبيلنا أن ننتحل عقيدة طائفة من فرقهم هم أركهم عقولا وأسخفهم رأيا وألينهم عريكة لقبول المحالات ، وأطوعهم للتصديق بالأكاذيب المزخرفات وهم

__________________

(١) الثنوية : مذهب فلسفي قديم يقوم على الإلحاد.

(٢) منمسون : محتالون.

(٣) الزرق : الخداع.

الروافض (١) ؛ ونتحصن بالانتساب إليهم والاعتزاء إلى أهل البيت عن شرهم ، ونتودد إليهم بما يلائم طبعهم ، من ذكر ما تم على سلفهم من الظلم العظيم والذل الهائل ، ونتباكى لهم على ما حلّ بآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونتوصل به إلى تطويل اللسان فى أئمة سلفهم الذين هم أسوتهم وقدوتهم ؛ حتى إذا قبحنا أحوالهم فى أعينهم وما ينقل إليهم شرعهم بنقلهم وروايتهم ، اشتد عليهم باب الرجوع إلى الشرع ، وسهل علينا استدراجهم إلى الانخلاع عن الدين ؛ وإن بقى عندهم معتصم من ظواهر القرآن ومتواتر الأخبار أوهمنا عندهم أن تلك الظواهر لها أسرار وبواطن ؛ وأن أمارة الأحمق الانخداع بظواهرها ، وعلامة الفطنة اعتقاد بواطنها ؛ ثم نبث إليهم عقائدنا ، ونزعم أنها المراد بظواهر القرآن. ثم إذا تكثرنا بهؤلاء سهل علينا استدراج سائر الفرق بعد التحيز إلى هؤلاء والتظاهر بنصرهم.

ثم قالوا : طريقنا أن نختار رجلا ممن يساعدنا على المذهب ، ونزعم أنه من أهل البيت ، وأنه يجب على كافة الخلق مبايعته وتتعين عليهم طاعته ، فإنه خليفة رسول الله ، ومعصوم عن الخطأ والزلل من جهة الله تعالى ، ثم لا نظهر هذه الدعوة على القرب من جوار الخليفة (٢) الّذي وسمناه بالعصمة ، فإن قرب الدار ربما يهتك هذه الأستار ؛ وإذا بعدت الشقة وطالت المسافة فمتى يقدر المستجيب إلى الدعوة أن يفتش عن حاله ، وأن يطلع على حقيقة أمره ، ومقصدهم بذلك كله الملك والاستيلاء والتبسط فى أموال المسلمين وحريمهم ، والانتقام منهم فيما اعتقدوه فيهم وعاجلوهم به من النهب والسفك ، وأفاضوا عليهم من فنون البلاء.

فهذه غاية مقصدهم ، ومبدأ أمرهم. ويتضح لك مصداق ذلك بما سنجليه من خبائث مذهبهم ، وفضائح معتقدهم.

__________________

(١) الروافض : نسبة إلى ما لقيه على ـ كرم الله وجهه ـ من رفض لتأييده ومؤازرته فى مواجهة «معاوية بن أبى سفيان» يوم صفين ؛ من الخوارج وغيرهم.

(٢) والملاحظ أن كل تلك الدعوات إنما ظهرت بعيدا عن مركز الخلافة ، وفى عمق بلاد فارس وخراسان وغيرهما.

الباب الثالث

فى درجات حيلهم ، وسبب الاغترار بها

مع ظهور فسادها وفيه فصلان

الفصل الأول

فى درجات حيلهم

وقد نظموها على تسع درجات مرتبة ، ولكل مرتبة اسم ؛ أولها : الزرق والتفرس ، ثم التأنيس ، ثم التشكيك ، ثم التعليق ، ثم الربط ، ثم التدليس ، ثم التلبيس ، ثم الخلع ، ثم السلخ.

ولنبين الآن تفصيل كل مرتبة من هذه المراتب ، ففى الاطلاع على هذه الحيل فوائد جمة لجماهير الأمة.

أما الزرق (١) والتفرس فهو أنهم قالوا : ينبغى أن يكون الداعى فطنا ذكيا ، صحيح الحدس ، صادق الفراسة ، متفطنا للبواطن بالنظر إلى الشمائل والظواهر ، وليكن قادرا على ثلاثة أمور : (الأول) وهو أهمها : أن يميز بين من يجوز أن يطمع فى استدراجه ويوثق بلين عريكته لقبول ما يلقى إليه على خلاف معتقده. فرب رجل جمود على ما سمعه لا يمكن أن ينتزع من نفسه ما يرسخ فيه ، فلا يضيعن الداعى كلامه مع مثل هذا. وليقطع طمعه منه ؛ وليلتمس من فيه انفعال وتأثر بما يلقى إليه من الكلام ، وهم الموصوفون بالصفات التى سنذكرها فى الفصل الّذي يلى هذا الفصل. وينبغى أن نتقى ، بكل حال ، بث البذر فى السّبخ (٢) ، والدخول إلى بيت فيه

__________________

(١) الزرق : الخداع.

(٢) السبخة : واحدة السباخ وأرض سبخة : ذات ملح ونز ، لا تصلح للزرع والنماء.

سراج ـ يعنى به الزجر عن دعوة العباسية ـ مد الله دولتهم إرغاما لأنوف أعدائها فإن ذلك لا ينغرس أبد الدهر فى نفوسهم ، كما لا ينغرس البذر فى الأرض السبخة بزعمهم ؛ ويزجرون أيضا عن دعوة الأذكياء من الفضلاء وذوى البصائر بطرق الجدال ومكامن الاحتيال ، وبه يعنون الزجر عن بيت فيه سراج.

(الثانى) أن يكون مشتعل الحدس ، ذكى الخاطر فى تعبير الظواهر وردها إلى البواطن ؛ إما اشتقاقا من لفظها ، أو تلقيا من عددها ، أو تشبيها لها بما يناسبها.

وبالجملة فإذا لم يقبل المستجيب منه تكذيب القرآن والسنة فينبغى أن يستخرج من قلبه معناه ، الّذي فهمه ، ويترك معه اللفظ منزلا على معنى يناسب هذه البدعة ، فإنه لو شافهه بالتكذيب لم يقبل منه.

(الثالث) ـ من الزرق والتفرس ـ ألا يدعو كل أحد إلى مسلك واحد ، بل يبحث أولا عن معتقده وما إليه ميله فى طبعه ومذهبه ؛ فأما طبعه فإن رآه مائلا إلى الزهد والتقشف والتقوى والتنظف دعاه إلى الطاعة والانقياد واتباع الأمر من المطاع وزجره عن اتباع الشهوات ، وندبه إلى وظائف العبادات ، وتأدية الأمانات من الصدق وحسن المعاملة والأخلاق الحسنة ، وخفض الجناح لذوى الحاجات ، ولزوم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ؛ وان كان طبعه مائلا إلى المجون والخلاعة قرر فى نفسه أن العبادة بله وأن الورع حماقة ، وأن هؤلاء المعذبين بالتكاليف مثالهم مثل الحمر المعناة بالأحمال الثقيلة ؛ وإنما الفطنة فى اتباع الشهوة ونيل اللذة وقضاء الوطر من هذه الدنيا المنقضية التى لا سبيل إلى تلافى لذاتها عند انقضاء العمر.

وأما حال المدعو من حيث المذهب فإن كان من الشيعة فلنفاتحه بأن الأمر كله فى بغض بنى تيم (١) وبنى عدى (٢) وبنى أمية (٣) وبنى العباس (٤) وأشياعهم ، وفى

__________________

(١) بنو تيم : عشيرة أبي بكر رضى الله عنه ، فهو تيمي.

(٢) بنو عدى : عشيرة عمر رضى الله عنه ، ويقال عدوى.

(٣) بنو أمية بن عبد شمس ـ الأمويون ـ.

(٤) بنو العباس بن عبد المطلب ـ الهاشمى ـ.

التبرى منهم ومن أتباعهم ، وفى تولى الأئمة الصالحين وفى انتظار خروج المهدي ؛ وإن كان المدعو ناصبيا ذكر له أن الأمة إنما أجمعت على أبى بكر وعمر ، ولا يقدم إلا من قدمته الأمة ؛ حتى إذا اطمأن إليه قلبه ابتدأ بعد ذلك يبث الأسرار على سبيل الاستدراج المذكور بعد ؛ وكذلك إن كان من اليهود والمجوس والنصارى حاوره بما يضاهى مذهبهم من معتقداته ، فإن معتقد الدعاة ملتقط من فنون البدع والكفر ، فلا نوع من البدعة إلا وقد اختاروا منه شيئا ، ليسهل عليهم بذلك مخاطبة تلك الفرق على ما سنحكى من مذهبهم.

أما حيلة «التأنيس» فهو أن يوافق كل من هم بدعوته فى أفعال يتعاطاها هو ومن تميل إليه نفسه وأول ما يفعل الأنس بالمشاهدة على ما يوافق اعتقاد المدعو فى شرعه ؛ وقد رسموا للدعاة والمأذونين أن يجعلوا مبيتهم كل ليلة عند واحد من المستجيبين ، ويجتهدون فى استصحاب من له صوت طيب فى قراءة القرآن ليقرأ عندهم زمانا ، ثم يتبع الداعى ذلك كله بشيء من الكلام الرقيق وأطراف من المواعظ اللطيفة الآخذة بمجامع القلوب ؛ ثم يردف ذلك بالطعن فى السلاطين وعلماء الزمان وجهال العوام ، ويذكر أن الفرج منتظر من كل ذلك ببركة أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فيما بين ذلك يبكى أحيانا ويتنفس الصعداء.

وإذا ذكر آية أو خبرا ذكر أن لله سرا فى كلماته لا يطلع عليه إلا من اجتباه الله من خلقه وميزه بمزيد لطفه ، فإن قدر على أن يتهجد بالليل مصلّيا وباكيا عند غيبة صاحب البيت بحيث يطّلع عليه صاحب البيت ، ثم إذا أحسّ بأنه اطلع عليه عاد إلى مبيته واضطجع كالذى يقصد إخفاء عبادته ، وكل ذلك ليستحكم الأنس به ويميل القلب إلى الإصغاء إلى كلامه ، فهذه هى مرتبة التأنيس.

وأما حيلة «التشكيك» فمعناه أن الداعى ينبغى له بعد التأنيس أن يجتهد فى تغيير اعتقاد المستجيب بأن يزلزل عقيدته فيما هو مصمم عليه.

وسبيله أن يبتدئه بالسؤال عن الحكمة فى مقررات الشرائع وغوامض (١)

__________________

(١) غوامض المسائل : عويصها.

المسائل وعن المتشابه من الآيات وكل ما لا ينقدح فيه معنى معقول. فيقول فى معنى المتشابه : ما معنى «الر» و«كهيعص» و«حم عسق» ، إلى غير ذلك من أوائل السور؟ ويقول : «أترى أن تعيين هذه الحروف جرى وفاقا بسبق اللسان ، أو قصد تعيينها لأسرار هى مودعة تحتها لم تصادف فى غيرها؟ وما عندى أن ذلك يكون هزلا وعبثا بلا فائدة».

ويشكك فى الأحكام : ما بال الحائض تقضى الصوم دون الصلاة؟ ما بال الاغتسال يجب من المنى الطاهر ولا يجب من البول النجس؟ ويشككه فى أخبار القرآن فيقول : ما بال أبواب الجنة ثمانية ، وأبواب النار سبعة؟ وما معنى قوله : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) [الحاقة : ١٧] ، وقوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] أفترى ضاقت القافية فلم يكمل العشرين؟ أو جرى ذلك وفاقا بحكم سبق اللسان ، أو قصدا لهذا التقييد ليخيل أن تحته سرا ، وأنه فى نفسه لسرّ ليس يطلع عليه إلا الأنبياء والأئمة الراسخون فى العلم ، ما عندى أن ذلك يخلو عن سر وينفك من فائدة كامنة ؛ والعجب من غفلة الخلق عنها لا يشمرون عن ساق الجد فى طلبها.

ثم يشككه فى خلقة العالم وجسد الآدمى ويقول : لم كانت السموات سبعا دون أن تكون ستا أو ثمانى؟ ولم كانت الكواكب السيارة سبعة والبروج اثنى عشر؟ ولم كان فى رأس الآدمى سبع ثقب : العينان والأذنان والمنخران والفم وفى بدنه ثقبان فقط؟ ولم جعل رأس الآدمى على هيئة الميم ويداه إذا مدّها على هيئة الحاء ، والعجز على هيئة الميم والرجلان على هيئة الدال بحيث إذا جمع الكل يشكل بصورة محمد؟ أفترى أن فيه تشبيها ورمزا؟ ما أعظم هذه العجائب! وما أعظم غفلة الخلق عنها! ولا يزال يورد عليه هذا الجنس حتى يشككه وينقدح فى نفسه أن تحت هذه الظواهر أسرارا سدّت عنه وعن أصحابه ، وينبعث منه شوق إلى طلبه.

وأما حيلة التعليق فبأن يطوى عنه جوانب هذه الشكوك إذا هو استكشفه عنها ،

ولا ينفس عنه أصلا ، بل يتركه معلقا ويهول الأمر عليه ويعظمه فى نفسه ويقول له : لا تعجل ، فإن الدين أجل من أن يعبث به ، أو أن يوضع فى غير موضعه ويكشف لغير أهله ، هيهات ، هيهات!

جئتمانى لتعلما سر سعدى

تجدانى بسر سعدى شحيحا

ثم يقول له لا تعجل! إن ساعدتك السعادة سنبث إليك سر ذلك ، أما سمعت قول صاحب الشرع : إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهر (١) أبقى (٢).

وهكذا لا يزال يسوقه ثم يدافعه حتى إن رآه أعرض عنه واستهان به وقال : ما لي ولهذا الفضول ، وكان لا يحيك فى صدره حرارة هذه الشكوك ، قطع الطمع عنه ؛ وإن رآه متعطشا إليه وعده فى وقت معين ، وأمره بتقديم الصوم والصلاة والتوبة قبله ؛ وعظّم أمر هذا السر المكتوم. حتى إذا وافى الميعاد قال له : إن هذه الأسرار مكتومة لا تودع إلّا فى سر محصن ؛ فحصن حرزك ، وأحكم مداخله حتى أودعه فيه. فيقول المستجيب : وما طريقه؟ فيقول : أن آخذ عهد الله وميثاقه على كتمان هذا السر ومراعاته عن التضييع فإنه الدر الثمين والعلق النفيس ؛ وأدنى درجات الراغب فيه صيانته عن التضييع ؛ وما أودع الله هذه الأسرار أنبياءه إلا بعد أخذه عهدهم وميثاقهم ؛ وتلا قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب : ٧] الآية وقال تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) [الأحزاب : ٢٣] ؛ وقال تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٩١]. وأما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يفشه إلا بعد أخذ العهد على الخلفاء وأخذ البيعة على الأنصار تحت الشجرة (٣). فإن كنت راغبا فاحلف لى على كتمانه ، وأنت

__________________

(١) كذا فى المطبوعة ؛ والصحيح : ولا ظهرا.

(٢) رواه مسلم فى صحيحه ؛ وأبو داود والنسائى وابن حبان.

(٣) وتسمى بيعة الرضوان ؛ وكانت يوم الحديبية وشملت المهاجرين والأنصار جميعا يقول تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨].

بالخيرة (١) بعده ، فإن وفقت لدرك حقيقته سعدت سعادة عظيمة ، وإن اشمأزت نفسك عنه فلا غرو فإن كلا ميسر لما خلق له ؛ ونحن نقدر كأنك لم تسمع ولم تحلف ، ولا ضير عليك فى يمين صادقة ، فإن أبى الحلف خلاه ، وإن أنعم وأجاب فيه ، وجّه الحلف واستوفاه.

وأما حيلة الربط فهو أن يربط لسانه بأيمان مغلظة وعهود مؤكدة ، لا يجسر على المخالفة لها بحال. وهذه نسخه العهد :

يقول الداعى للمستجيب : «جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله عليه‌السلام ، وما أخذ الله على النبيين من عهد وميثاق ، أنك تسر ما سمعته منى وتسمعه ، وعلمته وتعلمه من أمرى وأمر المقيم بهذه البلدة لصاحب الحق الإمام المهدى ، وأمور إخوانه وأصحابه وولده وأهل بيته ، وأمور المطيعين له على هذا الدين ، ومخالصة المهدى ومخالصة شيعته من الذكور والإناث ، والصغار والكبار ؛ ولا تظهر من ذلك قليلا ولا كثيرا تدل به عليه ، إلا ما أطلقت لك أن تتكلم به أو أطلق لك صاحب الأمر المقيم فى هذا البلد أو فى غيره ؛ فتعمل حينئذ بمقدار ما نرسمه لك ولا تتعداه ؛ جعلت على نفسك الوفاء بما ذكرته لك وألزمته نفسك فى حال الرغبة والرهبة ، والغضب والرضى ، وجعلت على نفسك عهد الله وميثاقه أن تتبعنى وجميع من أسميه لك وأبينه عندك مما تمنع منه نفسك ، وأن تنصح لنا وللإمام ولى الله نصحا ظاهرا وباطنا ، وألا تخون الله ولا وليه ولا أحدا من إخوانه وأوليائه ومن يكون منه ومنا بسبب من أهل ومال ونعمة ؛ وأنه لا رأى ولا عهد تتناول على هذا العهد بما يبطله. فإن فعلت شيئا من ذلك وأنت تعلم أنك قد خالفته ، فأنت بريء من الله ورسله الأولين والآخرين ، ومن ملائكته المقربين ، ومن جميع ما أنزل من كتبه على أنبيائه السابقين ، وأنت خارج من كل دين ، وخارج من حزب الله وحزب أوليائه ، وداخل فى حزب الشيطان وحزب أوليائه ، وخذلك الله خذلانا بيّنا يعجل لك بذلك النقمة والعقوبة إن خالفت شيئا مما حلفتك عليه ـ بتأويل أو بغير تأويل ـ فإن خالفت شيئا من ذلك فلله عليك أن تحج إلى بيته ثلاثين

__________________

(١) يعنى : بالخيار.

حجة نذرا واجبا ، ماشيا حافيا. وإن خالفت ذلك فكل ما تملكه فى الوقت الّذي تحلف فيه صدقة على الفقراء والمساكين الذين لا رحم بينك وبينهم. وكل مملوك يكون لك فى ملكك يوم تخالف فيه فهم أحرار ؛ وكل امرأة تكون لك أو تتزوجها فى قابل فهى طالق ثلاثا بتة إن خالفت شيئا من ذلك ، وإن نويت أو أضمرت فى يمينى هذه خلاف ما قصدت فهذه اليمين من أولها إلى آخرها لازمة لك. والله «الشاهد على صدق نيّتك وعقد ضميرك. وكفى بالله شهيدا بينى وبينك. قل : نعم!» ـ فيقول : «نعم!».

فهذا هو الربط (١).

وأما حيلة التدليس فهو أنه بعد اليمين وتأكيد العهد لا يسمح ببث الأسرار إليه دفعة ، ولكن يتدرج فيه ويراعى أمورا : (الأول) أنه يقتصر فى أول وهلة على ذكر قاعدة المذهب ويقول : منار الجهل تحكيم الناس عقولهم الناقصة وآرائهم المتناقضة ، وإعراضهم عن الاتباع والتلقى من أصفياء الله وأئمته وأوتاد أرضه ، والذين هم خلفاء رسوله من بعده. فمنهم الذين أودعهم الله سره المكنون ودينه المخزون ؛ وكشف لهم بواطن هذه الظواهر وأسرار هذه الأمثلة ؛ وإن الرشد والنجاة من الضلال بالرجوع إلى القرآن وأهل البيت. ولذلك قال عليه‌السلام لما قيل : ومن أين يعرف الحق بعدك؟ فقال : «ألم أترك فيكم القرآن وعترتى؟» (٢) ـ وأراد به أعقابه ، فهم الذين يطلعون على معانى القرآن.

ويقتصر فى أول وهلة على هذا القدر ، ولا يفصح عن تفصيل ما يقوله الإمام.

(الثانى) أن يحتال لإبطال المدرك الثانى من مدارك الحق وهو ظواهر القرآن.

فإن طالب الحق إما أن يفزع إلى التفكر والتأمل والنظر فى مدارك العقول ، كما أمر

__________________

(١) الربط : العهد والميثاق ، والدخول فى الحوزة بحيث يصبح المعاهد واحدا من الجماعة ؛ يأتمر بأمرهم وينفذ مشيئتهم.

(٢) الحديث المشهور : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدى : كتاب الله وسنتى».

الله سبحانه به ، فيفسد نظر العقل عليه بإيجاب التعلم والاتباع ؛ أو يفزع إلى ظواهر القرآن والسنة. ولو صرح له بأنه تلبيس ومحدث. لم يسمع منه ؛ فليسلم له لفظه ؛ ولينتزع عن قلبه معناه بأن يقول : «هذا الظاهر له باطن هو اللباب ، والظاهر قشر بالإضافة إليه ، يقنع به من تقاعد به القصور عن درك الحقائق ، حتى لا يبقى له معتصم من عقل ومستروح من نقل».

(الثالث) ألا يظهر من نفسه أنه مخالف للأمة كلهم ، وأنه منسلخ عن الدين والنحلة ، إذ تنفر القلوب عنه ، ولكن يعتزى إلى أبعد الفرق عن المسلك المستقيم وأطوعهم لقبول الخرافات ، ويتستر بهم ، ويتجمل بحب أهل البيت ؛ وهم الروافض.

(الرابع) : هو أن يقدم فى أول كلامه أن الباطل ظاهر جلي ، والحق دقيق بحيث لو سمعه الأكثرون لأنكروه ونفروا عنه ؛ وأن طلاب الحق والقائلين به من بين طلاب الجهل أفراد وآحاد ، ليهون عليه التميز عن العامة فى إنكار نظر العقل وظواهر ما ورد به النقل.

(الخامس) إن رآه نافرا عن التفرد عن العامة ، فيقول له : «إنى مفش إليك سرا ، وعليك حفظه». فإذا قال : «نعم!» ـ قال : «إن فلانا وفلانا يعتقدون هذا المذهب ، ولكنهم يسرونه» ـ ويذكر له من الأفاضل من يعتقد المستجيب فيه الذكاء والفطنة. وليكن ذلك المذكور بعيدا عن بلده ، حتى لا يتيسر له المراجعة ، كما جعلوا الدعوة بعيدة عن مقر إمامهم ووطنه ، فإنهم لو أظهروها فى جواره لافتضحوا بما يتواتر من أخباره وأحواله.

(السادس) أن يمنيه بظهور شوكة هذه الطائفة وانتشار أمرهم وعلوّ رأيهم ، وظفر ناصريه أعدائهم ، واتساع ذات يدهم ووصول كل واحد منهم إلى مراده حتى تجتمع لهم سعادة الدنيا والآخرة ؛ ويعزى بعض ذلك إلى النجوم ، وبعضه إلى الرؤيا فى المنام إن أمكنة وضع منامات تنتهى إلى المستجيب على لسان غيره.

(السابع) ألا يطول الداعى إقامته ببلدة واحدة ، فإنه ربما اشتهر أمره وسفك دمه ، فينبغى أن يحتاط فى ذلك فيلبس على الناس أمره ، ويتعرف إلى كل قوم باسم آخر ، وليغير فى بعض الأوقات هيئته ولبسته خوف الآفات ليكون ذلك أبلغ فى الاحتياط.

ثم بعد هذه المقدمات يتدرج قليلا قليلا فى تفصيل المذهب للمستجيب وذكره له على ما سنحكى من معتقده.

وأما حيلة التلبيس ـ فهو أن يواطئه على مقدمات يتسلمها منه مقبولة الظاهر مشهورة عند الناس ذائعة ، ويرسخ ذلك فى نفسه مدة ، ثم يستدرجه منها بنتائج باطلة ، كقوله : إن أهل النظر لهم أقاويل متعارضة الأحوال متساوية ، وكل حزب بما لديهم فرحون. والمطلع على الجوهر : الله. ولا يجوز أن يخفى الله الحق ، ولا يوجد أحد [.......] (١) كل الأمر إلى الخلق يتخبطون فيه خبط العشواء ويقتحمون فيه العماية العمياء ، إلى غير ذلك من مقدمات يت [.......] (٢) مستعضلة.

وأما حيلة الخلع والسلخ ، وهما متفقان ؛ وإنما يفترقان فى أن الخلع يختص بالعمل ، فإذا أفضوا بالمستجيب إلى ترك حدود الشرع وتكاليفه يقولون : وصلت إلى درجة الخلع.

أما السلخ فيختص بالاعتقاد الّذي هو خلع الدين ، فإذا انتزعوا ذلك من قلبه دعوا ذلك سلخا وسميت هذه الرتبة : البلاغ الأكبر. فهذا تفصيل تدريجهم الخلق واستغوائهم فلينظر الناظر فيه وليستغفر الله من الضلال فى دينه.

__________________

(١) كلمتان ممحوتان في مخطوطة القرويين.

(٢) كلمتان ممحوتان أيضا فى نفس المخطوطة.

الفصل الثانى

فى بيان السبب فى رواج حيلتهم وانتشار دعوتهم

مع ركاكة حجتهم وفساد طريقتهم

فإن قيل : ما جليتموه من العظائم لا يتصور أن يخفى على عاقل ، وقد رأينا خلقا كثيرا وجمّا غفيرا من الناس يتابعونهم فى معتقدهم وتابعوهم فى دينهم ؛ فلعلكم ظلمتموهم بنقل هذه المذاهب عنهم فى خلاف ما يعتقدونه! وهذا هو القريب الممكن ؛ فإنهم لو أظهروا هذه الأسرار نفرت القلوب عنهم واطلعت النفوس على مكرهم ؛ وما باحوا بها إلا بعد العهود والمواثيق وصانوها إلا عن موافق لهم فى الاعتقاد ـ فمن أين وقع لكم الاطلاع عليها وهم يسترون ديانتهم ويستبطنون بعقائدهم؟

قلت : أما الاطلاع على ذلك فإنما عثرنا عليه من جهة خلق كثير تدينوا بدينهم واستجابوا لدعوتهم ، ثم تنبهوا لضلالهم فرجعوا عن غوايتهم إلى الحق المبين فذكروا ما ألقوا إليهم من الأقاويل.

وأما سبب انقياد الخلق إليهم فى بعض أقطار الأرض فإنهم لا يفشون هذا الأمر إلا إلى بعض المستجيبين لهم ويوصون الداعى ويقولون له : «إياك أن تسلك بالجميع مسلكا واحدا ، فليس كل من يحتمل قبول هذه المذاهب يحتمل الخلع والسلخ ، ولا كل من يحتمل الخلع يحتمل السلخ ؛ فليخاطب الداعى الناس على قدر عقولهم». فهذا هو السبب فى تعلق هذه الحيل ورواجها.

فإن قيل : هذا أيضا مع الكتمان ظاهر البطلان ؛ فكيف ينخدع بمثله عاقل؟ قلنا :

لا ينخدع به إلا المائلون عن اعتدال الحال واستقامة الرأي. فللعقلاء عوارض تعمى عليهم طرق الصواب وتقضى عليهم بالانخداع بلامع السراب ، وهم ثمانية أصناف :

(الصنف الأول) طائفة ضعفت عقولهم وقلت بصائرهم وسخفت فى أمور الدين آراؤهم لما جبلوا عليه من البله والبلادة ، مثل السواد وأفجاج العرب والأكراد وجفاة الأعاجم وسفهاء الأحداث ، ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عددا. وكيف يستبعد قبولهم لذلك ونحن نشاهد جماعة فى بعض المدائن القريبة من البصرة يعبدون أناسا يزعمون أنهم ورثوا الربوبية من آبائهم المعروفين بالشباسية. وقد اعتقدت طائفة فى على ـ رضى الله عنه ـ أنه إله السموات والأرض رب العالمين (١) ؛ وهم خلق كثير لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد ؛ فلا ينبغى أن يكثر التعجب من جهل الإنسان إذا استحوذ عليه الشيطان واستولى عليه الخذلان.

(الصنف الثانى) طائفة انقطعت الدولة عن أسلافهم بدولة الإسلام ، كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس المستطيلين ، فهؤلاء موتورون ، قد استكن الحقد فى صدورهم كالداء الدفين فإذا حركته تخاييل المبطلين اشتعلت نيرانه فى صدورهم فأذعنوا لقبول كل محال تشوقا إلى درك ثأرهم وتلافى أمورهم.

(الصنف الثالث) طائفة لهم همم طامحة إلى العلياء متطلعة إلى التسلط والاستيلاء ؛ إلا أنه ليس يساعدهم الزمان ، بل يقصر بهم عن الأتراب والأقران طوارق الحدثان ؛ فهؤلاء إذا وعدوا بنيل أمانيهم وسول لهم الظفر بأعاديهم سارعوا إلى قبول ما يظنونه مفضيا إلى مآربهم وسالكا إلى أوطارهم ومطالبهم ، فلطالما قيل : «حبك الشيء يعمى ويصم». ويشترك فى هذا كل من دهاه من طبقة الإسلام آمر يلم به. وكان لا يتوصل إلى الانتصار ودرك الثأر إلا بالاستظهار بهؤلاء الأغبياء الأغمار ، فتتوفر دواعيه على قبول ما يرى الأمنية فيه.

(الصنف الرابع) طائفة جبلوا على حب التميز عن العامة والتخصص عنهم ترفعا عن مشابهتهم وتشرفا بالتحيز إلى فئة خاصة تزعم أنها مطلعة على الحقائق ، وأن

__________________

(١) أول من قال بذلك عبد الله بن سبأ ـ المعروف بابن السوداء ؛ وكان ذلك فى حياة على ـ رضى الله عنه ـ ؛ وقد أنكر عليه ذلك ؛ وأهدر دمه.

كافة الخلق فى جهالتهم كالحمر المستنفرة والبهائم المسيبة. وهذا هو الداء العضال المستولى على الأذكياء فضلا عن الجهال الأغبياء ؛ وكل ذلك حب للنادر الغريب ونفرة عن الشائع المستفيض ؛ وهذه سجيّة لبعض الخلق ، على ما شهدت به التجربة ، وتدل عليه المشاهدة.

(الصنف الخامس) طائفة سلكوا طرق النظر ولم يستكملوا فيه رتبة الاستقلال ، وإن كانوا قد ترقوا عن رتبة الجهال فهم أبدا متشوقون إلى التكاسل والتغافل وإظهار التفطن لدرك أمور تتخيل العامة بعدها وينفرون عنها ، لا سيما إذا نسب الشيء إلى مشهور بالفضل ، فيغلب على الطبع التشوق إلى التشبه به ، فكم من الطوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليدا لأفلاطن وأرسطاطاليس (١) وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل! وداعيهم إلى ذلك التقليد وحب التشبه بالحكماء والتحيز إلى غمارهم والتحيز عمّن يعتقد أنه فى الذكاء والفضل دونهم. فهؤلاء يستجرون إلى هذه البدعة بإضافتها إلى من يحسن اعتقاد المستجيب فيه فيبادر إلى قبوله تشفعا بالتشبه بالذى ذكر أنه من منتحليه.

(الصنف السادس) طائفة اتفق نشوؤهم بين الشيعة والروافض ، واعتقدوا التدين بسب الصحابة ، ورأوا هذه الفرقة تساعدهم عليها ، فمالت نفوسهم إلى المساعدة لهم والاستئناس بهم ، وانجرّت معهم إلى ما وراء ذلك من خصائص مذهبهم.

(الصنف السابع) طائفة من ملحدة الفلاسفة والثنوية والمتحيرة فى الدين ، اعتقدوا أن الشرائع نواميس مؤلفة ، وأن المعجزات مخاريق مزخرفة ، فإذا رأوا هؤلاء يكرمون من ينتمى إليهم ويفيضون ذخائر الأموال عليهم انتدبوا لمساعدتهم طلبا لحطام الدنيا ، واستحقارا لأمر العقبى.

وهذه الطائفة هم الذين لفقوا لهم الشبه وزينوا لهم بطريق التمويه الحجج ،

__________________

(١) أفلاطون ، وأرسطو فيلسوفى اليونان ولقد كان الإمام الغزالى أشهر من سفه الفلسفة وهاجمها فى كتابه : [تهافت الفلاسفة].

وسووها على شروط الجدل وحدود المنطق من حيث الظاهر وغبوا (١) مكامن التلبيس والمغالطة فيها تحت ألفاظ مجملة ، وعبارات كلية مبهمة ، قلما يهتدى الناظر الضعيف إلى فك تعقيدها وكشف الغطاء عن مكمن تدليسها ، على ما سنورد ما لفقوه ، وننبه على المسلك الّذي سلكوه ونهجوه ، ونكشف عن فساده من عدة وجوه.

(الصنف الثامن) طائفة استولت عليهم الشهوات فاستدرجتهم متابعة اللذات واشتد عليهم وعيد الشرع وثقلت عليهم تكاليفه ، فليس يتهنأ عيشهم إذا قرفوا بالفسق والفجور وتوعدوا بسوء العاقبة فى الدار الآخرة ؛ فإذا صادفوا من يفتح لهم الباب ويرفع عنهم الحجز والحجاب ويحسن لهم ما هم مستحسنون له بالطبع ، تسارعوا إلى التصديق بالرغبة والطوع ؛ وكل إنسان مصدّق لما يوافق هواه ويلائم غرضه ومناه ؛ فهؤلاء ومن يجرى مجراهم هم الذين عدموا التوفيق فانخدعوا بهذه المخاريق ، وزاغوا عن سواء الطريق وحدود التحقيق.

__________________

(١) غبوا : من غبب الشيء : غيبه وستره أى : أخفوا مكامن الخداع بالألفاظ العامة المبهمة.

الباب الرابع

فى نقل مذهبهم جملة وتفصيلا

أما الجملة : فهو أنه مذهب ظاهره الرفض ، وباطنه الكفر المحض ، ومفتتحه حصر مدارك العلوم فى قول الإمام المعصوم ، وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق لما يعتريها من الشبهات ويتطرق إلى النظار من الاختلافات ، وإيجاب لطلب الحق بطريق التعليم والتعلم ، وحكم بأن المعلم المعصوم هو المستبصر ، وأنه مطلع من جهة الله على جميع أسرار الشرائع ، يهدى إلى الحق ويكشف عن المشكلات ؛ وأن كل زمان لا بدّ فيه من إمام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من أمور الدين.

هذا مبدأ دعوتهم. ثم إنهم بالآخرة يظهرون ما يناقض الشرع وكأنه غاية مقصدهم ، لأن سبيل دعوتهم ليس بمتعين فى فن واحد ، بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه بعد أن يظفروا منهم. بالانقياد لهم والموالاة لإمامهم ، فيوافقون اليهود والنصارى والمجوس (١) على جملة معتقداتهم ويقرونهم عليها ، فهذه جملة المذهب.

وأما تفصيله : فيتعلق بالإلهيات ، والنبوات ، والإمامة ، والحشر والنشر. وهذه أربعة أطراف ؛ وأنا مقتصر فى كل طرف على نبذة يسيرة من حكاية مذهبهم ، فإن النقل عنهم مختلف ؛ وأكثر ما حكى عنهم إذا عرض عليهم أنكروه ، وإذا روجع فيه الذين استجابوا لدعوتهم جحدوه.

والّذي قدمناه فى جملة مذهبهم يقتضي لا محالة أن يكون النقل عنهم مختلفا مضطربا. فإنهم لا يخاطبون الخلق بمسلك واحد ، بل غرضهم الاستتباع والاحتيال ، فلذلك تختلف كلمتهم ويتفاوت نقل المذهب عنهم ، فإن ما حكى

__________________

(١) ولقد كان هذا الأمر ظاهرا فى التاريخ من خلال الوقائع والأحداث.

عنهم فى الخلع والسلخ لا يظهرونه إلا مع من بلغ الغاية القصوى بل ربما يخاطبون بالخلع من ينكرون معه السلخ فلنرجع إلى بيان أطراف المذهب.

(الطرف الأول) فى معتقدهم فى الإلهيات

وقد اتفقت أقاويل نقلة المقالات من غير تردد أنهم قائلون بإلهين (١) قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان ، إلّا أن أحدهما علّة لوجود الثاني ؛ واسم العلة : السابق ، واسم المعلول : التالي ؛ وأن السابق خلق العالم بواسطة التالى ، لا بنفسه. وقد يسمى الأول : عقلا ، والثانى نفسا. ويزعمون أن الأول هو التام بالفعل ، والثانى بالإضافة إليه ناقص ، لأنه معلوله ، وربما لبسوا على العوام مستدلين بآيات من القرآن عليه ، كقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا) [الحجر : ٩]. و (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) [الإنسان : ٢٣] و (نَحْنُ قَسَمْنا) [الزخرف : ٣٢] وزعموا أن هذه إشارة إلى جمع لا يصدر عن واحد (٢) ، ولذلك قال : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] إشارة إلى السابق من الإلهين ، فإنه الأعلى ولو لا أن معه إلها آخر له العلوّ أيضا لما انتظم إطلاق الأعلى ، وربما قالوا : الشرع سماهما باسم القلم واللوح. والأول هو القلم ، فإن القلم مفيد واللوح مستفيد متأثر ، والمفيد فوق المستفيد. وربما قالوا : اسم «التالى» : قدر فى لسان الشرع ، وهو الّذي خلق الله به العالم حيث قال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩].

ثم قالوا : السابق لا يوصف بوجود ولا عدم ، فإن العدم نفى والوجود سببه ، فلا هو موجود ولا هو معدوم ، ولا هو معلوم ولا هو مجهول ، ولا هو موصوف ولا غير موصوف ، وزعموا أن جميع الأسامى منتفية عنه ، وكأنهم يتطلعون فى الجملة لنفى الصانع ؛ فإنهم لو قالوا إنه معدوم لم يقبل منهم ، بل منعوا الناس من تسميته

__________________

(١) وهذه أولى علامات الشرك ؛ وهى الثنوية عينها.

(٢) انظر وتأمل إلى تلاعبهم بالألفاظ.

موجودا ، وهو عين النفى مع تغيير العبارة ؛ لكنهم تحذقوا (١) فسمّوا هذا النفى تنزيها ، وسموا مناقضه تشبيها ، حتى تميل القلوب إلى قبوله.

ثم قالوا : العالم قديم ، أى وجوده ليس مسبوقا بعدم زماني ؛ بل حدث من السابق : التالى وهو أول مبدع ، وحدث من المبدع الأول النفس الكلية الفاشية جزئياتها فى هذه الأبدان المركبة ، وتولد من حركة النفس الحرارة ، ومن سكونها البرودة ؛ ثم تولد منهما الرطوبة واليبوسة ؛ ثم تولدت من هذه الكيفيات الاستقصات الأربع وهى : النار والهواء والماء والأرض ؛ ثم إذا امتزجت على اعتدال ناقص حدثت منها المعادن ؛ فإن زاد قربها من الاعتدال وانهدم صرفية التضاد منها تولد منها النبات ، وإن زاد تولد الحيوان ، فإن ازداد قربا تولد الإنسان ، وهو منتهى الاعتدال.

فهذا ما حكى من مذهبهم إلى أمور أخر هى أفحش مما ذكرناه لم نر تسويد البياض بنقلها ولا تبيان وجه الرد عليها لمعنيين : (أحدهما) أن المنخدعين بخداعهم وزورهم والمتدلين بحبل غرورهم فى عصرنا هذا لم يسمعوا هذا منهم ، فينكرون جميع ذلك إذا حكى من مذهبهم ، ويحدثون فى أنفسهم أن هؤلاء إنما خالفوا لأنه ليس عندهم حقيقة مذهبنا ؛ ولو عرفوها لوافقونا عليها ، فنرى أن نشتغل بالرد عليهم فيما اتفقت كلمتهم وهو إبطال الرأى والدعوة إلى التعلم من الإمام المعصوم ، فهذه عمدة معتقدهم ، وزبدة مخضهم ، فلنصرف العناية إليه ، وما عداه فمن سقم إلى هذيان ظاهر البطلان ، وإلى كفر مسترق من الثنوية والمجوس فى القول بالإلهين ، مع تبديل عبارة : «النور والظلمة» ب «السابق والتالى» ؛ ـ إلى ضلال منتزع من كلام الفلاسفة فى قولهم إن المبدأ الأول علة لوجود العقل على سبيل اللزوم عنه ، لا على سبيل القصد والاختيار ؛ وإنه حصل من ذاته بغير واسطة سواه.

نعم! يثبتون موجودات قديمة يلزم بعضها عن بعض ، ويسمونها عقولا ، ويحيلون

__________________

(١) تحذقوا : مهروا ـ ولعلها : تحذلقوا.

وجود كل فلك على عقل من تلك العقول ؛ فى خبط لهم طويل ، قد استقصينا وجه الرد عليهم فى ذلك فى فن الكلام (١) ، ولسنا نشتغل فى هذا الكتاب إلا بما يخص هذه الفرقة ، وهو إبطال الرأى وإثبات التعليم.

(الطرف الثانى) فى بيان معتقدهم فى النبوات

والمنقول عنهم قريب من مذهب الفلاسفة ، وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق ـ بواسطة التالى ـ قوة قدسية صافية مهيأة لأن تنتقش ـ عند الاتصال بالنفس الكلية ـ بما فيها من الجزئيات ، كما قد يتفق ذلك لبعض النفوس الزكية فى المنام حتى تشاهد من مجارى الأحوال فى المستقبل : إما صريحا بعينه ، أو مدرجا تحت مثال يناسبه مناسبة ما ؛ فتفتقر فيه إلى التعبير ؛ إلا أن النبي هو المستعد لذلك فى اليقظة ؛ فلذلك يدرك النبي الكليات العقلية عند شروق ذلك النور وصفاء القوة النبوية ، كما ينطبع مثال المحسوسات فى القوة الباصرة من العين عند شروق نور الشمس على سطوح الأجرام السفلية.

وزعموا أن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه ، ورمز إليه ، لا أنه شخص متجسم متركب عن جسم لطيف أو كثيف يناسب المكان حتى ينتقل من علو إلى أسفل.

وأما القرآن فهو عندهم تعبير «محمد» عن المعارف التى فاضت عليه من العقل الّذي هو المراد باسم جبريل ؛ ويسمى «كلام الله» تعالى مجازا ، فإنه مركب من جهته ، وإنما الفائض عليه من الله بواسطة جبريل بسيط لا تركيب فيه وهو باطن لا ظهور له ؛ وكلام النبي وعبارته عنه ظاهر لا بطون له. وزعموا أن هذه القوة القدسية الفائضة على النبي لا تستكمل فى أول حلولها ، كما لا تستكمل النطفة الحالة فى الرحم إلا بعد تسعة أشهر فكذلك هذه القوة : كمالها فى أن تنتقل من الرسول الناطق إلى الأساس الصامت. وهكذا تنتقل إلى أشخاص بعضهم

__________________

(١) فن الكلام : علم الكلام. والملاحظ أن الإمام الغزالى يسير في الرد على دعاويهم ومفترياتهم بأسلوب المناطقة.

بعد بعض فيكمل فى السابع ؛ كما سنحكى معنى قولهم فى : الناطق ، والأساس ، والصامت.

وهذه المذاهب أيضا مستخرجة من مذاهب الفلاسفة فى النبوات ، مع تحريف وتغيير. ولسنا نخوض فى الرد عليهم فيه ، فإن بعضها يمكن أن يتأول على وجه لا ننكره ، والقدر الّذي ننكره قد استقصينا وجه الرد فيه على الفلاسفة (١). ولسنا فى هذا الكتاب نقصد إلا الرد على نابغة الزمان فى خصوص مذهبهم الّذي انفردوا به عن غيرهم ، وهو إيجاب التعليم وإبطال الرأى.

(الطرف الثالث) بيان معتقدهم فى الإمامة

وقد اتفقوا على أنه لا بد فى كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه فى تأويل الظواهر وحل الإشكالات فى القرآن والأخبار والمعقولات ، واتفقوا على أنه المتصدى لهذا الأمر ، وأن ذلك جار فى نسبهم لا ينقطع أبد الدهر ، ولا يجوز أن ينقطع إذ يكون فيه إهمال الحق وتغطيته على الخلق وإبطال قوله عليه‌السلام! ـ [كل سبب ونسب ينقطع إلا سببى ونسبى] ، وقوله : [ألم أترك فيكم القرآن وعترتى؟!] ـ واتفقوا على أن الإمام يساوى النبي فى العصمة والاطلاع على حقائق الحق فى كل الأمور ، إلا أنه لا ينزل إليه الوحى ، وإنما يتلقى ذلك من النبي فإنه خليفته وبإزاء منزلته ، ولا يتصور فى زمان واحد إمامان ، كما لا يتصور نبيان تختلف شريعتهما ، نعم يستظهر الإمام بالحجج والمأذونين والأجنحة ، والحجج : هم الدعاة فقالوا لا بدّ للإمام فى كل وقت من اثنى عشر حجة ينتدبون فى الأقطار متفرقين فى الأمصار ، وليلازم أربعة من جملة الاثنى عشر حضرته فلا يفارقونه ؛ ولا بد لكل حجة من معاونين له على أمره ، فإنه لا ينفرد بالدعوة بنفسه ، واسم المعاون : «المأذون» عندهم ، ولا بد للدعاة من رسل إلى الإمام ، يرفعون إليه الأحوال ، ويصدرون عنه إليهم ، واسم الرسول : «الجناح» ، ولا بدّ للداعى من أن يكون بالغا

__________________

(١) فى كتابه : تهافت الفلاسفة.

فى العلم ، والمأذون ـ وإن كان دونه ـ فلا بأس بعد أن يكون عالما على الجملة ؛ وكذلك الجناح.

ثم إنهم قالوا : كل نبى لشريعته مدة ، فإذا انصرمت مدته بعث الله نبيا آخر ينسخ شريعته ، ومدة شرعة كل نبى سبعة أعمار ، وهو سبعة قرون ؛ فأولهم هو النبي الناطق ، ومعنى الناطق أن شريعته ناسخة لما قبله ، ومعنى الصامت أن يكون قائما على ما أسسه غيره ، ثم إنه يقوم بعد وفاته ستة أئمة : إمام بعد إمام. فإذا انقضت أعمارهم ابتعث الله نبيا آخر ينسخ الشريعة المتقدمة ، وزعموا أن أمر آدم جرى على هذا المثال ، وهو أول نبى ابتعثه الله فى فتح باب الجسمانيات وحسم دور الروحانيات.

ولكل نبى سوس ، والسوس : هو الباب إلى علم النبي فى حياته والوصى بعد وفاته ، والإمام لمن هو فى زمانه ، كما قال عليه‌السلام ، [أنا مدينة العلم ، وعلى بابها]. وزعموا أن آدم كان سوسه شيث ، وهو الثانى ، ويسمى من بعده متما ولاحقا وإماما ، وإنما كان استتمام دور آدم سبعة ، لأن استتمام دور العالم العلوى بسبعة من النجوم ، ولما استتم دور آدم ابتعث الله نوحا ينسخ شريعته ، وكان سوسه : سام ، فلما استتم دوره بمضى ستة سواه وسبعة معه ابتعث الله إبراهيم ينسخ شريعته ، وكان سوسه : إسحاق. ومنهم من يقول : لا ، بل إسماعيل ، فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله موسى ينسخ شريعته ، وكان سوسه : هارون ، فمات هارون فى حياة موسى ، فصار سوسه يوشع بن (١) نون. فلما استتم دوره بالسابع معه ابتعث الله عيسى ينسخ شريعته ، وسوسه : شمعون ، ولما استتم دوره بالسابع ابتعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسوسه : عليّ عليه‌السلام ، وقد استتم دوره بجعفر بن محمد ، فإن الثانى من الأئمة : الحسن بن على (٢) ، والثالث الحسين بن

__________________

(١) يوشع بن نون ؛ هو فتى موسى عليه‌السلام الّذي رافقه فى رحلته إلى التعرف على النبي الصالح الّذي آتاه الله من لدنه علما ؛ وجاءت قصته فى سورة الكهف.

(٢) الحسن بن على بن أبى طالب.

على (١) ، والرابع على بن الحسين (٢) ، والخامس محمد بن على (٣) ، والسادس جعفر (٤) بن محمد عليه‌السلام ، وقد استتموا سبعة معه ، وصارت شريعته ناسخة.

وهكذا يدور الأمر أبد الدهر.

هذا ما نقل عنهم مع خرافات كثيرة أهملنا ذكرها ضنّة بالبياض أن يسود بها.

(الطرف الرابع) بيان مذهبهم فى القيامة والمعاد

وقد اتفقوا عن آخرهم على إنكار القيامة ، وأن هذا النظام المشاهد فى الدنيا ، من تعاقب الليل والنهار ، وحصول الإنسان من نطفة ، والنطفة من إنسان وتولد النبات ، وتولد الحيوانات لا يتصرم أبدا الدهر ، وأن السموات والأرض لا يتصور انعدام أجسامها وأولوا القيامة وقالوا إنها رمز إلى خروج الإمام وقيام قائم الزمان وهو السابع الناسخ للشرع المغير للأمر.

وربما قال بعضهم : إن للفلك أدوارا كلية ، تتبدل أحوال العالم تبدلا كليا بطوفان عام ، أو سبب من الأسباب ، فمعنى القيامة انقضاء دورنا الّذي نحن فيه ، وأما المعاد فأنكروا ما ورد به الأنبياء ، ولم يثبتوا الحشر والنشر للأجساد ، ولا الجنة والنار ولكن قالوا : معنى المعاد عود كل شيء إلى أصله ، والإنسان متركب من العالم الروحانى والجسمانى ، أما الجسمانى منه ، وهو جسده ، فمتركب من الأخلاط الأربعة : الصفراء والسوداء والبلغم والدم ، فينحل الجسد ويعود كل خلط إلى الطبيعة العالية ، أما الصفراء فتصير نارا ، وتصير السوداء ترابا ويصير الدم هواء ، ويصير البلغم ماء ، وذلك هو معاد الجسم ، وأما الروحانى ، وهو النفس المدركة العاقلة من الإنسان ، فإنها إن صفيت بالمواظبة على العبادات ، وزكيت بمجانبة الهوى والشهوات ، وغذيت بغذاء العلوم والمعارف

__________________

(١) الحسين بن على بن أبى طالب.

(٢) على بن الحسين ـ زين العابدين.

(٣) محمد الباقر ، بن على بن الحسين.

(٤) جعفر الصادق بن محمد الباقر ـ رضى الله عنهم.

المتلقاة من الأئمة الهداة ، اتحدت عند مفارقة الجسم بالعالم الروحانى الّذي منه انفصالها وتسعد بالعود إلى وطنها الأصلي ، ولذلك سمى رجوعا فقيل : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) [الفجر : ٢٨] وهى الجنة ، وإليه وقع الرمز بقصة آدم وكونه فى الجنة ثم انفصاله عنها ونزولها إلى العالم السفلانى ثم عوده إليها بالآخرة.

وزعموا أن كمال النفس بموتها ، إذ به خلاصها من ضيق الجسد والعالم الجسمانى ، كما أن كمال النطفة فى الخلاص من ظلمات الرحم والخروج إلى فضاء العالم ، والإنسان كالنطفة ، والعالم كالرحم ، والمعرفة كالغذاء. فإذا نفذت فيه صارت بالحقيقة كاملة وتخلصت ، فإذا استعدت لفيض العلوم الروحانية ، باكتساب العلوم من الأئمة وسلوك طرقها المفيدة بإرشادهم استكملت عند مفارقة الجسد ، وظهر لها ما لم يظهر. ولذلك قال عليه‌السلام : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] (١).

وكلما ازدادت النفس عن عالم الحسيات بعدا ازدادت للعلوم الروحانية استعدادا ، وكذلك إذا ركدت الحواس بالنوم اطلعت على عالم الغيب ، واستشعرت ما سيظهر فى المستقبل : إما بعينه ، فيغنى عن المعبر ، أو بمثال فيحتاج إلى التعبير ، فالنوم أخو الموت ، وفيه يظهر علم ما لم يكن فى اليقظة ؛ فكذا بالموت تنكشف أمور لم تخطر على قلب بشر فى الحياة ، وهذا للنفوس التى قدستها الرياضة العملية والعلمية ، فأما النفوس المنكوسة المغمورة فى عالم الطبيعة المعرضة عن رشدها من الأئمة المعصومين فإنها تبقى أبد الدهر فى النار ، على معنى أنها تبقى فى العالم الجسمانى تتناسخها الأبدان (٢) ، فلا تزال تتعرض فيها

__________________

(١) الحديث رواه البخارى ومسلم ، وبصيغ مختلفة.

(٢) التناسخ أو التقمص ، مذهب فلسفى قديم ، قال به الهنود والصينيون ؛ ودرج عليه بعض دعاة الباطنية من الإسماعيلية وغيرهم. فالذى يتحلل من الجسم الإنسانى ماديته الترابية ، أما الروح فإنها تنتقل إلى ذات أخرى.

