السمعيات

(قال : المقصد السادس)

في السمعيات وفيه فصول.

أربعة مباحث : النبوة ، ومباحث المعاد ، ومباحث الأسماء والأحكام وما يلائمها ، ومباحث الإمامة.

(قوله : الفصل الأول في النبوة (١) وفيه مباحث).

وهو كون الإنسان مبعوثا من الحق إلى الخلق. فإن كان النبي مأخوذا من النباوة وهو الارتفاع لعلو شأنه واشتهار مكانه ، أو من النبي بمعنى الطريق لكونه وسيلة إلى الحق تعالى ، فالنبوة على الأصل كالأبوة ، وإن كان من النبأ وهو الخبر لإنبائه عن الله تعالى فعلى قلب الهمزة واوا ثم الإدغام كالمروة.

(قوله : المبحث الأول).

النبي إنسان بعثه الله لتبليغ ما أوحى إليه ، وكذا الرسول ، وقد يخص بمن (خص بشريعة وكتاب ، والبعثة لمتضمنها مصالح لا تحصى لطف من الله تعالى ، ورحمة يختص بها من يشاء من عباده من غير وجوب عليه خلافا للمعتزلة ولا عنه خلافا للحكماء وبعض المتكلمين ذهابا إلى ان مقتضى الحكمة يجب ان يقع

__________________

(١) قال الشريف الجرجاني : النبي من أوحى إليه بملك أو ألهم في قلبه أو نبه بالرؤيا الصالحة فالرسول أفضل بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة ، لأن الرسول : هو من أوحى إليه جبريل خاصة بتنزل الكتاب من الله تعالى.

لامتناع السفه كالمعلوم وقوعه لامتناع الجهل.)

الرسول :

له شريعة وكتاب فيكون أخص من النبي ، واعترض بما ورد في الحديث من زيادة عدد الرسل على عدد الكتب ، فقيل : هو من له كتاب أو نسخ لبعض أحكام الشريعة السابقة ، والنبي قد يخلو عن ذلك كيوشع (عليه‌السلام) ، وفي كلام بعض المعتزلة أن الرسول صاحب الوحي بواسطة الملك ، والنبي هو المخبر عن الله تعالى بكتاب أو إلهام أو تنبيه في المنام ، ثم البعثة لطف من الله تعالى ورحمة للعالمين لما فيها من حكم ومصالح لا تحصى منها معارضة العقل فيما يستقل بمعرفته مثل وجود الباري ، وعلمه ، وقدرته (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١) ومنها استفادة الحكم (٢) من النبي فيما لا يستقل به العقل مثل الكلام والرؤية ، والمعاد الجسماني ، ومنها إزالة الخوف الحاصل عند الإتيان بالحسنات لكونه تصرفا في ملك الله بغير إذنه ، وعند تركها لكونه ترك طاعة ، ومنها بيان حال الأفعال التي تحسن تارة وتقبح أخرى من غير اهتداء العقل إلى مواقعها ، ومنها بيان منافع الأغذية والأدوية ومضارها التي لا تفي بها التجربة (٣) إلا بعد أدوار وأطوار مع ما فيها من الأخطار ، ومنها تكميل النفوس البشرية بحسب استعداداتهم المختلفة في العلميات والعمليات. ومنها تعليم الصنائع الخفية (٤) من الخاصيات والضروريات ، ومنها تعليمهم الأخلاق الفاضلة الراجعة إلى الأشخاص والسياسات الكاملة العائدة إلى الجماعات من المنازل والمدن ، ومنها الإخبار بتفاصيل ثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، ترغيبا في الحسنات ، وتحذيرا عن السيئات إلى غير ذلك من الفوائد. فلهذا قالت المعتزلة بوجوبها على الله تعالى ، والفلاسفة بلزومها في حفظ نظام العالم على ما سيجيء ، والحاصل أن النظام المؤدي إلى صلاح حال النوع على العموم في المعاش والمعاد لا يتكمل إلا ببعثة

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٦٥

(٢) في (ب) الأحكام بدلا من (الحكم)

(٣) في (ب) بزيادة كلمة (الشخصية).

(٤) سقط من (ب) لفظ (الخفية)

الأنبياء ، فيجب على الله تعالى عند المعتزلة لكونه لطفا وصلاحا للعباد ، وعند الفلاسفة لكونه سببا للخير العام المستحيل تركه في الحكمة (١) والعناية الإلهية ، وإلى هذا ذهب جمع من المتكلمين بما وراء النهي ، وقالوا : إنها من مقتضيات حكمة الباري (عزوجل) فيستحيل ان لا يوجد لاستحالة السفه عليه. كما أن ما علم الله وقوعه يجب أن يقع لاستحالة الجهل عليه ، ثم طولوا في ذلك وعولوا على ضروب من الاستدلال مرجعها إلى ما ذكرنا من لزوم السفه والعبث كما في خلق الأغذية ، والأدوية التي لا تتميز عن السموم المهلكة إلا بتجارب لا يتجاسر عليها العقلاء ، ولا يفي بها الأعمار ، وخلق الأبدان التي ليس لها بدون الغذاء إلا الفناء ، وخلق نوع الإنسان المفتقر في البقاء إلى اجتماع لا ينتظم بدون بعثة الأنبياء ، وكخلق العقل المائل إلى المحاسن ، النافر عن القبائح ، الجازم بأن شرفه وكماله في العلم بتفاصيل ذلك ، والعمل بمقتضياتها من الامتثال والاجتناب ، وأنه لا يستقل بجميع ذلك على التفصيل ، بل يفتقر إلى بيان ممن أوجدها ودعا إلى الإتيان بالبعض منها ، والانتهاء عن البعض كالمجمل من الخطاب ، فإن خلق العقل مائلا إلى المحاسن ، نافرا عن القبائح بمنزلة الخطاب في كونه دليلا على الأمر والنهي اللذين هما من الصفات القائمة بذاته تعالى ، إذ لا معنى لهما سوى الدعوة إلى المباشرة والامتناع ، وكما في جعل بعض الأفعال بحيث قد يحمد عاقبته ، فيجب. وقد يذم ، فيحرم ، كالصوم مثلا ، فلو لم يكن له بيان من الشارع لكان في ذلك إباحة ترك الواجب ، وإباحة مباشرة المحظور وهو خارج عن الحكمة ، فظهر بهذه الوجوه ، وأمثالها أنه لا بد من النبي البتة (٢) ، ولهذا كان في كل عصر للعقلاء نبي أو من يخلفه في إقامة الدليل السمعي ، وكان الغالب على المتمسكين بالشرائع سلوك

__________________

(١) الحكمة : علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية فهي علم نظري غير آلي ، والحكمة أيضا هي هيئة القوة العقلية العلمية المتوسطة بين الغريزة التي هي إفراط هذه القوة ، والبلادة التي هي تفريطها. والحكمة : تجيء على ثلاثة معان. الأول الإيجاد ، والثاني العلم. والثالث الأفعال المثلثة كالشمس والقمر وغيرهما وقد فسر ابن عباس ـ رضي الله عنهما الحكمة في القرآن بتعلم الحلال والحرام ، وقيل : الحكمة فى اللغة : العلم مع العمل وقيل الحكمة يستفاد منها ما هو الحق في نفس الأمر بحسب طاقة الإنسان ، وقيل كل كلام وافق الحق فهو حكمة.

(٢) قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) وقال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

طريق الحق وسبيل النجاة والرشاد مع اشتغالهم باكتساب أسباب المعاش ، وخلو أكثرهم عن صناعة النظر وحذاقة الذهن ، وعلى الفلاسفة المتشبثين بأذيال العقل العدول عن الصواب والوقوع في الضلال مع رجاحة عقولهم ، ودقة أنظارهم ، وإقبالهم بالكلية على البحث عن المعارف الإلهية والعلوم اليقينية ، وأنت خبير بأن في ترويج أمثال هذا المقال توسيع مجال الاعتزال ، فإنهم لا يعنون بالوجوب على الله تعالى سوى أن تركه لقبحه مخل بالحكمة ، ومظنة لاستحقاق المذمة ، فالحق أن البعثة لطف من الله تعالى ورحمة يحسن فعلها ولا يقبح تركها على ما هو المذهب في سائر الألطاف ، ولا تبتنى على استحقاق من المبعوث واجتماع أسباب وشروط فيه ، بل الله تعالى يختص برحمته من يشاء من عباده وهو (١) (أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

قال : وللمنكرين.

(شبه إحداها : أنها تتوقف على علم المبعوث بأن الباعث هو الله تعالى ، ولا سبيل إليه ، ورد بجواز نصب الأدلة ، أو خلق العلم الضروري ..

الثاني : أنها عبث ، لأن ما حسن عقلا يفعل ، وما قبح يترك ، وما لم يحسن ولا يقبح يفعل حسب المصلحة ، ورد بأنها تعاضد العقل فيما يستقل ، وتعاونه فيما لا يستقل ، وتدفع الاحتمال فيما يظن ، وتكون الطريق فيما لا يدرك مع أن التفويض إلى العقول المتفاوتة مظنة اختلال النظام.

الثالث : أن مبناها على التكليف بما لا ينتفع به العبد لتضرره ، ولا المعبود لتعاليه مع ما فيه من شغل السر عن التوجه التام ، ورد بأن نفعه جدا غالب.

الرابع : ان في الشرائع ما يشعر بأنها ليست من عند الله كأفعال الصلاة ، والحج ، والوضوء ، والغسل ، وغير ذلك من الأمور الخارجة عن قانون العقل (٢) ، ورد بأنها

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ١٢٤ وتكملة الآية (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ).

(٢) العقل : جوهر مجرد عن المادة في ذاته مقارن لها في فعله وهي النفس الناطقة التي يشير إليها كل ـ

ابتلاء وتأكيد لملكة الامتثال عند الظاهريين ، وحكم وأسرار خفية ظاهرة على المحققين.

الخامس : القدح في المعجزة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى).

المنكرون للنبوة منهم من قال باستحالتها ، ولا اعتداد بهم ، ومنهم من قال بعدم الاحتياج إليها كالبراهمة (جمع من الهند أصحاب برهام) ومنهم من لزم ذلك من عقائدهم كالفلاسفة النافين لاختيار الباري وعلمه بالجزئيات ، وظهور الملك على البشر ، ونزوله من السموات ، ومنهم من لاح ذلك من على أفعاله وأقواله كالمصرين على الخلاعة وعدم المبالاة ، وفي التكاليف ، ودلالة المعجزات ، وهؤلاء آحاد أوباش من الطوائف ، لا طائفة معينة يكون لها ملة ونحلة. وبالجملة للمنكرين شبه :

الأولى : أن البعثة تتوقف على علم المبعوث بأن الباعث هو الله تعالى ، ولا سبيل إلى ذلك ، والجواب المنع لجواز أن ينصب دليلا له أو يخلق علما ضروريا فيه.

الثانية : وهي للبراهمة أن ما جاء به النبي إما أن يكون موافقا للعقل حسنا عنده ، فيقبل ويفعل ، وإن لم يكن نبيا أو مخالفا له قبيحا عنده فيرد ويترك ، وإن جاء به النبي وأيا ما كان لا حاجة إليه ، فإن قيل : لعله لا يكون حسنا عند العقل ، ولا قبيحا ، قلنا : فيفعل عند الحاجة لأن مجرد الاحتمال لا يعارض تنجز الاحتياج ، ويترك عند عدمها للاحتياط ، والجواب : أن ما يوافق العقل قد يستقل بمعرفته فيعاضده النبي ويؤكده. بمنزلة الأدلة العقلية على مدلول واحد. وقد لا يستقل ، فيدله عليه ويرشده ، وما يخالف العقل قد لا يكون مع الجزم فيدفعه النبي أو يرفع عنه الاحتمال ، وما لا يدرك حسنه ولا قبحه قد يكون حسنا يجب فعله أو قبيحا يجب تركه ، هذا مع أن العقول متفاوتة ، فالتفويض إليها مظنة التنازع والتقاتل ومفض إلى اختلال النظام ، وأن فوائد البعثة لا تنحصر في بيان حسن الأشياء وقبحها على ما تقدم.

__________________

ـ أحد بقوله : أنا ، وقيل العقل : جوهر روحاني خلقه الله تعالى متعلقا بالبدن ، وقيل العقل نور في القلب يعرف الحق والباطل ، وقيل العقل : جوهر مجرد عن المادة يتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وقيل العقل. قوة النفس الناطقة ، والله أعلم.

الثالثة : أن العمدة في باب البعثة هي التكليف ، وهو عبث لا يليق بالحكيم ، إذ لا يشتمل على فائدة للعبد لكونه في حقه مضرة ناجزة ومشقة ظاهرة ، ولا للمعبود لتعاليه عن الاستفادة والانتفاع ، وأيضا فيه شغل للقلب عما هو غاية الأعمال ونهاية الكمال ، أعني الاستغراق في معرفته ، والغناء في عظمته ، والجواب : أن مضاره الناجزة قليلة جدا بالنسبة إلى منافعها الدنيوية والأخروية الظاهرة لدى الواقفين على ظواهر الشريعة النبوية فضلا عن الكاشفين عن أسرارها الخفية ، وإذا تأملتم فالتكليف صرف إلى ما ذكرتم لا شغل عنه على ما توهمتم.

الرابعة : وهي لأهل الخلاعة المنهمكين في اتباع الهوى وترك الطاعة أنا نجد الشرائع مشتملة على أفعال وهيئات لا يشك في أن الصانع الحكيم لا يعتبرها ولا يأمر بها كما نشاهد في الحج ، والصلاة ، وكغسل بعض الأعضاء لتلوث بعض آخر ، إلى غير ذلك من الأمور الخارجة عن قانون العقل ، والجواب : أنها أمور تعبدية اعتبرها الشارع ابتلاء للمكلفين ، وتطويعا لنفوسهم وتأكيدا لملكة (١) امتثالهم الأوامر والنواهي. ولعل فيها حكما ومصالح لا يعلمها (إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (٢) وقد أشار إليها بعض الخائضين في بحار أسرار الشريعة.

الخامسة : القدح في ثبوت المعجزة ووجه دلالتها ونقلها سيأتي بأجوبتها.

__________________

(١) الملكة : هي صفة راسخة في النفس ، وتحقيقه أنه تحصل للنفس هيئة بسبب فعل من الأفعال ، ويقال لتلك الهيئة كيفية نفسانية وتسمى حالة ما دامت سريعة الزوال فإذا تكررت ومارستها النفس حتى رسخت تلك الكيفية فيها وصارت بطيئة الزوال فتصير ملكة ، وبالقياس إلى ذلك الفعل عادة وخلقا.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ٧ وتكملة الآية (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

قال : المبحث الثاني المعجزة :

(أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي وعدم المعارضة ، وقيل : أمر قصد به إظهار صدق من ادعى النبوة والرسالة ، وزاد بعضهم قيد موافقة الدعوى. وبعضهم مقارنة زمن التكليف إذ عند انقراضه تظهر الخوارق ، لا لقصد التصديق).

مأخوذ من العجز المقابل للقدرة ، وحقيقة الإعجاز إثبات العجز استعير لإظهاره ، ثم أسند مجازا إلى ما هو سبب العجز ، وجعل اسما له ، فالتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية ، كما في الحقيقة وقيل للمبالغة كما في العلامة. وذكر إمام الحرمين بناء على رأي الأشعري (١) أن هاهنا تجوزا آخر ، هو استعمال العجز في عدم القدرة كالجهل في عدم العلم ، وهو في الحقيقة ضد للقدرة ، وإنما يتعلق بالموجود ، وبما يقدر عليه ، حتى إن عجز الزمن إنما هو عن القعود ، بمعنى أنه وجد منه اضطرارا لا اختيارا. فلو تحقق العجز عن المعارضة ، لوجبت المعارضة الاضطرارية ، والمعجزة في العرف أمر خارق للعادة ، مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة ، وإنما قال : أمر ليتناول الفعل كانفجار الماء من بين الأصابع وعدمه ، كعدم إحراق النار ، ومن اقتصر على الفعل ، جعل المعجز هاهنا كون النار (بَرْداً وَسَلاماً) (٢) وبقاء الجسم على ما كان عليه من غير احتراق ، واحترز بقيد المقارنة للتحدي عن كرامات الأولياء والعلامات الإرهاصية التي تتقدم بعثة الأنبياء ، وعن أن يتخذ الكاذب معجزة من مضى من الأنبياء حجة لنفسه ، وبقيد عدم المعارضة عن السحر والشعبذة ، كذا ذكره الإمام الرازي (٣) ، وفيه نظر :

__________________

(١) له ترجمة وافية في هذا الجزء.

(٢) سورة الأنبياء آية رقم ٦٩.

(٣) هو محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين أبو عبد الله ، فخر الدين الرازي ، الإمام المفسر ، أوحد زمانه في المعقول والمنقول وعلوم الأوائل ، وهو قرشي النسب أصله من طبرستان ومولده في الرى عام ٥٤٤ ه‍ ـ ويقال له «ابن خطيب الري» رحل إلى خوارزم وما وراء النهر وخراسان وتوفي في هراه ـ

أما أولا : فلأنه لا بد من قيد الظهور على يد المدعي ، ومن جهته احترازا عن أن يتخذ الكاذب معجزة من يعاصره من الأنبياء حجة لنفسه ، وعن ان يقول : معجزتي ما ظهر مني في السنين الماضية ، فقد صرحوا بأنه لا عبرة بذلك ، ومن قيد الموافقة للدعوى احترازا عما إذا قال : معجزتي نطق هذا الجماد. فنطق بأنه مفتر كذاب. ولهذا قال الشيخ أبو الحسن : هي فعل من الله تعالى ، أو قائم مقام الفعل. يقصد بمثله التصديق ، وقال بعض الأصحاب : هي أمر قصد به إظهار صدق من ادعى الرسالة.

وأما ثانيا : فلأن القوم عدوا من المعجزات ما هو متقدم غير مقرون بالتحدي ، ولا مقصود به إظهار الصدق لعدم الدعوى حينئذ ، كإظلال الغمام ، وتسليم الحجر والمدر ، ونحو ذلك.

وأما ثالثا : فلأن المعجزة قد تتأخر عن التحدي ، كما إذا قال : معجزتي ما يظهر مني يوم كذا ، فظهرت.

ويمكن الجواب عن الأول بأن ذكر التحدي مشعر بالقيدين. فإن معناه طلب المعارضة فيما جعله شاهدا لدعوته ، وتعجيز الغير عن الإتيان بمثل ما أبداه. تقول : تحديت فلانا إذا باريته الفعل ، ونازعته الغلبة ، وتحديته القراءة أينا أقرأ. وبالتحدي يحصل ربط الدعوى بالمعجزة حتى لو ظهرت آية من شخص وهو ساكت لم يكن معجزة. وكذا لو ادعى الرسالة ، فظهرت الآية من غير إشعار منه بالتحدي. قالوا : ويكفي في التحدي أن يقول : آية صدقي أن يكون كذا وكذا. ولا يحتاج إلى أن يقول : هذه آيتي ولا يأتي أحد بمثلها ، فعلى هذا لا تكون معجزة نبي ماض ، ولا معاصر معجزة للغير.

وعن الثاني أن عد الإرهاصات من جملة المعجزات إنما هو على سبيل

__________________

ـ عام ٦٠٦ ه‍ أقبل الناس على كتبه في حياته يتدارسونها ، وكان يحسن الفارسية من تصانيفه مفاتيح الغيب ، ولوامع البينات في شرح أسماء الله الحسنى ، والصفات ، ومعالم أصول الدين ، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين. وغير ذلك كثير. راجع طبقات الأطباء ٢ : ٢٣ والوفيات ١ : ٤٧٤

التغليب والتشبيه ، والمحققون على أن خوارق العادات المتعلقة ببعثة النبي إذا كانت متقدمة. فإن ظهرت منه. فإن شاعت ، وكان هو مظنة البعثة كما في حق نبينا (عليه‌السلام) حيث أخبر بذلك بعض أهل الكتاب والكهنة. فإرهاص (١) أي تأسيس لقاعدة البعثة ، وإلا فكرامة محضة ، وإن ظهرت من غيره ، فإن كان من الأخيار ، فكذلك أي إرهاص أو كرامة، وإلا فإرهاص محض كظهور النور في جبين عبد الله ، أو ابتلاء كما إذا ظهرت على يد من ادعى الألوهية. فإن الأدلة القطعية قائمة على كذبه بخلاف مدعي النبوة. فلهذا جوزوا إظهارها على يد المتأله دون المتنبي.

وعن الثالث أن المتأخر ، إن كان بزمان يسير يعد مثله في العرف مقارنا ، فلا إشكال ، وإن كان بزمان متطاول فالمعجزة عند من شرط المقارنة هو ذلك القول المقارن ، فإنه إخبار بالغيب ، لكن العلم بإعجازه تراخى إلى وقت وقوع ذلك الأمر ، ومن جعل المعجزة نفس ذلك الأمر ، فهو لا يشترط المقارنة ، وعلى التقديرين لا يصح من ذلك النبي تكليف الناس بالتزام الشرع ناجزا لانتفاء المعجزة أو العلم بها. لكن لو بين الأحكام وعلق التزامها بوقوع ذلك الأمر ، صح عند الإمام ، ولم يصح عند القاضي ، ثم المراد بعدم المعارضة أن لا يظهر مثله ممن ليس بنبي ، وأما من نبي آخر ، فلا امتناع ، وزاد بعضهم في تفسير المعجزة قيدا آخر ، وهو أن يكون في زمان التكليف ، لأن ما يقع في الآخرة من الخوارق ليست بمعجزة ، ولأن ما يظهر عند ظهور أشراط الساعة وانتهاء التكاليف لا يشهد بصدق الدعوى (٢) لكونه زمان نقض العادات وتغير الرسوم.

قال : وأما إمكانها فضروري

(وكذا إمكان نقلها إلى الغائبين ، وأما وجه دلالتها فهو أنها بمنزلة صريح (٣)

__________________

(١) الإرهاص : ما يظهر من الخوارق عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قبل ظهوره كالنور الذي كان في جبين آباء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : إحداث أمر خارق للعادة دال على بعثة نبي قبل بعثته وقيل : هو ما يصدر عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوة من أمر خارق للعادة ، قيل إنها من قبيل الكرامات ، فإن الأنبياء قبل النبوة لا يقصرون عن درجة الأولياء.

(٢) في (ب) لدعوى بدلا من (الدعوى)

(٣) سقط من (ب) لفظ (صريح)

التصديق ، كما إذا ادعى أحد أنه رسول هذا الملك فطولب بالحجة ، فقال : أن يخالف الملك عادته ويقوم عن سريره ثلاث مرات. ففعل. وهذا توضيح بالمثال لاستدلال بقياس الغائب على الشاهد. فإن قيل : هاهنا أنواع احتمالات لا يثبت معها المقصود ..

الأول أن يستند ذلك الأمر إلى المدعي لخاصية في نفسه ، أو مزاج في بدنه ، أو اطلاع منه على بعض الخواص (١) ، أو الأوضاع الفلكية ، أو إلى ملك أو جني ، أو غير ذلك.

الثاني : أن يكون ابتداء عادة أو تكريرا بما لا يكون إلا بعد دهور ..

الثالث : أن يكون مما يعارض ، ولم يعارض لغرض ، أو عورض ولم ينقل لمانع.

الرابع : أن لا يكون لغرض التصديق ، إما لانتفاء الغرض ، أو لثبوت غرض آخر ، كلطف المكلف (٢) ، أو إجابة لدعوة ، أو معجزة لنبي آخر ، أو ابتلاء للعباد ، أو إضلال لهم ، ويعد كونه بمنزلة صريح القول بأنك صادق ، فإنما يفيد إذا استحال الكذب في إخباره ، وما ذلك إلا بالسمع.

فالجواب إجمالا أن الاحتمالات العقلية لا تنافي حصول العلم القطعي (٣) كما في سائر العاديات ، وتفصيلا :

أولا بأنا بينا أن لا مؤثر سيما في مثل هذه الغرائب إلا الله تعالى على أن مجرد التمكين كاف في إفادة المطلوب.

وثانيا : بأن الكلام فيما علم قطعا أنه خارق للعادة ، وأن المتحدين عجزوا عن معارضته مع فرط الاهتمام ، وكمال الاشتغال. ولهذا كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على أهل زمانه ، كالسحر في زمن موسى (عليه‌السلام) (٤) ، والطب

__________________

(١) في (ب) الخوارق بدلا من (الخواص)

(٢) في (أ) لمكلف بدلا من (المكلف)

(٣) في (ب) اليقين بدلا من (القطعي)

(٤) قال تعالى مخاطبا موسى عليه‌السلام : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى)

في زمن عيسى (١) (عليه‌السلام) ، والموسيقى في زمن داود (عليه‌السلام) ، والفصاحة في زمن محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وثالثا : أنه لا خفاء في ترتب الغايات على أفعاله ، وإن لم تكن أغراضا على أنا لا ندعي سوى أنها تدل على تصديق قائم بذاته ، سواء كان غرضا أم لم يكن.

ورابعا : أن ظهور المعجزة على يد الكاذب وإن جاز عقلا ، فمعلوم الانتفاء قطعا. ومنا من قال باستحالته لإفضائه إلى التعجيز عن الأدلة على صدق دعوى الرسالة ، أو لأن الصدق لازم لها بمنزلة العلم لإيقان الفعل ، أو لأن التسوية بين الصادق والكاذب سفه.

وخامسا : أنها تفيد العلم بالصدق من غير افتقار إلى اعتبار إخبار من الله بمنزلة أن يقول : «جعلتك رسولا ، وأنشأت الرسالة فيك»).

قدح بعض المنكرين للنبوة في المعجزات بأن تجويز خوارق العادات سفسطة ، إذ لو جازت ، لجاز أن ينقلب الجبل ذهبا والبحر دهنا ، والمدعي للنبوة شخصا آخر ، عليه ظهرت المعجزة إلى غير ذلك من المحالات ، وبعضهم بأنها على تقدير ثبوتها لا تثبت على الغائبين لأن أقوى طرق نقلها التواتر ، وهو لا يفيد اليقين ، لأن جواز الكذب على كل أحد يوجب جوازه على الكل ، لكونه نفس الآحاد ، ولأنه لو أفاده لأفاده خبر الواحد ، لأن كل طبقة يفرض عدد التواتر ، فعند نقصان واحد منه إن بقيت مفيدة لليقين ، وهكذا إلى الواحد ، فظاهر. وإن لم تبق كان المفيد هو ذلك الواحد الزائد. ولأنه غير مضبوط بعدد ، بل ضابطه حصول اليقين ، فإثبات اليقين به يكون دورا.

والجواب عن الأول أن المراد بخوارق العادات أمور ممكنة في نفسها ، ممتنعة في العادة. بمعنى أنها لم يجر العادة بوقوعها كانقلاب العصا حية ، فإمكانها ضروري ، وإبداعها ليس أبعد من إبداع خلق الأرض والسماء وما بينهما ، والجزم

__________________

(١) قال تعالى على لسان عيسى عليه‌السلام : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) آل عمران آية ٤٩

بعدم وقوع بعضها كانقلاب الجبل والبحر ، وهذا الشخص ، وأمثال ذلك لا ينافي إلا الإمكان الذاتي على ما سبق في صدر الكتاب.

وعن الثاني بأن المتواترات أحد أقسام الضروريات ، فالقدح فيها بما ذكر مع أنه ظاهر الاندفاع لا يستحق الجواب. وأما وجه دلالتها أي وجه دلالة المعجزة على صدق الرسالة أنها عند التحقيق بمنزلة صريح التصديق لما جرت العادة به من أن الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بصدقه ، كما إذا قام رجل في مجلس ملك بحضور جماعة ، وادعى أنه رسول هذا الملك إليهم ، فطالبوه بالحجة ، فقال : هي أن يخالف هذا الملك عادته ويقوم عن سريره ثلاث مرات ويقعد ففعل ، فإنه يكون تصديقا له ومفيدا للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب.

فإن قيل : هذا تمثيل وقياس للغائب على الشاهد وهو على تقدير ظهور الجامع ، إنما يعتبر في العمليات لإفادة الظن ، وقد اعتبرتموه بلا جامع لإفادة اليقين في العمليات التي هي أساس ثبوت الشرائع. على أن حصول العلم فيما ذكرتم من المثال إنما هو بشواهد من قرائن الأحوال.

قلنا التمثيل إنما هو للتوضيح والتقريب دون الاستدلال ، ولا مدخل لمشاهدة القرائن في إفادة العلم الضروري لحصوله للغائبين عن هذا المجلس عند تواتر القضية إليهم ، وللحاضرين فيما إذا فرضنا الملك في بيت ليس فيه غيره ودونه حجب لا يقدر على تحريكها أحد سواه. وجعل مدعي الرسالة حجته أن الملك يحرك تلك الحجب من ساعته ففعل.

فإن قيل هاهنا احتمالات تنفي الدلالة على الصدق والجزم به ، وهي أنواع :

الأول : احتمال أن لا يكون ذلك الأمر من الله تعالى ، بل يستند إلى المدعي بخاصية في نفسه ، أو مزاج في بدنه ، أو لاطلاع منه على خواص في بعض الأجسام يتخذها ذريعة(١) إلى ذلك ، أو يستند إلى بعض الملائكة أو الجن ، أو إلى اتصالات كوكبية وأوضاع فلكية ، لا يطلع عليها غيره ، إلى غير ذلك من الأسباب

__________________

(١) في (ب) وسيلة بدلا من (ذريعة)

الثاني : احتمال أن لا يكون خارقا للعادة ، بل ابتداء عادة أراد الله أجراءها أو تكرير عادة لا تكون إلا في دهور متطاولة ، كعود الثوابت إلى نقطة معينة.

الثالث : احتمال أن يكون مما يعارض إلا أنه لم يعارض لعدم بلوغه إلى من يقدر المعارضة ، أو لمواضعة من القول ، وموافقة في إعلاء كلمته ، أو لخوف ، أو لاستهانة وقلة مبالاة ، أو لاشتغال بما هو أهم ، أو عورض ولم ينقل لمانع.

الرابع : احتمال أن لا يكون لغرض التصديق ، إما لانتفاء الغرض في فعله على ما هو المذهب ، وإما لثبوت غرض آخر مثل ان يكون لطفا بمكلف ، أو إجابة لدعوته ، أو معجزة لنبي آخر ، أو ابتلاء للعبد لينال الثواب بالتوقف عن موجبه ، أو النظر والاجتهاد في دفعه ، كما في إنزال المتشابه ، أو إضلالا للخلق على ما هو المذهب عندكم من أن (الله يضل من يشاء) من عباده ، وبعدم تسليم انتفاء الاحتمالات ، وكون المعجزة بمنزلة صريح القول من الله تعالى بأن المدعي صادق فهو لا يوجب صدقه إلا بعد استحالة الكذب في إخبار الله تعالى ، ولا سبيل إلى ذلك بدليل السمع للزوم الدور ، ولا بدليل العقل ، لأن غايته أن الكذب قبيح ، وهو على الله تعالى مستحيل ، وثبوت المقدمتين بغير دليل السمع في حيز المنع.

فالجواب إجمالا أن الاحتمالات والتجويزات العقلية لا تنافي العلوم العادية الضرورية القطعية ، فنحن نقطع بحصول العلم بالصدق عقيب ظهور المعجزة من غير التفات إلى ما ذكر من الاحتمالات لا بالنفي ولا بالإثبات ، كما يحصل في المثال المذكور ، وإن كان الملك ظلوما غشوما كذوبا لا يبالي بإغواء رعيته والاستهزاء برسله ، وتفصيلا :

أولا : أنا بينا أن لا مؤثر في الوجود إلا الله وحده ، سيما في مثل إحياء الموتى ، وانقلاب العصا حية ، وانشقاق القمر ، وسلام الحجر والمدر ، على أن مجرد التمكين ، وترك الدفع من قبل الحكيم القادر المختار كاف في إفادة المطلوب ، ولهذا ذهب المعتزلة إلى ان المعجزة (١) تكون فعلا لله تعالى ، أو واقعا بأمره أو بتمكينه.

__________________

(١) المعجزة : أمر خارق للعادة داعية إلى الخير والسعادة مقرونة بدعوى النبوة قصد به إظهار صدق من ادعى أنه رسول من الله تعالى.

وثانيا : أن كلامنا فيما حصل الجزم بأنه خارق للعادة ، وأن المتحدين عجزوا عن معارضته ، مع كونهم أحق بها إن أمكنت لكثرة اشتغالهم بما يناسب ذلك ، وكمالهم فيه ، وفرط اهتمامهم بالمعارضة ، وتوفر دواعيهم. ولهذا كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على أهل زمانه ، وتهالكوا عليه وتفاخروا به ، كالسحر في زمن موسى (عليه‌السلام) ، والطب في زمن عيسى ، والموسيقى في زمن داود ، والفصاحة في زمن محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

وثالثا : أنه لا خفاء ولا خلاف في ترتيب الغايات والآثار على بعض أفعاله وإن لم يجعلها أغراضا له على أنا لا نقول إنه فعل المعجزة لغرض التصديق ، بل إنها دلت على تصديق من الله تعالى قائم بذاته ، سواء جعل من جنس العلم أو كلام النفس ، أو غيرهما.

ورابعا : أن ظهور المعجزة على يد الكاذب لأي غرض فرض وإن جاز عقلا بناء على شمول قدرة الله ، فهو ممتنع عادة معلوم الانتفاء قطعا ، كما هو حكم سائر العاديات ، وهذا ما قال القاضي : إن اقتران ظهور المعجزة بالصدق أحد العاديات ، فإذا جوزنا انحرافها عن مجراها ، جاز إخلاء المعجزة عن اعتقاد الصدق ، وحينئذ يجوز إظهاره على يد الكاذب ، وإما بدون ذلك فلا ، لاستحالة العلم بصدق الكاذب ، ومنا من قال باستحالته عقلا ، فالشيخ لافضائه إلى التعجيز عن إقامة الدلالة على صدق دعوى الرسالة ، والإمام وكثير من المتكلمين ، لأن الصدق مدلول بها لازم بمنزلة العلم لإتقان الفعل ، فلو ظهرت من الكاذب ، لزم كونه صادقا كاذبا ، وهو محال ، والماتريدية لإيجابه التسوية بين الصادق والكاذب ، وعدم التفرقة بين النبي والمتنبي ، وهو سفه لا يليق بالحكيم.

وخامسا : أن مجرد إظهار المعجزة على يده يفيدنا العلم بصدقة ، وبتصديق الله إياه من غير افتقار إلى اعتبار كلام وإخبار ، ومن هنا يصح التمسك بخبر النبي في إثبات الكلام ، وامتناع الكذب والنقص على ما مر ، وإلى هذا يشير ما قال إمام الحرمين ، أنا نجعل إظهار المعجزة تصديقا بمنزلة أن يقول : جعلته رسولا ، وأنشأت الرسالة فيه كقولك : جعلتك وكيلا ، واستنبتك بشأن من غير قصد إلى

إخبار وإعلام بما ثبت ، ومحصوله أنه يعتبر القول فيه إنشاء لا إخبارا. وأما لو تم لنا نفي الكذب عنه بغير خبر النبي على ما سبق فلا إشكال.

قال : خاتمة (طريق إثبات النبوة على الإطلاق على المنكرين هو المعجزة لا غير ، وهذا لا ينافي خلق العلم الضروري بها ، أو ثبوتها بإخبار من نبي آخر أو كتاب).

لا خفاء في ثبوت النبوة بخلق العلم الضروري ، كعلم الصديق (رضي الله عنه) ، وبخبر من ثبتت عصمته عن الكذب كنصوص التوراة والإنجيل في نبوة نبينا (عليه‌السلام) ، وكإخبار موسى (عليه‌السلام) بنبوة هارون وكالب ويوشع (عليهم‌السلام) فيما ذكر إمام الحرمين من أنه لا يمكن نصب دليل على النبوة سوى المعجزة ، لأن ما يقدر دليلا إن لم يكن خارقا للعادة ، أو كان خارقا ، ولم يكن مقرونا بالدعوة ، لم يصلح دليلا للاتفاق على جواز وقوع الخوارق من الله تعالى ابتداء محمول على ما يصلح دليلا للنبوة على الإطلاق ، وحجة على المنكرين بالنسبة إلى كل نبي ، حتى الذي لا نبي قبله ، ولا كتاب. وأمّا ما سيأتي من الاستدلال على نبوة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بما شاع من أخلاقه وأحواله فعائد إلى المعجزة على ما نبين إن شاء الله تعالى.

قال : المبحث الثالث :

(قال الحكماء : إن الإنسان يحتاج في تعيشه إلى اجتماع مع بني نوعه ، وتشارك لا يتم إلا بمعاملات ومعاوضات تفتقر إلى قانون متفق عليه يقرره على ما ينبغي من تميز عن الآخرين بخصوصية من قبل خالق الكل ، وآيات تقتضي الإقرار به ، والانقياد له ، وهي بحسب القوة الإنسانية الاطلاع على المغيبات لاتصال النفس بعالم الغيب ، وبحسب القوة الحيوانية باعتبار الحركات ظهور أفعال يعجز عن امثالها أمثاله ، كحدوث رياح وزلازل وحرق وغرق وهلاك أشخاص ظالمة ومدن فاسدة ، ونحو ذلك ، لاختصاص النفس بقوة التصرف فيما عدا بدنها من الأجسام ، وباعتبار السكنات الإمساك عن القوت مدة غير معتادة لانجذاب النفس إلى عالم القدس واستتباعها القوة الغاذية وخوادمها ومن هاهنا جاز أن تتمثل لقوته المتخيلة الكاملة العقول المجردة والنفوس السماوية ، سيما العقل الفعال الذي له زيادة

اختصاص بعالم العناصر أشباحا مصورة تخاطبه ، وتحدث في سمعه كلاما منظوما يحفظ ويتلى، وهذا هو الوحي ، ونزول الملك والكتاب ، وأما كون ذلك من الله تعالى لنظام المعاش ، ونجاة المعاد ، وصلاح العباد ، مع نفي القصد والغرض من أفعاله ، والعلم بالجزئي على الوجه الجزئي في اوصافه ، فقرروه بأن العناية الإلهية ، أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه اللائق تقتضي فيضان ذلك النظام على الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشروع والشارع ليكون الموجود على وفق المعلوم ، ولا خفاء في أن هذا لا يكفي فيما ثبت بالضرورة من الدين).

في طريقة الفلاسفة بالاحتياج إلى النبي والشريعة (١) ، وبثبوت المعجزة ، لكن يقررون ذلك على وجه لا يوافق ما علم بالضرورة من الدين.

أما تقريرهم في الاحتياج الى النبي فهو أن الإنسان مدني بالطبع ، أي محتاج في تعيشه إلى التمدن ، وهو اجتماعه مع بني نوعه للتعاون والتشارك في تحصيل ما يحتاجون إليه من الغذاء الموافق ، واللباس الواقي من الحر والبرد ، والمسكن الملائم بحسب الفصول المختلفة ، والسلاح الحامي عن السباع والأعداء ، فإن كل ذلك مما يحصل بالصناعات ، ولا يمكن للإنسان الواحد القيام بجميعها ، بل لا بد أن يخبز هذا لذلك ، وذلك يخيط لآخر ، وآخر يتخذ الإبرة له إلى غير ذلك من المصالح التي لا بقاء للنوع (٢) بدونها ، ثم ذلك التعاون والتشارك لا يتم إلا بمعاملات فيما بينهم ومعاوضات ، ولا ينتظم إلا بقانون متفق عليه مبني على العدل والإنصاف ، ضابط لما لا حصر له من الجزئيات ، لئلا يقع الجور ، فيختل أمر النظام لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي ما يحتاج إليه ، ويغضب على من

__________________

(١) الشريعة : هي الائتمار بالتزام العبودية ، وقيل الشريعة هي الطريق في الدين.

(٢) النوع : اسم دال على أشياء كثيرة مختلفة بالأشخاص والنوع الحقيقي : كل مقول على واحد أو على كثيرين متفقين بالحقائق في جواب ما هو فالكلي : جنس ، والمقول على واحد إشارة إلى النوع المنحصر في الشخص ، والنوع الإضافي : هي ماهية يقال لها وعلى غيرها الجنس قولا أوليا أي بلا واسطة كالإنسان بالقياس إلى الحيوان فإنه ماهية يقال عليها وعلى غيرها كالفرس الجنس ، وهو الحيوان ، حتى إذا قيل ما الإنسان والفرس ، فالجواب أنه حيوان ، وهذا المعنى يسمى نوعا إضافيا لأن نوعيته بالإضافة إلى ما فوقه وهو الحيوان والجسم النامي ، والجسم والجوهر.

يزاحمه. وذلك القانون هو الشرع ، ولا بد له من شارع يقرره على ما ينبغي متميزا عن الآخرين بخصوصية فيه من قبل خالق الكل ، واستحقاق طاعة وانقياد ، وإلا لما قبلوه ، ولم ينقادوا له ، وأن يكون إنسانا يخاطبهم ويلزمهم المعاملة على وفق ذلك القانون ، ويراجعونه في مواضع الاحتياج ومظان الاشتباه ، فتلك الخصوصية هي البعثة والنبوة ، وذلك الإنسان الشارع لقوانين المعاملات فيما بينهم ، والسياسات في حق من يخرج من مصالح البقاء هو النبي ، فلا بد من أمر مختص يدل على أن شريعته من عند ربه ، ويقتضي لمن وقف عليه أن يقر بنبوته ، وينقاد له وهو المعجزة.

قالوا : وهذا الإنسان هو الذي يجتمع فيه خواص ثلاث : هي الاطلاع على المغيبا ، وظهور خوارق العادات ، ومشاهدة الملك مع سماع كلامه. ومعنى ذلك على ما شرحه في الشفاء وغيره أنه يكون كاملا في قوته النفسانية ، أعني الإنسانية والحيوانية المدركة والمحركة ، بمعنى أن نفسه القدسية بصفاء جوهرها ، وشدة اتصالها بالمبادئ العالية المنتقشة بصور الكائنات ماضيها ، وحاضرها ، وآتيها ، وقلة التفاتها إلى الأمور الجاذبة إلى الخسة السافلة ، تكون بحيث يحصل لها جميع ما يمكن للنوع دفعه ، أو قريبا من دفعه ، إذ لا بخل هناك ولا احتجاب ، وإنما المانع هو انجذاب القوابل إلى عالم الطبيعة ، وانغماسها في الشواغل عن عالم العقل ، وأن قوته المتخيلة تكون بحيث يتمثل لها العقول المجردة صورا وأشباحا يخاطبونه ويسمعونه كلاما منظوما محفوظا ، وأن قوته المحركة تكون بحيث يطيع لها هيولى العناصر ، فيتصرف فيها تصرفها في بدنه ، فيعنون بالخصائص هذه القوى ، وبمشاهدة الملك هذا المعنى ، فلا يرد الاعتراض بأن الاطلاع على المغيبات وظهور خوارق العادات قد يوجد لغير الأنبياء ، فلا يكون من خواصهم ، وأن مشاهدة الملك وسماع كلامه مجرد عبارة لا يقولون بمعناها على أن الخاصة (١) قد تطلق على الإضافية ، وأن ما ذكر بمجرد اعتبار مقارنته التحدي يصير خاصة حقيقية.

__________________

(١) الخاصة : كلية مقولة على أفراد حقيقية واحدة فقط قولا عرضيا سواء وجد في جميع أفراده كالكاتب بالقوة بالنسبة إلى الإنسان أو في بعض أفراده كالكاتب بالفعل بالنسبة إليه فالكلية مستدركة وقولنا فقط ـ

وأما تقريرهم من المعجزات فإجمالا أنه لا يبعد أن يختص بعض النفوس الإنسانية بقوة هي مبدأ لأفعال غريبة بسبب ما لها من الخصوصية الشخصية ، أو بسبب أمر طارئ عليها من غير اكتساب أو حاصل لها بالاكتساب على ما هو شأن أكثر الأولياء ، وهذا لا ينافي اتحاد النفوس بحسب النوع : وتفصيلا أن المشهور من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء ثلاث بحسب القوة الإنسانية ، والقوة الحيوانية باعتبار الحركات والسكنات.

فالأول : الاطلاع على المغيبات ، وليس ببعيد لتحقيقه في حال النوم على ما تعرفه من نفسك وتسمعه من غيرك. وسبب ذلك اتصال النفس بالمبادئ العالية ، اعني العقول والنفوس السماوية المنتقشة بصور ما يستند إليها من الحوادث لما تقرر من أنها عالمة بذواتها ، وأن العلم بالعلل والأسباب يوجب العلم بالمعلولات والمسببات. غاية الأمر أن علم العقول بالحوادث لا يكون إلا على وجه كلي خال من قيد الهذية وخصوص الوقتية ، والكاملون قد يدركونها على الوجه الجزئي ، إما بجعلها جزئية بمعونة الحواس الباطنة على ما قررها الحكماء ، وإما لارتسامها في النفوس السماوية ، كذلك على ما يراه بعضهم ، ومعنى اتصال النفس بالمبادئ العالية صيرورتها مستعدة لفيضان العلوم عليها بحصول القوى لها وزوال المانع ، أعني الشواغل الحسية عنها ، بمنزلة مرآة مجلوة تحاذي شطر الشمس ، ولا يلزم من ذلك انتقاشها بجميع ما في المبادي من الصور ، لأن لقبول كل صورة استعدادا يخصها.

والثاني : ظهور حركات وأفعال تعجز عن أمثالها أمثاله ، كحدوث رياح وزلازل ، وحرق ، وغرق ، وهلاك أشخاص ظالمة ، وخراب مدن فاسدة ، وانفجار المياه من الأحجار ، بل من الأصابع ، وليس ببعيد ، لأن علاقة النفس مع البدن إنما هي بالتدبير والتصرف ، لا الحلول (١) والانطباع ، فيجوز أن يكون بعض النفوس

__________________

ـ يخرج الجنس ، والعرض العام لأنهما مقولان على حقائق وقولنا قولا عرضيا يخرج النوع والفصل لأن قولهما على ما تحتهما ذاتي لا عرضي ، وخاصة الشيء : ما لا يوجد بدون الشيء والشيء قد يوجد بدونها مثل الألف واللام. لا يوجدان بدون الاسم ، والاسم يوجد بدونهما كما في زيد.

(١) الحلول السرياني : عبارة عن اتحاد الجسمين بحيت تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر ، ـ

من القوة بحيث يتصرف في أجسام أخر غير بدنها ، بل في كلية العناصر ، حتى كأنها نفس لعالم العناصر.

والثالث : الإمساك عن القوت مدة غير معتادة ، وليس ببعيد كما في بعض الأمراض لاشتغال الطبيعة بهضم الأخلاط الفاسدة ، وتحليل المواد الردية عن تحليل المواد المحمودة والرطوبات الأصلية المحوج إلى البدل ، فيجوز في حق الأشخاص الكاملة لانجذاب نفوسهم إلى جناب القدس بالكلية ، واستتباعها القوى الجسمانية التي بها الهضم والشهوة والتغذية وما يتعلق بذلك ، بل لا يبعد أن يكون هذا من حق هؤلاء أولى وأقرب منه في المرض لكون احتياج المريض إلى الغذاء أوفر وأوفى (١)

أما أولا فلتحلل رطوباته بسبب الحرارة الغريبة المسماة بسوء المزاج (٢).

وأما ثانيا فلفرط احتياجه إلى حفظ القوى البدنية بحفظ الرطوبات التي بها تعتدل الحرارة الغريزية ، وذلك لما عرض لها بسبب المرض المضاد لها من الفتور.

وأما ثالثا فلاختصاص العارف بأمر يقتضي الاستغناء عن الغذاء ، وهو السكون البدني الحاصل بسبب ترك القوى البدنية أفاعيلها عند متابعتها النفس.

وأما تقريرهم لنزول الوحي وظهور الملك مع أنه من المجردات (٣) دون الأجسام ، فهو أن النائم ومن يجري مجراه في عدم استيلاء الحواس عليه قد يشاهد صورا غريبة ، ويسمع أصواتا عجيبة ، وليست بمعدومة صرفة ولا موجودة في الخارج ، بل في القوة المتخيلة والحس المشترك ، وربما لا يكون متأدية إليه من طرق الحواس الظاهرة ، بل من عالم آخر ، فلا يبعد أن يكون لبعض أفراد الإنسان

__________________

ـ كحلول ماء الورد في الورد فيسمى الساري حالا ، والمسرى فيه محلا.

الحلول الجواري : عبارة عن كون أحد الجسمين ظرفا للآخر كحلول الماء في الكوز.

(١) في (ب) أكثر بدلا من (أوفى).

(٢) المزاج : كيفية متشابهة تحصل عن تفاعل عناصر منافرة لأجزاء مماسة بحيث تكسر سورة كل منها سورة كيفية الآخر.

(٣) المجردات : المجرد. ما لا يكون محلا لجوهر ولا حالا في جوهر آخر ولا مركبا منهما على اصطلاح أهل الحكمة.

نفس شريفة شديدة الاتصال بعالم العقل ، قليلة الالتفات إلى عالم الحس ، ومتخيلة شديدة جدا قوية التلقي من عالم الغيب ، قليلة الانغماس في جانب الظاهر ، لا يعصيها المصورة ولا يشغلها المحسوسات عن أفعالها الخاصة ، ويحصل لذلك الإنسان في اليقظة أن يتصل بعالم الغيب ، ويتمثل لقوته المتخيلة العقول المجردة والنفوس السماوية أشباحا مصورة سيما العقل الفعال (١) الذي له زيادة اختصاص بعالم العناصر ، فتخاطبه وتحدث في سمعه كلاما مسموعا يحفظ ويتلى ، ويكون ذلك من قبل الله وملائكته ، لا من الإنسان ، وهذا معنى الوحي ونزول الملك والكتاب. وقد يكون ذلك على غاية الكمال ، فيعبر عنها بمشاهدة وجه الله الكريم وسماع كلامه من غير واسطة.

وأما تقريرهم في كون النبي مبعوثا من قبل الباري تعالى لحفظ النظام وصلاح العباد في المعاش والمعاد ، مع أنهم لا يثبتون له الفعل بالاختيار والعلم بالجزئيات ، ويقطعون بأنه ـ بل جميع المبادي العالية ـ لا يفعل لغرض في الأمور السافلة ، فهو أن العناية الإلهية بمخلوقاته ، أعني إحاطة علمه السابق بنظام الموجودات على الوجه الأليق في الأوقات المترتبة التي يقع كل موجود منها في واحد من تلك الأوقات يقتضي إفاضة ذلك النظام على ذلك الترتيب والتفصيل الذي من جملته وجود الشرع والشارع ووجوب ما به يكون النظام على وجه الصواب ، فيجب ذلك عنه وعن إحاطته بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل ليكون الموجود على وفق المعلوم وعلى أحسن النظام ، وإن لم يكن هناك انبعاث قصد وطلب منه تعالى ، وهذا ما قال في الشفاء إن العناية الإلهية تقتضي المصالح التي لها منفعة ما في البقاء ، كإنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين ، وتقعير الأخمص من القدمين ، فكيف لا تقتضي المنفعة التي هي في محل الضرورة للبقاء ، ولتمهيد نظام الخير وأساس المنافع كلها ، وكيف لا يجب وقد وجدها هو مبني عليها ومتعلق بها ، وكيف يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلمون ذلك ولا يعلمون هذا.

__________________

(١) هو أن تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب بحيث يحصل لها ملكة الاستحضار متى شاءت من غير تجشم كسب جديد لكنها لا يشاهدها بالفعل.

ففي الجملة قالوا بوجوب البعثة ولزوم النبوة. فمن قال هي واجبة في الحكماء أراد تبقية النظام على الوجه اللائق ، ومن قال في العناية أراد تمثل النظام في علمه الشامل. ومن قال في الطبيعة ، أراد وجود النظام الكامل. ولقد أفصح عن المقصود بعض الإفصاح من قال : إن المدبر الذي يسوق النوع من النقصان إلى الكمال لا بد أن يبعث الأنبياء ويمهد الشرائع كما هو موجود في العالم ، ليحصل النظام ويتعيش الأشخاص ويمكن لهم الوصول من النقصان إلى الكمال الذي خلقوا لأجله.

قال : المبحث الرابع محمد رسول الله

(صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لأنه ادعى الرسالة وهو ظاهر ، وأظهر المعجزة لأنه أتى بالقرآن المعجز (١) ، وأخبر عن المغيبات (٢) ، وظهر منه ما لا يعتاد من الأحوال. أما النوع الأول منه فبيان الإعجاز أنه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) تحدى بأقصر سورة منه مصاقع البلغاء مع كثرتهم وشهرتهم بالعصبية ، فعدلوا عن المعارضة إلى المقارعة ، وهو دليل العجز ، ووجه الإعجاز عند الأكثرين كونه في الطبقة العليا من البلاغة ، وعند الكثيرين الصرفة ، وهي أن الله تعالى صرف العقول عن المعارضة مع القدرة عليها ، ورد بأن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من ذلك ، لا من عدم المعارضة مع سهولتها ، وبأن ترك كمال البلاغة أدخل في الإعجاز بالصرفة ، وبقوله تعالى :

(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) (٣) .. الآية.

وقيل كونه على أسلوب غريب مخالف لما دل عليه كلامهم. وقيل سلامته عن الاختلاف والتناقض ، وقيل اشتماله على دقائق العلوم والحكم والمصالح. وقيل على الإخبار عن المغيبات ، وردت بأن خرافات مسيلمة وغيره على ذلك الأسلوب ، وكلام كثير من البلغاء والحكماء سالم عن الاختلاف والتناقض ،

__________________

(١) قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

(٢) وقال ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ عن بعض نسائه «من منكن تنبحها كلاب هجر».

(٣) سورة الإسراء آية رقم ٨٨ وتكملة الآية : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

ومشتمل على العلوم والحقائق ، وكثير من السور خال عن الإخبار عن المغيبات ، ووجه دفع المطاعن إجمالا أن رؤساء العرب مع حذاقتهم وعداوتهم اعترفوا به وأذعنوا ، ولم يطعنوا ، بل نسبوه لكمال حسنه إلى السحر (١).

وتفصيلا الجواب عما يورده بعض المعاندين من أعداء الدين مثل ان فيه غير العربي كالإستبرق والسجيل ، فكيف يكون عربيا مبينا ، وأن فيه خطأ من جهة الإعراب ، مثل : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٢)

وأن فيه مقدار احدى عشرة آية من كلام البشر وهي (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ..) (٣) الآيات.

فكيف يصح التحدي بسورة وأقلها ثلاث آيات! وأن فيه ما يتمسك به أهل الغواية مثل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٤).

وأن فيه عيب التكرار كقصة فرعون و(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥) ، و(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٦) ، وأن فيه اختلافا كثيرا من القراءات ، فكيف يصح قوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٧).

وأن فيه التناقض مثل : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٨).

مع قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٩).

والكذب المحض مثل (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)(١٠).

__________________

(١) سورة طه آية رقم ٦٣ وتكملة الآية (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى)

(٢) سورة طه آية رقم ٢٥

(٣) سورة طه آية رقم ٥

(٤) سورة الرحمن آية رقم ١٦

(٥) سورة المرسلات آية رقم ١٥

(٦) سورة النساء آية رقم ٨٢

(٧) سورة الرحمن آية رقم ٣٩

(٨) سورة الحجر آية رقم ٦٢

(٩) سورة الأعراف آية رقم ١١

والشعر من كل بحر مثل قوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) وغير ذلك.

والجواب : أنه لا يبعد توافق اللغتين أو جعل الكل عربيا تغليبا ، وأن الخطأ إما في التخطئة على ما بين في علم النحو ، وأن المحكى لا يلزم أن يكون عبارة المحكى عنه ، وفي التشابه فوائد مثل مثوبة النظر ، أو التوقف والتكرار ربما يكون من المحاسن والاختلاف المنفى هو تفاوت النظم بحيث يقصر عن الإعجاز ، ووهم التناقض والكذب والشعر من الجهل بعلم التفسير وبمعنى الشعر).

(أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) (٢) ولم يخالف في ذلك من أهل الملل والأديان إلا البعض من اليهود والنصارى ، وحجتنا أنه (عليه‌السلام) ادعى النبوة ، وأظهر المعجزة ؛ وكل من كان كذلك فهو نبي لما بينا ، أما دعوى النبوة فبالتواتر والاتفاق (٣) حتى جرت مجرى الشمس في الوضوح والإشراق. وأما إظهار المعجزة فلأنه أتى بالقرآن ، وأخبر عن المغيبات ، وأظهر أفعالا على خلاف المعتاد ، وبلغت جملتها حد التواتر ، وإن كانت تفاصيلها من الآحاد. فلنتكلم في الأنواع الثلاثة :

أما النوع الأول ففيه ثلاث مقامات لبيان إعجاز القرآن ، ووجه الإعجاز ، ودفع شبه الطاعنين.

أما المقام الأول فهو أنه (صلى الله تعالى عليه وسلم) تحدى بالقرآن (٤) ، ودعا إلى الإتيان بسورة مثله مصاقع البلغاء والفصحاء من العرب العرباء مع كثرتهم كثرة رمال الدهناء ، وحصى البطحاء ، وشهرتهم بغاية العصبية والحمية الجاهلية ، وتهالكهم على المباهاة والمباراة والدفاع عن الأحساب ، وركوب الشطط في هذا الباب ، فعجزوا حتى آثروا المقارعة (٥) على المعارضة ، وبذلوا المهج والأرواح دون المدافعة فلو قدروا على المعارضة لعارضوا. ولو عارضوا؛ لنقل إلينا لتوفر

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٢٩

(٢) سورة الفتح آية رقم ٢٨

(٣) سقطت من (ب) كلمة (الاتفاق)

(٤) في (ب) بزيادة كلمة (العرب)

(٥) المقارعة : الحرب والقتال

الدواعي وعدم الصارف ، والعلم بجميع ذلك قطعي كسائر العاديات ، لا يقدح فيه احتمال انهم تركوا المعارضة مع القدرة عليها ، أو عارضوا ولم ينقل إلينا لمانع ، كعدم المبالاة وقلة الالتفات ، والاشتغال بالمهمات.

وأما المقام الثاني فالجمهور على أن إعجاز القرآن لكونه في الطبقة العليا من الفصاحة ، والدرجة القصوى من البلاغة على ما يعرفه فصحاء العرب (١) بسليقتهم ، وعلماء الفرق بمهارتهم في فن البيان ، وإحاطتهم بأساليب الكلام. وهذا مع اشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والآتية ، كما سنذكره ، وعلى دقائق العلوم الإلهية ، وأحوال المبدأ والمعاد ، ومكارم الأخلاق ، والإرشاد إلى فنون الحكمة العلمية والعملية ، والمصالح الدينية والدنيوية على ما يظهر للمتدبرين ويتجلى على المتفكرين ، وذهب النظام (٢) وكثير من المعتزلة والمرتضى من الشيعة إلى أن إعجازه بالصرفة ، وهي أن الله صرف همم المتحدين عن معارضته مع قدرتهم عليها ، وذلك إما بسلب قدرهم ، أو بسلب دواعيهم ، أو بسلب العلوم التي لا بد منها في الإتيان بمثل القرآن. بمعنى أنها لم تكن حاصلة لهم ، أو بمعنى أنها كانت حاصلة فأزالها الله. وهذا هو المختار عند المرتضى ، وتحقيقه أنه كان عندهم العلم بنظم القرآن ، والعلم بأنه كيف يؤلف كلام يساويه أو يدانيه. والمعتاد أن من كان عنده هذان العلمان يتمكن من الإتيان بالمثل ، إلا أنهم كلما حاولوا ذلك ، أزال الله تعالى عن قلوبهم تلك العلوم. وفيه نظر.

واحتجوا أولا بأنا نقطع بأن فصحاء العرب كانوا قادرين على التكلم بمثل

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (جميعهم)

(٢) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري أبو اسحاق النظام من أئمة المعتزلة قال الجاحظ : الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له فإن صح ذلك فأبو إسحاق من أولئك : تبحر في علوم الفلسفة ، واطلع على أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين ، وانفرد بآراء خاصة تابعته فرقته من المعتزلة وسميت باسمه ، وبين هذه الفرق وغيرها مناقشات طويلة ، وقد ألفت كتب خاصة للرد على النظام وفيها تكفير له وتضليل أما شهرته بالنظام فأشياعه يقولون إنها من إجادته نظم الكلام ، وخصومه يقولون إنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة ، وفي كتاب الفرق بين الفرق أن النظام عاشر في زمان شبابه قوما من الثنوية متأثر بهم توفي عام ٢٣١ ه

مفردات الصورة ومركباتها القصيرة مثل : «الحمد لله» ومثل : «رب العالمين» .. وهكذا ، إلى الآخر ، فيكونون قادرين على الإتيان بمثل الصورة.

وثانيا بأن الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقفون في بعض السور والآيات إلى شهادة الثقات ، وابن مسعود (رضي الله تعالى عنه) قد بقي مترددا في الفاتحة والمعوذتين ، ولو كان نظم القرآن معجزا بفصاحته لكان كافيا في الشهادة.

والجواب عن الأول بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء. وهذه بعينها شبهة من نفى قطيعة الإجماع والخبر المتواتر ، ولو صح ما ذكر لكان كل من آحاد العرب قادرا على الإتيان بمثل قصائد فصحائهم ، كامرئ القيس (١) وأضرابه ، واللازم قطعي البطلان ..

وعن الثاني بعد صحة الرواية وكون الجمع بعد النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) لا في زمانه ، وكون كل سورة مستقلة بالإعجاز أن ذلك كان للاحتياط ، والاحتراز عن أدنى تغيير لا يخل بالاعجاز ، وأن إعجاز كل سورة ليس مما يظهر لكل أحد بحيث لا يبقى له تردد أصلا.

وقيل : إعجازه بنظمه الغريب المخالف لما عليه كلام العرب في الخطب والرسائل والأشعار. وقيل : بسلامته عن الاختلاف والتناقض ، وقيل : باشتماله على دقائق العلوم ، وحقائق الحكم والمصالح. وقيل : بإخباره عن المغيبات ، ورد بأن حماقات مسيلمة (٢) ومن يجري مجراه أيضا على ذلك النظم ، وبأنه كثيرا ما يسلم كلام البلغاء عن الاختلاف والتناقض ، ويشتمل كلام الحكماء على العلوم والحقائق ، والإخبار عن المغيبات التي لا توجد إلا في قليل من الكتاب.

فإن قيل : لا يظهر فرق بين كون الإعجاز بنظمه الخاص ، وكونه ببلاغة النظم

__________________

(١) هو امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي ، من بني آكل المرار ، أشهر شعراء العرب على الإطلاق يماني الأصل مولده بنجد نحو ١٣٠ ـ ٨٠ ق ه أبوه ملك أسد وغطفان وأمه أخت المهلهل الشاعر فلقنه المهلهل الشعر فقاله وهو غلام ، وجعل يشبب ويلهو ويعاشر صعاليك العرب قتل والده وأخا بثأره ويعرف بالملك الضليل توفي عام ٤٩٧ ـ ٥٤٥ م

(٢) مسيلمة الكذاب بن تمامة بن كبير : متنبئ من المعمرين وفي الأمثال : أكذب من مسيلمة. عرف برحمان اليمامة قتل عام ١٢ ه‍ في حروب الردة. وراجع ابن هشام ٣ : ٧٤ والروض الأنف ٢ : ٤٠

ليجعلا مذهبين متقابلين ، ويجعل كون الإعجاز بالأمرين جميعا مذهبا ثالثا ينسب إلى القاضي على ما قال إمام الحرمين أن وجه الإعجاز عندنا هو اجتماع الجزالة مع الأسلوب والنظم المخالف لأساليب كلام العرب من غير استقلال لاحدهما ، إذ ربما يدعي أن بعض الخطب والأشعار من كلام أعاظم البلغاء لا ينحط عن جزالة القرآن انحطاطا بينا قاطعا للأوهام ، وربما يقدر نظم ركيك يضاهي نظم القرآن على ما روى من ترهات مسيلمة الكذاب : الفيل وما أدراك ما الفيل له ذنب وثيل وخرطوم طويل. فلزم كون الإعجاز بالنظم البديع مع الجزالة ، أعني البلاغة ، وهو التعبير عن معنى سديد بلفظ شريف ، وأن ينبئ عن المقصود من غير مزيد.

ثم قال : وفي القرآن سوى النظم والبلاغة وجهان آخران من الإعجاز هما : الإخبار عن قصص الأولين من غير سماع وتلقين ، والإخبار عن المغيبات المستقبلة متكررة متوالية.

قلنا : معنى الأول ان نظم القرآن وتركيبه يخالف المعتاد من أساليب كلام العرب ، إذ لم يعهد فيه كون المقاطع على مثل يعلمون ، ويفعلون. والمطالع على مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) (١) ، و(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (٢) ، و(الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (٣) ، و(عَمَّ يَتَساءَلُونَ)(٤) ، وأمثال ذلك.

ومعنى الثاني أن نظمه بالغ في الفصاحة والمطابقة لمقتضى الحال الجد الخارج عن طوق البشر ، وكان معنى النظم على الأول ترتيب الكلمات ، وضم بعضها إلى البعض. وعلى الثاني جمعها مترتبة المعاني ، متناسقة الدلالات على حسب ما يقتضيه العقل على ما قال عبد القاهر أن النظم هو توخي معاني النحو فيما بين الكلم على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام. ولهذا زيادة بيان في بعض كتبنا في فن البيان. وقد استدل على بطلان الصرفة بوجوه :

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢١

(٢) سورة المزمل آية رقم ١

(٣) سورة الحاقة آية رقم ١

(٤) سورة النبأ آية رقم ١

الأول : أن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته وسلاسته في جزالته ، ويرقصون رءوسهم عند سماع قوله تعالى :

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) (١) الآية.

لذلك ، لا لعدم تأتي المعارضة مع سهولتها في نفسها.

الثاني : أنه لو قصد الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو طبقته ، لأن كلما كان أنزل في البلاغة وأدخل في الركاكة ، كان عدم تيسر المعارضة أبلغ في خرق العادة.

الثالث : قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢).

فإن ذكر الاجتماع والاستظهار بالغير في مقام التحدي إنما يحسن فيما لا يكون مقدورا للبعض ، ويتوهم كونه مقدورا للكل ، فيقصد نفي ذلك ..

فإن قيل : لو كان القصد إلى الإعجاز بالبلاغة لكان ينبغي أن يؤتى بالكل في أعلى الطبقات لكونه أبلغ في خرق العادة ، والمذهب أن الله تعالى قادر على أن يأتي بما هو أفصح مما أتى به وأبلغ ، وأن بعض الآيات في باب البلاغة أعلى وأرفع كقوله تعالى :

(وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..) (٣) الآية.

بالنسبة إلى سورة الكافرين مثلا. (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (٤)

قلنا : هذا أوفى بالغرض ، وأوضح في المقصود. بمنزلة صانع يبرز من مصنوعاته ما ليس غاية مقدوره ونهاية ميسوره ، ثم يدعو جماهير الحذاق في الصناعة إلى ان يأتوا بما يوازي أو يداني دون ما ألقاه ، وأهون ما أبداه.

__________________

(١) سورة هود آية رقم ٤٤

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٨٨

(٣) سورة هود آية رقم ٤٤

(٤) سورة الكافرون آية رقم ١

وأما المقام الثالث : فأشراف العرب مع كمال حذاقتهم في أسرار الكلام ، وفرط عداوتهم للإسلام لم يجدوا فيه للطعن مجالا ، ولم يوردوا في القدح مقالا ، ونسبوه إلى السحر(١) على ما هو دأب المحجوج المبهوت تعجبا من فصاحته ، وحسن نظمه وبلاغته ، واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء أو شعر الشعراء ، وأن له حلاوة ، وعليه طلاوة وأن أسافله مغدقة ، وأعاليه مثمرة ، فآثروا المقارعة على المعارضة ، والمقاتلة على المقاولة ، وأبى الله إلا أن يتم نوره على كره المشركين ورغم المعاندين ، وحين انتهى الأمر إلى من بعدهم من أعداء الدين ، وفرق الملحدين اخترعوا مطاعين ليست إلّا هزءة للساخرين ، وضحكة للناظرين ، منها أن فيه كلمات غير عربية كالإستبرق (٢) ، والسجيل (٣) ، والقسطاس (٤) ، والمقاليد. فكيف يصح أنه عربي مبين؟ فرد بأن ذلك من توافق اللغتين ، أو المراد أنه عربي النظم والتركيب ، أو الكل عربي على سبيل التغليب ، ومنها أن فيه خطأ من جهة الإعراب مثل :

(إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٥).

و(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٦) و(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) (٧)

ورد بأن كل ذلك صواب على ما بين في علم الإعراب. ومنها أن فيه مما يكذبه ، حيث أخبر بأنه لا يتيسر للبشر والجن ، بل الإنس والجن لا يأتيان بمثل سورة منه ، وأقل السور ثلاث آيات. ثم حكى عن موسى مع اعترافه بأن هارون أفصح منه مقدار إحدى عشرة آية منه وهي :

__________________

(١) قال تعالى على لسان الكفار (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ)

(٢) قال تعالى : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) الكهف آية ٣١

(٣) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) سورة هود آية ٨٢

(٤) قال تعالى : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) سورة الإسراء آية رقم ٣٥

(٥) سورة طه آية رقم ٦٣

(٦) سورة البقرة آية رقم ٦٢.

(٧) سورة النساء آية رقم ١٦٢.

(رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) (١) إلى قوله : (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً)(٢).

ورد بأن المحكى لا يلزم أن يكون لهذا النظم بعينه ، على أن المختار عند البعض في المتحدى به سورة من الطوال أو عشر من الأوساط. ومنها أن فيه متشابهات يتمسك بها أهل الغواية كالمجسمة بمثل :

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٣).

ورد بأنها لنيل المثوبة بالنظر والاجتهاد في طلب المراد ، أو لفوائد لا تحصى بالرجوع إلى الراسخين في العلم. ومنها أن فيه عيب التكرار كإعادة قصة فرعون في عدة مواضع ، وكإعادة :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٤) و(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٥)

في سورة الرحمن والمرسلات. ورد بأنه ربما يكون من محاسن الكلام على ما يقرره علماء البيان فيما وقع منه فى القرآن. ومنها أن فيه قوله :

(وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٦)

وأنت تجد فيه من الاختلاف المسموع من أصحاب القراءة ما يربى على اثني عشر ألفا.

ورد بأن المراد من الاختلاف المنفي هو التفاوت في مراتب البلاغة ، بحيث

__________________

(١) سورة طه آية رقم ٢٥.

(٢) سورة طه آية رقم ٣٥.

(٣) سورة طه آية رقم ٥.

(٤) سورة الرحمن آية رقم ١٦.

(٥) سورة المرسلات آية رقم ١٥.

(٦) سورة النساء آية رقم ٨٢.

يكون بعضة قاصرا عن مرتبة الإعجاز ، لا يقال : تقدير الطعن فاسد عن أصله ، لأنه استدلال بثبوت اللازم على ثبوت الملزوم ، لأنا نقول : لا ، بل هو مبني على أن كلمة «لو» في اللغة تفيد انتفاء الجزاء لانتفاء الشرط ، يعني عدم وجدان الاختلاف فيه بسبب أنه ليس من عند غير الله. وأما إذا حملت كلمة «لو» في الآية على ما هو قانون الاستدلال كما في قوله تعالى :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١).

فهو استدلال بنفي اللازم على نفي الملزوم ، أي لكن لم يوجد فيه الاختلاف ، فلم يكن من عند غير الله ، وتمام تحقيق هذا المقام يطلب من شرحنا لتلخيص المفتاح ، ومنها أن فيه التناقض كقوله تعالى :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (٢) مع قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) (٣) (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٤) مع قوله : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٥).

إلى غير ذلك من مواضع فيها تنافي الكلامين.

ورد بمنع وجود شرائط التناقض. وقد بين ذلك على التفصيل في كتب التفسير. ومنها أن فيه الكذب المحض كقوله تعالى :

(وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٦) للقطع بأن الأمر بالسجود لم يكن بعد خلقنا وتصويرنا.

ورد بأن المراد خلق أبينا آدم وتصويره.

ومنها أن فيه الشعر من كل بحر ، وقد قال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) (٧) فمن الطويل: (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٨) ومن المديد : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٢٢.

(٢) سورة الرحمن آية رقم ٣٩.

(٣) سورة الحجر آية رقم ٩٢ ، ٩٣.

(٤) سورة الغاشية آية رقم ٦.

(٥) سورة الحاقة آية رقم ٦٩.

(٦) سورة الأعراف آية رقم ١١.

(٧) سورة يس آية رقم ٦٩.

(٨) سورة الكهف آية رقم ٢٩.

بِأَعْيُنِنا) (١) ومن البسيط : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) (٢) ومن الوافر : (وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٣) ومن الكامل : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) ومن الهزج : (تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) (٥) ومن الرجز (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (٦) ومن الرمل : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ)(٧) ومن السريع : (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) (٨) ومن المنسرح : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ) (٩) ومن الخفيف : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) (١٠) ومن المضارع : (يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ) (١١) ومن المقتضب : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١٢) ومن المجتث : (الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ) (١٣) ومن المتقارب : (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (١٤).

ورد بأن مجرد كون اللفظ على هذه الأوزان لا يكفي ، بل لا بد من تعمد الوزن ، وعند البعض من التقفية ، على أن في كثير مما ذكر نوع تغيير ، ولو سلم فالتغليب باب واسع.

قال : وأما النوع الثاني :

(وأما النوع الثاني) فمن الماضية قصص الأنبياء وغيرهم ، ومن المستقبلية الواردة في التنزيل قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) (١٥) (الم غُلِبَتِ الرُّومُ ..) إلى قوله : (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) (١٦) (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (١٧) (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (١٨).

__________________

(١) سورة هود آية رقم ٣٧. (٢) سورة الأنفال آية رقم ٤٢.

(٣) سورة التوبة آية رقم ١٤.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢١٣.

(٥) سورة يوسف آية رقم ٩١.

(٦) سورة الإنسان آية رقم ١٤.

(٧) سورة سبأ آية رقم ١٣.

(٨) سورة طه آية رقم ٩٥.

(٩) سورة الإنسان آية رقم ٢.

(١٠) سورة الماعون آية رقم ١ ، ٢.

(١١) سورة غافر آية رقم ٣٢ ، ٣٣.

(١٢) سورة البقرة آية رقم ١٠.

(١٣) سورة التوبة آية رقم ٧٩.

(١٤) سورة الأعراف آية رقم ١٨٣.

(١٥) سورة الفتح آية رقم ٢٠.

(١٦) سورة الروم الآيات ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

(١٧) سورة القمر آية رقم ٤٥.

(١٨) سورة الفتح آية رقم ٢٧.

ونحو ذلك. وفي الحديث قوله (صلى الله تعالى عليه وسلم) لعلي (كرم الله وجهه) : «تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين» ولعمار (رضي الله تعالى عنه) : «ستقتلك الفئة الباغية» وقوله (صلى الله تعالى عليه وسلم) : «سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها». وإخباره بزوال ملك كسرى وقيصر ، وباستيلاء الأتراك وغير ذلك).

من أنواع المعجزات إخباره عن الغيوب الماضية المستقبلة ، أما الماضية فكقصة موسى وفرعون ، وقصة يوسف ، وقصة إبراهيم ، ونوح ، ولوط ، وغيرهم (عليهم‌السلام) على تفاصيلها وطولها من غير سماع من أحد ولا تلقن من كتاب على ما أشير إليه بقوله : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) (١).

وأما المستقبلة ، فمنها في القرآن كقوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) (٢) ، (الم غُلِبَتِ الرُّومُ ..) (٣) إلى قوله : (وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ) ، (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (٤) ، (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (٥) ، (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) (٦) ، (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٧) ، (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) (٨) ، (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٩) ، (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) (١٠) (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) (١١) ، (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) (١٢)

ومنها ما ليس فيه كقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله عنه) : تقاتل بعدي الناكثين ، والقاسطين ، والمارقين. ولعمار : تقتلك الفئة الباغية ، وقوله (عليه‌السلام) : زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما

__________________

(١) سورة هود آية رقم ٤٩.

(٢) سورة الفتح آية رقم ٢٠.

(٣) سورة الروم آية رقم ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤ ، ٥ ، ٦.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ١٥١.

(٥) سورة القمر آية رقم ٤٥.

(٦) سورة الفتح آية رقم ١٦.

(٧) سورة النور آية رقم ٥٥.

(٨) سورة الفتح آية رقم ٢٧.

(٩) سورة التوبة آية رقم ٣٣.

(١٠) سورة الإسراء آية رقم ٨٨.

(١١) سورة البقرة آية رقم ٢٤.

(١٢) سورة القصص آية رقم ٨٥.

ما زوى لي منها. وقوله : الخلافة بعدي ثلاثون سنة. وكإخباره بهلاك كسرى وقيصر وزوال ملكهما ، وإنفاق كنوزهما في سبيل الله ، وباستيلاء الأتراك .. إلى غير ذلك مما ورد في صحاح الأحاديث ، وقد اقترنت بدعوى النبوة ، فيتميز عن الكرامات ، وبطهارة النفس وصوالح الأعمال ، وترك المراجعة إلى أحوال الكواكب ، والنظر في آلاتها ، فيتميز عن السحر والكهانة والنجوم وأمثال ذلك.

قال : وأما النوع الثالث

(وأما النوع الثالث فكان النور الذي كان ينتقل في آبائه ، وولادته مختونا مسرورا ، وخاتم النبوة ، ورؤيته من خلفه ، وكاتصافه بغاية الصدق ، والأمانة والعفة والشجاعة ، والفصاحة ، والسماحة ، والزهد ، والتواضع ، والشفقة ، والصبر ، والمعارف ، والمكارم ، والمصالح ، وكونه مستجاب الدعوة ، وكخرور الأوثان ، وسقوط شرف قصور الأكاسرة ليلة ولادته ، وإظلال السحاب عليه ، وانشقاق القمر ، وانقلاع الشجر ، وتسليم الحجر ، ونبوع الماء من بين أصابعه ، وحنين الجذع ، وشكاية النوق ، وشهادة الشاة المسمومة ، وتسبيح الحصى ، ونحو ذلك مما لا يكاد يحصى).

من أنواع المعجزات أفعال ظهرت منه (عليه‌السلام) على خلاف العادة تربى على ألف ، قد فصلت في دلائل النبوة ، بعضها إرهاصية ظهرت قبل دعوى النبوة ، وبضعها تصديقية ظهرت بعدها وتنقسم إلى أمور ثابتة في ذاته ، وأمور متعلقة لصفاته ، وأمور خارجة عنهما.

فالأول : كالنور الذي كان ينقلب في آبائه ، إلى أن ولد وكولادته مختونا مسرورا وضعا إحدى يديه على عينيه ، والأخرى على سوأته ، وما كان من خاتم النبوة بين كتفيه ، وطول قامته عند الطويل ، ووساطته عند الوسيط ، ورؤية من خلفه كأن يرى من قدامه.

والثاني : كاستجماعه الغاية القصوى من الصدق ، والأمانة ، والعفاف ، والشجاعة ، والفصاحة ، والسماحة ، والزهد ، والتواضع لأهل المسكنة ، والشفقة على الأمة ، والمصابرة على متاعب النبوة ، والمواظبة على مكارم الأخلاق ،

وكبلوغه النهاية في العلوم والمعارف الإلهية ، وتمهيد المصالح الدينية والدنيوية ، وككونه مجاب الدعوة على ما دعى لابن عباس (رضي الله تعالى عنه) بقوله : «اللهم فقّهه في الدين» (١) فصار إمام المفسرين ، ودعا على عتبة بن أبي لهب بقوله : «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الاسد. وعلى مضر بقوله : «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعل عليهم سنين كسني يوسف» (٢) فمنع الله القطر عنهم سنين. وعلى من لحقه من الكفار حين خرج من الغار بقوله : «يا أرض خذيه» فساخت قوائم فرسه.

والثالث : كخرور الأوثان سجدا ليلة ولادته ، وسقوط شرف قصور الأكاسرة ، وإظلال السحاب عليه ، وكانشقاق القمر ، وانقلاع الشجر ، وتسليم الحجر ، ونبوغ الماء من بين أصابعه إلى أن رويت الجنود ودوابهم ، وشبع الخلق الكثير من طعامه اليسير ، وحنين الجذع في مسجد المدينة حين انتقل منه إلى المنبر ، وشكاية النوق عن أصحابها ، وشهادة الشاة المشوية يوم خيبر بأنها مسمومة ، ودرور الضرع من الشاة اليابسة الجرباء لأم معبد حين مسح يده عليها ، وخطاب الذئب وهب بن أوس بقوله : أتعجب من أخذى شاة ، وهذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه ، وتسبيح الحصى ، وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى.

__________________

(١) الحديث عن الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، ٣٠ باب فضائل عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ١٣٨ (٢٤٧٧) ـ حدثنا زهير بن حرب ، وأبو بكر بن النضر قالا حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا ورقاء بن عمر اليشكري قال : سمعت عبيد الله بن أبي يزيد يحدث عن ابن عباس أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أتى الخلاء فوضعت له وضوءا فلما خرج قال : «من وضع هذا» في رواية زهير قالوا وفي رواية أبي بكر قلت : ابن عباس قال : وذكره ، ورواه البخاري في الوضوء ١٠ ، وأحمد بن حنبل في المسند ١ : ٢٦٦ ، ٣١٤ ، ٣٢٨

(٢) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الأذان ١٢٨ والاستسقاء رقم ٢ وفي كتاب الجهاد ٩٨ وكتاب الأنبياء ١٩ وفي تفسير سوره ٣ : ٩ ، ٤ ، ٢١ ورواه الإمام مسلم في كتاب المساجد ٥٤ باب استحباب جميع القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازله ٢٩٤ (٦٧٥) حدثني أبو الطاهر وحرملة ابن يحيى قالا : أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال : أخبرني سعيد ابن المسيب ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنهما سمعا أبا هريرة يقول كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبر ، ويرفع رأسه «سمع الله لمن حمده. ربنا لك الحمد» ثم يقول : وهو قائم «اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم كسني يوسف.

قوله :

(وقد يستدل بوجوه أخر ، تشهد للمنصف بنبوته (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أحدها : ما اجتمع فيه من الكمالات العلمية ، والعملية ، والنفسانية ، والبدنية ، والخارجية.

الثاني : ما اشتمل عليه شريعته من أمر الاعتقادات ، والعبادات ، والمعاملات ، والسياسات ، وغير ذلك.

الثالث : ظهور دينه على الأديان مع قلة الأنصار والأعوان ، وكثرة أهل الضلالة والعدوان.

الرابع : أنه ظهر على فترة من الرسل ، واختلال في الملك ، وانتشار الضلال واشتهار المحال ، وافتقار إلى من يجدد أمر الدين ، ويدفع في صدور الملحدين ، ويرفع لواء المتقين ، ولم يكن بهذه الصفة غيره من العالمين).

ما سبق هو العمدة في إثبات النبوة ، وإلزام الحجة على المجادل والمعاند. وقد يذكر وجوه أخر تقوية له وتتميما ، وإرشاد الطالب الحق ، وتعليما.

الأول : أنه قد اجتمع فيه من الأخلاق الحميدة ، والأوصاف الشريفة ، والسير المرضية ، والكمالات العلمية والعملية ، والمحاسن الراجعة إلى النفس والبدن والنسب والوطن ما يجزم العقل بأنه لا يجتمع إلا لنبي. وتفاصيل ذلك تصنيف على حدة.

الثاني : أن من نظر فيما اشتملت عليه شريعته مما يتعلق بالاعتقادات ، والعبادات ، والمعاملات ، والسياسات ، والآداب وعلم ما فيها من دقائق الحكمة ، علم قطعا أنها ليست إلا وضعا إلهيا ، ووحيا سماويا ، والمبعوث بها ليس إلا نبيا.

الثالث : أنه انتصب مع ضعفه وفقره وقلة أعوانه وأنصاره حربا لأهل الأرض آحادهم وأوساطهم وأكاسرتهم وجبابرتهم ، فضلل آراءهم ، وسفه أحلامهم ، وأبطل مللهم ، وهدم دولهم ، وظهر دينه على الأديان ، وزاد على مر الأعصار والأزمان ، وانتشر في الآفاق والأقطار ، وشاع في المشارق والمغارب من غير أن تقدر الأعداء مع كثرة عددهم وعددهم ، وشدة شوكتهم وشكيمتهم ، وفرط حميتهم

وعصبيتهم ، وبذلهم غاية الوسع في إطفاء أنواره ، وطمس آثاره على إخماد شرارة من ناره ، فهل يكون ذلك إلا بعون إلهي ، وتأييد سماوي؟.

الرابع : أنه ظهر أحوج ما كان الناس إلى من يهدي إلى الطريق المستقيم ، ويدعو إلى الدين القويم ، وينظم الأمور ، ويضبط حال الجمهور لكونه زمان فترة من الرسل ، وتفرق للسبل ، وانحراف في الملل ، واختلال للدول ، واشتعال للضلال ، واشتغال بالمحال ، فالعرب على عبادة الأوثان ، ووأد البنات ، والفرس على تعظيم النيران ، ووطء الأمهات ، والترك على تخريب البلاد ، وتعذيب (١) العباد. والهند على عبادة البقر (٢) ، وسجود الحجر والشجر ، واليهود على الجحود. والنصارى حيارى فيمن ليس بوالد ولا مولود. وهكذا سائر الفرق في أودية الضلال ، وأخبية الحيال والخبال ، أفيليق بحكمة الملك الحق المبين أن لا يرسل رحمة للعالمين؟ ولا يبعث من يجدد أمر الدين؟ وهل ظهر أحد يصلح لهذا الشأن ، ويؤسس هذا البنيان غير محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مر بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك ابن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان (عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات).

الخامس : النصوص

(الخامس : نصوص الكتب السماوية ففي التوراة جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من سيعير ، واستعلن من جبال فاران. وفي الإنجيل ، إني أطلب إلى أبي وأبيكم حتى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا ليكون معكم إلى الأبد.

وفي الزبور : تقلد أيها المختار السيف ، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيبة يمينك ، وسهامك لمسنونة ، والأمم يخرون تحتك. وأما المنكرون فأكثرهم أهل جهل وعناد وغاية متشبث الآخرين القدح في النسخ مطلقا ، وفي نسخ دين موسى خصوصا.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (تعذيب العباد)

(٢) الحق يقال ان الإسلام دخل بلاد الهند والكثير من أهل الهند يدينون بالإسلام وقد برز من بينهم علماء أجلاء لهم باع طويل في علوم الإسلام.

اما الأول : فلوجهين : (١) :

أحدهما : أنه إما لا لمصلحة فعبث ، أو لمصلحة لم يعلمها أولا فجهل ، أو علمها وأهملها ، ثم رعاها فبداء.

قلنا : لمصلحة تجددت.

وثانيهما : أن الحكم إما مؤقت ، فنفيه بعده لا يكون نسخا ، وإما مؤبد ، فنسخه تناقض ، وإما مرسل ففي علم الله إما أن يستمر إلى الأبد (٢) فلا يرتفع ، أو إلى غاية ما ، فبعدها لا رفع ولا نسخ.

قلنا : مرسل عن توقيت الوجوب مثلا وتأييده وما بعده ، والمعلوم استمرار الوجوب إلى وقت النسخ ولا تناقض فيه ، وإن كان الواجب أبدا كما إذا قلت :

صوم الأبد واجب.

وأما الثاني : فلوجهين :

أحدهما : تواتر التأييد مثل : تمسكوا بالسبت ابدا.

قلنا : افتراء ، ولو سلم فعبارة عن طول الزمان.

وثانيهما : أنه إن كان قد صرح بدوام شريعته فذاك ، أو بانقطاعها لزم تواتر ذلك لنوفر الدواعي ، ولم يتواتر أو سكت عن الأمرين ، لزم أن لا يتكرر ، ولا يتقرر حتى ينسخ وقد تقرر.

قلنا صرّح بالانقطاع ، ولم يتواتر لقلة الدواعي والنقلة في كل طبقة ، أو سكت وتقررت بحكم الأصل ، أو تكرر الأسباب).

الواردة في كتب الأنبياء المتقدمين المنقولة إلى (٣) العربي ، المشهورة فيما بين أممهم.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (لوجهين).

(٢) الأبد : هو استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب المستقبل كما أن الأزل استمرار الوجود في أزمنة مقدرة غير متناهية في جانب الماضي.

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (اللسان).

أما من التوراة فمنها ما جاء في السفر الخامس (١) : جاء الله من طور سيناء ، وأشرق من سيعير ، واستعلن من جبال فاران ، يريد الإخبار عن إنزال التوراة على موسى بطور سيناء. والإنجيل على عيسى بسيعير ، فإنه كان يسكن من سيعير بقرية تسمى ناصرة ، وأنزل القرآن على محمد بمكة. فإن فاران في طريق مكة قبل العدن بميلين ونصف ، وهو كان المنزل ، وقد بقي إلى اليوم (٢) على يسار الطريق من العراق إلى مكة. وهذا ما ذكر في التوراة أن إسماعيل أقام برية فاران ، يعني بادية العرب.

ومنها ما جاء في السفر الخامس أنه تعالى قال لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني مقيم لهم نبيا من بني إخوتهم مثلك ، وأجري قولي في فيه ، ويقول لهم ما آمرهم به ، والرجل الذي لا يقبل قول النبي الذي يتكلم باسمي فأنا انتقم منه. والمراد ببني إخوة بني إسرائيل بنو إسماعيل (٣) على ما هو المتعارف ، فلا يصرف إلى من بعد موسى من أنبياء بني إسرائيل ، ولا إلى عيسى لأنهم لم يكونوا من بني إخوتهم ، ولا إلى موسى لكونه صاحب شريعة مستأنفة فيها بيان مصالح الدارين ، فتعين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ومنها ما جاء في السفر الأول أنه تعالى قال لإبراهيم (عليه‌السلام) : إن هاجر تلد ، ويكون من ولدها من يده فوق الجميع ، ويد الجميع مبسوطة إليه بالخشوع.

