بسم الله الرّحمن الرّحيم

كلمة المحقّق

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل بريّته ، وأشرف خليقته ، محمد خاتم أنبيائه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، عيبة علمه وحفظة سننه وخلفائه في أمّته.

أمّا بعد : فإنّ مسألة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي دام النزاع والبحث فيها عبر قرون ، فاختارت كل طائفة مذهبا.

فمن قائل إنّه ليس للإنسان أيّ دور في فعله وعمله وإنّه مكتوف اليدين ، مسيّر في حياته يسير على ما خطّ له من قبل.

إلى تفويضي يثبت له قدرة وإرادة مستقلة ، وكأنّه إله آخر في الأرض ، مستغن عن ربّه في فعله. ولكن مذهب الحق هو المذهب الوسط بين الجبر والتفويض ، الذي تبناه القرآن الكريم والسنّة النبوية ، وركّز عليه أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وهو

الموافق للعقل والبرهان.

وقد ألّفت حول المسألة رسائل وكتب كثيرة متوفرة بين السنة والشيعة لا مجال لذكر أسمائها وعناوينها.

وقد عثرت في هذا الموضوع على رسالتين كريمتين ، وكنزين ثمينين.

إحداهما : للسيد القائد آية الله العظمى الامام الخميني قدس سرّه وقد اسماها ب «لب الأثر في الجبر والقدر» وهي بقلم سيّدي الوالد تقريرا لدروس استاذه الامام ، وقد القاها عام ١٣٧١ ه‍ ق ، فكانت كنزا مستورا ، فقمت بإعدادها للنشر وتخريج احاديثها ومصادرها.

ثانيتهما : ما حرّرها الوالد بقلمه الشريف في هذا المجال في دوراته الأصولية ، وقد أكملها دورة بعد دورة حتى بلغت في الدورة الرابعة الكمال المطلوب ، فقمت أيضا بإعدادها وتنسيقها.

فها أنا أنشر تينك الرسالتين. وأرجو من الله سبحانه أن يتقبّل عملي ويجعله خالصا لوجهه الكريم ، انّه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير.

سعيد السبحاني

١٤ شهر ذي القعدة الحرام

من شهور عام ١٤١٨ ه

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الذي تقدّس عن وسمة الحدوث والعوارض ، وعظم سلطانه عن الشريك والمعارض ، فله الشكر الأوفى وله العظمة والعلى.

والصلاة والسلام على صاحب الآيات البيّنات ، والمعجزات الباهرات ، الذي أكمل به الدين وأتمّ به النعمة ، وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

أمّا بعد :

فلمّا انتهى بحث سيدنا الأستاذ ـ علم العلم وتيّاره ، وكعبة الفضل ومناره ، من انتهت إليه رئاسة التدريس في العصر الحاضر ـ سيدنا وأستاذنا الكبير آية الله العظمى الحاج السيد «روح الله الموسوي الخميني» ـ دام ظلّه الوارف ـ إلى مسألة اتّحاد الطلب

والإرادة وانجرّ البحث إلى مسألة الجبر والتفويض ، ألحّ عليه روّاد العلم وطلّاب الحقيقة أن يغور في بحارها ، ويخوض في عبابها ، فلبّى دعوتهم ، وأجاب مسئولهم ، فأتى في بحوثه بأفكار أبكار ، وآراء ناضجة ، وطرح المسألة بشكل لم يسبق إليه سابق.

وقد اغتنمت الفرصة فأوردت ما أفاده في قالب التأليف ، وأفرزته عن سائر المسائل الأصولية لغزارة مطالبه وكثرة مباحثه ، وقد عرضته عليه (دام ظله) فاستحسنه وأسماه «لبّ الأثر في الجبر والقدر». وأرجو من الله سبحانه أن يكون مصباحا ينير الطريق لروّاد العلم وبغاة الفضيلة. (١)

قم

جعفر السبحاني

تحريرا في جمادى الأخرى

من شهور عام ١٣٧١ ه‍ ق

__________________

(١). وقد قدمته للطبع بعد مضي سبع وأربعين سنة من تاريخ تحريره ولم أتصرف فيه إلّا اليسير مما يرجع الى اصلاح العبارة وتبيين المقصود.

الفصل الأوّل

مقدمة البحث

وقد ذكر (دام ظله) قبل الخوض في المقصود أمورا نأتي بها واحدا تلو الآخر.

الأوّل : السير التاريخي للمسألة

إنّ مسألة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي شغلت بال الحكماء والفلاسفة منذ عصور قديمة ، وكانت مطروحة على بساط البحث بين حكماء الإغريق (١) إلى أن طلعت شمس الإسلام وبزغ نوره ، فتداولت المسألة بين حكماء الإسلام ومتكلّميه ، نجم عنها فيما بعد ، آراء ونظريات بين الإفراط والتفريط.

فمن ذاهب إلى الجبر وأنّ أفعال العباد مخلوقة لله تبارك وتعالى ، كخلق أجسامهم وطبائعهم ، وليس للعباد فيها صنع حتى قيل بعدم الفرق بين حركة يد الكاتب والمرتعش ؛ إلى آخر

__________________

(١). يطلق الإغريق ويراد منه ـ اليونان ـ والنسبة الإغريقي ، جمعه الأغارقة.

ذاهب إلى التفويض وأنّ أفعال العباد مفوّضة إليهم مخلوقة لهم ، لا صلة لها بالله سبحانه سوى انّه أقدر العبد على العمل ، وليس له تعالى إرادة ومشيئة متعلّقة بأفعالهم بل هي خارجة عن نطاق إرادته ومشيئته.

وقد أقام كلّ من الطائفتين دلائل وبراهين على مذهبه سوف نقوم باستقصائها إن شاء الله تعالى.

والمذهب الحق هو مذهب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من نفي الجبر والقدر (١) ، وأنّ الحقيقة في أفعال العباد هو الأخذ بالأمر بين الأمرين ، فلا جبر حتى تسلب المسئوليّة عن الإنسان ليكون بعث الأنبياء سدى ، وجهود علماء التربية وزعماء الإصلاح عبثا ، ولا تفويض حتى يقوّض أصل التوحيد في الخالقية ويؤلّه الإنسان ويكون خالقا ثانيا في مجال أفعاله ، يخرج بذلك بعض ما في الكون عن إطار إرادة الله ومشيئته.

الثاني : صفاته تعالى عين ذاته

اتّفق الحكماء والمتكلّمون على أنّ له سبحانه صفات جمال

__________________

(١). المراد من القدر هنا التفويض ، وقد استعمل القدر على لسان أئمة أهل الحديث في المفوضة ، وقد ذكرنا ما يفيدك حول هذا اللفظ في الجزء الأوّل من كتابنا بحوث في الملل والنحل. لاحظ ص ١١١ ـ ١١٧.

وكمال ، ويعبّر عنها بالصفات الجمالية والكمالية والثبوتية ، كالعلم والقدرة والحياة وغيرها ، ولكن اختلفوا في كيفية وصفه سبحانه بها ، وملاك الاختلاف هو :

إنّ بساطة الذات وعدم تركّبها عقلا وخارجا تأبى عن وصفها بأوصاف كثيرة في مرتبة الذات ، فإنّ حيثية العلم غير حيثية القدرة كما أنّهما غير حيثية الحياة ، فكيف يمكن أن يجتمع وصف الذات بالبساطة مع وصفها بالعلم والقدرة والحياة في مقام الذات؟

وقد تخلّصت كلّ من الأشاعرة والمعتزلة عن هذا المأزق بنحو خاص.

فذهبت الأشاعرة إلى أنّ هذه الصفات ليست صفات ذاتية وإنّما هي من لوازم الذات ، ففي مقام الذات لا علم ولا قدرة ولا حياة ، وإنّما تلازمها هذه الأوصاف دون أن يكون بينهما وحدة في الوجود والتحقّق.

ولمّا استلزم ذلك القول بوجود القدماء الثمانية المركبة من الذات والأوصاف الثبوتية السبعة ، ذهبت المعتزلة إلى نفي الصفات عنه تعالى بتاتا لا في مرتبة الذات ولا في مرتبة الفعل ،

بل قالوا إنّ ذاته نائبة مناب الصفات ، بمعنى أنّ خاصية العلم تترتّب على الذات دون أن يكون هناك علم وراءها ، كما أنّ أثر القدرة التي هي إتقان الفعل يترتّب على ذاته دون أن يكون هناك قدرة وراءها ، فما يتوقع من الصفات كالكشف في العلم وإتقان الفعل في القدرة يترتّب على ذاته من دون أن يكون لتلك الأوصاف وجود وتحقّق في مرتبتها ، وقد اشتهر عنهم قولهم : «خذ الغايات واترك المبادئ».

لنذكر شيئا حول النظريتين وإن كانتا خارجتين عن محطّ البحث.

أمّا الأشاعرة ، فقد حاولوا الحفاظ على بساطة الذات بإخراج الصفات الثبوتية عن حدّ الذات وجعلها في مرتبة تالية لازمة لها قديمة مثلها إلا أنّهم وقعوا في ورطة القول بالقدماء الثمانية ، فصار الإله الواحد تسعة آلهة ، وهو أشبه بالفرار من محذور إلى آخر أفسد منه.

أضف إليه أنّ لهذا القول مضاعفات نشير إلى اثنين منها :

١. لو كانت زائدة على الذات كانت مرتبة الذات خالية عنها وإلّا لكانت مرتبة الذات عين تلك السلوب لهذه الكمالات ،

والخلو إن كان موضوعه الماهية كان إمكانا ذاتيا ، لكن لا ماهية للواجب تعالى ، فموضوع ذلك الخلو وجود صرف هو حاق الواقع وعين الأعيان ، وإن كان موضوعه هو الإمكان الاستعدادي القائم بالمادّة ، والمادة لا بدلها من صورة والمركّب منهما جسم ، يلزم كونه سبحانه جسما تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. (١)

٢. ما اعتمد عليه سيدنا الأستاذ (دام ظله) وحاصل ما أفاد أنّ الوجود في أيّ مرتبة من المراتب فضلا عن المرتبة العليا لا ينفكّ عن الكمال ، أي العلم والشعور والقدرة والإرادة ، فكلّ مرتبة من مراتب الوجود ، تلازم مرتبة من مراتب الكمال ، فإذا كانت الذات في مرتبة تامّة من الوجود يستحيل انفكاك الكمال التام عنها.

برهانه : أنّ الكمالات المتصوّرة من العلم والإرادة والقدرة والحياة إمّا من آثار الوجود أو من آثار الماهية أو من آثار العدم ، ولا شك في بطلان الثالث ، فدار الأمر بين رجوعه إلى الماهية أو الوجود ، وحيث إنّ الماهية أمر اعتباري لا تتأصّل إلّا بالوجود ، فتنحصر الواقعية بالوجود.

__________________

(١). لاحظ تعليقة المحقق السبزواري على الأسفار : ٦ / ١٣٣.

وعلى صعيد آخر : إنّ الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة ، فكل مرتبة من مراتب الوجود غير خالية عن أصل الحقيقة (الوجود) وإنّما تختلف فيه شدّة وضعفا ؛ فيستنتج من هذين الأمرين :

١. أصالة الوجود واعتبارية الماهيات.

٢. أنّ الوجود حقيقة واحدة سارية في جميع المراتب.

عدم انفكاك الكمالات عن حقيقة الوجود في عامة المراتب خصوصا في المرتبة التامّة ، أعني : صرف الوجود وبحته. (١)

وبذلك يظهر وهن نظرية المعتزلة أيضا حيث أنكروا صفاته تعالى من رأس تخلّصا من ورطة القدماء الثمانية ، بيد أنّهم وقعوا في محذور آخر وهو : خلوّ الذات عن الصفات وقيامها مناب الصفات ، إذ يردها كلا الأمرين أيضا :

أ. إنّ موضوع الخلو إمّا الإمكان الماهوي أو الإمكان الاستعدادي.

ب. الوجود لا ينفك عن العلم وسائر الكمالات.

ثم إنّ المراد من عينية الصفات للذات ليس اتّحاد مفاهيمها

__________________

(١). ثمّة براهين أخرى لاتّحاد الصفات مع الذات ذكرها صدر المتألّهين في أسفاره : ٦ / ١٣٣ ـ ١٣٦.

مع الذات أو اتّحاد مفاهيم بعضها مع الآخر ، لأنّ المفاهيم من مقولة الماهيات وهي مثار الكثرة ، كما أنّ الوجود مدار الوحدة ، بل المراد وحدة واقعية هذه الصفات مع واقعية الذات ، وانّ الذات بوحدتها كافية في انتزاع هذه الصفات عنها وأنّها بصرافتها وخلوّها عن أيّ شيء غير الوجود ، كاف في الحكم عليها بالعلم والقدرة والحياة.

الثالث : الإرادة الذاتية لله سبحانه

اتّفق أهل الحديث على نفي الإرادة الذاتية وأنّ إرادته سبحانه هي إحداثه وإيجاده تمسّكا بالروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

ولكن سلب الإرادة الذاتية عنه سبحانه يستلزم خلوّ الذات عن الكمال المطلق للموجود بما هو موجود ، وتصوّر ما هو أكمل منه ژ تعالى ، لأنّ الفاعل المريد ، أفضل وأكمل من الفاعل غير المريد ، فيكون سبحانه كالفواعل الطبيعية غير المريدة التي تعد من مبادئ الآثار.

وأمّا موقف الروايات التي رويت عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، فالإمعان فيها يعرب عن أنّها بصدد نفي الإرادة الحادثة

المتدرّجة عنه سبحانه.

روى صفوان بن يحيى قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق؟ فقال : «الإرادة من الخلق : الضمير ، وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهمّ ولا يتفكّر ، وهذه الصفات منفيّة عنه وهي صفات الخلق ، فإرادة الله : الفعل لا غير ذلك ، يقول له كن فيكون بلا لفظ ، ولا نطق بلسان ، ولا همّة ولا تفكّر ولا كيف لذلك ، كما أنّه لا كيف له» (١).

ترى أنّ الراوي يسأل الإمام عن واقع الإرادة في الواجب والممكن ، فبما أنّ واقعها في الممكن هي الإرادة الحادثة ، فنفاها الإمام عن الله سبحانه وفسّرها بالإحداث والإيجاد ، فلو أثبّت الإمام في هذا المجال إرادة ذاتية له سبحانه مقام الذات ، لأوهم ذلك إنّ أرادتها كإرادة الإنسان الحادثة ، مثلا إنّه سبحانه كالإنسان يروّي ويهمّ ويتفكّر ، فمثل هذه الرواية وأضرابها ليست بصدد نفي الإرادة الذاتية بتاتا ، بل بصدد نفي الإرادة الحادثة ـ كالإرادة البشرية ـ في مقام الذات.

__________________

(١). الكافي : ١ / ١٠٩ ، باب الإرادة أنّها من صفات الفعل.

شبهة نفاة الإرادة الذاتيّة

ثم إنّ نفاة الإرادة في ذاته سبحانه تمسّكوا ببرهان عقلي مفاده أنّ القائلين بالإرادة الذاتية لله سبحانه يفسّرونها بعلمه المحيط ، ولكن إرادته لا تصحّ أن تكون عين علمه ، لأنّه يعلم كلّ شيء ولا يريد كل شيء ، إذ لا يريد شرا ولا ظلما ولا كفرا ولا شيئا من القبائح والآثام ، فعلمه متعلّق بكل شيء وإرادته ليست كذلك ، فعلمه عين ذاته ، أمّا إرادته فهي صفة زائدة على ذاته.

فهذه شبهة قد احتجّ بها بعض مشايخنا الإمامية (رضوان الله عليهم) على إثبات أنّ الإرادة زائدة على ذاته تعالى.

وقد أجاب عنها صدر المتألّهين وأوضحها سيدنا الأستاذ بما حاصله :

إنّ في القبائح والآثام كالشرّ والظلم والكفر جهتين : جهة وجود ، وجهة عدم ؛ وإن شئت قلت : جهة كمال وجهة نقص ؛

وإرادته كعلمه يتعلّق بجهة الوجود والكمال ، ويستحيل أن يتعلّق بجهة العدم والنقص ، فذاته سبحانه كشف تام عن الجهة الأولى وهي أيضا مراده ، ويستحيل أن تكون ذاته كشفا تامّا عن العدم والنقص ، فإنّ الأعدام والنقائص ليست بشيء ، لأنها بطلان محض.

وبعبارة أخرى : إنّ العلم يكشف عن المعلوم بما هو موجود ولا يكشف عن الأعدام وما في وزانها من النقائص والشرور ، بل يكون كشفه عنها بالتبعيّة والعرض ، فصرف الوجود ـ الذي هو كل الأشياء ، وبسيط الحقيقة التي بوحدتها وبساطتها جامعة لكلّ الأشياء ـ إنّما يكشف في مقام الذات عن الأشياء والموجودات دون الأعدام والنقائص المحضة ، وقد ثبت في محلّه أنّ واقع القبائح من الشرّ والظلم والكفر ، عدم وبطلان محض ، فلا يتعلّق بها العلم ولا الإرادة إلّا تبعا وعرضا.

أقول : قد أشار إلى هذا الجواب صدر المتألّهين ، وقال : إنّ فيض وجوده يتعلّق بكل ما يعلمه خيرا في نظام الوجود ، فليس في العالم الإمكاني شيء مناف لذاته ولا لعلمه الذي هو عين ذاته ولا أمر غير مرضيّ به ، فذاته بذاته كما أنّها علم تام بكل خير موجود ، فهي أيضا إرادة ورضاء لكل خير ، إلّا أنّ أصناف الخير

متفاوته وجميعها مرادة له ـ إلى أن قال : ـ فالخيرات كلّها مرادة بالذات ، والشرور القليلة اللازمة للخيرات الكثيرة أيضا إنّما يريدها بما هي لوازم تلك الخيرات لا بما هي شرور ، فالشرور الطفيفة النادرة داخلة في قضاء الله بالعرض ، وهي مرضيّ بها كذلك ، فقوله تعالى: (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (١) وما يجري مجراها من الآيات معناه أنّ الكفر وغيره من القبائح غير مرضى بها له في أنفسها وبما هي شرور ولا ينافي ذلك كونها مرضيا بها بالتبعية والاستجرار. (٢)

فتلخّص من ذلك : أنّ علمه تعالى إنّما يتعلّق بالموجود بما هو موجود الذي يساوق الخير والكمال ، فلا بدّ أن يكون كشفه عن نقيضه الموسوم بالعدم والشرّ بالتبع والعرض فيكون وزان العلم وزان الإرادة ، وبالعكس يتعلّق كل بما يتعلق به الآخر بالذات وبالعرض.

إلى هنا تبيّن أنّ الشبهة غير مجدية في سلب الإرادة عن مقام الذات.

نعم لا نشاطر القوم الرأي في إرجاع الإرادة إلى العلم بالمصالح ، وذلك لأنّ أصل الإرادة كمال ، وإرجاعه إلى العلم

__________________

(١). الزمر / ٧.

(٢). الأسفار : ٦ / ٣٤٣ ـ ٣٤٥.

الذي هو من مقولة الكيف ، يستلزم سلب كمال عن ذاته وتصوّر أكمل منه.

وبه يظهر عدم تمامية القولين في باب الإرادة :

أ ـ إرجاع إرادته إلى الفعل والإحداث ، كما عليه أهل الحديث.

ب ـ إرجاع إرادته إلى العلم بالمصالح.

فإنّ القولين يشتركان في سلب كمال عنه.

وأمّا ما هي حقيقة إرادته ، فهذا خارج عن موضوع البحث موكول إلى أبحاث عليا.

الرابع : في كلامه سبحانه

اتّفق المسلمون تبعا للذكر الحكيم على كونه سبحانه متكلّما ، قال سبحانه : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (١) وقال سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢).

ولكنّهم اختلفوا في تفسير كلامه.

فذهبت المعتزلة والإمامية إلى أنّه من صفات الفعل وأنّ

__________________

(١). النساء / ١٦٤.

(٢). الشورى / ٥١.

كلامه هو فعله ، واستشهدوا عليه ببعض الآيات والروايات ، قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يخبر لا بلسان ولهوات ، ويسمع لا بخروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة ، يقول لمن أراد كونه كن فيكون ، لا بصوت يقرع ولا بنداء يسمع ، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ومثّله ، ولم يكن من قبل ذلك كائنا ، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا» (٢).

وما ورد عنه عليه‌السلام يبيّن نوعا من كلامه والنوع الاخر منه ايجاد الكلام في الشجر والجبل.

وحاصل تلك النظرية أنّ وصفه سبحانه بكونه متكلّما ، بمعنى قيام الكلام به قياما صدوريا لا حلوليا ، كما أنّ إطلاقه علينا كذلك ، إلّا أنّ الفرق أنّ إيجادنا بالآلة دونه تعالى ، فالله سبحانه يخلق الحروف والكلمات في الحجر والشجر أو نفوس الأنبياء بلا آلة فيصحّ وصفه بالتكلّم.

__________________

(١). لقمان / ٢٧.

(٢). نهج البلاغة ، الخطبة ١٨١ ، ج ٢ / ١٤٦ ، ط عبده.

أقول : الكلام في وصفه سبحانه بفعل يصلح ان يصدر عنه بلا توسّط شيء ، ومن الواضح أنّ العقل دلّ على امتناع وصفه سبحانه بهذا الملاك ، فإنّ الكلام أمر حادث متدرّج متصرّم ، والتصرّم والتجدّد نفس ذاته ، وجلّ جنابه أن يكون مصدرا لهذا النوع من الحدث بلا واسطة ، لأنّ سبب الحادث حادث كما برهن عليه في الفن الأعلى في مسألة ربط الحادث بالقديم ، فكيف تكون ذاته القديمة البسيطة الثابتة مبدأ لموجود حادث متصرّم متجدّد؟!

وبذلك يظهر أنّه لا يصح وصفه بالتكلم بهذا الملاك ، لأنّ الكلام في وصفه سبحانه بما يصحّ صدوره عنه بلا توسيط ، والمتجدّد بما هو متجدّد لا يصحّ صدوره عنه بلا واسطة.

نعم يمكن إيجاد الكلام المتصرّم في الشجر والحجر والنفس النبويّة لكنّه بحاجة إلى توسّط شيء آخر كما هو الحال في صدور كافة الموجودات الطبيعية التي جوهرها التصرّم والتجدّد. (١)

__________________

(١). يلاحظ عليه : أنّه لو تمّ ما ذكره (دام ظله) يلزم عدم صحة وصفه بالخالق والمبدع والمحيي والرزّاق والرحيم والغافر مع أنّها من أسمائه سبحانه وصفاته في الذكر الحكيم والأحاديث والأدعية ، ويمكن دفع الإشكال بأنّ حمل كل صفة منتزعة من فعله عليه سبحانه لأجل خصوصية موجودة في ذاته التي تصحّح صدور هذه (الأفعال عنها ، فالفاعل باشتماله على تلك الخصوصية يصحّ حمل كل ما يصدر عنه ، عليه ووصفه بها سواء كان الصدور بلا واسطة كالعقول ، أو مع الواسطة كخلق السموات والأرض وإبداعها وإنشائها.

ومن هذا القبيل إيجاده الكلام في الجبل والشجر والنفس النبويّة.

وأمّا ما هو معنى نزول الوحي وإنزال الكتب على الأنبياء والمرسلين ، فهو من العلوم البرهانية التي قلّما يتّفق لبشر أن يكشف مغزاها؟ فالبحث عنه متروك لأهله ومحلّه.

إذا وقفت على عقيدة المعتزلة في نفي الكلام عنه سبحانه ، فحان حين البحث عمّا عليه الأشاعرة.

نظرية الأشاعرة في تكلّمه سبحانه

ذهبت الأشاعرة إلى أنّ التكلّم من صفات الذات لا من صفات الفعل ، وفسّروا كلامه بالكلام النفسي وبالمعنى القائم بذاته في الأزل.

الكلام النفسي عندهم غير العلم في الأخبار ، وغير الإرادة والكراهة في الإنشاء. ففي الجمل الخبرية مثل قولك : زيد قائم ، أمور ثلاثة :

أ ـ الكلام اللفظي.

ب ـ المدلول اللفظي (من التصوّر والتصديق).

ج ـ الكلام النفسي.

وفي مثل الإنشائيات كقولك : كل ، أو لا تشرب الخمر ، أمور ثلاثة :

أ ـ الكلام اللفظي.

ب ـ المدلول اللفظي (الإرادة والكراهة).

ج ـ الكلام النفسي.

والحاصل أنّهم اعتقدوا أنّ في جميع الموارد معنى قائما بالنفس غير المدلول ، من دون فرق بين الجمل الخبرية أو الإنشائية ، وأطلقوا عليه : الكلام النفسي ، بيد أنّهم خصّصوا باب الأوامر باسم خاص وأسموه : الطلب ، فالإرادة مدلول لفظي والطلب كلام نفسي ، وبذلك ذهبوا إلى مغايرة الإرادة والطلب.

ومن هنا ظهر منشأ عنوان هذه المسألة أي وحدة الإرادة والطلب أو مغايرتهما ، فإنّها نتيجة القول بالكلام النفسي المغاير للمدلول اللفظي في الإخبار (التصديق) والإنشاء (الإرادة والكراهة).

ثم إنّهم عجزوا عن تفسير الكلام النفسي على وجه يجعله مغايرا للعلم في الإخبار والإرادة والكراهة في الإنشاء ، ومع ذلك أصرّوا على وجود ذلك الأمر في كل متكلّم من غير فرق بين الواجب والممكن ، إلّا أنّه في الواجب قديم وفي الممكن حادث.

وقد استدلّوا على ذلك بوجوه :

أدلّة الأشاعرة على وجود الكلام النفسي :

إنّ الإنسان قد يأمر بما لا يريده كامتحان عبده وإنّه هل يطيعه أو لا؟ فالمقصود هو الاختبار فحسب ، فثمة طلب دون إرادة. (١)

وبعبارة أخرى : إنّ صدور الأوامر الامتحانية يتوقّف على وجود مبدأ في النفس تترشّح منه ، وبما أنّه ليس هناك مبدأ باسم الإرادة ، فلا يصلح له إلّا الطلب القائم بالنفس ، وهو الكلام النفسي في مورد الإنشاء.

والجواب : أنّ البحث عن حقيقة الإرادة ومبدئها موكول إلى الفن الأعلى ، والذي يناسب ذكره في المقام هو ما يلي :

إنّ كل فعل اختياري ، مسبوق بالتصوّر ثم التصديق بفائدة وغاية ، إذ لا يتصوّر صدور الفعل بلا غاية ، كيف ، وهي من العلل

__________________

(١). شرح المواقف : ٢ / ٤٩.

الأربعة : وربما يتمسّك في نفيها بالأفعال العبثية ، ولكنّه استدلال باطل ، لأنّ المنتفي فيها هو الغايات العقلائية ، لا الغايات المسانخة للأفعال الجزافية.

فإذا حصل التصديق بفائدة الفعل فتارة تجدها النفس ملائمة لطبعها فتشتاق إليه لأجل الفائدة وكثرة الحاجة ، يعقبها تجمّع (١) وتصميم من قبل النفس فتحرك الأعضاء نحو الفعل.

وأمّا إذا لم تجده النفس ملائما لطبعها فلا تتحرك نحوه ، لكن لو حكم العقل بصلاح الفعل فتعزم بلا اشتياق ، كشرب الدواء المرّ ، أو قطع اليد الفاسدة.

وبهذا يعلم أنّ الشوق ليس من مبادئ الاختيار والإرادة ، على وجه الاطلاق فالأوامر الصوريّة والحقيقية بما أنّها من الأفعال الاختيارية رهن سبق أمور منها :

التصور والتصديق بالفائدة والشوق ، والتصميم والجزم ، فالبعث ، غير أنّهما يختلفان في الغاية.

توضيحه : أنّه لا فرق بين الأوامر الامتحانية في أنّ الهيئة في كلا الموردين مستعملة في البعث نحو الشيء وإنّما الاختلاف

__________________

(١). الجمع بمعنى العزم ، والتجمّع الحالة الخاصة في النفس يستتبعه تحريك العضلات لا محالة.

في الغاية ، فهي في الأولى عبارة عن تحصيل ما يترتّب على وجود الفعل من فوائد وعوائد ، ولكنّها في الثانية تحصيل العلم بحال العبد من خير وصلاح أو شرّ وفساد ، والاختلاف في الغاية لا يكون منشأ للاختلاف في استعمال الهيئة ومدلولها.

وأمّا الإرادة فإن أراد الأشعري من انتفائها في الأمر الامتحاني عدم تعلّقها بوقوع الفعل خارجا ، فهو أمر مسلّم ، من غير فرق بين الأوامر الصورية والأوامر الحقيقية ، فإنّه يمتنع تعلّق الإرادة على فعل الغير بما هو خارج عن سلطان المريد.

وإن أراد انتفاء تعلّق الإرادة بالبعث الذي يستفاد من التلفظ بلفظ الأمر ، فلا نسلّم انتفاءها ، وذلك لأنّ البعث فعل اختياري فلا بد أن تسبقه الإرادة بمبادئها.

وحصيلة الكلام أنّه لو أراد من انتفاء الإرادة ، الإرادة المتعلّقة بفعل الغير ، فهي منتفية في كلا القسمين ، لأنّ إرادة الإنسان لا تتعلّق إلّا بفعل نفسه لا بفعل الغير ، لأنّه خارج عن سلطانه.

وإن أراد من انتفائها ، الإرادة المتعلّقة بالبعث والزجر اللّذين يعدّان من فعل الفاعل ، فالإرادة موجودة في كلا المقامين ، كيف! والبعث والزجر فعلان اختياريان يوصفان به ، ولا يصحّ

الوصف إلّا بمسبوقيتهما بالإرادة.

ثم إن المحقق الخراساني أجاب عن الإشكال ـ وقسّم الإرادة والطلب ـ بعد الحكم بوحدتهما ـ إلى قسمين : حقيقية وإنشائية ، فقال بوجودهما حقيقة في الأوامر الحقيقية ، وبعد مهما حقيقة في الأوامر الاختبارية ، وبوجودهما فيهما إنشاء.

وقد أشار إلى هذا الجواب بقوله «فإنّه كما لا إرادة حقيقة في الصورتين (صورتي الاختبار والاعتذار) لا طلب كذلك فيهما ، والذي يكون فيهما إنّما هو الطلب الإنشائي الايقاعي الذي هو مدلول الصيغة أو المادة (١).

يلاحظ عليه بأمرين : الأوّل : أنّ الإرادة من الأمور التكوينية الحقيقية ، ولا تقع مثل هذه الأمور في إطار الإنشاء ، وإنّما يتعلّق الإنشاء بالأمور الاعتبارية ، فتقسيم الإرادة إلى حقيقية وإنشائية ليس بتام.

الثاني : قد عرفت وجود الإرادة الحقيقية في الصورتين ، وهو تعلّقها حقيقة بالبعث والطلب ، وإن لم تتعلّق بنفس الفعل الخارجي ، الذي هو خارج عن سلطان الأمر.

__________________

(١). كفاية الأصول ، ١ / ٩٦.

إكمال :

ما ذكرنا من أنّ تعلّق الإرادة بشيء فرع وجود الغاية فيه ، لا يهدف إلى لزوم وجود غاية زائدة على الذات مطلقا بل أعم منها ومن غيرها ، فالغاية في المريد الممكن هي التي تناسب مقام الفعل ومرتبته فهي زائدة عليها ، وإنّما ارادته سبحانه تعلّقت بإيجاد الأشياء أو ببعث الناس إلى أفعال خاصة ، فالغاية هي ذاته لا شيء خارج عنها ، لما حقّق في محلّه من أنّ العلّة الغائية ، هي ما تقتضي فاعلية الفاعل ، وتؤثر فيه وتخرجه عن مرحلة القوة إلى مرحلة الفعل ، على وجه لو لا الغاية لما كانت مصدرا للفعل.

والغاية بهذا المعنى تستحيل على الله سبحانه ، بأن يريد إيجاد شيء أو بعث الناس نحو شيء لغاية خارجة عن ذاته مكمّلة لها في مقام الإيجاد والإنشاء ، لأنّ كل فاعل يفعل لغرض غير ذاته ، فهو فقير مستفيض محتاج إلى ما يستكمل به ، وهو يناسب الفقر والإمكان ، لا الغنى والوجوب.

أضف إليه أنّه لو كان لفعله سبحانه في مجال التكوين والتشريع غاية وراء ذاته لزم تأثيرها فيها ، وهو يلازم كون الذات حاملة للإمكان الاستعدادي ، فيخرج بحصول الغاية عن مرحلة الاستعداد إلى مرحلة الفعلية ، فيكون مركّبا من مادة

وصورة ، وهو يلازم التركيب والتجسيم والجهة ، إلى غير ذلك من النواقص.

الدليل الثاني للأشاعرة :

استدلّت الأشاعرة على تغاير الطلب والإرادة ـ لغاية إثبات الكلام النفسي في الإنشاءات ـ بأنّ العصاة كافرين كانوا أم مسلمين ، مكلّفون بما كلّف به أهل الإيمان ، لأنّ استحقاق العقاب فرع وجود التكليف ، ومن المعلوم أنّ التكليف الحقيقي فرع وجود مبدأ مثبت له ، وعندئذ يقع الكلام فيما هو المبدأ للتكليف ، أهي الإرادة أم الطلب.

فإن قيل بالأوّل ، يلزم تفكيك مراده سبحانه عن إرادته ، وهو محال ، وإن قيل بالثاني فهو المطلوب. فثبت أنّ وراء الإنشائيات أمرا نفسانيا باسم الطلب غير الإرادة وهو المصحّح لتكليف العصاة.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني بالتفريق بين الإرادة التكوينية والإرادة التشريعية ، بأنّ امتناع التفكيك يختصّ بالأولى دون الثانية.

يلاحظ عليه : بما ذكرنا من أنّ الإرادة من الأمور التكوينية ،

ولها حكم واحد ، فإن كان التفكيك ممتنعا ، فلا فرق حينئذ بين التكوينية والتشريعية ، وإلّا فيجوز في كلا الموردين.

والجواب : أنّ الإرادة في جميع المصاديق غير منفكّة عن المراد ، غير أنّه يجب تمييز المراد عن غيره ، ففي غير مقام البعث تتعلق إرادته سبحانه بالإيجاد والتكوين فلا شك أنّ تعلّقها به يلازم تحقّق المراد ، قال سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وأمّا في مقام البعث فتتعلّق إرادته بنفس البعث والطلب وهو أمر متحقّق لا ينفك عنه ، وقد تقدم أنّ إرادة الفاعل لا تتعلّق إلّا بفعل نفسه لا بفعل غيره ، لأنّ فعل الغير خارج عن سلطانه فكيف تتعلّق به؟

هذه بعض ما استدلّ به الأشاعرة على مغايرة الطلب والإرادة ، ولهم أدلّة أخرى ، فمن أراد فليرجع إلى كتبهم الكلامية. (٢)

هذا بعض الكلام حول اتّحاد الطلب والإرادة استعرضناه

__________________

(١). يس / ٨٢.

(٢). لاحظ شرح المواقف للسيد الشريف على مواقف العضدي ، شرح القوشجي على تجريد المحقق الطوسي ، وقد أوضحنا حال أدلّتهم في الإلهيات : ١ / ١٩٧ ـ ٢٠٤.

ليكون مقدمة لمسألة الجبر والتفويض.

إذا عرفت هذه الامور الاربعة التي ذكرناها تحت عنوان المقدمة ، اعلم ان لكلّ من الجبر والتفويض مباني مختلفة وهذا هو الذي سنتناوله في الفصل اللاحق :

الفصل الثاني

مباني

الجبر والتفويض

وابطالهما

ربما يغترّ الإنسان ويزعم أنّ اختلاف المنهجين يختصّ بفعل الإنسان وعمله ، وأنّ الأشعري يسند جميع أفعال الإنسان إلى الله سبحانه دون الفاعل ، والمعتزلي ينسبه إلى نفس الفاعل الاختياري دون الله سبحانه ، ولكن التحقيق أنّ كلا القولين مبنيان على منهجين مختلفين في عامة العلل.

فالأشعري لا يعترف بمؤثر في دار الوجود غيره سبحانه ، ويعتقد بأنّه المؤثّر التام وليس لغيره من العلل أيّ دور فيه ، وعلى ذلك ينسب شروق الشمس ونور القمر وبرودة الماء وإحراق النار إلى الله سبحانه وأنّه جرت عادته على خلق الآثار بعد خلق موضوعاتها ولا صلة بينها وبين آثارها لا استقلالا ولا تبعا.

وعلى ذلك المنهج أنكر قانون العلّية والمعلولية في عالم

الإمكان واعترف بعلّة واحدة ، وهو الله سبحانه ، حتى صرّحوا بأنّ استنتاج الأقيسة من باب العادة والاتفاق ، فإذا قال القائل : الإنسان حيوان وكل حيوان جسم ، فلا ينتج قولنا كل إنسان جسم إلّا بسبب جريان عادته سبحانه على حصول النتيجة عند حصول المقدّمات فلولاها لما أنتج.

وفي مقابل هذا المنهج منهج المفوّضة ، الذين هم على جانب النقيض من عقيدة الأشاعرة حيث اعترفوا بقانون العليّة والمعلولية بين الأشياء لكن على نحو التفويض ، بمعنى أنّه سبحانه خلق الأشياء وفوّض تأثيرها إلى نفسها من دون أن يكون له سبحانه دور في تأثير العلل والأسباب.

وبعبارة أخرى : هذه الموضوعات والعلل الظاهرية ، مستقلّات في الايجاد غير مستندات في تأثيرها إلى مبدأ آخر ، والله سبحانه بعد ما خلقها وأفاض الوجود عليها انتهت ربوبيته بالنسبة إلى الأشياء ، فهي بنفسها مديرة مدبرة مؤثّرة.

إنّ الأشعري إنّما ذهب إلى ما ذهب ، لحفظ أصل توحيديّ هو التوحيد في الخالقية ، فبما أنّه لا خالق إلّا الله سبحانه لذا استنتج منه أنّه لا مؤثر اصلّيا ولا ظلّيا ولا تبعيا إلّا هو.

ولكن المعتزلي أخذ بمبدإ العدل في الله سبحانه ، وزعم أنّ إسناد أفعال العباد إلى الله سبحانه ينافي عدله وحكمته ، فحكم بانقطاع الصلة وأنّ الموجودات مفوّض إليها في مقام العمل.

فالمنهج الأوّل ينتج الجبر والثاني ينتج التفويض ، والحق بطلان كلا المنهجين. وأليك ابطال منهج التفويض أوّلا ، ثم منهج الجبر ثانيا.

إبطال التفويض :

إنّ نظرية التفويض ، عبارة عن أنّ كلّ ظاهرة طبيعية بل كل موجود إمكاني سواء أكان ماديا أم غيره محتاج في وجوده وتحقّقه إلى الواجب دون أفعاله وتأثيره في معاليله ، بل هو في مقام التأثير مستغن عن الواجب ومستقلّ في التأثير.

أقول : هذه هي نظرية التفويض على وجه الإيجاز وهي مردودة لوجهين :

الأوّل : إنّه من المقرر في محلّه «أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» والمراد من الوجوب هو انسداد جميع أبواب العدم على وجهه بحيث يكون أحد النقيضين (العدم) ممتنعا والنقيض الآخر واجبا. فما لم يصل المعلول إلى هذا الحدّ ، لا يرى نور الوجود ، كما لو افترضنا أنّ علة الشيء مركبة من أجزاء خمسة ، فوجود المعلول رهن وجود جميع هذه الأجزاء، كما

أنّ عدمه رهن فقدان واحد منها وإن وجدت سائر الأجزاء ، ففقدان كلّ جزء مع وجود سائر الأجزاء بفتح الطريق أمام طروء العدم إلى المعلول فلا يوجد إلّا بسدّ جميع الأعدام الخمسة الطارئة على الشيء ، وهذا ما يقال : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ استقلال الشيء في الفاعلية والإيجاد إنّما يصحّ إذا كان سدّ جميع أبواب العدم الطارئة على المعلول ، مستندا إلى نفس الشيء وإلّا فلا يستقل ذلك الشيء في التأثير ، وليس المقام من هذا القبيل لانّه لا يستند سدّ جميع ابواب العدم إلى الفاعل وذلك لانّ منها انعدام المعلول بانعدام الفاعل وسدّ طروء هذا العدم على المعلول مستند إلى الله سبحانه لانّه قائم به ، فهو محتاج إليه حدوثا وبقاء ، ومع عدم استناد بعض أجزاء العلّة إلى نفسها كيف يكون في مقام التأثير مستقلا؟

والحاصل : أنّه لو قلنا باستقلاله في الإيجاد ، فلازمه أن يكون مستقلّا في الوجود وهو عين انقلاب الممكن إلى الواجب.

وربّما يتصوّر أنّ الفاعل بعد الوجود مستغن عن الله سبحانه فيكون مستقلّا في الفعل ، تشبيها له سبحانه بالبنّاء وفعله ، فكما

أنّ البناء مستغن عن البنّاء بعد الإيجاد فكذلك الإنسان مستغن عن الله بعد التكوين ، ولكن التشبيه باطل فإنّ البنّاء علّة لحركات يده ورجله وأمّا صورة البناء وبقائها ، فهي مستندة إلى القوى الماديّة الموجودة في المواد الأساسية التي تشكّل التماسك والارتباط الوثيق بين أجزائه ، فيبقى البناء بعد موت البنّاء ، فليس البنّاء علّة لصورة البناء ولا لبقائه ، بل الصورة مستندة إلى نفس الأجزاء المتصوّرة المتآلفة على الوضع الهندسي الخاص ، كما أنّ البقاء مستند إلى القوى الطبيعية التي توجد التماسك والارتباط بين الأجزاء على وجه يعاضد بعضها بعضا ، فيبقى ما دامت القوى كذلك.

الثاني : إنّ الفاعل الإلهي غير الفاعل الطبيعي وتفسيرهما بمعنى واحد ، ليس على صواب.

أمّا الأوّل ، فهو مفيض الوجود وواهب الصور الجوهرية من كتم العدم ، ومثله الأعلى هو الواجب ثم المجرّدات النورية من العقول والنفوس حتى نفس الإنسان بالنسبة إلى أفعاله في صقعها.

وأمّا الثاني ، فهو المعد ومهيّئ الشيء لإفاضة الصورة عليه ، فالأب فاعل مادّي وطبيعي يقوم بإلقاء النطفة في رحم الأم ،

وبعمله هذا يقرب الممكن من طروء الصور النوعيّة عليه حتى تتحرك من مرحلة إلى أخرى ، إلى أن تصلح لأن تفاض عليها الصورة الإنسانية المجرّدة.

إنّ عدم التمييز بين الفاعلين انجرّ إلى الوقوع في أخطاء فادحة ، فالمادّي بما أنّه لا يؤمن بعالم الغيب ، يرى الفواعل الطبيعية كافية لخلق الصور الجوهرية الطارئة على المادة ، ولكنّه لم يفرّق بين واهب الصور ، ومعدّ المادة ، وقس على ذلك سائر العلل الطبيعية.

إذا علمت ذلك فنقول : إنّ المجعول في دار الإمكان هو الوجود وهو أثر جعل الجاعل وهو متدل بالفاعل بتمام هويته ، وحيثيته ، بحيث لا يملك واقعية سوى التعلّق والربط بموجده ، وليس له شأن سوى الحاجة والفقر والتعلّق ، على نحو يكون الفقر عين ذاته والتدلّي عين حقيقته ، لا أمرا زائدا على ذاته ، وإلّا يلزم أن يكون في حدّ ذاته غنيّا ، ثم صار محتاجا وهو عين الانقلاب الباطل بالضرورة إذ كيف يتصوّر أن ينقلب الغنيّ بالذات إلى الفقير بالعرض.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الإنسان مخلوق لله ومعلول له فقير في حدّ ذاته وكيانه ، وما هذا شأنه لا يستغني في شئونه وأفعاله

عن الواجب سبحانه ، إذ لو استغنى في مقام الخلق والإيجاد يلزم انقلاب الفقير بالذات إلى الغني بالذات ، لأنّ الفقير ذاتا فقير فعلا ، والمتدلّي وجودا متدلّ صدورا.

وإن شئت قلت : إنّ الإيجاد فرع الوجود ولا يعقل أشرفية الفعل من الفاعل ، فلو كان مستقلّا في الإيجاد لصار مستقلّا في الوجود ، فالقول بأنّ ممكن الوجود مستقلّ في فعله ، يستلزم انقلاب الممكن بالذات إلى الواجب بالذات وهو محال ، قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١).