للألم والأسقام فلا تفارق جسدا إلا ويتلقاها آخر ، ولذلك قال تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦] فهذا مذهبهم فى المعاد ، وهو بعينه مذهب الفلاسفة ، وإنما شاع فيهم لما انتدب لنصرة مذهبهم جماعة من الثنوية والفلاسفة ، فكل واحد نصر مذهبهم طمعا فى أموالهم وخلعهم ، واستظهارا بأتباعهم لما كان قد ألفه فى مذهبه ، فصار أكثر مذهبهم موافقا للثنوية والفلاسفة فى الباطن ، وللروافض والشيعة فى الظاهر. وغرضهم بهذه التأويلات انتزاع المعتقدات الظاهرة من نفوس الخلق حتى تبطل به الرغبة والرهبة ، ثم ما أوهموه وهذوا به لا يفهم فى نفسه ، ولا يؤثر فى ترغيب وترهيب ، وسنشير إلى كلام وجيز فى الرد عليهم فى هذا الفن وأخباره فى آخر الفصل.

(الطرف الخامس) فى اعتقادهم فى التكاليف الشرعية

والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع ، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نسب إليهم ، وإنما الّذي يصح من معتقدهم فيه أنهم يقولون : لا بدّ من الانقياد للشرع فى تكاليفه ، على التفصيل الّذي يفصله الإمام ، من غير متابعة الشافعى وأبى حنيفة وغيرهما ، وإن ذلك واجب على الخلق والمستجيبين إلى أن ينالوا رتبة الكمال فى العلوم ، فإذا أحاطوا من جهة الإمام بحقائق الأمور ، واطلعوا على بواطن هذه الظواهر انحلت عنهم هذه القيود ، وانحطت عنهم التكاليف العملية ، فإن المقصود من أعمال الجوارح تنبيه القلب لينهض لطلب العلم ، فإذا ناله استعد للسعادة القصوى ، فيسقط عنه تكليف الجوارح ، وإنما تكليف الجوارح فى حق من يجرى بجهله مجرى الحمر التى لا يمكن رياضتها إلا بالأعمال الشاقة ، وأما الأذكياء والمدركون للحقائق فدرجتهم أرفع من ذلك ، وهذا فن من الإغواء شديد على الأذكياء ، وغرضهم هدم قوانين الشرع ، ولكن يخادعون كل ضعيف بطريق يغويه ويليق به ، وهذا من الإضلال البارد ، وهو فى حكم ضرب المثال كقول القائل : إن الاحتماء عن الأطعمة المضرة إنما يجب على من فسد

مزاجه ، فأما من اكتسب اعتدال المزاج فليواظب على أكل ما شاء أيّ وقت شاء ، فلا يلبث المصغى إلى هذا الضلال أن يمعن فى المطعومات المضرة إلى أن تتداعى به إلى الهلاك.

فإن قيل : قد نقلتم مذاهبهم ، وما ذكرتم وجه الإبطال ـ فما السبب فيه؟ ـ قلنا : إن ما نقلناه عنهم ينقسم إلى أمور يمكن تنزيلها على وجه لا ننكره ، وإلى ما يتعين من الشرع إنكاره ، والمنكر هو مذهب الثنوية والفلاسفة. والرد عليهم فيه يطول ، فليس ذلك من خصائص مذهب هؤلاء حتى نتشاغل به ، وإنما نرد عليهم فى خصوص مذهبهم : من إبطال الرأى ، وإثبات التعليم من الإمام المعصوم. ولكنا مع ذلك نذكر مسلكا واحدا هو على التحقيق قاصم الظهر ، نعنى فى إبطال مذهبهم فى جميع ما سنحكى عنهم وحكيناه. وهو أنا نقول لهم فى جميع دعاويهم التى تميزوا بها عنا كإنكار القيامة وقدم العالم وإنكار بعث الأجساد وإنكار الجنة والنار ، على ما دل عليه القرآن مع غاية الشرح فى وصفها : من أين عرفتم ما ذكرتموه؟ أعن ضرورة ، أو عن نظر ، أو عن نقل عن الإمام المعصوم وسماع؟ فإن عرفتموه ضرورة ، فكيف خالفكم فيه ذوو العقول السليمة؟ لأن معنى كون الشيء ضروريا مستغنيا عن التأمل اشتراك كافة العقلاء فى دركه ، ولو ساغ أن يهذى الإنسان بدعوى الضرورة فى كل ما يهواه لجاز لخصومهم دعوى الضرورة فى نقيض ما ادعوه ، وعند ذلك لا يجدون مخلصا بحال من الأحوال. وإن زعموا : أنا عرفنا ذلك بالنظر ، فهو باطل من وجهين : أحدهما أن النظر عندهم باطل ، فإنه تصرف بالعقل لا بالتعليم ، وقضايا العقول متعارضة ، وهى غير موثوق بها ؛ ولذلك أبطلوا الرأى بالكلية ـ ولم نصنف هذا الكتاب قصدا لإبطال هذا المذهب ـ فكيف يمكن ذلك منهم! الثانى أن يقال للفلاسفة والمعترفين بمسالك النظر : بم عرفتم عجز الصانع عن خلق الجنة والنار وبعث الأجساد كما ورد به الشرع؟ وهل معكم إلا استبعاد محض ، لو عرض مثله على من لم يشاهد النشأة الأولى لاستبعده وعرض له ذلك الإنكار؟ فالرد عليهم بالحجة المنطوية تحت قوله تعالى :

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) [يس : ٧٩]. ومن تأمل عجائب الصنع فى خلق الأدمى من نطفة قذرة لم يستبعد من قدرة الله شيئا وعرف أن الإعادة أهون من الابتداء (١).

فإن قيل : الإعادة غير معقولة ، والابتداء معقول ، إذ ما عدم كيف يعود؟ ـ قلنا : لنفهم الابتداء حتى نبنى عليه الإعادة ، ورأى المتكلمين فيه أن الابتداء يخلق الحياة فى جسم من الأجسام ، مع أن الحياة عرض يتجدد ساعة فساعة بخلق الله تعالى ؛ فلا يستحيل ـ على أصلهم ـ الإمساك عن خلق الحياة مدة فى الجسم ثم يعود إلى خلق الحياة كما لا يستحيل خلق الحركة بعد السكون والسواد بعد البياض ، ورأى الفلاسفة أن قوام الحياة استعداد جسم مخصوص ـ بنوع من الاعتدال ـ إلى الانفعال عن النفس التى هى جوهر قائم بنفسه غير متحيز ولا متجسم ولا هو منطبع فى جسم لا علاقة بينه وبين الجسم إلا بالفعل فيه ، ولا علاقة بين الجسم وبينه إلا بالانفعال عنه ، ومعنى الموت : انقطاع هذه العلاقة الفعلية ببطلان استعداد الجسم ، فإنه لا يستعد للانفعال إلا إذا كان على مزاج مخصوص ، كما لا يستعد الحديد لانطباع الصورة المحسوسة فيه أو انعكاس الأشعة عنه إلا إذا كان على هيئة مخصوصة ؛ فإذا بطلت تلك الهيئة لم ينفعل الحديد عن الصورة المحاذية له ولم ينطبع فيه ، فإذا كان هذا مذهبهم ، فالقادر على إحداث العلاقة بين نفس ، لا تتجسم ولا تختص بمكان ولا توصف بأنها متصلة بالجسم ولا بأنها منفصلة عنه ، وبين الجسم الّذي لا تناسبه بحقيقتها ولا تتصل به اتصالا محسوسا ـ كيف يعجز عن إعادة تلك العلاقة! والعجب أن أكثرهم جوزوا إثبات تلك العلاقة مع جسد آخر ، على طريق التناسخ ، فلم لا يجوز عودها إلى جسدها؟! فإن الجسد الّذي فسد مزاجه لأبعد فى أن يصلح مزاجه وتعاد تلك العلاقة إليه ، فيكون ذلك هو المراد بالإعادة ، ويضاهى التيقظ بعد المنام فإنه يعيد حركة الحواس وتذكر الأمور السالفة.

__________________

(١) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة الروم (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [آية : ٢٧].

فإن قيل : المزاج إذا فسد لا يعود معتدلا إلّا بأن تنحل أجزاء الجسم إلى العناصر ثم تتركب ثانيا ، ثم يصير حيوانا ، ثم يصير نطفة .. فهذا الاعتدال للنطفة على الخصوص. قلنا : ومن أين عرفتم أنه ليس فى مقدور الله جبر الخلل الواقع بطريق سوى هذا الطريق؟ ومن أين عرفتم أن هذا الّذي ذكرتموه طريق؟ فهل لكم مستند سوى مشاهدة الأحوال؟ وهل لكم فى إبطال غيره مستند سوى عدم المشاهدة؟! ولو لم تشاهدوا خلق الإنسان من نطفة لنفرت عقولكم عن التصديق به ففى الأسباب المغيرة لأحوال الأجسام عجائب يستنكرها من لا يشاهدها ، فمن منكر ينكر الخواص ، وآخر ينكر السحر ، وآخر ينكر المعجزة ، وآخر ينكر الإخبار عن الغيب ، وكل يعوّل فى إقراره على قدر مشاهدته ، لا على طريق معقول فى إثبات الاستحالة ، ثم من لم يشاهده ويستيقنه ينبئ أن نفرة طبعه عن التصديق كان لعدم المشاهدة ، وفى مقدورات الله عجائب لم يطلع عليها بشر ، فلم يستحل أن يكون لإعادة تلك الأجسام وإعادة مزاجها سبب عند الله ينفرد بمعرفته. وإذا أعاده عادت النفس متصرفة فيه كما كان بزعمهم فى الحياة.

والعجب ممن يدعى الحذق فى المعقولات ، ثم يشاهد ما فى العالم من العجائب والآيات ، ثم تضيق حوصلته عن قبول ذلك فى قدرة الله ؛ وإذا نسب ما لم يشاهده إلى ما شاهده لم ير أعجب منه. نعم! لو قال القائل : هذا أمر لا يدل العقل على إحالته (١) ، ولكن لا يدل أيضا على جوازه ، بل يتوقف عن الحكم فيه ، ويجوز أن يكون ثم محيل لا يطلع عليه أو مجوز لا يطلع عليه ، فهذا أقرب من الأول ، ويلزم بحكمه تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أخبر عنه ، فإنه أخبر عما لا يستحيل فى العقل وجوده.

وعلى الجملة فقد اشتمل على أطوار الخلق ودرجاته قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا

__________________

(١) إحالته أى : استحالته.

الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ...) إلى قوله (... تُبْعَثُونَ) (١) فأطبق الخلق على التصديق بجملة المقدمات إلا البعث لأنهم شاهدوا جميع ذلك سوى البعث. ولو لم يشاهدوا قط موتا لأنكروا إمكان الموت ؛ ولو لم يشاهدوا خلق آدمى من نطفة لأنكروا إمكانه. فالبعث مع ما قبله فى ميزان العقل على وتيرة واحدة ، فلنصدق الأنبياء فيما جاءوا به ، فإنه لا يمتنع. وهذا كله كلام مع الفلاسفة النظار ، أما الباطنية المنكرون للنظر فلا يمكنهم التمسك بالنظر. نعم! لو قال الباطنى أخبرنى الإمام المعصوم أن البعث مستحيل فصدّقته. قيل له : وما الّذي دعاك إلى تصديق الإمام ، المعصوم بزعمك ، ولا معجزة له ، وصرفك عن تصديق محمد بن عبد الله مع المعجزات ، والقرآن من أوله إلى آخره دال على جواز ذلك ووقوعه؟ فهل لك من مانع سوى أن عصمته علمت بمعجزته ، وعصمة من يدعيه علمت بهذيانك وشهوتك؟! فإن قال : إن ما فى القرآن ظواهر هى رموز إلى بواطن لم يفهموها ، وقد فهمها الإمام المعصوم فتعلمنا منه. قلنا : تعلمتم منه بمشاهدة ذلك فى قلبه بالعين ، أو سماعا من لفظه ، ولا يمكن دعوى المشاهدة ، ولا بد من الاستناد إلى سماع لفظه؟ قلنا : وما يؤمنك أن لفظه له باطن لم تطّلع عليه فلا تثق بما فهمته من ظاهر لفظه؟ فإن زعمت أنه صرّح معك وقال : ما ذكرته هو ظاهر لا رمز فيه ، والمراد ظاهره ـ قلنا : وبم عرفت أن قوله هذا ـ وهو : أنه ظاهر لا رمز فيه ـ أيضا ظاهر وفيه رمز إلى ما لم تطلع عليه؟ فلا يزال يصرّح بلفظه. ونحن نقول : لسنا ممن يغتر بالظواهر ، فلعل تحته رمزا. وإن أنكر الباطن فنقول : تحت إنكاره رمز ؛ وإن حلف بالطلاق الثلاث على أنه ما قصد إلا الظاهر فنقول : فى طلاقه رمز ؛ وإنما هو مظهر شيئا ومضمر غيره. فإن قلت : فذلك يؤدى إلى حسم باب التفهيم ـ قلنا : فأنتم حسمتم باب التفهيم على الرسول ، فإن ثلثي القرآن فى وصف الجنة والنار ،

__________________

(١) (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٣ ـ ١٦].

والحشر والنشر مؤكد بالقسم والأيمان ، وأنتم تقولون : لعل تحت ذلك رمزا ، وأنتم تقولون : وأى فرق بين أن يطول فى تفهم الأمور التطويل الّذي عرف فى القرآن والأخبار وبين أن تقول : ما أريد إلا الظاهر؟ فإن جاز عليه أن يفهم الظاهر ويكون مراده غير ما علم قطعا أنه ما وصل إلى أفهام الخلق ويكون كاذبا فى جميع ما قال لأجل مصلحة وسر فيه جاز أن يكون إمامكم المعصوم بزعمكم يضمر معكم خلاف ما يظهره وضدّ ما يفهمه ونقيض ما يتيقن أنه الواصل إلى أفهامكم ، ويؤكد ذلك بالأيمان المغلظة لمصلحة له وسرّ فيه؟ وهذا لا جواب عنه أبد الدهر. وعند هذا ينبغى أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال ، إذ لا نجد فرقة ينقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه ، إذ مذهبها إبطال النظر وتغيير الألفاظ عن موضوعاتها بدعوى الرموز. وكل ما يتصور أن ينطلق به لسانهم إما نظر أو نقل. أما النظر فقد أبطلوه ، وأما اللفظ فقد جوز أن يراد باللفظ غير موضوعة فلا يبقى لهم معتصم. فإن قيل : فهذا ينقلب عليكم ، فأنتم تجوزون أيضا تأويل الظواهر ، كما أولتم آية الاستواء وخبر النزول وغيرهما ـ قلنا : ما أبعد هذا القلب (١)! فإن لنا معيار فى التأويل ، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك بشرط أن يكون اللفظ مناسبا له بطريق التجوز والاستعارة. فقد دل الدليل على بطلان الاستواء والنزول فإن ذلك من صفات الحوادث ، فحمل على الاستيلاء وهو مناسب للغة. وأما الحشر والنشر والجنة والنار فليس فى العقل دليل على إبطاله ، ولا مناسبة بين الألفاظ الواردة فيه وبين المعنى الّذي أولوه عليه حتى يقال إنه المراد ، بل التأويل فيه تكذيب محض. فأى مناسبة بين قوله : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية : ١٢ ـ ١٦] وقوله : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) ...) إلى قوله : (... لا مَقْطُوعَةٍ

__________________

(١) القلب : العكس ؛ رأسا على عقب.

وَلا مَمْنُوعَةٍ) وبين ما اعتقدوه من اتصال الجواهر الروحانية بالأمور الروحانية العقلية التى لا مدخل فيها للمحسوسات؟! فإن جاز أن يكذب صاحب المعجزة بهذه التأويلات التى لم تخطر قط ببال من سمعها ، فلم لا يجوز تكذيب معصومكم الّذي لا معجزة له بتأويله على أمور ليس تخطر ببالهم لمصلحة أو لمسيس حاجة؟ فإن غاية لفظه التصريح والقسم ، وهذه الألفاظ فى القرآن صريحة ومؤيدة بالقسم ، وزعموا أن ذلك ذكر لمصلحة ، والمراد غير ما سبق إلى الأفهام منها ، وهذا لا مخلص عنه.

الباب الخامس

فى إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم

بالأمور العددية وفيه فصلان

الفصل الأول

فى تأويلاتهم للظواهر

والقول الوجيز فيه أنهم لما عجزوا عن صرف الخلق عن القرآن والسنة صرفوهم عن المراد بهما إلى مخاريق (١) زخرفوها واستفادوا بما انتزعوه من نفوسهم من مقتضى الألفاظ إبطال معانى الشرع ، وبما زخرفوه من التأويلات تنفيذ انقيادهم للمبايعة والموالاة ، وأنهم لو صرحوا بالنفى المحض والتكذيب المجرد لم يحظوا بموالاة الموالين ، وكانوا أول المقصودين المقتولين.

ونحن نحكى من تأويلاتهم نبذة لنستدل بها على مخازيهم فقد قالوا : كل ما ورد من الظواهر فى التكاليف والحشر والنشر والأمور الإلهية فكلها أمثلة ورموز إلى بواطن ؛ أما الشرعيات ، فمعنى الجنابة عندهم مبادرة المستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة استحقاقه ، ومعنى الغسل : تجديد العهد على من فعل ذلك. ومجامعة البهيمة معناها عندهم معالجة من لا عهد عليه ولم يؤد شيئا من صدقة النجوى ، وهى مائة وتسعة عشر درهما عندهم ، فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به ، وإلا فالبهيمة متى وجب القتل عليها! والزنى هو إلقاء نطفة العلم الباطن فى نفس من لم يسبق معه عقد العهد (٢). (و) (٣) الاحتلام : هو أن يسبق لسانه

__________________

(١) مخاريق : أكاذيب ومفتريات. والتخرق لغة فى التخلق من الكذب (مختار الصحاح).

(٢) هو ما يعبر به عندهم بالنكاح الروحى.

(٣) الواو بين الأقواس ناقصة فى الأصل.

إلى إفشاء السر فى غير محله ، فعليه الغسل ، أى : تجديد المعاهدة. (و) الطهور هو التبرى والتنظف من اعتقاد كل مذهب سوى مبايعة الإمام. (و) الصيام : هو الإمساك عن كشف السر. (و) الكعبة هى النبي ، والباب على ؛ (و) الصفا : هو النبي ، والمروة : على ؛ والميقات : هو الأساس ؛ والتلبية : إجابة الداعى ؛ والطواف بالبيت سبعا هو الطواف بمحمد إلى تمام الأئمة السبعة ؛ والصلوات الخمس : أدلة على الأصول الأربعة وعلى الإمام ؛ فالفجر : دليل السابق ، والظهر : دليل التالى ، والعصر : للأساس ، والمغرب : دليل الناطق ، والعشاء : دليل الإمام. وكذلك زعموا أن المحرمات عبارة عن ذوى الشر من الرجال وقد تعبدنا باجتنابهم ، كما أن العبادات عبارة عن الأخيار الأبرار الذين أمرنا باتباعهم.

فأما المعاد فزعم بعضهم أن النار والأغلال عبارة عن الأوامر التى هى التكاليف فإنها موظفة على الجهال (١) بعلم البواطن ، فما داموا مستمرين عليها فهم معذبون ؛ فإذا نالوا علم الباطن وضعت عنهم أغلال التكاليف وسعدوا بالخلاص عنها. وأخذوا يؤولون كل لفظ ورد فى القرآن والسنة فقالوا : (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ) [محمد : ١٥] ـ أى معادن الدين : العلم الباطن يرتضع بها أهلها ويتغذى بها تغذيا تدوم به حياته اللطيفة ، فإن غذاء الروح اللطيفة بارتضاع العلم من المعلم كما أن حياة الجسم الكثيف بارتضاع اللبن من ثدى الأم ، (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) [محمد : ١٥] : هو العلم الظاهر ، و (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] هو علم الباطن المأخوذ من الحجج والأئمة.

أما المعجزات فقد أولوا جميعها وقالوا : الطوفان معناه طوفان العلم ، أغرق به المتمسكون بالسنة ؛ والسفينة : حرزه الّذي تحصن به من استجاب لدعوته ؛ ونار إبراهيم : عبارة عن غضب نمرود ، لا عن النار الحقيقية ؛ وذبح إسحاق (٢) : معناه

__________________

(١) مقابل العقال : وهذا مفهوم بعض مذاهب الباطنية (الدروز).

(٢) الأصح : إسماعيل.

أخذ العهد عليه ؛ (و) عصا موسى : حجته التى تلقفت ما كانوا يأفكون من الشبه ، لا الخشب ؛ (و) انفلاق البحر : افتراق علم موسى فيها على أقسام ؛ والبحر هو العالم ؛ والغمام الّذي أظلهم : معناه الإمام الّذي نصبه موسى لإرشادهم وإفاضة العلم عليهم ، (و) الجراد والقمل والضفادع : هى سؤالات موسى وإلزاماته التى سلطت عليهم ؛ والمن والسلوى : علم نزل من السماء لداع من الدعاة هو المراد بالسلوى ؛ (و) تسبيح الجبال : معناه تسبيح رجال شداد فى الدين راسخين فى اليقين ، (و) الجن الّذي ملكهم سليمان بن داود : باطنية ذلك الزمان ، والشياطين هم الظاهرية الذين كلفوا بالأعمال الشاقة ؛ (و) عيسى : له أب من حيث الظاهر ، وإنما أراد بالأب : الإمام ، إذ لم يكن له إمام ، بل استفاد العلم من الله بغير واسطة ، وزعموا ـ لعنهم الله! ـ أن أباه يوسف النجار (١) ؛ (و) كلامه فى المهد : اطلاعه فى مهد القالب قبل التخلص منه على ما يطلع عليه غيره بعد الوفاة والخلاص من القالب ؛ (و) إحياء الموتى من عيسى معناه الإحياء بحياة العلم عن موت الجهل بالباطن ؛ وإبراؤه الأعمى : معناه عن عمى الضلال وبرص الكفر ببصيرة الحق المبين ؛ (و) إبليس وآدم : عبارة عن أبى بكر وعلى ، إذ أمر أبو بكر بالسجود لعلى والطاعة له فأبى واستكبر ، (و) الدجال زعموا أنه أبو بكر ، وكان أعور إذ لم يبصر إلا بعين الظاهر دون عين الباطن ؛ ويأجوج ومأجوج : هم أهل الظاهر.

هذا من هذيانهم فى التأويلات حكيناها ليضحك منها ؛ ونعوذ بالله من صرعة الغافل وكبوة الجاهل ؛ ولسنا نسلك فى الرد عليهم إلا بمسالك ثلاثة : إبطال ، ومعارضة ، وتحقيق.

أما الإبطال فهو أن يقال : بم عرفتم أن المراد من هذه الألفاظ ما ذكرتم؟ فإن أخذتموه من نظر العقل فهو عندكم باطل ؛ وإن سمعتموه من لفظ الإمام المعصوم

__________________

(١) يوسف النجار : خطيب مريم ؛ وهم فى قولهم هذا يوافقون اليهود بدعواهم الزنى على مريم عليها‌السلام (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ).

فلفظه ليس بأشد تصريحا من هذه الألفاظ التى أولتموها. فلعل أمر آخر أشد بطونا من الباطن الّذي ذكرتموه ؛ ولكنه جاوز الظاهر بدرجة فزعم أن المراد بالجبال : الرجال ـ فما المراد بالرجال؟ لعل المراد به أمر آخر. والمراد بالشياطين أهل الظاهر فما أهل الظاهر؟ والمراد باللبن العلم ـ فما معنى العلم؟ فإن قلت : العلم والرجال وأهل الظاهر صريحة فى مقتضياتها بوضع اللغة إن كنت ناظرا بالعين العوراء إلى أحد الجانبين ، فأنت المراد إذا بالدجال فإنه أعور لأنك أبصرت بإحدى العينين فإن الرجال ظاهر ؛ وعميت بالعين الأخرى الناظرة إلى الجبال وإنها أيضا ظاهر. فإن قلت : يمكن أن يكنى بالجبال عن الرجال ـ قلنا : ويمكن أن يكنى بالرجال عن غيرهم كما عبر الشاعر بالرجلين اللذين أحدهما خياط والآخر نساج عن أمور فلكية وأسباب علوية ، فقال :

رجلان : خياط وآخر حائك

متقابلان على السّماك الأعزل

لا زال ينسج ذاك خرقة مدبر

ويخيط صاحبه ثياب المقبل

وهكذا فى كل فن ؛ وإذا نزل تسبيح الجبال على تسبيح الرجال فلينزل معنى الرجال فى قوله تعالى (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧] على الجبال فإن المناسبة قائمة من الجانبين ؛ ثم إذا نزل الجبال على الرجال ونزل الرجال أيضا على غيره أمكن تنزيل ذلك الباطن الثالث على رابع وتسلسل إلى حد يبطل التفاهم والتفهيم ، ولا يمكن التحكم بأن الحائز الرتبة الثانية دون الثالثة أو الثالثة دون الرابعة.

(المسلك الثانى) معارضة الفاسد بالفاسد ، وهو أن يتناول جميع الأخبار على نقيض مذهبهم ، مثلا يقال : قوله (١) : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة» ، أى لا

__________________

(١) قوله : صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رواه أحمد والترمذي وابن حبان وصيغته المشهورة : «إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو صورة».

يدخل العقل دماغا فيه التصديق بالمعصوم ؛ وقوله : «إذا ولغ الكلب فى إناء أحدكم فليغسله سبعا» (١) ـ أى إذا نكح الباطنى بنت أحدكم فليغسلها عن درن الصحبة بماء العلم وصفاء العمل بعد أن يعفرها بتراب الإذلال ؛ أو يقول قائل : النكاح لا ينعقد بغير شهود وولى. وأما قوله : كل نكاح لا يحضره أربعة فهو سفاح ـ معناه : أن كل اعتقاد لم يشهد له الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلى فهو باطل. وقوله : لا نكاح إلا بولى وشاهدى عدل ، أى لا وقاع إلا بذكر وأنثيين ـ إلى غير ذلك من الترهات.

والمقصود من ذكر هذا القدر معارضة الفاسد بالفاسد ، وتعريف الطريق فى فتح هذا الباب ، حتى إذا اهتديت إليه لم تعجز عن تنزيل كل لفظة من كتاب أو سنة على نقيض معتقدهم. فإن زعموا أنكم أنزلتم الصورة على المعصوم فى قوله : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة» ـ فأى مناسبة بينهما؟ قلت : وأنتم نزلتم الثعبان على البرهان ، والأب ـ فى حق عيسى ـ على الإمام ، واللبن على العلم فى أنهار اللبن فى الجنة ، والجن على الباطنية ، والشياطين على الظاهرية ، والجبال على الرجال ، ـ فما المناسبة؟ فإن قلت : البرهان يقضم الشبه كما يقضم الثعبان غيره ، والإمام يفيد الوجود العلمى كما يفيد الأب الوجود الشخصى ، واللبن يغذى الشخص كما يغذى العلم الروح ، والجن باطن كالباطنية ـ فيقال لهم : فإذا اكتفيتم بهذا القدر من المشاركة ، فلم يخلق الله شيئين إلا وبينهما مشاركة فى وصف ما ؛ فإنا نزلنا الصورة على الإمام لأن الصورة مثال لا روح فيها ، كما أن الإمام عندكم معصوم ولا معجزة له ؛ والدماغ مسكن العقل كما أن البيت مسكن العاقل ؛ والملك شيء روحانى ، كما أن العقل كذلك. فثبت أن المراد بقوله : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة» (٢) ، معناه : لا يدخل العقل دماغا فيه اعتقاد عصمة الإمام. ـ فإذا عرفت

__________________

(١) متفق عليه.

(٢) رواه السبعة.

هذا ، فخذ كل لفظ ذكروه ، وخذ ما تريده ، واطلب منهما المشاركة بوجه ما ، وتأوله عليه فيكون دليلا بموجب قولهم كما عرّفتك فى المناسبة بين الملك والعقل ، والدماغ والبيت ، والصورة والإمام. وإذا انفتح لك الباب اطلعت على وجه حيلهم فى التلبيس بنزع موجبات الألفاظ وتقدير الهوسات بدلا عنها ، للتوصل إلى إبطال الشرع. وهذا القدر كاف فى إبطال تأويلهم.

(المسلك الثالث) وهو التحقيق : أن تقول : هذه البواطن والتأويلات التى ذكرتموها ، لو سامحناكم أنها صحيحة فما حكمها فى الشرع؟ أيجب إخفاؤها ، أم يجب إفشاؤها؟ فإن قلتم : يجب إفشاؤها إلى كل أحد ـ قلنا : فلم كتمها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يذكر شيئا من ذلك للصحابة ولعامة الخلق حتى درج ذلك العصر ولم يكن لأحد من هذا الجنس خبر؟ وكيف استجاز كتمان دين الله ، وقد قال تعالى : (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] ـ تنبيها على أن الدين لا يحل كتمانه ، وإن زعموا أنه يجب إخفاؤه فنقول : ما أوجب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إخفاؤه من سر الدين ، كيف حل لكم إفشاؤه؟ والجناية فى السر بالإفشاء ممن اطلع عليه من أعظم الجنايات. فلو لا أن صاحب الشرع عرف سرا عظيما ومصلحة كلية فى إخفاء هذه الأسرار لما أخفاها ولما كرر هذه الظواهر على أسماع الخلق ولما تكررت فى كلمات القرآن صفة الجنة والنار بألفاظ صريحة مع علمه بأن الناس يفهمون منه خلاف الباطن الّذي هو حق ، ويعتقدون هذه الظواهر التى لا حقيقة لها. فإن نسبتموه إلى الجهل بما فهمه الخلق منه فهو نسبة إلى الجهل بمعنى الكلام ، إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم قطعا أن الخلق لا يفهمون من قوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ) [الواقعة : ٣٠ ـ ٣٢] إلا المفهوم منه فى اللغة ـ فكذا سائر الألفاظ ؛ ثم مع علمه بذلك كان يؤكده عليهم بالتكرير والقسم ، ولم يفش إليهم الباطن الّذي ذكرتموه لعلمه بأنه سرّ الله المكتوم ، فلم أفشيتم هذا السر وخرقتم هذا الحجاب؟ وهل هذا إلا خروج عن الدين ومخالفة لصاحب الشرع ، وهدم لجميع ما أسسه؟! إن سلم لكم جدلا أن ما ذكرتموه من الباطن حق عند الله ـ وهذا لا

مخرج لهم عنه. فإن قيل : هذا سر لا يجوز إفشاؤه إلى عوام الخلق فلهذا لم يفشه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن حق النبي أن يفشيه إلى سوسه الّذي هو وصيه وخليفته من بعده ؛ وقد أفشاه إلى عليّ دون غيره ـ قلنا : وعليّ هل أفشاه إلى غير سوسه وخليفته ، أم لا؟ فإن لم يفشه إلّا إلى سوسه ، وكذا سوس سوسه وخليفة خليفته إلى الآن ـ فكيف انتهى إلى هؤلاء الجهّال من العوام حتى تناطقوا به وشحنت التصانيف بحكايته ، وتداولته الألسنة؟ فلا بد أن يقال : إن واحدا من الخلفاء عصى وأفشى السر إلى غير أهله فانتشر ، وعندهم أنهم معصومون لا يتصور عليهم العصيان؟ فإن قيل : السوس لا يذكره إلا مع من تعاهده عليه ـ قلنا : وما الّذي منع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن يعاهد ويذكره إن كان يجوز إفشاؤه مع العهد؟ فإن قيل : لعله عاهد وذكر ، ولكن لم ينقل لأجل العهد الّذي أخذ ممن أفشى إليه. قلنا : ولم انتشر ذلك فيكم وأئمتكم لا يظهرون ذلك إلّا مع من أخذ العهد عليه؟ وما الّذي عصم عهد أولئك دون عهد هؤلاء؟ ثم يقال : إذا جاز إفشاء هذا السر بالعهد فالعهد يتصور نقضه ، فهل يتصور أن يفشيه إلى من يعلم الإمام المعصوم أنه لا ينقضه ، أو يكفى أن يظنه بفراسته واجتهاده واستدلاله بالأمارات؟ فإن قلتم : لا يجوز إلا إلى من علم الإمام المعصوم أنه لا ينقضه بتعريف من جهة الله ، فكيف انتشرت هذه الأسرار إلى كافة الخلق ، ولم تنتشر إلا ممن سمع؟ فإما أن يكون المبلغ ناقضا للعهد ، أو لم يعاهد أصلا. وفى أحدهما نسبة المعصوم إلى الجهل ، وفى الآخر نسبته إلى المعصية ، ولا سبيل إلى واحد منهما عندهم.

وإن زعمتم أنه يحل الإفشاء بالعهد عند شهادة الفراسة فى المأخوذ عليه عهده أنه لا ينقضه استدلالا بالأمارات ففى هذا نقض أصل مذهبهم ، لأنهم زعموا أنه لا يجوز اتباع أدلة العقل ونظره ، لأن العقلاء مختلفون فى النظر ، ففيه خطر الخطأ ـ فكيف حكموا بالفراسة والأمارة التى الخطأ أغلب عليها من الصواب ، وفى ذلك إفشاء سر الدين هو أعظم الأشياء خطرا؟

وقد منعوا التمسك بالظن والاجتهاد فى الفقهيات التى هى حكم بين الخلق على

سبيل التوسط فى الخصومات ، ثم ردوا إفشاء سرّ الدين إلى الخيالات والفراسات وهذا مسلك متين يتفطن له الذكى ، ويتبجح (١) به المشتغل بعلوم الشرع ، إذ يتيقن قطعا أن القائل قائلان : قائل يقول لا باطن لهذه الظواهر ولا تأويل لها ، فالتأويل باطل قطعا ؛ وقائل ينقدح له أن ذلك يمكن أن يكون كنايات عن بواطن ، لم يأذن الله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يصرح بالبواطن ، بل ألزمه النطق بالظواهر ، فصار النطق بالباطن حراما باطلا وفجورا محظورا ومراغمة (٢) لواضع الشرع.

وهذه التأسيسية بالاتفاق فليس أهل عصرنا ـ مع بعد العهد بصاحب الشرع وانتشار الفساد واستيلاء الشهوات على الخلق وإعراض الكافة عن أمور الدين ـ أطوع للحق ولا أقبل للسر ولا آمن عليه ولا أحرى بفهمه والانتفاع به من أهل عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه الأسرار والتأويلات إن كان لها حقيقة فقد أقفل أسماعهم عنها وألجم أفواه الناطقين عن اللهج بها ، ولنا فى رسول الله أسوة حسنة فى قوله وفعله ، فلا نقول إلا ما قال ولا نظهر إلا ما يظهر ، ونسكت عما سكت عنه ؛ وفى الأفعال نحافظ على العبادات ، بل على التهجد والنوافل وأنواع المجاهدات ، ونعلم أن ما لم يستغن عنه صاحب الشرع فنحن لا نستغنى عنه ولا ننخدع بقول الحمقى : إن نفوسنا إذا صفت بعلم الباطن استغنينا عن الأعمال الظاهرة ، بل نستهزئ بهذا القائل المغرور ونقول له : يا مسكين! أتعتقد أن نفسك أصفى وأزكى من نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كان يقوم ليلا يصلى حتى تنتفخ (٣) قدماه ، أو يعتقد أنه كان يتنمس (٤) به على عائشة ليخيل إليها أن الدين حق ، وقد كان عالما ببطلانه؟ فإن اعتقدت الأول فما أحمقك ولا نزيدك عليه ، وإن اعتقدت الثانى فما أكفرك وأجحدك!! ولسنا نناظرك عليه ، لكنا نقول : إذا أخذنا بأسوإ الأحوال ، وقصرت

__________________

(١) يتبجح : (بجحه فتبجح) أى : فرحه ففرح.

(٢) مرغمة ؛ راغم فلانا : هجره وعاداه (مختار الصحاح).

(٣) وفى الحديث : تتورم.

(٤) يتنمس ؛ من تنمس الصائد : اتخذ بيتا يستتر فيه للصيد ، والمعنى المقصود هنا : يلبس ويدلس.

أدلة عقولنا مثلا عن درك ضلالك وجهلك وعن الإحاطة بصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنا نرى بدائه عقولنا تقضى بأن الخسران فى زمرة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وموافقته والقناعة بما رضى هو لنفسه ، أولى من الفوز معك أيها المخذول الجاهل ، بل المعتوه المخبل. فلينظر الآن المنصف فى آخر هذا وأوله ، فآخره يقنع العوام بل العجائز ، وأوله يفيد البرهان الحقيقى لكل محقق آنس بعلوم الشرع ؛ وناهيك بكلام ينتفع به كافة الخلق على اختلاف طبقاتهم فى العلم والجهل.

الفصل الثانى

فى استدلالهم بالأعداد والحروف

هذا فن من الجهالة اختصت به هذه الفرقة من بين الفرق فإن طوائف الضلال مع انشعاب كلامهم وانتشار طرقهم فى نظم الشبهات لم تتطلخ طائفة منهم بهذا الجنس واستركوها (١) وعلم عوامهم وجهالهم بالضرورة بطلانها فاجتووها (٢) وتشبث بها هؤلاء ، ولا غرو فالغريق بكل شيء يتمسك ، والغبى بكل إيهام يتزلزل ويتشكك ونحن نذكر شيئا يسيرا منه ، ليشكر الناظر فيه ربه على سلامة العقل واعتدال المزاج وصحة الفطرة ، فإن الانخداع بمثل ذلك لا ينبعث إلّا من العته والخبل فى العقل.

فقد قالوا إن الثقب على رأس الآدمى سبعة ، والسموات سبعة. والأرضون سبع ، والنجوم سبعة ، أعنى السيارة ، وأيام الأسبوع سبعة. فهذا يدل على أن دور الأئمة يتم بسبعة.

وزعموا أن الطبائع أربع ، وأن فصول السنة أربعة ، فهذا يدل على الأصول الأربعة ، وهى : السابق والتالى الإلاهان ، والناطق والأساس الإمامان.

وزعموا أن البروج اثنا عشر ، فتدل على الحجج الاثنى عشر كما نقلناه فى مذهبهم. وربما استثاروا من شكل الحيوانات دلالات فقالوا : الآدمى على شكل حروف محمد ، فإن رأسه مثل «ميم» ، ويداه مبسوطتان «كالحاء» وعجزه «كالميم» ورجلاه «كالدال» ، وبهذا الجنس يتكلمون على شكل الطيور والبهائم ، وربما تأولوا من الحروف وأعدادها ، فقالوا : قد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها.

__________________

(١) استركوها : استضعفوها ؛ وجدوها ركيكة.

(٢) اجتووها : كرهوها.

قيل : وما حقها؟ قال : معرفة حدودها» (١) وزعموا أن حدودها معرفة أسرار حروفها وهى أن : «لا إله إلا الله» ـ أربع كلمات وسبعة فصول ، وهى : قطع لا إله إلا الله ، وثلاثة جواهر ، فإن «لا» حرف ، يبقى إله وإلا والله ـ فهى ثلاثة جواهر ، والجملة اثنا عشر حرفا.

وزعموا أن الكلمات الأربع دالة على المدبرين العلويين : السابق والتالى ، والمدبرين السفليين : الناطق والأساس ، هذه دلالته على الروحانيات ، فأما على الجسمانيات فإنها الطبائع الأربع ، وأما الجواهر الثلاثة فدالة على جبريل وميكائيل وإسرافيل من الروحانيات ؛ ومن الجسمانيات على : الطول والعرض والعمق ، إذ بها ترى الأجسام ؛ والفصول السبعة تدل من الروحانيات على الأنبياء السبعة ، ومن الجسمانيات على الكواكب السبعة ، لأنه لو لا الأنبياء السبعة لما اختلفت الشرائع ، كما أنه لو لا الكواكب السبعة لما اختلفت الأزمنة ، والحروف الاثنا عشر تدل على الحجج الاثنى عشر ؛ وفى الجسمانيات على البروج الاثنى عشر ؛ وهكذا تصرفوا فى قول محمد رسول الله وفى الحروف وفى أوائل السور ، وأبرزوا ضروبا من الحماقات تضحك المجانين فضلا عن العقلاء. وناهيك خزيا بطائفة هذا منهج استدلالهم! ولسنا نكثر حكاية هذا الجنس عنهم ، اكتفاء بهذا القدر فى تعريف مخازيهم. وهذا فن يعرف بضرورة العقل بطلانه ، فلا يحتاج إلى إبطاله ، إلا أنا نعلمك فى إفحام الغبى والمعاند منهم مسلكين : مطالبة ، ومعارضة.

أما المطالبة فهو أن يقال : ومن أين عرفتم هذه الدلالات؟ ولو حكم الإنسان بها لحكم على نفسه بأنه من سوء مزاجه : أثار عليه الأخلاط فأورث أضغاث الأحلام ، وقد أضلكم الله إلى هذا الحد ـ حتى لم يستحيوا منها ـ أعرفتم صحتها بضرورة

__________________

(١) حديث متواتر وأصل من أصول الإسلام وقاعدة ؛ رواه أبو هريرة ؛ ورد فى صحيحى البخارى ومسلم كما رواه أبو داود والترمذي والنسائى وابن ماجه فى سننهم. والرواية المشهورة هى : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؛ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله».

العقل أو نظر أو سماع من إمامكم المعصوم؟ فإن ادعيتم الضرورة باهتم (١) عقولكم واخترعتم ثم لم تسلموا من معارض يدعى أنه عرف بالضرورة بطلانه ، ثم يكون مقامه من تعارض الحق بالفاسد مقام من يعارض الفاسد بالفاسد ، وإن عرفتم بنظر العقل فنظر العقل عندكم باطل لاختلاف العقلاء فى نظرهم. وإن صدقتم به فأفيدونا وجه النظر وسياقه وما به الاستدلال على هذه الحماقات. وإن عرفتم ذلك من قول الإمام المعصوم فبينوا أن الناقل عنه معصوم ، أو بلغ الناقلون عنه حد التواتر ، ثم صححوا أن الإمام المعصوم لا يخطئ ؛ ثم بينوا أنه يستحيل أن يفهم ما يعرف بطلانه ، فلعله خدعكم بهذه الحماقات وهو يعلم بطلانها كما زعمتم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خدع الخلق بصفة الجنة والنار ، وبما يحكى عن الأنبياء من إحياء الموتى وقلب العصا ثعبانا ، وقد كذب فى جميعها وذكرها مع علمه بأنها لم يكن منها شيء ، وأن الناس يفهمون منها على القطع ظواهرها ، وأنه كان يقصد تفهيم الظواهر ويعلم أنهم يفهمون ما يفهمهم من الظواهر ، وهو خلاف الحق ، ولكن رأى فيه مصلحة ؛ فلعل إمامكم المعصوم رأى من المصلحة أن يستهزئ بعقولكم ويضحك من أذقانكم ، فألقى إليكم هذه الترهات إظهارا لغاية الاستيلاء عليكم والاستعباد لكم ، وافتخارا بغاية الدهاء والكياسة فى التلبيس عليكم. فليت شعرى بما ذا أمنتم الكذب عليه لمصلحة رآها وقد صرحتم بذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهل بينهما فرق؟ إلا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤيد بالمعجزة الدالة على صدقه ، والّذي إليه استروا حكم لا معجزة له سوى حماقتكم؟ هذا سبيل المطالبة.

وأما المعارضة فلسنا نقصد لتعيين الصور ، ولكن نعلمك طريقا يعم كلّ ما فى العالم من الأشكال والحروف. فإن كل موجود فهو من الواحد إلى العشرة فما

__________________

(١) باهتم : بهته : أخذه بغتة ، وبابه قطع ؛ ومنه قوله تعالى : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) ، وبهته أيضا : قال عليه ما لم يفعله ، فهو (مبهوت) وبابه قطع ، و(بهتا) أيضا بفتح (الهاء) و(بهتانا) فهو (بهّات) بالتشديد والآخر (مبهوت). و(بهت) بوزن علم أى دهش وتحير و(بهت) بوزن ظرف مثله. وأفصح منهما (بهت) كما قال الله تعالى : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) (مختار الصحاح).

فوقها لا محالة. فمهما رأيت شيئا واحدا. فاستدل به على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وإذا رأيت اثنين فقل هو دلالة على الشيخين : أبى بكر وعمر ؛ وإن كان ثلاثة فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر ؛ وإن كان أربعة فالخلفاء الأربعة ، وإن كان خمسة فعلى محمد مع الخلفاء الأربعة. وقل : أما تعرفون السر أن الثقب على رأس الآدمى خمس. ما هو؟ الواحد وهو الفم يدل على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه واحد ؛ والعينان والمنخران على الخلفاء الأربعة. ونقول : أما تعرفون السر فى اسم محمد وأنه أربعة حروف ما هو؟ فإذا قالوا : لا! فنقول : هو السر الّذي لا يطلع عليه إلا ملك مقرب ، فإنه يبنيه على أن اسم خليفته أربعة حروف وهو : عتيق (١) ، دون عليّ الّذي اسمه ثلاثة أحرف ، فإذا وجبت سبعة فاستدل به على سبعة من خلفاء بنى أمية مبالغة فى إرغامهم وإجلالا لبنى العباس عن المعارضة بهم ؛ وقل : عدد السموات السبع والنجوم والأسبوع دال على معاوية ويزيد ثم مروان ثم عبد الملك ثم الوليد ثم عمر ابن عبد العزيز ثم هشام ثم السابع المنتظر وهو الّذي يقال له السفيانى وهو قول الأموية من الإمامية ؛ أو قابلهم بمذهب الراوندية (٢) وقل إنه يدل على العباس ثم عبد الله ابن العباس ، ثم على بن عبد الله ، ثم محمد بن على ، ثم إبراهيم (٣) ، ثم أبو العباس السفاح ثم المنصور. وكذلك ما تجده من عشرة أو اثنى عشر فعد من خلفاء بنى العباس بعددهم ثم انظر هل تجد بين الكلامين فصلا؟ وبه يتبين فساد كلامهم وافتضاحهم وإلزامهم باستدلالهم. وهذا الجنس من الكلام لا يليق بالمحصل فيه الإكثار منه فلنعدل عنه إلى غيره (٤).

__________________

(١) عتيق : لقب أبى بكر رضى الله عنه وليس اسمه ، وقيل : اسمه ؛ وقيل اسمه : عبد الكعبة ـ أيضا ـ ؛ وهذا قبل الإسلام. ولقد سماه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باسم عبد الله ؛ ولكن غلبت عليه الكنية.

(٢) الراوندية : نسبة إلى أحمد بن يحيى بن إسحاق ، أبو الحسين الراوندى ؛ ونسبته إلى راوند من قرى أصبهان كان مجاهرا بالإلحاد ، وأحد مشاهير الزنادقة. تكلم فيه العسقلانى وابن الجوزى وابن خلكان وأبو العلاء المعرى. صلب ببغداد سنة ٢٩٨ ه‍.

(٣) إبراهيم بن محمد بن على.

(٤) هذه المجاراة لهم فى اعتدادهم بالأعداد لم يقصد بها الإمام الغزالى الحقيقة ، بل استخفافا منه بهم ، وهزءا لهم.

الباب السادس

فى الكشف عن تلبيساتهم التى زوقوها بزعمهم فى

معرض البرهان على إبطال النظر العقلى وإثبات

وجوب التعلم من الإمام المعصوم

وطريقنا أن نرتب شبههم على أقصى الإمكان ثم نكشف عن مكمن التلبيس فيها ، وآخر دعواهم أن العارف بحقائق الأشياء هو المتصدى للإمامة بمصر (١) ، وأنه يجب على كافة الخلق طاعته والتعلم منه لينالوا به سعادة الدنيا والآخرة. ودليلهم عليه قولهم : إن كل ما يتصور الخبر عنه بنفى وإثبات ففيه حق وباطل ؛ والحق واحد ، والباطل ما يقابله ، إذ ليس الكل حقا ، ولا الكل باطلا. فهذه مقدمة ، ثم تمييز الحق عن الباطل لا بدّ منه فهو أمر واجب لا يستغنى عنه أحد فى صلاح دينه ودنياه. فهذه مقدمة ثانية ، ثم درك الحق لا يخلو إما أن يعرفه الإنسان بنفسه من عقله بنظره دون تعلم ، أو يعرفه من غيره بتعلم. فهذه مقدمة ثالثة ، وإذا بطلت معرفته بطريق الاستقلال بالنظر وتحكيم العقول فيه وجب التعلم من الغير ضرورة ، ثم المعلم إما أن يشترط كونه معصوما من الخطأ والزلل مخصوصا بهذه الخاصية ، وإما أن يجوز التعلم من كل أحد. وإذا بطل التعلم من كل أحد ـ أى واحد كان ـ لكثرة القائلين المعلمين وتعارض أقوالهم ؛ ثبت وجوب التعلم من شخص مخصوص بالعصمة من سائر الناس ، ـ فهذه مقدمة رابعة. ـ ثم العالم لا يخلو : إما أن يجوز خلوه من ذلك المعصوم ، أو يستحيل خلوه ، وباطل تجويز خلوه من ذلك المعصوم ، أو يستحيل خلوه ، وباطل تجويز خلوه ، لأنه إذا ثبت أنه مدرك الحق ففى إخلاء العالم عنه تغطية الحق وحسم السبيل عن إدراكه ، وفيه فساد أمور الخلق فى الدين والدنيا ، وهو عين الظلم المناقض للحكمة ، فلا يجوز ذلك من الله

__________________

(١) يقصد الإمامة الفاطمية ؛ وأشهرهم على الإطلاق الحاكم بأمر الله ؛ وهو الّذي عناه الإمام الغزالى.

سبحانه ، وهو الحكيم المقدس عن الظلم والقبائح ، فهذه مقدمة خامسة. ـ ثم ذلك المعصوم الّذي لا بدّ من وجوده فى العالم لا يخلو : إما أن يحل له أن يخفى نفسه فلا يظهر ولا يدعو الخلق إلى الحق ، أو يجب عليه التصريح. وباطل أن يحلّ له الإخفاء ، فإنه كتمان للحق ، وهو ظلم يناقض العصمة ، فهذه مقدمة سادسة. ـ وقد ثبت أن فى العالم معصوما مصرحا بهذه الدعوى ، وبقى النظر فى تعيينه. فإن كان فى العالم مدعيان التبس علينا تمييز المحق عن المبطل ؛ وإن لم يكن إلا مدع واحد فى محل الالتباس كان ذلك هو المعصوم قطعيا ولم يفتقر إلى دليل ومعجزة. ويكون مثاله : ما إذا علم أن فى بيت فى الدار رجلا هو عالم ثم رأينا فى بيت رجلا ، فإن كان فى الدار بيت آخر بقى لنا شك فى الّذي رأيناه أنه ذلك العالم أو غيره ، فإن عرفنا أنه لا بيت فى الدار سوى هذا البيت علمنا ضرورة أنه العالم. فكذلك القول فى الإمام المعصوم ، فهذه مقدمة سابعة. ـ وقد علم قطعا أنه لا أحد فى عالم الله يدعى أنه الإمام الحق والعارف بأسرار الله فى جميع المشكلات ، النائب عن رسول الله فى جميع المعقولات والمشروعات ، العالم بالتنزيل والتأويل علما قطعيا لا ظنيا ، إلا المتصدى للأمر بمصر. فهذه مقدمة ثامنة.

فإذا هو الإمام المعصوم الّذي يجب على كافة الخلق تعلم حقائق الحق وتعرف معانى الشرع منه ، وهى النتيجة التى كنا نطلبها.

وعند هذا يقولون : إن من لطف الله وصنعه مع الخلق ألا يترك أحدا فى الخلق يدعى العصمة سوى الإمام الحق ؛ إذ لو ظهر مدّع آخر لعسر تمييز المحق عن المبطل وضل الخلق فيه. فمن هذا لا نرى قطّ للإمام خصما ، بل نرى له منكرا ؛ كما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن له خصم قط ، والخصم هو الّذي يقول : لست أنت نبيا وإنما أنا النبي ، والمنكر هو الّذي لا يدعى لنفسه ، وإنما ينكر نبوته ، فهكذا يكون أمر الإمام.

قالوا : وأما بنو العباس ـ وإن لم ينفك الزمان عن معارضتهم ـ فلم يكن فيهم من يدعى لنفسه العصمة والاطلاع من جهة الله تعالى على حقائق الأمور وأسرار الشرع

والاستغناء عن النظر والاجتهاد بالظن ، فهذه الخاصية هى المطلوبة ، وقد تفرد بهذه الدعوى عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذريته ؛ وصرف الله دواعى الخلق عن معارضتهم فى الدعوى لمثلها ليستقر الحق فى نصابه وينجلى الشك عن قلوب المؤمنين رحمة من الله ولطفا ، حتى إن فرض شخص يدعى لنفسه ذلك فلا يذكره إلا فى معرض هزل أو مجادلة. فأما أن يستمر عليه معتقدا أو يعمل بموجبه ، فلا.