وأما في الإنجيل ، فمنها ما ورد في الصحاح الرابع عشر : أنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم فارقليطا ليكون معكم إلى الأبد. والفارقليط روح الحق واليقين.

وفي الخامس عشر : وأما فارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي ، وهو يعلمكم ويمنحكم جميع الاشياء ، وهو يذكركم ما قلته لكم ، ثم قال : وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنوا به. وقوله : «باسمي» يعني

__________________

(١) راجع ما كتبناه في تحقيق الجزء الثاني من كتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم) طبعة دار عكاظ (جدة) المملكة العربية السعودية.

(٢) سقط من (أ) حرف الجر (إلى).

(٣) قال تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

بالنبوة ، ومعنى الفارقليط كاشف الخفيات.

وفي السادس عشر : أقول لكم الآن حقا يقينا أن انطلاقي عنكم خير لكم ، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي ، لم يأتكم الفارقليط ، وإن انطلقت أرسلت به إليكم ، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم ، ويدينهم ويوبخهم ، ويوقفهم على الخطيئة والبر (١) ثم قال : إذا جاء روح الحق واليقين ، يرشدكم ، ويعلمكم ، ويدبركم جميع الحق ، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء(٢) نفسه.

وأما في الزبور فقوله : تقلد أيها الجبار السيف ، فإن ناموسك وشرائعك مقرونة بهيئة يمينك ، وسهامك مسنونة ، والأمم يحرون (٣) تحتك. وقوله : قال داود : اللهم ابعث جاعل السنة حتى يعلم الناس أنه بشريعتي أبعث محمدا حتى يعلم الناس أن عيسى بشر.

قال في تلخيص المحصل : وأمثال هذا كثير في كتب الأنبياء المتقدمين يذكرها المصنفون الواقفون على كتبهم ، ولا يقدر المخالف على دفعها أو صرفها إلى ملك او نبي آخر ، ولا على أن يكتمها ، ولقد جمع أبو الحسين البصري (٤) في كتاب غرر الأدلة ما يوقف من نصوص التوراة على صحة نبوة محمد (عليه‌السلام). وأما المنكرون ، أنكر المشركون والنصارى والمجوس ، ومن يجري مجراهم نبوة محمد (عليه‌السلام) بغيا منهم وحسدا وعنادا ولددا من غير تمسك بشبهة ، وأكثر اليهود تمسكوا بأنه لو كان نبيا لزم نسخ دين موسى ، واللازم باطل.

أما أولا : فلبطلان النسخ مطلقا لوجهين :

أحدهما ـ أنه لم يكن لمصلحة ، فعبث ، وإن كان لمصلحة لم يعلمها عند شرعية الحكم المنسوخ فجهل ، وإن كان لمصلحة علمها وأهملها أولا ثم رعاها فبداء ، أو نقول : إن كان في شرعية الحكم المنسوخ مصلحة ، لم يعلم إهمالها عند النسخ فجهل ، وإن كان يعلمها فرأى رعايتها أولا ، ثم أهملها فبداء.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (البر).

(٢) في (ب) (عند) بدلا من (تلقاء).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (سجلا).

(٤) سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول من هذا الكتاب.

والجواب : أنه لمصلحة تجددت وحصلت بعد ما لم تكن ، فإن المصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال. فرب دواء يصلح في الصيف دون الشتاء ، ولزيد دون عمرو ، ولهذا أورد في التوراة أن آدم أمر بتزويج بناته من بنيه ، ثم نسخ وفاقا.

وثانيهما : أن الحكم إما مؤقت مثل : صم غدا ، فنفيه بعد ذلك لا يكون نسخا ، وإما مؤبد مثل ، صم أبدا. فنسخه تناقض بمنزلة قولك : الصوم واجب أبدا (١) وليس بواجب. وإما مرسل لا توقيت فيه ولا تأبيد ، وحينئذ فإما أن يعلم الله تعالى استمراره ابدا ، فلا يرتفع للزوم الجهل ، أو إلى غاية ما (٢) ، فلا رفع بعدها ولا نسخ.

والجواب : أنه مرسل عن توقيت الوجوب مثلا ، وتأبيده ، والمعلوم عند الله استمرار الوجوب إلى غاية هي وقت نسخه ورفعه ولا تناقض من ذلك ، سواء كان الواجب مؤقتا أو مؤبدا بمنزلة قولك : صوم الغد أو الأبد واجب حينا دون حين. وإنما التناقض في رفع الوجوب بعد تأبيده ، كما إذا قيل : الوجوب ثابت ابدا ، ثم نسخ فيكون زمان لا وجوب فيه ، وهذا لا نزاع في امتناعه ، وهو المراد بقولهم : إن النسخ ينافي التأبيد ، وعليه يبتنى امتناع نسخ شريعتنا. والفرق بين كون التأبيد راجعا إلى الواجب ، أو إلى الوجوب مما يتضح بالرجوع إلى الأصل الذي مهدنا في بحث الرؤية في قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٣).

على ان التحقيق أن لا رفع هاهنا. وإنما النسخ بيان لانتهاء حكم شرعي سبق على الإطلاق.

وأما ثانيا ، فبطلان نسخ شريعة موسى (عليه‌السلام) لوجهين :

الأول ـ أنه تواتر النص منه على تأبيدها ، مثل : تمسكوا بالسبت ابدا ، وهذه شريعة مؤبدة ما دامت السموات والأرض.

__________________

(١) ليس في (ب) لفظ (أبدا).

(٢) في (ب) تقتضي ذلك بدلا من (ما).

(٣) سورة الأنعام آية رقم ١٠٣ وتكملة الآية (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)

والجواب : أنه افتراء على موسى (عليه‌السلام). ودعوى تواتره مكابرة (١). ولو صح لما ظهرت المعجزات على عيسى أو محمد (عليهما‌السلام) ولأظهروه في زمانهما احتجاجا عليهما. ولو أظهروه لاشتهر لتوفر الدواعي ، على أنه كثيرا ما يعبر بالتأبيد ، فالدوام عن طول الزمان.

وثانيهما ـ أنه إما أن يكون صرح بدوام شريعته فيدوم ، أو بانقطاعها فيلزم تواتره لكونه من الأمور العظام التي تتوافر الدواعي (٢) على نقلها ولم تتواتر ، أو سكت عن الدوام والانقطاع ، فيلزم أن لا يتكرر ولا يتقرر (٣) إلى أوان النسخ وقد تقرر.

والجواب : أنه صرح بانقطاعها بالناسخ ولم يتواتر لعدم توفر الدواعي ، ولقلة الناقلين في بعض الطبقات ، إذ لم يبق من اليهود في زمان بخت نصر (٤) إلا أقل من القليل. أو سكت ، وقد تقرر وتكرر بناء على تكرر الأسباب والمحال ، أو على أن الأصل في الثابت هو البقاء حتى يظهر دليل العدم.

قال : المبحث الخامس

(المبحث الخامس ، قد دلت النصوص ، وانعقد الاجماع على أنه مبعوث إلى الناس كافة ، بل إلى الثقلين ، لا إلى العرب خاصة ، وأنه خاتم النبيين ، لا نبي بعده ، ولا نسخ لشريعته ، وأنه أفضل الأنبياء ، وأمته خير الأمم ، واختلفوا في الأفضل بعده ، فقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم. وقيل : موسى ، وقيل : عيسى. وفضله النصارى على الكل بأنه روح من الله تعالى وتقدس وكلمته ألقاها إلى سيدة نساء العالمين المطهرة على الأدناس ، وتربى في حجر الأنبياء ، وتكلم في المهد ، ولم يخل قط عن التوحيد والشرائع ، ولم يلتفت إلى زخارف الدنيا ولذاتها ، ولم يسع في هلاك احد ، ولم يمت ، بل رفع إلى السماء ، واختص بمعجزات مثل الإحياء.

قلنا : بل الأفضل من كان في غاية التوحيد والمعارف وأنه في الخيرات

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (ممن ادعاه).

(٢) في (ب) الناس بدلا من (الدواعي)

(٣) سقط من (ب) لفظ (يتكرر).

(٤) هذا الملك الجبار كان له دور كبير في تشتيت جماعة اليهود.

والكمالات مع ولادته من المشركين والمشركات ، ونشأته فيما بينهم ، ومن دام على ملاحظة جناب القدس مع الشغل الظاهر بما يؤدي إلى نظام أمر العباد في المعاش والمعاد ، وإلى رفع قواعد الحق ، وهدم أساس الباطل بالجهاد ، ومن اختص بمعجزة باقية على وجه الزمان ، وروضته ظاهرة تأتيها الزوار ، وتستنزل بها البركات).

يريد أنه مبعوث إلى الثقلين ، لا إلى العرب خاصة ، على ما زعم بعض اليهود والنصارى زعما منهم أن الاحتياج إلى النبي إنما كان للعرب خاصة دون أهل الكتابين ، ورد بما مر من احتياج الكل إلى من يجدد أمر الشريعة ، بل احتياج اليهود والنصارى أكثر لاختلال دينهم بالتحريفات وأنواع الضلالات ، مع ادعائهم أنه من عند الله تعالى ، والدليل على عموم بعثته وكونه خاتم النبيين ، لا نبي بعده ، ولا نسخ لشريعته هو أنه ادعى ذلك بحيث لا يحتمل التأويل ، وأظهر المعجزة على وفقه ، وأن كتابه المعجز قد شهد بذلك قطعا كقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) (١) (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) (٢) (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ...) (٣) الآيات (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٤) (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ) (٥).

لا يقال : ففي القرآن ما يدل على أن التوراة والإنجيل هدى للناس من غير تفرقة بين ما يوافق القرآن ويخالفه ، فيختص هداية القرآن وبعثة محمد (عليه‌السلام) بقومه الذين هم العرب على ما يشير إليه بقوله :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) (٦).

لأنا نقول : هما هدى للناس من قبل نزول القرآن ، أو هدى لهم إلى الإيمان

__________________

(١) سورة سبأ آية رقم ٢٨.

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٥٨.

(٣) سورة الجن الآيات رقم ١ ، ٢ ، ٣ ، ٤.

(٤) سورة الأحزاب آية رقم ٤٠.

(٥) سورة التوبة آية رقم ١٦.

(٦) سورة إبراهيم آية رقم ٤.

بمحمد (عليه‌السلام) والاتباع لشريعته لما فيهما من البشارة ببعثته ، والإنباء عن الاهتداء بمتابعته. فإن قيل : أليس عيسى (عليه‌السلام) حيا بعد نبينا ، رفع إلى السماء ، وسينزل إلى الدنيا؟ قلنا : بلى ، ولكنه على شريعة نبينا ، لا يسعه إلا اتباعه ، على ما قال (عليه‌السلام) في حق موسى أنه لو كان حيا لما وسعه إلا اتباعي ، فيصح أنه خاتم الأنبياء ، بمعنى أنه لا يبعث نبي بعده ، وأجمع المسلمون على أن أفضل الأنبياء محمد ، لأن أمته خير الأمم لقوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (١) (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (٢).

وتفضيل الأمة من حيث إنها أمة تفضيل للرسول الذي هم أمته ، ولأنه مبعوث إلى الثقلين ، وخاتم الأنبياء والرسل ، ومعجزته الظاهرة الباهرة باقية على وجه الزمان ، وشريعته ناسخة لجميع الأديان ، وشهادته قائمة في القيامة على كافة البشر ، الى غير ذلك من خصائص لا تعد ولا تحصى. وقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (٣).

إشارة إلى ذلك ، والأحاديث الصحاح في هذا المعنى كثيرة ، حتى قال (عليه‌السلام) : أنا أكرم الأولين والآخرين على الله تعالى ولا فخر. كما قال (عليه‌السلام) : لا تخيروني على موسى ، وما ينبغي لعبد أن يقول : إني خير من يونس بن متى تواضع منه.

واختلفوا في الأفضل بعده ، فقيل : آدم ، لكونه أبا البشر. وقيل : نوح ، لطول عبادته ومجاهدته. وقيل : إبراهيم ، لزيادة توكله واطمئنانه. وقيل : موسى ، لكونه كليم الله ونجيه. وقيل : عيسى ، لكونه روح الله وصفيه. وفضله النصارى على الكل بأنه كلمة ألقاها إلى مريم وروح منه ، طاهر مقدس ، لم يخلق من نطفة ، وقد ولدته سيدة نساء العالمين المطهرة عن الأدناس ، وتربى في حجر الأنبياء والأولياء ، وتكلم

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١٩.

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٤٣.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٥٣.

في المهد بعبودية نفسه ، وربوبية الله ، لم يخل زمانا من التوحيد والشرائع ، ولم يلتفت إلى زخارف الدنيا ، ولم يستمتع بلذاتها ، ولم يدخر قوت يوم ، ولم يسع في هلاك نفس ، أو سبيها ، أو استرقاقها ، ولا في أخذ مال ولا ولد ، ولا إيذاء لأحد ، معجزاته من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص أبهر المعجزات وأشهرها ، ثم هو في السماء ، ومن زمرة الأحياء ، ونبوته مما اتفق عليها ذو والآراء ، واعترف بها خاتم الأنبياء.

والجواب : أن البعض من ذلك حجة لنا وشاهد بفضل نبينا ، كالولادة من المشركين والمشركات ، والتربي في حجرهم ، مع المواظبة على التوحيد والطاعات ، وكالإقبال على الجهاد ، وقمع المشركين ، وقهر أعداء الدين ، وكالقيام بمصالح نظام العالم ، مع الاستغراق في التوجه إلى جناب القدس. وأما معجزاته ، فإنما اشتهر تلك الشهرة بإخبار من نبينا وكتابه ، مع ذلك فأين هن من معجزاته؟ ثم الكون ميتا في الأرض أنفع للأمة من الكون حيا في السماء ، حيث صارت الروضة المقدسة مهبطا للبركات ، ومصعدا للدعوات ، وموطنا للاجتماع على الطاعات .. إلى غير ذلك من أنواع الخيرات .. ونبوة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مما نطق به العجماء ، وشهد به رب الأرض والسماء واتفق عليه من سبقه من الأنبياء ، وخصائصه مما لا يضبطه العد والإحصاء وقد أشرقت الأرض بنورها إشراق الشمس في كبد السماء. فصياح الخصماء نباح الكلاب في الليلة القمراء ..

قال خاتمة

(معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إلى المسجد الأقصى ثابت بالكتاب (١) وهو في اليقظة وبالجسد بإجماع القرن الثاني ، ثم إلى السماء بالخير المستفيض ، ثم إلى الجنة أو إلى العرش أو إلى طرف العالم بخبر الواحد ، وما روي عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت : والله ما فقدت جسد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم). وعن معاوية أنها كانت رؤيا صالحة ، لا يعارض ما ذكرنا على أنه لو ادعى المعراج للروح أو في المنام لما نكره الكفار غاية الإنكار).

__________________

(١) قال تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

قد ثبت معراج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بالكتاب والسنة ، وإجماع الأمة. إلا أن الخلاف في أنه في المنام أو في اليقظة؟ وبالروح فقط ، أو بالجسد؟ وإلى المسجد الأقصى فقط أو إلى السماء؟ والحق أنه في اليقظة بالجسد إلى المسجد الأقصى بشهادة الكتاب ، وإجماع القرن الثاني ومن بعدهم ، ثم إلى السماء بالأحاديث المشهورة ، والمنكر مبتدع ، ثم إلى الجنة أو العرش ، أو طرف العالم على اختلاف الآراء بخبر الواحد ، وقد اشتهر أنه نعت لقريش المسجد الأقصى على ما هو عليه ، وأخبرهم بحال غيرهم ، وكان على ما أخبر وبما رأى في السماء من العجائب ، وبما شاهد من أحوال الأنبياء على ما هو مذكور في كتب الأحاديث لنا أنه أمر ممكن أخبر به الصادق ، ودليل الإمكان أما تماثل الأجسام ، فيجوز الخرق على السماء كالأرض ، وعروج الإنسان كغيره ، وأما عدم دليل الامتناع وأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، وأيضا لو كان دعوى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) المعراج في المنام أو بالروح لما أنكره الكفرة غاية الإنكار ، ولم يرتد بعض من أسلم ترددا منه في صدق النبي (عليه‌السلام) تمسك المخالف بما روي عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت : والله ما فقدت جسد محمد رسول الله ، وعن معاوية إنها كانت رؤيا صالحة ، وأنت خبير بأنه على تقدير صحة روايته لا يصلح حجة في مقابلة ما ورد من الأحاديث وأقوال كبار الصحابة ، وإجماع القرون اللاحقة.

قال : المبحث السادس

(الأنبياء معصومون عما ينافي مقتضى المعجزة كالكذب في التبليغ. وجوزه القاضي سهوا ، وعن الكفر ، وجوزه الأزارقة (١) حيث جوزوا الذنب مع القول بأن كل ذنب كفر ، وعن تعمد الكبار سمعا عندنا ، وعقلا عند المعتزلة ، وجوزه الحشوية

__________________

(١) الأزارقة : فرقة من فرق الخوارج التي تزعمها نافع بن الأزرق الذي توفي في حياة عبد الملك بن مروان عام ٦٥ ه‍ وهو من أصل البصرة ، صحب في أول أمره عبد الله بن عباس ، وله أسئلة رواها عنه قال الذهبي مجموعة في جزء أخرج الطبراني بعضها في مسند ابن عباس من المعجم الكبير ، وكان وأصحاب له من أنصار الثورة على عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ووالوا عليا إلى أن كانت قضية التحكيم فاجتمعوا في حروراء ، وهي قرية من ضواحي الكوفة ونادوا بالخروج على علي ، وكان نافع جبارا فتاكا قاتله المهلب ابن أبي صفرة ، ولقى الأهوال في حربه وقتل يوم «دولاب» على مقربة من الأهواز.

وعن الصغائر المنفرة وكذا تعمد غير المنفرة خلافا لإمام الحرمين ، وأبي هاشم ، والمختار عن سهو الكبيرة أيضا لنا لو صدر عنهم الذنب ، لزم حرمة اتباعهم ، ورد شهادتهم ، ووجوب زجرهم ، واستحقاقهم العذاب والذم ، وعدم نيلهم عهد النبوة ، وكونهم غير مخلصين ، وغير مسارعين في الخيرات ، وغير معدودين من المصطفين الأخيار ، واللوازم منتفية ، وفي قيام بعض الوجوه على الصغيرة ، وسهو الكبيرة نظر. احتج المخالف بما نقل من نسبة المعصية والذنب إليهم ، ومن توبتهم واستغفارهم. والجواب إجمالا رد ما نقل آحادا وحمل المتواتر والمنصوص على السهو ، أو ترك الأولى ، أو ما قبل البعثة ، أو نحو ذلك والتفاصيل في التفاسير).

في عصمة الأنبياء ، وقد سبق أن المعجزة تقتضي الصدق في دعوى النبوة وما يتعلق بها من التبليغ ، وشرعية الأحكام. فما يتوهم صدوره عن الأنبياء من القبائح إما أن يكون منافيا لما يقتضيه المعجزة كالكذب فيما يتعلق بالتبليغ أو لا. والثاني إما أن يكون كفرا ومعصية غيره ، وهي إما أن تكون كبيرة كالقتل والزنا ، أو صغيرة منفرة كسرقة لقمة ، والتطفيف بحبة. أو غير منفرة ككذبة ، وهمّ بمعصية. كل ذلك إما عمدا أو سهوا ، وبعد البعثة أو قبلها. والجمهور على وجوب عصمتهم (١) عما ينافي مقتضى المعجزة ، وقد جوزه القاضي سهوا زعما منه أنه لا يدخل في التصديق المقصود بالمعجزة وعن الكفر ، وقد جوزه الأزارقة من الخوارج بناء على تجويزهم الذنب ، مع قولهم بأن كل ذنب كفر ، وجوز الشيعة إظهاره تقية واحترازا عن إلقاء النفس في التهلكة ورد بأن أولى الأوقات بالتقية ابتداع الدعوة لضعف الداعي ، وشوكة المخالف وكذا عن تعمد الكبائر بعد البعثة ، فعندنا سمعا ، وعند المعتزلة عقلا ، وجوزه الحشوية (٢) إما لعدم دليل الامتناع ، وإما لما سيجيء من شبه الوقوع ،

__________________

(١) العصمة : ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها ، والعصمة المؤثمة : هي التي يجعل من هتكها آثما ، والعصمة المقومة : هي التي يثبت بها للانسان قيمة بحيث من هتكها فعليه القصاص أو الدية.

(٢) الحشوية : فرقة من الفرق الإسلامية أجمعت على الجبر والتشبيه ، وينكرون الخوض في الكلام والجدل ، ويقولون على التقليد وظواهر الروايات والتشبيه ولهذا تسمى بالمشبهة وتنسب هذه الفرقة إلى محمد ابن كرام الذي نشأ في سجستان وتوفي ببيت المقدس سنة ٨٦٩ م.

وكذا عن الصغائر المنفرة لإخلالها بالدعوة إلى الاتباع. ولهذا ذهب كثير من المعتزلة إلى نفي الكبائر قبل البعثة أيضا ، وبعض الشيعة إلى نفي الصغائر ولو سهوا. والمذهب عندنا منع الكبائر بعد البعثة مطلقا ، والصغائر عمدا لا سهوا ، لكن لا يصرون ولا يقرون ، بل ينبهون فيتنبهون ، وذهب إمام الحرمين منا وأبو هاشم من المعتزلة إلى تجويز الصغائر عمدا. لنا. أنه لو صدر عنهم الذنب لزم أمور كلها منتفية.

الأول ـ حرمة اتباعهم. لكنه واجب بالإجماع ، وبقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (١).

الثاني ـ رد شهادتهم ـ لقوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ...) (٢) الآية.

والإجماع على ذلك ، لكنه منتف للقطع بأن من يرد شهادته في القليل من متاع الدنيا لا يستحق القبول في أمر الدين القائم إلى يوم الدين.

الثالث ـ وجوب منعهم وزجرهم ، لعموم أدلة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. لكنه منتف لاستلزامه إيذائهم المحرم بالإجماع ، ولقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ...) (٣) الآية.

الرابع ـ استحقاقهم العذاب واللعن واللوم والذم لدخولهم تحت قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) (٤) وقوله (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٥) وقوله : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٦) وقوله : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (٧).

لكن ذلك منتف بالإجماع. ولكونه من أعظم المنفرات.

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ٣١.

(٢) سورة الحجرات آية رقم ٦.

(٣) سورة التوبة آية رقم ٦١.

(٤) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٥) سورة هود آية رقم ١٨.

(٦) سورة الصف آية رقم ٢.

(٧) سورة البقرة آية رقم ٤٤.

الخامس ـ عدم نيلهم عهد النبوة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١) فإن المراد به النبوة أو الإمامة التي دونها.

السادس ـ كونهم غير مخلصين ، لأن المذنب قد أغواه الشيطان ، والمخلص ليس كذلك لقوله تعالى حكاية : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

لكن اللازم منتف بالإجماع. وبقوله تعالى في إبراهيم ويعقوب : (إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٣). وفي يوسف : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (٤).

السابع ـ كونهم من حزب الشيطان ومتبعيه. واللازم قطعي البطلان.

الثامن ـ عدم كونهم مسارعين في الخيرات ، ومعدودين عند الله من المصطفين الأخيار ، إذ لا خير في الذنب ، لكن اللازم منتف لقوله تعالى في حق بعضهم : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) (٥). (وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٦).

وحصول المطلوب من هذه الوجوه ، محل بحث ، لأن وجوب الاتباع إنما هو فيما يتعلق بالشريعة وتبليغ الأحكام ، وبالجملة فيما ليس بزلة ولا طبع واستحقاق العذاب ، ورد الشهادة إنما يكون بكبيرة ، أو إصرار على صغيرة من غير إنابة ورجوع ، ولزوم الزجر والمنع ، واستحقاق العذاب واللوم إنما هو على تقدير التعمد وعدم الإنابة ، ومع ذلك فلا يتأذى به النبي ، بل يبتهج وبمجرد كبيرة سهوا أو صغيرة ولو عمدا لا يعد المرء من الظالمين على الإطلاق ، ولا من الذين أغواهم الشيطان ، ولا من حزب الشيطان ، سيما مع الإنابة ، وعلى كون الخيرات لعموم كل

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

(٢) سورة الحجر آية رقم ٣٩ ، ٤٠.

(٣) سورة ص آية رقم ٤٦.

(٤) سورة يوسف آية رقم ٢٤.

(٥) سورة الأنبياء آية رقم ٩٠.

(٦) سورة ص آية رقم ٤٧.

فعل وترك. فمسارعة البعض إليها أو كونه من زمرة الأخيار لا ينافي صدور ذنب عن آخر سيما سهوا أو مع التوبة (١). وبالجملة فدلالة الوجوه المذكورة على نفي الكبيرة سهوا ، أو الصغيرة الغير المنفر عمدا على ما هو المتنازع محل نظر ، احتج المخالف بما نقل من أقاصيص الأنبياء ، وما شهد به كتاب الله من نسبة المعصية والذنب إليهم ، ومن توبتهم واستغفارهم وأمثال ذلك.

والجواب عنه إما إجمالا فهو أن ما نقل آحادا مردود وما نقل متواترا أو منصوصا في الكتاب محمول على السهو والنسيان أو ترك الأولى ، أو كونه قبل البعثة ، أو غير ذلك من المحامل والتأويلات ، وإما تفصيلا فمذكور في التفاسير وفي الكتب المصنفة في هذا الباب. أما في قصة آدم (عليه‌السلام) فأمران.

أحدهما ـ ما ورد في التنزيل من أنه عصى وغوى وأزله الشيطان ، وخالف النهي عن أكل الشجرة ، وبنزع اللباس ، والإخراج من الجنة ثم تاب الله تعالى عليه واجتباه.

والجواب : أنه كان قبل البعثة كيف ولم تكن له في الجنة أمة أو كان عن نسيان لقوله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢).

أو كان زلة وسهوا حيث ظن أن المنهي شجرة بعينها ، وقد قرب فردا آخر من جنسها ، وإنما عوتب لترك التيقظ والتنبه لإصابة المراد. وقد يعتذر بأنه وإن كان عمدا ، لكن لم يكن إلا صغيرة ، وهذا هو الظاهر ، إلا إن فيه تسليما للمدعي.

وثانيهما ـ قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها)(٣). إلى قوله : (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما).

ولم يقل أحد في حق الأنبياء بالشرك في الألوهية ولو قبل البعثة ، فالوجه على

__________________

(١) التوبة : هي الرجوع إلى الله بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب. والتوبة النصوح : هي توثيق بالعزم على أن لا يعود لمثله. قال ابن عباس : التوبة النصوح : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان ، والإقلاع بالبدن ، والإضمار على أن لا يعود.

(٢) سورة طه آية رقم ١١٥.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ١٨٩ ، ١٩٠.

أنه على حذف المضاف أي جعل أولادهما له شركاء ، بدليل قوله تعالى : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

أو المراد ما وقع له من الميل إلى طاعة الشيطان ، وقبول وسوسته ، أو الخطاب لقريش ، والنفس الواحدة قضى. ومعنى «جعل منها زوجها» جعلها من جنسها عربية قرشية. وإشراكهما فيما آتاهما الله تسمية أولادهما بعبد مناف ، وعبد العزى ، وعبد الدار ، ونحو ذلك ، وأما الشبهة في حق نوح (عليه‌السلام) فهو أن قوله تعالى : (يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) (٢) تكذيب له في قوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) (٣).

والجواب أنه ليس للتكذيب ، بل للتنبيه ، على أن المراد بالأهل في الوعد هو الأهل الصالح ، أو المعنى أنه ليس من أهل دينك ، أو أنه أجنبي منك ، وإن أضفته إلى نفسك بأبنائك لما روي من أنه كان ابن امرأته ، والأجنبي إنما يعد من آل النبي إذا كان له عمل صالح ، وأما الشبهة في حق إبراهيم (عليه‌السلام) فهو أنه كذب في قوله تعالى : (هذا رَبِّي) (٤) و(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) (٥) و(إِنِّي سَقِيمٌ) (٦).

والجواب : أن الأول على سبيل الفرض والتقدير ، كما يوضع الحكم الذي يراد إبطاله أو على الاستفهام ، أو على أنه كان في مقام النظر والاستدلال. وذلك قبل البعثة.

والثاني على التعريض والاستهزاء.

والثالث على أن به مرض الهم والحزن من عنادهم ، أو الحمى على ما قيل. وأما الشبهة في قصة يوسف من جهة يعقوب (عليهما‌السلام) الإفراط في المحبة ، والحزن والبكاء.

والجواب : أنه لا معصية في ميل النفس سيما من يلوح عليه آثار الخير

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٩٠.

(٢) سورة هود آية رقم ٤٦.

(٣) سورة هود آية رقم ٤٥.

(٤) سورة الأنعام آية رقم ٤٦.

(٥) سورة الأنبياء آية رقم ٦٣.

(٦) سورة الصافات آية رقم ٨٩.

والصلاح ، وأنواع الكمال ، ولا في بث الشكوى والحزن إلى الله تعالى في مصائب يكون من جهة العباد سيما وقيل : إنه كان من خوف أن يموت يوسف (عليه‌السلام) على غير دين الإسلام. ومن جهة الأخوة ما فعلوا بيوسف ، وما قالوا من الكذب.

والجواب : أنهم لم يكونوا أنبياء. ومن جهة يوسف الهم المشار إليه بقوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) (١) و(جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) (٢).

والرضا بسجود إخوته وأبويه له.

والجواب : أن ذلك قبل البعثة. أو المراد : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٣) على أن يكون الجواب المحذوف ما دل عليه الكلام السابق. ويكون التقدير : لو لا أن رأى برهان ربه لخالطها ، أو المراد الميلان المذكور في الطبيعة البشرية ، لا الهم بالمعصية ، والقصد إليها ، أو هو من باب المشارفة ، أي شارف أن يهم بها. وبالجملة فلا دلالة هاهنا على العزم والقصد إلى المعصية فضلا عما يذكره الحشوية من الحشويات. ولهذا ورد في هذا المقام من الثناء على يوسف ما ورد من غير أن تنعى عليه زلة ، أو يذكر له استغفار وتوبة.

وأما جعل السقاية في رحل أخيه ، فقد كان بإذنه ورضاه ، بل بإذن الله تعالى. ونسبة السرقة إلى الأخوة تورية عما كانوا فعلوا بيوسف مما يجري مجرى السرقة. أو هو قول المؤذن : والسجدة كانت عندهم تحية وتكرمة كالقيام والمصافحة. لو كانت مجرد انحناء وتواضع ، لا وضع جبهة.

وأما في قصة موسى فقتل القبطي وتوبته عنه ، واعترافه لكونه من عمل الشيطان محمول على أنه كان خطأ ، وقبل البعثة ، وإذنه للسحرة في إظهار السحر بقوله : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) (٤).

__________________

(١) سورة يوسف آية رقم ٢٤.

(٢) سورة يوسف آية رقم ٧٠.

(٣) سورة يوسف آية رقم ٢٤.

(٤) سورة يونس آية رقم ٨٠.

ليس رضاء به. بل الغرض إظهار إبطاله ، او اظهار معجزته ، ولا يتم الا به وقيل لم يكن حراما حينئذ ، وإلقاء الألواح كان عن دهشة وتحير لشدة غضبه والأخذ برأس هارون ، وجره إليه لم يكن على سبيل الإيذاء ، بل كان يدنيه الى نفسه ليتفحص منه حقيقة الحال ، فخاف هارون أن يحمله بنو إسرائيل على الإيذاء ، ويفضي إلى شماتة الأعداء ، فلم يثبت بذلك ذنب له ، ولا لهارون ، فإنه كان ينهاهم عن عبادة العجل ، وقوله للخضر : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (١) أي عجبا. وما فعله الخضر كان بإذن الله تعالى.

وأما في قصة داود (عليه‌السلام) ، فلم يثبت سوى أنه خطب امرأة كان خطبها أوريا ، فزوجها أولياؤها داود دون أوريا ، أو سأل أن ينزل عنها فيطلقها ، وكان ذلك عادة في عهده ، فكان زلة منه لاستغنائه بتسعة وتسعين ، والخصمان كانا ملكين أرسلهما الله تعالى إليه لينبهاه ، فلما تنبه ، استغفر ربه ، وخرّ راكعا وأناب. وسياق الآيات يدل على كرامته عند الله تعالى ، ونزاهته عما ينسبه إليه الحشوية ، إلا أنه بالغ في التضرع والتحزن والبكاء والاستغفار استعظاما للزلة بالنظر إلى ماله من رفيع المنزلة ، وتقرير الملكين تمثيل وتصوير للقصة ، لا إخبار بمضمون الكلام ، ليلزم الكذب ، ويحتاج إلى ما قيل إن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة ، فلما رآهما اخترعا الدعوى. أو كانا راعيي غنم ظلم أحدهما الآخر ، والكلام على حقيقته.

وأما في قصة سليمان فأمور :

أحدها ما أشير إليه بقوله : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ...) (٢) الخ.

وذلك انه اشتغل باستعراض الأفراس حتى غربت الشمس ، وغفل عن العصر ، أو عن ورد كان له وقت العشي ، فاغتمّ لذلك ، واسترد الأفراس فعقرها.

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٧٤.

(٢) سورة ص آية رقم ٣١.

والجواب : أن ذلك كان على سبيل السهو والنسيان ، وعقر الجياد ، وضرب أعناقها كان لإظهار الندم ، وقصد التقرب إلى الله تعالى ، والتصدق على الفقراء من أحب ماله. على أن المفسرين من قال : المراد حبه للجهاد ، وإعلاء كلمة الله. وضمير «توارت» للجياد ، لا للشمس ، وإنما طفق مسحا بالسوق والأعناق تشريفا لها ، أو امتحانا ، أو إظهارا لإصلاح آلة الجهاد بنفسه.

وثانيها ـ ما أشير إليه بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ..) (١) الآية.

فإن كان ذلك ما روي أنه ولد له ابن ، فكان يغذوه في السحابة خوفا من أن تقتله الشياطين أو تخبله ، مما دعاه ، إلى أن ألقي على كرسيه ميتا ، فتنبه لخطئه في ترك التوكل ، فاستغفر وأناب. فهذا مما لا بأس به ، وغايته ترك الأولى ، وليس في التحفظ ، ومباشرة الأسباب ترك الامتثال لأمر التوكل على ما قال (عليه‌السلام) : «اعقلها وتوكل» (٢).

وكذا ما روي أنه قال : «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ، كل واحدة تأتي بفارس مجاهد في سبيل الله» ولم يقل : «إن شاء الله». فلم تحمل إلا امرأة واحدة ، جاءت بشق ولد له عين واحدة ، ويد واحدة ، ورجل واحدة. فألقته القابلة على كرسيه.

وأما ما روي عن حديث الخاتم والشيطان ، وعبادة الوثن في بيته ، وجلوس الشيطان على كرسيه ، فعلى تقدير صحته يجوز أن يكون اتخاذ التماثيل غير محرم في شريعته وعبادة التماثيل في بيته غير معلوم له.

وثالثها ـ ما يشعر به قوله تعالى : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)(٣).

__________________

(١) سورة ص آية رقم ٣٤.

(٢) الحديث أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة ٦٠ باب ٢٥١٧ حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ابن سعيد القطان حدثنا المغيرة بن أبي قرة السدوسي قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رجل يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل قال : أعقلها وتوكل. قال عمرو بن علي ، قال : يحيى ، وهذا عندي حديث منكر. وقال الترمذي : وهذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إلا من هذه الوجه.

(٣) سورة ص آية رقم ٣٥.

من الحسد ، وعدم إرادة الخير للغير.

والجواب : أن ذلك لم يكن حسدا ، بل طلبا للمعجزة على وفق ما غلب في زمانه ، ولاق بحاله. فإنهم كانوا يفتخرون في ذلك العهد بالملك والجاه ، وهو كان ناشئا في بيت الملك والنبوة ، ووارثا لهما ، أو إظهارا لإمكان طاعة الله وعبادته مع هذا الملك العظيم. وقيل: أراد ملكا لا يورث مني ، وهو ملك الدين ، لا الدنيا ، أو ملكا لا أسلبه ، ولا يقوم فيه غيري مقامي ، كما وقع ذلك مرة. وقيل : ملكا خفيا لا ينبغي للناس ، وهي القناعة. وقيل : كان ملكه عظيما ، فخاف أن لا يقوم غيره بشكره ولا يحافظ فيه على حدود الله.

وأما في قصة يونس مما يشعر به قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (١)

فالجواب أن المغاضبة على الكفار المعاندين ، لا على الله تعالى. ومعنى: «لن نقدر» ، لن نضيق عليه. كما في قوله تعالى : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (٢)

فلا يوجب شكا في القدرة. ومعنى الظلم في قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٣) ترك الأفضل وهو الصبر. وهذا معنى قوله تعالى : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٤)

أي في ترك الصبر على معاندة الكفار.

وأما في حق نبينا فمثل : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) (٥) و(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِ) (٦) و(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ) (٧).

محمول على ما فرط منه من الزلة وترك الأفضل ، وقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى)(٨).

معناه فقدان الشرائع والأحكام ، وقيل : إنه ضل في صباه في بعض شعاب

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٨٧.

(٢) سورة الفجر آية رقم ١٦.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ٨٧.

(٤) سورة القلم آية رقم ٤٨.

(٥) سورة غافر آية رقم ٥٥.

(٦) سورة التوبة آية رقم ١١٧.

(٧) سورة الفتح آية رقم ٢.

(٨) سورة الضحى آية رقم ٧.

مكة ، فرده أبو جهل إلى عبد المطلب. وقيل : ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب. وبالجملة لا دلالة على العصيان ، والميل عن طريق الحق. ولذا قال : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) (١) وقوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) (٢).

ثم لما كان يثقل عليه ، ويغمه من فرطاته قبل النبوة ، أو من جهله بالشرائع والأحكام ، أو من تهالكه على إسلام أولي العناد وتلهفه.

وقوله : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٣). تلطف في الخطاب ، وعتاب على ترك الأفضل ، وإرشاد إلى الاحتياط في تدبيره الخيرات. قوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ..) إلى قوله : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (٤)

عتاب على ترك الأفضل ، وهو أن لا يرضى باختيار الصحابة الفداء. وكذا الكلام في قوله : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥)

وقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٦).

وما روي من أنه قرأ بعد قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٧) «تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى» فلما أخبره جبريل بما وقع منه ، حزن وخاف خوفا شديدا ، فنزل قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) (٨).

تسلية له.

فالجواب : أنه كان من إلقاء الشيطان ، لا تعمدا منه. وقيل : بل الغرانيق هي الملائكة. وكان هذا قرآنا فنسخ. وقيل : معنى تمنى النبي حديث النفس. وكان الشيطان يوسوس إليه غير الهدى ، فينسخ الله وساوسه من نفسه ، ويهديه إلى الصواب.

__________________

(١) سورة النجم آية رقم ٢.

(٢) سورة الشرح آية رقم ٢.

(٣) سورة التوبة آية رقم ٤٣.

(٤) سورة الأنفال آية رقم ٦٧.

(٥) سورة التحريم آية رقم ١.

(٦) سورة عبس آية رقم ١ ، ٢.

(٧) سورة النجم آية رقم ١٩ ، ٢٠.

(٨) سورة الحج آية رقم ٥٢.

وقوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) (١).

عتاب على أنه أخفى في نفسه عزيمة تزوج زينب عند تطليق زيد إياها خوفا من طعن المنافقين ، ولا خفاء في أن إخفاء أمر دنيوي خوفا من طعن أعداء الدين ليس من الصغائر ، فضلا عن الكبائر ، بل غايته زلة وترك الأولى.

وكذا ميلان القلب لزينب ، وأما مثل قوله :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) (٢) (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (٣) (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٤) (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٥) (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) (٦).

والجواب : أن الأمر لا يقتضي سابقة تركه ، ولا النهي سابقة فعله ، ولا الشرط وقوع مضمونه ، وبالجملة فمسألة جواز الصغيرة عمدا على الأنبياء في معرض الاجتهاد لا قاطع فيها ، لا نفيا ولا إثباتا.

فإن قيل : ما بال زلة الأنبياء حكيت بحيث تقرأ بأعلى الصوت على وجه الزمان ، مع أن الله غفار ستار ، وقد أمرنا بالستر على من ارتكب ذنبا؟

قلنا ليدل على صدق الأنبياء ، وكون ما يبلغون السيئ بأمر من الله من غير إخفاء لشيء ، أو ليكون امتحانا للأمم كيف يفعلون بأنبيائهم بعد الاطلاع على زلالتهم ، وليعلموا أن الأنبياء مع جلالة قدرهم ، وكثرة طاعاتهم كيف التجئوا إلى التضرع والاستغفار في أدنى زلة ، وأن الصغيرة ليست مما يقدح في الولاية والإيمان البتة ، أو تقع مكفرة لا محالة ، بحيث لا عتاب عليها ولا عقاب.

__________________

(١) سورة الأحزاب آية رقم ٣٧.

(٢) سورة الأحزاب آية رقم ١.

(٣) سورة الأنعام آية رقم ٥٢.

(٤) سورة البقرة آية رقم ١٤٧.

(٥) سورة الزمر آية رقم ٦٥.

(٦) سورة يونس آية رقم ٩٤.

قال : خاتمة

(خاتمة ـ النبوة مشروطة بالذكورة ، وكمال العقل ، وقوة الرأي ، والسلامة عن المنفرات كزنا الآباء ، وعهر الأمهات والفظاظة ، ومثل البرص ، والجذام ، والحرف الدنيئة ، وكل ما يخل بالمروءة وحكمة البعثة ، ونحو ذلك).

من شروط النبوة الذكورة ، وكمال العقل ، والذكاء ، والفطنة ، وقوة الرأي ، ولو في الصبا كعيسى ويحيى (عليهما‌السلام) ، والسلامة عن كل ما ينفر عنه كزنا الآباء ، وعهر الأمهات ، والغلظة والفظاظة ، والعيوب المنفرة كالبرص ، والجذام ، ونحو ذلك ، والأمور المخلة بالمروءة كالأكل على الطريق ، والحرف الدنيئة كالحجامة ، وكل ما يخل بحكم البعثة من أداء الشرائع ، وقبول الأمة.

قال : وقد ورد

(وقد ورد في الحديث أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر ، لكن الأولى ترك التنصيص لأنه ربما يفضي إلى إثبات النبوة حيث ليس ، ونفيها حيث أيس ، ويخالف ظاهر قوله تعالى (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) (١).

يعني قد ذكر في بعض الأحاديث بيان عدد الأنبياء والرسل على ما روي عن أبي ذر الغفاري أنه قال : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كم الأنبياء؟ فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا. فقلت : وكم الرسل؟ فقال ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا. لكن ذكر بعض العلماء أن الأولى أن لا يقتصر عددهم لأن خبر الواحد على تقدير اشتماله على جميع الشرائط لا يفيد إلا الظن ، ولا يعتبر إلا في العمليات دون الاعتقادات وهاهنا حصر عددهم يخالف ظاهر قوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ) (٢)

ويحتمل أيضا مخالفة الواقع ، وإثبات نبوة من ليس بنبي إن كان عددهم في

__________________

(١) سورة غافر آية رقم ٧٨.

(٢) سورة غافر آية رقم ٧٨.

الواقع أقل مما ذكر. ونفي النبوة عمن هو نبي إن كان أكثر. فالأولى عدم التنصيص على عدد.

قال : المبحث السابع

(المبحث السابع ـ الملائكة عباد مكرمون ، يواظبون على الطاعة ، ويظهرون في صور مختلفة ، ويتمكنون من أفعال شاقة ، ومع كونهم أجساما أحياء ، لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة. واختلفت الأمة في عصمتهم ، وفي فضلهم على الأنبياء.

تمسك القائلون بالعصمة بمثل قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) ... (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢).

والمخالفون بأن إبليس مع كونه من الملائكة (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٣) ، وبأن قول الملائكة (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ..) (٤) الآية

اغتياب للخليفة ، واستبعاد لفعل الله تعالى ، وإعجاب بأنفسهم ، وبأن هاروت وماروت يعذبان لارتكابهما السحر.

والجواب : أن إبليس من الجن ، وعد من الملائكة تغليبا ، وأن الاغتياب والإعجاب إنما هو حيث يكون الغرض منقصة الغير ومنقبة النفس ، وإنما غرضهم التعجب والاستفسار عن حكمة استخلاف من لا يليق به مع وجود اللائق ، وأن هاروت وماروت لم يكونا مرتكبين للسحر ، ولا معتقدين لتأثيره ، وإنما أنزل عليهما السحر ابتلاء للناس ، وكانا يعلمان ويعظان ويقولان : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) (٥) وتعذيبهما معاتبة كما يعاتب الأنبياء. وتمسك القائلون بفضل الأنبياء وهم جمهور أصحابنا والشيعة بوجوه :

الأول : أمر الملائكة بالسجود لآدم سجدة الأدنى للأعلى تعظيما وتكرمة ، لا

__________________

(١) سورة النحل آية رقم ٤٩ ، ٥٠.

(٢) سورة النحل آية رقم ٤٩ ، ٥٠.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٣٤.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٣٠.

(٥) سورة البقرة آية رقم ١٠٢.

زيارة وتحية ، بدليل استكبار إبليس وتعليله بأنه خير منه لكونه من نار ، وآدم من طين.

الثاني ـ أمر آدم بتعليمهم الأسماء قصدا إلى إظهار فضله.

الثالث ـ أن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، الذين من جملتهم الملائكة.

الرابع ـ ان المواظبة على الطاعات مع الشواغل واكتساب الكمال مع العوائق أدخل في استحقاق الثواب.

جمهور المسلمين على أن الملائكة أجسام لطيفة تظهر في صور مختلفة ، وتقوى على أفعال شاقة ، هم عباد مكرمون يواظبون على الطاعة والعبادة ، ولا يوصفون بالذكورة والأنوثة ، واستقر الخلاف بين المسلمين في عصمتهم ، وفي فضلهم على الأنبياء ، ولا قاطع في أحد الجانبين ، فلنذكر تمسكات الفريقين في المقامين :

المقام الأول ـ أعني العصمة ، فتمسك المثبتون بمثل قوله تعالى : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) وقوله تعالى : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) .. إلى قوله : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢) وقوله تعالى : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٣)

ولا خفاء في أن أمثال هذه العمومات تفيد الظن وإن لم تفد اليقين ، وما يقال أنه لا عبرة بالظنيات في باب الاعتقادات. فإن أريد أنه لا يحصل منه الاعتقاد الجازم ولا يصح الحكم القطعي ، فلا نزاع فيه. وإن أريد أنه لا يحصل الظن بذلك الحكم فظاهر البطلان. تمسك النافون بوجوه :

الأول ـ أن إبليس مع كونه من الملائكة بدليل تناول أمر الملائكة بالسجود في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (٤) إياه. ولذا عوتب بقوله تعالى :

__________________

(١) سورة النحل آية رقم ٤٩ ، ٥٠.

(٢) سورة الأنبياء آية رقم ٢٦ : ٢٨.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ١٩ ، ٢٠.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٣٤.

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) (١).

وبدليل صحة استثنائه منهم في قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (٢)

وقوله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) (٣).

ورد بالمنع بل (كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) وإنما أدرج في الملائكة على سبيل التغليب لكونه جنيا واحدا مغمورا فيما بينهم ، لا يقال معنى قوله : «كان من الجن» صار أو كان من طائفة من الملائكة مسماة بالجن ، شأنهم الاستكبار ، لأنا نقول : هذا مع كونه كلاما على السند خلاف الظاهر.

الثاني ـ أن قولهم في جواب : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٤) اغتياب للخليفة واستبعاد لفعل الله تعالى ، بحيث يشبه صورة الإنكار بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون ، واتباع للظن ، ورجم بالغيب فيما لا يليق ، وإعجاب بأنفسهم ، وتزكية لها. وأمثال هذه تخل بالعصمة لا محالة.

والجواب : ان الاغتياب إنما يكون حيث الغرض إظهار منقصة الغير ، والتزكية حيث الغرض إظهار منقبة النفس. ولا يتصور ذلك بالنسبة إلى علام الغيوب ، بل الغرض التعجب والاستفسار عن حكمة استخلاف من يتصف بما لا يليق بذلك ، مع وجود الأولى والأليق. وإنما علموا ذلك بإعلام من الله تعالى ، أو مشاهدة من اللوح ، أو مقايسة بين الجن والإنس بمشاركتهما في الشهوة والغضب المفضيين إلى الفساد وسفك الدماء. لا يقال قوله تعالى : (أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) اي في أني استخلف من يتصف بما ذكرتم ينافي كون ذلك متحققا معلوما لهم بإعلام من الله تعالى ، أو إخبار ، أو بمشاهدة من اللوح ، لأنا نقول :

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٢.

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١١.

(٣) سورة الحجر آية رقم ٣٠ ، ٣١.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٣٠.

المعنى (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) في أني أستخلف من يتصف بذلك من غير حكم ، ومصالح ، وصفات تلائم الاستخلاف ، إذ التعجب إنما يكون عند ذلك. ولذا قال في الرد عليهم (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

إشارة إلى تلك الحكم والمصالح. لا يقال : ففيه دلالة على نفي العصمة بإثبات الكذب من الجملة ، لأنا نقول : هذا القدر من الخطأ والسهو لا ينافي العصمة ، ولا يوجب المعصية.

الثالث ـ قصة هاروت وماروت ملكين ببابل يعذبان لارتكابهما السحر.

والجواب : منع ارتكابهما العمل بالسحر ، واعتقاد تأثيره ، بل أنزل الله تعالى عليهما السحر ابتلاء للناس ، فمن تعلمه وعمل به فكافر. ومن تجنبه أو تعلمه ليتوقّاه ، ولا يغتر به فهو مؤمن ، وهما كانا يعظان الناس ويقولان : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) (٣) للناس وابتلاء ، فلا تكفروا. أي لا تعتقدوا ولا تعملوا فإن ذلك كفر. وتعذيبهما إنما هو على وجه المعاتبة كما تعاتب الأنبياء على السهو والزلة من غير ارتكاب منهما لكبيرة فضلا عن كفر ، واعتقاد سحر أو عمل به. واليهود هم الذين يدعون أن الواحد من الملك قد يرتكب الكبيرة فيعاقبه الله بالمسخ.

وأما المقام الثاني فذهب جمهور أصحابنا والشيعة إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة ، فالمعتزلة والقاضي ، وأبي عبد الله الحليمي منا. وصرح بعض أصحابنا بأنّا عوام البشر من المؤمنين أفضل من عوام الملائكة ، وخواص الملائكة أفضل من عوام البشر ، أي غير الأنبياء. لنا وجوه نقلية وعقلية :

الأول ـ أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، والحكيم لا يأمر بسجود الأفضل للأدنى. وإباء إبليس ، واستكباره ، والتعليل بأنه خير من آدم لكونه من نار وآدم من طين ، يدل على أن المأمور به كان سجود تكرمة وتعظيم ، لا

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٣٨ وسورة يونس آية رقم ٣٨ وسورة هود آية رقم ١٣ ، وسورة النحل آية رقم ٧١.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٣٠.

(٣) سورة البقرة آية رقم ١٠٢.

سجود تحية وزيارة ، ولا سجود الأعلى للأدنى إعظاما له ، ورفعا لمنزلته ، وهضما لنفوس الساجدين.

الثاني ـ أن آدم أنبأهم بالأسماء وبما علم الله من الخصائص. والمعلم أفضل من المتعلم ، وسوق الآية ينادي على أن الغرض إظهار ما خفي عليهم من أفضلية آدم ، ودفع ما توهموا فيه من النقصان. ولذا قال الله تعالى : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(١)

وبهذا يندفع ما يقال : إن لهم أيضا علوما جمة أضعاف العلم بالأسماء لما شاهدوا من اللوح وحصلوا في الأزمنة المتطاولة بالتجارب والأنظار المتوالية.

الثالث ـ قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢).

وقد خص من آل إبراهيم وآل عمران غير الأنبياء بدليل الإجماع. فيكون آدم ، ونوح ، وجميع الأنبياء مصطفين على العالمين الذين منهم الملائكة ، إذ لا مخصص للملائكة عن العالمين ، ولا جهة لتفسيره بالكثير من المخلوقات.

الرابع ـ أن للبشر شواغل عن الطاعات العلمية والعملية كالشهوة ، والغضب ، وسائر الحاجات الشاغلة ، والموانع الخارجة والداخلة. فالمواظبة على العبادات ، وتحصيل الكمالات بالقهر والغلبة على ما يضاد القوة العاقلة يكون أشق وأفضل وأبلغ في استحقاق الثواب. ولا معنى للأفضلية سوى زيادة استحقاق الثواب والكرامة. لا يقال : لو سلم انتفاء الشهوة والغضب وسائر الشواغل في حق الملائكة ، فالعبادة مع كثرة المتاعب والشواغل إنما تكون أشق وأفضل من الأخرى إذا استويا في المقدار وباقي الصفات. وعبادة الملائكة أكثر وأدوم ، فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، والإخلاص الذي به القوام ، والنظام واليقين الذي هو الأساس والتقوى التي هي الثمرة فيهم أقوى وأقوم لأن

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٣٣.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ٣٣.

طريقهم العيان لا البيان ، والمشاهدة لا المراسلة ، لأنا نقول : انتفاء الشواغل في حقهم مما لم ينازع فيه أحد. ووجود المشقة والألم في العبادة والعمل عند عدم المنافي والمضاد مما لا يعقل قلت أو كثرت. وكون باقي الصفات في حق الأنبياء أضعف وأدنى مما لا يسمع ولا يقبل. وقد يتمسك بأن للملائكة عقلا بلا شهوة ، وللبهائم شهوة بلا عقل ، وللإنسان كليهما. فإذا ترجح شهوته على عقله يكون أدنى من البهائم ، لقوله تعالى : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) (١).

فإذا ترجح عقله على شهوته يجب أن يكون أعلى من الملائكة ، وهذا عائد إلى ما سبق ، لأن تمام تقريره هو أن الكافر آثر النقصان مع التمكن من الكمال ، وكل من فعل كذا فهو أضل وأرذل ممن آثره بدونه ، لأن إيثار الشيء مع وجود المضاد والمنافي أرجح وأبلغ من إيثاره بدونه. فيلزم ان يكون من آثر الكمال مع التمكن من النقصان أفضل وأكمل ممن آثره بدونه.

وأما التمسك بقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٢)

والتكريم المطلق لأحد الأجناس يشعر بفضله على غيره ، فضعيف. لأن التكريم لا يوجب التفضيل سيما مع قوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) (٣)

فإنه يشعر بعدم التفضيل على القليل ، وليس غير الملائكة بالإجماع ، كيف وقد وصف الملائكة أيضا بأنهم (عِبادٌ مُكْرَمُونَ) (٤).

قال : وتمسك المخالفون

(والمخالفون وهم المعتزلة ، والقاضي ، والحليمي منا بوجوه :

الأول ـ الآيات الدالة على شرفهم وقربهم وكرامتهم ومواظبتهم على الطاعة ، وترك الاستكبار.

__________________

(١) سورة الأعراف آية رقم ١٧٩.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٧٠.

(٣) سورة الإسراء آية رقم ٧٠.

(٤) سورة الأنبياء آية رقم ٢٦.

وأجيب بأنها لا تفيد الأفضلية.

الثاني ـ قوله تعالى : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (١)

وأجيب بأن المعنى لست بملك حتى يكون لي القوة والقدرة على إنزال العذاب بإذن الله كما كان بجبريل ، أو يكون لي العلم بذلك بإخبار الله تعالى بلا واسطة.

الثالث ـ (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (٢)

وأجيب بأنه مع كونه تخييلا من الشيطان إنما يفيد الأفضلية على آدم قبل البعثة.

الرابع ـ (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) يعني جبريل ، والمعلم أفضل.

وأجيب بأنه مبلغ ، وإنما التعليم من الله.

الخامس ـ (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) فإنه يقال : لا يترفع عن هذا الأمر الأمير ولا من فوقه. ولا يقال : ولا من هو دونه.

وأجيب بأن مثله إنما يفيد الزيادة فيما جعل سببا للترفع والاستنكاف ، ككون عيسى (عليه‌السلام) ولد بلا أب ، وأبرأ الأكمه والأبرص. فالمعنى ولا من هو فوقه في ذلك وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم ، ويقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى (عليه‌السلام).

السادس ـ اطراد تقديم ذكرهم على ذكر الأنبياء.

وأجيب بأنه لتقدمهم في الوجود ، او في قوة الإيمان بهم لخفاء امرهم.

السابع ـ أنها مجردة في ذواتها ، متعلقة بالهياكل العلوية ، مبرأة عن ظلمة

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ٥٠.

(٢) سورة الأعراف آية رقم ٢٠.

(٣) سورة النجم آية رقم ٥.

المادة ، وعن الشرور والقبائح متصفة بالكمالات العلمية والعملية بالعقل ، قوية على الأفعال العجيبة ، مطلعة على أسرار الغيب ، سابقة إلى أنواع الخيرات.

وأجيب بأن بعضها على قواعد الفلسفة ، وبعضها مشترك وبعضها معارض.

الثامن ـ أن أعمالهم أكثر وأدوم وأقوم ، وعلومهم أكمل وأكثر.

وأجيب بأن المقرون بقهر المضاد وتحمل المشاق أدخل في استحقاق الثواب.).

أيضا بوجوه نقلية وعقلية ، أما النقليات فمنها قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١)

خصصهم بالتواضع ، وترك الاستكبار في السجود. وفيه إشارة إلى أن غيرهم ليس كذلك ، وأن أسباب التكبر والتعظم حاصلة لهم ، ووصفهم باستمرار الخوف ، وامتثال الأوامر. ومن جملتها اجتناب المنهيات. ومنها قوله تعالى :

(وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ. يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢)

وصفهم بالقرب والشرف عنده ، وبالتواضع والمواظبة على الطاعة والتسبيح. ومنها قوله تعالى :

(بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٣) ..

إلى أن قال : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).

وخصهم بالكرامة المطلقة والامتثال والخشية ، وهذه الأمور أساس كافة الخيرات.

__________________

(١) سورة النحل آية رقم ٤٩ ، ٥٠.

(٢) سورة الأنبياء آية رقم ١٩ ، ٢٠.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ٢٦ ، ٢٧ ، ٢٨.

والجواب أن جميع ذلك إنما يدل على فضيلتهم ، لا أفضليتهم ، سيما على الأنبياء ، ومنها قوله تعالى :

(قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) (١)

فإن مثل هذا الكلام إنما يحسن إذا كان الملك أفضل. والجواب أنه إنما قال ذلك حين استعجله قريش العذاب الذي أوعدوا به بقوله تعالى :

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (٢).

والمعنى أني لست بملك حتى يكون لي القوة والقدرة على إنزال العذاب بإذن الله كما كان لجبرئيل (عليه‌السلام) ، أو يكون لي العلم بذلك بإخبار من الله بلا واسطة.

ومنها قوله تعالى : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) (٣).

أي إلّا كراهة أن تكونا ملكين. يعني أن الملكية بالمرتبة العليا ، وفي الأكل من الشجرة ارتقاء إليها.

والجواب أن ذلك تمويه من الشيطان وتخييل أن ما يشاهد في الملك من حسن الصورة ، وعظم الخلق ، وكمال القوة يحصل بأكل الشجرة. ولو سلم فغاية التفضيل على آدم (عليه‌السلام) قبل النبوة.

ومنها قوله تعالى : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٤).

يعني جبرئيل (عليه‌السلام) والمعلم أفضل من المتعلم.

والجواب ان ذلك بطريق التبليغ ، وإنما التعليم من الله تعالى.

ومنها قوله تعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) (٥).

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ٥٠.

(٢) سورة الأنعام آية رقم ٤٩.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٢٠.

(٤) سورة النجم آية رقم ٥.

(٥) سورة النساء آية رقم ١٧٢.

أي لا يترفع عيسى في العبودية ، ولا من هو أرفع منه درجة ، كقولك : لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان. ولو عكست أحلت بشهادة علماء البيان ، والبصراء بأساليب الكلام ، وعليه قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) (١).

أي مع أنهم أقرب مودة لأصل الإسلام ، ولهذا خص الملائكة بالمقربين منهم لكونهم أفضل.

والجواب أن الكلام سبق لرد مقالة النصارى وغيرهم في المسيح وادعائهم فيه مع النبوة البنوة ، بل الألوهية ، والترفع عن العبودية لكونه روح الله ، ولد بلا أب ، ولكونه يبرئ الأكمه والأبرص ، والمعنى لا يترفع عيسى عن العبودية (٢) ولا من هو فوقه في هذا المعنى ، وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم ويقدرون على ما لا يقدر عليه عيسى (عليه‌السلام) ، ولا دلالة على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب وسائر الكمالات ، ألا يرى أن فيما ذكرت من المثال لم يقصد الزيادة والرفعة في الفضل والشرف والكمال ، بل فيما هو مظنة الاستنكاف والرضا. كالغلبة والاستكبار ، والاستعلاء في السلطان ، وقرب المودة في النصارى.

ومنها اطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكر الأنبياء والرسل ، ولا يعقل له جهة سوى الأفضلية.

والجواب أنه يجوز أن يكون بجهة تقدمهم في الوجود ، أو في قوة الإيمان بهم ، والاهتمام به لأنهم أخفى ، فالإيمان بهم أقوى ، وبالتحريض عليه أحرى.

وأما العقليات فمنها أن الملائكة (٣) روحانيات مجردة في ذواتها ، متعلقة بالهياكل العلوية ، مبرأة عن ظلمة المادة ، وعن الشهوة والغضب اللذين هما مبدأ الشرور والقبائح ، متصفة بالكمالات العلمية والعملية بالعقل من غير شوائب

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٢٠.

(٢) هي الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود والصبر على المفقود.

(٣) الملائكة : أجسام نورانية لطيفة تتشكل بأشكال مختلفة وقال تعالى في صفتهم : (عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

الجهل والنقص والخروج من القوة إلى الفعل على التدريج ، ومن احتمال الغلط ، قوية على الأفعال العجيبة وإحداث السحب والزلازل ، وأمثال ذلك ، مطلعة على أسرار الغيب ، سابقة إلى أنواع الخير ، ولا كذلك حال البشر.

والجواب أن مبنى ذلك على قواعد الفلسفة دون الملة.

ومنها أن أعمالهم المستوجبة للمثوبات أكثر لطول زمانهم ، وأدوم لعدم تخلل الشواغل ، وأقوم لسلامتها عن مخالطة المعاصي المنقصة للثواب ، وعلومهم أكمل وأكثر لكونهم نورانيين روحانيين ، يشاهدون اللوح المحفوظ المنتقش بالكائنات ، وأسرار المغيبات.

والجواب أن هذا لا يمنع كون أعمال الأنبياء وعلومهم أفضل وأكثر ثوابا لجهات أخر ، كقهر المضاد والمنافي ، وتحمل المتاعب والمشاق ، ونحو ذلك على ما مر.

قال : المبحث الثامن ـ

(الولي (١) هو العارف بالله تعالى ، الصارف همته عما سواه. والكرامة ظهور أمر خارق للعادة من قبله ، بلا دعوى النبوة ، وهي جائزة ولو بقصد الولي ، ومن جنس المعجزات لشمول قدرة الله تعالى. وواقعة كقصة مريم (٢) وآصف ، وأصحاب الكهف ، وما تواتر جنسه من الصحابة والتابعين ، وكثير من الصالحين. وخالفت المعتزلة لأنها توجب التباس النبي بغيره ، إذ الفارق هو المعجزة ، والخروج عن بعض العادة لكثرة الأولياء ، وانسداد باب إثبات النبوة لاحتمال أن تكون المعجزة إكراما ، لا تصديقا ، والإخلال بعظم قدر الأنبياء لمشاركة الأولياء.

والجواب أن الكرامة لا تقارن دعوى النبوة ، وكثرتها تكون استمرار نقض العادة ، والمقارنة للدعوى تفيد القطع بالصدق عادة ، والكرامة تزيد جلالة قدر

__________________

(١) الولي : فعيل : بمعنى الفاعل : وهو من توالت طاعته من غير أن يتخللها عصيان ، أو بمعنى المفعول فهو من يتوالى عليه إحسان الله وأفضاله ، والولي : هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي ، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات.

(٢) قال تعالى : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ). سورة آل عمران آية رقم ٣٧.

الأنبياء ، حيث نالت أمتهم ذلك ببركة الاقتداء ، ومما هو قوي في منع الإخبار بالمغيبات قوله تعالى (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (١)

والجواب أنه لو سلم عموم الغيب يجوز أن يختص بحال القيمة بقرينة السياق ، إذ يكون القصد إلى سلب العموم ، أو يخص الاطلاع بما يكون بطريق الوحي).

وصفاته : المواظب على الطاعات ، المجتنب عن المعاصي ، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات ، وكرامته ظهور أمر خارق للعادة من قبله ، غير مقارن لدعوى النبوة ، وبهذا يمتاز عن المعجزة ، وبمقارنة الاعتقاد ، والعمل الصالح ، والتزام متابعة النبي عن الاستدراج ، وعن مؤكدات تكذيب الكذابين ، كما روي أن مسيلمة ، دعا لأعور أن تصير عينه العوراء صحيحة ، فصارت عينه الصحيحة عوراء. ويسمى هذا إهانة. وقد تظهر الخوارق من قبل عوام المسلمين تخليصا لهم من المحن والمكارة ، وتسمى معونة. فلذا قالوا : إن الخوارق أنواع أربعة : معجزة ، وكرامة ، ومعونة ، وإهانة. وذهب جمهور المسلمين إلى جواز كرامة الأولياء ، ومنعه أكثر المعتزلة ، والأستاذ ابو إسحاق يميل إلى قريب من مذهبهم. كذا قال إمام الحرمين ، ثم المجوزون ذهب بعضهم إلى امتناع كون الكرامة بقصد واختيار من الولي ، وبعضهم إلى امتناع كونها على قضية الدعوى ، حتى لو ادعى الولي الولاية. واعتقد بخوارق العادات ، لم يجز ، ولم يقع ، بل ربما يسقط عن مرتبة الولاية. وبعضهم إلى امتناع كونها من جنس ما وقع معجزة لنبي ، كانفلاق البحر ، وانقلاب العصا ، وإحياء الموتى.

قالوا : وبهذه الجهات تمتاز عن المعجزات ، وقال الإمام : هذه الطرق غير سديدة. والمرضي عندنا تجويز جملة خوارق العادات في معرض الكرامات. وإنما تمتاز عن المعجزات بخلوها عن دعوى النبوة ، حتى لو ادعى الولي النبوة صار عدوا لله ، لا يستحق الكرامة ، بل اللعنة والإهانة.

__________________

(١) سورة الجن آية رقم ٢٦ ، ٢٧.

فإن قيل : هذا الجواز مناف للإعجاز ، إذ من شرطه عدم تمكن الغير من الإتيان بالمثل ، بل مفض إلى تكذيب النبي ، حيث يدعي عند التحدي أنه لا يأتي أحد بمثل ما أتيت به.

قلنا : المنافي هو الإتيان بالمثل على سبيل المعارضة. ودعوى النبي أنه لا يأتي بمثل ما أتيت به أحد من المتحدين ، لا أنه لا يظهر مثله كرامة لولي ، أو معجزة لنبي آخر. نعم قد يرد في بعض المعجزات نص قاطع على أن احدا لا يأتي بمثله اصلا كالقرآن ، وهو لا ينافي الحكم بأن كل ما وقع معجزة لنبي يجوز أن يقع كرامة لولي. لنا على الجواز ما مر في المعجزة من إمكان الأمر في نفسه ، وشمول قدرة الله تعالى. وذلك كالملك يصدق رسوله ببعض ما ليس من عاداته ، ثم يفعل مثل ذلك إكراما لبعض أوليائه ، وعلى الوقوع وجهان :

الأول ـ ما ثبت بالنص من قصة مريم عند ولادة عيسى (عليه‌السلام) ، وأنه كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال : يا مريم أنى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله. وقصة أصحاب الكهف ، ولبثهم في الكهف سنين بلا طعام وشراب. وقصة آصف وإتيانه بعرش بلقيس (١) قبل ارتداد الطرف. فإن قيل : كان الأول إرهاصا لنبوة عيسى ، أو معجزة لزكريا ، والثاني لمن كان نبيا في زمن أصحاب الكهف ، والثالث لسليمان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قلنا : سياق القصص يدل على أن ذلك لم يكن لقصد تصديقهم في دعوى النبوة ، بل لم يكن لزكريا علم بذلك ، ولذا سأل. ونحن لا ندعي إلا جواز ظهور الخوارق من بعض الصالحين ، غير مقرونة بدعوى النبوة ، ولا مسوقة لقصد تصديق نبي ، ولا يضرنا تسميته إرهاصا أو معجزة لنبي هو من أمته ، على أن ما ذكرتم يرد على كثير من معجزات الأنبياء لجواز أن يكون معجزة لنبي آخر.

والثاني ـ ما تواتر معنا وإن كانت التفاصيل آحادا من كرامات الصحابة ،

__________________

(١) قال تعالى : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ : هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ). سورة النمل آية رقم ٤٠.

والتابعين ، ومن بعدهم من الصالحين ، كرؤية عمر (رضي الله عنه) على المنبر جيشه بنهاوند حتى قال : يا سارية الجبل الجبل. وسمع سارية ذلك (١). وكشرب خالد (رضي الله تعالى عنه) السم من غير أن يضر به. وأما من علي (رضي الله تعالى عنه) فأكثر من أن تحصى.

وبالجملة وظهور كرامات الأولياء يكاد يلحق بظهور معجزات الأنبياء ، وإنكارها ليس بعجيب من أهل البدع والأهواء ، إذ لم يشاهدوا ذلك من أنفسهم قط ، ولم يسمعوا به من رؤسائهم الذين يزعمون أنهم على شيء مع اجتهادهم في أمور العبادات ، واجتناب السيئات ، فوقعوا في أولياء الله تعالى أصحاب الكرامات ، يمزقون أديمهم ، ويمضغون لحومهم ، لا يسمونهم إلا باسم الجهلة المتصوفة (٢) ، ولا يعدونهم إلا في عداد آحاد المبتدعة ، قاعدين تحت المثل السائر أوسعتهم سبا وأودوا بالإبل ، ولم يعرفوا أن مبنى هذا الأمر على صفاء العقيدة ، ونقاء السريرة ، واقتفاء الطريقة ، واصطفاء الحقيقة ، وإنما العجب من بعض فقهاء أهل السنة حيث قال فيما روي عن إبراهيم بن أدهم انهم رأوه بالبصرة يوم التروية ، وفي ذلك اليوم بمكة. أن من اعتقد جواز ذلك يكفر. والإنصاف ما ذكره الإمام النسفي (٣) حين سئل عما يحكى أن الكعبة كانت تزور واحدا من الأولياء ، هل يجوز القول به؟ فقال: نقض العادة على سبيل الكرامة لأهل الولاية جائز عند أهل السنة وللمخالف وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، أنه لو ظهرت الخوارق من الولي لالتبس النبي

__________________

(١) يقول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن يكن في أمتي محدثون فعمر منهم.

(٢) التصوف : الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهرا فيرى حكمها من الظاهر في الباطن ، وباطنا فيرى حكمها من الباطن في الظاهر فيحصل للمتأدب بالحكمين كمال. وقيل : مذهب كله جد فلا يخلطونه بشيء من الهزل ، وقيل : تصفية القلب عن موافقة البرية ، ومفارقة الأخلاق الطبيعية.

(٣) هو عمر بن محمد بن أحمد بن إسماعيل أبو حفص. نجم الدين النسفي : عالم بالتفسير والأدب ، والتاريخ ، من فقهاء الحنفية ، ولد بنسف وإليها نسبته وتوفي بسمرقند قيل له نحو مائة مصنف منها : التيسير في التفسير ، والمواقيت ، وتعداد شيوخ عمر ، والاشعار بالمختار من الأشعار «عشرون جزءا» ، ونظم الجامع الصغير في فقه الحنفية ، وقيد الأوابد ، وتاريخ بخارى ، وغير ذلك كثير توفي عام ٥٣٧ ه‍. راجع الفوائد البهية ١٤٩ والجواهر المضيئة ١ : ٣٩٤ ولسان الميزان ٤ : ٣٢٧ وإرشاد الأريب ٦ : ٥٣.

بغيره ، إذ الفارق هو المعجزة. ورد بما مر من الفرق بين المعجزة والكرامة.

الثاني ـ أنها لو ظهرت لكثرت كثرة الأولياء ، وخرجت عن كونها خارقة للعادة حقا. ورد بالمنع ، بل غايته استمرار نقض العادة.

الثالث ـ لو ظهرت لا لغرض التصديق لانسد باب إثبات النبوة بالمعجزة لجواز أن يكون ما يظهر من النبي لغرض آخر غير التصديق. ورد بما مر من أنها عند مقارنة الدعوى تفيد التصديق قطعا.

الرابع ـ أن مشاركة الأولياء للأنبياء في ظهور الخوارق تخل بعظم قدر الأنبياء ووقوعهم في النفوس (١) ورد بالمنع ، بل يزيد في جلالة أقدارهم ، والرغبة في اتباعهم ، حيث نالت أممهم وأتباعهم مثل هذه الدرجة ببركة الاقتداء بشريعتهم ، والاستقامة على طريقتهم.

الخامس ـ وهو في الإخبار عن المغيبات قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٢).

خص الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، فلا يطلع غيرهم ، وإن كانوا أولياء مرتضين. فما يشاهد من الكهنة إلقاء الجن والشياطين ، ومن أصحاب التعبير والنجوم ظنون واستدلالات ربما تقع وربما لا تقع ، ليس من اطلاع الله تعالى في شيء.

والجواب أن الغيب هاهنا ليس للعموم ، بل مطلق أو معين هو وقت وقوع القيمة بقرينة السياق ولا يبعد ان يطلع عليه بعض الرسل من الملائكة أو البشر ، فيصح الاستثناء ، وإن جعل منقطعا فلا خفاء ، بل لا امتناع حينئذ في جعل الغيب للعموم

__________________

(١) النفس : هي الجوهر البخاري اللطيف ، الحامل لقوة الحياة ، والحس والحركة الإرادية ، وسماها الحكيم : الروح الحيوانية : فهي جوهر مشرق للبدن وعند الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وباطنه ، وأما في وقت النوم فينقطع عن ظاهر البدن دون باطنه فثبت أن النوم والموت من جنس واحد لأن الموت هو الانقطاع الكلي والنوم هو الانقطاع الناقص فثبت أن القادر الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أضرب الأول : إذا بلغ ضوء النفس إلى جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه فهو اليقظة ، وإن انقطع ضوؤها عن ظاهره دون باطنه فهو النوم ، أو بالكلية فهو الموت.

(٢) سورة الجن آية رقم ٢٦ ، ٢٧.

لكون اسم الجنس المضاف بمنزلة المعرف باللام ، سيما وقد كان في الأصل مصدرا ويكون الكلام لسلب العموم ، أي لا يطلع على كل غيبه احدا ، وهو لا ينافي في اطلاع البعض على البعض ، وكذا لا إشكال إن خص الاطلاع بطريق الوحي ، وبالجملة فالاستدلال مبني على أن الكلام لعموم السلب. أي لا يطلع على شيء من غيبه أحدا من الأفراد نوعا من الاطلاع ، وذلك ليس بلازم.

قال : خاتمة

(لا يبلغ الولي درجة النبي ولا يسقط عنه التكاليف بكمال الولاية ، ولا تكون ولاية غير النبي أفضل من النبوة ، وإنما الكلام في ولايته ، فقيل : هي أفضل لما فيها من معنى القرب والاختصاص ، وقيل : بل نبوته لما فيها من الوساطة بين الحق والخلق والقيام بمصالح الدارين مع شرف مشاهدة الملك).

حكي عن بعض الكرامية أن الولي قد يبلغ درجة النبي ، بل أعلى. وعن بعض الصوفية أن الولاية أفضل من النبوة ، لأنها تنبئ عن القرب والكرامة كما هو شأن خواص الملك والمقربين منه ، والنبوة عن الإنباء والتبليغ ، كما هو حال من أرسله الملك إلى الرعايا لتبليغ أحكامه. إلا أن الولي لا يبلغ درجة النبي ، لأن النبوة لا تكون بدون الولاية. وعن أهل الإباحة والإلحاد أن الولي إذا بلغ الغاية في المحبة ، وصفاء القلب ، وكمال الإخلاص ، سقط عنه الأمر والنهي ، ولم يضره الذنب ، ولا يدخل النار بارتكاب الكبيرة. والكل فاسد بإجماع المسلمين.

والأول خاصة بأن النبي مع ما له من شرف الولاية ، معصوم عن المعاصي ، مأمون عن سوء العاقبة بحكم النصوص القاطعة ، مشرف بالوحي ومشاهدة الملك ، مبعوث لإصلاح حال العالم ونظام أمر المعاش والمعاد .. إلى غير ذلك من الكمالات.

والثاني بأن النبوة تنبئ عن البعثة والتبليغ من الحق إلى الخلق. ففيها ملاحظة للجانبين. ويتضمن قرب الولاية وشرفها لا محالة ، فلا تقصر عن مرتبة ولاية غير الأنبياء لأنها لا تكون على غاية الكمال ، لأن علامة ذلك نيل مرتبة النبوة. نعم ، قد

يقع تردد في أن نبوة النبي أفضل أم ولايته. فمن قائل بالأول لما في النبوة من معنى الوساطة بين الجانبين ، والقيام بمصالح الخلق في الدارين ، مع شرف مشاهدة الملك. ومن مائل إلى الثاني لما في الولاية من معنى القرب والاختصاص الذي يكون في النبي في غاية الكمال ، بخلاف ولاية غير النبي. وفي كلام بعض العرفاء أن ما قيل الولاية أفضل من النبوة لا يصح مطلقا ، وليس من الأدب إطلاق القول به ، بل لا بد من التقييد ، وهو أن ولاية النبي أفضل من نبوته ، لأن نبوة التشريع متعلقة بمصلحة الوقت ، والولاية لا تعلق لها بوقت دون وقت ، بل قام سلطانها إلى قيام الساعة ، بخلاف النبوة فإنها مختومة (١) بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث ظاهرها الذي هو الإنباء ، وإن كانت دائمة من حيث باطنها الذي هو الولاية ، أعني التصرف في الخلق بالحق ، فإن الأولياء من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تصرف ولايته بهم ، يتصرف في الخلق بالحق إلى قيام الساعة ، ولهذا كانت علامتهم المتابعة. إذ ليس الولي إلا مظهر تصرف النبي. وأما بطلان القول بسقوط الأمر والنهي فلعموم الخطابات ، ولأن أكمل الناس في المحبة والإخلاص هم الأنبياء ، سيما حبيب الله ، مع أن التكاليف في حقهم أتم وأكمل ، حتى يعاتبون بأدنى زلة ، بل بترك الأفضل. نعم حكي عن بعض الأولياء أنه استعفى الله عن التكاليف ، وسأله الإعتاق عن ظواهر العبادات ، فأجابه إلى ذلك بأن سلبه العقل الذي هو مناط التكليف ، ومع ذلك كان من علو المرتبة على ما كان. وأنت خبير بأن العارف لا يسأم من العبادة ، ولا يفتر في الطاعة ، ولا يسأل الهبوط من أوج الكمال إلى حضيض النقصان ، والنزول من معارج الملك إلى منازل الحيوان ، بل ربما يحصل له كمال الانجذاب إلى عالم القدس والاستغراق في ملاحظة جناب الحق ، بحيث يذهب عن هذا العالم ، ويخل بالتكاليف من غير تأثم بذلك لكونه في حكم غير المكلف كالنائم ، وذلك لعجزه عن مراعاة الأمرين وملاحظة الجانبين ، فربما يسأل دوام تلك الحالة ، وعدم العود إلى عالم الظاهر ، وهذا الذهول هو الجنون الذي ربما يرجح على بعض العقول ، والمتسمون به هم المسمون بمجانين العقلاء. وبهذا يظهر فضل الأنبياء على الأولياء ، فإنهم مع أن استغراقهم أكمل ، وانجذابهم أشمل لا يخلون بأدنى طاعة ،

__________________

(١) قال تعالى : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ).

ولا يذهلون من هذا الجانب ساعة ، لأن قوتهم القدسية من الكمال بحيث لا يشغلها شاغل عن ذلك الجناب ، ولهذا ينعى عليهم أدنى زلة عن منهج الصواب.

قال : المبحث التاسع ـ السحر

(إظهار أمر خارق للعادة بمباشرة أعمال مخصوصة ، يجري فيها التعليم والتعلم ، وتعين عليها شرة النفس ، وتتأتى فيها المعارضة ، وهو جائز عقلا كالكرامة والمعجزة ، وثابت سمعا بقوله تعالى : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ..) (١) الآية.

ولما ثبت من أنه سحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعائشة ، وابن عمر (رضي الله عنهما) ، والطعن الكاذب من الكفرة في النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مسحور أريد به زوال العقل بالسحر ، والعصمة المشار إليها بقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٢)

هي العصمة أن يهلكوه ، أو يوقعوا خللا في نبوته. وليس للساحر أن يفعل ما يشاء من الإضرار بالأنبياء ، وإزالة ملك الخلفاء وغير ذلك.

وقوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ) (٣)

لا يدل على أن كل سحر تخييل وتمويه ، بمنزلة الشعوذة على ما هو رأي المعتزلة. وأما الإصابة بالعين فتكاد تجري مجرى المشاهدات ، وفيها نزل قوله : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) (٤)

واختلف القائلون بالسحر والعين في جواز الاستعانة بالرقى والعوذ ، وفي جواز تعليق التمائم ، والنفث ، والمسح ، والمسألة فرعية).

إظهار أمر خارق للعادة من نفس شريرة خبيثة بمباشرة أعمال مخصوصة يجري فيها التعلم والتلمذ ، وبهذين الاعتبارين يفارق المعجزة والكرامة ، وبأنه لا يكون بحسب اقتراح المقترحين ، وبأنه يختص ببعض الأزمنة أو الأمكنة أو الشرائط ،

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٠٢.

(٢) سورة المائدة آية رقم ٦٧.

(٣) سورة طه آية رقم ٦٦.

(٤) سورة القلم آية رقم ٥١.

وبأنه قد يتصدى بمعارضته ، ويبذل الجهد في الإتيان بمثله ، وبأن صاحبه ربما يعلن بالفسق، ويتصف بالرجس في الظاهر والباطن ، والخزي في الدنيا والآخرة .. إلى غير ذلك من وجوه المفارقة وهو عند أهل الحق جائز عقلا ، ثابت سمعا ، وكذلك الإصابة بالعين. وقالت المعتزلة: بل هو مجرد إراءة ما لا حقيقة له بمنزلة الشعبذة التي سببها خفة حركات اليد ، أو خفاء وجه الحيلة فيه لنا على الجواز ما مر في الإعجاز من إمكان الأمر في نفسه ، وشمول قدرة الله تعالى ، فإنه هو الخالق ، وإنما الساحر فاعل وكاسب. وأيضا إجماع الفقهاء ، وإنما اختلفوا في الحكم ، وعلى الوقوع وجوه : منها قوله تعالى :

(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ ..) إلى قوله (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)(١)

وفيه إشعار بأنه ثابت حقيقة ، ليس مجرد إراءة وتمويه ، وبأن المؤثر والخالق هو الله وحده.

ومنها سورة الفلق ، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كانت من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى مرض ثلاث ليال.

ومنها ما روي أن جارية سحرت عائشة (رضي الله عنها) وأنه سحر ابن عمر (رضي الله عنه) فتكوعت يده.

فإن قيل : لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين ، ولحصلوا لأنفسهم الملك العظيم ، وكيف يصح أن يسحر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال الله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٢) (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٣).

وكانت الكفرة يعيبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه مسحور ، مع القطع بأنهم كاذبون.

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٠٢.

(٢) سورة المائدة آية رقم ٦٧.

(٣) سورة طه آية رقم ٦٩.

قلنا : ليس السحر يوجد في كل عصر وزمان ، وبكل قطر ومكان ، ولا ينفذ حكمه كل أوان ، ولا له يد في كل شأن ، والنبي معصوم من أن يهلكه الناس ، أو يوقع خللا في نبوته ، لا أن يوصل ضررا وألما إلى بدنه. ومراد الكفار بكونه مسحورا أنه مجنون أزيل عقله بالسحر ، حيث ترك دينهم.

فان قيل : قوله تعالى في قصة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (١)

يدل على أنه لا حقيقة للسحر ، وإنما هو تخييل وتمويه.

قلنا : يجوز أن يكون سحرهم هو إيقاع ذلك التخييل ، وقد تحقق. ولو سلم فكون أثره في تلك الصورة هو التخييل لا يدل على أنه لا حقيقة له اصلا. وأما الإصابة بالعين وهو أن يكون لبعض النفوس خاصية أنها إذا استحسنت شيئا لحقته الآفة ، فثبوتها يكاد يجري مجرى المشاهدات التي لا تفتقر إلى حجة. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العين حق. وقال : العين يدخل الرجل القبر ، والجمل القدر. وذهب كثير من المفسرين إلى أن قوله تعالى :

(وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ..) (٢) الآية.

نزل في ذلك ، وقالوا : كان العين في بني أسد ، وكان الرجل منهم يتجوع ثلاثة أيام ، فلا يمر به شيء يقول فيه : لم أر كاليوم ، إلّا عانه ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصفة ان يقول في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فعصمه الله ، واعترض الجبائي بأن القوم ما كانوا ينظرون إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر استحسان بل مقت وبغض.

والجواب : أنهم كانوا يستحسنون منه الفصاحة وكثيرا من الصفات. وإن كانوا يبغضونه من جهة الدين ، ثم للقائلين بالسحر والعين اختلاف في جواز الاستعانة بالرقى والعوذ ، وفي جواز تعليق التمائم ، وفي جواز النفث والمسح ، ولكل من

__________________

(١) سورة طه آية رقم ٦٦.

(٢) سورة القلم آية رقم ٥١.

الطرفين أخبار وآثار. والجواز هو الأرجح. والمسألة بالفقهيات أشبه والله أعلم.

قال : الفصل الثاني ـ في المعاد وفيه مباحث.

وهو مصدر أو مكان ، وحقيقة العود توجه الشيء إلى ما كان عليه ، والمراد هاهنا الرجوع إلى الوجود بعد الفناء ، أو رجوع أجزاء البدن إلى الاجتماع بعد التفرق ، وإلى الحياة بعد الموت ، والأرواح إلى الأبدان بعد المفارقة ، وأما المعاد الروحاني المحض على ما يراه الفلاسفة ، فمعناه رجوع الأرواح إلى ما كانت عليه من التجرد عن علاقة البدن ، واستعمال الآلات ، أو التبرؤ عما ابتليت به من الظلمات.

قال : المبحث الأول ـ

يجوز إعادة المعدوم خلافا للفلاسفة مطلقا ، ولبعض المعتزلة في الأعراض ، ولبعضهم في غير الباقية منها كالأصوات لنا إقناعا أن الأصل هو الإمكان حتى يقوم دليل الوجوب أو الامتناع ، والزاما أن المعاد مثل المبدأ ، بل عينه ، فيمتنع كونه ممكنا في وقت ، ممتنعا في وقت ، بل ربما يدعي أن الوجود الأول إفادة زيادة استعداد لقبول الوجود على ما يشير إليه قوله تعالى (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) وفيه نظر لا يقال : لعله امتنع لأمر لازم لأنا نقول فيمتنع أو لا.

كثير من مباحث المتكلمين يرى في الظاهر أجنبية عن العلم بالعقائد الدينية ، ويعلم عند تحقيق المقاصد الأصلية أنها نافعة في إيراد الحجج عليها ، أو دفع الشبه عنها. وذلك كإعادة المعدوم ، وثبوت الجزء والخلاء ، وصحة الفناء على العالم ، وجواز الخرق على الأفلاك ، وعدم اشتراط الحياة بالبنية ، وعدم لزوم تناهي القوى الجسمانية ، ونحو ذلك في إثبات الحشر وعذاب القبر ، والخلود في الجنة أو النار ... وغير ذلك على اختلاف الآراء. وإنما أخر بحث إعادة المعدوم خاصة إلى هاهنا ، لما لها من زيادة الاختصاص بأمر المعاد ، حيث لا يفتقر إليها إلا في

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧ وتكملة الآية (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

إثبات المعاد بطريق الوجود بعد الفناء ، اتفق جمهور المتكلمين على جوازها ، والحكماء على امتناعها. وأما المعتزلة فذهب غير البصري إلى جواز إعادة الجواهر ، لكن بناء على بقاء ذواتها في العدم ، حتى لو بطلت لاستحالت إعادتها ، واختلفوا في الاعراض ، فقال بعضهم: يمتنع إعادتها مطلقا ، لأن المعاد إنما يعاد بمعنى ، فيلزم قيام المعنى بالمعنى. وإلى هذا ذهب بعض أصحابنا. وقال الأكثرون منهم بامتناع إعادة الأعراض التي لا تبقى كالأصوات والإرادات لاختصاصها عندهم بالأوقات ، وقسموا الباقية الى ما يكون مقدورا للعبد ، وحكموا بأنه لا يجوز إعادتها ، لا للعبد ولا للرب ، وإلى ما لا يكون مقدورا للعبد ، وجوزوا إعادتها لنا إقناعا أن الأصل فيما لا دليل على وجوبه وامتناعه هو الإمكان على ما قالت الحكماء أن كل ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان ما لم يزدك عنه قائم البرهان. فمن ادعى عدم إعادة المعدوم فعليه الدليل ، وإلزاما أن المعاد مثل المبدأ ، بل عينه ، لأن الكلام في إعادة المعدوم بعينه ، ويستحيل كون الشيء ممكنا في وقت ، ممتنعا في وقت ، للقطع بأنه لا أثر للأوقات فيما هو بالذات. وعلى هذا لا يرد ما يقال أن العود ، وهو الوجود ثانيا أخص من مطلق الوجود ، ولا يلزم من إمكان الأعم إمكان الأخص. وقريب من هذا ما يقال أن المعدوم الممكن قابل للوجود ضرورة استحالة الانقلاب ، فالوجود الأول أن إفادة زيادة استعداد لقبول الوجود على ما هو شأن سائر القوابل ، بناء على اكتساب ملكة الاتصاف بالفعل ، فقد صار قابليته للوجود ثانيا أقرب ، وإعادته على الفاعل أهون ، ويشبه أن يكون هذا هو الحق. والمراد بقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (١) وإن لم يفده زيادة الاستعداد فمعلوم بالضرورة أنه لا ينقص عما هو عليه بالذات من قابلية الوجود في جميع الأوقات. هذا ، ولكن الأقرب أن تحمل الإعادة التي جعلت أهون على إعادة الأجزاء وما تفتت من المواد إلى ما كانت عليه من الصور والتأليفات على ما يشير إليه قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢) لا على إعادة المعدوم ، لأنه لم يبق

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٢) سورة يس آية رقم ٧٩.