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ* ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢).

فتلخّص من هذين البرهانين بطلان القول بالتفويض. ومادة البرهان في الأوّل غيرها في الثاني.

فإنّ الأوّل ، يعتمد على أنّ المعلول لا يوجد إلّا بعد الإيجاب وليس الإيجاب شأن الممكن ، لأنّ من طرق تطرّق العدم إلى الممكن هو عدم الفاعل وليس سدّ هذا العدم بيد الفاعل.

__________________

(١). فاطر / ١٥.

(٢). الحج / ٧٣ ـ ٧٤.

وأمّا الثاني ، فيعتمد على أنّ ما سوى الله فقير في ذاته قائم به قيام الربط بذيه والمعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، والفقر ذاته والحاجة كيانه ، وما كان كذلك لا يمكن أن يكون مستقلّا في مقام الإيجاد وإلّا يلزم انقلاب الممكن إلى الواجب ، وهو باطل بالضرورة.

الكلام في إبطال الجبر

قد تبيّن بطلان التفويض ، وحان حين البحث في إبطال الجبر.

البرهان الأوّل لا بطال الجبر

وهذا البرهان يتألّف من عدة مقدّمات هي كالتالي :

١. أصالة الوجود

إنّ الأصل في التحقّق هو الوجود دون الماهية ، لأنّ الوجود بما هو هو يأبى عن العدم ، بخلاف الماهية فإنّ حيثيتها حيثية عدم الإباء عن الوجود والعدم ، فاذا كان هذا حالهما فكيف يمكن أن يكون الأصيل هو الماهيّة؟

وإن شئت قلت : اتّفق الحكماء على أنّ الأصل في الواجب هو الوجود ، ولكنّهم اختلفوا فيما هو الأصل في غير الواجب ،

فهل المجعول والصادر منه ، هو الوجود أو الحدود القائمة به ، فالإنسان الخارجي يتركّب عقلا من وجود وحدّ له ، وهو أنّه حيوان ناطق ، فهل الصادر هو الوجود ، والماهية من لوازم مرتبته ، أو المجعول هي الحدود بمعنى إفاضة العينية لها ثم ينتزع منه الوجود والتحقّق؟

والتحقيق هو الأوّل ، لأنّ الحدود قبل التحقّق ، والوجود أمور عدمية ليس لها أيّ شأن ، وإنّما تكون ذات شأن بعد إفاضة الوجود عليها ، فحينئذ يكون الوجود هو الأولى ؛ بالأصالة.

وبعبارة أخرى : إفاضة الوجود على ترتيب الأسباب والمسبّبات تلازم اقتران الوجود مع حدّ من الحدود الجسمية أو المعدنية أو النباتية أو الحيوانية أو الإنسانية ، فالحدود مجعولة بالعرض ضمن جعل الوجود.

٢. بساطة الوجود

الوجود بما هو وجود بسيط بحت في جميع مراتبه وتجلّياته ، فلا حدّ ولا فصل له حتى يكون له أجزاء حدّية ، فلا يمكن تحديده بالأجزاء الحملية حتى يكون له أجزاء عقلية ، ولا بالمادة والصورة حتى يتألّف من الأجزاء العينية. وقد

برهنوا على البساطة بما هذا حاصله : لو كان الوجود مؤلّفا من جنس وفصل لكان جنسه إمّا حقيقة الوجود ، أو ماهية أخرى معروضة للوجود ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون الفصل مفيدا لمعنى ذات الجنس فكان الفصل المقسم مقوما وهذا خلف.

وعلى الثاني : يكون حقيقة الوجود إمّا الفصل أو شيئا آخر.

وعلى كلا التقديرين يلزم خرق الفرض (١) كما لا يخفى ، لأنّ الطبائع المحمولة متحدة بحسب الوجود مختلفة بحسب المعنى والمفهوم ، والأمر هنا ليس كذلك. (٢)

وقد أقاموا براهين على البساطة طوينا الكلام عنها.

٣. وحدة حقيقة الوجود

إنّ الوجود في الواجب والممكن في عامة مراتبه ، ليس حقائق متباينة مختلفة بحيث لا جهة اشتراك بينهما وإن أصرّ عليه المشّاءون ، بل هو حقيقة واحدة يعبّر عنها بالإباء عن العدم وطارديته له ، وعلى ذلك فالوجود في عامة تجلّياته حقيقة واحدة ذات مراتب مشكّكة بالشدة والضعف والتقدّم والتأخّر.

__________________

(١). وهو لزوم كون ما به الاتّحاد عين ما به الاختلاف.

(٢). الأسفار : ١ / ٥٠.

وبرهانه :

هو امتناع انتزاع مفهوم واحد من أشياء متخالفة بما هي متخالفة من دون جهة وحدة بينها وإلّا لزم أن يكون الواحد كثيرا ، لأنّ المحكي بالمفهوم الواحد هي هذه الكثرات المتكثّرة من دون وجود وجه اشتراك بينها ، فكيف يكون الحاكي واحدا والمحكي متكثّرا؟

ثم إنّ لازم كون الوجود بسيطا وله حقيقة واحدة ، هو أن يكون الشدة والضعف عين تلك المرتبة لا شيئا زائدا عليها ، فالوجود الشديد هو الوجود ، لا المركّب من الوجود وشدته ، كما أنّ الوجود الضعيف نفس الوجود لا أنّه مركّب من وجود وضعف.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّه إذا كانت حقيقة الوجود في كلّ مرتبة هو أن تكون المرتبة نفس حقيقته لا شيئا عارضا عليه ، وعليه يكون كل وجود في مرتبة لا حقة ، متعلّقا بالمرتبة السابقة غير متجافية عنها على وجه لو تخلّى عن مرتبته ، يلزم الانقلاب الذاتي المحال.

وبعبارة أخرى : إذا كانت درجة الوجود تشكّل في كلّ مرتبة

من المراتب واقع وجودها فلا يمكن إسناد جميع المراتب إلى الله سبحانه والقول بأنّه قام بإيجادها مباشرة بلا توسّط الأسباب ، لأنّ معنى ذلك عدم كون المرتبة مقومة لحقيقة الوجود فيها وقد عرفت خلافه ، فهذا البرهان يجرّنا إلى القول بأنّ الوجود في كل درجة ومرتبة مؤثر في المرتبة اللّاحقة وإن كان تأثير كلّ بإذنه سبحانه ، والجميع يستمدّ منه سبحانه إمّا بلا واسطة كالصادر الأوّل أو مع الوسائط كسائر الصوادر.

البرهان الثاني لإبطال الجبر

قد أثبت المحقّقون من العلماء في مسألة «ربط الحادث بالقديم» أنّ سبب الحادث حادث وأنّ المتغيّرات والمتجدّدات جواهر كانت أم أعراضا ، لا يمكن أن يستند إلى الواجب القديم الثابت غير المتغيّر ، بل لا بدّ من توسّط أمر مجرّد بينهما يكون له وجهان : وجه يلي الربّ الثابت ، ووجه يلي الخلق المتجدّد والمتصرّم.

ومبدؤه بساطة ذاته ويترتب عليها أمران :

الأوّل : رجوع جميع صفاته وشئونه إلى الوجود التام ، البحت الخالي عن شوب التركيب فلا يعقل في ذاته وصفاته أيّ

تركّب واثنينية فضلا عن التصرّم والتجدّد ، لأنّ الأخير يستلزم القوة والنقص حتى يكتمل بتجدّده ، وبخروجه عن القوة إلى الفعلية وهذا ممّا ينافي بساطته الحقة ، إذ كلّ متدرّج ومتصرّم مركّب من حقيقة وأمر طارئ عليه مضافا إلى وقوعه في إطار الزمان والمكان.

الثاني : انّ كلّ ما يصدر عن البسيط فلا بدّ أن يصدر عن حاق ذاته وصرف وجوده، لعدم شائبة التركيب فيه حتى يصدر الشيء عن بعض الذات دون الآخر.

إذا عرفت هذين الأمرين :

فاعلم أنّ معنى ذلك هو امتناع صدور المتصرّمات والمتجدّدات عن ذاته بلا واسطة وإلّا يلزم التصرّم والتغيّر والتجدّد في هويته الوجوبية البسيطة ، لأنّ سبب الحادث حادث وسبب المتغيّر متغيّر ، وما ربما يقال : من أنّ المصحّح لصدور المتغيّرات والمتجدّدات المتكثّرة عن الذات البسيطة هو توسّط الإرادة بينه سبحانه وبين الصوادر ، غير تام.

لأنّ إرادته سبحانه بأيّ معنى فسّرت ، عين ذاته وليست زائدة على الذات ، لاستلزامه تصوّر وجود أكمل منه تعالى ، فما

يصدر عنه بلا واسطة يمتنع أن يصدر عن إرادته دون ذاته ، أو بالعكس.

وبالجملة فصدور المتغيّرات عنه سبحانه يستلزم حدوث القديم أو قدم الحادث ، ثبات المتغيّر أو تغيّر الثابت ، فلا محيص أن يكون المؤثّر فيها غير الذات وهو عين نفي الجبر ونفس الاعتراف بأنّ هنا مؤثرا ولو ظلّيا وراء الذات.

البرهان الثالث لإبطال الجبر

قد ثبت في محلّه وجود الخصوصية بين العلّة والمعلول ، بمعنى أنّه يجب أن تكون العلة مشتملة على خصوصية بحسبها يصدر عنها المعلول المعيّن ، وإلّا يلزم أن يكون كلّ شيء علة في كل شيء ، ولازم ذلك أن لا يصدر من البسيط الواحد إلّا الواحد ، إذ لو صدر شيئان متغايران لاقتضت كلّ خصوصية تركب الذات البسيطة من شيئين وهو محال.

وإن شئت قلت : إنّه سبحانه هو البسيط غاية البساطة ، لا تركّب في ذاته ولا هو ذو أجزاء فلا جنس ولا فصل له ولا مادة ولا صورة ، عينية كانت أو ذهنية ، ولا هو متكمّم حتى يتألف من الأجزاء المقدارية ، فهذا الوجود البحت البسيط يمتنع أن يكون

مصدرا للملك والملكوت والمجرّد والمادّي ، وإلّا لزم إمّا صدور الكثير من الواحد البسيط وهو يلازم إمّا بساطة الكثير أو تكثر البسيط.

وما ربما يقال من أنّ القول بوجود الخصوصية يختصّ بالفواعل الطبيعية حيث إنّ بين الماء والارتواء رابطة خاصة ليست موجودة في غيره. وأمّا المجردات فلم يدلّ دليل على لزوم اعتبار الخصوصية. غير تام لأنّ القاعدة عقلية والتخصيص فيها غير ممكن وتوسيط الإرادة بين الذات والعقل غير ناجح ، لما عرفت من رجوعها إلى ذاته فلو صدر المتغيّرات والمتكثّرات عنه سبحانه فكلّ يقتضي خصوصية مستقلّة فيلزم وجود الكثرات في ذاته سبحانه.

ولا تتوهم أنّ معنى ذلك هو التفويض والاعتراف بالقصور في قدرته سبحانه ، وإغلال يديه كما هي مزعمة اليهود لما سيوافيك من أنّ جميع المراتب العالية والدانية مع كونها مؤثرة في دانيها ، متدلّيات بذاته ، قائمة به تبارك وتعالى ، كقيام المعنى الحرفي بالاسمي والاعتراف بالدرجات والمراتب ، وإنّ كلّا يؤثر في الآخر لا يستلزم شيئا من التفويض.

البرهان الرابع لإبطال الجبر

قد عرفت أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة ذات مراتب وليست المرتبة سوى نفس الوجود ، وأنّ الشدّة والضعف يرجع في واقعها إلى الوجود ، فإذا كانت حقيقة الوجود كذلك فلا يصحّ أن يكون مؤثرا في مرتبة عليا كالواجب ، دون المراتب الدانية مع وحدة الحقيقة.

وما ربما يقال من أنّ التأثير من لوازم المرتبة الشديدة دون الضعيفة ، غير تام ، وذلك لما مرّ من أنّ الشدّة ليست إلّا نفس الوجود لا أمرا زائدا عليه ، فلو كان الوجود الشديد مؤثرا فمعناه أنّ حقيقة الوجود هي التي تلازم التأثير ، فإذا كان كذلك فالوجود يكون مؤثرا في جميع المراتب عالية كانت أو دانية ، ولأجل ذلك قال الحكماء : إنّ حقيقة الوجود عين المنشئية للآثار ولا يمكن سلبها عنه ، فسلب الآثار ولو في مرتبة من المراتب غير ممكن لاشتمالها على حقيقة الوجود وهو خلاف المفروض.

إلى هنا تمّ الكلام في إبطال الجبر والتفويض ، بقي الكلام في إثبات المذهب المختار ، أي الأمر بين الأمرين ، والمنزلة بين المنزلتين.

الفصل الثالث

مذهب

الأمر بين الأمرين

إذا ظهر بطلان كلا المذهبين فتثبت صحة القول بالأمر بين الأمرين ، وذلك لما ظهر من أنّه لا يصحّ استقلال الممكن في الإيجاد كما لا يمكن سلب الأثر عنه ، فالجمع بين الأمرين يقتضي القول بالأمر بين الأمرين ، وهو أنّ الموجودات الإمكانية موجودات لا بالاستقلال بل استقلالها وتأثيرها باستقلال عللها إذ لا مستقلّ في الوجود والتأثير ، غيره سبحانه.

وإن شئت قلت : إنّ وجوداتها إذا كانت عين الربط والفقر والتدلّي والتعلّق ، فتكون أوصافها وآثارها وأفعالها متدلّيات وروابط ففاعليتها بفاعلية الربّ ، وقدرتها بقدرته ، فأفعالها وإرادتها مظاهر فعل الله وقدرته وإرادته وعلمه.

ويرشدنا إلى ذلك الذكر الحكيم يقول سبحانه : (وَما رَمَيْتَ

إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (١).

أثبت سبحانه الرمي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث نفاه عنه ، وذلك لأنّه لم يكن الرمي من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعونه وحوله بل بحول الله تعالى وقوته ، فهناك فعل واحد منتسب إلى الله سبحانه وإلى عبده ، وقال سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (٢).

فأثبت سبحانه المشيئة لنفسه حيث كانت لهم ، وجه ذلك أنّ هنا مشيئة واحدة منتسبة إلى العبد وفي الوقت نفسه هو مظهر لمشيئة الله سبحانه.

إنّ المفوّضة لجئوا إلى القول بالتفويض بغية تنزيهه سبحانه عن القبائح ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم بذلك القول وإن نزّه فعله عن القبح وحفظ بذلك عدله وحكمته ، لكن أخرج الممكن عن حدّ الإمكان وأدخل في حدّ الواجب فوقعوا في ورطة الشرك «لأنّ الاستقلال في الإيجاد فرع الاستقلال في الوجود» وبالتالي قالوا بتعدّد الواجب من حيث لا يشعرون.

يقول الإمام الرضا عليه‌السلام : «مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله عزوجل بعدله ، فأخرجوه من قدرته وسلطانه» (٣).

__________________

(١). الأنفال / ١٧.

(٢). الإنسان / ٣٠.

(٣). البحار : ٥ / ٥٤ ، كتاب العدل والإيمان ، الحديث ٩٣.

كما أنّ المجبّرة لجئوا إلى الجبر ونفي العلّية والقدرة والاختيار عن العباد لصيانة التوحيد في الخالقية وتمجيدا وتعظيما له سبحانه ، ولكنّهم غفلوا عن أنّهم نسبوا إلى الخالق القول ، بالتكليف بما لا يطاق.

روى هشام بن سالم عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس بما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (١)

وأمّا القائل بالأمر بين الأمرين ، فقد حفظ مقام الربوبية والحدود الإمكانية وأعطى لكلّ حقّه.

إن الناقد البصير والقائل بالأمر بين الأمرين له عينان يرى بواحدة منهما مباشرة العلّة القريبة بالفعل بقوته وإرادته وعلمه ، فلا يحكم بالجبر ، ويرى بالأخرى أنّ مبدأ هذه المواهب هو الله سبحانه وأنّ الجميع قائم به فلا يحكم بالتفويض ويختار الوسط.

فالجبري عينه اليمنى عمياء فلا يرى تأثير العلّة القريبة في الفعل ، بل ينظر بعينه اليسرى إلى قيام الجميع بالله تبارك وتعالى.

__________________

(١). البحار ، ٥ / ٤١ الحديث ٦٤.

والتفويضي عينه اليسرى عمياء ، يرى بعينه اليمنى مباشرة الفاعل القريب للفعل ولا يرى بعينه اليسرى قيام الجميع بالله تبارك وتعالى.

فالجبرية مجوس هذه الأمة تنسب النقائص إلى الله تعالى والمفوضة يهود هذه الأمة ، حيث تجعل يد الله مغلولة : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) والقائل بالأمر بين الأمرين ينظر بكلا العينين ويسلك الجادة الوسطى ، ومن ذلك يعلم وجه وصف الإمام الرضا للقائل بالجبر بالكفر ، وللقائل بالتفويض بالشرك حيث قال : والقائل بالجبر كافر ، والقائل بالتفويض مشرك (١).

إيقاظ :

دلّ الذكر الحكيم على أنّ الحسنة والسيّئة من عند الله ، قال سبحانه : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٢).

ولكن دلّت الآية التالية على أنّ الحسنة من الله والسيّئة من

__________________

(١). عيون أخبار الرضا : ١ / ١١٤.

(٢). النساء / ٧٨.

الإنسان ، قال سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١).

فكيف الجمع بينهما؟

أقول : إنّ اتضاح معنى الآيتين رهن مقدمة وهي :

دلّت البراهين على أنّ الكمالات كلّها راجعة إلى الوجود إذ مقابلها ـ أعني الماهيّات والأعدام ـ لم تشم رائحة الوجود والكمال إلّا بالعرض ويترتّب عليه أمران :

١. إنّه سبحانه صرف الوجود وإلّا لزم التركيب من الوجود وغيره وهو مستلزم للإمكان ، لأنّ كلّ مركّب محتاج إلى أجزائه ، والحاجة نفس الإمكان أو لازمه.

٢. إنّ شأنه سبحانه إفاضة الوجود على كل موجود وهو كلّه خير محض والشرور والأعدام وكذا الماهيات غير مجعولة ، وأمّا ما يشتمل عليه من الشرور والنقائص فهي من لوازم درجة الوجود ومرتبته. فكل موجود من حيث اشتماله على الوجود خير وحسن وليس فيه شرّ ولا قبح ، وإنّما يعرض له الشرّ من حيث نقصه عن التمام أو من حيث منافاته لخير آخر وكل منهما

__________________

(١). النساء / ٧٩.

يرجع إلى نحو عدم ، والعدم غير مجعول (١).

فاعلم أنّ مقتضى القاعدة الحكمية ، أعني لزوم وجوب الصلة بين الصادر والصادر عنه ، هو كون الشيء الصادر هو الكمال إذ لا صلة بين الكمال المطلق والنقص والشرّ والعدم.

أضف إلى ذلك أنّ الجعل لا يتعلّق بغير الوجود وهو نفس الخير والسعادة ، وأمّا الأعدام والنقائص فلا يتعلّق بها الجعل لعدم القابلية.

وبذلك يظهر معنى قوله سبحانه : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أمّا الخير فواضح ، وأمّا الشرّ فلما عرفت من أنّ الشيء الصادر هو الوجود وهو مساوق للخير وأمّا الشرّ فهو لازم أحد الأمرين :

الأوّل : كون الشرّ لازم مرتبته ، مثلا الموجود النباتي يلازم فقدان الشعور والإرادة والحركة بحيث لو شعر لخرج عن حدّه ، وكونه نباتا ، فهذا النقص راجع إلى عدم الوجود الذي هو من لوازم ذات الموجود في تلك المرتبة ، والذي تعلّق به الجعل هو الوجود لا الدرجة والحد.

الثاني : تزاحم وجوده مع وجود آخر لأجل ضيق عالم

__________________

(١). الأسفار ٦ / ٣٧٥.

الطبيعة كالتزاحم الموجود بين وجود الإنسان ووجود العقرب مثلا.

وبذلك يتبيّن أنّ كلّ النقائص راجعة إمّا إلى حدّ الوجود ، أو إلى التزاحم في عالم الطبيعة.

فيصحّ أن يقال : إنّ الحسنات والسيّئات من الله سبحانه باعتبار أنّ الوجود المفاض في كل منهما خير ومفاض من الله تبارك وتعالى ، وإن نسبة الشرور والنقائص إليه بالعرض ولعلّه لهذا الأمر يقول : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) ، بتخلّل كلمة «عند» ولكنّه عند ما ينسب السيّئة إلى العبد يستخدم كلمة «من» مكان «عند» ويقول : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وذلك لأنّ نسبة النقص والقبح إلى الله سبحانه نسبة بالعرض وهذا بخلاف نسبتهما إلى الفاعل المادّي ، فإنّ النسبة إليه نسبة بالحقيقة.

فنسبة الوجود إلى الخيرات والشرور نسبة واحدة على حدّ سواء وأمّا الخير والشرّ فهي من لوازم مرتبته ودرجته أو تصادمه مع الخير الآخر ، فهو كنوز الشمس يشعّ على الطيّب والطاهر والرجس والخبيث ، دون أن يوصف بصفاتها ودون أن يخرجه عن أصل نوريّته.

الايضاح الأمر بين الأمرين بالتمثيل :

قد اشتهر أنّ المثال يقرّب من وجه ويبعّد من ألف ، وقد استمدّ المحقّقون لتبيين مكانة فعل الفاعل إلى الله سبحانه بتمثيلين.

التمثيل الأوّل : إذا أشرقت الشمس على موجود صيقليّ كالمرآة وانعكس النور منها على الجدار ، فنور الجدار ليس من المرآة بالأصالة وبالذات ، ولا من الشمس بلا واسطة ، إذ ربّما تشرق الشمس والجدار مظلم ، بل هو من المرآة والشمس معا ، فالشمس مستقلّة بالإفاضة منوّرة بالذات دون الأخرى ، والنور المفاض من الشمس غير محدود وإنّما يتحدّد بالمرآة ، فالحدّ للمرآة أوّلا وبالذات ، وللنور ثانيا وبالعرض.

وإن شئت قلت : النور المفاض من الشمس غير محدود ، وإنّما جاء الحد من قالبها الذي أشرقت عليه وهي المرآة المحدودة بالذات ، والمفاض هو نفس النور دون حدوده وكلّما تنزّل يتحدّد بحدود أكثر ويعرضه النقص والعدم ، فيصح أن يقال النور من الشمس ، والحدود والنقائص من المرآة ومع

ذلك لو لا الشمس وإشراقها لم يكن حدّ ولا ضعف ، فيصح أن يقال : كلّ من عند الشمس.

فنور الوجود البازغ من أفق عالم الغيب كلّه ظلّ نور الأنوار ومظهر إرادته وعلمه وقدرته وحوله وقوته ، والحدود والتعيّنات والشرور كلّها من لوازم الذات الممكنة وحدود إمكانها ، أو من تصادم المادّيات وتزاحم الطبائع.

التمثيل الثاني : قد نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ولعلّ الإمعان في قوى النفس ظاهرية كانت أو باطنية يبيّن لنا مكانة أفعال العباد إلى الباري تعالى ، لأنّ قوى النفس قائمة بها ، فإذا قامت القوى بالفعل والإدراك يصح نسبتهما إلى القوى كما يصح نسبتهما إلى النفس فإذا رأى بالبصر وسمع بالسمع ، فالأفعال كلّها فعل للنفس بالذات وللقوى بالتبع فلا يصح سلبها عن النفس ، لكونها بالبصر تبصر وبالسمع تسمع ، ولا سلبها عن القوى لكونها قائمة بها ومظاهر لها.

يقول صدر المتألّهين : الإبصار مثلا فعل الباصرة بلا شك ،

لأنّه إحضار الصورة المبصرة أو انفعال البصر بها (١) ، وكذلك السماع فعل السمع لأنّه إحضار الهيئة المسموعة أو انفعال السمع بها ، فلا يمكن شيء منهما إلّا بانفعال جسماني فكلّ منهما فعل النفس بلا شك لأنّها السميعة البصيرة بالحقيقة. (٢)

وأنت إذا كنت من أهل الكمال والمعرفة تقف على أنّ تعلّق نور الوجود المنبسط على الماهيات بنور الأنوار وفنائه فيه ، أشدّ من تعلّق قوى النفس وفنائها فيها ، لأنّ النفس ذات ماهية وحدود وهما تصحّحان الغيرية بينها وبين قواها ، ومع ذلك ترى النسبة حقيقة وأين هو عن الموجود المنزّه عن التعيّن والحد ، المبرّأ عن شوائب الكثرة والغيرية ، والتضاد والتباين الذي نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله المعروف : «داخل في الأشياء لا بالممازجة ، خارج عنها لا بالمباينة». (٣)

إيضاح :

قد اتّضح بما ذكرنا أنّ حقيقة الأمر بين الأمرين تلك الحقيقة الربانيّة التي جاءت في الذكر الحكيم بالتصريح تارة والتلويح

__________________

(١). إشارة إلى النظريتين المختلفتين في حقيقة الإبصار فهل الإبصار بخلاقية النفس أو بانطباع الصورة فيها.

(٢). الأسفار ٦ / ٣٧٧.

(٣). وفي النهج ما يقرب منه : «لم يحلّل في الأشياء فيقال هو كائن ، ولم ينأ عنها فيقال : هو منها بائن». نهج البلاغة ، الخطبة ٦٢ طبعة عبده.

أخرى وجرت على ألسنة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

مثلا تجد أنّه سبحانه : نسب التوفّي تارة إلى نفسه ويقول : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) (١) وأخرى إلى ملك الموت ويقول : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٢) وثالثة إلى الملائكة ويقول : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) (٣).

ومثله أمر الضلالة ، فتارة ينسبها إلى نفسه ويقول : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٤) وأخرى إلى إبليس ويقول : (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (٥) وثالثة إلى العباد ويقول : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٦) والنسب كلّها صحيحة وما هذا إلّا لكون أمر التوفّي منزلة بين المنزلتين ، وهو مصحّح لعامة النسب.

وممّا يشير إلى أنّه منبع كلّ كمال على الإطلاق حتى الكمال الموجود في الممكن قوله سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حيث قصّر المحامد عليه حتى أنّ حمد غيره لكماله ، حمد لله تبارك وتعالى ، فلو لا أنّ كلّ كمال وجمال له عزوجل بالذات لما صحّ هذا الحصر.

__________________

(١). الزمر / ٤٢.

(٢). السجدة / ١١.

(٣). محمد / ٢٧.

(٤). غافر / ٧٤.

(٥). القصص / ١٥.

(٦). طه / ٨٥.

ويشير إلى المنزلة الوسطى بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بمعنى نحن عابدون وفاعلون بعونك وحولك وقوّتك.

هذه نزر من الآيات التي تبيّن مكانة أفعال الإنسان بالنسبة إلى البارئ ، وأمّا الروايات ففيها تصريحات وتلويحات ، وقد جمع المحقّق البارع الداماد ما يناهر اثنين وتسعين حديثا في الإيقاظ الرابع من قبساته ، ونحن نقتصر على عدة روايات منها :

١. روى الكليني عن محمد بن أبي عبد الله (١) عن سهل بن زياد ، (٢) عن أحمد بن أبي نصر الثقة الجليل قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : إنّ بعض أصحابنا يقول بالجبر وبعضهم يقول بالاستطاعة.

قال : «فقال لي : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال عليّ بن الحسين : قال اللهعزوجل : يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوّتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي ، وذلك أنّي لا أسأل عمّا أفعل

__________________

(١). هو أبو الحسن محمد بن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن عون الأسدي الكوفي ساكن الري ، قال النجاشي: كان ثقة صحيح الحديث. (تنقيح المقال : ٢ / ٩٥).

(٢). الأمر في سهل ، سهل وإتقان رواياته آية وثاقته في النقل عنه دام ظلّه.

وهم يسألون ، قد نظمت لك كل شيء تريد». (١)

هذه الرواية هي المقياس لتفسير جميع الأحاديث الواردة في هذا المقام.

٢. وبهذا المضمون ما رواه الوشاء عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال سألته فقلت : إنّ الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال : الله أعزّ من ذلك ، قلت : فأجبرهم على المعاصي؟ «قال : الله أعدل وأحكم من ذلك» ، ثم قال : «قال الله عزوجل : يا بن آدم أنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيّئاتك منّي ، عملت المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك». (٢)

٣. روى هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد». (٣)

٤. روى حفص بن قرط عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زعم أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه». (٤)

__________________

(١). الكافي ، ١ / ١٦٠ باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، الحديث ١٢.

(٢). بحار الأنوار ٥ / ١٥ الحديث ٢٠.

(٣). بحار الأنوار ٥ / ٤١ الحديث ٦٤.

(٤). بحار الأنوار ٥ / ٥١ الحديث ٨٥.

الفصل الرابع

شبهات وحلول

قد ظهر وجه الحقيقة وانكشف الفجر الصادق من بين ظلمات مدلهمّة ، غير أنّ ثمة شبهات نذكرها تباعا مع حلولها.

الشبهة الأولى : الإرادة ليست اختيارية :

إنّ اختيارية الفعل ، بمسبوقيتها بالإرادة الحاصلة في ضمن مقدّمات غير أنّا ننقل الكلام إلى نفس الإرادة فهل اختياريّتها بإرادة ثانية فثالثة ولا ينتهي إلى حدّ فلازمه التسلسل ، أو ينتهي إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أخرى وهو إمّا إرادة الواجب تعالى ، أو إرادة نفس الإنسان الحاصلة بلا سبق إرادة ، فيصبح الإنسان مجبورا في فعله لأنّ المفروض أنّ الإرادت التي انتهت إليها سائر الارادات غير مسبوقة بإرادة أخرى؟

وقد أجيب عن الإشكال بأجوبة غير مقنعة ، وإليك بيانها واحدا تلو الآخر :

الأوّل للسيّد المحقق الداماد : وقد اجاب عنه السيّد المحقّق الداماد ونقله صدر المتألّهين في الأسفار وهذا لفظه : إذا انساقت العلل والأسباب المترتّبة المتأدّية بالإنسان إلى أن يتصوّر فعلا ويعتقد فيه خيرا ما ، انبعث له تشوّق إليه لا محالة ، فإذا تأكد هيجان الشوق واستتمّ نصاب إجماعه ، تمّ قوام الإرادة المستوجبة اهتزاز العضلات والأعضاء الادوية ، فإنّ تلك الهيئة الإرادية حالة شوقية إجمالية للنفس ، بحيث إذا ما قيست إلى الفعل نفسه ، وكان هو الملتفت إليه بالذات ، كانت هي شوقا إليه وإرادة له ، وإذا قيست إلى إرادة الفعل وكان الملتفت إليه هي نفسها لا نفس الفعل ، كانت هي شوقا وإرادة بالنسبة إلى الإرادة من غير شوق آخر وإرادة أخرى جديدة ، وكذلك الأمر في إرادة الإرادة ، وإرادة إرادة الإرادة إلى سائر المراتب التي في استطاعة العقل أن يلتفت إليها بالذات ، ويلاحظها على التفصيل ، فكل من تلك الإرادات المفصّلة يكون بالإرادة وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة الشوقية الإرادية. والترتب بينها بالتقدّم والتأخّر عند التفصيل ليس يصادم اتّحادها في تلك الحالة الإجمالية بهيئتها الوحدانيّة ، فإنّ ذلك إنّما يمتنع في الكمية الاتّصالية والهوية الامتدادية لا غير ، فلذلك بان أنّ المسافة الأينية تستحيل أن تنحل إلى متقدّمات ومتأخّرات بالذات هي أجزاء تلك المسافة

وأبعاضها ، بل إنّما يصحّ تحليلها إلى أجزائها وأبعاضها المتقدّمة والمتأخّرة بالمكان». (١)

يلاحظ عليه : أنّ المعلّم الثالث مع ماله من العظمة والجلالة اشتبه عليه الأمر ، ومنشأ الاشتباه هو الخلط بين الحقائق والاعتباريات ، فإنّ الإرادة والعلم بالشيء والعلم بذواتنا صفات وجودية لا بدّ لها من علّة موجدة حتى يستند كلّ إليها ، وحينئذ فالعلّة التي أوجدت الإرادة في أنفسنا إمّا إرادة أخرى غير منتهية إلى حدّ يلزم التسلسل ، أو كانت منتهية إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أخرى من إرادة الواجب أو الممكن فيلزم الاضطرار ولا يمكن أن تكون علة الإرادة نفسها بالضرورة ونظير ذلك ، اللزوم بين العلّة والمعلول فهو أمر حقيقي يقوم بعلّة.

نعم إذا لاحظنا العلم بالعلم أو لزوم اللزوم ، بحيث صار العلم الأوّل طرفا ومعلوما بهذا اللحاظ وخرج اللزوم الأوّل عن الوسطية وصار موضوعا ، فيعتبر علم آخر ولزوم ثان بينها وبين الموضوع وينقطع بانقطاع الاعتبار ، وهذا ما يقال من أنّ التسلسل في الأمور الاعتبارية غير مضرّ لقوامه بالاعتبار وينتفي بانتفائه ، وكم له من نظير مثل موجودية الموجود

__________________

(١). الأسفار : ٦ / ٣٨٩.

وإمكان الممكن وغيرها.

والعجب أنّه قاس المقام بالنية مع أنّ الضرورة قاضية بعدم لزوم أن تكون نفس النية منوية فهي لا تحتاج إلى نية أخرى ، بخلاف الإرادة إذ هي محتاجة إلى أخرى حتى لا يلزم الاضطرار أو الإلجاء.

وقد أورد عليه صدر المتألّهين وجوها ثلاثة نأخذ منها الوجه الأخير حيث قال : إنّ لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء منها ونطلب أنّ علّتها أي شيء هي ، فإن كانت إرادة أخرى لزم كون شيء واحد خارجا وداخلا بالنسبة إلى شيء واحد بعينه هو مجموع الإرادات وذلك محال ، وإن كان شيئا آخر لزم الجبر في الإرادة. (١)

قلت : نظير هذا ما يقال في إبطال التسلسل من أنّ السلسلة غير المتناهية المترتبة على نحو الترتّب العليّ والمعلولي كلّها روابط ومعاني حرفية ، فهذه الموجودات المتسلسلة وإن كان لا يمكن الإحاطة بها بالإشارة الحسّية غير أنّه يمكن بالإشارة العقلية ولو بعنوان المشير ، فنقول :

__________________

(١). صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٩٠.

السلسلة غير المتناهية المحكوم عليها بالفقر والحاجة لا يمكن أن يدخل فرد منها في الوجود إلّا بالإفاضة عليه من جانب الغني بالذات ، إذ الفقير الفاقد لجميع شئونه حتى وجود ذاته لا يمكنه أن يكون معطيا ومغنيا سواء كان واحدا أو كثيرا ، متناهيا أو غير متناه.

الثاني جواب صدر المتألّهين : وهنا جواب ثان ذكره صدر المتألّهين وحاصله : أنّ المختار ما يكون فعله بإرادته لا ما يكون إرادته بإرادته وإلّا لزم أن لا تكون إرادته سبحانه عين ذاته ، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل صدر عنه الفعل وإلّا فلا ، لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلّا لم يفعل (١).

وقد أوضحه سيدنا الأستاذ (دام ظله) ما هذا ملخّصه : إنّ الإرادة والعلم والحبّ من الصفات الحقيقية ذات الإضافة بين الإنسان ومتعلّقه.

ثم إنّ المعلوم ما تعلّق به العلم ، والمحبوب ما تعلّق به الحب لا ما تعلّق بعلمه العلم وبحبه الحب ، فهكذا المراد والمختار ما تعلّقت به الإرادة والاختيار لا ما تعلّقت بإرادته واختياره ، الإرادة والاختيار ، والقادر عند العقلاء من إذا شاء صدر عنه

__________________

(١). صدر المتألهين : الأسفار : ٦ / ٣٨٨.

الفعل وإذا لم يشأ أو شاء عدمه لم يصدر لا ما إذا أراد إرادة الفعل صدر عنه ، ولو كان المقياس في الاختيار هو تعلّق الإرادة على نظيرتها لم يصدر فعل إرادي عن المريد قط حتى الواجب.

فإن قلت : ليس النزاع في التسمية والاصطلاح حتى يندفع بما هو الميزان عند العقلاء في تشخيص الفعل الاختياري عن غيره ، بل هو معنوي وهو أنّ مبدأ الفعل أعني الإرادة إذا لم تكن باختيار النفس وانتخابها ، بل كان رهن مقدمات غير اختيارية يصير الفعل معها اضطراريا غير اختياري ومعه لا تصحّ العقوبة وإن سمّي عندهم فعلا اختياريا.

قلت : إنّ البحث يقع تارة في تشخيص الفعل الإرادي عن غيره ، وأخرى في تنقيح مناط صحّة العقوبة ، وما أفاده (طيب الله رمسه) كاف في المقام الأوّل ، إذ لا يشك أيّ ذي مسكة من أنّ الفعل الإرادي هو ما تعلّقت به الإرادة لا ما تعلّقت بإرادتها إرادة ثانية ، في مقابل حركة المرتعش ، إذ هي صادرة عنه لا بإرادة متعلّقة بفعله ، من غير فرق بين الواجب والممكن.

وأمّا المقام الثاني أي تشخيص مناط صحّة العقوبة وعدمها ، فالمرجع في ذلك هو العقلاء وفطرياتهم ومرتكزاتهم ، ولا ريب أنّ جميع العقلاء يميّزون بين الحركة الإرادية والحركة

الارتعاشية بصحة المؤاخذة على الأولى دون الثانية ، وليس ذلك إلّا لحكمهم بأنّ الفعل صادر عن إرادته واختياره من دون اضطرار وإجبار وما ذكر من الشبهة إنّما هو جدل عقيم في سوق الاعتبار.

الجواب الثالث للمحقّق الخراساني :

وثمة جواب ثالث للمحقّق الخراساني أشار إليه في أوائل الجزء الثاني عند البحث في التجرّي وقال : «إنّ الاختيار (يريد من الاختيار ، الإرادة) وإن لم يكن بالاختيار إلّا بعض مباديه ، يكون غالبا بالاختيار للتمكّن من عدمه بالتأمل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة (١).

يلاحظ عليه : أنّ الإشكال لا يحسم بما أفاد : إذ لقائل أن يسأل عن المبادئ التي ادّعي أنّها بالاختيار ، فهل الإرادة المتعلّقة بها مسبوقة بإرادة أخرى أو لا؟ فعلى الأوّل ينتهي إلى إرادة غير مسبوقة بإرادة أخرى ولازمه الجبر والاضطرار ، وعلى الثاني يلزم التسلسل.

الجواب الرابع للمحقّق الحائري :

انّ شيخ مشايخنا العلّامة الحائري قد دفع الشبهة بوجه آخر

__________________

(١). كفاية الأصول : ٢ / طبعة المشكيني.

وقال : «إنّما يلزم التسلسل لو قلنا بانحصار سبب الإرادة في الإرادة ولا نقول به ، بل ندّعي أنّها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلّق ، أعني : المراد ، وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها فيكفي في تحقّقها أحد الأمرين ، وما كان من قبيل الأوّل لا يحتاج إلى إرادة أخرى وما كان من قبيل الثاني حاله حال سائر الأفعال التي يقصدها الفاعل بملاحظة الجهة الموجودة فيها ـ إلى أن قال : ـ والدليل على أنّ الإرادة قد تتحقّق في مصلحة في نفسها هو الوجدان ، لأنّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان ، البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنّ صحة الصوم والصلاة التامّتين تتوقف على القصد المذكور ، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مترتبا على نفس البقاء واقعا ، ونظير ذلك غير عزيز. (١)

يلاحظ عليه : أنّ الإشكال بعد باق ، إذ لقائل أن يسأل عن تعلّق الإرادة على إيجاد الإرادة فهل هي مسبوقة بإرادة أخرى وهكذا فيتسلسل أو لا؟ فيلزم الجبر.

الجواب الخامس : ما هو المشهور بين المحصلين

إنّ اختيارية كلّ شيء بالإرادة وأمّا اختياريتها ، فبذاتها إذ كل ما بالعرض لا بد وأن ينتهي إلى ما بالذات ، فكما أنّ كل موجود

__________________

(١). درر الفوائد : ٢ / ١٤ ـ ١٥.

موجود بالوجود والوجود بنفسه ، فهكذا الإرادة.

ولا يخفى أنّ الإشكال بعد باق.

توضيحه : أنّ القائل خلط بين الجهات التقييدية والتعليليّة ، فإنّ مرادهم من قولهم : الوجود موجود بنفسه ، هو أنّه لا يحتاج إلى ضمّ حيثية تقييدية وراء وجود موضوعه نظيره حمل الأبيض على البياض الذي لا يحتاج إلى ضمّ ضميمة وراء وجود الموضوع ، بخلاف قولنا : الجسم أبيض فإنّ الحمل رهن وجود حيثية تقييدية وراء الموضوع ، ويسمّى الأوّل المحمول بالصميمة والثاني المحمول بالضميمة.

وفي الوقت نفسه أنّ البياض وإن كان مستغنيا عن الحيثية التقييدية ولكنّه غير مستغن عن الحيثية التعليلية وعلى ضوء ذلك ، فحصول الإرادة في صقع الذهن غير مستغن عن الحيثية التعليلية فعندئذ فإمّا أن تحدث في النفس بإرادة سابقة عليها أولا ، وعلى الثاني تكون أمرا غير اختياريّ لعدم مسبوقيتها بإرادة أخرى وعلى الأوّل ، إمّا أن لا تنتهي سلسلة الإرادات فيلزم التسلسل ، وإمّا أن تنتهي فيلزم الجبر ثم يعود الإشكال ويطرح نفسه من جديد.

الجواب السادس ما أجاب به سيّدنا الأستاذ

وحاصل ما أفاده : أنّ الإرادة تصدر عن النفس بلا توسّط شيء آخر ، فإنّها فاعلة بالتجلّي الذي يكون تصوّر الفاعل كافيا في الإيجاد والإبداع ولا يتخلّف عنه ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر أنّ النفس من الفواعل الإلهية وكل فاعل إلهي يجد كمالات فعله في مقام الذات فإذا كان الاختيار والانتخاب موجودا في مقام الفعل فهو موجود في مرتبة الذات على نحو الإجمال والبساطة لنفس القاعدة ، فيكون معنى ذلك أنّ النفس واجدة في مقام ذاتها وحاق وجودها كمالات فعلها ، أعني : العلم والاختيار والإرادة ، بنحو أتمّ وأشرف ، فإنّ وجود هذه الثلاثة فى أقسام الفعل امر بديهيّ فلا بد أن تكون موجودة في مقام الذات ، لما أشرنا إليه من القاعدة.

وعلى ضوء ذلك فالنفس مختارة بالذات وفي ظلّ هذا الاختيار تصدر الإرادة منها ، فيكون الإنسان في إرادته مختارا في ظلّ الاختيار الذاتي للنفس.

هذا إجمال ما أفاده (دام ظله) وإليك تفصيله :

١. إنّ الأفعال الصادرة عن النفس تنقسم إلى : تكوينيّ

ونفسيّ ، وإن شئت قلت : إلى تسبيبي ومباشري ، فالأوّل منهما ما يصدر عنها لا بآلة ، كالخياطة والكتابة وإحداث البناء إلى غير ذلك من الأمور الموجودة خارج لوح النفس ، ففي هذه الموارد كل من المقدمة وذيها ، مسبوق بالتصوّر والتصديق والشوق المؤكّد (في أغلب الموارد) فإذا تمّت المقدمات يجد الإنسان في ذهنه العزم والجزم والتصميم ، وعند ذلك ، تنقاد الأعضاء وتتوجّه نحو القيام بالفعل.

إنّ النفس في مجال هذا النوع من العمل فاعلة للحركة فبحركة العضلات تتحقق الأفعال التكوينية التسبيبية من الخياطة والكتابة.

والثاني منهما ما يصدر عنه بلا آلة أو بآلة غير جسمانية ، وإن شئت قلت : ما يصدر عنها بخلّاقية النفس وإيجادها في صقعها. كصاحب ملكة علم الفقه أو النحو ، فإذا سئل عن عدة مسائل تأتي الأجوبة في الذهن تباعا ، واحدة تلو الأخرى ، ونظيرها خلق الصور البديعة الهندسية المقدارية ، لمن زاول هندسة البناء وصار ذا ملكة فيها.