وهذه مقدمات واضحة ، لم نهمل من جملتها إلا الدليل على إبطال نظر العقل ، حيث قلنا : الحق إما أن يعرفه الإنسان بنفسه من عقله ، أو يتعلمه من غيره. ونحن الآن ندل على بطلان العقل بأدلة عقلية وشرعية وهى خمسة :

أما (الأول) وهى دلالة عقلية : أن من يتبع موجب العقل ويصدقه ففى تصديقه تكذيبه وهو غافل عنه ، لأنه ما من مسئلة نظرية يعتقدها بنظره العقلى إلا وله فيها خصم اعتقد بنظر العقل نقيضها. فإن كان العقل حاكما صادقا ، فقد صدق عقل خصمك أيضا. فإن قلت : لم يصدق خصمى ؛ فقد تناقض كلامك ، إذ صدقت عقلا وكذبت مثله. فإن قلت : صدق خصمى فخصمك يقول : أنت كاذب مبطل. وإن زعمت أنه لا عقل لخصمى وإنما العقل لى ـ فهذه أيضا دعوى خصمك. فبما ذا تتميز عنه : أبطول اللحية ، أم ببياض الوجه ، أم بكثرة السعل (١) ، أو الحدة فى الدعاء!؟ وعند هذا يطلقون لسان الاستهزاء والاستخفاف ، معتقدين أن لهم بكلامهم اليد البيضاء التى لا جواب عنها.

(الدلالة الثانية): قولهم إذا حاكم مسترشد تشكك فى مسألة شرعية أو عقلية ؛ وزعم أنه عاجز عن معرفة دليلها ـ فما ذا تقولون له : أفتحيلونه على عقله ـ ولعله العامىّ الجلف الّذي لا يعرف أدلّة العقول؟ أو هو الذكى الّذي ضرب سهام الرأى على حسب إمكانه فلم تنكشف له المسألة وبقى متشككا؟ أفتردونه إلى عقله الّذي هو معترف بقصوره؟ وهذا محال أو تقولون له تعلم طريق النظر ودليل المسألة

__________________

(١) السّعل : السّعال ، بحركة مصطنعة.

منى ، فإن قلتم ذلك فقد ناقضتم قولكم بإبطال التعليم ، إذ أمرتم بالتعليم وجعلتم التعليم طريقا ، وهو مذهبنا ؛ إلا أنكم أبيتم لأنفسكم منصب التعليم ، ولم تستحيوا من خصمكم المعارض لكم المماثل فى عقله لعقلكم ، إن هذا المتعلم يقول : قد دعانى إلى التعلم منه خصمك ، وقد تحيرت فى تعيين المعلم أيضا ، وليس يدعى واحد منكم العصمة لنفسه ، ولا له معجزة تميزه ، ولا هو منفرد بأمر يفارق به غيره ؛ فلا أدرى : أتبع الفلسفى ، أو الأشعرى أو المعتزلى؟ وأقاويلهم متعارضة ، وعقولهم متماثلة ؛ ولست أجد فى نفسى الترجيح بطول اللحية وببياض الوجوه ؛ ولا أرى افتراقا إلا فيه إن اتفق ، فأما العقل والدعوى واغترار كل بنفسه فى أنه المحق وصاحبه المبطل كاغترار صاحبه ؛ فما أشد تناقض هذا الكلام عند من يعرفه!

(الدلالة الثالثة) قولهم : الوحدة دليل الحق ، والكثرة دليل الباطل. فإنا إذا قلنا : كم الخمسة مع الخمسة؟ فالحق واحد وهو أن يقال : عشرة ، والباطل كثير لا حصر له وهو كل ما سوى العشرة مما فوقها أو تحتها. والوحدة لازمة مذهب التعليم ، فإنه اجتمع ألف ألف على هذا الاعتقاد ، واتحدت كلمتهم ولم يتصور بينهم اختلاف. وأهل الرأى لا يزال الاختلاف والكثرة تلازمهم. فدل أن الحق فى الفرقة التى تلازم الوحدة كلمتها ؛ وعليه دل قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

(الدلالة الرابعة) : قولهم : الناظر إن كان لا يدرك المماثلة بين نفسه وبين خصمه فيحسن الظن بنفسه ويسىء بخصمه ، فلا غرو فإن هذا الغرور مما يستولى على الخلق ، وهو شغفهم بآرائهم وجودة عقولهم ، وإن كان ذلك من أدلة الحماقة. وإنما العجب أنه لا يدرك المماثلة بين حالتيه ، وكم رأى نفسه فى حالة واحدة وقد تحولت حالته فاعتقد الشيء مدة وحكم بأنه الحق الّذي يوجبه العقل الصادق ، ثم يخطر له خاطر فيعتقد نقيضه ويزعم أنه الآن تنبه للحق ، وما كان يعتقد من قبل فخيال انخدع به ويرى نفسه على اعتقاد قاطع فى الحالة الثانية تساوى اعتقاده

السابق فإنه كان قاطعا بمثل قطعة الآن! فليت شعرى من أين يأمن الانخداع وأنه سيتنبه لأمر يتبين به أن ما يعتقده الآن باطل ، وما من ناظر إلا ويعتقد مثله مرارا ، ثم لا يزال يعتز آخرا بمعتقده الّذي يماثل سائر معتقداته التى تركها وعرف بطلانها بعد التصميم عليها والقطع بها.

(الدلالة الخامسة) وهى شرعية ، قولهم : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ستفترق أمّتى نيفا وسبعين فرقة ، الناجية منها واحدة ، فقيل : ومن هم؟ فقال؟ أهل السنّة والجماعة.

فقيل : وما السنة والجماعة؟ قال : ما أنا الآن عليه وأصحابى» (١). قالوا : وما كانوا إلا على الاتباع والتعليم فى كل ما شجر بينهم ، وتحكيم الرسول ـ عليه‌السلام ـ فيه لا على اتباع رأيهم وعقولهم. فدل أن الحق فى الاتباع ، لا فى نظر العقول.

وهذا تحرير أدلتهم على أقوى وجه فى الإيراد. وربما يعجز معظمهم عن الإتقان فى تحقيقه إلى هذا الحد.

فنقول وبالله التوفيق : الكلام عليه منهجان : جملى ، وتفصيلى.

المنهج الأول وهو الجملى

أنا نقول : هذه العقيدة التى استنتجتموها من ترتيب هذه المقدمات ، ونظمها بطريق النظر والتأمل ، فإن ادعيتم معرفتها ضرورة كنتم معاندين ، ولم يعجز خصومكم عن دعوى الضرورة فى معرفتهم بطلان مذهبكم. وإن ادعوا ذلك كانوا أقوم قيلا عند المنصف ، وإن ادعيتم إدراكها بالنظر فى ترتيب هذه المقدمات ونظمها على شكل المقاييس المنتجة فقد اعترفتم بصحة النظر العقلى ويدعى بطلانه ، فهذا الكلام مفحم له ، وكاشف عن خزايته. أو يقال له : عرفت بطلان النظر ضرورة أو نظرا؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة ، فإن الضرورى ما يشترك فى معرفته ذوو العقول السليمة ، كقولنا : الكل أعظم من الجزء ، والاثنان أكبر من

__________________

(١) متفق عليه.

الواحد ، والشيء الواحد لا يكون قديما محدثا ، والشيء الواحد لا يكون فى مكانين.

وإن زعم أنه أدرك بطلان النظر بالنظر فقد تناقض كلامه ، وهذا لا مخرج منه أبد الدهر ، وهو وارد على كل باطنى يدعى معرفة شيء يختص به ، فإنه إما أن يدّعى الضرورة أو النظر أو السماع من معصوم صادق يدّعى معرفة صدقه وعصمته أيضا إما ضرورة أو نظرا ، ولا سبيل إلى دعوى الضرورة ، وفى دعوى النظر إبطال عين المذهب ، فلتتعجب من هذا التناقض البيّن وغفلة هؤلاء المغرورين عنه.

فإن قال قائل من منكرى النظر : هذا ينقلب عليكم ، إذ يقال لكم : وبم عرفتم صحة النظر؟ إن ادعيتم الضرورة اقتحمتم ما استبعدتموه ، وتورطتم فى عين ما أنكرتموه ، وإن زعمتم : أنا أدركناه نظرا ، فالنظر الّذي به الإدراك بم عرفتم صحته ، والخلاف قائم فيه؟ فإن ادعيتم معرفة ذلك بنظر ثالث لزم ذلك فى الرابع والخامس إلى غير نهاية. ـ قلنا : نعم كان هذا الكلام ينقلب إن كانت المعقولات بالموازنات اللفظية ، وليس الأمر كذلك ، فلتتأمل دقيقة الفرق ، فإنا نقول : عرفنا كون النظر العقلى دليلا إلى العلم بالمنظور فيه بسلوك طريق النظر والوصول إليه. فمن سلكه وصل ، ومن وصل عرف أن ما سلكه هو الطريق ، ومن استراب قبل السلوك فيقال : طريق رفع هذه الاسترابة السلوك.

ومثاله ما إذا سئلنا عن طريق الكعبة فدللنا على طريق معين ، فقيل لنا : من أين عرفتم كونه طريقا؟ قلنا : عرفناه بالسلوك ، بأنا سلكناه فوصلنا إلى الكعبة ، فعرفنا كونه طريقا. ومثاله الثانى : أنا إذا قيل لنا : بم عرفتم أن النظر فى الأمور الحسابية من الهندسة والمساحة وغيرها طريق إلى معرفة ما لا يعرف اضطرارا؟ ـ قلنا : سلوك طريق الحساب ، إذ سلكناه فأفادنا علما بالمنظور فيه ، فعلمنا أن نظر العقل دليل فى الحساب ، وكذلك فى العقليات : سلكنا الطريق النظرية فوصلنا إلى العلم بالمعقولات ، فعرفنا أن النظر طريق ، فهذا لا تناقض فيه. فإن قيل : وبم عرفتم أن

ما وصلتم إليه علم متعلق بالمعلوم على ما هو به ، بل هو جهل ظننتموه علما؟ قلنا : ولو أنكر العلوم الحسابية منكر فما ذا يقال له؟ أو ليس يسفه فى عقله ويقال له : هذا يدل على قلة بصيرتك بالحسابيات. فإن الناظر فى الهندسة إذا حصر المقدمات ورتبها على الشكل الواجب يحصل العلم بالنتيجة ضرورة على وجه لا يتمارى فيه ، فهكذا جوابنا فى المعقولات ، فإن المقدمات النظرية ، إذا رتبت على شروطها أفادت العلم بالنتيجة على وجه لا يتمارى فيه ، ويكون العلم المستفاد من المقدمات بعد حصولها ضروريا كالعلم بالمقدمات الضرورية المنتجة له. وإن أردنا أن نكشف ذلك لمن قلت بضاعته فى العلوم فنضرب له مثالا هندسيا ، ثم نضرب له مثالا عقليا لينكشف له الغطاء وينجلى عن عقيدته الخفاء.

أما المثال الهندسى فهو أن أقليدس (١) رسم فى مصنفه فى الشكل الأول من المقالة الأولى مثلثا ، وادّعى أنه متساوى الأضلاع ؛ ولا يعرف ذلك ببديهة العقل ، ولكنه ادعى أنه يعرف بالبرهان نظرا ، وبرهانه بمقدمات :

(الأولى) أن الخطوط المستقيمة الخارجة من مركز الدائرة إلى المحيط متساوية من كل جانب ، وهذه المقدمة ضرورية ، إذ الدائرة ترسم بالبركار (٢) على فتح واحد ، وإنما الخط المستقيم من المركز إلى الدائرة هو فتح البركار ، وهو واحد فى الجوانب.

(المقدمة الثانية) إذا تساوت دائرتان بالخطوط المستقيمة من مركزهما إلى محيطهما فالخطوط أيضا متساوية ، ـ ضرورية.

(المقدمة الثالثة) أن المساوى للمساوى مساو ، وهذه أيضا ضرورية. ثم الآن نشتغل بالمثلث ونشير إلى خطين منه ونقول : إنهما متساويان لأنها خطان مستقيمان خرجا من مركز دائرة إلى محيطها ، والخط الثالث مثل لأحدهما لأنه خرج أيضا من

__________________

(١) أقليدس : عالم الحسابيات والهندسة.

(٢) البركار : آلة هندسية ذات ساقين لرسم الدائرة ، (البيكار) أو (البرجل).

مركز الدائرة إلى محيطها مع ذلك الخط. وإذا ساوى أحد الخطين فقد ساوى الآخر ، فإن المساوى للمساوى مساو. ـ فبعد هذا النظر نعلم قطعا تساوى أضلاع المثلث المفروض كما عرف سائر المقدمات مثل قولنا : الخطوط المستقيمة من مركز الدائرة إلى المحيط مماثلة ، وغيرها من المقدمات.

المثال العقلى الإلهي : وهو أنا إذا أردنا أن ندلّ على واجب الوجود القائم بنفسه ، المستغنى عن غيره الّذي منه يستفيد كل موجود وجوده ، لم ندرك ثبوت موجود واجب الوجود مستغنيا عن غيره بالضرورة ، بل بالنظر.

ومعنى النظر هو أنا نقول : لا شك فى أصل الوجود وأنه ثابت فإن من قال لا موجود أصلا فى العالم فقد باهت (١) الضرورة والحسّ. فقولنا : لا شك فى أصل الوجود ، مقدمة ضرورية ، ثم نقول : والوجود المعترف به من الكل إما واجب ، وإمّا جائز ، فهذه المقدمة أيضا ضرورية ، فإنها حاصرة بين النفى والإثبات ، مثل قولنا : الموجود إما أن يكون قديما أو حادثا ، فيكون صدقه ضروريا ، وهكذا كل تقسيم دائر بين النفى والإثبات ، ومعناه أن الموجودات إما أن تكون استغنت ، أو لم تستغن ، والاستغناء عن السبب هو المراد بالوجوب ، وعدم الاستغناء هو المراد بالجواز ، فهذه مقدمة ثالثة.

ثم نقول : إن كان هذا الموجود المعترف به واجبا ، فقد ثبت واجب الوجود ؛ وإن كان جائزا مفتقر إلى واجب الوجود ، ومعنى جوازه أنه أمكن عدمه ووجوده على حد واحد. وما هذا وصفه لا يتميز وجوده عن عدمه إلا بمخصص ، وهذا أيضا ضرورى ، فقد ثبت بهذه المقدمات الضرورية واجب الوجود ، وصار العلم بعد حصوله ضروريا لا يتمارى فيه.

فإن قيل : فيه موضع شك ، إذ يقول المعترف به جائز ويقول : قولكم إنه يفتقر إلى واجب كل جائز وجوده ، غير مسلم ، بل يفترق إلى سبب ، ثم ذلك السبب

__________________

(١) باهت : قال غير الحقيقة.

يجوز أن يكون جائز الوجود؟ قلنا : فى تلك المقدمات ، ما اشتمل على رفع هذا بالقوة ؛ فإن كل ما ثبت له الجواز فافتقاره إلى سبب ضرورى. فإن قدر السبب جائزا دخل فى الجملة التى سميناها كلا. ونحن نعلم بالضرورة أن كل الجائزات تفتقر إلى سبب ، فإن فرضت السبب جائزا فافرضه داخلا فى الجملة واطلب سببه ، إذ يستحيل أن يسند ذلك جائز آخر ، وهكذا إلى غير نهاية ، فإنه يكون عند ذلك جميع الأسباب والمسبّبات جملة جائزة ، ووصف الجواز يصدق على آحادها وعلى مجموعها ، فيفتقر المجموع إلى سبب خارج عن وصف الجواز المخرج ، وفيه ضرورة إثبات واجب الوجود ، ثم بعد ذلك نتكلم فى صفته ونبين أنه لا يجوز أن يكون واجب الوجود جسما ولا منطبعا فى جسم ولا متغيرا ولا متحيزا ـ إلى سائر ما يتبع ذلك ويثبت كل واحد منها بمقدمات لا شك فيها ، وتكون النتيجة بعد حصولها من المقدمات فى الظهور على ذوق المقدمات.

فإن قيل : العلوم الحسابية معترف بها لأنها ضرورية ، ولذلك لم يختلف فيها ؛ وأما النظريات العقلية فإن كانت مقدماتها كذلك فلم وقع الاختلاف فيها فوقوع الاختلاف فيها يقطع الأمان؟ ـ قلنا : هذا باطل من وجهين : (أحدهما) أن العلوم الحسابية اختلف فيها تفصيلا وجملة من وجهين : أحدهما أن الأوائل قد اختلفوا فى كثير من هيئات الفلك ومعرفة مقاديرها ، وهى مثبتة على مقدمات حسابية ، ولكن متى كثرت المقدمات وتسلسلت ضعف الذهن عن حفظها. فربما تزل واحدة عن الذهن فيغلط فى النتيجة ، وإمكان ذلك لا يشككنا فى الطريق ، نعم! الخلاف فيها أندر ، لأنها أظهر ، وفى العقليات أكثر ، لأنها أخفى وأستر. ومن النظريات ما ظهر فاتفقوا عليه ، وهو أن القديم لا يعدم ـ فهذه مسألة نظرية ولم يخالف فيها أحد البتة ، فلا فرق بين الحسابية والعقلية.

الثانى : أن من حصر مدارك العلوم فى الحواس وأنكر العلوم النظرية جملة ، الحسابية وغير الحسابية ، فخلاف هؤلاء : هل يشككنا فى علمنا بأن العلوم الحسابية صادقة حقيقة؟ فإن قلتم «نعم!» اتضح ميلكم عن الإنصاف وإن قلتم

«لا!» فلم وقع الخلاف فيه؟ فإن قلتم : خلافه لم يشككنا فى المقدمات فلم يشككنا فى النتيجة؟ فكذلك خلاف من خالفنا فى تفصيل ما عرفناه من الدلالة على ثبوت واجب الوجود لم يشككنا فى مقدمات الدليل فلم يشككنا فى النتيجة؟

والوجه الآخر من الجواب هو أن السوفسطائية (١) أنكروا الضروريات وخالفوا فيها وزعموا أنها خيالات لا أصل لها ، واستدلوا عليه بأن أظهرها المحسوسات ، ولا ثقة بقطع الإنسان بحسه ، ومهما شاهد إنسانا وكلمه فقوله أقطع بحضوره وكلامه ، فهو خطأ ، فلعله يراه فى المنام! فكم من منام يراه الإنسان ويقطع به ولا يتمارى مع نفسه فى تحقيقه ، ثم ينتبه على الفور فيبين أنه لا وجود له ، حتى يرى فى المنام يد نفسه مقطوعة ورأسه مفصولا ، ويقطع به ولا وجود لما يقطع به. ثم خلاف هؤلاء لا يشككنا فى الضروريات ، وكذلك النظريات فإنها بعد حصولها من المقدمات تبقى ضرورية لا يتمارى فيها كما فى الحسابيات.

وهذا كله كلام على من ينكر النظر جملة ، أما التعليمية فلا يقدرون على إطلاق القول بإبطال النظر جملة ، فإنهم يسوقون الأدلة والبراهين على إثبات التعليم ، ويرتّبون المقدمات كما حكيناه. فكيف ينكرون ذلك؟! فمن هنا قالوا : نظر العقل باطل ، فيقال : وبم عرفتم بطلانه وثبوت التعليم؟ أبنظر أم ضرورة؟ ولا بد أن يقال : بنظر : ومهما استدل بالخلاف فى النظريات على فساد النظريات فقابله بالخلاف من السوفسطائية فى الضروريات ، ولا فرق بين المقامين ، فإذا قالوا : وبم أمنت الخطأ؟ وكم من مرة اعتدت الشيء نظرا ثم بان خلافه؟! فيقال له : وبم عرفت حضورك بهذا البلد الّذي أنت فيه ، وكم من مرة اعتقدت نفسك ورأيتها ببلد آخر لم تكن فيه ، فبم تميز بين النوم واليقظة؟ وبم تأمن على نفسك فلعلك الآن فى هذا الكلام نائم؟! فإن زعم : أنى أدرك التفرقة ضرورة ؛ فيقال : وأنا أدركت التفرقة بين ما يجوز الغلط فيه من المقدمات ، وما لا يجوز أيضا ضرورة ولا فرق. وكذلك

__________________

(١) السوفسطائية أو السفسطائية قالوا بإنكار الحسيات والبديهيات.

كم يغلط الإنسان فى الحساب ثم يتنبه! وإذا تنبه أدرك التفرقة ضرورة بين حالة الإصابة والخطأ.

فإن قال قائل من الباطنية : نحن ننكر النظر جملة ، وما ذكرتم ليس من النظريات فى شيء ، بل هى مقدمات ضرورية قطعية رتّبناها ، قلنا : فأنتم الآن لم تفهموا معنى النظر الّذي نقول به : فلسنا نقول إلا بمثل ما نظمتموه من المقدمات الضرورية الحقيقية كما سنبينها ، فكل قياس لم يكن بنظم مقدمات ضرورية ، أو بنظم مقدمات مستنتجة من ضرورية فلا حجة فيه ، فهذا هو القياس المعقول ، وإنما ينتظم أبدا من مقدمتين : إما مطلقة ، وإما تقسيمية ، وقد تسمى حملية وشرطية ، أما المطلقة فكقولنا : العالم حادث ، وكل حادث فله سبب. فهاتان مقدمتان : الأولى حسية ، والثانية ضرورية عقلية ، ونتيجته : أن لحوادث العالم إذا سببا. وأما التقسيمية فهو أنا نقول : إذا ثبت أن لحوادث العالم سببا فالسبب المفروض إما حادث وإما قديم. فإن بطل كونه حادثا ثبت كونه قديما ، ثم نبطل كونه حادثا بمثل هذه المقاييس فيثبت بالآخرة أن لوجود العالم سببا قديما ؛ فهذا هو النظر المقول به ، فإن كنتم متشككين فى صحته فبم تنكرون من يمتنع من قبول مقدماتكم التى نظمتموها ويقول : أنا متشكك فى صحتها؟ فإن نسبتموه إلى إنكار الضرورة نسبناكم إلى مثله فيما ادعينا معرفته بالنظر ؛ ولا فرق.

هذا هو المنهج الجملى فى الرد عليهم ، إذا أبطلوا نظر العقول ، وهو الجزم الواجب فى إفحامهم ، فلا ينبغى أن نخوض معهم فى التفصيل ، بل نقتصر على أن نقول لهم : كل ما ذا عرفتموه من مذهبكم : من صدق الإمام وعصمته وبطلان الرأى ووجوب التعليم ـ بما عرفتموه؟ ودعوى الضرورة غير ممكنة فيبقى النظر والسماع. وصدق السمع أيضا لا يعرف ضرورة فيبقى النظر وهذا لا مخرج عنه.

فإن قال قائل : لا يظن بعاقل يدعى مذهبا ليس ضروريا ثم ينكر النظر ، فلعلهم يعترفون بالنظر ، إلا أنهم يقولون : تعلم طريق النظر واجب ، فإن الإنسان لا يستقل

بنفسه فى النظريات ، فإن أنكرتم ذلك فقد أنكرتم العقول بديهة ، إذ لم يترشح المدرسون والمعلمون إلا للتعليم ، فلم تصدوا مع الاستغناء عنهم؟ وإن اعترفتم بذلك فقد اعترفتم بوجوب المعلم ، وأن العقول ليس فى مجردها غنية فبقى أنكم جوزتم التعلم من كل أحد ، وهم أوجبوا التعلم من معصوم ، لأن مذاهب المعلمين مختلفة ومتعارضة ولا ترجيح للبعض على البعض.

قلنا : وهذا السؤال أيضا فاسد ، فإنّا لا ننكر الحاجة إلى التعلم ، بل العلوم منقسمة إلى ثلاثة أقسام : قسم لا يمكن تحصيله إلا بالسماع والتعلم كالإخبار عما مضى من الوقائع ومعجزات الأنبياء وما يقع فى القيامة وأحوال الجنة والنار. فهذا لا يعرف إلا بالسماع من النبي المعصوم ، أو بالخبر المتواتر عنه ، فإن سمع بقول الآحاد حصل به علم ظنى لا يقينى.

هذا قسم ، والقسم الآخر من العلوم النظرية العقلية فليس فى الفطرة ما يرشد إلى الأدلة فيه ، بل لا بدّ فيه من التعلم لا ليقلد المعلم فيه ، بل لينبهه المعلم على طريقه ، ثم يرجع العاقل فيه إلى نفسه فيدركه بنظره. وعند هذا فليكن المعلم من كان ولو أفسق الخلق وأكذبهم ، فإنّا لسنا نقلّده بل نتنبه بتنبيهه فلا نحتاج فيه إلى معصوم ، وهى كالعلوم الحسابية والهندسية لا تعلم بالفطرة وتحتاج إلى المعلم ، ونستغنى عن معلم معصوم بل يتعلم طريق البرهان ويساوى المتعلم المعلم بعد النظر فى العقليات عندنا فالحسابيات عندهم ، وكم من شخص يغلط فى الحسابيات ، ثم يتنبه بالآخرة بعد زمان ؛ وذلك لا يشكك فى الأدلة والبراهين الحسابية ولا يحتمل الافتقار فيها إلى معلم معصوم.

القسم الثالث : العلوم الشرعية الفقهية ، وهو معرفة الحلال والحرام والواجب والندب ، وأصل هذا العلم السماع من صاحب الشرع ، والسماع منه يورث العلم ، إلا أن هذا لا يمكن تحصيل العلم القطعى فيه على الإطلاق فى حق كل شخص وفى كل واقعة ، بل لا بدّ من الاكتفاء بالظن فيه ضرورة فى طريقين : أحدهما فى

المستمعين ، فإن الخلق فى عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم انقسموا إلى من شاهد فسمع وتحقق وعرف ، وإلى من غاب فسمع من المبلغين وآحاد الأمراء والولاة فاستفادوا ظنا من قولة الآحاد ، ولكن وجب عليهم العمل بالظن للضرورة. فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عجز عن إسماع كل واحد بنفسه من غير واسطة ، ولم يشترط أن تتواتر عنه كل كلمة فى كل واقعة لتعذّره ، والعلم يحصل بأحد هذين المسلكين ، وهو متعذر قطعا.

(والطرف الثانى) فى نفس الصورة الفقهية والحوادث الواقعة ، إذن ما من واقعة إلا وفيها تكليف ، والوقائع لا حصر لها ، بل هى فى الإمكان غير متناهية. والنصوص لا تفرض إلا محصورة متناهية ، ولا يحيط قط ما يتناهى بما لا يتناهى. وغاية صاحب الشرع مثلا أن ينصّ على حكم كل صورة اشتمل عليها تصنيف المصنفين فى الفقه إلى عصرنا هذا. ولو فعل ذلك واستوفاه كانت الوقائع الممكنة الخارجة عن التصانيف أكثر من المسطورات فيها ، بل لا نسبة لها إليها ؛ فإن المسطورات محصورة ، والممكنات لا حصر لها. فكيف يستوفى ما لا يتناهى بالنص! فبالضرورة لا بدّ من تحكيم الظن فى التعلق بصيغ العمومات ، وإن كان يحتمل أنها أطلقت لإرادة الخصوص ، إذ عليها أكثر العمومات. ولذلك لما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معاذا (١) إلى اليمن وقال له : بم تحكم؟ فقال : بكتاب الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : فبسنة رسول الله. قال : فإن لم تجد؟ قال : أجتهد رأيى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحمد لله الّذي وفّق رسول رسوله لما يرضاه رسوله ؛ فإنما رخص له فى اجتهاد الرأى لضرورة العجز عن استيعاب النصوص للوقائع.

هذا بيان هذا القسم ، ولا حاجة فيه إلى إمام معصوم ، بل لا يغنى الإمام المعصوم شيئا ، فإنه لا يزيد على صاحب الشرع ؛ وهو لم يغن فى كلا الطرفين ، فلا قدرة على استيعاب الصور بالنصوص ، ولا قدرة على مشافهة جميع الخلق ولا على تكليفهم اشتراط التواتر فى كل ما ينقل عنه عليه‌السلام. فليت شعرى!

__________________

(١) معاذ بن جبل ـ رضى الله عنه ـ عند ما أرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اليمن.

معلمهم المعصوم ما ذا يغنى فى هذين الطرفين؟! أيعرف كافة الخلق نصوص أقاويله ، وهم فى أقصى الشرق والغرب ، بقول آحاد هؤلاء الدعاة ولا عصمة لهم حتى يوثق بهم ، أو يشترط التواتر عنه فى كل كلمة وهو فى نفسه محتجب لا يلقاه إلا الآحاد والشواذ؟ ـ هذا لو سلّم أنه مطّلع على الحق بالوحى فى كل واقعة كما كان صاحب الشرع. فكيف ، والحال كما نعرفه ويعرفه خواص أشياعه المحدقين به فى بلده وولايته!

فقد انكشف بهذا الكلام أنهم يلبسون ويقولون : إن قلتم لا حاجة إلى التعليم فقد أنكرتم العادات ؛ وإن اعترفتم فقد وافقتمونا على إثبات التعليم. فيأخذون التعليم لفظا مجملا مسلما ثم يفصلونه بأن فيه اعترافا بوجوب التعلم من المعصوم ، فقد فهمت أى علم يستغنى فيه عن المعلم ، وأي علم يحتاج فيه إليه. وإذا احتيج فما الّذي يستفاد من المعلم طريقه ولا يقلد فى نفسه فيستغنى عن عصمته؟ وما الّذي يقلد فى نفسه فيحتاج فيه إلى عصمته؟ وأن ذلك المعصوم هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن ما يؤخذ منه كيف ينقسم إلى ما يعلم تحقيقا ، وإلى ما يظن ؛ وأن كافة الخلق كيف يضطرون إلى القناعة بالظن فى صدق مبلغ الخبر عن صاحب الشرع وفى إلحاق غير المنصوص إلى النصوص. وإذا أيقنت هذه القاعدة استوليت على كشف تلبيساتهم كلها ، فإن عادتهم أبدا إطلاق مقدمات مهملة بنوا عليها النتيجة الفاسدة ، كقولهم : إنكم إذا اعترفتم بالحاجة إلى التعليم فقد اعترفتم بمذهبنا ؛ فنقول اعترافنا بالتعلم فى النظريات كاعترافكم به فى الحسابيات.

هذا منهج الكلام الجملى عليهم.

المنهج الثانى فى الرد عليهم تفصيلا

وسبيلنا أن نتكلم على كل مقدمة من مقدماتهم الثمانى التى نظمناها فنقول : (المقدمة الأولى) وهى قولكم إن كل شيء يتكلم فيه بنفى وإثبات ففيه حق وباطل ، والحق واحد ، والباطل ما يقابله. فهذه مقدمة صادقة لا نعتقد نزاعا فيها ،

ولكن لا يصح منكم استعمالها ، فإنا نقول : من الناس من أنكر حقائق الأشياء ، وزعم أنه لا حق ولا باطل ، وأن الأشياء تابعة للاعتقادات ، فما يعتقد فيه الوجود فهو موجود فى حق ذلك المعتقد ، وما يعتقد فيه العدم فهو معدوم فى حق المعتقد ، وهذه مقالة فرقة من فرق السوفسطائية ، وربما يقولون : الأشياء لا حقيقة لها ، فنقول : هل هذه المقدمة مقدمة يقطعون بها ، وأنتم ترونها فى المنام ولا حقيقة لها ، فبما ذا أمنتم الغلط فيها؟ وكم رأيتم أنفسكم فى المنام قاطعين بأمر لا حقيقة له! وما الّذي آمنكم من إصابة خصومكم وخطئكم؟ ولا نزال نورد عليهم ما يوردونه على أهل النظر للتشكيك فيه فلا يجدون فصلا ، فإن زعموا أنا نعرف ضرورة خطأ من يخالفنا من السوفسطائية ونعلم ضرورة صدق هذه المقدمة ، قيل لهم : فبم تنكرون على أهل النظر إذا ادعوا ذلك فى مذهبهم وفى تفريقهم بين ما غالطوا فيه وبين ما لم يغالطوا فيه ، وفرقهم بين أنفسهم ومخالفيهم؟ فإن زعموا أن ذلك يفتقر فيه إلى تأمل ، وما نحن فيه بديهى ـ فنقول : والحسابيات يحتاج فيها إلى أدق تأمل ، فإن غلط فى مسألة عرفتموها من الحساب رجل قصر نظره أو ضعف ذكاؤه ، فهل يشكككم ذلك فى أن العلوم الحسابية صادقة؟ فإن قلتم : لا! قيل : فهكذا حال النظار المحققين إذا خالفهم المخالفون ، وهذا ينبغى أن يكون عليهم فى كل مقام ، لأن تبجحهم الأكثر باختلاف النظار ، وأن ذلك ينبغى أن يسقط الأمان ، وخلافنا لهم لم يسقط أمانهم عن مقدماتهم التى نظموها ثم طمعوا مع ذلك أن يسقط أماننا عن النظريات بخلاف المخالف فيها ، وهذا من الطمع البارد والظن الركيك الّذي لا ينخدع بمثله عاقل.

أما «المقدمة الثانية» وهى قولهم : إذا ثبت فى كل واقعة حق وباطل فلا بد من معرفة الحق فيه.

فهذه مقدمة كاذبة ، إذ تسلموها جملة وفيها تفصيل. وهذه عادتهم فى التلبيس ، فلا يغفلن عنها المحصل ، فنقول : قول القائل : الحق لا بدّ من معرفته كقول

القائل : المسألة لا بدّ من معرفتها ، أو المسائل لا بدّ من معرفتها. فيقال هذا خطأ ، بل المسألة اسم جنس يتناول ما لا بدّ من معرفته ، وما عن معرفته بد ، فلا بد من تفصيل. وكذلك الحق ، بنا غنية عن معرفته فى أكثر الأمور فإن جملة التواريخ والأخبار التى كانت وستكون إلى منقرض العالم أو هى كائنة واقعة اليوم فى العالم يتكلم فيها بنص وإثبات ، والحق واحد ، ولا حاجة بنا إلى معرفته ، وهذا كقول القائل : ملك الروم الآن قائم ، أم لا؟ والحق أحدهما لا محالة. وما تحت قدمى من الأرض بعد مجاوزة خمسة أذرع حجر أو تراب؟ وفيه دود ، أم لا؟ والحق أحدهما لا محالة. ومقدار كرة الشمس أو زحل ومسافتهما مائة فرسخ ، أم لا؟ والحق أحدهما. وهكذا مساحات الجبال والبلاد وعدد الحيوانات فى البر والبحر وعدد الرمل ، فهذه كلها فيها حق وباطل. ولا حاجة إلى معرفتها ، بل العلوم المشهورة من النحو والشعر والطب والفلسفة والكلام وغيرها فمنها حق وباطل ، ولا حاجة بنا إلى أكثر ما قيل فيها ، بل الّذي نسلم أنه لا بدّ من معرفته مسألتان : وجود الصانع تعالى ، وصدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا لا بدّ منه ثم إذا أثبت صدق الرسول فالباقى يتعلق به تقليدا أو علما بخبر المتواتر ، أو ظنا بخبر الواحد ، وذلك من العلوم كاف فى الدنيا والآخرة ، وما عداه مستغنى عنه.

أما وجود الصانع وصدق الرسول فطريق معرفته النظر فى الخلق حتى يستدل به على الخالق ، وفى المعجزة حتى يستدل بها على صدق الرسول ، وهذان لا حاجة فيهما إلى معلم معصوم ، فإن الناس فيه قسمان : قسم اعتقدوا ذلك تقليدا وسماعا من أبويهم ، وصمّموا عليه العقد قاطعين به وناطقين بقولهم : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير بحث عن الطرق البرهانية وهؤلاء هم المسلمون حقا ، وذلك الاعتقاد يكفيهم ، وليس عليهم طلب طرق البراهين ، وعرفنا ذلك قطعا من صاحب الشرع ، فإنه كان يقصده أجلاف العرب وأغمار أهل السواد (١) ، وبالجملة طائفة لو

__________________

(١) أهل السواد : الفلاحون والمزارعون.

قطعوا آرابا (١) لم يدركوا شيئا من البراهين العقلية ، بل لا يبين تمييزهم عن البهائم إلا بالنطق ، وكان يعرض عليهم كلمة الشهادتين ، ثم يحكم لهم بالإيمان ويقنع منهم به ، وأمرهم بالعبادات ، فعلم قطعا أن الاعتقاد المصمم كاف وإن لم يكن عن برهان ، بل كان عن تقليد ، وربما كان يتقدم إليه الأعرابى فيحلفه أنه رسول الله وأنه صادق فيما يقول ، فيحلف له ويصدقه ، فيحكم بإسلامه. فهؤلاء ، أعنى المقلدين ، يستغنون عن الإمام المعصوم.

(القسم الثانى) من اضطرب عليه تقليده إما بتفكر وإما بتشكيك غيره إياه أو بتأمله بأن الخطأ جائز على آرائه ، فهذا لا ينجيه إلا البرهان القاطع الدال على وجود الصانع ، وهو النظر فى الصنع ، وعلى صدق الرسول وهو النظر فى المعجزة ، وليت شعرى ما ذا يغنى عنهم إمامهم المعصوم! أيقول له : اعتقد أن للعالم صانعا وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق تقليدا لى من غير دليل فإنى الإمام المعصوم ؛ أو يذكر له الدليل فينبهه على وجه دلالته؟ فإن كان سومه (٢) التقليد فمن أى وجه يصدقه ، بل من أين يعرف عصمته وهو ليس يعرف عصمة صاحبه الّذي يزعم أنه خليفته بعد درجات كبيرة؟! وإن ذكر الدليل افتقر المسترشد إلى أن ينظر فى الدليل ويتأمل فى ترتيبه ووجه دلالته ، أم لا. فإن لم يتأمل فكيف يدرك دون النظر والتأمل ، وهذه العلوم ليست ضرورية؟ وإن تأمل وأدرك نتاج المقدمات الضرورية المنتجة المطلوبة بتأمله وخرج به عن حد التقليد له فما الفرق بين أن يكون المنبه له على وجه الدلالة ونظم المقدمات هو هذا المشار إليه المعصوم ، أو داعية أو عالم آخر من علماء الزمان ، فإن كل واحد ليس يدعوه إلى تقليده ، وإنما يقوده إلى مقتضى الدليل ، ولا يدرك مقتضى الدليل إلا بالتأمل. فإذا تأمل وأدرك لم يكن مقلدا لمعلمه ، بل كان كمتعلم للأدلة الحسابية. ولا فرق فى ذلك بين أفسق الخلق وبين أورعهم ، كمعلم الحساب فلا يحتاج فيه إلى الورع فضلا عن العصمة لأنه

__________________

(١) آراب ؛ جمع مفرده إرب بكسر الهمزة ، ومعناه : العضو.

(٢) سومه : مذهبه وطريقته.

ليس مقلدا ، وإنما الدليل هو المتبع ، فإذا لا يعدو الخلق هذين القسمين : فالأول مستغن عن المعصوم ، والثانى لا يغنى عنه المعصوم شيئا. فقد بطلت مقدمتان : إحداهما أن كل حق فلا بد من معرفته ، والأخرى أنه لا يعرف الحق إلا من معصوم.

فإن قيل : لا تكفى معرفة الله تعالى ورسوله ، بل لا بدّ من معرفة صفات الله ومعرفته الأحكام الشرعية ـ قلنا : أما صفات الله تعالى فقسمان : قسم لا يمكن معرفة صدق الرسول وبعثته إلا بعد معرفته ، ككونه عالما وقادرا على الإرسال ؛ فهذا يعرف عندنا بالأدلة العقلية كما ذكرناه ؛ والمعصوم لا يغنى ، لأن المعتقد له تقليدا أو سماعا من أبويه مستغن عن المعلم كما سبق ، والمتردد فيه ما ذا يغنى عنه المعصوم! أفيقول له : قلدنى فى أنه تعالى قادر عالم ، فيقول له : كيف أقلدك ولم تسمح نفسى بتقليد محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو صاحب المعجزة؟! وإن ذكر له وجه الدليل أعاد القول فيه إلى ما مضى فى أصل وجود الصانع وصدق الرسول من غير فرق.

وأما الأحكام الشرعية فلا بد لكل واحد من معرفة ما يحتاج إليه فى واجباته ، وهى قسمان :

(القسم الأول) ما يمكن معرفته قطعا وهو الّذي اشتمل عليه نص القرآن وتواتر عنه الخبر من صاحب الشرع : كعدد ركعات الصلوات الخمس ، ومقادير النصب فى الزكوات ، وقوانين العبادات وأركان الحج ، أو ما أجمعت عليه الأمة ، فهذا القسم لا حاجة فيه إلى إمام معصوم أصلا.

(القسم الثانى) ما لا يمكن معرفته قطعا ، بل يتطرق الظن إليه وهو إما نص يتطرق الظن إلى نقله من حيث ينقله الآحاد فيجب التصديق به ظنا ، كما كان يجب على الخلق فى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى سائر الأقطار ؛ وإما صورة لا نص فيها فيحتاج إلى تشبيهها بالنصوص عليه وتقريبها منه بالاجتهاد ؛ وهو الّذي قال معاذ فيه : «أجتهد رأيى» ؛ وكون هذا مظنونا ضرورىّ فى الطرفين جميعا إذ لا يمكن شرط التواتر فى الكل ، ولا يمكن استيعاب جميع الصور بالنص فلا يغنى المعصوم فى هذا شيئا ،

فإنه لا يقدر على أن يجعل ما نقله الواحد متواترا ، بل ولو تيقنه لم يقدر على مشافهة كافة الخلق به ، ولا تكليفهم السماع عنه تواترا ، فيقلد أشياعه دعاة المعصوم وهم غير معصومين ، بل يجوز عليهم الخطأ والكذب ، فنحن نقلد علماء الشرع ، وهم دعاة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة ، فأىّ حاجة إلى المعصوم فيه! وأما الصورة التى ليست منصوصة فيجتهد فيها الرأى ، إذ المعصوم لا يغنى عنها شيئا ، فإنه بين أن يعترف بأنه أيضا ظانّ والخطأ جائز فى كل ذى ظن ؛ ولا يختلف ذلك بالأشخاص. فما الّذي يميز ظنه من ظن غيره وهو مجوز للخطأ على نفسه؟! وإن ادعى المعرفة فيه : أيدعيها عن وحى ، أو عن سماع نص فيه ، أو عن دليل عقلى؟ فإن ادعى تواتر الوحى إليه فى كل واقعة ، فإذا هو مدّع للنبوة فيفتقر إلى معجزة ، كيف ولا يتصور تقدير المعجزة إذ بان لنا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم الأنبياء. فإن جوزنا الكذب على محمد فى قوله : «أنا خاتم الأنبياء» مع إقامة المعجزة ، فكيف نأمن كذب هذا المعصوم وإن أقام المعجزة؟! وإن ادعى معرفته عن نص بلغه فكيف لا يستحى من دعوى نص صاحب الشرع على وقائع لا يتصور حصرها وعدها ، بل لو عمر الإنسان عمر نوح ولم يشتغل إلا بعد الصور والنصوص عليها لم يستوعب عشر عشرها. ففى أى عمر استوعب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع الصور بالنص! فإن ادعى المعرفة بدليل عقلى ، فما أجهله بالفقهيات والعقليات جميعا ، إذ الشرعيات أمور وضعية اصطلاحية تختلف بأوضاع الأنبياء والأعصار والأمم كما نرى الشرائع مختلفة ، فكيف تجوز فيها الأدلة العقلية القاطعة؟! وإن ادعاها عن دليل عقلى مفيد للنظر فالفقهاء كلهم لهم هذه الرتبة!

فاستبان أن ما ذكروه تلبيس بعيد عن التحقيق وأن العامى المنخدع به فى غاية الحمق لأنهم يلبسون على العوام بأن يتبعوا الظن ، وإن الظنّ لا يغنى عن الحق شيئا ، والفقهيات لا بدّ فيها من اتباع الظن فهو ضرورى ، كما فى التجارات والسياسات وفصل الخصومات للمصالح ، فإن كل الأمور المصلحية تبنى على الظن ، والمعصوم كيف يغنى عن هذا الظن ، وصاحب الشريعة لم يغن عنه ولم

يقدر عليه ، بل أذن فى الاجتهاد وفى الاعتماد على قول آحاد الرواة عنه ، وفى التمسك بعمومات الألفاظ ، وكل ذلك ظن عمل به فى عصره مع وجوده ، فكيف يستقبح ذلك بعد وفاته!

فإن قيل : فإذا اختلف المجتهدون لاختلاف مسالك الظنون فما ذا ترون؟ إن قلتم : «كل مجتهد مصيب» ـ تناقض كلامكم ، فإن خصومكم مهما أصابوا فى اعتقادهم يقولون إنكم أخطأتم ؛ أفلستم مصيبين إذا ، فكيف وفى الفرق من يستبيح سفك دمائكم؟ فإن كانوا مصيبين أيضا فنحن فى سفك دمائكم ونهب أموالكم مصيبون ؛ فلم تنكرون علينا؟ وإن قلتم : إن المصيب واحد ، فبم نميز المصيب من المخطئ؟ وكيف نتخلص من خطر الخطأ والظن؟ ـ قلنا : فيه رأيان.

فإن قلنا : كل مجتهد مصيب لم نتناقض ، إذ نريد به أنه مصيب حكم الله فى حق نفسه ومقلديه ، إذ حكم الله عليه أن يتبع غالب ظنه فى كل واقعة ، وقد اتبع ؛ وهذا حكم الله على خصمه ؛ وقولهم : إنه مصيب إذا فى سفك الدم ، فهو كلام جاهل بالفقهيات ، فإن ما افترق فيه الفرق مما يرى فيه سفك الدماء مسائل قطعية عقلية ، المصيب فيها واحد ؛ والمسائل الظنية الفقهية المختلف فيها بين الشافعى وأبى حنيفة ومالك لا تفضى إلى التقاتل وسفك الدماء ، بل كلّ فريق يعتقد احترام الفريق الآخر حتى يحكم بأنه لا ينقض حكمه إذا قضى به ، وأنه يجب على المخالف الاتباع. نعم! اختلفوا فى أنه : هل يطلق اسم الخطأ على الفرقة الأخرى فى غير إنكار واعتراض أم لا؟ وقولهم : إن خصمك يقول : أنت مخطئ ، فإن كان هو مصيبا فإذا أنت مخطئ ـ قلنا : إن قال خصمى : أنت مخطئ ، أي أظن خطأك فهو صادق ؛ وأنا أيضا صادق فى قولى : إنى مصيب ، ولا تناقض. وإن قال : أقطع بأنك مخطئ ، فليس مصيبا فى هذا القول ، بل بطلان قول من يقطع بالخطإ فى المجتهدات ليس مظنونا ، بل هو مقطوع به فى جملة المسائل القطعية الأصولية ، فالقول : «إن المصيب من المجتهدين كلاهما أو أحدهما» مسألة أصولية قطعية لا ظنية ، وقد التبست عليهم الأصوليات بالفقهيات الظنية ، ومهما كشف الغطاء لم

يتناقض الكلام ، فإن قيل : فإذا رأيتم كل واحد مصيبا فليجز للمجتهد أن يأخذ بقول خصمه ويعمل به لأنه مصيب ، وليجز للمقلد أن يتبع من شاء من الأئمة المجتهدين. قلنا : أما اتباع المجتهد لغيره فخطأ ؛ فإن حكم الله عليه أن يتبع ظن نفسه ، وهذا مقطوع به ، فإذا اتبع ظن غيره فقد أخطأ فى مسألة قطعية أصولية ، وعرف ذلك بالإجماع القاطع ، وأما خبر المقلدين الأئمة فقد قال به القائلون ، ولكن المختار عندنا أنه يجب أن يقلد من يعتقد أنه أفضل القوم وأعرفهم. ومستند اعتقاده إما تقليد سماعى من الأبوين ، وإما بحث عامى عن أحواله ، وإما تسامع عن ألسنة الفقهاء ، وبالجملة يحصل له ظن غالب من هذه المستندات ، فعليه اتباع ظن نفسه ، كما على المجتهد اتباع ظن نفسه. وهذا ليس بكلي فى الشرع لأن الشرع يشتمل على مصلحة جزئية فى كل مسألة ، وعلى مصلحة كلية فى الجملة. أما الجزئية فما يعرف عنها دليل كل حكم وحكمته ، أما المصلحة الكلية فهى أن يكون كل مكلف تحت قانون معين من تكاليف الشرع فى جميع حركاته وأقواله واعتقاداته ، فلا يكون كالبهيمة المسيبة تعمل بهواها ، حتى يرتاض بلجام التقوى وتأديب الشرع وتقسيمه إلى ما يطلقه وإلى ما يحجر عليه فيه ، فيقدم حيث يطلق الشرع ويمتنع حيث يمنع ، ولا يتخذ إلهه هواه ويتبع فيه مناه. ومهما خبرنا المقلدين فى مذاهب الأئمة ليستمد منها أطيبها عنده اضطرب القائلون فى حقه فلا يبقى له مرجع إلا شهوته فى الاختيار ، وهو مناقض للغرض الكلى ؛ فرأينا أن نحصره فى قالب وأن نضبطه بضابط وهو رأى شخص واحد لهذا المعنى.

ولهذا اختلفت قوانين الأنبياء فى الأعصار بالإضافة إلى التفصيل ، ولم تختلف فى أصل التكليف ودعوة الخلق عن اتباع الهوى إلى طاعة قانون الشرع ، فهذا ما نراه مختارا فى حق آحاد المقلدين. هذا أحد الرأيين وهو أن كل مجتهد مصيب. ومن رأى أن المصيب واحد ، فلا تناقض أيضا فى كلامه. وقوله : بم يأمن من إمكان الخطأ؟ ـ قلنا : أو لا تعارضهم. فمن كان مسكنه بعيدا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يعول على قول الواحد ، وكذا من مسكنه بعيد عن معصومكم بينه وبينه البحار

الحاجزة والمهامة المهلكة ، بم يأمن الخطأ على المبلغ وهو غير المعصوم؟ فسيقولون : يحكم بالظن ، وليس عليه أكثر من ذلك. فهذا جوابنا.

فإن قلتم : إن له طريقا إلى الخلاص من الظن ، وهو أن يقصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن التوجه إليه من الممكنات ، فكذا يقصد للإمام المعصوم فى كل زمان ؛ قلنا : وهل يجب قصد ذلك مهما جوز الخطأ؟ فإن قلتم : لا ، فأى فائدة فى إمكانه وقد جاز له اقتحام متن الخطر فيما جوز فيه الخطأ؟ فإذا جاز ذلك فلا بأس بفوات الإمكان. كيف ولا يقدر كل زمن (١) مدبر لا مال له على أن يقطع ألف فرسخ ليسأل عن مسألة فقهية واقعة ، كيف ولو قطعها ، فكيف يزول ظنه بإمامكم المعصوم وإن شافهه به إذ لا معجزة له على صدقه ؛ فبأى وجه يثق بقوله ؛ وكيف يزول ظنه به؟ ثم يقول : لا خلاص له عن احتمال الخطأ ، ولكن لا ضرر عليه ، وغاية ما فى هذا الباب أن يكون فى درك الصواب مزية فضيلة ، والإنسان ـ فى جميع مصالحه الدنيوية : من التجارة والحرب مع العدو والزراعة ـ يقول على ظنون فلا يقدر على الخلاص من إمكان الخطأ فيه ، ولا ضرر عليه ، بل لو أخطأ صريحا فى مسألة شرعية فليس عليه ضرر ، بل الخطأ فى تفاصيل الفقهيات معفو عنه شرعا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اجتهد فأصاب فله أجران ، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد» (٢). فما هولوا من خطر الخطأ مستحقر فى نفسه عند المحصلين من أهل الدين ، وإنما يعظم به الأمر على العوام الغافلين عن أسرار الشرع ، فليس الخطأ فى الفقهيات من المهلكات فى الآخرة ، بل ليس ارتكاب كبيرة موجبا لتخليد العقاب ولا للزومه على وجه لا يقبل العفو ، أما المجتهدات فلا مأثم على من يخطئ فيها ، والحنفى يقول : يصلى المسافر ركعتين ؛ والشافعى يقول : يصلى أربعا ، وكيفما فعل فالتفاوت قريب ؛ ولو قدر فيه خطأ فهو معفو عنه. فإنما العبادات مجاهدات ورياضات تكسب النفوس صفاء وتبلغ فى الآخرة مقاما محمودا ، كما أن تكرار المنفعة لما يتعلمه يجعله فقيه النفس

__________________

(١) زمن ؛ الزمن (المبتلى) ـ (الطاعن فى السن).

(٢) متفق عليه.

ويبلغه رتبة العلماء ، ومصلحته تختلف بكثرة التكرار وقلته ، ورفعه صوته فيه وخفضه. فإن أخطأ فى الاقتصار على التكرار لدرس واحد مرتين ، وكانت الثلاث أكثر تأثيرا فى نفسه فى علم الله تعالى ، أو أخطأ فى الثلاث وكان الاقتصار على الاثنين أكثر تأثيرا فى صيانته عن التبرم المبلد ، أو أخطأ فى خفض الصوت وكان الجهر أوفق لطبعه وللتأثير فى تنبيه نفسه ، أو كان الخفض ادعى له إلى التأمل فى كنه معناه ، لم يكن الخطأ فى شيء من ذلك فى ليلة أو ليال مؤيسا عن رتبة الإمامة ونيل فقه النفس ، وهو فى جميع ما يخمن ويرتب فى مقادير التكرار من حيث الكمية والكيفية والوقت مجتهد فيه وظان وسالك إلى طريق الفوز بمقصوده ما دام مواظبا على الأصل.