هناك القابل والمستعد ، فضلا عن الاستعداد القائم به.

فإن قيل : ما معنى كون الإعادة أهون على الله تعالى وقدرته قديمة لا تتفاوت المقدورات بالنسبة إليها؟

قلنا : كون الفعل أهون تارة يكون من جهة الفاعل بزيادة شرائط الفاعلية ، وتارة من جهة القابل بزيادة استعدادات القبول ، وهذا هو المراد هاهنا ، وأما من جهة قدرة الفاعل فالكل على السواء. لا يقال : غاية ما ذكرتم أن المعدوم ممكن الوجود في الزمان الثاني كما في الزمان الأول نظرا إلى ذاته (١) وهو لا ينافي امتناع وجوده لأمر لازم له كامتناع الحكم عليه، والإشارة إليه على أن الكلام ليس في الوجود ، بل في الإعادة التي هي الإيجاد ثانيا لذلك الشيء بعينه ، وإمكان الوجود لا يستلزم إمكانها لأنا نقول : لو امتنع المعدوم لأمر لازم (٢) له لامتنع وجوده أولا ، كما لو امتنع لذاته. ثم إمكان الوجود مستلزم لإمكان الإيجاد ، سيما بالنظر إلى قدرة واحدة ، على أن المراد بالإعادة هاهنا كونه معادا ، وهو معنى الوجود ثانيا.

قال : والمنكرون منهم من ادعى الضرورة.

(مكابرة ومنهم من تمسك بوجوه :

أحدها ـ أنه لو أعيد لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه وهو باطل بالضرورة (٣) ، ورد بالمنع بان حاصله تحمل العدم بين زماني وجوده بعينه ، وما ذاك إلا كتخلل الوجود بين العدمين الشيء بعينه.

الثاني ـ أنه لو جاز إعادته بجميع مشخصاته (٤) لجاز إعادة وقته الأول ، فيكون مبتدأ من حيث أنه معاد ، وفيه جمع بين المتقابلين ، ومنع بكونه معادا ، إذ هو الموجود في الوقت الثاني ، ورفع للامتياز إذا لم يكن معادا إلا من حيث كونه مبتدأ. ورد بأن الوقت ليس من جملة المشخصات. ولو سلم فالموجود في الوقت الأول

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (تعالى).

(٢) سقط من (ب) لفظ (لازم له).

(٣) سقط من (ب) لفظ (بالضرورة).

(٤) في (ب) أشخاصه بدلا من (مشخصاته). وهو تحريف.

إنما يلزم كونه مبتدأ لو لم يكن الوقت معادا ، أو لم يكن هو مسبوقا بحدوث آخر. وهذا ما يقال : إن المبتدأ هو الواقع أولا ، لا الواقع في زمان أول ، والمعاد هو الواقع ثانيا ، لا الواقع في زمان ثان (١).

الثالث : أنه لو جاز لجاز أن يوجد ابتداء ما يماثله في الماهية وجميع المشخصات ، فيلزم عدم امتياز الاثنين ، ورد بأن عدم الامتياز في نفس الأمر غير لازم وعند العقل غير مستحيل.

الرابع : أن المعدوم لا إشارة إليه (٢) ، فلا حكم عليه. ورد بعد تسليم عدم ثبوت المعدوم أن التمييز والثبوت عند العقل كاف لصحة الحكم. كما يقال : المعدوم الممكن يجوز أن يوجد).

وقال : الحكم بأن الموجود ثانيا ليس بعينه هو الموجود أولا ضروري لا يتردد فيه العقل عند الخلوص عن شوائب (٣) التقليد والتعصب. واستحسنه الإمام في المباحث حيث قال : ونعم ما قال الشيخ من أن كل من رجع إلى فطرته السليمة ، ورفض عن نفسه (٤) الميل والعصبية ، شهد عقله الصريح بأن إعادة المعدوم ممتنع. والرد بالمنع كيف وقد قال بجوازه كثير من العقلاء ، وقام البرهان (٥) عليه. ومنهم من تمسك بوجوه :

الأول ـ أنه لو أعيد المعدوم بعينه ، لزم تخلل العدم بين الشيء ونفسه ، واللازم باطل بالضرورة. ورد بمنع ذلك بحسب وقتين ، فإن معناه عند التحقيق تخلل العدم بين زماني وجود بعينه ، واتصاف ذلك الشيء ، بل وجوده السابق واللاحق نظرا إلى الوقتين لا ينافي اتحاده بالشخص ، ويكفي لصحة تخلل العدم ، كتخلل الوجود بين العدم السابق واللاحق. وجعل صاحب المواقف هذا الوجه بيانا لدعوى

__________________

(١) في (ب) تالي بدلا من (ثان).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (البتة).

(٣) في (ب) عوائد بدلا من (شوائب).

(٤) ليس في (ب) لفظ (عن نفسه).

(٥) قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).

الضرورة ، وهو مخالف (١) لكلام القوم ، وللتحقيق فإن ضرورية مقدمة الدليل لا توجب ضرورية المدعي.

الثاني ـ لو جاز إعادة المعدوم بعينه ، أي بجميع مشخصاته ، لجاز إعادة وقته الأول، لأنه من جملتها ضرورة أن الموجود بقيد (٢) كونه في هذا الوقت غير الموجود بقيد (٣) كونه في وقت آخر ، ولأن الوقت أيضا معدوم يجوز إعادته لعدم التمايز ، أو بطريق الإلزام على من يقول بجواز إعادة الشكل ، لكن اللازم باطل لإفضائه إلى كون الشيء مبتدأ من حيث أنه معاد ، إذ لا معنى للمبتدإ إلا الموجود في وقته الأول. وفي هذا جمع بين المتقابلين ، حيث صدق على شيء واحد ، في زمان واحد ، من جهة واحدة أنه مبتدأ أو معاد ، لما أشرنا إليه من لزوم كونه مبتدأ من جهة كونه معادا ، ومنع لكونه معادا لأنه الموجود في الوقت الثاني ، وهذا قد وجد في الوقت الأول ، ورفع للتفرقة والامتياز بين المبتدأ والمعاد ، حيث لم يكن معادا إلا من حيث كونه مبتدأ. والامتياز بينهما بحسب العقل ضروري. وقد يجعل هذا الوجه ثلاثة أوجه بحسب ما يلزم من الفسادات.

والجواب ـ أنا لا نسلم كون الوقت من المشخصات. فإنا قاطعون بأن هذا الكتاب هو بعينه الذي كان بالأمس ، حتى إن من زعم (٤) خلاف ذلك نسب إلى السفسطة (٥). وتغاير الاعتبارات والإضافات لا ينافي الوحدة الشخصية بحسب الخارج. ولو سلم فلا نسلم أن ما يوجد في الوقت الأول يكون مبتدأ البتة ، وإنما يلزم لو لم يكن الوقت أيضا معادا أو لم يكن هو مسبوقا بحدوث آخر ، وهذا ما يقال أن المبتدأ هو الواقع أولا ، لا الواقع في الزمان الأول ، والمعاد هو الواقع ثانيا ، لا الواقع في الزمان الثاني. وبهذا يمكن ان يدفع ما يقال : لو أعيد الزمان بعينه لزم

__________________

(١) هو عضد الدين الإيجي ، وقد سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) في (ب) يفيد بدلا من (بقيد) وهو تحريف.

(٣) في (ب) يفيد بدلا من (بقيد) وهو كسابقه لا يعتدّ به لأنه تحريف.

(٤) في (ب) تصور بدلا من زعم.

(٥) السفسطائيون الذين عاشوا في دولة اليونان وكانت لهم أفكار عجيبة. سبق الحديث عنهم في كلمة وافية.

التسلسل. لأنه لا مغايرة بين المبتدأ والمعاد بالماهية ، ولا بالوجود ، ولا بشيء من العوارض ، وإلا لم يكن إعادة له بعينه ، بل بالقبلية والبعدية ، بأن هذا في زمان سابق ، وذلك في زمان لاحق ، فيكون للزمان زمان يمكن إعادته بعد العدم ويتسلسل.

الثالث ـ لو جاز أن يعاد المعدوم بعينه ، لجاز أن يوجد ابتداء ما يماثله في الماهية ، وجميع العوارض المشخصة لأن حكم الأمثال واحد ، ولأن التقدير أن وجود فرد بهذه الصفات من جملة الممكنات (١). واللازم باطل لعدم التميز بينه وبين المعاد ، لأن التقدير اشتراكهما في الماهية وجميع العوارض. ورد بأن عدم التميز في نفس الأمر غير لازم كيف ولو لم يتميزا لم يكونا شيئين ، وعند العقل غير مسلم الاستحالة ، إذ ربما يلتبس ، وعلى العقل ما هو متميز (٢) في نفس الأمر. وقد يجاب بأنه لو صح هذا الدليل لجاز وقوع شخصين متماثلين ابتداء بعين ما ذكرتم ، ويلزم عدم التميز ، وحاصله أنه لا تعلق لهذا بإعادة المعدوم.

الرابع ـ أن المعدوم تمتنع الإشارة إليه إذ لم يبق له ثبوت اصلا ، فيمتنع الحكم عليه بصحة العود ، لأن الحكم بثبوت شيء لشيء يقتضي تميزه وثبوته في الجملة.

والجواب ـ عند المعتزلة القائلين بثبوت المعدوم وبقاء ذاته ظاهر. وعندنا أن التميز والثبوت عند العقل كاف في صحة الحكم ، والاحتياج إلى الثبوت العيني إنما هو عند ثبوت الصفة له في الخارج. وما يقال : إن القضية تكون حينئذ ذهنية ، لا حقيقية ، ولا خارجية ، فلا يفيد إلا صحة العود في الذهن ، ليس بشيء لأنا نأخذ للقضية مفهوما عاما (٣) هو أن ما يصدق عليه الوصف العنواني في الجملة يصدق عليه المحمول. فالمعنى هاهنا أن ما يصدق عليه أنه معدوم في الخارج يصدق عليه أنه يوجد في الخارج. ولو سلم فالذهنية معناها أن الموضوع المأخوذ في الذهن محكوم عليه بالمحمول. فالمعنى هاهنا أن المعنى الذهني المعدوم في الخارج

__________________

(١) في (ب) بزيادة (الواجبة).

(٢) في (ب) بزيادة (عن غيره).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (آخر).

يصح أن يعاد ، ويوجد في الخارج. وبالجملة فهذا كما يقال : المعدوم الممكن (١) يجوز أن يوجد ، ومن سيولد يجوز ان يتعلم ، إلى غير ذلك من الحكم على ما ليس بموجود في الخارج حال (٢) الحكم. وقد يجاب عن جميع الوجوه بأنا نعني بالإعادة أن يوجد ذلك الشيء الذي هو بجميع أجزائه وعوارضه ، بحيث يقطع كل من يراه ، بأنه هو ذلك الشيء ، كما يقال : أعد كلامك ، أي تلك الحروف بتأليفها وهيئاتها ، ولا يضر كون هذا معادا وفي زمان ، وذاك مبتدأ وفي زمان آخر ولا المناقشة في أن هذا نفس الأول أو مثله. وهذا القدر كاف في إثبات الحشر (٣) ولا يبطل بشيء من الوجوه.

قال : المبحث الثاني ـ

(اختلف الناس في المعاد فنفاه الطبيعيون (٤) ذهابا إلى أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس الذي يفنى بصورته وأعراضه ، فلا يعاد ، وتوقف جالينوس لتردده في أن النفس هو المزاج أم جوهر باق ، وأثبته الحكماء والمليون. إلا أنه عند الحكماء روحاني فقط ، وعند جمهور المسلمين جسماني فقط بناء على أن الروح جسم لطيف ، وعند المحققين منهم كالغزالي ، والحليمي ، والراغب ، والقاضي ، وأبي زيد روحاني وجسماني ذهابا إلى تجرد النفس ، وعليه أكثر الصوفية والشيعة والكرامية ، وليس بتناسخ ، لأنه عود في الدنيا إلى بدن ما ، وهذا عود في الآخرة إلى بدن من الأجزاء الأصلية للبدن الأول ، والقول بأنه ليس هو الأول بعينه لا يضر ، وربما يؤيد بقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٥) وقوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى) (٦)

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الممكن).

(٢) في (ب) عند وجود بدلا من (حال).

(٣) في (ب) البعث بدلا من (الحشر).

(٤) الدين يقولون بالطبيعة الخالقة وينكرون الخالق الموجد. وقد ناقشهم الإمام الغزالي في دعواهم الباطلة ورد كيدهم في نحورهم.

(٥) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٦) سورة يس آية رقم ٨١.

وبما ورد في الحديث من كون أهل الجنة جردا مردا ، وكون ضرس الجهنمي مثل أحد لنا أنه أمر ممكن ، أخبر به الصادق ، إذ تواتر من نبينا القول به وورد في التنزيل ما لا يحتمل التأويل مثل :

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٢) وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) (٣) (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٤)

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث ، وحملها على التمثيل للمعاد الروحاني ترغيبا وترهيبا للعوام ، وتتميما لأمر النظام نسبة للأنبياء إلى الكذب في التبليغ ، والقصد إلى التضليل.)

الفلاسفة الطبيعيون الذين لا يعتد بهم في المسألة ، ولا في الفلسفة ، أنه لا معاد للبشر اصلا ، زعما منهم أنه هذا الهيكل المحسوس بما له من المزاج ، والقوى ، والأعراض ، وأن ذلك يفنى بالموت وزوال الحياة ، ولا يبقى إلا المواد العنصرية المتفرقة ، وأنه لا إعادة للمعدوم ، وفي هذا تكذيب للعقل على ما يراه المحققون من أهل الفلسفة ، وللشرع على ما يراه المحققون من أهل الملة. وتوقف جالينوس في أمر المعاد لتردده في أن النفس هو المزاج ، فيفنى بالموت ، فلا يعاد ، أم جوهر باق بعد الموت يكون له المعاد. واتفق المحققون من الفلاسفة ، والمليين على حقية المعاد واختلفوا في كيفيته ، فذهب جمهور المسلمين إلى أنه جسماني فقط ، لأن الروح عندهم جسم سار في البدن سريان النار في الفحم ، والماء في الورد. وذهب الفلاسفة إلى أنه روحاني فقط ، لأن البدن ينعدم بصوره وأعراضه ، فلا يعاد. والنفس جوهر مجرد باق لا سبيل إليه للفناء ، فيعود إلى عالم المجردات بقطع

__________________

(١) سورة يس آية رقم ٧٩.

(٢) سورة يس آية رقم ٥١.

(٣) سورة القيامة آية رقم ٣.

(٤) سورة ق آية رقم ٤٤.

التعلقات. وذهب كثير من علماء الإسلام كالإمام الغزالي (١) والكعبي ، والحليمي ، والراغب(٢) ، والقاضي أبي زيد الدبوسي إلى القول بالمعاد الروحاني والجسماني جميعا ، ذهابا إلى أن النفس جوهر مجرد يعود إلى البدن. وهذا رأي كثير من الصوفية ، والشيعة ، والكرامية ، وبه يقول جمهور النصارى ، والتناسخية.

قال الإمام الرازي : إلا أن الفرق أن المسلمين يقولون بحدوث الأرواح ، ردها إلى الأبدان ، لا في هذا العالم ، بل في الآخرة ، والتناسخية بقدمها وردها إليها في هذا العالم ، وينكرون الآخرة والجنة والنار. وإنما نبهنا على هذا الفرق لأنه يغلب على الطباع العامية أن هذا المذهب يجب ان يكون كفرا وضلالا ، لكونه مما ذهب إليه التناسخية والنصارى ، ولا يعلمون أن التناسخية إنما يكفرون لإنكارهم القيامة والجنة والنار ، والنصارى لقولهم بالتثليث. وأما القول بالنفوس المجردة فلا يرفع اصلا من أصول الدين ، بل ربما يؤيده ، ويبين الطريق إلى إثبات المعاد بحيث لا يقدح فيه شبه المنكرين ، كذا في نهاية العقول. وقد بالغ الإمام الغزالي في تحقيق المعاد الروحاني ، وبيان أنواع الثواب والعقاب بالنسبة إلى الروح ، حتى سبق إلى كثير من الأوهام ، ووقع في ألسنة بعض العوام أنه ينكر حشر الأجساد افتراء عليه. كيف وقد صرح به في مواضع من كتاب الإحياء وغيره ، وذهب إلى أن إنكاره كفر. وإنما لم يشرحه في كتبه كثير شرح ، لما قال أنه ظاهر لا يحتاج إلى زيادة بيان. نعم بما يميل كلامه وكلام كثير من القائلين بالمعادين إلى أن معنى ذلك أن يخلق الله تعالى من الأجزاء المتفرقة لذلك البدن بدنا ، فيعيد إليه نفسه المجردة الباقية بعد؟؟؟؟ البدن. ولا يضرنا كونه غير البدن الأول ، بحسب الشخص ، ولامتناع

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، أبو حامد حجة الإسلام ، فيلسوف متصوف له نحو مائتي مصنف ولد عام ٤٥٠ ه‍ ووفاته عام ٥٠٥ ه‍ رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر ، وعاد إلى بلدته. من كتبه إحياء علوم الدين ، وتهافت الفلاسفة ، وغير ذلك كثير.

(٢) هو الحسين بن محمد بن المفضل أبو القاسم الأصفهاني المعروف بالراغب ، أديب من الحكماء العلماء من أهل أصبهان ، سكن بغداد واشتهر حتى كان يقرن بالإمام الغزالي من كتبه محاضرات الأدباء ، والذريعة إلى مكارم الشريعة ، والأخلاق ، ويسمى أخلاق الراغب وجامع التفاسير ، والمفردات في غريب القرآن وغير ذلك كثير توفي عام ٥٠٢ ه‍ راجع روضات الجنات ٢٤٩ وتاريخ حكماء الإسلام ١١٢.

إعادة المعدوم بعينه ، وما شهد به النصوص ومن كون أهل الجنة جردا مردا ، وكون ضرس الكافر مثل جبل أحد يعضد ذلك. وكذا قوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١).

ولا يبعد أن يكون قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (٢).

إشارة إلى هذا.

فإن قيل : فعلى هذا يكون المثاب والمعاقب باللذات والآلام الجسمانية غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية.

قلنا : العبرة في ذلك بالإدراك. وإنما هو للروح ، ولو بواسطة الآلات ، وهو باق بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن. ولهذا يقال للشخص من الصبا إلى الشيخوخة أنه هو بعينه ، وإن تبدلت الصور والهيئات ، بل كثير من الآلات والأعضاء. ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنها عقوبة لغير الجاني.

قال لنا المعتمد في إثبات حشر الأجساد دليل السمع ، والمفصح عنه غاية الإفصاح من الأديان دين الإسلام ، ومن الكتب القرآن ، ومن الأنبياء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمعتزلة يدعون إثباته ، بل وجوبه بدليل العقل. وتقريره أنه يجب على الله ثواب المطيعين ، وعقاب العاصين ، وأعواض المستحقين. ولا يتأتى ذلك إلا بإعادتهم بأعيانهم ، فيجب. لأن ما لا يتأتى الواجب إلا به واجب. وربما يتمسكون بهذا في وجوب الإعادة على تقدير الفناء ، ومبناه على أصلهم الفاسد (٣) في الوجوب على الله تعالى ، وفي كون ترك الجزاء ظلما لا يصح صدوره من الله تعالى ، مع إمكان المناقشة (٤) في أن الواجب لا يتم إلا به ، وأنه لا يكفي المعاد الروحاني. ويدفعون

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٢) سورة يس آية رقم ٨١.

(٣) سقط من (ب) لفظ (الفاسد).

(٤) في (ب) المجادلة بدلا من (المناقشة).

ذلك بأن المطيع والعاصي هي هذه الجملة أو الأجزاء الأصلية ، لا الروح وحده. فلا يصل الجزاء إلى مستحقه إلا بإعادتها (١).

والجواب ـ أنه إن اعتبر الأمر بحسب الحقيقة ، فالمستحق هو الروح ، لأن مبنى الطاعة والعصيان على الإدراكات والإرادات والأفعال والحركات ، وهو المبدأ للكل. وإن اعتبر بحسب الظاهر ، يلزم أن يعاد جميع الأجزاء الكائنة من أول التكليف إلى الممات. ولا يقولون بذلك ، فالأولى التمسك بدليل السمع ، وتقريره أن الحشر والإعادة أمر ممكن أخبر به الصادق ، فيكون واقعا ، أما الإمكان فلأن الكلام فيما عدم بعد الوجود ، أو تفرق بعد الاجتماع ، أو مات بعد الحياة ، فيكون قابلا لذلك. والفاعل هو الله القادر على كل الممكنات ، العالم بجميع الكليات والجزئيات. وأما الإخبار فلما تواتر من الأنبياء ، سيما نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم كانوا يقولون بذلك ، ولما ورد في القرآن من نصوص لا يحتمل أكثرها التأويل مثل قوله تعالى :

(قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

(فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٣).

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٤) ، (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) (٥) ،

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) (٦) ،

(كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (٧) ،

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) (٨) ،

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩).

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (كاملة).

(٢) سورة يس آية رقم ٧٨ ، ٧٩.

(٣) سورة يس آية رقم ٥١.

(٤) سورة الإسراء آية رقم ٥١.

(٥) سورة القيامة آية رقم ٣.

(٦) سورة فصلت آية رقم ٢١.

(٧) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٨) سورة الذاريات آية رقم ٤٢.

(٩) سورة العاديات آية رقم ٩.

إلى غير ذلك من الآيات ، وفي الأحاديث أيضا كثيرة. وبالجملة فإثبات الحشر من ضروريات الدين ، وإنكاره كفر بيقين.

فإن قيل : الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر وأظهر من الآيات المشعرة بالتشبيه والجبر والقدر ، ونحو ذلك ، وقد وجب تأويلها قطعا ، فلنصرف هذه أيضا إلى بيان المعاد الروحاني ، وأحوال سعادة النفوس وشقاوتها بعد مفارقة الأبدان على وجه يفهمه العوام ، فإن الأنبياء مبعوثون إلى كافة الخلائق لإرشادهم إلى سبيل الحق ، وتكميل نفوسهم بحسب القوة النظرية والعملية ، وتبقية النظام المفضي إلى صلاح الكل ، وذلك بالترغيب والترهيب بالوعد والوعيد والبشارة بما يعتقدونه لذة وكمالا ، والإنذار عما يعتقدونه ألما ونقصانا ، وأكثرهم عوام تقصر عقولهم عن فهم الكمالات الحقيقية ، واللذات العقلية ، وتقتصر على ما لقوه من اللذات والآلام الحسية ، وعرفوه من الكمالات والنقصانات البدنية ، فوجب أن تخاطبهم الأنبياء بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيبا وترهيبا للعوام ، وتتميما لأمر النظام ، وهذا ما قال أبو نصر (١) الفارابي أن الكلام مثل وخيالات للفلسفة.

قلنا : إنما يجب التأويل عند تعذر الظاهر. ولا تعذر هاهنا ، سيما على القول بكون البدن المعاد مثل الأول ، لا عينه ، وما ذكرتم من حمل كلام الأنبياء ونصوص الكتاب على الإشارة إلى مثال معاد النفس ، والرعاية لمصلحة العامة نسبة للأنبياء إلى الكذب فيما يتعلق بالتبليغ ، والقصد إلى تضليل أكثر الخلائق ، والتعصب طول العمر لترويج الباطل وإخفاء الحق ، لأنهم لا يفهمون إلا هذه الظواهر التي لا حقيقة لها عندكم. نعم ، لو قيل : إن هذه الظواهر مع إرادتها من الكلام وثبوتها في نفس الأمر مثل للمعاد الروحاني واللذات والآلام العقلية ، وكذا أكثر ظواهر القرآن على ما يذكره المحققون من علماء الإسلام ، لكان حقا لا ريب فيه ولا اعتداد بمن ينفيه.

قال : احتج المنكرون بوجوه : الأول ـ

__________________

(١) سبق الترجمة له فى هذا الجزء في كلمة وافية فليرجع إليها.

(الأول ـ انه مبني على إعادة المعدوم للقطع بفناء المزاج والحياة والتأليف والهيئات ، وقد ثبت استحالتها ، ورد بمنع المقدمتين.

الثاني ـ لو أكل إنسان إنسانا فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل ، فلا يكون المأكول بعينه معادا أو بالعكس ، على أن لا أولوية ، ولا سبيل إلى جعلها جزءا من كل منهما ، وأنه يلزم في أكل الكافر المؤمن تنعيم الأجزاء العاصية ، وتعذيب المطيعة ، ورد بأن المعاد هي الأجزاء الأصلية ، فلا محذور ، ولعل الله يحفظها من أن تصير جزءا أصليا لبدن آخر. بل عند المعتزلة يجب ذلك ليصل الجزاء إلى مستحقه.

فإن قيل : مثل من يحيي العظام وهي رميم ، أءذا متنا وكنا ترابا يشعر بأن المتنازع إعادة الأجزاء بأسرها. قلنا : لأنه ورد إزالة لاستبعادهم إحياء الرميم والتراب ، والوارد لإثبات نفس الإعادة أيضا كثير مثل :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١)

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢).

الثالث ـ أن الإعادة لا لغرض عبث ، ولغرض عائد إلى الله تعالى نقص ، وإلى العبد إما إيصال ألم ، وهو سفه ، أو لذة ، ولا لذة في الوجود ، سيما في عالم الحس إذ هي خلاص عن ألم ، والإيلام ليعقبه الخلاص غير لائق بالحكمة. بمنع لزوم الغرض ، ومنع انحصاره فيما ذكر ، إذ ربما يكون إيصال الجزاء إلى المستحق غرضا ، ومنع كون اللذة الأخروية دفع الألم).

إن المعاد الجسماني موقوف على إعادة المعدوم ، وقد بان استحالتها وجه التوقف إما على تقدير كونها إيجادا بعد الفناء فظاهر. وأما على تقدير كونها جمعا وإحياء بعد التفرق والموت فللقطع بفناء التأليف والمزاج والحياة ، وكثير من الأغراض والهيئات.

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٥١.

والجواب ـ منع امتناع الإعادة. وقد تكلمنا على أدلته ، ولو سلم ، فالمراد إعادة الأجزاء إلى ما كانت عليه من التأليف والحياة ، ونحو ذلك. ولا يضرنا كون المعاد مثل المبدأ ، لا عينه.

الثاني ـ لو أكل إنسان إنسانا ، وصار غذاء له جزءا من بدنه ، فالأجزاء المأكولة إما أن تعاد في بدن الآكل ، أو في بدن المأكول ، وأيا ما كان لا يكون أحدهما بعينه معادا بتمامه ، على أنه لا أولوية لجعلها جزءا من بدن أحدهما دون الآخر ، ولا سبيل لجعلها جزءا من كل منهما ، وأيضا إذا كان الآكل كافرا والمأكول مؤمنا يلزم تنعيم الأجزاء العاصية ، أو تعذيب الأجزاء المطيعة.

والجواب ـ أنا نعني بالحشر إعادة الأجزاء الأصلية الباقية من أول العمر إلى آخره ، لا الحاصلة بالتغذية ، فالمعاد من كل من الآكل والمأكول الأجزاء الأصلية الحاصلة في أول الفطرة من غير لزوم فساد.

فإن قيل : يجوز أن يصير تلك الأجزاء الغذائية الأصلية في المأكول الفضل في الآكل نطفة وأجزاء أصلية لبدن آخر ، ويعود المحذور.

قلنا : الفساد إنما هو في وقوع ذلك ، لا في إمكانه فلعل الله تعالى يحفظها من أن تصير جزءا لبدن آخر ، فضلا عن أن تصير جزءا أصليا. وقد ادعى المعتزلة (١) أنه يجب على الحكيم حفظها عن ذلك ليتمكن من إيصال الجزاء إلى مستحقه ، ونحن نقول : لعله يحفظها عن التفرق ، فلا يحتاج إلى إعادة الجمع والتأليف ، بل إنما يعاد إلى الحياة والصور والهيئات.

فإن قيل : الآيات الواردة في باب الحشر من مثل :

(مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (٢)

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) (٣)

(إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (٤).

__________________

(١) سبق الحديث عنها في كلمة ضافية في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(٢) سورة يس آية رقم ٧٨.

(٣) سورة الواقعة آية رقم ٤٧.

(٤) سورة سبأ آية رقم ٧.

تشعر بأن الأصلية ، وغير الأصلية ، ومتنازع المحق والمبطل ، ومتوارد الإثبات والنفي هي إعادة الأجزاء بأسرها إلى الحياة ، لا الأصلية وحدها ، ولا إعادة المعدوم بعينه.

قلنا : ومن الآيات ما هو مسوق لنفس الإعادة مثل :

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (١)

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢)

وكأن المنكرين استبعدوا إحياء ما كانوا يشاهدون من الرميم والتراب ، فأزيل استبعادهم بتذكير ابتداء الفطرة والتنبيه على كمال العلم والقدرة.

وأما حديث إعادة المعدوم ، والأجزاء الأصلية فلعله لم يخطر ببالهم.

الثالث ـ أن الإعادة لا لغرض عبث لا يليق بالحكيم ، ولغرض عائد إلى الله تعالى نقص يجب تنزيهه عنه ، ولغرض عائد إلى العباد أيضا باطل ، لأنه إما إيصال ألم ، وهو لا يليق بالحكيم ، وإما إيصال لذة ، ولا لذة في الوجود ، سيما في عالم الحس. فكل ما يتخيل لذة فإنما هو خلاص عن الألم ، ولا ألم في العدم أو الموت ، ليكون الخلاص عنه لذة مقصودة بالإعادة ، بل إنما يتصور ذلك بأن يوصل إليه ألما ثم يخلصه عنه ، فتكون الاعادة لإيصال ألم يعقبه خلاص (٣) وهو غير لائق بالحكمة (٤).

والجواب ـ منع لزوم الغرض ، وقبح الخلو عنه في فعل الله تعالى. ثم منع انحصار الغرض في إيصال اللذة والألم (٥) ، إذ يجوز أن يكون نفس إيصال الجزاء إلى من يستحقه غرضا ، ثم منع كون اللذة دفعا للألم ، وخلاصا عنه. كيف واللذة والألم من الوجدانيات التي لا يشك العاقل في تحققها ، وقد سبق تحقيق

__________________

(١) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٢) سورة الإسراء آية رقم ٥١.

(٣) في (ب) بزيادة (خلاص العبد).

(٤) في (ب) الحكيم بدلا من (الحكمة).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (فقط).

ذلك (١) ، ثم منع كون اللذات الأخروية من جنس الدنيوية بحسب الحقيقة ليلزم كونها دفعا للألم وخلاصا عنه.

قال : تنبيه

((تنبيه) بعد إثبات تجرد النفس وبقائها بعد خراب البدن لا يفتقر إثبات المعاد الروحاني إلى زيادة بيان ، لأنه عبارة إما عن عودها إلى ما كانت عليه من التجرد المحض (٢) ، أو التبرؤ من ظلمات التعلق ملتذة او متألمة ، بما اكتسبت (٣) وإما عن تعلقها بالبدن المحشور الذي ليس بمعقول ولا منقول ، إما أن تتعلق به نفس أخرى ، وتبقى نفسها معطلة أو متعلقة ببدن آخر).

القائلون بالمعاد الروحاني فقط ، أو به ، وبالجسماني جميعا هم الذين يقولون بأن النفوس الناطقة مجردة باقية لا تفنى بخراب البدن لما سيق من الدلائل ، ويشهد بذلك نصوص من الكتاب والسنة ، فلا حاجة للأولين إلى زيادة بيان في إثبات المعاد ، لأنه عبارة عن عود النفس إلى ما كانت عليه من التجرد أو التبرؤ من ظلمات التعلق وبقائها ملتذة بالكمال ، أو متألمة بالنقصان ، ولا للآخرين بعد إثبات حشر الأجساد ، لأن القول بإحياء البدن مع تعلق نفس أخرى به تدبر أمره وبقاء نفسه معطلة ، أو متعلقة ببدن آخر غير مقبول عند العقل ، ولا منقول من أحد. كيف ونفسها مناسبة لذلك المزاج ، آلفة به ، لم تفارقه إلا لانتفاء قابليته لتصرفاتها. فحين عادت القابلية ، عاد التعلق لا محالة. وقد يقال إن قوله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (٤) (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (٥) (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ) (٦)

إشارة إلى المعاد الروحاني ، وكذا الأحاديث الواردة في حال أرواح المؤمنين ،

__________________

(١) في (ب) بزيادة (في هذا الكتاب).

(٢) سقط من (ب) لفظ (المحض).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (النفس).

(٤) سورة السجدة آية رقم ١٧.

(٥) سورة يونس آية رقم ٢٦.

(٦) سورة التوبة آية رقم ٧٢.

وخصوصا الصديقين والشهداء والصالحين ، وأنها في حواصل طيور خضر في قناديل من نور معلقة تحت العرش ، وإن كانت ظواهرها مشعرة بأن الأرواح من قبيل الأجسام على ما قال إمام الحرمين أن الأظهر عندنا أن الأرواح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة ، أجرى الله تعالى العادة باستمرار حياة الأجساد ما استمرت مشابكتها بها. فإذا فارقها ، يعقب الموت الحياة في استمرار العادة ، ثم الروح يعرج به ، ويرفع في حواصل طيور خضر في الجنة ، ويهبط به إلى سجين من الكفرة كما وردت فيه الآثار ، والحياة عرض يحيى به الجوهر. والروح يحيا بالحياة أيضا إن قامت به الحياة ، فهذا قولنا في الروح ، كذا في الإرشاد.

قال : المبحث الثالث ـ

(المبحث الثالث اختلف القائلون بصحة فناء الجسم في أنه بإعدام معدم ، أو بحدوث ضد ، أو بانتفاء شرط.

أما الأول ـ فقال القاضي وبعض المعتزلة هو بإعدام الله تعالى بلا واسطة. وقال أبو الهذيل (١) : بأمر افن ، كالوجود بأمر كن.

وأما الثاني ـ فقال ابن الإخشيد (٢) : يخلق الله تعالى الفناء في جهة معينة ، فتفنى الجواهر بأسرها. وقال ابن شبيب (٣) : يخلق الله في كل جوهر فناء ، فيقتضي فناءه في الزمان الثاني. وقال أبو علي : يخلق بعدد كل جوهر فناء ، لا في محل. وقال أبو هاشم (٤) : بل فناء واحدا.

وأما الثالث ـ فقال بشر (٥) : ذلك الشرط بقاء يخلقه الله ، لا في محل. وقال أكثر

__________________

(١) هو محمد بن الهزيل بن عبد الله بن مكحول العبدي مولى عبد القيس أبو الهذيل العلاف ، من أئمة المعتزلة ، ولد في البصرة عام ١٣٥ ه‍ واشتهر بعلم الكلام قال : المأمون : أطل أبو الهذيل على الكلام كإطلال الغمام على الأنام له مقالات في الاعتزال ، ومجالس ومناظرات وكان حسن الجدل قوي الحجة ، سريع الخاطر توفي عام ٢٣٥.

(٢) سبق الترجمة له في الجزء الثاني.

(٣) سبق الترجمة له في الجزء الثالث.

(٤) سبق الترجمة له في الجزء الأول.

(٥) سبق الترجمة له في الجزء الأول.

أصحابنا بقاء قائم بالجسم يخلق الله فيه حالا فحالا. وقال إمام الحرمين الأعراض التي تحت اتصاف الجسم بها. وقال القاضي في أحد قوليه : الأكوان التي يخلقها فيه حالا فحالا. وقال: النظام (١) خلقه لأنه ليس بباق ، بل يخلق حالا فحالا.)

قد سبقت في مباحث الجسم إشارة إلى أن الأجسام باقية ، غير متزايلة على ما يراه النظام ، وقابلة للفناء ، غير دائمة للبقاء على ما يراه الفلاسفة قولا بأنها أزلية أبدية. والجاحظ (٢) ، وجمع من الكرامية (٣) قولا بأنها أبدية ، غير أزلية. وتوقف أصحاب أبي الحسين في صحة الفناء ، واختلف القائلون بها في أن الفناء بإعدام معدم ، أو بحدوث ضد ، أو بانتفاء شرط.

اما الأول ـ فذهب القاضي ، وبعض المعتزلة إلى أن الله تعالى يعدم العالم بلا واسطة ، فيصير معدوما كما أوجده كذلك ، فصار موجودا. وذهب أبو الهذيل إلى أنه تعالى يقول له : «افن» فيفنى ، كما قال له : (كُنْ) فكان.

وأما الثاني ـ فذهب جمهور المعتزلة إلى أن فناء الجوهر بحدوث ضد له هو الفناء ، ثم اختلفوا فذهب ابن الإخشيد إلى أن الفناء ، وإن لم يكن متحيزا ، لكنه يكون حاصلا في جهة معينة. فإذا أحدثه الله تعالى فيها ، عدمت الجواهر بأسرها. وذهب ابن شبيب إلى أن الله تعالى يحدث في كل جوهر فناء ، ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني. وذهب أبو علي (٤) وأتباعه إلى أنه يخلق بعدد كل جوهر فناء لا في محل ، فتفنى الجواهر.

__________________

(١) سبق الترجمة له في هذا الجزء.

(٢) هو عمرو بن بحر بن محبوب أبو عثمان الشهير بالجاحظ كبير أئمة الأدب ، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة ولد عام ١٦٣ في البصرة ، ومات والكتاب على صدره قتلته مجلدات من الكتب على رأسه عام ٢٥٥ ه‍ له تصانيف كثيرة منها كتاب الحيوان ، والبيان والتبيين ، والبخلاء والمحاسن والأضداد والتبصر بالتجارة ، ومجموع رسائل اشتمل على أربع وهي ، المعاد والمعاش ، وكتمان السر وحفظ اللسان ، والجد والهزل ، والحسد والعداوة وغير ذلك كثير. راجع إرشاد الأريب ٦ : ٥٦ ـ ٨٠ والوفيات ١ : ٣٨٨.

(٣) سبق الكلام عنها في كلمة وافية.

(٤) سبق الترجمة له في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

وقال أبو هاشم وأشياعه : يخلق فتاء واحد ، لا في محل ، فتفنى به الجواهر بأسرها.

وأما الثالث ـ وهو أن فناء الجوهر بانقطاع شرط وجوده. فزعم بشر أن ذلك الشرط بقاء يخلقه الله تعالى ، لا في محل ، فإذا لم يوجد عدم الجوهر. وذهب الأكثرون من أصحابنا والكعبي (١) من المعتزلة إلى أنه بقاء قائم به ، يخلقه الله تعالى حالا فحالا. فإذا لم يخلقه الله تعالى فيه ، انتفى الجوهر.

وقال إمام الحرمين بأنها الأعراض التي يجب اتصاف الجسم بها. فإذا لم يخلقها الله فيه فني. وقال القاضي في أحد قوليه : هو الأكوان التي يخلقها الله تعالى في الجسم حالا فحالا. فمتى لم يخلقها فيه انعدم.

وقال النظام إنه ليس بباق ، بل يخلق حالا فحالا فمتى لم يخلق فني.

وأكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل ، سيما القول : بكون الفناء أمرا محققا في الخارج ، وضدا للبقاء ، قائما بنفسه ، أو بالجوهر ، وكون البقاء موجودا إلّا في محل ، ولعل وجه البطلان غني عن البيان.

قال : المبحث الرابع ـ

(واختلفوا في أن الحشر إيجاد بعد الفناء ، أو جمع التفرق ، والحق التوقف.

احتج الأولون بوجوه :

الأول ـ الإجماع قبل ظهور المخالفين ، ورد بالمنع.

الثاني ـ قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (٢).

ولا يتصور إلا بانعدام المخلوقات ، وليس بعد القيمة وفاقا ، فيكون قبلها.

__________________

(١) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي من بني كعب البلخي الخراساني أبو القاسم ، أحد أئمة المعتزلة ، كان رأس طائفة منهم تسمى الكعبية ، وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها وهو من أهل بلخ أقام ببغداد مدة طويلة وتوفي بها عام ٣١٩ ه‍ له كتب منها التفسير ، وتأييد مقالة أبي الهذيل وقبول الأخبار ، ومقالات الإسلاميين ، وباب ذكر المعتزلة ، وأدب الجدل ، وتحفة الوزراء وغير ذلك كثير راجع تاريخ بغداد ٩ : ٣٨٤ ، والمقريزي ٢ : ٣٤٨ ووفيات الأعيان ١ : ٢٥٢.

(٢) سورة الحديد آية رقم ٣.

وأجيب بأن المعنى هو المبدأ أو الغاية ، أو هو الآلة لا غير ، أو هو الباقي بعد موت الأحياء ، أو هو الأول خلقا ، والآخر رزقا.

الثالث ـ قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١).

وليس المراد الخروج عن الانتفاع ، لأن منفعة الدلالة على الصانع باقية بعد التفرق.

وأجيب بأن الإمكان هلاك في نفسه ، وكذا الخروج عن الانتفاع الذي خلق الشيء لأجله ، وإن صلح لمنفعة أخرى ، وليس خلق كل جوهر للاستدلال.

الرابع ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣) والبدء من العدم ، فكذا العود.

وأجيب بأن بدء الخلق قد لا يكون عن عدم ، قال الله تعالى : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٤).

الخامس ـ قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (٥).

وأجيب بأن الفناء قد يكون بالخروج عن الانتفاع المقصود مثل : فني الزاد والطعام ، وأفناهم الحرب.)

يعني أن القائلين بصحة الفناء ، وبحقية حشر الأجساد اختلفوا في أن ذلك بإيجاد بعد الفناء ، أو بالجمع بعد تفرق الأجزاء ، والحق التوقف ، وهو اختيار إمام الحرمين ، حيث قال : يجوز عقلا أن تعدم الجواهر ، ثم تعاد ، وأن تبقى وتزول أعراضها المعهودة ثم تعاد بنيتها ، ولم يدل قاطع سمعي على تعيين أحدهما. فلا يبعد أن يغير أجسام العباد على صفة أجسام التراب ، ثم يعاد تركيبها إلى ما عهد ، ولا نحيل أن يعدم منها شيء ، ثم يعاد ، والله أعلم. احتج الأولون بوجوه :

__________________

(١) سورة القصص آية رقم ٨٨.

(٢) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ١٠٤.

(٤) سورة السجدة آية رقم ٧.

(٥) سورة الرحمن آية رقم ٢٦.

الأول ـ الإجماع على ذلك قبل ظهور المخالفين ، كبعض المتأخرين من المعتزلة ، وأهل السنة. ورد بالمنع ، كيف وقد أطبقت معتزلة بغداد على خلافه. نعم ، كان الصحابة مجمعين على بقاء الحق وفناء الخلق ، بمعنى هلاك الأشياء ، وموت الأحياء ، وتفرق الأجزاء ، لا بمعنى انعدام الجواهر بالكلية ، لأن الظاهر أنهم لم يكونوا يخوضون في هذه التدقيقات.

الثاني قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١)

أي في الوجود. ولا يتصور ذلك إلا بانعدام ما سواه. وليس بعد القيامة وفاقا. فيكون قبلها.

وأجيب بأنه يجوز أن يكون المعنى هو مبدأ كل موجود ، وغاية كل مقصود ، أو هو المتوحد في الألوهية أو صفات الكمال ، كما إذا قيل لك : أهذا أول من زارك أو آخرهم؟ فتقول : هو الأول والآخر ، وتريد أنه لا زائر سواه. أو هو الأول والآخر بالنسبة إلى كل حي. بمعنى أنه يبقى بعد موت جميع الأحياء. أو هو الأول خلقا والآخر رزقا كما قال : (خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) (٢)

وبالجملة فليس المراد أنه آخر كل شيء بحسب الزمان للاتفاق على أبدية الجنة ومن فيها.

الثالث ـ قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٣) فإن المراد به الانعدام ، لا الخروج عن كونه منتفعا به. لأن الشيء بعد التفرق يبقى دليلا على الصانع ، وذلك من أعظم المنافع.

وأجيب بأن المعنى أنه هالك في حد ذاته لكونه ممكنا لا يستحق الوجود إلا بالنظر إلى العلة. أو المراد بالهلاك الموت ، أو الخروج عن الانتفاع المقصود به اللائق بحاله. كما يقال: هلك الطعام إذا لم يبق صالحا للآكل ، وإن صلح لمنفعة

__________________

(١) سورة الحديد آية رقم ٣.

(٢) سورة الروم آية رقم ٤٠.

(٣) سورة القصص آية رقم ٨٨.

أخرى. ومعلوم أن ليس مقصود الباري تعالى من كل جوهر الدلالة عليه ، وإن صلح لذلك. كما أن من كتب كتابا ليس مقصوده بكل كلمة الدلالة على الكاتب. أو المراد الموت كما في قوله تعالى : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) (١)

وقيل : معناه كل عمل لم يقصد به وجه الله تعالى ، فهو هالك ، أي غير مثاب عليه.

الرابع ـ قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (٣) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) (٤).

والبدء من العدم ، فكذا العود ، وأيضا إعادة الخلق بعد إبدائه لا تتصور بدون تخلل العدم.

وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بإبداء الخلق الإيجاد والإخراج عن العدم ، بل الجمع والتركيب على ما يشعر به قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٥)

ولهذا يوصف بكونه مرئيا مشاهدا كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٦) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٧)

وأما القول بأن الخلق حقيقة في التركيب تمسكا بمثل قوله تعالى : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) (٨) أي ركبكم. (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٩)

اي يركبونه ، فلا يكون حقيقة في الايجاد دفعا للاشتراك ، فضعيف جدا لإطباق أهل اللغة على أنه إحداث وإيجاد ، مع تقدير سواء كان عن مادة كما في خلقكم من تراب أو بدونه ، كما في خلق الله العالم.

الخامس ـ قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) (١٠)

والفناء هو العدم.

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٧٦.

(٢) سورة الروم آية رقم ٢٧.

(٣) سورة الأنبياء آية رقم ١٠٤.

(٤) سورة الأعراف آية رقم ٢٩.

(٥) سورة السجدة آية رقم ٧.

(٦) سورة العنكبوت آية رقم ١٩.

(٧) سورة العنكبوت آية رقم ٢٠.

(٨) سورة غافر آية رقم ٦٧.

(٩) سورة العنكبوت آية رقم ١٧.

(١٠) سورة الرحمن آية رقم ٢٦.

وأجيب بالمنع ، بل هو خروج الشيء عن الصفة التي ينتفع به عندها كما يقال : فني زاد القوم وفني الطعام والشراب ولهذا يستعمل في الموت مثل : أفناهم الحرب. وقيل معنى الآية كل من على وجه الأرض من الأحياء فهو ميت.

قال الإمام الرازي (١) : ولو سلم كون الهلاك والفناء بمعنى العدم ، فلا بد في الآيتين من تأويل ، إذ لو حملتا على ظاهرهما ، لزم كون الكل هالكا فانيا في الحال ، وليس كذلك. وليس التأويل بكونه آئلا إلى العدم على ما ذكرتم أولى من التأويل بكونه قابلا له ، وهذا منه إشارة إلى ما اتفق عليه أئمة العربية من كون اسم الفاعل ونحوه مجازا في الاستقبال ، وأنه لا بد من الاتصاف بالمعنى المشتق منه : وإنما الخلاف في أنه هل يشترط بقاء ذلك المعنى؟ وقد توهم صاحب التلخيص أنه كالمضارع مشترك بين الحال والاستقبال. فاعترض بأن حمله على الاستقبال ليس تأويلا وصرفا عن الظاهر.

قال : احتج الآخرون.

(احتج الآخرون بوجوه :

الأول ـ أن المعاد بعد العدم ليس هو المبتدأ بعينه ، فلا يكون الجزاء واصلا إلى مستحقه ، وقد عرفت ضعفه.

الثاني ـ وهو المعتزلة ، أنه لا يتصور في الإعدام غرض ، إذ لا منفعة فيه لأحد ، ولا يصلح جزاء الفعل.

وأجيب بأن من الغرض اللطف للمكلف ، وإظهار العظمة والاستغناء ، والتفرد بالدوام والبقاء.

الثالث ـ الآيات المشعرة بأن النشور بالإحياء بعد الموت ، والجمع بعد التفرق : (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (٢) (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) (٣) (كَذلِكَ النُّشُورُ) (٤) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٥) إلى غير ذلك.

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية في هذا الجزء.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٦٠.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٥٩.

(٤) سورة فاطر آية رقم ٩.

(٥) سورة الروم آية رقم ١٩.

والجواب ـ ان غايتها عدم الدلالة على الإعدام لكونها مسوقة لبيان الإحياء والجمع. ثم هي معارضة بآيات تشعر بالفناء كما سبق).

وهم القائلون بأن حشر الأجساد إنما هو بالجمع بعد التفريق ، لا بالإيجاد بعد لانعدام بوجوه :

الأول ـ أنه لو عدمت الأجساد لما كان الجزاء واصلا إلى مستحقه. واللازم باطل سمعا عندنا بالنصوص الواردة في أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. وعقلا عند المعتزلة لما سبق من وجود ثواب المطيع ، وعقاب العاصي ، بيان اللزوم أن المعاد لا يكون هو المبدأ بل مثله ، لامتناع إعادة المعدوم بعينه.

ورد بالمنع ، وقد مر بيان ضعف أدلته ، ولو سلم فلا يقوم على من يقول ببقاء الروح والأجزاء الأصلية وإعدام البواقي ، ثم إيجادها إن لم يكن الثاني هو الأول بعينه ، بل مغايرا له في صفة الابتداء والإعادة ، أو باعتبار آخر. ولا شك أن العمدة (١) في الاستحقاق هو الروح على ما مر. وقد يقرر بأنها لو عدمت لما علم إيصال الجزاء إلى مستحقه ، لأنه لا يعلم أن ذلك المحشور هو الأول أعيد بعينه ، أم مثل له خلق على صفته؟ أما على تقدير الفناء بالكلية (٢) فظاهر ، وأما على تقدير بقاء الروح والأجزاء الأصلية فلانعدام التركيب والهيئات والصفات التي بها تمايز المثلين ، سيما على قول من يجعل الروح (٣) أيضا من قبيل الأجسام. واللازم منتف لأن الأدلة قائمة على وصول الجزاء إلى المستحق ، لا يقال : لعل الله تعالى يحفظ الروح والأجزاء الأصلية عن التفرق والانحلال ، بل الحكمة يقتضي ذلك ليعلم وصول الحق إلى المستحق ، لأنا نقول : المقصود إبطال رأي من يقول بفناء الأجساد بجميع الأجزاء ، بل أجسام العالم بأسرها ، ثم الإيجاد ، وقد حصل ، ولو سلم ، فقد علمت أن العمدة في الحشر هو الأجزاء الأصلية لا الفضلية ، وقد سلمتم أنها لا تفرق ، فضلا عن

__________________

(١) في (ب) الأصل بدلا من (العمدة).

(٢) سقط من (ب) لفظ (بالكلية).

(٣) الروح الإنساني : هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الأمر تعجز العقول عن إدراك كنهه ، وتلك الروح قد تكون مجردة ، وقد تكون منطبقة في البدن قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).

الانعدام بالكلية ، بل الجواب أن المعلوم بالأدلة هو أن الله يوصل الجزاء إلى المستحق ولا دلالة على أنا نعلم ذلك بالإيصال البتة ، وكفى بالله عليما. ولو سلم ، فلعل الله يخلق علما ضروريا ، أو طريقا جليا جزئيا أو كليا.

الثاني ـ وهو للمعتزلة أن فعل الحكيم لا بد أن يكون لغرض لامتناع العبث عليه ، ولا يتصور له غرض في الإعدام إذ لا منفعة فيه لأحد ، لأنها إنما تكون مع الوجود ، بل الحياة. وليس أيضا جزاء المستحق كالعذاب والسؤال والحساب ، ونحو ذلك ، وهذا ظاهر. ورد بمنع انحصار الغرض في المنفعة والجزاء ، فلعل لله تعالى في ذلك حكما ومصالح لا يعلمها غيره. على أن في الإخبار بالإعدام لطفا للمكلفين ، وإظهارا لغاية العظمة والاستغناء ، والتفرد بالدوام والبقاء ، ثم الإعدام تحقيق لذلك وتصديق ، وقد يورد الوجهان على طريق تفريق الأجزاء ، أما الثاني فظاهر ، وأما الأول فلانعدام التأليف والهيئات التي بها التمايز. فإما أن تمتنع الإعادة ، أو يلتبس المعاد بالمثل. ويجاب بأنه يجوز أن لا تنعدم الصفات التي بها التمايز كاختصاص الجواهر بما لها من الجهات مثلا ، ولو سلم فالمستحق هو تلك الجواهر الموصوفة الباقية ، لا مجموع الجواهر والصفات والتعينات ، كما إذا جنى وهو شاب سمين سليم الأعضاء ، واقتص منه حين صار هرما عجيفا ساقط الأعضاء ، وعن الثاني بأن في التفريق منفعة الاعتبار ، وإمكان اللذة والألم على طريق الجزاء.

الثالث ـ النصوص الدالة على كون النشور بالإحياء بعد الموت ، والجمع بعد التفرق لا الإيجاد ، وبعد العدم كقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) (١) الآية وكقوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (٢) إلى قوله : (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) (٣).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٦٠.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٥٥.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٥٩.

وكقوله : (كَذلِكَ النُّشُورُ) (١) (وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ) (٢) (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)؟(٣).

بعد ما ذكر بدء الخلق من طين على وجه يرى ويشاهد مثل : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) (٤).

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (٥)

وكقوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٦)

إلى غير ذلك من الآيات المشعرة بالتفريق دون الإعدام.

والجواب ـ أنها لا تنفي الإعدام ، وإن لم تدل عليه. وإنما سيقت بيانا لكيفية الإحياء بعد الموت. والجمع بعد التفريق ، لأن السؤال وقع عن ذلك ، ولأنه أظهر في بادئ النظر ، والشواهد عليه أكثر ، ثم هي معارضة بما سبق من الآيات المشعرة بالإعدام والفناء.

قال : المبحث الخامس ـ

(المبحث الخامس ـ الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا لبعض المعتزلة لنا قصة آدم وحواء ، والنصوص الشاهدة بذلك مثل : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٧) (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٨) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٩)

وحملها على المجاز عدول عن الظاهر بلا دليل.

احتج المنكرون بوجوه : الأول ـ أن خلقهما قبل يوم الجزاء عبث ، وضعفه ظاهر.

__________________

(١) سورة فاطر آية رقم ٩.

(٢) سورة الروم آية رقم ١٩.

(٣) سورة الأعراف آية رقم ٢٩.

(٤) سورة العنكبوت آية رقم ١٩.

(٥) سورة العنكبوت آية رقم ٢٠.

(٦) سورة القارعة آية رقم ٤ ، ٥.

(٧) سورة آل عمران آية رقم ١٣٣.

(٨) سورة البقرة آية رقم ٢٤.

(٩) سورة الشعراء آية رقم ٩٠ ، ٩١.

الثاني ـ لو خلقتا لهلكتا ، لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (١) وهو باطل بالنص والإجماع.

قلنا : يخصان من عموم الآية ، أو يحمل الهلاك على غير الفناء ، أو تفنيان لحظة ، وهو لا ينافي الدوام عرفا.

الثالث ـ لو وجدتا فإما في هذا العالم ، ولا يتصور في أفلاكه لامتناع الخرق والصعود والهبوط ، ولا في عناصره ، لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء ، ولأن عود الروح إلى البدن في عالم العناصر تناسخ. وإما في عالم آخر ، وهو باطل لأنه لافتقاره إلى تحدد الجهات يكون كريا ، فيكون بين العالمين خلاء ، ولأنه يشتمل على عناصر وأحياز طبيعية لها ، فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ، ويلزم ميله إليه وعنه. قلنا : أكثر المقدمات فلسفية ، مع أنه لا يمتنع كون العالمين في محيط بهما بمنزلة تدويرين في فلك ، ولا كون العناصر مختلفة الطبائع ، ولا كون تحيزها في أحد العالمين حيز طبيعي. والتناسخ تعلق النفس في هذا العالم ببدن آخر.)

جمهور المسلمين على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، خلافا لأبي هاشم والقاضي عبد الجبار (٢) ، ومن يجري مجراهما من المعتزلة ، حيث زعموا أنهما إنما يخلقان يوم الجزاء. لنا وجهان :

الأول ـ قصة آدم وحواء ، وإسكانهما الجنة ، ثم إخراجهما عنها بأكل الشجرة ، وكونهما يخصفان عليهما من ورق الجنة على ما نطق به الكتاب والسنة ، وانعقد عليه الإجماع قبل ظهور المخالفين ، وحملهما على بستان من بساتين الدنيا يجري

__________________

(١) سورة القصص آية رقم ٨٨.

(٢) هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني أبو الحسين قاض أصولي كان شيخ المعتزلة في عصره ، وهم يلقبونه قاضي القضاة ولي القضاء بالري ومات بها عام ٤١٥ ه‍ له تصانيف كثيرة منها تنزيه القرآن عن المطاعن ، وشرح الأصول الخمسة ، والمغني في أبواب التوحيد والعدل ، وغير ذلك كثير.

مجرى التلاعب بالدين والمراغمة لإجماع المسلمين ، ثم لا قائل بخلق الجنة دون النار ، فثبوتها ثبوتها.

الثاني ـ الآيات الصريحة في ذلك كقوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١)

وكقوله في حق الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (٢) (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) (٣) (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٤)

وفي حق النار : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٥) ، (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٦) وحملها على التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي مبالغة في تحققه مثل : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٧) (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (٨)

خلاف الظاهر ، فلا يعدل إليه بدون قرينة. تمسك المنكرون بوجوه :

الأول ـ أن خلقهما قبل يوم الجزاء عبث لا يليق بالحكيم. وضعفه ظاهر.

الثاني ـ أنهما لو خلقتا لهلكتا لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٩) واللازم باطل للإجماع على دوامهما ، وللنصوص الشاهدة بدوام أكل الجنة وظلها.

وأجيب بتخصيصها من آية الهلاك جمعا بين الأدلة ، وبحمل الهلاك على غير الفناء كما مر ، وبأن الدوام المجمع عليه هو أنه لا انقطاع لبقائهما ، ولا انتهاء لوجودهما بحيث لا يبقيان على العدم زمانا يعتد به ، كما في دوام المأكول ، فإنه على التجدد والانقضاء قطعا(١٠) ، وهذا لا ينافي فناء لحظة.

الثالث ـ أنهما لو وجدتا الآن ، فإما في هذا العالم ، أو في عالم آخر ، وكلاهما باطل.

__________________

(١) سورة النجم آية رقم ١٣ ، ١٤ ، ١٥.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٣٢.

(٣) سورة الحديد آية رقم ٢١.

(٤) سورة الشعراء آية رقم ٩٠.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٢٤.

(٦) سورة الشعراء آية رقم ٩١.

(٧) سورة ق آية رقم ٢٠.

(٨) سورة الأعراف آية رقم ٤٤.

(٩) سورة القصص آية رقم ٨٨.

(١٠) سقط من (ب) لفظ (قطعا)

اما الأول ، فلأنه لا يتصور في أفلاكه لامتناع الخرق والالتيام عليها ، وحصول العنصريات فيها ، وهبوط آدم منها ، ولا في عنصرياته لأنها لا تسع جنة عرضها كعرض السماء والأرض ، ولأنه لا معنى للتناسخ (١) إلا عود الأرواح إلى الأبدان ، مع بقائها في عالم العناصر.

وأما الثاني فلأنه لا بد في ذلك العالم أيضا من جهات مختلفة ، إنما تتحد بالمحيط والمركز فيكون كريا فلا يلاقي هذا العالم إلا بنقطة ، فيلزم بين العالمين خلاء (٢) وقد تبين استحالته ، ولأنه يشتمل ـ لا محالة ـ على عناصر لها فيه أحياز طبيعية ، فيكون لعنصر واحد حيزان طبيعيان ، ويلزم سكون كل عنصر في حيزه الذي في ذلك العالم ، لكونه طبيعيا له ، وحركته عنه إلى حيّزه الذي في هذا العالم لكونه خارجا عنه. واجتماع الحركة والسكون محال. وإن لم يلزم الحركة والسكون ، فلا أقل من لزوم الميل إليه وعنه ، ولأنه لا محالة يكون في جهة من محدد هذا العالم ، والمحدد في جهة منه ، فيلزم تحدد الجهة قبله لا به ، مع لزوم الترجح بلا مرجح ، لاستواء الجهات.

والجواب ـ أن مبنى ذلك على أصول فلسفية ، غير مسلمة عندنا ، كاستحالة الخلاء ، وامتناع الخرق والالتيام ، ونفي القادر المختار الذي بقدرته وإرادته تحديد الجهات ، وترجيح المتساويات إلى غير ذلك من المقدمات ، على أن ما ادعوا تحدده بالمحيط والمركز إنما هو جهة العلو والسفل لا غير ، ودليلهم على امتناع الخرق إنما قام في المحدد لا غير. وكون العالمين في محيط بهما بمنزلة تدويرين في ثخن فلك ، لا يستلزم الخلاء ، ولا يمتنع كون عناصر العالمين مختلفة الطبائع ، ولا كون تحيزهما في أحد العالمين غير طبيعي. وليس التناسخ عود الأرواح إلى

__________________

(١) في (ب) النسخ بدلا من (التناسخ).

(٢) الخلاء : هو البعد المفطور عند افلاطون ، والفضاء الموهوم عند المتكلمين أي الفضاء الذي يثبته الوهم ويدركه من الجسم المحيط بجسم آخر كالقضاء المشغول بالماء أو الهواء في داخل الكوز فهذا الفراغ الموهوم هو الذي من شأنه أن يحصل فيه الجسم ، وان يكون ظرفا له عندهم وبهذا الاعتبار يجعلونه حيزا وباعتبار فراغه من شغل الجسم إياه يجعلونه خلاء ، فالخلاء عندهم هو هذا الفراغ مع قيد أن لا يشغله شاغل من الأجسام فيكون لا شيئا محضا ، والحكماء ذاهبون إلى امتناع الخلاء والمتكلمون إلى إمكانه.

أبدانها ، بل تعلقها ببدن آخر في هذا العالم. لا يقال : هذا الدليل لا يليق بالقائلين بوجود الجنة والنار يوم الجزاء ، لأنه على تقدير تمامه ينفي وجود جنة يدخلها الناس ، ويوجد فيها العنصريات لابتناء ذلك على خرق الأفلاك ، لأنا نقول على تقدير إفناء هذا العالم بالكلية ، وإيجاد عالم آخر فيه الجنة ، والنار ، والإنسان ، وسائر العنصريات لا يلزم الخرق ولا غيره عن المحالات ، فلذا خص هذا الدليل بنفي الجنة. والنار ، مع وجود هذا العالم.

قال : خاتمة ـ

(خاتمة ـ لا قطع بمكان الجنة والنار. والأكثرون على أن الجنة فوق السماوات السبع ، وتحت العرش ، لقوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (١)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سقف الجنة عرش الرحمن ، والنار تحت الأرضين». والحق التوقف).

لم يرد نص صريح في تعيين مكان الجنة والنار. والأكثرون على أن الجنة فوق السموات السبع ، وتحت العرش تشبثا بقوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٢)

وقوله (عليه‌السلام) : «سقف الجنة عرش الرحمن والنار تحت الأرضين السبع». والحق تفويض ذلك إلى علم العليم الخبير.

قال : المبحث السادس ـ

(المبحث السادس ـ سؤال القبر وعذابه حق لقوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٣) (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٤) (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

__________________

(١) سورة النجم آية رقم ١٤ ، ١٥.

(٢) سورة النجم آية رقم ١٤ ، ١٥.

(٣) سورة غافر آية رقم ٤٦.

(٤) سورة نوح آية رقم ٢٥.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

وليست الثانية إلّا في القبر. (يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (١)

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران» (٢) والأحاديث في هذا الباب متواترة المعنى. تمسك المنكرون بالسمع والعقل. أما السمع فقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٣)

ولو كان في القبر حياة ـ ولا محالة ـ يعقبها موت لكان قبل الجنة موتتان. وقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٤).

وقوله تعالى حكاية : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

ولو كان في القبر إحياء لكانت الإحياءات ثلاثة في الدنيا ، وفي القبر ، وفي الحشر.

والجواب ـ أنّ إثبات الواحد أو الاثنين لا ينافي الثاني والثالث. ثم الظاهر أن قوله تعالى : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) :

الإحياء في الآخرة ، ولم يتعرض لما في القبر ، لأنه لخفاء أمره ، وضعف أثره لا يصلح في معرض الترغيب في الإيمان ، والتعجيب من الكفر ، وأن قولهم : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٦) :

في الدنيا وفي القبر. وترك ما في الآخرة لأنه معاين. وقيل : بل القبر والحشر ، لأن المراد إحياء يعقبه علم ضروري بالله ، واعتراف بالذنوب ، وأما العقل فلأن اللذة والألم والمكالمة ، ونحو ذلك تتوقف على الحياة المتوقفة

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١٦٩ ، ١٧٠.

(٢) الحديث رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة ٢٦ باب ٢٤٦٠ حدثنا محمد بن أحمد بن مدوبه ، حدثنا القاسم بن الحكم العرني حدثنا عبد الله بن الوليد الوصافي عن عطيه عن أبي سعيد قال وذكره. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(٣) سورة الدخان آية رقم ٥٦.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٨.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

(٦) سورة غافر آية رقم ١١ وتكملة الآية (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ).

على البنية والمزاج ، ولأن الميت ربما يرى مدة بحالة من غير تحرك وتكلم. وربما يدفن في مضيق لا يتصور جلوسه فيه. وربما يحرق فتذروه الرياح رمادا ، وتجويز حياته وعذابه ليس بأبعد من تجويز سرير الميت وكلامه وعذابه.

والجواب ـ أنه لا عبرة بالاستبعاد مع إخبار الصادق على أنه لو سلم اشتراط الحياة بالبنية ، فلا يبعد أن يبقى من الأجزاء الأصلية ما يصلح بنيته ، وأن يكون التعذيب والمسألة مع الروح أو الأجزاء الأصلية ، فلا يشاهده الناظر ، وأن يوسع القادر المختار اللحد بحيث يمكن الجلوس).

في سؤال القبر وعذابه. اتفق الإسلاميون على حقية سؤال منكر ونكير في القبر ، وعذاب الكفار وبعض العصاة فيه. ونسب خلافه إلى بعض المعتزلة. قال بعض المتأخرين منهم : حكى إنكار ذلك عن ضرار بن عمرو (١) وإنما نسب إلى المعتزلة ، وهم براء منه لمخالطة ضرار إياهم ، وتبعه قوم من السفهاء المعاندين للحق. لنا الآيات كقوله تعالى في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) (٢)

أي قبل القيامة ، وذلك في القبر بدليل قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) (٣)

وكقوله تعالى من قوم نوح : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٤)

والفاء للتعقيب ، وكقوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

وإحدى الحياتين ليست إلا في القبر ، ولا يكون إلا لأنموذج ثواب أو عقاب

__________________

(١) هو صرار بن عمرو الغطفاني : قاض من كبار المعتزلة طمع برياستهم في بلده فلم يدركها فخالفهم فكفروه وطردوه وصنف نحو ثلاثين كتابا بعضها في الرد عليهم وعلى الخوارج وفيها ما هو مقالات خبيثة ، وشهد عليه الإمام أحمد بن حنبل عند القاضي سعيد بن عبد الرحمن الجمحي فأفتى بضرب عنقه فهرب مات نحو ١٩٠ ه‍ راجع لسان الميزان ٣ : ٣٠٣.

(٢) سورة غافر آية رقم ٤٦.

(٣) سورة غافر آية رقم ٤٦.

(٤) سورة نوح آية رقم ٢٥.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

بالاتفاق ، وكقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) (١)

والأحاديث المتواترة المعنى كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران» (٢) وكما روي أنه مر بقبرين ، فقال : «إنهما ليعذبان ..» (٣) الحديث. وكالحديث المعروف في الملكين اللذين يدخلان القبر ، ومعهما مرزبتان ، فيسألان الميت عن ربه ، وعن دينه ، وعن نبيه .. إلى غير ذلك من الأخبار ، والآثار المسطورة في الكتب المشهورة. وقد تواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم استعاذته من عذاب القبر ، واستفاض ذلك في الأدعية المأثورة. تمسك المنكرون بالسمع والعقل. أما السمع ، وهو للمعترفين بظواهر الشرائع فقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٤).

ولو كان في القبر حياة ـ ولا محالة ـ يعقبها موت إذ لا خلاف في إحياء الحشر لكان لهم قبل دخول الجنة موتتان لا موتة واحدة فقط.

فإن قيل : ما معنى هذا الاستثناء ، ومعلوم أن لا موت في الجنة اصلا ، ولو فرض فلا يتصور ذوق الموتة الأولى فيها.

قلنا : هو منقطع. أي لكن ذاقوا الموتة الأولى ، أو متصل على قصد المبالغة في عدم انقطاع نعيم الجنة بالموت ، بمنزلة تعليقه بالمحال ، أي لو أمكنت فيها موتة ، لكانت الموتة الأولى التي مضت وانقضت ، لكن ذلك محال.

فإن قيل : وصف الموتة بالأولى يشعر بموتة ثانية ، وليست إلا بعد إحياء القبر ،

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ١٦٩.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٣) الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب الوضوء ٥٥ ، ٥٦ وكتاب الجنائز ٨٩ ، والأدب ٤٦ ، ٤٩ ورواه الإمام مسلم في كتاب الطهارة ١١١ ، وأبو داود في كتاب الطهارة ١١ والترمذي في كتاب الطهارة ٥٣ والنسائي في كتاب الطهارة ٢٦ ، ١١٦ ، وابن ماجه في كتاب الطهارة ٢٦ والدارمي في الوضوء ٦١ وأحمد بن حنبل في المسند ١ : ٢٥٥ ، ٥ : ٣٥ ، ٣٩.

(٤) سورة الدخان آية رقم ٥٦.

فتكون الآية حجة على المتمسك لا له.

قلنا : المراد بالأولى بالنسبة إلى ما يتوهم في الجنة ، ويقصد نفيها.

فإن قيل : يجوز أن لا يراد الواحد بالعدد ، بل الجنس المتحقق المقابل بهذا المتوهم على ما يتناول موتة الدنيا ، وموتة القبر.

قلنا : يأباه بناء المرة ، وتاء الوحدة. وكذا قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (١) (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٢)

ولو كان في القبر إحياء ، لكانت الإحياءات ثلاثة : في الدنيا ، وفي القبر ، وفي الحشر ، وقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٣)

ولو كان في القبر إحياء لصح إسماع.

والجواب ـ أن إثبات الواحد أو الاثنين لا ينفي وجود الثاني أو الثالث ، على أن التعليق بأحد المحالين كاف في المبالغة وإثبات الإماتة والإحياء ، فقوله تعالى : (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (٤)

يمكن حمله على جميع ما يقع بعد حياة الدنيا من الإماتة والإحياء في الدنيا وفي القبر والحشر ، إذ لا دلالة للفعل على المرة ، لكن ربما يقال : إن في لفظ (ثُمَ) الثانية بعض نبوة عن ذلك ، ثم الظاهر أن المراد الإماتة في الدنيا والإحياء في الآخرة ، ولم يتعرض لما في القبر لخفاء أمره وضعف أثره على ما سيجيء فلا يصلح ذكره في معرض الدلالة على ثبوت الألوهية ، ووجوب الإيمان والتعجب والتعجيب من الكفر ، وأما في قولهم : (أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) (٥)

فالإماتتان في الدنيا وفي القبر ، وكذا الإحياءان ، وترك ما في الآخرة لأنه

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٨.

(٢) سورة غافر آية رقم ١١.

(٣) سورة فاطر آية رقم ٢٢.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٨.

(٥) سورة غافر آية رقم ١١.

معاين ، وقيل : بل ما في القبر ، وما في الحشر ، لأن المراد إحياء تعقبه معرفة ضرورية بالله ، واعتراف بالذنوب. وأما قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (١).

فتمثيل لحال الكفرة بحال الموتى. ولا نزاع في أن الميت لا يسمع ، وأما العقل فلأن اللذة والألم والمسألة والتكلم ، ونحو ذلك لا يتصور بدون العلم والحياة ، ولا حياة مع فساد البنية وبطلان المزاج. ولو سلم فإنا نرى الميت أو المقتول أو المصلوب يبقى مدة من غير تحرك وتكلم ، ولا أثر تلذذ أو تألم ، وربما يدفن في صندوق أو لحد ضيق لا يتصور فيه جلوسه على ما ورد في الخبر ، وربما يذر على صدره كف من الذرة فترى باقية على حالها. بل ربما يأكله السباع أو تحرقه النار ، فيصير رمادا تذروه الرياح في المشارق والمغارب. فكيف يعقل حياته وعذابه وسؤاله وجوابه؟ وتجويز ذلك سفسطة. وليس بأبعد من تجويز حياة سرير الميت وكلامه ، وتعذيب خشبة المصلوب واحتراقها. ونحن نراها بحالها.

والجواب إجمالا ـ أن جميع ما ذكرتم استبعادات لا تنفي الإمكان كسائر خوارق العادات ، وإذ قد أخبر الصادق بها ، لزم التصديق. وتفصيلا ـ أنا لا نسلم اشتراط الحياة بالبنية ، ولو سلم فيجوز أن يبقى من الأجزاء قدر ما يصلح بنية ، والتعذيب والمسألة يجوز أن يكون للروح الذي هو أجسام لطيفة ، او للأجزاء الأصلية الباقية ، فلا يمتنع أن لا يشاهده الناظر ، ولا أن يخفيه الله تعالى عن الإنس والجن لحكمة لا اطلاع لنا عليها ، ولا أن يتحقق مع كون الميت في بطون السباع. ومن قال : بالقادر المختار المحيي المميت لا يستبعد توسيع اللحد والصندوق ، ولا حفظ الذرة على صدر المتحرك ، والقول بأن تجويز أمثال ذلك يفضي إلى السفسطة إنما يصح فيما لم يقم عليه الدليل ، ولم يخبر به الصادق ، وأما ما يقول به الصالحية والكرامية من جواز التعذيب بدون الحياة ، لأنها ليست شرطا للإدراك ، وابن الراوندي (٢) من أن الحياة موجودة في كل ميت ، لأن الموت ليس

__________________

(١) سورة فاطر آية رقم ٢٢.

(٢) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق أبو الحسن الراوندي أو ابن الراوندي ، فيلسوف مجاهر بالإلحاد من ـ

ضدا للحياة ، بل آفة كلية معجزة عن الأفعال الاختيارية ، غير منافية للعلم فباطل لا يوافق أصول أهل الحق.

قال : خاتمة ـ

(خاتمة) قد ثبتت بالضرورة من أن للميت في القبر نوع حياة قدر ما يتألم ويتلذذ ، ولكن في إعادة الروح إليه تردد وامتناع الحياة بدون الروح ممنوع).

اتفق أهل الحق على أن الله يعيد إلى الميت في القبر نوع حياة قدر ما يتألم ويتلذذ ويشهد بذلك الكتاب والأخبار والآثار ، لكن توقفوا في أنه هل يعاد الروح إليه أم لا؟ وما يتوهم من امتناع الحياة بدون الروح ممنوع. وإنما ذلك في الحياة الكاملة التي يكون معها القدرة والأفعال الاختيارية. وقد اتفقوا على أن الله تعالى لم يخلق في الميت القدرة والأفعال الاختيارية. فلهذا لا يعرف حياته كمن أصابته سكتة. ويشكل هذا بجوابه لمنكر ونكير على ما ورد في الحديث.

قال : المبحث السابع ـ

(المبحث السابع ـ سائر ما ورد في الكتاب والسنة من المحاسبة وأهوالها ، والصراط ، والميزان ، والحوض ، وتفاصيل أحوال الجنة والنار أمور ممكنة أخبر بها الصادق ، فوجب التصديق وأنكر بعض المعتزلة الصراط والميزان على ما وصفا لأن ما هو أدق من الشعر ، وأحد من السيف ، والعبور عليه لو أمكن فعذاب ، والأعمال أعراض لا يعقل وزنها. فالصراط طريق الجنة وطريق النار ، أو الأدلة الواضحة ، أو العبادات والشريعة والميزان العدل الثابت في كل شيء ، أو الإدراك كالحواس للمحسوسات ، والعلم للمعقولات.

والجواب ـ أن الله يسهل الطريق حتى يمر البعض كالبرق الخاطف وهكذا.

__________________

ـ سكان بغداد نسبته إلى راوند من قرى أصبهان قال ابن خلكان له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام ، وقد انفرد بمذاهب نقلوها عنه في كتبهم وقال ابن كثير ، أحد مشاهير الزنادقة ، طلبه السلطان فهرب ولجأ إلى ابن لاوي اليهودي (بالأهواز) وصنف له في مدة مقامه عنده كتابه الذي سماه (الدافع للقرآن) مات عام ٢٩٨ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٢٧ وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٨ ، ومروج الذهب ٧ : ٢٣٧

حتى يخر البعض على الوجه والأعمال توزن صحائفها ، أو تجعل الحسنات أجساما نورانية ، والسيئات ظلمانية).

في سائر السمعيات المتعلقة بأمر المعاد ، وجملة الأمر أنها أمور ممكنة نطق بها الكتاب والسنة ، وانعقد عليها إجماع الأمة ، فيكون القول بها حقا ، والتصديق بها واجبا. فمنها المحاسبة المشار إليها بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١).

وبقوله (عليه‌السلام) : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» (٢) وأهوالها : هول الوقوف ، قيل : ألف سنة ، وقيل : خمسون ألفا ، وقيل : أقل ، وقيل : أكثر ، والله أعلم : قال الله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٣) (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (٤) وهول تطاير الكتب. قال الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٥).

وقال : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) (٦) وهول المسألة : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) (٧) (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨).

وهول شهادة الشهود العشرة : الألسنة ، والأيدي ، والأرجل ، والسمع ، والأبصار ، والجلود ، والليل ، والنهار ، والحفظة الكرام. قال الله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩) وقال : (حَتَّى إِذا

__________________

(١) سورة غافر آية رقم ١٣.

(٢) الحديث أخرجه الإمام الترمذي في كتاب القيامة ٢٥.

(٣) سورة الصافات آية رقم ٢٤.

(٤) سورة النبأ آية رقم ٣٨.

(٥) سورة الانشقاق آية رقم ٧ ، ٨.

(٦) سورة الإسراء آية رقم ١٣.

(٧) سورة الصافات آية رقم ٢٤.

(٨) سورة الحجر آية رقم ٩٢.

(٩) سورة فصلت آية رقم ٢٠.

ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما من يوم وليلة يأتي على ابن آدم إلا قال : أنا ليل جديد ، وأنا فيما يعمل فيّ شهيد (٢). وكذا قال في اليوم ، وقال الله تعالى : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) (٣).

وهول تغير الألوان ، قال الله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (٤).

وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٥).

وهول المناداة بالسعادة والشقاوة. وقال عليه‌السلام يكون عند كل كفة الميزان ملك ، فإذا ترجح كفة الخير ، نادى : ألا إن فلانا سعد سعادة لا شقاوة بعدها أبدا. وإذا ترجح الكفة الأخرى ، نادى الملك الثاني : ألا إن فلانا شقي شقاوة لا سعادة بعدها أبدا. والحكمة في هذه المحاسبة والأهوال مع أن المحاسب خبير والناقد بصير ظهور مراتب أرباب الكمال ، وفضائح أصحاب النقصان على رءوس الأشهاد زيادة في لذات هؤلاء ومسراتهم. وآلام أولئك وأحزانهم ، ثم في هذا ترغيب في الحسنات ، وزجر عن السيئات ، وهل يظهر أثر هذه الأهوال في الأنبياء والأولياء ، والصلحاء والأتقياء؟ فيه تردد. والظاهر السلامة :

(تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) (٦) (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٧).

ومنها الصراط ، وهو جسر ممدود على متن جهنم ، يرده الأولون والآخرون ، أدق

__________________

(١) سورة فصلت آية رقم ٢٠ وقد جاءت هذه الآية محرفة في المطبوعة حيث قال : (يوم تشهد) وهنا تحريف.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) سورة ق آية رقم ٢١.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ١٠٦.

(٥) سورة عبس آية رقم ٣٨ ، ٣٩ ، ٤٠ ، ٤١.

(٦) سورة فصلت آية رقم ٣٠.

(٧) سورة يونس آية رقم ٦٢.

من الشعر ، وأحد من السيف ، على ما ورد في الحديث الصحيح. (١) ويشبه أن يكون المرور عليه هو المراد بورود كل أحد النار على ما قال تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) (٢).

وأنكره القاضي عبد الجبار وكثير من المعتزلة زعما منهم أنه لا يمكن الخطور عليه. ولو أمكن ففيه تعذيب ، ولا عذاب على المؤمنين والصلحاء يوم القيامة.

قالوا : بل المراد به طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٣) وطريق النار المشار إليه بقوله : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٤)

وقيل : المراد الأدلة الواضحة ، وقيل : العبادات كالصلاة والزكاة ، ونحوهما. وقيل : الأعمال الردية التي يسأل عنها ويؤاخذ بها ، كأنه يمر عليها ويطول المرور بكثرتها ، ويقصر بقتلها.

والجواب ـ أن إمكان العبور ظاهر كالمشي على الماء ، والطيران في الهواء غايته مخالفة العادة. ثم الله تعالى يسهل الطريق على من أراد ، كما جاء في الحديث أن منهم من هو كالبرق الخاطف ، ومنهم من هو كالريح الهابة ، ومنهم من هو كالجواد ، ومنهم من تخور رجلاه ، وتتعلق يداه ، ومنهم من يخر على وجهه.

ومنها الميزان ، قال الله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٥) وقال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٦).

ذهب كثير من المفسرين إلى أنه ميزان له كفتان ولسان وساقان ، عملا بالحقيقة لإمكانها ، وقد ورد في الحديث تفسيره بذلك ، وأنكره بعض المعتزلة

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث.

(٢) سورة مريم آية رقم ٧١.

(٣) سورة محمد آية رقم ٥.

(٤) سورة الصافات آية رقم ٢٣.

(٥) سورة الأنبياء آية رقم ٤٧.

(٦) سورة القارعة آية رقم ٦ ـ ٨.

ذهابا إلى أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها ، فكيف إذا زالت وتلاشت؟ بل المراد به العدل الثابت في كل شيء ، ولذا ذكره بلفظ الجمع ، وإلا فالميزان المشهور واحد. وقيل : هو الإدراك. فميزان الألوان البصر ، والأصوات السمع ، والطعوم الذوق ، وكذا سائر الحواس. وميزان المعقولات العلم والعقل.

وأجيب بأنه يوزن صحائف الأعمال. وقيل : بل تجعل الحسنات أجساما نورانية ، والسيئات أجساما ظلمانية ، وأما لفظ الجمع فللاستعظام ، وقيل : لكل مكلف ميزان. وإنما الميزان الكبير واحد إظهارا لجلالة الأمر وعظمة المقام ، ومنها الحوض. قال تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١).

وفي الحديث : «حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء ، ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وكيزانه أكثر من نجوم السماء ، من شرب منها فلا يظمأ أبدا».

وقال الصحابة له (عليه‌السلام) أين نطلبك يوم الحشر؟ فقال : على الصراط. فإن لم تجدوا فعلى الميزان. فإن لم تجدوا فعلى الحوض.

قال : المبحث الثامن ـ

(ذهب المحققون من الحكماء إلى أن ما ورد في الشرع من تفاصيل أحوال الجنة والنار ، والثواب والعقاب تمثيل وتصوير لمراتب النفوس وأحوالها في السعادة والشقاوة ولذاتها وآلامها ، فإنها لا تفنى ، بل تبقى ملتذة بكمالاتها (٢) فذلك ثوابها وجنانها ، أو متألمة بنقصانها ، فذلك عقابها ونيرانها ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم ، لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بالمفارقة وليست شقاوتها سرمدية (٣) البتة ، بل قد تتدرج من درجات الشقاوة إلى درجات السعادة. وإنما الشقاوة السرمدية هي الجهل المركب الراسخ ، والشرارة المضادة للملكة الفاضلة. وتفصيل ذلك أن فوات كمال النفس يكون إما لأمر

__________________

(١) سورة الكوثر آية رقم ١.

(٢) في (ب) بأحوالها بدلا من كمالاتها.

(٣) السرمدي : ما لا أول له ولا آخر.

عدمي كنقصان الغريزة ، أو وجودي راسخ ، أو غير راسخ. كل من الثلاثة بحسب القوة النظرية أو العملية. فالذي بحسب نقصان الغريزة لا عذاب عليه. والذي بحسب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب ، فعذابه دائم. والثلاثة الباقية تزول بعد عذاب مختلف في الكيف (١) والكم (٢) بحسب اختلاف الهيئات المضادة في شدة الرداءة وضعفها ، وفي سرعة الزوال وبطئه ، وإن كانت النفس خالية عن الكمال والشوق إليه ، وعما يضاده فهي في سعة من رحمة الله تعالى. ولم يجوز بعضهم كونها معطلة عن الإدراك ، فزعم أنها لا بد أن تتعلق بجسم آخر ، على أن تكون نفسا له تدبره. وهذا هو التناسخ ، أو على أن تستعمله لإمكان التخيل ، فتتخيل الصور التي كانت عندها ، وتلتذ بذلك ، ولا يكون أن تستعمله لإمكان التخيل ، فتتخيل الصور التي كانت عندها ، وتلتذ بذلك ، ولا يكون ذلك الجسم مزاجا ليقتضي فيضان نفس ، بل يكون جرما سماويا ، أو هوائيا (٣) أو نحو ذلك. ولم يستبعد بعضهم المعاد الجسماني ، لأن للتبشير والإنذار نفعا ظاهرا في أمر النظام ، والإيفاء بذلك بثواب المطيع وعقاب العاصي ازدياد للنفع بالقياس إلى الأكثرين ، وإن كان ضررا للمعذب).

في تقرير مذهب الحكماء في الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، أما القائلون بعالم المثل ، فيقولون بالجنة والنار ، وسائر ما ورد به الشرع من التفاصيل ، لكن في عالم المثل لا من جنس المحسوسات المحضة على ما يقول به الإسلاميون. وأما الأكثرون فيجعلون ذلك من قبيل اللذات والآلام العقلية ، وذلك أن النفوس البشرية سواء جعلت أزلية كما هو رأي أفلاطون (٤) ، أو لا كما هو رأي ارسطو (٥) ،

__________________

(١) سبق الحديث عن الكيف في كلمة وافية.

(٢) سبق الحديث عن الكم في كلمة وافية.

(٣) سقط من (ب) لفظ (أو هوائيا).

(٤) فيلسوف يوناني تتلمذ على سقراط ، ودون أفكاره على شكل محاورات أسس الأكاديمية في أثينا ووضع نظرية المثل وهي أقوى تأكيد لاستقلال المعقولات عن المحسوسات ولموضوعية القيم في الفكر الغربي كانت فلسفته السياسية تميل إلى النزعة الأرستقراطية. أشهر محاوراته «الجمهورية» التي رسم فيها أول صورة للمدينة الفاضلة ، ٤٢٧ ـ ٣٤٧ ق. م.

(٥) أرسطو : ٣٨٤ ـ ٣٢٢ ق. م فيلسوف يوناني تتلمذ على أفلاطون وعلم الإسكندر الأكبر وأسس اللوقيون حيث كان يحاضر ماشيا فسمي هو وأتباعه بالمشائين ألف (الأورغانون) في المنطق ، وأهم ما ـ

فهي أبدية عندهم ، لا تفنى بخراب البدن ، بل تبقى ملتذة بكمالاتها ، مبتهجة بإدراكاتها ، وذلك سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف المراتب وتفاوت الأحوال ، أو متألمة بفقد الكمالات ، وفساد الاعتقادات ، وذلك شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من اختلاف التفاصيل ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن ، وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بمفارقة البدن.

فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب ، وما يتعلق بذلك من السمعيات فهي مجازات وعبارات عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة ، واختلاف أحوالها في اللذات والآلام ، والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى درجات السعادة. فإن الشقاوة السرمدية إنما هي الجهل المركب الراسخ ، والشرارة المضادة للملكة الفاضلة ، لا الجهل البسيط ، والأخلاق الخالية عن غايتي الفضل والشرارة ، فإن شقاوتها متقطعة بل ربما لا تقتضي الشقاوة أصلا.

وتفصيل ذلك أن فوات كمالات النفس يكون إما لأمر عدمي كنقصان غريزة العقل ، أو وجود كوجود الأمور المضادة للكمالات ، وهي إما راسخة أو غير راسخة. وكل واحد من الأقسام الثلاثة إما أن يكون بحسب القوة النظرية أو العملية ، يصير ستة ، فالذي بحسب نقصان الغريزة في القوتين معا فهو غير مجبور بعد الموت ، ولا عذاب بسببه أصلا ، والذي بسبب مضاد راسخ في القوة النظرية كالجهل المركب الذي صار صورة للنفس ، غير مفارقة عنها ، فغير مجبور أيضا ، لكن عذابه دائم. وأما الثلاثة الباقية ، أعني النظرية ، غير الراسخة ، كاعتقادات العوام ، والمقلدة ، والعملية الراسخة وغير الراسخة ، كالاختلاف والملكات الردية المستحكمة وغير المستحكمة فيزول بعد الموت لعدم رسوخها ، أو لكونها هيئات مستفادة من الأفعال والأمزجة فيزول بزوالها ، لكنها تختلف في شدة الرداءة

__________________

ـ في المنطق هو القياس الذي نستنبط به نتيجة يقينية من مقدمات ولأرسطو في العلم الطبيعي مؤلفات منها السماع الطبيعي ، والسماء ، والكون ، والفساد ، والنفس وله فصول في موضوعات مختلفة يطلق عليها (ما وراء الطبيعة).