وهذا النوع من أفعال النفس ، اختيارية لها ، وإن لم يكن هناك تصوّر ولا تصديق ، ولا شوق ، ولا إرادة ، وسيوافيك وجهه

ومثلها الإرادة ، فإنّها فعل مباشري للنفس ، وليست مسبوقة بمقدمات الإرادة أصلا.

٢. إنّ النفس في هذا النوع من الأفعال ، فاعلة بالتجلّي وليست فاعلة بالعناية ، والفاعل بالتجلّي جامع لكمالات فعله في مقام الذات على نحو الإجمال والإيجاد ، فالأجوبة العلمية والصور البديعة ، والاختيار الملموس لكل إنسان قبل التصميم والجزم ، وحتى نفس الإرادة ونظائرها موجودة في مقام الذات لكن لا على نحو التفصيل ، بل على سبيل الإجمال ، فتكون النفس في مقابل الذات مريدة ومختارة بالذات بشهادة وجودهما في مقام الفعل ، ويكون هذا هو الملاك في كون القسم الثاني فعلا اختياريا وإراديا ، لا سبق إرادة تفصيلية عليه فبالاختيار الذاتي تنشأ الإرادة والجزم والتصميم.

وتعلم حال النفس إذا قيست إلى الواجب عزّ اسمه ، فإنّه سبحانه خلق الكون وما فيه لا بإرادته التفصيلية وإلّا يلزم أن تكون الذات محلّا للحوادث ، بل بإرادة إجمالية أو اختيار ذاتي ، هما عين ذاته سبحانه وإن لم ينكشف لنا كنههما ، فكما أنّ الملاك لكون فعله اختياريا هو كونه موجودا مختارا بالذات ، باختيار هو عين ذاته ، فهكذا النفس فهي مختارة في إيجاد القسم

الثاني من الأفعال باختيار ذاتي هو عين ذاتها.

والذي يحلّ العقدة ، ويزيل الشبهة من رأسها هو نفي كون شيء واحد (مسبوقية الشيء بالإرادة) ملاكا منحصرا للاختيار ، بل الملاك أحد الأمرين ، إما مسبوقية الفعل بالاختيار ، أو كونه صادرا عن فاعل مختار ومريد بالذات ، ولأجل ذلك صارت النفس مثلا لله سبحانه وإن كان سبحانه منزّها عن المثل والندّ.

الشبهة الثانية :

قد ثبت في الفن الأعلى أنّ «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وهي قاعدة محكمة بنيت على أصول صحيحة ، عامة لجميع الفواعل والعلل واجبا كانت أو ممكنة ، مختارة كانت أو مضطرّة.

ثم إنّ جماعة ممّن لم يقفوا على مغزى القاعدة جعلوها من أدلّة القول بالجبر ، قائلين بأنّ وجوب الشيء عبارة عن ضرورة تحقّقه وامتناع عدمه وما كان كذلك يكون الفاعل موجبا (بالفتح) ومضطرّا في إيجاده وملجأ في إحداثه ، وإلّا لم يجب وجوده ولم يمتنع عدمه.

وثمّة من رفض القاعدة في أفعال الواجب وإبداعاته لئلّا يلزم الجبر في أفعاله ، وفي الوقت نفسه أخذوا بها في مقام

إثبات الصانع ، مستدلّين بأنّ وجوب الشيء وضرورة وجوده فرع وجود فاعل يخرجه عن الإمكان إلى حدّ الضرورة وليس هو إلّا الواجب سبحانه.

ومعنى ذلك أنّ القاعدة خاضعة لميولهم فرفضوها في مقام لا يناسب مذاقهم وأخذوا بها في مقام آخر يوافق فكرتهم وعقيدتهم ، ولأجل حسم الشبهة نبحث عنها في مقامين :

الأوّل : في مفاد القاعدة.

الثاني : عدم منافاتها لاختيار الفاعل.

وإليك الكلام في المقام الأوّل.

أ. ما هو مفاد القاعدة؟

إنّ تبيّن مفاد القاعدة رهن بيان أمرين :

الأوّل : وصف الشيء بالإمكان بالنظر إلى حاق ذاته :

إنّ تقسيم المفهوم إلى الممكن وغيره (المراد من الغير هو واجب الوجود وممتنعه) إنّما هو بالنظر إلى مفهوم الشيء الممكن مع قطع النظر عن الخارج ، وإلّا فبالنظر إلى خارج ذاته فهو إمّا ضروري الوجود ، أو ممتنعه ، إذ لو كانت علّة الوجود

موجودة فيدخل في القسم الأوّل ، ولو كانت معدومة فيدخل في الثاني.

فلا يمكن الحكم بإمكان الشيء أي سلب الضرورة عن الطرفين إلّا إذا قصّر النظر على ذات الشيء دون ما حوله من علل الوجود أو خلافها.

وبعبارة أخرى : كلّ ممكن لا يخلو في نفس الأمر من إحدى حالتين :

فإمّا أن يكون مقارنا مع علل وجوده ، أو مقارنا مع عدمها ، ففي كل من الحالتين يحكم عليه بإحدى الضرورتين أي ضرورة الوجود أو ضرورة العدم ، ففرض الإمكان للماهية إنّما هو بتحليل من العقل وقصر النظر على صميم ذاتها ، دون ملاحظتها مع الخارج.

الثاني : الأولوية غير كافية في الإيجاد

إنّ نسبة الممكن إلى الوجود والعدم على حدّ سواء ، وخروجه عن طرفي الاستواء رهن علّة فاعلية تضفي عليه الوجود أو العدم (وإن كان عدم العلّة كافيا في عدم المعلول) فإذا كانت العلّة مركّبة من عدة أجزاء فلا تخلو العلّة :

إمّا أن تسدّ جميع أبواب العدم عليه باجتماع الأجزاء أو لا ، فعلى الأوّل يثبت المطلوب أي يكون وجوده واجبا وضروريّا ، لأنّ المفروض أنّ كلّ ما يحتاج إليه المعلول في وجوده فهو موجود بالفرض وشيء دخيل في تحقّق المعلول إلّا وهو موجود.

وعلى الثاني أي لا يسدّ جميع أبواب العدم عليه وذلك بفقد بعض الأجزاء يكون ممتنع الوجود ، والقول بوجوده مع نقصان العلّة يرجع معناه إلى وجود المعلول بلا علّة وهو باطل بالضرورة.

وأمّا ما ربّما يقال من كفاية الأولوية في تحقّق المعلول ، وعدم لزوم وصول وجود المعلول إلى حدّ الوجوب بل يكفي ترجّح جانب الوجود على العدم ، فغير تام.

لأنّه إن أراد من الأولوية كفاية وجود بعض أجزاء العلة دون بعض ، لحصول الأولوية بذلك فغير صحيح ، لأنّ معنى ذلك عدم مدخلية غير الموجود من اجزاء العلة في تحقق المعلول مع أنّ المفروض أنّه من أجزائها ومدخليته في تحقّقه ومرجعه إلى التناقض.

وإن أراد منها لزوم اجتماع جميع اجزاء العلة لكن لا يشترط وصول وجود المعلول الى حد الوجوب فقد عرفت بطلانه ، لأنّه مع ذلك الفرض يسدّ جميع أبواب العدم ويستحيل عروضه عليه ، فيكون النقيض الآخر واجبا بلا كلام.

فاتّضح بذلك أمران :

١. إنّ وجود الشيء فرع اجتماع جميع أجزاء علّته حتى ينسدّ به أبواب العدم على المعلول. وتحقق جميع الأجزاء يلازم وجوب الوجود ولزومه ، وإلّا فلو افترضنا اجتماع جميع أجزاء العلّة ومع ذلك لم يكن المعلول متحققا يرجع معناه إلى عدم كفاية الموجود في التحقّق ، وإلّا فمع افتراضها لا وجه للانفكاك وعدم التحقّق.

٢. عدم كفاية رجحان الوجود على العدم في تحقّقه لما عرفت من أنّ مرجع كفاية الرجحان إمّا إلى التناقض في القول وافتراض مدخلية شيء في تحقّق المعلول. وإمّا عدم تحقّقه مع اجتماع جميع ما يتوقف عليه من أجزاء العلّة.

إذا علمت هذين الأمرين ، تقف على أنّ القاعدة لا تنفي اختيارية الفاعل في فعله إذا كان الفاعل فاعلا مختارا ، بل تؤكّد

الاختيار ، لأنّ الفاعل بإرادته واختياره يوجب وجود المعلول ويحتّم ثبوته ، والوجوب والإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وعلى ذلك فالفاعل فاعل موجب (بالكسر) لا فاعل موجب (بالفتح).

وإن شئت قلت : إنّ مفاد القاعدة هو أنّ المعلول لا يتحقّق إلّا بسدّ جميع أبواب العدم عليه ، ولا يسدّه إلّا الفاعل ، فهو لو كان فاعلا مضطرّا يسدّه بالاضطرار ، ولو كان فاعلا مختارا يسدّه كذلك ، فلا صلة بين القاعدة ونفي الاختيار.

تنبيه :

وربّما يتصوّر أنّ القاعدة مبنيّة على القول بامتناع الترجيح بلا مرجّح وعدمه ، فاذا قلنا بالأوّل فالقاعدة تامّة وإلّا فلا.

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ قاعدة امتناع الترجيح بلا مرجّح ، من الأوّليات التي لا يشك فيها ذو مسكة ، لأنّ مآل تجويزه هو جواز الترجح بلا مرجّح والمعلول بلا علّته وهو باطل بالضرورة.

وجه ذلك لو افترضنا أنّ بين يديك رغيفين أو أمام الهارب طريقين ، فكما أنّ أصل الأكل والهرب يحتاج إلى علّة ، فهكذا

تخصيص أحدهما دون الآخر أمر وجوديّ لا يفارق العلة فمن قال بجواز الترجيح بلا مرجح ، فقد جوّز تحقّق أمر وجوديّ وهو تخصيص أحدهما دون الآخر بلا علة ، وما مثل برغيفي الجائع أو طريقي الهارب فثمة مرجّحات خفية لا يلتفت إليها الإنسان بتفصيل ، كأن يختار ما يقع في جانب اليمين على ما في جانب اليسار ، او يختار أوّل ما تطرف إليه عيناه ، إلى غير ذلك من المرجحات التي ربّما تخفى على الإنسان إلّا بعد الإمعان والدقة.

وثانيا : أنّ ترجيح أحد الفعلين متقدّم على تعلّق إرادته بالإيجاد فهو يرجّح أوّلا ثم يريد الإيجاد ، فعند ذلك يأتي دور قاعدة «الشيء ما لم يجب لم يوجد» فاختيار الفعل عن ترجيح متقدم على الإرادة ثم الإيجاب والوجوب ، فكيف يناط وجوب المعلول وعدمه بشيء لا دخل له فيه؟

وإن شئت قلت : إنّ النفس بعد اختيارها إيجاد شيء بأيّ نحو حصل ، يكون فاعلا موجبا للإرادة أوّلا ، وفاعلا موجبا بتوسّط الإرادة لتحريك العضلات ثانيا ، وفاعلا موجبا بالمعلول الخارجي ثالثا ، فجواز الترجيح بلا مرجّح وعدمه المتقدم على مسألة الإيجاب والوجوب لا صلة له بالقاعدة.

نعم ثمة نكتة وهي : أنّ الاستقلال في الإيجاد والإيجاب فرع الاستقلال في الوجود ، والعلّة التامة المستقلّة ما تسد بنفسها وبذاتها جميع الأعدام الممكنة للمعلول ، ومن تلك الأعدام عدمه بانعدام فاعله ولا تجد لذلك مصداقا في نظام الوجود يسدّ بنفسه جميع الأعدام سوى الخالق المتعال (جلّت قدرته) وما سواه يمتنع عليه سدّ جميع أبواب العدم التي منها عدم وجود الفاعل.

الشبهة الثالثة : تعلّق علمه بأفعال العبد ينافي الاختيار

إنّ صفاته الجمالية سبحانه مع كثرتها واختلافها في المفاهيم ، ترجع حسب الوجود إلى حقيقة بسيطة هي صرف كل كمال وجمال وليس في مقام الذات أيّ كثرة وتعدّد ، بمعنى أنّ حيثية علمه في الوجود هي حيثية قدرته وإرادته وبالعكس ، فالذات كلّها علم ، وكلّها قدرة ، وكلّها إرادة ، فصدور فعل عن إرادته عين صدوره عن علمه ، وهو عين صدوره عن ذاته الأحدية أخذا بوحدة الصفات في مقام الذات.

إذا علمت ذلك فتقرّر الشبهة بالنحو التالي :

إنّ العلم على قسمين : انفعاليّ وفعليّ ، ففي الأوّل ، العلم يتبع

المعلوم الخارجي ويستند إليه ، فإذا رأى أنّ زيدا قائم ، يحصل له العلم بأنّه كذا وكذا فليس للعلم أيّ تأثير في المعلوم الخارجي ، وإنّما الأمر على العكس فالخارج ، هو الذي صار مبدأ لعلم الإنسان بكونه قائما.

وفي الثاني الأمر على العكس ، فالعلم يكون سببا لحدوث المعلوم وتحقّقه في الخارج كما هو الحال في الفاعل العنائي والتجلّي (على الفرق المقرر بينهما).

فالناظر من شاهق يتصوّر السقوط ويكون مبدأ لسقوطه ، فالمعلوم تابع للعلم ويكون متحقّقا في ظلّه ، والله سبحانه فاعل بالتجلّي الذي يكون نفس العلم فيه مبدأ ومصدرا من غير استعانة بشيء آخر ، وما شأنه كذلك يكون العلم متبوعا والمعلوم تابعا ، وإلى ذلك ينظر قول الأكابر من أنّ النظام الكياني تابع للعلم الربّاني وأنّه المبدأ لنظام الوجود من الغيب والشهود ، وأنّ ما في سلسلة الوجود من الجواهر والأعراض والمجرّدات والماديات تابع لعلمه الذاتي الذي هو علّة لتحقّق السلسلة.

وعلى هذا يكون علمه سبحانه مبدأ لما في الكون من سلسلة الوجود على وجه لا يتخلّف المعلوم عن علمه ، فعندئذ

يجب صدور جميع الموجودات ومنها أفعال العباد ، بالقضاء الإلهي والعلم الأزلي ، وإلّا لزم تخلّف المعلوم عن العلم ، والمراد عن الإرادة الممتنع في حقه عزوجل ، فيصير العباد مقهورين في أفعالهم وإن كانوا مختارين في الظاهر.

الجواب عن الشبهة

إن الجواب عن الشبهة واضح بشرط الالتفات إلى ما ذكرنا سابقا ، وهو أنّ علمه تعالى لم يتعلّق بتحقّق الموجودات في عرض واحد حتى تسلب العلّية عن سائر مراتب الوجود ويستند الكل إليه سبحانه في درجة واحدة ، بل تعلّق علمه بالنظام الكياني على ترتيب الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات بحيث يصدر كلّ مسبّب عن سببه القريب حقيقة ، ولم يتعلّق بتحقق الموجود في عرض علته أو به بلا توسّط سببه ، والشاهد على ذلك كون الوجود معقولا بالتشكيك وتعلّق كل مرتبة بمرتبة متلوّة على وجه لا يكون لكل درجة من الوجود ، التجافي عنها ، وإلّا يلزم الانقلاب الذاتي الممتنع ، وعلى ذلك فكلّ ما في الكون من وجود وتحقّق فهو مرتبط بعلّته القريبة وسببه.

فالسبب يؤثّر في مسبّبه ، والعلّة في معلوله ، وبه تعلّق علمه

الرباني وعلى ذلك يكون علمه بصدور كل معلول عن علّته مؤكّدا للاختيار ، لا سالبا له ، إذ معناه أنّه تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله فلو كان الفاعل مضطرا تعلّق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار ، ولو كان فاعلا مختارا تعلّق علمه بصدوره عنه كذلك ، فالنظام الكياني بوجوده وصفاته ، متعلّق علمه ، ولو صدر فعل الفاعل الاختياري عنه على وجه الاضطرار لزم تخلّف علمه عن معلومه.

وإن شئت قلت : إنّ كلّ ما يوجد من الكمال والجمال فهو من صقع وجوده وتجلّيات ذاته وإنّ ما في دار الوجود من النظام الأتمّ فهو عين علمه الفعلي إلّا أنّه لا يلازم الاضطرار ، لأنّ كل مرتبة متعلّقة متدلّية بتمام هويتها لما فوقها ، بحيث لا يمكن التجافي عنها ولا التنزّل إلى ما دونها ومعنى ذلك تعلّق علمه بصدور كلّ مسبّب عن سببه ، والمعلول عن علّته على النظام الخاص ولم يتعلّق علمه بصدور كلّ معلول عن علّته فقط ، وإنّما تعلّق بصدور كلّ معلوم عن علته على الوصف الخاص لها من اضطرار واختيار ، فالقول بعلمه العنائي ، وأنّ النظام الكياني تابع للعلم الرباني مع التحفّظ على نظام العلل والمعاليل يؤكّد الاختيار وينفي الاضطرار.

وبعبارة موجزة : من عرف كيفية صلة الموجودات بأسبابها يعرف أنّ لكل جزء من النظام الكياني مع كونه مظهرا لأسمائه وصفاته ، أثر خاص ، فالإنسان فاعل مختار تحت ظل العامل المختار بالذات كالله سبحانه وفاعليته ظل فاعليته تعالى (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فتعلّقت إرادته بالنظام الأتم على وجه يكون الإنسان فيه فاعلا مختارا والنار فاعلا مضطرّا ، فكون علمه العنائي منشأ للنظام الكياني ، لا ينافي الاختيار.

إلى هنا تمّت الشبهات الثلاث مع أجوبتها ، أعني :

أ : كون فعل الإنسان داخلا في إطار إرادته سبحانه ، ينافي الاختيار.

ب : أنّ تحقق كلّ فعل إذا كان رهن الإيجاب ، فهو ينافي الاختيار.

ج : أنّ كون علمه العنائي منشأ للنظام الكياني ، ينافي الاختيار. وقد عرفت عقم تلك الشبهات.

بقي الكلام في شبهه أخرى وهي السعادة والشقاء الذاتيّين.

الشبهة الرابعة : السعادة والشقاء الذاتيّان

ربما يتصوّر أنّ لكلّ من السعادة والشقاء تأثيرا في مصير الإنسان وأنّ السعيد بالذات يختار ما يناسبه والشقيّ بالذات ينتقي ما يلائمه ، فالإنسان يكون مجبورا ومكتوف اليدين أمام مصيره.

هذه حاصل الشبهة لكنّ دفعها ، وتحقيق معانيها يتوقف على بيان أمور :

الأوّل : يطلق الذاتي ويراد منه معان مختلفة

، ونذكر في المقام معنيين.

الأوّل : الذاتي ما ليس بخارج عن ذات الإنسان فيكون إمّا جنسه أو فصله أو نوعه ، ويطلق عليه الذاتي بالمعنى المصطلح في باب الايساغوجي.

الثاني : ما ينتزع من ذات الشيء وحاقّه دون حاجة إلى ضمّ

حيثية وجودية إلى منشأ الانتزاع كلوازم الماهية كالزوجية والإمكان ، وهذا ما يطلق عليه الذاتي في باب البرهان ، فإنّ افتراض الأربعة كاف في انتزاع الزوجية وكافتراض الإنسان كاف في انتزاع الإمكان ، ويقابله العرضي ما لا ينتزع من حاق الذات وإنّما ينتزع من حيثية وجودية منضمة إلى منشأ الانتزاع كانتزاع الأبيض عن الجسم فلا ينتزع إلّا بعد انضمام حيثية وجودية ـ أعني البياض ـ إليه.

ويشير المحقّق السبزواري إلى ما ذكرنا بقوله :

كذلك الذاتي بذا المكان

ليس هو الذاتي بالبرهان

بل لاحق لذات شيء ، من حيث هي

بلا توسّط لغير ذاته

فمثل الإمكان هو الذاتي

لا الذاتي الايساغوجي بل ثاني

الثاني : عرف الذاتي بأنّه الذي لا يعلّل ، قال الحكيم السبزواري :

ذاتي شيء لم يكن معلّلا

وكان ما يسبقه تعقّلا

وربما ينسبق إلى الذهن بأنّ الذاتي لا يحتاج إلى علّة موجدة وهو خطأ محض ، لأنّ الذاتي أمر ممكن ، والممكن لا يتحقّق إلّا بعلّة محدثة ، فالذاتي بحاجة ماسّة إلى العلّة في وجوده وتحقّقه ، لأنّ نسبة الوجود إلى موضوع لا يخلو عن حالات ثلاث : إمّا أن يكون وصفه به واجبا ، أو ممكنا ، أو ممتنعا والأمر دائر بين الثلاثة والحصر فيه عقلي ، فإن كانت النسبة على النحو الأوّل والثالث وقلنا باستقلال الامتناع في الجهة ولم نقل برجوعه إلى جانب الوجوب ، على ما هو المبيّن في محلّه كان مستغنيا عن العلّة والجعل ، لأنّ وجوب الوجوب أو وجوب العدم مناط الاستغناء عن الجعل والعلّة ، كما أنّ الثاني هو مناط الاحتياج ، إذ المفروض أنّ الممكن برزخ بينهما يصح أن يوصف به وأن لا يوصف ، وما هو كذلك لا يوصف إلّا مع العلة.

وعلى ذلك فإذا قلنا : الأربعة موجودة ، فنسبة الوجود إليها يكون من قبيل الثاني ، فهي في حدّ الاستواء لا يخرج عنه إلّا بسبب يضفي عليه وجوب الوجود ، أو وجوب العدم ، وإن كان يكفي في عدمه عدم العلّة ، ولكنّه بعد تحقّق الأربعة في الخارج ينتزع الزوجية من دون حاجة إلى سبب آخر ، بل سبب وجود الأربعة كاف في انتزاعها عنه ، لأنّ المفروض أنّها لا تفارقها في

وعاء من الأوعية ، ففرض وجود الأربعة كاف في فرض الزوجية.

هذا كلّه في الذاتي في باب البرهان ، ومنه يعلم حال الذاتي في باب الايساغوجي ، فإنّ نسبة الوجود إلى الإنسان نسبة ممكنة فلا يخرج عن حدّ الاستواء إلّا مع العلّة ، ولكن بعد فرض وجوده في الخارج ينتزع منه الإنسانية والحيوانية والناطقية بلا حاجة إلى سبب خاص فإنّ السبب المحقّق للإنسان ، كاف في انتزاع المفاهيم الثلاثة بلا حاجة إلى سبب آخر.

وعلى ذلك فالإنسان ، حيوان ناطق ، بالضرورة ، لكنّه ممكن وجودا.

فظهر من ذلك أنّ المراد من عدم حاجة الذاتي إلى العلّة هو أحد أمرين على وجه مانعة الخلوّ :

١. إنّ فرض الموضوع في عالم المفاهيم كاف في حمل المحمول عليه سواء كان داخلا في الذات كالذاتي المصطلح عليه في باب الايساغوجي ، أو خارجا عنها لكن لازما لها كالذاتي في باب البرهان.

٢. عدم حاجته في مجال التحقق إلى سبب وراء السبب الذي أوجد الموضوع ، فالسبب الموجد له كاف في انتزاع جميع الذاتيات بلا فرق بين الذاتي في البرهان أو باب الايساغوجي.

الثالث : الفرق بين الجهة التعليلية والتقييدية.

قد اشتهر في كلماتهم تقسيم الجهة الى تعليلية وتقييدية ، والمراد من الأولى هو حاجة الشيء في خروجه عن حد الاستواء إلى علة وجودية تضفي عليه الوجود والتحقّق ، والممكن بعامة أقسامه لا يستغني عن حيثية تعليلية.

وأمّا الحيثية التقييدية ، فالمراد ضم حيثية وجودية إلى الموضوع تصحّح حمل المحمول عليه وراء حاجته إلى علة موجدة للموضوع ، وهذا يتجلّى في المثال التالي :

إذا قلنا البياض أبيض.

أو قلنا الجسم أبيض.

فالأوّل رهن حيثية تعليليّة تخرج البياض من حد الاستواء إلى جانب الوجود ، وهذه الحيثية كافية في حمل المحمول على الموضوع ، ولا يتوقف الحمل الى ضم حيثية تقييديّة الى البياض بل وضعه يصحّح حمل الأبيض ، وهذا بخلاف الثاني

فإنّ حمل الأبيض على الجسم رهن حيثيتين : حيثيّة تعليلية تخرج الجسم عن الاستواء إلى جانب الوجود ، وحيثية تقييدية كالبياض منضمة إلى جانب الجسم حتى تكون مصححا لحمل الأبيض عليه.

هذا هو حال الممكنات ، فلا يستغني أيّ ممكن في حمل محمول عليه من حيثية تعليلية في عامة الأقسام وتقييدية في بعضها.

وأمّا الواجب جل ذكره فبما انّه واجب الوجود ولازم الثبوت ، فهو في غنى عن الحيثية التعليليّة.

كما أنّه في غنى عن الحيثية التقييدية ، لأنّ الذات عين الوجود والكمال ، فلا حاجة في حمل أي كمال عليها لشيء وراء الذات.

فتبيّن بذلك انّ الواجب لا يحتاج إلى الجهات التعليلية والتقييدية ، كما انّ الماهيات الممكنة بالنسبة إلى أعراضها كالجسم بالنسبة إلى البياض رهن كلتا الحيثيتين.

وأمّا الوجود المنبسط الذي بسطه الله سبحانه على هياكل الماهيات فبما انّه صرف الوجود عين التعلّق والفقر ، فهو

محتاج الى حيثية تعليلية حتى يحقّقه ولا يحتاج في حمل الوجود عليه إلى حيثية تقييدية.

وإن شئت قلت : ليس في نظام الوجود شيء يوصف بالوجود بلا جهات تعليلية وتقييدية سوى الواجب فهو غير مفتقر ولا معلّل ، وأمّا الموجودات الإمكانية فهي بين ما يتوقّف على كلتا الحيثيتين ، كقولنا : الجسم أبيض ؛ وأخرى على حيثية واحدة ، كقولنا : الوجود موجود ، أو البياض موجود. فلوازم الوجود والماهية معلّلة في التحقّق والثبوت غير معلّلة في اللزوم والإيجاب.

الثالث :

[الرابع] الوجود هو أصل الكمال ومبدؤه

الماهيات بما أنّها أمور انتزاعية من حدود الموجود فلا أثر لها ولا اقتضاء وإنّما الأثر والشرف والكمال كلّه للوجود ، وهو الأصيل في عالم التحقّق ، إذ العلم بوجوده يكشف عن المعلوم لا بماهيته ، وهو بوجوده أيضا كمال وجمال لا بمفهومه ، ومثله القدرة والحياة والإرادة فكلّها شرف بالوجود لا بمفاهيمها ، ولذلك كلّما اشتدّ الموجود ، وقلّت حدوده الوجودية اشتدّ كماله ، وكلّما ضعف الوجود وكثرت حدوده الوجودية ضعف كماله إلى أن يصل إلى حدّ ليس له حظّ من الوجود سوى كونه

أمرا بالقوة تسمّى بالهيولى.

وعلى ضوء ذلك فصرف الوجود ، مبدأ كل كمال وجمال ، والموجودات الإمكانية لها حظّ من الآثار حسب حظّها من الوجود المنبسط ، ولماهياتها خواص بالعرض تبع وجوداتها.

فتلخّص من ذلك أنّ الماهيّة مع قطع النظر عن تنوّرها بنور الوجود ، منعزلة عن الآثار منخلعة عن الخواص ، وما ربما ينسب إلى الماهية من الآثار فإنّما هي للوجود أوّلا وبالذات وللماهية ثانيا وبالعرض.

فإن قلت : كيف لا أثر للماهية مع أنّ اللوازم تنقسم إلى لوازم الماهية ، ولوازم الوجود؟ فالحرارة من لوازم وجود النار ولكن الزوجية من لوازم الماهية ، فماهية الأربعة مع قطع النظر عن الوجود الذهني والوجود الخارجي تلازم الزوجيّة ، فهي ثابتة لها في وعاء الماهيات.

قلت : إنّ هذا التفسير للازم الماهية تفسير خاطئ ، إذ ليست الزوجية ثابتة للأربعة في حال عدمها وإنّما تثبت لها في ظرف وجود الأربعة في أحد الموطنين : إمّا الذهن أو الخارج ، ومع ذلك فليست الزوجية من لوازم الوجودين : الذهني أو

الخارجي ، بل من لوازم الماهية ومعنى كونه من لوازم الماهية لا من لوازم الوجود ، أنّ الإنسان يدرك الأربعة مع الزوجية حتى مع غفلته عن تحصّلها بالوجود الذهني ، وهذا دليل على أنّ للوجود الذهني تأثيرا في ظهور الملازمة لا في نفس الملازمة ، وإلّا فلو كان الوجود الذهني مؤثّرا في الملازمة لامتنع تلازمهما مع الغفلة عن الوجود المقترن بهما والمحصل لهما ، وهذا هو الفرق بين لازم الماهية ولازم الوجود ، فالوجود في الأوّل سبب لظهور الملازمة بخلاف الثاني فهو سبب لها.

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات ، فاعلم أنّ للسعادة والشقاء إطلاقات ثلاثة :

الأوّل : ما اصطلح عليه أهل المعرفة والكمال من أنّ السعادة هي الكمال المطلق والخير المحض ، وهو مساوق للوجود الذي إليه مرجع الكمالات فالوجود الأتمّ المطلق خير وسعيد مطلق. وكلّما تنزّل عن إطلاقه وشدّته وقوته ، اختلفت سعادته وخيريّته. والشقاء في مقابلها وهو الشرّ المحض والعدم المطلق ظلمات بعضها فوق بعض ولها عرض عريض.

الثاني : ما هو المعروف لدى العرف وأبناء الدنيا أنّ من توفّرت له في هذه الدنيا الدنيّة وسائل اللذّة والشهوة فهو سعيد ،

ومن أدبرت عنه وتركته في نكبة ومحنة ولا يجد ما يسدّ به رمقه فهو شقي.

الثالث : ما عليه الملّيّون ، أعني : الذين لهم عقيدة راسخة بالمبدإ والمعاد ، والجنة ودرجاتها والنار ودركاتها ، فمن نال الجنة ونعيمها فهو من السعداء ، ومن دخل النار وجحيمها فهو من الأشقياء ، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه :

(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١).

فمن دخل الجنّة ، فهو السعيد ، وإن كان في الدنيا رهين الفقر والفاقة ؛ ومن دخل الجحيم ، فهو شقيّ ، وإن كان في الدنيا حليف العيش الرغيد.

إذا وقفت على هذه المعاني الثلاثة للسعادة والشقاء ، فاعلم أنّ المراد منهما في هذا المقام هو المعنى الثالث لخروج الأوّلين عمّا يرتئيه الحكيم أو المتكلّم في ذلك المقام ، ولا وجه لجعل السعادة والشقاء بالمعنى الثالث من الذاتيات غير المعلّلة كما

__________________

(١). هود / ١٠٦ ـ ١٠٨.

عليه المحقّق الخراساني وتبعه بعضهم ، إذا ليستا جنس الإنسان ولا فصله ولا من اللوازم المنتزعة من حاق الذات ، بل ينتزعان من الحيثيات الوجودية التي يكتسبها العبد باختياره ، والمراد من الحيثيات الوجودية هي العقائد الحقة والأعمال الصالحة أو نقيضها من العقائد الفاسدة والأعمال القبيحة ، إلى غير ذلك مما يعدّ مبدأ لانتهاء مسير الإنسان إلى الجنة أو النار.

ولو قلنا بأنّ الثواب والعقاب يرجع إلى الإنسان حسب ما اكتسب من ملكات الخير والشرّ ، فهو يخلق صورا بهيّة وروضة غنّاء ، يلتذ بها ، أو يخلق صورا قاتمة وحفرة من النيران يعذّب بها ـ ولو قلنا بذلك ـ فليست السعادة والشقاء من الأمور الذاتية وإنّما هي من لوازم الملكات التي يكتسبها العبد في طول حياته تحت ظلّ ممارسة الفكر والعمل.

إلى هنا تمّت الشبهات المطروحة حول اختيارية الإنسان المتجلّي عندنا في المذهب الحق أي الأمر بين الأمرين.

الفصل الخامس

أخبار

الطينة وتفسيرها

إنّ من الأسئلة المثارة حول اختياريّة الإنسان مسألة خلقة الإنسان من طينات مختلفة، فطينتهم إمّا من عليين أو من سجّين ، ومن الواضح أنّ لكلّ أثرا خاصا في مصير الإنسان ، ومعه كيف يمكن أن يكون الإنسان فاعلا مخيّرا وإنّما يكون فاعلا مسيّرا؟

أقول : إنّ تحقيق الحق يتوقّف على بيان أمرين :

الأوّل : إنّ ملاك المثوبة والعقوبة هو مخالفة البالغ العاقل التكليف الواصل إليه ، فبالعقل يميّز بين الحسن والقبيح ، وبين إطاعة المولى ومخالفته ، كما أنّه بالوقوف على التكليف يقف على مراد المولى ممّا يرضيه أو يسخطه ، فإذا خالف باختياره وإرادته من دون ضرورة يكون هو تمام الموضوع عند العقلاء لصحة مؤاخذته وعقوبته بألوان العقوبات ، فهذا هو ملاك

العقوبات عند العقلاء.

الثاني : يمتنع عليه سبحانه إمساك الفيض وقبض الإحسان ، لأنّه الفيّاض المطلق الذي لا يتصوّر فيه شائبة البخل وعلى ضوء ذلك ، فإذا كان الفاعل فياضا والموضوع قابلا للأخذ والموانع منتفية ، فما هو الوجه عن منع الإفاضة؟

وإن شئت قلت : إنّ واجب الوجوب بالذات واجب من جميع الجهات والحيثيات ، فلا يتصوّر فيه إمكان أن يفعل أو يترك ، بل إمّا يجب فعله أو يلزم تركه حتى لا يتطرّق إليه الإمكان المستلزم للمادة المنزّه عنها ، والقول باللزوم في الفعل والترك لا ينافي كونه مختارا ، نظير لزوم ترك الظلم وعدم صدور القبيح الذي لا ينافي كونه مريدا قادرا مختارا في ترك الظلم والقبح.

نعم يفاض الجود حسب قبول القابل ، وعلى وفق قابلية السائل ، فإذا تمّ الاستعداد في القوابل تفاض عليها الصور من المبادئ العالية ، ويكون ما يفاض عليها أكملها وأفضلها.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ منشأ اختلاف النفوس من بدء نشوئها إلى ارتقائها ، رهن عوامل عديدة نشير إليها ، ولأجل ذلك نرى أنّ بعض النفوس تسارع إلى الخيرات والأعمال

الصالحة وبعضها تميل إلى الشرور والاعمال الطالحة ، فكأنّ في جوهر الأولى حبّ الصلاح والفلاح ، وفي جوهر الثانية حبّ الدنيا وزخارفها ، وإليك بيان تلك العوامل :

الأوّل : اختلاف الناس في النفس المفاضة ، واختلافها ناشئ عن اختلاف النطف المستعدّة لقبول الصور الإنسانية ، وإليك توضيحه :

إنّ من القوى الكامنة في الإنسان : القوة المولّدة وهي عبارة عن تهيئة المواد اللّازمة من جسم الإنسان وجعله مبدأ لإنسان آخر أودعت فيه لحفظ نوعه.

وثمة قوة ثانية باسم القوة المغيّرة وشأنها تهيئة كلّ جزء من المنيّ في الرحم ليختصّ بإيجاد أعضاء خاصة بأن يجعل بعضه مستعدّا للعظميّة وبعضها الآخر للعصبية ، إلى غير ذلك.

ثم إنّ مادة المنيّ الذي هو أثر القوة المولّدة عبارة عن الأغذية ، بعد عمل القوى أعمالها وعبورها عن الهضم الرابع ، ولكن الأغذية مختلفة غاية الاختلاف في الصفاء والكدر واللّطافة والكثافة وبتبعه يختلف المنيّ ، ويعبّر العلماء عن اختلاف الأغذية باختلافها من حيث الحرارة والبرودة

واليبوسة والرطوبة ، ويعبّر عنها اليوم باشتمالها على فيتامينات وبروتينات مختلفة وغيرها.

وعلى أيّة حال فلو كانت النطفة حصيلة الأغذية اللطيفة ، يكون استعدادها لقبول الصور مغايرا لاستعداد النطف الحاصلة من الأغذية الكثيفة ، ومهما تصاعد اختلاف الأغذية تصاعد الاختلاف في المنيّ صفاء وكدرا أيضا ، وقد مضى أنّ الإفاضة حسب قابلية المواد ، فكما لا يمكن منع المواد من نور الوجود ، كذلك يمتنع إفاضة صور قوية على المادة الضعيفة.

الثاني : إنّ لشموخ الأصلاب وعلوّها ونورانيتها وكذا مقابلاتها ، مدخلية تامّة في اختلاف الفيض المفاض واستعداد المواد للنفوس الطاهرة وخلافها ولذلك وردت في زيارة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام : «أشهد أنّك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة» فسمّيت النطفة لكمال لطافتها نورا وإنّها لم تختلط بقذارة الأرحام ونجاستها بل أودعت في الأرحام الطيبة.

الثالث : إنّ لمراعاة آداب النكاح والجماع والحمل ورعاية شرائط الرضاع وسلامة مزاج الزوج والزوجة وصفاء روحهما ، تأثيرا خاصا في صفاء النفس وكدرها ، وقد ورد في هذا الصدد

روايات.

يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنظر في أيّ شيء تضع ولدك فإن العرق دسّاس» (١).

والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الأبناء.

ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إيّاكم وخضراء الدمن ، قيل : يا رسول الله وما خضراء الدّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت سوء» (٢).

يقول الإمام عليّ عليه‌السلام : «حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق» (٣).

الرابع : إنّ عنصر التربية من العوامل المؤثرة في تكوين شخصية الإنسان وتكامله فهو يلازمه منذ نعومة أظفاره إلى بلوغه ، فإنّ دور الوالدين في تلقين الخير والشرّ لطفلهما أمر غير خفي على أحد ، ويليه في الأهميّة عنصر التعليم الذي يتلقاه الإنسان في المدارس والمعاهد ، إلى غير ذلك من العوامل المؤثّرة في النفس الإنسانية.

الخامس : نشوؤها في البيئات الصالحة البعيدة عن المعاصي وفساد الأخلاق التي تترك بصمات واضحة على خلق الإنسان وأخلاقياته ، وهذا أمر واضح لا يشوبه شك.

__________________

(١). المستطرف : ٢ / ٢١٨.

(٢). غرر الحكم : ٣٧٩.

(٣). البحار ٢٣ / ٥٤.

وحصيلة البحث : أنّ ثمة عوامل كثيرة مؤثّرة في تكوين شخصية الإنسان منذ تكوّن نطفته في الأرحام إلى أن يصبح إنسانا كاملا ، ولكن هذه الأسباب خيرها وشرّها ليست على حدّ يسلب الاختيار عن الإنسان ويجعله مكتوف اليد أمامها ، بل كلّها مقرّبات ومعدّات لهما وفي مقابلها اختيار الإنسان وانتخابه وحرّيته في العمل.

نعم من اجتمع له صفاء المراد وشموخ الأصلاب وعلوّها وطهارة الأرحام والبيئات يجد في نفسه ميلا نحو العمل الصالح ، كما أنّ من اجتمع فيه خلافها ومقابلاتها يجد في نفسه ميلا نحو العمل الطالح ، ومع ذلك كلّه فليس كلّ إنسان ملجئا إلى ما يميل إليه ، فالعبد بعد باسط اليدين وهو مختار في فعله لدى العقلاء وإن اختلفت طينته.

هذه هي العوامل التي تختلف بها الطينة تباعا ، فما ورد في المأثورات حول الطينة وخلقة الإنسان فما كان موافقا لما ذكرنا فيؤخذ به ، وأمّا المخالف لما ذكرنا الدالة على الجبر فلا بدّ من تأويله وتفسيره أو حمله على التقية ، فإنّ الأمر بين الأمرين من ضروريات مذهب الإمامية فلا يقدّم عليه الخبر الواحد.

إنّ ثمة مأثورات وروايات ربّما تقع ذريعة للقول بالجبر مع

أنّها لا صلة لها به وإنّما تشير إلى المعدات التي أشرنا إليها في الدراسة السابقة ، وإليك بعض هذه المأثورات :

١. «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» (١).

والحديث بصدد بيان اختلاف جوهر النفوس في الصفاء والكدر كاختلاف المعادن في الصور النوعية والآثار والخواص ، والجميع من نوع واحد لكن اختلافها حسب اختلاف الأمكنة وحرارة الأرض وجفافها وإشراق الشمس وعدمها ، ممّا لها مدخلية في تكون المعادن وصلابتها وخلوصها عن الشوائب.

وهكذا المواد المكوّنة للنطفة والظروف المحيطة بها لها تأثير في صفاء نفس الإنسان ، ومع ذلك لا تسلب الاختيار عنه.

٢. ما أثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الشقيّ من شقى في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه» (٢). وفي رواية أخرى : «الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمه» (٣).

ولا دلالة للحديث على ما يرتئيه الجبري ، وذلك لأنّ النفس

__________________

(١). لعلّ في الحديث إشارة إلى أنّ جوهر عامة الناس ثمين إلّا أنّه يختلف بعضه عن بعض بالخلوص والشوائب كما في الذهب والفضة.

(٢). بحار الأنوار : ٣ / ٤٤.

(٣). تفسير روح البيان : ١ / ١٠٤.

المفاضة على المادة المستعدّة النورانيّة ، طاهرة وسعيدة منذ أوّل أمرها لعدم تدنّسها من ناحية العوامل المدنّسة كالآباء والأجداد وغير هما ، ولكن النفس المفاضة على المواد الكثيفة دنسة ونجسة وشقية منذ بدوها وأوّل نشوئها لكن لا طهارة النطفة موجبة إلى الخيرات والسعادات ، ولا قذارة المادة وكثافتها موجبة لاختيار الشرور والشقاء ، بل كل يحنّ إلى ما يناسبه من الخيرات والشرور ولكن الميل شيء والإلجاء شيء آخر.

ويمكن أن يكون الحكم بالسعادة أو الشقاء باعتبار ما يؤول إليه أمر الشخص فمن ينتهي مآل أمره إلى الجنة ، فهو محكوم بالسعادة منذ أوان حياته ، فكنّي عن أوان الحياة ببطن الأم ، ولعلّه إلى ذلك يشير الحديث الشريف الذي رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن أبي عمر ، قال : سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام عن معنى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الشقيّ من شقي في بطن أمّه والسعيد من سعد في بطن أمّه» فقال : الشقيّ من علم الله وهو في بطن أمه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمه أنّه سيعمل أعمال السعداء ، قلت له : وما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له»؟

فقال : «إنّ الله عزوجل خلق الجنّ والإنس ليعبدوه ولم يخلقهم ليعصوه وذلك قوله عزوجل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فيسّر كلا لما خلق له ، فالويل لمن استحبّ العمى على الهدى». (١)

فترى أنّه سلام الله عليه دفع الشبهة كلّها بأنّ العباد مختارون وأنّ ما خلقوا لأجله من العبادة ميسور لهم ، وأنّ علمه تعالى بعمل السعداء والأشقياء أو اتخاذ النطف من الأمور الصفوة والكدرة لا تسلب الاختيار.

هذا بعض ما يمكن أن يقال في أخبار الطينة وما يشبهها.

خاتمة المطاف :

إنّ للعلماء الربّانيّين والعرفاء الشامخين من أهل الكشف واليقين هنا كلمة قيّمة هي عصارة الكتب المنزلة ، والمأثورات الشرعية ، مدعمة بالبرهان ألا وهو البحث عن أحكام الفطرة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ووصفها وبيان حقيقتها وما يدور حولها من بحوث ، ونحن نشير إلى بعضها بنحو الإجمال والاختصار.

إن الله جلّت عظمته خلق العباد بقدرته ، وأفاض عليهم من

__________________

(١). التوحيد / ٣٥٦.

نور وجوده وفيض علمه وسائر كمالاته ما هو اللائق بحالهم وحسب قابلية المواد القابلة من غير ضنّة وبخل ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا ، وفطر النفس على اختلافها في القبول والاستعداد بفطرتين طيّبتين لتكونا جناحيها نحو معراجها إلى فاطرها ، لتطير إلى وكرها وتصل إلى ربّها حسب معرفتها وعرفانها.