وإن كان قد تيقن له الخطأ أحيانا فى التفاصيل وإنما الخطر فى التغليظ والاعتراض والاغترار بالفطنة الفطرية ظنا بأن فيها غنية عن الاجتهاد ، كما ظن فريق من الباطنية أن نفوسهم زكيّة مرتاضة مستغنية عن الرياضات بالعبادات الشرعية فأهملوها وتعرضوا بسببها للعقاب الأليم فى دار الآخرة.

فليعتقد المسترشد أن إفضاء المجاهدات الشرعية إلى المقامات المحمودة السنية فى دار الآخرة كإفضاء الاجتهاد ـ فى ضبط العلوم والمواظبة عليها إلى مقام الأئمة وعند هذا نستحقر ما عظّم الباطنية الأمر فيه من خطر الخطأ على المجتهدين فى الجهر بالبسملة وتثنية الإقامة وأمثالها ، فالتفاوت فيه بعد المواظبة على الأصول المشهورة كالتفاوت فى الجهر بالتكرار أو الخفض به من غير فرق وكيف. وقد نبه الشرع على تمهيد عذر المخطئ فيه كما تواتر ذلك من صاحب الشرع. هذا تمام الكلام على المقدمة الثانية.

وأما (المقدمة الثالثة) وهى قولهم : إذا ثبت وجوب معرفة الحق فلا يخلو إما أن يعرفه الإنسان من نفسه ، أو من غيره. فهذه مقدمة صادقة لا نزاع فيها. نعم! المجادلة عليها بما يفحم الباطنية ويمنعهم من استعمالها كما ذكرنا فى المقدمة الأولى ، وهى جارية فى كل مقدمة صادقة.

وأما (المقدمة الرابعة) وهى قولهم : إذا بطلت معالجته فى نفسه بطريق النظر ثبت وجوب التعلم من غيره ، فهذه صادقة على تقدير بطلان النظر وتسليم معرفة الحق ، ولكنّا لا نسلم بطلان النظر ، كما سبق وكما سنذكر فى إفساد شبههم المزخرفة لإبطال النظر ، ولا نسلم وجوب معرفة الحق ، لأن من جملته ما بنا مندوحة عنه ، والمحتاج إليه معرفة الصانع وصدق الرسول ، والناس قد اعتقدوها سماعا وتقليدا لأبويهم ، وفى ذلك ما يغنيهم فلا حاجة بهم إلى استيناف تعلّم من معلم معصوم ، فإن قنعوا بالتعليم من الأبوين فنحن نسلم حاجة الصبيان فى مبدأ النشوء إلى ذلك ولا ننكره. ولا مستروح لهم فى هذا التسليم.

ومن هذه المقدمة قولهم : إذا ثبتت الحاجة إلى المعلم فليكن المعلم معصوما ، وهذا متنازع فيه ، فإن المعلم إن كان يعلم ويذكر معه الدليل العقلى وينبه على وجه الدلالة ليتأمل المتعلم فيه بمبلغ عقله ويجوز له الثقة بمقتضى عقله بعد تنبيه المعلم ، فليكن المعلم ولو أفسق الخليقة فلم يحتاج إلى عصمته؟ وليس يتلقف المتعلم منه تقليد ما يتلقفه ، بل هو كالحساب لا بدّ من معرفة الحق فيه لمصالح المعاملات ، ولا يعرفه الإنسان من نفسه ويفتقر إلى معلم ولا يحتاج إلى عصمته لأنه ليس علما تقليديا ، بل هو برهانى ، وإن زعمتم أن المتعلم ليس يتعلم بالبرهان والدليل لأن ذلك يدركه بنظر عقله ، ولا ثقة بعقله مع ضعف عقول الخلق وتفاوتها فلذلك يحتاج إلى معصوم ؛ فهذا الآن حماقة ، لأنه إما يعرف عصمته ضرورة أو تقليدا ، ولا سبيل إلى دعوى شيء منه ، فلا بد أن يعرفه نظرا ، إذ لا شخص فى العالم يعرف عصمته ضرورة أو يوثق بقوله مهما قال أنا معصوم ، وإذا لم يعرف عصمته كيف يقلده! وإذا لم يثق بنظره كيف يعرف عصمته! فإن كان الأمر كما ذكرتموه فقد وقع الناس عن تعلم الحق وصار ذلك من المستحيلات فإذا قالوا : لا بدّ من تعلم الحق لا بطريق النظر ، كان كمن يقول : لا بدّ من الجمع بين البياض والسواد ، لأنه إن تعلم من غيره بتأمل دليل المسألة التى يتعلمها كان ناظرا مقتحما خطر الخطأ ، وإن قلده لكونه معصوما كان مدركا عصمته بالنظر فى دليل العصمة.

وإن لم يعتقد العصمة ويعلم ممن كان فقد رجع الأمر بالآخرة إلى ما استبعدوه وهو التعلم ممن لم تعرف عصمته وفيهم كثرة وأقوالهم متعارضة كما ذكروه ، وهذا لا مخلص عنه أبد الدهر.

وأما (المقدمة الخامسة) وهى قولهم : إن العالم لا يخلو إما أن يشتمل على ذلك المعصوم المضطر إليه ، أو يخلو عنه ؛ ولا وجه لتقدير خلو العالم عنه فإن ذلك يؤدى إلى تغطية الحق وذلك ظلم لا يليق بالحكمة ، فهو أيضا مقدمة فاسدة ، لأنا إن سلمنا سائر المقدمات وسلمنا ضرورة الخلق إلى معلم معصوم فنقول : لا يستحيل خلو العالم عنه ، بل عندنا يجوز خلو العالم عن النبي أبدا ، بل يجوز لله أن يعذب جميع خلقه وأن يضطرهم إلى النار ، فإنه بجميع ذلك متصرف فى ملكه بحسب إرادته ، ولا معترض على المالك من حيث العقل فى تصرفاته ، وإنما الظلم وضع الشيء فى غير موضعه ، والتصرف فى غير ما يستحقه المتصرف ، وهذا لا يتصور من الله ، فلعل العالم خال عنه على معنى أن الله لم يخلقه.

فإن قيل : مهما قدر الله على إرشاد الخلق إلى سبيل النجاة ونيل السعادات ببعثة الرسل ونصب الأئمة ولم يفعل ذلك كان إضرارا بالخلق مع انتفاء المنفعة عن الله تعالى فى هذا الإضرار ، وهو فى غاية القبح المناقض لأوصاف الكمال من حكمته وعدله ، ولا يليق ذلك بالصفات الإلهية.

قلنا : هذا الكلام مختل وغطاء ينخدع به العامى ويستحقره الغواص فى العلوم ، وقد انخدع به طوائف من المعتزلة ، واستقصاء وجه الرد عليهم فى فن الكلام (١) ، وأنا الآن مقتصر على مثال واحد يبين قطعا أن الله تعالى ليس يلزمه فى نعوت كماله أن يرعى مصلحة خلقه ، وهو : أنا نفرض ثلاثة من الأطفال مات أحدهم طفلا ، وبلغ أحدهم مسلما ثم مات ، وبلغ الآخر وكفر ثم مات ؛ فيجازى الله كل أحد بما يستحقه ، فيكون مقيما للعدل فينزل الّذي بلغ وكفر فى دركات

__________________

(١) فن الكلام : علم الكلام.

لظى (١) ، والّذي بلغ ، وأسلم فى درجات العلى ، والّذي مات طفلا من غير إسلام ومقاساة عبادة بعد البلوغ ، فى درجة دون درجة الّذي بلغ وأسلم ، فيقول الّذي مات طفلا : يا رب! لم أخرتنى عن أخى المسلم الّذي بلغ ومات ، ولا يليق بكرمك إلّا العدل ، وقد منعتنى من مزايا تلك الرتبة ، ولو أنعمت عليّ بها لانتفعت بها ولم تضرك ، فكيف يليق بالعدل ذلك؟ فيقول له بزعم من يدعى الحكمة : إنه بلغ وأسلم وتعب وقاسى شدائد العبادات ، فكيف يقتضي العدل التسوية بينك وبينه؟ فيقول الطفل : يا رب! أنت الّذي أحييته وأمتنى ؛ وكان ينبغى أن تمد حياتى وتبلغنى إلى رتبة الاستقلال وتوفقنى للإسلام كما وفقته ، فكان التأخير عنه فى الحياة هو الميل عن العدل. فيقول له بزعم من يدعى الحكمة : كانت مصلحتك فى إماتتك فى صباك ، فإنك لو بلغت لكفرت واستوجبت النار ، فعند ذلك ينادى الكافر الّذي مات بعد بلوغه من دركات لظى فيقول : يا رب! قد عرفت منى أنى إذا بلغت كفرت ، فهلا أمتنى فى صباى فإنى قانع بالدرجة النازلة التى أنزلت فيها الصبى المتشوق إلى درجات العلى ، وعند هذا لا يبقى لمن يدعى الحكمة فى التسوية إلا الانقطاع عن الجواب والاجتراء.

وبهذا التفاوت يستبين أن الأمر أجل مما يظنون ، فإن صفات الربوبية لا توزن بموازين الظنون ، وإن الله يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وبهذا يستبين أنه لا يجب بعث نبى ولا نصب إمام. فقد بطل قولهم إنه لا بدّ أن يشتمل العالم عليه.

وأما (المقدمة السادسة) وهى قولهم : إذا ثبت أن المعصوم موجود فى العالم فلا يخلو إما أن يصرح بالدعوى ويدعى العصمة ، أو يخفيه ؛ وباطل إخفاؤه ، لأن ذلك واجب عليه ، والكتمان معصية تناقض العصمة ، فلا بد أن يصرح بها. فهذه مقدمة فاسدة ، لأنه لا يبعد ألا يصرح به لكونه محفوفا بالأعداء ، مستشعرا فى نفسه خائفا

__________________

(١) دركات لظى قعر جهنم وقاعها. الدركات : المنازل ، لظى : جهنم.

على روحه فيخفى ذلك تقية (١) ، وذلك مما اتفقوا على جوازه ، وإليه ذهبت الإمامية بأجمعهم ، وزعموا أن الإمام حي قائم موجود ، والعصمة حاصلة له ، ولكنه يتربص تصرم دولة الباطل وانقراض شوكة الأعداء. وإنما هو الآن متحصن بجلباب الخفاء ، حارس نفسه عن الهلاك لصيانة السر عن الإفشاء إلى أن يحضر أوانه وينقرض إمام الباطل وزمانه. فما جواب هؤلاء الباطنية على مذهب الإمامية؟ وما الّذي يمنع احتمال ذلك فإنهم ساعدوهم على جميع مقدماتهم إلا على هذه المقدمة ، وذلك لما شاهدوا من اختلال حال من وسمه هؤلاء بالعصمة وتحققوا من الأسباب المناقضة للورع والصيانة ، فاستحيوا من دعوى العصمة لمن يشاهدون من أحواله نقيضها ، فزعموا أن المعصوم مختف ، وأنا ننتظر ظهوره فى أوانه ، وعند هذا نقول : بم عرفت الباطنية بطلان مذهب الإمامية فى هذه القضية؟ فإن عرفوها ضرورة فكيف قام الخلاف فى الضروريات ، وإن عرفوها نظرا فما الّذي أوجب صحة نظرهم دون نظر خصومهم وتزكية عقولهم دون عقولهم؟ أيعرف ذلك بطول اللحى أو ببياض الوجوه وهلم جرا إلى عين المسلك الّذي نهجوه؟ وهذا لا محيص عنه بحال من الأحوال.

وأما (المقدمة السابعة) وهى قولهم : إذا ثبت أن المعصوم لا بدّ أن يصرح. فإذا لم يكن فى العالم إلا مصرح واحد كان هو ذلك المعين لا خصم له ، ولا ثانى له فى الدعوى التى يعتسفها المدعى من وجهين للعصمة ولا مصرح بها فى أقطار العالم سوى شخص واحد؟ فلعل فى أقصى الصين أو فى أطراف المغرب من يدعى شيئا من ذلك : وانتفاء ذلك مما لا يعرف ضرورة ولا نظرا ، فإن قيل : يعرف ذلك ضرورة إذ لو كان لانتشر لأن مثل هذا تتوافر الدواعى على نقله ، قلنا : يحتمل أنه كان ولم ينتشر إلى بلادنا ، مع بعد المسافة ، لأن المدعى له ليس يتمكن من ذكره إلا

__________________

(١) التّقية : إضمار عداوة الحاكم الطاغية فى النفس اتقاء لشره وأذاه. مأخوذة من قول الله تعالى : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨].

مع سوسه وصاحب سره ، وحوله جماعة من أعدائه ، فيفزع من إظهار السر وإفشائه ، ويرى المصلحة فى إخفائه ؛ أو هو مفش له ولكن المستمعين له ممنوعون عن الانتشار فى البلاد وإخبار العباد به لأنهم محاصرون من جهة الأعداء ، مضطرون إلى ملازمة الوطن خوفا من نكاية المستولين عليهم ، فما الّذي يبطل هذا الاحتمال ، وهو أمر ـ قدر قريبا أو بعيدا ـ فهو ممكن ليس من قبيل المحالات ، وأنتم تدعون القطع فيما توردون ؛ فكيف يصفو القطع مع هذا الاحتمال؟!

(الوجه الثانى) فى إفساد هذه المقدمة : هو أنكم ظننتم أنه لا يدعى العصمة فى العالم سوى شخص واحد ، وهو خطأ ؛ فإنا بالتواتر نتسامع بمدعيين أحدهما فى جيلان (١) فإنها لا تنفك قط عن رجل يلقب نفسه بناصر الحق ويدعى لنفسه العصمة ، وأنه نازل منزلة الرسول ، ويستعبد الحمقى من سكان ذلك القطر إلى حد يقطعهم جوانب الجنة مقدرا بالمساحة ، ويضايق فى بعضهم إلى حد لا يبيع ذراعا من الجنة لا بمائة دينار. وهم يحملون إليه ذخائر الأموال ، ويشترون منه مساكن فى الجنة ، فهذا أحد الدعاة ، فبم عرفتم أنه مبطل؟! وإذ قد تعدد المدعى ولا مرجح ، إذ لا معجزة ، فلا تظنوا أن الحماقة مقصورة عليكم ، وأن هذه الكلمة لا ينطق بها لسان غيركم ، بل التعجب من ظنكم أن هذه الحماقة مقصورة عليكم فى الحال أكثر من العجب فى أصل هذه الحماقة.

فأما المدعى الثانى فرجل فى جزائر البصرة يدعى الربوبية ، وقد شرع دينا ورتب قرآنا ونصب رجلا يقال : له : على بن كحلا (٢) ، وزعم أنه بمنزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه رسوله إلى الخلق. وقد أحدق به طائفة من الحمقى زهاء عشرة آلاف نفس ، ولعله يزيد عددهم على عددكم ، وهو يدعى لنفسه العصمة وما فوقها. فما جوابكم عن رجل من الشاباسية (٣) يسوق هذه المقدمات إلى هذه المقدمة ثم يقول : إذا لم يكن

__________________

(١) جيلان : اسم لبلاد كثيرة تقع وراء طبرستان ، تختلف تضاريسها بين مروج وجبال.

(٢) كان على بن كحلا هذا ؛ بمنزلة الرسول من الله لدى الشاباسية.

(٣) الشاباسية : نسبة إلى شاباس أو شباس ادعى أصحابه وأتباعه الألوهية له.

بد من معلم معصوم ، ولا معجزة للمعصوم وإنما يعرف بالدعوى ، وصاحب الباطنية لا يدعى الربوبية ـ كيف وصاحب الشاباسية يدعى الربوبية؟ فأتباعه أولى ، فإن قلتم : من يدعى الربوبية يعرف بطلان قوله ضرورة ؛ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه إنما يدعى ذلك بطريق الحلول (١) ويزعم أن ذلك توارث فى نسبهم ؛ وقد استمر ذلك فى بيتهم عصرا طويلا. والمدعى الآن كان جده مدعيا لذلك ، والحلول قد ذهب إليه طوائف كثيرة ، فليس بطلان مذهب الحلولية ضروريا ؛ فكيف يكون ضروريا وفيه من الخلاف المشهور ما لا يكاد يخفى ، حتى مال إلى ذلك طائفة كبيرة من محققى الصوفية وجماعة من الفلاسفة ، وإليه أشار الحسين بن منصور (٢) الحلاج الّذي صلب ببغداد حيث كان يقول : «أنا الحق ، أنا الحق» ؛ وكان يقرأ فى وقت الصلب : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٥٧]. وإليه أشار أبو يزيد البسطامى (٣) بقوله : «سبحانى ، سبحانى! ما أعظم شأنى!». وقد سمعت أنا شيخا من مشايخ الصوفية تعقد عليه الخناصر ويشار إليه بالأصابع فى متانة دين ، وغزارة علم ، حكى لى عن شيخه المرموق فى الدين والورع أنه قال : ما تسمعه من أسماء الله الحسنى ، التى هى تسعة وتسعون ، كلها يصير وصفا للصوفى السالك بطريقه إلى الله ، وهو يعد من جملة السائرين إلى الله لا من زمرة الواصلين ، وكيف ينكر هذا وعليه مذهب النصارى فى اتحاد اللاهوت بناسوت (٤) عيسى عليه‌السلام حتى سماه بعضهم إلها وبعضهم ابن الإله وبعضهم قالوا هو

__________________

(١) الحلول ؛ أى : حلول الذات الإلهية فى الإنسان ؛ فيتحد فيه اللاهوت بالناسوت! وهى فلسفة هندية (بوذية) قديمة ؛ ثم يتوارث ذلك فى السلالة والذرية.

(٢) الحلاج : صلب أيام الخليفة المقتدر العباسى سنة ٣٠٩ ه‍. كان كما قال عنه ابن النديم : محتالا يتعاطى مذاهب الصوفية ، ويدعى كل علم جورا على السلاطين ، مرتكبا للعظائم ويراه آخرون فيلسوفا إشراقيا ، يقول بالحلول.

(٣) أبو يزيد البسطامى : طيفور بن عيسى البسطامى ـ أبو يزيد ، ويقال : بايزيد زاهد مشهور ، له أخبار كثيرة.

نسبته إلى «بسطام» بلدة بين خراسان والعراق ، أصله منها ووفاته فيها (١٨٨ ـ ٢٦١) ه.

(٤) الناسوت : الجانب البشرى الإنسانى فى كيان ابن آدم (المادية الترابية).

نصف الإله ، واتفقوا على أنه لما قتل إنما قتل منه الناسوت دون اللاهوت ، كيف وقد تخيل جماعة من الروافض ذلك فى على رضى الله عنه وزعموا أنه الإله (١). وكان ذلك فى زمانه حتى أمر بإحراقهم بالنار ، فلم يرجعوا وقالوا : بهذا يبين صدقنا فى قولنا إنه الإله لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يعذب بالنار إلا ربها». فبهذا يبين أن بطلان هذا المذهب ليس بضرورى ، ولكنه ضرب من الحماقة ، ويعرف بطلانه بالنظر العقلى ، كما يعرف بطلان مذهبهم ، فإذا قد بطل قولهم : لا مدعى للعصمة سوى صاحبنا ، بل قد ظهر من يدعى العصمة وزيادة.

(الوجه الثانى) فى الجواب عن قولهم إن بطلان مذهبهم معلوم ضرورة ، ولا فرق بين ما يعرف بطلانه ضرورة وبين ما يعرف بطلانه مشاهدة أو تواترا ، وعدم العصمة فيمن ادعيتم عصمته معلوم بمشاهدة ما يناقض الشرع من وجوه : أولها جمع الأموال وأخذ الضرائب والمواصير (٢) واستئداء (٣) الخراجات الباطلة وهو الأمر المتواتر فى جميع الأقطار ؛ ثم الترفه فى العيش ، والاستكثار من أسباب الزينة ، والإسراف فى وجوه التجمل واستعمال الثياب الفاخرة من الإبريسم (٤) وغيرها ؛ وعدالة الشهادة فتحرم بعشر عشر ذلك ، فكيف العصمة! فإن أنكروا هذه الأحوال أنكروا ما شاهده خلق كثير من تلك الأقطار وتواتر على لسانهم إلى سائر الأمصار. ولذلك لا ترى لأحد من أهل تلك البلاد اغترارا وانخداعا بهذه التلبيسات لمشاهدتهم ما يناقضها. ومن وجوه حيلهم أنهم لا يبثون الدعوة إلا فى بلاد نائية ، يحتاج المستجيب إلى قطع مسافة شاسعة لو اعترضت له ريبة فيها ، حتى تدفعه العوائق عن النهضة والرحلة. فإنهم لو شاهدوا لانكشف لهم عوار تلك التلبيسات المزخرفة والحيل الملفقة.

__________________

(١) ذكرنا من قبل أن ابن السوداء ـ عبد الله بن سبأ اليهودى الأصل ؛ كان أول من زعم ذلك فى على ـ كرم الله وجهه ـ.

(٢) المواصير : أقل العطاء.

(٣) استئداء : طلب الأداء.

(٤) الإبريسم : كلمة معرّبة ؛ فارسية الأصل ؛ نوع من القماش الحريرى الفاخر.

أما (المقدمة الثانية) وهى قولهم : إذا بان أن المدعى للعصمة مهما كان واحدا وقع الاستغناء عن الاستدلال على كونه معصوما ؛ فصاحبنا إذا هو المدعى للعصمة وحده ؛ فإذا هو الإمام المعصوم ؛ فهذه مقدمة نكذبهم فيها ، ولا نسلم أن صاحبهم يدعى لنفسه العصمة ، فإنا لم نسمعه البتة ، ولم يتواتر إلينا من لسان من سمعه منه ، بل إنما سمع ذلك من آحاد دعاتهم وليسوا معصومين ولا هم بالغون حدّ التواتر ، ولو أنهم بلغوا حد التواتر فلا يحصل العلم بقولهم وخبرهم لوجهين : أحدهما أن المشافهين لهذه الدعوة من جهة صاحبهم قليل ، فإنه محتجب لا يظهر إلا للخواص ، ثم لا يشافه بالخطاب إلا خواص الخواص ، ثم لا يفشى هذه الدعوة إلا مع خاص من جملة خواص الخواص ، فالذين يسمعون عنه لا يبلغون عدد التواتر ؛ وإن بلغوا فكلهم إن انتشروا لم يكن فى بلدة منهم إلا واحد ؛ وأكثر البلاد أيضا يخلو عن آحادهم.

الوجه الثانى : أنهم وإن بلغوا حد التواتر فقد شرط التواتر فى خبرهم ، إذ شرط ذلك الخبر ألا يتعلق بواقعة ينتشر التواطؤ فيها من طائفة كبيرة لمصلحة جامعة لهم ، كما يتعلق بالسياسات. فإن أهل معسكر واحد قد يجمعهم غرض واحد فيحدثون على التطابق بشيء واحد ، ولا يورث ذلك العلم ، ورب واحد أو اثنين يخبر عن أمر فيعلم أنه لا يجمعهما غرض فيحصل له العلم ، وهؤلاء الدعاة لعلهم قد تواطئوا على هذا الاختراع ليتوصلوا به إلى استتباع العوام واستباحة أموالهم ، فيتوصلون بها إلى آمالهم.

وعلى الجملة فحسن الظن بصاحبهم يقتضي تكذيبهم ، فإنهم لو حدثوا بذلك عن مريض فى دار المرضى لاعتقدنا كذبه ، إلا أن يعتقد الجنون فى ذلك المريض ، إذ لا يدعى عاقل العصمة عن المحرمات وتناول المحظورات مع مشاهدة أهل العلم تناوله لها ومباشرته لها ، فأقل آثار العقل الحياء عن فضيحة الاجتراء ؛ ومن تحلى بغير ما هو فيه ، وكان ذلك جليا ظاهرا لمن يتأمل فيه ، استدل به على اختلال

عقله. فإذا ليس يبين لنا صدقهم فى نسبتهم هذه الدعوى إلى صاحبهم ، وهى مقدمتهم الأخيرة.

فإن قيل : لو أنكر الناس فى أطراف العالم فى عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق الدعاة من رسول الله وقالوا لا نصدقكم فى قولكم إن محمدا يدّعى الرسالة ، بل لا يظن بعقله ذلك ـ ما ذا كان يقال لهم؟ ـ قلنا : بئس ما شبّهتم الملائكة بالحدادين ، إذ لا مساواة فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ظاهرا بنفسه وأشياعه ، مبرزا للقتال ، مترددا فى الأقطار ، مظهرا للدعوة على ملأ من الناس غير محتجب ولا متستر ، ثم كان يظهر المعجزات الخارقة للعادة ، فانتشرت دعوته لانتشار خروجه ومقاتلته وانتشار وجوده ؛ وليس الآن فى صاحبكم كذلك. نعم ، تواتر وجوده وترشحه مع آبائه للخلافة ودعواهم أنهم أولى بها من غيرهم ، أما دعواه ودعوى من سبق من آبائه العصمة عن المعاصى وعن الخطأ والزلل والسهو ومعرفة الحق فى جميع أسرار العقليات والشرعيات ، فلم يظهر ذلك لنا ، بل لم تظهر دعواه العلم أصلا بفنّ من الفنون كالفقه أو الكلام أو الفلسفة على الوجه الّذي يدعيه آحاد العلماء فى البلاد. فكيف ظهرت دعواه معرفة أسرار النبوة والاطلاع على علوم الدنيا والآخرة؟! وهذا ما تواطأ على اختراعه توصلا إلى استدراج المستجيب وخداعه.

هذا تمام الرد عليهم فى المقدمات تفصيلا ، مع أن فى المنهج الأول المنطوى على الرد عليهم جملة كافية ومقنعا. ولم يبق إلا القول فى إفساد أدلتهم المذكورة لإبطال النظر.

أما (الدلالة الأولى) وهى قولهم من صدق عقله فقد كذبه إذ صدق عقل خصمه ، وخصمه يصرح بتكذيبه. فنقول : هذا تخييل باطل من وجوه :

الأول المعارضة بمثال ، وهو أنا نقول : نحن صدقنا العقول فى نظرياتها ، وأنتم صدقتموها فى ضرورياتها ؛ وخصومكم من السوفسطائية يكذبونكم فيها ، فإن اقتضى ذلك لزوم الاعتراف بكذب العلوم الضرورية لزمنا من خلافكم الاعتراف

بكذب العلوم النظرية ؛ فإن العقل إن صدق فى الضروريات ، فما بال عقل السوفسطائية كذب ؛ وما الفرق بين عقلكم وعقلهم؟ أفتقولون إن ذلك منهم حماقة وسوء مزاج؟ ـ قلنا : وكذلك حالكم فى إنكار النظريات ، وهو كمن ينكر الحسابيات من العلوم ؛ فإنه لا يشككنا فى البراهين الحسابية وإن كان البليد لا يفهم ، ومنكر النظر أصلا يجحده ؛ ولكن طريقنا معه أن نورد عليه المقدمات ، وهى ضرورية ، فإذا أدركها أدرك النتيجة فكذلك خصمنا إذا كذبنا فى مسألة من المسائل كإنكار ثبوت واجب الوجود عرضنا عليه مقدمات القياس الدالة عليه وقلنا : أتمارى فى قولنا : لا شك فى أصل الوجود؟ أو فى قولنا : إن كل موجود إما جائز وإما واجب؟ أم فى قولنا : إن كان واجبا فقد ثبت واجب الوجود؟ أم فى قولنا : إن كان جائزا فكل جائز مستند إلى واجب الوجود فى آخر الأمر لا محالة؟ ـ وإذا لم يمكنه التشكك فى المقدمات لم يمكنه التشكك فى النتيجة ، وإنما يختلف الناس فيها لأن الفطرة غير كافية فى تعريف الترتيب لهذه المقدمات ، بل لا بدّ من تعلمها من الأفاضل ، وذلك الفاضل لا بدّ أن يكون تعلم أكثرها أو استأثر باستنباط بعضها ، وهكذا حتى ينتهى الأمر إلى معلم معصوم هو نبى موحى إليه من جهة الله تعالى ، هكذا تكون العلوم كلها.

فإن زعموا أنكم اعترفتم بالحاجة إلى المعلم ومن لم يعترف فهو معاند للمشاهدة ، فالافتقار إليه معترف به ، ولكنه كالافتقار إليه فى علم الحساب ، فإنه لا يحتاج فيه إلى معصوم ، إذ لا تقليد فيه ، ولكن يحتاج إلى حاسب ينبه على طريق النظر ، فإذا تنبه المعلم ساوى المعلم فى العلم الضرورى المستفاد من المقدمات بعضها على بعض. ولا شك فى أن معلم الحساب أيضا يعلم أكثر مما يعلّم ، وإن استقل باستنباط ترتيب البعض ، وكذا القول فى معلم المعلم إلى أن ينتهى مبدأ العلم الحسابى إلى نبى من الأنبياء مؤيد بالوحى والمعجزة ، ولكن بعد إفاضة الله علم الحساب فيما بين الخلق استغنى فى تعلمه عن معلم معصوم ، فكذا العلوم العقلية النظرية ، ولا فرق.

(الاعتراض الثانى) أن يقال لهم : أنكرتم من خصومكم تصديق العقل فى نظره واخترتم تكذيبه ، فبما ذا تعرفون الحق وتميزون بينه وبين الباطل؟ أبضرورة العقل ولا سبيل إلى دعواها ، أو بنظره فتضطرون إلى الرجوع إلى النظر؟ فقد صدقتموه إذا بعد تكذيبه فتناقض كلامكم. فإن قلتم : نحن نأخذه من الإمام المعصوم ـ قلنا : وبم تعرفون صدقه؟ فإن قلتم : لأنه معصوم ، قلنا : وبم تعرفون عصمته؟ ـ فإن قلتم بضرورة العقل لم يخف عليكم خزيكم وعرفتم فى الباطن من أنفسكم خلاف ما أظهرتم ، فإن عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع معجزته لم تعرف بضرورة العقل ، حتى أنكر رسالته طوائف ، بل أنكر بعثة الرسل جميع البراهمة (١) ، وأنكر الأكثرون من المسلمين عصمة الأنبياء ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١]. إلى غير ذلك مما اشتمل القرآن على حكايته من أحوال الأنبياء. فإذا لم تعرف عصمة صاحب المعجزة ضرورة فكيف تعرف عصمة صاحبكم ضرورة؟

فإن قيل : نحن نعرفه بالنظر ، ولكن النظر تعلم منه ، والنظر ينقسم إلى صحيح وفاسد ؛ وتمييز صحيحه عن فاسده ممتنع على كافة الخلق إلا على الإمام الحق ، فهذا الميزان الموضح للفرقان بين الشبهة والبرهان ، فقد عرفنا صحة النظر الّذي استفدنا منه فاطمأنت نفوسنا إليه بتزكيته وتعليمه.

قلنا : والنظر الّذي علمكموه هل افتقرتم فى فهمه إلى تأمل ، أم هو مدرك على البديهة؟ فإن ادعيتم البديهة فما أشد جهلكم إذ يرجع حاصله إلى أن معرفة عصمته عرفت بالبديهة ، وهو كذب صريح. وإن افتقرتم إلى التأمل فذلك التأمل يعرف بالعقل ، أم لا؟ ولا بدّ أن يقال : إنه بالعقل. فنقول : والعقل إذا قضى عند التأمل بقضية فهو صادق أم لا؟ فإن قالوا : لا ، فلم صدقوه؟ وإن قالوا : نعم هو صادق ، فقد أبطلوا أصل مذهبهم وهو قولهم : إن العقول لا سبيل إلى تصديقها.

__________________

(١) البراهمة : إحدى الطوائف الإلحادية القديمة : منشؤها فى الهند.

فإن قيل : الإمام يعرف من بواطن أسرار الله أمورا إذا ذكرها حصل للمتعلم عند سماعها علم بديهى ضرورى بصدقه ، ويستغنى به عن تدقيق النظر والتأمل.

فنقول : ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل عرف ذلك ، أم لا؟ فإن قلتم : لا ـ فقد فضلتم الخليفة على الأصل ؛ وإن قلتم : نعم؟ فلم أخفاها ، وهلا أظهرها وأفشاها ، حتى كانت العقول تضطر على البديهة إلى ذكرها وكانت تتسارع إلى التصديق له فى دعاويه؟ ولم ترك طوائف الخلق مضطربين فى مغاصات الشبه متعثرين فى أذيال الضلالات ، مجاهدين بأموالهم وأنفسهم فى نصرة الخيالات الباطلة؟ كيف وأنتم إذا تعلمتم من إمامكم ذلك ، وقدرتم على ذكره حتى يعرف بالبديهة صدقه فتلك الدقيقة لما ذا أخفيت ، ولأى يوم أجلت؟ وكتمان الدين من أكبر الكبائر؟! ثم كيف انقسم المستمعون فنون ضلالكم : إلى قائل مستمع ، وراد ، ومنخدع ، ومنتبه ؛ وهلا أسلك الكل فى ربقة التصديق والانقياد؟! وعلى الجملة فدعوى مثل هذا الكلام لا تدلّ إلا على الوقاحة وقلة الحياء ؛ وإلا فنحن بالضرورة نعلم أنكم على البديهة لم تدركوا صدق إمامكم وعصمته ، ولكنكم ربما تضطرون ، فى تمشية التلبيس ، إلى خلع جلباب الحياء ؛ وكذلك يفعل الله بذوى الضلال والأهواء فنعوذ بالله من سقطة الأغبياء ، فما هذه الكذبة الصادرة منكم قولة تقال أو عثرة تقال ، أو خدعة يسبق إليها الجهّال فضلا عن أفاضل الرجال.

(الاعتراض الثالث) وهو أن نقول للمسترشد مثلا ، إذا شك فى صحة النظر واستدل بالاختلاف المجمل : ينبغى أن تعين المسألة التى تشك فيها فإن المسائل منقسمة إلى ما لا يمكن أن يعلم بنظر العقل ، وإلى ما يمكن أن يعلم علما ظنيا ، وإلى ما يعلم يقينيا ، ولا معنى لقبول السؤال المجمل ، بل لا بدّ من تعيين المسألة التى فيها الإشكال حتى يكشف الغطاء عنها وينبه السائل على أن المخالف فيها جهل وجه ترتيب المقدمات المنتجة له ، ونحن لا ندعى الآن

المعرفة إلا فى مسألتين : إحداهما وجود الصانع الواجب الوجود المستغنى عن الصانع والمدبر ؛ والثانية : صدق الرسول. ويكفينا فى باقى المسائل أن نتلقاها تقليدا من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهذا القدر الّذي لا بدّ منه فى الدين. وباقى العلوم لا يتعين تحصيلها ، بل الخلق مستغنون عنها وإن كان ذلك ممكنا كالعلوم الحسابية والطبية والنجومية والفلسفية ، وهاتان المسألتان نعرفهما يقينا.

أما ثبوت واجب الوجود فبالمقدمات التى عرفناها ؛ وأما صدق الرسول فبمقدمات تماثلها ، ومن أحاط بها لم يشك فيها ، وعلم غلط المخالف فيها ، كما يعلم غلط المحاسب فى الحساب ، وخصومنا أيضا مضطرون إلى معرفة هاتين المسألتين بالنظر ، وإلا فقول النبي لا يغنى فيهما ، فكيف يغنى فيهما قول المعصوم؟

فإن قيل : معرفة صفات الله ومعرفة الشرائع ومعرفة الحشر والنشر ـ كل ذلك لا بدّ منه ، فمن أين يعرف؟ ـ قلنا : يتعلم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعصوم المؤيد بالمعجزة ونصدقه فيما يخبر عنه كما تقلدون أنتم صاحبكم الّذي لا عصمة له ولا معجزة.

فإن قيل : وبم تفهمون كلامه؟ قلنا : بما نفهم به كلامكم هذا فى أسئلتكم ، وتفهمون كلامنا فى أجوبتنا ، وهو معرفة اللغة وموضوع الألفاظ ، كما تفهمون أنتم من المعصوم عندكم ، فإن قيل : ففى كلام الرسول وفى القرآن المشكلات والمجملات كحروف أوائل السور ، والمتشابه كأمر القيامة ـ فمن يطلعكم على تأويله والعقل لا يدل عليه؟

قلنا : للألفاظ الشرعية ثلاثة أقسام : ألفاظ صريحة لا يتطرق إليها الاحتمال فلا حاجة فيها إلى معلم ، بل نفهمها كما تفهمون أنتم كلام المعلم المعصوم ، إذ لو اقتصر صريح كلام الشارع إلى معلم ومؤول لاقتصر صريح كلام المعلم المعصوم إلى مؤول ومعلم آخر ، ولتسلسل إلى غير نهاية.

الثانى : ألفاظ مجملة ومتشابهة كحروف أوائل السور فمعانيها لا يمكن أن تدرك بالعقل ، إذ اللغات تعرف بالاصطلاح ، ولم يسبق اصطلاح من الخلق على حروف التهجى ، وإن «الر» و«حم عسق» عبارة عما ذا؟ فالمعصوم أيضا لا يفهمه ، وإنما يفهم ذلك من الله تعالى إذا بين المراد به على لسان رسوله فيفهم ذلك سماعا ، وذلك لا يخلو إما : أن لم يذكره الرسول لأنه لا حاجة إلى معرفته ، ولم يكلف الخلق به ؛ فالمعصوم شريك فى أنه لا يعرفه إذ لم يسمعه من الرسول وإن عرفه وذكره فقد ذكر ما بالخلق مندوحة عن معرفته ، فإنهم لم يكلفوه. وإن ذكره الرسول فقد اشترك فى معرفته من بلغه الخبر ـ متواترا كان أو آحادا ، وفيه عن ابن عباس وجماعة من المفسرين نقل ، فإن كان متواترا أفاد علما ، وإلا أفاد ظنا ، والظن فيه كاف ، بل لا حاجة إلى معرفته فإنه لا تكليف فيه ، وأما وقت القيامة فلم يذكره الله تعالى ، ولا ذكره رسوله عليه‌السلام ، وإنما يجب التصديق بأصل القيامة ولا يجب معرفة وقتها ، بل مصلحة الخلق فى إخفائها عنهم ولذلك طوى منهم.

فالمعصوم من أين عرف ذلك الكلام ولم يذكره الله ولا رسوله ، ولا مجال لضرورة العقل ولا لنظره فى تعيين الوقت؟! ثم لنقدر أنه عرف ذلك وزعم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكره سرا مع على بن أبى طالب ـ رضى الله عنه ـ وذكره كل إمام مع سوسه فأى فائدة للخلق فيه وهو سرّ لا يجوز أن يذكر إلا مع الأئمة؟ فإن ذكره معصومكم وأفشى هذا السر الّذي أمر الله تعالى بكتمانه إذ قال تعالى : (أَكادُ أُخْفِيها) [طه : ١٥] ، كان معاندا لله ورسوله ؛ وإن كان لا يفشيه فكيف يتعلم منه ما لا يجوز تعليمه؟ فدلّ على أن الأمور العقلية محتاجة إلى التعليم. ولكن المعلم إن كان ينبه على طريق النظر فيه فلا يشترط عصمته ؛ وإن كان يقلد من غير دليل فلا بد أن تعرف بالمعجزة عصمته وهو النبي ، وناهيك به معلما ، فلا حاجة إلى غيره.

القسم الثالث : الألفاظ التى ليست مجملة ولا صريحة ، ولكنها ظاهرة فإنها تثير

ظنا ، ويكتفى بالظن فى ذلك القبيل والفن ، وسواء كان ذلك فى الفقهيات وأمور الآخرة أو صفات الله فليس يجب على الخلق إلا أن يعتقدوا التوحيد ، والألفاظ فيه صريحة ، وأن يعتقدوا أنه قادر عليم سميع بصير ليس كمثله شيء. وكل ذلك اشتمل القرآن عليه ، وهو مصرح به.

أما النظر فى كيفية هذه الصفات وحقيقتها وأنها تساوى قدرتنا وعلمنا وبصرنا أم لا ـ فقوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] دال على نفى المماثلة لسائر الموجودات ، وهذا قد اكتفى من الخلق به ، فلا حاجة بهم إلى معصوم. نعم! الناظر فيه والمستدل عليه بالأدلة العقلية قد يتوصل إلى اليقين فى بعض ما ينظر فيه وإلى الظن فى بعضه ؛ ويختلف ذلك باختلاف الذكاء والفطنة واختلاف العوائق والبواعث ومساعدة التوفيق فى النظر ، والعارف يذوق اليقين. وإذا تيقن لم يتمار فيه ، ولم يشككه قصور غيره عن الدرك ، وربما تضعف نفسه ، ويشككه خلاف غيره. وكل ذلك لا مضرة له ، لأنه ليس مأمورا به ، والمعصوم لا يغنى عنه شيئا لو تابعه ، فإن محض التقليد لا يكفيه ، وإن ذكر وجه الدليل فذلك لا يختلف صدوره عن معصوم أو غيره كما سبق.

وأما (الدلالة الثانية) وهى قولهم : إذا جاءكم مسترشد متحير وسألكم عن العلوم الدينية أفتحيلونه على عقله ليستقل بالنظر وهو عاجز ، أو تأمرونه باتباعكم فى مذهبكم وينازعكم المعتزلى والفلسفى وكذا سائر الفرق ـ فبما ذا يتميز مذهب عن مذهب وفرقة عن فرقة؟

فالجواب من وجهين (الأول) هو أنا نقول لهم : لو جاءكم متحير فى أصل وجود الصانع وصدق الأنبياء ؛ انقلب عليكم هذا الإشكال ، فما ذا تقولون؟ إن ذكرتم دليلا عقليا لم نثق بنظره ، وإن رددتموه إلى عقله فكمثل ، فعساكم تشفون غليله بالحوالة على المعصوم ، فما أبرد هذا الشفاء! فإنه يقول : قدرونى قد جئت مسترشدا فى زمان محمد بن عبد الله ومعه معجزته ، فمعصومكم لا يقدر على معجزة ؛ أو قدروا

أنى شاهدت معصومكم قلب العصا ثعبانا ، أو أحيا الموتى ، أو أبرأ الأكمه والأبرص وأنا أشاهده ، فلا يبين لى صدقه بضرورة العقل ولا أثق بالنظر. وكم من أصناف الخلائق شاهدوا ذلك وأنكروه ، فحمله بعضهم على السحر والمخرقة ، وبعضهم على غيره ، فلعلكم تشبعون غصته بأن تقولوا له : قلد الإمام المعصوم ولا تسأل عن السبب ؛ فيقول : ولم لا أقلد المخالفين لكم فى إنكار النبوة والعصمة ، وهل بينهما فرق من طول لحية أو بياض وجه ـ إلى غير ذلك مما هذوا به؟! وهذا قلب لو اجتمع أولهم مع آخرهم على الخلاص منه دون الأمر بالتفكر والنظر فى الدليل لم يجدوا إليه سبيلا.

(الجواب الثانى) وهو التحقيق : هو أنّا نقول للمسترشد : ما ذا تطلب؟ فإن كنت تطلب العلوم كلها ، فما أشد فضولك وأعظم خطبك وأطول أملك! فاشتغل من العلوم بما يهمك : وإن قال : أريد ما يهمنى. قلنا : ولا مهم إلا معرفة الله ورسوله ؛ وهذا معنى قوله : «لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» ، فهاتان مسألتان يسهل علينا تعليمك إياهما ، عند ذلك تذكر له المقدمات الضرورية التى ذكرناها فى إثبات واجب الوجود ، ثم مثلها فى دلالة المعجزة على صدق الرسول ، فإن زعم أن خلاف المخالفين هو الّذي يشككنى فى هذه المعرفة ، أفأتبعكم أو أتبع مخالفيكم؟ فنقول له : لا تتبعنا ولا تتبع مخالفينا ، فإن تعلم طريق التقليد مباح ، والتقليد فى النتيجة غير موثوق به. فشكك فى أى مقدمة من مقدماتنا : أفي قولنا إن أصل الوجود معترف به؟ فإن كان كذلك فعلاجك فى دار المرضى فإن هذا من سوء المزاج ، فإن من شك فى أصل الوجود فقد شك أولا فى وجود نفسه ، وإن قلت : لا أشك فى هذا بخلاف السوفسطائية ، قلنا : فقد تيقنت مقدمة واحدة ، فهل تشك فى الثانية وهى قولنا : إن كان هذا الوجود واجبا فقد ثبت واجب الوجود ، فنقول : هذا أيضا ضرورى ، قلنا : فهل تشك فى قولنا إن كان جائزا فلا يتخصص أحد طرفى الجواز من الطرف المماثل له إلا بمخصص ، فهذه أيضا مقدمة ضرورية عند من يدرك معنى اللفظ ؛ وإن كان فيه توقف فالتوقف فى درك مراد المتكلم من

لفظه ، فإن قال : نعم! لا شك فيه ، قلنا : فذلك المخصص المفتقر إليه إن كان جائزا فالقول فى ذلك لا كالقول فيه فيفتقر إلى مخصص غير جائز ، وهو المراد بواجب الوجود ، ففى ما ذا تتشكك؟ فإن قال : قد بقى لى شكّ ـ عرف به بلادته وسوء فهمه وقطع الطمع عن رشده. وليس هذا بأول بليد لا يدرك الحقائق فنخلّيه. وهو كمن يطلب علم الحساب فذكرنا له الغوامض من مقدمات الحساب من الشكل (القطاع) الّذي هو فى آخر كتاب «أقليدس» فلم يفهمه لبلادته ، بل فى الشكل الأول الّذي مضمونه إقامة البراهين على مثلث متساوى الأضلاع فلم يدركه ؛ عرفنا أن مزاجه ليس يحتمل هذا العلم الدقيق ؛ فليس كل خلقه يحتمل العلوم ، بل الصناعات والحرف ـ فهذا لا يدل على فساد هذا الأصل.

فإن قال المسترشد : لست أشك فى هذه المقدمات ولا فى النتيجة ، ولكن لم يخالفكم من يخالفكم؟ قلنا : لجهله ترتيب هذه المقدمات ، أو لعناده ، أو لبلادته ، وينكشف الغطاء بأن نشافه واحدا منهم يميل إلى الإنصاف ونراجعه فى هذه المقدمات حتى يتبين لك أنه بين أن يفهم ويصف ويعترف ، أو لا يفهم لبلادته ، أو يمنعه التعصب والتقليد عن حسن الإصغاء إليه فلا يدركه ، وعند ذلك يطلع على خطئه.

وكذلك يصنع به فى كل مسألة وينظر فيه إلى ما تحتمله حاله ويقبله ذكاؤه وفطنته ، ولا يحمّله ما لا يطيقه بل ربما يقنعه بما يورث له اعتقادا فى الحق مصمما ، فإن أكثر عوام الخلق قنع منهم الشرع بذلك ؛ ولا يكشف له عن وجه البراهين فربما لا يفهمها.

وأما (الدلالة الثالثة) وهى قولهم : الوحدة دليل الحق ، والكثرة دليل الباطل ؛ ومذهب التعليم تلزمه الوحدة ، ومذهبكم تلزمه الكثرة ، إذ لا تزال الفرقة المخالفة للتعليم يكثر اختلافهم ، ولا تزال الفرقة القابلة للتعليم يتحد طريقهم.

فالجواب من وجوه : أحدها المعارضة ، والآخر الإبطال ، والثالث التحقيق. أما

المعارضة فتقول : والصائرون إلى الافتقار إلى معلم معصوم اختلفوا فى ذلك المعصوم ، فقالت الإمامية : إنه ليس بظاهر وليس يعرف عينه ، ولكن أخفى نفسه تقية ، وقال آخرون : ليس موجودا ، ولكنه منتظر الوجود وسيوجد إذا احتمل الزمان إظهار الحق ، ولو كان يحتمل الزمان إظهاره لوجد ، فإنه لا فائدة فى كونه موجودا مع تعذر الإظهار للتقية ، وقال آخرون فى بعض الخلفاء الذين مضوا لسبيلهم إنهم أحياء وسيظهرون فى أوانه ، واختلفوا فى تعيينه حتى اعتقد فريق أن الملقب بالحاكم (١) هو حي بعد. وقال آخرون ذلك فى غيره ، إلى نوع من الخبط طويل ، فإن قيل : هؤلاء جماعة من الحمقى غير معدودين فى زمرتنا فإذا ضممتموهم إلينا وجمعتم بيننا وبينهم تطرقت الكثرة إلينا ؛ فلم تجمعون إلينا من يخالفنا كما يخالفكم؟ بل الإنصاف أن تنظروا إلينا وحدنا ونحن لا تختلف كلمتنا أصلا ؛ قلنا : ونحن أيضا إذا اعتبرنا وحدنا فنحن لا نخالف أنفسنا ، وقد يرد هذا الاعتراض لا محالة من يعتقد مذهبا فى جميع المسائل لا يخالف نفسه ، ومع جماعة من الخلق يوافقونه فى معتقده فى الجميع ؛ فإذا اعتبرتموه مع فرقته ولم تجمعوا إليهم من يخالفهم فبالحماقة والبلادة وقصور النظر ألفيت كلمتهم متحدة ؛ فلا يدل على أن الحق فيهم ، فإن قلتم : وبم عرفتم حماقة مخالفيكم؟ انقلب ذلك عليكم من مخالفتكم القائلين بوجوب التعليم من المعصوم ، وإن زعمتم أن القائلين بأن النظر صحيح فرقة واحدة وإن اختلفوا فى تفاصيل المذهب ، قلنا : والقائلون بإن الإمام المعصوم لا بدّ منه فرقة واحدة ، وإن اختلفوا فى التفصيل ، وهذا لا محيص عنه أبد الدهر.

الجواب الثانى : وهو أنا نقول : قولكم الوحدة أمارة الحق ، والكثرة أمارة الباطل ؛ باطل فى الطرفين : فربّ واحد باطل ، وربّ كثير لا ينفك عن الحق. فإنا إذا قلنا : العالم حادث أو قديم ، فالحادث واحد والقديم واحد ؛ فقد اشتركا فى

__________________

(١) الحاكم بأمر الله الفاطمى.

لزوم الوحدة ، وانقسما فى الحق والباطل. وإذا قلنا : الخمسة والخمسة عشرة ، أم لا؟ فقولنا : لا ، نفى واحد ، كقولنا عشرة : إثبات واحد ، ثم اختلفنا فكان أحدهما حقا والآخر باطلا. فإن قلتم : إن قولكم عشرة لا يمكنكم أن تقسم وتفصل إلا بواحد وقولكم لا يفصل بالتسعة والسبعة وسائر الأعداد ففيه الكثرة ؛ قلنا : ولزوم الكثرة فى مثل هذا التفصيل لا يدل على البطلان ، فإنا إذا عمدنا إلى جسمين متقاربين قلنا : إنهما متساويان أم لا؟ فقولنا : متساويان واحد وهو باطل ، ولا يمكن أن يفصل إلا بواحد ، وقولنا : لا ، إذ قلنا متفاوتان ، حق ، وهو واحد ويقبل التفصيل بما ينقسم إلى الحق والباطل ، إذ يقال : هذا الجسم مفاوت لذلك الجسم ، أى هو أكبر ؛ أو يفسر بأنه أصغر والحق أحدهما والباطل يقابله فى كونه واحدا وفى مشاركته فى الاندراج تحت لفظ واحد هو حق يدل على أن ما ذكروه تلبيس.

(الجواب الثالث) عن قولهم إن الكثرة أمارة الباطل ، فمذهبنا واحد لا كثرة فيه ، وإنما الكثرة فى الأشخاص الذين اجتمعوا على مسألة ثم افترقوا فى مسائل ؛ فلم قابلوا هذا بكثرة فى جواب المسألة وهو فى قولنا : كم الخمسة والخمسة؟ بل ورأيه من المذهب أن يفتى فى مسألة واحدة بفتاوى كثيرة متناقضة ؛ فعند ذلك يقال : الكثرة دليل الباطل ؛ ولسنا نفتى فى كل مسألة إلا بواحد ، فإنا نقول : الله واحد ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسوله ، وهو صادق ومؤيد بالمعجزة فهذه فتوى واحدة فلتكن حقا ؛ وإن كان باطلا فهو موافق لمذهبهم.

وقولنا : إن نظر العقل طريق يوصل إلى درك ما لا يدرك اضطرارا ، مذهب واحد لا كثرة فيه فليكن حقا ، كما أن قولنا : العلوم الحسابية علوم صادقة ، قول واحد وكان حقا. وليتعجب من إبعادهم فى التلبيس إذ أخذوا لفظة «الكثرة» وهى لفظة مضافة مشتركة ، تارة يراد بها الكثرة فى الأجوبة عن مسألة واحدة كالجواب عن الخمسة والخمسة ، والسبعة والستة وغيرها ، وتارة تطلق ويراد كثرة الأشخاص

المتفقين فى مذهب والمختلفين فيه ، فرأوا مفارقة الباطل للكثرة المضافة إلى عدد الأجوبة فى مسئلة واحدة ، فاستدلوا به على بطلان قول واحد فى مسألة واحدة اجتمع عليها جماعة كثيرة اختلفت كلمتهم فى مسائل سوى تلك المشكلة.