وضعفها ، وفي سرعة الزوال وبطئه ، فيختلف العذاب بها في الكم (١) والكيف (٢) بحسب الاختلافين ، وهذا إذا عرفت النفس أن لها كمالا فاتها لاكتسابها ما يضاد الكمال ، أو لاشتغالها بما يصرفها عن اكتساب الكمال ، أو لتكاسلها في اقتناء الكمال ، وعدم اشتغالها بشيء من العلوم. وأما النفوس السليمة الخالية عن الكمال ، وعما يضاده ، وعن الشوق الى الكمال ، فتبقى في سعة من رحمة الله تعالى ، خالصة من البدن إلى سعادة تليق بها ، غير متألمة بما يتأذى به الأشقياء ، إلا أنه ذهب بعض الفلاسفة إلى أنها لا يجوز أن تكون معطلة عن الإدراك ، فلا بد أن تتعلق بأجسام أخر لما أنها لا تدرك إلا بالآلات الجسمانية ، وحينئذ إما أن تصير مبادي صور لها ، وتكون نفوسا لها ، وهذا هو القول بالتناسخ ، وإما أن لا تصير ، وهذا هو الذي مال إليه ابن سينا (٣) والفارابي (٤) من أنها تتعلق بأجرام سماوية ، لا على أن تكون نفوسا لها مدبرة لأمورها ، بل على أن تستعملها لإمكان التخيل ، ثم تتخيل الصور التي كانت معتدة عندها ، وفي وهمها ، فتشاهد الخيرات الأخروية على حسب ما تتخيلها.

__________________

(١) الكم : هو العرض الذي يقتضي الانقسام لذاته وهو إما متصل أو منفصل لأن أجزاءه إما أن تشترك في حدود يكون كل منها نهاية جزء وبداية آخر وهو المتصل أو لا وهو المنفصل ، والمتصل إما قار الذات مجتمع الأجزاء في الوجود وهو المقدار المنقسم إلى الخط والسطح والثخن وهو الجسم التعليمي أو غير قار الذات وهو الزمان والمنفصل هو العدد فقط كالعشرين والثلاثين.

(٢) الكيف هيئة قارة في الشيء لا يقتضي قسمة ولا نسبة لذاته فقوله هيئة يشمل الأعراض كلها ، وقوله قارة في الشيء احتراز عن الهيئة الغير قارة كالحركة والزمان والفعل والانفعال ، وقوله لا يقتضي قسمة ، يخرج الكم ، وقوله لا نسبة ، يخرج الأعم إلخ.

(٣) هو الحسين بن عبد الله بن سينا أبو علي شرف الملك الفيلسوف الرئيس ، صاحب التصانيف في الطب ، والمنطق والطبيعيات والإلهيات ، أصله من بلخ ، ومولده في إحدى قرى بخاري نشأ وتعلم فيها ، وطاف البلاد ، وناظر العلماء واتسعت شهرته وتقلد الوزارة في همذان وثار عليه عسكرها ونهبوا بيته فتوارى ثم صار إلى أصفهان وصنف بها أكثر كتبه ، وعاد في آخر عمره إلى همذان فمرض في الطريق ، ومات بها عام ٤٢٨ ه‍.

(٤) هو محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ أبو نصر الفارابي ويعرف بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين تركي الأصل مستعرب ولد في فاراب (على نهر جيحون) وانتقل إلى بغداد فنشأ فيها وألف بها أكثر كتبه ورحل إلى مصر والشام ، واتصل بسيف الدولة ابن حمدان وتوفي بدمشق عام ٣٣٩ ه‍ كان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره ، ويقال إنّ الآلة المعروفة بالقانون من وضعه. راجع وفيات الأعيان ٢ : ٧٦ وطبقات الأطباء ٢ : ١٣٤ وآداب اللغة ٢ : ٢١٣.

قالوا : ويجوز ان يكون هذا الجرم متولدا من الهواء والأدخنة من غير أن يقارن مزاجا يقتضي فيضان نفس إنسانية. ثم إن الحكماء ، وإن لم يثبتوا المعاد الجسماني ، والثواب والعقاب المحسوسين ، فلم ينكروها غاية الإنكار ، بل جعلوها من الممكنات لا على وجه إعادة المعدوم ، وجوزوا حمل الآيات الواردة فيها على ظواهرها ، وصرحوا بأن ذلك ليس مخالفا للأصول الحكمية والقواعد الفلسفية ، ولا مستبعد الوقوع في الحكمة الإلهية لأن للتبشير والإنذار نفعا ظاهرا في أمر نظام المعاش وصلاح المعاد ، ثم الإيفاء بذلك التبشير والإنذار بثواب المطيع وعقاب العاصي تأكيد لذلك وموجب لازدياد النفع ، فيكون خيرا بالقياس إلى الأكثرين ، وإن كان ضرا في حق المعذب ، فيكون من جملة الخير الكثير الذي يلزمه شر قليل ، بمنزلة قطع العضو لإصلاح البدن.

قال : المبحث التاسع ـ الثواب فضل

(المبحث التاسع ـ الثواب فضل ، والعقاب عدل ، لا يجبان على الله إلا بمعنى أنه وعد وأوعد فلا يخلف على اختلاف في الوعيد ، ولا يستحقهما العبد إلا بمعنى ترتبهما على الأفعال والتروك ، وملائمة إضافتهما إليها في مجاري العقول. ووافقنا على ذلك البصريون من المعتزلة وكثير من البغدادية. لنا وجوه :

الأول ـ ما مر من أنه لا يجب عليه شيء.

الثاني ـ الطاعات ، وإن كثرت لا تفي بشكر بعض النعم ، فلا يستحق عوض عليها.

فإن قيل : تكليف الشكر على الإحسان مستقبح عقلا ، والشكر بلا مشقة صحيح ، فلا بد للمشاق من عوض لئلا تكون عبثا.

قلنا : بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح ولزوم الغرض المستقبح هو الإحسان للشكر ، لا إيجاب الشكر على الإحسان. ولو سلم لزوم كون الغرض هو العوض فيكفي التفضل عوضا.

الثالث ـ لو وجبا استحقاقا لما سقطا عمن واظب طول عمره على الطاعات

ثم كفر ، أو على المعصية ثم آمن ، ولو كان الموت على الطاعة أو المعصية شرطا في الاستحقاق لم يتحقق أصلا لعدم اجتماع العلة والشرط. احتج المخالف بوجوه :

الأول ـ إلزام المشاق بلا منفعة تقابلها ـ وهي الثواب ـ ظلم ، وبلا مضرة في تركها ـ وهي العقاب ـ مستلزم لوجوب النوافل لثبوت المنفعة في فعلها. ورد بعد تسليم لزوم الغرض بأنه يجوز أن يكون الشكر على النعم ، أو السرور بالمدح على أداء الواجب ، وأن يكون إيجاب الفعل بناء على أن له وجه وجوب بصفة المشقة ، أو جعل (١) شاقا لغرض آخر.

الثاني ـ عدم وجوبهما يفضي إلى التواني في الطاعات ، والاجتراء على (٢) المعاصي. ورد بأن مجرد جواز الترك مع شمول الوعد والوعيد وكثرة النصوص في الوقوع غير قادح في المقصود.

الثالث ـ لو لم يجبا ، لزم الخلف والكذب في إخبار الصادق. ورد بأن الوقوع لا يستلزم الوجوب والاستحقاق من الله تعالى).

والعقاب عدل من غير وجوب عليه. ولا استحقاق من العبد خلافا للمعتزلة ، إلا أن الخلف في الوعد نقص لا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى ، فيثيب المطيع البتة (٣) إنجازا لوعده ، بخلاف الخلف في الوعيد ، فإنه فضل وكرم يجوز إسناده إليه. ، فيجوز ان لا يعاقب العاصي. ووافقنا في ذلك البصريون من المعتزلة وكثير من البغداديين ، ومعنى كون الثواب أو العقاب غير مستحق أنه ليس حقا لازما (٤) يقبح تركه. وأما الاستحقاق بمعنى ترتبهما على الأفعال والتروك ، وملائمة إضافتهما إليهما في مجاري العقول والعادات ، فمما لا نزاع فيه. كيف وقد ورد بذلك الكتاب (٥) والسنة في مواضع لا تحصى ، وأجمع السلف على أن

__________________

(١) في (ب) صار بدلا من (جعل).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (ارتكاب).

(٣) سقط من (ب) لفظ (البتة).

(٤) في (ب) واجبا بدلا من (لازما).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (الكريم).

كلا من فعل الواجب والمندوب ينتهض سببا للثواب. ومن فعل الحرام ، وترك الواجب سببا للعقاب ، وبنوا أمر الترغيب في اكتساب الحسنات ، واجتناب السيئات على إفادتهما الثواب والعقاب. لنا وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، ما مر أنه لا يجب على الله تعالى شيء ، لا الثواب على الطاعة (١) ولا العقاب على المعصية.

الثاني ـ أن طاعات العبد ـ وإن كثرت ـ لا تفي بشكر بعض ما أنعم الله عليه. فكيف يتصور استحقاق عوض (٢) عليها. ولو استحق العبد بشكره الواجب عوضا ، لاستحق الرب على ما يوليه من الثواب عوضا ، وكذا العبد على خدمته لسيده الذي يقوم بمئونته ، وإزاحة علله (٣) ، والولد على خدمته لأبيه الذي يربيه ، وعلى مراعاته ، وتوخي مرضاته. لا يقال : لا يجوز أن تكون الطاعة شكرا للنعمة ، لأن العقلاء يستقبحون الإحسان إلى الغير لتكليفه الشكر ، ولأن الشكر يتصور بدون تكليف المشاق والمضاد ، كشكر أهل الجنة ، فلا بد لتكليف المشاق من عوض (٤) ليخرج عن العبث (٥) ، لأنا نقول بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح ، ولزوم العوض ، وقبح الإحسان لتكليف الشكر. فوجوب الشكر على الإحسان لا يوجب كون الإحسان لأجله حتى يقبح ، وكون تكليف المشاق لغرض لا يوجب كونه لغرض. ولو سلم لكفى بترتب التفضل عليه عوضا.

الثالث ـ أنه لو وجب (٦) الثواب والعقاب بطريق الاستحقاق ، وترتب المسبب على السبب. لزم أن يثاب من واظب طول عمره (٧) على الطاعات. وارتد ـ نعوذ بالله تعالى ـ في آخر الحياة ، وأن يعاقب من أصر دهرا على كفره وتبرأ وأخلص

__________________

(١) في (ب) بزيادة (العبد).

(٢) في (ب) أجر بدلا من (عوض).

(٣) في (ب) أوجاعه بدلا من (علله).

(٤) سقط من (ب) لفظ (من عوض).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (اللهو).

(٦) في (ب) تحقق بدلا من (وجب).

(٧) في (ب) حياته بدلا من (عمره).

الإيمان في آخر عمره ضرورة تحقق الوجوب والاستحقاق. واللازم باطل بالاتفاق. لا يقال : يجوز أن يكون موت المطيع على الطاعة ، والعاصي على المعصية شرطا في استحقاق الثواب والعقاب على ما هو قاعدة الموافاة ، لأنا نقول : لو كان كذلك لم يتحقق الاستحقاق أصلا لعدم الشرط عند تحقق العلة ، وانقضاء العلة عند تحقق الشرط. احتج المخالف (١) بوجوه :

الأول ـ أن إلزام المشاق من غير منفعة مؤقتة تقابلها تكون ظلما ، والله منزه عن الظلم ، وتلك المنفعة هي الثواب. ثم إن الفعل لا يجب عقلا لأجل تحصيل المنفعة ، وإلا لوجب النوافل. وإنما يجب لدفع المضرة ، فلزم استحقاق العقاب بتركه ليحسن إيجابه. ورد بعد تسليم لزوم الغرض بأنه يجوز أن يكون شكرا للنعم السابقة (٢) ، أو يكون الغرض أمرا آخر ، كحصول السرور بالمدح على اداء الواجب ، واحتمال المشاق في طاعة الخالق ، على أنه يجوز أن يكون إيجاب الواجبات بناء على أن لها وجه وجوب في أنفسها ، وما يقال من أنه لو كان كذلك ، لوجب على الله تعالى أن لا يجعلها شاقة علينا بأن يزيد في قوانا لأن وجه الوجوب لا يتوقف على كونها شاقة ، كرد الوديعة (٣) ، وترك الظلم (٤) يجب سواء كان شاقا أو لا ، فليس بشيء لجواز أن يكون وجوبها بهذا الوجه. ولأن الوجوب ، وإن لم يتوقف على كونها شاقة ، لكن لم يكن منافيا لذلك ، فيجوز ان تجعل شاقة لغرض آخر.

الثاني ـ أنه لو لم يجب الثواب والعقاب ، لأفضى ذلك إلى التواني في الطاعات (٥) ، والاجتراء على المعاصي ، لأن الطاعات مشاق ومخالفات للهوى ، لا تميل إليها النفس إلا بعد القطع بلذات ومنافع تربى عليها. ورد بأن شمول الوعد والوعيد للكل ، وغلبة ظن الوفاء بهما ، وكثرة الأخبار والآثار في ذلك كاف في الترغيب والترهيب ، ومجرد جواز الترك غير قادح.

__________________

(١) في (ب) المخالفون بدلا من (المخالف).

(٢) في (ب) بزيادة (لا التي لم تقع).

(٣) في (ب) بزيادة (لأصحابها).

(٤) في (ب) بزيادة (عن جميع الناس).

(٥) في (ب) بزيادة لفظ (أداء).

الثالث ـ الآيات والأحاديث الواردة في تحقق الثواب والعقاب يوم الجزاء (١) ، فلو لم يجب وجاز العدم ، لزم الخلف والكذب. ورد بأن غايته الوقوع البتة ، وهو لا يستلزم الوجوب على الله ، والاستحقاق من العبد على ما هو المدعي هذا. والمذهب جواز الخلف في الوعيد بأن لا يقع العذاب ، وحينئذ يتأكد الإشكال ، وسنتكلم عليه في بحث العفو إن شاء الله تعالى.

قال : خاتمة ـ

((خاتمة) من فروع المعتزلة اختلافهم في أن الثواب والعقاب هل يستحقان على الإخلال بالقبيح والإخلال بالواجب؟ فقال المتقدمون : لا إذ العدم لا يصلح علة ، وإذ في كل لحظة إخلال بما لا يحصى من القبائح.

وقال المتأخرون به لقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) (٢) (قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٣)

ومنها أنه يجب اقتران الثواب بالتعظيم ، والعقاب بالإهانة ، ودوامهما خلوصهما عن الشوب للعلم الضروري باستحقاق التعظيم والإهانة ، ولأن التفضل بالمنافع حسن ابتداء ، فإلزام المشاق لأجلها عبث ، بخلاف التعظيم ، فإنه يحسن من غير استحقاق ولأن الدوام لطف فيجب ، والخلوص أدخل في الترغيب والترهيب.

ومنها اختلافهم في وقت الاستحقاق ، فقيل : وقت الطاعة والمعصية ، وقيل : في الآخرة ، وقيل : حالة الاخترام ، وقيل : وقت الفعل بشرط الموافاة ، وهي أن لا يحيط إلى الموت).

في فروع للمعتزلة على استحقاق الثواب والعقاب.

منها أنهم بعد الاتفاق على أنه يستحق الثواب والمدح بفعل الواجب

__________________

(١) قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) سورة الزلزلة آية رقم ٧ ، ٨.

(٢) سورة الحاقة آية رقم ٣٣.

(٣) سورة المدثر آية رقم ٤٣ ـ ٤٤.

والمندوب ، وفعل ضد القبيح ، بشرط أن يكون فعل الواجب لوجوبه كالواجب المعين ، أو لوجه وجوبه كالواجب المخير ، وفعل المندوب لندبيته ، أو لوجه ندبيته ، وفعل ضد القبيح لكونه تركا للقبيح بأن يفعل المباح لكونه تركا للحرام ، ويستحق العذاب والذم بفعل القبيح. اختلفوا في أنه هل يستحق المدح والثواب بالإخلال بالقبيح لكونه إخلالا به ، والذم والعقاب على الإخلال بالواجب؟

فقال المتقدمون : لا بل إنما يستحق المدح والثواب بفعل عند الإخلال بالقبيح هو ترك القبيح ، والذم والعقاب على فعل عند الإخلال بالواجب ، هو ترك الواجب ، لأن الإخلال عدمي لا يصلح علة للاستحقاق الوجودي ، ولأن كل أحد يخل كل لحظة بما لا يتناهى من القبائح.

وقال المتأخرون كأبي هاشم ، وأبي الحسين ، وعبد الحبار : نعم ، للنصوص الصريحة في تعليل العقاب بعدم الإتيان بالواجب ، كقوله تعالى : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ..) إلى قوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١) وكقوله حكاية : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) (٢)

ومنها أنه يجب اقتران الثواب بالتعظيم ، والعقاب بالإهانة للعلم الضروري باستحقاقهما.

وقيل. إنه يحسن التفضل بالمنافع العظيمة ابتداء ، فالزام المشاق والمضار لأجلها يكون عبثا ، بخلاف التعظيم ، فإنه لا يحسن التفضل به ابتداء من غير استحقاق ، كتعظيم البهائم والصبيان. ومنها أنه يجب دوامهما لكونه لطفا ، أو يقرب المكلف الى الطاعة ، ويبعده عن المعصية ، ولأن التفضل بالمنافع الدائمة حسن جماعا ، فلا يحسن التكليف للثواب المنقطع الذي هو أدنى حالا.

ومنها أنه يجب خلوصهما عن الشوب لكونه أدخل في الترغيب والترهيب ، ولأنه واجب في العوض مع كونه أدنى حالا من الثواب لخلوه عن التعظيم.

__________________

(١) سورة الحاقة آية رقم ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ،.

(٢) سورة المدثر آية رقم ٤٢ ، ٤٣ ، ٤٤.

فإن قيل : ثواب أهل الجنة يشوبه شوق كل ذي مرتبة إلى ما فوقها ، ومشقة وجوب شكر المنعم وترك القبائح. وعقاب أهل النار يشوبه ثواب ترك القبائح فيها.

أجيب بأن كل ذي مرتبة في الجنة يكون فرحا بما عنده ، لا يطلب الأعلى ، ويعد الشكر لذة وسرورا لا يحصى ، ويكون في شغل شاغل عن القبائح وذكرها ، والتألم بتركها. وأهل النار لا يثابون لكونهم مضطرين إلى ترك القبائح.

ومنها اختلافهم في وقت استحقاق الثواب والعقاب. فعند البصرية حالة الطاعة والمعصية ، وعند البغدادية في الآخرة ، وقيل : في حال الاخترام ، وقيل : وقت الفعل بشرط الموافاة ، وهو أن لا تحبط الطاعة والمعصية الى الموت. وليس لأحدهم تمسك يعول عليه سوى ما قيل بأن المدح والذم يثبتان حال الفعل. فكذا الثواب والعقاب لكونهما من موجبات الفعل مثلهما. وإنما حسن تأخير تمام الثواب إلى دار الآخرة لمانع ، وهو لزوم الجمع بين المتنافيين. فإن من شرط الثواب الخلوص عن شوب المشاق ، ومن لوازم التكليف الشوب بها. وتمسك الآخرون بالنصوص المقتضية لتأخير الأجزية ، وبلزوم الجمع بين المتنافيين كما ذكر ، ولا خفاء في أن ذلك لا ينافي ثبوت الاستحقاق في دار التكليف. والظاهر أن مراد الأولين ثبوت أصل الاستحقاق ، ومراد الآخرين وجوب الأداء ، وقال بعضهم : الحق أن التكليف لا يجامع كل الجزاء للزوم المحال. بخلاف البعض كتعظيم المؤمن ، ونصرته على الأعداء ، وكالحدود فإنه بجامع التكليف ، فلم يجب تأخيره.

(قال : المبحث العاشر ـ

المبحث العاشر ـ لا خلاف في خلود من يدخل الجنة ولا في خلود الكافر عنادا أو اعتقادا في النار ، وإن بالغ في الاجتهاد لدخوله في العمومات ، ولا عبرة بخلاف الجاحظ والعنبري ، وكذا الكافر حكما كأطفال المشركين ، خلافا للمعتزلة ، حيث جعلوا تعذيبهم ظلما ، فهم خدم أهل الجنة.

وقيل : من علم الله منه الإيمان والطاعة ، على تقدير البلوغ ففي الجنة. ومن علم منه الكفر والمعصية ففي النار. وأما من ارتكب الكبيرة من المؤمنين ، ومات بلا

توبة فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو أو العقاب ، بل إن شاء الله عفا ، وإن شاء عذب ، لكن لا يخلد في النار. وعند المعتزلة القطع بالخلود في النار. ولا عبر لقول مقاتل. ولبعض المرجئة (١) : إن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلا ، وإنما النار للكفار ـ لنا وجوه :

الأول ـ النصوص الدالة على دخول المؤمنين الجنة وليس قبل دخول النار وفاقا ، بل بعده أو بدونه.

الثاني ـ النصوص الدالة على خروجهم من النار.

الثالث ـ أن من واظب على الطاعات مائة سنة وشرب جرعة من الخمر ، فلو لم يكن تخليده في النار ظلما عندكم ، فلا ظلم.

الرابع ـ أن المعصية متناهية زمانا وقدرا ، فجزاؤها كذلك تحقيقا للعدل.

الخامس أن استحقاقه الثواب وعدا أو عقلا لا يزول بالكبيرة لما سيأتي ، ولا يتصور إلا بالخروج من النار. احتجت المعتزلة بوجوه :

الأول ـ عمومات الوعيد بالخلود : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (٢) (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٣)

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) (٤)

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٥)

__________________

(١) هي فرقة ميزت بين الأعمال والإيمان ، فالإيمان في نظرها هو التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، وليس من الضروري أن يصدر عنه العمل ، فالمسلم العاصي الذي ارتكب الكبائر وضيع الفرائض سوف يتولى الله سبحانه وتعالى حسابه في الآخرة وأن الخلود في النار خاص بالكفار فقط وقيل : سمّوا مرجئة لأنهم يرجون الجنة بغير عمل ، وأشهر فرقهم هي الينوسية والغسانية ، وظهر هذا الاتجاه قويا في عهد الأمويين.

(٢) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٣) سورة النساء آية رقم ٩٣.

(٤) سورة السجدة آية رقم ٢٠.

(٥) سورة الانفطار آية رقم ١٤.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (١)

(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢)

والجواب بعد تسليم عموم الصيغ أنه قد أخرج من الأول التائب. وصاحب الصغائر ، فلم تبق قطعية وفاقا ، فليخرج منها مرتكب الكبيرة أيضا. على أن الاستحقاق فيها مغيا بغاية رؤية العذاب لقوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) (٣)

ولو سلم فاستحقاق العذاب المؤبد لا يوجب وقوعه ، وأن معنى متعمدا مستحلا قبله على ما فسره ابن عباس (رضي الله عنه) ، أو المراد بالخلود المكث الطويل جمعا بين الأدلة ، وأن المراد بالذين فسقوا الكفار المنكرون للحشر ، بقرينة قوله تعالى : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٤)

والبواقي مختصة بالكفار جمعا بين الأدلة ، أو المراد بعدم غيبتهم سلب العموم ، أو المبالغة في المكث ، وكذا الخلود ، والمراد تعدي حدود الإسلام وإحاطة الخطية بحيث لا يبقى الإيمان.

الثاني ـ أن الفاسق لو دخل الجنة لكان باستحقاق ، وقد انتفى بالإحباط أو الموازنة على ما سيجيء.

والجواب ـ منع المقدمتين.

الثالث ـ لو انقطع عذاب الفاسق لانقطع عذاب الكافر بجامع تناهي المعصية.

والجواب ـ منع علية التناهي ، ومنع تناهي الكفر قدرا ، ومنع صحة القياس في

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٤.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٨١.

(٣) سورة مريم آية رقم ٧٥.

(٤) سورة سبأ آية رقم ٤٢.

مقابلة النص. وفي الاعتقادات.

الرابع ـ أن الوعيد بدوام العذاب لطف لكونه أزجر. فيجب ، ثم لا يزول.

والجواب بعد تسليم وجوب اللطف أن المنقطع أيضا لطف. فليكن للمؤمن ، والدائم للكافر ، إذ ليس يجب لكل احد ما هو الغاية في اللطف).

أجمع المسلمون على خلود أهل الجنة في الجنة ، وخلود الكفار في النار.

فإن قيل : القوى الجسمانية متناهية ، فلا تقبل خلود الحياة ، وأيضا الرطوبة التي هي مادة الحياة تفنى بالحرارة ، سيما حرارة نار الجحيم ، فتفنى إلى الفناء ضرورة ، وأيضا دوام الإحراق مع بقاء الحياة خروج عن قضية العقل.

قلنا : هذه قواعد فلسفية غير مسلمة عند المليين ، ولا صحيحة عند القائلين بإسناد الحوادث إلى القادر المختار. وعلى تقدير تناهي القوى وزوال الحياة يجوز أن يخلق الله البدل ، فيدوم الثواب والعقاب. قال الله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) (١)

هذا حكم الكافر الجاهل المعاند. وكذا من بالغ في الطلب والنظر ، واستفرغ المجهود ولم ينل المقصود خلافا للجاحظ والعنبري ، حيث زعما أنه معذور ، إذ لا يليق بحكمة الحكيم أن يعذبه مع بذل الجهد والطاقة من غير جرم وتقصير. كيف وقد قال الله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢)

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) (٣)

ولا شك أن عجز المتحير أشد. وهذا الفرق خرق للإجماع وترك للنصوص الواردة في هذا الباب. هذا في حق الكفار عنادا واعتقادا ، وأما الكفار حكما كأطفال المشركين ، فكذلك عند الأكثرين لدخولهم في العمومات ، ولما روي أن

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٥٦.

(٢) سورة الحج آية رقم ٧٨.

(٣) سورة النور آية رقم ٦١ وسورة الفتح آية رقم ١٧.

خديجة (رضي الله عنها) سألت النبي عليه‌السلام عن أطفالها الذين ماتوا في الجاهلية ، فقال : هم في النار.

وقالت المعتزلة ، ومن تبعهم : لا يعذبون بل هم خدم أهل الجنة ، على ما ورد في الحديث ، لأن تعذيب من لا جرم له ظلم ولقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (١) (وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

ونحو ذلك.

وقيل : من علم الله تعالى منه الإيمان والطاعة على تقدير البلوغ ففي الجنة ، ومن علم منه الكفر والعصيان ففي النار ، واختلف أهل الإسلام فيمن ارتكب الكبيرة من المؤمنين ومات قبل التوبة ، فالمذهب عندنا عدم القطع بالعفو ولا بالعقاب بل كلاهما في مشيئة الله تعالى ، لكن على تقدير التعذيب نقطع بأنه لا يخلد في النار ، بل يخرج البتة ، لا بطريق الوجوب على الله تعالى ، بل بمقتضى ما سبق من الوعد. وثبت بالدليل كتخليد أهل الجنة. وعند المعتزلة القطع بالعذاب الدائم من غير عفو ولا إخراج من النار ، ويعبر عن هذا بمسألة وعيد الفساق ، وعقوبة العصاة ، وانقطاع عذاب أهل الكبائر ، ونحو ذلك (٣). وليس في مسألة الاستحقاق ووجوب العقاب غنى عن ذلك ، لأن التخليد أمر زائد على التعذيب. ولا في مسألة العفو ، لأنه بطريق الاحتمال دون القطع ، ولأنه شاع في ترك العقاب بالكلية ، وهذا قطع بالخروج بعد الدخول ، وما وقع في كلام البعض من أن صاحب الكبيرة عند المعتزلة ليس في الجنة ولا في النار فغلط نشأ من قولهم : إن له المنزلة بين المنزلتين. أي حالة غير الإيمان ، والكفر. وأما ما ذهب إليه مقاتل بن سليمان وبعض المرجئة من أن عصاة المؤمنين لا يعذبون أصلا ، وإنما النار للكفار تمسكا بالآيات الدالة على اختصاص العذاب بالكفار مثل :

__________________

(١) سورة الأنعام آية رقم ١٦٤ وسورة فاطر آية رقم ١٨.

(٢) سورة يس آية رقم ٥٤.

(٣) سقط من (ب) لفظ (ونحو ذلك).

(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (١)

(إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢)

فجوابه تخصيص ذلك بعذاب لا يكون على سبيل الخلود ، وأما تمسكهم بمثل قوله (عليه‌السلام) «من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة وإن زنى وإن سرق» فضعيف لأنه إنما ينفي الخلود لا الدخول. لنا وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، الآيات والأحاديث الدالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة البتة ، وليس ذلك قبل دخول النار وفاقا ، فتعين أن يكون بعده ، وهو مسألة انقطاع العذاب ، أو بدونه ، وهو مسألة العفو التام. قال الله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٣) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)(٤).

وقال النبي (عليه‌السلام) : «من قال : لا إله إلا الله ، دخل الجنة». وقال : «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ، وإن زنى ، وإن سرق».

الثاني ـ النصوص المشعرة بالخروج من النار كقوله تعالى :

(النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (٥)

(فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) (٦)

وكقوله (عليه‌السلام) : «يخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا فحما وحمما ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل».

وخبر الواحد ، وإن لم يكن حجة في الأصول ، لكن يفيد التأييد والتأكيد بتعاضد النصوص.

__________________

(١) سورة ط آية رقم ٤٨.

(٢) سورة النحل آية رقم ٢٧.

(٣) سورة الزلزلة آية رقم ٧ ، ٨.

(٤) سورة النساء آية رقم ١٢٤.

(٥) سورة الأنعام آية رقم ١٢٨.

(٦) سورة آل عمران آية رقم ١٨٥.

الثالث ـ وهو على قاعدة الاعتزال ، أن من واظب على الإيمان والعمل الصالح مائة سنة ، وصدر عنه في أثناء ذلك أو بعده جريمة واحدة كشرب جرعة من الخمر ، فلا يحسن من الحكيم أن يعذبه على ذلك أبد الآباد. ولو لم يكن هذا ظلما ، فلا ظلم ، أو لم يستحق بهذا ذما ، فلا ذم.

الرابع ـ أن المعصية متناهية زمانا ، وهو ظاهر وقدرا لما يوجد من معصية أشد منها فجزاؤها يجب أن يكون متناهيا تحقيقا لقاعدة العدل بخلاف الكفر ، فإنه لا يتناهى قدرا ، وإن تناهى زمانه. وأما التمسك بأن الخلود في النار أشد العذاب وقد جعل جزاء لأشد الجنايات ـ وهو الكفر ـ فلا يصح جعله جزاء بما هو دونه كالمعاصي. فربما يدفع بتفاوت مراتب العذاب في الشدة ، وإن تساوت في عدم الانقطاع.

الخامس ـ أنه استحق الثواب بالإيمان والطاعات عقلا عندكم ووعدا عندنا. ولا يزول ذلك الاستحقاق بارتكاب الكبيرة لما سيجيء ، فيكون لزوم اتصال الثواب إليه بحالة. وما ذاك إلا بالخروج من النار والدخول في الجنة ، وهو المطلوب. واحتجت المعتزلة بوجوه :

الأول ـ الآيات الدالة على الخلود المتناولة ما للكافر وغيره كقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (١)

وقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) (٢)

وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها)(٣).

ومثل هذا مسوق للتأبيد ونفي الخروج. وقوله : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ).

__________________

(١) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٢) سورة النساء آية رقم ٩٣.

(٣) سورة السجدة آية رقم ٢.

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ. وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (١).

وعدم الغيبة عن النار خلود فيها : وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٢)

وليس المراد تعدي جميع الحدود بارتكاب الكبائر كلها تركا وإتيانا ، فإنه محال ، لما بين البعض من التضاد كاليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية. فيحمل على مورد الآية من حدود المواريث. وقوله : (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٣).

والجواب بعد تسليم كون الصيغ للعموم أن العموم غير مراد في الآية الأولى ، للقطع بخروج التائب وأصحاب الصغائر ، وصاحب الكبيرة الغير المنصوصة إذا أتى بعدها بطاعات يربى ثوابها على عقوباته ، فليكن مرتكب الكبيرة من المؤمنين أيضا خارجا بما سبق من الآيات والأدلة. وبالجملة فالعام المخرج منه البعض لا يفيد القطع وفاقا. ولو سلم ، فلا نسلم تأبيد الاستحقاق ، بل هو مغيّا بغاية رؤية الوعيد لقوله بعده : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) (٤)

ولو سلم فغايته الدلالة على استحقاق العذاب المؤبد ، لا على الوقوع كما هو المتنازع لجواز الخروج بالعفو. وما يقال من أنا لا نسلم كون «حتى» للغاية بل هي ابتدائية. ولو سلم فغاية لقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) (٥)

أو لمحذوف ، أي يكونون على ما هم عليه حتى يروا ، فخارج عن قانون التوجيه. وكذا ما يقال : إنه لما ثبت الاستحقاق المؤبد جزما وهو مختلف فيه حصل إلزام الخصم ، ولم يثبت العفو ، والخروج بالشك.

وعن الثانية بأن معنى «متعمدا» مستحلا فعله على ما ذكره ابن عباس (رضي

__________________

(١) سورة الانفطار آية رقم ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

(٢) سورة الجن آية رقم ٢٣.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٨١.

(٤) سورة مريم آية رقم ٧٥.

(٥) سورة الجن آية رقم ١٩.

الله عنه) إذ التعمد على الحقيقة إنما يكون من المستحل أو بأن التعليق بالوصف يشعر بالحيثية ، فيخص بمن قتل المؤمن لإيمانه. أو بأن الخلود ، وإن كان ظاهرا في الدوام. والمراد هاهنا المكث الطويل جمعا بين الأدلة. لا يقال : الخلود حقيقة في التأييد لتبادر الفهم إليه ، ولقوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) (١)

ولأنه يؤكد بلفظ التأبيد مثل : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (٢)

وتأكيد الشيء تقوية لمدلوله ، ولأن العمومات المقرونة بالخلود متناوله للكفار. والمراد في حقهم التأبيد وفاقا. فكذا في حق الفساق لئلا يلزم إرادة معنيي المشترك أو المعنى الحقيقي والمجازي معا ، لأنا نقول : لا كلام في أن المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق والشائع في الاستعمال هو الدوام. لكن قد يستعمل في المكث الطويل المنقطع ، كسجن مخلد ، ووقف مخلد ، فيكون محتملا على أن في جعله لمطلق المكث الطويل نفيا للمجاز والاشتراك فيكون أولى ، ثم ان المكث الطويل سواء جعل معنى حقيقيا أو مجازيا أعم من أن يكون مع دوام كما في حق الكفار ، وانقطاع كما في حق الفساق. فلا محذور في إرادتهم جميعا وحتى فلا نسلم أن التأبيد تأكيد ، بل تقييد. ولو سلم فالمراد أنه تأكيد لطول المكث ، إذ قد يقال : حبس مؤبد ، ووقف مؤبد.

وعن الثالثة بأنها في حق الكافرين المنكرين للحشر بقرينة قوله : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (٣).

مع ما في دلالتها على الخلود من المناقشة الظاهرة ، لجواز أن يخرجوا عند عدم إرادتهم الخروج باليأس أو الذهول ، أو نحو ذلك.

وعن الرابعة بعد تسليم إفادتها النفي عن كل فرد ، ودلالتها على دوام عدم الغيبة إنما يخص بالكفار جمعا بين الأدلة.

__________________

(١) سورة الأنبياء آية رقم ٣٤.

(٢) سورة التوبة آية رقم ١٠٠.

(٣) سورة السجدة آية رقم ٢٠.

وكذا الخامسة والسادسة حملا للحدود على حدود الإسلام ، ولإحاطة الخطيئة على غلبتها ، بحيث لا يبقى معها الإيمان ، هذا مع ما في الخلود من الاحتمال.

الثاني ـ أن الفاسق لو دخل الجنة لكان باستحقاق لامتناع دخول غير المستحق كالكافر. واللازم منتف لبطلان الاستحقاق بالإحباط أو الموازنة على ما سيجيء. ورد بمنع المقدمتين ، بل إنما يدخل بفضل الله ورحمته ووعده ومغفرته. وسنتكلم على الإحباط والموازنة.

الثالث ـ لو انقطع عذاب الفاسق لانقطع عذاب الكافر قياسا عليه بجامع تناهي المعصية.

ورد بمنع غلبة التناهي ، ومنع تناهي الكفر قدرا ، ومنع اعتبار القياس في مقابلة النص والإجماع وفي الاعتقادات.

الرابع ـ أن الوعيد بالعقاب الدائم لطف بالعباد لكونه أزجر على المعاصي. فإن منهم من لا يكترث بالعذاب المنقطع عند الميل إلى المستلذات ، ثم لا بد من تحقيق الوعيد تصديقا للخبر وصونا للقول عن التبديل.

ورد بمنع وجوب اللطف ، ومنع انحصاره في الدوام ، فإن من لا يكترث باللبث في الجحيم أحقابا ، قلما يستكثر الخلود فيها عقابا ، وإذ قد كان كل وعيد لطفا ، ولا شيء من الوعيد بلطف للكل ، فليكن لطف الخلود في النار مختصا بالكفار ، وكفى بوعيد النيران ، بل وعد الجنات لطفا ومزجرة لأهل الإيمان. ولو وجب ما هو الغاية في اللطف والزجر ، لما صح الاكتفاء بوعيد الخلود في النار لإمكان المزيد.

قال : المبحث الحادي عشر ـ

(المؤمن إذا خلط الحسنات بالسيئات فعندنا في الجنة ، ولو بعد النار. وعند المعتزلة مخلد في النار ذهابا إلى أن السيئات تحبط الحسنات. حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط جميع الطاعات. وهو فاسد سمعا للنصوص الدالة على أن الله لا يضيع أجر المحسنين ، وعقلا للقطع بقبح إبطال ثواب طاعة مائة سنة بشرب جرعة من الخمر ، ولأن جهة الاستحقاق عندهم ، وهو

كون الفعل حسنة وامتثالا باق ، ولأنه يوجب منافاة الكبيرة لصحة الطاعة كالردة.

قالوا : الثواب منفعة خالصة دائمة مع التعظيم والعقاب ، مضرة خالصة دائمة مع الإهانة ، فلا يجتمعان استحقاقا.

قلنا : لو سلم لزوم قيد الخلوص والدوام ، فلا يوجب تنافي الاستحقاقين ، ولو سلم فليس إبطال الحسنة بالسيئة أولى من العكس ، كيف وقد قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ)

وذهب الجبائيان إلى أن أيا من الطاعات والمعاصي أربت قدرا بحسب الأجر والوزر لا عددا حبطت الأخرى ، ثم زعم أبو علي أن الأقل يسقط. ولا يسقط من الأكثر شيئا ، وهذا هو الإحباط المحض ، وأبو هاشم أنه يسقط ، ويسقط من الأكثر ما يقابله. وهذا هو الموازنة ، واختلفوا في أن ذلك يعتبر بين الفعلين ، أعني الطاعة والمعصية ، أو المستحقين ، أعني الثواب والعقاب ، أو الاستحقاقين ، واستدلوا على الإحباط في الجملة بمثل قوله تعالى: (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) (١) (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٢) (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٣)

لكنه لا يثبت ما هو المتنازع من بطلان حسنة كاملة بسيئة سابقة أو لا حقة ، فضلا عن تفضيل الجانبين ، واستدل الإمام على بطلان ، أمّا على رأي أبي علي فلأنه تلغو الطاعة السابقة ، وهو ظلم عندكم. وينتفى بقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٤)

مع ما فيه من الترجح بلا مرجح ، وأما على رأي أبي هاشم فلأن طرآن الحادث مشروط بزوال السابق ، فزواله به دور لأنه لا أولوية لبعض أجزاء الكبير ، فيلزم أن يفنى بكليته ، ولأن زوال كل بالآخر دفعة يوجب وجودهما حال عدمهما لوجود العلة حال حدوث المعلول. وعلى التعاقب يوجب حدوث المعلول بلا علته.

__________________

(١) سورة الحجرات آية رقم ٢.

(٢) سورة التوبة آية رقم ١٧.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٦٤.

(٤) سورة الزلزلة آية رقم ٧.

لأن زوال الثاني بلا مزيل. واعترض بأن الاستحقاق اعتبار شرعي ليس له تأثير وتأثر حقيقي. والثواب والعقاب إنما يوجدان في الآخرة ، والفعلان لا يتصور فناء أحدهما بالآخر. بل معنى الإحباط أن الله تعالى لا يثيب العاصي على الطاعة. ومعنى الموازنة أنه لا يثيب عليهما ، ويترك العقاب على المعصية بقدرها.

وقال إمام الحرمين : لا كبيرة يربى وزرها على أجر معرفة الله ، فيلزمهم أن يدرءوا بها جميع الكبائر).

لا خلاف في أن من آمن بعد الكفر والمعاصي ، فهو من أهل الجنة ، بمنزلة من لا معصية له. ومن كفر ـ نعوذ بالله ـ بعد الإيمان والعمل الصالح فهو من أهل النار ، بمنزلة من لا حسنة له. وإنما الكلام فيمن آمن وعمل صالحا وآخر سيئا ، واستمر على الطاعات والكبائر كما يشاهد من الناس ، فعندنا مآله إلى الجنة ، ولو بعد النار ، واستحقاقه للثواب والعقاب بمقتضى الوعد والوعيد ثابت من غير حبوط. والمشهور من مذهب المعتزلة أنه من أهل الخلود في النار إذا مات قبل التوبة ، فأشكل عليهم الأمر في إيمانه وطاعاته. وما ثبت من استحقاقاته ، أين طارت؟ وكيف زالت؟ فقالوا بحبوط الطاعات. ومالوا إلى ان السيئات يذهبن الحسنات ، حتى ذهب الجمهور منهم إلى أن الكبيرة الواحدة تحبط ثواب جميع العبادات ، وفساده ظاهر ، إما سمعا فللنصوص الدالة على أن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا. وإما عقلا فللقطع بأنه لا يحسن من الحكيم الكريم إبطال ثواب إيمان العبد ومواظبته على الطاعات طول العمر بتناول لقمة من الربا ، أو جرعة من الخمر ، بمنزلة من خدم كريما مائة سنة حق الخدمة ، ثم بدت منه مخالفة أمر من أوامره ، فهل يحسن رفض حقوق تلك الخدمات ، ونقض ما عهد ووعد من الحسنات ، وتعذيبه عذاب من واظب مدة الحياة على المخالفة والمعاداة. وأيضا استحقاق الثواب على الطاعة عندهم إنما هو لكونها حسنة وامتثالا لأمر الباري. وهذا متحقق مع الكبيرة ، فيتحقق أثره ، وأيضا لو كانت الكبيرة محبطة لثواب الطاعة ، لكانت منافية لصحتها بمنزلة الردة.

قالوا : استحقاق الثواب والعقاب متنافيان لا يجتمعان ، لأن الثواب منفعة

خالصة دائمة مع التعظيم ، والعقاب مضرة خالصة دائمة مع الإهانة.

قلنا : لا نسلم لزوم قيد الخلوص والدوام ، سيما في جانب العقاب وحتى لا يتنافى الثواب والعقاب بأن يعاقب حينا ثم يثاب ، ولو سلم فلا يلزم تنافي الاستحقاقين بأن يستحق المنفعة الدائمة من جهة الطاعة ، والمضرة الدائمة من جهة المعصية. ولو سلم ، فليس إبطال الحسنة بالسيئة أولى من العكس ، كيف وقد قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١)

وحكم بأن السيئة لا تجزى إلا بمثلها ، والحسنة تجزى بعشرة أمثالها إلى سبعمائة وأكثر.

قالوا : الإحباط مصرح في التنزيل كقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) (٢)

و(أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) (٣)

و(لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) (٤)

قلنا : لا بالمعنى الذي قصد ، ثم بل بمعنى أن من عمل عملا صالحا استحق به الذم ، وكان يمكنه أن يعمله على وجه يستحق به المدح والثواب ، يقال إنه أحبط عمله كالصدقة مع المن والأذى وبدونهما. وأما إحباط الطاعات بالكفر بمعنى أنه لا يثاب عليها البتة. فليس من المتنازع في شيء ، وحين تنبه أبو علي وأبو هاشم لفساد هذا الرأي ، رجعا عن التمادي بعض الرجوع. فقالا : إن المعاصي إنما تحبط الطاعات إذا أربت عليها. وإن أربت الطاعات أحبطت المعاصي (٥). ثم ليس النظر إلى أعداد الطاعات والمعاصي بل إلى مقادير الأوزار ، ولا وجود ، فرب كبيرة يغلب وزرها أجور طاعات كثيرة ، ولا سبيل إلى

__________________

(١) سورة هود آية رقم ١١٤.

(٢) سورة الحجرات آية رقم ٢.

(٣) سورة التوبة آية رقم ١٧.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٦٤.

(٥) قال تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ).

ضبط ذلك ، بل هو مفوض إلى علم الله ، ثم افترقا فزعم أبو علي (١) ان الأقل يسقط ، ولا يسقط من الأكثر شيئا ، وسقوط الأقل يكون عقابا إذا كان الساقط ثوابا ، وثوابا إذا كان الساقط عقابا. وهذا هو الإحباط المحض.

وقال أبو هاشم : الأقل يسقط. ويسقط من الأكثر ما يقابله. مثلا : من له مائة جزء من العقاب واكتسب الف جزء من الثواب فإنه يسقط عنه العقاب ومائة جزء من الثواب بمقابلته ويبقى له تسعمائة جزء من الثواب. ومن له مائة جزء من الثواب واكتسب الفا من العقاب ، سقط ثوابه ومائة جزء من عقابه. وهذا هو القول بالموازنة ، لا ما قال في المواقف انه يوازن بين الطاعات والمعاصي ، فأيهما رجح أحبط الآخر ، واختلفت كلمتهم في أن الإحباط والموازنة بين الفعلين أعني الطاعة والمعصية ، أو المستحقين أعني الثواب والعقاب. أو الاستحقاقين ، مال الجبائي إلى الأول وأبو هاشم الى الثاني ، وهو المختار عند الأكثرين.

وبالجملة لا يخفي على أحد أن القول بما ذهبا إليه من الإحباط والموازنة لا يصح إلا بنص من الشارع صريح ، ونقل صحيح. واستدل الإمام الرازي (٢) على بطلانه بأن الأكثر إذا أحبط الأقل ، فإن لم يحبط منه شيء ، كما هو رأي أبو علي ، صارت الطاعة السابقة لغوا محضا لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ، وهو باطل إما عقلا فلكونه ظلما ، ولأنه ليس انتفاء الباقي بطرءان الحادث أولى من اندفاع الحادث بوجود الباقي. وإما سمعا فلقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٣) وغير ذلك. وإن حبط من الأكثر ما يوازن الأقل كما هو رأي أبي هاشم فباطل أيضا.

أما أولا فلأنهما لما كانا متنافيين ، كان طرآن الحادث مشروطا بزوال السابق (٤). فلو كان زواله لأجل طرآن الحادث ، لزم الدور.

وأما ثانيا فلأن تأثير ذلك الاستحقاق القليل في بعض أجزاء الكثير ليس

__________________

(١) هو أبو هاشم الجبائي : سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) سبق الترجمة له في هذا الجزء في كلمة وافية.

(٣) سورة الزلزلة آية رقم ٧.

(٤) بزيادة لفظ (عليه) في (ب).

أولى (١) من تأثيره في الباقي ، لكون الأجزاء متساوية. وحينئذ يلزم أن يفنى بذلك القليل كل ذلك الكثير. وهو باطل وفاقا (٢). وهذا ما قال في المحصل أنه إذا استحق بالطاعة عشرة أجزاء من الثواب ، وبالمعصية خمسة أجزاء من العقاب ، فليس انتفاء استحقاق إحدى الخمستين أولى من انتفاء استحقاق الخمسة الأخرى ، لتساوي أجزاء الثواب واستحقاقاتها.

وأما ثالثا ، فلأن زوال كل من الاستحقاقين بالآخر إما أن يكون دفعة ، وهو محال ، لأنه إذا كان عدم كل منهما لوجود الآخر ، فلو عدما دفعة لوجدا دفعة. ولكن العلة موجودة حال حدوث المعلول ، فيلزم كونهما موجودين حال كونهما معدومين وإما أن لا يكون دفعة ، وهو أيضا باطل ، لأنه إذا كان سبب زوال الأول حدوث الثاني (٣) ، فما لم يوجد الثاني ، لا يزول الأول ، وإذا وجد الثاني وزال الأول ، استحال زوال الثاني لأنه لا مزيل له ، لأن التقدير أن كلا منهما إنما يزول بالآخر ، وهذا ما يقال إن الثاني كان قاصرا عن الغلبة حين ما لم يكن مغلوبا ، فكيف إذا صار مغلوبا. واعترض بوجوه :

الأول ـ أن الطارئ أقوى وبالبقاء أولى ، لكونه مقارنا لمؤثره ، الذي يوجده ، بخلاف السابق فإنه وإن كان موجودا ، لكن لم يبق معه مؤثره ، فإذا يجوز على الإحباط أن يفني السابق بالطارئ ويبقى هو بحاله. وعلى الموازنة ، أن يفنى من الطارئ ما يقابل السابق. ثم يفنى السابق بما بقي من الطارئ.

والجواب : المنع ، بل السابق لاستمرار وجوده وتحقق علة بقائه ، أقوى وأبقى. والطارئ لقربه من العدم ، وعدم تحقق علة بقائه بالفناء أولى. على أن الدفع أهون من الرفع ، ثم هذا ـ على تقدير صحته ـ إنما يتأتى فيما إذا كان الأكثر طارئا بخلاف ما إذا استحق بالطاعة ثوابا كثيرا ، أو بالمعصية عقابا أقل ، أو بالعكس (٤).

__________________

(١) في (ب) أحق بدلا من (أولى).

(٢) في (ب) اتفاقا بدلا من (وفاقا) وهو تحريف.

(٣) في (ب) الآخر بدلا من (الثاني).

(٤) سقط من (ب) لفظ (أو بالعكس).

الثاني ـ أنه يجوز أن يكون التوقف فيما بين طرآن الحادث وزوال السابق توقف معية لا تقدم ، ليلزم الدور المحال.

والجواب أن الكلام إنما هو على تقدير جعل طرآن الحادث هو السبب في زوال السابق ، فيتقدمه بالذات ضرورة ، وهو ينافي اشتراطه به لاستلزامه تأخره عنه بالذات (١)

الثالث ـ أن الاستحقاقات ليست أمورا متمايزة بحسب الخارج. بمنزلة ما إذا كان لله عند أحد خمستان وديعة ، فيمكن تسليم هذه أو تلك ، بل بحسب الذهن فقط ، بمنزلة ما إذا كان لك عليه خمستان دينا ، فلا يكون تسليم خمسة ، أو الإبراء عنها ، أو مقاصتها بخمسة له عليك إلا إبراء عن النصف ، وبما ذكرنا من حمل كلام المحصل على ما نقلنا من تقرير نهاية العقول ، يظهر أن ليس مقصود الإمام ما فهمه المعترض (٢) ، فإن معناه أن الاستحقاقات لما كانت متساوية فالاستحقاق القليل كما يزيل ما يقابله من الكثير ، كذلك يزيل الباقي ، لأن حكم المتساويات واحد (٣). بل الاعتراض أن تساوي الاستحقاقات لا يوجب إلا جواز زوال كل ما يزول به الآخر ، لا زوال الكل بما يزول به البعض.

الرابع ـ أن الطاعات والمعاصي مثبتة عند الحفظة ، وفي صحائف الكتبة ، فالطاعات تبطل استحقاق العقاب بالمعاصي. والمعاصي تبطل استحقاق الثواب بالطاعات ، من غير لزوم محال.

والجواب ـ أن المقصود بيان امتناع زوال أحد الاستحقاقين والمستحقين ، أعني الثواب والعقاب بالآخر على ما هو المذهب في الإحباط والموازنة. وبهذا يندفع اعتراض خامس ـ وهو أنه يجوز أن لا يؤثر أحدهما في عدم الآخر ، لكن يتمانعان في ظهور حكمهما فيظهر حكم الزيادة فقط.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (بالذات).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (من كلامه).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (عند العقل).

الخامس ـ أنه يجوز أن يؤثر الطارئ في عدم السابق بشرط أن يسقط من الطارئ مثل السابق من غير لزوم محذور.

والجواب ـ أنه يعود الكلام في سقوط ذلك القدر من الطارئ ، ويلزم المحذور ، نعم يتجه على الوجه الأخير أنه لو جعل زوال كل من الاستحقاقين بالآخر بأن يزيل جزء من هذا جزءا من ذلك ، وبالعكس ، إلى أن يفنى الأقل بالكلية ، ويبقى من الأكثر القدر الزائد لم يلزم شيء من المحالات. لأنه يكون مزيلا للجزء الأخير من الأقل ، إلا أن الإمام إنما أورد هذا البرهان فيما إذا استحق المكلف عشرة أجزاء من الثواب ، ثم فعل معصية استحق بها عشرة أجزاء من العقاب ، فلا يرد عليه هذا. لكن يتجه أن البيان يختص بما إذا تساوى الاستحقاقات. والمعتزلة اضطربوا في مثله ، وزعم أبو هاشم أنه لا يجوز وقوع ذلك لأن المكلف إما في الجنة أو في النار. وأجيب بأنه يجوز أن يرجع جانب الثواب ، فينزل برحمة الله تعالى منزل الكرامة ويحل بفضله دار المقامة ، أو يجمع بين الثواب والعقاب من غير خلوص أحدهما ، أو لا يثاب ، ولا يعاقب. ويكون من أصحاب الأعراف (١) على ما ورد في الحديث. ويمكن دفع استدلال الإمام بأن الاستحقاق اعتبار شرعي ليس له تأثير وتأثر حقيقي ، وفناء بعد وجود. بل معنى إحباط الطاعة أو استحقاق الثواب أن الله تعالى لا يثيب عليها. ومعنى الموازنة أنه لا يثيب عليها ، ولا يعاقب على المعصية بقدرها من غير أن يتحقق في الخارج استحقاقات بينها منافاة ومفاناة ، وأما الثواب والعقاب فلا وجود لهما إلا في الآخرة ، وحينئذ لا اجتماع بينهما ولا اندفاع. بل ذلك إلى حكم الله ومشيئته على وفق حكمته. والأقرب ما قال إمام الحرمين (٢) إنه ليس بإزاء معرفة الله تعالى كبيرة

__________________

(١) قال تعالى : (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا : ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) ويقال : إن أصحاب الأعراف ملائكة وأنبياء فإن قولهم ذلك إخبار عن الله تعالى ، ومن جعل أصحاب الأعراف المذنبين كان آخر قولهم لأصحاب النار (وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) وروى عن ابن عباس ، والأول عن الحسن. وقيل : هو من كلام الملائكة الموكلين بأصحاب الأعراف ، فإن أهل النار يحلفون أن أصحاب الأعراف يدخلون معهم النار فتقول الملائكة لأصحاب الأعراف : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

(٢) سبق الترجمة له في كلمة وافية.

يربى وزرها على أجرها فكان من حقهم أن يدرءوا بها جميع الكبائر ، فإذا لم يفعلوا ذلك ، بطل هذيانهم بتغالب الأعمال وسقوط أقلها بأكثرها. ومما يجب التنبيه أنه لا فرق عندهم بين أن يكون المعاصي طارئة على الطاعات أو سابقة عليها ، أو متخللة بينهما ، وأن ما يوهم به كلام البعض من اختصاص الحكم بما إذا كانت الكبيرة طارئة ليس بشيء.

قال : المبحث الثاني عشر ـ اتفقت الأمة

(اتفقت الأمة على العفو عن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، وعلى أنه لا عفو عن الكفر على اختلاف في الجواز عقلا ، واختلفوا في العفو عن الكبائر بدون التوبة ، فجوزه أصحابنا ، بل أثبتوه ، ومنعه المعتزلة سمعا ، وإن جاز عقلا عند الأكثرين منهم. لنا على الجواز أن العقاب حقه. فله إسقاطه. وعلى الوقوع النصوص الناطقة :

(وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (١) (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٢) (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣) (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤)

وفي الأحاديث أيضا كثرة ، والتخصيص بالصغائر أو بما بعد التوبة أو الحمل على تأخير العقوبات المستحقة ، أو عدم شرع الحدود في غاية المعاصي ، أو على ترك وضع الآصار عليهم. والفضائح في الدنيا ، مع كونه عدولا عن الظاهر بلا دليل ومخالفة لأقوال المفسرين وللأحاديث الصحيحة الصريحة مما لا يصح في البعض ، إذ المغفرة بالتوبة لا يخص ما دون الشرك ، ولا يلائم التعليق بالمشيئة ، وباقي المعاني لا يناسب النفي عن الشرك).

ونطق الكتاب والسنة بأن الله تعالى عفو غفور يعفو عن الصغائر مطلقا ، وعن الكبائر بعد التوبة ، ولا يعفو عن الكفر قطعا ، وإن جاز عقلا ، ومنع بعضهم الجواز

__________________

(١) سورة الشورى آية رقم ٢٥.

(٢) سورة المائدة آية رقم ١٥.

(٣) سورة الزمر آية رقم ٥٣.

(٤) سورة النساء آية رقم ٤٨ ، ١١٦.

العقلي أيضا لأنه مخالف لحكمة التفرقة بين من أحسن غاية الإحسان ومن اساء غاية الإساءة وضعفه ظاهر. واختلفوا في العفو عن الكبائر بدون التوبة. فجوزه الأصحاب ، بل أثبتوه خلافا للمعتزلة حيث منعوه سمعا وإن جاز عقلا عند الأكثرين منهم ، حتى صرح بعض المتأخرين منهم بأن القول بعدم حسن العفو عن المستحق للعقاب عقلا قول أبي القاسم الكعبي. لنا على الجواز أن العقاب حقه فيحسن إسقاطه مع أن فيه نفعا للعبد من غير ضرر لأحد ، وعلى الوقوع الآيات والأحاديث الناطقة بالعفو والغفران :

(وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ) (١) (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٢) (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) (٣) (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤)

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٥)

وفي الأحاديث كثرة. ومعنى العفو والغفران ترك عقوبة المجرم والستر عليه بعدم المؤاخذة لا يقال : يجوز حمل النصوص على العفو عن الصغائر ، أو عن الكبائر بعد التوبة ، أو على تأخير العقوبات المستحقة ، أو على عدم شرع الحدود في عامة المعاصي ، أو على ترك وضع الآصار عليهم من التكاليف المهلكة كما على الأمم السالفة ، أو على ترك ما فعل ببعض الأمم من المسخ ، وكتبه الآثام على الجباه ، ونحو ذلك بما يفضحهم في الدنيا ، لأنا نقول : هذا مع كونه عدولا عن الظاهر بلا دليل وتقييد للإطلاق بلا قرينة ، وتخصيصا للعام بلا مخصص ، ومخالفة لأقاويل من يعتد به من المفسرين بلا ضرورة وتفريقا بين الآيات والأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا المعنى بلا فارق مما لا يكاد يصح في بعض الآيات كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) .. (٦) الآية.

فإن المغفرة بالتوبة تعم الشرك وما دونه. فلا تصح التفرقة بإثباتها لما دونه.

__________________

(١) سورة الشورى آية رقم ٢٥.

(٢) سورة المائدة آية رقم ١٥.

(٣) سورة الزمر آية رقم ٥٣.

(٤) سورة النساء آية رقم ٤٨ ، ١١٦.

(٥) سورة الرعد آية رقم ٦.

(٦) سورة النساء آية رقم ٤٨ ، ١١٦.

وكذا تعم كل أحد من العصاة ، فلا تلائم التعليق بمن يشاء المفيد للبعضية وكذا مغفرة الصغائر ، على أن في تخصيصها إخلالا بالمقصود ، أعني تهويل شأن الشرك ببلوغه النهاية في القبح بحيث لا يغفر (١) ، ويغفر جميع ما سواه ، ولو كبيرة في الغاية ، وأما باقي المعاني المذكورة فربما يكون في الشرك أقوى على ما لا يخفى ، فلا معنى للنفي ، والمشهور في إبطال تقييدهم المغفرة بما بعد التوبة أن قبول التوبة وترك العقاب بعدها واجب عندهم (٢). فلا يتعلق بالمشيئة. واعترض بأن ترك العقاب على الكبيرة بعد التوبة ليس واجبا كثواب المطيع بل بمقتضى الوعد ، بمعنى أنه واجب أن يكون كما هو المذهب عندكم ، ووعده بذلك ووفاؤه بما وعد هو المغفرة والعفو. ولو سلم ، ففعل الله تعالى ، وإن كان واجبا (٣) عليه ، يكون بمشيئته وإرادته. فيصح تعليقه بها.

والجواب ـ أن المذهب عندهم على ما صرحوا به في كتبهم هو أن العقاب بعد التوبة ظلم يجب على الله تركه ، ولا يجوز فعله. ثم الواجب ، وإن كان فعله بالإرادة والمشيئة ، لا يحسن في الإطلاق تعليقه بالمشيئة كقضاء الدين. والوفاء بالنذر ، لأنه إنما يحسن فيما يكون له الخيرة في الفعل والترك ، على أنك إذا تحققت ، فليس هذا مجرد تعليق بالمشيئة بمنزلة قولك : يغفر ما دونه إن شاء ، بل تقييدا للمغفور له. بمنزلة قولك : يغفر لمن يشاء دون من لا يشاء ، وهذا لا يكون في الواجب البتة ، بل في المتفضل به كقولك : الأمير يخلع على من يشاء. بمعنى أنه يفعل ذلك ، لكن بالنسبة إلى البعض دون البعض. وبهذا يندفع إشكال آخر ، وهو أن المغفرة معلقة بالمشيئة فلا يدل على الوقوع ، لعدم العلم بوقوع المشيئة ، بل على مجرد الجواز ، وليس المتنازع. وقد يدفع بأنه لا بد من وقوع المشيئة ليتحقق الفرق بين الشرك وما دونه على ما هو مقصود سوق الآية. وهذا الدفع إنما يتم على رأي من يجعل التفرقة بينهما بوقوع العفو ولا وقوعه.

__________________

(١) في (ب) بزيادة (هذا الذنب).

(٢) قال تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). والفلاح لا يكون معه عقاب.

(٣) عجب لهؤلاء القوم ، ومن الذي أوجب عليه ذلك إن العبودية الحقة لله تعالى تجعل العبيد بمنأى عن هذه الأشياء التي يقشعر منها البدن ، وتذهب منها النفس حسرات ..؟؟

ويجعل العفو عن الكفر جائزا غير واقع. وعليه الأشاعرة (١) وكثير من المتكلمين.

قال : للمانعين عقلا

(للمانعين عقلا أن جواز العفو إغراء على القبيح فيمتنع. ورد بعد تسليم القاعدة بمنع كونه إغراء ، بل مجرد احتمال العقوبة زاجر ، فكيف مع الرجحان وشهادة النصوص.).

تمسكت الوعيدية القائلون بعدم جواز العفو عن الكبائر عقلا ، وهم البلخي (٢) وأتباعه بأنه إغراء على القبيح ، لأن المكلف يتكل على العفو ويرتكب القبائح ، وهذا قبيح يمتنع إسناده إلى الله تعالى. وأجيب بعد تسليم قاعدة الحسن والقبح العقليين بأن مجرد احتمال العقوبة يصلح زاجرا للعاقل عن ارتكاب الباطل ، فكيف مع الآيات القاطعة بالعذاب والوعيدات الشائعة في ذلك الباب. فكيف يكون احتمال تركها ، بل وقوعه في الجملة ، وبالنسبة إلى من لا يعلمه إلا الله مظنة للإغراء ومفضية الى الاجتراء ، ألا ترى أن قبول التوبة مع وجوبه عندكم ، وعزم كل أحد عليها غالبا ليس بإغراء ، والتردد في نيل توفيقها لا يزيد على التردد في نيل كرامة العفو؟.

فإن قيل : ترك العفو ادعى الى الطاعة ، فيكون لطفا فيجب ، فيمتنع العفو.

قلنا : منقوض بقبول التوبة (٣) وتأخير العقوبة (٤) وإن ادعى وجه مفسدة في تركهما منعنا انتفاءه في ترك العفو. فإن في العفو لطفا بالعبد في تأدية وظيفة مزيد

__________________

(١) سبق الحديث على فرقة الأشاعرة ورئيسهم أبي الحسن الأشعري ، في الجزء الأول من هذا الكتاب فليرجع إليه. وبالله التوفيق.

(٢) هو أحمد بن سهل ، أبو زيد البلخى أحد الكبار الأفذاذ من علماء الإسلام ، جمع بين الشريعة والفلسفة ولد في إحدى قرى بلخ عام ٢٣٥ ه‍ من كتبه : أقسام العلوم ، وشرائع الأديان ، وكتاب السياسة الكبير والصغير ، والأسماء والكنى والألقاب ، ما يصح من أحكام النجوم ، أقسام علوم الفلسفة وغير ذلك كثير توفي عام ٣٢٢ ه‍ ، راجع الفهرست وحكماء الإسلام ، ولسان الميزان ١ : ١٨٣.

(٣) في (ب) بزيادة (من العبد).

(٤) في (ب) بزيادة لفظ (عنه).

لثناء على الله تعالى بالعفو والكرم والرأفة.

قال : وسمعا

(بالنصوص الواردة في وعيد الفساق ، فإن الخلف والكذب نقص بالاتفاق (١). ورد بأنهم داخلون في عمومات الوعد. والخلف في الوعد باطل بالإجماع ، بخلاف الخلف في الوعيد. فإنه كرم جوزه البعض. نعم حديث لزوم الكذب وتبديل القول مشكل (٢) فالأولى القول بإخراجهم من عموم اللفظ ، وبأنه ليس نسخا ليمتنع في الخير ، وأما القول بأن الكذب يجري في المستقبل فضعيف جدا (٣) وكذا القول بأن صدق كلامه عندنا أزلي ، فلا يتغير. والكذب عندكم إنما امتنع لقبحه. ولا قبح هاهنا لتوقف العفو عليه. كمن أخبر أنه يقتل زيدا غدا ، فلم يقتله. وذلك لأن أزلية الصدق تقتضي ترك العفو. وجواز الكذب في إخباره يفضي إلى مفاسد لا تحصى (٤))

تمسك القائلون بجواز العفو عقلا ، وامتناعه سمعا ، وهم البصريون من المعتزلة ، وبعض البغدادية بالنصوص الواردة في وعيد الفساق وأصحاب الكبائر إما بالخصوص كقوله تعالى في آكل أموال الناس : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً) (٥)

وفي التولي عن الزحف : (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٦) وفي تعدي حدود المواريث : (يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٧)

وإما بالدخول في العمومات المذكورة في بحث الخلود. وإذا تحقق الوعيد. فلو تحقق العفو ، وترك العقوبة بالنار ، لزم الخلف في الوعيد والكذب

__________________

(١) في (ب) بزيادة لفظ (عليه).

(٢) في (ب) بزيادة (لبعضهم).

(٣) سقط من (ب) لفظ (جدا).

(٤) في (ب) كثيرة بدلا من (لا تحصى).

(٥) سورة النساء آية رقم ٣٠.

(٦) سورة آل عمران آية رقم ١٦٢ وسورة الأنفال آية رقم ١٦.

(٧) سورة النساء آية رقم ١٤.

في الإخبار. واللازم باطل فكذا الملزوم.

وأجيب بأنهم داخلون في عمومات الوعد بالثواب ودخول الجنة على ما مر. والخلف في الوعد لؤم لا يليق بالكريم وفاقا (١) ، بخلاف الخلف في الوعيد ، فإنه ربما يعد كرما. والقول بالإحباط وبطلان استحقاق الثواب بالمعصية فاسد كما مر ، فكيف كان ترك عقابهم بالنار خلفا مذموما ولم يكن ترك ثوابهم بالجنة كذلك؟

والدفع بأنه لو صح أن يخلف الوعيد لصح أن يسمى مخلفا ، ليس بشيء لأن كثيرا من أفعاله بهذه الحيثية (٢). أعني لا يصح إطلاق اسم الفاعل منها عليه ، لإيهام النقص. كما أنه يتكلم بالمجاز ، ولا يسمى متجوزا. وكذا لا يسمى ماكرا ومستهزئا ، ونحو ذلك ، بل مع أنه ينجز وعد الثواب لا يسمى منجزا. نعم لزوم الكذب في إخبار الله تعالى ، مع الإجماع على بطلانه ولزوم تبديل القول مع النص الدال على انتفائه مشكل. فالجواب الحق أن من تحقق العفو في حقه يكون خارجا عن عموم اللفظ ، بمنزلة الثابت.

فإن قيل : صيغة العموم المتعرية عن دليل الخصوص تدل على إرادة كل فرد مما يتناوله اللفظ ، بمنزلة التنصيص عليه باسمه الخاص. فإخراج البعض بدليل متراخ يكون نسخا ، وهو لا يجري في الخبر للزوم الكذب. وإنما التخصيص هو الدلالة على أن المخصوص غير داخل في العموم ، ولا يكون ذلك إلا بدليل متصل.

قلنا : ممنوع ، بل إرادة الخصوص من العام ، والتقييد من المطلق شائع من غير دليل متصل. ثم دليل التخصيص والتقييد بعد ذلك ، وإن كان متراخيا بيان لا نسخ. وهذا هو المذهب عند الفقهاء الشافعية (٣) ، والقدماء من الحنفية (٤). وكانوا ينسبون

__________________

(١) في (ب) اتفاقا بدلا من (وفاقا).

(٢) في (ب) بهذه (الصفة) بدلا من (الحيثية).

(٣) أصحاب محمد بن إدريس الشافعي ـ رضي الله عنه وقد سبق الحديث عنهم في كلمة مستفيضة في الجزء الأول.

(٤) أصحاب النعمان بن ثابت صاحب مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي.

القول بخلاف ذلك الى المعتزلة إلا أن المتأخرين منهم يعدون ذلك نسخا ، ويخصون التخصيص بما يكون دليله متصلا ، ويجوزون الخلف في الوعيد. ويقولون : الكذب يكون في الماضي دون المستقبل. وهذا ظاهر الفساد. فإن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو كذب سواء كان في الماضي أو في المستقبل. قال الله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) (١) ثم قال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) (٢)

على أن المذهب عندنا أن إخبار الله تعالى أزلي لا يتعلق بالزمان ، ولا يتغير بتغيير المخبر به على ما سبق في بحث الكلام.

فإن قيل : فعليه ما ذكرتم يكون حكم العام هو التوقف حتى يظهر دليل الخصوص.

قلنا : لا ، بل يجرى على عمومه في حق العمل. بل وفي حق وجوب اعتقاد العموم ، دون فرضيته. وهذا البحث مستوفى في أصول الفقه. وقد بسط الكلام فيه صاحب التبصرة بعض البسط ، وللإمام الرازي هاهنا جواب إلزامي وهو أن صدق كلامه لما كان عندنا أزليا ، امتنع كذبه ، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه. وأما عندكم فإن امتنع كذبه لكونه قبيحا فلمقلتم : إن هذا الكذب قبيح ، وقد توقف عليه العفو الذي هو غاية الكرم؟ وهذا كمن أخبر (٣) أنه يقتل زيدا غدا ظلما ، ففي الغد ، إما أن يكون الحسن قتله ، وهو باطل ، وإما ترك قتله ، وهو الحق. لكنه لا يوجد إلا عند وجود الكذب. وما لا يوجد الحسن إلا عند وجوده حسن قطعا. فهذا الكذب حسن قطعا ، ويمكن دفعه بأن الكذب في إخبار الله تعالى قبيح وإن تضمن وجوها من المصلحة ، وتوقف عليه أنواع من الحسن لما فيه من مفاسد لا تحصى ومطاعن في

__________________

(١) سورة الحشر آية رقم ١١.

(٢) سورة الحشر آية رقم ١٢.

(٣) في (ب) قال بدلا من (أخبر).

الإسلام لا تخفى. منها مقال (١) الفلاسفة في المعاد ومجال الملاحدة في العناد. وهاهنا بطلان ما وقع عليه الإجماع من القطع بخلود الكفار في النار. فإن غاية الأمر شهادة النصوص القاطعة بذلك. وإذا جاز الخلف ، لم يبق القطع إلا عند شرذمة لا يجوزون العفو عنهم في الحكمة على ما يشعر قوله تعالى : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢)

وغير ذلك من الآيات. ووجه التفرقة أن العاصي قلما يخلو عن خوف عقاب ، ورجاء رحمة ، وغير ذلك من خيرات تقابل ما ارتكب من المعصية اتباعا للهوى ، بخلاف الكافر. وأيضا الكفر مذهب ، والمذهب يعتقد للأبد ، وحرمته لا تحتمل الارتفاع أصلا. فكذلك عقوبته ، بخلاف المعصية ، فإنها لوقت الهوى والشهوة ، وأما من جوز العفو عقلا ، والكذب في الوعيد ، إما قولا لجواز الكذب المتضمن لفعل الحسن ، أو بأنه لا كذب بالنسبة إلى المستقبل (٣) ، فمع صريح إخبار الله تعالى بأنه لا يعفو عن الكافر ، ويخلده في النار. فجواز الخلف ، وعدم وقوع مضمون هذا الخبر محتمل. ولما كان هذا باطلا ، علم أن القول بجواز الكذب في إخبار الله تعالى باطل قطعا.

قال : خاتمة ـ قد اشتهر

(من المعتزلة أن الفاسق مخلد ، وإن عدم القطع بعقابه إرجاء. لكن ينبغي أن يكون هذا مذهب البعض ، إذ المختار عند الأكثرين هو أن الكبائر إنما تسقط الطاعات إذا زاد عقابها على ثوابها. وذلك في علم الله. واضطربوا فيما إذا تساويا ، وصرحوا بجواز العفو عقلا وشرعا عند البصرية ، وبعض البغدادية (٤) ، وعقلا عند غير الكعبي)

من مذهب المعتزلة أن صاحب (٥) الكبيرة ـ بدون التوبة ـ مخلد في النار وإن

__________________

(١) في (ب) أقوال بدلا من (مقال).

(٢) سورة القلم آية رقم ٣٥.

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (والحال).

(٤) في (أ) الغدادية وهو تحريف.

(٥) في (ب) مرتكب بدلا من (صاحب).

عاش على الإيمان والطاعة مائة سنة. ولم يفرقوا بين أن تكون الكبيرة واحدة أو كثيرة ، واقعة قبل الطاعات أو بعدها أو بينها. وجعلوا عدم القطع بالعقاب ، وتفويض الأمر إلى أن الله تعالى يغفر إن شاء ويعذب إن شاء على ما هو مذهب أهل الحق إرجاء. بمعنى أنه تأخير للأمر وعدم جزم بالعقاب أو الثواب. وبهذا الاعتبار جعل أبو حنيفة من المرجئة. وقد قيل له: من أين أخذت الإرجاء؟

فقال : من الملائكة (عليهم‌السلام). (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا)(١)

وإنما المرجئة الخالصة الباطلة هم الذين يحكمون بأن صاحب الكبيرة لا يعذب أصلا ، وإنما العذاب والنار للكفار ، وهذا تفريط. كما أن قول الوعيدية إفراط. والتفويض (٢) إلى الله تعالى وسط بينهما كالكسب بين الجبر والقدر. ونحن نقول : ينبغي أن يكون ما اشتهر منهم مذهب بعضهم. والمختار خلافه ، لأن مذهب الجبائي وأبي هاشم ، وكثير من المحققين ـ وهو اختيار المتأخرين ـ أن الكبائر إنما تسقط الطاعات ، وتوجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثوابها ، والعلم بذلك مفوض إلى الله تعالى. فمن خلط الحسنات بالسيئات ولم يعلم عليه غلبة الأوزار ، لم يحكم بدخوله النار. بل إذا زاد الثواب يحكم بأنه لا يدخل النار أصلا. واضطربوا فيما إذا تساوى الثواب والعقاب ، وصرحوا بأن هذا بحسب السمع. وأما بحسب العقل فيجوز العفو عن الكبائر كلها ، إلا عند الكعبي. وذكر إمام الحرمين في الإرشاد (٣) أن مذهب البصريين وبعض البغداديين جواز العفو عقلا وشرعا. ولقد مننا بهذا على المعتزلة أن ادركوا ، ونهجنا لهم منهاجا أن سلكوا. وإلا فمن لهم بعصمة تنجي أو توبة ترجى.

قال : المبحث الثالث عشر ـ

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٣٢.

(٢) التفويض قيل : هو ترك اختيار ما فيه الخطر إلى اختيار المدبر العالم بمصلحة الخلق ، وقيل : هو ترك الطمع ، والأول أنسب قال الله سبحانه وتعالى : (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ) الآية ثم قال تعالى : (فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا) الآية وقال عليه‌السلام لابن مسعود : ليقل همك ما قدر أتاك وما لم يقدر لا يأتيك ، وقوله ليقل همك أمر له بالتفويض. والله أعلم.

(٣) قام بتحقيقه الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى ، والأستاذ الدكتور علي عبد المنعم عبد الحميد.

(المبحث الثالث عشر ـ يجوز عندنا الشفاعة لأهل الكبائر في حقها ، لما سبق من دلائل العفو ، وما تواتر معنى من ادخار الشفاعة لأهل الكبائر. وقد يستدل بعموم قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١)

وبأن أصل الشفاعة ثابت بالنص والإجماع ، وليست حقيقة لطلب المنافع على ما يراه المعتزلة ، وإلا لكنا شافعين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نسأل الله تعالى زيادة كرامته. بل لإسقاط المضاد. وعندكم لا عقاب مع التوبة ، ولا صغيرة مع اجتناب الكبيرة ، فتعين كونها لإسقاط الكبائر. تمسكت المعتزلة بوجوه :

الأول ـ عمومات نفي الشفاعة مثل قوله تعالى : (لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٢) (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٣) (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (٤) (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٥) (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٦)

والجواب ـ بعد تسليم عموم الأزمان والأحوال التخصيص بالكبائر جمعا بين الأدلة على أن الظلم المطلق هو الكفر ، ونفي الناصر لا ينفي الشفيع.

الثاني ـ آيات تنفي شفاعة صاحب الكبيرة : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٧) (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) (٨).

والجواب ـ أن الفاسق مرتضى من جهة الإيمان. والمراد تابوا عن الشرك ، لأن من تاب عن المعاصي وعمل صالحا فطلب مغفرته عبث ، أو طلب لترك الظلم.

الثالث ـ آيات خلود الفساق ، وقد مر.

__________________

(١) سورة محمد آية رقم ١٩.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٤٨.

(٣) سورة المدثر آية رقم ٤٨.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٥٤.

(٥) سورة غافر آية رقم ١٨.

(٦) سورة آل عمران آية رقم ١٩٢.

(٧) سورة الأنبياء آية رقم ٢٨.

(٨) سورة غافر آية رقم ٧.

الرابع ـ الإجماع على صحة اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والجواب ـ إن أهلية شفاعته على تقدير العصيان إنما هو بالطاعة والإيمان).

في الشفاعة يدل على ثبوتها النص والإجماع. إلا أن المعتزلة قصروها على المطيعين والتائبين لرفع الدرجات وزيادة المثوبات.

وعندنا يجوز لأهل الكبائر أيضا في حط السيئات ، إما في العرصات ، وإما بعد دخول النار ، لما سبق من دلائل العفو عن الكبيرة ، ولما اشتهر بل تواتر معنى من ادخار الشفاعة لأهل الكبائر ، كقوله (عليه‌السلام) : «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١) وترك العقاب بعد التوبة واجب عندهم ، فليس للعفو والشفاعة كثير معنى. وقد يستدل بقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢).

أي لذنوب المؤمنين ، فيعم الكبائر وبقوله تعالى في حق الكفار : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٣)

فإن مثل هذا الكلام إنما يساق حيث تنفع الشفاعة غيرهم ، فيقصد تقبيح حال الكفرة. وتخييب رجائهم ، بأنهم ليسوا كذلك إذ لو لم تنفع الشفاعة أحدا لما كان في تخصيصهم زيادة تخييب وتوبيخ لهم. لكنه مع هذا التكلف لا يفيد إلا ثبوت أصل الشفاعة ولا نزاع فيه. نعم لو تم ما ذكره بعض أصحابنا من أن الشفاعة لا يجوز أن تكون حقيقية لزيادة المنافع ، بل لإسقاط المضار فقط. والصغائر مكفرة عندكم باجتناب الكبائر ، فتعين أن تكون لإسقاط الكبائر ، لكان في إثبات أصل الشفاعة إثبات المطلوب. إلا أن غاية متشبثهم في ذلك هو أن الشفاعة لو كانت حقيقة في طلب زيادة المنافع لكنا شافعين في حق النبي (عليه‌السلام) حين نسأل

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب القيامة ١١ وأبو داود في كتاب السنة ١١ وعند ابن ماجه في كتاب الزهد ٣٧ باب ذكر الشفاعة ٤٣١٠ ـ حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي حدثنا الوليد ابن مسلم ، حدثنا زهير بن محمد عن جعفر بن محمد ، عن أبيه عن جابر قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : وذكره. ورواه الإمام أحمد في المسند ٣ : ٢١٣ حدثنا عبد الله ثنى أبي حدثنا سليمان بن حرب حدثنا بسطام بن حريث عن أشعث الحراني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ـ (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : وذكره.

(٢) سورة محمد آية رقم ١٩.

(٣) سورة المدثر آية رقم ٤٨.

الله تعالى زيادة كرامته. واللازم باطل وفاقا واعترض بأنه يجوز أن يعتبر فيها زيادة قيد ، ككون الشفيع أعلى حالا من المشفوع له ، أو كون زيادة المنافع محصولة البتة لسؤاله وطلبه.

وأجيب بأن الشفيع قد يشفع لنفسه ، فلا يكون اعلى ، وقد يكون غير مطاع فلا يقع المسئول ، فضلا عن أن يكون لأجل سؤاله.

فإن قيل : إطلاق الشفاعة على طلب المنافع مما لا سبيل إلى إنكاره كقول الشاعر :

فذاك فتى إن تأته في صنيعه

إلى ما له لم تأته بشفيع

وكما في منشور دار الخلافة لسلطان محمود : ولّيناك كورة خراسان ، ولقّبناك بيمين الدولة ، وأمين الملة بشفاعة أبي حامد الأسفرايني.

قلنا : نعم ، لكن لو كان حقيقة لاطرد فيما ذكرنا. احتجت المعتزلة بوجوه :

الأول ـ الآيات الدالة على نفي الشفاعة بالكلية ، فيخص المطيع والتائب بالإجماع ، فتبقى حجة فيما وراء ذلك ، مثل قوله تعالى :

(وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ...) (١) الآية.

والضمير في : (لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٢) و(لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) (٣)

للنفس المبهمة العامة. وكقوله تعالى :

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ). (٤).

وكقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٥)

أي يجاب. يعني لا شفاعة أصلا على طريقة قوله : ولا ترى الضب بها

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٤٨.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٤٨.

(٣) سورة البقرة آية رقم ١٢٨.

(٤) سورة البقرة آية رقم ٢٥٤.

(٥) سورة غافر آية رقم ١٨.

ينحجر. وكقوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (١).

الثاني ـ ما يشعر بنفي الشفاعة لصاحب الكبيرة منطوقا كقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٢).

فإنه ليس بمرتضى. أو مفهوما كقوله تعالى حكاية عن حملة العرش : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٣) ، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) (٤).

ولا فارق بين شفاعة الملائكة والأنبياء.

الثالث ـ ما سبق (٥) من الآيات المشعرة. بخلود الفساق. ولو كانت شفاعة لما كان خلود.

الرابع ـ الإجماع على الدعاء بقولنا : اللهم اجعلنا من أهل شفاعة محمد. ولو خصت (٦) الشفاعة لأهل الكبائر ، لكان ذلك دعاء بجعله منهم.

والجواب عن الأول ـ بعد تسليم العموم في الأزمان والأحوال أنها تختص بالكفار جمعا بين الأدلة على أن الظالم على الإطلاق هو الكافر ، وأن نفي النصرة لا يستلزم نفي الشفاعة لأنها طلب على خضوع ، والنصرة ربما تنبئ عن مدافعة ومغالبة. هذا بعد تسليم كون الكلام لعموم السلب ، لا لسلب العموم. وقد سبق مثل ذلك (٧).

وعن الثاني ـ بأنا لا نسلم أن من ارتضى لا يتناول الفاسق ، فإنه مرتضى من جهة الإيمان والعمل الصالح ، وإن كان مبغوضا من جهة المعصية ، بخلاف الكافر المتصف بمثل العدل ، أو الجور ، فإنه ليس بمرتضى عند الله تعالى أصلا لفوات أصل الحسنات وأساس الكمالات. ولا نسلم أن الذين

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٧٢.

(٢) سورة الأنبياء آية رقم ٢٨.

(٣) سورة غافر آية رقم ٧.

(٤) سورة غافر آية رقم ٧.

(٥) في (ب) ما قلناه بدلا من قوله (ما سبق).

(٦) في (ب) كانت بدلا من (خصت).

(٧) في (ب) الكلام بدلا من (مثل ذلك).

تابوا لا يتناول الفاسق فإن المراد تابوا عن الشرك ، إذ لا معنى لطلب مغفرة من تاب عن المعاصي وعمل صالحا (١) عندكم لكونه عبثا أو طلبا لترك الظلم بمنع المستحق حقه. هذا بعد تسليم دلالة التخصيص بالوصف على نفي الحكم عما عداه.

وعن الثالث ـ بما سبق في مسألة انقطاع (٢) عذاب صاحب الكبيرة.

وعن الرابع ـ أن المراد «اجعلنا من أهل الشفاعة» على تقدير المعاصي كما في قولنا : اجعلنا من أهل المغفرة وأهل التوبة. وتحقيقه أن المتصف بالصفات إذا اختص بكرامة منشأها بعض تلك الصفات دون البعض ، لم يكن استدعاء أهلية تلك الكرامة ، الا استدعاء الصفة التي هي منشأ تلك الكرامة. ألا يرى أن المعالجة ، وإن لم تكن إلا للمريض لكن قولك : اللهم اجعلني من أهل العلاج ليس طلبا للمرض ، بل لقوة المزاج. فكذا هاهنا الشفاعة ، وإن اختصت بأهل الكبائر ، لكن منشأها الإيمان ، وبعض الحسنات التي تصير سببا لرضى الشفيع عنه ، وميله إليه. وبهذا يخرج الجواب عما قالوا أن من حلف بالطلاق أن يعمل ما يجعله أهلا للشفاعة أنه يؤمر بالطاعات ، لا المعاصي.

(خاتمة) الكبيرة المعصية التي تشعر بعلة الاكتراث بالدين. وقيل : التي توعد عليها الشارع بخصوصها. وقيل ، الشرك (٣) ، والقتل (٤) ، والقذف (٥) ، والزنا (٦) والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل مال اليتيم والعقوق والإلحاد في الحرم ، وقد يراد أكل الربا والسرقة وشرب الخمر.

__________________

(١) في (ب) بزيادة (وعمل عملا صالحا).

(٢) في (ب) انتهاء بدلا من (انقطاع).

(٣) قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ).

(٤) قال تعالى : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً).

(٥) قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). سورة النور آية ٢٣.

(٦) قال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ). سورة الأنعام آية رقم ١٥١.

ظاهر قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١).

يدل على أن الكبائر متميزة عن الصغائر بالذات ، لا كما قيل أن كل سيئة فهي بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة ، وبالنسبة إلى ما تحتها كبيرة ، لأنه لا يتصور حينئذ اجتناب الكبائر إلا بترك جميع المنهيات ، سوى واحدة هي دون الكل ، وأني للبشر ذلك. فمن هاهنا ذهب بعضهم إلى تفسير الكبيرة بأنها التي تشعر بقلة الاكتراث بالدين ، أو التي توعد عليها الشارع بخصوصها. وبعضهم إلى تعيين الكبائر ، ففي رواية ابن عمر (رضي الله تعالى عنه) أنها : الشرك بالله ، وقتل النفس بغير حق ، وقذف المحصنة ، والزنا ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وأكل مال اليتيم ، وعقوق الوالدين المسلمين ، والإلحاد في الحرم. وزاد في رواية أبي هريرة : أكل الربا. وفي رواية على : السرقة ، وشرب الخمر.

قال : المبحث الرابع عشر ـ في التوبة.

(الندم على المعصية لكونها معصية. وهل الندم لخوف النار ، أو طمع الجنة ، ولقبح المعصية مع غرض آخر ، وعند مرض مخوف توبة؟ فيه تردد ، وقد يزاد قيد العزم على الترك في الاستقبال ، ويزاد على تقدير الخطور والاقتدار حتى لو سلب القدرة ، لم يشترط العزم على الترك. والظاهر أنه للبيان ، دون الاحتراز. ومعنى الندم الأسف والحزن ، وتمنى كونه لم يفعل.

__________________

(١) الحديث أخرجه الإمام البخاري في كتاب الأدب ٥ باب إجابة دعاء بر الوالدين ٥٩٧٧ ـ حدثني محمد بن الوليد حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عبيد بن عبد الله بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك ـ رضي الله عنه قال : ذكر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ الكبائر ، أو سئل عن الكبائر فقال : وذكره. ورواه أيضا في الإيمان ١٦ والديات ٢ والاستتابة ١ ورواه الإمام الترمذي في تفسير سورة ٤ ، ٤ ، ٦ ، ٧ والنسائي في التحريم ٣ والقسامة ٤٨ والدارمي في الديات ٩ ، ورواه الإمام أحمد ابن حنبل في المسند ٢ ، ٢٠١ ٢١٤ ، ٣ : ٣٩٥؟ (حلبى).