الفطرة الأولى : هي العشق للكمال المطلق والجمال المحض ، أعني : النور الذي ليس فيه ظلمة ، والعلم الذي لا يدانيه جهل وريب ، والقدرة التي لا يشوبها عجز ، ومن هو صرف كل جمال وكمال ، فنوّر قلب عبده بجمال معرفته ، وهو توحيده وكمال تنزيهه حتى يتوجه إلى بارئه القدير ، وخالقه العزيز ، ويصل إلى فنائه ويستشعر بعلوّ جبروته وملكوته في جميع الآنات والأوقات قام في محراب عبادته ، او غاروا في عباب عصيانه فهو في جميع الحالات ، شاهد لربه بفطرته ، عارف خالقه بخميرته ، ناظر إلى كبريائه وجلاله بعين ذاته ونور حقيقته ، ولا يتطرّق الزوال إلى هذه المعرفة الذاتية الحاصلة له من صقع فيض خالقه.

نعم ربّما تقع تحت حجاب المعاصي وظلمة الكفر والشرك ، ويسدل عليها بأسدال الإلحاد والخروج عليها ، لكنّها

باقية ببقاء ذاته تجيش في كيانه.

الفطرة الثانية : هي كراهة النقص وبغضه والفرار من الشرّ ونبذه ، فيتركه ويذره على حاله ويتنفّر عن جواره ، كل ذلك لكي تكتمل فطرة التوحيد عنده وينتهي سيره إلى ربّه ، ويتوجّه إلى غاية الغايات ونهاية المآرب (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (١).

إذ لا يرى مصداقا لها سوى ذات ربّه المحفوف بالكمال ، المحجوب عن خلقه بالجمال المنزّه عن العيوب.

ثم إنّه سبحانه لعلمه بأنّ عبده سيحجب عن هذه الفطرة بابتلائه بالقوى الحيوانية التي لا مناص له منها في بقاء نوعه وحفظ نسله ، شفّع الفطرة بإرسال الرسل وإنزال الكتب لكي يكتمل سيره وسلوكه ، برفع الحجب عن طريق الوعد والوعيد لهم ، لأنّ مغزى شريعة ما جاء به الأنبياء والرسل يعود إلى الفطرة وأحكامها ، فأصولها عين الفطرة كالدعوة إلى التوحيد وأسمائه وصفاته ، وفروعها مآل الفطرة ، فإنّ النفس تكتسب الفضائل والكمالات بالصلاة التي هي معراجها إلى ربها ، وبالحج الذي هو وفود إلى كعبة آمالها.

فإنّ الأحكام جلّها بل كلّها على طبق الفطرة ، والهدف

__________________

(١). الرعد / ٢٨.

الأسنى والمقصود الأعلى من ورائها هو معرفته وتوحيده والفناء في جماله وجلاله.

فما جاءت به الرسل من وعد ووعيد إنّما هو لتطهير النفوس وتنزيه القلوب ، فلا يزال سفراء بيت الوحي والهدى يداوون الأرواح العليلة بهذه الادوية التي هي ألطاف إلهية خفيّة حتى تتطهّر النفوس من خبث الأدناس.

فأمام الإنسان عقبات كئود لا بد من الورود عليها إمّا تزحزحه عن العذاب أو تقحمه في النار الموقدة التي تطّلع على الأفئدة.

أعاذنا الله من أمثال هذا الداء كي لا نحتاج إلى دواء بحق نبيّه الكريم وآله صلواته وسلامه عليهم أجمعين.

حرّرت الرسالة بيد مؤلّفها الفقير محمد جعفر بن الشيخ العالم البارع التقي الميرزا محمد حسين التبريزي (دامت بركاته العالية) في شهر رجب المرجب من شهور عام ١٣٧١ ه‍ وفرغ من تبييضها يوم الخميس المصادف ٢١ شهر ذي القعدة الحرام سنة ١٣٧٣ من الهجرة النبوية الشريفة.

المحتويات

كلمة المحقّق..................................................................... ٣

مقدمة المؤلف.................................................................... ٥

الفصل الأول

السير التاريخي للمسألة.......................................................... ٩

صفاته سبحانه عين ذاته......................................................... ١٠

تفسير إرادته الذاتية............................................................. ١٥

شبهة نفاة الإرادة الذاتيّة......................................................... ١٧

تكلّمه سبحانه وتفسيره.......................................................... ٢٠

نظرية الأشاعرة في تكلّمه........................................................ ٢٤

أدلّة الأشاعرة على وجود الكلام النفسي.......................................... ٢٦

الدليل الثاني للأشاعرة في الكلام النفسي.......................................... ٣١

الفصل الثاني

مباني الجبر والتفويض وإبطالهما................................................ ٣٧

إبطال التفويض................................................................ ٤٠

الكلام في إبطال الجبر في ضمن أصول............................................. ٤٦

الأصل الأوّل بساطة الوجود..................................................... ٤٧

وحدة حقيقة الوجود............................................................ ٤٨

البرهان الثاني لإبطال الجبر....................................................... ٥٠

البرهان الثالث لإبطال الجبر...................................................... ٥٢

البرهان الرابع لإبطال الجبر....................................................... ٥٤

الفصل الثالث

مذهب الأمر بين الأمرين...................................................... ٥٧

الحسنة والسيئة من الله........................................................... ٦٠

إيضاح الأمر بين الأمرين بتمثيلين................................................. ٦٤

التمثيل الأوّل.................................................................. ٦٤

التمثيل الثاني................................................................... ٦٥

في صحة نسبة الفعل إلي فاعلين.................................................. ٦٧

الفصل الرابع

شبهات وحلول................................................................ ٧٣

الشبهة الأولى : الإرادة ليست اختيارية............................................ ٧٣

جواب المحقّق الداماد عن الشبهة.................................................. ٧٤

جواب صدر المتألّهين عن الشبهة.................................................. ٧٧

جواب المحقّق الخراساني والحائري................................................... ٧٩

جواب الإمام الخميني............................................................ ٨٢

الشبهة الثانية.................................................................. ٨٥

الإجابة عن الشبهة............................................................. ٨٦

الأولوية غير كافية في الإيجاد..................................................... ٨٧

الشبهة الثالثة : تعلّق علمه بأفعال العباد........................................... ٩٢

الجواب عن الشبهة.............................................................. ٩٤

الشبهة الرابعة : السعادة والشقاء الذاتيان.......................................... ٩٧

تفسير الذاتي وبيان أقسامه....................................................... ٩٨

الوجود هو أصل الكمال ومبدؤه................................................ ١٠٣

أقسام السعادة والشقاء........................................................ ١٠٥

الفصل الخامس

أخبار الطينة وتفسيرها........................................................ ١١١

إمساك الفيض قبيح........................................................... ١١٢

اختلاف الناس في النفس المفاضة................................................ ١١٣

الأسباب المؤثرة في صفاء النفس وكدرها.......................................... ١١٤

تفسير قوله : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»............................ ١١٧

تفسير قوله : «السعيد سعيد في بطن أمّه»....................................... ١١٨

كلمة للعرفاء الشامخين......................................................... ١١٩

الفطرة الأولى : الإنسان والعشق للكمال......................................... ١٢٠

الفطرة الثانية : كراهة النقص................................................... ١٢١

المحتويات..................................................................... ١٢٣

الحمد لله رب العالمين

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الإمام الصادق عليه‌السلام :

«إن الله أكرم من ان يكلّف النّاس ما لا يطيقون. والله اعزّ من ان يكون في سلطانه ما لا يريد» (١).

ولله درّ الشهيد السعيد : زين الدين العاملي ـ قدس‌سره ـ في قوله :

لقد جاء في القرآن آية حكمة

تدمّر آيات الضلال ومن يجبر

وتخبر أن الاختيار بأيدينا

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

__________________

(١). بحار الأنوار ج ٥ / ٤١.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّه وخير خلقه محمد وآله الطاهرين ، وعلى عباد الله الصالحين.

أمّا بعد ؛

فإنّ مسألة الجبر والتفويض من المسائل الشائكة التي شغلت بال كثير من الحكماء والمفكّرين عبر القرون ، وهي تعد من أبرز وأهم المسائل الكلامية والفلسفية ، وقد تناولها المحقّق الخراساني بالبحث استطرادا في مبحث وحدة الطلب والإرادة ممّا حدا بكثير من الأصوليين إلى أن ينهجوا منهجه ويتناولوا الموضوع بمزيد من البحث والإمعان.

ولمّا انتهت محاضراتنا في بيان معنى هيئة الأمر إلى وحدة الطلب والإرادة انجرّ الكلام إلى تلك المسألة ، فطلب منّي روّاد العلم

الغور فيها حسب ما يليق بحالها ، وكنت قد أفردت تلك المسألة بالتأليف في سالف الدهر ممّا حدا بي لإعادة النظر فيها بإضافة أبحاث جديدة.

فها نحن نقدم إلى القرّاء الكرام رسالة وافية في ذلك الموضوع عسى ان ينتفع بها المعنيون بتلك الأبحاث.

نسأله سبحانه أن يجعلها ذخرا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.

وكتابنا هذا يشتمل على مقدمة وفصول.

جعفر السبحاني

قم المقدسة

المقدمة

المسائل المهمة في حياة الإنسان

إنّ الوقوف على موقف الإنسان في الكون وانّه هل هو مخيّر أو مسيّر من المسائل الفلسفيّة التي يجنح إلى البحث فيها ، المفكّرون الأعاظم ، وهو في الوقت نفسه ، ممّا تشتاق إلى فهمها عامة الناس حتى البسطاء والعاديّين منهم ، وهي إحدى المسائل الأربع التي يتطلّع إلى فهمها الإنسان ، وهي :

١. من أين جاء إلى الدنيا؟

٢. لما ذا جاء إليها؟

٣. إلى أين يذهب؟

٤. وهل هو في أعماله مخيّر ومسيّر؟

ولأجل ذلك لا يمكن تحديد الزمن الذي طرحت فيه مسألة الجبر والاختيار ، وإنّها حدّثت في أيّ قرن من القرون الميلادية

أو قبلها ، وانّ باذرها هل هو إغريقي ، أو رومي ، أو هندي ، أو صيني ، أو إيراني؟

الأقوال في المسألة لا تتجاوز الثلاثة :

ألف : انّه مسيّر ، والحاكم عليه الجبر.

ب : انّه مفوّض إليه ، والحاكم عليه الاختيار المطلق.

ج : لا مسيّر ولا مفوّض ، بل أمر بين ذلك.

ولكل من الجبر والتفويض مناهج تتحد في النتيجة وتختلف في طريق البحث وإقامة البرهان.

مناهج الجبر :

أمّا شقوق الجبر ومناهجه ، فالاختلاف في المنهج مع الاتفاق في النتيجة يستند إلى الاختلاف في بعض الأصول الفلسفية ، فالمتكلم القائل بالجبر يسنده إلى فاعل أعلى وهو الله سبحانه ، لكن المادّي المنكر لما وراء المادة القائل بالجبر يسنده إلى عوامل مادية تحيط بالإنسان وتحدّد طريقه ، وهي : «الوراثة» و «التعليم» و «البيئة».

كما أنّ الفيلسوف الإلهيّ القائل بالجبر ، تارة يسنده إلى إرادة الإنسان ، وأنّها أمر غير اختياري ، فيكون الفعل المراد مثلها ؛ وأخرى إلى الإرادة الأزلية ، لانتهاء جميع العلل الطولية إلى ذاته ،

فيكون النظام وفيه الإنسان وفعله واجب التحقّق ، وضروريّ الكون ، لاستنادها إلى ذات الواجب ؛ وثالثة إلى قاعدة : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» قائلا بأنّ «الوجوب والاختيار متضادان لا يجتمعان».

وبذلك ظهر انّ للجبر مناهج ثلاثة :

١. منهج المتكلم الإلهي.

٢. منهج العالم المادي.

٣. منهج العالم الفلسفي.

ولكلّ ، أدلّة وبراهين ، تلزم دراستها بدقّة.

مناهج التفويض :

إنّ للتفويض منهجين وإن كانا متحدين في النتيجة ، فالإلهي القائل بأنّ الله سبحانه فوّض فعل الإنسان إليه وليس له فيه أيّ صنع ، فهو مستقل في عمله وفعله ، بلا حاجة إلى علّة فوقه ، له منهج ، يغاير منهج بعض الغربيّين (الوجوديّين) القائلين بأنّ الإنسان يتكون بلا لون ولا ماهية ، وانّه يفتح عينيه على الكون بلا خصوصية وكيفية ، وانّما يكتسبها بإرادته وفعله ، إذ لو ظهر على صفحة الوجود مع الخصوصية لزم كونه مجبورا ومقهورا لها.

فالمعتزلي ينطلق من مبدأ العدل ، ولصيانة عدله سبحانه ذهب إلى التفويض ؛ والوجودي ينطلق من تكون الإنسان بلا لون ، ونتيجته أنّه مخيّر على الإطلاق.

نعم للقول بالأمر بين الأمرين منهج واحد ، ويستند في حكمه عن الكتاب والسنّة والعقل ، ولأجل إيضاح الحال ، نحقّق المسألة في ضمن فصول.

جبر المتكلّم الإلهي : الأشعري

إنّ الإمام الأشعري وإن كان لا يتظاهر بالجبر ، لكن الأصول التي اعتمد عليها ، لا تنتج ـ حسب تفسيره ـ إلّا الجبر ، وإليك تلك الأصول :

١. أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.

٢. علمه الأزلي بصدور الفعل عن العباد.

٣. إرادته الأزلية المتعلّقة بأفعال العباد.

٤. إنّ الايمان والكفر من الامور التي تعلق بها القضاء والقدر.

٥. كون الهداية والضلالة بيده سبحانه.

٦. الختم والطبع على القلوب.

وإليك دراسة أدلّة ذلك المنهج من الجبر.

الفصل الأوّل

في

مناهج الجبر

الجبر الأشعري

١

أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه

هذه المسألة تنطلق من القول بالتوحيد في الخالقية ، وانّه لا خالق إلّا إيّاه ، من غير فرق بين الذوات والأفعال.

لا شك انّ هذا الأصل من أصول التوحيد وشعبه ، لكن الكلام في كيفية تفسيره. فقد فسّرته الأشاعرة بإنكار وجود أيّ تأثير أصيل أو تبعيّ لغيره سبحانه ، وقالوا بوجود علة تامة قائمة مكان جميع العلل والأسباب ، فلا تأثير لأيّ موجود سوى الله ، فهو الخالق الموجد لكل شيء حتى فعل الإنسان.

يقول الأشعري : إنّه لا خالق إلّا الله ، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدّرة ، كما قال: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١) وانّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون ، كما قال سبحانه : (هَلْ

__________________

(١). الصافات : ٩٦.

مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (١).

وقد أوضح الشريف الجرجاني عقيدة الأشاعرة في «شرح المواقف» حيث قال : إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها ، بل الله سبحانه أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارا ، فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له. هذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (٢).

يلاحظ على هذا التفسير :

١. انّ هذا الرأي خلاف الفطرة الإنسانية وخلاف ما يجده كل إنسان في قرارة نفسه ، حيث يعتقد بأنّ للأشياء كالعقاقير والنباتات آثارا يتداوى بها ، ولا معنى لخلق ذلك العلم الخاطئ والباطل في نفوسنا ، ولا فائدة له سوى الإغراء بالجهل ، وهو قبيح شرعا. كما هو قبيح عقلا. والأشعري وإن لم يكن قائلا بالحسن والقبح العقليين لكنّه يقول بهما شرعا.

__________________

(١). فاطر : ٣.

(٢). شرح المواقف : ٨ / ١٤٦.

٢. انّ حصر التأثير الأعم من الأصلي والتبعيّ في الله سبحانه ، مخالف للبرهان الفلسفي ، لأنّ حقيقة الوجود في عامة المراتب ، حقيقة واحدة ، والشدّة في الواجب ليست أمرا وراء الوجود ، كما أنّ الضعف في الممكن ، ليس إلّا حدا له ، وليسا أمرين منضمّين إليه ، فالمراتب كلّها وجودات بين شديد ، وغير شديد ، وليس في الدار سوى الوجود ديّار ، فإذا ثبت التأثير لمرتبة عليا منه ، لكونها وجودا ، ثبت للمراتب الدنيا ، لكن حسب ما يناسب شأنها ، فإنّ حقيقة الوجود في جميع المراتب واحدة ، والخصوصيات فيها راجعة إلى الوجود أيضا ، لا لشيء آخر ، كالماهية والعدم ، والمفروض اتحاد حقيقة الوجود في جميع المراتب ، فيلزم أن يكون أثره محفوظا في جميعها.

وليس لك أن تقول إنّ الأثر راجع إلى الشدّة ، وهي منتفية في الوجودات الإمكانية ، وذلك لما عرفت من أنّ الشدّة ليست أمرا وراء الوجود ، غاية الأمر تختلف آثار المراتب شدة وضعفا حسب اختلاف مراتب متبوعها ومؤثراتها ، ولذلك نرى أنّه سبحانه يثبت التسبيح العلمي لا التكويني لجميع المراتب ويقول : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ

إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١).

ولو كان المراد هو التسبيح التكويني لما صح قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لأنّ التكويني منه ليس إلّا دلالة نظام كل موجود ، على كون الخالق عالما وقادرا وحكيما وهذا ما يفهمه أكثر الناس.

٣. انّ سلب التأثير المطلق عن العلل والأسباب الإمكانية خلاف ما نطق به الذكر الحكيم ، حيث إنّه يعترف بتأثيرها في مسبباتها بإذن منه سبحانه قال : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) (٢) فإنّ الباء في (بِهِ) للسببية نظير قوله سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٣).

والآية ترشدنا إلى أنّ وراء النظام المادّي ، قدرة غيبية ، وليس العالم قائما بذاته ، فاعلا ومتفاعلا بنفسه ، وذلك لأنّا نرى أنّ أرضا واحدة بصورة (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) بعضها في جانب بعض ، (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) ينبت فيها أشجار متنوعة ، وتعطي فواكه

__________________

(١). الإسراء : ٤٤.

(٢). البقرة : ٢٢.

(٣). الرعد : ٤.

مختلفة متفضّلة بعضها على بعض في الأكل ، ولو لم يكن وراء الجهاز المادي ، قدرة غيبية مؤثرة ، لما اختلفت الأشجار ولما تنوّعت فواكهها ، مع وحدة الأسباب المادية.

فالآية في ضمن الاعتراف بتأثير العلل المادية تقودنا إلى عدم الاعتراف بكفايتها في التحوّل ، وغنائها عن سبب غيبي في تدبيرها.

إلى غير ذلك من الآيات الدالّة على تأثير العلل والأسباب ، لكن كلّها بإذن ربّها ، لأنّها جنوده في عالم المادة : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (١).

تحليل ما استدلّ به الأشعري من الآيتين

استدل الأشعري في ثنايا كلامه بآيتين.

إحداهما : قوله سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢).

إلّا أنّ الكلام في تفسير (ما) في (ما تَعْمَلُونَ) فهل هي مصدرية أو موصولة؟

والاستدلال مبني على كونها مصدرية ، بمعنى انّ الله خلقكم وعملكم ، ولكن مقتضى السياق انّها موصولة ، بقرينة ما قبله :

__________________

(١). المدثر : ٣١.

(٢). الصافات : ٩٦.

(أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) وحيث إنّ المراد من الموصول في الآية الأولى ، هو الأوثان والأصنام ، يكون المراد منها في الآية الثانية هو ذلك أيضا ، ويريد الخليل عليه‌السلام بكلامه هذا تنبيه الوثني الجاهل بأنّه وما يعبده كلاهما مخلوق لله سبحانه ، فلما ذا تركتم الأصل والمبدأ وأخذتم بالفرع؟ لما ذا تعبدون الفقير المتدلّي القائم بالله ، وتتركون عبادة الخالق الكبير المتعال؟ وعندئذ لا صلة للآية بما يرتئيه الأشعري.

ثانيتهما : قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (١).

يلاحظ عليه : أنّ الآيات الدالّة على حصر الخالقية بالله سبحانه كثيرة (٢).

لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات ، فإنّ لهذا القسم منها احتمالين ، لا يتعين أيّ منهما إلّا باعتضاده بالآيات الأخر ، ودونك الاحتمالين :

__________________

(١). فاطر : ٣.

(٢). لاحظ الأنعام : الآيتان ١٠١ و ١٠٢ ، والحشر : ٢٤ ، والأعراف : ٥٤.

أ : حصر الخلق والإيجاد على وجه الإطلاق بالله سبحانه ونفيه عن غيره بتاتا على وجه الاستقلال والتبعية ، وهذا ما تتبناه الأشاعرة.

وترده الآيات الدالة على أنّ للعلل الطبيعية دورا في عالم الوجود بإذن الله سبحانه.

كقوله سبحانه : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) (١).

وقوله سبحانه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢) وغير ذلك من الآيات الدالة على تأثير العوامل الطبيعية بإذنه (٣).

ب : انّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء ، منحصرة بالله سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بمشيئته وإرادته ، والكل جنود الله سبحانه. ويدلّ على هذه النظرية الآيات التي تثبت للموجودات تأثيرا وللإنسان دورا في أفعاله.

ونزيد بيانا : انّ الآيات الواردة حول أفعال الإنسان على قسمين ، قسم يعد الإنسان عاملا فاعلا لأفعاله ، وقسم ينسب

__________________

(١). آل عمران : ٤٩.

(٢). المؤمنون : ١٤.

(٣). السجدة : ٢٧ ، النور : ٣٤.

قسما من الأفعال إلى الإنسان.

فمن القسم الأوّل قوله سبحانه : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (١).

وقوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٢).

وقوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (٣).

وأمّا القسم الثاني : فحدّث عنه ولا حرج ، فقد نسب في الذكر الحكيم كثيرا من الأفعال إلى الإنسان ، كالجهاد ، والإنفاق ، والإحسان ، والسرقة ، والتطفيف ، والكذب ، وغير ذلك من صالح الأعمال وطالحها.

فعل واحد ينسب إلى الله وإلى العبد معا

هناك قسم ثالث من الآيات ينسب فيها الله سبحانه وتعالى الفعل الواحد إلى نفسه ، وإلى عبده ، وذلك في ضمن آيتين أو آية واحدة.

__________________

(١). التوبة : ١٠٥.

(٢). محمد : ٣٣.

(٣). النجم : ٣٩ ـ ٤٠.

١. يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (١) فيخص الرازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل (هُوَ). وفي الوقت نفسه يأمر الإنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده ويقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٢).

٢. يقول سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣).

فيخص الزارعية بنفسه وذلك معلوم من سياق الآيات. وفي الوقت نفسه يعد الإنسان زارعا ويقول : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (٤). فكيف تجتمع هذه النظرة الوسيعة مع الحصر السابق؟

٣. يقول سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٥).

فينسب الفعل الواحد وهو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه ورسله.

٤. يقول سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (٦)

__________________

(١). الذاريات : ٥٨.

(٢). النساء : ٥.

(٣). الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤.

(٤). الفتح : ٢٩.

(٥). المجادلة : ٢١.

(٦). محمد : ٧.

فيعد نفسه ناصرا ، وفي الوقت نفسه يعدّ المؤمنين ناصرين أيضا.

٥. يقول سبحانه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (١) ترى أنّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة ، حتى أنّ الرسول يصف نفسه به ويقول : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٢) ومع ذلك انّ القرآن الكريم يخصّ الخالقيّة بالله سبحانه في كثير من الآيات التي تعرّفت عليها ، ولا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلّا بالقول بأنّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به سبحانه ، ومثله سائر الأفعال من الرزق والزرع والغلبة والنصرة ، فالكل بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه ، لأنّها من خصائص الواجب ولا يوصف بها الممكن.

وأمّا الفعل المعتمد على الواجب ، المستمد منه فهو من شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه وإذنه. ولأجل ذلك يكرّر سبحانه لفظة : (بِإِذْنِي) أو : (بِإِذْنِ اللهِ) في الآيات المتقدّمة ، وهذا واضح لمن عرف ألفباء القرآن. والأشعري ومن تبعه قصّروا

__________________

(١). المائدة : ١١.

(٢). آل عمران : ٤٩.

النظر على قسم واحد ، وغفلوا عن القسم الآخر ، ولا يقف على ذلك إلّا من فسّر الآيات تفسيرا موضوعيا.

أضف إلى ذلك انّه لم ترد في اللغة العربية نسبة الخلق الى الفعل فلا يقال خلق الأكل والشرب ، والضرب ، وانما يستخدم في تلك الموارد نفس الفعل : أكل ، أو شرب ، أو لفظ الفعل فيقال «فعل الأكل» فأعمال الإنسان خارجة عن حريم الآيات الحاصرة فلاحظ.

القول بالكسب غير ناجح

لمّا رأى الإمام الأشعري وأتباعه ، انّ ما اختاره من خلق الأعمال يؤدّي إلى الجبر ، وان يكون الإنسان مسيّرا لا مخيّرا ، عاد إلى القول بأنّ الله خالق والإنسان كاسب ، والثواب والعقاب للكسب.

ونظرية الكسب في عقيدة الأشعري من اللغز ، وهذه النظرية. كالقول بالأحوال لأبي هاشم ، والطفرة للنظام من اللغز الّذي لا يقف على مرماه أحد ، وقال الشاعر :

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدلو إلى الافهام

الكسب عند الأشعري والحال

عند البهشمي وطفرة النظام(١)

وأوضح تفسير له ما ذكره الفاضل القوشجي وقال : المراد بكسبه إيّاه مقارنة الفعل لقدرة الإنسان من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له. (٢)

يلاحظ عليه : إذا كان دور العبد ، هو دور المقارنة بلا تأثير لقدرته وإرادته ، فلما ذا كان هو المسئول عن فعل الغير؟

وأخيرا نسأل عن الفرق بين تلك الحركة والحركة الاضطرارية مع انّا نجد الفرق الواضح بين الحركتين.

ولأجل ذلك ذهب المحقّقون من الأشاعرة في العصر الحاضر إلى إنكار الكسب ، ومالوا إلى القول بتأثير إرادة العبد وقدرته ، وقد ذكرنا كلماتهم في الإلهيات فراجع. (٣)

وقال الإمام الرضا عليه‌السلام فيما كتبه إلى المأمون من محض الإسلام : «إنّ أفعال العباد مخلوقة لله خلق تقدير ، لا خلق تكوين ، والله خالق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض ...» (٤).

__________________

(١). الخطيب عبد الكريم المصري : القضاء والقدر : ١٨٥.

(٢). شرح التجريد : ٤٤٥.

(٣). الإلهيات : ٢ / ٢٨١ ـ ٢٨٢.

(٤). الصدوق : عيون أخبار الرضا : ٢ / ١٢١ ، لاحظ البحار ج ٦٨ / ٢٦٢.

مناهج الجبر

الجبر الأشعري

٢

تعلّق علمه الأزلي بأفعال العباد

هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه أتباع الشيخ الأشعري.

بيانه : أنّ ما علم الله سبحانه وجوده من أفعال العباد ، فهو واجب الصدور ، وما علم عدمه فهو ممتنع الصدور منه ، وإلّا انقلب علمه جهلا ، وليس فعل العبد خارجا عن كلا القسمين ، فيكون إمّا ضروريّ الوجود أو ضروريّ العدم ، ومعه لا مفهوم للاختيار ، إذ هو عبارة عمّا يجوز فعله وتركه ، مع أنّ الأوّل لا يجوز تركه ، والثاني لا يجوز فعله.

وقد وقع هذا الدليل عند الرازي موقع القبول ، وقال : ولو

اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلّا بالتزام مذهب هشام : وهو أنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها. (١)

يلاحظ عليه أوّلا : أنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه ، ولو صحّت نسبته إليه فيرجع إلى عصر شبابه عند ما كان جهميّا قبل أن يلتحق بالإمام الصادق عليه‌السلام ، وإلّا فبعد استبصاره وتعلّمه على يدي الإمام يرى ما يراه الإمامية ، من علمه سبحانه بالأشياء قبل الخلقة تفصيلا : وهذا الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يصفه سبحانه بقوله : «كل عالم فمن بعد جهل يعلم ، والله لم يجهل ولم يتعلّم ، أحاط بالأشياء علما قبل كونها ، فلم يزدد بكونها علما ، علمه بها قبل أن يكوّنها ، كعلمه بها بعد تكوينها» (٢).

وثانيا : أنّ الإجابة عن الاستدلال ليست على النحو الذي زعمه الرازي وتخيّل انّ الثقلين لو اتفقوا لا يقدرون على نقده ، وأليك بيانه :

انّ علمه

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٥.

(٢). الصدوق : التوحيد : ٤٣.

الأزلي لم يتعلّق بصدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ، كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالما بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلا مختارا ، وصدور فعله عنه اختيارا ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.

وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقا للواقع غير متخلّف عنه ؛ وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة ، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.

ونقول توضيحا لذلك : إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة ، كأعمال الجهاز الدمويّ ، والجهاز المعويّ ، وجهاز القلب ، والأحشاء ، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية ، غير الاختيارية.

وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار. ويتّسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية ، كدراسته ، وكتابته ، وتجارته ، وزراعته.

وعلى ما سبق من أنّ علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلّف عنه قيد شعرة ، فيتعلّق علم الله بها على ما هي عليه من الخصائص والألوان. فتكون النتيجة أنّه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمّا بالاضطرار ، أو الإكراه ، أو بالاختيار والحرية ، وتعلّق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر ، بل يلازم الاختيار. ولو صدر كل قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلّفا عن الواقع.

انّ ما ذكرناه من الجواب هو المفهوم من كلمات المحقّقين من علمائنا :

١. قال صدر المتألّهين : إنّ علمه وإن كان سببا مقتضيا لوجود الفعل من العبد ، لكنه انّما اقتضى وجوده وصدوره المسبوق بقدرة العبد واختياره وإرادته ، لكونها من أسباب الفعل وعلله ، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحقّقه.

والعجب انّ الرازي قد تنبّه لما ذكرناه في بعض كتبه حيث يقول في «المباحث المشرقية» : من قضاء الله وقدره ، وقوع بعض الأفعال تابعا لاختيار فاعله ، ولا يندفع هذا إلّا بإقامة البرهان على ان لا مؤثر في الوجود إلّا هو (١).

وما زعمه الرازي دافعا لما ذكره أوّلا ناشئ عن حصر التأثير الاستقلالي والتبعيّ بالله سبحانه ، وقد عرفت خلافه وانّ الوجود بعامّة مراتبه ليس منفكا عن التأثير غاية الأمر ، لكلّ مرتبة تأثير ، حسب مراتبه ودرجاته ، ونحن في الوقت الذي نؤمن بأنّه لا مؤثر في الوجود إلا الله ، نؤمن بتأثير عامة الفواعل في الوجود بإذن الله سبحانه.

٢. قال العلّامة الطباطبائي : إنّ العلم الأزلي متعلّق بكل شيء على ما هو عليه ، فهو متعلّق بالأفعال الاختيارية بما هي اختيارية ، فيستحيل أن تنقلب غير اختيارية ، وبعبارة أخرى : المقضيّ ، هو ان يصدر الفعل عن الفاعل الفلاني اختيارا ، فلو

__________________

(١). لاحظ : الأسفار : ٦ / ٣٨٥ ـ ٣٨٧.

انقلب الفعل من جهة تعلّق القضاء به ، غير اختياريّ ناقض القضاء نفسه. (١)

إجابة أخرى عن الاستدلال بأنّ العلم تابع

إنّ المحقّق الطوسي أجاب عن الاستدلال بوجه آخر ، قال في «التجريد» : والعلم تابع. وقال العلامة في شرحه على التجريد : إنّ العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل. (٢)

وأوضحه الشريف الجرجاني وقال : إنّ العلم تابع للمعلوم على معنى انّهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم. ألا ترى أنّ صورة الفرس مثلا على الجدار إنّما كانت على هذه الهيئة المخصوصة ، لأنّ الفرس في حد نفسه هكذا ،

__________________

(١). العلّامة الطباطبائي : تعليقة الأسفار : ٦ / ٣١٨ ، ومعنى كلامه انّ القضاء لا يمكن أن يكون معارضا للمقضيّ ، والمقضي هو صدوره عن اختيار ، ومعه كيف يمكن أن يعارضه القضاء ويخالفه؟

(٢). العلّامة الحلّي : كشف المراد : ٣٠٨ ؛ ولاحظ أيضا الفصل الخامس في الاعراض ، المسألة الرابعة عشرة في أقسام العلم / ٢٣٠ ، وقد فسّره العلّامة الحلّي عند البحث عن الاعراض بكون العلم والمعلوم متطابقين بحيث إذا تصورها العقل ، حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق وانّ العلم تابع له وحكاية عنه ... وهذا التفسير يتفق مع ما فسّره الشريف الجرجاني ، ومع الاعتراف بصحة التفسير ، لكنّه لا يدفع الإشكال كما ذكرنا.

ولا يتصوّر العكس ، كما أنّ العلم بأنّ زيدا سيقوم غدا مثلا انّما يتحقّق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس ، فلا مدخل للعلم في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار ، وإلّا لزم أن لا يكون تعالى فاعلا مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما. (١)

يلاحظ عليه : أنّه خلط بين العلم الانفعالي الذي يكون المعلوم سببا لحدوثه ، كالعلم الحاصل من الأشياء في النفس ، والعلم الفعلي الذي هو سبب لوجود المعلوم ، إمّا سببا ناقصا كعلم المهندس المقدّر لبناء البيت ، أو سببا تاما كتصوّر السقوط ممّن قام على شاهق.

وعلمه سبحانه ليس علما انفعاليا من الخارج ، وإلّا يلزم عدم علمه ما لم يتحقّق المعلوم في الخارج ، وانّما هو علم فعلي ، وهو في سلسلة العلل وان لم يكن علّة تامة في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان ضرورة أنّ للإنسان دورا في تحقّقها ، فتكون المقايسة باطلة.

وبذلك يعلم ضعف قياس علمه سبحانه ، بعلم المعلّم

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

بنجاح تلميذه في الأفعال أو رسوبه بصورة قاطعة ، فكما لا يكون علمه بمصير تلميذه سالبا للاختيار عنه ، فهكذا علمه سبحانه.

وجه الضعف وجود الفرق الواضح بين العلمين ، إذ ليس علم المعلم في سلسلة العلل لنجاحه أو رسوبه وانّما هو يتكهّن بالعلم بمواهب التلميذ ومدى مثابرته في طريق التعلّم. وهذا بخلاف علمه سبحانه إذ هو عين ذاته ، وذاته هو المصدر للعالم وما فيه ، ولا يمكن فصل علمه عن سلسلة العلل ، لأنّ ذاته وعلمه واحد.

مناهج الجبر

الجبر الأشعري

٣

تعلّق إرادته بأفعال العباد

هذا هو الدليل الثالث الذي اعتمدت عليه الأشاعرة قالوا : ما أراد الله وجوده من أفعال العباد وقع قطعا ، وما أراد عدمه منها ، لم يقع قطعا ، فلا قدرة للإنسان على شيء منهما. (١)

يلاحظ عليه : أنّ هذا ليس استدلالا جديدا ، بل هو تعبير آخر عن الدليل السابق ، غير انّ السابق كان يركّز على تعلّق علمه الأزلي بأفعال العباد ، وهذا يركّز على تعلّق إرادته بها فيجاب عنه بما أجيب عن الأوّل.

ولكن بما انّه كثر النقاش في وقوع أفعال العباد ، متعلّقة لإرادته وعدمه ، فنبحث في المقام حسب ما يسعه المجال في

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

ضمن أمور :

١. الشعار المائز بين الأشاعرة والمعتزلة

إنّ الأشاعرة ، جعلوا أفعال العباد متعلّقة بإرادته سبحانه حفظا لأصل التوحيد ، وأخرجتها المعتزلة عن كونها متعلّقة بها فرارا عن الجبر وحفظا لأصل العدل ، ولأجل ذلك صار كلّ من التعلّق وعدمه ، شعارا مائزا بين الطائفتين :

روي أنّ القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى ٤١٥ ه‍) لمّا دخل دار الصاحب بن عبّاد ، ورأى فيها أبا إسحاق الأسفرائيني الأشعري (المتوفّى ٤١٣ ه‍) رفع صوته بشعار منهجه ، وقال :سبحان الذي تنزّه عن الفحشاء ، معلنا بذلك انّ الأشاعرة ـ ومنهم الأستاذ أبو إسحاق ، لأجل قولهم بسعة إرادته لأفعال العباد ـ يتهمونه سبحانه بالفحشاء لتعلّق إرادته بمعاصي العباد في منهجهم ، فما قدروا الله

حق قدره ، فوصفوه بالظلم مكان وصفه بالعدل.

وأجاب أبو إسحاق بقوله : الحمد لله الذي لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء ، معلنا بأنّ القول بخروج أفعال العباد عن مشيئته ، يستلزم وقوع أشياء في ملكه خارجة عن مشيئته، فما قدروا الله حق قدره ، فأنكروا توحيده بإنكار سعة إرادته ، لصيانة عدله. (١)

والحق انّ كلتا الطائفتين ما قدروا الله حق قدره ، فركّزت المعتزلة على تنزيهه سبحانه فلم تر بدّا عن القول بعدم سعة إرادته لأفعال عباده ، كما ركّزت الأشاعرة على توحيده وتنزيهه عن الشرك والثنوية فلم تر بدّا من القول بسعة إرادته ، وإن استلزم الجبر.

وكلتا الفكرتين خاطئتان ، والحق إمكان الجمع بين التوحيد والتنزيه ، بين تعلّق إرادته بأفعال العباد وعدم لزوم الجبر ، بالبيان الآتي.

٢. ما هو المقصود من إرادته سبحانه؟

إذا أريد من إرادته سبحانه ، علمه بالأصلح ، فتختص إرادته سبحانه بأفعاله ، الموصوفة بالصلاح ويخرج أفعال العباد عن تحتها ، لعدم اقتران أفعالهم بالصلاح مطلقا ، إذ هم بين مطيع وعاص ، ويمنع أن يوصف العصيان بالصلاح.

وإن أريدت منها ، الإرادة المتجدّدة المتدرّجة الوجود ، فيمتنع وصفه بها ، لاستلزامه كون الذات معرضا للحدوث.

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٦.

وإن أريدت الإرادة الإجماليّة القديمة وإن لم يعلم كنهها ، فكل ما في الكون من جليل ودقيق يمتنع أن يتحقّق في سلطانه ، ويكون خارجا عن مجال إرادته ومشيئته ، لكن تعلّقها بها ، غير القول بالجبر كما سيوافيك.

٣. سعة إرادته سبحانه عقلا ونقلا

اتّفق العقل والنقل على سعة إرادته سبحانه لكل شيء ومنه أفعال العباد ، ويعلم ذلك من خلال أمور :

ألف : سعة قدرته وخالقيته وانّ كل ما في الكون من جليل ودقيق ، من ذات وفعل ، مخلوق لله على النحو الذي تقدّم.

ب : انّ الوجود الإمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته ، ولا في فعله ، وانّ غناء فعل الإنسان عنه سبحانه ، يستلزم غناء ذاته عنه سبحانه أوّلا ، لأنّ الفعل معلول لذات الممكن ، فغناء المعلول عن الله فرع غناء علته (ذات الممكن) عنه وهذا هو المراد من قولنا : إنّ الغناء في مقام الفعل مستلزم الغناء في مقام الذات ؛ وانقلاب الفعل عن كونه فعلا إمكانيا إلى كونه فعلا واجبا ثانيا ، وكلاهما ممنوعان.

ج : انّ إرادته سبحانه بالمعنى الثالث عين ذاته سبحانه ، فهو علم كلّه ، قدرة كلّه ، وإرادة كلّه.

وإذا كان كل ما في الكون منتهيا إلى ذاته ، فلا محيص من استناد فعل الإنسان إلى ذاته التي هي عبارة عن الإرادة الواجبة والعلم الواجب. هذا حال الدليل العقلي الذي أوردناه على وجه الإيجاز وأمّا النقل ، فالذكر الحكيم يدل على سعة إرادته ، وتكفي في المقام الآيات التالية :

١. يقول سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١).

٢. وقال سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

٣. (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ)(٣).

وقد ذكر الإيمان في الآية الثانية أو قطع اللينة أو تركها قائمة على أصولها من باب المثال لكونهما موردين لنزول الآية والمقصود انّ كلّ ما يجري في الكون فهو بمشيئته وإذنه سبحانه.

وأمّا الاستدلال بالحديث ، فيكفي في ذلك ما رواه الصدوق

__________________

(١). التكوير : ٢٩.

(٢). يونس : ١٠٠.

(٣). الحشر : ٥.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من زعم انّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم انّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم انّ المعاصي بغير قوّة الله فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النار» (١).

فمقتضى البرهان العقلي ، وآيات الذكر الحكيم ، وأحاديث العترة الطاهرة سعة إرادته ، ولكن المهم هو إثبات انّ القول بها لا يستلزم الجبر ، وهذا ما يتكفّله البحث التالي.

٤. سعة إرادته لا تستلزم الجبر

إنّ القول بسعة إرادته لا يستلزم الجبر ، وذلك لأنّ إرادته لم تتعلّق بصدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، بل تعلّقت بصدور كل فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها.

مثلا تعلّقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة ، كما تعلّقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار ، وهكذا تعلّقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه

__________________

(١). الصدوق : التوحيد : ٣٥٩ ح ٢ ، باب نفي الجبر والتفويض ؛ ولاحظ بحار الأنوار : ٥ كتاب العدل والمعاد ص ٤١ ح ٦٤.

مع الخصوصيات الموجودة فيه المكتنفة به من العلم والاختيار وسائر الأمور النفسانية.

وصفحة الوجود الإمكاني مليئة بالأسباب والمسبّبات المنتهية إليه سبحانه ، فمثل هذه الإرادة المتعلّقة على صدور فعل الإنسان بقدرته المحدثة واختياره الفطري تؤكد الاختيار ولا تسلبه منه.

ومع ذلك كلّه ليس فعل الإنسان فعلا خارجا عن نطاق قدرته سبحانه غير مربوط به كيف وهو بحوله وقوته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل الله أيضا بالحقيقة فكل حول يفعل به الإنسان فهو حوله ، وكل قوة يعمل بها فهي قوته.

قال العلّامة الطباطبائي : إنّ الإرادة الإلهية تعلّقت بالفعل بجميع شئونه وخصوصياته الوجودية ، ومنها ارتباطه بعلله وشرائط وجوده ، وبعبارة أخرى تعلّقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا ، بل من حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا ، في زمان كذا. فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كونه اختياريا ، وإلّا تخلّف متعلّق الإرادة عنها.

فالإرادة الإلهية في طول إرادة الإنسان وليست في عرضها حتى تتزاحما ويلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية. فخطأ المجبّرة في عدم تمييزهم كيفية تعلّق الإرادة الإلهية بالفعل وعدم تفريقهم بين الإرادتين الطوليتين والإرادتين العرضيّتين ، وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلّق إرادة الله تعالى به. (١)

٥. تفسير قوله سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)

قد وردت في الذكر الحكيم آيات ، ربما يستظهر منها خروج أفعال العباد ، عن مجال إرادته سبحانه ، بشهادة أنّه ينفي إرادة الظلم للعباد عن نفسه ، أو يصرّح بأنّه لا يرضى لعباده الكفر ، وأنّه لا يحب الفساد ، ولا شك انّ فعل العبد ، ربما يتعنون بالظلم والكفر والفساد ، وقد نفى سبحانه عن ذاته إرادتها وحبها والرضاء بها قال سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٢) وقال عز من قائل : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) وقال تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٤) وقد استظهر شيخنا المفيد من هذه الآيات خروج

__________________

(١). الميزان : ١ / ٩٩ ـ ١٠٠ ، طبعة بيروت.

(٢). غافر : ٣١.

(٣). الزمر : ٧.

(٤). البقرة : ٢٠٥.

أفعال العباد عن حريم إرادته سبحانه (١).

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ الاستظهار مبنيّ على تفسير الإرادة بالإرادة التكوينية التي تكون مبدأ للإيجاد والخلق ، لكن لما ذا لا يكون المراد منها الإرادة التشريعية المتجلّية في الأمر بالمصالح والنهي عن المفاسد؟ وقد مضى تفسير الإرادة التشريعية وانّ وزانها وزان الإرادة التكوينية في أنّهما يتعلّقان بفعل المريد ، غاية الأمر لو كانت الإرادة مبدأ للإيجاد والخلقة نسمّيها إرادة تكوينية ، وإن كانت مبدأ لجعل الأحكام والقوانين والسنن تسمّى إرادة تشريعية.