ولكن هذا وإن كان تلبيسا بعيدا عن المحصل فمقصود واضعه التلبيس على العوام ، وذلك مما يتوقع رواجه ، فالحيلة على العوام فى استدراجهم ليست ممتنعة على جماعة من الحمقى قد ادعوا الربوبية ؛ فكيف تتعسر عن غيرها! وأما قول الله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، فهو من هذا الطراز فى التلبيس ، فإن المراد به تناقض الكلمات فى المتكلم الواحد إذا تناقض كلامه فسد ؛ ونحن لم يتناقض كلام الواحد منا فى مسألة ، بل اجتمع طائفة على مسألة وهى إثبات النظر ، كما اجتمع طائفة على التعليم وإثباته ، ثم اختلفوا فى مسائل أخر. فأين هذا من اختلاف الكلام الواحد؟!

فإن قيل : المتعلمون إذا أجمعوا على التعليم وعلى معلّم واحد وأصغوا بأجمعهم إليه لم يكن بينهم خلاف وإن كانوا ألف ألف ، قلنا : والناظرون إذا أجمعوا على النظر فى الدليل وعلى تعيين دليل واحد فى كل مسألة ووقفوا عليها لم يتصور بينهم خلاف. فإن قلتم : فكم من ناظر فى ذلك الدليل بعينه قد خالف؟! قلنا فكم من مصغ إلى معلمكم وقد خالف؟! فإن قلتم : لأنه لم يصدقه فى كونه معصوما ، قلنا : ولأن الناظر لم يعرف وجه دلالة الدليل ، فإن قلتم : ربما يعرف وجه الدلالة ثم ينكر ، قلنا : هذا لا يتصور إلا عنادا ، كما يعتقد واحد كون الإمام المعصوم حقا ثم يخالفه فلا يكون ذلك إلا عن عناد ، ولا فرق بين المسلكين.

وأما (الدلالة الرابعة) وهى قولهم إن كان لا يدرك الناظر المساواة بينه وبين خصمه فى الاعتقاد ، فلم يدرك المساواة بين حالتيه؟ وكم من مسألة اعتقدها نظرا ثم تغير اعتقاده ، فبم يعرف أن الثانى ليس كالأول؟ قلنا : يعرف ذلك معرفة ضرورية لا يتمارى فيها. وهذا معتقدكم أيضا فى مثالين ، ولا كلام أقوى من

القلب (١) والمعارضة فى مثل هذه المقالات ؛ فإن عادتهم مديد الاعتصام إلى إشكالات لا تختص بمذهب فريق. فيحيرون عقول العوام به ويخيلون أنه من خاصة مذهب مخالفيهم ، والعامى المسكين متى يتنبه لانقلاب ذلك عليه فى مذهبه! فنقول : هذا القائل اعتقد مذهب التعليم وإبطال النظر تقليدا سماعا من أبويه ، أو سمع من الأبوين مذهبا ثم تنبه بعد ذلك لبطلانه؟ فإن قال : اعتقدته سماعا من الأبوين ، قلنا : وأولاد النصارى واليهود والمجوس وأولاد مخالفيكم فى مسألة النظر وقع نشوؤهم على خلاف معتقدكم ، فبما ذا تفرقون به بين أنفسكم وبينهم؟ أبطول اللحى أو سواد الوجوه ، أم بسبب غيره والتقليد شامل؟

وإن قلتم : لا ، بل اعتقدنا مذهبكم ثم تركنا التقليد وتنبهنا لصحة مذهب التعليم ، قلنا : تنبهتم لبطلان مذهبنا : على البديهة ، أو بنظر العقل؟ فإن كان على البديهة فكيف خفى عليكم البديهى فى أول أمركم وعلى آبائكم وعلينا ونحن العقلاء وقد طبقنا وجه الأرض ذات الطول والعرض؟ وإن عرفتم ذلك بنظركم فلم وثقتم بالنظر ولعل حالكم اللاحقة كحال السابقة ، فما الفارق؟ فإن قلتم : عرفنا من المعلم ، قلنا : إن كان تقليدا فما الفرق بين التقليد للأول ، وبين تقليدكم وتقليد طوائف المخالفين من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين؟ وإن فهمتم بالنظر فما الفرق بينكم وبين سائر النظار؟ وهذا مما لا جواب عنه إلا أن يقال : بالضرورة ندرك التفرقة بين ما علم يقينا لا يمكن فيه الخطأ ، وبين ما يمكن ، فهكذا جوابنا.

المثال الثانى : إن من غلط فى مسألة حسابية ثم تنبه لها : هل يتصور أن يزول شكّه بعد التنبيه؟ نجيب : أنه ليس مخطئا وأن الخطأ غير جائز عليه ؛ وإنما كان الخطأ فيما تقدم لمقدمة شذت عنه ، فإن قلتم : لا ؛ فقد أنكرتم المشاهدة. وإن قلتم : نعم ، فبما ذا تدرك التفرقة إلا بالضرورة؟! وقد انقلب الإشكال بعينه. وكيف

__________________

(١) القلب : رد الحجة عليه بمثلها.

تنكر ذلك وقد رأيت من يدعى الذكاء والفطنة فى علم الحساب حكم بأن التيامن فى القبلة واجب ببلد «نيسابور» ، وأنه لا بدّ من الميل عن محرابها المتفق عليه إلى اليمين. واستدل عليه بمقدمة مسلمة وهى أن الشمس تقف وسط السماء على سمت الرأس بمكة فى أطول النهار وقت الزوال ، ثم قال : ترى الشمس فى أطول النهار وقت الزوال بنيسابور مائلة قليلا إلى يمين المستقبل فى محرابها فليعلم أنه على سمت رأس الواقف بمكة ، وأن مكة مائلة إلى اليمين. فتابعه على ذلك جماعة من الحساب ، واعتقدوا أن ذلك هو الواجب بحكم هذا الدليل ، حتى تنبهوا على محل الغلط فيه وإحلالهم بمقدمة أخرى ، وهى أن ذلك إنما يلزمه لو كان وقت الزوال بنيسابور هو وقت الزوال بمكة ؛ وليس كذلك ، بل يقع بعد ساعة ، وتكون الشمس قد أخذت إلى صوب المغرب فى جانب اليمين عرضا ، فيرى وقت الزوال مائلا عن قبلة نيسابور ، لأنه ليس وقت الزوال والغروب فى جميع المواضع متفقا ، ويعرف ذلك باختلاف ارتفاع القطبين وانخفاضهما ، بل باستتارهما وانكشافهما فى البقاع المختلفة ، فهذا الغلط وأمثاله فى الحساب أفيدل ذلك على أن النظر فى الحساب ليس طريقا موصلا إلى معرفة الحق؟ ، أو يتشكك المتنبه بعدها فيقول : لعله شذّت عنى مقدمة أخرى وأنا غافل عنها كما فى الأول ، هذا لو فتح بابه فهو السفسطة المحضة ويدعو ذلك إلى بطلان العلوم والاعتقادات كلها فكيف يبقى معه وجوب التعلم ومعرفة العصمة ، ومعرفة إبطال النظر!

وأما (الدلالة الخامسة) وهى قولهم إن صاحب الشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الناجى من الفرق واحدة وهم أهل السنة والجماعة» ثم قال : «ما أنا الآن عليه وأصحابى» ـ فهذا من عجيب الاستدلالات فإنهم أنكروا النظر فى الأدلة العقلية لاحتمال الخطأ فيه ، وأخذوا يتمسكون بأخبار الآحاد والزيادات الشاذة فيها ، فأصل الخبر من قبيل الآحاد ؛ وهذه الزيادة شاذة ، فهو ظن على ظن ؛ ثم هو لفظ محتمل من وجوه التأويل ما لا حصر له ، فإن ما كان عليه هو وأصحابه إن اشترط جميعه فى الأقوال والأفعال والحركات والصناعات كان محالا ؛ وإن أخذ بعضه فذلك البعض من

يعينه ويقدره؟ وكيف يدرك ضبطه ، وهل يتصور ذلك إلا بظن ضعيف؟ وربما لا يرتضى مثله فى الفقهيات مع خفّة أمرها ، فكيف يستدل على القطعيات بمثلها؟ على أنا نقول : هم كانوا على اتباع نبى مؤيد بالمعجزة. فلستم إذن من الفرقة الناجية ، فإنكم اتبعتم من ليس هو نبيا ولا مؤيدا بالمعجزة ، فسيقولون : ليس تجب مساواته من كل وجه ؛ قلنا : فنحن على مساواتهم من كل وجه : فإنا نأمر باتباع الكتاب والسنة والاجتهاد عند العجز عن التمسك بهما ، كما أمر معاذا به ، وكما استمر عليه الصحابة بعد وفاته من المشاورة والاجتهاد فى الأمور ، فالحديث قاض لنا بالنجاة ولكم بالهلاك ، فإنكم انحرفتم عن اتباع النبي المعصوم إلى غيره ، فإن قيل : ومعانى الكتاب والسنة كيف تفهمونها؟ قلنا : قد بينا أنها ثلاثة أقسام : صريحة ، وظاهرة ، ومجملة ؛ وبينا أن معرفتنا لها كمعرفة سائر الصحابة ، وكمعرفة من تدعون له العصمة من غير فرق. فإن قيل : وأنتم تدعون إلى نظر العقل ، وما كان هذا من دأب الصحابة. قلنا : هيهات! فإنا ندعو إلى الاتباع ، وإلى تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قول : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله. فمن صدّق بذلك سبقا إليه من غير منازعة ومجادلة قنعنا منه كما يقنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به من أجلاف العرب.

والناس على ثلاثة أقسام : قسم هم العوام المقلدون نشئوا على اعتقاد الحق سماعا من آبائهم ، فهم مقرّون عليه بصحة إسلامهم ، الثانى : الكفار الذين نشئوا على ضد الحق سماعا عن آبائهم وتقليدا ؛ فهم مدعوون عندنا إلى تقليد النبي المعصوم المؤيد بالمعجزة واتباع سنته وكتابه ، وأنتم تدعونه إلى معصومكم. فليت شعرى! أينا أشبه بصحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أمن يدعو إلى النبي المؤيد بالمعجزة ، أم من يدعو إلى من يدعى العصمة بشهوته من غير معجزة؟! ـ القسم الثالث : من فارق حيز المقلدين وعرف أن فى التقليد خطر الخطأ ، فصار لا يقنع به ، فنحن ندعوه إلى النظر فى خلق السموات والأرض ليعرف به الصانع ، وإلى التفكر فى معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعرف به صدقه ، وأنتم تدعونه إلى تقليد المعصوم وتكذبون نظر العقل وتزخرفونه ، فليت شعرى أى الدعوتين أوفق لدعوة أصحاب

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم!؟ فمتى قالوا للمسترشد المتشكك : إياك ونظر العقل وتأمله فإن فيه خطر الخطأ ، ولذلك اختلف الناظرون ؛ بل عليك أن تقلد ما تسمعه منا من غير بصيرة وتأمل ، هذا لو صدر من مجنون لضحك منه ، ولقيل له : لم نقلدك ولا نقلد من يكذبك؟ فإذا طوى بساط الدليل المفرق بطريق النظر بينك وبين خصمك ، ولم يمكن درك التفرقة بالضرورة فبم تميز عن مخالفك المكذب؟! فليت شعرى من فتح باب النظر الّذي يسوق إلى معرفة الحق متبعا فيه ما اشتمل عليه القرآن من الحث على التدبر والتفكر فى الآيات وفى القرآن وعجز الخلق عن الإتيان بمثله واستدلاله به ، هو أقرب إلى موافقة الصحابة وأهل السنة والجماعة ، أو من يؤيس الخلق عن النظر فى الأدلة بالتكذيب حتى لا يبقى للدين عصام يتمسك به إلّا الدعاوى المتعارضة؟ وهل هذا إلا صنع من يريد أن يطفئ نور الله ويغطى شرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسدّ طريقه المفضى إليه؟! فإن قيل : فنراكم تميلون تارة إلى الاتباع ، وتارة إلى النظر. قلت : هكذا تعتقده. ولكنه فى حق شخصين. فالذين سعدوا بالولادة بين المسلمين فأخذوا الحق تقليدا مستغنون عن النظر ؛ وكذا الكفار إذا تيسر لهم تصديق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقليدا ، كما كان يتيسر لأجلاف العرب ، والّذي يتشكك ويعرف غرر التقليد فلا بد له من معرفة صدقنا فى قولنا : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، ثم بعد هذا قدر على اتباع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولن يعرف التوحيد والنبوة إلا بالنظر فى دليله الّذي دل عليه الصحابة ودعا الرسول الخلق به ؛ فإنه ما دعاهم بالتحكم المحض والقهر المجرد ، بل بكشف سبل الأدلة. فهذا صورة القول مع كل متشكك ؛ وإلا فليبرز الباطنى معتقده فى حقّه وأنه كيف ينجو عن شكه إذا حسم عليه باب التأمل والنظر!

فهذا حلّ هذه الشبهات. وهى أركّ عند المحصل من أن يفتقر فى حلها إلى كل هذا الإطناب ، ولكن اغترار بعض الخلق به وظهور التلبيس فى هذا الزمان يتقاضى هذا الكشف والإيضاح. والله تعالى يوفقنا للعلم والعمل والرشد والإرشاد ، بمنه ولطفه.

الباب السابع

فى إبطال تمسكهم بالنص فى إثبات الإمامة والعصمة

وفيه فصلان

الفصل الأول

فى تمسكهم بالنص على الإمامة

وقد عجزت طائفة منهم عن التمسك بطريق النظر لمناقضة ذلك مسلكهم فى إبطال نظر العقل وإيجاب الاتباع ، فعدلوا إلى منهج الإمامية بحيث استدلوا على إمامة عليّ ـ رضى الله عنه! ـ بالنص وزعموا أنها مطردة فى عترته ؛ فطمع هؤلاء فى التمسك بالنص مع مخالفة مذهبهم مذهب الإمامية ، فزعموا أنه ـ عليه‌السلام! ـ نص على عليّ ، ونص عليّ على ولده ، حتى انتهى إلى الّذي هو الآن متصدّ للإمامة ، بكونه منصوصا عليه ممن كان قبله. وهذا غير ممكن لهذه الفرقة ، فإنهم بين التعلق فيه بأخبار آحاد لا تورث العلم ولا تفيد اليقين وثلج الصدر ، بل يحتمل فى تعمد الكذب تارة والغلط فيه أخرى ، ولمنهج هؤلاء اجتووا طرق النظر فى العقليات احترازا عما فيها من الخطأ فكيف يستتب لهم التمسك بأخبار الآحاد! فيضطرون إلى دعوى خبر متواتر فيه من صاحب الشرع صلوات الله عليه ، تجرى فى الوضوح مجرى الخبر المتواتر فى بعثته ودعوته وتحديه بالنبوة وشرعه الصلوات الخمس والحج والصوم وسائر الوقائع المستفيضة.

ومهما راجع العاقل بصيرته استغنى فى معرفة استحالة هذه الدعوى عن مرشد يرشده ويسدد منهجه على وجه الاستحالة. كيف وقد استحالت هذه الدعوى وتعذرت على الإمامية فى دعوى إمامة عليّ فقط ـ فكيف تستتب لهؤلاء دعوى إمامة

صاحبهم مع تضاعف الشغل عليهم وكثرة دعاويهم إلى أن ينساقوا إلى إثبات الإمامة لمن اعتقدوا إمامته اليوم! ولكنا مع الاستغناء عن الإيضاح لفساد دعواهم ، ننبه على ما فيه من العسر والاستحالة ونقول : مدعى الإمامة اليوم لشخص معين من عترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفتقر إلى نص متواتر عن رسول الله على عليّ ـ رضى الله عنه ـ ينتهى فى الوضوح إلى حد الخبر المتواتر عن وجود على ومعاوية وعمرو بن العاص ، فإنا بالتواتر عرفنا وجودهم ، ومهما ادعى تواتر هذا الخبر فى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتقر إلى حد التواتر بعده فى كل عصر ينقرض ، حتى لا يزال النقل متواترا على تناسخ الأعصار وانقراض القرون بحيث يستوى فى بلوغ المخبرين حد التواتر طرف الخبر وواسطته. وهذا ممتنع ، يفتقر فى كل واحد من على وأولاده ـ رضى الله عنهم ـ إلى يومنا هذا أربعة أمور :

الأول : أن يثبت أنه مات عن ولد ولم يمت أبتر لا ولد له حتى يعرف ولده كما عرف على ـ رضى الله عنه! ـ وتعرف صحة أنسابهم كما عرف صحة أنساب عليّ.

الثانى : أن يثبت أن كل واحد منهم نص على ولده قبل وفاته ، وجعله ولى عهده ، وعينه من بين سائر أولاده فانتصب للإمامة بتوليته ؛ ولم يمت واحد إلا بعد التنصيص والتعيين على ولىّ عهده.

الثالث : أن ينقل أيضا ـ خبرا متواترا ـ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعل نص جميع أولاده بمنزلة نصه فى وجوب الطاعة ومصادفته لمظنة الاستحقاق ووقوعه على المستحق للمنصب من جهة الله تعالى حتى لا يتصور وقوع الخطأ لواحد منهم فى التعيين.

الرابع : أن ينقل أيضا بقاء العصمة والصلاح للإمامة من وقت نصه على من نص عليه إلى أن توفى هو بعد نصه على غيره.

فلو انخرمت رتبة من هذه الرتب لم تستمر دعاويهم ، ولو أثبتوا تواتر نص كل واحد منهم ووجود ولده فى العصر الأول فلا يغنيهم حتى يثبتوا تواتره كذلك فى سائر الأعصار المتوالية بعده عصرا بعد عصر. وهذه أمور لو ثبت التواتر فيها

لعلمت كما يعلم وجود الأنبياء ووجود الأقطار التى لم تشاهد كالصين وقيروان المغرب ، ووجود الوقائع كحرب بدر وصفين ، ولا يشترك الناس فى دركه ، حتى كان لا يقدر أحد على أن يشكك فيه نفسه ، وليس يخفى أن الأمر فى هذه الدعاوى بالضد ، إذ لو كلف الإنسان أن يتسع لتجويز ما قالوه وإمكانه لم يتمكن ، بل علم قطعا خلافه ، فكيف يتصور الطمع فى إثباته! وكيف يتواقحون على دعواه وقد اختلف القائلون بوجوب الإمام المعصوم فى جماعة من الأئمة بزعمهم أنه خلف ولدا أو لم يخلف ؛ واختلفوا فى تعيين الإمامة فى بعضهم ؛ واختلفوا فى ظهوره ، فقال قائلون : الإمام موجود ولكنه ليس يظهر تقية ، وقال آخرون هو ظاهر ؛ فكيف خالفهم أصحابهم؟! وإن كانوا قد عرفوا ذلك بنص متواتر فكيف قبلوه من الآحاد إن لم يكن متواترا ، وقول الآحاد لا يورث إلا الظن؟! فاستبان أن ما ذكروه طمع فى غير مطمع ، وفزع إلى غير مفزع. ومثالهم فى الفرار من مسلك النظر إلى مسلك النص مثال من يميل من البلل إلى الغرق ؛ فإن المسلك الأول أقرب إلى التلبيس من هذا المسلك.

فإن قال قائل : قد طولتم الأمر عليهم وأحرجتموهم إلى إثبات النص على عليّ ، ثم إثبات النص من كل واحد من أعقابه ولدا ولدا ؛ ثم صحة نسبه ؛ ثم استفاضة هذه الأخبار أولا ووسطا وآخرا ، وهم يستغنون عن جميع ذلك بخبر واحد وهو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإمامة بعدى لعلى وبعده لأولاده لا تخرج من نسبى ، ولا ينقطع نسبى أصلا ، ولا يموت واحد منهم قبل توليته العهد لولده» ـ وهذا القدر يكفيهم ـ قلنا : نعم! يكفيهم هذا القدر إن كان كل ما يخطر بالبال ويوافق شهوة الضلال يمكن اختراعه ونقله متواترا ، ولكن هذا على هذا الوجه لم يقع ولا نقل ، ولا ادعى مدّع وقوعه ، معتقدا بالباطل ولا على سبيل العناد ، فضلا عن أن ينطق به عن الاعتقاد. ونقل هذا النص ودعوى التواتر فيه كدعوى من نقل مضاده وهو أن الإمامة ليست لعلى بعدى وإنما هى لأبى بكر ، وإنما تكون بعده بالاختيار والشورى ؛ وأن من ادّعى النصّ أو اختصاص الإمامة بأولاده من سائر قريش فهو

كاذب مبطل. فكما نعلم أن هذا الخبر لم يكن ولم ينقل ـ لا آحادا ولا تواترا ـ نعلم ذلك فما يناقضه. ومهما فتح باب الاختراع اشترك فى الاقتدار عليه كل من يحاول اللجاج والنزاع ، وذلك مما لا يستحله ذوو الدين أصلا.

فإن قال قائل : هذه الدعاوى لا تستتب لهؤلاء ؛ فهل تستتب للإمامية فى دعوى النص على عليّ رضى الله عنه؟ ـ قلنا : لا ؛ إنما الّذي يستتب لهم دعوى ألفاظ محتملة نقلها الآحاد. فأما اللفظ الّذي هو نص صريح ، فلا. ودعوى التواتر أيضا لا يمكن ، وتيك الألفاظ كما رووا أنه قال : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» (١) ، وقوله : «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» (٢) ـ إلى غير ذلك من الألفاظ المحتملة ، لا تجرى مجرى النصوص الصريحة. فأما دعوى النص الصريح المتواتر فمحال من وجوه موضع استقصائها فى كتاب الإمامة من علم الكلام ، وليس من غرضنا الآن ، ولكنا نذكر استحالته بمسلكين : أحدهما أنه لو كان ذلك متواترا لما شككنا فيه ، كما لم يشك فى وجود عليّ ـ رضى الله عنه ، ولا فى انتصابه للخلافة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا فى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالصلاة والصيام والزكاة والحج. فإن قوله ـ عليه‌السلام! ـ فى التنصيص على الخلافة بعده على ملأ من الناس ليس قولا يستحقر فيستر ولا يتساهل فى سماعه فيهمل ، بل تتوفر الدواعى على إشاعته ، ولا تسمح النفوس بإخفائه والسكوت عنه ، ولم تسمح بالسكوت عن أخبار وأحوال تقع دون ذلك فى الرتبة. فهذا قاطع فى بطلان دعواهم الخبر المتواتر. وعلى هذه الجملة فلا تتميز دعواهم عن دعوى البكرية (٣) حيث قالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نص على أبى بكر ـ رضى الله عنه! ـ نصا صريحا متواترا ، ولا عن دعوى الروندية (٤) إذ قالوا إنه نصّ على العباس نصا متواترا ، وهذه الأقاويل

__________________

(١) رواه البخارى ومسلم.

(٢) رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائى وتمام الحديث : [... إلّا أنه لا نبى بعدى].

(٣) البكرية : نسبة إلى أبى بكر الصديق ـ رضى الله عنه ـ أى الذين قالوا بالنص على إمامته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) الروندية : الذين قالوا بإمامة العباس بن عبد المطلب وأولاده من بعده نصا متواترا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

متعارضة لأنها لم تعرف ولم تظهر بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الخوض فى الإمامة.

فلا تبقى بعد ذلك ريبة فى بطلان هذه الدعوى.

المسلك الثانى : أن الذين نازعوا فى إمامة أبى بكر وتصدوا للنضال عن عليّ ـ رضى الله عنهما ـ تمسكوا فى نصرته بألفاظ محتملة نقلها آحاد ، كقوله عليه‌السلام : «من كنت مولاه فعلىّ مولاه» ، وقوله : «أنت منى بمنزلة هارون من موسى» ، وكيف سكتوا عن النص المتواتر الّذي لا يتطرق التأويل إلى متنه والطعن على سنده! ومعلوم أن النفوس فى مثل هذه المثارات تضطرب بأقصى الإمكان ولا تتعلق بالشبه إلا عند العجز عن البرهان ، فهذا أيضا يعرف المنصف ضرورة كذب المخترعين لهذه الأمور ، وإنما هداهم إلى اختراع دعوى النص المتواتر طائفة من الملحدين أرادوا الطعن على الدين ، وهم الذين لقنوا اليهود أن ينقلوا عن موسى نصا بأنه خاتم النبيين وأنه قال لليهود : «عليكم بالسبت ما دامت السموات والأرضون». وكان سبيلنا فى الردّ عليهم أن اليهود ، مع ما جرى عليهم من الذل والإرقاق والسبى للذرارى والأولاد وتخريب البلاد وسفك الدماء فى طول زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، كانوا يحتالون بكل حيلة فى طمس شريعته وتطفئة نوره ودفع استيلائه ؛ فلم لم ينقلوا عن موسى عليه‌السلام ذلك ، ولم لم يقولوا له : ما جئت إلا بتصديق موسى وأنه قال : أنا خاتم النبيين. ومعلوم أن الدواعى تتوافر على نقل مثل ذلك توفرا لا يطاق السكوت معه ؛ وقد كان فيهم الأحبار والمتقدمون ، وكلهم كانوا مضطرين تحت القهر والذل ، متعطشين إلى دفع حجته

__________________

(١) لقد هادنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحالفهم وعقد معهم العقود عند هجرته إلى المدينة لكنهم غدروا ونقضوا ؛ بنو قينقاع وبنو النضير ، وبنو قريظة ؛ ثم اتخذوا من خيبر منطلق تآمر على المسلمين ؛ وحاربهم جميعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى أجلاهم عن المدينة وخيبر.

بأقصى الجد ، وهذا بعينه هو الّذي يكشف عن اختراع هؤلاء وتهجمهم على الاختلاق والتخرص.

فإن قيل : لعلّه تمسك به المتمسكون ، إلا أنه اندرس ولم ينقل إلينا ، قلنا : كيف نقل إلينا التمسك بالألفاظ الظاهرة ، ونقل المنازعة فى الإمامة من الأنصار وقول قائلهم : «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب» (١) والدواعى على نقل النص أوفر. ولو جاز فتح هذا الباب لجاز لكل ملحد ـ إذا احتججنا عليه بالقرآن وعجز الخلق عن معارضته ، وبينا به صدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أن يقول : لعلّه عورض ولكنه لم ينقل ، وتعاطى المسلمون إخفاءه. فإن قيل : أنتم مضطرون إلى معرفة هذا الخبر المتواتر ، ولكنكم تعاندون فى إخفائه تعصبا ـ قلنا : ولم تنكرون على من يقلب عليكم ويقول : أنتم تعرفون بطلان ما ينقلون ضرورة ولكنكم تعاندون فى الاختراع؟ وبم تنفصلون عن البكرية والرّاوندية إذا ادعوا ذلك فى النص على أبى بكر والعباس رضى الله عنهما؟ ـ فإن قيل : ألستم تدعون فى معجزات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم انشقاق القمر وكلام الذئب وحنين الجذع وتكثير الطعام القليل ـ إلى غير ذلك مما أنكره كافة الكفار وطوائف من المسلمين ولم يكن خلافهم مانعا لكم من دعوى التواتر ـ قلنا : نحن لا ندّعى التواتر الّذي يوجب العلم الضرورى إلا فى القرآن ؛ أمّا ما عداه من هذه المعجزات فلو نقلها خلق كثير بلغوا حد التواتر لما تصوروا الشك فيها ؛ وإنما نقلها جماعة دون تلك الكثرة يعرف صدقهم بضروب من الأدلة النظرية والاستدلال بالقرائن الخالية من روايتهم ذلك ، وسكوت الآخرين عن الإنكار ، إلى غير ذلك من الأمور التى يتوصل إلى استفادة العلم منها عند إمعان النظر فيها بدقيق الفكر ، ومن أعرض عن النظر فى تيك الدلائل والقرائن ولم يتأملها حق التأمل لم يحصل له العلم. وأما أنتم فلا تقنعون فى خبركم بالنقل من عدد دون عدد التواتر ،

__________________

(١) تلك مقولة الحباب بن المنذر فى سقيفة بنى ساعدة عند وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واجتماع الأنصار لاختيار خليفة. والعذيق : تصغير عذق ، وهو النخلة بحملها. والجذيل المحكك : الّذي ينصب فى معاطن الإبل ، لتحتك به الجربى فتشفى. فشبه نفسه بذلك ، لأنه يلجأ إليه ويشتفى برأيه.

ولا بالحاجة فيه إلا النظر والاستدلال والتأمل فإنكم تبطلون طرق النظر ، فلا تستقيم هذه المقابلة منكم.

فإن قيل : انشقاق القمر من الآيات العلوية والبراهين السماوية ـ فكيف يتصور أن يختص بمشاهدته عدد دون عدد التواتر؟ ـ قلنا : ولو شاهده عدد التواتر كيف كان يتصور التردد فيه والإنكار له؟ وهل ترى أحدا يتردد فى وجود مكة ووجود أبى حنيفة والشافعى وسائر المشهورين ، وهى من الأمور الأرضية؟ وهل ترى أن أحدا يتردد فى أن الشمس كانت تطلع فى أيام نوح عليه‌السلام ضربا للمثل؟ ـ فإن ذلك لما كان من الأمور المتواترة لم تتصور الاسترابة فيه. فيبقى قولكم إنه كيف اختص بمشاهدة انشقاق القمر طائفة؟ فقد قال العلماء الأصوليون المنكرون لالتباس ما يتواتر من الأخبار : هذه آية ليلية فى وقت كان الناس فيه نياما ، أو كانوا تحت السقوف والظلال والأستار ؛ والمصحرون (١) منهم المنتبهون لا تستحيل عليهم الغفلة فى لحظة ، فيكون ذلك مثل انقضاض كوكب تختص بمشاهدته شرذمة قليلة ؛ وذلك ممكن ، فلم يكن الانشقاق أمرا دائما زمانا طويلا ، فليس يمتنع أن يختص بمشاهدته من حدّق إليه بصره ممن كان حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث احتج على قريش بانشقاق القمر. وقال قائلون أيضا : يحتمل أن يكون الله تعالى خصص برؤية ذلك من حاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الساعة وناظره حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «آيتى أنكم ترفعون رءوسكم فترون القمر منشقا» (٢) ـ وحجب الله أبصار سائر الخلق عن رؤيته بحجاب أو سحاب أو تسليط عقله وصرف داعية النظر لمصلحة الخلق فيه حتى لا يتحدى لنفسه بعض الكذابين فى الأمصار فيستدل به على صدق نفسه ؛ أو يكون معجزة للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجهين خارقين للعادة : أحدها إظهاره لهم ، والآخر إخفاؤه عن غيرهم. وهذه الاحتمالات ذكرها العلماء حتى قال بعضهم إن انشقاق القمر

__________________

(١) المصحرون ، من : أصحر القوم ، إذا أوغلوا فى الصحراء ؛ واتخذوها مقاما أو ملاذ.

(٢) رواه مسلم وأبو داود.

ثبت بالقرآن وهو قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]. والكلام فيه طويل. وعلى الأحوال كلها فما بلغ حدّ التواتر لا يتصور التشكك فيه. هذه قاعدة معلومة عليها تنبنى جميع قواعد الدين ؛ ولولاه لما حصلت الثقة بأخبار التواتر ، ولما عرفنا شيئا من أقوال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا بالمشاهدة. والكلام فى هذا يحتمل الإطناب ، ولكنه بعيد عن مقصود الكتاب ، فرأيت الإيجاز فيه أولى.

الفصل الثانى

فى إبطال قولهم إن الإمام لا بدّ أن يكون معصوما من

الخطأ والزلل والصغائر والكبائر

فنقول لهم : وبما ذا عرفتم صحة كونه معصوما ووجود عصمته؟ أبضرورة العقل أو بنظره أو سماع خبر متواتر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يورث العلم الضرورى؟ ولا سبيل إلى دعوى الضرورة ، ولا إلى دعوى الخبر المتواتر المفيد للعلم الضرورى ، لأن كافة الخلق تشترك فى دركه (١). وكيف يدعى ذلك وأصل وجود الإمام لا يعرف ضرورة ، بل نازع منازعون فيه ، فكيف تعلم عصمته ضرورة ، وإن ادعيتم ذلك بنظر العقل فنظر العقل عندكم باطل. وإن سمعتم من قول إمامكم أن العصمة واجبة للإمام فلم صدقتموه قبل معرفة عصمته بدليل آخر؟ وكيف يجوز أن تعرف إمامته وعصمته بمجرد قوله؟

على أن نقول : أىّ نظر عرفكم وجوب عصمة الإمام؟ فلا بد من الكشف عنه فإن قيل : الدليل عليه وجوب الاتفاق على كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصوما ، ولم نحكم بوجوب عصمته ، إلا لأنا بواسطته نعرف الحق ومنه نتلقفه ونستفيده. ولو جوزنا عليه الخطأ والمعصية سقطت الثقة بقوله. فما من قول يصدر عنه إلا ونتصور أن يقال : لعله أخطأ فيه ، أو تعمد الكذب ، فإن المعصية ليست مستحيلة عليه وذلك مما لا وجه له ـ فكذلك الإمام منه نتلقّى الحق ، وإليه نرجع فى المشكلات كما كنا نرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه خليفته وبه نستضىء فى مشكلات التأويل والتنزيل وأحوال القيامة والحشر والنشر. فإن لم تثبت عصمته فكيف يوثق به؟

قلنا : مثار غلطكم ظنكم أنّا نحتاج إلى الإمام لنستفيد منه العلوم ، ونصدّقه فيها. وليس كذلك ، فإن العلوم منقسمة إلى عقلية وسمعية. أما العقلية فتنقسم إلى قطعية

__________________

(١) دركه : إدراكه.

وظنية ولكل واحد من القطع والظن مسلك يفضى إليه ويدل عليه. وتعلم ذلك ممن يعلمه ، ولو من أفسق الخلق ، ممكن ، فإنه لا تقليد فيه ، وإنما المتبع وجه الدليل. وأما السمعيات فمسندها سماع : إما متواتر ، وإما آحاد ، والمتواتر تشترك الكافة فى دركه ، ولا فرق بين الإمام وبين غيره ؛ والآحاد لا تفيد إلا ظنا ، سواء كان المبلغ إليه أو المبلغ الإمام أو غيره. والعمل بالظن فيما يتعلق بالعمليات واجب شرعا ، والوصول إلى العلم فيه ليس بشرط ، ولذلك يجب عندهم تصديق الدعاة المنتشرين فى أقطار الأرض ، مع أنه لا عصمة لهم أصلا ، وكذلك كان ولاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى زمانه ، فإذا لا حاجة إلى عصمة الإمام ، فإن العلوم يشترك فى تحصيلها الكل. والإمام لا يولد عالما ولا يوحى إليه ، ولكنه متعلم. وطريق تعلم غيره كتعليمه ، من غير فرق.

فإن قيل : فلما ذا نحتاج إلى الإمام إذ كان يستغنى عنه فى التعليم؟ قلنا : ولما ذا يحتاج فى كل بلد إلى قاض؟ وهل يدل الاحتياج إليه على أنه لا بدّ أن يكون معصوما؟ فيقولون ؛ إنما نحتاج إليه لدفع الخصومات ، وجمع شتات الأمور ، وجزم القول فى المجتهدات ، وإقامة حدود الله تعالى ، واستيفاء حقوقه وصرفها إلى مستحقيها إذ لا سبيل إلى تعطيلها ، ولا سبيل إلى تفويضها إلى كافة الخلق فيتزاحمون عليها متقاتلين ويتكاسلون عنها متواكلين ومتخاذلين ، فتعطل الأمور ؛ فجملة الدنيا فى حق الإمام كبلدة واحدة فى حق القاضى ، فكما يستغنى عن عصمة القاضى فى البلد ويحتاج إلى قضائه فكذلك يستغنى عن عصمة الإمام ويحتاج إليه كما يحتاج إلى القضاة ولأمور أخر كلية سياسية : من حراسة الإسلام ، والذب عن بيضته (١) والنضال دون حوزته ، وحشد العساكر والجنود إلى أهل الطغيان والعناد ، وتطهير وجه الأرض عن الطغاة والبغاة والساعين فى الأرض بالفساد وملاحظة أطراف البلاد بالعين الكالئة ، حتى إذا ثارت فتنة بادر إلى الأمر بتطفئتها ، وإذا نبغت

__________________

(١) بيضة القوم : حوزتهم وحماهم ؛ الذب عن بيضته : الدفاع عن حماه.

نابغة تقدم على الفور بإزالتها قبل أن تستحكم غائلتها ، وتستطير فى الأرض نائرتها (١) ، هذا وما يجرى مجراه هو الّذي يراد لأجله الإمام ، وذلك يحتاج إلى عدالة وعلم ونجدة وكفاية وصرامة وشرائط أخر سنذكرها فى الباب التاسع.

فأما العصمة فيستغنى عنها كما فى حق القضاة والولاة ، فإن منعوا وادعوا العصمة للقضاة والولاة وكل مترشح لأمر من الأمور من جهة الإمام ـ وهذا ما اعتقده الإمامية حتى أورد عليهم الحارس والمتعسس (٢) والبواب ويرتبط بكل واحد منهم أمر ـ فأجابوا بأن هذه الأمور إن كانت أمورا دينية شرطت العصمة فى المتكلفين بها ، والمنتصب لها بنصب الإمام لا يكون إلا معصوما ، ونعوذ بالله من اعتقاد مذهب يضطر ناصره والذاب عنه إلى أن يجاحد (٣) ما يشاهده ويدركه على البديهة والضرورة ، فالظلم على طبقات الناس مشاهد من أحوال المنتصبين من جهة إمامهم. ولا ينفك أورع متدين منهم عن استحلال الأموال المغصوبة باسم الخراج والضريبة من أموال المسلمين مع العلم بتحريمه. ومهما انتهى كلام الخصم إلى مجاحدة الضرورة فلا وجه إلا الكفّ عنه ، والاقتصار على تعزيته فيما أصيب به من عقله.

__________________

(١) ثائرتها : ونائرتها بمعنى واحد.

(٢) المتعسس ؛ من : عس ، وهو : نفض الليل عن أهل الريبة ، فهو : عاس. وعسعس الليل : أقبل ظلامه.

(٣) يجاحد : يجحد وينكر.

الباب الثامن

فى الكشف عن فتوى الشرع فى حقهم

من التكفير وسفك الدم

ومضمون هذا الباب فتاوى فقهية ، ونحصر مقصوده فى فصول أربعة :

الفصل الأول

فى تكفيرهم أو تضليلهم أو تخطئتهم

ومهما سئلنا عن واحد منهم ، أو جماعتهم ، وقيل لنا : هل تحكمون بكفرهم؟ لم نتسارع إلى التكفير إلا بعد السؤال عن معتقدهم ومقالتهم ، ونراجع المحكوم عليه أو نكشف عن معتقدهم بقول عدول يجوز الاعتماد على شهادتهم ؛ فإذا عرفنا حقيقة الحال حكمنا بموجبه.

ولمقالتهم مرتبتان : إحداهما توجب التخطئة والتضليل والتبديع ، والأخرى توجب التكفير والتبرّى.

فالمرتبة الأولى

وهى التى توجب التخطئة والتضليل والتبديع

هى أن نصادف عامّيا يعتقد أن استحقاق الإمامة فى أصل البيت ، وأنّ المستحق اليوم المتصدّى لها منهم ، وأن المستحق لها فى العصر الأول كان هو على ـ رضى الله عنه ـ فدفع عنها بغير استحقاق ، وزعم ، مع ذلك ، أن الإمام معصوم عن الخطأ والزلل ، فإنه لا بدّ أن يكون معصوما ، ومع ذلك فلا يستحل سفك دمائنا ولا يعتقد كفرنا ، ولكنه يعتقد فينا أنّا أهل البغى ، زلّت بصائرنا عن درك الحق خطأ ، إذ عدلنا

عن اتباعه ، عنادا ونكدا. فهذا الشخص لا يستباح سفك دمه ، ولا يحكم بكفره لهذه الأقاويل ، بل يحكم بكونه ضالا مبتدعا فيزجر عن ضلاله ، وبدعته بما يقتضيه رأى الإمام ، فأما أن يحكم بكفره ويستباح دمه بهذه المقالات ، فلا! وهذا إنما يقتصر على تضليله وتبديعه إذ لم يعتقد شيئا مما حكينا من مذهبهم فى الإلهيات وفى أمور الحشر والنشر ، ولكنه لم يعتقد فى جميع ذلك إلا ما نعتقده ؛ وإنما تميز عنا بالقدر الّذي حكيناه الآن. فإن قيل : هلا كفرتموهم بقولهم إن مستحق الإمامة فى الصدر الأول كان عليا دون أبى بكر وعمر ومن بعده وأنه دفع بالباطل ، وفى ذلك خرق لإجماع أهل الدين؟ قلنا : لا ننكر ما فيه من القحوم (١) على خرق الإجماع ، ولذلك ترقينا من التخطئة المجردة التى نطلقها ونقتصر عليها فى الفروع فى بعض المسائل إلى التضليل والتفسيق والتبديع ، ولكن لا تنتهى إلى التكفير ؛ فلم بين لنا أن خارق الإجماع كافر ، بل الخلاف قائم بين المسلمين فى أن الحجة هل تقوم بمجرد الإجماع؟ وقد ذهب النظام وطائفته إلى إنكار الإجماع ، وأنه لا تقوم حجة أصلا ، فمن التبس عليه هذا الأمر لم نكفره بسببه ، واقتصرنا على تخطئته وتضليله ـ فإن قيل : وهل كفرتموهم لقولهم إن الإمام معصوم ، والعصمة عن الخطأ والزلل وصغير المآثم وكبيرها من خاصية النبوة فكأنهم أثبتوا خاصية النبوة لغير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قلنا : هذا لا يوجب الكفر وإنما الموجب له أن يثبت النبوة لغيره بعده ؛ وقد ثبت أنه خاتم النبيين ، أو يثبت لغيره منصب النسخ لشريعته ، فأما العصمة فليست خاصية النبوة ولا إثباتها كإثبات النبوة ، فلقد قالت طوائف من أصحابنا : العصمة لا تثبت للنبى من الصغائر ، واستدلوا عليه بقوله : تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) [طه : ١٢١] ، وبجملة من حكايات الأنبياء (٢). فمن يعتقد فى فاسق أنه مطيع ومعصوم عن الفسق لا يزيد على من يعتقد فى مطيع أنه فاسق ومنهمك فى الفساد ، ولو اعتقد إنسان فى عدل أنه فاسق لم يزد على تخطئة من

__________________

(١) القحوم ؛ من : قحم ، من باب : نصر. قحوما : رمى نفسه فى أمر عظيم ، يقال : قحم فى ، فهو قاحم.

(٢) كما روى عن سيدنا إبراهيم عليه‌السلام أنه كذب فى دعواه أمام الملك أن سارة أخته وليست زوجته.

اعتقد فى غير معصوم أنه معصوم ـ كيف يحكم بكفره؟ نعم يحكم بحماقته واعتقاده أمرا يكاد يخالف المشاهد من الأحوال وأمرا لا يدل عليه نظر العقل ولا ضرورته.

فإن قيل : فلو اعتقد معتقد فسق أبى بكر وعمر رضى الله عنهما وطائفة من الصحابة فلم يعتقد كفرهم ، فهل تحكمون بكفره؟ ـ قلنا : لا نحكم بكفره ، وإنما نحكم بفسقه وضلاله ومخالفته لإجماع الأمة ، وكيف نحكم بكفره ونحن نعلم أن الله تعالى لم يوجب على من قذف محصنا بالزنى إلا ثمانين جلدة (١) ، ونعلم أن هذا الحكم يشتمل كافة الخلق ويعمهم على وتيرة واحدة ، وأنه لو قذف قاذف أبا بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ بالزنى لما زاده على إقامة حدّ الله تعالى المنصوص عليه فى كتابه ، ولم يدعوا لأنفسهم التمييز بخاصية فى الخروج عن مقتضى العموم.

فإن قيل : فلو صرح مصرح بكفر أبى بكر وعمر ـ رضى الله عنهما ـ ينبغى أن ينزل منزلة من لو كفّر شخصا آخر من آحاد المسلمين أو القضاة والأئمة من بعدهم ـ قلنا : هكذا نقول ، فلا يفارق تكفيرهم تكفير غيرهم من آحاد الأمة والقضاة ، بل أفراد المسلمين المعروفين بالإسلام إلا فى شيئين : أحدهما فى مخالفة الإجماع وخرقه ، فإن مكفر غيرهم ربما لا يكون خارقا لإجماع معتد به ، الثانى : أنه ورد فى حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق أخبار كثيرة ، فقائل ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر لا بتكفيره إياهم ولكن بتكذيبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن كذّبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع ، ومهما قطع النظر على التكذيب فى هذه الأخبار وعن خرق الإجماع نزل تكفيرهم منزلة سائر القضاة والأئمة وآحاد المسلمين ، فإن قيل : فما قولكم فيمن يكفر مسلما : أهو كافر ، أم لا؟ قلنا : إن كان يعرف أن معتقده التوحيد وتصديق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سائر المعتقدات الصحيحة فمهما كفره بهذه المعتقدات

__________________

(١) الآية : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) [النور : ٤].

فهو كافر ، لأنه رأى الدين الحق كفرا وباطلا ، فأما إذا ظن أنه يعتقد تكذيب الرسول أو نفى الصانع أو تثنيته (١) أو شيئا مما يوجب التكفير فكفره بناء على هذا الظن فهو مخطئ فى ظنه المخصوص بالشخص ، صادق فى تكفير من يعتقد ما يظن أنه معتقد هذا الشخص ، وظن الكفر بمسلم ليس بكفر ، كما أن ظن الإسلام بكافر ليس بكفر ، فمثل هذه الظنون قد تخطئ وتصيب ، وهو جهل بحال شخص من الأشخاص ، وليس من شرط دين الرجل أن يعرف إسلام كل مسلم ، وكفر كل كافر ، بل ما من شخص يفرض إلا ولو جهله لم يضره فى دينه ، بل إذا آمن شخص بالله ورسوله وواظب على العبادات ولم يسمع باسم أبى بكر وعمر ومات قبل السماع مات مسلما ، فليس الإيمان بهما من أركان الدين حتى يكون الغلط فى صفاتهما موجبا للانسلاخ من الدين.

وعند هذا ينبغى أن يقبض عنان الكلام ، فإن الغوص فى هذه المغاصة يفضى إلى إشكالات وإثارة تعصبات ، وربما لا تذعن جميع الأذهان لقبول الحق المؤيد بالبرهان لشدة ما يرسخ فيها من المعتقدات المألوفة التى وقع النشوء عليها والتحق بحكم استمرار الاعتياد بالأخلاق الغريزية التى يعتذر إزالتها. وبالجملة : القول فيما يوجب الكفر والتبرى وما لا يوجبه لا يمكن استيفاؤه فى أقل من مجلدة وذلك عند إيثار الاختصار فيه فلنقتصر فى هذا الكتاب على الغرض المهم.

المرتبة الثانية

المقالات الموجبة للتكفير

وهى أن يعتقد ما ذكرناه ويزيد عليه فيعتقد كفرنا واستباحة أموالنا وسفك دمائنا ، فهذا يوجب التكفير لا محالة ، لأنهم عرفوا أننا نعتقد أن للعالم صانعا واحدا قادرا عالما مريدا متكلما سميعا بصيرا حيا ليس كمثله شيء ، وأن رسوله محمد بن

__________________

(١) تثنيته : أى جعلهما إلهين اثنين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فى كل ما جاء به من الحشر والنشر والقيامة والجنة والنار ، وهذه الاعتقادات هى التى تدور عليها صحة الدين ، فمن رآها كفرا هو كافر لا محالة ، فإن انضاف إلى هذا شيء مما حكى من معتقداتهم من إثبات إلهين وإنكار الحشر والنشر وجحود الجنة والنار والقيامة فكل واحد من هذه المعتقدات موجب للتكفير ، صدر منهم أو من غيرهم.

فإن قيل : لو اعتقد معتقد وحدانية الإله ونفى الشرك ولكنه تصرف فى أحوال النشر والحشر والجنة والنار بطريق التأويل للتفصيل دون إنكار الأصل ، بل اعترف بأن الطاعة وموافقة الشرع وكفّ النفس عن المحرمات والهوى سبب يفضى إلى السعادة ، وأن الاسترسال على الهوى ومخالفة الشرع فيما أمر ونهى يسوق صاحبه إلى الشقاوة ، ولكنه زعم أن السعادة عبارة عن لذة روحانية تزيد لذتها على اللذة الجسمانية الحاصلة من المطعم والمنكح اللذين تشترك فيهما البهائم وتتعالى عنهما رتبة الملكية (١) ، وإنما تلك السعادة اتصال بالجواهر العقلية الملكية ، وابتهاج بنيل ذلك الكمال ؛ واللذات الجسمانية محتقرة بالإضافة إليها ، وأن الشقاوة عبارة عن كون الشخص محجوبا عن ذلك الكمال العظيم محله الرفيع شأنه مع التشوق إليه والشغف به ، وأن ألم ذلك يستحقر معه ألم النار الجسمانية ، وأن ما ورد فى القرآن مثله ضرب لعوام الخلق لما قصر فهمهم عن درك تلك اللذات ـ فإنه لو تعدى النبي فى ترغيبه وترهيبه إلى غير ما ألفوه وتشوقوا إليه وفزعوا منه لم تنبعث دواعيهم للطلب والهرب ، فذكر من اللذات أشرفها عندهم وهى المدركات بالحواس من الحور والقصور إذ تحظى بها حاسة البصر ، ومن المطاعم والمناكح إذ تحظى بها القوة الشهوانية. وما عند الله لعباده الصالحين خير من جميع ما أعربت عنه العبارات ونبهت عليه ولذلك قال تعالى فيما حكى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب

__________________

(١) الملكية : الملائكية.

بشر» (١). وكل ما يدرك من الجسمانيات فقد خطر على قلب بشر أو يمكن إخطاره بالقلب.

وزعم هذا القائل أن المصلحة الداعية إلى التمثيل للذات والآلام بالمألوف منها عند العوام كالمصلحة فى الألفاظ الدالة على التشبيه فى صفات الله تعالى ، وأنه لو كشف لهم الغطاء ووصف لهم جلال الله الّذي لا تحيط به الصفات والأسماء ، وقيل لهم : صانع العالم موجود ، ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم ، ولا هو متصل بالعالم ، ولا هو منفصل عنه ، ولا هو داخل فيه ولا خارج عنه ، وأن الجهات محصورة فى ست ، وأن سائر الجهات فارغة منه ، وليس شاغلا لواحد منها فلا داخل العالم به مشغول ، ولا خارج العالم عنه مشغول ، لبادر الخلق إلى إنكار وجوده ، فإن عقولهم لا تقوى على التصديق بوجود موجود ترده الأوهام والحواس ، فذكر لهم ما يشير إلى ضروب التمثيل ليرسخ فى نفوسهم التصديق بأصل الوجود فيسارعون إلى امتثال الأوامر تعظيما له ، وإلى الانزجار عن المعاصى مهابة منه فيمن هذا منهاجه.

قلنا : أما القول : بإلهين فكفر صريح لا يتوقف فيه ، وأما هذا فربما يتوقف فيه الناظر ويقول : إذا اعترفوا بأصل السعادة والشقاوة وكون الطاعة والمعصية سبيلا إليهما فالنزاع فى التفصيل كالنزاع فى مقادير الثواب والعقاب ، وذلك لا يوجب تكفيرا فكذلك النزاع فى التفصيل. والّذي نختاره ونقطع به أنه لا يجوز التوقف فى تكفير من يعتقد شيئا من ذلك لأنه تكذيب صريح لصاحب الشرع ولجميع كلمات القرآن من أولها إلى آخرها. فوصف الجنة والنار لم يتفق ذكر مرة واحدة أو مرتين ، ولا جرى بطريق كناية أو توسع وتجوز بل بألفاظ صريحة لا يتمارى فيها ولا يستراب ، وأن صاحب الشرع أراد بها المفهوم من ظاهرها ، فالمصير إلى ما أشار إليه هذا القائل تكذيب وليس بتأويل ، فهو كفر صريح لا يتوقف فيه أصلا.

__________________

(١) حديث قدسى.

ولذلك نعلم على القطع أنه لو صرح مصرح بإنكار الجنة والنار والحور والقصور فيما بين الصحابة لبادروا إلى قتله واعتقدوا ذلك منه تكذيبا لله ولرسوله. فإن قيل : لعلهم كانوا يفعلون ذلك ويبالغون فيه حسما لباب التصريح به ، إذ مصلحة العامة تقتضى أن لا يجرى الخطاب معهم إلا بما يليق بأفهامهم ويؤثر فى نفوسهم وإثارة دواعيهم ؛ وإذا رفعت عن نفوسهم هذه الظواهر وقصرت عقولهم عن درك اللذات العقلية أنكروا الأصل وجحدوا الثواب والعقاب ، وسقط عندهم تمييز الطاعة عن العصيان والكفر عن الإيمان.