وعلامته طول الحسرة والبكاء. واكتفى المعتزلة باعتقاد أنه إساءة ، وأنه لو أمكنه رد المعصية ، لردها. لأن أهل الجنة يندمون على تقصيرهم ، ولا حزن. ولأن العاصي مكلف بالتوبة دائما. وقد لا يمكنه تحصيل الحزن).

وهي في اللغة الرجوع. يقال : تاب وناب أو أناب إذا رجع. فإذا أسند إلى العبد ، أريد رجوعه عن الزلة إلى الندم. وإذا أسند إلى الله تعالى ، أريد رجوع نعمه وألطافه إلى عباده.

وفي الشرع هي الندم على المعصية لكونها معصية ، وقيد بذلك ، لأن الندم على المعصية لإضرارها ببدنه ، أو إخلالها بعرضه أو ماله ، أو نحو ذلك لا تكون توبة. وأما الندم لخوف النار ، أو طمع الجنة ، فهل تكون توبة؟ فيه تردد مبني على أن ذلك هل يكون ندما عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا؟ وكذا في الندم عليها لقبحها مع غرض آخر. والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة. وإلا فلا ، كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين ، لا كل واحد منهما. وكذا في التوبة عند مرض مخوف بناء على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية أم لا؟ بل للخوف ، كما في الآخرة عند معاينة النار ، فيكون بمنزلة إيمان اليأس.

والظاهر من كلام النبي (عليه‌السلام) قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت. ومعنى الندم تحزن وتوجع على أن فعل ، وتمني كونه لم يفعل. ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجونه فاستروح إلى بعض المباحات ليس توبة. ولقوله (عليه‌السلام) : الندم توبة (١). وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة في المستقبل. واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في كتاب الزهد ٣٠ والإمام أحمد بن حنبل في المسند ١ : ٢٧٦ ، ٤٢٣ ، ٤٢٣ (حلبى).

يخطر بالبال لذهول أو جنون أو موت ، ونحو ذلك. وقد لا يقتدر عليه لعارض آفة ، كخرس في القذف ، وشلل أوجب في الزنا ، فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الإشعار بالقدر والاختيار. فأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطور والاقتدار ، حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك. بهذا يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال : إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن التوبة في بعض الأحوال ، ولا يطرد في كل حال ، إذ العزم إنما يصح فيمن يتمكن من مثل ما قدمه. ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا ، ولا من الأخرس العزم على ترك القذف. فما ذكر في المواقف (١) من أن قولنا : «إذا قدر» لأن من سلب القدرة على الزنا ، وانقطع طمعه عن عود القوة إذا عزم على تركه ، لم يكن ذلك توبة منه ، ليس على ما ينبغي لإشعاره بأن العزم على الترك يصح مع عدم القدرة على الفعل. وبأن الندم على الفعل مع العزم على الترك لا يكفي في التوبة ، لكن لا بد من أمر ثالث هو بقاء القدرة. وكلام الإمام وغيره أن عند عدم القدرة لا يشترط في التوبة العزم ، بل لا يصح. ويكفي مجرد الندم. لا يقال : مراد المواقف أن مجرد هذا العزم بدون الندم ليس بتوبة ، لأنا نقول : هذا لغو (٢) من الكلام ، لا بيان لفائدة التقييد بالقدرة. وقد يتوهم أن تقديره القدرة قيد للترك ، لا للعزم. أي يجب العزم على أن لا يفعل على تقدير القدرة حتى يجب على من عرض له الآفة أن يعزم على أن لا يفعل لو فرض وجود القدرة. بهذا يشعر ما قال في المواقف أن الزاني المجبوب إذا ندم وعزم على أن لا يعود على تقدير القدرة ، فهو توبة عندنا ، خلافا لأبي هاشم. ثم التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للتقدير والبيان ، لا التقييد والاحتراز. إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخرج

__________________

(١) هو كتاب مكون من ثمانية أجزاء في أربعة مجلدات طبع قديما وعليه بعض الحواشي ويعتبر من أهم المراجع في علم الكلام للأشاعرة وصاحبه عضد الدين الايجي يسمى : عبد الرحمن بن أحمد توفي عام ٧٥٦ ه‍.

(٢) اللغو : الباطل ، وهو يشتمل الشرك كما قاله بعضهم ، والمعاصي كما قاله آخرون ، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال كما قال تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ). سورة المؤمنون آية رقم ٣ وقال تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً). سورة الفرقان آية رقم ٧٢.

عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والاقتدار.

هذا وقد شاع في عرف العوام إطلاق اسم التوبة على الاستئناف وإظهار العزم على ترك المعصية في المستقبل. وليس من التوبة في شيء ما لم يتحقق الندم والأسف على ما مضى ، وعلامته طول الحسرة والحزن ، وانسكاب الدموع. ومن نظر في باب التوبة من كتاب الإحياء للإمام حجة الإسلام ، وتأمل فيما يرى من قصة استغفار داود (عليه‌السلام) علم صعوبة (أمر التوبة) (١). والمعتزلة لما خرجوا بالكبيرة عن الإيمان ، وجزموا بالدخول ، بل الخلود في النيران ما لم يتوبوا ، هونوا أمر التوبة حتى اعتقد عوامهم أنه يكفي مجرد قول العاصي : تبت ورجعت. وخواصهم أنه يكفي أن يعتقد أنه أساء ، وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية ، لردها. ولا حاجة إلى الأسف والحزن ، لأن أهل الجنة يندمون على تقصيرهم ، ولا حزن. وإنما الحزن لتوقع الضرر ، ولا ضرر مع الندم. ولأن العاصي مكلف بالتوبة في كل وقت ، ولا يمكنه تحصيل الغم والحزن ، فيلزم تكليف ما لا يطاق.

قال : وهي واجبة.

(وهي واجبة عندنا سمعا لقوله تعالى : (تُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً).

وعند المعتزلة عقلا لما فيها من دفع الضر ، ووجوبها على الفور. فآثام التارك متلاحقة ، وقبولها ثابت عندنا بدليل ظني ، وواجب عند المعتزلة ذهابا

__________________

(١) التوبة النصوح. هو توثيق العزم على أن لا يعود لمثله قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما : التوبة النصوح : الندم بالقلب ، والاستغفار باللسان والاقلاع بالبدن والاضمار على أن لا يعود. وقيل التوبة في اللغة : الرجوع عن الذنب وكذلك التوب قال الله تعالى غافر الذنب وقابل التوب ، وقيل التوب جمع توبة ، والتوبة في الشرع الرجوع عن الأفعال المذمومة إلى الممدوحة ، وهي واجبة على الفور عند عامة المسلمين أما الوجوب فلقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ، وأما الفورية فلما في تأخيرها من الإصرار المحرم ، والإنابة : قريبة من التوبة لغة وشرعا. والله أعلم.

إلى أن العقاب بعد التوبة ظلم. لأن من بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه ، سقط ذنبه. ولأن التكليف باق ، وهو تعريض للثواب. ولا يتصور إلا بسقوط العقاب. ولا طريق سوى التوبة. وضعفه ظاهر. ثم سقوط العقوبة عند أكثر المعتزلة بنفس التوبة. وعند بعضهم بكثرة ثوابها. وعندنا بمحض الكرم. والتوبة الصحيحة عبادة لا يبطل ثوابها بمعاودة الذنب. والتوبة ثانيا عبادة أخرى.

لا نزاع في وجوب التوبة. أما عندنا فسمعا لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً)(١). (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٢).

ونحو ذلك. وأما عند المعتزلة فعقلا لما فيها من دفع ضرر العقاب. ولما أن الندم على القبيح من مقتضيات العقل الصحيح. وهذا يتناول الصغائر أيضا ، فيكون حجة على البهشمية القائلين بوجوب التوبة عن الصغائر سمعا لا عقلا ، لسقوط عقوبتها. ثم المصرح في كلام المعتزلة أن وجوب التوبة على الفور حتى يلزمه بتأخير ساعة إثم آخر يجب التوبة عنه ، وهلم جرا. حتى ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة تكون له كبيرتان : المعصية ، وترك التوبة. وساعتين أربع الأوليان ، وترك التوبة عن كل منهما. وثلاث ساعات ثمان ، وهكذا. وأما قبول التوبة ، فلا يجب عندنا إذ لا وجوب على الله تعالى. وهل ثبت سمعا ووعدا؟.

قال إمام الحرمين : نعم ، بدليل ظني ، إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل. وعند المعتزلة يجب ، حتى قالوا : إن العقاب بعد التوبة ظلم. لكن بمقتضى الجود على رأي البغدادية ، وبمقتضى العدل والحكمة على رأي الجمهور. واحتجوا بأن العاصي قد بذل وسعه في التلافي ، فيسقط عقابه ، كمن بالغ في الاعتذار إلى من أساء إليه سقط ذمه بالضرورة ، وبأن التكليف باق ، وهو

__________________

(١) سورة النور آية رقم ٣١.

(٢) سورة التحريم آية رقم ٨.

تعريض للثواب. ولا يتصور إلا بسقوط العقاب ، فوجب أن يكون له مخلص (١) من العقاب ، وليس غير التوبة ، فوجب أن يكون مخلصا (٢) ، وأكثر المقدمات مزخرف بل ربما يدعي القطع بأن من أساء إلى غيره ، وانتهك حرماته ، ثم جاء معتذرا لا يجب في حكم العقل قبول اعتذاره ، بل الخيرة إلى ذلك الغير ، إن شاء صفح ، وإن شاء جازاه.

وأما احتجاجنا بالإجماع على الابتهال إلى الله تعالى في وجوب قبول التوبة ، وعلى وجوب شكره على ذلك ، فربما يدفع بأن المسئول هو استجماعها بشرائط القبول. فإن الأمر فيه خطير. ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحسانا في نفسه ، كتربية الوالد لولده ، يجب شكرها مع وجوبها. ثم اختلفوا في مسقط العقوبة. فعند أكثر المعتزلة بنفس التوبة ، وعند بعضهم بكثرة ثوابها ، إذ لو كان بنفس التوبة ، لسقط بتوبة لملجإ ، ويندم العاصي عند معاينة النار. ورد بمنع الندم في صورة الإلجاء ، وبمنع كونه للقبح في صورة المعاينة. واحتج الأكثرون بأنه لو كان بكثرة الثواب ، لما اختصت التوبة عن معصية معينة (٣) بسقوط عقابها دون أخرى ، لأن نسبة كثرة الثواب إلى الكل على السوية. ولما بقى فرق بين التوبة المتقدمة على المعصية والمتأخرة عنها في إسقاط عقابها ، كسائر الطاعات التي تسقط العقوبات بكثرة ثوابها. واللازم باطل للقطع بأن من تاب عن المعاصي كلها ، ثم شرب الخمر لا يسقط عنه عقاب الشرب (٤). وأما عندنا فهو بمحض عفو الله تعالى وكرمه وتوبته الصحيحة عبادة يثاب عليها تفضلا ، ولا تبطل بمعاودة الذنب ، ثم إذا تاب عنه ثانيا يكون عبادة أخرى.

فإن قيل : فعندكم حكم المؤمن المواظب (٥) على الطاعات ، المعصوم عن

__________________

(١) في (ب) منجى بدلا من (مخلص).

(٢) في (ب) منجيا بدلا من (مخلصا).

(٣) في (ب) بعينها بدلا من (معينة).

(٤) في (أ) بزيادة لفظ (الخمر).

(٥) في (ب) المؤدي بدلا من (المواظب).

المعاصي ، والمؤمن المصر على المعاصي طول عمرة ، من غير عبادة أصلا ، والمؤمن الجامع بين الطاعات والمعاصي من غير توبة ، والمؤمن التائب عن المعاصي واحد ، وهو التفويض إلى مشيئة الله تعالى من غير قطع بالثواب أو العقاب. فلا رجاء من الطاعة والتوبة ، ولا خوف من المعصية والإصرار. وهذه جهالة جاهلة ، ومكابرة تائهة.

قلنا : حكم الكل واحد في أنه لا يجب على الله تعالى في حقهم شيء. لكن يثيب المطيع والتائب البتة بمقتضى الوعد على تفاوت درجات. ويعاقب العاصي المصر بمقتضى الوعيد على اختلاف دركات. لكن مع احتمال العفو احتمالا مرجوحا ، فأين التساوي ، وانقطاع الخوف (١) والرجاء. نعم ، خوفنا لا ينهي إلى حد اليأس والقنوط ، إذ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.

ثم اختلفت المعتزلة في أنه إذا سقط استحقاق عقاب المعصية بالتوبة ، هل يعود استحقاق ثواب الطاعة الذي أبطله تلك المعصية؟ فقال أبو علي ، وأبو هاشم : لا ، لأن الطاعة تنعدم في الحال. وإنما يبقى استحقاق الثواب ، وقد سقط ، والساقط لا يعود.

وقال الكعبي : نعم ، لأن الكبيرة لا تزيل الطاعة ، وإنما تمنع حكمها ، وهو المدح والتعظيم ، فلا تزيل ثمرتها. فإذا صارت بالتوبة كأن لم تكن ، ظهرت ثمرة الطاعة كنور الشمس إذا زال الغيم.

وقال بعضهم ، وهو اختيار المتأخرين : لا يعود ثوابه السابق ، لكن تعود طاعته السالفة مؤثرة في استحقاق ثمراته ، وهو المدح. والثواب في المستقبل بمنزلة شجرة أحرقت النار أغصانها وثمارها ، ثم انطفأت النار ، فإنه يعود أصل الشجرة وعروقها إلى خضرتها وثمرتها.

__________________

(١) الخوف : لغة وعرفا : توقع حلول مكروه أو فوات محبوب وفي الاصطلاح الإشفاق من عذاب الله تعالى. وأما الرجاء فهو في اللغة : الأمل وفي العرف : تعلق القلب بحصول محبوب في المستقبل ، وفي الاصطلاح : الطمع في ثواب الله مع وجود الطاعة ، وكلاهما واجب على المكلف فلا يجوز خلو قلبه من أحدهما. قال تعالى : (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) وقال تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً). وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً).

قال : ولا يلزم تجديد الندم كلما ذكر.

(ولا يلزم تجديدها كلما ذكر الذنب خلافا للقاضي والجبائي ، ولا تعميمها).

المعصية ، لأنه قد أتى بما كلف به ، وخرج عن عهدته خلافا للقاضي منا ، وأبي علي من المعتزلة. وشبهتهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها ، لكان مشتهيا لها ، فرحا بها ، وذلك إبطال للندم (١) ، ورجوع إلى الإصرار.

والجواب المنع ، إذ ربما يضرب عنها صفحا من غير ندم عليها ، ولا اشتهاء لها ، وابتهاج بها. ولو كان الأمر كما ذكر ، لزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة.

وقال القاضي (٢) : إنه إن لم يجدد ندما ، كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها ، والتوبة الأولى مضت على صحتها ، إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها.

قال : ولا تعميمه لتصح

(للإجماع على صحة إسلام من أصر على بعض معاصيه. ولأن حقيقتها الرجوع والندم والعزم ، وقد وجدت.

وقال أبو هاشم : يجب أن يكون الندم لقبحها ، وهو شامل للكل ، ورد بأن الشامل للكل هو القبح ، لا قبحها).

المذهب أنه تصح التوبة عن بعض المعاصي مع الإصرار على بعض ، خلافا لأبي هاشم لنا الإجماع على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره ، مع استدامة بعض المعاصي ، صحت توبته وإسلامه ، ولم يعاقب إلا عقوبة تلك المعصية. وأيضا ليست التوبة عن تلك المعاصي إلا الرجوع عنها والندم عليها ،

__________________

(١) الندم : غم يصيب الإنسان ويتمنى أن ما وقع منه لم يقع ويقول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (الندم توبة).

(٢) هو محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر أبو بكر : قاض من كبار علماء الكلام توفي عام ٤٠٣ ه‍ راجع في ترجمته وفيات الأعيان ١ : ٤٨١ وقضاة الأندلس ٣٧ ـ ٤٠ وتاريخ بغداد ٥ : ٣٧٩ وفي دائرة المعارف الإسلامية ٣ : ٢٩٤ مزج علم الكلام بآراء جديدة أخذها عن الفلسفة اليونانية وله ترجمة واسعة كتبها بالتركية : ايزميرلي إسماعيل حقى في مجلة دار الفنون ، وله في ترتيب المدارك ترجمة واسعة.

والعزم على أن يعاودها ، وقد وجدت. وشبهة أبي هاشم الندم عليها يجب أن يكون لقبحها ، وهو شامل للمعاصي كلها ، فلا يتحقق الندم على قبيح مع الإصرار على قبيح.

وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح ، لا قبحها. والتحقيق على ما ذكره صاحب التجريد هو أن الدواعي إلى الندم عن القبائح ، وإن اشتركت في كون الندم على القبيح لقبحه. لكن يجوز أن تترجح بعض الدواعي بأمور تنضم إليه ، كعظم المعصية أو قلة غلبة الهوى فيها. فيبعثه ذلك الترجح على الندم عن هذا البعض خاصة دون البعض الآخر ، لانتفاء ترجيح الداعي بالنسبة إليه. ولا يلزم من ذلك أن يكون الندم على البعض الذي تحقق (١) منه الترجيح ، لا قبحه. إذ لا يخرج الداعي بالنسبة إليه ، ولا يلزم من ذلك أن يكون الندم على البعض الذي تحقق منه الترجيح ، لا قبحه. إذ لا يخرج الداعي بهذا الترجيح عن الاشتراك في كونه داعيا إلى الندم على القبيح لقبحه. وهذا كما في الدواعي إلى الفعل لحسنه ، قد يترجح البعض ، فيخصص بعض الأفعال الحسنة بالوقوع. ولا يلزم من ترك البعض الآخر كون إيقاع هذا (٢) البعض ، لا لحسنه ، بل لغرض. غاية ما في الباب أنه حصل للداعي إلى هذا الفعل لحسنه رجحان لم يحصل للداعي إلى الفعل الآخر. وهذا ما قال أصحابنا أنه كما يجوز الإتيان بواجب لحسنه مع ترك واجب آخر ، يجوز ترك قبيح لقبحه مع الإصرار على قبيح آخر.

قال : ويكفي في الإجماع.

(وإن علمت الذنوب مفصلة ، خلافا لبعض المعتزلة. قالوا : وفي حق الله تعالى قد يكفي الندم كما في الفرار عن الزحف ، وترك الأمر بالمعروف. وقد يفتقر إلى زائد كما في الشرب ، وترك الصلاة والزكاة في حق العبد ، لا بد من تسليم حق العبد أو بدله إن كان الذنب ظلما ، كالغصب (٣) والقتل ، ومن إرشاده إن كان إضلالا (٤) ، ومن الاعتذار إليه إن كان إيذاء كالغيبة. والتحقيق أن الزائد

__________________

(١) في (ب) ارتكبه بدلا من (تحقق منه).

(٢) سقط من (ب) لفظ (هذا).

(٣) في (أ) الغضب وهو تحريف.

(٤) في (ب) ضالا بدلا من (إضلالا).

واجب آخر. إلا أنه قد لا يصح الندم بدونه ، كرد المغصوب).

يعني يكفي التوبة عن المعاصي كلها الإجمال ، وإن علمت مفصلة لحصول الندم والعزم (١). وذهب بعض المعتزلة إلى أنه لا بد من الندم تفصيلا فيما علم مفصلا. ورد بأنه مكلف بالتوبة في كل وقت مع امتناع اجتماع الذنوب الكثيرة في وقت واحد. فلو لم يكف الإجمال ، لزم تكليف ما لا يطاق.

قالوا : ثم إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى كالواجب ، فقد يكفي الندم ، كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف. وقد يفتقر إلى أمر زائد ، كتسليم النفس للحد في الشرب ، وتسليم ما وجب في ترك الزكاة ، ومثله في ترك الصلاة. وإن تعلقت بحقوق العباد ، لزم مع الندم إيصال حق العبد (٢) ، أو بدله إليه إن كان الذنب ظلما ، كما في الغصب ، والقتل العمد. ولزم إرشاده إن كان الذنب إضلالا له. والاعتذار إليه إن كان إيذاء كما في الغيبة. ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش.

والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر خارج عن التوبة على ما قال إمام الحرمين أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص ، صحت توبته في حق الله تعالى ، وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تستدعي توبة. ولا يقدح في التوبة عن القتل. ثم قال: وربما لا يصح التوبة بدون الخروج من حق العبد ، كما في الغصب (٣) ، فإنه لا يصح الندم عليه مع إدامة اليد على المغصوب ، ففرق بين القتل والغصب.

قال : المبحث الخامس عشر

(المبحث الخامس عشر ـ قد أطبق الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. فالمراد بالمعروف الواجب ، والمنكر الحرام. وإلا فالأمر بالمندوب ، أو النهي عن المكروه ليس بواجب ، بل مندوب. وقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (٤).

__________________

(١) في (أ) لعزم بدلا من (العزم).

(٢) أي رد الحقوق لأصحابها كاملة غير منقوصة.

(٣) وهذا يكاد شبه اتفاق بين جميع الأئمة.

(٤) سورة المائدة آية رقم ١٠٥.

معناه : أصلحوا أنفسكم لأداء الواجبات ، وترك المعاصي وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر لا يضركم بعد النهي عنادهم وإصرارهم ، (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (١) منسوخ بآيات القتال ، ورخصة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في الترك إنما هي عند انتفاء الشرط ، وهو العلم بوجه المعروف والمنكر بتجويز التأثير وانتفاء المفسدة).

في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر. قد جرت عادة المتكلمين بإيرادهما في علم الكلام ، مع أنهما بالفروع أشبه ، وكأنهما يشبهان التوبة في الزجر عن ارتكاب المعصية ، والإخلال بالواجب. والمراد بالمعروف الواجب ، وبالمنكر الحرام ، ولهذا بتوا القول بأنهما واجبان مع القطع بأن الأمر بالمندوب ليس بواجب ، بل مندوب. والدليل على وجوبهما ، من غير توقف على ظهور الإمام كما يزعم الروافض ، الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢). وقوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣).

وأما السنة فلقوله (عليه‌السلام) : «مر بالمعروف ، وانه عن المنكر ، واصبر على ما أصابك» (٤).

وقوله (عليه‌السلام) : «لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم شراركم ، ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لكم».

وقوله (عليه‌السلام) : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع ، فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وهذا أضعف الإيمان».

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٥٦.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٠٤.

(٣) سورة لقمان آية رقم ١٧.

(٤) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند ٤ : ٢٩٩ وفيه زيادة «فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير».

وأما الإجماع فهو أن المسلمين في الصدر الأول وبعده كانوا يتواصون بذلك ، ويوبخون تاركه مع الاقتدار عليه. فإن استدل على نفي الواجب بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (١).

وقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (٢).

وبما روي عن عائشة (رضي الله عنها) أنها قالت : قلنا : يا رسول الله ، متى لا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؟ قال : «إذا كان البخل في خياركم ، وإذا كان الحكم في رذالكم ، وإذا كان الادهان في كباركم ، وإذا كان الملك في صغاركم» (٣).

أجيب بأن المعنى : أصلحوا أنفسكم بأداء الواجبات وترك المعاصي ، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يضركم بعد النهي عنادهم وإصرارهم على المعصية أو لا يضر المهتدي إذا نهى ضلال الضال. وقوله : (لا إِكْراهَ) منسوخ بآيات القتال. على أنه ربما يناقش في كون الأمر والنهي إكراها. وأما الحديث فلا يدل إلا على نفي الوجوب عند فوات الشرط بلزوم المفسدة وانتفاء الفائدة. فإن من شرائط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علم الفاعل بوجههما من أنه واجب معين ، أو مخير مضيق ، أو موسع. عين أو كفاية. وكذا في المنفى.

وبالجملة العلم بما يختلف باختلافه حال الأمر والنهي ليقعا على ما ينبغي. ومنها تجويز التأثير بأن لا يعلم عدم التأثير قطعا لئلا يكون عبثا واشتغالا بما لا يعني.

فإن قيل : يجب ـ وإن لم يؤثر ـ إعزازا للدين.

قلنا : ربما تكون ذلك إذلالا. ومنها انتفاء مضرة ومفسدة أكثر من ذلك المنكر أو مثله. وهذا في حق الوجوب ، دون الجواز. حتى قالوا : يجوز وإن ظن أنه يقتل ولا ينكى نكاية بضرب ونحوه ، لكن يرخص له السكوت. بخلاف

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ١٧٥.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٢٥٦.

(٣) لم نعثر على هذا الحديث في كتاب الصحاح والله أعلم

من يحمل وحده على المشركين ، ويظن أنه يقتل فإنه إنما يجوز إذا غلب على ظنه أنه ينكى فيهم بقتل أو جرح أو هزيمة.

قال : ولا يختص بالولاة.

(ولا يختص بالولاة إلا إذا انتهى إلى القتل ، ولا بأهل الاجتهاد إلا إذا كان مدركه الاجتهاد. ولا بمن لا يرتكب مثله لأنهما واجبان متميزان. ويسقط بقيام البعض عن الباقين لأنه فرض كفاية. وإذا نصب واحد كالمحتسب تعين عليه. وهل يجوز للمجتهد الاعتراض على آخر في محل الخلاف وفيه خلاف).

كان المسلمون في الصدر الأول وبعده يأمرون الولاة بالمعروف ، وينهونهم عن المنكر من غير نكير من أحد ولا توقيف على إذن ، فعلم أنه لا يختص بالولاة ، بل يجوز لآحاد الرعية بالقول والفعل. لكن إذا انتهى الأمر إلى نصب القتال ، وشهر السلاح ، ربط بالسلطان ، حذرا عن الفتنة. كذا ذكر إمام الحرمين ، وقال : إن الحكم الشرعي إذا استوى في إدراكه الخاص والعام ففيه للعالم وغير العالم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا اختص مدركه بالاجتهاد ، فليس للعوام فيه أمر ونهي بل الأمر فيه موكول إلى أهل الاجتهاد ثم ليس لمجتهد أن يتعرض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موضع الخلاف. إذ كل مجتهد مصيب في الفروع عندنا.

ومن قال إن المصيب واحد ، فهو غير متعين عنده. وذكر في محيط الحنفية (١) أن للحنفي أن يحتسب على الشافعي في أكل الضبع. ومتروك التسمية عمدا. وللشافعي أن يحتسب على الحنفي في شرب المثلث ، والنكاح بلا ولي ، ثم لا يختص وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمن يكون ورعا لا يرتكب مثله. بل من رأى منكرا وهو يرتكب مثله فعليه أن ينهى عنه. لأن تركه للمنكر ونهيه عنه فرضان متميزان ، ليس لمن ترك أحدهما ترك الآخر ، ثم هو فرض كفاية إذا قام به في كل بقعة (٢) من فيه غناء ، سقط الفرض عن الباقين. وهذا لا ينافي القول بأنه فرض على الكل ، لأن المذهب أن فرض

__________________

(١) هم أصحاب الإمام النعمان ثابت التميمي بالولاء الكوفي أبو حنيفة إمام الحنفية المجتهد توفي عام ١٥٠ ه‍ راجع تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢٣ ـ ٤٢٣ وابن خلكان ٢ : ١٦٣ والنجوم الزاهرة ٢ : ١٢ والبداية والنهاية ١٠ : ١٠٧

(٢) في (ب) البعض بدلا من (بفعه).

الكفاية فرض على الكل ويسقط بفعل البعض. نعم ، إذا نصب لذلك أحد تعين عليه ، فيحتسب فيما يتعلق بحقوق الله تعالى من غير بحث وتجسس. وفيما يتعلق بحقوق العباد لا على وجه العموم كمطل المديون الموسر ، وتعدي الجار في جدار الجار ، يحتسب إذا استعداه صاحب الحق. وعلى العموم كتعطل شرب البلد. وانهدام سوره (١) وترك أهله رعاية أبناء السبيل المحتاجين مع عدم المال في بيت المال ، يحتسب ويأمر على الإطلاق ، وينكر على من يغير هيئات العبادات ، كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس ، وعلى من يزيد في الأذان ، وعلى من يتصدى للإفتاء أو التدريس أو الوعظ وهو ليس من أهله ، وعلى القضاة إذا حجبوا (٢) الخصوم ، أو قصروا في النظر في الخصومات ، وعلى أئمة المساجد المطروقة إذا طولوا في الصلاة. وبهذا يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقتصر على الواجب والحرام ، وينبغي أن يحتسب برفق وسكون ، متدرجا إلى الأغلظ فالأغلظ ، بحسب حال المنكر. ذكر في المحيط (٣) للحنفية أن من رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ، ولا ينازعه إن لج ، وفي الفخذ ينكر عليه بعنف ولا يضربه وإن لج ، وفي السوءة أدبه وإن لج قتله.

قال : الفصل الثالث في الأسماء والأحكام :

وفيه مباحث. هذه الترجمة شائعة في كلام المتقدمين ، ويعنون بالأسماء أسامي المكلفين في المدح ، مثل المؤمن ، والمسلم ، والمتقي ، والصالح ، وفي الذم مثل : الكافر ، والفاسق ، والمنافق. وبالأحكام ما لكل منها في الآخرة من الثواب والعقاب وكيفيتهما.

قال : المبحث الأول ـ الإيمان في اللغة : التصديق ، إفعال من الأمن للصيرورة أو التعدية.

(ويعدى بالباء واللام لملاحظة معنى الاعتراف والإذعان ، ولما أن مآله إلى أخذ الشيء صادقا ، والصدق مما يوصف به المتكلم ، والكلام والحكم تعلق بالشيء باعتبارات مختلفة مثل : آمنت بالله وبالملائكة ، وبالكتاب ، وبالرسول ، وباليوم

__________________

(١) في (ب) حوائطه بدلا من (سورة).

(٢) في (ب) منعوا بدلا من (حجبوا).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (كتاب).

الآخر ، وبالقدر. وأما في الشرع فإما أن يجعل لفعل القلب فقط ، او اللسان فقط ، أو كليهما وحدهما أو مع سائر الجوارح.

فعلى الأول هو اسم للتصديق (١) عند الأكثرين ، أعني تصديق النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فيما علم مجيئه به بالضرورة. وللمعرفة عند الشيعة ، وجهم (٢) ، والصالحي.

وعلى الثاني للإقرار بشرط المعرفة عند الرقاشي ، وبشرط التصديق عند القطان ، وبلا شرط عند الكرامية.

وعلى الثالث لمجموع التصديق والإقرار ، وعليه أكثر المحققين ، إلا أنه كثيرا ما يقع في عباراتهم مكان التصديق المعرفة أو العلم أو الاعتقاد.

وعلى الرابع للإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان ، والعمل بالأركان ، إما على أن يجعل تارك العمل خارجا عن الإيمان ، داخلا في الكفر ، وعليه الخوارج ، أو غير داخل فيه ، وعليه المعتزلة ، مختلفين في أن الأعمال فعل الواجبات ، وترك المحظورات ، أو مطلق فعل الطاعات. وإما على أن لا يجعل خارجا وعليه أكثر السلف. وهو المحكي عن مالك والشافعي ذهابا إلى أنه قد يطلق على ما هو الأساس في النجاة. وعلى الكامل المنجي بلا خلاف ، وإلا فانتفاء الشيء بانتفاء جزئه ضروري)

بحسب الأصل كأن المصدق صار ذا أمن من أن يكون مكذوبا ، أو جعل الغير آمنا من التكذيب والمخالفة. ويعدى بالباء لاعتبار معنى الإقرار والاعتراف ، كقوله تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) (٣).

وباللام لاعتبار معنى الإذعان والقبول كقوله تعالى حكاية : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ

__________________

(١) في (أ) اسم للصديق وهو تحريف.

(٢) هو جهم بن صفوان السمرقندي أبو محرز من موالي بني راسب رأس الجهمية قال الذهبي : الضال المبدع هلك في زمان صغار التابعين ، وقد زرع شرا عظيما ، كان يقضي في عسكر الحارث ابن سريج ، الخارج على الأمراء فقبض عليه نصر وأمر بقتله فقتل. راجع ميزان الاعتدال ١ : ١٩٧ والكامل لابن الأثير حوادث سنة ١٢٨ ولسان الميزان ٢ : ١٤٢.

(٣) سورة البقرة آية رقم ٢٨٥.

لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) (١).

ولما أنه في التحقيق عائد إلى أخذ الشيء صادقا ، والصدق مما يوصف به المتكلم ، والكلام والحكم يقع تعليقه بالشيء باعتبارات مختلفة مثل : آمنت بالله أي بأنه واحد متصف بما يليق ، منزه عما لا يليق ، وآمنت بالرسول ، أي بأنه مبعوث من الله تعالى ، صادق فيما جاء به. وآمنت بملائكته ، أي بأنهم عباده المكرمون ، المطيعون ، المعصومون ، لا يتصفون بذكورة ولا أنوثة ، ليسوا بنات الله ، ولا شركاءه وآمنت بكتبه وكلماته ، أي بأنها منزلة من عند الله ، صادقة فيما تتضمنه من الأحكام. وآمنت باليوم الآخر ، أي بأنه كائن البتة. وآمنت بالقدر ، أي بأن الخير والشر بتقدير الله ومشيئته ، ومرجع الكل إلى القبول والاعتراف. وأما في الشرع فاختلف الآراء في تحقيق الإيمان وفي كونه اسما لفعل القلب فقط ، أو فعل اللسان فقط ، أو لفعلهما جميعا ، وحدهما أو مع سائر الجوارح. وهذه طرق أربعة.

فعلى الأول قد يجعل اسما للتصديق. أعني تصديق النبي فيما علم مجيئه به بالضرورة. أي فيما اشتهر كونه مع الدين. بحيث يعلمه من غير افتقار إلى نظر واستدلال ، كوحدة الصانع ، ووجوب الصلاة ، وحرمة الخمر ، ونحو ذلك. ويكفي الإجمال فيما يلاحظ إجمالا. ويشترط التفصيل فيما يلاحظ تفصيلا ، حتى لو لم يصدق بوجوب الصلاة عند السؤال عنه. وبحرمة الخمر عند السؤال عنه كان كافرا. وهذا هو المشهور. وعليه الجمهور. وقد يجعل اسما للمعرفة. أعني معرفة ما ذكرناه ، ويتناول معرفة الله تعالى بوحدانيته ، وسائر ما يليق به ، وتنزهه عما لا يليق به ، وهو مذهب الشيعة (٢) ، وجهم بن صفوان ، وأبي الحسين الصالحي من القدرية. وقد يميل إليه الأشعري. وستعرف فرقا بين المعرفة والتصديق. ومن الناس من يكاد يقول

__________________

(١) سورة يوسف آية رقم ١٧.

(٢) الشيعة : هم الذين شايعوا عليا ـ رضي الله عنه على الخصوص ، وقالوا بإمامته وخلافته نصا ووصيه إما جليا وإما خفيا ، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقية من عنده ، وقالوا ليست الإمامة بقضية مصلحة بل قضية أصولية. راجع الملل والنحل ١ : ١٤٦

بأنه اسم لمعنى آخر ، غير المعرفة. والتصديق هو التسليم. إلا أنه يعود بالآخرة إلى التصديق على ما يراه أهل التحقيق.

وعلى الثاني ، وهو أن يجعل اسما لفعل اللسان. أعني الإقرار بحقية ما جاء به النبي (عليه‌السلام). وقد يشترط معه معرفة القلب ، حتى لا يكون الإقرار بدونها إيمانا. وإليه ذهب الرقاشي زاعما أن المعرفة ضرورية يوجد لا محالة. فلا يجعل من الإيمان لكونه اسما لفعل مكتسب ، لا ضروري. وقد يشترط التصديق. وإليه ذهب القطان ، (١) وصرح بأن الإقرار الخالي عن المعرفة والتصديق لا يكون إيمانا. وعند اقترانه بهما يكون الإيمان هو الإقرار فقط. وقد لا يشترط شيء منهما. وإليه ذهب الكرامية ، حتى إن من أضمر الكفر ، وأظهر الإيمان ، يكون مؤمنا ، إلا أنه يستحق الخلود في النار. ومن أضمر الإيمان ، وأظهر الكفر ، لا يكون مؤمنا. ومن أضمر الإيمان ، ولم يتفق منه الإظهار والإقرار ، لم يستحق الجنة. وإذا تحققت فليس لهؤلاء الفرق الثلاث كثير خلاف في المعنى وفيما يرجع إلى الأحكام.

وعلى الثالث ، وهو أن يكون اسما لفعل القلب واللسان ، فهو اسم للتصديق المذكور ، مع الاقرار. وعليه كثير من المحققين ، وهو المحكي عن أبي حنيفة (رحمه‌الله تعالى). وكثيرا ما يقع في عبارات النحارير من العلماء مكان التصديق ، تارة المعرفة ، وتارة العلم ، وتارة الاعتقاد. فعلى هذا من صدق بقلبه ، ولم يتفق له الإقرار باللسان في عمره مرة ، لا يكون مؤمنا عند الله تعالى ، ولا يستحق دخول الجنة ، ولا النجاة من الخلود في النار. بخلاف ما إذا جعل اسما للتصديق فقط. فإن الإقرار حينئذ شرط لإجراء الأحكام في الدنيا من الصلاة عليه ، وخلفه ، والدفن في مقابر المسلمين ، والمطالبة بالعشور والزكاة ، ونحو ذلك. ولا يخفى أن الإقرار بهذا الغرض لا

__________________

(١) هو يحيى بن سعيد بن فروخ القطان التميمي بوسعيد من حفاظ الحديث ثقة حجة من أقران مالك وشعبة من أهل البصرة كان يفتي بقول أبي حنيفة وأورد له البلخي سقطات ولم يعرف له تأليف إلا ما في كشف الظنون من أن له كتاب المغازي. قال أحمد بن حنبل : ما رأيت بعيني مثل يحيى القطان توفي عام ١٩٨ ه‍ راجع تذكرة الحفاظ ١ : ٢٧٤ وتهذيب التهذيب ١١ : ٢١٦ وتاريخ بغداد ١٤ : ١٣٥ وكشف الظنون ١٤٦ والعبر للذهبي ١ : ٣٢٧.

بد أن يكون على وجه الإعلان والإظهار على الإمام وغيره من أهل الإسلام. بخلاف ما إذا كان لإتمام الإيمان ، فإنه يكفي مجرد التكلم ، وإن لم يظهر على غيره. ثم الخلاف فيما إذا كان قادرا ، وترك التكلم ، لا على وجه الإباء. إذا العاجز كالأخرس مؤمن وفاقا. والمصر على عدم الإقرار مع المطالبة به كافر وفاقا لكون ذلك من أمارات عدم التصديق. ولهذا أطبقوا على كفر أبي طالب. (١) وإن كابرت الروافض غير متأملين في أنه كان أشهر أعمام النبي (عليه‌السلام) ، وأكثرهم اهتماما به ، وأوفرهم حرصا من النبي (عليه‌السلام) على إيمانه. فكيف اشتهر إيمان حمزة والعباس (رضي الله عنهما) ، وشاع على رءوس المنابر فيما بين الناس ، وورد في إيمانهما الأحاديث المشهورة ، وكثر منهما في الإسلام المساعي المشكورة دون أبي طالب.

وأما على الرابع ، وهو أن يكون الإيمان اسما لفعل القلب واللسان والجوارح على ما يقال إنه إقرار باللسان ، وتصديق بالجنان ، وعمل بالأركان. فقد يجعل تارك العمل خارجا عن الإيمان ، داخلا في الكفر ، وإليه ذهب الخوارج ، أو غير داخل فيه ، وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين ، وإليه ذهب المعتزلة ، إلا أنهم اختلفوا في الأعمال ، فعند أبي علي ، وأبي هاشم ، فعل الواجبات ، وترك المحظورات ، وعند أبي الهذيل ، وعبد الجبار ، فعل الطاعات واجبة كانت أو مندوبة ، إلا أن الخروج عن الإيمان ، وحرمان دخول الجنة بترك المندوب مما لا ينبغي أن يكون مذهبا لعاقل. وقد لا يجعل تارك العمل خارجا عن الإيمان ، بل يقطع بدخول الجنة ، وعدم خلوده في النار ، وهو مذهب أكثر السلف ، وجميع أئمة الحديث ، وكثير من المتكلمين ، والمحكى عن مالك والشافعي والأوزاعي (٢) ، وعليه إشكال ظاهر ، وهو أنه كيف لا ينتفي الشيء؟

__________________

(١) هو عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم من قريش أبو طالب والد علي ـ رضي الله عنه ، وعم النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وكافله ومربيه وناصره كان من أبطال بني هاشم ورؤسائهم ومن الخطباء العقلاء الأباة ، وله تجارة نشأ النبي في بيته وسافر معه إلى الشام في صباه ولما ظهر الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان أبو طالب له نعم المساعد والمعين لم يسلم واستمر على ذلك إلى أن توفي عام ٣ ق. ه.

(٢) هو عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي أبو عمرو إمام الديار الشامية في الفقه والزهد ، ـ

أعني الإيمان. مع انتفاء ركنه ، أعني الأعمال. وكيف يدخل الجنة من لم يتصف بما جعل اسما للإيمان؟ وجوابه أن الإيمان يطلق على ما هو الأصل والأساس في دخول الجنة ، وهو التصديق وحده ، أو مع الإقرار. وعلى ما هو الكامل المنجي بلا خلاف ، وهو التصديق مع الإقرار والعمل على ما أشير إليه بقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...) (١) إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).

وموضع الخلاف أن مطلق الاسم للأول أم الثاني؟ وذكر الإمام في وجه الضبط أن الإيمان إما أن يكون اسما لعمل القلب فقط ، وهو المعرفة عند الإمامية ، وجهم ، والتصديق عندنا ، وإما لعمل الجوارح. فإن كان هو القول ، فمذهب الكرامية. أو سائر الأعمال ، فمذهب المعتزلة. وإما مجموع عمل القلب والجوارح ، وهو مذهب السلف. وفيه اختلال من جهة ترك عمل القلب في مذهب الاعتزال ، وعدم التعرض لمذهب التصديق والإقرار.

فإن قيل : قد ذكرت من المذاهب ما يبلغ عشرة ونحن قاطعون بأن النبي (عليه‌السلام) ومن بعده كانوا يأمرون بأمر معلوم يمتثل من غير افتقار إلى بيان ، ولا استفسار إلا بحسب المتعلق. أعني ما يجب الإيمان به ، فكيف ذلك؟

قلنا : لا خفاء ولا خلاف في أنهم كانوا يأمرون بالتصديق وقبول الأحكام ، ويكتفون في حق الأحكام الدنيوية بما يدل على ذلك ، وهو الإقرار. إلا أنه وقع اختلاف واجتهاد في أن مناط الأحكام الأخروية مجرد هذا المعنى أم مع الإقرار ، أم كلاهما مع الأعمال. وفي أن ذلك مجرد معرفة واعتقاد أم أمر زائد على ذلك. وهذا لا بأس به.

__________________

ـ وأحد الكتاب المترسلين ، ولد في بعلبك ونشأ في البقاع وسكن بيروت وتوفي بها عام ١٥٧ ه‍ وعرض عليه القضاء فامتنع له كتاب السنن في الفقه والمسائل. وغير ذلك راجع ابن النديم ١ :

٢٢٧ ، والوفيات ١ : ٢٧٥ وتاريخ بيروت ١٥ ، وحلية الأولياء ٦ : ١٣٥.

(١) سورة الأنفال آية رقم ٢ ، ٤ وتكملة الآيات (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

قال ، لنا مقامات.

الأول ـ

(أنه فعل القلب لقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (١) (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢) (وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٣) (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤)

وفي الحديث : «اللهم ثبت قلبي على دينك» (٥) ، «ومن كان في قلبه مثقال ذرة من حبة من خردل من الإيمان» (٦). قالوا : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) (٧) وأيضا شاع الاكتفاء بالكلمتين.

قلنا : الثواب على المقول ، وهو المعنى ، أو على القول بدلالته عليه والاكتفاء إنما كان في حكم الدنيا ، وبه عصمة الدم والمال. ولذا قال : «أمرت أن أقاتل الناس ...» (٨) الحديث)

أن الإيمان فعل القلب دون مجرد فعل اللسان.

الثاني ـ أنه التصديق دون المعرفة والاعتقاد.

والثالث ـ أن الأعمال ليست داخلة فيه بحيث ينتفي هو بانتفائها.

__________________

(١) سورة المجادلة آية رقم ٢٢.

(٢) سورة النحل آية رقم ١٠٦.

(٣) سورة المائدة آية رقم ٤١.

(٤) سورة الحجرات آية رقم ١٤.

(٥) الحديث رواه الترمذي في القدر ٧ وابن ماجه في المقدمة ١٣ وأحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٤ ، ٨ ، ٣ : ١١٢ (حلبى).

(٦) الحديث عند الإمام البخاري في كتاب الإيمان ١٥ والرقاق ٣٥ ، ٥١ والفتن ١٣ ، والتوحيد ٣٤ ، ٣٦ ورواه الإمام مسلم في الإيمان ١٤٧ ـ ١٤٩ ، ١٨٥ ، ٢٣٠ ، ٣٠٢ ، ٣٠٤ والفتن ٥٢ والترمذي في الفتن ١٧ وابن ماجه في المقدمة ٩ والزهد ١٦ وابن حنبل في المسند ١ : ٢٨٢ ، ٢٩٦ ، ٣٩٩ (حلبى).

(٧) سورة المائدة آية رقم ٨٥.

(٨) سبق تخريج هذا الحديث.

أما المقام الأول فبيانه بنصوص تدل على ذلك حتى إن القول بكون الإيمان مجرد الإقرار يكاد يجري مجرى إنكار النصوص. قال الله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ)(١) (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) (٢) (الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) (٣) (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤) (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ)(٥).

وقال النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) : «اللهم ثبت قلبي على دينك ، ومن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان» (٦) الحديث.

وقد يستدل بوجهين :

أحدهما ـ أنه لو كان الإيمان هو القول لما كان المكلف مؤمنا حقيقة إلا حال التلفظ لانقضاء القول بعده ، بخلاف التصديق ، فإنه باق في القلب حتى حال النوم والغفلة إلى طرآن ضده ، الذي هو الكفر.

وأجيب بعد تسليم كون اسم الفاعل حقيقة في الحال ، دون الماضي بأن المؤمن من بحسب الشرع اسم لمن تكلم بما يدل التصديق إلى أن يطرأ ضده. وثانيهما أنا لو فرضنا عدم وضع لفظ التصديق لمعنى ، أو وضعه لمعنى آخر ، لم يكن المتلفظ به مؤمنا قطعا.

وأجيب بأنهم لا يعنون أن الإيمان هو التلفظ بهذه الحروف كيف ما كانت ، بل التلفظ بالكلام الدال على تصديق القلب أية ألفاظ كانت ، وأية حروف ، من غير أن يجعل التصديق جزءا منه. والحاصل أنه اسم للمقيد ، دون المجموع. تمسك المخالف بوجهين :

أحدهما ـ قوله تعالى : (فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا) (٧).

حيث رتب ثواب الجنة على القول.

__________________

(١) سورة المجادلة آية رقم ٢٢.

(٢) سورة النحل آية رقم ١٠٦.

(٣) سورة المائدة آية رقم ٤١.

(٤) سورة الحجرات آية رقم ١٤.

(٥) سورة الممتحنة آية رقم ١٠.

(٦) سبق تخريج هذا الحديث.

(٧) سورة المائدة آية رقم ٨٥.

قلنا : إن كانت «ما» موصولة فالقول بالتحقيق هو المعنى. وإن كانت مصدرية ، فالقول إن حمل على اللفظ ، فالثواب عليه لدلالته على وجود المعنى في النفس. وإن حمل على النفس ، فهو نفس التصديق. ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (١)

حيث رتب على القول الخالي عن تصديق القلب العقاب بالنار. والمخالف أيضا لا يخالف في ذلك. وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٢).

حيث نفى الإيمان عمن أقر باللسان دون القلب.

وثانيهما أن النبي (عليه‌السلام) ومن بعده كانوا يكتفون من كل أحد بمجرد الإقرار والتلفظ بكلمتي الشهادة ، حتى أن أسامة حين قتل من قال : «لا إله إلا الله» ذهابا إلى أنه لم يكن مصدقا بالقلب ، أنكر عليه النبي (عليه‌السلام) وقال : هلا شققت قلبه (٣)؟ وقال (عليه‌السلام) : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله. فإذا قالوا ذلك ، عصموا مني دماءهم وأموالهم» (٤).

قلنا : هذا في حق أحكام الدنيا ، وإنما النزاع في أحكام الآخرة. وإذا تأملت فحديث أسامة لنا ، لا علينا.

قال : المقام الثاني أن الإيمان

(في الشرع لم ينقل إلى غير معنى التصديق ، لأنه خلاف الأصل ، ولأن العرب كانوا يتمثلون من غير استفسار ولا توقف إلا فيما يجب الإيمان به. وقد بين بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان أن تؤمن بالله ...» (٥) الحديث. غاية الأمر أنه خص بالتصديق بأمور مخصوصة. ومعناه ما يعبر عنه بگرويدن وراست گوى داشتن ،

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٤٥.

(٢) سورة البقرة آية رقم ٨.

(٣) الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان ١٥٨ وأبو داود في الجهاد ٩٥ وابن ماجه في الفتن ١ وأحمد بن حنبل في المسند ٤ : ٤٣٩ ، ٥ : ٢٠٧ (حلبى).

(٤) سبق تخريج هذا الحديث.

(٥) سبق تخريج هذا الحديث.

ويقابله التكذيب ، وينافيه التردد ، وهو غير العلم والمعرفة ، لأن من الكفار من كان يعرف ولا يصدق. قال الله :

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (١) (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ) (٢) (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) (٣).

وبين الفرق بأن المقابل للتصديق الإنكار والتكذيب ، وللمعرفة النكر والجهالة. ولهذا قد يفسر بالتسليم ، وبالعكس. وبأن التصديق ربط القلب على ما علم من إخبار المخبر ، وهو كسبي اختياري ، ولهذا يؤمر به ويثاب عليه. والمعرفة ربما تحصل بلا كسب. ولقد زاد من قال : المعتبر في الإيمان التصديق الاختياري. ومعناه نسبة الصدق إلى المتكلم اختيارا. وبهذا يمتاز عما جعل في المنطق مقابلا للتصور فإنه قد يخلو عن الاختيار فلا يكون تصديقا في اللغة ، فلا يكون إيمانا في الشرع ، كيف والتصديق مأمور به ، فيكون فعلا اختياريا هو إيقاع النسبة اختيارا ، والعلم كيفية نفسانية أو انفعال).

في اللغة التصديق بشهادة النقل عن أئمة اللغة ودلالة موارد الاستعمال. ولم ينقل في الشرع إلى معنى آخر.

أما أولا ، فلأن النقل خلاف الأصل لا يصار إليه إلا بدليل.

وأما ثانيا ، فلأنه كثر في الكتاب والسنة خطاب العرب به. بل كان ذلك أول الواجبات وأساس المشروعات ، فامتثل من امتثل من غير استفسار ولا توقف إلى بيان. ولم يكن ذلك من الخطاب بما لا يفهم ، وإنما احتيج إلى بيان ما يجب الإيمان به ، فبين وفصل بعض التفصيل ، حيث قال النبي (عليه‌السلام) لمن سأله عن الإيمان : «الإيمان أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ...» (٤) الحديث.

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٤٦.

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٤٤.

(٣) سورة النمل آية رقم ١٤.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث.

فذكر لفظ تؤمن بالله تعويلا على ظهور معناه عندهم. ثم قال : هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم. ولو كان الإيمان غير التصديق ، لما كان هذا تعليما وإرشادا ، بل تلبسا وإضلالا. نعم ، لو قيل : إنه في اللغة لمطلق التصديق ، وقد نقل في الشرع إلى التصديق بأمور مخصوصة ، فلا نزاع. وإنما المقصود أنه تصديق بالأمور المخصوصة بالمعنى اللغوي ، وهو ما يعبر عنه بالفارسية بگرويدن وراست گوى داشتن. ويخالفه التكذيب ، وينافيه التوقف والتردد. ولهذا اختار العلماء في ألفاظ الإيمان گرويدم باور داشتم راست گوى داشتم بدل ، وأنه معنى واضح عند العقل لا يشتبه على العوام ، فضلا عن الخواص. والمذهب أنه غير العلم والمعرفة ، لأن من الكفار من كان يعرف الحق ولا يصدق به عنادا واستكبارا. قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (١).

وقال : (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) (٢).

وقال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٣)

وقال حكاية عن موسى (عليه‌السلام) لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) (٤)

فاحتيج إلى الفرق بين العلم بما جاء به النبي (عليه‌السلام) وهو معرفته ، وبين التصديق ليصح كون الأول حاصلا للمعاندين ، دون الثاني ، وكون الثاني إيمانا دون الأول. فاقتصر بعضهم على أن ضد التصديق هو الإنكار والتكذيب ، وضد المعرفة النكارة والجهالة. وإليه أشار الإمام الغزالي (٥) (رحمه‌الله) حيث فسر التصديق بالتسليم ، فإنه لا يكون مع الإنكار والاستكبار ، بخلاف العلم

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٤٦.

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٤٤.

(٣) سورة النمل آية رقم ١٤.

(٤) سورة الإسراء آية رقم ١٠٢.

(٥) سبق الترجمة له في كلمة وافية.

والمعرفة. وفصل بعضهم زيادة تفصيل ، وقال : التصديق عبارة عن ربط القلب بما علم من إخبار المخبر ، وهو أمر كسبي يثبت باخبار المصدق. ولهذا يؤمر ويثاب عليه ، بل يجعل رأس العبادات بخلاف المعرفة ، فإنها ربما يحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر ، وحققه بعض المتأخرين زيادة تحقيق ، فقال : المعتبر في الإيمان هو التصديق الاختياري. ومعناه نسبة الصدق إلى المتكلم اختيارا. وبهذا القيد يمتاز عن التصديق المنطقي المقابل للتصور. فإنه قد يخلو عن الاختيار. كما إذا ادعى النبي النبوة ، وأظهر المعجزة ، فوقع في القلب صدقه ضرورة من غير أن ينسب إليه اختيارا ، فانه لا يقال في اللغة إنه صدقه فلا يكون إيمانا شرعيا. كيف ، والتصديق مأمور به ، فيكون فعلا اختياريا زائدا على العلم لكونه كيفية نفسانية أو انفعالا وهو حصول المعنى في القلب ، والفعل القلبي ليس كذلك. بل هو إيقاع النسبة اختيارا الذي هو كلام النفس ، ويسمى عقد القلب. فالسوفسطائي عالم بوجود النهار ، وكذا بعض الكفار بنبوة النبي (عليه‌السلام) ، لكنهم ليسوا مصدقين لغة ، لأنهم لا يحكمون اختيارا ، بل ينكرون. وكلام هذا المحقق متردد يميل تارة إلى أن التصديق المعتبر في الإيمان نوع من التصديق المنطقي الذي هو أحد قسمي العلم لكونه مقيدا بالاختيار ، وكون التصديق العلمي أعم لا فرق بينهما إلا بلزوم الاختيار وعدمه ، وتارة إلى أنه ليس من جنس العلم أصلا لكونه فعلا اختياريا ، وكون العلم كيفية أو انفعالا. وعلى هذا الأخير أصر بعض المعتنين بتحقيق معنى الإيمان ، وجزم بأن التسليم الذي فسر به الإمام الغزالي التصديق ليس من جنس العلم ، بل أمر وراء معناه كردن دادن وگرويدن وحق داشتن مر آن را كه حق دانسته باشى. ويؤيده ما ذكر إمام الحرمين (١) أن التصديق على التحقيق كلام النفس ، لكن لا يثبت كلام النفس إلا مع العلم.

__________________

(١) هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن محمد الجويني أبو المعالي : ركن الدين الملقب بإمام الحرمين ، أعلم المتأخرين من أصحاب الشافعي ولد في جوين عام ٤١٩ وتوفي عام ٤٧٨ من كتبه غياث الأمم والتياث الظلم ، والعقيدة النظامية في الأركان الإسلامية ، والبرهان في أصول الفقه وغير ذلك كثير. راجع وفيات الأعيان ١ : ٣٨٧ والسبكى ٣ : ٢٤٩ وتبيين كذب المفتري ٢٧٨ ـ ٢٨٥

ونحن نقول : لا شك أن التصديق المعتبر في الإيمان هو ما يعبر عنه في الفارسية بگرويدن وباور كردن وراست گوى داشتن إذا أضيف إلى الحاكم ، وراست داشتن وحق داشتن إذا أضيف إلى الحكم. ولا يكفي مجرد العلم والمعرفة الخالي عن هذا المعني. لكن هاهنا مواضع نظر ومطارح فكر لا بد من التنبيه عليها ، ولا غنى من الإشارة إليها :

الأول ـ أنه ليس معنى كون المأمور به مقدورا. واختياريا أنه يلزم أن يكون البتة من مقولة الفعل التي ربما ينازع في كونها من الأعيان الخارجية دون الاعتبارات العقلية ، بل أن يصح تعلق قدرته به ، وحصوله بكسبه واختياره ، سواء كان في نفسه من الأوضاع والهيئات ، كالقيام والقعود ، أو الكيفيات كالعلم والنظر. (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (١) (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢). أو الانفعالات كالتسخين ، والتبرد ، والحركات ، والسكنات ، وغير ذلك ، كالصلاة. أو التروك كالصوم ، إلى غير ذلك. ومع هذا فالواجب المقدور المثاب عليه بحكم الشرع يكون نفس تلك الأمور ، لا مجرد إيقاعها. فكون الإيمان مأمورا به اختياريا ، مقدورا مثابا عليه ، لا ينافي كونه كيفية نفسانية يكتسبها المكلف بقدرته واختياره بتوفيق الله تعالى وهدايته على أنه لو لزم كون المأمور به هو الفعل بمعنى التأثير ، جاز أن يكون معنى الأمر بالإيمان الأمر بإيقاعه واكتسابه وتحصيله ، كما في سائر الواجبات.

الثاني ـ أن ابن سينا ، وهو القدرة في فن المنطق والثقة في تفسير ألفاظه وشرح معانيه صرح بأن التصديق المنطقي الذي قسم العلم إليه وإلى التصور هو بعينه اللغوي المعبر عنه في الفارسية «بگرويدن» المقابل للتكذيب ، قال في كتابه المسمى «بدانش نامه» «علائى دانش» «دو كونه است يكى دريافتن ودر رسيدن وآن را أبتازى قصور خوانند ودوم گرويدن وآن را به تازى تصديق خوانند». وهذا صريح بأن ثاني قسمي العلم هو المعنى الذي وضع بإزائه لفظ التصديق في لغة العرب ، «وگرويدن» في لغة الفرس ، ونفى لما عسى يذهب إليه معاند

__________________

(١) سورة محمد آية رقم ١٩.

(٢) سورة يونس آية رقم ١٠١.

من أن «گرويدن» في المنطق غيره في اللغة. وقال في الشفاء : التصديق في قولك البياض عرض هو أن يحصل في الذهن نسبة صورة هذا التأليف إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لها. والتكذيب يخالف ذلك. فلم يجعل التصديق حصول النسبة التامة في الذهن على ما يفهمه البعض ، بل حصول أن ينسب الذهن الثبوت أو الانتفاء الذي بين طرفي المؤلف إلى ما في نفس الأمر بالمطابقة. ومعناه نسبة الحكم إلى الصدق. أعني صادق «داشتن وگرويدن» وبينه بأنه ضد التكذيب الذي معناه النسبة إلى الكذب. أعني كاذب داشتن.

وبهذا يندفع ما يقال إن الحكم فعل اختياري هو الإيقاع أو الانتزاع ، فكيف يكون نفس التصديق أو جزؤه. والتصديق قسم من العلم الذي هو من مقولة الكيف أو الانفعال. ونعم ما قال من قال : الإسناد والإيقاع ، ونحو ذلك ، ألفاظ وعبارات. والتحقيق أنه ليس للنفس هاهنا تأثير وفعل. بل إذعان وقبول وإدراك أن النسبة واقعة ، أو ليست بواقعة. نعم ، حصول هذا التصديق قد يكون بالكسب. أي مباشرة الأسباب بالاختيار ، كإلقاء الذهن وصرف النظر ، وتوجيه الحواس ، وما أشبه ذلك. وقد يكون بدونه كمن وقع عليه الضوء فعلم أن الشمس طالعة. والمأمور به يجب أن يكون من الأول.

فإن قيل : فاليقين الحاصل بدون الإذعان والقبول ، بل مع الجحود والاستكبار ، كما للسوفسطائي ، ولبعض الكفار يكون من قبيل التصور دون التصديق. وهو ظاهر البطلان.

قلنا : نحن لا ندعي إلا كون التصديق المنطقي على ما يفسره رئيسهم ، لا على ما يفهمه كل نساج وحلاج ، هو التصديق اللغوي ، المقابل للتكذيب ، المعبر عنه «بگرويدن». وأنه لا يصح حينئذ بت القول وإطباق القوم على أن المعتبر في الإيمان هو اللغوي ، دون المنطقي. بل غايته أن يجب اشتراط أمور كالاختيار وترك الجحود والاستكبار. وأما أنه يلزم على قصد تقسيمه وتفسيره كون اليقين الخالي عن الإذعان والقبول تصورا أو خارجا عن التصور (١)

__________________

(١) التصور : حصول صورة الشيء في الذهن ، وقيل : هو إدراك الماهية من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات.

والتصديق ، فذلك بحث آخر. لكن الكلام في إمكان الإيقان بدل الإذعان ، وفي كون بعض الكفار موقنين بجميع ما جاء به النبي (عليه‌السلام) غير مصدقين ، وفي أن كفرهم ليس من جهة الإباء عن الإقرار باللسان والاستكبار عن امتثال الأوامر ، وقبول الأحكام ، والإصرار على التكذيب باللسان ، إلى غير ذلك من موجبات الكفر ، مع تصديق القلب لعدم الاعتداد به مع تلك الأمارات ، كما في إلقاء المصحف في القاذورات.

الثالث ـ أنّا لا نفهم من نسبة الصدق إلى المتكلم بالقلب سوى إذعانه وقبوله وإدراكه لهذا المعنى. أعني كون المتكلم صادقا من غير أن يتصور هناك فعل وتأثير من القلب. ونقطع بأن هذا كيفية للنفس قد تحصل بالكسب والاختيار ومباشرة الأسباب ، وقد تحصل بدونها. فغاية الأمر أن يشترط فيما اعتبر في الإيمان أن يكون تحصيله بالاختيار على ما هو قاعدة المأمور به. واما أن هذا فعل وتأثير من النفس ، لا كيفية لها ، وأن الاختيار معتبر في مفهوم التصديق اللغوي فممنوع ، بل معلوم الانتفاء قطعا. ولو كان الإيمان والتصديق من مقولة الفعل دون الكيف (١) لما صح الاتصاف به حقيقة إلا حال المباشرة والتحصيل ، كما لا يخفى على من يعرف معنى هذه المقولة.

الرابع ـ أنه وقع في كلام كثير من عظماء الملة ، وعلماء الأمة مكان لفظ التصديق لفظ المعرفة والاعتقاد فينبغي أن يحمل على العلم التصديق المعبر عنه بگرويدن ، ويقطع بأن التصديق من جنس العلوم والاعتقادات ، لكنه في الإيمان مشروط بقيود وخصوصيات كالتحصيل والاختيار ، وترك الجحود والاستكبار. ويدل على ذلك ما ذكره أمير المؤمنين (علي كرم الله وجهه) أن الإيمان معرفة ، والمعرفة تسليم ، والتسليم تصديق.

__________________

(١) الكيف : هيئة قارة في الشيء لا يقتضي قسمة ولا نسبة لذاته فقوله هيئة يشمل الأعراض كلها ، وقوله قارة في الشيء احتراز عن الهيئة الغير قارة كالحركة والزمان ، والفعل والانفعال ، وقوله لا يقتضي قسمة يخرج الكم ، وقوله ولا نسبة يخرج الأعم ، وقوله لذاته ليدخل فيه الكيفيات المقتضية للقسمة أو النسبة بواسطة اقتضاء محلها ذلك وهي أربعة أنواع : الأول الكيفيات المحسوسة إلخ راجع التعريفات للجرجاني ص ١٦٦.

فإن قيل : قد ذكر إمام الحرمين ، والإمام الرازي ، وغيرهما أن التصديق من جنس كلام النفس ، وكلام النفس غير العلم والإرادة.

قلنا : معناه أنه ليس بمتعين أن يكون علما أو إرادة ، بل كل ما يحصل في النفس من حيث يدل عليه بعبارة أو كتابة أو إشارة ، فهو كلام النفس ، سواء كان علما ، أو إرادة أو طلبا ، أو إخبارا ، أو استخبارا ، أو غير ذلك. وليس كلام النفس نوعا من المعاني مغايرا لما هو حاصل في النفس باتفاق الفرق ، وإلا كان إنكاره إنكارا للتصديق والطلب ، والإخبار ، والاستخبار ، وسائر ما يحصل في القلب. وليس كذلك ، بل إنكاره عائد إلى أن الكلام هو المسموع فقط دون هذه المعاني. فالقول بأن الإيمان كلام النفس لا يكفي في التقصي عن مطالبته أنه من أي نوع من أنواع الأغراض ، وأية مقولة من المقولات (١)؟ ولا محيص سوى تسليم أنه من الكيفيات النفسية الحاصلة بالاختيار ، الخالية عن الجحود والاستكبار. وليت شعري أنه إذا لم يكن من جنس العلوم والاعتقادات ، فما معنى تحصيله بالدليل ، أو التقليد؟ وهل يعقل بأن يكون ثمرة النظر والاستدلال غير العلم والاعتقاد ، وكلام كثير من ذوي التحصيل القائلين بالتصديق يدل على أنهم لا يعنون بالمعرفة التي لا تكفي في الإيمان معرفة حقية جميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة : لا يلزم من انعدام العلم انعدام التصديق. فإنا آمنا بالملائكة والكتب والرسل ، ولا نعرفهم بأعيانهم. والمعاندون يعرفون ولا يصدقون ، كما قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) (٢)

__________________

(١) المقولات : التي تقع فيها الحركة أربع : الأول الكم ووقوع الحركة فيه على أربعة أوجه : الأول : التخلخل ، والثاني التكاثف والثالث : النمو ، والرابع : الذبول ، الثانية من المقولات التي تقع فيها الحركة : الكيف ، الثالثة من تلك المقولات : الوضع كحركة الفلك على نفسه فإنه لا يخرج بهذه الحركة من مكان إلى مكان لتكون حركته أينية ولكن يتبدل بها وضعه ، الرابع من تلك المقولات الأين وهو النقلة التي يسميها المتكلم حركة وباقي المقولات لا تقع فيها حركة والمقولات عشرة قد ضبطها هذا البيت.

قمر غزير الحسن ألطف مصره

لو قام يكشف غمتى لما انثنى

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٤٦.

فدل على انفكاك التصديق عن العلم ، والعلم عن التصديق. ولهذا لم يجعل الإيمان معرفة على ما ذهب إليه جهم بن صفوان.

الخامس ـ أن ما ذكر من اعتبار الاختيار في نفس التصديق اللغوي ، وكون الحاصل بلا كسب واختيار ، ليس بإيمان يدل على أن تصديق الملائكة بما ألقي عليهم ، والأنبياء بما أوحي إليهم ، والمصدقين بما سمعوا من النبي (عليه‌السلام) كله مكتسب بالاختيار. وأن من حصل له هذا المعنى بلا كسب كمن شاهد المعجزة فوقع في قلبه صدق النبي (عليه‌السلام) فهو مكلف بتحصيل ذلك اختيارا ، بل صرح هذا القائل بأن العلم بالنبوة الحاصل من المعجزات حدسي ربما يقع في القلب من غير اختيار ولا ينضم إليه التصديق الاختياري المأمور به ، وكل هذا موضع تأمل.

فإن قيل : لا شك أن المقصود بالتصديق والتسليم واحد ، والتصريح بذلك من أكابر الصحابة وعلماء الأمة وارد. وفي قوله تعالى :

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١).

عليه شاهد ، وإن أمكنت مناقشته. وبقوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً)(٢).

مجادلة. ففي اتحاد المفهوم لا غير. فما بال أقوام شددوا النكير ، أو أكثروا المدافعة على من قال بذلك من المتأخرين ونسبوه إلى اختراع مذهب في الإسلام ، وزيادة ركن في الإيمان.

قلنا : لأنه كان يزعم أولا أن التسليم أمر زائد على التصديق الذي اعتبره العلماء لم ينكشف على من قبله من الأذكياء ، واعترف بأنه إنما اطلع عليه بعد حين من الدهر وصدر من العمر. مع أن السلف قد صرحوا بأن المراد به ما يعبر عنه في الفارسية بگرويدن وباور داشتن وبذيرفتن وراست كوي داشتن. وأنه لا يكفي

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ١٦٥.

(٢) سورة الأحزاب آية رقم ٢٢.

مجرد المعرفة لحصولها لبعض الكفار على ما تلونا من الآيات ، فكاد يفضي ذلك إلى نسبة نفسه مدة من الزمان ، وكثير من السلف إلى الجهل بحقيقة الإيمان وإلى الإصرار على أنه لا بد من أمر وراء التصديق والإقرار. ولأنه اتخذ لفظ التصديق مهجورا مع كونه في بين الأنام مشهورا وعلى وجه الأيام مذكورا. وبنى الأمر كله على لفظ التسليم بحيث اعتقد كثير من العوام بل الخواص أنهما معنيان مختلفان قد يجتمعان وقد يفترقان ، لاحظ لأهل التصديق دون التسليم من الإيمان ، وربما يرى الواحد من غلاة الفريقين وجهلة القبيلين يشمئز من أحد اللفظين ، ولا يكتفي بأن يكون التصديق والتسليم مذهبين ، ولأنه اعتبر في التسليم تحقيقات وتدقيقات لم تخطر ببال الكثير من المسلمين ، بل لا يفهمها إلا الأذكياء من أئمة الدين ، فاتخذها جهلة العوام ذريعة إلى تكفير الناس ، وتجهيل الخواص ، حتى استفتوه في شأن بعض رؤساء الدين وعلماء المسلمين ، والمهرة من المحققين فأفتى بكفره بناء على أنه أنكر بعض ما أورده هو في تحقيق الإيمان ، مع أنك إذا تحققت فبعض منازعاتهما لفظي وبعضها اجتهادي ، إلى غير ذلك من أمور قصد بها صلاح الدين ، وقمع الجاحدين ، لكنها أدت إلى ما أدت وأفضت إلى ما أفضت لما أنه ترك الأرفق إلى الأوفق ، والأليق إلى الأوثق ، ولا عليه ، فإنه قد بذل الجهد في إحياء مراسم الدين وإعلاء لواء المسلمين ، جزاه الله خير الجزاء عن أهل اليقين وأعلى درجته يوم اللقاء في عليين.

قال : المقام الثالث ـ

(إن الأعمال غير داخلة في حقيقة الإيمان لما ثبت أنه اسم للتصديق ، ولا نقل ، وأنه لا ينفع عند معاينة العذاب ، ولا عمل ، وأن المؤمن قد يؤمر وينهى مثل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) (٢)

وللنصوص الدالة على أنهما أمران متغايران مثل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٨٣.

(٢) سورة الحجرات آية رقم ١ وتكملة الآية (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ..

الصَّالِحاتِ) (١)

وقد يتفارقان مثل : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٢) .. الآية.

وللإجماع على أن الإيمان شرط العبادة ، وعلى أن من صدق وأقر فمات قبل أن يعمل بمؤمن ، وقالت المعتزلة : نحن لا ننكر إطلاق الإيمان على التصديق بالأمور المخصوصة ، لكنا ندعي نقله إلى الأعمال بوجوه :

الأول ـ أنها الدين ، لقوله تعالى : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (٣)

إشارة إلى المذكور من إقامة الصلاة ، وغيرها. والدين المعتبر هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٤)

والإسلام هو الإيمان لما سيجيء.

وأجيب بأنه يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى الإخلاص أو التدين والانقياد ، وأن يراد أن الدين المعتبر عند الله دين الإسلام ، وسنتكلم على كون الإسلام هو الإيمان.

الثاني ـ (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (٥)

قلنا : أريد الكامل.

الثالث ـ (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٦) أي صلاتكم إلى بيت المقدس.

قلنا : مجاز ، والمراد تصديقكم بوجوبها.

__________________

(١) سورة الرعد آية رقم ٢٩ وتكملة الآية (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).

(٢) سورة الحجرات آية رقم ١٠ وبعدها (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

(٣) سورة التوبة آية رقم ٣٦ وبعدها (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

(٤) سورة آل عمران آية رقم ١٩.

(٥) سورة الأنفال آية رقم ٢.

(٦) سورة البقرة آية رقم ١٤٣.

الرابع ـ قاطع الطريق يخزى ، لأنه يدخل النار لقوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) (١) وكل من يدخل النار يخزى ، لقوله تعالى حكاية : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٢)

والمؤمن لا يخزى لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٣)

وأجيب بمنع الكبرى ، فإن الذين آمنوا معه هم الصحابة.

الخامس ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق وهو مؤمن» (٤) قلنا : تغليظ.

السادس ـ لو كان مجرد التصديق لما كفر بشيء من الأفعال والأقوال.

قلنا : يجوز أن يجعل الشارع بعض المعاصي إمارة التكذيب كسجدة الصنم.

السابع ـ قد يثبت التصديق مع نفي الإيمان الشرعي (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٥) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ ..) (٦) الآية.

قلنا : لأن الأول تصديق بالله وحده. والثاني باللسان فقط.

الثامن ـ الإيمان ينبئ عن استحقاق غاية المدح على ما يشعر به قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٧) فينافي استحقاق الذم الكبير.

قلنا : العاصي يستحق كلا من وجه ، وإنما غاية المدح لكامل الإيمان).

الأعمال غير داخلة في حقيقة الإيمان لوجوه :

__________________

(١) سورة الحشر آية رقم ٢.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٩٢.

(٣) سورة التحريم آية رقم ٨.

(٤) الحديث رواه ابن ماجه في كتاب الفتنة ٣ باب النهي عن النهبة ٣٩٤٦ ـ حدثنا عيسى بن حماد أنبأنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : وذكره.

(٥) سورة يوسف آية رقم ١٠٦.

(٦) سورة البقرة آية رقم ٨.

(٧) سورة الصافات آية رقم ٨١ ، ١١١ ، ١٣٢

الأول ـ ما مر أنه اسم للتصديق ، ولا دليل على النقل.

الثاني ـ النص والإجماع على أنه لا ينفع عند معاينة العذاب ، ويسمى إيمان اليأس ، ولا خفاء في أن ذلك إنما هو التصديق والإقرار ، إذ لا مجال للأعمال.

الثالث ـ النصوص الدالة على الأوامر والنواهي بعد إثبات الإيمان كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) (١).

الرابع ـ النصوص الدالة على أن الإيمان والأعمال أمران متفارقان ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٢) (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً) (٣) (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ) (٤) (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (٥)

وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أفضل الأعمال فقال : إيمان لا شك فيه ، وجهاد لا غلول فيه ، وحج مبرور (٦).

والخامس ـ الآيات الدالة على أن الإيمان والمعاصي قد يجتمعان ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) (٧) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) (٨) (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ..) (٩) الآية (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) (١٠).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٨٣.

(٢) سورة الرعد آية رقم ٢٩ وتكملة الآية (طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ).

(٣) سورة التغابن آية رقم ٩.

(٤) سورة طه آية رقم ٧٥.

(٥) سورة طه آية رقم ١١٢.

(٦) الحديث عند الإمام أحمد في المسند ٢ : ٢٥٨ بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه وفي نهايته قال أبو هريرة ـ حج مبرور يكفر خطايا تلك السنة. وعند النسائي في الزكاة ٤٩ وإيمان ١ وعند الدارمي في الصلاة ١٣٥.

(٧) سورة الأنعام آية رقم ٨٢.

(٨) سورة الأنفال آية رقم ٧٢.

(٩) سورة الحجرات آية رقم ٩.

(١٠) سورة الأنفال آية رقم ٥.

السابع ـ أنه لو كان اسما للطاعات ، فإما للجميع فيلزم انتفاؤه بانتفاء بعض الأعمال ، فلم يكن من صدق وأقر مؤمنا قبل الإتيان بالعبادات. والإجماع على خلافه. وعلى أن من صدق وأقر فأدركه الموت ، مات مؤمنا. قال في التبصرة : قد أجمع المسلمون على تحقق اسم الإيمان وإثبات حكمه بمجرد الاعتقاد. وإما لكل عمل على حدة فتكون كل طاعة إيمانا على حدة. والمنتقل من طاعة إلى طاعة منتقلا من دين إلى دين.

الثامن ـ أن جبرائيل (عليه‌السلام) لما سأل النبي (عليه‌السلام) عن الإيمان ، لم يجب إلا بالتصديق دون الأعمال ، وقالت المعتزلة : نحن لا ننكر استعمال الإيمان في الشرع في معناه اللغوي ، أعني التصديق لكنا ندعي نقله عن ذلك إلى معنى شرعي هو فعل الطاعات ، وترك المعاصي لأن المفهوم من إطلاق المؤمن في الشرع ليس هو المصدق فقط. ولأن الأحكام المجراة على المؤمنين دون الكفرة ليست منوطة بمجرد المعنى اللغوي. ورد بأنا لا ندعي كونه اسما لكل تصديق بل للتصديق بأمور مخصوصة كما في الحديث المشهور. فإن أريد بالنقل عن المعنى اللغوي مجرد هذا فلا نزاع ، ولا دلالة على ما يزعمون من كونه اسما للطاعات. فاحتجوا بوجوه :

الأول ـ أن فعل الواجبات هو الدين المعتبر لقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (١) أي ذلك المذكور من إقامة الصلاة وغيرها هو الدين المعتبر. والدين المعتبر هو الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (٢)

والإسلام هو الإيمان لما سيجيء.

وأجيب أولا بأن ذلك مفرد مذكر ، وجعله إشارة إلى جملة ما سبق تأويل ، ليس أولى وأقرب من جعله إشارة إلى الإخلاص أو التدين والانقياد ، ولما سبق من الأوامر ،

__________________

(١) سورة البينة آية رقم ٥ وصدر الآية (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ).

(٢) سورة آل عمران آية رقم ١٩.

بل ربما يكون هذا أولى لبقاء اللفظ على معناه اللغوي أو قريبا منه. ألا ترى أن قوله تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً ..) إلى قوله (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١).

معناه أن التدين بكون الشهور اثنا عشر ، أربعة منها حرم ، والانقياد لذلك هو الدين المستقيم ، على أن هاهنا شيئا آخر ، وهو أن الدين في تلك الآية مضاف إلى القيمة ، لا موصوف كما في هذه الآية. والمعنى دين الملة القيمة ، فلا يكون معناه الملة والطريقة ، بل الطاعة كما في قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (٢)

وحينئذ سقط الاستدلال بالكلية.

وثانيا ـ بأن معنى الآية الثانية أن الدين المعتبر هو دين الإسلام للقطع بأن الدين وهو الملة والطريقة التي تعتبر غالبا إضافتها إلى الرسول لا تكون نفس الإسلام الذي هو صفة المكلف.

وثالثا ـ بما سيجيء من الكلام على دليل اتحاد الإيمان والإسلام.

الثاني ـ قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ..)

إلى قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (٣)

وقوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ..) (٤) الآية.

وأجيب بأن المراد كمال الإيمان جمعا بين الأدلة.

الثالث ـ قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٥)

أي صلاتكم إلى بيت المقدس.

__________________

(١) سورة التوبة آية رقم ٣٦ وتكملة الآية (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

(٢) سورة الأنفال آية رقم ٢.

(٣) سورة الأنفال آية رقم ٤. وتكملة الآية (لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

(٤) سورة الحجرات آية رقم ١٥.

(٥) سورة البقرة آية رقم ١٤٣.

وأجيب بأن المعنى تصديقكم بوجوبها ، أو بكونها جائزة عند التوجه إلى بيت المقدس ، أو هو مجاز لظهور العلاقة ، وهو كون الصلاة من شعب الإيمان وثمراته ، ومشروطة به ، ودالّة عليه. على ما قال النبي (عليه‌السلام) : «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» (١).

الرابع ـ أن كل قاطع الطريق يخزى يوم القيامة لأنه يدخل النار بدليل قوله تعالى : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) (٢)

وكل من يدخل النار يخزى ، بدليل قوله تعالى حكاية وتقريرا : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) (٣)

ولا شيء من المؤمن يخزى يوم القيامة ، لقوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) (٤)

وأجيب بمنع الكبرى ، فإن المراد بالذين آمنوا معه الصحابة ، لا كل مؤمن ، ولا يصح لهم التمسك بقوله تعالى : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٥)

لأن القاطع ليس بكافر.

فإن قيل : هب أن ليس في الذين آمنوا معه قاطع طريق ، لكن لا شك أن فيهم العاصي والباغي ، وبهذا يتم الاستدلال.

قلنا : إنما يتم لو ثبت بالدليل أنه لا يعفى عنه ، ولا يثاب عليه ، بل يدخل النار البتة ، وأن الآيات الثلاث مجراة على العموم.

الخامس ـ قوله (عليه‌السلام) : «لا يزني الزاني وهو مؤمن ، ولا يسرق

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٢) سورة الحشر آية رقم ٣.

(٣) سورة آل عمران آية رقم ١٩٢.

(٤) سورة التحريم آية رقم ٨.

(٥) سورة النحل آية رقم ٢٧.

السارق وهو مؤمن» (١) «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا إيمان لمن لا عهد له» (٢).

وأجيب بأنه على قصد التغليظ والمبالغة في الوعيد كقوله تعالى في تارك الحج : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٣)

والمعارضة بمثل قوله (عليه‌السلام) : «وإن زنى ، أو سرق ..» حتى قال : «وإن رغم أنف أبي ذر».

السادس ـ لو كان الإيمان هو التصديق لكان كل مصدق بشيء مؤمنا. وعلى تقدير التقييد بالأمور المخصوصة لزم أن لا يكون بغض النبي (عليه‌السلام) وإلقاء المصحف في القاذورات ، وسجدة الصنم ، ونحو ذلك كفرا ما دام تصديق القلب ، بجميع ما جاء به النبي (عليه‌السلام) باقيا. واللازم منتف قطعا.

وأجيب بأن من المعاصي ما جعله الشارع أمارة عدم التصديق تنصيصا عليه ، أو على دليله. والأمور المذكورة من هذا القبيل ، بخلاف مثل الزنا وشرب الخمر من غير استحلال

السابع ـ أن الإيمان بمعنى التصديق يجامع الشرك ، ونفي الإيمان الشرعي بقوله تعالى: (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (٤)

وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ، وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (٥) وأجيب بأن الأول تصديق بالله وحده. وهو غير كاف بالاتفاق. والثاني تصديق باللسان فقط ، وهو محض النفاق.

الثامن ـ ان اسم المؤمن ينبئ عن استحقاق غاية المدح والتعظيم وكفاك قوله تعالى في آخر قصة بعض الأنبياء : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (٦) ومرتكب الكبيرة

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث.

(٢) الحديث رواه الإمام أحمد بن حنبل في كتابه المسند ٣ : ١٣٥ (حلبى).

(٣) سورة آل عمران آية رقم ٩٧.

(٤) سورة يوسف آية رقم ١٠٦.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٨.

(٦) سورة الصافات الآيات رقم ٨١ ، ١١١ ، ١٣٢.

إنما يستحق الذم والعذاب الأليم فلا يستحق اسم المؤمن على الإطلاق.

وأجيب بأنه يستحق المدح من جهة التصديق الذي هو رأس الطاعات ، والذم من حيث الإخلال بالأعمال ، ولا منافاة. وما يقع في معرض المدح على الإطلاق يحمل كل كمال الإيمان ، على ما هو مذهب السلف.

قال : خاتمة ـ

(صاحب الكبيرة عندنا مؤمن ، وعند المعتزلة لا مؤمن ، ولا كافر ، وعند الخوارج كافر وعند الحسن البصري منافق ، ومن شبه المعتزلة أن هذا أخذ بالمتفق عليه وهو الفسق ، وترك للمختلف فيه ، وهو الإيمان والكفر. وفساده ظاهر.

ومنها أن له بعض أحكام المؤمن كعصمة الدم والمال ، وبعض أحكام الكافر كالذم وسلب أهلية الإمامة والقضاء والشهادة ، فله منزلة بين المنزلتين ، واسم بين الاسمين.

قلنا : ذاك ليس أحكام الكفر خاصة ، وما قيل : إنه ليس بمؤمن ، بمعنى استحقاق غاية المدح والتعظيم ، رجوع عن المذهب ، وللخوارج النصوص الناطقة بكفر العصاة ، وبانحصار العذاب على الكفار ، مع أن الفاسق معذب ، وبأن الفاسق مكذب بالقيامة ، وبآيات الله ، وبأن مقابل المنفي كافر ، مثل قوله تعالى :

(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١) (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٢)

ومثل : (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٣) (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٤)

ومثل : (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ ..) إلى قوله : (كُنْتُمْ بِهِ

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٤٤.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ٩٧.

(٣) سورة طه آية رقم ٤٨.

(٤) سورة الليل آية رقم ١٥ ، ١٦.

تُكَذِّبُونَ) (١) (بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) (٢).

ومثل : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ...) (٣) إلى قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا) (٤).

والجواب الدفع بالتخصيص ، وبالحمل على التغليظ ، وبصرف المطلق ، إلى الكمال ، ونحو ذلك. وللقائلين بكونه منافقا بأن عصيانه دليل على كذبه في دعوى التصديق ، وبأن النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) جعل الكذب والخيانة وإخلاف الوعد من علامات النفاق.

وأجيب بمنع الأول ، وحمل الثاني على تهويل شأن تلك المعاصي.)

كما اختلفت الأمة في حكم صاحب الكبيرة ، فكذلك في اسمه ، بعد الاتفاق على تسميته فاسقا ، فعندنا مؤمن ، وعند المعتزلة لا مؤمن ، ولا كافر ، ويسمون ذلك المنزلة بين المنزلتين ، وعند الخوارج كافر. وعند الحسن البصري (٥) منافق ، وقد فرغنا من إقامة الأدلة ، ودفع شبه المعتزلة المبنية على كون الأعمال من الإيمان ، فالآن نشير إلى دفع باقي شبههم ، وشبه الخوارج ، ومن يسميه بالمنافق ، فمن شبه المعتزلة ما احتج به واصل بن عطاء على عمرو بن عبيد (٦) ، حتى رجع إلى مذهبه وهو أنه اجتمعت الأمة على أن صاحب الكبيرة فاسق. واختلفوا في كونه مؤمنا أو كافرا ، فوجب ترك المختلف ، والأخذ بالمتفق عليه.

والجواب أن هذا ترك للمتفق عليه ، وهو أنه إما مؤمن أو كافر ، ولا وساطه

__________________

(١) سورة السجدة آية ٢٠.

(٢) سورة البلد آية رقم ١٩.

(٣) سورة الزمر آية رقم ٧١.

(٤) سورة الزمر آية رقم ٧٣.

(٥) سبق الترجمة له في الجزء الأول في كلمة وافية.

(٦) هو عمرو بن عبيد بن باب التيمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة في عصره ، ومفتيها وأحد الزهاد المشهورين كان جده من سبى فارس ، وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة ، واشتهر عمر بعلمه وزهده وأخباره مع المنصور العباسي وغيره ، وفيه قال المنصور : كلكم طالب صيد.

غير عمر بن عبيد له رسائل وخطب كثيرة وكتب منها التفسير ، والرد على القدرية توفي بمران قرب مكة عام ١٤٤ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٣٨٤ والبداية والنهاية ١٠ : ٧٨ وميزان الاعتدال ٢ : ٢٩٤.

بينهما ، وأخذ بما لم يقل به أحد فضلا عن الاتفاق.

ومنها أن للفاسق بعض أحكام المؤمن المطلق كعصمة الدم والمال والإرث من المسلم ، والمناكحة ، والغسل ، والصلاة عليه ، والدفن في مقابر المسلمين. وبعض أحكام الكافر كالذم واللعن ، وعدم أهلية الإمامة ، والقضاء والشهادة. فيكون له منزلة بين المنزلتين فلا يكون مؤمنا ولا كافرا.

والجواب أن هذا إنما يتم لو كان ما جعلتموه أحكام الكافر خواصه التي لا تتجاوزه إلى المؤمن أصلا ، كما في أحكام المؤمن ، وهذا نفس المتنازع. فإنها عندنا تهم الكافر وبعض المؤمنين ، وفي كلام المتأخرين من المعتزلة ما يرفع النزاع ، وذلك أنهم لا ينكرون وصف الفاسق بالإيمان بمعنى التصديق أو بمعنى إجراء الأحكام ، بل بمعنى استحقاق غاية المدح والتعظيم ، وهو الذي نسميه الإيمان الكامل ، ونعتبر فيه الأعمال ، وننفيه عن الفساق ، فيكون لهم منزلة بين منزلة هذا النوع من الإيمان وبين منزلة الكفر بالاتفاق ، وكأنه رجوع عن المذهب وإعراض ، كما يقال في نفي الصفات : أنا نريد ما هو من قبيل الإعراض ، وإلا فقد ماؤهم. يصرحون بأن من أخل بالطاعة ليس بمؤمن بحسب الشرع ، بل بمجرد اللغة ، وبأن القول بتعدد القديم كفر من غير فرق بين العرض وغيره.

وأما الخوارج فمذهب جمهورهم إلى أن كل معصية كفر. ومنهم من فرق بين الصغيرة والكبيرة ، وتمسكوا بوجوه :

الأول ـ النصوص الناطقة بكفر العصاة كقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (١)

وقوله تعالى في تارك الحج : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٢)

وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٣)

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٤٤.

(٢) سورة آل عمران آية رقم ٩٧.

(٣) سورة النور آية رقم ٥٥.

حصر الفسق على الكافر ، فيكون كل فاسق كافرا وكقول النبي (عليه‌السلام) : «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» (١).

وقوله : «ومن مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا» (٢).

قلنا : المراد بما أنزل الله هو التوراة بقرينة قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) إلى قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) (٣).