فوزان هذه الآيات ونظائرها وزان قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢).

وقوله سبحانه : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٣).

نعم لقائل أن يقول : إذا كانت إرادته التشريعية لا تتعلّق بهذه الأمور الثلاثة ، فأولى أن لا تتعلّق بها إرادته التكوينية أيضا ، إذ لا

__________________

(١). المفيد : تصحيح الاعتقاد : ١٦ ـ ١٨.

(٢). النحل : ٩٠.

(٣). الأعراف : ٢٨.

معنى لأن يخبر عن عدم تعلّق إرادته بشيء تشريعا ، ولكن ـ في الوقت نفسه ـ تتعلّق إرادته به تكوينا.

وأمّا توضيح دفعه : فنقول : إنّ تعلّق إرادته التكوينية بشيء على قسمين :

١. أن تتعلّق مشيئته التكوينية بالإيجاد مباشرة ، من دون أن يكون للعبد فيها دور كخلق السماوات والأرض. وفي المقام ، كتعذيب المطيع وإنعام المجرم ، إلى غير ذلك من الأفعال التي يستقل العقل بقبحها وشناعتها ، والله سبحانه أجل وأعلى من أن يريد مثل ذلك.

٢. أن تتعلّق مشيئته التكوينية بالإيجاد من خلال إرادة العبد ومشيئته ، بحيث يكون لإرادة العبد دور في وصف العمل بالظلم والبغي ، وتلوّنه بالفحشاء فليست الآيات ، نافية لها فإنّ فعل العبد ووصفه وإن كانا مرادين لله ، لكن إرادته سبحانه ليست علّة تامة لفعل الإنسان ، وانّما يتخلّل بينهما وبين الفعل إرادة العبد واختياره فيكون هو المسئول عن الفعل وعناوينه المحسّنة والمقبّحة ، لكونها الجزء الأخير لعلّة الفعل وسببه.

وبالجملة : ما يصدر من العبد من حسن وقبح ، يصدر في

سلطانه وملكه ، بإذنه وإرادته ، لكنه لا بمعنى أنّه سبحانه يريد الظلم والبغي للعباد ابتداء ، بل يريده إذا أراد العبد واختاره ، ومعنى إرادته سبحانه الظلم والبغي عندئذ أنّ العبد في اختيار كل من الفعل والترك غير مستغن عن إرادته كعدم استغنائه عن حوله وقوته سبحانه فلو أراد فإنّما أراد بإرادته ، ولئن قام فإنّما قام بحوله ، ولئن ترك فبإرادته ، فإذا كان العبد غير مستغن في إرادته ، عن إرادته سبحانه ، فالله سبحانه : أيضا غير أجنبي عن إرادة العبد وفعله ، لكون الجميع قائما به وبإرادته ، وهذا معنى تعلّق إرادته ، بأفعال العبد خيرها وشرّها ، فتعلّق إرادته بها شيء وكونه الفاعل للخير والشر والحسن والقبيح ومريدهما ابتداء ومباشرة شيء آخر والمنفي هو الثاني دون الأوّل.

وبعبارة أخرى : القبيح أن يجبر العبد على الظلم والبغي والفساد بالإرادة التكوينية مباشرة وابتداء وامّا إذا خلق العبد حرّا ومختارا ، في إرادة أيّ جانب من جوانب الفعل ، ثم هو اختار جانبا حسنا أو قبيحا من جانبي الشيء باستعانة من إرادته سبحانه ، فلا يعدّ مثل هذا التعلّق ، أمرا قبيحا ، فإنّ تعلّق إرادته سبحانه بفعله في هذا الظرف. انّما هو لازم وجوده الإمكاني ، ولا محيص عنه ، ومثل هذا التعلّق ، لا يكون قبيحا.

وبالجملة وزان إرادته سبحانه ، وزان قوته وقدرته ، فكما العبد يقوم بحوله وقوّته ، فهكذا يريد بإرادته ، ويشاء بمشيئته ، فكما لا يصح فصل عمله عن حوله وقوته فكذلك لا يصح فصل مشيئته عن مشيئته ، ولأجل ذلك يقول سبحانه (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١).

__________________

(١). الإنسان : ٣٠.

منهاج الجبر

الجبر الأشعري

٤

قدرة العبد غير مؤثرة في الإيجاد

إنّ كون العبد مختارا فرع كونه قادرا على إيجاد الفعل ، ولكنه غير قادر ، وذلك انّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته فلا بد من أن يتمكّن من فعله وتركه ، وإلّا لم يكن قادرا عليه ، إذ القادر من يتمكن من كلا الطرفين ، وعلى هذا يتوقف ترجيح فعله على تركه على مرجّح ، وإلّا فلو وقع أحد الطرفين بلا مرجّح يلزم وقوع أحد الجائزين بلا سبب وهو محال ، فإذا توقّف وجود الفعل على المرجّح ، فهذا المرجّح إمّا أن يصدر من العبد باختياره أو من غيره ، فإن كان من العبد يلزم التسلسل ، لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح عن العبد فيتوقف صدوره على مرجّح ، وعلى الثاني أي يكون المرجّح من الله ،

يكون الفعل عنده واجب الصدور ، عن العبد ، بحيث يمتنع تخلّفه عنه وإلّا فلو لم يكن الفعل مع ذلك المرجّح واجب الصدور ، وجاز وقوع الطرف الآخر يلزم أن يكون تخصيص أحد الطرفين بالتحقّق دون الآخر بلا دليل ، فيجب أن يكون أحد الطرفين مع المرجّح واجب الصدور ومعه يكون اضطراريا لا اختياريا.

والظاهر أنّ مراده من المرجّح هو العلّة ، فعندئذ يقال بعبارة موجزة : إنّ صدور الفعل من العبد ، فرع صدور العلّة منه ، فهل صدور العلّة منه ، لمرجح راجع إلى نفس العبد ، أو إلى الله؟ فعلى الأوّل ينتقل الكلام إلى صدور ذلك المرجّح ، فهو أيضا لمرجّح صادر من العبد فيتسلسل ؛ وعلى الثاني ، ينتفي الاختيار ، إذ عند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل ، وعند عدمه يمتنع الفعل.

ثم إنّ ما ذكرنا من التقرير موافق لما ذكره الفاضل المقداد في إرشاده (١) ، والشريف الجرجاني في «شرح المواقف» (٢).

وأمّا ما ذكره المحقّق الطوسي بقوله : والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب (٣) فالظاهر أنّه إشارة لدليل آخر سيوافيك

__________________

(١). إرشاد الطالبين : ٥٦٥.

(٢). شرح المواقف : ٨ / ١٤٩ ـ ١٥٠.

(٣). العلّامة الحلّي : كشف المراد : ٣٠٨ ذيل المسألة السادسة : انّا فاعلون.

عند البحث عن الجبر الفلسفي أعني قولهم : «إنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد» حيث توهم أنّه يلازم الجبر.

والجواب عن الشبهة واضح جدا ، ونحن نختار الشق الأوّل ، وهو انّ صدور الفعل فرع وجود مرجّح وداع يرتبط بالعبد ، ولا يخرج عن حيطة الفاعل ، وأمّا المرجّح الذي يضفي للفعل وصف الوجوب ، فهو عبارة عن الإرادة ومقدّماتها من التصوّر والتصديق بالملائمة للنفس وقواها ثم الاشتياق ثم التصميم بفعله ، فالإرادة هي المرجّحة الوحيدة ، لوجوب الشيء ، المخرجة للفعل عن حد الإمكان إلى حيّز الوجوب بالغير ، وكونها مرجّحة وداعية ، لا يستلزم التسلسل ، أوّلا ، ولا يستلزم الجبر ثانيا.

أمّا الأوّل فلأنّ المبدأ لظهور الإرادة في لوح النفس ، هو إدراك ملائمة الفعل لها وقواها المختلفة من عقلية أو مثالية أو حسّية ، ومثل هذا الإدراك أمر فطري لها ، يكفي في وجوده التفات النفس إلى الفعل.

وأمّا الثاني ، فلما سيوافيك من أنّ لعدّ الشيء فعلا اختياريّا ملاكين :

الأوّل : أن يكون مسبوقا بالإرادة ، كالافعال الجوارحية من

الأكل والشرب.

الثاني : أن يكون فعلا لفاعل مختار بالذات ، كنفس الإرادة الصادرة عن النفس فإنّها بما أنّها فعل فاعل مختار بالذات تكون ، فعلا اختياريا لها لا اضطراريا.

وبالجملة : انّ الملاك لوصف فعل جوارحي كالمشي بكونه اختياريا كونه مسبوقا بالإرادة وكونه صادرا عنه بها ، وأمّا الملاك لوصف فعل جوانحيّ كالإرادة فإنّما هو لأجل كونها فعلا مباشريا لفاعل مختار بالذات ، له أن يشاء وله أن لا يشاء ، فإذا شاء فإنّما شاء باختيار ذاتي وحرية فطرية ، وسيوافيك توضيحه عند البحث عن الجبر الفلسفي.

استدلّوا على عدم صلاحية قدرة العبد للتأثير في الفعل بوجهين آخرين :

١. إذا كانت القدرتان مختلفتين في الجهة

لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد ، فلو اختلفت القدرتان في المتعلّق ، مثلا إذا أراد تعالى تسكين جسم وأراد العبد تحويله ، فإمّا أن يقع المرادان وهو محال ؛ أو لا يقع واحد منهما وهو أيضا محال ، لاستلزامه ارتفاع النقيضين ، لكونها من قبيل

الضدين اللّذين لا ثالث لهما ؛ أو يقع أحدهما دون الآخر وهو أيضا محال ، لأنّ وقوع أحدهما ليس أولى من الآخر ، لأنّ الله تعالى وإن كان قادرا على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك ، إلّا أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله وقدرة العبد (١) ، فلا محيص عن سلب الصلاحية عن قدرة العبد مطلقا ، فيتعيّن وقوع ما أراده الله سبحانه.

يلاحظ عليه : أنّه يقع مراد الله دون مراد العبد ، وذلك لا لعدم صلاحية قدرته ، بل مع الاعتراف بصلاحية قدرته للتأثير في الفعل ، لكن في المقام خصوصية تمنع عن تأثير قدرته ، وهو أنّ قدرته قدرة تامة ، دون قدرة العبد ، لأنّ من شرائط فعلية قدرته ، أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة بالغة كاملة ، فتعلّق قدرته سبحانه بالحركة تكون مانعة عن وصول قدرة العبد ، إلى درجة التأثير والإيجاد ، فإحداهما مطلقة والأخرى مشروطة ، ولأجل ذلك لو لم تكن ممنوعة ، وقع مراد العبد قطعا.

والحاصل : انّ عدم تأثيرها ، ليس لعدم صلاحيتها للتأثير مطلقا ، بل لأجل كونها مقرونة بالمانع ، فكيف يستدل بمورد له

__________________

(١). الرازي : الأربعون : ٢٣٢.

خصوصية على عدم صلاحيتها مطلقا؟

٢. إذا كانت القدرتان متوافقتي الجهة

إنّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية ، فيلزم أن يكون قادرا على جميع الممكنات وعلى جميع مقدورات العباد ، وعلى هذا ففعل العبد إمّا أن يقع بمجموع القدرتين، أعني : قدرة الله وقدرة العبد ، وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما ، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأخرى ، والأقسام باطلة ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على الإيجاد والتكوين. (١)

وقام المتكلّمون في مقابل تحليل الدليل واختار كلّ مسلكا :

١. فجمهور الأشاعرة ذهبوا إلى أنّه يقع بقدرة الله سبحانه.

٢. وقالت المعتزلة : إنّه يقع بقدرة العبد وحده.

٣. وفصّل الباقلاني من الأشاعرة بأنّ قدرة الله تتعلّق بأصل الفعل ، وقدرة العبد تتعلّق بالعناوين الطارئة عليه ، كالطاعة والعصيان لأجل التأديب والإيذاء في لطم اليتيم ، فأصل اللطم واقع بقدرة الله ، وكونه طاعة لأجل التأديب ومعصية لأجل الإيذاء ، بقدرة العبد.

__________________

(١). الرازي : الأربعون : ٢٣٢.

٤. ونقل الإيجي من الأشاعرة عن أستاذه انّه يقع بمجموع القدرتين العرضيتين حيث جوّزوا اجتماع المؤثرين على أثر واحد.

٥. وقال إمام الحرمين الجويني بأنّ قدرة الله تتعلّق بقدرة العبد ، وقدرة العبد تتعلّق بالفعل ، فتكون القدرتان طوليتين.

٦. وكأنّ إمام الحرمين يصوّر القدرتين ، قدرتين مستقلتين ، غاية الأمر إحداهما في طول الآخر ، ولكن الحق ، انه يقع بقدرة واحدة وهي قدرة العبد ، وفي الوقت نفسه هي من مظاهر قدرته سبحانه لما ثبت من أنّ العبد وقدرته قائمان بالله فقدرته مظهر من مظاهر قدرته سبحانه في عالم الإمكان.

ثم إنّ الأشاعرة ومن لفّ لفّهم تمسّكوا في سلب تأثير قدرة الإنسان ، بأمور تالية :

١. الهداية والضلالة بيد الله سبحانه ، وليس للعبد دور فيهما حسب تضافر الآيات.

٢. انّ الإيمان والكفر من الأمور المقدّرة والمقضيّة ، والقضاء والقدر سالبان للاختيار.

٣. انّه سبحانه ربّما يختم على قلب الكافر والمنافق فلا يدخل فيه نور الإيمان ، كالآيات الواردة فيها لفظ : «الختم والطبع» إلى غير ذلك.

٤. ما دلّ على أنّ السعادة والشقاء من الأمور الذاتية.

ونحن نرجئ البحث عن هذه الدلائل النقلية إلى زمان الفراغ من بيان المناهج في تفسير أفعال الإنسان ، فتبصر.

مناهج الجبر

الجبر الفلسفي

١

الوجود يلازم الوجوب

قد عرفت أنّ للجبر مناهج مختلفة ، فالجبر الأشعري يعتمد على أسباب غيبيّة من كون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ، أو انّ تعلّق علمه وإرادته الأزليّين ، يضيفان على الفعل وصف الوجوب ، أو انّه لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد الفعل فيكون الإنسان في أفعاله مسيّرا ، لا مخيّرا.

وأمّا الفلاسفة (١) فالإلهي منهم يعتمد في القول بالجبر على أصلين :

١. الوجود ، يلازم الوجوب ، وانّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

__________________

(١). المراد قسم منهم ، لا كلّهم ، ولا عامّة أصحاب الفلسفة المتعالية.

٢. إنّ سمة الفعل الاختياري ، هو كونه مسبوقا بالإرادة ، ولكن الإرادة ليست أمرا إراديا ، وإلا لتسلسل ، فيكون أمرا اضطراريا ، فيصير الفعل مثلها ، لأنّ معلول الأمر الاضطراري اضطراريّ مثله وليس باختياري ، فيلزم علينا دارسة الأصلين مادة واستنتاجا فنقول :

لا غبار على القاعدة ، وانّ وجود الشيء ملازم لوجوبه ، وهو مفاد القاعدة الفلسفية المعروفة من : «انّ الشيء ، ما لم يجب لم يوجد». وهي قاعدة محقّقة مبرهنة ، ولكن استنتاج الجبر منها فكرة خاطئة ، ومغالطة واضحة ، حصلت من خلط الفاعل الموجب ، بالفعل الموجب بالفتح ، وسيتضح الخطأ في الاستنتاج.

أمّا برهان القاعدة : بإجماله : فهو انّ وجود الشيء رهن سدّ باب العدم على وجهه بالقطع والبت ، حتى يكون وجوده على وجه الوجوب ولكي ينقطع السؤال بأنّه لما ذا وجد ، ولم ينعدم؟

توضيح البرهان :

إنّ نسبة الممكن سواء كان جوهرا أو عرضا ، إلى الوجود والعدم متساوية ، فليس في ذاته اقتضاء

الوجود ولا اقتضاء العدم ، وإلّا صار إمّا واجب الوجود أو ممتنعه. مع أنّ المفروض انّه ممكن الوجود ، فلخروجه عن حدّ الاستواء ، يحتاج إلى عامل خارج عن ذاته يسوقه إلى أحد الجانبين ، لكن عدم العلّة ، كاف في السوق إلى جانب العدم ولا يتوقف على علّة العدم حتى يضفي عليه وصف العدم ، إذ العدم بطلان محض ، وظلمة بحتة ، فعدم الوجود لعامل الوجود والنور كاف في بقاء النهي على بطلانه ، وظلمته. وأمّا جانب الوجود ، فهو يتوقف على سبب وجوديّ ، يخرجه من البطلان إلى الحق ، ومن الظلمة إلى النور وهذا هو الأصل المسلّم بين جميع الفرق ، من حاجة الممكن إلى العلّة ، وانّ الترجّح بلا مرجّح أمر باطل مخالف للفطرة ، وهو من القضايا البديهية عند العقل ، لا من الأمور التجريبية كما أوضحناها في بحوثنا الفلسفية ، لأنّ التجربة ومشاهدة انّ كلّ حادث لا يتحقّق إلّا بعد تحقّق شيء آخر قبله ، لا تثبت إلّا تقارن الأمرين واتفاقهما معا ؛ وأمّا أنّ الثاني ناشئ من الأوّل ، ومفاض منه ، فهذا ما لا تعطيه التجربة ، ولأجل ذلك عجز من اعتمد على التجربة في إثبات المفاهيم الكلّية الفلسفية ، عن إثبات قانون العليّة فأنكره أو شكّ فيه ، وأمّا نحن فنراه من الأمور البديهيّة الواضحة لدى العقل ، وانّه يحكم بالبداهة انّ الفقدان لا يكون منشأ للوجدان ، وانّ فاقد الشيء

لا يكون معطيه.

وبعد الاتفاق على هذا الأصل من عامّة الطوائف ، هناك اختلاف بين المتكلّمين والفلاسفة ، وهو أنّه هل يكفي مجرّد ترجيح جانب الوجود ، أو يجب أن يصل الترجيح إلى مرحلة الوجوب ، بحيث يمتنع جانب العدم ولو امتناعا بالغير؟ فغالب المتكلّمين على الأوّل ، والفلاسفة على الثاني ، وهو الحق ، لأنّ المعلول ما لم يصل إلى حد الوجوب يكون باب العدم مفتوحا عليه كباب الوجود ، فيطرح السؤال لما ذا وجد مع انفتاح باب كل من الوجود والعدم إذ المفروض انّ المرجّح ، لم يسدّ باب العدم على وجه القطع بل كان باب كلّ منهما بعد مفتوحا على الشيء ، وان ترجّح جانب الوجود ، ولكن الأولوية العارضة على جانب الوجود لم تسدّ باب العدم؟

هذا هو برهان القاعدة ، لا ما ذكره المحقّق الخوئي قدس سرّه من أنّ هذه القاعدة ترتكز على مسألة التناسب والسنخية بين العلّة والمعلول ، فإنّ وجود المعلول ـ كما تقدم ـ مرتبة نازلة من وجود العلّة وليس شيئا اجنبيا عنه ، وعلى هذا فطبيعة الحال : انّ وجود المعلول قد أصبح ضروريا في مرتبة وجود العلّة لفرض انّه متولّد منها ، ومستخرج من صميم ذاتها وواقع مغزها وهذا

معنى احتفاف وجود الممكن ، بضرورة سابقة (١).

والمتتبع لمظان القاعدة وما أقاموه برهانا ، على صحتها يقف على أنّ الوجه غير ذلك، حتى أنّ تفسير قولهم : «الممكن محتف بالضروريات» بما ذكره قدس سرّه خاطئ جدا. فلاحظ شرح المنظومة والأسفار.

ولك أن تستوضح الحال من العلّة المركبة ، فإنّ وجود المعلول رهن جميع أجزاء العلّة ، لأنّ فقدان كل جزء من أجزاء العلّة طريق لعدم المعلول ، ويهدّد وجوده فلا يوجد ، إلّا بوجود جميع الأجزاء ، وعند ذاك يسدّ جميع أبواب العدم في وجه المعلول ، ويصير واجب الوجود من جانب العلّة. وإلّا فلو افترضنا عندئذ احتمال تطرق العدم لزم أن لا يكون ما افترضناه علّة تامة ، كذلك ، وهو خلف ، فإذا كانت علّة تامة وكانت أبواب العدم مسدودة ، صار الفعل قطعيّ الوجود وواجبه.

ولأجل ذلك يقال : الشيء ما لم يجب وجوبا مفاضا من جانب العلّة لم يوجد ، ولكن استنتاج الجبر منه غريب جدا ، وذلك إذ لا ملازمة بين وجوب الفعل وكون الفاعل له فاعلا موجبا ، بل النسبة بين الأمرين عموم مطلق ، فإنّ كل فاعل

__________________

(١). المحاضرات : ٢ / ٥٨.

موجب ـ بالفتح ـ ففعله واجب أيضا ، ولا عكس ، إذ من الممكن أن يكون الفعل واجبا ، ولكن العلّة لكونه فاعلا مختارا بالذات ، يضفي بالاختيار للفعل وصف الوجوب فيكون الفعل واجبا ، دون أن يكون الفاعل موجبا.

وبعبارة أخرى : العلّة التي توجب الفعل لو كانت فاعلا غير شاعر ولا مختار أو شاعرا غير مختار ، كان لما ذكر مجال ، إذ عندئذ يكون فاعلا موجبا ـ بالفتح ـ وموجبا ـ بالكسر ـ بالاضطرار.

وأمّا إذا كان فاعلا شاعرا مختارا ، فهو باختياره يضفي الوجوب للفعل ، ويسدّ أبواب العدم بحريته ويجعله واجب الوجود ، فلا يدل وجوب الوجود للفعل على كونه فاعلا موجبا. واستنتاج الجبر من القاعدة مغالطة حصلت من خلط الفاعل الموجب بالكسر بالفاعل الموجب.

مناهج الجبر

الجبر الفلسفي

٢

الإرادة ليست أمرا اختياريا

إنّ الميزان في تمييز الفعل الاختياري عن غيره هو سبق الإرادة عليه وعدمه ؛ فما صدر عنها ، فهو فعل إرادي اختياري ؛ وما صدر لا عنها فهو اضطراري غير إرادي. ولكن هذا المقياس لا ينطبق على نفس الإرادة ، إذ لو كانت اختياريتها لأجل صدورها عن إرادة ثانية ينتقل الكلام إليها فإمّا يتسلسل أو يتوقف عند إرادة غير صادرة عن إرادة أخرى ويكون فعلا غير إرادي للنفس.

وكلا الافتراضين باطل ، لأنّ الأوّل يستلزم التسلسل ، واللجوء إلى الافتراض الثاني لغاية الفرار عن اضطرارية الإرادة فإذا لم تحصل بعد فلا ملزم لافتراضه بل يتعيّن الشقّ الثالث

وهو وجود إرادة واحدة قبل الفعل ولما كانت غير اختيارية يكون الفعل الصادر منها أيضا مثلها ، لأنّ المعلول ينصبغ بصبغ العلّة. أو أنّ النتيجة تتبع أخس المقدّمات.

وهذا هو الإشكال المهم الذي جعل العقول حيارى والأفهام صرعى ، وقد نقله صدر المتألّهين عن الفارابي بجعل شقوق للإشكال نأتي بها بعبارة واضحة :

استكشف عن اختيارك هل هو حادث أو قديم؟

١. إن كان قديما لزم أن يصحبك ذلك الاختيار منذ أوّل وجودك ، وهو باطل.

٢. وإن كان حادثا ، ولكلّ حادث محدث ، فما هو المحدث؟

فإن كان نفسه بإيجاده بالاختيار يلزم التسلسل.

٣. إذا كان بإيجاده لكن لا بالاختيار ، فيكون مجبورا على الاختيار.

٤. وإن كان المحدث غيره ، فهو ينتهي إلى الأسباب الخارجة عن الإنسان التي ليست باختيار. (١)

وقد أجيب عن الإشكال بوجوه مختلفة نأتي بأكثرها :

__________________

(١). صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٩٠ ، ونقله الشيخ في إلهيات الشفاء ، فلاحظ.

الأوّل : ما أفاده صدر المتألّهين وحاصله : المختار ما يكون فعله بإرادته لا ما يكون إرادته بإرادته ، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل ، صدر عنه وإلّا فلا. لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلّا لم يفعل (١).

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره انّما يتم في الأفعال الجوارحية ، وأمّا الأفعال الصادرة عن النفس مباشرة من التصوّر والتصديق والإرادة ، فلا يمكن أن يكون الملاك في اختياريته هذا المعنى فيدور امرها إنّها إمّا جبرية ، أو اختيارية لكن بملاك آخر ، وما هو هذا الملاك وهو غير مذكور في كلامه؟

الثاني : ما أجاب به المحقّق الخراساني لا في هذا المقام بل في مبحث التجرّي ، وحاصلة : انّ اختيارية الإرادة وإن لم تكن بها ، إلّا أنّ مبادئها يكون وجودها غالبا بالاختيار للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتب على ما عزم عليه عن اللوم والمذمة أو التبعة أو العقوبة. (٢)

يلاحظ عليه : أنّ الكلام في مبادئ الإرادة ، فهل هي مسبوقة بالإرادة أولا؟ وعلى الثاني تخرج عن كونها أفعالا إرادية

__________________

(١). صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٨٨.

(٢). الخراساني : كفاية الأصول : ٢ / ١٤.

للنفس ، بل تكون أفعالا صادرة عنها بلا إرادة ، وعلى الأوّل ينقل الكلام إلى الإرادة السابقة على تلك الأفعال النفسانية (التصوّر والتصديق والتدبّر فيما يترتب على الفعل من التبعات) فهل هي غير مسبوقة بإرادة ثالثة فيلزم الجبر لأنّ إرادة الفعل انتهت إلى إرادة غير اختيارية ، أو مسبوقة بها فعندئذ يلزم التسلسل؟

الثالث : ما أجاب به في الكفاية في هذا المقام وهو انّ الإرادة ناشئة عن مقدّماتها وهي تابعة للشقاء الذاتي أو السعادة الذاتية.

يلاحظ عليه : أنّه دعم للإشكال وليس حلّا له ، وقد زاد في الطين بلّة.

الرابع : ما ذكره شيخ مشايخنا العلّامة الحائري وحاصله : انّ ما اشتهر من أنّ الإرادة لا تتعلّق بها الإرادة ولا تكون مسبوقة بإرادة أخرى غير صحيح ، بل ربما تتعلّق الإرادة بها لمصلحة فيها ، وهذا كما إذا وقف الإنسان على أنّ صحة الصوم والصلاة مترتبة على قصد الإنسان بالبقاء في مكان واحد عشرة أيام ولا يترتب على نفس البقاء فتتعلّق الإرادة عليه ، وتكون النتيجة ، تعلّق الإرادة بالإرادة. (١)

__________________

(١). درر الفوائد : ١٥ ، وقد نقل بالمعنى.

يلاحظ عليه : أنّه لا يدفع الإشكال : إذ غايته : تعلّق الإرادة على الإرادة الأولى ، وأمّا الإرادة الثانية فلا تتعلّق بها الإرادة ، فلا يكون أمرا اختياريا ، لأنّ المعيار في الاختيار كون الشيء مسبوقا بالإرادة وهي ليست كذلك.

الخامس : ما يظهر من العلّامة الطباطبائي عند البحث عن أنّ القضاء والقدر ، لا ينتجان الحتم واللزوم ، وانتهى كلامه إلى ما يفيدنا في المقام ، قال : الفعل الاختياري الصادر عن الإنسان بإرادته ، إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ، ومادة يتعلّق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية ، كان ضروريّ الوجود ، وهو الذي تعلّقت به الإرادة الإلهية ، لكن كون الفعل ضروريا بالقياس ، إلى جميع أجزاء علّته التامة ومن جهتها ، لا يوجب كونه ضروريّا إذا قيس إلى بعض أجزاء علّته التامة ، كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل أو بقية أجزاء علّته التامة ، فإنّه لا يتجاوز حد الإمكان ولا يبلغ حد الوجوب. (١)

يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره من أنّ المعلول إذا نسب إلى العلّة التامة ، يوصف بالوجوب ، وإذا نسب إلى بعض أجزائها ،

__________________

(١). الميزان : ١ / ٩٩.

يوصف بالإمكان ، وان كان صحيحا لكنه لا يحل العقدة ، لأنّ سائر الأجزاء ـ غير الإرادة ـ كوجود الفاعل وسائر المقدّمات كالدرج للصعود على السطح ، أو السيارة للحركة ، كلّها خارجة عن اختيار الفاعل وكون نسبة الفعل إليها بالإمكان عندئذ غير مفيد ، لأنّ الواقع تحت الاختيار ، عبارة عن إرادة الفاعل واختياره وإذا كانت الإرادة أيضا خارجة عن الاختيار ، وكانت الجزء الأخير للعلّة التامة ، فعندئذ تصبح نسبة الفعل إلى العلّة بالوجوب واللزوم ولو كان الوجوب عندئذ مساويا للجبر ، فلا يفيد كون النسبة في اللحاظ الأوّل ، هو الإمكان.

وبعبارة أخرى : انّ الفعل عند انضمام الإرادة إلى سائر الأجزاء يوصف بالوجوب ، فلو كانت الإرادة غير إرادية أيضا وخارجة عن الاختيار ، يوصف الفعل بالجبر واللزوم.

السادس : ما أفاده المحقّق النائيني وقال ما هذا ملخّصه : «إنّ الموجود في النفس المترتب عليه حركة العضلات ، هل هو أمور ثلاثة : التصوّر ، والتصديق بالفائدة ، والشوق المؤكد المعبّر عنه بالإرادة كما هو المعروف ؛ أو هناك أمر آخر متوسط بين الإرادة والحركة ونسبته إلى النفس ، نسبة الفعل إلى فاعله ، لا نسبة الكيف إلى موضوعه (كما هو الحال في الشوق بالنسبة إلى

النفس)؟ والحق هو الثاني ، أيّ انّ هناك مرتبة أخرى بعد الإرادة تسمّى بالطلب ، وهو نفس الاختيار وتأثير النفس في حركة العضلات. والبرهان عليه انّ الصفات العامة للنفس من التصوّر والتصديق والإرادة كلّها غير اختيارية ، فإن كانت حركة العضلات مترتبة عليها من غير تأثير النفس فيها وبلا اختيارها ، يلزم أن لا تكون العضلات منقادة للنفس وحركاتها ، وهو باطل وجدانا ، فإنّ النفس تامة التأثير في العضلات من دون أن يكون لها مزاحم في سلطانها وملكها.

وما يقال في الجواب عنها بأنّ استحقاق العقاب مترتب على الفعل الاختياريّ ، أيّ الفعل الصادر عن الإرادة ، وإن كانت الإرادة غير اختيارية ، فهو لا يسمن ولا يغني من جوع ، بداهة انّ المعلول لأمر غير اختياري ، غير اختياري ، وبذلك يتضح أنّ علّية الإرادة ، هادم لأساس الاختيار بخلاف ما إذا أنكرنا علّية الصفات النفسانية (الثلاث) للفعل ، وقلنا : إنّ النفس مؤثرة بنفسها في حركات العضلات من غير محرّك خارجي ، وتأثيرها المسمّى بالطلب انّما هو من قبل ذاتها فلا يلزم محذور.

فإن قلت : إنّ الذي جعلته متوسطا بين الإرادة وحركة

العضلات ، ممكن لا واجب ، فهو يحتاج إلى علّة ، فهل علّته التامة اختيارية أو غير اختيارية لا سبيل إلى الأوّل لاستلزامه التسلسل ، وعلى الثاني يلزم الجبر؟

قلت : إنّ المتوسط أمر ممكن ، حادث وهو نفس الاختيار الذي هو فعل النفس ، وهو بذاته يؤثّر في وجوده الاختيار ، فلا يحتاج إلى علّة موجبة لا ينفك أثرها إذ العلّية بنحو الإيجاب انّما هي في غير الأفعال الاختيارية ، نعم لا بد في وجوده من فاعل وهو النفس ، ومرجّح وهو الصفات النفسانية ، والاحتياج إلى المرجّح لأجل خروج الفعل عن العبثية. (١)

يلاحظ عليه : أوّلا : أنّ الإرادة ليست ، نفس الشوق المؤكّد ، ولا الشوق المحرّك للعضلات ، لأنّ الشوق من مقولة الانفعال ، والإرادة من مقولة الفعل ، مضافا إلى أنّه ربّما يريد الإنسان بلا شوق نفساني ، وانّما يفعله لغايات أخرى كشرب الدواء المرّ ، فتفسير الإرادة بالشوق خاطئ من وجهين كما عرفت.

ثانيا : لا شك في وجود المرحلة الرابعة بعد الشوق المؤكد ، وانّما الكلام في تعيّنها والذي يلمسه كل فاعل ، مريد من صميم نفسه ، انّه بعد حصول الشوق النفساني ، أو العقلائي ـ كما في

__________________

(١). أجود التقريرات : ١ / ٩٠ ـ ٩١.

شرب الدواء المرّ ـ يجد في نفسه حالة التصميم والتجزّم ، للفعل أو عدمه ، وفي هذه الحالة يخرج الفعل عن حالة التساوي إلى الفاعل ، ويوصف بالوجوب والامتناع ، فيكون فاعلا أو تاركا بالقطع والجزم.

وأمّا ما أسماه المحقّق النائيني بمرحلة الاختيار ، فإن اراد منه ما ذكرنا فهو ، وان أراد غيره كما هو الظاهر فهو غير متحقّق ، لأنّ مفهوم كلامه انّ النفس بعد المرور بها ، تتساوى أيضا نسبته بالنسبة إلى الفعل والترك ، غاية الأمر لأجل وجود مرجّح ، يقدّم جانب الفعل على الترك ، مع أنّ الفعل في هذه الحالة ، لا يكون متساوي النسبة بل ينقلب إلى حالة القطعية والجزمية ، والفاعل يهاجم الفعل ولا يفكر في الترك. وأين هذا ، من حالة التساوي ، أو مع وجود مرجح لأحد الطرفين؟

وثالثا : أنّ تخصيص القاعدة العقلية ، أي : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» بالأفعال غير الاختيارية كالفواعل الطبيعية ، تخصيص بلا ملاك ، فإنّ مقتضى برهانه هو التعميم وعدم الفرق بين الاختيارية وغيرها.

وحاصله : أنّه يجب سدّ جميع أبواب العدم ، ومع انفتاح باب واحد ـ وكيف ازيد منه ـ لا يقطع السؤال لما ذا وجد ، ولم

ينعدم؟ وإذا سد جميع أبوابه ، يتحقّق المعلول بصورة ظاهرة قطعية على وجه لا محيص عن الوجود والتحقّق. نعم لو قلنا بأنّ برهان القاعدة عبارة عن وجود المعلول في رتبة العلّة ، يكون المعلول ضروريّ التحقّق ، بضرورة وجود علّته (١) لكان للتخصيص وجه ، وهذا يتمشّى في العلل غير الاختيارية لا فيها ، ولكن ما ذكر أساسا للقاعدة لا أثر منه في الكتب الفلسفية ، فلاحظ.

السابع : ما أفاده سيدنا الأستاذ ـ دام ظله ـ في درسه الشريف ، وحاصل ما أفاده يأتي في ضمن أمور :

١. انّ الأفعال الصادرة عن النفس تنقسم إلى : تكويني ونفسي ، وإن شئت قلت : إلى : تسبيبيّ ومباشري.

فالأوّل منهما ما يصدر عنها بآلة وسبب جرمانيّ كالخياطة والكتابة وإحداث البناء إلى غير ذلك من الأمور الموجودة في خارج لوح النفس ، ففي هذه الموارد كلّ من المقدّمة وذيها ، مسبوق بالتصوّر والتصديق والشوق المؤكد (في أغلب الموارد) فإذا تمّت المقدّمات يجد الإنسان في ذهنه العزم والجزم والتصميم والقاطعية ، وعند ذلك ، تنقاد الأعضاء

__________________

(١). المحقّق الخوئي : المحاضرات : ٢ / ٥٨٠. وقد مرّ اشكاله.

وتتوجه إلى الحجر والخشب والإبرة والخيط.

انّ النفس في مجال هذا النوع من العمل فاعل للحركة ففي ظلّ حركة العضلات تتحقّق الأفعال التكوينية التسبيبية من الخياطة والكتابة.

والثاني منهما ما يصدر عنه بلا آلة ، أو بآلة غير جسمانية ؛ وإن شئت قلت : ما يصدر عنها بخلّاقية النفس وإيجادها في صقعها. وهذا كصاحب ملكة علم الفقه أو النحو ، فإذا سئل عن عدّة مسائل تأتي الأجوبة في الذهن ، واحدا بعد الآخر. ونظيرها خلق الصور البديعة الهندسية المقدارية ، لمن زاول المعمارية وصار ذا ملكة فيها ، فتصدر عنها الصور ، في ظروف خاصة.

وهذا النوع من أفعال النفس ، اختياري لها ، وإن لم يكن هناك تصوّر ولا تصديق ، وشوق ، ولا إرادة ، وسيوافيك وجهه ومثلها الإرادة ، فانّها فعل للنفس ، فعلا مباشريا ، وليست مسبوقة بمقدّمات الإرادة أصلا.

٢. انّ النفس في هذا النوع من الأفعال ، بما انّها فاعلة بالتجلّي جامعة لكمالات فعله في مقام الذات على نحو الإجمال والإيجاز ، فالأجوبة العلمية والصور البديعة ، والاختيار

الملموس لكل إنسان قبل التصميم والجزم ، وحتى نفس الإرادة ونظائرها موجودة في مقام الذات لكن لا على نحو التفصيل بل على سبيل الإجمال ، فتكون النفس في مقابل الذات مريدة ومختارة بالذات بشهادة وجودهما في مقام الفعل ، ويكون هذا هو الملاك في كون القسم الثاني فعلا اختياريا وإراديا ، لا لأجل سبق إرادة تفصيلية ، بل لأجل كون الإنسان في مقام الذات ، مختارا بالذات ، فهو باختيار ذاتي ، ينشأ الإرادة والجزم أو التصميم.

وتعلم حال النفس إذا قيست إلى الواجب عزّ اسمه ، فإنّه سبحانه خلق الكون وما فيه لا بإرادته التفصيلية وإلّا يلزم أن تكون الذات محلا للحوادث ، بل بإرادة إجمالية أو اختيار ذاتي ، هما عين ذاته سبحانه وإن لم ينكشف لنا كنههما ، فكما أنّ الملاك لكون فعله اختياريا هو كونه موجودا مختارا بالذات ، باختيار هو عين ذاته ، فهكذا النفس فهي مختارة في إيجاد القسم الثاني من الأفعال باختيار ذاتي هو عين ذاتها.

والذي يفك العقدة ، ويزيل الشبهة من رأسها نفي انّ يكون الملاك للاختيار شيئا واحدا ، وهو كون الشيء مسبوقا بالإرادة ، بل الملاك أحد الأمرين ، ففي النوع الأوّل ، الملاك مسبوقية

الفعل بالاختيار ؛ وفي الثاني ، كونه صادرا عن فاعل مختار ومريد بالذات ، ولأجل ذلك صارت النفس مثلا لله سبحانه ، وإن كان سبحانه منزها عن المثل والندّ.

إكمال للبحث

إنّ للسيد المحقّق الخوئي قدس سرّه في المقام نظرية قريبة ممّا ذكره سيدنا الأستاذ قدس سرّه ، فكلاهما دقّا بابا واحدا ، وهو كون النفس فاعلا مختارا بالذات ، لكن السيد الخوئي استند في إثبات نظريته إلى أمور قابلة للمناقشة ، وقد كان في غنى من أن يحوم حولها ، لأنّ إثبات الاختيار الذاتي للنفس كاف في دفع شبهة الجبر. ولنذكر خلاصة كلامه ، ثم نذكر بعض المناقشات ، فقد بنى نظريته على أمرين :

الأوّل : انّ الإرادة لا تعقل أن تكون علّة تامة للفعل.

الثاني : الأفعال الاختيارية بكافة أنواعها مسبوقة بإعمال القدرة والسلطنة.

أمّا الأوّل ، فقد أوضحه بأمور :

١. الفرق الواضح بين الحركتين ، حركة يد المرتعش ، وحركة يد غير المرتعش ، حركة النبض وحركة الأصابع ، حركة

الدم وحركة اليد يمنة ويسرة ، ولو كانت الإرادة علّة تامّة وكانت حركة العضلات معلولة لها كانت حالها ، عند وجودها حال حركة يد المرتعش أو حركة النبض والدم. والسبب في ذلك انّ الإرادة مهما بلغت ذروتها لا يترتب عليها الفعل كترتب المعلول على علّته التامة ، بل الفعل على الرغم من وجودها وتحقّقها تحت اختيار النفس وسلطانها ، فلها أن تفعل ولها أن لا تفعل ، ولو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات لم يكن للنفس تلك السلطنة ، ولكانت عاجزة عن التأثير مع فرض وجودها.

٢. إنّ الإرادة تشارك الخوف في كونها من الصفات النفسانية ، ويترتب على كل واحد أمور : فإذا خاف ، يرتعش البدن ويصفرّ اللون ، وإذا اراد يترتب عليه المراد ، فلو كانت الإرادة علّة تامة للفعل من دون أن يتوسط بينها وبين المراد سلطان النفس واختياره ، لزم أن يكون ما يترتّب على الخوف والإرادة على وزان واحد ، مع أنّه خلاف الوجدان.

٣. بل ربما يوصف الفعل بالاختياري من دون سبق إرادة عليه ، كما إذا سقط من شاهق فدار أمره بين أن يقع على ولده الأكبر ، أو الأصغر ، فبطبيعة الحال يختار سقوطه على ابنه

الأصغر لشدّة علاقته بالأكبر ، ومن البديهي انّ اختياره السقوط على الأوّل ليس من جهة شوقه إلى هلاكه أو موته وإرادته له ، ولو كانت الإرادة علّة تامة للفعل ، لكان صدوره منه محالا ، لعدم وجود علّته وهي الإرادة ، وانّما الفعل معلول إعمال القدرة وسلطان النفس لا إرادة الفعل.

فاستنتج من هذه الأمور الثلاثة أمرين :

الأوّل : انّ الإرادة لا تكون علّة تامة للفعل ، ولا توجب خروجه عن تحت سلطان النفس واختياره.

الثاني : على فرض التسليم ، انّ العلّة غير منحصرة فيها ، بل هناك علّة أخرى وهي إعمال القدرة والسلطنة للنفس (١).

هذا كلّه حول الامر الأول.

وأمّا الامر الثاني ، أعني : انّ الفعل الاختياري ما أوجده الإنسان باختياره وإعمال قدرته ، وهو بكافة أنواعه مسبوق بإعمال القدرة والسلطنة ، وحاصل ما أفاده هو ما يلي :

انّه إذا ثبت انّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل ، فبطبيعة الحال

__________________

(١). انّه ـ قدس سرّه ـ ذيّل كلامه بالبحث عن قاعدة : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» وانتهى إلى أنّها مختصة بالأفعال غير الاختيارية ، وقد مرّ الكلام فيه عند البحث عن القاعدة. فلاحظ.

يستند وجود الفعل إلى أمر ، وهذا الأمر هو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنهما بالاختيار ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى انّ الله عزوجل قد خلق النفس للإنسان واجدة لهذه السلطنة والقدرة وهي ذاتية لها وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة وقدرة أخرى.

ثم استنتج من هذا البيان الضافي أمرين تاليين :

١. انّ الأمر الاختياري انّما يصدر عن الفاعل بإعمال قدرته لا بإرادته. نعم الإرادة تكون مرجّحة لاختياره.

٢. انّ اختيار النفس للفعل وإن كان يفتقر غالبا إلى وجود مرجّح إلّا أنّه ليس من ناحية استحالة صدوره منها بدونه بل من ناحية خروجه عن اللغوية. (١)

يلاحظ عليه :

أوّلا : أنّه ـ قدس سرّه ـ في إثبات مقصوده (انّ النفس فاعلة مختارة بالذات وانّ السلطنة والاختيار ذاتيان للنفس وداخلان في

__________________

(١). المحقّق الخوئي : المحاضرات : ٢ / ٥٣ ـ ٦٠ بتلخيص.