قلنا : فقد اعترفت بإجماع الصحابة على تكفير هذا الرجل وقتله لأنه مصرح به ، ونحن لم نزد على أن المصرح به كافر يجب قتله ، وقد وقع الاتفاق عليه ؛ وبقى قولكم إن سبب تكفيرهم مراعاة مصلحة العوام ، وهذا وهم وظن محض لا يغنى عن الحق شيئا ، بل نعلم قطعا أنهم كانوا يعتقدون ذلك تكذيبا لله تعالى ولرسوله وردا لما ورد به الشرع ولم يدفعه العقل ، فإن قيل : فهلا سلكتم هذا المسلك فى التمثيلات الواردة فى صفات الله تعالى من آية الاستواء وحديث النزول ولفظ «القدم» ووضع الجبار قدمه فى النار ، ولفظ «الصورة» فى قوله عليه‌السلام : «إن الله خلق آدم ـ عليه‌السلام! ـ على صورته» (١) ـ إلى غير ذلك من أخبار لعلها تزيد على ألف ، وأنتم تعلمون أن السلف الصالحين ما كانوا يؤولون هذه الظواهر ، بل كانوا يجرونها على الظاهر. ثم إنكم لم تكفروا منكم الظواهر ومؤولها ، بل اعتقدتم التأويل وصرحتم به ـ قلنا : كيف تستتب هذه الموازنة والقرآن مصرح بأنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، والأخبار الدالة عليه أكثر من أن تحصى ، ونحن نعلم أنه لو صرح مصرح فيما بين الصحابة بأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يحده زمان ولا يماس جسما ولا ينفصل عنه بمسافة مقدرة وغير مقدرة ولا يعرض له انتقال وجيئة وذهاب وحضور وأفول ، وأنه يستحيل أن يكون من الآفلين والمنتقلين

__________________

(١) متفق عليه.

والمتمكنين إلى غير ذلك من نفى صفات التشبيه لرأوا ذلك عين التوحيد والتنزيل ، ولو أنكر الحور والقصور والأنهار والأشجار والزبانية والنار لعد ذلك من أنواع الكذب والإنكار ، ولا مساواة بين الدرجتين ، وقد نبهنا على الفرق فى باب الرد عليهم فى مذهبهم بوجهين آخرين : أحدهما أن الألفاظ الواردة فى الحشر والنشر والجنة والنار صريحة لا تأويل لها ولا معدل عنها إلا بتعطيلها وتكذيبها ، والألفاظ الواردة فى مثل الاستواء والصورة وغيرهما كنايات وتوسعات على اللسان تحتمل التأويل فى وصفه ، والآخر أن البراهين العقلية تدفع اعتقاد التشبيه والنزول والحركة والتمكن من المكان وتدل على استحالتها دلالة لا يتمارى فيها ، ودليل العقل لا يحيل وقوع ما وعد به من الجنة والنار فى الدار الآخرة ، بل القدرة الأزلية محيطة بها مستولية عليها ، وهى أمور ممكنة فى نفسها ولا تتقاصر القدرة الأزلية عمّا له نعت الإمكان فى ذاته فكيف يشبه هذا بما ورد من صفات الله تعالى؟! ومساق هذا الكلام يتقاضى بث جملة من أسرار الدين إن شرعنا فى استقصائها ورغبنا فى كشف غطائها ، وإذا ورد ذلك معترضا فى سياق الكلام غير مقصود فى نفسه فلنقتصر على هذا القدر الّذي انطوى فى هذا الفصل ، ولنشتغل بما هو الأهم من مقاصد هذا الكتاب ، وقد بينا فى هذا الفصل من يكفر منهم ومن لا يكفر ، ومن يضل ومن لا يضل.

الفصل الثانى

فى أحكام من قضى بكفره منهم

والقول الوجيز فيه أن يسلك بهم مسلك المرتدين فى النظر فى الدم والمال والنكاح والذبيحة ونفوذ الأقضية وقضاء العبادات ، أما الأرواح فلا يسلك بهم مسلك الكافر الأصلي ، إذ يتخير الإمام فى الكافر الأصلي بين أربع خصال : بين المن والفداء والاسترقاق والقتل. ولا يتخير فى حق المرتد ، بل لا سبيل إلى استرقاقهم ولا إلى قبول الجزية منهم ولا إلى المن والفداء ، وإنما الواجب قتلهم وتطهير وجه الأرض منهم ، هذا حكم الذين يحكم بكفرهم من الباطنية ، وليس يختص جواز قتلهم ولا وجوبه بحالة قتالهم ، بل نغتالهم ونسفك دماءهم فإنهم مهما اشتغلوا بالقتال جاز قتلهم ، وإن كانوا من الفرقة الأولى التى لم يحكم فيهم بالكفر وهو أنهم عند القتال يلتحقون بأهل البغى ، والباغي يقتل ما دام مقبلا على القتال وإن كان مسلما ؛ إلا أنه إذا أدبر وولى لم يتبع مدبرهم ولم يوقف على جريحهم ، أمّا من حكمنا بكفرهم فلا يتوقف فى قتلهم إلى تظاهرهم بالقتال وتظاهرهم على النضال.

فإن قيل : هل يقتل صبيانهم ونساؤهم؟ قلنا : أما الصبيان فلا ، فإنه لا يؤاخذ الصبى ، وسيأتى حكمهم ، وأما النسوان فإنا نقتلهم مهما صرحن بالاعتقاد الّذي هو كفر على مقتضى ما قررناه ، فإن المرتدة مقتولة عندنا بعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من بدل دينه فاقتلوه» (١). نعم ، للإمام أن يتبع فيه موجب اجتهاده ، فإن رأى أن يسلك فيهم مسلك أبى حنيفة ويكف عن قتل النساء فالمسألة فى محل الاجتهاد ، ومهما بلغ صبيانهم عرضنا الإسلام عليهم ، فإن قبلوا قبل إسلامهم وردت السيوف عن رقابهم إلى قربها (٢). وإن أصروا على كفرهم متبعين فيه آباءهم مددنا سيوف الحق إلى

__________________

(١) متفق عليه.

(٢) قربها : أغمادها.

رقابهم وسلكنا بهم مسلك المرتدين ، وأما الأموال فحكمها حكم أموال المرتدين ، فما وقع الظفر به من غير إيجاف الخيل والركاب فهو فىء ، كمال المرتد ، فيصرفه إمام الحق على مصارف الفيء على التفصيل الّذي اشتمل عليه قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) [الحشر : ٧]. وما استولينا عليه بإيجاف خيل وركاب فلا يبعد أن يسلك به مسلك الغنائم حتى يصرف إلى مصارفها ، كما اشتمل عليه قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال : ٤١] الآية. وهذا أحد مسالك الفقهاء فى المرتدين ، وهو أولى ما يقضى به فى حق هؤلاء ، وإن كانت الأقاويل مضطربة فيه.

ومما يتعلق بالمال أنهم إذا ماتوا لا يتوارثون فلا يرث بعضهم بعضا ، ولا يرثون من المحقين ، ولا يرث المحق ما لهم إذا كان بينهم قرابة. بل ولاية الوراثة منقطعة بين الكفار والمسلمين.

وأما أبضاع (١) نسائهم فإنها محرمة ، فكما لا يحل نكاح مرتدة لا يحل نكاح باطنية معتقدة لما حكمنا بالتكفير بسببه من المقالات الشنيعة التى فصلناها. ولو كانت متدينة ثم تلقفت مذهبهم انفسخ النكاح فى الحال إن كان قبل المسيس ، ويوقف على انقضاء العدة بعد المسيس. فإن عادت إلى الدين الحق وانسلخت عن المعتقد الباطل قبل انصرام العدة بقضاء مدتها استمر النكاح على وجهه ، وإن أصرت واستمرت حتى انقضت المدة وتصرمت العدة تبين انفساخ النكاح من وقت الردة. ومهما تزوج الباطنى المحكوم بكفره بامرأة من أهل الحق أو من أهل دينه فالنكاح باطل غير منعقد ، بل تصرفه فى ماله بالبيع وسائر العقود مردود فإن الّذي اخترناه فى الفتوى الحكم بزوال ملك المرتدين بالردة.

ويتصل بتحريم المناكحة تحريم الذبائح فلا تحل ذبيحة واحد منهم ، كما لا تحل ذبيحة المجوسى والزنديق ، فإن الذبيحة والمناكحة تتحاذيان ، فهما محرمتان

__________________

(١) أبضاع نسائهم : تزوجهن.

فى سائر أصناف الكفار إلا اليهود والنصارى لأن ذلك تخفيف فى حقهم لأنهم أهل كتاب أنزله الله تعالى على نبى صادق ظاهر الصدق مشهور الكتاب ، وأما أقضية حكامهم فباطلة غير نافذة ، وشهادتهم مردودة ، فإن هذه أمور يشترط الإسلام فى جميعها ، فمن حكم بكفره من جملتهم لم تصح منه هذه الأمور ، بل لا تصح عبادتهم ولا ينعقد صيامهم وصلاتهم ولا يتأدى حجهم وزكاتهم ؛ ومهما تابوا وتبرءوا عن معتقداتهم وحكمنا بصحة توبتهم وجب عليهم قضاء جميع العبادات التى فاتت والتى أديت فى حالة الكفر ، كما يجب ذلك على المرتد.

فهذا هو القدر الّذي أردنا أن ننبه عليه من جملة أحكامهم. فإن قيل : ولما ذا حكمتم بإلحاقهم بالمرتدين ، والمرتد من التزم بالدين الحق وتطوقه ثم نزع عنه مرتدا ومنكرا له ، وهؤلاء لم يلزموا الحق قط ، بل وقع نشوؤهم على هذا المعتقد فهلا ألحقتموهم بالكافر الأصلي؟ قلنا : ما ذكرناه واضح فى الذين انتحلوا وتحولوا إليها معتقدين لها بعد اعتقاد نقيضها أو بعد الانفكاك عنها ، وأما الذين نشئوا على هذا المعتقد سماعا من آبائهم فهم أولاد المرتدين ، لأن آباءهم وآباء آبائهم لا بدّ أن يفرض فى حقهم تنحل هذا الدين بعد الانفكاك عنه ، فإنه ليس معتقدا يستند إلى نبى وكتاب منزل كاعتقاد اليهود والنصارى ، بل هى البدع المحدثة من جهة طوائف من الملاحدة والزنادقة فى هذه الأعصار القريبة المتراخية.

وحكم الزنديق أيضا حكم المرتد لا يفارقه فى شيء أصلا ، وإنما يبقى النظر فى أولاد المرتدين ، وقد قيل فيهم إنهم أتباع فى الردة كأولاد الكفار من أهل الحرب وأهل الذمة ، وعلى هذا فإن بلغ طولب بالإسلام ، وإلا قتل ولم يرض منه بالجزية ولا الرق ، وقيل إنهم كالكفار الأصليين إذا ولدوا على الكفر ، فإذا بلغوا وآثروا الاستمرار على كفر آبائهم جاز تقريرهم بالجزية وضرب الرق عليهم ، وقيل إنه يحكم بإسلامهم لأن المرتد مؤاخذ بعلائق الإسلام فإذا بلغ ساكتا فحكم الإسلام يستمر إلى أن يعرض عليه الإسلام ، فإن نطق به فذاك ، وإن أظهر كفر أبويه ، عند ذلك حكمنا بردته فى الحال ، وهذا هو المختار عندنا فى

صبيان الباطنية ، فإن علقة من علائق الإسلام كافية للحكم بإسلام الصبيان ، وعلقة الإسلام باقية على كل مرتد فإنه مؤاخذ بأحكام الإسلام فى حال ردّته. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» فيحكم بإسلام هؤلاء. ثم إذا بلغوا كشف لهم عن وجه الحق ونهوا عن فضائح مذهب الباطنية ، وذلك يكشف للمصغى إليه فى أوحى ما يقدر ، وأسرع ما ينتظر ، فإن أبى إلا دين آبائه فعند ذلك يحكم بردته من وقته ، ويسلك به مسلك المرتدين.

__________________

(١) ذكره أبو يعلى فى «مسنده» والطبرانى فى «الكبير» والبيهقى فى «السنن الكبرى» عن الأسود بن سريع ، والحديث صحيح ؛ ويرد أحيانا فى هذه الصيغة : «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

الفصل الثالث

فى قبول توبتهم وردها

وقد ألحقنا هؤلاء بالمرتدين فى سائر الأحكام ، وقبول التوبة من المرتد لا بدّ منه ، بل الأولى ألا يبادر إلى قتله إلا بعد استتابته وعرض الإسلام عليه وترغيبه فيه. وأما نوبة الباطنية وكل زنديق مستتر بالكفر يرى التقية دينا ويعتقد النفاق وإظهار خلاف المعتقد عنه استشعار الخوف حقا ؛ ففى هذا خلاف بين العلماء : ذهب ذاهبون إلى قبولها ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها» (١) ؛ ولأن الشرع إنما بنى الدين على الظاهر فنحن لا نحكم إلا بالظاهر والله يتولى السرائر. والدليل عليه أن المكره إذا أسلم تحت ظلال السيوف وهو خائف على روحه نعلم بقرينة حاله أنه مضمر غير ما يظهره ، فنحكم بإسلامه ولا نلتفت إلى المعلوم بالقرائن من سريرته. ويدل عليه أيضا ما روى أن أسامة قتل كافرا فسل عليه السيف بعد أن تلفظ بكلمة الإسلام. فاشتد ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أسامة : «إنما فعل ذلك فرقا (٢) من السيف». فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هلا شققت عن قلبه!؟» (٣) ـ منبها به على أن البواطن لا تطلع عليها الخلائق وإنما مناط التكليف الأمور الظاهرة .. ويدل عليه أيضا أن هذا صنف من أصناف الكفار ، وسائر أصناف الكفار لا يسد عليهم طريق التوبة والرجوع إلى الحق ؛ فكذلك هاهنا.

وذهب ذاهبون إلى أنه لا تقبل توبته ؛ وزعموا أن هذا الباب لو فتح لم يمكن حسم مادتهم وقمع غائلتهم ، فإنّ من سر عقيدتهم التدين بالتقية والاستسرار بالكفر عند استشعار الخوف ، فلو سلكنا هذا المسلك لم يعجزوا عن النطق بكلمة الحق

__________________

(١) ذكره الشيخان البخارى ومسلم فى الصحيحين وأبو داود والترمذي والنسائى وابن ماجه فى السنن عن أبى هريرة ؛ وهو متواتر ، ومن صيغه : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ؛ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله». ـ وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده.

(٢) فرقا : خوفا.

(٣) متفق عليه.

وإظهار التوبة عند الظفر بهم ، فيلهجون بذلك مظهرين ويستهزءون بأهل الحق مضمرين ، وأما الخبر (١) فإنما ورد فى أصناف من الكفار دينهم أنه لا يجوز التصريح بما يخالفه ، وأن من التزم الإسلام ظاهرا صار تاركا للتهود والتنصر ـ هذا معتقدهم ، ولذلك تراهم يقطعون إربا إربا بالسيوف وهم مصرون على كفرهم ولا يسمحون فى موافقة المسلمين بكلمة ، فأمّا من كان دينه أن النطق بكلمة الإسلام غير ترك لدينه ، بل دينه أن ذلك عين دينه ، فكيف نعتقد بتوبته مما هو عين دينه والتصريح به وفاء لشرط دينه كيف يكون تركا للدين!؟

هذا ما ذكر من الخلاف فى قبول توبتهم. وقد استقصينا ذلك فى كتاب «شفاء العليل» فى أصول الفقه ، ونحن الآن نقتصر على ذكر ما نختاره فى هذه الفرقة التى فيهم الكلام ، فنقول : للتائب من هذه الضلالة أحوال : الحالة الأولى : أن يتسارع إلى إظهار التوبة واحد منهم من غير قتال ولا إرهاق واضطرار ، ولكن على سبيل الإيثار والاختيار متبرعا به ابتداء من غير خوف ، واستشعار هذا ينبغى أن يقطع بقبول توبته ، فإنا إن نظرنا إلى ظاهر كلمته صدّقناها موافقة لعين الإسلام. وإن نظرنا إلى سريرته كان الغالب أنها على مطابقة اللسان وموافقته ، فإنا لم نعرف الآن له باعثا على التقيّة ، وإنما المباح عندهم إظهار نقيض المعتقد تقية عند تحقيق الخوف ، فأمّا فى حالة الاختيار فهو من أفحش الكبائر ويعضد ذلك بأمر كلى وهو أنه لا سبيل إلى حسم باب الرشد عليهم ، فكم من عامى ينخدع بتخيل باطل ويغتر برأى قائل ثم ينتبه من نفسه أو ينبهه منبه لما هو الحق فيؤثر الرجوع إليه والشروع فيه بعد النزوع عنه ، فلا سبيل إلى حسم مسلك الرشاد على ذوى الضلال والعناد.

الحالة الثانية : الّذي يسلم تحت ظلال السيوف ، ولكنه من جملة عوامهم وجهّالهم لا من جملة دعاتهم وضلالهم ، فهذا أيضا تقبل توبته ، فمن لم يكن مترشحا للدعوة فضرر كفره مقصور عليه فى نفسه ، ومهما أظهر الدين احتمل كونه صادقا فى إسراره وإظهاره ، والعامى الجاهل يظن أن التلبيس بالأديان والعقائد مثل المواصلات والمعاقدات الاختيارية فيصلها مدة بحكم المصلحة ويقطعها أخرى ،

__________________

(١) الخبر : يعنى به ما ورد من فعل أسامة بن زيد رضى الله عنهما وما قاله له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وباطنه يوافق الظاهر فيما يتعاطاه من التزام وإعراض ، ولذلك ترى من يسبى من العبيد والإماء من بلاد الكفر إلى دار الإسلام يدينون بدينهم معتقدين وشاكرين لله على ما أتاح لهم من الرشد ورحض (١) عنهم من وضر (٢) الكفر والغىّ ، ولو سئلوا عن السبب فى تبديل الدين وإيثار الحق المبين على الباطل لم يعرفوا سببا إلا موافقة السادة على وفق مصلحة الحال ، ثم ذلك يؤثر فى باطن عقائدهم كما نرى ونشاهد ، فإذا عرف أن العامى سريع التقلب فنصدقه فى انقلابه إلى الحق كما نصدقه فى إضرابه عنه إذا ظهر من معتقده خلاف الحق ، فإنا بين أن نغضى عن كافر مستسر ولا نقتله بل نتعامى عنه ، أو نهجم على قتل مسلم ظاهرا أو باطنا إن كان مضمرا لما يظهر ، وليس فى التغاضى عن كفر كافر ليست له دعوة تنتشر وليس فيه شرّ يتعدى كبير محظور. فكم مننّا على الكفار وأغضينا عنهم ببذل الدينار! فليس ذلك ممتنعا ، أما اقتحام الخطر فى قتل من هو مسلم ظاهرا ويحتمل أن يكون مسلما باطنا احتمالا قويا ؛ فمحظور.

الحالة الثالثة : أن نظفر بواحد من دعاتهم ممن يعرف منه أنه يعتقد بطلان مذهبه ، ولكنه ينتحله غير معتقد له ليتوصل إلى استمالة الخلق وصرف وجوههم إلى نفسه طلبا للرئاسة وطمعا فى حطام الدنيا ؛ هذا هو الّذي يتقى شرّه.

والأمر فيه منوط برأى الإمام ليلاحظ قرائن أحواله ويتفرس من ظاهره فى باطنه ، ويستبين أن ما ذكره يكون إذعانا للحق واعترافا به بعد التحقق والكشف ، أو هو نفاق وتقية ، وفى قرائن الأحوال ما يدل عليه ، والأولى ألا يوجب على الإمام قتله لا محالة ولا أن يحرم قتله ، بل يفوض إلى اجتهاده ، فإن غلب على ظنه أنه سالك منهج التقية فيما أداه قتله ؛ وإن غلب على ظنه أن تنبه للحق وظهر له فساد الأقاويل المزخرفة التى كان يدعو إليها ، قبل توبته وأغضى عنه فى الحال ، وإن بقيت به ريبة وكل به من يراقب أحواله ويفتقده فى بواطن أمره ويحكم فيه بموجب ما يتضح له منه ، فهذا هو المسلك القصد القريب من الإنصاف والبعيد من التعصب والاعتساف.

__________________

(١) رحض : غسل.

(٢) وضر : وسخ وقذر.

الفصل الرابع

فى حيلة الخروج عن أيمانهم وعهودهم

إذا عقدوها على المستجيب

فإن قال لنا قائل : ما قولكم فى عهودهم ومواثيقهم وأيمانهم المعقودة على المستجيبين ؛ هل تنعقد؟ وهل يجوز الحنث فيها؟ أم يجب الحنث أن يتم؟ وإن حنث الحالف يلزمه بسببه معصية وكفارة ، أم لا يلزم؟ وكم من شخص عقد عليه العهد وأكدت عليه اليمين فتطوقه اغترارا بتخيلهم ، ثم لما انكشف له ضلالهم تمنى افتضاحهم والكشف عن عوراتهم ولكن منعته الأيمان المغلظة المؤكدة عليه ، فالحاجة ماسّة إلى تعليم الحيلة فى الخروج عن تلك الأيمان ـ فنقول : الخلاص من تلك الأيمان ممكن ، ولها طرق تختلف باختلاف الأحوال والألفاظ :

الأول : أن يكون الحالف قد تنبه لخطر اليمين وإمكان اشتماله على تلبيس وخداع فذكر فى نفسه عقيب ذلك الاستثناء وهو قوله : «إن شاء الله» ـ فلا ينعقد يمينه ولا يمتنع عليه الحنث. وإذا حنث لم يلزمه بالحنث حكم أصلا ، وهذا حكم كل يمين أردف بكلمة الاستثناء كقوله : «والله لأفعلن كذا إن شاء الله» وكقوله : «إن فعلت كذا فزوجتى طالق إن شاء الله» وما جرى مجراه.

الثانى : أن يؤدى فى يمينه أمرا وينوى خلاف ما يلتمس منه ويضمر خلاف ما يظهر ويكون الإضمار على وجه يحتمله اللفظ فيدبر بينه وبين الله عزوجل ؛ فله أن يخالف ظاهر كلامه ويتبع فيه موجب ضميره ونيته ، فإن قيل : الاعتماد فى اليمين على نية المستحلف إذ لو عول على نية الحالف واستثنائه لبطلت الأيمان فى مجالس القضاة ولم يعجز المحلف بين أيديهم عن إضمار نيّة وإسرار استثناء ، وذلك يؤدى إلى إبطال الحقوق ، قلنا : القياس أن يكون التعويل على نيّة الحالف واستثنائه فإنه الحالف ، والمحلّف عارض عليه اليمين ولكنه حكم باتباع نيّة

المستحلف مراعاة للحقوق وصيانة لها بحكم الضرورة الداعية إليه وذلك فى المحق فى التحليف الموافق للشرع وموارد التوقيف فيه ، فأمّا المكره ظلما والمخادع عدوانا وغشما ، فلا. ويعتبر أمر الحالف معه فى القانون القياسى فى الاعتبار بجانب الحالف لأن سبب العدول إلى اعتبار جانب المستحلف شدة الحاجة ، وأى حاجة بنا إلى تسليط الظلمة على تأكيد اليمين على ضعفاء المسلمين بأنواع الخداع والتلبيس! فيجب الرجوع فيه إلى القانون.

الثالث : أن ينظر إلى لفظ الحلف ، فإن قال : عليك عهد الله وميثاقه وما أخذ على النبيين والصديقين من العهود ، وإن أظهرت السر فأنت بريء من الإسلام والمسلمين ، أو كافر بالله رب العالمين أو جميع أموالك صدقة ، لا ينعقد بهذه الألفاظ يمين أصلا. فإنه إن قال : إن فعلت كذا فأنا بريء من الإسلام ومن الله ورسوله لم تكن هذه يمينا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف فليحلف بالله أو فليصمت» (١). والحلف بالله أن يقول : تالله وو الله وما يجرى مجراه. وقد استقصينا صريح الأيمان فى فن الفقه ، وهذه الألفاظ ليست من جملتها. وكذا قوله : «عليّ عهد الله وميثاقه وما أخذه الله على النبيين» ، فإنه إذا لم يأخذ الله ميثاقهم وعهده لا ينعقد ذلك بقول غيره ، والله تعالى لم يأخذ ميثاقهم على كتمان سر الكفار والضلال ، ولا هذا العهد مماثل عهد الله فلا يلزم به شيء ، وكذلك لو قال الإنسان : «إن فعلت كذا فأموالى صدقة» ـ لا يلزمه شيء إلا أن يقول : «فلله عليّ أن أتصدق بمالى» وهو يمين الغضب واللّجاج ؛ ويخلصه على الرأى المختار كفّارة يمين.

الرابع : أن ينظر إلى المحلوف عليه ، فإن كان لفظ المحلف فيه ما حكيناه فى نسخة عهودهم وهو قولهم : «تكتم سر ولى الله وتنصره ولا تخالفه» ـ فليظهر السر مهما أراد ولا يكون حانثا لأنه حلف على كتمان سر ولى الله تعالى وقد كتمه ،

__________________

(١) الحديث رواه مسلم فى كتاب الأيمان والنذور ، (صحيح مسلم ج ٤ ص ١٠).

وإنما الّذي أفشاه سر عدو الله ؛ وكذا قولهم : تنصر أقاربه وأتباعه. فكل ذلك يرجع إلى ولىّ الله ولا يرجع إلى من قصده المحلف لأنه عدو الله لا وليه ، فأمّا إذا عين شخصا بالإشارة أو عرّفه باسمه الّذي يعرف به وقال : «تكتم سرى» أو قال «تكتم سر فلان ولى الله» أو «سر هذا الشخص الّذي هو ولى الله» ـ فقد قال قائل : لا يحنث عند إفشاء السر نظرا إلى الصفة وإعراضا عن الإشارة ، وقالوا هو كما لو قال : بعت منك هذه النعجة ـ والمشار إليه رمكة (١) فإنه لا يصح ، والمختار عندنا أن الحنث يحصل والإشارة المعرفة المعينة التى لا يتطرق إليها الكذب بحال أعلى وأغلب من الوصف المذكور كذبا على وجه الفضول مع الاستغناء. وليس هذا كما لو قال : والله لأشربن ماء هذه الإداوة (٢) ، ولا ماء فيها ؛ إن اليمين لا تنعقد لأنه لا وجود لمتعلق اليمين. وكذلك لو ترك الإضافة إلى الإداوة وذكر قوله : هذا الماء ، وأشار باليد ، لم ينعقد لفقد المتعلق هاهنا ، ولو اقتصر على قوله : «لا يفشى سرّ هذا الشخص أوسر زيد» ـ انعقد وإن سكت عن قوله إنه ولى الله.

ومهما انعقدت اليمين على هذا الوجه فيباح إفشاء السر ، بل يجب إفشاء السر ثم تلزم الكفارة كفارة يمين ، ويكفيه أن يطعم عشرة مساكين كل مسكين مدا من الطعام. فإن عجز عن هذا : صام ثلاثة أيام (٣). وما أهون الخطب فى ذلك! ولا حاجة إلى التأنق فى طلب الحيلة للخلاص من هذا القدر فإنه قريب محتمل ، ثم لا يعصى بالحنث لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذي هو خير وليكفر عن يمينه» (٤) ؛ ومن حلف على أن يزنى ولا يصلى وجب عليه الحنث ولزمته الكفّارة ؛ فهذا جار مجرى ذلك.

__________________

(١) الرمكة : الفرس والبرذونة تتخذ للنسل ، والجمع رمك ورماك.

(٢) الإداوة : إناء صغير يحمل فيه الماء ؛ والجمع : أداوى.

(٣) كفارة اليمين : إطعام عشرة مساكين أو صوم ثلاثة أيام.

(٤) رواه أحمد بن حنبل فى «مسنده» ومسلم فى «صحيحه» والترمذي فى «السنن» عن أبى هريرة.

الخامس : إذا ترك الحالف النيّة والاستثناء وترك المحلف لفظ العهد والميثاق ولفظ ولىّ الله وأتى بأيمان صريحة بالله وبتعليق الطلاق والعتاق فى مماليكه الموجودين وزوجاته وفيما سيملك من بعد إلى آخر عمره وعلق بالحنث لزوم مائة حجة وصيام مائة سنة وصلاة ألف ألف ركعة والتصدق بألف دينار وما جرى هذا المجرى فطريقه فى اليمين بالله أن يطعم عشرة مساكين أو يصوم عند العجز كما سبق. وهذا أيضا يخلصه عن تعليق الصدقة والحج والصيام والصلاة بالحنث لأن ذلك يمين غضب ولجاج لا يلزم الوفاء بموجبه. وأما تعليق الطلاق والعتق فيما سيملك من النساء والعبيد والإماء ـ فباطل غير منعقد ، فليحنث ولينكح من شاء متى شاء إذ لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتاق قبل ملك. وإن كان فى ملكه رقيق وخاف من عتقه فطريقه أن يبيعه من أهله أو من ولده أو من صديقه ، ثم يفشى السر ثم يستعيده إلى ملكه بالشراء أو الاستيهاب أو بما شاء ، ولا يعجز أحد عن صديق يثق بصداقته وأمانته فيبيعه منه ثم يرده عليه مهما أراد. وأما زوجته إن حلف بطلاقها فيخالعها بدرهم معها ، أو مع أجنبى ، ويفشى السرّ ، ثم يجدد نكاحها فيأمن لحوق الطلاق بعده.

فإن قيل : إن كان قد طلق قبل ذلك تطليقتين ولم تبق له إلا طلقه واحدة ، وفى الخلع ما يحرمها عليه إلى أن تنكح زوجا غيره ـ فما سبيله؟ ـ قلنا : سبيله أن يقول : مهما وقع عليك طلاقى فأنت طالق قبله ثلاثا ، فمهما حنث لا يقع طلاقه ، وهذه هى اليمين الدائرة التى تخلص من الحنث وتمنع وقوع الطلاق ، فإن قيل : فقد اختلف العلماء فى ذلك وربما لا يرتضى المتورع اقتحام شبهة الطلاق! قلنا : السائل إن كان مقلدا فعليه تقليد المفتى ومتابعته ، وعهدة الطلاق يختص بتطوقها المفتى دون المقلد ، وإن كان المفتى مجتهدا فعليه موجب اجتهاده ، فإن أدى اجتهاده إلى ذلك لم يمنع وقوع الطلاق ، فهو مخير بين أن يستبدل بها غيرها أو يسكت عن إفشاء سرهم فيترك معتقدهم. وليس فى السكوت عن إفشاء ما قالوا موافقة لهم فى الدين ، بل الموافقة فى أن يعتقد ما اعتقدوه وأن يعرب عن اعتقاده

ويدعو إليه ، فإن صرف ضلالهم ظاهرا وباطنا فليس يلزمه أن ينطق بما سمعه منهم ، إذ ليس يتعين حكاية الكفر عن كل كافر.

فهذه طرق الحيل فى الخروج عن اليمين. وذهب بعض الخائضين فى هذا الفن إلى أن الأيمان الصادرة منهم لا تنعقد بحال ، وهو كلام يصدر عن قلة البصيرة بالأحكام الفقهية ، وإنما الموافق لتصرف الفقه وأحكام الشرع الّذي ذكرناه ؛ والسلام!

الباب التاسع

فى إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم

بالحق الواجب على الخلق طاعته فى عصرنا هذا هو

الإمام المستظهر بالله (١) ، حرس الله ظلاله

والمقصود من هذا الباب : بيان إمامته على وفق الشرع ، وأنه يجب على كافة علماء الدهر الفتوى ، على البتّ ، والقطع ، بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بمنهج الحق ، وصحة توليته للولاة وتقليده للقضاة ، وبراءة ذمة المكلّفين عند صرف حقوق الله تعالى إليه ، وأنه خليفة الله على الخلق ، وأن طاعته على كافة الخلق فرض.

فهذا باب يتعين ـ من حيث الدين ـ صرف العناية إلى تحقيقه وإقامة البرهان على منهج الحق وطريقه ، فإن الّذي يسير إليه كلام أكثر المصنفين فى الإمامة يقتضي ألا نعتقد فى عصرنا هذا وفى أعصار منقضية خليفة غير مستجمع لشرائط الإمامة ، متصف بصفاتهم ، فتبقى الإمامة معطّلة لا قائم بها ، ويبقى المتصدى لها متعديا عن شروط الإمامة غير مستحق لها ولا متصف بها وهذا هجوم عظيم على الأحكام الشرعية وتصريح بتعطيلها وإهمالها ، ويتداعى إلى التصريح بفساد جميع الولايات وبطلان قضاء القضاة وضياع حقوق الله تعالى وحدوده وإهدار الدماء والفروج والأموال ، والحكم ببطلان الأنكحة الصادرة من القضاة فى أقطار الأرض ، وبقاء حقوق الله تعالى فى ذمم الخلق ؛ فإن جميع ذلك لا يتأدى على وفق الشرع إلا إذا صدر استيفاؤها من القضاة ، ومصدر القضاة تولية الإمام ، فإن بطلت الإمامة بطلت التولية ، وانحلت ولاية القضاة والتحقوا بآحاد الخلق وامتنعت التصرفات فى

__________________

(١) راجع ص (٣).

النفوس والدماء والفروج والأموال ، وانطوى بساط الشرع بالكلية فى هذه المهمات العظيمة.

فالكشف عن فساد كل مذهب يتداعى إلى هذه العظائم من مهمات الدين وفرائضه ؛ إلا أن تقرير ذلك متوعر ، وترتيبه مع الاحتراز عن التهدف للإشكالات والاعتراضات متعسر ، ونحن بتوفيق الله نكشف الغطاء عنه فنقول :

ندعى أن الإمام المستظهر بالله ـ حرس الله أيامه ـ هو الإمام الحق الواجب الطاعة ، فإن طولنا بإقامة البرهان عليه تدرجنا فى تحقيقه وتلطفنا فى تفهيمه ، إلى أن يعترف المستريب فيه بالحق ، ويلوح له وجه الصواب والصدق ، ونقول : لا بدّ من إمام فى كل عصر ، ولا مترشح للإمامة سواه فهو الإمام الحق إذا ، فهذه نتيجة بنيناها على مقدمتين : إحداهما قولنا لا بدّ من الإمام ، والأخرى قولنا : لا يترشح للإمامة سواه. ففى أيهما النزاع؟ فإن قيل : بم تنكرون على من لا يسلم أنه لا بدّ من إمام ، بل يقول : لنا غنية عنه؟ ـ قلنا : هذا سؤال اتفقنا نحن والباطنية وسائر أصناف المسلمين على بطلانه ، فإنهم أجمعوا وتطابقوا على أنه لا بدّ من إمام ؛ وإنما نزاعهم فى التعيين لا فى الأصل. ولم يذهب أحد إلى أن الإمام لا يجب نصبه وأنه يستغنى عنه إلّا رجل يعرف بعبد الرحمن بن كيسان (١). ولا يستريب محصل فى بطلان مذهبه وفساد معتقده ، وكأننا ننبه المسترشد عليه بمسلكين : الأول هو أن ابن كيسان مسوق فيما يدعيه بإجماع الأمة قاطبة ، ولقد هجم بما انتحل من المذهب على خرق الإجماع وتضمخ برذيلة العدول عن سنن الاتباع ، فليلاحظ العصر الأول كيف تسارع الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى نصب الإمام وعقد البيعة ، وكيف اعتقدوا ذلك فرضا محتوما وحقا واجبا على الفور والبدار وكيف اجتنبوا فيه التوانى والاستئخار حتى تركوا ـ بسبب الاشتغال به ـ تجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلموا

__________________

(١) هو أبو بكر الأصم الّذي كان «يزعم أن القرآن جسم مخلوق ، وأنكر الأعراض أصلا ، وأنكر صفات البارى تعالى» (الشهرستانى : «الملل والنحل» بهامش «الفصل» لابن حزم ، ج ٢ ص ٨١ ؛ القاهرة سنة ١٣٤٧ ه‍) ويعرف مذهبه وأتباعه بالكيسانية.

أنه لو تصرم عليهم لحظة لا إمام لهم فربما هجم عليهم حادثة ملمّة وارتبكوا فى حادثة عظيمة تتشتت فيها الآراء ، وتختلف فيها الأهواء ، ولا يصادفون فيها متبوعا مطاعا يجمع شتات الآراء لانخرم النظام وبطل العصام وتداعت بالانفصام عرى الأحكام. فلأجل ذلك آثروا البدار إليه ، ولم يعرجوا فى الحال إلا عليه. وهذا قاطع فى أن نصب الإمام أمر ضرورى فى حفظ الإسلام.

المسلك الثانى : هو أن نقول : لا يتمارى متدين فى أن الذب عن حوزة الدين والنضال دون بيضته والانتداب لنصرته وحراسته بالمحافظة على نظام أمور جند الإسلام وعدته أمر ضرورى واجب لا بدّ منه ، وأن النظام لا يستمر على الدوام إلا بمترصد يكلأ الخلق بالعين الساهرة ، فمهما اشرأبت فئة للثوران وكشّرت عن نابها وأشرفت على الاستحكام بادر إلى تطفئتها وحسم غائلها ، فإنها لو تركت حتى إذا ثارت اشتغل بتطفئتها العوام والطغام والأفراد والآحاد ، لأفضى ذلك إلى التعادى والتضادّ ، وصارت الأمور شورى ، وبقى الناس فوضى مهملين سدى متهافتين على ورطات الردى ، مقتحمين فيه مسالك الهوى ومناهج المنى ، وعند ذلك تتناقض الإرادات ، وتتنازع الشهوات ، وتفضى بالآخرة إلى استيلاء الرذائل على الفضائل وتوثب الطغام على علماء الإسلام والأماثل ، وتمتد الأيدى إلى الأموال والفروج ، وأصبحت الأيدى السافلة عالية. وليس يخفى ما فى ذلك من حلّ عصام الأمور الدينية والدنيوية ، فيتبين بهذا للناظر البصير أن الإمام ضرورة الخلق لا غنية لهم عنه فى دفع الباطل وتقرير الحق. فقد ثبتت هذه المقدمة وهى أن الإمام لا بدّ منه ، فإن قيل : وبم تنكرون على من ينازع فى المقدمة الثانية ـ وهى قولكم : لا يترشح للإمامة سواه؟ فإن الباطنية يدعون الخلق إلى مترشح لها غير ما إليه دعوتكم ، فكيف تستتب لكم هذه الدعوى؟

قلنا : لا ننكر دعوى بعض المدّعين للإمامة بغير استحقاق ، ولكنّا نقول : إذا بطل ما تدعيه الباطنية تعيّنت الإمامة لمن يدعيها ، وحصل ما نرومه ونبتغيه. فإنه إذا لم يكن بدّ من إمام وفاقا ، وثبت أن الإمامة لا تعدو شخصين ، وثبت بطلان الإمامة

فى حق واحد لم تبق ريبة فى ثبوتها للثانى ، والمسالك الدالة على إبطال الإمامة التى تدعيها الباطنية وترجيح الإمامة التى ندّعيها أكثر من أن تدخل تحت الحصر ، فلسنا نسلك فيه مسلك الاستقصاء ، ولكنا نقتصر على دليلين واقعين قاطعين تقر بهما كل عين ، ويشترك فى دركهما الفطن والغبى والمحنك والصبىّ ، والمعاند المنصف ، والمقتصد والمتعسف.

الأول : هو أن عصام شرائط الإمامة صحّة العقيدة وسلامة الدين ، ولقد حكينا عن مذهب الباطنية وصاحبهم ما اقتضى أدنى درجاته التبديع والتضليل ، وأعلاه التكفير والتبرى ، وذلك فى إثباتهم إلهين قديمين ، على ما أطبق عليه جميع فرقهم.

والثانى : فى إنكارهم الحشر والنشر والجنة والنار وجملة ما اشتمل عليه وعد القرآن ووعيده بفنون من التأويلات باطلة ، وذلك مما نعلم أنه لو ذكر شيء منه فى زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعصر الصحابة بعده لبادروا إلى حزّ الرقبة ولم يتماروا أنه صريح التكذيب لله ولرسوله ، فمن كذّب الله فى وحدانيته ولم يصدّق بالآيات الواردة فى التوحيد ولم يصدّق بالقيامة والبعث والنشور كيف يصلح أن ينتصب منصب الإمامة وأن يناط به عرى الإسلام؟! وهذا المسلك يتحققه الناظر إذا تصفح ثم رجع إلى مذاهبهم التى ذكرناها فى إبطاله ، فصحّ له بمجموع النظرين ما ذكرناه من اختلال الدين وفساد العقيدة. وأنّى يصح للإمامة من فيه مثل هذه الرذيلة!

المسلك الثانى : أنّا نسلّم جدلا ـ على سبيل التبرع والتقرير لمورد هذا السؤال ـ أن صاحب الباطنية صالح للإمامة بصفاء الاعتقاد وصحّة الدين وحصول سائر الشروط ، فمسلك الترجيح غير منحسم ، فإن الإمامة التى ندّعيها أجمع عليها أئمة العصر وعلماء الدهر ، بل جماهير الخلق وأقاليم الأرض فى أقصى المشرق وفى أقصى المغرب حتى تطوّق الطاعة له والانقياد لأمره كلّ من على بسيط الأرض إلّا شرذمة الباطنية ، ولو جمع قضّهم وقضيضهم وصغيرهم وكبيرهم لم يبلغ عددهم

عدد من أهل بلدة واحدة من متّبعى الإمامة العبّاسية ، فكيف إذا قيسوا بأهل ناحية أو بأهل إقليم أو بكافة من على وجه الأرض من منتحلى الإمام! أفيتمارى المنصف فى أن الغلاة من الباطنية على أهل الحق لو جمع منهم الصغير والكبير لم يبلغ عشر العشير من ناصرى هذه الدولة القاهرة ومتّبعى هذه العصابة المحقة؟! وإذا كانت الإمامة تقوم بالشوكة ، وإنما تقوى الشوكة بالمظاهرة والمناصرة والكثرة فى الاتباع والأشياع وتناصر أهل الاتفاق والاجتماع فهذا أقوى مسلك من مسالك الترجيح. وهذا بعد أن أعطيناهم بطريق المسامحة والتبرع صحّة دينهم ووجود شروط الإمامة فى صاحبهم.

فإن قيل : ليس ينكر منكر كثرة هذه العصابة بالإضافة إليهم ، ولكن الحق لا يتّبع الكثرة ، فإن الحقّ خفىّ لا يستقل بدركه إلّا الأقلّون ، والباطل جليّ يبادر إلى الانقياد له الأكثرون. وأنتم فقد بنيتم الترجيح على قيام الشوكة بكثرة الأنصار والأشياع ، وهذا إنما يستقيم لو كانت الإمامة فى أصلها تنعقد باجتماع الخلق على الطاعة ، فإن ذلك لا يرجّح عند التجويز والاختلاف بالكثرة ، وليس الأمر كذلك ، بل الإمامة إنما تنعقد عند التجويز والاختلاف بالكثرة ، وليس الأمر كذلك ، بل الإمامة إنما تنعقد عند الباطنية بالنص ، والمنصوص عليه محق بويع أو لم يبايع ، قلّ مبايعوه أو كثروا ؛ والمخالف له مبطل ساعدته دولته فكثر بسببها أتباعه أو لم تساعده ، فمن أى وجه يصح الاستدلال بكثرة الأتباع؟ ـ قلنا : إنما يستبين وجه دلالة الكثرة من فهم مأخذ الإمامة ، وقد بان أنها ليست مأخوذة من النص كما قدرناه فى الباب السابع ونبهنا على حماقة من يدّعى تواتر النص من كل واحد منهم على ولده ، بل بينّا جهل من يدعى ذلك فى عليّ رضى الله عنه. فإن ذلك لو كان لاستدل به على ولم يعجز عن إظهاره ولا رضى به ؛ فهو الّذي جرّ العساكر والجنود فى زمان معاوية حتى قتل من أبطال الإسلام فى تلك المعارك ألوف ولم يكترث بقتلهم ، فما الّذي كان نزعه وأشياعه عن الاستدلال بنصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد بينّا أن ذلك يقابله دعوى البكرية فى النص على أبى بكر ـ رضى الله عنه! ـ ودعوى

الروندية (١). فى النص على العباس رضى الله عنه! ، فإذا بطل تلقى الإمامة من النص لم يبق إلا الاختيار من أهل الإسلام والاتفاق على التقديم والانقياد ، وعند ذلك يبين أنه مهما وقع الاتفاق على نصب واحد كما اتفقوا فى بداية إمامة العباسية فمن طمح إلى طلبها لنفسه كان باغيا ، فإنهم لو اختلفوا فى مبدأ الأمر وجب الترجيح بالكثرة فى ذلك عند تقابل العدد وتقاربهم ، فكيف إذا أطبق كل من شرقت عليهم الشمس شارقة وغاربة ، لم يخالفهم إلا فئة معدودة وشرذمة يسيرة لا يؤبه ولا يعبأ بهم لشذوذهم بالإضافة إلى الخلق الكثير والجم الغفير الذين هم فى مقابلتهم ولا عشر العشر من أعشارهم وما هم إلا كالحسوة (٢) فى البحر الزاخر والموج المتلاطم.

فإن قيل : وبم تنكرون على من يقول : لا مأخذ للإمامة إلا النص أو الاختيار ، فإذا بطل الاختيار ثبت النص؟ ويدل على بطلان الاختيار أنه لا يخلو إمّا أن يعتبر فيه إجماع كافة الخلق ، أو إجماع كافة أهل الحلّ والعقد من جملة الخلق فى جميع أقطار الأرض ، أو يعتبر إجماع أهل البلد الّذي يسكنه الإمام ويقدّر بإجماع عشرة أو خمسة أو عدد مخصوص ، أو يكتفى بمبايعة شخص واحد ، وباطل أن يعتبر فيه إجماع كافة الخلق فى جميع أقطار الأرض ، فإن ذلك غير ممكن ولا مقدور لأحد من الأئمة ، ولا فرض ذلك أيضا فى الأعصار الخالية للأئمة الماضين ، وباطل أن يعتبر إجماع جميع أهل الحل والعقد فى جميع أقطار الأرض ، لأن ذلك مما يمتنع أو يتعذّر تعذّرا يفتقر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عمر الإمام ، فتبقى الأمور فى مدة الانتظار مهملة ؛ ولأنه لمّا عقدت البيعة لأبى بكر ـ رضى الله عنه! ـ لم ينتظر انتشار الأخبار إلى سائر الأمصار ، ولا تواتر كتب البيعة من أقاصى الأقطار ، بل

__________________

(١) الروندية (أو الريوندية كما فى «شذرات الذهب») جماعة ظهرت فى سنة ١٤١ ه‍ ، «وهم قوم خراسانيون على رأى أبى مسلم «الخراسانى» صاحب الدعوة «العباسية» يقولون بتناسخ الأرواح ، وأن ربهم الّذي يطعمهم ويسقيهم : المنصور ، وأن الهيثم بن معاوية : جبريل ؛ فأتوا قصر المنصور وطافوا فيه ..» («شذرات الذهب» ج ١ ص ٢٠٩).

(٢) الحسوة : قدر ما يحسى مرة واحدة.

اشتغل بالإمامة وخاض فى القيام بموجب الزعامة محتكما فى أوامره ونواهيه على الخاصة والعامة ، إذا بطل اشتراط إجماع كافة الخلق وكافة أهل الحلّ والعقد فالتخصيص بعد ذلك تحكّم ، إذ ليس من يشترط باتفاق أهل بلدة بأولى ممن يكتفى بأهل محلة أو قرية أو لم يشترط اتفاق أهل ناحية أو إقليم ، ومن لا يشترط إجماع أربعين أو خمسة أو أربعة أو اثنين بأولى من غيره من الأعداد ، وهذه المقدّرات قد ذهب إلى التحكم بها ذاهبون بمجرد التشهّى من غير مستند ، فلا يبقى إلا الاكتفاء ببيعة شخص واحد وفى الأشخاص كثرة ، وأحوالهم متعارضة ، ولا يترجّح شخص على شخص إلا بالعصمة ، فيجب أن يكون إذا مولى العهد واحدا ، وليكن ذلك الشخص معصوما وهو معتقدنا ، وعند هذا لا تنفع الكثرة فى المخالفين لذلك الواحد المتميز عن غيره ، فإذا لا معتصم فى الكثرة التى تعلقتم بها.

قلنا : نعم! لا مأخذ للإمامة إلا النصّ ، أو الاختيار ، ونحن نقول : مهما بطل النص ثبت الاختيار ، وقولهم إن الاختيار باطل لأنه لا يمكن اعتبار كافة الخلق ولا الاكتفاء بواحد ، ولا التحكم بتقدير عدد معين بين الواحد والكل ، فهذا جهل بمذهبنا الّذي نختاره ونقيم البرهان على صحته ، والّذي نختاره أنه يكتفى بشخص واحد يعقد البيعة للإمام مهما كان ذلك الواحد مطاعا ذا شوكة لا تطال ومهما كان مال إلى جانب مال بسببه الجماهير ولم يخالفه إلّا من لا يكترث بمخالفته ، فالشخص الواحد المتبوع المطاع الموصوف بهذه الصفة إذا بايع كفى ، إذ فى موافقته موافقة الجماهير ، فإن لم يحصل هذا الغرض إلّا لشخصين أو ثلاثة فلا بد من اتفاقهم ، وليس المقصود أعيان المبايعين ، وإنما الغرض قيام شوكة الإمام بالأتباع والأشياع ، وذلك يحصل بكل مستول مطاع. ونحن نقول : لما بايع عمر أبا بكر ـ رضى الله عنهما! ـ انعقدت الإمامة له بمجرد بيعته ؛ ولكن لتتابع الأيدى إلى البيعة بسبب مبادرته ، ولو لم يبايعه غير عمر وبقى كافّة الخلق مخالفين ، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب لما انعقدت الإمامة ، فإن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المشايعة ومطابقة البواطن

والظواهر على المبايعة ، فإن المقصود الّذي طلبنا له الإمام جمع شتات الآراء فى مصطدم تعارض الأهواء ، ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة على متابعة رأى واحد إلّا إذا ظهرت شوكته وعظمت نجدته وترسّخت فى النفوس رهبته ومهابته ، ومدار جميع ذلك على الشوكة ، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من معتبرى كل زمان.

فإذا بان أن هذا مأخذ الإمامة ، فليس يتمارى فى أن الجهة الشريفة التى ننصرها قد صرف الله وجوه كافة الخلق إليها وجبل قلوبهم على حبّها ، ولذلك قامت الشوكة له فى أقطار الأرض ، حتى لو ظهر باغ يظهر خلافا فى هذا الجناب الكريم ، ولو بأقصى الصين أو المغرب ، لبادروا إلى اختطافه وتطهير وجه الأرض منه ، متقربين إلى الله تعالى.

وقد لاح لك الآن كيف ترقينا من هذه المغاصة المظلمة ، وكيف دفعنا ما أشكل على جميع جماهير النظار من تعيين المقدار فى عدد أهل الاختيار ، إذ لم نعين له عددا ، بل اكتفينا بشخص واحد يبايع ، وحكمنا بانعقاد الإمامة عند بيعته ، لا لتفرده فى عينه ، ولكن لكون النفوس محمولة على متابعته ومبايعة من أذعن هو لطاعته ، وكان فى متابعته قيام قوة الإمام وشوكته ، وانصراف قلوب الخلائق إلى شخص واحد أو شخصين أو ثلاثة على ما تقتضيه الحال فى كل عصر ، ليس أمرا اختياريا يتوصّل إليه بالحيلة البشرية ، بل هو رزق إلهى يؤتيه الله من يشاء ، فكأنا فى الظاهر رددنا تعيين الإمامة إلى اختيار الله تعالى ونصبه ؛ إلا أنه قد يظهر اختيار الله عقيب متابعة شخص واحد أو أشخاص. وإنما المصحح لعقد الإمامة انصراف قلوب الخلق لطاعته والانقياد له فى أمره ونهيه ، وهذه نعمة وهدية من الله تعالى. فإذا أتاحها لعبد من عباده وصرف إلى محبته وجوه أكثر خلقه ، كان ذلك من الله تعالى لطفا فى اختياره لخلافته وتعيينه للاقتداء بأوامره فى تفقد عباده ، وذلك أمر لا يقدر كل البشر على الاحتيال لتحصيله.