فيختص من لم يحكم باليهود ، ولأنا لم نتعبد بالحكم بالتوراة. على أنه لو كان للعموم ، فسلب العموم احتمال ظاهر. ثم التعبير عن ترك الحج بالكفر استعظام له ، وتغليظ في الوعيد عليه. وكذا الحديث الوارد في هذا المعنى في ترك الصلاة عمدا مع احتمال الاستحلال. والمراد بالفاسقين في قوله تعالى : (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤).

الكاملون في الفسق والمتمردون المنهمكون في الكفر ، للقطع بأن الفسق لا ينحصر في الكفر بعد الإيمان.

الثاني ـ الآيات الدالة على انحصار العذاب في الكفار مع قيام الأدلة على أن الفاسقين يعذبون كقوله تعالى : (أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٥) (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ) (٦) (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٧).

قلنا : المراد الكامل الهائل من العذاب ، والخزي والنار للقطع بتعذيب غير المكذبين ، أو الحصر غير حقيقي ، بل بالإضافة إلى المتقين ، فلا يمنع دخول

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في كتاب الفتنة ٢٣ باب الصبر على البلاء ٤٠٣٤ بسنده عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال أوصاني خليلي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ (أن لا تشرك بالله شيئا وإن قطعت وحرقت ولا تترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة ، ولا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر».

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) سورة المائدة آية رقم ٤٤ ، ٤٥ ، ٤٧.

(٤) سورة النور آية رقم ٥٥.

(٥) سورة طه آية رقم ٤٨.

(٦) سورة النحل آية رقم ٢٧.

(٧) سورة الليل آية رقم ١٤ ، ١٥ ، ١٦.

الفاسقين ، وإن كانوا مؤمنين.

الثالث ـ الآيات الدالة على أن الفاسق مكذب بالقيامة أو بآيات الله ، ولا شك أن المكذب بها كافر كقوله تعالى :

(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١)

وقوله تعالى : (يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ..) إلى قوله : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) (٢)

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) (٣)

فإنه يفيد قصر المسند على المسند إليه كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٤) (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) (أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) (٦)

فيكون كل من هو من أصحاب المشأمة ، مكذبا بالآيات نجعلها كبرى لقولنا : الفاسق من أصحاب المشأمة ، ونجعل النتيجة صغرى لقولنا : كل مكذب بآيات الله كافر.

قلنا : لا خفاء في أن كل فاسق ليس بمكذب (٧) ، فيحمل الأوليان على الكفار المكذبين ، والثالثة على التأكيد دون القصر ، ولو سلم ، فمثله عند كون المسند إليه موصولا أو معرفا باللام يكون لقصر المسند إليه على المسند كقولهم : الكرم هو التقوى ، والحسب هو المال ، والعالم هو المتقي ، فيكون المعنى أن كل مكذب

__________________

(١) سورة السجدة آية رقم ٢٠.

(٢) سورة المدثر الآيات رقم ٤١ ـ ٤٦.

(٣) سورة البلد آية رقم ١٩.

(٤) سورة الدرايات آية رقم ٥٨.

(٥) سورة البقرة آية رقم ٥ وسورة آل عمران آية رقم ١٠٤ وسورة التوبة آية رقم ٨٨.

(٦) سورة الحشر آية رقم ٢٠.

(٧) في (ب) كذاب بدلا من (بمكذب).

بالآيات فهو من أصحاب المشأمة ولا ينعكس كليا.

الرابع ـ ما يدل على كون الكافر في مقابلة المتقي من غير ثالث. ولا شك أن الفاسق ليس بمتق (١) فيكون كافرا ، وذلك قوله تعالى :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً ..) إلى قوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) (٢)

قلنا : لا دلالة على نفي قسم ثالث.

الخامس ـ أن الفاسق آيس من روح الله. وكل من هو كذلك فهو كافر لقوله تعالى : (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٣)

قلنا : الصغرى ممنوعة ، فإنه ربما يرجو العفو من الله تعالى ، أو التوبة من نفسه ، وبهذا يندفع ما يقال : إن العاصي من المعتزلة يلزم ان يكون كافرا لكونه آيسا ، فإنه وإن لم يعتقد العفو فليس بآيس من توفيق التوبة.

فإن قيل : هو يعتقد أنه ليس بمؤمن شرعا ، وكل من كان كذلك فهو كافر.

أجيب بمنع الكبرى. وأما القائلون بكون الفاسق منافقا فتمسكوا بوجهين : عقلي ، وهو أن إقدامه على المعصية المفضية إلى العذاب يدل على أنه كاذب في دعوى تصديقه بما جاء به النبي (عليه‌السلام) كمن ادعى أنه يعتقد أن في هذا الجحر حية ، ثم يدخل فيها يده.

ونقلي ، وهو قوله (عليه‌السلام) : «آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، وإذا حدث كذب وإذا ائتمن خان» (٤).

والجواب عن الأول أنه وإن كان يخاف العذاب ، لكن يرجو الرحمة ، ويأمل

__________________

(١) في (ب) تقيا بدلا من (بمتق).

(٢) سورة الزمر آية رقم ٧٣.

(٣) سورة يوسف آية رقم ٨٧.

(٤) الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان ٢٥ باب بيان خصال المنافق ١٠٧ ـ (٥٩) ـ بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. ورواه الإمام البخاري في كتاب الإيمان ٢٤ وكتاب الأدب ٦٩ والإمام الترمذي في الإيمان ١٤.

توفيق التوبة ، أو يلهيه عن آجل العقوبة عاجل اللذة ، بخلاف حديث الجحر والحية.

وعن الثاني بأنه مع كونه من الآحاد ليس على ظاهره وفاقا للقطع بأن من وعد غيره عدة ثم أخلفها لم يكن منافقا في الدين ، وإذا تأملت ، فحال الفاسق على عكس حال المنافق ، لأنه يضمر حسناته ، ويظهر سيئاته.

قال : المبحث الثاني في الإسلام ـ

(الجمهور على أن الإسلام والإيمان واحد. بمعنى رجوعهما إلى القبول والإذعان ، وكون كل مؤمن مسلما ، والعكس في حق الاسم ، والحكم ، والدار للإجماع على ذلك ولشهادة النصوص مثل : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١)

مع أن الإيمان مقبول وفاقا ومثل : قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٢)

ومثل : (قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) (٣). احتج المخالف بتفارقهما لقوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٤)

وتعاطفهما كقوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (٥)

وقوله تعالى : (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٦)

وتخالفهما في البيان بعد الاستفسار كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الإيمان أن تؤمن بالله .. إلى آخره ، والإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله .. إلى آخره

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ٨٥.

(٢) سورة الذاريات آية رقم ٣٦.

(٣) سورة الحجرات آية رقم ١٧.

(٤) سورة الحجرات آية رقم ١٤.

(٥) سورة الأحزاب آية رقم ٣٥.

(٦) سورة الأحزاب آية رقم ٢٢.

قلنا : لا نزاع في إطلاقه على الاستسلام والانقياد الظاهر ، وتغاير المفهوم كاف في صحة العطف ، وفي الحديث بيان لمتعلق الإيمان ، وشرائع الإسلام ، وقد ورد مثله في الإيمان).

الجمهور على أن الإسلام والإيمان واحد : إذ معنى آمنت بما جاء به النبي (عليه‌السلام) : صدقته. ومعنى أسلمت له : سلمته. ولا يظهر بينهما كثير فرق لرجوعهما إلى معنى الاعتراف والانقياد (١) والإذعان والقبول.

وبالجملة لا يعقل بحسب الشرع مؤمن ليس بمسلم أو مسلم ليس بمؤمن ، وهذا مراد القوم بترادف الاسمين ، واتحاد المعنى ، وعدم التغاير على ما قال في التبصرة : الاسمان من قبيل الأسماء المترادفة. وكل مؤمن مسلم ، وكل مسلم مؤمن ، لأن الإيمان اسم لتصديق شهادة العقول (٢) والآثار (٣) على وحدانية الله تعالى ، وأن له الخلق والأمر ، لا شريك له في ذلك. والإسلام إسلام المرء نفسه بكليتها لله تعالى بالعبودية له ، من غير شرك ، فحصلا من طريق المراد منهما على معنى واحد. ولو كان الاسمان متغايرين لتصور وجود أحدهما بدون الآخر ، ولتصور مؤمن ليس بمسلم ، أو مسلم ليس بمؤمن ، فيكون لأحدهما في الدنيا أو الآخرة حكم ليس للآخر ، وهذا باطل قطعا. وقال في الكفاية : الإيمان هو تصديق الله فيما أخبر من أوامره ونواهيه ، والإسلام هو الانقياد والخضوع لألوهيته. وذا لا يتحقق إلا بقبول الأمر والنهي. فالإيمان لا ينفك عن الإسلام حكما ، فلا يتغايران ، وإذا كان المراد بالاتحاد هذا المعنى ، صح التمسك فيه بالإجماع على أنه يمتنع أن يأتي أحد بجميع ما اعتبر في الإيمان ولا يكون مسلما أو بجميع ما اعتبر في الإسلام ولا يكون مؤمنا. وعلى أنه ليس للمؤمن حكم لا يكون للمسلم ، وبالعكس. وعلى أن دار

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (الانقياد).

(٢) لأن العقول السليمة تشهد بأن لهذا الكون خالق وموجد ، خلقه ونظمه وقدر فيه أموره (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

(٣) الآثار أكثر من أن تحصى أو تعد. قال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ). وقال تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ). وقال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

الإيمان دار الإسلام ، وبالعكس ، وعلى أن الناس كانوا في عهد النبي (عليه‌السلام) ثلاث فرق : مؤمن ، وكافر ، ومنافق ، لا رابع لهم والمشهور من استدلال القوم وجهان :

أحدهما ـ أن الإيمان لو كان غير الإسلام ، لم يقبل من مبتغيه لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١)

واللازم باطل بالاتفاق ، واعترض بأنه يجوز أن يكون غيره. لكن لا يكون دينا غيره ، لكون الدين عبارة عن الطاعات على ما سبق. وقد عرفت ما فيه. بل المراد بالدين الملة والطريقة الثابتة من النبي (عليه‌السلام) والإيمان كذلك ، وإن استمر في إطلاق أهل الشرع دين الإسلام ولم يسمع دين الإيمان وذلك لاشتهار لفظ الإسلام في طريقة النبي ، واعتبار الإضافة إليه حتى صار بمنزلة اسم لدين محمد (عليه‌السلام). ولفظ الإيمان في فعل المؤمن من حيث الإضافة إليه ، ولم يصر بمنزلة الاسم للدين ولهذا كثيرا ما يفتقر في الإيمان إلى ذكر المتعلق مثل : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٢).

وغير ذلك ، بخلاف الإسلام.

وثانيهما ـ أنه لو كان غيره ، لم يصح استثناء أحدهما من الآخر. واللازم باطل ، لقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٣)

أي فلم نجد ممن كان فيها من المؤمنين إلا أهل بيت من المسلمين. واعترض بأنه يكفي لصحة الاستثناء الإحاطة والشمول بحيث يدخل المستثنى تحت المستثنى منه. ولا يتوقف على اتحاد المفهوم ، وقد عرفت أن المراد بالاتحاد عدم التغاير بمعنى الانفكاك ، نعم لو قيل : إنه لا يتوقف على المساواة أيضا ، بل يصح مع كون المؤمن أعم كقولك : أخرجت العلماء فلم أترك إلا بعض النحاة ، لكان شيئا لا بالعكس على ما سبق إلى بعض الأوهام ، ذهابا إلى صحة قولنا : أخرجت العلماء

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ٨٥.

(٢) سورة الحديد آية رقم ٧ وتكملة الآية (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).

(٣) سورة الذاريات آية رقم ٣٦.

فلم أترك إلا بعض الناس. وقد يستدل بسوق أحد الاسمين مساق الآخر ، كقوله تعالى :

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) (٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٣) (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا ..) إلى قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٤).

الى غير ذلك من الآيات.

وذهبت الحشوية ، وبعض المعتزلة إلى تغايرهما نظرا إلى ان لفظ الإيمان ينبئ عن التصديق فيما أخبر الله تعالى على لسان رسله ، ولفظ الإسلام عن التسليم والانقياد ، ومتعلق التصديق يناسب أن يكون هو الإخبار ، ومتعلق التسليم الأوامر والنواهي : وتمسكا بإثبات أحدهما ، ونفي الآخر كقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٥).

وبعطف أحدهما على الآخر كما في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ..) (٦) الآية. (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٧)

والتسليم هو الإسلام. وبأن جبريل لما جاء لتعليم الدين سأل النبي عن كل منهما على حدة ، وأجاب النبي لكل بجواب. وذلك أنه قال : أخبرني عن الإيمان ،

__________________

(١) سورة الحجرات آية رقم ١٧.

(٢) سورة الروم آية رقم ٥٣.

(٣) سورة آل عمران آية رقم ١٠٢.

(٤) سورة آل عمران آية رقم ٨٤.

(٥) سورة الحجرات آية رقم ١٤.

(٦) سورة الأحزاب آية رقم ٣٥.

(٧) سورة الأحزاب آية رقم ٢٢.

فقال : الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ، وكتبه .. إلى الآخر ، ثم قال : أخبرني عن الإسلام. فقال : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله .. إلى آخره ، فدل على أن الإيمان هو التصديق بالأمور المذكورة والإسلام هو الإتيان بالأعمال المخصوصة.

والجواب عن الأول أنا لا نعني اتحاد المفهوم بحسب أصل اللغة ، على أن التحقيق أن مرجع الأمرين إلى الإذعان والقبول كما مر والتصديق كما يتعلق بالإخبار بالذات ، فكذا بالأوامر والنواهي ، بمعنى كونها حقة ، وأحكاما من الله تعالى ، وكذا التسليم ، وعن الثاني بأن المراد الاستسلام والانقياد الظاهر خوفا من السيف ، والكلام في الإسلام المعتبر في الشرع. المقابل للكفر المنبئ عنه قولنا : آمن فلان وأسلم ، وعن الثالث أن تغاير المفهوم في الجملة كاف في العطف ، مع أنه قد يكون على طريق التفسير كما في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (١)

وعن الرابع أن المراد السؤال عن شرائع الإسلام ، أعني أحكامه المشروعة التي هي الأساس على ما وقع صريحا في بعض الروايات ، وعلى ما قال النبي (عليه‌السلام) لقوم وفدوا عليه : أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم فقال : «شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصيام رمضان ، وأن تعطوا من المغنم الخمس» (٢) وكما قال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» (٣)

قال : المبحث الثالث ـ ظاهر الكتاب والسنة

(إن الإيمان يزيد وينقص ومنعه الجمهور لما أنه اسم للتصديق البالغ حد

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ١٥٧.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) الحديث رواه أبو داود في كتاب السنة ١٤ والنسائي في الإيمان ١٦ وابن ماجه في المقدمة ٩ باب في الإيمان ٥٧ بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره.

اليقين ، وهو لا يتفاوت ، وإنما يتفاوت إذا جعل اسما للطاعة ، ولهذا قيل : الخلاف مبني على الخلاف في تفسير الإيمان ، لكنه إنما يصح إذا لم يجعل ترك العمل خروجا عن الإيمان ، وحينئذ يكون التفاوت في كمال الإيمان ، لا في أصله.

وأجيب بعد تسليم أن التصديق هو اليقين ، وأن اليقين هو المعتبر في حق الكل يمنع قبوله التفاوت كما في اليقين الضروري والنظري ، بعد زوال التردد والخفاء. تمسك القائلون بالتفاوت بأن إيمان آحاد الأمة لا يساوي إيمان الأنبياء قطعا ، وبالنصوص الصريحة في ذلك:

(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (١) (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٢) (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) (٣)

وفي الحديث : «إن الإيمان يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة»(٤).

وأجيب بأن المراد الزيادة بحسب الدوام والثبات والأعداد ، أو بحسب زيادة ما يجب الإيمان به عند ملاحظة التفاصيل ، أو المراد زيادة ثمراته وأنواره.)

وهو مذهب الأشاعرة والمعتزلة ، والمحكى عن الشافعي (رحمه‌الله) وكثير من العلماء أن الإيمان يزيد وينقص وعند أبي حنيفة (رحمه‌الله) وأصحابه وكثير من العلماء ـ وهو اختيار إمام الحرمين ـ أنه لا يزيد ولا ينقص ، لأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان ، ولا يتصور فيه الزيادة والنقصان. والمصدق إذا ضم الطاعات إليه أو ارتكب المعاصي ، فتصديقه بحالة لم يتغير أصلا ، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة. ولهذا قال الإمام الرازي وغيره. إن هذا الخلاف فرع تفسير الإيمان.

فإن قلنا : هو التصديق ، فلا يتفاوت. وإن قلنا : هو الأعمال فمتفاوت.

__________________

(١) سورة الأنفال آية رقم ٢.

(٢) سورة الفتح آية رقم ٤.

(٣) سورة المدثر آية رقم ٣١.

(٤) الحديث رواه ابن ماجه في سننه مختصرا المقدمة ٩ باب في الإيمان ٧٤ حدثنا أبو عثمان البخاري سعيد بن سعد قال : حدثنا الهيثم بن خارجة حدثنا إسماعيل يعني ابن عياش عن عبد الوهاب بن مجاهد ، عن مجاهد عن أبي هريرة وابن عباس قال : وذكره.

وقال إمام الحرمين : إذا حملنا الإيمان على التصديق ، فلا يفضل تصديق تصديقا ، كما لا يفضل علم علما. ومن حمله على الطاعة سرا وعلنا ـ وقد مال إليه القلانسي (١) ـ فلا يبعد إطلاق القول بأنه يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، ونحن لا نؤثر هذا. لا يقال : الإيمان على تقدير كونه اسما للأعمال أولى بأن لا يحتمل الزيادة والنقصان.

أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق الكل ليكون زيادة ، ولا إيمان دونه ليكون نقصانا.

وأما ثانيا ، فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ ، والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. لأنا نقول هذا إنما يرد على من يقول بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال أو التروك ، كما هو مذهب المعتزلة ، لا على من يقول ببقائه ما بقي التصديق ، كما هو مذهب السلف ، إلا ان الزيادة والنقصان على هذا تكون في كمال الإيمان ، لا في أصله. ولهذا قال الإمام الرازي : وجه التوفيق أن ما يدل على أن الإيمان لا يتفاوت مصروف الى أصله ، وما يدل على أنه يتفاوت مصروف إلى الكامل منه. ولقائل أن يقول : لا نسلم أن التصديق لا يتفاوت ، بل يتفاوت قوة وضعفا ، كما في التصديق بطلوع الشمس ، والتصديق بحدوث العالم ، لأنه إما نفس الاعتقاد القابل للتفاوت أو مبني عليه ، وقلة وكثرة ، كما في التصديق الإجمالي والتفصيلي الملاحظ لبعض التفاصيل وأكثر وأكثر ، فإن ذلك من الإيمان لكونه تصديقا بما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إجمالا فيما علم إجمالا ، وتفصيلا فيما علم تفصيلا ، لا يقال : الواجب تصديق يبلغ حد اليقين ، وهو لا يتفاوت لأن التفاوت لا يتصور إلا باحتمال النقيض ، لأنا نقول : اليقين من باب العلم والمعرفة ، وقد سبق أنه غير التصديق ، ولو سلم أنه التصديق ، وأن المراد به ما يبلغ حد الإذعان والقبول ، ويصدق عليه المعنى المسمى «بگرويدن» ليكون تصديقا قطعيا ، فلا نسلم أنه لا يقبل التفاوت ، بل لليقين مراتب من أجلى البديهيات إلى أخفى النظريات ، وكون

__________________

(١) هو محمد بن الحسين بن بندار أبو العز القلانسي الواسطي مقرئ العراق في عصره مولده ووفاته بواسط من كتبه إرشاد المبتدي وتذكرة المنتهي في القراءات العشر ، ورسالة في القراءات الثلاث والكفاية الكبرى في القراءات ، أكبر من الأول توفي عام ٥٢١ ه‍ راجع : غاية النهاية ٢ : ١٢٨ والوافي بالوفيات ٣ : ٣ والإعلام وطبقات السبكي ٣ : ٥٦.

التفاوت راجعا إلى مجرد الجلاء والخفاء غير مسلم ، بل عند الحصول وزوال التردد التفاوت بحالة ، وكفاك قول الخليل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ما كان له من التصديق : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (١) وعن علي (رضي الله عنه) : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا. على أن القول بأن المعتبر في حق الكل هو اليقين وأن ليس للظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال حكم اليقين محل نظر ، احتج القائلون بالزيادة والنقصان ، بالعقل والنقل. أما العقل فلأنه لو لم يتفاوت ، لكان إيمان آحاد الأمة ، بل المنهمك في الفسق مساو بالتصديق الأنبياء والملائكة ، واللازم باطل قطعا. وأما النقل فلكثرة النصوص الواردة في هذا المعنى قال الله تعالى :

(وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) (٢) (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (٣) (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) (٤) (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٥) (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً) (٦).

وعن ابن عمر (رضي الله تعالى عنه) : قلنا : يا رسول الله ، إن الإيمان هل يزيد وينقص؟ قال : «نعم ، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه لنار»(٧).

وعن عمر (رضي الله تعالى عنه) ، وروي مرفوعا : «لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٦٠.

(٢) سورة الأنفال آية رقم ٢.

(٣) سورة الفتح آية رقم ٤.

(٤) سورة المدثر آية رقم ٣١.

(٥) سورة الأحزاب آية رقم ٢٢.

(٦) سورة التوبة آية رقم ١٢٤.

(٧) الحديث : أخرجه الإمام البخاري في كتاب الإيمان ٣٣ باب زيادة الإيمان ونقصانه وقول الله تعالى : (وَزِدْناهُمْ هُدىً). (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) وقال : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص. قال ابن بطال. التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل فمن قل دلمه كان تصديقه مثلا بمقدار ذرة والذي فوقه في العلم تصديق بمقدار برة أو شعيرة إلا أن أصل التصديق الحاصل في قلب كل أحد منهم لا يجوز عليه النقصان ، ويجوز عليه الزيادة.

هذه الأمة ، لرجح به» (١).

وأجيب بوجوه :

الأول ـ أن المراد الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الأزمان والساعات. وهذا ما قال إمام الحرمين : النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله إياه من مخامرة الشكوك ، والتصديق عرض لا يبقى ، فيقع للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) متواليا ولغيره على الفترات ، فثبت للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها ، فيكون إيمانه أكثر ، والزيادة بهذا المعنى مما لا نزاع فيه. وما يقال : إن حصول المثل إليه بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه ، مدفوع بأن المراد زيادة اعداد حصلت ، وعدم البقاء لا ينافي ذلك.

الثاني ـ أن المراد الزيادة بحسب زيادة المؤمن به ، والصحابة كانوا آمنوا في الجملة ، وكان يأتي فرض بعد فرض ، وكانوا يؤمنون بكل فرض خاص. وحاصله أن الإيمان واجب إجمالا فيما علم إجمالا ، وتفصيلا فيما علم تفصيلا. والناس متفاوتون في ملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ، فيتفاوت إيمانهم زيادة ونقصانا ، ولا يختص ذلك بعصر النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) على ما يتوهم.

الثالث ـ أن المراد زيادة ثمرته ، وإشراق نوره في القلب. فإنه يزيد بالطاعات ، وينقص بالمعاصي. وهذا مما لا خفاء فيه. وهذه الوجوه جيدة في التأويل لو ثبت لهم أن التصديق في نفسه لا يقبل التفاوت والكلام فيه.

قال : المبحث الرابع

(المذهب صحة الاستثناء في الإيمان ، حتى إنه ربما يؤثر أنا مؤمن إن شاء الله على أنا مؤمن حقا ، ومنعه الأكثرون لدلالته على الشك أو إيهامه إياه. لا أقل ، لنا وجوه.

__________________

(١) لم نعثر على هذا الحديث على كثرة البحث والتقصي.

الأول ـ أنه للتبرك والتأدب ، لا للشك (١) والتردد.

والثاني ـ أن الإيمان المنجي أمر خفي ، لا يأمن الجازم بحصوله أن يشوبه شيء من المنافيات من حيث لا يعلم ، فيفوضه إلى المشيئة.

الثالث ـ وعليه التعويل ، أنه للشك فيما هو آية النجاة ، وهو إيمان الموافاة ، لا في الإيمان الناجز. وليس معنى قولهم : العبرة بإيمان الموافاة أن الناجز ليس بإيمان حقيقة. بل إنه ليس بمنج. وكذا الكفر والسعادة والشقاوة. فالسعيد سعادة الموافاة لا يتغير إلى شقاوة الموافاة ، وإنما التغير في الناجز).

ذهب كثير من السلف ، وهو المحكي عن الشافعي (٢) (رضي الله تعالى عنه) والمروي عن ابن مسعود (رضي الله عنه) أن الإيمان يدخله الاستثناء ، فيقال : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. ومنعه الأكثرون ، وعليه أبو حنيفة (رضي الله عنه) وأصحابه ، لأن التصديق أمر معلوم ، لا تردد فيه عند تحققه ، ومن تردد في تحققه له ، لم يكن مؤمنا قطعا ، وإذا لم يكن للشك والتردد ، فالأولى أن يترك ، بل يقال : أنا مؤمن حقا. دفعا للإيهام. وللقائلين بصحته وجوه :

الأول ـ أنه للتبرك في ذكر الله والتأدب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله ، والتبرؤ عن تزكية النفس والإعجاب بحالها ، والتردد في العاقبة والمآل ، وهذا يفيد مجرد الصحة ، لا إيثار قولهم : أنا مؤمن إن شاء الله على أنا مؤمن حقا ، ولا يدفع ما ذكر من دفع الإيهام ، ولا يبين وجه اختصاص التأدب والتبرك بالإيمان دون غيره من الأعمال والطاعات.

__________________

(١) الشك : هو التردد بين النقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر عند الشاكّ ، وقيل الشك ما استوى طرفاه وهو الوقوف بين الشيئين لا يميل القلب إلى أحدهما فإذا ترجح أحدهما ولم يطرح الآخر فهو ظن فإذا طرحه فهو غالب الظن وهو بمنزلة اليقين.

(٢) هو محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي أبو عبد الله ، أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة عام ١٥٠ ه‍ وحمل منها إلى مكة وهو ابن سنتين وزار بغداد مرتين وقصد مصر سنة ١٩٩ فتوفي بها عام ٢٠٤ ه‍ وقبره معروف في القاهرة. قال المبرد : كان الشافعي أشعر الناس ، وأعرفهم بالفقه والقراءات من كتبه «الأم» «والرسالة» و «المسند» في الحديث وأحكام القرآن وغير ذلك كثير. راجع تذكرة الحفاظ ١ : ٢٢٩ وتهذيب التهذيب ٩ : ٢٥ والوفيات ١ : ٤٤٧

والثاني ـ أن التصديق الإيماني المنوط به النجاة أمر قلبي خفي له معارضات خفية كثيرة من الهوى والشيطان والخذلان بالمرء ، وإن كان جازما بحصوله لكن لا يأمن ان يشوبه شيء من منافيات النجاة سيما عند ملاحظة تفاصيل الأوامر والنواهي الصعبة المخالفة للهوى ، والمستلذات من غير علم له بذلك. فذلك يفوض حصوله إلى مشيئة الله. وهذا قريب لو لا مخالفته لما يدعيه القوم من الإجماع ، ولما ذكر في الفتاوى من الروايات.

الثالث ـ وعليه التعويل ، ما قال إمام الحرمين (١) إن الإيمان ثابت في الحال قطعا من غير شك فيه. لكن الإيمان الذي هو علم الفوز ، وآية النجاة إيمان الموافاة ، فاعتنى السلف به ، وقرنوه بالمشيئة ولم يقصدوا الشك في الإيمان الناجز ، ومعنى الموافاة الإتيان والوصول إلى آخر الحياة وأول منازل الآخرة ، ولا خفاء في أن الإيمان المنجي والكفر المهلك ما يكون في تلك الحال ، وإن كان مسبوقا بالضد ، لا ما ثبت أولا وتغير إلى الضد. فلهذا يرى الكثير من الأشاعرة يبتون القول بأن العبرة بإيمان الموافاة وسعادتها. بمعنى أن ذلك هو المنجي ، لا بمعنى أن إيمان الحال ليس بإيمان وكفره ليس بكفر ، وكذا السعادة والشقاوة والولاية والعداوة ، وعلى هذا يسقط عنهم ما يقال إنه اذا اتصف بالإيمان على الحقيقة ، كان مؤمنا حقا ، ولا يصح أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، كما لا يصح أن يقول : انا حي إن شاء الله تعالى. وإذا كان مؤمنا حقا ، كان مؤمنا عند الله تعالى ، وفي علم الله ، وإن كان الله تعالى يعلم أنه يتغير عن تلك الحال. وإذا كان مؤمنا في الحال كان وليا لله ، سعيدا. وإن كان كافرا ، كان عدوا له شقيا ، وكما يصير المؤمن كافرا ، يصير الولي عدوا والسعيد شقيا ، وبالعكس. وما يحكى عنهم من أن السعيد لا يشقى ، والشقي لا يسعد ، وأن السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه ، فمعناه أن من علم الله منه السعادة المعتبرة التي هي سعادة الموافاة ، فهو لا يتغير إلى شقاوة الموافاة ، وبالعكس. وكذا في الولاية والعداوة ، وأن السعيد الذي يعتد بسعادته من علم الله أنه يختم له بالسعادة. وكذا الشقاوة.

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية في هذا الجزء

وبالجملة لا يشك المؤمن في ثبوت الإيمان وتحققه في الحال. ولا في الجزم بالثبات ، والبقاء عليه في المال ، لكن بخاف سوء الخاتمة ويرجو حسن العاقبة ، فيربط الإيمان الموافاة الذي هو آية الفوز والنجاة ، ووسيلة بل الدرجات بمشيئة الله جريا على مقتضى قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١)

جعل الله حياتنا إليه ، ومماتنا عليه. وختم لنا بالحسنى ويسرنا للفوز بالذخر الأسنى بالنبي وآله.

__________________

(١) سورة الكهف آية رقم ٢٣ ، ٢٤ وتكملة الآية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

ايمان المقلد

قال : المبحث الخامس ـ

(الجمهور على صحة إيمان المقلد ، لأن التصديق لا يتوقف على ثبات الاعتقاد ، بل جزمه ، وعدم النفع قياسا على إيمان اليأس بجامع عدم مشقة النظر والاستدلال التي بها الثواب فاسد ، أو على تقدير ثبوت مثله بالقياس. فالعلة في الأصل كونه إيمان دفع عذاب ، لا إيمان حقيقة ، وأنه لم يبق حينئذ للعبد قدرة التصرف في نفسه والاستمتاع بها)

ذهب كثير من العلماء وجميع الفقهاء إلى صحة إيمان المقلد ، وترتب الأحكام عليه في الدنيا والآخرة ، ومنعه الشيخ أبو الحسن (١) والمعتزلة ، وكثير من المتكلمين. حجة القائلين بالصحة أن حقيقة الإيمان هو التصديق ، وقد وجدت من غير اقتران بموجب من موجبات الكفر.

فإن قيل : لا يتصور التصديق بدون العلم لأنه إما ذاتي للتصديق أو شرط له ، على ما سبق. ولا علم للمقلد ، لأنه اعتقاد جازم مطابق يستند إلى سبب من ضرورة أو استدلال.

قلنا : المعتبر في التصديق هو اليقين. أعني الاعتقاد الجازم المطابق ، بل ربما يكتفي بالمطابقة ويجعل الظن الغالب الذي لا يخطر معه النقيض بالبال في حكم اليقين ، وقد يقال: إن التصديق قد يكون بدون العلم والمعرفة ، وبالعكس. فإنا نؤمن بالأنبياء والملائكة ولا نعرفهم بأعيانهم ، ونؤمن بجميع أحوال القيامة من

__________________

(١) هو علي بن إسماعيل بن إسحاق ، أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري مؤسس مذهب الأشاعرة كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين ولد في البصرة عام ٢٦٠ ه‍ وتوفي ببغداد عام ٣٢٤ ه‍ راجع طبقات الشافعية ٢ : ٢٤٥ والمقريزي ٢ : ٣٥٩ وابن خلكان ١ : ٣٢٦.

الحساب والميزان والصراط ، وغير ذلك ، ولا نعرف كيفياتها وأوصافها ، وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي (عليه‌السلام) كما يعرفون أبناءهم ولم يكونوا مؤمنين. وفيه نظر ، لأن المراد العلم بما حصل التصديق به ، ونحن نعلم من الأنبياء والملائكة ما نصدق به. فامتناع التصديق بدون العلم ، بمعنى الاعتقاد ، قطعي. وإنما الكلام في العكس.

فإن قيل : نحن لا ننفي كونه إيمانا وتصديقا لكنا ندعي أنه لا ينفع ، بمنزلة إيمان اليائس ، فإن عدم نفعه على ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي (١) معلل بأن العبد لا يقدر حينئذ أن يستدل بالشاهد على الغائب ليكون مقاله عن معرفة وعلم استدلالي. فإن الثواب على الإيمان إنما هو بمقابلة ما يتحمله من المشقة ، وهي في آداب الفكرة ، وإدمان النظر في معجزات الأنبياء ، أو في محدثات العالم. والتمييز بين الحجة والشبهة لا في تحصيل أصل الإيمان.

قلنا : النص إنما قام على عدم نفع إيمان اليأس ومعاينة العذاب ، دون إيمان المقلد. والإجماع أيضا إنما انعقد عليه ، والتمسك بالقياس ، لو سلم صحته في الأصول ، فلا نسلم أن العلة ما ذكرتم ، بل ذهب الماتريدي وكثير من المحققين إلى أن إيمان اليأس إنما لم ينفع لأنه إيمان دفع عذاب ، لا إيمان حقيقة ، ولأنه لا يبقى للعبد حينئذ قدرة على التصرف من نفسه والاستمتاع بها ، لأن عذاب الدنيا مقدمة لعذاب الآخرة ، إذ ربما يموت العبد فيه. فينتقل إلى عذاب الآخرة ، بخلاف إيمان المقلد ، فإنه تقرب إلى الله تعالى ، وابتغاء لمرضاته ، من غير إلجاء ولا قصد دفع العذاب ، ولا انتفاء قدرة على التصرف في النفس.

قال : وأما المانعون

(وأما المانعون فالشيخ لا يشترط التمكن من إقامة الحجة ودفع الشبهة في كل

__________________

(١) هو محمد بن محمد بن محمود ، أبو منصور الماتريدي : من أئمة علماء الكلام نسبته إلى ما تريد (محلة بسمرقند) من كتبه التوحيد ، وأوهام المعتزلة ، والرد على القرامطة ومآخذ الشرائع في أصول الفقه ، وكتاب الجدل وتأويلات القرآن وشرح الفقه الأكبر المنسوب للإمام أبي حنيفة مات بسمرقند عام ٣٣٣ ه‍ راجع الفوائد البهية ١٩٥ ومفتاح السعادة ٢ : ٢١ والجواهر المضيئة ٢ : ١٣٠ وفهرس المؤلفين ٢٦٤ وكشف الظنون ٣٣٥ وتأويلات أهل السنة.

مسألة من الأصول ، بل انتفاء الاعتقاد فيها على دليل حتى لو انتفى لم يكن مؤمنا. وحمله على نفي كمال الإيمان لإخلاله بالواجب مما لا يتصور فيه نزاع. والمعتزلة يشترطون حتى لو انتفى ، انتفى الإيمان ، وهو ظاهر البطلان ، إلا إذا أريد الوجوب على الكفاية ، فيصير مسألة صاحب الكبيرة ، وعن بعضهم أن وجوب النظر إنما هو في حق البعض. وأما العاجز كالعوام ، وبعض العبيد ، والنسوان ، فلا يكلف إلّا بتقليد المحق والظن الصائب ، وقيل : كلفوا سماع أوائل الدلائل التي تتسارع إلى الأفهام ، فإن فهموا فهم أصحاب الجمل وإلا فليسوا مكلفين. والمتأخرون على أن ليس الخلاف في إجراء أحكام الإسلام بل في آية هل يعاقب عقوبة الكافر؟ فقيل : نعم ، لأنه جاهل بالله ورسوله ، وقيل : لا ، بل ينتقض عقابه بما له من التصديق ، ثم الخلاف فيمن نشأ في شاهق الجبل ولم يتفكر ، فأخبر بما يجب عليه اعتقاده فصدق. وأما من نشأ في دار الإسلام ولو في الصحارى ، وتواتر عنده حال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فمن أهل النظر).

يعني القائلين بأن إيمان المقلد ليس بصحيح ، أو ليس بنافع ، فمنهم من قال : لا يشترط ابتناء الاعتقاد على استدلال عقلي في كل مسألة ، بل يكفي ابتناؤه على قول من عرف رسالته بالمعجزة مشاهدة أو تواترا ، أو على الإجماع فيقبل قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بحدوث العالم وثبوت الصانع ووحدانيته. ومنهم من قال لا بد من ابتناء الاعتقاد في كل مسألة من الأصول على دليل عقلي ، لكن لا يشترط الاقتدار على التعبير عنه ، وعلى مجادلة الخصوم ، ودفع الشبهة ، وهذا هو المشهور عن الشيخ أبي الحسن الأشعري ، حتى حكي عنه أنه من لم يكن كذلك ، لم يكن مؤمنا ، لكن ذكر عبد القاهر البغدادي (١) أن هذا ، وإن لم

__________________

(١) هو عبد القاهر بن طاهر بن محمد بن عبد الله البغدادي التميمي الأسفراييني أبو منصور عالم متفنن من أئمة الأصول كان صدر الإسلام في عصره. ولد ونشأ في بغداد ورحل إلى خراسان فاستقر في نيسابور وفارقها على أثر فتنة التركمان مات في أسفرائين عام ٤٢٩ من تصانيفه أصول الدين ، والناسخ والمنسوخ ، وتفسير أسماء الله الحسنى ، وغير ذلك كثير. راجع وفيات الأعيان ١ : ٢٩٨ وطبقات السبكي ٣ : ٢٣٨ والفوات ١ : ٢٩٨ ومفتاح السعادة ٢ : ١٨٥ وإنباء الرواة ٢ : ١٨٥.

يكن عند الأشعري مؤمنا على الإطلاق ، فليس بكافر لوجود التصديق ، لكنه عاص بتركه النظر والاستدلال ، فيعفو الله عنه أو يعذبه بقدر ذنبه ، وعاقبته الجنة. وهذا يشعر بأن مراد الأشعري أنه لا يكون مؤمنا على الكمال ، كما في ترك الأعمال ، وإلا فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين ، ولا بدخول غير المؤمن الجنة ، وعند هذا يظهر أنه لا خلاف معه على التحقيق ، ومنهم من قال : لا بد من ابتناء الاعتقاد على الدليل من الاقتدار على مجادلة الخصوم ، وحل ما يورد عليه من الإشكال ، وإليه ذهبت المعتزلة ، ولم يحكموا بإيمان من عجز عن شيء من ذلك ، بل حكم أبو هاشم بكفره ، فإن بنوا ذلك على أن ترك النظر كبيرة تخرج من الإيمان إذا طرأت وتمنع من الدخول فيه إذا قارنت ، فهي مسألة صاحب الكبيرة ، وقد سبقت. وإن أرادوا أن مثل هذا التصديق لا يكفي في الإيمان أو لا ينفع فمسألة أخرى ، وبهذا يشعر تمسكاتهم وهي وجوه.

الأول ـ أن حقيقة الإيمان إدخال النفس في الأمان من أن يكون مكذوبا ومخدوعا وملتبسا عليه ، على أنه إفعال من الأمن للتعدية أو للصيرورة كأنه صار ذا أمن ، وذلك إنما يكون بالعلم. ورد بأنه يجعل متعلقا بالمخبر مثل : آمنت به ، وله. لا بالسامع. فالمناسب عند ملاحظة الاشتقاق من الأمن أن يقال : معناه آمنه المخالفة والتكذيب على ما صرح به المعتزلة. وذلك بالتصديق سواء كان عن دليل ، أو لا. ولو سلم فالأمن (١) من أن يكون مكذوبا أو مخدوعا يحصل بالاعتقاد الجازم ، وإن كان عن تقليد.

الثاني ـ أن الواجب هو العلم. وذلك لا يكون إلا بالضرورة أو الاستدلال ، ولا ضرورة ، فتعين الدليل. ورد بأنه لا نزاع في وجوب النظر والاستدلال بل في أن ترك هذا الواجب يوجب عدم الاعتداد بالتصديق ، على

__________________

(١) الأمن : هو عدم توقع مكروه في الزمان الآتي ، والإيمان على خمسة أوجه : إيمان مطبوع ، وإيمان مقبول ، وإيمان معصوم ، وإيمان موقوف ، وإيمان مردود ، فالإيمان المطبوع هو إيمان الملائكة ، والإيمان المعصوم هو إيمان الأنبياء والإيمان المقبول : هو إيمان المؤمنين ، والإيمان الموقوف : هو إيمان المبتدعين ، والإيمان المردود : هو إيمان المنافقين.

أنه ربما يقال : إن المقصود من الاستدلال هو التوصل إلى التصديق ولا عبرة بانعدام الوسيلة بعد حصول المقصود.

الثالث ـ أن الأصل الذي يقلد فيه إن كان باطلا ، فتقليده باطل بالاتفاق كتقليد اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان أسلافهم. وإن كان حقا فحقيته إما أن يعلم بالتقليد فدور ، أو بالدليل فتناقض. ورد بأن الكلام فيما علم حقيته بالدليل كالأحكام التي علم كونها من دين الإسلام أن من اعتقدها تقليدا هل يكون مؤمنا يجري عليه أحكام المؤمنين في الدنيا والآخرة ، وإن كان عاصيا بتركه النظر والاستدلال ، وأما ما يقال : إن القول بجواز التقليد (١) إن لم يكن عن دليل فباطل. وإن كان فتناقض. فمغالطة ظاهرة ، لا يقال : المقصود أن التقليد لا يكفي في الخروج عن عهدة الواجب فيما وجب العلم به من أصول الإسلام. وبعض هذه الوجوه يفيد ذلك ، لأنا نقول : هذا مما لا نزاع فيه ، ولا حاجة به إلى هذه الوجوه الضعيفة لثبوته بالنص والإجماع على وجوب النظر ، والاستدلال على أنه حكي عن الكعبي (٢) وابن أبي عياش ، وجمع آخر من المعتزلة أن من العقلاء من كلف النظر ، وهم أرباب النظر ، ومنهم من كلف التقليد والظن ، وهم العوام ، والعبيد ، وكثير من النسوان ، لعجزهم عن النظر في الأدلة وتمييزها عن الشبه. لكنهم كلفوا تقليد المحق دون المبطل. والظن الصائب دون الخطأ.

وذكر بعض المتأخرين منهم أن العاجزين كلفوا أن يسمعوا أوائل الدلائل التي تتسارع إلى الإفهام. فإن فهموا كفاهم وهم أصحاب الجمل ، ولا يكلفون تلخيص العبارة ، وإن لم يمكنهم الوقوف عليها ، فليسوا مكلفين أصلا ، وإنما خلقوا

__________________

(١) التقليد : عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل معتقدا للحقية فيه من غير نظر ولا تأمل في الدليل كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه وقيل : عبارة عن قول الغير بلا حجة ولا دليل.

(٢) هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي من بني كعب البلخي الخراساني أبو القاسم أحد أئمة المعتزلة كان رأس الطائفة الكعبية وله آراء ومقالات في الكلام انفرد بها وهو من أهل بلخ أقام ببغداد مدة طويلة وتوفي ببلخ عام ٣١٩ ه‍ من كتبه «الطعن على المحدثين» وتأييد مقالة أبي الهذيل. وغير ذلك.

لانتفاع المكلفين بهم في الدنيا ، وهم كثير من العوام ، والعبيد ، والنسوان وصاحب الجمل عند المتكلمين هو الذي يعتقد الجمل التي اتفق عليها أهل الملة. ولا يدخل في الاختلافات بل يعتقد أن ما وافق منها تلك الجمل فحق. وما خالفهما فباطل ، وتلك الجمل هي أن الله تعالى واحد لا شريك له (١) ولا مثل (٢) ، وأنه لم يزل قبل الزمان والمكان والعرش ، وكل ما خلق ، وأنه القديم ، وما سواه محدث وأنه عدل (٣) في قضائه ، صادق في إخباره لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر ، ولا يكلفهم ما لا يطيقونه ، وأنه مصيب حكيم محسن في جميع أفعاله وفي كل ما خلق وقضى وقدر ، وأنه بعث الرسل ، وأنزل الكتب ليتذكر من في سابق علمه أن يتذكر ويخشى ، ويلزم الحجة على من علم أنه لا يؤمن ويأبى. وأن الرضاء بقضائه واجب ، والتسليم لأمره لازم ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، لا كالإضلال الذي علم به الشيطان. إلى غير ذلك من العقائد الإسلامية.

فإن قيل : أكثر أهل الإسلام آخذون بالتقليد قاصرون أو مقصرون في الاستدلال ، ولم تزل الصحابة ومن بعدهم من الأئمة ، والخلفاء ، والعلماء ، يكتفون منهم بذلك ويجرون عليهم أحكام المسلمين ، فما وجه هذا الاختلاف؟ وذهاب كثير من العلماء والمجتهدين إلى أنه لا صحة لإيمان المقلدين.

قلنا : ليس الخلاف في هؤلاء الذين نشئوا في ديار الإسلام من الأمصار ، والقرى ، والصحارى ، وتواتر عندهم حال النبي (عليه‌السلام) وما أوتي به من المعجزات ، ولا في الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض (٤) واختلاف الليل والنهار فإنهم كلهم من أهل النظر والاستدلال ، بل فيمن نشأ على شاهق جبل مثلا ، ولم يتفكر في ملكوت السموات والأرض فأخبره إنسان بما يفترض عليه اعتقاده ، فصدقه فيما أخبره بمجرد إخباره من غير تفكر وتدبر ، وأما ما

__________________

(١) قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ).

(٢) قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

(٣) قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)

(٤) قال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ).

يحكى عن المعتزلة من أنه لا بد في صحة الإسلام من النظر والاستدلال والاقتدار على تقرير الحجج ، ودفع الشبهة ، فبطلانه يكاد يلحق بالضروريات من دين الإسلام. والظاهر أن المراد أن ذلك واجب ، وإن صح الإيمان بدونه. فإن أرادوا الواجب على الكفاية فوفاق ، إذ لا بد في كل صقع ممن يقوم بإقامة الحجج ، وإزاحة الشبه ومجادلة الخصوم. وإن أرادوا الواجب على كل مكلف بحيث لا يسقط بفعل البعض ، ففيه الخلاف. وأما المقلد فقد ذكر بعض من نظر في الكلام ، وسمع من الإمام أنه لا خلاف في إجراء أحكام الإسلام عليه ، والاختلاف في كفره راجع إلى أنه هل يعاقب عقاب الكافر؟ فقال الكثيرون : نعم ، لأنه جاهل بالله ورسوله ودينه. والجهل بذلك كفر ، ومثل قوله تعالى :

(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً) (١) وقوله (صلى الله تعالى عليه وسلم) : «من صلى صلاتنا ، ودخل مسجدنا ، واستقبل قبلتنا ، فهو مسلم» (٢) محمول على الإسلام في حق الأحكام ، وقال بعض ذوي التحقيق منهم : إنه وإن كان جاهلا لكنه مصدق ، فيجوز أن ينتقص عقابه لذلك.

قال : المبحث السادس ـ الكفر عدم الإيمان عما من شأنه.

(وهو أعم من التكذيب لشموله الكافر الخالي عن التصديق والتكذيب ، وقال القاضي : هو الجحد بالله وفسر بالجهل ، ورد بأن الكافر قد يعرف الله ويصدق به والمؤمن قد لا يعرف بعض أحكامه فأجيب بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعا أنه من أحكامه ، أو الجهل بذلك إجمالا وتفصيلا ، وقالت المعتزلة : هو قبيح أو إخلال بواجب يستحق به أعظم العقاب ، وفيه خفاء ظاهر.

فإن قيل : قد يكفر المكلف بعض أفعاله مع أن تصديقه بحاله.

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٩٤.

(٢) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب الإيمان ٢٨ والترمذي في كتاب الإيمان ٢ باب ما جاء في قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرت بقتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة. ٢٦٠٨ ـ بسنده عن أنس ابن مالك قال : قالرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره ـ قال الترمذي وهذا حديث حسن صالح حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

قلنا : لو سلم ، فيجوز أن يكون بعض المحظورات علامة التكذيب دون البعض ، وذلك إلى الشارع وكذا بعض التأويلات في الأصول).

وهذا معنى عدم تصديق النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) في شيء مما علم مجيئه به على ما ذكره الإمام الغزالي (١) لشموله الكافر الخالي عن التصديق والتكذيب ، واعتبر الإمام الرازي بأن من جملة ما جاء به النبي أن تصديقه واجب في كل ما جاء به. فمن لم يصدقه فقد كذبه في ذلك ضعيف ، لظهور المنع.

فإن قيل : من استخف بالشرع أو الشارع. أو ألقى المصحف في القاذورات ، أو شد الزنار بالاختيار كافر إجماعا ، وإن كان مصدقا للنبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) في جميع ما جاء به ، وحينئذ يبطل عكس التعريفين. وإن جعلت ترك المأمور به أو ارتكاب المنهى عنه علامة التكذيب وعدم التصديق ، بطل طردهما بغير الكفرة من الفساق.

قلنا : لو سلم اجتماع التصديق المعتبر في الإيمان مع تلك الأمور التي هي كفر وفاقا ، فيجوز أن يجعل الشارع بعض محظورات الشرع علامة التكذيب ، فيحكم بكفر من ارتكبه ، وبوجود التكذيب فيه ، وانتفاء التصديق عنه كالاستخفاف بالشرع. وشد الزنار ، وبعضها. لا كالزنا وشرب الخمر ، ويتفاوت ذلك إلى متفق عليه ، ومختلف فيه ، ومنصوص عليه ومستنبط من الدليل ، وتفاصيله في كتب الفروع. وبهذا يندفع إشكال آخر ، وهو أن صاحب التأويل في الأصول إما أن يجعل من المكذبين ، فيلزم تكفير كثير من الفرق الإسلامية كأهل البدع والأهواء. بل المختلفين من أهل الحق. وإما أن لا يجعل ، فيلزم عدم تكفير المنكرين لحشر الأجساد ، وحدوث العالم وعلم الباري بالجزئيات (٢) فإن تأويلاتهم ليست بأبعد من تأويلات أهل الحق للنصوص الظاهرة في خلاف مذهبهم وذلك لأن من النصوص

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية. وراجع وفيات الأعيان ١ : ٤٦٣ ، وطبقات الشافعية ٤ : ١٠١ وشذرات الذهب ٤ : ١٠

(٢) ينكر بعض الفلاسفة علم الله بالجزئيات وهذه كبيرة من الكبائر ، وخصوصا إذا صدرت ممن يدين بالإسلام ، وكيف يستقيم ذلك والله تعالى يقول : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

ما علم قطعا من الدين أنه على ظاهره ، فتأويله تكذيب للنبي ، بخلاف البعض. ثم لا يخفى أن المراد التكذيب ، أو عدم التصديق من المكلف ، ليخرج الصبي العاقل الذي لم يصدق ، أو صرح بالتكذيب وأما عند القائلين بصحة إيمانه ، وبأنه يكفر بصريح التكذيب وإن لم يكفر بترك التصديق ، فالمراد التكذيب ممن يصح منه الإيمان وعدم التصديق ممن يجب عليه الإيمان.

وقال القاضي : الكفر هو الجحد بالله ، وربما يفسر الجحد بالجهل. واعترض بعدم انعكاسه. فإن كثيرا من الكفرة عارفون بالله تعالى ، مصدقون به (١) غير جاحدين. وإن أريد الجحد أو الجهل أعم من أن يكون بوجوده أو وحدانيته ، أو شيء من صفاته وأفعاله وأحكامه ، لزم تكفير كثير من أهل الإسلام المخالفين في الأصول لأن الحق واحد وفاقا. وأجيب بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعا أنه من أحكامه أو الجهل بذلك إجمالا وتفصيلا وحينئذ يطرد وينعكس. بل ربما يكون أحسن من التعريف بتكذيب النبي (عليه‌السلام) أو عدم تصديقه ، لشموله الكفر بالله ، من غير توسط النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) ككفر إبليس.

وقالت المعتزلة : هو ارتكاب قبيح ، أو إخلال بواجب يستحق به أعظم العقاب. ولا خفاء في أن هذا من أحكام الكفر ، لا ذاتياته ، ولا لوازمه البينة التي ينتقل الذهن منها إليه ، ومع هذا فإن أريد أعظم العقاب على الإطلاق ، لم يصدق إلا على ما هو أشد أنواع الكفر وإن أريد أعظم بالنسبة إلى ما دونه. صدق على كثير من المعاصي ، وإن اريد بالنسبة إلى الفسق (٢) وقد فسروا الفسق بما يستحق به عقوبة دون عقوبة الكفر ـ فدور. أو بالخروج من طاعة الله بكبيرة ـ ومن الكبائر ما هو كفر ـ فلا يتناوله التعريف. وإن قيد الكبيرة بغير الكفر ، عاد الدور.

وبالجملة لا خفاء في اختلال هذا التعريف وخفائه. وما قيل : إن الكفر عند كل طائفة مقابل لما فسروا به الإيمان ، ولا يستقيم على القول بالمنزلة بين المنزلتين أصلا ، ولا على قول السلف ظاهرا.

__________________

(١) قال تعالى على لسانهم (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ).

(٢) فسقت : الرطبة خرجت عن قشرها وفسق عن أمر ربه أي خرج قال ابن الأعرابي : لم يسمع قط في كلام الجاهلية ولا في شعرهم (فاسق) قال : وهذا عجب وهو كلام عربي.

قال : خاتمة ـ

((خاتمة) الكافر إن أظهر الإيمان خص باسم المنافق ، وإن كفر بعد الإسلام ، فبالمرتد. وإن قال بتعدد الآلهة في المشرك وإن تدين ببعض الأديان فبالكتابى ، وإن أسند الحوادث إلى الزمان واعتقد قدمه فبالدهري (١). وإن نفى الصانع ، فبالمعطل. وإن أبطن عقائد هي كفر بالاتفاق فبالزنديق).

قد ظهر أن الكافر اسم لمن لا إيمان له. فإن أظهر الإيمان خص باسم المنافق ، وإن طرأ كفره بعد الإسلام ، خص باسم المرتد لرجوعه عن الإسلام ، وإن قال بإلهين أو أكثر خص باسم المشرك لإثباته الشريك في الألوهية. وإن كان متدينا ببعض الأديان والكتب المنسوخة ، خص باسم الكتابي ، كاليهودي والنصراني ، وإن كان يقول بقدم الدهر وإسناد الحوادث إليه ، خص باسم الدهري. وإن كان لا يثبت الباري تعالى خص باسم المعطل ، وإن كان مع اعترافه بنبوة النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) وإظهاره شعائر الإسلام يبطن عقائد هي كفر بالاتفاق خص باسم الزنديق (٢). وهو في الأصل منسوب إلى زند ، اسم كتاب أظهره مزدك في أيام قباد ، وزعم أنه تأويل كتاب المجوس الذي جاء به زرادشت الذي يزعمون أنه نبيهم.

قال : المبحث السابع ـ في حكم مخلف الحق من أهل القبلة.

(ليس بكافر ما لم يخالف ما هو من ضروريات الدين ، كحدوث العالم ، وحشر الأجساد ، وقيل : كافر ، وقال الاستاذ : نكفر من أكفرنا ، ومن لا ، فلا ، وقال قدماء المعتزلة نكفر المجبرة ، والقائلين بقدم الصفات ، وخلق الأعمال ، وجهلاءهم ، نكفر من قال بزيادة الصفات وبجواز الرؤية وبالخروج من النار ، وبكون الشرور والقبائح بخلقه وإرادته. لنا أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومن بعده لم يكونوا يفتشون عن

__________________

(١) الدهر : هو الآن الدائم الذي هو امتداد الحضرة الإلهية وهو باطن الزمان وبه يتحد الأزل والأبد. والدهرية. نسبة إلى الذين جحدوا بالله ، وزعموا أن العالم وجد بدون الله عزوجل تعالى الله عن ذلك (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). سورة الجاثية آية رقم ٢٤.

(٢) الزنديق : من الثنوية وهو فارسي معرب وجمعه زنادقة وقد تزندق والاسم : الزندقة.

العقائد وينبهون على ما هو الحق.

فإن قيل : فكذا في الأصول المتفق عليها.

قلنا : لاشتهارها ، وظهور أدلتها على ما يليق بأصحاب الجمل. قد يقال : ترك البيان إنما كان اكتفاء بالتصديق الإجمالي ، إذا التفصيل إنما يجب عند ملاحظة التفاصيل ، وإلا فكم مؤمن لا يعرف معنى القديم ، والحادث هذا ، وإكفار الفرق بعضها بعضا مشهور)

في باب الكفر والإيمان. ومعناه أن الذين اتفقوا على ما هو من ضروريات الإسلام كحدوث العالم ، وحشر الأجساد وما أشبه ذلك. واختلفوا في أصول سواها كمسألة الصفات وخلق الأعمال ، وعموم الإرادة ، وقدم الكلام ، وجواز الرؤية ، ونحو ذلك مما لا نزاع أن الحق فيها واحد ، هل يكفر المخالف للحق بذلك الاعتقاد وبالقول به أم لا؟ وإلا فلا نزاع في كفر أهل القبلة المواظب طول العمر على الطاعات باعتقاد قدم العالم ، ونفي الحشر ، ونفي العلم بالجزئيات ، ونحو ذلك. وكذا بصدور شيء من موجبات الكفر عنه ، أما الذي ذكرنا فذهب الشيخ الاشعري ، وأكثر الأصحاب إلى أنه ليس بكافر ، وبه يشعر ما قال الشافعي (رحمه‌الله تعالى) : لا ارد شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية (١) ، لاستحلالهم الكذب ، وفى المنتقى عن أبي حنيفة (رحمه‌الله تعالى) أنه لم يكفر أحدا من أهل القبلة. وعليه أكثر الفقهاء ومن أصحابنا من قال بكفر لمخالفين. وقالت قدماء المعتزلة بكفر القائلين بالصفات القديمة ، وبخلق الأعمال ، وكفر المجبرة ، حتى حكي عن الجبائي أنه قال : المجبر كافر. ومن شك في كفره فهو كافر ، ومن شك في كفر من شك في كفره فهو كافر. ومنهم من بلغ الغاية في الحماقة والوقاحة فزعم أن القول بزيادة الصفات ، وبجواز الرؤية ، وبالخروج من النار ، وبكون الشرور والقبائح بخلقه وإرادته ومشيئته ، وبجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب كلها كفر.

__________________

(١) الخطابية كلها حلولية لدعواها حلول روح الإله في جعفر الصادق ، وبعد في أبي الخطاب الأسدي فهذه الطائفة كافرة من هذه الجهة ، ومن جهة دعواها أن الحسن ، والحسين وأولادهما أبناء الله وأحباؤه ، ومن ادعى منهم في نفسه أنه من أبناء الله فهو أكفر من سائر الخطابية. راجع الفرق بين الفرق ٢٥٥.

وقال الاستاذ أبو إسحاق الأسفرايني (١) بكفر من يكفرنا ، ومن لا ، فلا. واختيار الإمام الرازي أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة. وتمسك بأنه لو توقف صحة الإسلام على اعتقاد الحق في تلك الأصول لكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومن بعده يطالبون بها من آمن ، ويفتشون عن عقائدهم فيها. وينبهونهم على ما هو الحق منها. واللازم منتف قطعا. ثم فرق بينها وبين ما هو من أصول الإسلام بالاتفاق بأن بعضها مما اشتهر كونه من الدين ، واشتمل عليه الكتاب بحيث لا يحتاج إلى البيان. كحشر الأجساد ، وبعضها مما ظهرت أدلتها على ما يليق بأصحاب الجمل بحيث يتسارع إليها الإفهام ، كحدوث العالم. وإنما طال الكلام فيها لإزالة شكوك الفقهاء المبطلون ، بخلاف الأصول الخلافية ، فإن الحق فيها خفي يفتقر إلى زيادة نظر وتأمل ، والكتاب والسنة قد يشتملان على ما يتخيل معارضا لحجة أهل الحق. فلو كانت مخالفة الحق فيها كفرا ، لاحتيج الى البيان البتة. ثم أجاب عن أدلة تكفير الفرق بعضهم بعضا بأجوبة مبني بعضها على أن خرق الإجماع ليس بكفر ، وأن الإجماع لا ينعقد بدون اتفاق المشبهة والمجسمة والروافض وأمثالهم. وبعضها على أن من لزمه الكفر ، ولم يقل به ، فليس بكافر. وبعضها على أن صاحب التأويل ـ وإن كان ظاهر البطلان ـ ليس بكافر. ووافقه بعض المتأخرين من المعتزلة حذرا عن شفاعة تكفير من تكاد تشهد الأرض والسماء بإسلامهم ، وعن لزوم تكفير كثير من كبارهم ، لكن كلامهم يموج بتكفير عظماء أهل الإسلام ، والله عزيز ذو انتقام. ولقائل أن يجيب عن تمسك الإمام بمنع الملازمة بأن التصديق بجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إجمالا كاف في صحة الإيمان ، وإنما يحتاج الى بيان الحق في التفاصيل عند ملاحظتها ، وإن كانت مما لا خلاف في تكفير المخالف فيها ، كحدوث العالم ، فكم من مؤمن لم يعرف معنى الحادث والقديم (٢) أصلا ، ولم يخطر بباله حديث حشر الأجساد قطعا. لكن إذا لاحظ ذلك ، فلو لم يصدق كان كافرا.

__________________

(١) سبق الترجمة عنه ، والحديث عن أعماله في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) القديم : يطلق على الموجود الذي لا يكون وجوده من غيره ، وهو القديم بالذات ، ويطلق القديم على الموجود الذي ليس وجوده مسبوقا بالعدم ، وهو القديم بالزمان. والقديم بالذات يقابله المحدث بالذات ، وهو الذي يكون وجوده من غيره كما أن القديم بالزمان يقابله المحدث بالزمان ، وهو الذي سبق عدمه وجوده سبقا زمانيا ، وكل قديم بالذات قديم بالزمان ، وليس كل قديم بالزمان قديما ـ

قال : المبحث الثامن ـ

(المبحث الثامن ـ حكم المؤمن والكافر والفاسق ما مر ، والفسق هو الخروج عن طاعة الله بارتكاب الكبيرة ، أو الإصرار على الصغيرة وقد يقيد بعدم التأويل احترازا عن الباغي. وأما استحلال ما هو معصية قطعا والاستهانة به فكفر. والمبتدع هو من خالف في العقيدة طريقة أهل الحق. وهو كالفاسق. وأما في حق الدنيا فحكم المؤمن والكافر والفاسق مذكور في الفروع ، وحكم المنافق والزنديق إجراء الاحكام ، وحكم المبتدع البغض والإهانة والطعن واللعن ، ومن المبطلين من جعل المخالفة في الفروع بدعة. ومنهم من زاد كل أمر لم يكن على عهد الصحابة).

حكم المؤمن الخلود في الجنة ، وحكم الكافر الخلود في النار ، ويختص المنافق بالدرك الأسفل. وحكم الفاسق من المؤمنين الخلود في الجنة ، إما ابتداء بموجب العفو أو الشفاعة. وإما بعد التعذيب بالنار بقدر الذنب ، وفيه خلاف المعتزلة والخوارج كما سبق. والفسق هو الخروج عن طاعة الله تعالى بارتكاب الكبيرة ، وقد عرفتها ، وينبغي أن يقيد بعدم التأويل للاتفاق على أن الباغي ليس بفاسق. وفي معنى ارتكاب الكبائر الإصرار على الصغائر ، بمعنى الإكثار منها ، سواء كانت من نوع واحد أو أنواع مختلفة وأما استحلال المعصية بمعنى اعتقاد حلها فكفر ، صغيرة كانت أو كبيرة. وكذا الاستهانة بها ، بمعنى عدها هينة ، ترتكب من غير مبالاة ، وتجري مجرى المباحات. ولا خفاء في أن المراد ما ثبت بقطعي. وحكم المبتدع ، وهو من خالف في العقيدة طريقة السنة والجماعة ينبغي أن يكون حكم الفاسق ، لأن الإخلال بالعقائد ليس بأدون من الإخلال بالأعمال ، وأما فيما يتعلق بأمر الدنيا فحكم المؤمن ظاهر ، وحكم الكافر بأقسامه من الحربي والذمي والكتابي والمرتد ، فذكروه في كتب الفروع. وحكم المنافق والزنديق إجراء أحكام الإسلام ، وحكم الفاسق الحد فيما يجب فيه الحد ، والتعزير (١) في غيره ، والأمر بالتوبة ، ورد

__________________

ـ بالذات ، والقديم بالذات أخص من القديم بالزمان ، فيكون الحادث بالذات أعم من الحادث بالزمان ، لأن مقابل الأخص ، أعم من مقابل الأعم ، ونقيض الأعم من شيء مطلق أخص من نقيض الأخص.

(١) التعزير : هو تأديب دون الحد ، وأصله من العزر وهو المنع.

الشهادة ، وسلب الولاية على اختلاف في ذلك بين الفقهاء ، وحكم المبتدع البغض والعداوة والإعراض عنه. والإهانة والطعن واللعن وكراهية الصلاة خلفه. وطريقة أهل السنة أن العالم حادث ، والصانع قديم متصف بصفات قديمة ، ليست عينه ولا غيره ، وواحد لا شبه له ولا ضد ، ولا ند ، ولا نهاية له ، ولا صورة ، ولا حد ، ولا يحل في شيء ولا يقوم به حادث ولا يصح عليه الحركة والانتقال ، ولا الجهل ، ولا الكذب ولا النقص ، وأنه يرى في الآخرة ، وليس في حيز ولا جهة ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يحتاج إلى شيء ، ولا يجب عليه شيء ، كل المخلوقات بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته. لكن القبائح منها ليست برضاه وأمره ومحبته. وأن المعاد الجسماني ، وسائر ما ورد به السمع من عذاب القبر ، والحساب والصراط ، والميزان ، وغير ذلك حق ، وان الكفار مخلدون في النار دون الفساق. وأن العفو والشفاعة (١) حق ، وأن أشراط الساعة من خروج الدجال ، ويأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى وطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابة الأرض حق. وأول الأنبياء آدم ، وآخرهم محمد (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأول الخلفاء أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي (رضي الله عنهم) والأفضلية بهذا الترتيب مع تردد فيها بين عثمان وعلي (رضي الله عنه) والمشهور من أهل السنة في ديار خراسان والعراق والشام ، وأكثر الاقطار هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن ، علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري صاحب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أول من خالف أبا علي الجبائي ، ورجع عن مذهبه إلى السنة ، أي طريقة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والجماعة أي طريقة الصحابة. وفي ديار ما وراء النهر الماتريدية (٢) أصحاب أبي منصور الماتريدي تلميذ أبي نصر العياض ، تلميذ أبي بكر الجوزجاني صاحب أبي

__________________

(١) قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه ابن ماجه بسنده عن أبي موسى الأشعري. قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة ، لأنها أعم وأكفى أترونها للمتقين ..؟. لا ولكنها للمذنبين ، الخطائين المتلوثين».

(٢) هي مدرسة أبي منصور الماتريدي ، تلك المدرسة التي أرادت هي الأخرى أن تجمع بين الشرع والعقل ، وهي أقرب إلى المعتزلة منها إلى الأشاعرة على عكس ما جرت به الآراء السائدة.

سليمان الجوزجاني ، تلميذ محمد بن الحسن الشيباني (١) (رحمه‌الله) وما تريد من قرى سمرقند، وقد دخل الآن فيها بين الطائفتين اختلاف في بعض الأصول ، كمسألة التكوين ، ومسألة الاستثناء في الإيمان ، ومسألة إيمان المقلد وغير ذلك.

والمحققون من الفريقين لا ينسبون أحدهما إلى البدعة والضلالة خلافا للمبطلين المتعصبين ، حتى ربما جعلوا الاختلاف في الفروع أيضا بدعة وضلالة كالقول بحل متروك التسمية عمدا وعدم نقض الوضوء بالخارج النجس من غير السبيلين ، وكجواز النكاح بدون الولي (٢) ، والصلاة بدون الفاتحة (٣) ولا يعرفون أن البدعة المذمومة هو المحدث في الدين ، من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين ، ولا دل عليه الدليل الشرعي. ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة ، وإن لم يقم دليل على قبحه تمسكا بقوله (عليه‌السلام) : إياكم ومحدثات الأمور (٤).

ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه. عصمنا الله من اتباع الهوى وثبتنا على اقتفاء الهدى بالنبي وآله.

قال : الفصل الرابع ـ في الإمامة.

(وهي رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا خلافة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأحكامه في الفروع. إلا أنه لما شاعت من أهل البدع اعتقادات فاسدة مخلة بكثير من القواعد ، أدرجت مباحثها في الكلام).

لا نزاع في أن مباحث الإمامة بعلم الفروع أليق لرجوعها إلى أن القيام بالإمامة ونصب الإمام الموصوف بالصفات المخصوصة من فروض الكفايات ، وهي أمور

__________________

(١) هو محمد بن الحسن الشيباني ـ أبو عبد الله إمام بالفقه والأصول ولد عام ١٣١ ه‍ وتوفي عام ١٨٩ ه‍ راجع الفهرست لابن النديم ١ : ٢٠٣ والوفيات ١ : ٤٥٣

(٢) يقول الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نكاح إلا بولي». وقال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيما امرأة لم ينكحها الولي فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل».

(٣) قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» : رواه الإمام الترمذي في المواقيت ٦٩ والدارمي في الصلاة ٣٦.

(٤) رواه النسائي في كتاب العيدين ٢٢.

كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية ، لا ينتظم الأمر إلا بحصولها ، فيقصد الشارع تحصيلها في الجملة ، من غير أن يقصد حصولها من كل أحد. ولا خفاء في أن ذلك من الأحكام العملية دون الاعتقادية ، وقد ذكر في كتبنا الفقهية أنه لا بد للأمة من إمام يحيي الدين ، ويقيم السنة ، وينتصف للمظلومين ، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها ، ويشترط أن يكون مكلفا ، مسلما ، عدلا ، حرا ، ذكرا ، مجتهدا ، شجاعا ، ذا رأي وكفاية ، سميعا ، بصيرا ، ناطقا ، قريشيا ، فإن لم يوجد من قريش من يستجمع الصفات المعتبرة ، ولي كناني ، فإن لم يوجد ، فرجل من ولد إسماعيل ، فإن لم يوجد فرجل من العجم ، ولا يشترط أن يكون هاشميا ولا معصوما ولا أفضل من يولى عليهم. وتنعقد الإمامة بطرق :

أحدها ـ بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ، ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم من غير اشتراط عدد ، ولا اتفاق من في سائر البلاد بل لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته.

والثاني ـ استخلاف الإمام وعهده ، وجعله الأمر شورى ، بمنزلة الاستخلاف ، إلا ان المستخلف غير متعين ، فيتشاورون ويتفقون على أحدهم. وإذا خلع الإمام نفسه ، كان كموته ، فينتقل الأمر إلى ولي العهد.

والثالث ـ القهر والاستيلاء ، فإذا مات الإمام وتصدى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف ، وقهر الناس بشوكته ، انعقدت الخلافة له. وكذا إذا كان فاسقا أو جاهلا على الأظهر ، إلا أنه يعصى بما فعل ، ولا يعتبر الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة ، ويجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع. سواء كان عادلا أو جائرا. ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر ، وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثم جاء آخر فقهره ، انعزل وصار القاهر إماما ، ولا يجوز خلع الإمام بلا سبب. ولو خلعوه لم ينفذ وإن عزل نفسه ، فإن كان لعجزه عن القيام بالأمر ، انعزل وإلا ، فلا ، ولا ينعزل الإمام بالفسق والإغماء. وينعزل بالجنون ، وبالعمى ، والصم والخرس وبالمرض الذي ينسيه العلوم.

قال إمام الحرمين : وإذا جار والى الوقت فظهر ظلمه وغشمه ، ولم يرعو لزاجر

عن سوء صنيعه بالقول ، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على ردعه ، ولو بشهر السلاح ، ونصب الحروب. هذا ، ولكن لما شاعت بين الناس في باب الإمامة اعتقادات فاسدة ، واختلافات ، بل اختلافات باردة سيما من فرق الروافض والخوارج ، ومالت كل فئة إلى تعصبات تكاد تفضي إلى رفض كثير من قواعد الإسلام ، ونقض عقائد المسلمين ، والقدح في الخلفاء الراشدين ، مع القطع بأنه ليس للبحث عن أحوالهم ، واستحقاقهم وأفضليتهم كثير تعلق بأفعال المكلفين ألحق المتكلمون هذا الباب بأبواب الكلام ، وربما أدرجوه في تعريفه حيث قالوا : هو العلم الباحث عن أصول الصانع والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتصل بذلك على قانون الإسلام. والإمامة رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا ، خلافة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وبهذا القيد خرجت النبوة ، وبقيد العموم مثل القضاء والرئاسة في بعض النواحي ، وكذا رئاسة من جعلة الإمام نائبا عنه على الإطلاق ، فإنها لا تعم الإمامة.

وقال الإمام الرازي (١) : هي رئاسة عامة في الدين والدنيا ، لشخص من الأشخاص ، وقال : هو احتراز عن كل الأمة إذا عزلوا الإمام لفسقه. وكأنه أراد بكل الأمة أهل الحل والعقد ، واعتبر رياستهم على من عداهم أو على كل من آحاد الأمة. ومع هذا يرد عليه أن الوحدة من شرائط الإمامة ، لا من مقوماتها. وفي الشروط كثرة وعلى اشتراطها أدلة ويمكن أن يقال : إنها بالمقومات أشبه ، من جهة أنه لا يقال لجميع الأمة حينئذ أئمة. بخلاف الإمام الجاهل أو الفاسق أو نحو ذلك ، وعلى هذا ينبغي أن لا يقال لشخصين بايعهما الأمة أنهما إمامان.

فإن قيل : الخلافة عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إنما تكون فيمن استخلفه النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولا يصدق التعريف على إمامة البيعة (٢) ونحوها ، فضلا عن رئاسة النائب العام للإمام.

قلنا : لو سلم فالاستخلاف أعم من أن يكون بوسط أو بدونه.

قال : وفيه مباحث لبيان وجوب الإمامة وشروطها وطريق ثبوتها ، ونبذ من

__________________

(١) سبق الترجمة له في كلمة وافية في الجزء الأول.

(٢) تكلما عن البيعة وشروطها وقواعدها في كلمة وافية في الجزء الثالث.

أحكامها ، وتعيين الإمام الحق بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وإمامة الأئمة الأربعة وترتيبهم في الأفضلية.

قال : المبحث الأول ـ نصب الإمام.

(واجب على الخلق سمعا عندنا وعند عامة المعتزلة ، وعقلا عند بعضهم ، وعلى الله عند الشيعة (١) ، وليس بواجب أصلا عند النجدات ، وحال ظهور العدل عند الأصم ، والظلم عند القوطي ، لنا وجوه :

الأول ـ الإجماع حتى قدموه على دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثاني ـ أنه لا يتم إلا به ما وجب من إقامة الحدود ، وسد الثغور ، ونحو ذلك مما يتعلق بحفظ النظام.

الثالث ـ أن فيه جلب منافع. ودفع مضار لا تحصى ، وذلك واجب إجماعا. فإن قيل : ويتضمن مضارا أيضا ، قلنا : لا يعبأ بها لقلتها ، فإن قيل : فالأئمة بعد الأئمة المهديين على الضلالة. قلنا : ضرورة فلا معصية ولا ضلالة.

الرابع ـ وجوب طاعته ومعرفته بالكتاب والسنة وهو يقتضي وجوب حصوله وذلك نصبه).

بعد انقراض زمن النبوة واجب علينا سمعا عند أهل السنة وعامة المعتزلة ، وعقلا عند الجاحظ (٢) ، والخياط (٣) والكعبي ، وأبي الحسين البصري. وقالت الشيعة والسبعية ، وهم قوم من الملاحدة سموا بذلك لأن متقدميهم قالوا : الأئمة تكون سبعة ، وعند السابع وهو محمد بن إسماعيل توقف بعضهم عليه وجاوزه

__________________

(١) الشيعة المدلول اللغوي للفظ الشيعة هم الأنصار والأتباع ، وأما المدلول السياسي فيقصد به الحزب المناصر لآل البيت ، بيت علي ـ رضي الله عنه ، وكل إمام لا ينسب إلى هذا البيت تعد سلطته غير شرعية عندهم.

(٢) سبق الترجمة له في كلمة وافية في هذا الجزء.

(٣) هو أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان ، الخياط ، ذكره ابن المرتضى في رجال الطبقة الثانية ، وقال عنه : أستاذ أبي القاسم البلخي عبد الله بن أحمد ، وكان أبو الحسين فقيها صاحب حديث ، واسع الحفظ لمذاهب المتكلمين. راجع طبقات المعتزلة ص ٨٥.

بعضهم ، وقالوا : الأئمة تدور على سبعة سبعة ، كأيام الأسبوع. ، وهو واجب على الله ، فعندهم ليكون معلما في معرفة الله تعالى وعند بعض الشيعة ـ وهم الإمامية ـ ليكون لطفا في أداء الواجبات العقلية ، واجتناب المقبحات العقلية ، وعند بعضهم ـ وهم الغلاة ـ لتعليم اللغات ، وأحوال الأغذية ، والأدوية ، والسموم ، والحرف ، والصناعات ، والمحافظة عن الآفات والمخافات.

وقالت النجدات ـ قوم من الخوارج أصحاب نجدة بن عويمر (١) ـ : إنه ليس بواجب أصلا.

وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة : لا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج ، ويجب عند ظهور الظلم.

وقال هشام القوطي منهم بالعكس ، أي يجب عند ظهور العدل لإظهار شرائع الشرع ، لا عند ظهور الظلم ، لأن الظلمة ربما لم يطيعوه ، وصار سببا لزيادة الفتن. لنا على الوجوب وجوه :

الأول ـ وهو العمدة إجماع الصحابة حتى جعلوا ذلك أهم الواجبات ، واشتغلوا به عن دفن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وكذا عقيب موت كل إمام. روي أنه لما توفي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) خطب أبو بكر (رضي الله عنه) فقال : أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد رب محمد ، فإنه حي لا يموت. لا بد لهذا الأمر ممن يقوم به ، فانظروا وهاتوا آراءكم رحمكم الله. فتبادروا من كل جانب. وقالوا : صدقت ، ولكن ننظر في هذا الأمر ، ولم يقل أحد : إنه لا حاجة إلى الإمام.

الثاني ـ أن الشارع أمر بإقامة الحدود ، وسد الثغور ، وتجهيز الجيوش

__________________

(١) هو نجدة بن عامر الحروري الحنفي ، من بني حنيفة من بكر بن وائل رأس الفرقة النجدية ، نسبة إليه ، من الحرورية ، ويعرف أصحابها بالنجدات من كبار أصحاب الثورات في صدر الإسلام انفرد عن سائر الخوارج بآراء قال ابن حجر العسقلاني قدم مكة ، وله مقالات معروفه وأتباع انقرضوا ، كان أول أمره مع نافع بن الأزرق ، وفارقه لإحداثه مذهبه ، ثم خرج مستقلا باليمامة سنة ٦٦ ه‍ أيام عبد الله بن الزبير في جماعة كبيرة فأتى البحرين واستقر بها ، وتسمى بأمير المؤمنين توفي عام ٦٩ ه‍.

للجهاد ، وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام ، وحماية بيضة الإسلام ، مما لا يتم إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به وكان مقدورا فهو واجب ، على ما مر في صدر الكتاب. لا يقال : الأمر بإقامة الحدود كقطع السارق مثلا إن كان مشروطا بوجود الإمام ، لم يكن مطلقا فلم يستلزم وجوبه ، كالأمر بالزكاة بالنسبة إلى تحصيل النصاب. وإن لم يكن مشروطا به فظاهر ، لأنا نقول : فرق بين تقيد الوجوب ، وتقيد الواجب ، فههنا الوجوب مطلق ، أي لم يقيد ولم يشترط بوجود الإمام ، والواجب ـ أعني المأمور به ـ مشروط به وموقوف عليه. كوجوب الصلاة المشروطة بالطهارة.

وأما في الزكاة فالوجوب مشروط بحصول النصاب ، حتى إذا انتفى ، فلا وجوب.

الثالث ـ أن في نصب الإمام استجلاب منافع لا تحصى ، واستدفاع مضار لا يخفى ، وكل ما هو كذلك فهو واجب ، أما الصغرى فيكاد يلحق بالضروريات بل المشاهدات ، ويعد من العيان الذي لا يحتاج إلى البيان. ولهذا اشتهر أن ما يزع السلطان أكثر مما يزع القرآن (١) وما يلتئم باللسان لا ينتظم بالبرهان .. وذلك لأن الاجتماع المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد لا يتم بدون سلطان قاهر يدرأ المفاسد ويحفظ المصالح ويمنع ما يتسارع إليه الطباع ويتنازع عليه الأطماع. وكفاك شاهدا ما يشاهد من استيلاء الفتن والابتلاء بالمحن لمجرد هلاك من يقوم بحماية الحوزة ورعاية البيضة ، وإن لم يكن على ما ينبغي من الصلاح والسداد ، ولم يخل عن شائبة شر وفساد ، ولهذا لا ينتظم أمر أدنى اجتماع كرفقة طريق بدون رئيس يصدرون عن رأيه ، ومقتضى أمره ونهيه. بل ربما يجري مثل هذا فيما بين الحيوانات العجم ، كالنحل لها عظيم يقوم مقام الرئيس ينتظم أمرها به ما دام فيها ، وإذا هلك انتشرت الأفراد انتشار الجراد ، وشاع فيما بينها الهلاك والفساد ، لا يقال :

__________________

(١) نعتقد ـ والله أعلم ـ أن هذا من كلام بعض الصحابة أو التابعين ، وهذه كلمة حق ، فالسلطان هو الذي ينفذ الأحكام على هؤلاء المخالفين شرع الله ، والله يعلم أن اللسان ببيانه والعقل بأحكامه لا يغنيان عن الحق شيئا إذا ما عميت النفس ، وانطمس الحس ، وعميت البصيرة ، ولهذا جعل من السلطان والقوة ما يرد بهما هؤلاء الشاردين إلى جادة الصواب. والله أعلم.

فغاية الأمر أنه لا بد في كل اجتماع من رئيس مطاع ، منوط به النظام والانتظام. لكن من أين يلزم عموم رئاسته جميع الناس ، وشمولها أمر الدين على ما هو المعتبر في الإمام ، لأنا نقول : انتظام أمر عموم الناس على وجه يؤدي إلى صلاح الدين والدنيا ، ويفتقر إلى رئاسة عامة فيهما. إذ لو تعدد الرؤساء في الأصقاع والبقاع ، لأدى إلى منازعات ومخاصمات موجبة لاختلال أمر النظام. ولو اقتصرت رئاسته على أمر الدنيا ، لفات انتظام أمر الدين الذي هو المقصود الأهم ، والعمدة العظمى ، وأما الكبرى فبالإجماع عندنا ، وبالضرورة عند القائلين بالوجوب العقلي. واعتراض صاحب تلخيص المحصل بأن بيان الصغرى عقلي من باب القبح والحسن وليس من مذهبكم ، والكبرى أوضح من الصغرى ، فلا حاجة إلى التعرض للإجماع مدفوع بأن كون الشيء صلاحا أو فسادا ليس في شيء من متنازع الحسن والقبح ، وكون دفع الضرر واجبا بمعنى استحقاق تاركه العقاب عند الله تعالى ليس بواضح فضلا عن الأوضح. ولا ينبغي أن يخفى مثل هذا عليه. ولا أن يكون الرجل العالم العلمي في هذه الغاية من الشغف بالاعتراض. لا يقال : الإجماع على الوجوب إنما هو إذا لم يتضمن مضرة مثل المضرة المندفعة أو فوتها. وهاهنا نصب الإمام يتضمن مفاسد لا يضبطها العد والإحصاء لما في الآراء من اختلافات الأهواء ، وفي الطباع من الاستنكاف عن تسلط الأكفاء ، والإنسان قليل البقاء على ما عليه من الاهتداء وصلاح الاقتداء فتميل النفوس إلى الإباء والاستعصاء ويظهر الفساد. ويكثر البغي والعناد ويهلك الحرث والنسل (١) ويذهب الفرع والأصل. وكفاك شاهدا ما تسمع من قصص انقضاء خلافة عثمان (رضي الله عنه) إلى ابتداء دولة بني العباس ، لأنا نقول : مضاره بالنسبة إلى منافعه ، ومفاسده بالإضافة إلى مصالحه مما لا يعبأ بكثرته ، ويلحق بالعدم في قلته.

فإن قيل : لو وجب نصب الإمام ، لزم إطباق الأمة في أكثر الأعصار على ترك الواجب لانتفاء الإمام المتصف بما يجب من الصفات ، سيما بعد انقضاء الدولة

__________________

(١) قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ، وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ). سورة البقرة الآيات ٢٠٤ ، ٢٠٥.

العباسية ، ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا عضوضا» (١) وقد تم ذلك بخلافة علي (رضي الله تعالى عنه) فمعاوية ومن بعده ملوك وأمراء لا أئمة ولا خلفاء. واللازم منتف ، لأن ترك الواجب معصية وضلالة. والأمة لا تجتمع على الضلالة.

قلنا : إنما يلزم الضلالة لو تركوه (٢) عن قدرة واختيار لا عجز واضطرار ، والحديث مع أنه من باب الآحاد يحتمل الصرف إلى الخلافة على وجه الكمال. وهاهنا بحث آخر ، وهو أنه إذا لم يوجد إمام على شرائطه ، وبايع طائفة من أهل الحل والعقد (٣) قرشيا فيه بعض الشرائط ، من غير نفاذ لأحكامه ، وطاعة من العامة لأوامره ، وشوكة بها يتصرف في مصالح العباد ، ويقدر على النصب والعزل لمن أراد ، هل يكون ذلك إتيانا بالواجب؟ وهل يجب على ذوي الشوكة (٤) العظيمة من ملوك الأطراف ، المتصفين بحسن السياسة والعدل والإنصاف أن يفوضوا الأمر إليه بالكلية ويكونوا لديه كسائر الرعية؟ وقد يتمسك بمثل قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٥).

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية».

فإن وجوب الطاعة والمعرفة يقتضي وجوب الحصول ، وإما أنه لا يجب علينا عقلا ، ولا على الله أصلا فلما مر من بطلان الأصلين.

قال : قالوا : احتج القائلون بوجوبه

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الفتن ٤٨ باب ما جاء في الخلافة ٢٢٢٦ ـ حدثنا أحمد ابن منيع ، حدثنا شريح بن النعمان حدثنا حشرج بن نباتة عن سعيد بن جمهان قال : حدثني سفينة قال قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. ثم قال لي سفينة أمسك خلافة أبي بكر ، وخلافة عمر ، وخلافة عثمان.

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (ورأيه).

(٣) سقط من (ب) لفظ (العقد).

(٤) في (ب) أصحاب القوة بدلا من (ذوي الشوكة).

(٥) سورة النساء آية رقم ٥٩.

(عقلا بأن فيه دفع الضرر ، فيجب. قلنا : لا بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب).

علينا عقلا بأن دفع الضرر واجب عقلا ، كاجتناب الطعام المسموم ، والجدار المشرف على السقوط ولو ظنا. قلنا : نعم بمعنى كونه من مقتضيات العقول والعادات وملائماتها ، والكلام في الوجوب بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب في حكم الله تعالى. وهو ممنوع هاهنا. واحتجوا على عدم وجوبه على الله تعالى. مع أن الوجوب على الله في الجملة مذهبهم ، بأنه لو وجب على الله تعالى ، لما خلا زمان من الأزمنة من إمام ظاهر ، قاهر ؛ جامع لشروط الإمامة قاطع لرسوم الضلالة ، قائم بحماية بيضة الإسلام وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام. واللازم ظاهر الانتفاء.

قال : احتج القائلون

(وفي وجوبه على الله بأنه لطف محصل للمعرفة ، مقرب من الطاعة ، مبعد عن المعصية. ورد بمنع مقدمتي القياس ، كيف وفيه مفاسد تنشأ من اختلاف الآراء وميلها إلى الإباء عن امتثال الأكفاء. وأيضا فعل الطاعة وترك المعصية مع عدم الإمام أشق ، وأقرب الى الإخلاص. وأيضا لا يصير لطفا ، بل خلقهم معصومين ألطف ، والقول بأنه منفعة خالصة ولطف لا يحصل بالغير (١) وأيضا اللطف في ظهوره وأنهم لا يحبونه.

فإن قيل : مجرد الوجود لطف زاجر لخوف الظهور ، وتصرفه الظاهر لطف آخر فوته العباد بسوء اختيارهم ، حيث أضاعوه أخافوه وتركوا نصرته.

قلنا : فيكفي احتمال الوجود والحكم بأنه يوجد ولو بعد حين ، فإن الخوف من وجود مرتب بمنزلة الخوف من ظهور مترقب ، وينبغي أن يظهر للأولياء الذين قضوا في محبته وانتظاره الأعمار (٢) ، وبذلوا المهج (٣) والأموال ، ونحن نقطع بانتفاء

__________________

(١) في أ«مم» وفي (ب) مطلقا ونعتقد أن هذا هو الأقرب إلى الصواب.

(٢) في (ب) السنين الطوال بدلا من (الأعمار).

(٣) في (ب) الأرواح بدلا من (المهج).

ذلك عادة ، وهم حقيقة).