صميم ذاتها) في غنىّ عن الخوض في هذه المباحث وقد عرفت أنّه وصل الى نفس ما وصل إليه السيد الأستاذ ، فحرية النفس الذاتية تكفي في رد الجبر ، وإثبات اختيار الفعل والإرادة ، سواء كانت الإرادة علّة تامة أو لا ، وسواء أصحت قاعدة : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» أو لا ، ولكنه خاض غمار هذه المسائل العقلية وخرج بنتائج غير تامة ، وإليك الإشارة إليها :

الأوّل : الفرق بين حركة يد المرتعش وتحريك اليد يمنة ويسرة هو الفرق بين الفعل المفروض على الإنسان من غير طلب واختيار ، والفعل الذي فرضه الإنسان على نفسه ، فكون الإرادة علّة تامة للفعل غير المنفكة عن المراد ، لا ينافي كون الفاعل هو الذي فرض الفعل على نفسه عن اختيار سابق على الإرادة.

ولنا أنّ نستوضح الحال بمثال آخر ، وهو الفرق بين سقوط من ألقى نفسه من شاهق ، ومن دفعه شخص آخر منه ، فإنّ السقوط بما هو هو ـ بعد الاندفاع ـ أمر خارج عن الاختيار ، لكن يعاقب على الأوّل دون الثاني ، وما هذا إلّا لأنّ الفاعل في الأوّل هو الذي فرض الفعل على نفسه عن اختيار ، والثاني هو الذي فرض الغير عليه ، وعلى ضوء ذلك فوضوح الفرق بين

حركة المرتعش وتحريك الإنسان يده ، ليس معلولا لعدم كون الإرادة علّة تامة له ، ولا عدم جريان قاعدة : «الفعل ما لم يجب لم يوجد» بل الفرق رهن ، سبق الاختيار في الأوّل ، قبل الفرض ، دون الثاني.

٢. انّ الإرادة وإن كانت مثل الخوف في كل كون كلّ ، علّة تامة لما يترتب عليهما من الآثار ، لكن تفترق عنه ، بأنّ النفس غير قادرة على الاجتناب عن الخوف وأثره فلأجل ذلك يعدّ المؤثر والأثر أمرا غير اختياريّ ، وهذا بخلاف الإرادة فانّها علّة تامة للأثر ، لكن في وسع النفس الابتعاد عنها بالاختيار الموجود في النفس ، قبل التصميم والجزم.

٣. انّ السقوط على الولد الأصغر فعل إرادي للفاعل وان كان فاقدا للشوق النفسي ، وقد عرفت أنّ الشوق لا يلازم الإرادة ، بل القوّة العاقلة تدفعه إلى اختيار ذاك الجانب ، فأصل السقوط وإن كان غير إرادي لكن اختيار الجانب المعيّن إرادي قطعا ، وأمّا قوله : «.. ولو كانت الإرادة علّة تامة للفعل لكان صدوره منه محالا ، لعدم وجود علّة وهي الإرادة، فهو كلام غريب ، لأنّه خلط بين أصل السقوط ، واختيار جانب خاص ، فالأوّل فاقد للإرادة والثاني واجد لها قطعا.

٤. ما ذكره في الأمر الرابع : «إذا ثبت انّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل ، فبطبيعة الحال يستند وجود الفعل إلى أمر آخر ، وهو إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنه بالاختيار» غير مفهوم جدا إذ لم نجد موردا يعدّ الفعل اختياريا ولم يكن فيه للإرادة دور واضح ، وأمّا استناد الفعل إلى إعمال القدرة والسلطنة المعبّر عنها بالاختيار فليس شيئا وراء أثر الإرادة ، فإنّ الإنسان المريد ، يترتب عليه تحريك العضلات نحوه ، وليس هو إلّا إعمال القدرة والسلطنة ، وأمّا حالة الاختيار ، فهي تلازم الإنسان من لدن تصوّره إلى إنجاز العمل ، غاية الأمر إذا تمّت المبادئ وحصل الجزم نحو العمل يكون مندفعا من جانب نفسه إلى العمل ، اندفاعا بالاختيار ما لم يحصل الجزم والتصميم ، وأمّا معهما فيدخل الفعل في مرحلة الوجوب والإيجاب ، وبما انّهما كانا بالاختيار فلا ينافيان الاختيار كما لا يخفى.

مناهج الجبر

الجبر المادي

الجبر المادي

قد تعرّفت على المنهجين السابقين ، أعني : الجبر الأشعري والجبر الفلسفي ، وأصحاب المنهجين إلهيّون ، غير انّ الأوّل يعتمد على الأصول الغيبية ، والآخر على القواعد الفلسفية ، وأمّا أصحاب المنهج الثالث فهم الماديون غير المؤمنين ، بما وراء الطبيعة ، فلا يستدلّون على الجبر ، بخلق الأعمال وعلم الإله وإرادته الأزليين ، ولا بالأصول الفلسفية التي يعتمد عليها الإلهي ، فلا يستدلون بقاعدة وجود الشيء مساوق مع وجوبه ، ولا بكون الإرادة غير مسبوقة بإرادة اخرى ، بل يحاولون تحليل فعل الإنسان من حيث الجبر والاختيار من خلال علله المادية التي تدفعه إلى العمل على شاكلتها بالبيان التالي :

إنّ فعل كل إنسان تعبير عن شخصيته المكوّنة بيد أصول ثلاثة يعبّر عنها بمثلث الشخصية وإن كانت الأضلاع في بناء الشخصية ومقدار التأثير غير متساوية ، ولكن كل ضلع مؤثر فيها تأثيرا قطعيّا ، وأمّا أضلاعها ، فهي عبارة عن.

١. ناموس الوراثة.

٢. الثقافة.

٣. البيئة.

وإليك تبيين تأثيرها في تكوين شخصية الإنسان.

١. إنّ ناموس الوراثة ، أمر اعترف به العلم والتجربة ويلمسه كل إنسان واع مفكّر في المقام ، فالولد ، كما يرث الصفات الجسمانية للوالدين ، كذلك يرث روحياتهما وصفاتهما الشريفة والرذيلة وينشأ ويربّى عليها ، يقول الشاعر :

ينشأ الصغير على ما كان والده

انّ الأصول عليها ينبت الشجر

إنّ الوالدين جسما وروحا يعتبران عاملين مؤثرين في مصير الولد ، فهما اللبنة الأولى في بناء الشخصية الصالحة ، كما أنّ سيادة روح التمرّد والطغيان عليهما وسوء الخلق والميل إلى

ضد العفاف ، ممّا تؤثر في شخصية الإنسان. والجينات الموجودة في الخلية الإنسانية سبب طبيعي وعامل لانتقال هذه الصفات ، إلى الطفل ، على ما هو المقرر في علم الوراثة.

٢. عند ما تتكون أسس الشخصية وقواعدها في نفسية الطفل بالوراثة ، يأتي دور المعلم الذي يمثل المدرسة التربوية الثانية بعد مدرسة الأبوين وعامل الوراثة ، على يدي المعلمين ، ولهذا يكون دور التعليم ـ في مصير الطفل ـ دورا حساسا في قلبه فينبت في قلبه كلّما ألقي ، من البذور الطيبة أو الخبيثة.

٣. فإذا أتمّ دراسته وبدأ ممارسة العمل يتأثر في سلوكه وخلقه ، بالبيئة التي يعيش فيها ، فإذا كانت العوامل الثلاثة متجانسة في الغاية والأثر ، يقع الكل في طريق تكوين الشخصية الواحدة ، فلا صراع بينها ولا نزاع ، وأما إذا كانت بينها نزاع وصراع في الغاية والدعوة ، فتكون النتيجة من حيث السلوك ، تابعة لأقوى العوامل وأرسخها في الروح وهو يختلف حسب اختلاف تأثير الأوفر سهما من هذه العوامل ، ولأجل ذلك يوجد من يختار سلوك الآباء ، كما يوجد من يتركه ويقتفي أثر الثقافة ، أو البيئة وعلى كل تقدير ، فالإنسان مختار صورة ، لكنه مسيّر سيرة ، يخطّ مصيره هذه العوامل ، أو أقواها

تأثيرا ، وما ربما يقال ، من أنّه يختار مسيرته في الحياة فهو أمر صوري ، وانّما تدبره هذه العوامل المكوّنة.

يلاحظ عليه أوّلا :

أنّ ما ذكره من تأثير العوامل الثلاثة في بناء الشخصية أمر لا غبار عليه ، انّما الكلام في كونها علّة تامة أو معدّات وانّما يوجد أرضية لنمو مقتضاها ، ولا توجد حتمية ، غير قابلة للتغيير ، وإليك البيان :

أمّا العامل الأوّل فلا شك في تأثيره ، وقد قال سبحانه : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً) (١) وفي الآيات والروايات تصريحات وإشارات إلى ذلك ، لكن أثرها بين غير قابل للتغيير ، كالبله والحمق والبلادة وقابل له في ظل عوامل تربوية ، ولأجل ذلك ربما يكون الولد المتولّد من أبوين بارّين خائنا وجانيا ، كما ربما يكون الولد المتولّد من أبوين طاغيين ، إنسانا صالحا مطيعا ، والأوّل كولد نوح ، والثاني كعمر بن عبد العزيز.

ومثله العامل الثاني ، فليس عاملا حتميّ الأثر وقطعي

__________________

(١). الأعراف : ٥٨.

النتيجة ، فربما ، يسعى الولدان ، لتغيير ما أوجده التعلّم من الآثار الطيّبة أو الخبيثة.

ولا يقلّ عنه العامل الثالث ، فقد أثرت البيئة الفاسدة على امرأة نوح وامرأة لوط ، فافسدتهما (١) وفي الوقت نفسه بقيت في بيت نوح عدة على صلاحهم وفلاحهم. فهذه العوامل بأجمعها معدات ، لا علّة تامّة في بناء الشخصية الحتمية غير القابلة للتغيير.

ثانيا : أنّ العوامل المكوّنة للشخصية الإنسانية لا تنحصر في العوامل الثلاثة المذكورة وانّما اختارها المادي ، لأنّها تناسب ما يبتغيه ، كيف وانّ هناك أبعادا روحية للإنسان وأحاسيس خاصة ، توحى إليه خير الحياة وتدفعه إليها ، بحماس ، وان لم يكن علّة تامة أيضا في التخطيط ، وهي عبارة عن الإدراكات النابعة من داخل الإنسان وفطرته من دون أن يتدخل في الإيحاء عامل خارجي ، كمعرفة الإنسان بنفسه وإحساسه بالجوع والعطش ، ورغبته في الزواج في سنين معينة ، والاشتياق إلى المال والمنصب في فترات من حياته. تلك المعارف ـ وإن شئت سمّيتها بالأحاسيس ـ تنبع من ذات الإنسان وأعماق وجوده.

__________________

(١). لاحظ التحريم : ١٠.

إنّ علماء النفس يعتقدون بأنّ للنفس الإنسانية أبعادا أربعة يكون كلّ بعد منها ، مبدأ لآثار خاصة :

أ : روح الاستطلاع واستكشاف الحقائق ، وهذا البعد من الروح الإنسانية خلّاق للعلوم والمعارف ، ولولاه لما تقدّم الإنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب ، شبرا في العلوم واستكشاف الحقائق.

ب : حب الخير ، والنزوع إلى البرّ والمعروف ، ولأجل ذلك يجد الإنسان في نفسه ميلا إلى الخير والصلاح وانزجارا عن الشر والفساد. فالعدل والقسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأجواء والظروف ، والظلم والجور منفور له كذلك ، إلى غير ذلك من الأفعال التي يصفها كل إنسان بالخير أو الشر ، ويجد في أعماق ذاته ميلا إلى الأوّل وابتعادا عن الثاني ، وهذا النوع من الإحساس مبدأ للقيم والأخلاق الإنسانية.

ج : عشق الإنسان وعلاقته بالجمال في مجالات الطبيعة والصناعة ، فالمصنوعات الدقيقة والجميلة ، واللوحات الفنّية والتماثيل الرائعة تستمد روعتها وجمالها من هذا البعد.

إنّ كلّ إنسان يجد في نفسه حبا أكيدا للحدائق الغنّاء المكتظّة

بالأزهار العطرة ، والأشجار الباسقة ، كما يجد في نفسه ميلا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة ، وحبّا للإنسان الجميل ، وكلّها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإنسان ، وهي في الوقت نفسه خلّاقة للفنون في مجالات مختلفة.

د : الشعور الديني الذي يتأجّج لدى الشباب في سن البلوغ ، فيدعو الإنسان إلى الاعتقاد بأنّ وراء هذا العالم عالما آخر يستمد هذا العالم وجوده منه ، وانّ الإنسان بكل خصوصياته متعلّق بذلك العالم ويستمد منه.

وهذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأخير ، وأيّدوه بالاختبارات المتنوعة ، ممّا ركّز عليه الذكر الحكيم قبل قرون وأشار إليه في آياته المباركة ، نعرض بعضها :

أ : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (١).

إنّ عبارة (فِطْرَتَ اللهِ) تفسير للفظة الدين الواردة قبلها ، وهي تدل بوضوح على أنّ الدين ـ بمعنى الاعتقاد بخالق العالم والإنسان ، وانّ مصير الإنسان بيده ـ شيء خلق الإنسان عليه ، وفطر به كما خلق وفطر على كثير من الميول والغرائز.

__________________

(١). الروم : ٣٠.

ب : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١).

أيّ عرّفنا الإنسان طريق الخير وطريق الشر. وليس المراد التعرّف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه ، وان لم يقع في إطار تعليم الأنبياء ، وذلك لأنّه سبحانه يقول قبل هذه الآية : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ* ... أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٢) فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإنسان وإبداعه.

وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس ممّا ركّز عليها الوحي بشكل واضح ، وحاصلها أنّ الدين بصورته الكلية أمر فطري ينمو حسب نموّ الإنسان ورشده ، ويخضع للتربية والتنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز.

وأنت إذا أمعنت في هذه الأحاسيس الداعية إلى الخير والفلاح ، والعوامل الثلاثة المكوّنة للشخصية التي ربّما تجاوبها وتلائمها كما أنّه ربّما تخالفها وتناقضها ، تجد الإنسان تارة يعيش في جو مادي ، وأخرى في جو صراع وتناقض ، ومع ذلك

__________________

(١). البلد : ١٠.

(٢). البلد : ٤ ـ ٩.

كلّه ، فحرية الإنسان وسيادته على كلّ الأحاسيس والعوامل ، فوق كل شيء ، فله أن يزيل تأثير العوامل ، من أساس ، أو يعدّل أثرها ، أو يربّيها على أشدّ وجه.

والعجب أنّ المادي ضرب على الأبعاد الأربعة التي اكتشفها العلم بقلم عريض وتمسّك بالعوامل الثلاثة المكوّنة للشخصية واستنتج منها الجبر.

وفي نهاية المطاف نقول : إنّ المادّي الذي يتبنّى الجبر ، فإنّه غطاء وواجهة ، للحرية في العمل ، والغور في الشهوات ، والانحلال عن القيود الأخلاقية التي فرضتها عليه بيئته ، فهو يريد الحرية السائدة كالوحوش في الغابات لكن بغطاء الجبر.

وأدلّ دليل على أنّهم يلوكون الجبر في ألسنتهم وليس في قلوبهم ثمت شيء ، انّهم في الحياة الاجتماعية يتعاملون مع الناس ، بالاعتقاد بالاختيار ، فلأجل ذلك يشتكي على من تجاوز حقه ولو ضربه ، ينتقم منه من دون أن يلتفت إلى انّ فعله رهن شخصيته المكونة بأيدي عوامل خارجة عن الاختيار. كل ذلك يرشدنا إلى أنّ الاعتقاد بالحرية عجين روحه ويشكّل السدى واللحمة من ذاته ، وانّ التفوّه بالجبر والتسيير ، أفكار مستوردة لغايات مادية أو سياسية.

الفصل الثاني

في

مناهج الاختيار

مناهج الاختيار

١

الاختيار المعتزلي (التفويض)

قد عرفت أنّ للجبر مناهج ، فللقائلين به مسالك مختلفة وإن كانوا متحدين في النتيجة ، وما أشبه الاختيار بالجبر فله أيضا مناهج ، فكلّ طائفة سلكت مسلكا في الوصول إليه ، فنذكر تلك المناهج :

نسبت الأشاعرة إلى المعتزلة بأنّهم يقولون بأنّ أفعال العباد واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار (١) ولبّ مذهبهم انّ الله تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أفعالهم وفوّض إليهم الاختيار ، فهم مستقلّون في إيجاد أفعالهم على وفق مشيئتهم ، وطبق قدرتهم ، ويترتّب على ذلك أمور :

١. فائدة التكليف بالأوامر والنواهي.

__________________

(١). لاحظ حاشية شرح المواقف لعبد الحكيم السيالكوتي : ٢ / ١٤٦.

٢. فائدة الوعد والوعيد.

٣. استحقاق الثواب والعقاب.

٤. تنزيه الله سبحانه عن إيجاد القبائح والشرور من أنواع الكفر والمعاصي والمساوئ.

قال الشريف الجرجاني : إنّ المعتزلة استدلّوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد ، وهو انّه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف ، وبطل التأديب الذي ورد به الشرع ، وارتفع المدح والذم ، إذ ليس للفعل استناد إلى العبد ، ولم يبق للبعثة فائدة ، لأنّ العباد ليسوا موجدين لأفعالهم ، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب؟ (١)

هذا ما تنسبه الأشاعرة إليهم ، وليس فيما وصل إلينا من كتب المعتزلة منه عين ولا أثر ، فإنّ الموجود في كتاب الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار هو نفي الجبر ، فقد استدل بوجوه (٢) كلّها تحكي عن رفض الجبر وإثبات الاختيار ، وأمّا كون العبد مستقلا في فعله ، موجدا بقدرته لا بقدرة الله ، وغير ذلك مما يناسب منهج التفويض ، فلا يتفوّه بذلك أصلا ، هذا من جانب.

__________________

(١). الشريف الجرجاني : شرح المواقف : ٨ / ١٥٤ ، صدر المتألّهين : الأسفار : ٦ / ٣٧٠.

(٢). القاضي عبد الجبار : الأصول الخمسة : ٣٣٢ ، ٣٣٦ ، ٣٤٤ ، ٣٤٥ ، ٣٥٥ ، ٣٧٢.

ومن جانب آخر ، يظهر من روايات أئمة أهل البيت وجود طائفة باسم القدرية في عصرهم ، القائلين بأنّ العبد ، غير مستعين في فعله بالله سبحانه ، كما سيوافيك بعض الروايات ، ويظهر من كتب الشيخ الرئيس وجود طائفة باسم المفوضة القائلين بأنّ حاجة الممكن إلى الواجب في حدوثه ، لا في بقائه كما سيأتي ، هذا وذاك ، يكشفان عن وجود طائفة قائلة باستقلال العبد في فعله ، وأمّا أنّ هؤلاء ، هم المعتزلة ، فلم أتحقّقه إلى الآن ، لقلّة ما وصل إلينا من كتبهم ، وعلى كل تقدير فلنبحث عن التفويض.

إنّ الأصل الذي اعتمد عليه المفوّضة أصل فلسفي ، وهو :

حاجة الممكن إلى العلّة في حدوثه لا في بقائه

قالوا : إنّ سرّ حاجة الممكن إلى الواجب ، هو حدوثه الذي يفسّر بالوجود بعد العدم ، أو انقلاب العدم إلى الوجود ، فإذا حدث ارتفعت الحاجة ، فإذا كان هذا حال الذات ، فكيف حال الأفعال الصادرة عنها؟ فلا يحتاج الممكن في أعماله إلى الواجب أصلا.

قال الشيخ الرئيس : وقد يقولون إنّه إذا وجد ، فقد زالت

الحاجة إلى الفاعل حتى أنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا ، كما يشاهد من فقدان البنّاء وقوام البناء ، حتى أنّ كثيرا منهم لا يتحاشى أنّ يقول : لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم ، لأنّ العالم عندهم انّما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده ، اي اخرجه من العدم إلى الوجود حتى كان بذلك فاعلا ، فإذا فعل وحصل له الوجود عن العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود ، عن العدم حتى يحتاج الى الفاعل؟!(١)

يلاحظ على ذلك الاستدلال بوجوه

١. مناط الحاجة إلى الواجب هو الإمكان لا الحدوث

إذا كان المراد من الممكن ، هو الماهية ، فمناط الحاجة ، هو إمكانها ومساواتها بالنسبة إلى طرفي الوجود والعدم ، وأمّا حدوثها ، فهو مرحلة متأخّرة عن الإمكان بمراتب ، ولأجل ذلك يقال : الشيء قرّر ، فامكن فاحتاج ، فاوجد فوجد وحدث ، فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك ، فهو محفوظ في حالتي الحدوث والبقاء ، لأنّ ماهيّة الممكن لا تنقلب عمّا هي عليها ، فهي بالنسبة

__________________

(١). الشيخ الرئيس : الإشارات : ٣ / ٦٨ ، العلّامة الحلّي : كشف المراد : الفصل الأوّل ، المسألة ٢٩ والمسألة ٤٤ ، صدر المتألّهين : الأسفار : ج ٢ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

إلى الوجود والعدم فاقدة للاقتضاء ، وإلّا لانقلبت إلى واجب الوجود أو ممتنعه ، وعليه كل ممكن ما دام ممكنا ، فالوجود غير نابع من ذاته ، بل من غيره ، فالقول بالاستغناء في غير حال الحدوث تخصيص للقاعدة العقلية ، ونعم ما يقول المحقّق الاصفهاني في منظومته :

والافتقار لازم الإمكان

من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث والبقاء

في لازم الذات ولن يفترقا

٢. لا فرق بين البعد المكاني والزماني

إنّ امتداد الجسم في أبعاده الثلاثة يشكّل بعده المكاني ، كما أنّ بقاءه في عمود الزمان يشكّل بعده الزماني ، فالجسم باعتبار أبعاضه ، ذو أبعاد مكانيّة ، وباعتبار استمرار وجوده ذو أبعاد زمانية ، فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختص ببعض أجزائه وأبعاضه ، فهكذا لا تختص ببعض أبعاده الزمانية ، فهو محتاج إليه حدوثا وبقاء ،

فالتفريق بين الحدوث والبقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة دون بعض.

٣. العالم في حدوث بعد حدوث

إنّ الموجود الطبيعي في النظرة الأولى ، له حدوث وبقاء ، ولكنه في النظرة الدقيقة ، كلّه حدوث في حدوث ، لأنّ مقتضى الحركة الجوهرية هو كون العالم في تبدّل مستمرّ وتجدّد دائم ، بأعراضها وجواهرها ، فذوات الأشياء في تجدّد واندثار متواصل ، وما أشبه العالم بالصورة المنعكسة في الماء الجاري ، فهي ثابتة في النظرة الأولى ، ولكنها في النظرة الدقيقة متعدّدة متبدّلة حسب تبدّل الماء ، ولأجل انّ العالم بجميع أجزائه في حال السيلان والجريان ، ينتزع الزمان من هذا الجوهر السيّال ، كما ينتزع من حركة الشمس والقمر والأرض قال سبحانه (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١).

٤. الوجود الإمكاني وجود رابط

هذا إذا كان الإمكان وصفا للماهية ، وإذا كان وصفا للوجود ، فمعناه ، كون الوجود رابطا لا نفسيا ، قائما بالغير لا موجودا بنفسه ، فإنّ معنى الإمكان إذا وصف به الوجود ، غيره إذا وصفت به الماهية ، فإنّ معناها في الثانية تساوي نسبة الوجود والعدم إليها ، والإمكان بهذا المعنى غير متصوّر في الوجود الإمكاني ، إذ لا ماهية له ، وانّما هو وجود صرف إمكاني ولا معنى لتساوي نسبة الوجود والعدم إلى الوجود ، بل معنى الإمكان في الوجود

__________________

(١). النحل : ٨٨.

كونه قائما بالغير ، كالمعنى الحرفي القائم بالمعنى الاسمي ، فكما أنّه غير مستقل في المراحل الثلاث : التصوّر ، والدلالة ، والتحقّق ؛ فهكذا الوجود الإمكاني ، فإنّه في مقام التحقّق قائم بالغير شأن كل معلول حقيقي بالنسبة إلى العلّة الحقيقية.

وذلك لأنّ المفاض منه سبحانه إمّا وجود مستقل ، أو وجود غير مستقل ، والأوّل خلاف المفروض لاستلزامه أن يكون واجبا وفي الوقت نفسه أن يكون معلولا ومفاضا ومخلوقا ، فتعيّن أن يكون غير مستقل قائما بعلّته. وما كان هذا شأنه ، لا ينقلب عمّا هو عليه ، ولأجل ذلك يكون الربط والتدلّي عين واقعه وذاته ، ومن جوّز انّ الوجود المفاض شيء عرض له الربط والتدلّي ، فقد جوّز انقلاب الواجب إلى الممكن.

ومن هنا يتبيّن مفاد قولهم من أنّ نسبة المعلول إلى العلّة الإلهية نسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي ، فكما أنّ المعنى الحرفي قائم به تصورا ، وتصديقا (دلالة) وتحقّقا ، فهكذا المعلول ، فتصوّره يلازم تصور العلّة ، فتصوّر القائم بالغير ، لا ينفك عن تصوّر الغير ، كما أنّ التصديق بوجود الممكن ، يلازم التصديق بوجود الواجب ، ولأجل ذلك استدل الشيخ الرئيس

في «الإشارات» والمحقّق الطوسي في «تجريد الاعتقاد» بهذا النمط وقالا : «الموجود إن كان واجبا وإلّا استلزمه» (١). ومثله ، التحقق الخارجي فالمعنى الحرفي ، يعانق المعنى الاسمي معانقة غير منفكة والممكن ، لا ينفض غبار العدم عن نفسه إلّا بالارتباط والتدلّي والقوام به.

نعم كل هذا في الفواعل الإلهيّة اي ما يعطي الوجود من كتم العدم ، وأما الفواعل الطبيعية فهي بين ما هو معد وليس بعلّة ، كالدرج بالنسبة إلى الصعود أو مادة قابلة لانسلاخ صورة (كالنار) عنها وعروض صورة أخرى (كالرماد) إليه ، وليس الجسم مع الصورة الأولى ، مفيضا لصورة ثانية.

فقد تبيّن من ذلك انّ القول بالتفويض أي استقلال الفاعل في الفعل يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجبا في جهتين :

الأولى : الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

__________________

(١). المحقّق الطوسي : شرح الإشارات : ٣ / ١٨ والعلّامة الحلّي : كشف المراد : ٢٨٠ ، المقصد الثالث في إثبات الصانع.

الثانية : الاستغناء في جانب الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذات.

٥. الاستغناء في الفعل مستلزم للاستغناء في الذات

إنّ الإنسان يوم ولد كان إنسانا مجرّدا عن أيّ ملكة صناعية أو علمية أو أخلاقية ، لكنّه في ظل الممارسة والتمرين والتعلّم ، يكتسب ملكات مختلفة ، في مجالات الصنعة والعلم والقيم ، وتكون راسخة في ذاته ، فيكون الإنسان هو الحيوان المفكّر صاحب الملكات المتنوعة والّتي لا تكون خارجة عن ذاته.

فاذا كان الفعل ، غير مستند إلى الواجب ، تكون الذات المتحصل من تكرّر الفعل غير مستند إلى الواجب سبحانه ، ومعنى هذا هو الاستغناء عن الواجب ذاتا وفعلا وهو خلف ، وإليه يشير الحكيم السبزواري في منظومته ويقول :

وكيف فعلنا إلينا فوّضا

وإن ذا تفويض ذاتنا اقتضى

إذ خمّرت طينتنا بالملكة

وتلك فينا حصلت بالحركة

وقال في شرحه : إذ الملكات انّما تحصل من تكرّر الأفعال ، والحركات نفسانية كانت أو بدنية ، والمفروض انّ تلك الأفعال والحركات مفوّضة إلينا وحقائق ذواتنا وهوياتنا ليست إلّا

الملكات العلمية أو العملية ، ولأجل انّه ما لم يستحكم ملكاتنا لم يتم تخمير ذواتنا ... (١)

٦. القول بالتفويض يلازم الشرك

انّ القول بالتفويض يستلزم الشرك ، أيّ الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين ، أحدهما : العلّة العليا ، التي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان ؛ والأخرى : الإنسان ، فإنّه يستقل بعد الخلقة والحدوث ، في بقائه أوّلا وتأثيراته ثانيا.

ثم إنّ القوم استدلوا على المسألة العقلية (غناء الممكن في بقائه عن العلّة) بالأمثلة المحسوسة ، منها : بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البناء والصانع ، ولكن التمثيل في غير محلّه ، لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة ، أيّ ضم بعض الأجزاء إلى بعض ، والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلا عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوع فهو مرهون للقوى الموجودة فيهما ، فإنّ البناء يبقى بفضل القوى الطبيعية الكامنة فيه ، التي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع ، وأمّا الهيئة والشكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصل من

__________________

(١). الحكيم السبزواري : شرح المنظومة : ٢٧٥.

المجموع هيئة خاصة وليس لهما فيها أيضا صنع.

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحق انّ قياس المعقول بالمحسوس الذي ارتكبه المفوّضة قياس غير تام ، ولو أراد المحقّق ارتكاب هذا القياس فعليه أن يتمسّك بالمثالين التاليين.

الأوّل : انّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب ، كمثل المصباح الكهربائي المضيء ، فالحس الخاطئ يزعم انّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأوّل ، ويتصوّر انّ المصباح انّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء ، دون استمراره.

والحال انّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها إلى ذلك المولّد في كل لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح انّما هو استضاءة بعد استضاءة ، واستنارة بعد استنارة من المولّد الكهربائي.

أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه وبين المولّد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماما ، فهو لكونه فاقدا للوجود بالذات يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه ، لأنّه يأخذ

الوجود آنا بعد آن ، وزمانا بعد زمان.

الثاني : نفترض منطقة حارة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائما بتقطيره الماء عليها ، وإفاضته بما يشبه الرذاذ (١) ، فانّ هذا الأمر يتوقف على استمرار تقاطر الماء عليها ، ولو انقطع لحظة ، ساد عليها الجفاف وصارت يابسة.

فمثل الممكن الذي يوصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض الموصوفة بالرطوبة دائما ، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آنا بعد آن ، فهكذا الأوّل لا يتحقّق إلّا باستمرار إفاضة الوجود عليه آنا بعد آن ، ولو انقطع الفيض والصلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.

__________________

(١). الرذاذ : المطر الضعيف.

مناهج الاختيار

٢

الاختيار لدى الوجوديين

الاختيار على النحو الذي يقول به الوجوديّون في الغرب يقوم مقام تفويض المفوضة في الشرق ، غير انّ الداعي لاختراع المسلكين مختلف ، فذهبت المفوّضة إلى التفويض لكن بصورة ردّ فعل للقول بالجبر الرائج بين أهل الحديث ، الموروث من اليهود ، والغاية هو حفظ عدله سبحانه ؛ ولكنّ الوجوديّين سلكوا ذلك المسلك بصورة رد فعل للجبري المادي الذي يزعم انّ شخصية الإنسان تصاغ في ظل عوامل ثلاثة ، قسم منها يرجع إلى ما قبل ميلاده ، وقسم منها يرجع إلى ما بعد وجوده ، فيفرض أثره عليه ، فهو بالنتيجة مكتوف اليد ، في مقابل تأثيراتها.

وممّن رفع علم الاختيار في الغرب ونفى الجبر الفيلسوف

الفرنسي جان بول سارتر (١٩٠٥ ـ ١٩٩٠ م) لكن لغايات سياسية ، ومع أنّ أغلب الوجوديّين مادّيون ، لكنهم في نظريتهم هذه في صراع دائم مع طائفتين ، هما :

١. الإلهيون القائلون بالقدر والعلم الأزلي المدّعون أنّ مصير الإنسان في الحياة الدنيوية قد خطّ من قبل ، فلا محيص من المشي عليه ، ولا يسوغ له أنّ يتجاوز عنه قيد أنملة.

٢. نظراؤهم المادّيون الماركسيون الذين يزعمون انّ شخصية الإنسان حصيلة عوامل ثلاثة ، على الوجه الذي عرفته.

لكن صراعهم مع الإلهيّين لا ينحصر في نفي القضاء والقدر ، بل لهم صراع آخر في الأمور الفطرية والميول والغرائز الذاتية العالية ، كالميل إلى ما وراء الطبيعة ، والنزوع إلى الخير والمعروف ، أو الميل إلى الأمور السافلة كحبّ النفس والمال ، من الأمور التي فطر بها الإنسان وعجّنت ذاته بها.

وحاصل مسلكهم :

انّ وجود الإنسان متقدّم على طبيعته وماهيته ، فهو يتكون بلا ماهية ، ويتولّد بلا قيد. ثم إنّه بفعله وعمله في ظل إرادته واختياره ، يصنع لنفسه شخصية. وعلى ذلك فما اشتهر من

وجود الميول والغرائز في الوجود الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لونا وصبغة ، وتوجد فيه انحيازا إلى نقطة وتمايلا إلى شيء ليس بصحيح ، لأنّ الاعتراف بوجود هذه الغرائز ، سواء أكانت علوية أم سفلية يزاحم اختياره وحريته ، ويسلب منه الحرية التامة والتساوي بالنسبة إلى كل شيء.

فلأجل الحفاظ على حرية الإنسان وكونه موجودا فعالا بالاختيار ، وحرّا في الانتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة (يريد نفي القضاء والقدر) ، وكل مصير يجعله مسيّرا. وهذا هو المراد مما اشتهر منهم بأنّ الإنسان يتكون بلا ماهية. (١)

الخلط بين الماهيتين : العامة والخاصة

إنّ وسائل الإعلام تكيل لمدعم هذا المسلك بصاع كبير وتثني عليه وتجعله في القمة من المفكّرين ، لكن يلاحظ على تلك النظرية بأمرين :

الأوّل : انّ هؤلاء لم يقيموا على مدّعاهم أيّ دليل ، وانّما قالوا : إنّ الصيانة على حرية الإنسان في الحياة تتوقف على إنكار أيّ ماهية مسبّقة على عمله ، وهو أشبه بصنع الدليل بعد انتخاب

__________________

(١). عصر التجزئة والتحليل : ١٢٥.

المدعى ، فالمحقّق يدرس الواقع سواء أو افق حرية الإنسان أم «يخالف» فليس لنا إنكار الحقائق لحفظ العقيدة المتبنّاة ، بل علينا بناء العقيدة على الحقائق الواضحة.

الثاني : انّه خلط في المقام بين الماهية العامة التي تلازم وجود الإنسان منذ يفتح الإنسان عينه على الحياة ، والماهية الخاصة التي يكتسبها طيلة حياته ، في ظل الماهية العامة.

١. الماهية العامة

والمراد من الماهية العامة هو الميول والغرائز التي لم تزل تلازم وجود الإنسان منذ نعومة أظفاره ، ولا تنفك عنه سواء أكانت من الميول العالية التي تسعد بها الإنسان ، كالميل إلى ما وراء الطبيعة وحب الخير والبرّ الذي هو صورة أخرى لأصول الإطلاق ، والميل إلى الاستطلاع الذي هو مبدأ لتكامل العلم واكتشاف الحقائق ، والذي يعبّر عنه بحب العلم إلى غير ذلك من الميول العالية التي ، بها يسعد الإنسان ويتكامل.

أم كانت من الميول السافلة ، كحب الذات ، والشهوات ، وحب المال ، وحب المقام ، إلى غير ذلك من الميول التي هي أعمدة الحياة الإنسانية بشرط أنّ ينتفع بها على وجه الوسيلة

وليس لأحد أنّ ينكر وجود هذه الميول في الإنسان اليوم أو الأمس أو الغد.

وتوهم انّها أمور وراثيّة يرثها الإنسان عن آبائه وأجداده ، رجم بالغيب ولم يزل تاريخ الإنسان حافلا بأمور وحوادث تكشف عن وجود هذه الميول في طبيعته وذاته منذ وجد على هذه البسيطة ، فمن أين نالت هذه الطبائع العامة؟

ثم إنّ للميول والطبائع العامة علامات وسمات ، نذكرها في المقام.

علائم الأمر الفطري

وتتلخّص علائم الأمر الفطري في أربعة :

١. انّ الأمور الفطرية ذات جذور غريزية في باطن الإنسان وطبيعته البشرية ، ولذلك توصف هي بالشمولية والعمومية ، فليس هناك أحد من أبناء البشر من يفقدها ويخلو منها.

٢. الأمور الفطرية تتحقّق في كيان الإنسان بوحي الفطرة وندائها ولا تحتاج إلى تعليم معلّم وإن كان نموها ورشدها يحتاج إلى ذلك.

٣. كل فكرة أو عمل تكون ذات جذور فطرية ، فهي لا تخضع لتأثير العوامل السياسية والجغرافية والاقتصادية ، بل هي تعمل وتتحقّق بعيدة عن نطاق وضغط هذه العوامل.

٤. الدعايات المكثّفة والمستمرة ضد الأمور الفطرية يمكن أن يضعفها ويحد من نموّها ، ولكنها لا تتمكن من استئصالها والقضاء عليها بالمرّة.

هذه هي علائم فطرية شيء ، وأمّا الأمور العادية غير الفطرية ، فهي :

أ ـ محلّية ، خاصة بمكان دون مكان.

ب ـ تختفي تحت تأثير للعوامل المحيطة.

ج ـ تنشأ وتخضع لتعليم معلم.

د ـ نزولها نهائيا بسبب الدعايات المضادة.

٢. الماهية الخاصة

نعم في مقابل هذه ، ماهية يكتسبها الإنسان وتنصبغ بها ذاته في ظل إعمال الميول والغرائز ، فتارة يفرّط في حبّ الذات وإعمال الغضب ، فيتجلّى حيوانا ضاريا ، يأكل كل رطب ويابس ولا يشبع ، ويقتل الأبرياء ولا يكترث ، مع أنّه لم يكن ـ يوم ولد

أو بعده ـ بهذه الطبيعة ، ولكنّه اكتسبها في طول الزمان تحت ظل عمليات تنتهي إلى تلك الماهية الخاصة.

وفي مقابل هذا الفرد ، إنسان مثالي ، يستفيد من حبّ الذات والشهوات ، على وجه يقيم حياته ، ويمدّه في فعل الخير والمعروف ، فيصبح إنسانا زاهدا ، ليس له تعلّق بالدنيا وإن ملك ما ملك ، فهو ينتفع من حب الذات ، على حد يسعده ، ويركز على سائر الميول ، كالراحة والإيثار وغيرها ، فيصبح ـ بعد مزاولات وممارسات ـ ملكا أو موجودا ملكوتيا ، يعد مثلا للحق تعالى وإن جلّ عن المثل والندّ.

والسر في تجهيز الإنسان بالميول والطبائع العامّة ، هو انّها قوام حياته ، فلو لا حبّ الذات ، والغضب لأصبح الإنسان فريسة الضواري ، ولو لا الجنوح إلى العدل والعقاب ، والبر والمعروف ، لأصبح الإنسان إنسانا ضاريا يعبّد جميع الناس ويذلّلهم ، فالإنسان الإلهي ، هو الذي يستخدم الكلّ على نحو ، يسعده لا يشقيه ، فللميول والغرائز دور في صنع الإنسان ، كما أنّ للعمل والسعي في ظل الانتفاع منها دورا في صنعه ، فطبيعته العامّة مصنوعة لخالق الكون الذي خلق كل إنسان بهذه الغرائز ، وجعل مفتاحها بيد الإنسان وأرشده إلى حدّ استخدامها على

وجه يسعده ولا يشقيه.

الماهية العامّة ليست عللا تامّة لتخطيط المصير

إنّ هذه الميول كلّها أرضية صالحة لجلب الخير والشر ، والسعادة والشقاء ، ولا تسلب الاختيار عن الإنسان ولا تزاحم حريته الذاتية ، فالحرية واقعة في هرم وجوده ، وغيرها واقعة تحته إلى أن تنتهي إلى قاعدة وجوده ، لكن سلطان النفس فوقها والانتفاع منها من حيث الكمية والكيفية منوط باختيار الإنسان وسلطانه ، فالقول بها ، لا يزاحم الاختيار ما دام الزمام بيد الإنسان واختياره.

وحصيلة المطلب : انّ الوجوديين اشتبه عليهم الأمر في المواضع التالية :

١. الخلط بين الماهيات العامّة الخارجة عن دائرة السعي والكسب ، والماهية الخاصّة المكتسبة بالعمل في ظل إعمال الميول والغرائز والطبائع العامة.

٢. انّ هذه الميول ، لا تتجاوز عن كونها مقتضيات للخير والشرّ وسوق الإنسان إلى النقاط المناسبة لمقتضياتها. وليست عللا ذاتية ، طرّاحة لمصير الإنسان.

٣. ان الاختيار وسلطان النفس على مصيرها يحيط الميول ، فلو كانت الغرائز واقعة ، في هرم وجود الإنسان فسلطان النفس فوق الكل ، فهو مختار في إعمال الميول ، والغرائز والانتفاع بها ، فهو يستخدم الكلّ على أيّ نحو شاء.

مناهج الاختيار

٣

لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين

كان الرأي السائد على المناهج الكلامية منذ أطلّ المفكّرون من المسلمين بنظرهم على هذه المسألة ، أنّه لا مناص من اختيار أحد الرأيين ، وأنّه لا طريق ثالث بينهما لسالك طريق المعرفة ، وبذلك ضلّ القائلون إما في متاه الجبر ، أو وقعوا في حبال الشرك.

غير أنّ أهل البيت عليهم‌السلام ـ أحد الثقلين ـ وقفوا في وجه القائلين بالجبر ، كما وقفوا في وجه القائلين بالتفويض. وقالوا : إنّ موقف الإنسان بالنسبة إلى الله ، غير موقف الجبر المشوّه لسمعة المذهب ، وغير التفويض ، الملحق للإنسان بمتاه الشرك ، بل الموقف واقع بين الأمرين ، وليست صيانة التوحيد منوطا بالقول بالجبر ، ولا صيانة عدله وقسطه ، منحصرا بالقول

بالتفويض ، بل يمكن الجمع بين الكمالين برأي ثالث ، فالإنسان ذاته وفعله قائمان بذاته سبحانه ، وبذلك لا يصح فصل فعله عنه سبحانه ، كما أنّ مشيئته تعلّقت بنظام قائم على أسباب ومسببات ، فلا يصحّ فصل المسبب عن سببه ، فله صلة بالله وصلة بسببه.

إنّ القول بالتوحيد الافعالي لا يهدف إلى إنكار العلل والأسباب ، والروابط بين الظواهر الكونية ، ولا نفي أيّ سبب ظلي يقوم بعمل بإذنه سبحانه ، فإنّ ذلك مخالف للضرورة والوجدان ، والذكر الحكيم ، بل المقصود أنّ العوالم الحسية والغيبية ، بذاتها وأفعالها قائمة به سبحانه ، وأنّ تأثيرها وسببيّتها بإذنه ومشيئته ، فكل ظاهرة كونية ، لها نسبة إلى أسبابها كما انّ لها نسبة إلى خالق أسبابها ومرتّبها ومنفذها ، فإلغاء كل سبب وعلّة ، ونسبة الظاهرة إلى ذاته سبحانه ، غفلة عن تقديره سبحانه لكل شيء سببا ، كما أنّ نسبة الفعل إلى السبب القريب غفلة عن واقع السبب وأنّه بوجوده وأثره قائم بالله سبحانه ، فكيف يمكن فصل أثره عنه تعالى؟

ثم إنّ السبب بين فاقد للشعور ، وواجد له لكن فاقد للاختيار ، أو واجد له أيضا. وفي كل قسم لا يمكن غضّ النظر

عن دور السبب بما له من خصوصية ، فالحرارة تصدر من النار بإذنه سبحانه ، بلا شعور ، وحركة يد المرتعش تصدر منه مع العلم بلا اختيار ، كما أنّ الأفعال التي يثاب بها الإنسان أو يعاقب عليها ، تصدر منه عن علم واختيار ، كل ذلك بإذنه ومشيئته النافذة ، فلا القول بالتوحيد الافعالي يصادم الاختيار ، ولا القول به ، يزاحم سلطانه سبحانه وقدرته ، فالفعل فعل الإنسان ، وفي الوقت نفسه فعله سبحانه وعلى حد تعبير الحكيم السبزواري : «والفعل فعل الله وهو فعلنا».

هذا بيان موجز لهذا القول الموروث من أئمة أهل البيت ، واستقبل المفكّرون من أهل السنّة هذه الفكر ، كالشيخ عبده في رسالة التوحيد ، وأتباعه ، وقبله الإمام الرازي ، لما رأوا في القول بالجبر الأشعري ، مضاعفات لا تتحمل. وقد شاع ذلك القول بين المفكرين المصريين لما تأثروا بالأفكار الغربيّة المروّجة للحرية والاختيار.