فلينظر الناظر إلى مرتبة الفريقين إذا نسبت الباطنية أنفسها إلى أن نصب الإمام عندهم من الله تعالى ، وعند خصومهم من العباد ، ثم لم يقدروا على بيان وجه نسبة ذلك إلى الله تعالى إلا بدعوى الاختراع على رسوله فى النص على عليّ ، ودعوى بقاء ذلك فى ذرّيته بقاء كل خلف لكل واحد ، ودعوى تنصيصه على أحد أولاده بعد موته ، إلى ضروب من الدعاوى الباطلة ، ولما نسبونا إلى أنّا ننصب الإمام بشهوتنا واختيارنا ، ونقموا ذلك منّا ، كشفنا لهم بالآخرة أنّا لسنا نقدم إلا من قدمه الله ، فإن الإمامة عندنا تنعقد بالشوكة ، والشوكة تقوم بالمبايعة ، والمبايعة لا تحصل إلا بصرف الله تعالى القلوب قهرا إلى الطاعة والموالاة ، وهذا لا يقدر عليه البشر ، ويدلك عليه أنه لو أجمع خلق كثير لا يحصى عددهم على أن يصرفوا وجوه الخلق وعقائدهم عن الموالاة للإمامة العباسية عموما ، وعن المشايعة للدولة المستظهرية ـ أيدها الله بالدوام! ـ خصوصا ، لأفنوا أعمارهم فى الحيل والوسائل وتهيئة الأسباب والوصائل ولم يحصلوا فى آخر الأمور إلّا على الخيبة والحرمان.

فهذا طريق إقامة البرهان على أن الإمام الحق هو أبو العباس أحمد المستظهر بالله ـ حرس الله ظلاله فى هذا العصر ـ ولم يبق إلا حسم مطاعن المنكرين فى دعواهم اختلال شرائط الإمامة وفوات صفات الأئمة ، وها نحن نبين وجه الحق فيه فى معرض سؤال وجواب.

فإن قال قائل : ما ذكرتموه من الترجيح وتعيين هذه الجهة الكريمة لمن يستحق الإمامة إنما يستتب إذا أظهرتم وجود شرائط الإمامة وصفات الأئمة ؛ ولها شروط كثيرة لا تنعقد دون شروطها ، بل لو تطرق الخلل إلى شرط من شرائطها امتنع انعقادها ، ففصّلوا الشروط وبينوا تحقّقها حتى نسلّم لكم ثبوت الإمامة ونبطل مذهب القائلين بأن هذا العصر والأعصار الخالية القريبة كانت خالية عن الإمام لفقد شروط الإمامة فى المترشحين لها.

الجواب : إن الّذي عدّ علماء الإسلام من صفات الأئمة وشروط الإمامة تحصرها عشر صفات : ست منها خلقية لا تكتسب ، وأربع منها تكتسب أو يفيد

الاكتساب فيها مزيدا ، فأما الست الخلقية فلا شك فى حضورها ، ولا تتصور المجاحدة فى وجودها : الأولى : البلوغ ـ فلا تنعقد الإمامة لصبى لم يبلغ ؛ الثانية : العقل ـ فلا تنعقد لمجنون ، فإن التكليف ملاك الأمر وعصامه ، ولا تكليف على صبىّ ومجنون ؛ الثالثة : الحرية ـ فلا تنعقد الإمامة لرقيق ، فإن منصب الإمامة يستدعى استغراق الأوقات فى مهمات الخلق ، فكيف ينتدب لها من هو كالمفقود فى حق نفسه الموجود لمالك يتصرف تحت تدبيره وتسخيره! كيف وفى اشتراط نسب قريش ما يتضمن هذا الشرط ، إذ ليس يتصور الرق فى نسب قريش بحال من الأحوال. الرابعة : الذكورية ـ فلا تنعقد الإمامة لامرأة وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال. وكيف تترشّح امرأة لمنصب الإمامة ، وليس لها منصب القضاء ، ولا منصب الشهادة فى أكثر الحكومات! الخامسة : نسب قريش لا بد منه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الأئمة من قريش ، واعتبار هذا مأخوذ من التوقيف ومن إجماع أهل الأعصار الخالية على أن الإمامة ليست إلا فى هذا النسب ، ولذلك لم يتصدّ لطلب الإمامة غير قرشى فى عصر من الأعصار مع شغف الناس بالاستيلاء والاستعلاء وبذلهم غاية الجهد والطاقة فى الترقى إلى منصب العلى ، ولذلك لما هم المخالفون بمصر (١) لطلب هذا الأمر ادّعوا أولا لأنفسهم الاعتزاء إلى هذا النسب ، علما منهم بأن الخلق متطابقون على اعتقادهم لانحصار الإمامة فيهم. السادسة : سلامة حاسّة السمع والبصر ـ إذ لا يتمكن الأعمى والأصمّ من تدبير نفسه ، فكيف يتقلد عهدة العالم! ولذلك لم يستصلحا لمنصب القضاء ، وأضاف مصنّفون إلى

__________________

(١) المخالفون بمصر : أى الفاطميون ؛ إذ ادعى مؤسس دولتهم «أبو محمد عبيد الله بن محمد بن عبد الله بن ميمون» أنه من نسل الإمام على. قال أبو الفداء فى تاريخه : «وقد اختلف العلماء فى صحة نسبة فقال القائلون بإمامته إن نسبه صحيح ولم يرتابوا فيه ، وذهب كثير من العلويين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضا .. وذهب آخرون إلى أن نسبهم مدخول ليس بصحيح. وبالغت طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبهم فى اليهود فقالوا : لم يكن اسم المهدى : عبيد الله ، بل كان اسمه سعيد بن أحمد بن عبد الله القداح بن ميمون بن ديصان ..» (تاريخ أبى الفداء ج ٢ ص ٦٧ ـ ٦٨. طبعة استانبول سنة ١٢٨٦ ه‍) ، ولقد شغل هذا النزاع حيزا كبيرا فى التاريخ ، وطائفة كبيرة من النسابين ، ويذكر أن المعز لدين الله عند دخوله مصر سئل عن نسبه وحسبه ، فحسب سيفه من غمده إلا قليلا وقال : هذا حسبنا ، ثم نثر دنانير الذهب على الناس وقال : وهذا نسبنا.

هذا اشتراط السلامة من البرص والجذام والزمانة وقطع الأطراف وسائر العيوب الفاحشة المنفّرة ، وأنكره منكرون وقالوا لا حاجة إلى وجود السلامة من هذه الأمراض ؛ فإن التكفّل بأمور الخلق والقيام بمصالحهم لا تستدعيها ، ولم يرد من الشارع توقيف وتعبد فيها ، وليس من غرضنا بيان الصحيح من المذهبين ، وإنما المقصود أن هذه الصفات الست غريزية لا يمكن اكتسابها ، وهى بجملتها حاضرة حاصلة فلا تثور منها شبهة المعاندة.

أما الصفات الأربع المكتسبة ، وهى النجدة والكفاية والعلم والورع ، فقد اتفقوا على اعتبارها. ونحن نبين وجود القدر المشروط لصحّة الإمامة فى الإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين ثبت الله دولته ، وأن إمامته على وفق الشرع ، وأنه يجب على كل مفت من علماء الدهر أن يفتى على القطع بوجوب طاعته على الخلق ونفوذ أقضيته بالحق ، وبصحة توليته للولاة ، وتقليده للقضاة ، وصرف حقوق الله إليه ليصرفها إلى مصارفها ويوجّهها إلى مظانها ومواقعها. ونتكلم فى هذه الصفات الأربع على الترتيب :

القول فى الصفة الأولى

وهى النجدة

فنقول : مراد الأئمة بالنجدة ظهور الشوكة ، وموفور العدة ، والاستظهار بالجنود ، وعقد الألوية والبنود ، والاستمكان ـ بتضافر الأشياع والأتباع ـ من قمع البغاة والطغاة ومجاهدة الكفرة والعتاة وتطفئة نائرة (١) الفتن وحسم مواد المحن قبل أن يستظهر شررها وينتشر ضررها ، هذا هو المراد بالنجدة ، وهى حاصلة لهذه الجهة المقدسة ، فالشوكة فى عصرنا هذا من أصناف الخلائق للترك (٢) ، وقد أسعدهم الله تعالى بموالاته ومحبته حتى إنهم يتقربون إلى الله بنصرته وقمع أعداء

__________________

(١) نائرة : ثائرة.

(٢) الترك : العناصر والأجناس ـ غير الفارسية ـ التى دخلت الإسلام ، من بلاد المشرق.

دولته ، ويتدينون باعتقاد خلافته وإمامته ووجوب طاعته ، كما يتدينون بوجوب أوامر الله وبتصديق رسله فى رسالته ، فهذه نجدة لم يثبت مثلها لغيره ، فكيف يتمارى فى نجدته؟

فإن قيل : كيف تحصل نجدته بهم وإنا نراهم يتهجمون على مخالفة أوامره ونواهيه ، ويتعدون الحدود المرسومة لهم فيه ، وإنما تحصل الشوكة بمن يتردد تحت الطاعة على حسب الاستطاعة ؛ وهؤلاء فى حركاتهم لا يترددون إلا خلف شهواتهم ؛ وإذا هاج لهم غضب أو حركتهم شهوة أو أوغر صدورهم ضغينة لم يبالوا بالاتّباع ولم يعرفوا إلا الرجوع إلى ما جبلوا عليه من طباع السباع ، فكيف تقوم الشوكة بهم؟

قلنا : هذا سؤال فى غاية الركاكة ، فإن الطاعة المشروطة فى حق الخلق لقيام شوكة الإمام لا تزيد على الطاعة المشروطة على الأرقاء والعبيد فى حق ساداتهم ، ولا على الطاعة المفروضة على المكلّفين لله ورسوله ، وأحوال العبيد فى طاعة سيدهم وأحوال العباد فى طاعة ربهم لا تنفكّ عن الانقسام إلى موافقة ومخالفة. فلما انقسم المكلّفون إلى المطيعين والعصاة ، ولم ينسلخوا به عن إهاب الإسلام ، ولا انسلّوا به عن ربقته ما داموا معتقدين أن الطاعة لله مفروضة وأن المخالفة محرّمة ومكروهة ، فهذا حال الجدّ فى الطاعة لصاحب الأمر ، فإنهم وإن خالفوا أمرا من الأوامر الواجبة الطاعة اعتقدوا المخالفة إساءة والموافقة حسنة ، ولذلك تراهم لا يغيرون العقيدة عن الموالاة ولو قطعوا إربا ، وما من شخص يقدر مخالفته فى أمر من الأمور إلا وهو بعينه إذا انتهى إلى العتبة الشريفة صفع على الأرض خاضعا وعفّر خده فى التراب متواضعا ، ووقف وقوف أذلّ العبيد على بابه ، وانتهض ماثلا على رجليه عند سماع خطابه ، ولو نبغت نابغة فى طرف من أطراف الأرض على معاداة هذه الدولة الزاهرة لم يكن فيهم أحد إلا ويرى النضال دون حوزتها جهادا فى سبيل الله نازلا منزلة جهاد الكفار ، فأية طاعة فى عالم الله تزيد على هذه الطاعة! وأية شوكة فى الدنيا تقابل هذه الشوكة! وليت شعرى لم لا يتذكر

الباطنية عند إيراد هذا السؤال ما جرى لعلىّ ـ رضى الله عنه! ـ من اضطراب الأحوال وتخلف أشياعه عنه فى القتال ومخالفتهم لاستصوابه فى أكثر الأقوال والأفعال ، حتى كان لا تنفك خطبة من خطبه عن شكايتهم فى الإعراض عنه والاستبداد برأيهم ، حتى كان يقول (١) : «لا رأى لمن لا يطاع»؟ فإذا كانت تقوم شوكته باتباع الأكثر من أتباعه من انتصاب من انتصب لمخالفته ، فكيف لا تقوم الشوكة فى زماننا هذا ، والحال على ما ذكرنا؟! فإن قيل : كان عليّ ـ رضى الله عنه! ـ يتولى الأمر بنفسه ويباشر الحروب ويتبرج (٢) للخلق ولا يحتجب عنهم ، قلنا : ومن الّذي شرط فى الإمامة مباشرة الأمور وتعاطيها بنفسه؟! نعم ، لا حرج عليه لو باشر بنفسه ، فإذا استغنى بجنوده وأتباعه عن المقاساة للحرب بنفسه جاز له الاقتصار على مجرد الرأى والتدبير إذا روجع فى الأمور القريبة منه ومن قطره والتفويض إلى ذوى الرأى الموثوق ببصيرتهم فى الأمور البعيدة عنه ، وهذا الآن فى عصرنا مستغنى عنه ، فقد سخر الله رجال العالم وأبطالهم لموالاة هذه الحضرة وطاعتها حتى تبدّدوا فى أقطار الدنيا ، كما نشاهد ونرى. فليس وراء هذه الشوكة أمر يشترط وجوده لصحّة الإمامة.

فإن قيل : وما بالكم تنظرون إلى هؤلاء ولا تنظرون إلى جنود المخالفين ، وهم أيضا مستظهرون بشوكة على مخالفة هذه الشوكة؟ ـ قلنا : مهما كانت الكثرة من هذا الجانب لم تقدح مخالفة المخالفين ، أفترى لم لم ينظر الباطنى إلى شوكة معاوية وعدّته ومقاومته لعلى بجنوده وأنصاره ؛ فكيف لم يشترط فى صحة الإمامة أن تصفو له جوانب الدنيا عن قذى المخالفة؟ ولو شرط هذا فى الإمامة لم تنعقد الإمامة لأحد قط من مبدأ الأمر إلى زماننا هذا؟ فقد اتضح أن المشروط من هذه الصفة موجود وزيادة.

__________________

(١) راجع «نهج البلاغة» طبعة الحلبى بالقاهرة ، المنسوب للإمام على رضى الله عنه شرح ابن أبى الحديد.

(٢) يتبرج : يبدو ويظهر.

القول فى الصفة الثانية

وهى الكفاية

ومعناها التهدّى لحق المصالح فى معضلات الأمور ، والاطلاع على المسلك المقتصد عند تعارض الشرور ، كالعقل الّذي يميز الخير عن الشر وينصف به الجمهور ، وإنما العزيز المعون عقلا يعرف خير الخيرين وشر الشرين ، وذلك أيضا فى الأمور العاجلة وهى هينة قريبة ؛ وإنما الملتبس عواقب الأمور المخطرة ولن يستقل بها إلا مسدد للتوفيق من جهة الله تعالى.

ونحن نقول : إن هذه الصفة حاصلة ، فإن أسبابها متوافرة ، فإنها مهما حصل من غريزة العقل وانفك عن العته والخبل كان الوصول إلى درك عواقب الأمور بطريق الظنّ والحدس مبنيا على ركنين : أحدهما الفكر والتدبير ، وشرطه الفطنة والذكاء ، وهذه خصلة تميز فيها المنصور إمامته والمفروض طاعته عن النظراء بمزيد النفاذ والمضاء حتى صار أكابر العقلاء يتعجبون فى معضلات الوقائع من رأيه الصائب ، وعقله الثاقب وتفطنه للدقائق يشذ عن درك المحنكين من ذوى التجارب ، وهذه صفة غريزية ، وهى من الله تحفة وهدية.

والركن الثانى : الاستضاءة بخاطر ذوى البصائر واستطلاع رأى أولى التجارب على طريق المشاورة ، وهى الخصلة التى أمر الله بها نبيه إذ قال : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩] ثم شرطه أن يكون المستشار مميزا بين المراتب عارفا للمناصب معولا على رأى من يوثق بدهائه وكفايته ومضائه وصرامته وشفقته وديانته ، وهذا هو الركن الأعظم فى تدبير الأمور ، فإن الاستبداد بالرأى ، وإن كان من ذوى البصائر ، مذموم ومحذور ، وقد وفق الله الإمام بتفويض مقاليد أمره إلى وزيره الّذي لم يقطع ثوب الوزارة إلا على قدّه حتى استظهر بآرائه السديدة فى نوائب الزمان ومعضلات الحدثان ومراعاة مصالح الخلق فى حفظ نظام الدين والملك ، وهو الجامع للصفات التى شرطها الشرع والعقل فى المدبر والمشير ، من

متانة الدين ونقاية الرأى وممارسة الخطوب ومقاساة الشدائد فى طوارق الأيام ، ورزانة العقل والعطف على الخلق والتلطف بالرعية ، وبمجموع هذين الأمرين يفهم مطلوب الكفاية ، فإن مقصودها إقامة تناظم الأمور الدينية والدنيوية ، وهذه قضية يستدل على وجودها بمشاهدة الأحوال والأفعال ، فلينظر المنصف كيف عالج معضلات الزمان بحسن رأيه ، لما استأثر الله بروح الإمام المقتدى وأمتع كافة الخلق بالإمامة الزاهرة المستظهرية ، وقد وافق وفاته إحداق العساكر بمدينة السلام وازدحام أصناف الجند على حافتها ، والزمان زمان الفترة ، والدنيا طافحة بالمحن متموّجة بالفتن ، والسيوف مسلولة فى أقطار الأرض ، والاضطراب عامّ فى سائر البلاد لا يسكن فيها أوار الحرب ، ولا تنفكّ عن الطعن والضرب ؛ وامتدت أطماع الجند إلى الذخائر ففغروا أفواههم نحو الخزائن ، وكان يتداعى إلى تغيير الضمائر وثور الأحقاد والضغائن ، فلم يزل بدهائه وذكائه وحسن نظره ورأيه مراعيا لنظام الأمر ، مترددا بين اللطف والعنف حتى انعقدت البيعة وانتشرت الطاعة ، وأذعنت الرقاب واتسقت الأسباب وانطفأت الفتن الثائرة وظلّ ظلّ الخلافة بحسن تدبيره وبرأى وزيره ممدودا ، وأصبح لواء النصر بحسن مساعية معقودا ، وطريق الفساد بهيبته مسدودا ، وأضحت الرعايا فى رعايته وادعة ، وصارت عين الحوادث بحسن كلاءته عن مدينة السلام هاجعة ، فليت شعرى هل تكسب مثل هذه العظائم إلا بكمال الكفاية ونباهة الحزم والهداية! وهل يستدل على كفاية الملوك بشيء سوى انتظام التدبير وحسن الرأى فى اختيار المشير والوزير؟! فليس يعتبر فى صحّة الإمامة من صفة الكفاية إلا ما يسر الله سبحانه له أضعاف ذلك ، فليقطع بوجود هذه الشريطة أيضا مضمومة إلى سائر الشرائط.

القول فى الصفة الثالثة

وهى : الورع

وهذه هى أعزّ الصفات وأجلّها وأولاها بالرعايات ، وأجدرها وهو وصف ذاتى لا يمكن استعارته ولا والوصل إلى تحصيله من جهة الغير ؛ أما النجدة فتحصيلها

من الغير لا محالة ، والهداية وإن اعتمدت على غزارة العقل ففوائدها يمكن فيها الاستعارة بطريق المراجعة والاستشارة ، والعلم أيضا يمكنه تحصيله بالاستفتاء واستطلاع رأى العلماء ؛ والورع هو الأساس والأصل ، وعليه يدور الأمر كله. ولا يغنى فيه ورع الغير ، وهو رأس المال ومصدر جملة الخصال ، ولو اختل هذا ـ والعياذ بالله! ـ لم يبق معتصم فى تحقيق الإمامة ، فالحمد لله الّذي زين أحوال الإمام الحق المنصور إمامته ، بالورع والتقوى حتى أو فى فيه على الغاية القصوى فتميز بمتانة الدين وصفاء العقل واليقين فى جماهير الخلفاء ، حتى ظهر من أحواله ، منذ تجمل صدر الخلافة بجماله ، من إفاضة الخيرات والعطف على الرعايا وذوى الحاجات وقطع العمارات التى كانت العادة جارية بالمواظبة عليها ، كل ذلك إضرابا عن عمارة الدنيا وإكبابا على ما ظهر من عمارة الدين ؛ هذا مع ما ظهر من سيرته فى خاصّة حالته ، من لبس الثياب الخشنة واجتناب الترفه والدعة ، والمواظبة على العبادات ، ومهاجرة الشهوات واللذات ، استحقارا لزخارف الدنيا ، وتوقيا من ورطات الهوى ، والتفاتا إلى حسن المآب فى العقبى ، فهو على التحقيق الشابّ الّذي نشأ فى عبادة الله ، هذا كله فى عنفوان السن وغرة من الشباب وبداية الأمر ، ينبّه العقلاء لما سينتهى إليه الحال إذا قارب سن الكمال :

إن الهلال إذا رأيت نموّه

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا

والله تعالى يمده بأطول الأعمار وينشر أعلامه فى أقاصى الديار.

فإن قال قائل : كيف تجاسرتم على دعوى التقوى والورع ، ومن شرطه التجرد عن الأموال حتى لا يأخذ قيراطا إلا من حلّه ، ولا يدعه إلا فى مظنّة استحقاقه ، وقد قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا النار ولو بشق تمرة» (١). وليس يتم الورع بالمواظبة على الفرائض واجتناب الموبقات والكبائر ، بل عماد هذا الأمر العدل واجتناب

__________________

(١) رواه البخارى ومسلم وأحمد من أبو داود.

الظلم فى طرفى الإعطاء والأخذ ، فإن ادعيتم حصول هذا الشرط نفرت القلوب عن التصديق ؛ وإن اعترفتم باختلال الأمر فيه انخرم ما ادعيتموه من حصول الورع والتقوى.

قلنا : هذا السؤال نكسر أولا سورته ، ثم ننبه على سر هو منتهى الإنصاف فنقول : إن صدر الاعتراض عن باطنى فلعله لو راجع صاحبه الّذي يواليه واستقرى ما شاهده من هذه الأحوال فيه ، افتضح فى دعاويه ، وكان الحياء خيرا له مما يورده ويبديه ، وإن صدر السؤال عن أحد علماء العصر الذين يعتقدون خلو الزمان عن الإمام لفقد شرطه ، فيقال له : هون على نفسك ، فإن دعوى وجود هذا الشرط غير مستبعدة ؛ فإن الأموال المنصوبة إلى الخزائن المعمورة أربعة أصناف : الصنف الأول ارتفاع المستغلات ، وهى مأخوذة من أموال موروثة له ، والصنف الثانى أموال الجزية ، وهى من أطيب ما يؤخذ. والصنف الثالث : أموال التركات ، ولم يعهد منه قط إلى الآن الطمع فى تركة يتعين لاستحقاقها وارث ، ومن لا وارث له فمنصبّه بيت المال ؛ الصنف الرابع : أموال الخراج المأخوذة من أرض العراق ، ومذهب الشافعى وطوائف من العلماء أن أرض العراق وقف ـ وهى من عبّادان إلى الموصل طولا ، ومن القادسية إلى حلوان عرضا (١) ، إنه وقفها عمر رضى الله عنه على المسلمين ليكون جميع خراجها منصبا إلى بيت المال ومصالح المسلمين ، فهذه هى الأموال المأخوذة ، وأخذها جائز ، ويبقى النظر فى مصارفها ، وهى مع اختلاف جهاتها تحويها أربع جهات ، وفيها تنحصر مصالح الإسلام والمسلمين :

الجهة الأولى : المرتزقة من جند الإسلام ، إذ لا بدّ من كفايتهم ، وأكثرهم فى هذا العصر مكفيون بثروتهم واستظهارهم ، ومقتدرون على كفاية غيرهم ؛ ومع ذلك فقد أمدّهم الرأى الشريف النبوى فى هذه الأيام مدة مقام العسكر بمدينة

__________________

(١) حلوان : العراقية.

السلام بأموال استفرغ فيها الخزائن ، وأفاض عليهم من ضروب التشريفات والإنعام ما يخلد ذكره على مكرّ الأيام والأعوام.

الجهة الثانية : علماء الدين وفقهاء المسلمين القائمون بعلوم الشريعة ، فإنهم حرّاس الدين بالدليل والبرهان ، كما أن الجنود حرّاسه بالسيف والسنان ، وما من واحد منهم إلا وهو مكفى من جهته برسم وإدرار ، ومخصوص بإنعام وإيثار ، والمستحق لهم أيضا على بيت المال قدر الكفاية ، وهو مبذول لكل من يتشبّه بأهل العلم ، فضلا عمّن يتحلى بتحقيقه.

الجهة الثالثة : محاويج الخلق الذين قصرت بهم ضرورة الحال وطوارق الزمان عن اكتساب قدر الكفاية. وليس ينتهى إليه الخبر فى حاجة إلّا سدّها ، ولا يرتفع إليه قصد ذى فاقة إلّا تداركها ، ومواظبته على الصدقات فى نوب متواليات فى السر والعلانية كافية جميع الحاجات.

الجهة الرابعة : المصالح العامة من عمارة الرباطات والقناطر والمساجد والمدارس ، فيصرف لا محالة إلى هذه الجهة عند الحاجة قدر من بيت مال المسلمين ، فلا ترى هذه المواضع فى أيامه إلا معمورة وملحوظة بالتعاهد من القوام بها والمتكفلين لها ، وهذا وجه الدخل والخرج.

ونختم الكلام بما يقطع مادّة الخصام وتبين فيه غاية الإنصاف فنقول : لا يظنن ظان أنا نشترط فى الإمامة العصمة ، فإن العلماء اختلفوا فى حصولها للأنبياء ، والأكثرون على أنهم لم يعصموا من الصغائر ، ولو اعتبرت العصمة من كل زلة لتعذرت الولايات وانعزلت القضاة ، وبطلت الإمامة ، وكيف يحكم باشتراط التنقى من كل معصية والاستمرار على سمت التقوى من غير عدول ، ومعلوم أن الجبلات متقاضية للّذات ، والطباع محرضة على نيل الشهوات ، والتكاليف يتضمنها من العناء ما يتقاعد عن احتمالها الأقوياء ، ووساوس الشيطان وهواجس النفس مستحثة على حب العاجلة واستحقار الآجلة ، والجبلة الإنسانية بالسوء أمارة ،

والتقىّ فى أرجوحة الهوى يغلب تارة ويعجز تارة ، والشيطان ليس يفتر عن الوساوس ، والزلات تجرى على الأنفاس ؛ فكيف يتخلص البشر عن اقتحام محظور والتورط فى محظور!؟ ولذلك قال الشافعى ـ رضى الله عنه ـ فى شرط عدالة الشهادة : لا يعرف أحد بمحض الطاعة حتى لا يتضمخ (١) بمعصية ؛ ولا أحد بمحض المعصية حتى لا يقدم على طاعة ، ولا ينفك أحد عن تخليط ؛ ولكن من غلبت الطاعات فى حقه المعاصى ، وكانت تسوؤه سيئته وتسره حسنته فهو مقبول الشهادة ؛ ولسنا نشترط فى عدالة القضاء إلا ما نشترطه فى الشهادة ، ولا نشترط فى الإمامة إلا ما نشترطه فى القضاء ، وهذا ذكرناه إذا لج ملاح أو ألح ملحّ ولازم اللدد فى تصوير أمر من الأمور لا يوافق ظاهر الشرع ، وإرادته الطعن فى الإمامة والقدح فيها ، عرف أن ذلك غير قادح فى أصل الإمامة بحال من الأحوال.

القول فى الصفة الرابعة

وهى العلم

فإن قال قائل : اتفق رأى العلماء على أن الإمامة لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الاجتهاد والفتوى فى علوم الشرع ، ولا يمكنكم دعوى وجود هذه الشريطة ، ولو ادعيتم أن ذلك لا يشترط كان انسلالا عن وفاق العلماء قاطبة ، فما رأيكم فى هذه الصفة؟

قلنا : لو ذهب ذاهب إلى أن بلوغ درجة الاجتهاد لا يشترط فى الإمامة لم يكن فى كلامه إلا الإعزاب (٢) عن العلماء الماضين ، وإلا فليس فيه ما يخالف مقتضى الدليل وسياق النظر ، فإن الشروط التى تدعى للإمامة شرعا لا بدّ من دليل يدلّ

__________________

(١) يتضمخ : يتلطّخ.

(٢) الإعزاب : الاعتزال والابتعاد.

عليها ، والدليل إما نص من صاحب الشرع ، وإما النظر فى المصلحة التى طلبت الإمامة لها ولم يرد النص من شرائط الإمامة فى شيء إلا فى النسب إذ قال : «إن الأئمة من قريش»! (١) ، فأما ما عداه فإنما أخذ من الضرورة والحاجة الماسة فى مقصود الإمامة إليها ، فهذا كما شرطنا : العقل ، والحرية ، وسلامة الحواس ، والهداية ، والنجدة ، والورع ، فإن هذه الأمور لو قدر عدمها لم ينتظم أمر الإمامة بحال من الأحوال. وليست رتبة الاجتهاد مما لا بدّ منه فى الإمامة ضرورة ، بل الورع الداعى إلى مراجعة أهل العلم فيه كاف ، فإذا كان المقصود ترتيب الإمامة على وفق الشرع فأىّ فرق بين أن يعرف حكم الشرع بنظره ، أو يعرفه باتباع أفضل أهل زمانه؟! وإذا جاز للمجتهد أن يعوّل على قول واحد ، ويروى له حديثا فيحكم به ، إماما كان أو قاضيا ، فما المانع من أن يحكم بما يتفق عليه العلماء فى كل واقعة؟ وإن اختلف فيتبع فيه قول الأفضل الأعلم ، ولم لا يكون مكملا بأفضل أهل الزمان مقصود العلم ، كما كمّل بأقوى أهل الزمان مقصود الشوكة ، وبأدهى أهل الزمان وأكفاهم رأيا ونظرا مقصود الكفاية ، فلا تزال دولته محفوفة بملك من الملوك قوىّ يمدّه بشوكته ، وكاف من كفاة الزمان يتصدى لوزارته فيمده برأيه وهدايته ، وعالم مقدم فى العلوم يفيض ما يلوح من قضايا الشرع فى كل واقعة إلى حضرته ، هذا لو قال به قائل لكان مستمدا من قواطع الأدلة والبراهين التى يجوز استعمالها فى مظانّ القطع واليقين ، فكيف فى مواقع الظن والتخمين!

وأكثر مسائل الإمامة وأحكامها مسائل فقهية ظنية يحكم فيها بموجب الرأى الأغلب. وما ذكرته مسلك واضح فيه ، ولكنى لا أوثر الإعزاب عن الماضين ولا الانحراف عن جادة الأئمة المنقرضين ، فإن الانفراد بالرأى والانسلال عن موافقة الجماهير لا ينفك عن إثارة نفرة القلوب ، لكنى أستميح مسلكا مقتبسا من كلام الأئمة المذكورين وأقول :

__________________

(١) متفق عليه.

اختلف الناس فى أن أهل الاختيار لو عقدوا عقد البيعة للمفضول وأعرضوا عن الأفضل هل تنعقد الإمامة مع الاتفاق على أن تقديم الأفضل عند القدرة واجب متعين؟ ثم ذهب الأكثرون إلى أنها إذا عقدت للمفضول مع حضور الأفضل انعقدت ولم يجز خلعه لسبب الأفضل ، وأنا من هذا أنشئ وأقول : إن رددناها فى مبدأ التولية بين مجتهد فى علوم الشرع وبين متقاصر عنها فيتعين تقديم المجتهد لأن اتباع الناظر علم نفسه له مزيّة رتبة على اتباع علم غيره بالتقليد. والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها ، أمّا إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد ، وقامت له شوكة وأذعنت له الرقاب ، ومالت إليه القلوب ، فإن خلا الزمان عن قرشى مجتهد يستجمع جميع الشروط وجب الاستمرار على الإمامة المعقودة إن قامت له الشوكة ، وهذا حكم زماننا ، وإن قدر ضربا للمثل حضور قرشى مجتهد مستجمع للورع والكفاية وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون فى خلع الأول إلى تعرض لإثارة فتن واضطراب أمور لم يجز لهم خلعه والاستبدال به ، بل تجب عليهم الطاعة والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته ، لأنّا نعلم بأن العلم مزية روعيت فى الإمامة تحسينا للأمر وتحصيلا لمزيد المصلحة فى الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد ، وإن الثمرة المطلوبة من الإمامة تطفئة الفتن الثائرة فى تفرق الآراء المتنافرة ، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش نظام الأمور وتفويت أصل المصلحة فى الحال تشوّفا إلى مزيد دقيقة فى الفرق بين النظر والتقليد! وعند هذا ينبغى أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق بسبب عدول الإمام عن النظر إلى تقليد الأئمة بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه واستبداله أو حكموا إمامته غير منعقدة ، وإذا أحسن إيراد هذه المقالة علم أن التفاوت بين اتّباع الشرع نظرا واتّباعه تقليدا قريب هين ، وأنه لا يجوز أن تخرم بسببه قواعد الإمامة. وهذا تقدير تسامحنا به من وجهين :

أحدهما : تقدير قرشى مجتهد مستجمع الصفات متصد لطلب الإمامة ، وهذا لا وجود له فى عصرنا.

والثانى : تقدير اقتدار الخلق على الاستبدال بالإمام والتصرف فيه بالخلع والانتقال ؛ وهذا محال فى زماننا ، إذ لو أجمع أهل الدهر وتألبوا على أن يصرفوا الوجوه والقلوب عن الحضرة المقدسة المستظهرية لم يجدوا إليها سبيلا ، فيتعين على كافة علماء العصر الفتوى بصحة هذه الإمامة وانعقادها بالشرع.

ولكن بعد هذا شرطان : أحدهما أن لا يمضى كل قضية مشكلة إلا بعد استنتاج قرائح العلماء والاستظهار بهم ، وأن يختار لتقليده عن التباس الأمر واختلاف الكلمة أفضل أهل الزمان وأغزرهم علما ، وقلما تنفك مدينة السلام عن شخص يعترف له بالتقدم فى علم الشرع ، فلا بدّ من تعرف الشرع فى الوقائع منه لينوب ذلك عن الاجتهاد ، والثانى أن يسعى لتحصيل العلم وحيازة رتبة الاستقلال بعلوم الشرع ، فإن الإمامة وإن كانت صحيحة منعقدة فى الحال فخطاب الله تعالى قائم بإيجاب العلم وافتراض تحصيله ، إذا ساعدت القدرة عليه لم يكن للتوانى فيه عذر ، لا سيما والسن سنّ التحصيل ، وريعان الشباب معين على الغرض ، والقدر الواجب تحصيله شرعا إذا صرف إليه الهمة الشريفة حصل فى قدر يسير من الزمان ، ولا يليق تطلب غايات الكمال إلا بالحضرة المقدسة الشريفة النبوية المحفوفة بالعزّ والجلال.

وإذا اتضح ، فى هذا الباب ، بهذه البراهين اللائحة أن مقتضى أمر الله أن الإمام الحق المستظهر بالله هو المتعين لخلافة الله فما أجدر هذه النعمة أن تقابل بالشكر! وإنما الشكر بالعلم وبالعمل وبالمواظبة على ما أودعته فى الباب الآخر من الكتاب ، وعلى الجملة فشكر هذه النعمة ألا يرضى أمير المؤمنين أن يكون لله على وجه الأرض عبد أعبد وأشكر منه ؛ كما أن الله تعالى لم يرض أن يكون له على وجه الأرض عبد أعزّ وأكرم من أمير المؤمنين ، فهذا هو الشكر الموازى لهذه النعمة.

والله ولى التوفيق ، بمنّه ولطفه.

الباب العاشر

الوظائف الدينية التى بالمواظبة عليها

يدوم استحقاق الإمامة

ومن فرائض الدين على أمير المؤمنين زاده الله توفيقا المداومة على مطالعة هذا الباب والاستقصاء على تأمله وتصفحه ومطالبة النفس الكريمة حتى تستمر عليه ، فإن ساعد التوفيق للمجاهدة فى الاقتدار على وظيفة من هذه الوظائف ولو فى سنة فهى السعادة القصوى ، وهذه الوظائف بعضها علمية ، وبعضها عملية ، فتقدم العلمية ، فإن العلم هو الأصل ، والعمل فرع له ، إذ العلوم لا حصر لها ؛ ولكنا نذكر أربعة أمور هن أمهات وأصول :

الأول : أن يعرف أن الإنسان فى هذا العالم لم خلق ، وإلى أى مقصد وجّه ولأى مطلب رشّح؟ وليس يخفى على ذى بصيرة أن هذه الدار ليست دار مقرّ ، وإنما هى دار ممر ؛ والناس فيها على صورة المسافرين ، ومبدأ سفرهم بطون أمهاتهم ، والدار الآخرة مقصد سفرهم ، وزمان الحياة مقدار المسافة ، وسنوه (١) منازله ، وشهوره فراسخه وأيامه أمياله ، وأنفاسه خطاه ، ويصار بهم عبر السفينة براكبها ، ولكل شخص عند الله عمر مقدر لا يزيد ولا ينقص ، ولهذا قال عيسى صلوات الله عليه وسلامه : «الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها» وقد دعى الخلق إلى لقاء الله فى دار السلام وسعادة الأبد ، فقال الله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] ، وهذا السفر لا يفضى إلى المقصد إلا بزاد وهو التقوى ؛ ولذلك قال الله تعالى : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) [البقرة : ١٩٧] ، فمن لم يتزود فى دنياه لآخرته بالمواظبة على العبادة فسيرجع منه عند الموت ما اغتر من جسده وماله فيتحسر حيث لا يغنيه التحسر ويقول : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ

__________________

(١) سنوه : سنيه وأعوامه.

الْمُؤْمِنِينَ) [الأنعام : ٢٧] ، ويقول : (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] ، فحينئذ (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ٦]. وهذا الإنسان من وجه آخر فى دنياه حارث ، وعمله حرثه ودنياه محترثه ، ووقت الموت وقت حصاده ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا مزرعة الآخرة ، وإنما البذر هو العمر» فمن انقضى عليه نفس من أنفاسه ولم يعبد الله فيه بطاعة فهو مغبون لضياع ذلك النفس ، فإنه لا يعود قط ، ومثال الإنسان فى عمره مثال رجل كان يبيع الثلج وقت الصيف ولم تكن له بضاعة سواه ، فكان ينادى ويقول : ارحموا من رأس ماله يذوب ، فرأس مال الإنسان عمره الّذي هو وقت طاعته ، وإنه ليذوب على الدوام ، فكلما زاد سنّه نقص بقية عمره ، فزيادته نقصانه على التحقيق ، ومن لم ينتهز فى أنفاسه حتى يقتنص بها الطاعات كلها كان مغبونا ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من استوى يوماه فهو مغبون ، ومن كان يومه شرّا من أمسه فهو ملعون». فكل من صرف عمره إلى دنياه فقد خاب سعيه وضاع عمله كما قال الله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ) [هود : ١٥] الآية ؛ ومن عمل لآخرته فهو الّذي أنجح سعيه كما قال تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء : ١٩].

الوظيفة الثانية : أنه مهما عرف أن زاد السفر إلى الآخرة التقوى فليعلم أن التقوى محلها ومنبعها القلب لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التقوى هاهنا» (١) ، وأشار إلى صدره ، وينبغى أن يكون الاجتهاد فى إصلاح القلب أولا ، إذ صلاح الجوارح تابع له ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن فى بدن ابن آدم لبضعة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ، ألا وهى القلب» (٢) ، وإصلاح القلب شرطه تقدّم تطهيره عليه ،

__________________

(١) متفق عليه.

(٢) رواه مسلم وأبو داود.

وطهارته فى أن يطهر عن حب الدنيا لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حب الدنيا رأس كل خطيئة» (١) ، وهذا هو الداء الّذي أعجز الخلق.

ومن ظنّ أنه يقدر على الجمع بين التنعم فى الدنيا والحرص على ترتيب أسبابها ، وبين سعادة الآخرة فهو مغرور ؛ كمن يطمع فى الجمع بين الماء والنار ، لقول أمير المؤمنين رضى الله عنه : الدنيا والآخرة ضرّتان : مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى. نعم! لو كان الإنسان يشتغل بالدنيا لأجل الدين ، لا لأجل شهوته ، كمن يصرف عمره إلى تدبير مصالح الخلق شفقة عليهم ، أو يصرف بعض أوقاته إلى كسب القوت ، ونيّته فى كسب القوت إلى أن يتقوى بتناوله على الطاعة والتقوى فهذا من عين الدين ، وعلى هذا المنهاج جرى حرص الأنبياء والخلفاء الراشدين فى أمور الدنيا.

ومهما ثبت أن الزاد هو التقوى ، وأن التقوى شرطها خلو القلب عن حبّ الدنيا ، فليكن الجهد فى تخليته عن حبّها ، وطريقه أن يعرف الإنسان عيب الدنيا وآفتها ، ويعرف شرف السعادة فى الدار الآخرة وزينتها ، ويعلم أن فى مراعاة الدنيا الحقيرة فوت الآخرة الخطيرة ، وأقلّ آفات الدنيا ، وهى مستيقنة لكل عاقل وجاهل ، أنها منقضية على القرب ، وسعادة الآخرة لا آخر لها ، هذا إذا سلمت الدنيا صافية عن الشوائب والأقذاء (٢) خالية من المؤذيات والمكدّرات ، وهيهات هيهات! فلم يسلم أحد فى الدنيا من طول الأذى ومقاساة الشدائد ، ومهما عرف تصرم الدنيا وتأبّد السعادة فى العقبى فليتأمل أنه لو شغف إنسان بشخص واستهتر (٣) به وصار لا يطيق فراقه ، وخيّر بين أن يعجل لقاءه ليلة واحدة وبين أن يصبر عنه تلك الليلة مجاهدا نفسه ثم يخلى بينه وبينه ألف ليلة ـ فكيف لا يسهل عليه الصبر ليلة واحدة لتوقع التلذذ بمشاهدته ألف ليلة! ولو استعجل تلك الليلة وعرض نفسه لعناء المفارقة

__________________

(١) رواه أحمد.

(٢) الأقذاء : الأوساخ ، مفرده : قذى.

(٣) استهتر به : تولع وتعلق.

ألف ليلة لعدّ سفيها خارجا عن حزب العقلاء. فالدنيا معشوقة كلّفنا الصبر عنها مدة يسيرة ، ووعدنا أضعاف هذه اللذات مدة لا آخر لها ، وترك الألف بالواحد ليس من العقل ، واختيار الألف على الواحد المعجّل ليس بمتعذر على العاقل ، وعند هذا ينبغى أن يقيس الإنسان أقصى مدة مقامه فى الدنيا وهى مائة سنة مثلا ، ومدة مقامه فى الآخرة ولا آخر لها ، بل لو طلبنا مثالا لطول مدة الأبد لعجزنا عنه. إلا أن نقول : لو قدرنا الدنيا كلها إلى منتهى السموات ممتلئة بالذرة ، وقدرنا طائرا يأخذ بمنقاره فى كل ألف سنة حبة واحدة فلا يزال يعود حتى لا يبقى من الذرة حبة واحدة فتنقضى هذه المدة وقد بقى من الذرة أضعافها ، فكيف لا يقدر العاقل إذا حقق على نفسه هذا الأمر على أن يستحقر الدنيا ويتجرد لله تعالى! هذا لو قد قدّر بقاء العمر مائة سنة ، وقدرت الدنيا صافية عن الأقذاء ؛ فكيف والموت بالمرصاد فى كل لحظة ، والدنيا غير صافية من ضروب التعب والعناء! وهذا أمر ينبغى أن يطول التأمل فيه حتى يترسخ فى القلب ، ومنه تنبعث التقوى. وما لم يظهر للإنسان حقارة الدنيا لا يتصور منه أن يسعى للدار الأخرى ، وينبغى أن يستعان على معرفة ذلك بالاعتبار بمن سلف من أبناء الدنيا كيف تعبوا فيها ثم ارتحلوا عنها بغير طائل ؛ ولم تصحبهم إلا الحسرة والندامة. ولقد صدق من قال من الشعراء حيث قال :

أشد الغمّ عندى فى سرور

تيقن عنه صاحبه انتقالا

وهذه حال لذات الدنيا.

الوظيفة الثالثة : أن معنى خلافة الله على الخلق إصلاح الخلق. ولن يقدر على إصلاح أهل الدنيا من لا يقدر على إصلاح أهل بلده ؛ ولن يقدر على إصلاح أهل البلد من لا يقدر على إصلاح أهل منزله ؛ ولا يقدر على إصلاح أهل منزله من لا يقدر على إصلاح نفسه ؛ ومن لا يقدر على إصلاح نفسه فينبغى أن تقع البداية بإصلاح القلب وسياسة النفس ؛ ومن لم يصلح نفسه وطمع فى إصلاح غيره كان مغرورا كما قال الله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤].

وفى الحديث أن الله تعالى قال لعبسى بن مريم : «عظ نفسك ، فإن اتعظت فعظ الناس ، وإلا فاستحى منى» (١). ومثال من عجز عن إصلاح نفسه وطمع فى إصلاح غيره مثال الأعمى إذا أراد أن يهدى العميان ، وذلك لا يستتب له قطّ ، وإنما يقدر على إصلاح النفس بمعرفة النفس ؛ ومثل معرفة الإنسان فى بدنه كمثل وال فى بلده ، وجوارحه وحواسه وأطرافه بمنزلة صنّاع وعملة ، والشرع له كمشير ناصح ووزير مدبر ؛ والشهوة فيه كعبد سوء جالب للميرة والطعام ، والعصب له كصاحب شرطة ، والعبد الجالب للميرة خبيث ماكر يتمثل للإنسان بصورة الناصح ، وفى نصحه دبيب العقرب ، فهو يعارض الوزير فى تدبيره ، ولا يغفل ساعة من منازعته ومعارضته ؛ فكان الوالى فى مملكته متى استشار فى تدبيراته وزيره دون هذا العبد السوء الخبيث وأدب صاحب شرطته وجعله مؤتمرا لوزيره وسلطه على هذا العبد الخبيث وأتباعه حتى يكون هذا العبد مسوسا لا سائسا ، ومدبّرا لا مدبّرا استقام أمر بلده. وكذا النفس ، متى استعانت فى تدبيراتها بالشرع والعقل ، وأدّبت الحمية والغضب حتى لا يهتاج إلا بإشارة الشرع والعقل ، وسلطته على الشهوة ، واستتب أمرها ؛ وإلا فسدت واتبعت الهوى ولذات الدنيا ، كما قال الله تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) [ص : ٢٦] الآية ؛ وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] الآية ، وقال (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) [الأعراف : ١٧٦] ، وقال تعالى فى مدح من عصاها : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) [النازعات : ٤٠] الآية ، وعلى الجملة فينبغى أن يكون العبد طول عمره فى مجاهدة غضبه وشهوته ، ومتشمرا لمخالفتها كما يتشمر لمخالفة أعدائه فإنهما عدوان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعدى عدو نفسك التى بين جنبيك» (٢) ، ومثال من اشتغل بالتلذذ عند الشهوات ، والانتقام عند الغضب مثل رجل فارس صيّاد له فرس وكلب غفل عن صيده ، واشتغل بتعهد فرسه وطعمة كلبه وضيع فيه جميع وقته ؛ فإن شهوة

__________________

(١) رواه مسلم.

(٢) رواه مسلم.

الإنسان كفرسه ، وغضبه ككلبه ، فإن كان الفارس حاذقا والفرس مروضا والكلب مؤدّبا ومعلما فهو قمين بإدراك حاجته من الصيد ، ومتى كان الفارس أخرق وفرسه جموحا أو حرونا وكلبه عقورا فلا فرسه ينبعث تحته منقادا ، ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعا ، فهو قمين أن يعطب ، فضلا أن يدرك ما طلب.

ومهما جاهد الإنسان فيها هواه ، فله ثلاثة أحوال : الأول : أن يغلبه الهوى فيتبعه ويعرض عن الشرع كما قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) [الجاثية : ٢٣] ؛ الثانى : أن يغالبه فيقهره مرة ويقهره الهوى أخرى ، فله أجر المجاهدين ، وهو المراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جاهدوا هواكم كما تجاهدوا أعداءكم» (١) ؛ الثالث : أن يغلب هواه ككثير من الأنبياء وصفوة الأولياء ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من أحد إلا وله شيطان ، وإن الله قد أعاننى على شيطانى حتى ملكته» (٢). وعلى الجملة فالشيطان يتسلط على الإنسان بحسب وجود الهوى فيه ، وإنما مثلت الشهوة بالفرس والغضب بالكلب لأنه لولاهما لما تصورت العبادة المؤدية إلى سعادة الآخرة ، فإن الإنسان يحتاج فى عبادته إلى بدنه ولا قيام إلا بالقوت ، ولا يقدر على الاقتيات إلا بشهوة ، وهو محتاج إلى أن يحرس نفسه عن الهلكات بدفعها ؛ ولا يدفع المؤذى إلا بداعية الغضب ، فكأنهما خادمان لبقاء البدن ؛ والبدن مركب النفس ، وبواستطهما يصل إلى العبادة ، والعبادة طريقه إلى النجاة.

الوظيفة الرابعة : أن يعرف أن الإنسان مركّب من صفات ملكية وصفات بهيمية ، فهو حيران بين الملك والبهيمة ، فمشابهته للملك بالعلم والعبادة والعفة والعدالة والصفات المحمودة ؛ ومشابهته للبهائم بالشهوة والغضب والحقد والصفات المذمومة. فمن صرف همته إلى العلم والعمل والعبادة فخليق أن يلحق بالملائكة فيسمى ملكا وربانيا كما قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) [يوسف : ٣١]. ومن صرف همته إلى اتباع الشهوات واللذات البدنية يأكل كما تأكل البهائم فخليق أن

__________________

(١) رواه ابن ماجة والبيهقى.

(٢) رواه البخارى ومسلم.

يلحق بالبهائم فيصير إمّا غمزا كثور (١) ، وإما شرها كخنزير ، وإما ضرعا ككلب أو حقودا كجمل أو متكبرا كنمر أو ذا روغان ونفاق كثعلب ، أو يجمع ذلك فيصير كشيطان مريد. وعلى ذلك دلّ قوله تعالى : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) [المائدة : ٦٠] ، وقال : (كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الفرقان : ٤٤] ، وقال (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [الأنفال : ٢٢] ، وهذه الصفات الذميمة تجتمع فى الآدمى فى هذا العالم وهو فى صورة الإنسان ، فتكون الصفة باطنة والصورة ظاهرة ؛ وفى الآخرة تتحد الصور والصفات ، فيصور كل شخص بصفته التى كانت غالبة عليه فى حياته ، فمن غلب عليه الشر ، حشر فى صورة خنزير ، ومن غلب عليه الغضب حشر فى صورة سبع ، ومن غلب عليه الحمق حشر فى صورة حمار ، ومن غلب عليه التكبر حشر فى صورة نمر ، وهكذا جميع الصفات ، ومن غلب عليه العلم والعمل واستولى بهما على هذه الصفات حشر فى صورة الملائكة (وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) [النساء : ٦٩].

وهذه الوظائف التى ذكرناه علمية يجب التأمل فيها حتى تتمثل فى القلب فتكون نصب العين فى كل لحظة. وإنما تترسخ هذه العلوم فى النفس إذا أكّدت بالعمل كما سنذكره فى الوظائف العملية بعد.

القول فى الوظائف العملية

وهى كثيرة ، أولاها وهى من الأمور الكلية : أن كلّ من تولى عملا على المسلمين فينبغى أن يحكم نفسه فى كل قضيّة يبرمها ؛ فما لا يرتضيه لنفسه لا يرتضيه لغيره ، فالمؤمنين كنفس واحدة ، فقد روى عبد الله بن عمر رضى الله عنهما أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة

__________________

(١) غمزا كثور : يضرب الأرض بحافره ؛ (يغمزها).

فليدركه موته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ؛ وليأت إلى الناس الّذي يحب أن يؤتى إليه» (١). وروى أنس بن مالك : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من أصبح وهمه غير الله تعالى فليس من الله فى شيء ؛ ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين فليس من المسلمين».

ومنها : أن يكون والى الأمر متعطشا إلى نصيحة العلماء ومتبجحا (٢) بها إذا سمعها ، وشاكرا عليها ، فقد روى أن أبا عبيدة ومعاذا كتبا إلى عمر رضى الله عنهم : «أما بعد! فإنا عهدناك وشأن نفسك لك مهمّ ؛ وأصبحت وقد وليت بأمر هذه الأمة : أسودها وأحمرها ، يجلس بين يديك الشريف والوضيع ، والصديق والعدو ؛ ولكل حصته من العدل. فانظر كيف أنت عند ذلك يا عمر! وإنا نحذرك مما حذرت الأمم قبلك ، يوم تعنو فيه الوجوه وتجب (٣) فيه القلوب ، وتقطع فيه الحجّة لعزّ ملك قهرهم جبروته والخلق داخرون له ينتظرون قضاءه ويخافون عقابه ، وإنه ذكر لنا أنه سيأتى على الناس زمان يكون إخوان العلانية أعداء السريرة ، فإنّا نعوذ بالله أن ينزل كتابنا من قبلك سوى المنزل الّذي نزل من قلوبنا ، وإنا كتبنا إليك نصيحة. والسلام!» فكاتبهما بجوابه ، وذكر فى آخر ما كتب : «إنكما كتبتما إلى نصيحة منكما بكتاب ، فإنى لا غنى بى عنكما. والسلام عليكما!».

ومنها : ألا يستحقر الوالى انتظار أرباب الحاجات ووقوفهم بالباب فى لحظة واحدة ؛ فإن الاهتمام بأمر المسلمين أهم له ، وأعود عليه مما هو متشاغل به من نوافل العبادات ، فضلا عن اتباع الشهوات ، فقد روى : (أن عمر بن عبد العزيز ـ رضى الله عنه! ـ جلس يوما للناس ، فلما انتصف النهار ضجر ومل ، فقال للناس : مكانكم حتى أعود إليكم فدخل يستريح ساعة ، فجاء ابنه عبد الملك (٤) فاستأذن

__________________

(١) رواه البخارى ومسلم.