بوجوب نصب الإمام على الله تعالى بأنه لطف من الله في حق العباد. أما عند الملاحدة فليتمكنوا به من تحصيل المعرفة الواجبة ، إذ نظر العقل غير كاف في معرفة الله تعالى (١) ، وأما عند الإمامية فلأنه إذا كان لهم رئيس قاهر يمنعهم من المحظورات ويحثهم على الواجبات كانوا معه أقرب الى الطاعات ، وأبعد عن المعاصي منهم بدونه واللطف واجب على الله لما سبق.

والجواب إجمالا منع المقدمتين والقدح فيما يورد لإثباتهما على ما سبق من حال الكبرى ، وتفصيلا أنه إنما يكون لطفا إذا خلا عن جميع جهات القبح. وهو ممنوع ، والسند ما مر مع وجوه أخر مثل أن أداء الواجب وترك القبيح مع عدم الإمام أكثر ثوابا ، لكونهما أشق وأقرب إلى الإخلاص لاحتمال انتفاء كونهما من خوف الإمام ، وأيضا فإنما يجب لو لم يقم لطف آخر مقامه كالعصمة (٢) مثلا ، فلم لا يجوز أن يكون زمان يكون الناس فيه معصومين مستغنين عن الإمام ، والقول بأنا نعلم قطعا أن اللطف الذي يحصل بالإمام لا يحصل لغيره مجرد دعوى ربما تعارض بأنا نعلم قطعا جواز حصوله لغيره. وهذا كدعوى القطع بانتفاء المفاسد في نصب الإمام ، وكونه مصلحة خالصة. وأيضا إنما يكون منفعة ولطفا واجبا إذا كان ظاهرا قاهرا زاجرا عن القبائح ، قادرا على تنفيذ الأحكام وإعلاء لواء الإسلام ، وهذا ليس بلازم عندكم ، فالإمام الذي ادعيتم وجوبه ليس بلطف. والذي هو لطف ليس بواجب.

وأجاب الشيعة بأن وجود الإمام لطف سواء تصرف أو لم يتصرف على ما نقل عن علي (كرم الله وجهه) أنه قال : لا تخلو الأرض من إمام قائم لله بحجة ، إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مخمورا لئلا يبطل حجج الله وبيناته. وتصرفه الظاهر لطف

__________________

(١) تقول الحكمة الصينية : محال على من يفنى أن يكشف النقاب الذي تنقب به من لا يفنى قيل : فما بال العقل ..؟ قال : العقل قاصر لا يدل إلا على قاصر مثله». راجع كتابنا «مع الإلحاد وجها لوجه».

(٢) العصمة : ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها ، والعصمة المؤثمة : هي التي يجعل من هتكها آثما ، والعصمة المقومة هي التي يثبت بها للإنسان قيمة بحيث من هتكها فعليه القصاص أو الدية.

آخر ، وإنما عدم من جهة العباد وسوء اختيارهم حيث أخافوه وتركوا نصرته ففوتوا اللطف على أنفسهم. ورد أولا بأنا لا نسلم أن وجوده بدون التصرف لطف.

فإن قيل : لأن المكلف إذا اعتقد وجوده كان دائما يخاف ظهوره وتصرفه فيمتنع من القبائح.

قلنا : مجرد الحكم بخلقه وإيجاده في وقت ما كاف في هذا المعنى ، فإن ساكن القرية إذا انزجر عن القبيح خوفا من حاكم من قبل السلطان مختف في القرية ، بحيث لا أثر له ، كذلك ينزجر خوفا من حاكم علم أن السلطان يرسله إليها البتة متى شاء. وليس هذا خوفا من المعدوم ، بل من موجود مترقب ، كما أن خوف الأول من ظهور مترقب ، وثانيا بأنه ينبغي أن يظهر لأوليائه الذين يبذلون الأرواح والأموال على محبته ، وليس عندهم منه إلا مجرد الاسم.

فإن قيل : لعله ظهر لهم وأنتم عنه غافلون.

قلنا : عدم ظهوره لهم من العاديات التي لا ارتياب فيها لعاقل. كعدم بحر من المسك وجبل من الياقوت ، ولو سلم فالأولياء (١) إذا عرفوا من أنفسهم أنه لم يظهر لهم توجه الإشكال عليهم.

قال : احتجت الخوارج

(بأن في نصبه إثارة الفتنة ، لأن الأهواء متخالفة ربما لا تتفق على واحد. رد بأن اعتبار جهات الترجيح وحرمة المخالفة بعد بيعة البعض تدفع الفتنة. ولو سلم ففتنة عدم الإمام أشد).

__________________

(١) الولي : فعيل بمعنى الفاعل ، وهو من توالت طاعته من غير أن يتخللها عصيان ، أو بمعنى المفعول ، فهو من يتوالى عليه إحسان الله وإفضاله ، والولي : هو العارف بالله وصفاته بحسب ما يمكن المواظب على الطاعات المجتنب عن المعاصي ، المعرض عن الانهماك في اللذات والشهوات. والولاية : من الولي ، وهو القرب فهي قرابة حكمية حاصلة من العتق ، أو من الموالاة والولاية ، هي قيام العبد بالحق عند الغناء عن نفسه ، والولاية في الشرع : تنفيذ القول على الغير ، شاء هذا الغير أو أبى عن ذلك. والله أعلم.

القائلون بعدم وجوب نصب الإمام ، احتجوا بأن في نصبه إثارة الفتنة ، لأن الأهواء متخالفة والآراء متباينة ، فيميل كل حزب إلى واحد ، وتهيج الفتن وتقوم الحروب. وما هذا شأنه لا يجب بل كان ينبغي أن لا يجوز إلا ان احتمال الاتفاق على الواحد أو تعينه وتفرده باستجماع الشرائط ، أو ترجحه من بعض الجهات منع الامتناع ، وأوجب الجواز.

والجواب أن اعتبار الترجح كما قيل يقدم الأعلم ، ثم الأورع ، ثم الأسن ، أو انعقاد الأمر ، وانسداد طريق المخالفة بمجرد بيعة البعض ولو واحدا يدفع الفتنة ، مع أن فتنة النزاع في تعيين الإمام بالنسبة إلى مفاسد عدم الإمام ملحقة بالعدم. لا يقال : الاحتجاج المذكور على تقدير تمامه لا ينفي الوجوب على الله ، ولا على النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بالنص ولا على الإمام السابق بالاستخلاف ، لأنا نقول : المقصود نفي ما يراه الجمهور من الوجوب على العباد إذا لم ينصب النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولم يستخلف الإمام السابق.

قال : المبحث الثاني

(التكليف (١) والحرية والذكورة والعدالة ، وذلك ظاهر. وزاد الجمهور الشجاعة ليقيم الحدود ، ويقاوم الخصوم ، والاجتهاد ليقوم بمصالح الدين ، وإصابة الرأي ليقوم الأمور. وكونه قريشيا لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) «الأئمة من قريش (٢). الولاية من قريش ، قدموا قريشا ولا تقدموها».

وخالفت الخوارج وأكثر المعتزلة لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «أطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع» (٣).

__________________

(١) التكليف : الزام الكلفة على المخاطب.

(٢) رواه الإمام أحمد في المسند ٣ : ١٢٩ ، ١٨٣ ، ٤ : ٤٢١ (حلبى).

(٣) الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب الحج ٥١ باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا وبيان قوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتأخذن مناسككم ٣١١ ـ ١٢٩٨ ـ بسنده عن يحيى بن حصين عن جدته أم الحصين قال : سمعتها تقول: حججت مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حجة الوداع فرأيته حتى رمى جمرة العقبة ـ

ولأنه لا عبرة بالنسب في مصالح الملك والدين. ورد بحمل الحديث على غير الإمام جمعا بين الأدلة ، وبأن لشرف الأنساب أثرا في جمع الآراء وبذل الطاعة ، ولا أشرف من قريش ، سيما وقد ظهر منهم خير الأنبياء ، نعم إذا لم يقتدر على اعتبار الشرائط ، جاز لابتناء الأحكام المتعلقة بالإمام على كل ذي شوكة نصب أو استولى).

يشترط في الإمام أن يكون مكلفا ، حرا ، ذكرا ، عدلا. لأن غير العاقل من الصبي والمعتوه قاصر عن القيام بالأمور على ما ينبغي. والعبد مشغول بخدمة السيد ، لا يفرغ للأمر ، مستحقر في أعين الناس ، لا يهاب ولا يمتثل أمره ، والنساء ناقصات عقل ودين ، ممنوعات عن الخروج الى مشاهد الحكم ومعارك الحرب. والفاسق لا يصلح لأمر الدين ولا يوثق بأوامره ونواهيه. والظالم يختل به أمر الدين والدنيا ، وكيف يصلح للولاية. وما الوالي إلا لدفع شره. أليس بعجيب استرعاء الذئب!

وأما الكافر فأمره ظاهر ، وزاد الجمهور اشتراط أن يكون شجاعا ، لئلا يجبن عن إقامة الحدود ومقاومة الخصوم ، مجتهدا في الأصول والفروع ليتمكن من القيام بأمر الدين ، ذا رأي في تدبير الأمور لئلا يخبط في سياسة الجمهور. ولم يشترطها بعضهم لندرة اجتماعها في الشخص وجواز الاكتفاء فيها بالاستعانة من الغير بأن يفوض أمر الحروب ومباشرة الخطوب إلى الشجعان ، ويستفتي المجتهدين في أمور الدين ، ويستشير أصحاب الآراء الصائبة في أمور الملك. واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشيا أي من أولاد نضر بن كنانة خلافا للخوارج وأكثر المعتزلة. لنا السنة والإجماع ، أما السنة فقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «الأئمة من قريش» (١) وليس المراد إمامة الصلاة اتفاقا ، فتعينت الإمامة الكبرى ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الولاة من قريش ما أطاعوا الله واستقاموا لأمره. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : قدموا قريشا ولا تقدموها. وأما الإجماع فهو أنه لما قال الأنصار يوم السقيفة : منا

__________________

ـ وانصرف وهو على راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته والآخر رافع ثوبه على رأس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الشمس قالت : فقال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قولا كثيرا ثم سمعته يقول : «إن أمر عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا».

(١) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء

امير ومنكم أمير ، منعهم أبو بكر (رضي الله عنه) بعدم كونهم من قريش ، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة ، فكان إجماعا احتج المخالف بالمنقول والمعقول ، أما المنقول فقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع» (١). وأجيب بأن ذلك في غير الإمام من الحكام جمعا بين الأدلة ، وأما المعقول فهو أنه لا عبرة بالنسب في القيام بمصالح الملك والدين ، بل للعلم والهدى والبصيرة (٢) في الأمور والخبرة بالمصالح والقوة على الأهوال ، وما أشبه ذلك. وأجيب بالمنع ، بل إن لشرف الأنساب وعظيم قدرها في النفوس أثرا تاما في اجتماع الآراء ، وتألف الأهواء ، وبذل الطاعة والانقياد وإظهار آثار الاعتقاد. ولهذا شاع في الأعصار أن يكون الملك والسياسة في قبيلة مخصوصة ، وأهل بيت معين حتى يرى الانتقال عنه من الخطوب العظيمة ، والاتفاقات العجيبة. ولا أليق بذلك من قريش الذين هم أشرف الناس ، سيما وقد اقتصر عليهم ختم الرسالة وانتشرت منهم الشريعة الباقية إلى يوم القيامة. وأما إذا لم يوجد من قريش من يصلح لذلك أو لم يقتدر على نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظلمة ، وأرباب الضلالة فلا كلام في جواز تقلد القضاء ، وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود ، وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوكة ، كما إذا كان الإمام القريشي فاسقا أو جائرا ، أو جاهلا ، فضلا ان يكون مجتهدا.

وبالجملة مبنى ما ذكر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار ، وأما عند العجز والاضطرار واستيلاء الظلمة والكفار والفجار وتسلط الجبابرة الأشرار فقد صارت الرئاسة الدنيوية تغلبية ، وبنيت عليها الأحكام الدينية المنوطة بالإمام ضرورة ، ولم يعبأ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط والضرورات تبيح المحظورات. وإلى الله المشتكى في النائبات ، وهو المرتجى لكشف الملمات.

قال : واشترطت الشيعة

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء قريبا.

(٢) البصيرة : قوة للقلب المنور بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للنفس يرى بها صور الأشياء وظواهرها ، وهي التي يسميها الحكماء العاقلة النظرية والقوة القدسية.

(أن يكون هاشميا بل علويا ، ؛ وعالما بكل أمر حتى المغيبات ، قولا بلا حجة ، مع مخالفة الإجماع. وأن يكون أفضل أهل زمانه ، لأن تقديم المفضول قبيح عقلا. ونقل عن الأشعري (١) : تحصيلا لغرض نصبه ، وقياسا على النبوة. ورد بالقدح في قاعدة القبح ، مع أن تقديم المفضول ربما يكون أصلح ، والبعثة من قبل الحكيم العليم ، فيختار الأفضل ، بل تحصل الأفضلية بالبعثة. وقد يحتج لتقديم المفضول بالإجماع بعد الخلفاء ، وبالشورى ، وبخفاء الأفضلية عن الخلق في الأغلب)

أمورا منها : أن يكون هاشميا ، أي من أولاد هاشم بن عبد مناف أبي عبد المطلب. وليس لهم في ذلك شبهة فضلا عن حجة وإنما قصدهم نفي إمامة أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) ومنهم من اشترط كونه علويا نقيا لخلافة بني العباس ، وكفى بإجماع المسلمين على إمامة الأئمة الثلاثة حجة عليهم. ومنها أن يكون عالما بكل الأمور ، وأن يكون مطلعا على المغيبات ، وهذه جهالة تفرد بها بعضهم. ومنها أن يكون أفضل أهل زمانه لأن قبح تقديم المفضول على الأفضل في إقامة قوانين الشريعة وحفظ حوزة الإسلام معلوم للعقلاء ، ولا ترجيح في تقديم المساوى ، ونقل مثل ذلك عن الأشعري حتى لا تنعقد إمامة المفضول مع وجود الأفضل ، لأن الأفضل أقرب إلى انقياد الناس له ، واجتماع الآراء على متابعته ، ولأن الإمامة خلافة عن النبي (٢) (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فيجب أن يطلب لها من له رتبة أعلى ، قياسا على النبوة. وأجيب بأن القبح بمعنى استحقاق تاركه الذم والعقاب عند الله ممنوع ، وبمعنى عدم ملائمته بمجاري العقول والعادات غير مقيد ، مع أنه أيضا في حيز المنع. إذ ربما يكون المفضول أقدر على القيام بمصالح الدين والملك. ونصبه أوقع لانتظام

__________________

(١) هو على بن إسماعيل بن إسحاق أبو الحسن من نسل الصحابي أبي موسى الأشعري ، مؤسس مذهب الأشاعرة ولد عام ٢٦٠ ه‍ ، وتوفي عام ٣٢٤ ه‍ راجع طبقات الشافعية ٢ : ٢٤٥ والمقريزي ٢ : ٣٥٩ وابن خلكان ١ : ٣٢٦ والبداية والنهاية ١١ : ١٨٧ ودائرة المعارف الإسلامية ٢ : ٢١٨.

(٢) النبي : من أوحى الله إليه بواسطة ملك ، أو ألهم في قلبه أو نبه بالرؤيا الصالحة ، فالرسول أفضل بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة ، لأن الرسول : هو من أوحى إليه جبرائيل خاصة بتنزيل الكتاب من الله.

حال الرعية وأوثق في اندفاع الفتنة. وهذا بخلاف النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فإنه مبعوث من العليم الحكيم الذي يختار من يشاء من عباده لنبوته ، ويوحي إليه مصالح الملك والملة ، ويراه أهلا لتبليغ ما أوحى إليه بمشيئته فيدل ذلك قطعا على أفضليته وإليه الإشارة بقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(١)

وقد يحتج بجواز تقديم المفضول بوجوه :

الأول ـ إجماع العلماء بعد الخلفاء الراشدين على انعقاد الإمامة لبعض (٢) القرشيين مع أن فيهم من هو أفضل منه.

الثاني ـ أن عمر (رضي الله عنه) جعل الإمامة شورى بين ستة من غير نكير عليه. مع أن فيهم عثمان وعليا ، وهما أفضل من غيرهم إجماعا ، ولو وجب تعيين الأفضل لعينهما.

الثالث ـ أن الأفضلية أمر خفي قلما يطلع عليه أهل الحل والعقد وربما يقع فيه النزاع ويتشوش الأمر. وإذا أنصفت فتعيين الأفضل متعسر في أقل فرقة من فرق الفاضلين ، فكيف في قريش مع كثرتهم وتفرقهم في الأطراف (٣) وأنت خبير بأن هذا وأمثاله على تقدير تمامه إنما يصلح للاحتجاج (٤) على أهل الحق ، دون الروافض (٥) فإن الإمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق.

قال : وأن يكون معصوما.

(بوجوه : الأول ـ القياس على النبوة بجامع إقامة الشريعة ، وحماية البيضة.

__________________

(١) سورة يونس آية رقم ٣٥.

(٢) في (ب) لبعض من القرشيين بدلا من «لبعض القرشيين».

(٣) في (ب) أطراف البلاد بدلا من (الأطراف).

(٤) سقط من (ب) لفظ (للاحتجاج).

(٥) الرافضة الذين كانوا مع زيد بن علي ثم تركوه لأنهم طلبوا إليه أن يتبرأ من الشيخيين فقال : لقد كانا وزيري جدي فلا أتبرأ منهما فرفضوه وتفرقوا عنه ، والزيدية من الشيعة ، وقد يطلق بعض الناس اسم الرفض على كل من يتولى أهل البيت وعلى هذا جاء قول الذي يقول :

إن كان رفضا حب آل محمد

فليشهد الثقلان أني رافض

ورد بأن نصب الإمام إلى العباد الذين لا طريق لهم إلى معرفة عصمته بخلاف النبي. والنبي واجب الاتباع من غير تردد ورجوع إلى أحد ، فعدم عصمته فيما يتعلق بالشريعة ، ربما يفضي إلى الإخلال ، وينفر عن الاتباع ، بخلاف الإمام.

الثاني ـ أنه واجب الإطاعة بالنص والإجماع فلو لم تجب عصمته ، لجاز كذبه في بيان الطاعات والمعاصي ، فيلزم وجوب اجتناب الطاعة وارتكاب المعصية ، ورد بأنه إنما يطاع فيما لا يخالف الشرع ، ويكفي في الوثوق به العلم والعدالة والإسلام ، ولا يمتنع عند مخالفته والمراجعة الى العلماء.

الثالث ـ أن غير المعصوم ظالم لأن المعصية ظلم على النفس أو الغير ، فلا ينال عهد الإمامة بالنص والإجماع. ورد بأن عصمته لا يوجب العصيان ، فضلا عن الظلم الذي هو أخص. على أن المراد في الآية عهد النبوة والإجماع عندكم ليس بحجة ما لم يشتمل على قول المعصوم. فإثبات العصمة به دور.

الرابع ـ أنه إنما يحتاج إليه لجواز الخطأ علينا (١). فلو جاز عليه لافتقر إلى إمام آخر ويتسلسل. ورد بأن وجوب نصبه شرعي للإجماع ، لا عقلي لجواز الخطأ. ولو سلم ، فلمصالح لا تحصى (٢). ولو سلم ، ففي العلم والعدالة ومراجعة الكتاب الكريم (٣) والسنة [النبوية المطهرة] (٤) وعلماء الأمة غنية عن العصمة.

الخامس ـ أنه شرع حافظا. فلو جاز خطأه لصار ناقصا ، ورد بأنه حافظ بالأدلة ، والاجتهاد لا بالذات. فعند الخطأ أو المعصية يرد ويصد. والشرع لا ينتقض ولا ينتقص.

السادس ـ أنه لو أقدم على المعصية ، فإما أن يجب الإنكار عليه فيضاد وجوب الإطاعة أو لا ، فيخالف قيام الأدلة. ورد بأن وجوب طاعته إنما هو فيما لا يخالف الشرع.

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (علينا).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (كثيرة).

(٣) سقط من (أ) لفظ (الكريم).

(٤) سقط من (أ) النبوية المطهرة.

السابع ـ أنه لا طريق إلى نقل الشريعة مدى الأيام إلا بعصمة الإمام ، إذ قد لا يوجد أهل التواتر في كل من الأحكام ، ورد بأن الظن كاف في البعض ، فيكفي الآحاد ، والقطعي إلى أهل التواتر (١) أو الإجماع (٢)).

من معظم الخلافيات مع الشيعة اشتراطهم أن يكون الإمام معصوما ، وقد عرفت معنى العصمة ، وأنها لا تنافي القدرة على المعصية ، بل ربما يستلزمها ، واحتج أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالإجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم) مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم ، وإن كانوا معصومين بمعنى أنهم منذ آمنوا كان لهم ملكة اجتناب المعاصي مع التمكن منها. وحاصل هذا دعوى الإجماع على عدم اشتراط العصمة في الإمام ، وإلا فليس الإجماع على عدم وجوب عصمة الشخص كثير معنى. وقد يحتج كثير بأن العصمة مما لا سبيل للعباد إلى الاطلاع عليه. فإيجاب نصب إمام معصوم يعود إلى تكليف ما ليس في الوسع. وفي انتهاض الوجهين على الشيعة نظر. والظاهر أنه لا حاجة إلى الدليل على عدم اشتراط ، وإنما يحتاج إليه في الاشتراط. وقد احتجوا بوجوه :

الأول ـ القياس (٣) على النبوة بجامع إقامة الشريعة ، وتنفيذ الأحكام وحماية حوزة الإسلام.

ورد بأن النبي مبعوث من الله ، مقرون دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته من الكذب وسائر الأمور المخلة بمرتبة النبوة ، ومنصب الرسالة ، ولا كذلك الإمام ، فإن نصبه مفوض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته واستقامة سريرته. فلا وجه لاشتراطها. وأيضا النبي يأتي بالشريعة التي لا علم للعباد بها إلا من جهته. فلو لم يكن معصوما عن الكذب في تبليغها والفسق في تعاطيها ، وقد لزمنا

__________________

(١) التواتر : هو الخبر الثابت على ألسنة قوم لا يتصور تواطؤهم على الكذب.

(٢) الإجماع في اللغة : العزم والاتفاق ، وفي الاصطلاح اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على أمر ديني.

(٣) القياس في اللغة : عبارة عن التقدير يقال : قست النعل بالنعل إذا قدرته وسويته ، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره ، وفي الشريعة : عبارة عن المعنى المستنبط من النص لتعدية الحكم من المنصوص عليه إلى غيره وهو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم.

امتثاله فيما أمر ونهى. واعتقاد إباحة ما جرى عليه ومضى ، لكانت المعجزة التي أقامها الله تعالى لصحة الرسالة والهدى ، وانتظام أمر الدين والدنيا مفضية إلى الضلالة والردى ، واختلال حال العاجلة والعقبى.

الثاني ـ أن الإمام واجب الطاعة بالنص والإجماع قال الله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١)

وكل واجب الطاعة واجب العصمة ، وإلا لجاز أن يكذب في تقرير الأوامر ، والنواهي ، وينهى عن الطاعات ، ويأمر بالمعاصي. فيل~زم وجوب اجتناب الطاعة وارتكاب العصيان ، واللازم ظاهر البطلان.

والجواب أن وجوب طاعته إنما هو فيما لا يخالف الشرع بشهادة قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (٢)

ويكفي في عدم كذبه في بيان الأحكام العلم والعدالة والإسلام ، وهذا ما يقال إنما يجب عصمته لو كان وجوب طاعته بمجرد قوله ، وأما إذا كان لكونه حكم الله ورسوله فيكفي العلم والعدالة كالقاضي والوالي بالنسبة إلى الخلق. والشاهد بالنسبة إلى الحاكم ، والمفتي بالنسبة إلى المقلد ، وأمثال ذلك. على أن الإجماع عند الشيعة ، إنما يكون حجة لاشتماله على قول المعصوم. فإثبات العصمة به دور.

الثالث ـ أن غير المعصوم ظالم ، لأن المعصية على النفس أو على الغير ، ولا شيء من الظالم بأهل للإمامة لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣).

والمراد عهد الإمامة بقرينة السياق ، وهو قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (٤)

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٥٩.

(٢) سورة النساء آية رقم ٥٩.

(٣) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

(٤) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

والجواب أن غير المعصوم أي من ليس له ملكة العصمة لا يلزم أن يكون عاصيا بالفعل ، فضلا ان يكون ظالما ، فإن المعصية أعم من الظلم وليس كل عاص ظالما على الإطلاق ولو سلم فدلالة الآية على صدق الكبرى لا يتم لجواز أن يكون المراد عهد النبوة والرسالة على ما هو رأي اكثر المفسرين ، نعم لا يبعد إثباته بالإجماع وفيه ما مرّ.

الرابع ـ أن الأمة إنما يحتاجون إلى الإمام لجواز الخطأ عليهم في العلم والعمل. ولذلك يكون الإمام لطفا لهم. فلو جاز الخطأ على الإمام لوجب له إمام آخر ويتسلسل (١). وشبه ذلك بانتهاء سلسلة الممكنات إلى الواجب لئلا يلزم التسلسل.

والجواب أن وجوب الإمام شرعي بمعنى أنه أوجب علينا نصبه ، لا عقلي مبني على جواز الخطأ على الأمة كما زعمتم ، لأن في الشريعة القائمة إلى القيامة غنية عنه لو لا إيجاب الشارع والضرر المظنون من عدمه يندفع بعلمه ، واجتهاده ، وظاهر عدالته ، وحسن اعتقاده ، وإن لم يكن معصوما. ألا يرى ان الخطأ جائز على المعصوم أيضا لما عرفت من أن العصمة لا تزيل المحنة ، وإن لم يندفع بذلك فكفى بخير الأمم وعلماء الشرع مانعا دافعا.

الخامس ـ أنه حافظ للشريعة. فلو جاز الخطأ عليه لكان ناقضا لها حافظا فيعود على موضوعه بالنقض.

والجواب أنه ليس حافظا لها بذاته. بل بالكتاب والسنة ، وإجماع الأمة ، واجتهاده الصحيح. فإن اخطأ في اجتهاده أو ارتكب معصية فالمجتهدون يردون ، والآمرون بالمعروف يصدون ، وإن لم يفعلوا أيضا ، فلا نقض (٢) للشريعة

__________________

(١) التسلسل : هو ترتيب أمور غير متناهية ، وأقسامه أربعة لأنه لا يخفى إما أن يكون في الآحاد المجتمعة في الوجود ، أو لم يكن فيها كالتسلسل في الحوادث.

(٢) النقض لغة : الكسر ، وفي الاصطلاح هو بيان تخلف الحكم المدعي بثبوته أو نفيه عن دليل المعلل الدال عليه في بعض من الصور فإن وقع بمنع شيء من مقدمات الدليل على الإجمال سمي نقضا إجماليا لأن حاصله يرجع إلى منع شيء من مقدمات الدليل على الإجمال ، وإن وقع بالمنع المجرد ، أو مع السند سمي نقضا تفصيليا لأنه منع مقدمة معينة. وقيل النقض : وجود العلة بلا حكم.

القويمة ، ولا نقض على الطريقة المستقيمة.

السادس ـ أنه لو أقدم على المعصية ، فإما أن يجب الإنكار عليه وهو مضاد لوجوب إطاعته الثابت بقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)

فيلزم اجتماع الضدين ، وإما أن لا يجب وهو خلاف النص والإجماع.

والجواب أن وجوب الطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشرع. وأما فيما يخالفه فالرد والإنكار ، وإن لم يتيسر فسكوت عن اضطرار.

السابع ـ أنه لا بد للشريعة من ناقل ، ولا يوجد في كل حكم حكم أهل التواتر معنعنا إلى انقراض العصر. فلم يبق إلا أن يكون إماما معصوما عن الخطأ.

والجواب أن الظن كاف في البعض ، فينقل بطريق الآحاد من الثقات. وأما القطعي فإلى أهل التواتر ، أو جميع الأمة ، وهم أهل عصمة عن الخطأ ، فلا حاجة إلى معصوم بالمعنى الذي قصد. ثم ـ وليت شعري ـ بأي طريق نقلت الشريعة إلى الشيعة من الإمام الذي لا يوجد منه إلا الاسم.

قال : وأما اشتراط :

(وأما اشتراط المعجزة والعلم بالمغيبات واللغات والحرف والصناعات وطبائع الأغذية والأدوية وعجائب البر والبحر والسماء والأرض فمن الخرافات).

قد اشترط الغلاة من الروافض أن يكون الإمام صاحب معجزة عالما بالغيوب ، وبجميع اللغات ، وبجميع الحرف والصناعات وبطبائع الأغذية والأدوية ، وبعجائب البر والبحر والسماء والأرض. وهذه خرافات مفضية إلى نفي الإمام ورفض الشريعة والأحكام.

قال : المبحث الثالث ـ

(المبحث الثالث ـ الإمامة تثبت عند أكثر الفرق باختيار أهل الحل والعقد وإن قلوا للإجماع على إمامة أبي بكر من غير نص ولا توقف إلى اتفاق الكل. وعلى

اشتغال الصحابة بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وبعد عثمان (رضي الله تعالى عنه) بالبيعة والاختيار من غير تكبير وخالفت الشيعة بوجوه :

الأول ـ أن من الشروط ما لا يعلمه أهل البيعة كالعصمة والأفضلية ، والعلم بالدين كله.

قلنا : لو سلم الاشتراط فالظن كاف.

الثاني ـ أن ليس إليهم تولية مثل القضاء والاحتساب. فهذا أولى.

قلنا : لو سلم فلوجود الإمام.

الثالث ـ أن في ذلك إثارة الفتنة كما في زمن علي (رضي الله تعالى عنه) ومعاوية.

قلنا : الكلام فيما إذا أذعنوا للحق واعتبروا جهات الترجيح. ولو سلم ، ففتنة عدم الإمام أضعاف ذلك ، إذ التقدير عدم النص. وإلا فلا اختيار عليه.

الرابع ـ أن مختار أهل البيعة يكون خليفة منهم لا من الله ورسوله.

قلنا : قام دليل الشرع (١) على أن من اختاروه فهو خليفة الله ورسوله.

الخامس ـ إذا عقد أهلان لأهلين ولم يعلم السبق ، لزم خلو الزمان (٢) عن الإمام إذ لا سبيل إلى تصحيحهما ولا إبطالهما ولا تعيين الصحيح منهما ، ولا نصب ثالث.

قلنا : بل يرجح أحدهما أو ينصب ثالث ، ولا فساد.

السادس ـ أنه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم يكن ترك الاستخلاف في أدنى غيبة ، ولا البيان في أدنى ما

__________________

(١) الشرع في اللغة : عبارة عن البيان والإظهار ، يقال : شرع الله كذا أي جعله طريقا ومذهبا ومنه المشرعة.

(٢) الزمان هو مقدار حركة الفلك الأطلس عند الحكماء وعند المتكلمين عبارة عن متجدد معلوم يقدر به متجدد آخر موهوم كما يقال آتيك عند طلوع الشمس فإن طلوع الشمس معلوم ومجيئه موهوم فإذا قرن ذلك الموهوم بذلك المعلوم زال الإيهام.

يحتاج إليه ، فكيف في غيبة الوفاة وفي أساس المهمات.

السابع ـ أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أرأف بأمته من الأب لولده ، فكيف ترك الوصية لهم إلى أحد؟

الثامن ـ قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١).

والإمامة من معظمات أمر الدين ، فكيف تهمل؟ قلنا : التفويض إلى اختيارهم واجتهادهم نوع استخلاف وتوصية وإكمال.)

في طريق ثبوتها اتفقت الأمة على أن الرجل لا يصير إماما بمجرد صلاحيته للإمامة واجتماع الشرائط فيه ، بل لا بد من أمر آخر به تنعقد الإمامة وهي طرق ، منها متفق عليه ، ومنها مختلف فيه. فالمختلف فيه المردود الدعوة بأن يباين الظلمة من هو أصل للإمامة ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويدعو إلى اتباعه. قال به غير الصالحية من الزيدية ، ذاهبين إلى أن كل فاطمي خرج شاهرا لسيفه ، داعيا إلى سبيل ربه. فهو إمام. ولم يوافقهم على ذلك إلا الجبائي (٢). والمختلف فيه المقبول عندنا وعند المعتزلة والخوارج ، والصالحية (٣) خلافا للشيعة هو اختيار أهل الحل والعقد وبيعتهم من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك ، ولا عدد محدود ، بل ينعقد بعقد واحد منهم ، ولهذا لم يتوقف أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) إلى انتشار الأخبار في الأقطار ، ولم ينكر عليه أحد.

وقال عمر (رضي الله تعالى عنه) لأبي عبيدة : ابسط يدك أبايعك ، فقال : أتقول هذا وأبو بكر حاضر ، فبايع أبا بكر ، وهذا مذهب الأشعري (٤). إلا أنه يشترط أن يكون العقد بمشهد من الشهود لئلا يدعي آخر أنه عقد عقدا سرا متقدما على هذا العقد. وذهب أكثر المعتزلة إلى اشتراط عدد خمسة ممن يصلح للإمامة أخذا من

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٣.

(٢) سبق الترجمة له في كلمة وافية.

(٣) الصالحية : أصحاب الصالحي ، وهم جوزوا قيام العلم والقدرة ، والسمع والبصر مع الميت ، وجوزوا خلو الجوهر عن الأعراض كلها.

(٤) سبق الترجمة له في كلمة وافية.

أمر الشورى. لنا على كون البيعة والاختيار طريقا أن الطريق إما النص وإما الاختيار. والنص منتف في حق أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) مع كونه إماما بالإجماع ، وكذا في حق علي عند التحقيق. وأيضا اشتغل الصحابة (رضي الله تعالى عنهم) بعد وفاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) (١) ومقتل عثمان (رضي الله تعالى عنه) باختيار الإمام ، وعقد البيعة من غير نكير ، فكان إجماعا على كونه طريقا ، ولا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك احتجت الشيعة بوجوه:

الأول ـ أن الإمام يجب أن يكون معصوما أفضل من رعيته. عالما بأمر الدين كله. ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالاختيار ، ورد بمنع المقدمتين فقد سبق عدم اشتراط الأمور ، وعلم بالضرورة حصول الظن لأهل الحل والعقد بالصفات المذكورة.

الثاني ـ أن أهل البيعة لا يقدرون على تولية مثل القضاء والاحتساب ، ولا على التصرف في فرد من آحاد الأمة ، فكيف يقدرون على تولية الرئاسة الكبرى وعلى أقدار الغير على التصرف في أمر الدين والدنيا لكافة الأمة. ورد بمنع الصغرى ، فإن التحكيم جائز عندنا والشاهد يجعل القاضي قادرا على التصرف في الغير ، ولو سلم فذلك لوجود من إليه التولية وهو الإمام ، ولا كذلك إذا مات ، ولا إمام غيره.

الثالث ـ أن الإمامة لإزالة الفتن وإثباتها بالبيعة مظنة إثارة الفتن لاختلاف الآراء ، كما في زمن علي (رضي الله تعالى عنه) ومعاوية ، فتعود على موضوعها بالنقض. ورد بأنه لا فتنة عند الانقياد للحق. فإن جهات الترجيح من السبق وغير معلومة من الشريعة. ونزاع معاوية لم يكن في إمامة علي (رضي الله عنه) بل في أنه هل يجب عليه بيعته قبل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ وأما عند الترفع والاستيلاء

__________________

(١) مات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وعلم المسلمون بوفاته ووصل خبر وفاته إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه وأخذه الخبر من كل جانب وأسقط في يده حتى قال : من قال إن محمدا قد مات أخذت رقبته بهذا السيف حتى جاء أبو بكر وتلا قول الله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). فعاد عمر إلى صوابه ـ ثم ذهب مع أبي بكر إلى سقيفة بني ساعده فوجدا فيها الأنصار وتشاوروا في الأمر ثم اشتد الأمر حتى قالت الأنصار لأبي بكر منا أمير ومنكم أمير ثم حسم هذا الأمر ببيعة أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه.

فالفتنة (١) قائمة ولو مع قيام النص. ولو سلم ، فالكلام فيما إذا لم يوجد النص إذ لا عبرة بالبيعة والاختيار على خلاف ما ورد به النص ، ولا خفاء في أن الفتنة القائمة من عدم الإمام أضعاف فتنة النزاع في تعيينه.

الرابع ـ أن الإمامة خلافة الله (٢) ورسوله فتتوقف على استخلافهما بوسط أو لا بوسط. والثابت باختيار الأمة لا يكون خلافة منهما ، بل من الأمة ، ورد بأنه لما قام الدليل من قبل الشارع وهو الإجماع على أن من اختاره الأمة خليفة لله ورسوله ، كان خليفة سقط ما ذكرتم ، ألا ترى أن الوجوب بشهادة الشاهد (٣) وقضاء القاضي ، وفتوى المفتي حكم الله لا حكمهم. على أن الإمام وإن كان نائبا لله فهو نائب للأمة أيضا.

الخامس ـ أن القول بالاختيار يؤدي إلى خلو الزمان عن الإمام ، وهو باطل بالاتفاق ، وذلك فيما إذا عقد أهل بلدتين لمستعدين ، ولم يعلم السبق. فإنه لا يمكن الحكم بصحتهما لاحتمال المقارنة ، ولا بفسادهما لاحتمال السبق ، ولا بتعين الصحيح لعدم الوقوف ، وحينئذ لا يمكن نصب إمام آخر لاحتمال كونه ثانيا ، ورد بأنه ينصب إمام بعدم العلم بوجود الإمام على أنه يمكن الترجيح بجهاته.

السادس ـ أن سيرة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وطريقته على أنه كان لا يترك الاستخلاف على المدينة وغيرها من البلاد في غيبة مدة قليلة ، ولا البيان في أدنى ما يحتاج إليه من الفرائض والسنن والآداب ، حتى في أمر قضاء الحاجة ، ومسح الخف ، ونحو ذلك ، فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة والبيان فيما هو أساس المهمات؟

والجواب أن ذلك مجرد استبعاد على أن التفويض إلى اختيار أهل (٤) الحل

__________________

(١) الفتنة : ما يتبين به حال الإنسان من الخير والشر يقال : فتنت الذهب بالنار إذا أحرقته بها لتعلم أنه خالص أو مشوب ، ومنه الفتانة ، وهو الحجر الذي يجرب به الذهب والفضة.

(٢) في (ب) خلافة رسول الله بدلا من (خلافة الله ورسوله).

(٣) الشاهد : في اللغة عبارة عن الحاضر ، وفي اصطلاح القوم عبارة عما كان حاضرا في قلب الإنسان ، وغلب عليه ذكره فإن كان الغالب عليه العلم فهو شاهد العلم ، وإن كان الغالب عليه الوجد فهو شاهد الوجد ، وإن كان الغالب عليه الحق فهو شاهد الحق.

(٤) في (ب) أصحاب بدلا من (أهل).

والعقد واجتهاد أرباب أولي الألباب نوع استخلاف وبيان كما في كثير من فروع الإيمان.

السابع ـ أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كان لأمته بمنزلة الأب الشفيق لأولاده الصغار ، وهو لا يترك الوصية في الأولاد إلى واحد يصلح لذلك. فكذا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق الأمة.

الثامن ـ قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (١)

ولا خفاء في أن الإمامة من معظمات أمر الدين ، فيكون قد بينها وأكملها إما في كتابه وإما على لسان نبيه.

والجواب عنهما بمثل ما سبق.

قال : خاتمة

(عقد الإمامة ينحل بما يخل بمقصودها كالردة ، والجنون ، وبعض الأمراض ، وبخلعه نفسه بسبب ، وبالغلبة عليه إذا صار إماما بالغلبة. واختلف في خلعه نفسه بلا سبب ، وفي انعزاله بالفسق).

ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة والجنون المطبق ، وصيرورته أسيرا لا يرجى خلاصه ، وكذا بالمرض الذي ينسيه العلوم وبالعمى ، والصمم والخرس ، وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن القيام بمصالح المسلمين ، وإن لم يكن ظاهرا ، بل استشعره في نفسه. وعليه يحمل خلع الحسن (رضي الله تعالى عنه) نفسه. وأما خلعه لنفسه بلا سبب ففيه خلاف. وكذا في انعزاله بالفسق. والأكثرون على أنه لا ينعزل. وهو المختار من مذهب الشافعي (رضي الله تعالى عنه) وأبي حنيفة ، وعن محمد (رضي الله تعالى عنهما) روايتان. ويستحق العزل بالاتفاق. ومن صار إماما بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه. وأما القاضي فينعزل بالفسق على الأظهر.

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٣ وتكملة الآية (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قال : المبحث الرابع ـ

(الجمهور على أنه (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم ينص على إمام. وقيل : نص على أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) نصا خفيا. وقيل : جليا. وقالت الشيعة : على علي (كرم الله وجهه) خفيا. والإمامية منهم : جليا أيضا ورد بوجهين :

الأول ـ لو كان نص جلي في مثل هذا الأمر العلي لاشتهر وظهر على أجلة الصحابة الذين لهم زيادة قرب واختصاص بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فلم يتوقفوا عن الإذعان ، ولم يترددوا حين اجتمعوا لهذا الشأن. ولم يختلفوا في التعيين ، ولم يشكوا في الحق اليقين. والقول بأنهم كتموه بغضا وحسدا ، أو عنادا ولددا ، أو اعتمادا لنسخه حين لم يعمل المحقون على دفعه ، ولم يتمسك به المستحق لإثبات حقه افتراء واجتراء وطعن في عظماء الأحياء ، بل في خير الأنبياء ، بل في الكتاب الناطق لهم بالثناء. والعاقل المنصف لا يظن بجماعة وصفهم الله تعالى بكونهم خير الأمم (١) واتخذهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أمناء شريعة ، وهداة طريقة مع علمه بحالهم ومآلهم ، واشتهر عدلهم وهداهم ، وتركهم هواهم ، وبذلهم الأموال والأنفس في محبته ، وقتلهم الأقارب والعشائر لنصرته ، واتباع شريعته (٢) أنهم خالفوه قبل أن يدفنوه ، وعدلوا عن الحق ، وخذلوه ، ونصروا على الباطل وأيدوه ، ومنعوا المستحق حقه وكتموه ، ولم يقم هو بإظهاره وإعلانه مع علو شأنه وكثرة أعوانه كما قام به من غير تبعية حين أفضى الأمر إليه ، وأقام الحجة والبرهان والسيف والسنان عليه. مع أن الخطب إذ ذاك أشد ، والخصم ألد ، والمخالف لا يحويه الحد ، ولا يحصيه العد.

الثاني ـ أمارات ربما يفيد باجتماعها القطع بعدم النص ، كقول العباس لعلي ، وعمر لأبي عبيدة : امدد يدك أبايعك ، وقول أبي بكر : بايعوا عمر أو أبا عبيدة.

__________________

(١) قال تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ).

(٢) قال تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ـ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ).

وقوله : وددت أني سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو. وكقبول علي الشورى ، وكقوله لطلحة : إن أردت بايعتك ، وكاحتجاجه على معاوية بالبيعة له دون النص عليه. وكمعاضدته لأبي بكر وعمر في الأمور ، وإشارته عليهما بما هو أصلح ، وكسكوته عن النص عليه في خطبه وكتبه. ومفاخراته ، ومخاطباته. وكإنكار زيد ابن علي مع علو رتبته ذلك ، وكذا كثير من عظماء أهل البيت).

ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة ، والخوارج ، إلى ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم ينص على إمام بعده. وقيل : نص على أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) فقال الحسن البصري : (١) نصا خفيا ، وهو تقديمه إياه في الصلاة. وقال بعض أصحاب الحديث : نصا جليا ، وهو ما روي أنه (عليه‌السلام) قال : ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان ، ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر (٢). وقيل : نص على علي (رضي الله تعالى عنه). وهو مذهب الشيعة. أما النص الخفي ، وهو الذي لا يعلم المراد منه بالضرورة فبالاتفاق ، وأما النص الجلي فعند الإمامية دون الزيدية ، وهو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : سلموا عليه بإمرة المؤمنين. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مشيرا إليه وآخذا بيده هذا خليفتي فيكم من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أنت الخليفة من بعدي. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وقد جمع بني عبد المطلب : أيكم يبايعني ويؤازرني يكن أخي ووصيي وخليفتي من بعدي. فبايعه علي (رضي الله عنه) ثم استدل أهل الحق بطريقين : أحدهما ـ أنه لو كان نص جلي ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلق بمصالح الدين والدنيا لعامة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصحابة ، وظهر على أجلتهم الذين لهم زيادة قرب بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) واختصاص بهذا الأمر بحكم العادة. واللازم منتف. وإلا لم يتوقفوا عن الانقياد له والعمل بموجبه. ولم يترددوا حين اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة لتعيين الإمام ، ولم يقل الأنصار : «منا أمير ، ومنكم أمير» ولم تمل طائفة إلى أبي بكر (رضي الله عنه) وأخرى إلى علي (رضي الله عنه) وأخرى الى العباس

__________________

(١) هو الحسن بن يسار البصري ، أبو سعيد تابعي ، كان إمام أهل البصرة وحبر الأمة في زمانه ، وهو أحد العلماء الفقهاء الفصحاء الشجعان النساك ، ولد بالمدينة عام ٢١ ه‍ وتوفي عام ١١٠ ه‍ أخباره كثيرة ، وله كلمات سائرة ، وكتاب في فضائل مكة.

(رضي الله عنه) ولم يقل عمر (رضي الله عنه) لأبي عبيدة (رضي الله عنه) : «امدد يدك أبايعك» ولم يترك المنصوص عليه محاجة القوم ومخاصمتهم ، وادعاء الأمر له والتمسك بالنص عليه.

فإن قيل : علموا ذلك وكتموه لأغراض لهم في ذلك ، كحب الرئاسة ، والحقد على علي (رضي الله تعالى عنه) لقتله أقرباءهم وعشائرهم ، وحسدهم إياه على ما له من المناقب ، والكمالات وشدة الاختصاص بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وظنهم أن النص قد لحقه النسخ (١) لما رأوا من ترك كبار الصحابة العمل به ، إلى غير ذلك ، وترك علي (رضي الله عنه) المحاجة به تقية وخوفا من الأعداء وقلة وثوق بقبول الجماعة.

قلنا : من كان له حظ من الديانة والإنصاف علم قطعا براءة أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وجلالة أقدارهم عن مخالفة امره في مثل هذا الخطب الجليل ، ومتابعة الهوى ، وترك الدليل ، واتباع خطوات الشيطان والضلال عن سواء السبيل ، وكيف بظن بجماعة رضي الله عنهم ، وآثرهم الله لصحبة رسوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ونصرة دينه ، ووصفهم بكونهم خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وقد تواتر منهم الإعراض عن متاع الدنيا وطيباتها وزخارفها ومستلذاتها ، والإقبال على بذل مهجهم وذخائرهم ، وقتل أقاربهم وعشائرهم في نصرة رسول الله ، وإقامة شريعته ، وانقياد أمره واتباع طريقته ، أنهم خالفوه قبل أن يدفنوه وتركوا هداهم ، واتبعوا هواهم ، وعدلوا عن الحق الصحيح إلى الباطل الصريح ، وخذلوا مستحقا من بني هاشم وخاص ذوي القربى إلى غاصب من بني تيم أو عدي بن كعب ، وأن مثل علي (رضي الله عنه) مع صلابته في الدين وبسالته. وشدة شكيمته وقوة عزيمته ، وعلو شأنه ، وكثرة أعوانه ، وكون أكثر المهاجرين والأنصار والرؤساء الكبار معه قد ترك حقه ، وسلم الأمر لمن لا يستحقه ، من شيخ من بني تيم ضعيف الحال ، عديم المال ، قليل الأتباع والأشياع ، ولم يقم بأمره ، وطلب حقه ، كما قام به حين أفضي

__________________

(١) النسخ في اللغة : عبارة عن التبديل والرفع والإزالة يقال : نسخت الشمس الظل أزالته ، وفي الشريعة ، هو بيان انتهاء الحكم الشرعي في حق صاحب الشرع ، وكان انتهاؤه عند الله تعالى معلوما إلا أن في علمنا كان استمراره ودوامه وبالناسخ علمنا انتهاؤه وكان في حقنا تبديلا وتغييرا.

إليه ، وقاتل من نازعه بكلتا يديه حتى فني الخلق الكثير والجم الغفير ، وآثر على التقية عن الحمية في الدين ، والعصبية للإسلام والمسلمين ، مع أن الخطب إذ ذاك أشد ، والخصم ألد. وفي أول الأمر قلوب القوم أرق ، وجانبهم أسهل ، وآراؤهم إلى اتباع الحق واجتذاب الباطل أميل ، وعهدهم بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أقوى ، وهمهم في تنفيذ أحكامه أرغب. ومن ادعى النص الجلي فقد طعن في كبار المهاجرين ، والأنصار عامة ، بمخالفة الحق وكتمانه ، وفي علي (رضي الله تعالى عنه) خاصة باتباعه الباطل وإذعانه بل في النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حيث اتخذ القوم أحبابا وأصحابا ، وأعوانا وأنصارا ، وأختانا ، وأصهارا ، مع علمه بحالهم في ابتدائهم ومآلهم ، بل في كتاب الله تعالى ، حيث أثنى عليهم ، وجعلهم خير أمة ، ووصفهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن مكابرات الروافض (١) ادعاؤهم تواتر هذا النص قرنا بعد قرنا ، مع أنه لم يشتهر فيما بين الصحابة والتابعين. ولم يثبت ممن يوثق به من المحدثين ، مع شدة ميلهم إلى أمير المؤمنين ونقلهم الأحاديث الكثيرة في مناقبه وكمالاته في أمر الدنيا والدين ، ولم ينقل عنه (رضي الله تعالى عنه) في خطبه ورسائله ومفاخره إشارة إلى ذلك. وابن جرير الطبري (٢) مع اتهامه بالتشيع لم يذكر في روايته قصة الدار هذه الزيادة التي يدعيها الشيعة وهي قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «إنه خليفتي فيكم من بعدي» ونعم ما قال المأمون : وجدت أربعة في أربعة : الزهد في المعتزلة ، والكذب في الرافضة ، والمروءة في أصحاب الحديث ، وحب الرئاسة في أصحاب الرأي والظاهر ما ذكره المتكلمون من أن هذا المذهب أعني دعوى النص الجلي مما وضعه هشام ابن (٣) الحكم ، ونصره ابن الراوندي (٤) وأبو عيسى الوراق وأضرابهم ، ثم رواه

__________________

(١) سبق الحديث عنهم في كلمة وافية.

(٢) هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري أبو جعفر ، المؤرخ المفسر الإمام ولد عام ٢٢٤ ه‍ واستوطن بغداد وتوفي بها عام ٣١٠ ه‍ عرض عليه القضاء فامتنع ، والمظالم فأبى له «أخبار الأمم والملوك وجامع البيان في تفسير القرآن» راجع الوفيات ١ : ١٥٦ وطبقات السبكي ٢ : ١٣٥ ـ ١٤٠

(٣) هو هشام بن الحكم الشيباني الكوفي ، أبو محمد ، متكلم مناظر كان شيخ الإمامية في وقته ، ولد بالكوفة ونشأ بواسط وسكن بغداد ، وانقطع إلى يحيى بن خالد البرمكي ، صنف كتبا منها الإمامية والقدر ، والشيخ والغلام ، والرد على المعتزلة في طلحة والزبير وغير ذلك راجع منهج المقال ٣٥٩ وفهرست الطوسى ١٧٤.

(٤) هو أحمد بن يحيى بن إسحاق بن الراوندي فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكان بغداد نسبته إلى راوند ـ

أسلاف الروافض شغفا بتقرير مذهبهم.

قال الإمام الرازي : ومن العجائب أن الكاملين من علماء الشيعة لم يبلغوا في كل عصر حد الكثرة فضلا عن التواتر وأن عوامهم وأوساطهم لا يقدرون أن يفهموا كيفية هذه الدعوى على الوجه المحقق ، وأن غلاتهم زعموا أن المسلمين ارتدوا بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولم يبق على الإسلام إلا عدد يسير أقل من العشرة ، فكيف يدعون التواتر في ذلك الطريق.

الثاني ـ روايات وأمارات ربما تفيد باجتماعها القطع بعدم النص ، وهي كثيرة جدا كقول العباس لعلي : امدد يدك أبايعك. تقول الناس : هذا عم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان. وقول عمر لأبي عبيدة (رضي الله تعالى عنه) : امدد يدك أبايعك. وقول أبي بكر : بايعوا عمر أو أبا عبيدة. وقوله : وددت أني سألت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو ، وكنا لا ننازعه وكدخول علي (رضي الله تعالى عنه) في الشورى ، فإنه رضي بإمامة أيهم كان. وكقوله (رضي الله تعالى عنه) لطلحة (رضي الله تعالى عنه) : إن أردت بايعتك وكاحتجاجه على معاوية ببيعة الناس له ، لا بنص من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وكقوله حين دعي إلى البيعة : اتركوني والتمسوا غيري ، وكمعاضدته أبا بكر وعمر ، والإشارة عليهما بما هو أصلح حين خرج أبو بكر لقتال العرب ، وعمر لقتال فارس ، وكعدم تعرضه لذلك النص في شيء من خطبه ورسائله ومفاخراته ومخاصماته ، وعند تأخره عن البيعة ، وكإنكار زيد بن علي مع علو رتبته هذا النص ، وكذا كثير من سادات أهل البيت. وكتسمية الصحابة أبا بكر مدة حياته بخليفة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

قال : احتج المخالف بأنه يستحيل عادة

(أن يهمل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مثل هذا الأمر ولم يهمل ما هو دونه.

__________________

ـ من قرى أصبهان قال ابن خلكان له مجالس ومناظرات مع جماعة من علماء الكلام توفي عام ٢٩٨ ه‍ راجع وفيات الأعيان ١ : ٢٧ وتاريخ ابن الوردي ١ : ٢٤٨ ومروج الذهب للمسعودي ٧ : ٧ : ٢٣٧ والبداية والنهاية ١١ : ١١٢ والنحل للشهرستاني ١ : ٨١ ، ٩٦ وشرح نهج البلاغة ٣ : ٤١ ومعاهد التنصيص ١ : ١٥٥.

والجواب أن ترك التنصيص على معين ليس إهمالا)

من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أن يهمل مثل هذا الأمر الجليل ، وقد بين ما هو بالنسبة إليه أقل من القليل.

والجواب أن ترك النص الجلي على واحد بالتعيين ليس إهمالا بل تفويض معرفة الأحق الأليق إلى آراء أولي الألباب ، واختيار أهل الحل والعقد من الأصحاب ، وأنظار ذوي البصيرة (١) بمصالح الأمور ، وتدبير سياسة الجمهور ، مع التنبيه على ذلك بخفيف الإشارة ، أو لطيف العبارة نوع بيان لا يخفى حسنه على أهل العرفان.

قال : المبحث الخامس ـ الإمام

(بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أبو بكر (رضي الله عنه). وقالت الشيعة : علي. لنا إجماع أهل الحل والعقد وإن كان من البعض بعض توقف ، وقد ثبت انقياد علي لأوامره ونواهيه وإقامة الجمعة والأعياد معه وتسميته خليفة ، والثناء عليه حيا وميتا والاعتذار عن التأخر في البيعة ، وأيضا اتفقوا على أن الإمام أبو بكر ، أو علي ، أو العباس. ثم أنهما لن ينازعاه فتعين. وحديث التقية تضليل للأمة. ولو كانت ، لكانت في زمن معاوية ، وقد يتمسك بقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ ..) (٢) الآية.

فالداعي المفترض الطاعة أبو بكر عند المفسرين ، وعمر عند البعض ، وفيه المطلوب. وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر (٣) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (٤) وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في مرضه : ائتوني بكتاب وقرطاس أكتب

__________________

(١) البصيرة : قوة للقلب المنور بنور القدس يرى بها حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للنفس يرى به صور الأشياء وظواهرها ، وهي التي يسميها الحكماء العاقلة النظرية والقوة القدسية.

(٢) سورة الفتح آية رقم ١٦ وتكملة الآية (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً).

(٣) الحديث رواه الإمام الترمذي في مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما ٣٦٦٢ ـ بسنده عن حذيفة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وذكره. قال الترمذي : هذا حديث حسن. وقد روي هذا الحديث من غير هذا الوجه أيضا عن ربعي عن حذيفة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورواه سالم الأنعمي ، كوفي عن ربعي ابن حراش عن حذيفة.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث.

كتابا لا يختلف فيه اثنان. ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ، وبأن المهاجرين الذين وصفهم الله بأنهم الصادقون كانوا يخاطبونه بيا خليفة رسول الله وبأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) استخلفه في الصلاة ولم يعزله. ولذا قال علي (رضي الله عنه) : رضيك رسول الله لديننا فرضيناك لدنيانا. وبأنها لو لم تكن حقا لما كانت جماعة رضوا بها وسكتوا عليها خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، وهذه ظنيات ربما تفيد باجتماعها القطع. مع أن المسألة فرعية يكفي فيها الظن).

الحق بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عندنا وعند المعتزلة وأكثر الفرق ، أبو بكر. وعند الشيعة علي (رضي الله تعالى عنه). ولا عبرة بقول الروندية أتباع القاسم بن روند إنه العباس (رضي الله تعالى عنه). لنا وجوه :

الأول ـ وهو العمدة ، إجماع أهل الحل والعقد على ذلك. وإن كان من البعض بعض تردد وتوقف على ما روي أن الأنصار قالوا : منا أمير ومنكم أمير. وأن أبا سفيان قال: أرضيتم يا عبد مناف أن يلي عليكم تيم؟ والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا. وذكر في صحيح البخاري وغيره من الكتب الصحيحة أن بيعة علي

(وقع في هذا الموضع من المصنف بياض مقدار ما يسع فيه كلمتان)

وفي إرسال أبي بكر وعمر أبا عبيدة بن الجراح إلى علي رضي الله عنه رسالة لطيفة رواها الثقات بإسناد صحيح تشتمل على كلام كثير من الجانبين ، وقليل غلظة من عمر وعلي ، أن عليا جاء إليهما ودخل فيما دخلت فيه الجماعة ، وقال حين قام عن المجلس : بارك الله فيما ساءني وسركم ، فيما روي أنه لما بويع لأبي بكر (رضي الله تعالى عنه) ، وتخلف علي ، والزبير ، والمقداد (١) ، وسلمان ، وأبو ذر ، أرسل أبو بكر من الغد إلى علي فأتاه مع أصحابه ، فقال : ما خلفك يا علي

__________________

(١) هو المقداد بن عمرو ، ويعرف بابن الأسود ، صحابي من الأبطال ، هو أحد السبعة الذين كانوا أول من أظهر الإسلام ، وهو أول من قاتل على فرس في سبيل الله وفي الحديث : إن الله عزوجل أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم علي ، والمقداد ، وأبو ذر ، وسلمان ، وكان في الجاهلية من سكان حضر موت ، واسم أبيه عمرو بن ثعلبة شهد بدرا وغيرها وسكن المدينة توفي على مقربة منها عام ٣٣ ه‍ راجع الإصابة ت ٨١٨٥ وتهذيب ١٠ : ٢٨٥ وصفوة الصفوة ١ : ١٦٧.

عن أمر الناس؟ فقال : عظم المصيبة ، ورأيتكم استغنيتم برأيكم. فاعتذر إليه أبو بكر ، ثم أشرف على الناس فقال : هذا علي بن أبي طلب ، ولا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار في أمره، ألا فأنتم بالخيار جميعا في بيعتكم إياي ، فإن رأيتم لها غيري ، فأنا أول من يبايعه ، فقال علي : لا نرى لها أحدا غيرك. فبايعه هو وسائر المتخلفين. محل نظر. ثم الإجماع على إمامته على أهليته لذلك ، مع أنها من الظهور بحيث لا يحتاج إلى البيان.

الثاني ـ أن المهاجرين والأنصار اتفقوا على أن الإمامة لا تعدو أبا بكر وعليا والعباس ، ثم إن عليا والعباس بايعا أبا بكر وسلما له الأمر. فلو لم يكن على الحق ، لنازعاه كما نازع علي معاوية لأنه لا يليق لهما السكوت عن الحق ، ولأن ترك المنازعة يكون مخلا بالعصمة الواجبة عندكم ، فيخرجان عن أهلية الإمامة. فتعين أبو بكر للاتفاق على أنها ليست لغيرهم.

فإن قيل : إذا لم يكن على الحق ، كيف يتعين إماما على الحق؟ وهل هذا إلا تهافت؟

قلنا : عدم كونه على الحق إذا استلزم كونه على الحق ، كان باطلا ، لأن ما يفضي ثبوته إلى انتفائه كان منتفيا قطعا وفيه المطلوب. وقد يجاب بأنه يجوز أن لا يكون على الحق بفضل علي عليه واستحقاقه الإمامة دونه ، ثم يبطل ذلك الفضل والاستحقاق بترك ما وجب من المنازعة ، فيصير أبو بكر هو الإمام بالحق.

فإن قيل : يجوز أن يكون ترك المنازعة لمانع التقية ، وخوف الفتنة.

قلنا : قد سبق الجواب ، والله أعلم.

الثالث ـ قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (١)

وعد الخلافة لجماعة من المؤمنين المخاطبين ، ولم يثبت لغير الائمة الأربعة ، فيثبت لهم على الترتيب.

__________________

(١) سورة النور آية رقم ٥٥.

الرابع ـ قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً ..) (١) لآية.

جعل الداعي مفترض الطاعة. والمراد به عند أكثر المفسرين أبو بكر وبالقوم بنو حنيفة ، قوم مسيلمة الكذاب وقيل : قوم فارس. فالداعي عمر. وفي ثبوت خلافته ثبوت خلافة أبي بكر (رضي الله عنه). وبالاتفاق لم يكن ذلك عليا ، لأنه لم يقاتل في خلافته الكفار.

الخامس ـ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (٢).

السادس ـ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تصير ملكا عضوضا (٣) أي ينال الرعية منهم ظلم ، كأنهم يعضون عضا وكانت خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشر سنين ، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي ست سنين.

السابع ـ قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في مرضه الذي توفي فيه : ائتوني بكتاب وقرطاس أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف فيه اثنان ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر (٤).

الثامن ـ أن المهاجرين الذين وصفهم الله بقوله (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (٥) كانوا يقولون له : يا خليفة رسول الله.

التاسع ـ أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) استخلفه في الصلاة التي هي أساس الشريعة ولم يعزله. ورواية العزل افتراء من الروافض ، ولهذا لما قال أبو بكر : أقيلوني فلست بخيركم قال علي (رضي الله عنه) : لا نقيلك ولا نستقيلك ، قدمك رسول الله فلا نؤخرك ، رضيك لديننا فرضيناك لدنيانا.

__________________

(١) سورة الفتح آية رقم ١٦.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(٣) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٥) سورة الحجرات آية رقم ١٥ وصدر الآية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

العاشر ـ لو كانت الإمامة حقا لعلي ، غصبها أبو بكر ، ورضيت الجماعة بذلك ، وقاموا بنصرته دون علي (رضي الله عنه) لما كانوا خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر. واللازم باطل. وهذه الوجوه وإن كانت ظنيات فنصب الإمام من العمليات ، فيكفي فيه الظن على أنها باجتماعها ربما تفيد القطع لبعض المنصفين. ولو سلم فلا أقل من صلوحها سندا للإجماع وتأييدا.

قال : احتجت الشيعة بوجوه لهم في إثبات إمامة علي (رضي الله عنه) بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وجوه من العقل والنقل والقدح فيمن عداه من أصحاب رسول الله الذين قاموا بالأمر ، ويدعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر بناء على شهرته فيما بينهم وكثرة دورانه على ألسنتهم ، وجريانه في أنديتهم ، وموافقته لطباعهم ، ومقارعته لأسماعهم. ولا يتأملون له كيف خفي على الكبار من الأنصار والمهاجرين والتقاة من الرواة والمحدثين. ولم يحتج به البعض على البعض ولم يبنوا عليه الإبرام والنقض ، ولم يظهر إلا بعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمر (١) الرسالة ، وظهور التعصبات الباردة والتعسفات الفاسدة ، وإفضاء امر الدين إلى علماء السوء ، والملك إلى أمراء الجور. ومن العجائب أن بعض المتأخرين من المتشغبين الذين لم يروا أحدا من المحدثين ، ولا رووا حديثا في أمر الدين ملئوا كتبهم (٢) من أمثال هذه الأخبار والمطاعن (٣) في الصحابة الأخيار ، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلى الحكيم نصير الطوسي (٤) كيف نصر الأباطيل ، وقرر الأكاذيب؟ والعظماء من عترة النبي وأولاد الوصي الموسومون بالدراية ، المعصومون في الرواية لم يكن معهم هذه الأحقاد والتعصبات ، ولم يذكروا من

__________________

(١) سقط من (ب) لفظ (بأمر).

(٢) في (ب) بزيادة (مصنفاتهم).

(٣) في (ب) بزيادة لفظ (القول).

(٤) هو محمد بن محمد بن الحسن ، أبو جعفر ، نصير الدين الطوسي ، فيلسوف كان رأسا في العلوم العقلية ، علامة بالأرصاد والمجسطي والرياضيات علت منزلته عند «هولاكو» ولد بطوس عام ٥٩٧ ه‍ وتوفي عام ٦٧٢ ه‍ صنف كتبا جليلة منها «شكل القطاع» وتحرير أصول اقليدس وتجريد العقائد يعرف بتجريد الكلام ، وتلخيص المحصل وغير ذلك. راجع فوات الوفيات ٢ : ١٤٩ والوافي ١ : ١٧٩ وابن الوردي ٢ : ٢٢٣ وشذرات ٥ : ٣٣٩ ومفتاح السعادة ١ : ٢٦١.

الصحابة إلا الكمالات ، ولم يسلكوا مع رؤساء المذاهب من علماء الإسلام إلا طريق الإجلال والإعظام. وها هو الإمام علي بن موسى الرضى مع جلالة قدره ونباهة ذكره ، وكمال علمه وهداه وورعه وتقواه ، قد كتب على ظهر كتاب عهد المأمون له ما ينبئ عن وفور حمده وقبول عهده والتزام ما شرط عليه ، وإن كتب في آخره والجامعة والجفر يدلان على ضد ذلك. ثم أنه دعا للمأمون بالرضوان ، فكتب في أثناء أسطر العهد تحت قوله : وسميته الرضى رضي الله عنك وأرضاك ، وتحت قوله : ويكون له الأمرة الكبرى بعدي. بل جعلت فداك. وفي موضع آخر : وصيتك رحم ، وجزيت خيرا. وهذا العهد بخطهما موجود الآن في المشهد الرضوي بخراسان ، وآحاد الشيعة في هذا الزمان لا يسمحون لكبار الصحابة بالرضوان فضلا عن بني العباس. فقد رضوا رأسا برأس. ومن البين الواضح في هذا الباب ما كتبه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : فقد جعلت لآل بني كاكلة على كافة بيت المسلمين كل عام مائتي مثقال ذهبا عينا إبريزا كتبه ابن الخطاب. فكتب أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) : لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون ، أنا أول من اتبع أمر من أعز الإسلام ، ونصر الدين والأحكام ، عمر بن الخطاب ، ورسمت بمثل ما رسم لآل بني كاكلة في كل عام مائتي دينار ذهبا عينا إبريزا ، واتبعت أثره ، وجعلت لهم بمثل ما رسم عمر إذ وجب عليّ وعلى جميع المسلمين اتباع ذلك ، كتبه علي بن أبي طالب. وهذا بخطهما موجود الآن في ديار العراق.

قال : الأول

(أن بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إماما وليس غير علي (كرم الله وجهه) لانتفاء الشرائط من العصمة والنص الأفضلية.

والجواب منع الاشتراط ، ثم منع الانتفاء في حق أبي بكر (رضي الله عنه)).

هذا هو الوجه العقلي. وتقريره أنه لا نزاع في أن بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إماما ، وليس غير علي. لأن الإمام يجب أن يكون معصوما ، ومنصوصا عليه ، وأفضل أهل زمانه ، ولا يوجد شيء من ذلك في باقي الصحابة. أما العصمة والنص فبالاتفاق. وأما الأفضلية فلما سيأتي وهذا يمكن أن يجعل أدلة ثلاثة بحسب الشروط ، وربما يورد في صورة

القلب فيقال : الإمام إما علي (رضي الله عنه) وإما أبو بكر واما القياس (١) بالإجماع المشتمل على قول المعصوم ، ولا سبيل إلى الأخيرين لانتفاء الشرط.

والجواب أولا منع الاشتراط وثانيا منع انتفاء الشرائط في أبي بكر (رضي الله عنه).

وأما ما يقال أن الإجماع على أن الإمام أحدهم إجماع على صلوح كل منهم للإمامة فمحل نظر.

قال : الثاني

(قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ..) (٢) الآية.

نزلت في علي حين أعطى السائل خاتمه ، وهو راكع والمراد بالولي المتصرف في الأمر. إذ ولاية النصرة تعم الكل. والمتصرف في أمر الأمة هو الإمام.

قلنا : ما قبل الآية شاهد صدق على أنه لولاية المحبة والنصرة ، دون التصرف ، والإمامة.

ووصف المؤمنين يجوز أن يكون للمدح دون التخصيص ، ولزيادة شرفهم واستحقاقهم «وهم راكعون» يحتمل العطف ، أي يركعون في صلاتهم ، لا كصلاة اليهود ، أو يخضعون على أن النصرة المضافة إلى البعض تختص بمن عداهم ضرورة أن الإنسان لا ينصر به نفسه. والحصر إنما لنفي المسارعة ، ولم يكن الإمامة. وظاهر الكلام ثبوت الولاية بالفعل ، وفي الحال. ولم يكن حينئذ ولاية التصرف والإمامة ، وصرفه إلى المآل لا يستقيم في الله ورسوله وحمل صيغة الجمع على الواحد إنما يصح بدليل وخفاء الاستدلال بالآية على الصحابة عموما ، وعلى علي مخصوصا في غاية البعد.)

__________________

(١) القياس في اللغة : عبارة عن التقدير يقال قست الغل بالغل إذا قدرته وسويته ، وهو عبارة عن رد الشيء إلى نظيره وفي الشريعة عبارة عن المعنى المستنبط من النص لتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره ، وهو الجمع بين الأصل والفرع في الحكم.

(٢) سورة المائدة آية رقم ٥٥ وتكملة الآية : (وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

إشارة إلى الدليل النقلي من الكتاب وتقريره أن قوله تعالى :

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١)

نزلت باتفاق المفسرين في علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع في صلاته. وكلمة «إنما» للحصر بشهادة النقل والاستعمال. والولي كما جاء بمعنى الناصر فقد جاء بمعنى المتصرف ، والأولى والأحق بذلك يقال : أخو المرأة وليها. والسلطان ولي من لا ولي له. وفلان ولي الدم. وهذا هو المراد هاهنا ، لأن الولاية بمعنى النصرة تعم جميع المؤمنين لقوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢)

فلا يصح حصرها في المؤمنين الموصوفين بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة حال الركوع. والمتصرف من المؤمنين في أمر الأمة يكون هو الإمام ، فتعين علي (رضي الله عنه) لذلك إذ لم توجد هذه الصفات في غيره.

والجواب منع كون الولي بمعنى المتصرف في أمر الدين والدنيا. والأحق بذلك على ما هو خاصة الإمام ، بل الناصر والموالي والمحب على ما يناسب ما قبل الآية وما بعدها ، وهو قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)(٣).

فإن الحصر إنما يكون بإثبات ما نفى عن الغير. وولاية اليهود والنصارى المنهى عن اتخاذها ليست هي التصرف والإمامة ، بل النصرة والمحبة ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٤)

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٥٥.

(٢) سورة التوبة آية رقم ٧١ وتكملة الآية (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(٣) سورة المائدة آية رقم ٥١.

(٤) سورة المائدة آية رقم ٥٦.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (١)

لظهور أن ذلك تولي محبة ونصرة لا إمامة. وبالجملة لا يخفى على من تأمل في سياق الآية وكان له معرفة بأساليب الكلام أن ليس المراد بالولي فيها ما يقتضي الإمامة ، بل الموالاة والنصرة والمحبة ، ثم وصف المؤمنين لما ذكر يجوز أن يكون للمدح والتعظيم ، دون التقييد والتخصيص ، وأن يكون لزيادة شرف الموصوفين واستحقاقهم أن يتخذوا أولياء ، وأولويتهم بذلك ، وقربهم ونصرتهم ، وشفقتهم الحاملة على النصرة وقوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) كما يحتمل الحال يحتمل العطف ، بمعنى أنهم يركعون في صلاتهم لا كصلاة اليهود خالية عن الركوع أو بمعنى أنهم خاضعون. على أن هاهنا وجوها أخر من الاعتراض ، منها أن النصرة وإن كانت عامة ، لكن إذا أضيفت إلى جماعة مخصوصة من المؤمنين فبالضرورة تختص بمن عداهم ، لأن الإنسان لا يكون ناصرا لنفسه. وكأنه قيل لبعض المؤمنين : إنما ناصركم البعض الآخر.

قال الإمام الرازي : إن هذا السؤال عليه التعويل في دفع هذه الشبهة (٢) فإنه دقيق متين ، وأنت خبير بأن مبناه على اختصاص الخطاب بالبعض من المؤمنين ، وعلى كون المؤمنين الموصوفين جميع من عداهم. ومنها أن الحصر إنما يكون نفيا لما وقع فيه تردد ونزاع (٣) ولا خفاء في أن ذلك عند نزول الآية لم يكن إمامة الأئمة الثلاثة (٤).

ومنها أن ظاهر الآية ثبوت الولاية بالفعل ، وفي الحال ، ولا شبهة في أن إمامة علي (رضي الله عنه) إنما كانت بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) والقول بأنه كانت له ولاية التصرف في أمر المسلمين في حياة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أيضا مكابرة. وصرف الولاية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حق الله تعالى ورسوله.

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٥١ وقد جاءت هذه الآية محرفة في المطبوعة حيث قال «ومن يولّه».

(٢) سقط من (ب) لفظ (الشبهة).

(٣) في (ب) أو بدلا من (الواو).

(٤) سقط من (أ) لفظ (الثلاثة).

ومنها أن الذين آمنوا صيغة جمع ، فلا يصرف الى الواحد إلا بدليل. وقول المفسرين إن الآية نزلت في حق علي (رضي الله عنه) لا يقتضي اختصاصها به ، واقتصارها عليه. ودعوى انحصار الأوصاف فيه مبنية على جعل (وَهُمْ راكِعُونَ) (١) حالا من ضمير (يُؤْتُونَ) وليس بلازم. ومنها أنه لو كانت في الآية دلالة على إمامة علي (رضي الله عنه). لما خفيت على الصحابة عامة. وعلى علي خاصة ، ولما تركوا الانقياد لها والاحتجاج بها.

قال : الثالث ـ

(ما تواتر من حديث الغدير والمنزلة ، فإن المراد بالمولى المتولي للأمر ، والأولى بالتصرف فيه ، كما في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٢).

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها (٣) لا المعتق والمعتق ، والحليف والجار ، وابن العم ، وهو ظاهر ، ولا الناصر فإنه ظاهر ، ومنزلة هارون من موسى (عليهما‌السلام) عام بمنزلة المعرف باللام. فحيث أخرجت النبوة ، تعينت الخلافة والتصرف في أمر العامة لو بقي بعده. وهي معنى الإمامة.

والجواب منع التواتر ، بل الكلام في صحة خبر الغدير ودلالته على حصر الإمامة في علي (رضي الله عنه) ، ثم لا عبرة بالآحاد في مقابلة الإجماع ، وترك عظماء الصحابة الاحتجاج بهما آية عدم الدلالة ، والحمل على العناد غاية الغواية ، ولو سلم عموم المنزلة بالإضافة إلى العلم ، فلا يتناول الخلافة ، والتصرف بطريق النيابة ،

__________________

(١) سورة المائدة آية رقم ٥٥.

(٢) سورة الحديد آية رقم ١٥.

(٣) روى ابن ماجه في سننه في كتاب النكاح ١٨٨١ ـ ١٥ باب لا نكاح إلا بولي. حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا أبو عوانة حدثنا أبو إسحاق الهمداني ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، قال قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لا نكاح إلا بولي. وفي رواية : أيما امرأة لم ينكحها الولي فنكاحها باطل. فنكاحها باطل ، فنكاحها باطل ، وفي حديث عائشة ـ رضي الله عنها «السلطان ولي من لا ولي له».

لأنه شريك في النبوة ، ولا يدل على بقائها ، بعد موت المستخلف ، وليس انتفاؤها عزلا ونقصا ، بل عودا إلى الكمال ، وهو الاستقلال. وتصرف هارون لو بقي إنما يكون لنبوته. وقد انتفت في حق علي (رضي الله عنه) فكذا ما يبني عليها)

تمسك بما يدعون فيه التواتر من الأخبار ، أما حديث الغدير فهو أنه (عليه‌السلام) قد جمع الناس يوم غدير خم موضع بين مكة والمدينة ـ بالجحفة وذلك بعد رجوعه من حجة الوداع. وكان يوما صائفا حتى إن الرجل ليضع رداءه تحت قدميه من شدة الحر ، وجمع الرحال ، وصعد (عليه‌السلام) عليها وقال مخاطبا معاشر المسلمين : ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : اللهم بلى. قال : فمن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله (١)

وهذا حديث متفق على صحته أورده علي (رضي الله عنه) يوم الشورى عند ما حاول ذكر فضائله ، ولم ينكره أحد. ولفظ المولى قد يراد به المعتق ، والمعتق ، والحليف ، والجار ، وابن العم ، والناصر ، والأولى بالتصرف ، قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (٢)

أي أولى بكم. ذكره أبو عبيدة وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن مولاها (٣) .. أي الأولى بها والمالك لتدبير أمرها ، ومثله في الشعر كثير.

وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي والمالك للأمر ، والأولى بالتصرف شائع في كلام العرب منقول عن كثير من أئمة اللغة ، والمراد أنه اسم لهذا المعنى ، لا صفة ، بمنزلة الأولى ليعترض بأنه ليس من صيغة اسم التفضيل ، وأنه لما يستعمل استعماله ، وينبغي أن يكون المراد به في الحديث هو هذا المعنى ليطابق صدر

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في المقدمة : فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه ١١٦ ـ بسنده عن علي ابن زيد بن جدعان عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال أقبلنا مع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في حجته التي حج فنزل في بعض الطريق فأمر الصلاة جامعة فأخذ بيد علي فقال : وذكره في الزوائد : إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان.

(٢) سورة الحديد آية رقم ١٥.

(٣) سبق تخريج هذا الحديث.

الحديث ، ولأنه لا وجه للخمسة الأول ، وهو ظاهر ، ولا للسادس لظهوره وعدم احتياجه إلى البيان ، وجمع الناس لأجله ، سيما وقد قال الله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١).

ولا خفاء في أن الولاية بالناس ، والتولي ، والمالكية لتدبير أمرهم ، والتصرف فيهم بمنزلة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) هو معنى الإمامة.

والجواب منع تواتر الخبر ، فإن ذلك من مكابرات الشيعة ، كيف وقد قدح في صحته كثير من أهل الحديث ، ولم ينقله المحققون منهم كالبخاري ومسلم ، والواقدي ، وأكثر من رواه لم يرووا المقدمة التي جعلت دليلا على أن المراد بالمولى الأولى ، وبعد صحة الرواية فمؤخر الخبر ـ أعني قوله : اللهم وال من والاه ـ يشعر بأن المراد بالمولى هو الناصر والمحب ، بل مجرد احتمال ذلك كاف في دفع الاستدلال ، وما ذكره من أن ذلك معلوم ظاهر من قوله تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (٢)

لا يدفع الاحتمال لجواز أن يكون الغرض التنصيص على موالاته ونصرته ، ليكون أبعد عن التخصيص الذي تحتمله أكثر العمومات وليكون أقوى دلالة ، وأوفى بإفادة زيادة الشرف ، حيث قرن بموالاة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهذا القدر من المحبة والنصرة لا يقتضي ثبوت الإمامة ، وبعد تسليم الدلالة على الإمامة فلا عبرة بخبر الواحد في مقابلة الإجماع. ولو سلم ، فغايته الدلالة على استحقاق الإمامة وثبوتها في المآل ، لكن من أين يلزم نفي إمامة الأئمة قبله ، وهذا قول بالموجب ، وهو جواب ظاهر لم يذكره القوم ، وإذا تأملت فما يدعون من تواتر الخبر حجة عليهم ، لا لهم ، لأنه لو كان مسوقا لثبوت الإمامة ، دالا عليه ، لما خفي على عظماء الصحابة ، فلم يتركوا الاستدلال به ، ولم يتوقفوا في أمر الإمامة. والقول بأن القوم تركوا الانقياد عنادا ، وعلي (رضي الله عنه) ترك الاحتجاج تقية آية الغواية هو غاية الوقاحة.

__________________

(١) سورة التوبة آية رقم ٧١ وتكملة الآية (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

(٢) سورة التوبة آية رقم ٧١.

وأما حديث المنزلة فهو قوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله عنه) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي» (١) وتقريره أن المنزلة اسم جنس أضيف فعم ، كما إذا عرف باللام بدليل صحة الاستثناء ، وإذا استثنى منها مرتبة النبوة ، بقيت عامة في باقي المنازل التي من جملتها كونه خليفة له ومتوليا تدبير الأمر ، ومتصرفا في مصالح العامة ورئيسا مفترض الطاعة لو عاش بعده. إذ لا يليق بمرتبة النبوة زوال هذه المنزلة الرفيعة الثابتة في حياة موسى (عليه‌السلام) بوفاته. وإذا قد صرح بنفي النبوة ، لم يكن ذلك إلا بطريق الإمامة.

والجواب منع التواتر ، بل هو خبر واحد في مقابلة الإجماع ؛ ومنع عموم المنازل ، بل غاية الاسم المفرد المضاف إلى العلم الإطلاق. وربما يدعى كونه معهودا معينا كغلام زيد. وليس الاستثناء المذكور إخراجا لبعض أفراد المنزلة ، بمنزلة قولك : إلا النبوة. بل منقطع بمعنى لكن على ما لا يخفى على أهل العربية ، فلا يدل على العموم. كيف ومن منازله الأخوة في النسب ، ولم يثبت لعلي ، اللهم إلّا أن يقال : إنها بمنزلة المستثنى لظهور انتفائها ، ولو سلم العموم ، فليس من منازل هارون الخلافة والتصرف بطريق النيابة على ما هو مقتضى الإمامة ، لأنه شريك له في النبوة ، وقوله : (اخْلُفْنِي) (٢) ليس استخلافا بل مبالغة وتأكيدا في القيام بأمر القوم. ولو سلم فلا دلالة على بقائها بعد الموت. وليس انتفاؤها بموت المستخلف عزلا ولا نقصا ، بل ربما يكون عودا إلى حالة أكمل ، هي الاستقلال بالنبوة ، والتبليغ من الله ، ولو سلم ، فتصرف هارون ونفاذ أمره لو بقي بعد موسى إنما يكون لنبوته. وقد انتفت النبوة في حق علي (رضي الله تعالى عنه) فينتفي ما يبتنى عليها ويتسبب عنها.

وأما الجواب بأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لما خرج إلى غزوة تبوك استخلف عليا على المدينة ، فأكثر أهل النفاق في ذلك. فقال علي : يا رسول الله ، أتتركني مع الخوالف؟

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في سننه في المقدمة ـ فضل علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ١١٥٨ ـ حدثنا محمد بن بشار حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم قال : سمعت إبراهيم بن سعد ابن أبي وقاص يحدث عن أبيه عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره.

(٢) سورة الأعراف آية رقم ١٤٢ وتكملة الآية (فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ).

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي. وهذا لا يدل على خلافته بعده ، كابن أم مكتوم (١) (رضي الله عنه) استخلفه على المدينة في كثير من غزواته ، فربما يدفع بأن العبرة لعموم اللفظ ، لا لخصوص السبب بل ربما يحتج بأن استخلافه على المدينة وعدم عزله منها ، مع أنه لا قائل بالفصل ، وأن الاحتياج إلى الخليفة بعد الوفاة أشد وأوكد منه حال الغيبة يدل على كونه خليفة

قال : الرابع ـ

(الرابع ـ النصوص الجلية مثل : سلموا عليه بإمرة المؤمنين ، أنت الخليفة من بعدي ، إنه إمام المتقين ، هذا خليفتي عليكم ، أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني (بكسر الدال).

والجواب أنها آحاد في مقابلة الإجماع ولو صحت ودلت ، لما خفيت على الصحابة ومن بعدهم ، سيما العترة الطاهرة).

هذه أخبار يدعون أنها نصوص جلية من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) على خلافة علي (رضي الله تعالى عنه) وهو قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مخاطبا لأصحابه : سلموا عليه بإمرة المؤمنين. الضمير لعلي والإمرة (بالكسر) الإمارة من أمر الرجل ، صار أميرا. وقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله تعالى عنه) : أنت الخليفة من بعدي. وقوله (عليه‌السلام) : إنه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وقد أخذ بيد علي : هذا خليفتي عليكم. وقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله عنه) : أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني (بالكسر).

والجواب ما مر أنها أخبار آحاد في مقابلة الإجماع. وأنها لو صحت لما خفيت

__________________

(١) هو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم صحابي شجاع ، كان ضرير البصر ، أسلم بمكة ، وهاجر إلى المدينة بعد وقعة بدر وكان يؤذن لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المدينة مع بلال وكان النبي يستخلفه على المدينة ، يصلي بالناس في عامة غزواته وحضر حرب القادسية ، ومعه راية سوداء وعليه درع سابغة ـ فقاتل وهو أعمى ، ورجع بعدها إلى المدينة فتوفي فيها عام ٢٣ ه‍ راجع ابن سعد ٤ : ١٥٣ ، وصفوة الصفوة ١ : ٢٣٧ وذيل الذيل ٢٦ ، ٤٧.

على الصحابة والتابعين ، والمهرة المتقين من المحدثين ، سيما على أولاده الطاهرين. ولو سلم فغايته إثبات خلافته ، لا نفي خلافة الآخرين.

قال الخامس ـ

(الخامس ـ القدح في إمامة الآخرين ، أما إجمالا فلظلمهم لسبق كفرهم لقوله تعالى: (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١)

وعهد الإمامة لا يناله الظالم ، لقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢)

وفساده ظاهر. وأما تفصيلا فلأنه خالف أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) كتاب الله في منع إرث النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بخبر رواه.

قلنا : قد يخص عام الكتاب بخبر الواحد القطعي الدلالة ، سيما المسموع ، من فم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فإنه بمنزلة المتواتر ، ومنع فاطمة الزهراء (رضي الله تعالى عنها) فدك مع أنها ادعت النحلة ، وشهد علي وأم أيمن ، وصدق لأزواج في ادعاء الحجرة من غير شاهد.

قلنا : لو سلم ، فللحاكم أن يحكم بالمعلوم ، ولا يحكم بقول المعصوم. وخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث استخلف عمر وقد عزله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن أمر الصدقات.

قلنا : قد استخلف عندكم عليا ، وليس انقضاء التولية بالقضاء الشغل عزلا ، ولا مجرد فعل ما لم يفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قدحا ولم يكن عارفا بالأحكام ، حيث قطع يسار يد سارق ، وتوقف في ميراث الجدة ، ومعرفة الكلالة.

قلنا : لو سلم ، فكم مر مثله للمجتهدين ، وشك في استحقاقه حيث قال عند وفاته: ليت أني سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عن هذا الأمر فيمن هو؟ وكنا لا ننازعه أهله.

قلنا : لو صح ، فلا يدل على الشك بل على عدم النص ، وعلى مبالغته في طلب الحق.)

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٥٤ وصدر الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ).

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

استدلال على إمامة علي (رضي الله تعالى عنه) بالقدح في إمامة الآخرين ، وتقريره أنه لا نزاع في وجود إمام بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وغير علي من الجماعة الموسومين بذلك لا يصلح لذلك. أما إجمالا فلظلمهم لسبق كفرهم ، لقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(١)

والظالم لا يكون إماما لقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢)

والجواب منع المقدمتين ومنع دلالة الآية على كون من كان كافرا ثم أسلم ظالما ، ومنع كون المراد بالعهد هو الإمامة ، وأما تفصيلا فمما يقدح في إمامة أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) أنه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث النبي بخبر رواه : وهو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة (٣).

وتخصيص الكتاب إنما يجوز بالخبر المتواتر دون الآحاد.

والجواب أن خبر الواحد ، وإن كان ظني المتن قد يكون قطعي الدلالة ، فيخصص به عام الكتاب لكونه ظني الدلالة ، وإن كان قطعي المتن جمعا بين الدليلين ، وتمام تحقيق ذلك في (٤) أصول الفقه. على أن الخبر المسموع من فم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إن لم يكن فوق المتواتر ، فلا خفاء في كونه بمنزلته. فيجوز للسامع المجتهد أن يخصص به عام الكتاب. ومنها أنه منع فاطمة (رضي الله تعالى عنها) فدك وهي قرية بخيبر مع أنها ادعت أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قد نحلها إياها ، ووهبها منها ، وشهد بذلك علي (رضي الله عنه) ، وأم أيمن ، فلم يصدقهم ، وصدق أزواج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في ادعاء الحجرة لهن من غير شاهد. ومثل هذا الجور والميل لا يليق بالإمام. ولهذا رد عمر بن عبد العزيز (٥) من المروانية فدك إلى أولاد فاطمة (رضي الله تعالى عنها).

__________________

(١) سورة البقرة آية رقم ٢٥٤.

(٢) سورة البقرة آية رقم ١٢٤.

(٣) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند ٢ : ٤٦٣ ـ حدثنا وكيع قال : حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : وذكره وفيه زيادة (ما تركت بعد مئونة عاملي ونفقة نسائي صدقة).

(٤) في (ب) بزيادة لفظ (كتب).