وتتجلى قيمة هذا المذهب ببيان برهانه العقلي ، وتحليل ما يدل عليه من الذكر الحكيم.

وإليك برهانه في ضمن بيان أمرين :

١. الإمكان في الوجود غيره في الماهية

إذا وقع الإمكان وصفا للماهية يكون معناه ، تساوي نسبة الوجود والعدم إليها ، فهي في عالم الاعتبار تقع في وسط الدائرة ، وتكون نسبة الوجود والعدم إليها سواسية. ولكنّه إذا وصف به الوجود يمتنع تفسيره بهذا المعنى ، لأنّ نسبة الوجود إلى الوجود ـ المفروض ـ بالضرورة فلا محالة ، يرجع معنى الإمكان ، إلى الفقر الذاتي والقيام به سبحانه.

وليس المراد من فقره ، عروض الفقر عليه بعد ما لم يكن كذلك ، أو عروض القيام به بعد ما لم يكن قائما ، إذ معنى ذلك انقلاب الواجب إلى الممكن ، بل المقصود ، كونه فقيرا بالذات وقائما بالغير ، وما هذا شأنه يبقى على ما كان عليه ، وإلّا يلزم انقلاب الممكن واجبا.

وبالجملة : الوجود على قسمين : غنيّ ، وفقير ؛ مستقل ، وقائم بالغير ؛ وجود قائم بنفسه ، ومتدلّ بالغير ، وكيف كان فلا ينقلب عمّا هو عليه.

إنّ الصادر منه سبحانه ، هو الوجود ، لا الماهية ، ولا الماهية المنصبغة بها ، وانّما الانصباغ لازم كونه واقعا في مرتبة خاصة ،

وليس الصادر منه هو الوجود المستقل بنفسه ، إذ معنى ذلك ، إيجاد الواجب وهو مع امتناعه ذاتا ، خلف الفرض ، فلا محيص عن كون الصادر منه ، هو الوجود غير المستقل ، والقائم به ، وما هو كذلك لا ينقلب عمّا هو عليه ، ويكون في صلة دائمة بالله وموجده ، وعند ذاك لا يمكن الفصل بين ذاته وفعله ، إذا المتدلّي في ذاته ، كيف يكون مستقلا في فعله؟

ولو أردنا أن نرسم مثالا لكيفية تعلّق الممكن بالواجب ، فعليك التأمّل في كيفية قوام المعنى الحرفي بالاسمي ، فالأوّل مسلوب الاستقلال ، تصوّرا وتحقّقا ، ودلالة ، فالظرف بالمعنى الحرفي ، لا يتصوّر ، بلا مظروف ، كما لا يتحقّق بدونه ، والحرف مثل «في» تفقد الدلالة إلّا بالمدخول.

وهذا التشبيه يرسم لنا ، مكانة المعلول الحقيقي بالنسبة إلى الفاعل الإلهي ، نعم ليست المعاليل المادية بالنسبة إلى عللها كذلك ، إذ لا علية ولا معلولية هناك ، بل غاية الموجود في العلل المادية هو استعداد مادّة للتبدّل إلى مادة أخرى ، بخلع صورة ولبس صورة أخرى ، وليس للمادة دور سوى الاستعداد ، وأمّا الخلع واللبس ، فهو رهن عوامل غير مرثية.

وبما ذكرنا تبطل دعوى التفويض وفصل الفعل عن الله

سبحانه ، أو فصل الذات والفعل عنه سبحانه ، بزعم أنّ مناط الحاجة هو الحدوث لا الإمكان ، (ومع كونه باطلا كما تقدّم) لا يجعل الممكن غنيا بعد الحدوث ، إذ لازمة انقلاب الممكن واجبا ، وهو أمر محال. وهذه المقدّمة تسوقنا إلى القول بأنّ فعل الإنسان لا يفقد صلته بالله سبحانه في حال من الأحوال. وهذا البرهان يبطل التفويض.

٢. النظام العلّي والمعلولي في الكون

إذا كانت حقيقة الوجود ، حقيقة واحدة ذات مراتب مشككة كما هو الحق ، وكانت الحقيقة في مرتبة من المراتب ، ذات أثر خاص يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة أخذا بوحدة الحقيقة ، ولأجل ذلك ذهب المفكّرون إلى سريان العلم والحياة والدرك إلى جميع مراتب الوجود.

ولو قيل إنّ الأثر أثر المرتبة ، فلا معنى لإسرائه إلى سائر المراتب ، فالجواب عنه واضح إذ ليست المرتبة شيئا وراء الوجود ، كما أنّ القوة ترجع إلى شدة الوجود ، لا أنّه وجود وقوة ، كذلك الضعف يرجع إلى نفاد الوجود القوي لا أنّه وجود وضعف.

نعم كما أنّ للوجود مراتب شديدة وضعيفة ، فهكذا للأثر مراتب حسب مراتب الوجود.

وعلى ضوء ذلك يبطل حصر التأثير على وجه الإطلاق بالمرتبة الشديدة ، وسلب أيّ تأثير عن غيرها ، بل لازم وحدة الحقيقة ، اشتراك المراتب حسب قوتها وضعفها في الآثار.

وهذا البرهان يبطل نظرية الأشاعرة ، حيث أنكروا النظام العلّي في المراتب الإمكانية ، وحصروا العلّية على وجه الإطلاق بالله سبحانه ، وعطّلوا عالم الوجود الإمكاني عن أيّ تأثير ، وقالوا جرت عادة الله على خلق الحرارة عند وجود النار ، من دون أيّ رابطة بين النار وحرارتها ، وهكذا الماء والبرودة ، مع أنّ سنّة الله جرت على إدارة الكون ، في ظل الأسباب والمسبّبات ، فقد جعل لكلّ شيء سببا ، وجعل لكلّ سبب قدرا.

وعلى ضوء هذا لا يصح فصل فعل العبد عنه بتخيّل انّ نسبته إليه ، يزاحم التوحيد الافعالي ، وذلك لأنّ تأثيره في مقام الإيجاد ظلّي تبعيّ ، وتأثيره سبحانه في الكون أصليّ استقلالي ، فلا منافاة بين النسبتين لانهما طوليتان لا عرضيتان ، فالفعل مستند إلى الله من جانب لأنّه مفيض الوجود من البداية إلى النهاية ، والعالم وما فيه قائم بوجوده ، وفي الوقت نفسه مستند

إلى العبد إذ لولاه ولو لا إرادته ، واختياره ، لما كان عن فعله أثر ، فالأكل والشرب ، والقتل والضرب ، عناوين لفعله ، تتحقّق بإعمال أعضائه فكيف يكون منفصلا عنه؟

هذا إجمال ما يسوقنا إليه البرهان العقلي ، ولكن بيان كيفية النسبتين ، يتوقف على إفاضة في الكلام حتى يتضح مفهومها.

فإنّ الأنظار في المقام مختلفة.

١. نسبة الفعل إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة

إنّ كثيرا من علمائنا بيّنوا حقيقة الأمر بين الأمرين ، وخرجوا بهذه النتيجة : انّ نسبة فعل العبد إلى الله بالتسبيب وإلى العبد بالمباشرة ، فإنّ الله سبحانه وهب الوجود والحياة والعلم والقدرة ، لعباده وجعلها في اختيارهم ، وانّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أيّ مورد شاء فينسب الفعل إلى الله تعالى لكونه مفيض الأسباب ، وإلى العبد لكونه هو الذي يصرفها في أيّ مورد شاء ، والمثال الذي ذكره المحقّق الخوئي لتبيين النظريات الثلاث ، يبيّن هذه النظرية ، وإليك نصه :

لو فرضنا شخصا مرتعش اليد ، فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفا قاطعا ، وهو يعلم أنّ السيف المشدود في

يده سيقع على آخر ويهلكه ، فإذا وقع السيف وقتله ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف ، دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

ولو فرضنا أنّ رجلا أعطى سيفا لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلا ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

ولكن لو فرضنا شخصا مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلّا بإيصال رجل آخر التيّار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوّة ونشاطا بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن ، انقطعت القوة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزا. فلو أوصل الرجل تلك القوة إلى جسم هذا الشخص ، فذهب باختياره وقتل إنسانا ، والرجل يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنّه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل فلأنّه أقدره وأعطاه التمكّن ، حتى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، كان متمكنا من قطع القوة عنه في كل آن شاء وأراد.

فالجبري يمثّل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال

الأوّل ، حيث إنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار ومضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثّل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصور أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثا لا بقاء والعلّة الأولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك ، فكان الإنسان محتاجا إلى رجل آخر في أخذ السيف ، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

والقائل بالأمر بين الأمرين يصور النّسبة كالمثال الثالث ، فالإنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لو قطع الفيض في آن واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء ـ إلى أن قال ـ : إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين ، إحداهما : نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته ؛ وثانيتهما : نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنّه معطي الحياة والقدرة في كل آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل. (١)

__________________

(١). المحاضرات : ٢ / ٨٧ ـ ٨٨ ، أجود التقريرات : ١ / ٩٠.

غير أنّ المتألّهين من الإمامية لا يرضون بذلك البيان ، ويرون انّ النسبة أرفع من ذلك ، والاتصال الوثيق بين الواجب والممكن أشدّ مما جاء في هذا المثال ، ويبيّن موقفهم التمثيلان الآتيان :

أحدهما : ما ذكره معلم الأمّة الشيخ المفيد (٣٣٦ ـ ٤١٣ ه‍) ، على ما حكاه عنه العلّامة الطباطبائي في محاضراته ، ولم أقف عليه في كتب الشيخ المفيد ، وهو :

نفترض انّ مولى من الموالي العرفيين يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ، ثم يقطع له قطعية ويخصّه بدار وأثاث ، وغير ذلك ممّا يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود ولأجل مسمّى.

فإن قلنا : إنّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى ، وملّكه ما ملّك ، لكنّه لا يملك ، وأين العبد من الملك ، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا : إنّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه ، جعله مالكا وانعزل هو عن المالكية ، وكان المالك هو العبد ، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، وقلنا : إنّ للمولى مقامه في المولوية ، وللعبد مقامه في الرقية ، وانّ العبد يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في حين انّ العبد مالك ، فهنا ملك على ملك ،

كان ذلك القول الحق الذي رآه أهل البيت عليهم‌السلام وقام عليه البرهان. (١)

وفي بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل ، منها :

ما رواه الصدوق في «توحيده» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال الله عزوجل : «يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد». (٢)

ترى أنّه يجعل مشيئة العبد وإرادته ، مشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعرّفهما مفصولتين عن الله سبحانه بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد ، ولها نسبة إلى الله سبحانه.

__________________

(١). الميزان : ١ / ١٠٠ ، وقد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار ، لاحظ ج ٥ / ٨٣ ومعناه في درسه الشريف عام ١٣٦٨ ه‍ ق.

(٢). التوحيد : ٣٤٠ ، الحديث ١٠ باب المشيئة والإرادة ، ولاحظ بحار الأنوار كتاب العدل والمعاد ج ٦٢ و ٦٣ مع تعليقة العلّامة الطباطبائي على الأوّل.

ثانيهما : ما ذكره صدر المتألّهين ، وقال ما هذا حاصله :

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلا لشخصين على الحقيقة ، فلاحظ النفس الإنسانية ، وقواها ، فالله سبحانه خلقها مثالا ، ذاتا وصفة وفعلا ، لذاته وصفاته وأفعاله ، قال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) وقد أثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه ، عرف ربه» (٢).

إنّ فعل كل حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس أيضا. فالباصرة ليس لها شأن إلّا إحضار الصورة المبصرة ، أو انفعال البصر منها ، وكذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها ، ومع ذلك فكل من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضا ، لأنّها السميعة البصيرة في الحقيقة ، وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد انّ نفوسنا بعينها الشاعرة في كل إدراك جزئي ، وشعور حسي ، كما أنّها المتحركة بكل حركة

__________________

(١). الذاريات : ٢٠ و ٢١.

(٢). غرر الحكم : ٢٦٨ ، طبعة النجف ، وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : «أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه» أمالي المرتضى : ٢ / ٣٢٩.

طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتضح انّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة وفي الأذن قوة سامعة ، وفي اليد قوة باطشة ، وفي الرجل قوة ماشية ، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين وتسمع الأذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجرّدها عن البدن وقواه وأعضائه ، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عاليا كان أو سافلا ، ولا تبائنها قوة من القوى مدركة كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم انّه كما ليس في الوجود شأن إلّا وهو شأنه ، كذلك ليس في الوجود فعل إلّا فعله ، لا بمعنى أن فعل زيد مثلا ليس صادرا عنه ، بل بمعنى انّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقّق في الواقع ، منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز ، وهو مع ذلك شأن من شئون الحق الأوّل ، فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأوّل على الوجه اللائق بذاته

سبحانه. (١)

هذا ما أفاده صدر المتألّهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية ، وفي بعض الأحاديث إشارة إليه روى الكليني في «الكافي» ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام : «إنّ الله جلّ جلاله قال : «وما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ ممّا افترضت عليه ، وانّه ليتقرب إليّ بالنافلة ، حتى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، وإن سألني أعطيته» (١).

إلى هنا تم تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية ، فسواء أكان المختار هو البيان الأوّل المشهور بين الإمامية ، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين ، فالتحقيق هو أنّ الفعل فعل الله وهو فعلنا ، إمّا بحديث التسبيب والاستخدام ، أو لأجل انّه لا يخلو شيء منه سبحانه ، قال سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٢) وقال سبحانه : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٣).

والله سبحانه من وراء وجود فعل الإنسان ومعه وبعده كالنفس بالنسبة إلى قواها وأفعالها ، وقال سبحانه : (وَلَهُ الْمَثَلُ

__________________

(١). الأسفار : ٦ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، وص ٣٧٤.

(٢). وسائل الشيعة : ٣ / الباب ١٧ ، أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، ح ٦.

(٣). الحديد : ٤.

(٤). ق : ١٦.

الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

ثم إنّ القول بأنّ فعل العبد فعل الله سبحانه لا يصحح وصفه سبحانه بما يصدر من العبد كأكله وشربه ونكاحه ، وقد ذكرنا في مسفوراتنا ضابطة قيمة لتمييز ما يصح وصفه سبحانه به عما لا يصح وصفه به مع كون النسبة محفوظة في الجميع ، عند البحث في التوحيد في الخالقية ، فراجع. (٢)

بقي الكلام في الآيات والروايات التي يستنبط منها هذه النظرية بوضوح. وإليك بيانهما.

الأمر بين الأمرين في القرآن الكريم

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين في فعل العبد : نسبة إلى الله سبحانه ، ونسبة إلى العبد من دون أن تزاحم إحدى النسبتين ، النسبة الأخرى ، فقد قرّره الكتاب العزيز ببيانات مختلفة :

١. انّه ربما ينسب الفعل إلى العبد وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى الله سبحانه يقول : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَ

__________________

(١). الروم : ٢٧.

(٢). لاحظ الإلهيات : ١ / ٣٩٩ و ٤٠٠.

اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

ولا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلّا على الوجه الذي ذكرنا ، وهذا يعرب عن أنّ للفعل نسبتين وليست نسبته إلى العبد ، كلّ حقيقته وواقعه ، وإلّا لم تصح نسبته إلى الله كما أنّ نسبته إلى الله ليست خالصة (وإن كان قائما به تماما) بل لوجود العبد وإرادته ، تأثير في طروء عناوين عليه.

٢. نرى أنّ الذكر الحكيم ، ينسب الفعل في آية إلى العبد ، وفي آية أخرى إلى الله سبحانه ولا تصح النسبتان إلّا على ما ذكرنا.

قال سبحانه : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٢).

وقال سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) (٣).

والآيتان نازلتان في حق بني إسرائيل وهما في مقام الذم ، فلو لم يكن لهم دور في عروض القسوة إلى قلوبهم ، لم يصح ذمّهم بقسوتهم ، والآية الثانية يعرف مدى مدخليّتهم في توجه الذم إليهم وهو نقضهم ميثاقهم ، ولأجل ذلك جعل سبحانه

__________________

(١). الأنفال : ١٧.

(٢). البقرة : ٧٤.

(٣). المائدة : ١٣.

قلوبهم قاسية لا يتأثرون بوعظ الأنبياء وإنذارهم ، ولا يكترثون من تحريف الدين وغيره ، والآيتان تعبّران عن دور العبد في مصيره وأنه سبحانه غبّ فعل العبد ، يعاقبه بلعنهم وجعل قلوبهم قاسية. وله نسبتان إلى العبد وإلى الله.

٣. إنّ هنا مجموعة من الآيات تعرّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله ، وفي مقابلها مجموعة أخرى تصرّح بأنّ تأثير العلل في الكون كلّها بإذنه ومشيئته. فالمجموعة الأولى تناقض الجبر وتفنّده ، كما أنّ المجموعة الثانية تردّ التفويض وتبطله ، ومقتضى الجمع بين المجموعتين هو الأمر بين الأمرين ، وأنّ للفعل نسبة إلى العبد ، إذ هو باختياره يقوم بما يفعل أو يترك ، وفي الوقت نفسه ، يعمل بإذنه ومشيئته ولا يقع في سلطانه ما لا يريد ، وإن كان ما يريده واقعا عن طريق اختيار العبد.

وأليك نزرا من المجموعة الأولى :

١. قال سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

__________________

(١). فصلت : ٤٦.

٢. قال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (١).

٣. قال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) (٢).

٤. وقال سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٣).

٥. وقال سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(٤).

٦. وقال تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٥).

إلى غير ذلك من الآيات المصرّحة باختيار الإنسان وحريته في مجال العمل.

وأمّا المجموعة الثانية التي ترى كل ظاهرة كونيّة واقعة بإذنه ومشيئته وانّ الإنسان لا يشاء لنفسه إلّا ما يشاء الله له ، وهي كثيرة نشير إليها :

منها قوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٦).

ومنها قوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً)(٧).

__________________

(١). الطور : ٢١.

(٢). النور : ١١.

(٣). النجم : ٣٩ ـ ٤١.

(٤). الكهف : ٢٩.

(٥). الإنسان : ٣.

(٦). التكوير : ٢٩.

(٧). الإنسان : ٣٠.

ومنها قوله سبحانه : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (١).

والجمع بين هذه الآيات ، يتحقّق بالقول بالأمر بين الأمرين ولا نعني بما ذكرناه أنّ بين الآيات تعارضا واختلافا ، كتعارض الروايات غاية الأمر أنّه يجمع بينهما ، بل المقصود انّ العالم الإمكاني وما يحدث فيه من أحداث ، مشتمل على نسبتين : نسبة إلى مؤثراتها ، ونسبة إلى بارئها وخالقها ؛ وكلامه سبحانه تارة ينتهي إلى بيان الأولى ، وأخرى إلى بيان الثانية وثالثة إلى بيان القسمين.

الأمر بين الأمرين في السنّة

ولقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت ، وقد جمع الصدوق القسم الأوفر من الروايات في «توحيده» ، والعلّامة المجلسي في «بحاره» ونحن نذكر رواية واحدة ذكرها صاحب «تحف العقول» وهي مأخوذة عن رسالة كتبها الإمام الهادي عليه‌السلام في نفي الجبر والتفويض ، وممّا جاء فيها :

«فامّا الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ ، فهو قول من زعم انّ

__________________

(١). المدثر : ٥٦.

الله جلّ وعزّ ، أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (١) وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢) وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٣) فمن زعم انّه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلمه في عقوبته ، ومن ظلم الله فقد كذّب كتابه ، ومن كذّب كتابه فقد لزمه الكفر باجماع الأمّة. ـ إلى أن قال ـ : فمن زعم انّ الله تعالى فوّض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ـ إلى أن قال ـ لكن نقول : إنّ الله عزوجل خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة ، تعبّدهم بها ، فأمرهم ونهاهم بما أراد ـ إلى أن قال ـ : وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض ، وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له امير المؤمنين : سالت عن الاستطاعة ، تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له أمير المؤمنين : قل يا عباية ، قال: وما أقول؟. قال عليه‌السلام : إن قلت إنّك مع الله قتلتك ، وإن قلت تملكها دون الله قتلتك. قال عباية : فما أقول يا أمير

__________________

(١). الكهف : ٤٩.

(٢). الحج : ١٠.

(٣). يونس : ٤٤.

المؤمنين؟ قال عليه‌السلام تقول : إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك. فإن يملّكها إيّاك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملكك ، والقادر على ما عليه أقدرك. (١)

وحاصل الرواية : أنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه فالمولى سبحانه مالك لجميع ما يملّكه في عين كونه ملكا للعبد.

ولقد اكتفينا بهذا المقدار من النصوص ولنعم ما قال الشهيد السعيد زين الدين العاملي :

لقد جاء في القرآن آية حكمة

تدمّر آيات الضلال ومن يجبر

وتخبر أن الاختيار بأيدينا

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين

إنّ فخر الدين الرازي (٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه‍) ، مع كونه متعصبا في

__________________

(١). المصدر السابق كتاب العدل والمعاد ، الباب الثاني الحديث ١ ، ص ٧١ ـ ٧٥. وهذا الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم عليه‌السلام برقم ٦١ ، ص ٣٩ ، من المصدر السابق نفسه.

الذب عن مذهب الأشعري ، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين وقال :

«هذه المسألة عجيبة ، فإنّ الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب انّ ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة ، فمعوّل الجبرية على أنّه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ، ومعوّل القدرية على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعل ، لما حسن المدح والذم والأمر والنهي». ثم ذكر الله الطائفتين إلى أن قال : «الحق ما قال بعض أئمة الدين انّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وذلك انّ مبنى المبادئ القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره والمبادئ البعيدة على عجزه واضطراره ، فالإنسان مضطر في صوره مختار ، كالقلم في يد الكاتب ، والوتد في شق الحائط ، وفي كلام العقلاء قال الحائط للوتد : لم تشقني؟ فقال : سل من يدقّني. (١)

اعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية

وممّن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته ، الشيخ محمد عبده في رسالته حول التوحيد ، وقد أثّر كلامه في

__________________

(١). بحار الأنوار : ٥ / ٨٢. ولا يخفى انّه مع اعترافه ببطلان الجبر والتفويض في ثنايا كلامه لم يفسر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيرا لائقا بها.

الأجيال المتأخّرة من تلاميذ منهجه ومطالعي كتبه ، قال : «جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية ، الأوّل : انّ العبد يكسب بإرادته وقدرته ما هو وسيلة لسعادته. والثاني : انّ قدرة الله هي مرجع لجميع الكائنات وأنّ من آثارها ما يحول بين العبد وإنفاذ ما يريده ، وان لا شيء سوى الله يمكن له أن يمدّ العبد بالمعونة فيما لم يبلغه كسبه.

وقد كلّفه سبحانه أن يرفع همته إلى استمداد العون منه وحده ، بعد أن يكون قد أفرغ ما عنده من الجهد في تصحيح الفكر ، وإجادة العمل ، وهذا الذي قرّرناه قد اهتدى إليه سلف الأمّة فقاموا من الأعمال بما عجبت له الأمم وعوّل عليه من متأخري أهل النظر إمام الحرمين الجويني رحمه‌الله ، وإن أنكر عليه بعض من لم يفهمه» (١).

وليس الشيخ عبده هو الفريد في الاعتراف بالمذهب الحق بل سبقه إمام الحرمين والشيخ الشعراني مؤلّف «اليواقيت» ، والشيخ عبد العظيم الزرقاني المصري والشيخ شلتوت ، إلى غير هؤلاء ممّن ذكرنا نصوصهم في كتابنا «بحوث في الملل والنحل» (٢).

__________________

(١). رسالة التوحيد : ٥٩ ـ ٦٢ بتلخيص.

(٢). راجع الجزء الثاني : ١٤١ ـ ١٥٢.

خاتمة المطاف

قد تعرّفت على مناهج الجبر والاختيار ، وأوضحنا لك ما هو مقتضى البرهان ونصوص الكتاب العزيز والسنّة الصحيحة.

غير انّ رفع الشبهات وقلع جذورها ، رهن الإجابة على الأسئلة التالية :

١. إذا كان الإنسان مختارا في أفعاله وفيما يثاب ويعاقب ، فما معنى كون الهداية والضلالة بيد الله فهو يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء حسب ما تواترت به الآيات؟

٢. إذا كان الإنسان مختارا فما معنى انّ الحسنات والسيئات من الله سبحانه كما هو ظاهر قوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١).

٣. إذا كان الإنسان مختارا في مصيره ، فما معنى تقسيم الناس إلى السعداء والأشقياء في بطون أمهاتهم؟

٤. إذا كان الإنسان مختارا ، فما معنى التقدير الذي يفرض الفعل على الإنسان ، ويخطّ طريقه ومثله القضاء؟

٥. إذا كان الإنسان مختارا ، فما معنى أخبار الطينة الّتي جمعها

__________________

(١). النساء : ٧٨.

السيد عبد الله بشرّ في كتابه «مصابيح الأنوار في مشكلات الأخبار»؟

٦. إذا كان الإنسان رهن عمله وسعيه ، فهل يصح البخت والاتفاق والصدفة الذي يعول عليها الناس في حياتهم؟

٧. إذا كان مصير الإنسان بيده ، فكيف يفسّر الموت الاخترامي ، أيّ الموت بالحوادث. الخارجة عن اختيار الإنسان بالحرق والغرق والهدم والقصف؟

٨. دلّت الآيات القرآنيّة على أنّه سبحانه يختم على القلوب ، ويطبع عليها وبذلك يصدّ باب الهداية ، فكيف يجتمع هذا ، مع اختيار العباد؟

إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة في مجال أفعال الإنسان ، من حيث الجبر والاختيار ، وسوف نجيب على قسم كبير من هذه الأسئلة بفضله وكرمه. ويظهر حال البعض الآخر ممّا ذكر جوابه.

الفصل الثالث

شبهات وحلول

شبهات حول الاختيار

الشبهة الأولى

الهداية والضلالة بيد الله تبارك وتعالى

إذا كان الإنسان مختارا في أفعاله ، فما معنى ما تضافرت عليه الآيات من أنّ الهداية والضلالة بيده سبحانه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، إذ معنى الاختيار انّ الإنسان هو الذي يختار الهداية أو الضلالة ، لا أنّهما تفرضان عليه ، والمعنى الثاني يلازم كونه مسيّرا فيهما لا مخيّرا ، وإليك لفيفا من الآيات الدالّة على أنّ الضلالة والهداية بيده سبحانه ، ولا يمتّان إلى العبد بصلة ، نذكر منها ما يلي :

١. قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

٢. وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُ

__________________

(١). إبراهيم : ٤.

مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

٣. وقال سبحانه : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٢).

إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المجال؟

والجواب : انّ تفسير ما ورد حول الضلالة والهداية من الآيات لا يتيسّر إلّا بالنظر إلى مجموع ما ورد في ذلك المجال ، فإنّ الآيات الواردة في ذلك المضمار متخالفة المفهوم ، وربما يتراءى في بادئ الأمر وجود التضارب بينها ، ولكن إذا نظرنا إلى المجموع ، وجعلنا البعض قرينة للآخر ، يصبح المجموع ذا معنى واحد ، وهذا ما يتكفّله التفسير الموضوعي لآيات القرآن الكريم ، وإلّا فهناك آيات وقعت ذريعة للجبريّين كما عرفت ، وآيات أخرى اتّخذتها المفوضة سندا لمذهبها ، وما هذا الاختلاف إلّا للنظر إلى بعض الآيات غافلا عن البعض الآخر ، ولو وقع الجميع موردا للنظر والدراسة لأصبح الكل هادفا إلى معنى واحد لا إلى الجبر ولا إلى الاختيار بمعنى التفويض.

__________________

(١). النحل : ٩٣.

(٢). فاطر : ٨.

ويعلم ذلك ببيان أقسام الهداية الإلهية ، وإليك البيان :

الهداية العامة

هناك آيات دالّة على أنّ هداية الله سبحانه لا تختص بفرد دون فرد ، بل تعم جميع الناس بل أوسع منهم ، فتعم جميع الموجودات عاقلها وغير عاقلها ، وتتلخص الهداية العامة في الهدايتين : التكوينية والتشريعية ، وإليك بيانها :

أ. الهداية العامة التكوينية

هناك لفيف من الآيات تدل على أنّه سبحانه ما خلق شيئا إلّا وقد هداه إلى الغاية التي خلق لأجلها ، قال سبحانه ناقلا عن لسان نبيه الكليم : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١) وأيّ تعبير أصرح من هذا الكلام بأنّ كل مخلوق مقرون بالهداية ، ولأجل ذلك ترى أنّ الحبة المستورة تحت التراب سوف تشقّ الأرض وتخرج منها وتأخذ بالنمو والرشد حتى تصير شجرة مثمرة ، ومثلها الحيوان والإنسان.

قال سبحانه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢) ومعنى الآية أنّه سبحانه خلق كل شيء

__________________

(١). طه : ٥٠.

(٢). الأعلى : ١ ـ ٣.

بتقدير خاص تتبعه الهداية العامة.

وهذه الآيات واردة في الدلالة على عموم الهداية التكوينية لجميع الموجودات.

وهناك آيات تدل على وجودها في قسم خاص منها كالنحل ، يقول سبحانه : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ* ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١) فالآية صريحة في أنّ ما يقوم به النحل من الأعمال الغريبة من اتخاذها الجبال والشجر وما يعرش من الكرم بيوتا ، كلّها بوحي من الله سبحانه ، كما أنّ أكلها من كل الثمرات وانتهائه إلى خروج شراب مختلف ألوانه بتعليم منه سبحانه تعليما عاما لجميع أفراد النحل بلا استثناء.

ونرى مثل تلك الهداية العامة في حق الإنسان ، ولكن باختلاف مجال الهداية سعة وضيقا ، فمجال الهداية في النحل يرجع إلى حياتها المادية وأعمالها الجسمانية ، لكن مجال الهداية العامة في الإنسان يعم كلتا الهدايتين المادية والمعنوية ،

__________________

(١). النحل : ٦٨ ـ ٦٩.

يقول سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ* وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ* وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) يقول سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) ليبصر بهما آثار حكمته (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) لينطق بهما فيبين باللسان ، ويستعين بالشفتين على البيان (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أيّ سبيل الخير والشر ، فالإنسان بفطرته الطاهرة يعرف الحسن والقبيح ويميز الخير عن الشر قبل أن يدخل في مدرسة أو يتلمذ على يد إنسان.

ويقول سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٢).

يريد بالنفس نفس الإنسان ، فالله سبحانه يخبر عن أنّه عدّل خلقها ، وسوّى أعضاءها ، بل سوّى عقلها الذي به فضّل على سائر الموجودات ، فعرّفها طريق الفجور والتقى ، وفي الوقت نفسه زهّدها في الفجور ورغّبها في التقوى كل ذلك يحسّه الإنسان في صميم ذاته ، حيث إنّه إذا ترك الفجور ولو لسبب خارج عن الاختيار يفرح به ، وما هذا إلّا انسياق ذاته إلى الخير والتقوى.

وهذا القسم من الآيات يصرّح بعمومية الهداية التكوينية

__________________

(١). البلد : ٨ ـ ١٠.

(٢). الشمس : ٧ ـ ٨.

على اختلاف مجالها سعة وضيقا لجميع الموجودات ، وإليك القسم الثاني من الهداية العامة.

ب. الهداية العامة التشريعية

إذا كانت الهداية التكوينية العامة أمرا نابعا من صميم الشيء ، فالهداية التشريعية العامة مفاضة عليه بواسطة عوامل خارجة عن ذاته ، كالأنبياء والرسل والأولياء والأوصياء وخلفائهم والمصلحين.

قال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١).

وقال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عمومية الهداية التشريعية لكل إنسان قابل أو مجتمع مستعدّ لهذه الإفاضة.

فإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، ودعوة العلماء والمصلحين من فروع هذه الهداية العامة ، كما أنّ هداية النبي الأكرم وهداية كتابه من فروعها ، قال سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٣) وقال تعالى في هداية القرآن إلى الطريق الأقوم : (إِنَ

__________________

(١). فاطر : ٢٤.

(٢). الحديد : ٢٥.

(٣). الشورى : ٥٢.

هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (١).

فعمومية الهداية التشريعية لكلّ مكلّف في الأرض تنفي الجبر وتثبت الاختيار ، إذ في وسع كل إنسان أن يهتدي بعقله وبما خصّه سبحانه به من هداية الأنبياء والرسل والزبر والكتب ، فإذا سادت الهداية التشريعية على عامة الأفراد لما بقي للجبر مكانة.

إنّه سبحانه يصرّح في بعض آياته بأنّه لا يعذّب قبل بعث الرسل أو لا يهلك القرى إلّا بعد بعثهم قال سبحانه : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢) وقال سبحانه : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٣) كما أنّه يؤكد في بعض الآيات على صحة منطق الإنسان ويقول : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٤) وهو بنقله احتجاج الإنسان على الله إذا لم يبعث الرسل ، يقرّر صحته ، ولأجل هذا لم يكن هناك هلاك إلّا وقد سبقته الهداية الإلهية العامة ، كإرسال الرسل وغيره.

فإذا كان ملاك الجبر والاختيار هو ضيق الهداية الإلهية أو

__________________

(١). الإسراء : ٩.

(٢). الإسراء : ١٥.

(٣). القصص : ٥٩.

(٤). طه : ١٣٤.

شمولها ، فالآيات تصرّح بالعمومية فيبطل الجبر ويثبت الاختيار ، وأمّا ما معنى كون الهداية والضلالة بيده ، فيتضح بالبحث التالي.

الهداية الخاصّة

إذا كانت هناك هداية عامة تكوينية أو تشريعية ، فهناك هداية خاصة ببعض الناس ولا تعم الجميع ، ولو انّ بعض الآيات تعلّق الهداية والضلالة بمشيئته سبحانه ، فهي ناظرة إلى ذلك القسم من الهداية التي تخص بعض العباد ، ولكن ليس تخصيصها ببعض العباد بلا ملاك.

والملاك بيد الإنسان ، وهو انّ من استضاء بنور الهداية العامة التكوينية والتشريعية ، فقد تعلّقت مشيئته سبحانه بهدايته بالهداية الخاصة ورفع مستوى الهداية التي استحصلها قبلها ، فيقع موردا للعناية الربّانية ، ولأجل ذلك نرى أنّه يخص تلك الهداية بإنسان منيب أو إنسان مجاهد في سبيل الله أو المهتدي بالهداية.

يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١).

__________________

(١). الرعد : ٢٧.

ويقول أيضا : (اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) (١).

وفي آية ثالثة يقول : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٢).

وفي آية رابعة : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٣).

وفي آية خامسة يقول : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً* وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ* لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)(٤).

فخصّ سبحانه هذا القسم من الهداية بقسم من الناس دون قسم ، بملاك انّ المعنيّين بالهداية الخاصة صاروا مستحقّين لنزول تلك الرحمة ، إما بإنابتهم إليه سبحانه ، أو بجهادهم في سبيله ، أو بإيمانهم القويّ بربهم ، ففي هذه الحالة شملتهم العناية الربانية الخاصة ، فجهّزهم بهداية ثانية التي يعبر عنها بقوله (يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) و (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) و (زادَهُمْ هُدىً) و (رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ).

فالهداية الخاصة تتّبع مشيئة الله ، وليست مشيئته اعتباطية ،

__________________

(١). الشورى : ١٣.

(٢). العنكبوت : ٦٩.

(٣). محمد : ١٧.

(٤). الكهف : ١٣ ـ ١٤.

بل تتبع لصلاحيات اكتسبها أصحابها بالاهتداء بالهداية الأولى العامة واتّبعتها أعمال صالحة.

فكما أنّه سبحانه يعلّق هدايته على مشيئته ، يعلّق إضلاله عليها أيضا ، وليست مشيئته في هذا المورد أيضا بلا ملاك وليس هو إلّا إعراض العبد عن الاهتداء بالهداية العامة ، فانتهى أمره إلى اكتساب صفات تمنع نفوذ الهداية الإلهية الثانية ، بل يستحق معها حرمان الهداية الإلهية ، يقول سبحانه : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (١).

وفي آية ثانية : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢).

وفي آية ثالثة : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٣).

وفي آية رابعة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً* إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ) (٤).

وفي آية خامسة : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٥).

وبما أنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية ، فإضلاله

__________________

(١). الجمعة : ٥.

(٢). إبراهيم : ٢٧.

(٣). البقرة : ٢٦.

(٤). النساء : ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٥). الصف : ٥.

سبحانه النابع عن مشيئته ، يعمّ الظالم والفاسق والزائغ قلبه ، لظلمهم وزيغهم وفسقهم المكتسبة ، فتصير هذه الحالات حجبا تمنع من نفوذ الهداية الإلهية الثانية ، ويصدق انّه سبحانه أضلّه وليس لحرمانه سبب إلّا عمله وحاله.

وعلى ضوء ذلك يكون المراد من الإضلال حرمانه من الهداية الثانية ، ولأجل ذلك يذكر سبحانه إضلاله بعد إرسال الرسل ، فكان إعراضه عنهم صار سببا لحرمانه من العناية الخاصة قال سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) يذكر إضلاله وهدايته بعد الإخبار عن إرساله للرسل ، فالآية تدلّ على أنّ الهداية والضلالة التابعة لمشيئته ترجع إلى الظروف التي تمت فيها الحجة على العبد بالهداية العامة ، وعند ذاك فمن استضاء بالهداية العامة عمّته الهداية الثانية ، وإلّا يحرم منها ويكون حرمانه إضلاله لا شيئا آخر.

وعند ذاك تستطيع إرجاع جميع ما ورد حول الضلالة والهداية إلى معنى واحد من دون أن نتصور أيّ اختلاف في محتواها ، بل كل قسم من الآيات يشير إلى بعد من أبعاد الهداية

__________________

(١). إبراهيم : ٤.

والضلالة ، فالآيات المطلقة تهدف إلى الهداية العامة التكوينية والتشريعية ، والآيات المعلّقة بالمشيئة ناظرة إلى الهداية الخاصة ، فإذن لا منافاة بين الآيات ، كما أنّها لا تهدف إلى الجبر بل إلى الاختيار.

نعم هناك جملة من الآيات تدلّ على أنّ مشيئته الأزلية لم تتعلّق بهداية الكل ، قال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) (١).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٢).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) (٣).

وقال سبحانه : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٤).

وقال سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٥).

إنّ هذه الآيات ناظرة إلى الهداية الجبرية التي تسلب عن الإنسان الاختيار والحرية والقدرة على الطرف المقابل. ولما

__________________

(١). الأنعام : ٣٥.

(٢). الأنعام : ١٠٧.

(٣). يونس : ٩٩.

(٤). النحل : ٩.

(٥). السجدة : ١٣.

كان مثل هذه الهداية الخارجة عن الاختيار ، منافية لحكمته سبحانه أوّلا ، وغير رافعة لمنزلة الإنسان ثانيا ، نفى سبحانه تعلّق مشيئته بها ، إذ لا قيمة للإيمان غير المكتسب والهداية الجبرية ، وانّما القيمة للإيمان الذي يكتسبه الإنسان بفكره واختياره ، كما أنّ القيمة للهداية التي يتبنّاها الإنسان باختياره.

هذا موجز القول في الآيات الواردة حول الهداية والضلالة ، ولا تحلّ عقدة هذه الآيات إلّا بالنظر إليها جملة واحدة ، وإلّا فالأخذ بآية واحدة وردت لبيان بعد خاص وتناسي سائر الآيات التي تصلح أن تكون قرينة على مفادها ، ليس تفسيرا واقعيّا للقرآن ، كيف والقرآن يفسّر بعضه بعضا؟!

شبهات حول الاختيار

الشبهة الثانية

هل الحسنة والسيئة من الله أو من العبد؟

ربّما يتبادر إلى الذهن في بادئ النظر وجود الاختلاف في بيان القرآن في منشأ الحسنات والسيئات ، فقد اختلف بيانه ـ في بادئ النظر ـ في منشئهما.

فتارة ينقل عن المنافقين بأنّهم كانوا ينسبون الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي الأكرم تطيّرا بوجوده ، ثم يأخذ القرآن بردّه ، ويقول : إنّ كلّا منهما منه سبحانه.

قال تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (١).

فعلى ضوء هذه الآية تكون الحسنة والسيئة من الله ، ولكنّه

__________________

(١). النساء : ٧٨.

في آية أخرى يفرّق بين الحسنة والسيئة ، فينسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى الإنسان. يقول سبحانه بعد الآية المتقدمة : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١).

فكيف نجمع بين الآيتين مفادا؟

الجواب : إنّ المنافقين حسب ما ورد في الآية الأولى نسبوا الحسنة إلى الله ، والسيئة إلى النبي ، ولكن فراعنة عصر موسى تبنّت رأيا أشدّ بطلانا ممّا تبنّاه المنافقون ، حيث إنّهم نسبوا الحسنات إلى أنفسهم (مكان انتسابها إلى الله) والسيئات إلى نبيّهم الكليم ، قال سبحانه : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٢).

والقرآن يعدّ تينك النظريتين خاطئة ، وناشئة من عدم معرفة ما عليه عالم الإمكان من انتساب جميع الحوادث (حلوها

__________________

(١). النساء : ٧٩.

(٢). الأعراف : ١٣٠ ـ ١٣١.

ومرّها) إلى الله سبحانه ، وأن لا مؤثر في الوجود إلّا هو ، وأنّ كل ما في الكون من جواهر وأعراض وحركات وأفعال كلّها منتهية إلى الله سبحانه ، فليس في عالم الكون مؤثران مستقلان ، يؤثر أحدهما في الحسنة والآخر في السيئة ، والنظريتان مبنيتان على الشرك في الخالقية ، غير انّ المنافقين نسبوا الحسنة إلى الله والسيئة إلى النبي ، والفراعنة نسبوا الحسنات إلى أنفسهم والسيئات إلى نبيّهم.

والله سبحانه يردّ كلتا النظريتين ، أمّا نظرية المنافقين فيقول ردّا عليها : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) وأمّا نظرية الفراعنة من تطيّرهم بموسى ، وبالتالي نسبة السيئة إليه فيقول :

(أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) وانّه تعالى هو الذي يأتي بطائر البركة وطائر الشؤم من الخير والشر والنفع والضرر ، فلو عقلوا لطلبوا الخير والسلامة من الشر منه.

وعلى كل تقدير فالمراد من الحسنة والسيئة في الآيات ، هو السرّاء والضرّاء ، والبؤس والرخاء ، والنعمة والمصيبة ، والخصب والجذب ، والظفر والهزيمة ، والغنيمة والحرمان ، والموت والحياة ، فكلها أمور ممكنة ، وكل ممكن قائم بالله

سبحانه ، متحقّق بإيجاده ، فلا يمكن أن ينتسب شيء إلى غيره سبحانه.

وهؤلاء المنافقون إنّما اخترعوا نظرية الشرك تعييرا بنبيهم وتضعيفا لعقول أتباعهم ، فجعلوا الحسنة منسوبة إلى الله والسيئة إلى نبيّهم ، ولم يكن الداعي لهذا التفريق إلّا التعيير بالنبي الأكرم ، كما أنّ الفراعنة ركبوا مركب الغرور فجعلوا أنفسهم مبادئ الحسنة ، ونبيّهم مبدأ السيئة. ولم يكن دافعهم إلى هذا التقسيم إلّا ازدارءهم بنبيهم ، ولكنهم لو كانوا موضوعيين في التفكير عارفين بالكون وما يجري فيه ، وانّ كل ممكن ينتهي إلى الواجب لرفضوا ذلك التقسيم ، ولنسبوا الأمور ، حسنها ونافعها ، سيّئها وضارّها إلى الله سبحانه.

إلى هنا تبيّن مفاد الآية الأولى وانّ مقتضى التوحيد في الخالقية والربوبية هو إنهاء كل شيء ممكن إلى الله سبحانه.

وأمّا الآية الثانية ، فنذكر قبل تفسيرها نكتتين :

الأولى : انّ محاسن بلاغة الآية انّه عدل سبحانه عن الخطاب إليهم ـ لأنّه وصفهم بأنّهم قوم لا يفقهون ـ إلى الخطاب إلى نبيه وقال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)

فلو كان القوم عارفين لوجّه الخطاب إليهم ، وقال ما أصابكم من حسنة ... وما أصابكم من سيئة ... ، فلأجل فقدانهم الفهم عدل عن مخاطبتهم إلى مخاطبة النبي ، ولكن ليس للنبي هناك خصوصية ، بل هو وجميع الناس بالنسبة إلى مفاد الآية الثانية سواسية.