(٢) متبجحا : فرحا.

(٣) تجب : تضطرب.

(٤) عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، كان شهما شديد الورع جريئا فى الحق.

فدخل عليه فقال : يا أمير المؤمنين!! ما سبب دخولك؟ قال : «أردت أن أستريح ساعة». فقال : «أأمنت أن يأتيك الموت ورعيتك على الباب ينتظرونك وأنت محتجب عنهم!» فقال عمر : «صدقت» ، فقام من ساعته وخرج إلى الناس.

ومنها : أن يترك الوالى للأمر الترفه والتلذذ بالشهوات فى المأكولات والملبوسات ، فقد روى أن عمر رضى الله عنه كتب إلى سلمان الفارسى يستزيره ، فلما قدم عليه سلمان تلقاه فى أصحابه فالتزمه وضمّه إليه وصار إلى المدينة ، فلما خلا به عمر قال له : يا أخى هل بلغك منى ما تكرهه؟ فقال : لا. قال : عزمت عليك إن كان بلغك منى ما تكرهه إلا أخبرتنى ، فقال : لو لا ما عزمت عليّ أولا ما أخبرتك : بلغنى أنك تجمع بين السمن واللحم على مائدتك ؛ وبلغنى أن لك حلتين : حلة تلبسها مع أهلك ، وحلة تخرج فيها إلى الناس ، فقال عمر : هل بلغك غير هذا؟ فقال : لا. فقال : أما هذان فقد كفيتهما فلا أعود إليهما.

ومنها : أن يعلم والى الأمر أن العبادة تيسر للولاة ما لا يتيسر لآحاد الرعايا ، فلتغتنم الولاية لتعبد الله بها ، وذلك بالتواضع والعدل والنصح للمسلمين والشفقة عليهم. فقد روى عن أبى بكر رضى الله عنه وهو على المنبر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الوالى العدل المتواضع ظل الله ورمحه فى أرضه ، فمن نصحه فى نفسه وفى عباد الله حشره الله تعالى فى وقدة (١) يوم لا ظل إلا ظله ؛ ومن غشه فى نفسه وفى عباد الله خذله الله تعالى يوم القيامة ، ويرفع للوالى العدل المتواضع فى كل يوم وليلة عمل ستين صديقا كلهم عبد مجتهد فى نفسه». فهذه رتبة عظيمة لا تسلم فى كل عصر إلا لواحد ، وإنما تنال هذه الرتبة بالعدل والتواضع ، وقد روى أبو سعيد الخدرى (٢) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سبعة يظلهم الله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ؛ وشاب نشأ فى عبادة الله ؛ ورجل قلبه متعلق بالمسجد

__________________

(١) الوقدة : شدة حر النار وتلهبها.

(٢) أبو سعيد الخدرى : سعد بن مالك بن سنان.

إذا خرج منه حتى يعود إليه ؛ ورجلان تحابا فى الله فاجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ؛ ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ؛ ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال إلى نفسها فقال : إنى أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة وأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (١). فهذه سبع لا يتصور اجتماعها إلا فى أمير المؤمنين ، وإنما يقدر غيره من الخلق على آحادها دون مجموعها. فليجتهد فى نيل رتبة لم تدخر إلا له ، ولن يقوم بها سواه.

فقد روى أيضا أبو سعيد الخدرى أنه قال : «إن أحب العباد إلى الله تعالى وأقربهم مجلسا : إمام عادل ؛ وإن أبغض الناس إلى الله وأشدّهم عذابا يوم القيامة إمام جائر» ، وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا يرد الله لهم دعوة : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، والمظلوم ؛ يقول الله تعالى : وعزتى وجلالى وارتفاعى فوق عرشى لأنتصرن لك ولو بعد حين» ، وقد روى عبد الله بن مسعود أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «عدل ساعة خير من عبادة سنة ، وإنما قامت السموات والأرض بالعدل». وقد روى عن ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والّذي نفس محمد بيده إن الوالى العدل ليرفع الله له كل يوم مثل عمل رعيته ، وصلواته فى اليوم تعدل تسعين ألف صلاة». وروى ابن عباس أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الإسلام والسلطان أخوان توأمان لا يصلح أحدهما إلا بصاحبه : فالإسلام أسّ والسلطان حارس ، فما لا أسّ له منهدم ، وما لا حارس له ضائع» ؛ وقد روى أنس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ما من أحد أفضل منزلة عند الله من إمام إن قال صدق ، وإن حكم عدل ، وإن استرحم رحم!» والقصد من رواية هذه الأخبار التنبيه على عظم قدر الإمامة وأنها إذا ترتبت بالعدل كانت أعلى العبادات. وإنما يعرف العدل من التزم بالشرع ، فليكن دين الله وشرع

__________________

(١) رواه أحمد بن حنبل فى «مسنده» والترمذي وابن ماجه عن أبى هريرة وقال الترمذي : حسن. ويرد برواية أخرى : «ثلاثة لا ترد دعوتهم» الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله تعالى فوق الغمام وتفتح لها أبواب السماء ويقول الرب تبارك وتعالى : وعزتى لأنصرنك ولو بعد حين».

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو المفزع والمرجع فى كل ورد وصدر ، وتفضيل العدل مما يطول ولعل الوظائف التى تأتى يشتمل عليه طرف منها.

ومنها : أن يكون الرفق فى جميع الأمور أغلب من الغلظة ، وأن يوصل كل مستحق إلى حقه ، فقد روت عائشة رضى الله عنها! عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيما وال ولى فلانا ورفق به رفق به يوم القيامة». وروت عائشة أيضا أنه قال : «اللهم من ولى من أمر أمتى شيئا فرفق بهم فارفق به ، ومن شق عليهم فاشقق عليه». هذا دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنه يستجاب لا محالة ، وقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم الشيء الإمارة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقها وحلها ، ؛ وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقها فتكون حسرة عليه يوم القيامة». وكل أمير عدل عن الشرع فى أحكامه فقد أخذ إمارة بغير حقها.

وروى أبو هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن بنى إسرائيل كان يسوسهم الأنبياء عليهم‌السلام فكلما هلك نبىّ قام نبىّ مكانه ، وإنه لا نبى بعدى ، وإنه يكون بعدى خلفاء» ، قيل : «يا رسول الله! ما تأمرنا فيهم؟» قال : «أعطوهم حقّهم ، واسألوا الله تعالى حقكم ، فإن الله تعالى سائلهم عما استرعاهم هو». وقد حكى : أن هشام ابن عبد الملك قال لأبى حازم (١) وكان من مشايخ الدين :

«كيف النجاة من هذا الأمر؟» يعنى من الإمارة. قال : «ألا تأخذ الدرهم إلا من حله ، ولا تضعه إلا فى حقه». قال : «ومن يطيق ذلك؟» قال : «من طلب الجنة وهرب من النار».

ومنها : أن يكون أهم المقاصد عنده تحصيل مرضاة الخلق ومحبتهم بطريق يوافق الشرع ولا يخالفه. فقد روى عوف بن مالك عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن خيار أئمتكم الذين تحبونهم وتصلّون عليهم ويصلون عليكم ، وشر أئمتكم الذين

__________________

(١) أبو حازم الأعرج : سلمة بن دينار ؛ وكان رأسا فى التابعين.

تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم» ، قيل : يا رسول الله! أفلا ننابذهم؟ قال : «لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ؛ إلا من ولى عليه وال فرآه يأتى شيئا من معاصى الله تعالى فليكره ما أتى من معاصى الله تعالى ، ولا ينزع يدا عن طاعة الله». وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم! أنه قال : «لخليفتى على الناس السمع والطاعة ما استرحموا فرحموا ، وحكموا فعدلوا ، وعاهدوا فوفوا ، ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

ومنها : أن يعلم أن رضى الخلق لا يحسن تحصيله إلا فى موافقة الشرع ، وأن طاعة الإمام لا تجب على الخلق إلا إذا دعاهم إلى موافقة الشرع كما روى عن محمد بن (١) على أنه قال : «إنى لأعلم قبيلتين تعبدان من دون الله». قالوا : من هم؟ قال : «بنو هاشم وبنو أمية. أما والله ما نصبوهم ليسجدوا لهم ولا ليصلوا لهم ، ولكن أطاعوهم واتبعوهم على ما أمدوهم. والطاعة عبادة». وقد روى ابن عباس أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تسخطن الله برضى أحد من خلقه ، ولا تقربوا إلى أحد من الخلق بتباعد من الله ، إن الله تعالى ليس بينه وبين أحد من خلقه قرابة يعظمهم بها ولا يصرف عن أحد شرا إلا بطاعته واتباع مرضاته واجتناب سخطه ، وإن الله تعالى يعصم من أطاعه ولا يعصم من عصاه ولا يجد الهارب منه مهربا» وقد روى عمر ابن (٢) الحكم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية وأمرّ عليهم رجلا من أصحابه ، فأمر ذلك الرجل عبد الله ابن حذاقة (٣) وكان ذا دعابة فأوقد نارا وقال : ألستم سامعين مطيعين لأميركم؟ قالوا : بلى. قال : عزمت عليكم إلا وقعتم فيها. ثم قال : إنما كنت ألعب معكم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «من أمركم من الأمراء بشيء من معصية الله فلا تطيعوه». وقد روى عن أبى بكر الصديق رضى الله عنه! أنه صعد المنبر بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبعة أيام ، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم

__________________

(١) محمد بن على : ابن أبى طالب (ابن الحنفية).

(٢) عمر بن الحكم السلمىّ أخو معاوية بن الحكم.

(٣) عبد الله بن حذافة السهمى رضى الله عنه.

قال : «أيها الناس! إنكم وليتمونى أمركم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينونى ، وإن ضعفت أو عدلت عن الحق فقومونى ، ولا تخافوا فى الله أحدا ، إن أكيس الكيس التقى ، وإن أحمق الحمق الفجور ، ثم إنى أخبركم أنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! وهو يقول فى الغار : «إن الصدق أمانة ، وإن الكذب خيانة ، ألا إن الضعيف منكم هو القوى عندنا حتى يعطى الحق غير متعتع ولا مقهور ، والقوى هو الضعيف عندنا حتى نأخذ منه الحق طائعا أو كارها» ، ثم قال : «أطيعونا ما أطعنا الله ورسوله ؛ فإذا عصينا الله ورسوله فلا طاعة لنا عليكم. فقوموا إلى صلاتكم ، رحمكم الله». وقد روى عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة أنه قال : انتهيت إلى عبد الله بن عمر رضى الله عنه وهو جالس فى ظل الكعبة ، والناس حوله مجتمعون فسمعته يقول : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنه لم يكن شيء إلا كان حقا على الله أن يدلّ أمته على ما يعلمه خيرا لهم ، وينذرهم ما يعلمه شرا لهم. وإن أمتكم هذه جعلت عاقبتها فى أولها وإلى آخرها ، سيصيبهم بلاء وأمور ينكرونها تجيء سنة ألفين فيقول المؤمن : هذه هذه ؛ ثم تنكشف فمن سرّه منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، ومن تابع إماما وأعطاه صفية قلبه وثمرة فؤاده فليعطه ما استطاع». فقلت : أناشدك الله ، أنت سمعته من رسول الله؟ قال : سمعت أذناى ووعى قلبى. فقلت : هذا ابن عمك يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وأن نقيل أنفسنا. فقال : قال الله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩] الآية ؛ قال : فجمع يديه فوضعهما على جبهته ثم نكس رأسه فقال : أطعه فى طاعة الله ، واعصه فى معصية الله».

فبهذه الأحاديث يتبين أن الطاعة واجبة للأئمة ، ولكن فى طاعة الله لا فى معصيته.

ومنها أن يعرف أن خطر الإمامة عظيم ، كما أن فوائدها فى الدنيا والآخرة عظيمة ؛ وأنّها إن روعيت على وجهها فهى سعادة ، وإن لم تراع على وجهها فهى شقاوة ليس فوقها شقاوة ، فقد روى ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أقبل وفى البيت رجال من قريش. فأخذ بعضادتى الباب ثم قال : «الأئمة من قريش ما قاموا فيكم بثلاث : ما إن استرحموا رحموا ، وإن حكموا عدلوا ، وإن قالوا أوفوا ، ومن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» الصرف : النافلة ، والعدل الفريضة. وهذا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أعظم الخطر فى أمر ينتهى إلى ألا يقبل بسببه فريضة ولا نافلة. وقد روى أيضا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حكم بين اثنين فجار وظلم فلعنة الله على الظالمين». وقد روى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : الإمام الكذاب ، والشيخ الزانى ، والعائل (١) المزهو». وروى الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يفتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها ، عمالها كلهم فى النار إلا من اتقى الله تعالى وأدى الأمانة» وقد روى عن الحسن أنه قال : عاد عبيد الله بن الحسن معقلا (٢) فى مرضه الّذي قبض فيه ، فقال له معقل : إنى محدثك بحديث سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ما من عبد يسترعيه الله تعالى رعيته يموت يوم يموت غاشا لرعيته إلا حرم الله تعالى عليه الجنة» وروى عن زياد بن أبيه (٣) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من ولى من أمر المسلمين شيئا ولم يحطهم بالنصيحة كما يحوط على أهل بيته فليتبوأ مقعده من النار». وقد حكى عن سفيان الثورى أنه عاتب رجلا من إخوانه قد كان هم أن يتلبس بشيء من أمر الولاية فقال : يا أبا عبد الله! إن على عيالا ، فقال له : لأن تجعل فى عنقك مخلاة تسأل على الأبواب خير لك من أن تدخل فى شيء من أمور الناس. وقد روى معقل بن يسار عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه

__________________

(١) العائل : الفقير ذو العيال.

(٢) معقل بن يسار.

(٣) زياد بن أبيه (زياد بن أبى سفيان).

قال : «رجلان من أمّتى لا تنالهما شفاعتى : إمام ظلوم غشوم ، وغال فى الدين مارق منه». وروى أبو سعيد الخدرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام جائر». وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خمسة غضب الله تعالى عليهم ، إن شاء أمضى غضبه عليهم فى الدنيا ، وإلا فمأواهم فى الآخرة النار : أمير قوم يأخذ حقه من رعيته ولا ينصفهم من نفسه ولا يدفع المظالم عنهم ؛ وزعيم قوم يطيعونه فلا يسوى بين الضعيف والقوىّ ويتكلم بالهوى ؛ ورجل لا يأمر أهله وولده بطاعة الله ولا يعلمهم أمور دينهم ولا يبالى ما أخذوا من دنياهم وما تركوا ؛ ورجل استأجر أجيرا فيستعمله ولا يوفيه أجره ؛ ورجل ظلم امرأة مهرها». وقد روى أن عمر بن الخطاب خرج فى جنازة ليصلى عليها ، فلما وضعت فإذا برجل قد سبق إلى الصلاة ، ثم لما وضع الرجل فى قبره تقدم الرجل فوضع يده على التراب وقال : اللهم إن تعذبه فربما عصاك ، وإن ترحمه فإنه فقير إلى رحمتك! طوبى لك إن لم تكن أميرا أو عريفا أو كاتبا أو شرطيا أو جابيا. قال : ثم ذهب الرجل فلم يقدر عليه (١) ، فأخبر عمر به فقال : لعله الخضر (٢) صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى عن مالك بن دينار أنه قال : قرأت فى بعض الكتب : «ما من مظلوم دعا بقلب محترق إلا لم تنته دعوته حتى تصعد بين يدى الله ، فتنزل العقوبة على من ظلمه ، أو استطاع أن يأخذ له فلم يأخذ له». وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ويل للأمراء! ويل للعرفاء! ويل للأمناء! ليتمنين قوم يوم القيامة أن ذوائبهم (٣) كانت معلقة بالثريا يتدلون بين السماء والأرض وأنهم لم يلوا عملا». وروى أبو بريدة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يؤمر رجل على عشيرة فما فوقهم إلا جيء به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه ، فإن كان محسنا فك عنه غلّه ؛ وإن كان مسيئا زيد غلا إلى غله».

__________________

(١) لم يمسكوا به.

(٢) باعتبار من قال بنبوته.

(٣) ذوائبهم : ضفائر شعرهم (أطرافها).

وهذا الخطر ثابت فى أن يفرق الأمير بين نفسه وبين رعيته فى الترفّه بالمباحات ، فقد روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جلس يوم بدر فى الظل ، فنزل جبريل فقال : «يا محمد! أنت فى الظل وأصحابك فى الشمس!» وروى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : «ويل لديان أهل الأرض من ديّان أهل السماء ، يوم يلقونه ، إلا من أمر بالعدل وقضى بالحق ولم يقض بهوى ولا قرابة ولا رهبة ولا رغبة ، ولكن جعل كتاب الله مرآة بين عينيه».

وأقل الأمور حاجة الإمام إلى تخويف بحكم السياسة ، وقد روى ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من نظر إلى مؤمن نظرة يخيفه بها فى غير حق أخافه الله تعالى بها يوم القيامة». وروى أنس بن مالك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الرب تعالى : أنتم كنتم رعاة غنمى وخزان أرضى ، فيقول لهم : ما حملكم على أن جلدتم فوق ما أمرتم؟ فيقول : أى رب! غضبت لك. فيقول : أينبغي لك أن تكون أشد غضبا منى؟ ويقول للآخر : ما حملك على أن جلدت دون ما أمرت؟ فيقول : أي رب! رحمته. فيقول : أينبغي لك أن تكون أرحم منى؟ ـ خذوا المقصر عن أمرى والزائد على أمرى فسدوا بهما أركان جهنم». وبهذا الحديث يتبين أنه لا ينبغى أن نفزع إلا إلى الشرع ، وأنه لا شيء أهم للأئمة من معرفة أحكام الشرع. وروى عن «حذيفة» أنه قال : ما أنا بمثن على وال خيرا ، عادلهم وجائرهم ، فقيل له : لم؟ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يؤتى بالولاة يوم القيامة عادلهم وجائرهم فيوقفون على الصراط ، فيوحى الله تعالى إلى الصراط فيزحف بهم زحفة لا يبقى جائر فى حكمه ولا مرتش فى قضائه ولا ممكن سمعه لأحد الخصمين ما لم يمكن للآخر إلا زالت قدماه سبعين عاما فى جهنم». وروى أن داود صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخرج متنكرا يطوف فى الآفاق يسأل عن سيرة داود فيهم ، فتعرض له جبريل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورة آدمى ، فسأله عن سيرته ، فقال جبريل : نعم الرجل داود ، ونعم السيرة سيرته غير أنه يأكل من بيت مال المسلمين ولا يأكل من كدّ يده ، فرجع باكيا متضرعا إلى

محرابه يسأل ربّه تعالى أن يعلّمه صنعة يأكل منها ، فعلّمه صنعة الدروع وألان له الحديد ، فذلك قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) [الأنبياء : ٨٠] الآية.

هذا خطر الإمامة ، وفيها أحاديث كثيرة يطول إحصاؤها ، وهذا القدر كاف للبصير المعتبر ، وعلى الجملة فيكفى من معرفة خطرها سيرة عمر رضى الله عنه ، فإنه كان يتجسس ويتعسس ليلا ليعرف أحوال الناس وكان يقول : «لو تركت جربة على ضفة الفرات لم يطلى بالهنا (١) فأنا المسئول عنها يوم القيامة» ؛ ومع ذلك فقد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : «دعوت الله تعالى اثنتى عشرة سنة : اللهم أرنى عمر بن الخطاب فى منامى ، فرأيته بعد اثنتى عشرة سنة كأنما اغتسل واشتمل بالإزار ، فقلت : يا أمير المؤمنين! كيف وجدت الله تعالى؟ قال : يا أبا عبد الله! كم منذ فارقتكم؟ قلت : منذ اثنتى عشرة سنة. قال : كنت فى الحساب إلى الآن. ولقد كادت تزل سريرتى لو لا أنى وجدت ربا رحيما». فهذه حال عمر ، ولم يملك من الدنيا سوى درّة (٢) ، فليعتبر به.

وقد حكى عن يزدجرد بن شهريار آخر ملوك العجم أنه بعث رسولا إلى عمر ابن الخطاب رضى الله عنه ، وأمره أن ينظر فى شمائله. فلما دخل المدينة قال : أين ملككم؟ قالوا : ليس لنا ملك ؛ لنا أمير خرج برا ، فخرج الرجل فى أثره فوجده نائما فى الشمس ودرّته تحت رأسه وقد عرق جنبه حتى ابتلت منه الأرض. فلما رآه على حالته قال : «عدلت فأمنت فنمت ؛ وصاحبنا جار فخاف فسهر. أشهد أن الدين دينكم ؛ ولو لا أنى رسول لأسلمت ، وسأعود بإذن الله تعالى».

ومنها أن يكون الوالى متعطشا إلى نصيحة علماء الدين ومتعظا بمواعظ الخلفاء الراشدين ومتصفحا فى مواعظ مشايخ الدين للأمراء المنقرضين. ونحن نورد الآن بعض تلك المواعظ : فإنه قد روى أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبى موسى

__________________

(١) الهنا : القطران ، يطلى به البعير الأجرب ؛ أو الناقة الجرباء ؛ أو الدواب عامة.

(٢) الدرة : العصا القصيرة ، يضرب بها.

الأشعرى : «أما بعد! فإن أسعد الرعاة عند الله من سعدت به رعيته ، وإن أشقى الرعاة عند الله من شقيت به رعيته. وإياك أن ترتع فترتع عمالك فيكون مثلك عند الله مثل بهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبتغى فى ذلك السّمن ، وإنما حتفها فى سمنها» وإنما قال ذلك لأن الوالى مأخوذ بظلم عماله وظلم جميع حواشيه ، فكل ذلك فى جريدته (١) وينسب إليه.

وقد روى أنه أنزل فى التوراة على موسى عليه‌السلام أنه ليس على الإمام من ظلم العامل وجوره ما لم يبلغه ذلك من ظلمه وجوره ، فإذا بلغه فأقرّه شركه فى ظلمه وجوره. قد روى أن شقيق البلخى (٢) دخل على هارون الرشيد فقال له : أنت شقيق الزاهد؟ فقال له : أما شقيق فنعم ، وأما الزاهد فيقال. فقال له : عظنى! فقال له : «إن الله تعالى أنزلك منزلة الصّديق وهو يطلب منك الصدق كما تطلبه منه ؛ وأنزلك منزلة الفاروق ، وهو يطلب منك الفرق بين الحق والباطل كما تطلبه منه ، وأنزلك منزلة ذى النورين (٣) وهو يطلب منك الحياء والكرامة كما تطلبه منه ؛ وأنزلك منزلة على بن أبى طالب وهو يطلب منك العلم كما تطلبه منه». ثم سكت. فقال له : زدنى! قال : «نعم! إن الله تعالى دارا سماها جهنم وجعلك بوابا لها ؛ وأعطاك بيت مال المسلمين وسيفا قاطعا وسوطا موجعا ؛ وأمرك أن تردّ الخلق من هذه الدار بهذه الثلاث : فمن أتاك من أهل الحاجة فأعطه من هذا البيت ؛ ومن تقدم على نهى الله فأوجعه بهذا السوط ؛ ومن قتل نفسا بغير حق فاقتله بهذا السيف بأمر ولى المقتول ، فإنك إن لم تفعل ذلك فأنت السابق والخلق تابع لك إلى النار». قال : زدنى! قال : «نعم! أنت العين (٤) ، والعمال الأنهار ، إن صفت العين لم يصر كدر الأنهار ؛ وإن كدرت العين لم يرج صفاء الأنهار».

__________________

(١) جريدته : صحيفته التى تنشر فوق رأسه يوم القيامة.

(٢) شقيق البلخى الصوفى الشهير ، شيخ خراسان ، توفى فى سنة ١٩٤ ه‍ ـ.

(٣) ذو النورين : عثمان بن عفان.

(٤) العين : نبع الماء.

وقد حكى أن هارون الرشيد قصد الفضيل بن عياض (١) ليلا مع العباس فى داره ، فلما وصل إلى بابه سمع قراءته وهو يقرأ : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١] فقال هارون للعباس : «إن انتفعنا بشيء فبهذا». فدق العباس الباب وقال : أجب أمير المؤمنين ، قال : وما يعمل عندى أمير المؤمنين؟ فقال : أجب إمامك. ففتح الباب وأطفأ سراجه وجلس فى وسط البيت فى الظلمة ، فجعل هارون يطوف حتى وقعت عليه يده فقال : آه من يد ما ألينها إن نجت من عذاب الله يوم القيامة! فجلس وقال : «يا أمير المؤمنين! استعد لجواب الله تعالى يوم القيامة فإنك تحتاج أن تتقدم مع كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة». فجعل هارون يبكى. فقال العباس : اسكت فقد قتلت أمير المؤمنين. فقال : يا هامان (٢) تقتله أنت وأصحابك وتقول لى أنت قتلته؟! فقال هارون : ما سماك هامان إلّا وجعلنى فرعون ، فقال له هارون : هذا مهر والدتى ألف دينار تقبلها منى. فقال : يا أمير المؤمنين! لا جزاك الله إلا جزاءك ، أقول لك ردها على من أخذتها منه ، وتقول لى : خذها أنت؟! فقام وخرج.

وقد حكى عن محمد بن كعب القرظى (٣) أنه قال له عمر بن عبد العزيز : صف لى العدل! فقال : يا أمير المؤمنين! كن لصغير المسلمين أبا ، وللكبير منهم ابنا ، وللمثل أخا ؛ وعاقب كل واحد منهم بقدر ذنبه على قدر جسمه ؛ وإياك أن تضرب بغضبك سوطا واحدا فتدخل النار. وقد حكى عن الحسن (٤) أنه كتب إلى عمر بن

__________________

(١) أبو على الفضيل بن عياض التميمى المروزى ، زاهد وأحد العلماء الأعلام ، حدث عنه الشافعى ويحيى القطان وغيرهما ، ولد بسمرقند وقدم الكوفة شابا ثم جاور بمكة إلى أن مات سنة ١٨٧ ه‍.

(٢) هامان : كبير وزراء فرعون.

(٣) محمد بن كعب القرظى ، الكوفى المولد والمنشأ ، عاش فى مكة ؛ وروى عن كبار الصحابة ؛ ويقال إنه ولد فى حياة النبي ؛ وقال عنه الذهبى إنه كان كبير القدر ، ثقة ، موصوفا بالعلم والصلاح والورع. توفى فى سنة ١٠٨ ه‍ ، وقيل فى سنة ١١٧ ه‍.

(٤) المقصود هو الحسن البصرى ، إمام أهل البصرة ولد سنة ٢١ ه‍ ، وتوفى سنة ١١٠ ه‍.

عبد العزيز : أما بعد! فإن الهول الأعظم ومقطعات الأمور كلهن أمامك ، لم تقطع منهن شيئا ، فلذلك فاعدد ومن شرّها فاهرب. والسلام عليك!».

وقد حكى أن بعض الزهاد دخل على بعض الخلفاء فقال له : عظنى! فقال له : «يا أمير المؤمنين! كنت أسافر الصين فقدمتها مدة وقد أصيب ملكها بسمعه ، فبكى بكاء شديدا وقال : أما إنى لست أبكى على البلية النازلة ولكنى أبكى لمظلوم على الباب يصرخ فلا يؤذن له ولا أسمع صوته ؛ ولكنى إن ذهب سمعى فإن بصرى لم يذهب ، نادوا فى الناس : لا يلبس أحد ثوبا أحمر إلّا متظلم ، ثم كان يركب الفيل فى نهاره حتى يرى حمرة بباب المظلومين. فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله تعالى غلبت عليه رأفته ورحمته على المشركين وأنت مؤمن بالله تعالى من أهل بيت نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كيف لا تغلب رأفتك بالمؤمنين!».

وحكى أيضا أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة. فأقام بها أياما. فأرشد إلى أبى حازم (١) ، فدعاه. فلما دخل عليه قال له سليمان : «يا أبا حازم! ما لنا نكره الموت ونحب الحياة؟!» فقال : «لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا ، فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب» فقال : يا أبا حازم! كيف القدوم على الله تعالى غدا؟ قال : «يا أمير المؤمنين! أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله ؛ وأما المسىء فكالآبق (٢) يقدم على مولاه!» فبكى سليمان وقال : ليت شعرى ما لى عند الله غدا. قال أبو حازم : «اعرض عملك على كتاب الله تعالى حيث يقول : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤]. قال سليمان : فأين رحمة الله؟ قال : (قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦]. ثم قال

__________________

(١) أبو حازم سلمة بن دينار المخزومى المدنى الأعرج ، «عالم المدينة وزاهدها وواعظها ؛ سمع سهل بن سعد وطائفة. وكان أشقر فارسيا ، وأمه رومية ، وولاؤه لبنى مخزوم. قال ابن خزيمة : ثقة ، لم يكن فى زمانه مثله. له حكم ومواعظ» توفى سنة ١٤٠ ه‍ «وقال عنه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما رأيت أحدا الحكمة أقرب إلى فيه من أبى حازم».

(٢) الآبق : العبد الهارب.

سليمان : يا أبا حازم! أى عباد الله أكرم؟ قال : «أهل المروءة والتقى». قال : أى الأعمال أفضل؟ قال : «أداء الفرائض مع اجتناب المحارم». قال : فأى الدعاء أسمع؟ قال : «دعاء المحسن إليه للمحسنين». قال : فأىّ الصدقة أزكى؟ قال : «صدقة على السائل الناس ، وجهد المقل ليس فيها منّ ولا أذى». قال : فأى القول أعدل؟ قال : «قول الحق عند من يخاف ويرجى». قال : فأى المؤمنين أكيس؟ قال : رجل عمل بطاعة الله تعالى وذكر الناس عليها». قال : فأى المؤمنين أفسق؟ قال : «رجل أخطأ فى هوى أحبه وهو ظالم باع آخرته بدنيا غيره». قال سليمان : فما تقول فيما نحن فيه؟ فقال : «يا أمير المؤمنين! أو تعفينى؟» قال : لا ، ولكن نصيحة تلقيها إلى. قال : «يا أمير المؤمنين! إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضى أحد ، حتى قتلوا ، وقد قتلوا قتلة عظيمة. وقد ارتحلوا. فلو شعرت ما قالوا وما قيل لهم!» فقال له رجل من جلسائه : بئس ما قلت! قال أبو حازم : «إن الله تعالى أخذ الميثاق على العلماء ليبيننّه للناس ولا يكتمونه» فقال : كيف لنا أن نصلح هذا الفساد؟ فقال : «أن تأخذه من حله ، وتضعه فى حقه». فقال : ادع لى! قال أبو حازم : «اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخير الدنيا والآخرة ؛ وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى». فقال سليمان : أوصنى! قال : «أوصيك وأوجز : عظّم ربك ، ونزهه أن يراك حيث نهاك ، أو يفقدك حيث أمرك».

وقد حكى عن أبى قلابة (١) أنه دخل على عمر بن عبد العزيز فقال له : يا أبا قلابة! عظنى! فقال : «يا أمير المؤمنين! إنه لم يبق من لدن آدم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يومنا هذا خليفة غيرك». قال له : زدنى! قال : «أنت أول خليفة يموت؟». قال : زدنى! قال إذا كان الله معك فمن تخاف؟ إذا كان عليك فمن ترجو» قال : حسبى!

__________________

(١) أبو قلابة الجرمى : «عبد الله بن زيد البصرى الإمام ؛ طلب للقضاء فهرب ، ونزل الشام فنزل بداريا.

وكان رأسا فى العلم والعمل. سمع من سمرة وجماعة. ومناظرته مع علماء عصره فى القسامة بحضرة عمر بن عبد العزيز ـ مشهورة فى الصحيح» وتوفى سنة ١٠٤ ه‍ وقيل سنة ١٠٧ ه‍ ، وقال ابن معين سنة ست أو سبع.

وحكى عن سليمان بن عبد الملك أنه تفكر يوما فقال : كيف تكون حالى وقد ترفهت فى هذه الدنيا؟ فأرسل إلى أبى حازم وقال : تبعث إلى بذلك الّذي تفطر عليه بالعشاء ، فأنفذ إليه شيئا من النخالة المقلية. قال : أبل هذا بالماء فأفطر به فهو طعامى ، فبكى سليمان وعمل ذلك فى قلبه وصام ثلاثة أيام ما ذاق شيئا حتى فرغ بطنه من مأكولاته ، ثم أفطر فى اليوم الثالث بتلك النخالة. فقضى أن قارب أهله (١) تلك الليلة فولد له عبد العزيز بن سليمان. ومن عبد العزيز عمر (٢) فهو واحد زمانه ، وذلك من بركة تلك النية الصادقة.

وحكى أنه قيل لعمر بن عبد العزيز : ما كان بدء توبتك؟ قال : أردت ضرب غلام فقال لى : يا عمر! اذكر ليلة صبيحتها يوم القيامة ؛ وحكى أن زاهدا كتب إلى عمر ابن عبد العزيز وقال فى كتابه : اعتصم بالله يا عمر اعتصام الغريق بما ينجيه من الغرق ؛ وليكن دعاؤك دعاء المنقطع المشرف على الهلكة ، فإنك قد أصبحت عظيم الحاجة شديد الإشراف على المعاطب.

وقد حكى عن هارون الرشيد أنه قال للفضيل : عظنى! قال : بلغنى أن عمر بن عبد العزيز شكا إليه بعض عماله ، فكتب إليه : «يا أخى! اذكر سهر أهل النار فى النار مع خلود الأبد بعد النعيم والظلال ، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائما ويقظان ، وإياك أن يتصرف بك من عند الله فتكون آخر العهد منقطع الرجاء». فلما قرأ الكتاب قدم على عمر فقال له : ما أقدمك؟ قال : «خلع قلبى كتابك ، لا وليت ولاية حتى ألقى الله تعالى».

وقد حكى عن إبراهيم بن عبد الله الخراسانى أنه قال : حججت مع أبى سنة حج الرشيد ، فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسر حاف على الحصباء ، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكى ويقول : «يا رب! أنت أنت ، وأنا أنا ؛ أنا العواد إلى الذنب وأنت العواد إلى المغفرة اغفر لى!» فقال لى : يا بنى! انظر إلى جبار الأرض كيف يتضرع إلى جبار السماء!

__________________

(١) قارب أهله : جامع زوجته.

(٢) هو غير عمر بن عبد العزيز بن مروان.

وحكى أنه دخل رجل عل عبد الملك بن مروان وكان يوصف بحسن العقل والأدب. فقال له : عظنى! فقال : «يا أمير المؤمنين! إن للناس فى القيامة جولة لا ينجو من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه». قال : فبكى عبد الملك بن مروان ، ثم قال : «لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالا نصب عينى ما عشت أبدا ؛ وحكى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لأبى حازم : عظنى! قال : «اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ، ثم انظر ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن ؛ وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن ، فلعل الساعة قريبة».

وحكى أن أعرابيا دخل على سليمان بن عبد الملك ، فقال له : تكلم يا أعرابى! فقال : «يا أمير المؤمنين! إنى لمكلمك بكلام فاحتمله ؛ وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته ، فقال : يا أعرابى! إنّا لنجود بسعة الاحتمال على من نرجو نصحه ونأمن غشه ، فقال الأعرابى : إنه قد تكنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم فابتاعوا دنياهم بدينهم ، ورضاك بسخط ربهم ؛ خافوك فى الله ، ولم يخافوا الله فيك ؛ حرب للآخرة ، سلم للدنيا ، فلا تأمنهم على ما امتحنك الله عليه ، فإنهم لن يألوا فى الأمانة تضييعا وفى الأمة خسفا وعسفا ؛ وأنت مسئول عما اجترحوا وليسوا بمسئولين عما اجترحت ؛ فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبنا من باع آخرته بدنيا غيره. فقال سليمان : أما أنت يا أعرابى قد سللت لسانك وهو أقطع من سيفك! قال : أجل! يا أمير المؤمنين! ولكن عليك ، لا لك.

وقد حكى أن صالح بن بشير (١) دخل على المهدى وجلس معه على الفراش ، فقال له المهدى : عظنى! قال : «أليس قد جلس هذا المجلس أبوك وعمك قبلك؟» قال : نعم! قال : «فكانت لهم أعمال ترجو لهم بها النجاة من الله تعالى؟» قال :

__________________

(١) صالح بن بشير المرى ، واعظ البصرة ؛ روى عن الحسن البصرى وجماعة. توفى سنة ١٧٢ ه‍ أو ١٧٦ ه‍.

نعم! قال : «وأعمال تخاف عليهم بها الهلكة؟» قال : نعم. قال : فانظر ما رجوت لهم فأته وما خفت عليهم فاجتنبه! قال : قد أبلغت وأوجزت.

وقد حكى أن أبا بكرة (١) دخل على معاوية فقال : اتق الله يا معاوية! وأعلم أنك فى كل يوم يخرج عنك ، وفى كل ليلة تأتى عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعدا ، ومن الآخرة إلا قربا ، وعلى أثرك طالب لا تفوته ، وقد نصب لك علم لا تجوزه ، فما أسرع ما يبلغ العلم ، وما أقرب ما يلحق بك الطالب! وإنا وما نحن فيه زائل ، والّذي نحن صائرون إليه باق : إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

ومنها : أن تكون العادة الغالبة على والى الأمر العفو والحلم وحسن الخلق وكظم الغيظ مع القدرة ، فقد حكى أنه حمل إلى أبى جعفر رجل قد جنى جناية فأمر بقتله ، فقال المبارك (٢) بن فضالة وكان حاضرا : يا أمير المؤمنين! ألا أحدثك حديثا سمعته من الحسن؟ قال : وما هو؟ قال : سمعت الحسن رحمه‌الله يقول : «إذا كان يوم القيامة جمع الناس فى صعيد واحد فيقوم مناد ينادى : من له عند الله يد فليقم ، فلا يقوم إلا من عفا». فقال : خلوا عنه.

وحكى عن عيسى بن مريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال ليحيى بن زكريا صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا قيل لك ما فيك فأحدث لله شكرا ، وإذا قيل ما ليس فيك فأحدث لله شكرا أعظم منه ، إذا تيسرت لك حسنة لم يكن لك فيها عمل.

وروى أبو هريرة أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس الشديد بالصّرعة (٣) إنما الشديد الّذي يملك نفسه عند الغضب» وحكى أن رجلا أتى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إن خادمى يسىء ويظلم أفأضربه؟ قال : تعفو عنه كل يوم سبعين مرة. وروى عن على

__________________

(١) المقصود عبد الرحمن بن أبى بكرة ، أول من ولد بالبصرة ، وقد توفى سنة ١٠١ ه‍.

(٢) المبارك بن فضالة البصرى ، مولى قريش ؛ محدث روى عن الحسن البصرى وبكر المزنى وطائفة ؛ وكان من كبار المحدثين والنساك ، توفى سنة ١٦٤ ه‍.

(٣) الصرعة ؛ كهمزة : من يصرع الناس كثيرا.

ابن أبى طالب رضى الله عنه عن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ألا أدلك على خير أخلاق الأولين والآخرين؟ قال : قلت : بلى يا رسول الله! قال : «تعطى من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك». وروى عن عمر بن (١) عبيد الله أنه قال : «ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان : إذا غضب لم يخرجه غضبه إلى الباطل ، وإذا رضى لم يخرجه رضاه عن الحق ؛ وإذا قدر لم يأخذ ما ليس له».

وقد روى عن على بن الحسين (٢) رضى الله عنهما أنه خرج من المسجد فلقيه رجل فسبه ، فثارت إليه العبيد والموالى ، فقال على بن الحسين : «مهلا عن الرجل». ثم أقبل عليه وقال : «ما ستر عنك من أمرنا لكثير! ألك حاجة نعينك عليها؟» فاستحيا الرجل ورجع إلى نفسه. فألقى إليه خميصة (٣) كانت عليه ، وأمر له بألف درهم. فكان الرجل بعد ذلك يقول : أشهد أنك من أولاد الرسل. وقد روى عنه أيضا أنه دعا مملوكا له مرتين فلم يجبه. ثم أجابه فى الثالثة. فقال له : أما سمعت صوتى؟ قال : بلى! قال : فما بالك لم تجبنى؟ قال : أمنتك. قال : الحمد لله الّذي جعل مملوكى بحيث يأمننى.

وقد حكى أنه جاء غلام لأبى ذر بشاة له قد كسر رجلها ، فقال له أبو ذر : من كسر رجل هذه الشاة؟ قال : أنا. قال : ولم فعلت ذلك؟ قال : عمدا لأغضبك فتضربنى فتأثم ، قال أبو ذر : «لأغيظن من حضك على غيظى» فأعتقه.

وروى عنه أنه شتمه رجل ؛ فقال : يا هذا! إن بينى وبين الجنة عقبة ، فإن أنا جزتها فو الله ما أبالى بقولك ، وإن قصرت دونها فأنا أهل لأشر مما قلت.

وروى ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثلاث من لم تكن فيه

__________________

(١) من المعروفين بهذا الاسم : «عمر بن عبيد الطنافسى. روى عن زياد بن علاقة والكبار ، وثقه أحمد وابن معين».

(٢) على بن الحسين : زين العابدين.

(٣) الخميصة : ثوب أسود أو أحمر له أعلام وفى الحديث.

واحدة منهم فلا يعتدن بشيء من عمله : من لم تكن فيه تقوى تحجزه عن معاصى الله ، أو حلم يكفّه عن السفه ، أو خلق يعيش به فى الناس ؛ وثلاث من كان فيه واحدة منهن زوج من الحور العين : رجل اؤتمن على أمانة خفية شهية فأداها من مخافة الله تعالى ، ورجل عفا عن قاتله ، ورجل قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فى دبر كل صلاة ؛ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن أكن خصمه أخصمه : رجل استأجر أجيرا فظلمه ولم يوفه أجره ، ورجل حلف بى ثم غدر ، ورجل باع حرا وأكل ثمنه ، ومن كفل ثلاثة أيتام كان كالذى قام ليله وصام نهاره وغدا وراح شاهرا سيفه فى سبيل الله وكنت أنا وهو فى الجنة كهاتين وأشار إلى السبابة والوسطى».

وقد روى عن على رضى الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم ، وإنه ليكتب جبارا وما يهلك إلا أهل بيته».

وروى ابن عباس عن على رضى الله عنهما أنه قال : وصانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين زوجنى فاطمة رضى الله عنها خصوصا دون غيرى ، فكان مما أوصانى به أن قال : «يا على! لا تغضب! وإذا غضبت فاقعد واذكر قدرة الله تعالى على العباد وحلمه عنهم ، وإذا قيل لك : اتق الله فاترك غضبك عنك ، وارجع بحلمك».

وقد روى ابن عباس عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن لجنهم بابا لا يدخل إلا من شفى غيظه بمعصية الله».

وروى أن إبليس اللعين ظهر لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا موسى! إنك الليلة تناجى ربك ، ولى إليك حاجة فاقضها وأنا أعلمك خصالا ثلاثا فيهن الدنيا والآخرة. فقال له موسى : ما هذه الخصال؟ قال : «إياك والحدّة فإنى ألعب بالرجل الحديد (١) كما تلعب الصبيان بالكرة. يا موسى! إياك والنساء فإنى لم أنصب قط فخا أثبت فى

__________________

(١) الرجل الحديد : القوى الشديد.

نفسى من فخ أنصبه بامرأة ، يا موسى! إياك والشح فإنى أفسد على الشحيح الدنيا والآخرة».

وروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأه الله إيمانا وأمنا ؛ ومن وضع ثوب جمال تواضعا لله وهو يقدر عليه كساه الله تعالى حلّة الكرامة».

وحكى أن ذا القرنين لقى ملكا من الملائكة فقال له : علمنى عملا أزداد به إيمانا ويقينا! فقال : «لا تغضب ، فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم إذا غضب ، وإذا غضبت فرد الغضب بالكظم وسكنه بالتؤدة. وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك ؛ وكن سهلا لينا للقريب والبعيد ؛ ولا تكن جبارا عنيدا.

وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الويل لمن يغضب وينسى غضب الله تعالى! عباد الله! إياكم والغضب والظلم فإن عقوبتهما شديدة ، ومن غضب فى غير ذات الله جاء يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه».

وروى أبو هريرة أيضا : أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا رسول الله دلنى على عمل يدخلنى الجنة! قال : «لا تغضب ، ولك الجنة» قال : زدنى! قال : «استغفر الله تعالى دبر صلاة العصر سبعين مرة يغفر الله لك ذنب سبعين سنة». قال : ليس لى ذنوب سبعين سنة. قال : «فلأمك». قال : ولا لأمى. قال : «فلأبيك». قال : ولا لأبى. قال : «فلإخوانك».

وقد روى عن عبد الله بن مسعود : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم! قسم قسما ، فقال رجل من الأنصار : هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. قال ابن مسعود : يا عدو الله! لأخبرن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فاحمر وجهه وقال : «رحمة الله على موسى! قد أوذى بأكثر من هذا فصبر».

وهذا القدر الّذي روى من الآثار والأخبار وسير الخلفاء وأئمة الأعصار كاف للمتعظ به وللمصغى إليه فى تهذيب الأخلاق ومعرفة وظائف الخلافة ، فالعامل به مستغن عن المزيد.

والله ولى التوفيق

تم الكتاب ، والحمد لله ربّ العالمين ؛ وصلى الله على سيّد الأولين والآخرين ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وقع الفراغ منه يوم السبت لسبعة عشر يوما خلت من شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وستّمائة (٦٦٥ ـ ه) (١).

__________________

(١) نهاية مخطوط متحف لندن درون ذكر لاسم الناسخ ؛ مع ثبت سنة النسخ كما هو وارد.

الفهرس

الموضوع

الصفحة

المقدمة.......................................................................... ٣

نبذة عن الكتاب................................................................. ٦

تعريف بالإمام أبى حامد الغزالى..................................................... ٧

الباب الأول : فى الإعراب عن المنهج الّذي استنهجته فى هذا الكتاب................. ١٧

المقام الأول.................................................................. ١٧

المقام الثانى.................................................................. ١٨

المقام الثالث................................................................. ١٨

الباب الثانى : فى بيان ألقابهم والكشف عن السبب الداعى لهم على نصب هذه الدعوة.. ٢١

الفصل الأول : فى ألقابهم التى تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة وهى عشرة ألقاب : الباطنية ، (والقرامطة والقرمطية) ، (والخرمية والخرمدينية) ، والإسماعيلية ، والسبعية ، والبابكية ، والمحمرة ، والتعليمية.... ٢١

الفصل الثانى : فى بيان السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة وإفاضة هذه البدعة ٢٦

الباب الثالث : فى درجات حيلهم ، وسبب الاغترار بها مع ظهور فسادها.............. ٢٩

الفصل الأول : فى درجات حيلهم.............................................. ٢٩

الفصل الثانى : فى بيان السبب فى رواج حيلتهم وانتشار دعوتهم مع ركاكة حجتهم وفساد طريقتهم         ٣٨

الباب الرابع : فى نقل مذهبهم جملة وتفصيلا....................................... ٤٣

الطرف الأول............................................................. ٤٤

الطرف الثانى............................................................. ٤٦

الطرف الثالث............................................................ ٤٧

الطرف الرابع............................................................. ٤٩

الطرف الخامس........................................................... ٥١

الباب الخامس : فى إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم بالأمور العددية........ ٥٩

الفصل الأول : فى تأويلاتهم للظواهر........................................... ٥٩

الفصل الثانى : فى استدلالاتهم بالأعداد والحروف................................ ٦٨

الباب السادس : فى الكشف عن تلبيساتهم التى زوقوها بزعمهم فى معرض البرهان على إبطال النظر العقلى وإثبات وجوب التعلم من الإمام المعصوم.................................................................. ٧٣

المنهج الأول................................................................. ٧٧

المنهج الثاني................................................................. ٨٦

الباب السابع : فى إبطال تمسكهم بالنص فى إثبات الإمامة والعصمة................ ١٢١

الفصل الأول : فى تمسكهم بالنص على الإمامة................................ ١٢١

الفصل الثانى : فى إبطال قولهم إن الإمام لا بدّ أن يكوم معصوما من الخطأ والزلل والصغائر والكبائر        ١٢٩

الباب الثامن : فى الكشف عن فتوى الشرع فى حقهم من التكفير وسفك الدم........ ١٣٣

الفصل الأول : فى تكفيرهم أو تضليلهم أو تخطئتهم............................ ١٣٣

المرتبة الأولى............................................................. ١٣٣

المرتبة الثانية............................................................. ١٣٦

الفصل الثانى : فى أحكام من قضى بكفره منهم................................ ١٤١

الفصل الثالث : فى قبول توبتهم وردها........................................ ١٤٥

الفصل الرابع : فى حيلة الخروج عن أيمانهم وعهودهم إذا عقدوها على المستجيب... ١٤٨

الباب التاسع : فى إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته فى عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله.............................................................. ١٥٣

القول فى الصفة الأولى................................................... ١٦٣

القول فى الصفة الثانية.................................................... ١٦٦

القول فى الصفة الثالثة.................................................... ١٦٧

القول فى الصفة الرابعة................................................... ١٧١

الباب العاشر : الوظائف الدينية التى بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة........... ١٧٥

القول فى الوظائف العملية...................................................... ١٨١

فضائح الباطنية

المؤلف: أبو حامد الغزالي
الصفحات: 205
  • المقدمة 3
  • نبذة عن الكتاب 6
  • تعريف بالإمام أبى حامد الغزالى 7
  • الباب الأول : فى الإعراب عن المنهج الّذي استنهجته فى هذا الكتاب 17
  • المقام الأول 17
  • المقام الثانى 18
  • المقام الثالث 18
  • الباب الثانى : فى بيان ألقابهم والكشف عن السبب الداعى لهم على نصب هذه الدعوة.. 21
  • الفصل الأول : فى ألقابهم التى تداولتها الألسنة على اختلاف الأعصار والأزمنة وهى عشرة ألقاب : الباطنية ، (والقرامطة والقرمطية) ، (والخرمية والخرمدينية) ، والإسماعيلية ، والسبعية ، والبابكية ، والمحمرة ، والتعليمية 21
  • الفصل الثانى : فى بيان السبب الباعث لهم على نصب هذه الدعوة وإفاضة هذه البدعة 26
  • الباب الثالث : فى درجات حيلهم ، وسبب الاغترار بها مع ظهور فسادها 29
  • الفصل الأول : فى درجات حيلهم 29
  • الفصل الثانى : فى بيان السبب فى رواج حيلتهم وانتشار دعوتهم مع ركاكة حجتهم وفساد طريقتهم         38
  • الباب الرابع : فى نقل مذهبهم جملة وتفصيلا 43
  • الطرف الأول 44
  • الطرف الثانى 46
  • الطرف الثالث 47
  • الطرف الرابع 49
  • الطرف الخامس 51
  • الباب الخامس : فى إفساد تأويلاتهم للظواهر الجلية واستدلالاتهم بالأمور العددية 59
  • الفصل الأول : فى تأويلاتهم للظواهر 59
  • الفصل الثانى : فى استدلالاتهم بالأعداد والحروف 68
  • الباب السادس : فى الكشف عن تلبيساتهم التى زوقوها بزعمهم فى معرض البرهان على إبطال النظر العقلى وإثبات وجوب التعلم من الإمام المعصوم 73
  • المنهج الأول 77
  • المنهج الثاني 86
  • الباب السابع : فى إبطال تمسكهم بالنص فى إثبات الإمامة والعصمة 121
  • الفصل الأول : فى تمسكهم بالنص على الإمامة 121
  • الفصل الثانى : فى إبطال قولهم إن الإمام لا بدّ أن يكوم معصوما من الخطأ والزلل والصغائر والكبائر        129
  • الباب الثامن : فى الكشف عن فتوى الشرع فى حقهم من التكفير وسفك الدم 133
  • الفصل الأول : فى تكفيرهم أو تضليلهم أو تخطئتهم 133
  • المرتبة الأولى 133
  • المرتبة الثانية 136
  • الفصل الثانى : فى أحكام من قضى بكفره منهم 141
  • الفصل الثالث : فى قبول توبتهم وردها 145
  • الفصل الرابع : فى حيلة الخروج عن أيمانهم وعهودهم إذا عقدوها على المستجيب... 148
  • الباب التاسع : فى إقامة البراهين الشرعية على أن الإمام القائم بالحق الواجب على الخلق طاعته فى عصرنا هذا هو الإمام المستظهر بالله حرس الله ظلاله 153
  • القول فى الصفة الأولى 163
  • القول فى الصفة الثانية 166
  • القول فى الصفة الثالثة 167
  • القول فى الصفة الرابعة 171
  • الباب العاشر : الوظائف الدينية التى بالمواظبة عليها يدوم استحقاق الإمامة 175
  • القول فى الوظائف العملية 181