الثانية : انّ الآية الثانية وردت بعد الآية الأولى ، فلا يمكن أن تحكم على خلاف الأولى ، فلا بد أن تكون في مفادها ناظرة إلى شيء آخر يتناسب مع مفاد الآية الأولى. وذلك انّ الآية الثانية تنسب الحسنة إلى الله والسيئة إلى الإنسان ، ولكن بملاك آخر غير الملاك الموجود في النسبة الأولى. وليس هذا الملاك إلّا ملاحظة المناشئ والمبادئ التي تجر النقمة إلى الإنسان ، فالسيئات لأجل وجودها الإمكاني ممكنة منسوبة إلى الله تبارك وتعالى ، وبما أنّ الإنسان بطغيانه في حياته وركوبه المعاصي والموبقات يستحق نزول البلاء ، فيصح ان تنسب السيئة إليه ، لأنّه هو الذي صار سببا لنزول القهر والهزيمة والمصيبة إليه. ولو لا أعماله السيئة ، وطغيانه ، لما نزلت الحوادث المؤلمة ، في الحرب والسلم ، وعلى ضوء ذلك فالسيئة بالمعنى الذي عرفته قابلة للملاحظة من جهتين ، بما أنّها حادثة ممكنة ، تنتهي إلى الله

وتكون منه فتكون كالحسنة من الله تعالى ، وبما انّ الإنسان بأعماله غير المرضية وطغيانه على ما كلّف به ، يستحق النقمة والبلاء ، تصح ان تنسب إليه السيئة ، وكلتا النسبتين نسبة حقيقية لا تزاحم إحداهما الأخرى ، ويؤيد صحة النسبة الثانية قوله سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

فتكذيبهم الأنبياء صار سببا لسدّ أبواب بركات السماء والأرض ، فلا يكون نصيبهم في الحياة إلّا الجدب والغلاء.

وهناك سؤال آخر وهو انّه إذا صحّت نسبة السيئة إلى الإنسان لأجل انّه هو الباعث بأعماله نزول الغلاء والجدب أو الهزيمة في الغزو ، فلتكن كذلك الحسنة ، فالإنسان المطيع المخلص ينزّل البركة من السماء في ظلّ عمله ، ومع ذلك لا ينسب القرآن ، الحسنة إلى الإنسان أبدا ، فما هو الفرق بين السيئة والحسنة؟

والجواب :

انّ التحليل الصحيح يؤدّي بنا إلى القول بأنّ الحسنة من باب

__________________

(١). الأعراف : ٩٦.

التفضّل لا من باب الاستحقاق ، بخلاف السيئة فإنّها من باب الاستحقاق. فالإنسان بطغيانه على مولاه وجرأته عليه يستحق نزول البلاء ، ولكنه بإطاعته وإخلاصه وامتثاله لأوامر مولاه لا يستحق شيئا على مولاه ، لأنّه انّما قام بالطاعة بالمواهب التي منحها الله سبحانه إليه ، ولم يكن مالكا لشيء ، منفقا له في مسير الطاعة حتى يستحقّ شيئا على الله ، بل انّ وجوده وإرادته وأعضاءه وأفعاله كلّها مواهب لله. فصار عمله أشبه بإحسان الولد لوالده بما ملّكه له ، وللفرق الواضح بين الحسنة والسيئة نرى أنّ الحديث القدسي المنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفرق بين الحسنة والسيئة ويقول : «يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبنعمتي أدّيت إليّ فرائضي ، وبقدرتي قويت على معصيتي ، خلقتك سميعا بصيرا ، أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك منّي» (١).

__________________

(١). المجلسي : بحار الانوار : ٥ / ٤ ح ٣ ، كتاب العدل والمعاد ، الباب الأوّل.

شبهات حول الاختيار

الشبهة الثالثة

ما معنى السعادة والشقاء الذاتيتين؟

من الأسئلة المثارة في مجال الجبر والاختيار هي تقسيم الناس إلى صنفين : سعيد وشقي ، وانّ كل إنسان منذ كونه جنينا في رحم أمّه إمّا سعيد أو شقي ، وهذا يكشف عن كونهما من الأمور الذاتية للإنسان ، ومعه لا يبقى للاختيار مفهوم ، بل كلّ مسيّر إلى ما توحيه ذاته ، وقد اشتهر في الألسن انّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الشقي من شقي في بطن أمّه ، والسعيد من سعيد في بطن أمّه» (١) فيقال ما معنى هذا التقسيم الذي لو صح بظاهره لأدّى إلى الجبر؟

إنّ تفسير الحديث وإن كان لا يتوقف على بيان السعادة والشقاء في القرآن الكريم ، لكن لأجل الإحاطة بالبحث نذكر ما

__________________

(١). الصدوق : التوحيد : ٣٥٦ ح ٣ ، باب السعادة والشقاء.

ورد في الكتاب العزيز ، وربّما صار مستمسكا للجبر. فنقول :

قد ورد في الذكر الحكيم آيتان :

الآية الأولى :

قال سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ* فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ* خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ* وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١).

وقد استدلّ الرازي بهذه الآية على الجبر الأشعري ، الذي كان يتبنّاه وقال : اعلم أنّه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد ، وعلى بعضهم بأنّه شقي ، ومن حكم الله عليه بحكم وعلم فيه ذلك الأمر ، امتنع كونه بخلافه ، وإلا لزم أن يصير خبر الله تعالى كذبا وعلمه جهلا ، وذلك محال ، فثبت انّ السعيد لا ينقلب شقيا ، وانّ الشقي لا ينقلب سعيدا. (٢)

إنّ كلام الرازي يحتمل وجهين :

١. يعتمد في استدلاله على الجبر بعلمه سبحانه بأنّ الناس

__________________

(١). هود : ١٠٥ ـ ١٠٨.

(٢). الرازي : مفاتيح الغيب : ٥ / ٩٣ ، ط ١ ـ ١٣٠٨ ه

يوم القيامة على صنفين : سعيد وشقي ، وبما انّ علمه لا يخطأ ، فيكون كل إنسان مضطرا في سعادته وشقائه ، غير مختار في اختيار أحدهما ، إذ يلزم من كونهما اختياريين جواز تبديل الشقاء بالسعادة وبالعكس ، وهو يوجب تطرّق الخطأ إلى علمه.

فلو أراد الرازي هذا المعنى ، فقد مضى جوابه ، وقلنا : إنّ علمه الأزلي بمصير كل إنسان لا يجعله مجبورا في مجال العمل ، وذلك لأنّ علمه كما تعلّق بصدور الفعل عن الإنسان تعلّق بصدوره عنه عن اختيار ، فلو صدر عن اضطرار للزم انقلاب علمه جهلا ، وقد مر تفصيل هذا الجواب فلا نطيل الكلام. وكون كل شخص مختارا معناه أنّه يملك بالذات ان يغيّر مصيره ، وإن كان حسب الواقع غير مغيّر ، فلا يلزم من القول بالاختيارية ، محذور.

٢. انّه سبحانه يحكم الآن على بعض أهل القيامة بأنّه سعيد ، وعلى بعضهم بأنّه شقي. ولكن الإجابة عنه واضحة بمثل الإجابة عن علمه بانقسام الناس إلى صنفين ، فحكمه سبحانه ناشئ عن علمه بهما ، وعلمه ليس إلّا كشفه عن أحوالهم في الآخرة ، وهذا لا ينافي أنّهم اكتسبوا هاتين الحالتين بأعمالهم

الصالحة والطالحة في الدنيا ، فصاروا سعداء أو أشقياء في الآخرة.

الآية الثانية :

قال سبحانه : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ* رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١).

فيستظهر من إضافة الشقوة إلى أنفسهم أنّ شقاء المجرمين كان أمرا نابعا من ذواتهم.

لكنه ظهور بدوي يزول بالإمعان في مفاد الآية ، بل الظاهر انّ في الإضافة تلويحا إلى أنّ لهم صنعا في شقوتهم من اكتسابهم ذلك بسوء اختيارهم ، ويدل على أنّ شقوتهم كانت أمرا اكتسابيا ، أمران :

١. انّه سبحانه ذكر قبل الآية ، السعادة بلفظ الفلاح ، والشقاء بلفظ الخسران ، وجعلهما من آثار ثقل الميزان وخفّته اللّذين يعدّان من الأمور الاختيارية ، قال سبحانه : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) أيّ السعادة النابعة من ثقل الميزان وقال سبحانه : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ

__________________

(١). المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢). المؤمنون : ١٠٢.

خالِدُونَ) (١) أي الشقاء النابع من خفة الميزان.

٢. انّهم يطلبون من الله الخروج من جهنم والرجوع إلى الدنيا لكي يعملوا صالحا ويصيروا سعداء ، فلو كان شقاؤهم أمرا ذاتيا غير متغيّر ، فما معنى طلب الخروج لكسب السعادة؟

إنّ الروايات تفسّر حقيقة السعادة ، يقول الامام علي عليه‌السلام : «حقيقة السعادة أن يختم الرجل عمله بالسعادة ، وحقيقة الشقاء أن يختم المرء عمله بالشقاء» (٢) وهو ظاهر في أنّهما من الأمور التي يستحصلها الإنسان بأعماله.

بقي الكلام في تفسير الرواية المعروفة : «الشقي شقي في بطن أمه ، والسعيد سعيد في بطن أمّه» فلهذا الحديث تفاسير نذكر منها وجهين :

الأوّل : انّ السعادة والشقاء مفاهيم عامّة يوصف بها الإنسان بملاكات مختلفة ، إمّا من حيث الجسم فالصحة سعادة جسمانية والسقم شقاء كذلك ، وإمّا من حيث الحياة الاجتماعية فالغنى سعادة والفقر المدقع شقاء ، كما يصح وصف الإنسان بهما من

__________________

(١). المؤمنون : ١٠٣.

(٢). المجلسي : بحار الأنوار ٥ / ١٥٤ ح ٥ باب السعادة والشقاء.

حيث سائر علاقاته من الزوجة والرفيق والبيئة ، فالزوجة المطيعة والرفيق الوفي والبيئة المناسبة للجسم والروح سعادة ، وأضدادها شقاء ، وعلى ذلك فلا وجه في تخصيص السعادة والشقاء بالإيمان والكفر ، بعد كونهما ذا ملاكات متعدّدة. إذا علمت ذلك فنقول :

يمكن تفسير الحديث بالسعادة والشقاء ، في بطن الأم بما يرجع إلى تكوينه وخلقته ، فالجنين المتكوّن من «بويضة» سالمة و «حويمن» كذلك فهو سعيد في هذه الحالة وتترتب عليه سعادات أخرى بعد خروجه من بطن أمّه ؛ كما أنّ المتكوّن من جزءين عليلين ، شقيّ في هذه الحالة ، تتوالى عليه شقاءات بعد خروجه من بطن أمّه.

لا شك انّ لسلامة الأب والأم تأثيرا في سلامة الأولاد ، فالأولاد في بطون أمّهاتهم بين سعيد وشقي يرافقانهم إلى آخر العمر ، وبالنتيجة لا يرتبط الحديث بأمر الجبر والاختيار.

ولو قلنا بعمومية الحديث وانّ الأولاد ترث روح العصيان والطاعة من الوالدين وميولهما ، لكن ما يرثه الأولاد لا تعدو من كون الموروث أرضية قابلة للتغيّر والتبدّل بأن يبدل روح الطغيان إلى ضدّه بالتدبّر فيما يترتّب عليه من الخسائر.

الثاني : ما ورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «الشقي من علم الله وهو في بطن أمّه انّه سيعمل أعمال الأشقياء ، والسعيد من علم الله وهو في بطن أمّه سيعمل أعمال السعداء» (١)

سواء أصح ما ذكرنا من التفسير أم لم يثبت ، فلا يمكن رفع اليد عن محكمات العقل والكتاب والسنّة بمثل هذا الحديث الذي ربما يحتمل أن يكون دخيلا وموضوعا.

تحليل فلسفي لرد كون الشقاء ذاتيا

وما ربما يقال إنّ السعادة والشقاء من الأمور الذاتية للإنسان أمر لا يمكن المساعدة معه ، وذلك لأنّ الذاتي قد يطلق ويراد منه هو الذاتي في باب الكليات الخمس ، وأخرى يطلق ويراد منه الذاتي في باب البرهان ، والأوّل يتلخّص في النوع والجنس والفصل ، والثاني يتلخّص فيما هو خارج عن حقيقة الشيء ، ولكن يوضع بوضعه من دون حاجة إلى ضم ضميمة كالإمكان بالنسبة إلى الجسم ، ويقابله العرضي الذي لا يوضع بوضع الموضوع ويتوقّف حمله على الموضوع على ضم ضميمة إليه كالأبيض بالنسبة إلى الجسم ، فبما أنّ الجسم ليس ملازما للبياض ، لا يصح وصفه بالأبيض إلّا بعد انضمام أمر خارج عنه

__________________

(١). التوحيد للصدوق : ٣٥٦ ، باب السعادة والشقاء.

كالبياض إلى الجسم.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ السعادة والشقاء ليستا ذاتيتين بالمعنى الأوّل ، إذ ليستا جنسا ولا نوعا ولا فصلا للإنسان ، كما أنّهما ليستا ذاتيتين من النوع الثاني ، لأنّ الذاتي بهذا المعنى ينتزع من صميم الشيء بدون ضم ضميمة إليه وليس فرض الإنسان وحده كافيا في انتزاع السعادة والشقاء عنه ما لم ينضم إليه شيء من العقيدة والعمل ، فالعقائد الصالحة والأعمال المرضية هي المصححة لانتزاع السعادة من الإنسان ، كما أنّ انضمام العقائد الفاسدة والأعمال الطالحة هما المصحّحان لانتزاع الشقاء. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّهما من الأمور التي يكتسبها الإنسان طيلة حياته ، سواء أرجعتا إلى الملكات الصالحة أو الخبيثة ، أو إلى الأعمال المنجية أو الموبقة.

شبهات حول الاختيار

الشبهة الرابعة

القضاء والقدر

إنّ القضاء والقدر من الأصول التي دلّ عليها الكتاب والسنّة ، وليس لأحد أن ينكر واحدا منهما ، ومعنى التقدير انّ لوجود كل شيء حدا وقدرا ، كما أنّ لتحقّقه ووجوده قضاء وحكما مبرما من جانبه سبحانه ، فكل شيء يقدر أوّلا ، ثم يحكم عليه بالوجود. من غير فرق بين الجواهر والأعراض وأفعال الإنسان.

غير انّ القول بالتقدير ثم القضاء أوجب مشكلة للباحثين ، فكأنّهم زعموا انّ القول بهما لا يجتمع مع كون الإنسان مخيّرا. وقد ورد في الأحاديث نفس هذا الزعم حيث أقبل شيخ إلى الإمام على عليه‌السلام عند منصرفه من صفين ، فقال : أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء الله وقدره؟ فقال : «أجل يا شيخ ما علوتم من طلعة ، ولا هبطتم من واد إلّا بقضاء من الله وقدره» فقال

الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين : (ومعنى هذه الجملة : انّي لم أقم بعمل اختياري ، ولأجل ذلك احتسب عنائي عند الله) فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا شيخ ، فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر في مسيركم ، وأنتم سائرون ، وفي مقامكم إذ أنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، لم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليه مضطرين».

فقال الشيخ : فكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ، ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟! فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أتظن أنّه كان قضاء حتما وقدرا لازما ، إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزجر من الله تعالى وسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ، وتلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان وقدرية هذه الأمّة ومجوسها ، وانّ الله كلّف تخييرا ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكرها ، ولم يملك مفوضا ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيّين مبشّرين

ومنذرين عبثا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار» (١).

والحديث جمع بين القول بين القدر والقضاء وكون الإنسان مخيّرا لا مسيّرا ، ثم إنّ الناس أمام هذه الرواية وأشباهها على صنفين ، صنف منهم كبعض المشايخ تخلّص من مشكلة الجبر بنفي وقوع أفعال الإنسان في مجالي القضاء والقدر ، وقال باختصاصهما بعالم الجواهر والأعراض ، وانّه لا صلة لهما بفعل الإنسان لئلا يلزم الجبر ، ومنهم من أخذ بالثلاثة: القضاء والقدر والجبر.

واللائح من كتب السير والتاريخ انّ القول بالجبر تحت غطاء القضاء والقدر ، كان يروّج في عهد الأمويين ، ولأجل ذلك اشتهر «الجبر والتشبيه أمويان» «والعدل والتوحيد علويان».

ويظهر من بعض الآيات انّ مشركي العرب كانوا أصحاب الجبر تحت ظل القول بالقضاء والقدر قال سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) (٢).

وإذا أردنا أن نسرد ما في تاريخ الأمويّين من القول بالجبر

__________________

(١). الصدوق : التوحيد : ٣٨٠ الحديث ٢٨.

(٢). الأنعام : ١٤٨.

في ظل العقيدة بالقضاء والقدر لطال بنا الكلام ولطال موقفنا مع القرّاء الكرام ، وقد ذكرنا قسما من ذلك في محاضراتنا الكلامية. (١)

ولأجل الاختصار نقتصر بذكر أمور :

الأوّل : مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنّة

احتفل الكتاب بالقدر والقضاء في لفيف من آياته نقتصر بقليل منها :

قال سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٢).

قال سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٣).

وقال سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٤).

روى الصدوق في «الخصال» بسنده عن علي عليه‌السلام أنّه قال :

__________________

(١). حسن محمد مكي العاملي : الإلهيات : ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٩.

(٢). التوبة : ٥١.

(٣). فاطر : ١١.

(٤). الحديد : ٢٢.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة : حتى يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وانّي رسول الله بعثني بالحق ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت ، وحتى يؤمن بالقدر». (١)

الثاني : تفسير القدر والقضاء

قال الراغب : القدر والتقدير تبيين كمية الشيء ، يقال قدرته وقدرته بالتشديد ، ثم قال : فتقدير الأشياء على وجهين : أحدهما بإعطاء القدرة (وهذا خارج عن موضوع البحث) والثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة.

قال سبحانه : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٢).

وقال سبحانه : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٣).

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (٤).

وأمّا القضاء فهو الإحكام والإتقان والإنفاذ.

قال سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٥) أيّ أحكم خلقهن.

__________________

(١). المجلسي : البحار : ٥ / ٨٧ ح ٢ ، باب القضاء والقدر.

(٢). الطلاق : ٣.

(٣). القمر : ٤٩.

(٤). عبس : ١١٩.

(٥). فصّلت : ١٢.

إذا عرفت ذلك فنقول : المراد من القدر تقدير وجود الشيء وخصوصياته وكما أنّ المراد من القضاء ضرورة وجوده في ظرف خاص عند تحقّق علّته التامة ، فيكون التقدير مقدما على القضاء ، مثلا ، المهندس يقدّر فنّيات البناء ، ثم بعد أن تمت التصميمات الهندسية في ذهنه يحكم ويقضي على بناء الدار وفق ما صمّمه.

هذا هو الملموس لنا في الوجود الإمكاني ، وأمّا الباري تبارك وتعالى ففي علمه الوسيع تقدير كل شيء حسبما تقتضيه حكمته ، ثم حكمه وقضاؤه على تحقّقه في ظرفه.

الثالث : انّ التقدير والقضاء على أصناف ثلاثة :

ألف ـ التقدير والقضاء العلميان الكليان.

ب ـ التقدير والقضاء العلميان الجزئيان.

ج ـ التقدير والقضاء العينيّان الجزئيان.

القضاء والقدر العلميّان الكليّان

إنّ التقدير أو القضاء العلميين ، لا يتجاوزان السنن الكلية الواردة في الكتاب والسنّة من دون إشارة إلى قوم دون قوم ، أو شخص دون شخص ، بل بذكر سيادة القوانين العامة على

الإنسان ، وقد دفع مفتاح التظلّل تحت أيّة سنّة من السنن بيد الإنسان ، ونذكر من هذه السنن ، القليل من الكثير.

١. قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح عليه‌السلام : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١).

فترى أنّ نوحا عليه‌السلام يجعل الاستغفار سببا مؤثرا في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة ، وموقف الاستغفار هنا موقف العلّة التامة أو المقتضى بالنسبة إليها ، والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط ، وفي ظلّه تنصبّ القوى على بناء المجتمع على أساس صحيح ، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة ، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنّة ، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

للمجتمع الخيار في التمسّك بأهداب أيّ من السنتين ،

__________________

(١). نوح : ١٠ ـ ١٢.

فالكل قضاء الله وتقديره.

٢. قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

٣. قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢).

٤. قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣).

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

٥. وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٤).

ترى أنّ الآية تتكفّل ببيان كلا طرفي السنّة الإلهية إيجابا وسلبا ، وتبيّن النتيجة المترتبة على كل واحد منهما. والكلّ قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.

__________________

(١). الاعراف : ٩٦.

(٢). الرعد : ١١.

(٣). الأنفال : ٥٣.

(٤). إبراهيم : ٧.

٦. وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(١).

٧. وقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢).

فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنّة رسوله إيمانا راسخا يثبّته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله الله سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يرتّب على تلك الآية قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (٣).

٨. وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٤).

فالصالحون لأجل تحلّيهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلّة والخذلان لمخالفيهم.

__________________

(١). الطلاق : ٢ ـ ٣.

(٢). إبراهيم : ٢٧.

(٣). إبراهيم : ٢٨ ـ ٢٩.

(٤). الأنبياء : ١٠٥.

٩. وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١).

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه على وجه التمام ويترتب عليه ـ وراء الاستخلاف ـ ما ذكره في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن.

١٠. وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (٢).

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأمم السالفة لأجل عتوّهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه ، كثيرة في القرآن الكريم تبين سنّته السائدة على الأمم جمعاء.

١١. وقال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (٣).

١٢. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ

__________________

(١). النور : ٥٥.

(٢). محمد : ١٠.

(٣). آل عمران : ١٣٧.

فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١).

١٣. وقال سبحانه : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٢).

والآية من أثبت الآيات المبيّنة لسنته تعالى في الذين كفروا ، فلا يصلح للمؤمن أن يغرّه تقلّبهم في البلاد ، وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتى يقف على أنّ للباطل جولة وللحق دولة ، وانّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار.

١٤. وقال سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً* اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٣).

__________________

(١). الأنفال : ٢٩.

(٢). غافر : ٤ ـ ٦.

(٣). فاطر : ٤٢ ـ ٤٣.

وما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهيّة السائدة على الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتدبر في آيات الكتاب العزيز حتى يقف على سننه تعالى وقوانينه ، ثم يرجع إلى تاريخ الأمم وأحوالها فيصدّق قوله سبحانه : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

القدر والقضاء العلميّان الجزئيّان

إذا كان التقدير والقضاء والعينيان راجعين إلى إطار وجود الشيء في الخارج من وصفه بالتقدير والضرورة ـ كما سيوافيك ـ يكون المراد من التقدير والقضاء العلميّين ، علمه سبحانه بمقدار الشيء وضرورة وجوده في ظرف خاص ، علما ثابتا في الذات أو علما مكتوبا في كتاب. والأوّل يكون علما في مقام الذات ، والآخر يكون علما في مقام الفعل.

ولكن الفلاسفة خصّوا القضاء بالجانب العلمي والقدر بالجانب العيني ، فقالوا : «القضاء» عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام ، وهو المسمّى ب «العناية» التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها.

و «القدر» عبارة عن خروجها على الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرّر في القضاء.

كما أنّ الأشاعرة خصّوا «القضاء» بكون الشيء متعلّقا للإرادة الأزلية قبل إيجادها ، و «القدر» بإيجادها على قدر مخصوص ، فقالوا : «إنّ «قضاء الله» هو إرادته الأزلية المتعلّقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. و «قدرة» إيجاده إيّاها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها».

والمعتزلة أنكروا وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العباد متعلّقا للقضاء والقدر وأثبتوا علمه تعالى بهذه الأفعال ، ولكن أنكروا إسناد وجودها إلى ذلك العلم ، بل إلى اختيار العباد وقدرتهم». (١)

ولكن الحق حسب ما تعطيه الآيات القرآنية انّ كلّا من القضاء والقدر على قسمين علمي وعيني. أمّا العيني فقد عرفت إجمالا وسيوافيك تفصيله ، وأمّا العلمي فالتقدير منه هو علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود وخصوصيات. والقضاء منه ، علمه سبحانه بحتمية وجود تلك الأشياء

__________________

(١). شرح المواقف : ٨ / ١٨٠ ـ ١٨١.

وصدورها عن عللها ومبادئها.

لكن المهم هو الوقوف على أنّ التقدير والقضاء العلميين لا يورثان الجبر ، لما عرفت عند البحث عن علمه وإرادته سبحانه ، وانّهما لم يتعلّقا بصدور الفعل عن الإنسان ، فقط ، وإنّما تعلّقا بصدوره عن الإنسان بماله من خصوصية وميزة. وما تقدم منّا في تفسير تعلّق الإرادة الأزلية بصدور المعاليل عن عللها ، كاف في توضيح المقام.

ج : القدر والقضاء العينيّان

كل ما في الكون فهو لا يتحقّق إلّا بقدر وقضاء ، أمّا القدر فهو عبارة عن الخصوصيّات الوجودية التي تبيّن مكانة وجود الشيء على صفحة الوجود ، وانّه من قبيل الجماد أو النبات أو الحيوان أو فوق ذلك ، وأنّه من الوجودات الزمانية ، والمكانية ، إلى غير ذلك من الخصوصيات التي تبيّن وضع الشيء وموضعه في عالم الوجود.

وأمّا القضاء ، فهو عبارة عن وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علّته إلى حد يكون وجوده ضروريا وعدمه ممتنعا ، بحيث إذا نسب إلى علّته يوصف بأنّه ضروري الوجود.

فلأجل ذلك استعير لبيان مقدار الشيء من الخصوصيات لفظ «القدر» ، ولتبيين ضرورة وجوده وعدم إمكان تخلّفه ، لفظ «القضاء» وفسّر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء بالإبرام وإقامة العين.

وعلى ذلك فيجب علينا أن نبحث عن التقدير والقضاء العينيين اللّذين أخبر عنهما الكتاب العزيز وقال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

وقال سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢).

فلا يوجد على صفحة الوجود الإمكاني شيء إلّا بظل هذين الأمرين :

١. تقدير وجود الشيء وتحديده ، بخصوصيات تناسب وجوده ، فلا يوجد شيء خاليا عن الحدّ والتقدير سوى الله تعالى سبحانه.

٢. لزوم وجوده ، وضرورة تحقّقه بتحقّق علّته التامة التي

__________________

(١). القمر : ٤٩.

(٢). فصلت : ١٢.

تضفي على الشيء وصف الضرورة والتحقّق. وإلى ذلك يشير النبي الأكرم بقوله : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة» ، وعدّ منها القدر (١) ويشير إليه الإمام الطاهر موسى بن جعفر عليه‌السلام بقوله : «لا يكون شيء في السموات والأرض إلّا بسبعة» وعدّ منها القضاء والقدر. (٢)

فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير وقضاء. فتقديره ، تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها ، وآثار وجودها ، وخصوصيات كونها بما أنّها متعلّقة الوجود والآثار بموجودات أخرى ، أعني : العلل والشرائط ، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها ، فهي متشكّلة بأشكال تعطيها الحدود التي تحدّها من الخارج والداخل ، وتعيّن لها الأبعاد من عرض وطول وشكل وهيئة وسائر الأحوال من مقدار الحياة والصحة والعافية أو المرض والعاهة ما يناسب موقعها في العالم الإمكاني. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدّر له في مسير وجوده. قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) أيّ هدى ما خلقه إلى ما قدر

__________________

(١). البحار : ٥ / ٨٧ ، ح ٢.

(٢). المصدر نفسه : ٨٨ ، ح ٧.

(٣). الأعلى : ٢ ـ ٣.

له. وقال سبحانه : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) (١).

وفي قوله سبحانه : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) إشارة لطفية إلى أنّ التقدير لا يسلب منه الاختيار ، وفي وسع الإنسان أن يبطل بعض التقدير أو يؤيّده ويدعمه فيذهب عن نفسه العاهة أو يؤكّدها ويثبتها.

وأمّا قضاؤه ، فلمّا كانت الحوادث في وجودها وتحقّقها منتهية إليه سبحانه ، فما لم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها فإنّها تبقى على حال التردّد بين الوقوع واللاوقوع ، فإذا تمت عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلّا أن توجد ، كان ذلك من الله قضاء وفصلا لها من الجانب الآخر وقطعا للإبهام.

التقدير مقدّم على القضاء

إذا كان التقدير بمعنى تحديد وجود الشيء ، والحد ما يتحدّد به الشيء فهو مقدّم على القضاء بمعنى ضرورة وجوده ، لأنّ الشيء انّما يتحدّد ، بكل جزء من أجزاء العلّة فإنّ كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدته. فحيث إنّ أجزاء العلّة

__________________

(١). عبس : ١٩ ـ ٢٠.

تتحقّق قبل تمامها ، وكل جزء منها يؤثر أثره في محيطه ، ويكون أثره تحديد الموجود وصبغه ، يجب أن يكون التقدير مقدّما على القضاء ، فصانع الطائرة يهيّئ لمصنوعه قطعا وأجزاء صناعية مختلفة ، كل منها من صنع مصنع ، ثم يركّب هذه الأجزاء بعضها مع بعض ، فيصل إلى حد القضاء ، فتكون طائرة تحلّق في السماء.

ومثله الثوب المخيط ، فإنّ هناك عوامل مختلفة تعطيه صورة واحدة ، مثل تفصيل القميص ، والخياطة الخاصة ، وغير ذلك من الخصائص التي تحدّد الثوب قبل وجود العلّة التامة.

وفي ضوء هذا البيان يمكن أن يقال : إذا كان الشيء موجودا ماديا ، وكانت علّته علّة مركّبة من أجزاء ، فتقديره مقدّم على قضائه ، حيث إنّ تأثير الجزء مقدّم على تأثير الكل. وأمّا الموجودات المجرّدة المتحقّقة بعلّة بسيطة ، فالتقدير والقضاء العينيان فيها يكونان في آن واحد ، فإنّ الخلق والإيجاد ، الذي هو ظرف القضاء ، هو نفس ظرف التقدير والتحديد.

وبهذا يتضح سر تأكيد الإمام عليه‌السلام على تقدم القدر على القضاء.

روى البرقي في «المحاسن» بسنده عن هشام بن سالم قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنّ الله إذا أراد شيئا قدّره ، فإذا قدّره قضاه ، فإذا قضاه أمضاه» (١).

تقسيم فعل الإنسان إلى قسمين

إن أفعال الإنسان على قسمين قسم منه يصدر عن اضطرار ، وقسم منه يصدر عن اختيار ، فالمقدّر والمقضيّ في الأوّل الصدور الاضطراري ، وفي الثاني الصدور الاختياري.

حتى أنّ المقدّر من الأفعال في ليلة القدر ، حسب قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) (٢) هو الفعل بماله ميز.

نعم الإنسان يعيش في عالم مليئ بالحوادث والظواهر المفروضة عليه ، ولكن ما فرضت عليه من الحوادث ليس ملاكا للحسن والقبح ، والثواب والعقاب ، وما هو كذلك ، فالكل فعل اختياري له.

__________________

(١). المحاسن : ٢٤٣ ـ ٢٤٤. ورواه المجلسي في البحار ٥ / ١٢١ ، الحديث ٦٤.

(٢). الدخان : ٣ ـ ٤.

بقي الكلام في أخبار الطينة ، فقد كفانا في ذلك ما حقّقه السيد الجليل شبر في كتاب «مصابيح الأنوار في مشكلات الأخبار» فراجعه. وما حققه سيدنا الاستاد في هذا المقام (١).

قال المحاضر بلغ الكلام إلى هنا ولاح بدر تمامه ليلة الخميس ، ليلة الخامس والعشرين من ذي الحجة الحرام من شهور عام ١٤١٥ ه‍.

ويقول المحقّق : تم اعداده وتنسيقه بيد المحتاج إلى عفو ربّه وغفرانه ، سعيد بن العلّامة الحجة المحاضر جعفر السبحاني مدّ ظلّه في دار المؤمنين ، عش آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قم المحمية.

__________________

(١). لاحظ «لبّ الأثر» بقلم شيخنا الوالد تقريرا لدرس الامام قدس سرّه. ص ١١١ من هذه المجموعة.

المحتويات

كلمة المؤلّف................................................................. ١٢٩

المسائل المهمة في حياة الإنسان................................................. ١٣١

مناهج الجبر الثلاثة............................................................ ١٣٢

مناهج التفويض.............................................................. ١٣٣

الفصل الأوّل

في مناهج الجبر

الجبر الأشعري ودليله الأوّل : أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه........................ ١٣٧

تحليل ما استدل به الاشعري من الآيتين.......................................... ١٤١

فعل واحد ينسب إلى الله وإلى العبد............................................. ١٤٤

القول بالكسب غير ناجح..................................................... ١٤٧

الدليل الثاني للأشعري : تعلق علمه الأزلي بأفعال العباد............................ ١٤٩

نقد هذا الدليل............................................................... ١٥٠

إجابة أخرى عن هذا الدليل بأنّ العلم تابع....................................... ١٥٤

نقد هذه الاجابة.............................................................. ١٥٥

الدليل الثالث للأشعري : تعلق ارادته بافعال العباد................................ ١٥٧

الشعار المائز بين الاشاعرة والمعتزلة............................................... ١٥٨

تفسير إرادته سبحانه.......................................................... ١٥٩

سعة إرادته سبحانه عقلا ونقلا................................................. ١٦٠

سعة إرادته لا تستلزم الجبر..................................................... ١٦٢

تفسير قوله سبحانه وما الله يريد ظلما للعباد...................................... ١٦٤

الدليل الرابع للأشعري : قدرة العبد غير مؤثرة في الايجاد............................ ١٦٩

نقد هذا الدليل............................................................... ١٧١

الجبر الفلسفي ودليله الأوّل : الوجود يلازم الوجوب............................... ١٧٧

تفسير قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد)....................................... ١٧٨

الجبر الفلسفي ودليله الثاني : الإرادة ليست اختيارية............................... ١٨٣

نقد هذا الدليل............................................................... ١٨٥

إجابة العلّامة الطباطبائي على هذا الاستدلال وتحليله.............................. ١٨٧

إجابة المحقّق النائيني على هذا الاستدلال وتحليله................................... ١٨٨

إجابة سيدنا الاستاذ الإمام الخميني عن هذا الاستدلال............................ ١٩٢

إكمال البحث............................................................... ١٩٥

الجبر المادي ومثلث الشخصية.................................................. ٢٠٢

الأبعاد الروحية المختلفة للإنسان................................................ ٢٠٧

الفصل الثاني

في مناهج الاختيار

الاختيار المعتزلي (التفويض).................................................... ٢١٣

دليل التفويض : حاجة الممكن إلى العلة في حدوثه لا في بقائه ونقد هذا الدليل....... ٢١٥

مناط الحاجة إلى الواجب هو الإمكان لا الحدوث................................. ٢١٦

تمثيلان لإيضاح الحقيقة........................................................ ٢٢٣

الاختيار لدى الوجوديين....................................................... ٢٢٥

الخلط بين الماهية العامّة والخاصّة................................................. ٢٢٧

مميزات الأمور الفطرية.......................................................... ٢٢٩

الاختيار الإمامي (الأمر بين الأمرين)............................................ ٢٣٤

الإمكان في الوجود غير الإمكان في الماهية........................................ ٢٣٧

النظام العلّي والمعلولي.......................................................... ٢٣٩

بيان كيفية نسبة الفعل إلى الله وإلى العبد......................................... ٢٤١

تمثيل للمحقّق الخوئي للنظريات الثلاث.......................................... ٢٤١

تمثيل لصدر المتألّهين في بيان الأمر بين الأمرين.................................... ٢٤٦

الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز.............................................. ٢٤٩

الأمر بين الأمرين في السنّة..................................................... ٢٥٣

رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين........................................ ٢٥٥

اعتراف الشيخ الازهر بصحة هذه النظرية........................................ ٢٥٦

الفصل الثالث

شبهات وحلول

الشبهة الأولى : الهداية والضلالة بيد الله......................................... ٢٦٣

الهداية العامّة................................................................. ٢٦٥

الهداية الخاصّة................................................................ ٢٧٠

الضلالة هي انقطاع الهداية الخاصّة.............................................. ٢٧٣

الشبهة الثانية : هل الحسنة والسيئة من الله أو من................................. ٢٧٦

العبد نقد هذه الشبهة......................................................... ٢٧٧

الشبهة الثالثة : ما معنى السعادة والشقاء الذاتيين................................. ٢٨٣

تفاسير مختلفة للسعادة والشقاء.................................................. ٢٨٧

تحرير فلسفي لردّ ذاتية الشقاء.................................................. ٢٨٩

الشبهة الرابعة : القضاء والقدر................................................. ٢٩١

مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنة........................................ ٢٩٤

تفسير القضاء والقدر.......................................................... ٢٩٥

القضاء والقدر العلميّان (الكليّان)............................................... ٢٩٦

القضاء والقدر العلميّان الجزئيان................................................. ٣٠٢

القضاء والقدر العينيان......................................................... ٣٠٤

التقدير مقدّم على القضاء...................................................... ٣٠٥

تقسيم فعل الإنسان إلى قسمين................................................ ٣٠٩

المحتويات..................................................................... ٣١١

والحمد لله رب العالمين

لبّ الأثر في الجبر والقدر

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني
الصفحات: 315
ISBN: 964-6243-27-4
  • كلمة المحقّق 3
  • مقدمة المؤلف 5
  • الفصل الأول
  • السير التاريخي للمسألة 9
  • صفاته سبحانه عين ذاته 10
  • تفسير إرادته الذاتية 15
  • شبهة نفاة الإرادة الذاتيّة 17
  • تكلّمه سبحانه وتفسيره 20
  • نظرية الأشاعرة في تكلّمه 24
  • أدلّة الأشاعرة على وجود الكلام النفسي 26
  • الدليل الثاني للأشاعرة في الكلام النفسي 31
  • الفصل الثاني
  • مباني الجبر والتفويض وإبطالهما 37
  • إبطال التفويض 40
  • الكلام في إبطال الجبر في ضمن أصول 46
  • الأصل الأوّل بساطة الوجود 47
  • وحدة حقيقة الوجود 48
  • البرهان الثاني لإبطال الجبر 50
  • البرهان الثالث لإبطال الجبر 52
  • البرهان الرابع لإبطال الجبر 54
  • الفصل الثالث
  • مذهب الأمر بين الأمرين 57
  • الحسنة والسيئة من الله 60
  • إيضاح الأمر بين الأمرين بتمثيلين 64
  • التمثيل الأوّل 64
  • التمثيل الثاني 65
  • في صحة نسبة الفعل إلي فاعلين 67
  • الفصل الرابع
  • شبهات وحلول 73
  • الشبهة الأولى : الإرادة ليست اختيارية 73
  • جواب المحقّق الداماد عن الشبهة 74
  • جواب صدر المتألّهين عن الشبهة 77
  • جواب المحقّق الخراساني والحائري 79
  • جواب الإمام الخميني 82
  • الشبهة الثانية 85
  • الإجابة عن الشبهة 86
  • الأولوية غير كافية في الإيجاد 87
  • الشبهة الثالثة : تعلّق علمه بأفعال العباد 92
  • الجواب عن الشبهة 94
  • الشبهة الرابعة : السعادة والشقاء الذاتيان 97
  • تفسير الذاتي وبيان أقسامه 98
  • الوجود هو أصل الكمال ومبدؤه 103
  • أقسام السعادة والشقاء 105
  • الفصل الخامس
  • أخبار الطينة وتفسيرها 111
  • إمساك الفيض قبيح 112
  • اختلاف الناس في النفس المفاضة 113
  • الأسباب المؤثرة في صفاء النفس وكدرها 114
  • تفسير قوله : «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» 117
  • تفسير قوله : «السعيد سعيد في بطن أمّه» 118
  • كلمة للعرفاء الشامخين 119
  • الفطرة الأولى : الإنسان والعشق للكمال 120
  • الفطرة الثانية : كراهة النقص 121
  • المحتويات 123
  • كلمة المؤلّف 129
  • المسائل المهمة في حياة الإنسان 131
  • مناهج الجبر الثلاثة 132
  • مناهج التفويض 133
  • الفصل الأوّل
  • في مناهج الجبر
  • الجبر الأشعري ودليله الأوّل : أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه 137
  • تحليل ما استدل به الاشعري من الآيتين 141
  • فعل واحد ينسب إلى الله وإلى العبد 144
  • القول بالكسب غير ناجح 147
  • الدليل الثاني للأشعري : تعلق علمه الأزلي بأفعال العباد 149
  • نقد هذا الدليل 150
  • إجابة أخرى عن هذا الدليل بأنّ العلم تابع 154
  • نقد هذه الاجابة 155
  • الدليل الثالث للأشعري : تعلق ارادته بافعال العباد 157
  • الشعار المائز بين الاشاعرة والمعتزلة 158
  • تفسير إرادته سبحانه 159
  • سعة إرادته سبحانه عقلا ونقلا 160
  • سعة إرادته لا تستلزم الجبر 162
  • تفسير قوله سبحانه وما الله يريد ظلما للعباد 164
  • الدليل الرابع للأشعري : قدرة العبد غير مؤثرة في الايجاد 169
  • نقد هذا الدليل 171
  • الجبر الفلسفي ودليله الأوّل : الوجود يلازم الوجوب 177
  • تفسير قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد) 178
  • الجبر الفلسفي ودليله الثاني : الإرادة ليست اختيارية 183
  • نقد هذا الدليل 185
  • إجابة العلّامة الطباطبائي على هذا الاستدلال وتحليله 187
  • إجابة المحقّق النائيني على هذا الاستدلال وتحليله 188
  • إجابة سيدنا الاستاذ الإمام الخميني عن هذا الاستدلال 192
  • إكمال البحث 195
  • الجبر المادي ومثلث الشخصية 202
  • الأبعاد الروحية المختلفة للإنسان 207
  • الفصل الثاني
  • في مناهج الاختيار
  • الاختيار المعتزلي (التفويض) 213
  • دليل التفويض : حاجة الممكن إلى العلة في حدوثه لا في بقائه ونقد هذا الدليل 215
  • مناط الحاجة إلى الواجب هو الإمكان لا الحدوث 216
  • تمثيلان لإيضاح الحقيقة 223
  • الاختيار لدى الوجوديين 225
  • الخلط بين الماهية العامّة والخاصّة 227
  • مميزات الأمور الفطرية 229
  • الاختيار الإمامي (الأمر بين الأمرين) 234
  • الإمكان في الوجود غير الإمكان في الماهية 237
  • النظام العلّي والمعلولي 239
  • بيان كيفية نسبة الفعل إلى الله وإلى العبد 241
  • تمثيل للمحقّق الخوئي للنظريات الثلاث 241
  • تمثيل لصدر المتألّهين في بيان الأمر بين الأمرين 246
  • الأمر بين الأمرين في الكتاب العزيز 249
  • الأمر بين الأمرين في السنّة 253
  • رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين 255
  • اعتراف الشيخ الازهر بصحة هذه النظرية 256
  • الفصل الثالث
  • شبهات وحلول
  • الشبهة الأولى : الهداية والضلالة بيد الله 263
  • الهداية العامّة 265
  • الهداية الخاصّة 270
  • الضلالة هي انقطاع الهداية الخاصّة 273
  • الشبهة الثانية : هل الحسنة والسيئة من الله أو من 276
  • العبد نقد هذه الشبهة 277
  • الشبهة الثالثة : ما معنى السعادة والشقاء الذاتيين 283
  • تفاسير مختلفة للسعادة والشقاء 287
  • تحرير فلسفي لردّ ذاتية الشقاء 289
  • الشبهة الرابعة : القضاء والقدر 291
  • مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنة 294
  • تفسير القضاء والقدر 295
  • القضاء والقدر العلميّان (الكليّان) 296
  • القضاء والقدر العلميّان الجزئيان 302
  • القضاء والقدر العينيان 304
  • التقدير مقدّم على القضاء 305
  • تقسيم فعل الإنسان إلى قسمين 309
  • المحتويات 311