(٥) هو عمر بن العزيز بن مروان بن الحكم الأموي القرشي أبو حفص الخليفة الصالح ، والملك العادل ، وربما قيل له خامس الخلفاء الراشدين تشبيها له بهم ، وهو من ملوك الدولة المروانية ولد ـ

والجواب أنه لو سلم صحة ما ذكر ، فليس على الحاكم أن يحكم بشهادة رجل وامرأة وإن فرض عصمة المدعي ، والشاهد ، وله الحكم بما علمه يقينا وإن لم يشهد به شاهد ، ولعمري أن قصة فدك على ما يرويه الروافض من بين الشواهد على انهماكهم في الضلالة وافترائهم على الصحابة ، وكونهم الغاية في الغواية ، والنهاية في الوقاحة ، حيث ظنوا بمثل أبي بكر وعمر أنهما أخذا حق سلالة النبوة ظلما لينتفع به الآخرون لا هما نفسهما ، ولا من يتصل بهما ، ويمثل علي (رضي الله تعالى عنه) أنه مع علمه بحقيقة الحال لم يدفع تلك الظلامة أيام خلافته ، ولسائر الأصحاب أنهم سكتوا على ذلك من غير تعرض ولا اعتراض. والمذكور في كتب التواريخ ، أن فدك كانت على ما قرره أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) إلى زمن معاوية ، ثم أقطعها مروان بن الحكم (١) ووهبها مروان من ابنيه عبد العزيز وعبد الملك ، ثم لما ولي الوليد بن عبد الملك وهب عمر بن عبد العزيز نصيبه للوليد ، وكذا سليمان بن عبد الملك ، فصارت كلها للوليد ، ثم ردها عمر بن عبد العزيز أيام خلافته إلى ما كانت عليه ، ثم لما كانت سنة عشرين ومائتين كتب المأمون إلى عامله على المدينة قثم بن جعفر أن يرد فدك إلى أولاد فاطمة (رضي الله تعالى عنها) فدفعها إلى محمد بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، ومحمد بن عبد الله بن زيد بن الحسين بن زيد ليقوما بها لأهلهما ، وعد ذلك من تشيع المأمون ، فلما استخلف المتوكل (٢) ردها الى ما كانت عليه. ومنها أنه خالف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) في الاستخلاف ، حيث جعل عمر خليفة له والرسول (عليه‌السلام) ،

__________________

ـ ونشأ بالمدينة عام ٦١ ه‍ استوزره سليمان بن عبد الملك بالشام ، وولي الخلافة بعهد من سليمان سنة ٩٩ ه‍ توفي عام ١٠١ ه‍ راجع فوات الوفيات ٢ : ١٠٥ وتهذيب التهذيب ٧ : ٤٧٥ وحلية الأولياء ٥ : ٢٥٣ ـ ٣٥٣.

(١) هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو عبد الملك خليفة أموي هو أول ملك من بني الحكم بن أبي العاص وإليه ينسب بنو مروان ودولتهم المروانية ولد بمكة ٢ ه‍ ونشأ بالطائف ، وسكن المدينة قتل عام ٦٥ ه‍ أول من ضرب الدنانير وكتب عليها «قل هو الله أحد».

(٢) هو جعفر «المتوكل على الله» بن محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد أبو الفضل : خليفة عباسي ولد ببغداد عام ٢٠٦ ه‍ وبويع بعد وفاة أخيه الواثق سنة ٢٣٢ ه‍ وكان جواد محبا للعمران من آثاره المتوكلية ببغداد أنفق عليها أموالا كثيرة وهو الذي أمر بترك الجدل في القرآن. راجع تاريخ الخميس ٢ : ٣٣٧ واليعقوبي ٣ : ٢٠٨

مع أنه أعرف بالمصالح والمفاسد وأوفر شفقة على الأمة ، لم يستخلف أحدا ، بل عزل عمر بعد ما ولاه أمر الصدقات. فاستخلافه وتوليته جميع أمور المسلمين مخالفة للرسول ، وترك لما وجب من اتباعه.

والجواب أنا لا نسلم أنه لم يستخلف أحدا بل استخلف إجماعا. أما عندنا فأبا بكر ، وأما عندكم فعليا ، ولا نسلم أنه عزل عمر ، بل انقضى توليته بانقضاء شغله كما إذا وليت أحدا عملا فأتمه ، فلم يبق عاملا. فإنه ليس من العزل في شيء. ولا نسلم أن مجرد فعل ما لم يفعله النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مخالفة له وترك لاتباعه. وإنما يكون ذلك إذا فعل ما نهى عنه أو ترك ما أمر به ولا نسلم أن هذا قادح في استحقاق الإمامة.

ومنها أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار سارق من الكوع ، لا يمينه. وقال لجدة سألته عن إرثها : لا أجد لك شيئا في كتاب الله ، ولا سنة نبيه. فأخبره المغيرة ، ومحمد بن سلمة أن الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أعطاها السدس ، وقال : اعطوا الجدات السدس (١). ولم يعرف الكلالة وهي من لا والد له ولا ولد. وكل وارث ليس بوالد ولا ولد.

والجواب بعد التسليم أن هذا لا يقدح في الاجتهاد ، فكم مثله للمجتهدين.

ومنها أنه شك عند موته في استحقاقه الإمامة حيث قال : وددت أني سألت رسول الله عن هذا الأمر فيمن هو؟ وكنا لا ننازعه أهله.

والجواب أن هذا على تقدير صحته لا يدل على الشك ، بل على عدم النص ، وإن إمامته كانت بالبيعة والاختيار ، وأنه في طلب الحق بحيث يحاول أن لا يكتفي بذلك ، بل يريد اتباع النص خاصة.

ومنها أن عمر مع كونه وليه وناصره قال : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله تعالى

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الفرائض ١٠ باب ما جاء في ميراث الجدة ٢١٠٠ ـ عن قبيصة بن ذؤيب قال وذكره ورواه ابن ماجه في كتاب الفرائض ٤ باب ميراث الجدة ٢٧٢٤ بسنده عن قبيصة بن ذؤيب ، وحدثنا سويد بن سعيد ، حدثنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن ابن ذويب قال : جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه تسأله ميراثها فقال : وذكره.

شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. يعني أنها كانت فجاءة ، لا عن تدبر وابتناء على اصل.

والجواب أن المعنى كانت فجاءة وبغتة ، وقي الله شر الخلاف الذي يكاد يظهر عندها. فمن عاد إلى مثل تلك المخالفة الموجبة لتبديد الكلمة فاقتلوه ، وكيف يتصور منه القدح (١) في إمامة أبي بكر مع ما علم من مبالغته في تعظيمه ، وفي انعقاد البيعة له ، ومن صيرورته خليفة باستخلافه فلهم حكايات تجري مجرى ذلك (٢) أكثرها افتراءات. ومع ذلك فلها محامل وتأويلات ، ولا تعارض ما ثبت المفهوم من الحكايات وتواتر بين الجماعة من المودات ، وما أقبح بناء المذهب على الترهات والأحاديث (٣) المفتريات.

قال : وأمر عمر

(وأمر عمر (رضي الله تعالى عنه) برجم حامل ، وأخرى مجنونة. ونهى عن المغالاة في الصداق.

قلنا : لو سلم ، فليس بقادح. وشك في موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مع أن الكتاب ناطق به.

قلنا : لغاية القلق والحزن ، أو لحمل الآية على أنه يموت بعد تمام الأمر. وتصرف في بيت المال والغنائم بغير الحق ، ومنع أهل البيت خمسهم ومنع متعة النكاح ، ومتعة الحج.

قلنا : اجتهاديات لا تقدح في الإمامة ، ولو مع ظهور الخطأ ، وجعل الخلافة شورى بين ستة مع الإجماع على امتناع الاثنين.

قلنا : بطريق الاستقلال ، لا للتشاور في تعيين الواحد منهم)

قدحوا في إمامة عمر بوجوه : منها أنه لم يكن عارفا بالأحكام حتى أمر برجم

__________________

(١) في (ب) التعارض بدلا من (القدح).

(٢) في (ب) الأمثال بدلا من (ذلك).

(٣) سقط من (ب) لفظ (الأحاديث).

امرأة حامل أقرت بالزنا ، ورجم امرأة مجنونة زنت. فنهاه علي (رضي الله تعالى عنه) عن ذلك ، فقال : لو لا علي لهلك عمر. ونهى عن المغالاة في الصداق ، فقامت إليه امرأة فقالت : ألم يقل الله تعالى : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) (١)

فقال : كل أفقه من عمر حتى المخدرات.

والجواب بعد تسليم القصة ، وعلمه بالحمل ، والجنون ، ونهيه على وجه التحريم أن الخطأ في مسألة وأكثر لا ينافي الاجتهاد ولا يقدح في الإمامة. والاعتراف بالنقصان هضم للنفس ، ودليل على الكمال.

ومنها أنه لم يكن عالما بالقرآن حتى شك في موت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولم يسكن إليه حتى تلا عليه أبو بكر قوله : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٢)

فقال : كأني لم أسمع هذه الآية.

فالجواب أن ذلك كان لتشوش البال ، واضطراب الحال ، والذهول عن جليات الأحوال ، أو لأنه فهم من قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (٣)

وقوله : (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٤)

انه يبقى إلى تمام هذه الأمور ، وظهورها غاية الظهور. وفي قوله : «كأني لم اسمع» دلالة على أنه سمعها وعلمها ، لكن ذهل عنها ، أو حملها على معنى آخر ، أي كأن لم أسمعها سماع اطلاع على هذا المعنى ، بل إنه يموت بعد تمام الأمور.

ومنها أنه تصرف في بيت المال بغير الحق ، فأعطى أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه مالا كثيرا ، حتى روي أنه أعطى عائشة وحفصة كل سنة عشرة آلاف درهم ، وافترض لنفسه منه ثمانين الف درهم. وكذا في أموال الغنائم حيث فضل المهاجرين على

__________________

(١) سورة النساء آية رقم ٢٠ وتكملة الآية (فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

(٢) سورة الزمر آية رقم ٣٠.

(٣) سورة التوبة آية رقم ٣٣.

(٤) سورة النور آية رقم ٥٥.

الأنصار ، والعرب على العجم ، ومنع أهل البيت خمسهم الذي هو سهم ذوي القربى بحكم الكتاب.

والجواب أن من تتبع ما تواتر من أحواله ، علم قطعا أن حديث التصرف في الأموال محض افتراء. وأما التفضيل فله ذلك بحسب ما يرى من المصلحة ، لأنه من الاجتهاديات التي لا قاطع فيها. وأما الخمس فقد كان لذوي القربى ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب من أولاد عبد مناف بالنص والإجماع إلا أنه اجتهد فذهب إلى أن مناط الاستحقاق هو الفقر ، فخصه بالفقراء منهم ، أو إلى أنها من قبيل الأوساخ المحرمة على بني هاشم.

وبالجملة فهذه مسألة اجتهادية معروفة في كتب الفقه ، لا تقدح في استحقاق الإمامة.

ومنها أنه منع متعة النكاح ، وهو أن يقول لامرأة : أتمتع بك كذا مدة بكذا درهما أو : متعيني نفسك أياما بكذا ، أو ما يؤدي هذا المعنى. وجوزها مالك والشيعة. وفي معناها النكاح إلى أجل معلوم وجوزه زفر (١) لازما.

ومتعة الحج ، وهي أن يأتي مكة من على مسافة القصر منها محرما ، فيعتمر في أشهر الحج ، ويقيم حلالا بمكة ، وينشئ منها الحج عامه ذلك. وقد كان معترفا بشرعية المتعتين في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما روي عنه أنه قال : ثلاث كن على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أنهى عنهن وأحرمهن ، وهي متعة النساء ، ومتعة الحج ، وحي على خير العمل.

والجواب أن هذه مسائل اجتهادية وقد ثبت نسخ إباحة متعة النساء بالآثار المشهورة إجماعا من الصحابة على ما روى محمد ابن الحنفية عن علي (رضي الله

__________________

(١) هو زفر بن الهذيل بن قيس العنبري من تميم أبو الهذيل فقيه كبير من أصحاب الإمام أبي حنيفة أصله من أصبهان أقام بالبصرة وولي قضاءها وتوفي بها ، وهو أحد العشرة الذين دونوا الكتب جمع بين العلم والعبادة ، وكان من أصحاب الحديث فغلب عليه الرأي وهو قياس الحنفية ، وكان يقول : نحن لا نأخذ بالرأي ما دام أثر ، وإذا جاء الأثر تركنا الرأي توفي عام ١٥٨ ه‍ راجع الجواهر المضيئة ١ : ٢٤٣ وشذرات الذهب ١ : ٢٤٣ والانتفاء ١٧٣.

تعالى عنه) أن منادي رسول الله نادى يوم خبير : ألا إن الله ورسوله ينهيانكم عن المتعة (١)

وقال جابر بن زيد ما خرج ابن عباس من الدنيا حتى رجع عن قوله في الصرف والمتعة. وبعضهم على أنه إنما تثبت إباحتها مؤقتة بثلاثة أيام. ومعنى أحرمهن : أحكم بحرمتهن ، وأعتقد ذلك لقيام الدليل كما يقال : حرم المثلث الشافعي (رضي الله تعالى عنه) وأباحه أبو حنيفة (رحمه‌الله تعالى).

ومنها أنه جعل الخلافة شورى بين ستة مع الإجماع على أنه لا يجوز نصب خليفتين لما فيه من إثارة الفتنة.

والجواب أن ذلك حيث يكون كل منهما مستقلا بالخلافة. فأما بطريق المشاورة وعدم انفراد البعض بالرأي فلا ، لأن ذلك بمنزلة نصب إمام واحد كامل الرأي ، وقد يقال : إن معنى جعل الإمامة شورى أن يتشاوروا فينصبوا واحدا منهم ، ولا يتجاوزهم الإمام ، ولا يعبأ بتعيين غيرهم ، وحينئذ لا إشكال. ومن نظر بعين الإنصاف ، وسمع ما اشتهر من عمر في الأطراف ، علم جلالة محله عما تدعيه الأعداء ، وبراءة ساحته عما يفتريه أهل البدع والأهواء وجزم بأنه كان الغاية في العدل والسداد والاستقامة على سبيل الرشاد. وأنه لو كان بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) نبي لكان عمر ، ولو لم يبعث فينا نبيا لبعث عمر (٢). ولكن لا دواء لداء العناد. ومن يضلل الله فما له من هاد.

قال : وولي عثمان

(وولى عثمان من ظهر منه الفسق والفساد ، وصرف بيت المال إلى أقاربه ، وحمى لنفسه ، وآذى ابن مسعود ، وعمارا ، وأبا ذر ، ورد طريد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأسقط

__________________

(١) الحديث رواه ابن ماجه في كتاب النكاح ٤٤ باب النهي عن نكاح المتعة ١٩٦١ بسنده عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : وذكره. ورواه البخاري في المغازي ٣٨ ومسلم في النكاح ٢٥ ، ٣٠ ، ٣٢ والترمذي في النكاح ٢٨ وصاحب الموطأ في النكاح ٤١ ، وأحمد بن حنبل في المسند ١ : ٧٩ ، ٣ : ٤٠٤ ٤٠٥ (حلبى).

(٢) قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما رواه الإمام البخاري وغيره ، «إن يكن في أمتي محدثون فعمر منهم».

القود عن ابن عمر ، والحد عن الوليد بن عقبة (١) ، وخذله الصحابة حتى قتل ، ولم يدفن إلا بعد ثلاث.

قلنا : بعض ذلك غير قادح في إمامته كفاسد ولاته. وبعضه افتراء ، وبعضه اجتهاد. ورد الطريد كان بسماع لا يكفيهم ويكفيه. وترك النصرة والدفن بلا عذر لو صح فقدح فيهم لا فيه).

من مطاعنهم في عثمان (رضي الله عنه) أنه ولى أمور المسلمين من ظهر منهم الفسق والفساد ، كالوليد بن عقبة (٢) وعبد الله بن أبي سرح ومروان بن الحكم ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومن يجري مجراهم ، وأنه صرف أموال بيت المال إلى أقاربه حتى نقل أنه صرف إلى أربعة نفر منهم أربعمائة ألف درهم ، وأنه حمى لنفسه. وقد قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) إنه لا حمى إلا لله ولرسوله. وعمر إنما حمى لإبل المسلمين العاجزين ولنحو نعم الصدقة والجزية والضوال ، لا لنفسه ، وأنه أحرق مصحف ابن مسعود ، وضربه حتى كسر ضلعين من أضلاعه ، وضرب عمارا حتى أصابه فتق ، وضرب أبا ذر ونفاه إلى الربذة ، وأنه رد الحكم بن العاص وقد سيره رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأنه أسقط القود عن عبد الله بن عمر وقد قتل الهرمزان ، والحد عن الوليد بن عقبة ، وقد شرب الخمر. وأن الصحابة خذلوه حتى قتل ، ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام.

والجواب أن بعض هذه الأمور مما لا يقدح في إمامته كظهور الفسق والفساد من ولاة بعض البلاد ، إذ لا اطلاع له على السرائر ، وإنما عليه الأخذ بالظاهر ، والعزل عند تحقق الفسق ومعاوية كان على الشام في زمن عمر أيضا ، والمذهب أن

__________________

(١) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط أبو وهب الأموي القرشي وال من فتيان قريش وشعرائهم وأجوادهم فيه ظرف ومجون ولهو وهو أخو عثمان بن عفان لأمه أسلم يوم فتح مكة وبعثه رسول الله على صدقات بني المصطلق ثم ولاه عمر صدقات بني تغلب ، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص سنة ٢٥ ه‍ عزل عن الخلافة وتوفي عام ٦١ ه‍ راجع الإصابة ت ٩١٤٩ والأغاني طبعة الدار ٥ : ١٢٢ ومعرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري ١٩٣ والمسعودي ٤ : ٢٥٧ ـ ٢٦١.

الباغي ليس بفاسق. ولو سلم ، فإنما ظهر ذلك في زمان إمامة علي (رضي الله عنه). وبعضها افتراء محض ، كصرف ذلك القدر من بيت المال إلى أقاربه ، وأخذ الحمى لنفسه ، وضرب الصحابة إلى الحد المذكور وبعضها اجتهاديات مفوضة إلى رأي الإمام حسب ما يراه من المصلحة كالتأديب والتعزير ، ودرء الحدود والقصاص بالشبهات والتأويلات. وبعضها كان بإذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرد الحكم بن العاص (١) على ما روي أنه ذكر ذلك لأبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) فقالا : إنك شاهد واحد. فلما آل الأمر إليه حكم بعلمه وأما حديث خذلان الصحابة إياه وتركهم دفنه من غير عذر ، فلو صح ، كان قدحا فيهم لا فيه. ونحن لا نظن بالمهاجرين والأنصار (رضي الله عنهم) عموما ، وبعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) خصوصا أن يرضوا بقتل مظلوم في دارهم وترك دفن ميت في جوارهم ، سيما من هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما ، وعاكف طول النهار ذاكرا وصائما ، شرفه رسول الله بابنتيه ، وبشره بالجنة ، وأثنى عليه (٢). فكيف يخذلونه ، وقد كان من زمرتهم ، وطول العمر في نصرتهم ، وعلموا سابقته في الإسلام ، وخاتمته إلى دار السلام. لكنه لم يأذن لهم في المحاربة ، ولم يرض بما حاولوا من المدافعة ، تحاميا عن إراقة الدماء ، ورضا بسابق القضاء. ومع ذلك لم يدع الحسن والحسين (رضي الله عنهما) في الدفع عنه مقدورا وكان أمر الله قدرا مقدورا.

قال : خاتمة ـ

((خاتمة) ثم إن أبا بكر (رضي الله عنه) أمر عمر ، وفوض الأمر إليه ، واجتمعت الأمة عليه ، فقهر العباد ، وعمر البلاد ، وحين استشهد جعل الأمر شورى بين ستة هم خير العباد ، فوقع الاتفاق على عثمان ، فجمع القرآن ، وقمع العدوان ، ثم

__________________

(١) هو الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس القرشي الأموي صحابي أسلم يوم الفتح وسكن المدينة فكان فيما قيل يفشي سر رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فنفاه إلى الطائف ، وأعيد إلى المدينة في خلافة عثمان ، فمات فيها ، وقد كف بصره ، وهو عم عثمان بن عفان ووالد مروان (رأس الدولة المروانية) توفي عام ٣٢ ه‍.

(٢) قال الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لعثمان بن عفان عند ما جهز جيش العسرة «ما ضر عثمان ما فعل بعد ذلك» وقال في حقه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ألا استحيي من رجل تستحيي منه الملائكة».

خرج عليه أهل الطغيان ، فاستسلم حتى كان ما كان ، واجتمع أهل الحل والعقد على مبايعة علي ومتابعته ولم يكن هيجان الفتن لاختلاف في خلافته ، ثم آل الأمر إلى الحسن (١) (رضي الله تعالى عنه) بعد ستة أشهر من بيعته سلمه لمعاوية حقنا للدماء وإبقاء على الذماء ، وإطفاء للنائرة الثائرة بين الدهماء ، على ما أخبر به خير الأنبياء ، فصار الملك إليه ، وانقضت الإمامة .. وهلم جرا إلى أن قامت القيامة).

مرض أبو بكر (رضي الله عنه) مرضه الذي توفي فيه في جمادي الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة بعد ما انقضت من خلافته سنتان وأربعة أشهر ، أو ستة أشهر ، فتشاور الصحابة وجعل الخلافة لعمر ، وقال لعثمان (رضي الله عنه) : اكتب : «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا ، خارجا عنها وأول عهده بالآخرة ، داخلا فيها ، حين يؤمن الكافر ، ويوقن الفاجر ، ويصدق الكاذب ، إني استخلف عمر بن الخطاب ، فإن عدل فذاك ظني به ورأيي فيه ، وإن بدل وجار فلكل امرئ ما اكتسب ، والخير أردت ، ولا أعلم الغيب ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون» ، وعرضت الصحيفة على جملة الصحابة فبايعوا لمن فيها ، حتى مرت بعلي (رضي الله عنه) فقال : بايعنا لمن فيها وإن كان عمر فانعقدت له الإمامة بنص الإمام الحق ، وإجماع أهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار ، فقام عشر سنين ونصفا ، يأمر بالعدل والسياسة ، ونظم قوانين الرئاسة ، وتقوية الضعفاء وقهر الأعداء ، واستئصال الأقوياء الأغوياء وإعلاء لواء الإسلام ، وتنفيذ الشرائع والأحكام ، بحيث صار ذلك كالأمثال في الأمصار وطار كالأمطار في الأقطار.

واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة على يد أبي لؤلؤة ، غلام

__________________

(١) هو الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي أبو محمد خامس الخلفاء الراشدين وآخرهم ، وثاني الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، ولد في المدينة المنورة عام ٣ ه‍ وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو أكبر أولادها كان عاقلا حليما محبا للخير ، بايعه أهل العراق بالخلافة بعد مقتل أبيه سنة ٤٠ ه‍ وأشاروا عليه بالمسير إلى الشام لمحاربة معاوية بن أبي سفيان ولكنه آثر الصلح واشترط شروطا على معاوية سنة ٤١ ه‍ وسمي هذا العام عام الجامعة توفي عام ٥٠ ه‍ راجع تهذيب التهذيب ٢ : ٢٩٥ والإصابة ١ : ٣٢٨ واليعقوبي ٢ : ١٩١.

للمغيرة بن شعبة ، طعنه وهو في الصلاة ، وحين علم بالموت قال : ما أجد أحدا أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو عنهم راض فسمى عليا ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص. وجعل الخلافة شورى بينهم ، فاجتمعوا بعد دفن عمر (رضي الله عنه) فقال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي. وقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان. وقال سعد : قد جعلت أمري الى عبد الرحمن بن عوف ثم جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيد علي (رضي الله تعالى عنه) وقال : تبايعني على كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين. فقال : على كتاب الله ، وسنة رسول الله ، وأجتهد برأيي. ثم قال مثل ذلك لعثمان فأجابه إلى ما دعاه ، وكرر عليهما ثلاث مرات ، فأجابا بالجواب الأول ، فبايع عثمان وبايعه الناس ، ورضوا بإمامته. وقول علي (رضي الله تعالى عنه) : «وأجتهد برأيي» ليس خلافا منه في إمامة الشيخين بل ذهابا إلى أنه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر ، بل عليه اتباع اجتهاده ، وكان من مذهب عثمان وعبد الرحمن أنه يجوز إذا كان الآخر أعلم وأبصر بوجوه المقاييس.

ثم خرج على عثمان بعد اثنتي عشرة سنة من خلافته رعاع وأوباش من كل أوب ، وأرذال من خزاعة ، ليس فيهم أحد من كبار الصحابة وأهل العلم ومن يعتد به من أوساط الناس. فقتلوه ظلما وعدوانا في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين. ولو استحق القتل أو الخلع لما ترك أكابر الصحابة ومن بقي من أهل الشورى ، ومن المبشرين بالجنة ذلك إلى جمع من الأوباش والأرذال ومن لا سابقة له في الإسلام ، ولا علم بشيء من أمور الدين ثم اجتمع الناس بعد ثلاثة ايام على علي (رضي الله تعالى عنه) والتمسوا منه القيام بأمر الخلافة لكونه أولى الناس بذلك. وأفضلهم (١) في ذلك الزمان ، فقبله بعد امتناع كثير ومدافعة طويلة ، وبايعه جماعة ممن حضر كخزيمة بن ثابت ، وأبي الهيثم بن التيهان ، ومحمد بن مسلم ، وعمار ، وأبي موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس وغيرهم. وكذا طلحة والزبير ، وقد صحت توبتهما عن مخالفته ، وكذا بايعه عبد الله بن عمر ، وسعد بن أبي وقاص ،

__________________

(١) في (ب) وفضلهم بدلا من «وأفضلهم» ولعل ذلك تحريف.

ومحمد بن مسلمة ، إلا أنهم استعفوا (١) عن القتال مع أهل القبلة لما رووا في هذا المعنى من الأحاديث.

وبالجملة انعقدت خلافته بالبيعة ، واتفاق أهل الحل والعقد. وقد دلت عليه أحاديث كقوله (عليه‌السلام) : الخلافة بعدي ثلاثون سنة (٢).

وقوله (عليه‌السلام) لعلي (رضي الله تعالى عنه) : إنك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين.

وقوله (عليه‌السلام) لعمار : تقتلك الفئة الباغية. وقد قتل يوم صفين تحت راية علي (رضي الله تعالى عنه). ومن المتكلمين من يدعي الإجماع على خلافته لأنه انعقد لإجماع زمان الشورى. على أن الخلافة لعثمان أو علي. وهو إجماع على أنه لو لا عثمان فهي لعلي فحين خرج عثمان من البين بالقتل ، بقي لعلي بالإجماع.

قال إمام الحرمين : لا اكتراث بقول من قال : لا إجماع على إمامة علي (رضي الله تعالى عنه) فإن الإمامة لم تجحد له ، وإنما هاجت الفتن لأمور أخر.

قال : وأما الشيعة

(فيزعمون أن الإمام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علي (كرم الله وجهه) ثم الحسن ، ثم الحسين ، ثم علي زين العابدين ، ثم محمد الباقر ، ثم جعفر الصادق ، ثم موسى الكاظم ، ثم علي الرضا ، ثم محمد الجواد ، ثم علي الزكي ، ثم الحسن العسكري ، ثم محمد المنتظر المهدي. وأنه تواتر نص كل على من بعده وأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قال للحسين : ابني هذا إمام ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمة تسعة ، تاسعهم قائمهم. ونحن لا نزيد على التعجب).

يعني أن الإمامية يزعمون أن الإمام الحق بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) علي ، ثم ابنه

__________________

(١) أي طلبوا أن يعفيهم من المعارك التي خاضها المسلمون في معركة الجمل وصفين.

(٢) الحديث رواه الترمذي في كتاب الفتن ٤٨ باب ما جاء في الخلافة ٢٢٢٦ ـ بسنده عن سفينة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكره. قال الترمذي : وهذا حديث حسن قد رواه غير واحد عن سعيد ابن جمهان ولا نعرفه إلا من حديث سعيد بن جمهان ورواه أبو داود في كتاب السنة ٨ ، وأحمد ابن حنبل في المسند ٤ : ٢٧٣ ٥ : ٤٤ ، ٥٠ : ٤٠٤ (حلبى).

الحسن ثم أخوه الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ، ثم ابنه جعفر الصادق، ثم ابنه موسى الكاظم ، ثم ابنه علي الرضا ، ثم ابنه محمد الجواد ثم ابنه علي الزكي ، ثم ابنه الحسن العسكري ، ثم ابنه محمد بن القائم المنتظر المهدي ويدعون أنه ثبت بالتواتر نص كل من السابقين على من بعده ، ويروون عن النبي أنه قال للحسين (رضي الله عنه) : ابني هذا ، إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة ، تاسعهم قائمهم. ويتمسكون تارة بأنه يجب في الإمام العصمة والأفضلية ، ولا يوجدان فيمن سواهم. والعاقل يتعجب من هذه الروايات والمتواترات التي لا أثر لها في القرون السابقة من أسلافهم ، ولا رواية عن العترة الطاهرة ، ومن يوثق بهم من الرواة المحدثين. وأنه كيف يأتي من زيد بن علي (رضي الله عنه) مع جلالة قدره دعوى لخلافة؟ وكيف لم تبلغه هذه المتواترات بعد مائة وقد بلغت آحاد الروافض بعد سبعمائة؟ ثم لسائر فرق الشيعة في باب الإمامة اختلافات لا تحصى ذكر الإمام في المحصل نبذا منها.

قال : المبحث السادس ـ

(الأفضلية عندنا بترتيب الخلافة مع تردد فيما بين عثمان وعلي (رضي الله عنهما). وعند الشيعة وجمهور المعتزلة الأفضل علي. لنا إجمالا أن اتفاق أكثر العلماء على ذلك يقضي بوجود دليل لهم. وتفصيلا قوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى)(١).

نزلت في أبي بكر والأتقى أكرم وأفضل وقوله (عليه‌السلام) : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (٢) فقد أمر على بالاقتداء بهما.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) هما سيدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) خير أمتي أبو بكر ثم عمر.

__________________

(١) سورة الليل آية رقم ١٧.

(٢) الحديث رواه الترمذي في المناقب ١٦ ، ٣٧ وابن ماجه في المقدمة ١١ وأحمد بن حنبل في المسند ٥ ـ ٣٨٢٠ ـ ٣٨٥ ـ ٣٩٩ ، ٤٠٢ (حلبى).

وقوله (عليه‌السلام) : ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر. وفيها كثرة.

وقال (عليه‌السلام) : لو كان من بعدي نبي لكان عمر.

وقال : عثمان أخي ورفيقي في الجنة.

وقال : «ألا استحي ممن تستحي منه ملائكة السماء» (١) وقد ثبت القول بهذا عن علي وابن عمر وابن الحنفية ودل عليه ما تواتر من آثارهم وأخبارهم ومساعيهم في الإسلام ، ومن تألف القلوب وتتابع الفتوح ، وقهر أهل الردة وكسر فارس والروم ومن فتح الشرق ، وقمع دولة العجم ، وترتيب الأمور ، وإفاضته العدل ، وتقوية الضعفاء ، ومن فتح البلاد وإعلاء كلمة الله ، وجمع الناس على مصحف واحد ، وتجهيز الجيوش ، وإنفاق الأموال في نصرة الدين ، ونحو ذلك)

لما ذهب معظم أهل السنة ، وكثير من الفرق على أنه يتعين للإمامة أفضل أهل العصر إلا إذا كان في نصبه مرج وهيجان فتن احتاجوا إلى بحث الأفضلية ، فقال أهل السنة: الأفضل أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي. وقد مال البعض منهم إلى تفضيل علي (رضي الله عنه) على عثمان ، والبعض إلى التوقف فيما بينهما.

قال إمام الحرمين : مسألة امتناع إمامة المفضول ليست بقطعية ، ثم لا قاطع شاهد من العقل على تفضيل بعض الأئمة على البعض. والأخبار الواردة على فضائلهم متعارضة ، لكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل ، ثم عمر. ثم يتعارض الظنون في عثمان وعلي (رضي الله عنهما) وذهب الشيعة وجمهور المعتزلة إلى أن الأفضل بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم علي (رضي الله عنه) لنا إجمالا أن جمهور عظماء الملة وعلماء الأمة أطبقوا على ذلك ، وحسن الظن بهم يقضي بأنهم لو لم يعرفوه بدلائل وأمارات لما أطبقوا عليه. وتفصيلا الكتاب ، والسنة ، والأثر ، والأمارات.

__________________

(١) الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب فضائل الصحابة ، ٣ باب من فضائل عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ٣٦ ـ ٢٤٠١ بسنده عن عطاء ، وسليمان بن يسار وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، أن عائشة قالت : وذكره.

اما الكتاب فقوله تعالى : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) (١)

فالجمهور على أنها نزلت في أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) والأتقى أكرم لقوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢).

ولا يعني بالأفضل إلا الأكرم ، وليس المراد به عليا ، لأن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنده نعمة تجزى ، وهي نعمة التربية.

وأما السنة فقوله (عليه‌السلام) : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر (٣). دخل في الخطاب علي (رضي الله عنه) فيكون مأمورا بالاقتداء ولا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء ، سيما عند الشيعة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر وعمر : هما سيّدا كهول أهل الجنة ما خلا النبيين والمرسلين (٤)

وقوله (عليه‌السلام) : خير أمتي أبو بكر ثم عمر.

وقوله (عليه‌السلام) : ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدم عليه عنده.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : لو كنت متخذا خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن هو شريك في ديني وصاحبي الذي أوجبت له صحبتي في الغار ، وخليفتي في أمتي (٥)

__________________

(١) سورة الليل آية رقم ١٧.

(٢) سورة الحجرات آية رقم ١٣.

(٣) سبق تخريج هذا الحديث.

(٤) الحديث أخرجه الترمذي في كتاب المناقب ١٦ باب في مناقب أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما كليهما ٢٦٦٤ بسنده عن قتادة عن أنس قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

(٥) الحديث رواه ابن ماجه في المقدمة ١١ باب في فضائل أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ٩٣ بسنده عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره ورواه الترمذي في كتاب المناقب ١٤ باب مناقب أبي بكر الصديق رضي الله عنه ٣٦٥٥ بسنده عن أبي الأحوص عن عبد الله عن رسول الله. قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : وأين مثل أبي بكر ، كذبني الناس وصدقني ، وآمن بي وزوجني ابنته، وجهز لي بماله ، واساني بنفسه ، وجاهد معي ساعة الخوف.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لأبي الدرداء حين كان يمشي أمام أبي بكر : أتمشي أمام من هو خير منك؟ والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر.

ومثل هذا الكلام وإن كان ظاهره نفي أفضلية الغير ، لكن إنما يساق لإثبات أفضلية المذكور. ولهذا أفاد أن أبا بكر أفضل من أبي الدرداء والسر في ذلك أن الغالب من حال كل اثنين هو التفاضل دون التساوي ، فإذا نفى أفضلية أحدهما لآخر ، ثبت أفضلية الآخر ، وبمثل هذا ينحل الإشكال المشهور على قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «من قال حين يصبح وحين يمسي: «سبحان الله وبحمده» مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه» (١) لأنه في معنى أن من قال ذلك فقد أتى بأفضل مما جاء به كل أحد إلا احدا قال مثل ذلك أو زاد عليه. فالاستثناء بظاهره من النفي ، وبالتحقيق من الإثبات.

وعن عمرو بن العاص ، قلت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أي الناس أحب إليك؟ قال : عائشة قلت : من الرجال؟ قال : أبوها ، قلت : ثم من؟ قال : عمر (٢).

وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لو كان بعدي نبي لكان عمر.

وعن عبد الله بن حنطب أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) رأى أبا بكر وعمر فقال : هذان السمع والبصر.

وأما الأثر ، فعن ابن عمر ، كنا نقول ورسول الله حي : أفضل أمة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بعده

__________________

(١) الحديث أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات ٦١ باب ٣٤٦٩ بسنده عن أبي هريرة عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : وذكره. قال الترمذي : هذا حديث صحيح غريب.

(٢) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب فضائل الصحابة ٥ باب قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كنت متخذا خليلا» قاله أبو سعيد. ٣٦٦٢ ـ حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار قال : خالد الحذاء ، حدثنا عن أبي عثمان. قال حدثني عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ، أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته فقلت : أي الناس أحب إليك ..؟ فقال : وذكره.

أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان.

وعن محمد ابن الحنفية ، قلت لأبي : أي الناس خير بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) قال : أبو بكر قلت : ثم من؟ قال : عمر. وخشيت أن أقول. ثم من ، فيقول عثمان فقلت : ثم أنت ، قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين. وعن علي (رضي الله عنه) : خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر ، ثم الله أعلم.

وعنه (رضي الله عنه) لما قيل له : ما توصي؟ قال : ما أوصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حتى أوصي ولكن إن أراد الله بالناس خيرا جمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم.

وأما الأمارات فما تواتر في أيام أبي بكر من اجتماع الكلمة ، وتألف القلوب وتتابع الفتوح وقهر أهل الردة وتطهير جزيرة العرب عن الشرك ، وإجلاء الروم عن الشام وأطرافها ، وطرد فارس عن حدود السواد ، وأطراف العراق مع قوتهم وشوكتهم ووفور أموالهم ، وانتظام أحوالهم وفي أيام عمر من فتح جانب المشرق إلى أقصى خراسان ، وقطع دولة العجم وثل عرشهم الراسبي البنيان ، الثابت الأركان. ومن ترتيب الأمور ، وسياسة الجمهور ، وإفاضة العدل ، وتقوية الضعفاء ، ومن إعراضه من متاع الدنيا وطيباتها وملاذها وشهواتها. وفي أيام عثمان من فتح البلاد ، وإعلاء لواء الإسلام ، وجمع الناس على مصحف واحد مع ما كان له من الورع والتقوى ، وتجهيز جيوش المسلمين (١) ، والإنفاق في نصرة الدين ، والمهاجرة هجرتين ، وكونه ختنا للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) على ابنتين ، والاستحياء من أدنى شين ، وتشرفه بقوله (عليه‌السلام) : عثمان أخي ورفيقي في الجنة ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : ألا أستحي ممن تستحي منه ملائكة السماء (٢). وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : إنه رجل يدخل الجنة بغير حساب.

قال : تمسكت الشيعة

__________________

(١) يقول عبد الرحمن بن خباب ـ رضي الله عنه شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يحث على تجهيز جيش العسرة فقام عثمان بن عفان فقال : يا رسول الله عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال : يا رسول الله عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال : عليّ ثلاثمائة بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فقال رسول الله : ما على عثمان ما فعل بعد هذه.

(٢) سبق تخريج هذا الحديث.

(بقوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ) (١) أراد عليا. وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)(٢).

وعلي (رضي الله عنه) منهم. وقوله تعالى : (وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وهو علي وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب.

وقوله : أقضاكم علي. وقوله : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير ، فجاء علي. وقوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى (٤) .. إلى غير ذلك. وبأنه أعلم حتى استند رؤساء العلوم إليه ، وأخبر بذلك في خبر الوسادة ، وأشهد على ما يشهد به غزواته ، حتى قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) «لضربة علي خير من عبادة الثقلين» وأزهد حتى طلق الدنيا بكليتها ، وأكثر عبادة وسخاوة ، وأشرف خلقا وطلاقة ، وأفصح لسانا ، وأسبق إسلاما.

والجواب أن الكلام في الأفضلية بمعنى الكرامة عند الله ، وكثرة الثواب ، وقد شهد في ذلك عامة المسلمين ، واعترف علي (رضي الله عنه) به. وعارض ما ذكرتم ما ذكرنا ، مع أن فيه مواضع بحث لا تخفى ، سيما حديث سبق الإسلام والسيف في إعلاء الأعلام).

القائلون بأفضلية علي (رضي الله عنه) تمسكوا بالكتاب والسنة والمعقول.

أما الكتاب فقوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ..) (٥) الآية.

__________________

(١) سورة آل عمران آية رقم ٦١.

(٢) سورة الشورى آية رقم ٢٣.

(٣) سورة التحريم آية رقم ٤.

(٤) سبق تخريج هذا الحديث.

(٥) سورة آل عمران آية رقم ٦١.

عنى بانفسنا عليا (رضي الله تعالى عنه) وإن كان صيغة جمع ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا وفد نجران إلى المباهلة ، وهو الدعاء على الظالم من الفريقين خرج ومعه الحسن والحسين وفاطمة وعلي ، وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأمنوا ، ولم يخرج معه من بني عمه غير علي (رضي الله عنه) ولا شك أن من كان بمنزلة نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أفضل.

وقوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١)

قال سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله ، من هؤلاء الذين تودّهم؟ قال : علي وفاطمة وولداها. ولا يخفى أن من وجبت محبته بحكم نص الكتاب كان أفضل. وكذا من ثبت نصرته للرسول بالعطف في كلام الله تعالى عنه على اسم الله وجبريل مع التعبير عنه بصالح المؤمنين ، وذلك قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

فعن ابن عباس (رضي الله عنه) أن المراد به علي.

وأما السنة ، فقوله (عليه‌السلام) : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في تقواه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى موسى في هيبته ، وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب» ولا خفاء في أن من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «أقضاكم علي» (٣) والأقضى أكمل وأعلم. وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير» فجاءه علي فأكل معه. والأحب إلى الله أكثر ثوابا ، وهو معنى الأفضل ، وبقوله (عليه‌السلام) : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»(٤) ولم يكن عند موسى أفضل من هارون. وقوله (عليه‌السلام) : «من كنت مولاه فعلي مولاه» (٥) الحديث ، وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يوم خيبر : لأعطين هذه الراية غدا رجلا

__________________

(١) سورة الشورى آية رقم ٢٣.

(٢) سورة التحريم آية رقم ٤.

(٣) الحديث أخرجه الإمام البخاري في تفسير سورة ٢ : ٧ وابن ماجه في المقدمة ١١ ورواه الإمام أحمد ابن حنبل في المسند ٥ : ١١٢ (حلبي).

(٤) سبق تخريج هذا الحديث.

(٥) سبق تخريج هذا الحديث.

يفتح الله على يديه ، يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، فلما أصبح الناس ، غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها. فقال أين علي بن أبي طالب؟ قالوا : هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال : فأرسلوا إليه. فأتي به. فبصق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فيهما فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع ، فأعطاه الراية (١).

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أنا دار الحكمة ، وعلي بابها.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لعلي : أنت أخي في الدنيا والآخرة ، وذلك حين آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال : آخيت بين أصحابك ولم تواخ بيني وبين أحد.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «لمبارزة علي عمرو بن عبد ود أفضل من عمل أمتي إلى يوم القيامة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي : «أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة ومن أحبك فقد أحبني وحبيبي حبيب الله. ومن أبغضك فقد أبغضني ومن أبغضني فقد أبغض الله. فالويل لمن أبغضك بعدي».

وأما المعقول فهو أنه أعلم الصحابة لقوة حدسه وذكائه ، وشدة ملازمته للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) واستفادته منه. وقد قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حين نزل قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ)(٢)

اللهم اجعلها أذن علي. قال علي : ما نسيت بعد ذلك شيئا ، وقال : علمني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ألف باب من العلم فانفتح لي من كل باب ألف باب. ولهذا رجعت الصحابة إليه في كثير من الوقائع واستند العلماء في كثير من العلوم إليه كالمعتزلة

__________________

(١) الحديث رواه الإمام البخاري في كتاب فضائل الصحابة ٩ باب مناقب القرشي الهاشمي أبي الحسن رضي الله عنه. ٣٧٠١ ـ حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز عن أبي حازم عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه أن رسول الله قال : وذكره. وفيه زيادة «فقال علي : يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال : انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه ، فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم».

(٢) سورة الحاقة آية رقم ١٢ والحديث رواه ابن أبي حاتم حدثنا أبو زرعة الدمشقي حدثنا العباس ابن الوليد بن صبيح الدمشقي حدثنا زيد بن يحيى حدثنا علي بن حوشب سمعت مكحولا يقول وذكره.

والأشاعرة في علم الأصول ، والمفسرين في علم التفسير ، فإن رئيسهم ابن عباس تلميذ له.

والمشايخ في علم السر وتصفية الباطن ، فإن المرجع فيه إلى العترة الطاهرة. وعلم النحو إنما ظهر منه. وبهذا قال : لو كسرت الوسادة ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم. والله ما من آية نزلت في بر أو بحر أو سهل أو جبل أو سماء أو أرض أو ليل ، أو نهار إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وفي أي شيء نزلت.

وأيضا هو أشجعهم يدل عليه كثرة جهاده في سبيل الله ، وحسن إقدامه في الغزوات ، وهي مشهورة غنية عن البيان ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا فتى إلا علي ، ولا سيف إلا ذو الفقار.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يوم الأحزاب : لضربة علي خير من عبادة الثقلين.

وأيضا هو أزهدهم لما تواتر من إعراضه عن لذات الدنيا مع اقتداره عليها لاتساع أبواب الدنيا عليه. ولهذا قال : يا دنيا إليك عني ، إليّ تعرضت أم إليّ تشوقت ، لا حان حينك ، هيهات غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، فقد طلقتك ثلاثا لا رجعة فيها ، فعيشك قصير ، وحظك يسير ، وأملك حقير. وقال : والله لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم. وقال : والله لنعيم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز.

وأيضا هو أكثرهم عبادة حتى روي أن جبهته صارت كركبة البعير لطول سجوده.

وأكثرهم سخاوة حتى نزل فيه وفي أهل بيته : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (١).

وأشرفهم خلقا وطلاقة وجه ، حتى نسب إلى الدعابة ،

__________________

(١) سورة الإنسان آية رقم ٨ قال عطاء عن ابن عباس وذلك أن علي بن أبي طالب نوبة أجر نفسه يسقي نخلا بشيء من شعير ليلة ، حتى أصبح وقبض الشعير وطحن ثلثه ، فجعلوا منه شيئا ليأكلوه ، يقال له ـ

وأحلمهم حتى ترك ابن ملجم في دياره وجواره يعطيه العطاء ، مع علمه بحاله ، وعفا عن مروان حين أخذ يوم الجمل مع شدة عداوته له ، وقوله فيه : سيلقى الأمة منه ومن ولده يوما أحمر.

وأيضا هو أفصحهم لسانا على ما يشهد به كتاب نهج البلاغة ، وأسبقهم إسلاما على ما روي أنه بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء.

وبالجملة فمناقبه أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى.

والجواب أنه لا كلام في عموم مناقبه ووفور فضائله ، واتصافه بالكمالات ، واختصاصه بالكرامات ، إلا أنه لا يدل على الأفضلية بمعنى زيادة الثواب والكرامة عند الله بعد ما ثبت من الاتفاق الجاري مجرى الإجماع على أفضلية أبي بكر ، ثم عمر. والاعتراف من علي بذلك. على أن فيما ذكر مواضع بحث لا تخفى على المحصل (١) مثل : أن المراد بأنفسنا نفس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) كما يقال : دعوت نفسي إلى كذا وأن وجوب المحبة وثبوت النصرة على تقدير تحققه في حق علي (رضي الله عنه) فلا اختصاص به (٢). وكذا الكمالات الثابتة للمذكورين من الأنبياء ، وأن «أحب خلقك» يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه ، عملا بأدلة أفضليتهما ، ويحتمل أن يراد «أحب الخلق إليك» في أن يأكل منه. وأن حكم الأخوة ثابت في حق أبي بكر وعثمان (رضي الله عنهما) أيضا حيث قال في حق أبي بكر : لكنه أخي وصاحبي ووزيري ، وقال في عثمان : أخي ورفيقي في الجنة وأما حديث العلم والشجاعة ، فلم تقع حادثة إلا ولأبي بكر وعمر فيه رأي ، وعند الاختلاف لم يكن يرجع إلى قول علي (رضي الله تعالى عنه) البتة بل قد وقد. ولم يكن رباط الجأش وشجاعة القلب وترك الاكتراث في المهالك في أبي بكر أقل من أحد ، سيما فيما وقع بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) من حوادث يكاد يصيب وهنا في الإسلام. وليس الخير في هداية من

__________________

ـ الخزيرة ، فلم تم نضجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام ، ثم عمل الثلث الثاني ، فلما تم نضجه أتى يتيم فسأل فأطعموه ، ثم عمل الثلث الباقي ، فلما تم إنضاجه أتى أسير من المشركين فأطعموه ، وطووا يومهم ذلك ، فأنزلت فيه هذه الآيات.

(١) في (ب) اللبيب بدلا من (المحصل).

(٢) في (ب) بزيادة لفظ (عنده).

اهتدى ببركة أبي بكر ويمن دعوته ، وحسن تدبيره أقل من الخير في قتل من قتله علي (رضي الله تعالى عنه) من الكفار ، بل لعل ذلك أدخل في نصرة الإسلام وتكثير أمة النبي(صلى‌الله‌عليه‌وسلم) :

وأما حديث زهدهما في الدنيا ، فغني عن البيان. وأما السابق إسلاما ، فقيل : علي وقيل : زيد بن حارثة (١) وقيل : خديجة. وقيل : أبو بكر ، وعليه الأكثرون ، على ما صرح به حسان بن ثابت في شعر أنشده على رءوس الأشهاد ، ولم ينكر عليه أحد. وقيل : أول من آمن به من النساء خديجة (رضي الله تعالى عنها) ومن الصبيان علي (رضي الله تعالى عنه) ومن العبيد زيد بن حارثة ، ومن الرجال الأحرار أبو بكر (رضي الله تعالى عنه) وبه اقتدى جمع من العظماء كعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي عبيدة بن الجراح وغيرهم. والإنصاف أن مساعي أبي بكر وعمر في الإسلام أمرا على الشأن ، جلي البرهان ، غني عن البيان.

قال : وأما بعدهم

وأما بعدهم فقد ثبت أن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن العشرة الذين منهم الأئمة الأربعة مبشرون بالجنة ، ثم الفضل بالعلم والتقوى ، وإنما اعتبار النسب في الكفاءة لأمر يعود إلى الدنيا ، وفضل العترة الطاهرة بكونهم أعلام الهداية وأشياع الرسالة على ما يشير إليه ضمهم إلى كتاب الله في انفاد التمسك بهما عن الضلالة).

ما ذكر من أفضلية بعض الأفراد بحسب التعيين أمر ذهب إليه الأئمة ، وقامت عليه الأدلة.

__________________

(١) هو زيد بن حارثة بن شراحيل ، صحابي اختطف في الجاهلية صغيرا ، واشترته خديجة بنت خويلد فوهبته إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فتبناه النبي ـ قبل الإسلام ـ وأعتقه وزوجه بنت عمته ، واستمر الناس يسمونه «زيد بن محمد» حتى نزلت آية (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) وهو من أقدم الصحابة إسلاما ، وكان النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يبعثه في سرية إلا أمره عليها ، وكان يحبه ويقدمه ، وجعل له الإمارة في غزوة موتة توفي عام ٨ ه‍ راجع الإصابة ١ : ٥٦٣ ، وصفة الصفوة ١ : ١٤٧ وخزانة البغدادي ١ : ٣٦٣ وابن النديم في ترجمة هشام الكلبي والروض الأنف ١ : ١٦٤.

قال الإمام الغزالي (١) (رحمة الله تعالى عليه) : حقيقة الفضل ما هو عند الله ، وذلك مما لا يطلع عليه إلا رسول الله. وقد ورد في الثناء عليهم أخبار كثيرة ، ولا يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه إلا المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال. فلو لا فهم ذلك ، لما رتبوا الأمر كذلك إذ كان لا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عن الحق صارف ، وأما فيمن عداهم فقد ورد النص بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، وأن أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه تحت الشجرة ، ومن شهد بدرا وأحدا والحديبية من أهل الجنة ، وحديث بشارة العشرة بالجنة مشهور ، يكاد يلحق بالمتواترات وهم : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن زيد ، وأبو عبيدة بن الجراح. وأما إجمالا فقد تطابق الكتاب والسنة ، والإجماع على أن الفضل للعلم والتقوى. قال الله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢).

وقال الله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٣).

وقال الله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (٤).

وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «الناس سواسية كأسنان المشط ، لا فضل لعربي على عجمي ، إنما الفضل بالتقوى».

وقال (عليه‌السلام) : «إن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب». وإن العلماء ورثة الأنبياء.

__________________

(١) هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي ، أبو حامد ، حجة الإسلام فيلسوف ، متصوف ، له نحو مائتي مصنف ولد عام ٤٥٠ وتوفي عام ٥٠٥ ه‍ رحل إلى نيسابور ثم إلى بغداد فالحجاز فبلاد الشام فمصر ، وعاد إلى بلدته من كتبه : إحياء علوم الدين ، وتهافت الفلاسفة ، والاقتصاد في الاعتقاد ، ومعارج القدس وغير ذلك كثير. راجع وفيات الأعيان ١ : ٤٦٣ وطبقات الشافعية ٤ : ١٠١ وشذرات الذهب ٤ : ١٠.

(٢) سورة الحجرات آية رقم ١٣.

(٣) سورة الزمر آية رقم ٩.

(٤) سورة المجادلة آية رقم ١١.

وقال (عليه‌السلام) : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم.

وقال (عليه‌السلام) : من سلك طريقا يلتمس فيها علما ، سهل الله له طريقا إلى الجنة(١).

فإن قيل : يكاد يقع الإجماع على أن غير القرشي ليس بكفء للقرشي ، وهذا يدل على أن القرشي ، سيما الهاشمي ، سيما العلوي ، سيما الفاطمي أفضل من غيره ، وإن اختص بالعلم.

قلنا : اعتبار الكفاءة في النكاح لغرض تحصيل رضاء الأولياء ، وعدم لحوق العار ، ونحو ذلك مما يتعلق بأمر الدنيا والكلام في الفضل عند الله وكثرة الثواب ، وعلو الدرجة في الجنة ، وهل يتصور فضل آحاد القرشيين بل العلويين على علماء الدين وعظماء المجتهدين؟

فإن قيل : قال الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢)

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي» (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، وأهل بيتي ، وأذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي.

__________________

(١) رواه أبو داود في كتاب العلم ١ ورواه الإمام البخاري في كتاب العلم ١٠ والترمذي في القرآن ١٠ والعلم ١٩ وابن ماجه في المقدمة ١٧ باب فضل العلماء والحث على طلب العلم ٢٢٣ ـ بسنده عن كثير بن قيس قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره ، ورواه الإمام أحمد في المسند ٢ : ٢٥٢ ، ٣٢٥ ، ٤٠٧ (حلبى).

(٢) سورة الأحزاب آية رقم ٣٣.

(٣) الحديث أخرجه الإمام الترمذي في كتاب المناقب ٣٢ باب في مناقب أهل بيت النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٣٧٨٦ ـ بسنده عن جابر بن عبد الله قال : رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحبته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول يا أيها الناس وذكره. قال الترمذي : وهذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

ومثل هذا يشعر بفضلهم على العالم وغيره.

قلنا : نعم لاتصافهم بالعلم والتقوى ، مع شرف النسب. ألا يرى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرنهم بكتاب الله في كون التمسك بهما منقذا من الضلالة ولا معنى للتمسك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية فكذا في العترة. ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أبطأ به عمله ، لم يسرع به نسبه» (١).

قال : المبحث السابع ـ

(المبحث السابع ـ اتفق أهل الحق على وجوب تعظيم الصحابة. والكف عن الطعن فيهم ، سيما المهاجرين والأنصار لما ورد في الكتاب والسنة من الثناء عليهم ، والتحذير عن الإخلال بإجلالهم : «الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا من بعدي» «لا تسبوا أصحابي» «خير القرون قرني» ولو كانوا فسدوا بعده لما قال ذلك ، بل نبه ، وكثير مما حكي عنهم افتراءات ، وما صح فله محامل وتأويلات).

يجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم ، وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات سيما للمهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ، ومن شهد بدرا وأحدا والحديبية فقال : انعقد على علو شأنهم الإجماع وشهد بذلك الآيات الصراح ، والأخبار الصحاح ، وتفاصيلها في كتب الحديث والسير والمناقب. ولقد أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم بتعظيمهم وكف اللسان عن الطعن فيهم حيث قال : أكرموا أصحابي فإنهم خياركم.

وقال : «لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» (٢).

__________________

(١) هذا جزء من حديث طويل رواه ابن ماجه في المقدمة ١٧ باب فضل العلماء ، والحث على طلب العلم ، ٢٢٥ ـ بسنده عن أبي هريرة قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره ورواية أبي داود في كتاب العلم ١ ، والترمذي في كتاب القرآن ١٠ والدارمي في المقدمة ٣٢ ، وأحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٢٥٢ ، ٤٠٧ (حلبى).

(٢) الحديث رواه الإمام مسلم ـ في كتاب فضائل الصحابة ٥٤ باب تحريم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا من بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم»(١).

وللروافض سيما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض من الصحابة (رضي الله عنهم) والطعن فيهم بناء على حكايات وافتراءات لم تكن في القرن الثاني والثالث. فإياك والإصغاء إليها. فإنها تضل الأحداث ، وتحير الأوساط ، وإن كانت لا تؤثر فيمن له استقامة على الصراط المستقيم. وكفاك شاهدا على ما ذكرنا أنها لم تكن في القرون السالفة ، ولا فيما بين العترة الطاهرة بل ثناؤهم على عظماء الصحابة وعلماء السنة والجماعة ، والمهديين من خلفاء الدين مشهور وفي خطبهم ورسائلهم وأشعارهم ومدائحهم مذكور. والله الهادي.

قال : وتوقف علي (رضي الله عنه)

(وتوقف علي (رضي الله تعالى عنه) في بيعة أبي بكر كان للحزن والكآبة ، وعدم الفراغ للنظر والاجتهاد ، وعن نصرة عثمان بعدم رضاه ، لا برضاه ، ولهذا قال : والله ما قتلت عثمان ، ولا مالأت عليه. وتوقف في قبول البيعة إعظاما للحادثة ، وإنكارا ، وعن قصاص القتلة لشوكتهم (٢) أو لأنهم عنده بغاة. والباغي لا يؤاخذ بما أتلف من الدم والمال عند البعض)

قد استقرت آراء المحققين من علماء الدين على أن البحث عن أحوال الصحابة وما جرى بينهم من الموافقة والمخالفة ليس من العقائد الدينية ، والقواعد الكلامية ، وليس له نفع في الدين ، بل ربما يضر باليقين ، إلا أنهم ذكروا نبذا من ذلك لأمرين :

__________________

ـ ٢٢١ ـ (٢٥٤٠) بسنده عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : وذكره. وأبو داود في السنة ١٠ والترمذي في المناقب ٥٨ ، وأحمد بن حنبل في المسند ٣ : ١١

(١) الحديث رواه الإمام أحمد في المسند ٥ : ٥٤ ، ٥٧ (حلبى).

(٢) الشوكة ، واحدة الشوك ، وشاكته الشوكة : أي دخلت في جسده ، والشوكة : شدة البأس ، والحد في السلاح وشوكة العقرب : إبرتها.

أحدهما صون الأذهان السليمة عن التدنس بالعقائد الردية التي توقعها حكايات بعض الروافض ورواياتهم.

وثانيها ابتناء بعض الأحكام الفقهية في باب البغاة عليها. إذ ليس في ذلك نصوص يرجع إليها ، ولهذا قال أبو حنيفة (١) (رحمه‌الله تعالى) لو لا علي لم نكن نعرف السيرة في الخوارج وكان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) خص عليا (رضي الله عنه) بتعليم تلك الأحكام لما علم من اختصاصه بالحاجة إليها أو علمها غيره أيضا ، لكنهم لم يحتاجوا إلى البيان والتبليغ لما رأوا من معاملة علي (رضي الله تعالى عنه) على وفقها من غير تغيير ، فنقول أما توقف علي (رضي الله عنه) في بيعة أبي بكر (رضي الله تعالى عنه) فيحمل على أنه لما أصابه من الكآبة والحزن بفقد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لم يتفرغ للنظر والاجتهاد فلما نظر وظهر له الحق ، دخل فيما دخل فيه الجماعة. وأما توقفه عن نصرة عثمان (رضي الله تعالى عنه) ، ودفع الغوغاء عنه فلأنه لم يأذن في ذلك وكان يتجافى عن الحرب وإراقة الدماء ، حتى قال : من وضع السلاح من غلماني فهو حر. ومع ذلك فقد دفع عنه الحسنان (٢) (رضي الله عنهما) ولم ينفع ، وكان ما كان ، ولم يكن رضا من علي (رضي الله عنه) بذلك وإعانة عليه. ولهذا قال (رضي الله عنه) : والله ما قتلت عثمان ولا مالأت عليه وتوقف في قبول البيعة إعظاما لقتل عثمان وإنكارا ، وكذا طلحة والزبير. إلا أن من حضر من وجوه المهاجرين والأنصار أقسموا عليه وناشدوه الله في حفظ بقية الأمة وصيانة دار الهجرة ، إذ قتلة عثمان قصدوا الاستيلاء على المدينة ، والفتك بأهلها وكانوا جهلة لا سابقة لهم في الإسلام ، ولا علم لهم بأمر الدين ، ولا صحبة مع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فقبل البيعة. وتوقفه عن قصاص قتلة عثمان (رضي الله تعالى عنه) إما لشوكتهم وكثرتهم وقوتهم وحرصهم بالخروج على من يطالبهم بدمه. فاقتضى النظر الصائب تأخير الأمر احترازا عن إثارة الفتنة وإما لأنه رأى أنهم بغاة لما لهم من المنعة الظاهرة والتأويل

__________________

(١) هو النعمان بن ثابت ، أبو حنيفة ، أحد الأئمة الأربعة ولد عام ٨٠ ه‍ وتوفي عام ١٥٠ ه‍ وراجع تاريخ بغداد ١٣ : ٣٢٣ ـ ٤٢٣ وابن خلكان ٢ : ١٦٣ ، والنجوم الزاهرة ٢ : ١٢ والبداية والنهاية ١٠ : ١٠٧.

(٢) الحسن ، والحسين أولاد الإمام علي وأمهما فاطمة الزهراء بنت الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الفاسد حيث استحلوا دمه بما أنكروا عليه من الأمور ، وأن الباغي إذا إنقاد لإمام أهل العدل. لا يؤاخذ بما سبق منه من إتلاف أموالهم وسفك دمائهم ، على ما هو رأي بعض المجتهدين.

وقال : وامتناع سعد

(وسعيد وغيرهما عن الخروج معه إلى الحروب كان لاجتهاد منهم ، وترك إلزام منه ، لا لنزاع في إمامته أو إباء عن طاعته).

يعني أن امتناع جماعة من الصحابة (رضي الله عنهم) كسعد بن أبي وقاص (١) وسعيد بن زيد ، وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهم عن نصرة علي (رضي الله عنه) والخروج معه إلى الحروب لم يكن عن نزاع منهم في إمامته ولا عن إباء عما وجب عليهم من طاعته. بل لأنه تركهم واختيارهم من غير إلزام على الخروج الى الحروب ، فاختاروا ذلك بناء على أحاديث رووها على ما قال محمد بن سلمة أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) عهد إليّ إذا وقعت الفتنة أن أكسر سيفي ، واتخذ مكانه سيفا من خشب.

وروى سعد بن أبي وقاص أنه قال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) سيكون بعدي فتنة القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي (٢).

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : قتال المسلم كفر وسبابه فسق ، ولا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام. فلم تأثموا قعدوا عن الحروب.

قال : وأما في حرب الجمل

__________________

(١) هو سعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف القرشي الزهري أبو إسحاق الصحابي الأمير فاتح العراق ، ومدائن كسرى ، وأحد الستة الذين عينهم عمر للخلافة ، وأول من رمى بسهم في سبيل الله ولد عام ٢٣ ق. ه وتوفي عام ٥٥ ه‍ راجع الرياض النضرة ٢ : ٢٩٢ والتهذيب ٣ : ٤٨٣ وصفوة الصفوة ١ : ١٣٨

(٢) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الفتن ٢٩ باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، ٢١٩٤ ـ بسنده عن بسر بن سعيد أن سعد بن ابي وقاص قال عند فتنة عثمان بن عفان أشهد أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : ورواه الإمام البخاري في كتاب الفتن ٩ ، والمناقب ٢٥ ، والإمام مسلم في الفتن ١٠ ، ١٣ والإمام أحمد بن حنبل في المسند ١ : ١٦٩ ، ١٨٥ ، ٢ : ٢٨٢ ، ٤٠٨ ، ٤ ، ١٠٦ ، ١١٠ (حلبى).

(وحرب صفين وحرب الخوارج ، فالمصيب علي ، لما ثبت له من الإمامة وظهر من التفاوت ، لا كلتا الطائفتين على ما هو رأي المصوبة ولا إحداهما من غير تعيين على ما هو رأي بعض المعتزلة والمخالفون بغاة لخروجهم على الإمام الحق لشبهة. لا فسقة أو كفرة على ما يزعم الشيعة جهلا بالفرق بين المخالفة والمحاربة بالتأويل وبدونه. ولهذا نهى علي عن لعن أهل الشام ، وقال : إخواننا بغوا علينا. وقد صح رجوع أصحاب الجمل. على أن منا من يقول : إن الحرب لم تقع عن عزيمة. وإن قصد عائشة (رضي الله عنها) لم يكن إلا إصلاح ذات البين).

قاتل علي (رضي الله عنه) ثلاث فرق من المسلمين على ما قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : إنك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين. فالناكثون هم الذين نكثوا العهد والبيعة ، وخرجوا إلى البصرة ، مقدمهم طلحة والزبير (رضي الله عنهما) وقاتلوا عليا (رضي الله عنه) بعسكر مقدمهم عائشة (رضي الله عنها) في هودج على جمل أخذ بخطامه كعب بن مسعود ، فسمى ذلك الحرب حرب الجمل. والمارقون هم الذين نزعوا اليد عن طاعة علي (رضي الله عنه) بعد ما بايعوه وتابعوه في حرب أهل الشام زعما منهم أنه كفر حيث رضي بالتحكيم ، وذلك أنه لما طالت محاربة علي (رضي الله عنه) ومعاوية بصفين واستمرت ، اتفق الفريقان على تحكيم أبي موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص في أمر الخلافة ، وعلي الرضا بما يريانه ، فاجتمع الخوارج على عبد الله بن وهب الراسبي (١) وساروا إلى النهروان ، وسار إليهم علي (رضي الله عنه) بعسكره وكسرهم ، وقتل الكثير منهم ، وذلك حرب الخوارج وحرب النهروان. والقاسطون معاوية وأتباعه الذين اجتمعوا عليه ، وعدلوا عن طريق الحق الذي هو بيعة علي (رضي الله عنه) والدخول تحت طاعته ، ذهابا إلى أنه

__________________

(١) هو عبد الله بن وهب الراسبي ، من الأزد من أئمة الأباضية كان ذا علم ، ورأي وفصاحة ، وشجاعة ، وكان عجبا في العبادة ، أدرك النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشهد فتوح العراق مع سعد بن أبي وقاص ثم كان مع علي في حروبه ولما وقع التحكيم أنكره جماعة ، فيهم الراسبي ، فاجتمعوا في النهروان (بين بغداد وواسط) وأمروه عليهم فقاتلوا عليا وقتل الراسبي في هذه الوقعة عام ٣٨ ه‍.

مالأ على قتل عثمان (رضي الله عنه) حيث ترك معاونته ، وجعل قتلته خواصه وبطانته ، فاجتمع الفريقان بصفين ، وهي قرية خراب من قرى الروم على غلوة من الفرات ، ودامت الحرب بينهم شهورا ، فسمي ذلك حرب صفين. والذي اتفق عليه أهل الحق أن المصيب في جميع ذلك علي (رضي الله عنه) لما ثبت من إمامته ببيعة أهل الحل والعقد وظهر من تفاوت إما بينه وبين المخالفين سيما معاوية وأحزابه ، وتكاثر من الأخبار في كون الحق معه ، وما وقع عليه الاتفاق حتى من الأعداء إلى أنه أفضل زمانه. وأنه لا أحق بالإمامة منه. والمخالفون بغاة لخروجهم على الإمام الحق بشبهة هي تركه القصاص من قتلة عثمان (رضي الله عنه) ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» وقد قتل يوم صفين على يد أهل الشام. ولقول علي (رضي الله تعالى عنه) : إخواننا بغوا علينا ، وليسوا كفارا ولا فسقة ولا ظلمة لما لهم من التأويل. وإن كان باطلا فغاية الأمر أنهم أخطئوا في الاجتهاد. وذلك لا يوجب التفسيق ، فضلا عن التكفير. ولهذا منع علي (رضي الله عنه) أصحابه من لعن أهل الشام ، وقال : إخواننا بغوا علينا. كيف وقد صح ندم طلحة والزبير (رضي الله عنهما) وانصراف الزبير (رضي الله عنه) عن الحرب ، واشتهر ندم عائشة (رضي الله عنها). والمحقون من أصحابنا على أن حرب الجمل كانت فلتة من غير قصد من الفريقين ، بل كانت تهييجا من قتلة عثمان (رضي الله عنه) حيث صاروا فرقتين ، واختلطوا بالعسكرين ، وأقاموا الحرب خوفا من القصاص ، وقصد عائشة (رضي الله عنها) لم يكن إلا إصلاح الطائفتين وتسكين الفتنة ، فوقعت في الحرب.

وما ذهب إليه الشيعة من أن محاربي علي كفرة ، ومخالفوه فسقة تمسكا بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) «حربك يا علي حربي». وبأن الطاعة واجبة ، وترك الواجب فسق ، فمن اجتراءاتهم وجهالاتهم حيث لم يفرقوا بين ما يكون بتأويل واجتهاد وبين ما لا يكون. نعم : لو قلنا بكفر الخوارج بناء على تكفيرهم عليا (رضي الله عنه) : لم يبعد ، لكنه بحث آخر.

فإن قيل : لا كلام في أن عليا أعلم وأفضل ، وفي باب الاجتهاد أكمل لكن من

أين لكم أن اجتهاده في هذه المسألة وحكمه بعدم القصاص على الباغي أو باشتراط زوال المنعة صواب ، واجتهاد القائلين بالوجوب خطأ ليصح له مقاتلتهم؟ وهل هذا إلا كما إذا خرج طائفة على الإمام ، وطلبوا منه الاقتصاص ممن قتل مسلما بالمثقل؟

قلنا : ليس قطعنا بخطئهم في الاجتهاد عائدا إلى حكم المسألة نفسه ، بل إلى اعتقادهم أن عليا (رضي الله عنه) يعرف القتلة بأعيانهم ، ويقدر على الاقتصاص منهم. كيف وقد كانت عشرة آلاف من الرجال يلبسون السلاح وينادون : أننا كلنا قتلة عثمان. وبهذا يظهر فساد ما ذهب إليه عمرو بن عبيدة (١) وواصل بن عطاء من أن المصيب إحدى الطائفتين ، ولا نعلمه على التعيين. وكذا ما ذهب إليه البعض من أن كلتا الطائفتين على الصواب بناء على تصويب كل مجتهد ، وذلك لأن الخلاف إنما هو فيما إذا كان كل منهما مجتهدا في الدين على الشرائط المذكورة في الاجتهاد ، لا في كل من يتخيل شبهة واهية ويتأول تأويلا فاسدا. ولهذا ذهب الأكثرون إلى أن أول من بغى في الإسلام معاوية ، لأن قتلة عثمان لم يكونوا بغاة بل ظلمة وعتاة ، لعدم الاعتداد بشبهتهم ، ولأنهم بعد كشف الشبهة أصروا إصرارا واستكبروا استكبارا.

قال : وفي حرب الخوارج

(الأمر أظهر إذ التحكيم لا يصلح شبهة في الخروج عن الطاعة كيف وهو نوع إصلاح وقد قال الله تعالى : (فَأَصْلِحُوا) والأمر بالقتال ليس للفور).

الأمر أظهر لأن الحكمة من نصب الإمام ، وهي تألف القلوب واجتماع الكلمة كما يحصل بالقتال فقد يحصل بالتحكيم ، سيما وقد شرط أن يحكم الحكمان

__________________

(١) هو عمرو بن عبيد بن باب التميمي بالولاء أبو عثمان البصري شيخ المعتزلة في عصره ، وفقيها ، وأحد الزهاد المشهورين كان جده من سبى فارس ، وأبوه نساجا ثم شرطيا للحجاج في البصرة ، واشتهر عمرو بعلمه وزهده وأخباره مع المنصور العباسي ، له رسائل وكتب منها «التفسير» والرد على القدرية ، توفي بمران (بقرب مكة) عام ١٤٤ ه‍ وفي العلماء من يراه مبتدعا قال يحيى بن معين كان من الدهرية الذين يقولون : إنما الناس مثل الزرع. راجع وفيات الأعيان ١ : ٣٨٤ والبداية والنهاية ١٠ : ٧٨ وميزان الاعتدال ٢ : ٢٩٤.

بكتاب الله ثم سنة رسول الله. وأيضا ورد النص في إصلاح الزوجين بأن يبعثوا حكما من أهله ، وحكما من أهلها وغاية متشبثهم أن الله تعالى أوجب القتال لقوله تعالى : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) فلا يجوز العدول عنه إلى التحكيم.

والجواب بعد تسليم كون الأمر للفور أو كون الفاء الجزائية للتعقيب أنه إنما أوجب القتال بعد إيجاب الإصلاح. وهذا إصلاح فلا يعدل عنه إلى القتال ما لم يتعذر.

فإن قيل : يزعمون أن الوقيعة في الصحابة (رضي الله عنهم) بالطعن واللعن والتفسيق والتضليل بدعة وضلالة وخروج عن مذهب الحق. والصحابة أنفسهم كانوا يتقاتلون بالسنان ويتقاولون باللسان بما يكره ، وذلك وقيعة.

قلنا : مقاولتهم ومخاشنتهم في الكلام كانت محض نسبة إلى الخطأ ، وتقرير على قلة التأمل وقصد إلى الرجوع إلى الحق. ومقاتلتهم كانت لارتفاع التباين ، والعود إلى الألفة والاجتماع بعد ما لم يكن طريق سواه.

وبالجملة فلم يقصدوا إلا الخير والصلاح في الدين وأما اليوم فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلا التهاون بنقلة الدين ، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته ، المكرمين بصحبة خير البشر ومحبته.

قال : وأما بعدهم

(وأما بعدهم فقد جل المصاب وعظم الواقع ، واتسع الخرق على الراقع. إلا أن السلف بالغوا في مجانبة طريق الضلال خوفا من العاقبة ونظرا للمآل).

يعني أن ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق ، وبلغ حد الظلم والفسق. وكان الباعث له الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذات والشهوات إذ

__________________

(١) سورة الحجرات آية رقم ١٠ وتكملة الآية (فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).

ليس كل صحابي معصوما ولا كل من لقي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بالخير موسوما (١) إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة ، سيما المهاجرين منهم والأنصار ، والمبشرين بالثواب في دار القرار. وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهد منه الجبال ، وتنشق الصخور ، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور ، فلعنة الله على من باشر ، أو رضي ، أو سعى ، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

فإن قيل : فمن علماء المذهب من لم يجوز اللعن على يزيد (٢) مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد.

قلنا : تحاميا عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى ، كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ويجري في أنديتهم فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية طريقا إلى الاقتصاد في الاعتقاد وبحيث لا تزل الأقدام عن السواء ، ولا تضل الأفهام بالأهواء. وإلا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟ وكيف لا يقع عليهما الاتفاق؟ وهذا هو السر فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال ، وسد طريق لا يؤمن أن يجر إلى الغواية في المآل ، مع علمهم بحقيقة الحال وجلية المقال. وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال واشرأبت الأهوال ،

__________________

(١) الحق يقال : أنه يجب على المسلمين عدم الخوض في هذه المسائل وتركها إلى الله تعالى وخصوصا بعد ما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وأحاديث أخرى كثيرة ، فالواجب على المسلمين أن يتركوا هذه المرحلة وأصحابها ويقولوا بقول الله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ). سورة البقرة آية رقم ١٤١.

(٢) هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي ثاني ملوك الدولة الأموية في الشام ولد بالماطرون عام ٢٥ ه‍ ونشأ بدمشق ، وولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة ٦٠ ه‍ وأبى البيعة له عبد الله بن الزبير ، والحسين ابن علي فانصرف الأول إلى مكة ، والثاني إلى الكوفة ، وفي زمنه فتح المغرب الأقصى على يد الأمير عقبة بن نافع ، وفتح سلم بن زياد بخارى وخوارزم توفي عام ٦٤ ه‍ راجع الطبري حوادث ٦٤ وتاريخ الخميس ٢ : ٣٠٠ ومنهاج السنة ٢ : ٢٣٧ ـ ٢٥٤ وابن الأثير ٤ : ٤٩.

وحيث لا متسع ولا مجال والمشتكى إلى عالم الغيب والشهادة الكبير المتعالي.

قال : خاتمة

(قد وردت الأحاديث الصحيحة في ظهور إمام من ولد فاطمة الزهراء (رضي الله عنها) يملأ الدنيا قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما وقول الإمامية أنه قد ولد واختفى ما فوق أربعمائة سنة خوفا من الأعداء ذهاب بلا حجة إلى إمام بلا حكمة على أن الناس بعد بني العباس يطلبونه من السماء فما له. والاختفاء في نزول عيسى وخروج الدجال).

مما يلحق بباب الإمامة بحث خروج المهدي ، ونزول عيسى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وهما من أشراط الساعة. وقد وردت في هذا الباب أخبار صحاح ، وإن كانت آحادا. ويشبه أن يكون حديث خروج الدجال متواتر المعنى ، أما خروج المهدي فعن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي».

وعن ابن سلمة ، قال : سمعت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يقول : المهدي من عترتي ، من ولد فاطمة.

وعن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المهدي مني ، أجلى الجبهة، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يملك سبع سنين» (١).

وعنه (رضي الله عنه) : قال : ذكر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) بلاء يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم ، فيبعث الله رجلا من عترتي ، فيملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما. فذهب العلماء إلى أنه إمام عادل من ولد فاطمة (رضي الله عنها) يخلقه الله تعالى متى شاء ، ويبعثه نصرة لدينه.

__________________

(١) هذه الأحاديث كلها أحاديث آحاد ، وأحاديث الآحاد لا يأخذ بها في إثبات العقائد ، وراجع كتابنا «المذاهب المعاصرة» وموقف الإسلام منها : طبعة لجيل».

وزعمت الإمامية (١) من الشيعة أن محمد بن الحسن العسكري اختفى عن الناس خوفا من الأعداء. ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر (عليهم‌السلام) وأنكر ذلك سائر الفرق ، لأنه ادعاء أمر يستبعد جدا ، إذ لم يعهد في هذه الأمة مثل هذه الأعمار من غير دليل عليه ولا أمارة ولا إشارة إقامة من النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ولأن اختفاء إمام هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلا الاسم بعيد جدا ، ولأن بعثه مع هذا الاختفاء عبث ، إذ المقصود من الإمامة الشريعة ، وحفظ النظام ، ودفع الجور. ونحو ذلك ولو سلم فكان ينبغي أن يكون ظاهرا ليظهر دعوى الإمامة كسائر الأئمة من أهل البيت ليستظهر به الأولياء وينتفع به الناس ، لأن أولى الأزمنة بالظهور هو هذا الزمان ، للقطع بأنه يتسارع إلى الانقياد له والاجتماع معه النسوان والصبيان ، فضلا عن الرجال والأبطال.

وأما نزول عيسى (عليه‌السلام) : فعن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) أنه قال : «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ..» الحديث (٢).

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم» ثم لم يرو في حاله مع إمام الزمان حديث صحيح سوى ما روي أنه قال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال : فينزل عيسى بن مريم ، فيقول أميرهم : تعالى صل لنا. فيقول : لا ، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة إليه هذه الأمة. فما يقال : إن عيسى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يقتدي بالمهدي ، أو بالعكس شيء لا مستند له.

__________________

(١) الإمامية : هم الذين قالوا بالنص الجلي على إمامة علي رضي الله عنه ، وكفروا الصحابة ـ وهم الذين خرجوا على علي ـ رضي الله عنه عند التحكيم وكفروه ، وهم اثنا عشر ألف رجل كانوا أهل صلاة ، وصيام ، وفيهم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحقر أحدكم صلاته في جنب صلاتهم ، وصومه في جنب صومهم ، ولكن لا تتجاوز القراءة تراقيهم».

(٢) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان ٧١ باب نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ٢٤٢ ـ (١٥٥) بسنده عن أبي هريرة يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره. ورواه الإمام البخاري في كتاب المظالم ٣١ ، والبيوع ١٠٢ والأنبياء ٤٩ ، وأبو داود في الملاحم ١٤ والترمذي في الفتن ٥٤ ، وابن ماجه في الفتن ٣٣ وأحمد بن حنبل في المسند ٢ : ٢٤٠ ، ٢٧٢ ٣٩٤ (حلبى).

فلا ينبغي أن يعول عليه نعم هو وإن كان حينئذ من أتباع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) فليس منعزلا عن النبوة ، فلا محالة يكون أفضل من الإمام ، إذ غاية علماء الأمة الشبه بأنبياء بني إسرائيل.

وأما قوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «لا مهدي إلا عيسى بن مريم» فلا يبعد أن يحمل على الهداية إلى طريق هلاك الدجال ، ودفع شره على ما تعلن به الأحاديث الصحاح ، فمن حديث طويل في الملاحم أنه يخرج الدجال بالشام ، فبينا المسلمون يعدون للقتال ، يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى بن مريم فأمهم. فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء. فلو تركه لذاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته. وفي هذا دليل على أن عيسى (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يؤم المسلمين في تلك الصلاة.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : ليس ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «ما من نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب» (١) ثم وصفه ، وفصل كثيرا من أحواله.

وقال : ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد ، فيقتله.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : الدجال يخرج من أرض بالشرق يقال لها خراسان ، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفا عليهم التيجان ، أي الطيالسة الخضر. ونرجو أن يكون المراد أمة الدعوة على ما قال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : يتبع الدجال يهود أصفهان سبعون الفا ، عليهم الطيالسة.

وقال (عليه‌السلام) : من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، فإنه جواركم من فتنته.

__________________

(١) الحديث رواه الترمذي في كتاب الفتن ٦٢ باب ما جاء في قتل عيسى ابن مريم الدجال ٢٢٤٥ بسنده عن قتادة قال سمعت أنسا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ورواه البخاري في كتاب الفتن ٢٦ ، وكتاب التوحيد ١٧ ورواه الإمام مسلم في كتاب الفتن ١٠١ ، وأبو داود في كتاب الملاحم ١٤ ، وأحمد بن حنبل في المسند ٣ : ١٠٣ (حلبى).

وقال (عليه‌السلام) : من سمع بالدجال فلينأ عنه ، فو الله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما تبعث له من الشبهات.

قال : وغير ذلك

(من الأشراط ، كدابة الأرض ، ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، والخسوف الثلاثة ، وقلة العلم والأمانة ، وكثرة الفسق والخيانة ، ورئاسة الفساق والأرذال ، وفرط ازدياد عدد النساء على الرجال ، وإشفاء الإسلام على الزوال ، وانقضاء النظام إلى الانحلال ، وهذا هو الشر الذي يتبين منه خيرية القرون السابقة بحسب كثرة الثواب أيضا ، ويكون عند غاية قرب الساعة وانقراض زمن التوبة والطاعة ، فلا ينافي احتمال خيرية آخر الأمة على ما قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره»؟ (١) بناء على احتمال أن يفضل مع طول العهد وفساد الزمان ثواب المعرفة والإيقان والطاعة والإيمان ، ثبت الله قلوبنا على الدين ، ووفقنا لما يرضاه يوم الدين ، إنه خير موفق ومعين وصلى الله على النبي محمد وآله الطاهرين وأصحابه أجمعين ، والحمد لله رب العالمين).

من أشراط الساعة عن حذيفة بن أسيد الغفاري ، قال : اطلع النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) علينا ونحن نتذاكر ، فقال : ما تذكرون؟ قلنا : نذكر الساعة ، قال : إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ، فذكر الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى (٢).

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الأمثال ٦ باب ٢٨٦٩ بسنده عن ثابت البناني عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. قال : وفي الباب عن عمار ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عمر وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

(٢) الحديث رواه ابن ماجه في كتاب الفتن ٢٨ باب الآيات ٤٠٥٥ بسنده عن حذيفة بن أسيد أبي ـ

وعن أبي ذر قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) حين غربت الشمس : أتدري أين تذهب هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فتستأذن ، فيؤذن لها ، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها ، وتستأذن فلا يؤذن لها ، فيقال لها : ارجعي من حيث جئت ، فتطلع من مغربها. فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) (١)

قال : مستقرها تحت العرش.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر شرب الخمر ، ويقل الرجال ، ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد (٢).

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.

وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : أول أشراط الساعة نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.

وقال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى (٣).

وقال (عليه‌السلام) : لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان ، فتكون السنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، وتكون الجمعة كاليوم ، ويكون اليوم كالساعة ، وتكون الساعة كالصرمة بالنار.

وقال (عليه‌السلام) : لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق.

__________________

ـ سريحة قال : اطلع رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. ورواه أبو داود في الملاحم ١٢ ، ومسلم في الفتن ٣٩ ، ٤٠ والترمذي في الفتن ٢١ وأحمد بن حنبل في المسند ٤ : ٦ ، ٧ (حلبى).

(١) سورة يس آية رقم ٣٨.

(٢) الحديث رواه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في أشراط الساعة ٢٢٠٥ ـ حدثنا محمود بن غيلان حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. قال الترمذي.

هذا حديث حسن صحيح.

(٣) الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ١٤ باب لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز ٤٢ ـ (٢٩٠٢) بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : وذكره.

وفي حديث آخر : لا تقوم حتى لا يقال في الأرض الله الله (١).

وذكر في حديث آخر ، من علامات الساعة أن تظهر الأصوات في المساجد ، وأن يسود القبيلة فاسقهم ، وأن يكون زعيم القوم أرذلهم ، وأن يكرم الرجل مخافة شره.

وبالجملة ، فالأحاديث في هذا الباب كثيرة رواها العدول الثقات وصححها المحدثون الأثبات ، ولا يمتنع حملها على ظواهرها عند أهل الشريعة لأن المعاني المذكورة أمور ممكنة عقلا. وزعمت الفلاسفة أن طلوع الشمس من مغربها مما يجب تأويله بانعكاس الأمور وجريانها على غير ما ينبغي وأوّل بعض العلماء النار الخارجة من الحجاز بالعلم والهداية ، سيما الفقه الحجازي ، والنار الحاشرة للناس بفتنة الأتراك ، وخروج الدجال بظهور السر والفساد ، ونزول عيسى (عليه‌السلام) باندفاع ذلك وبدو الخير والصلاح ، وتقارب الزمان بقلة الخير والبركة وذهاب فائدة الأيام والأوقات ، أو بكثرة الغفلة والاشتغال بأمر الدنيا ولذاتها ، وبحدوث الفتن العظام الشاغلة لقلوب الأنام عما يمضي عليهم من الليالي والأيام. وأما يأجوج ومأجوج فقيل : من أولاد يافث بن نوح ، وقيل : جمع كثير من أولاد آدم أضعاف سائر بني آدم ، لأنه لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه ، يحملون السلاح ، فمنهم من هو في غاية الطول خمسون ذراعا ، وقيل. مائة وعشرون ذراعا ، ومنهم من طوله وعرضه كذلك (٢) ومنهم من هو في غاية القصر ، كانوا يخرجون إلى قوم صالحين بقربهم ، فيهلكون زروعهم وضروعهم (٣) ويقتلونهم. فجعل ذو القرنين (٤) سدا دونهم ، فيحفرون كل يوم السد حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا ، فيعيده الله كما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي

__________________

(١) الحديث رواه الإمام الترمذي في كتاب الفتن ٣٥ باب منه ٢٢٠٧ بسنده عن أنس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكره. قال الترمذي : هذا حديث حسن.

(٢) في (ب) بزيادة (أكثر من ذلك).

(٣) في (ب) مواشيهم بدلا من (ضروعهم).

(٤) قال تعالى في سورة الكهف : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).

عليهم : ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله فيعودون وهو كهيئته فيحفرونه ويخرجون ، مقدمتهم بالشام ، وساقتهم بخراسان فيشربون المياه ، وينحصر الناس منهم في حصونهم ، ولا يقدرون على إتيان مكة والمدينة وبيت المقدس ، فيرسل الله عليهم نغفا في أمعائهم ، فيهلكون جميعا ، فيرسل طيرا فيلقيهم في البحر ، ويرسل مطرا فيغسل الأرض. وخروجهم يكون بعد خروج الدجال وقتل عيسى إياه.

فإن قيل : بعض هذه الأحاديث يشعر بأن الأمة في آخر الزمان شر الخلق قليل الخير ، وقد قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «مثل أمتي مثل المطر ، لا يدري أوله خير أم آخره» (١).

قلنا : الشرارة الظاهرة التي لا شك معها في خيرية القرون السابقة إنما هي عند غاية قرب الساعة ، وحين انقراض زمن التكليف ، أو كاد على ما ورد في الحديث أنه يمكث عيسى بن مريم في الناس بعد قتل الدجال سبع سنين ، ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحا باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان (٢) إلا قبضته ، ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا ، فيأمرهم الشيطان بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارّ رزقهم حسن عيشهم ، ثم ينفخ في الصور. وهذا ما قال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «لا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله»(٣).

وأما في آخر الزمان عند كون الأمة في الجملة على الطاعة والإيمان ، فلا يبعد كونهم خيرا عند الله وأكثر ثوابا باعتبار انقيادهم وإيمانهم مع الغيبة عن مشاهدة نزول الوحي وظهور المعجزات ، وهبوط الخيرات والبركات ، وباعتبار ثباتهم على الإيمان والطاعات والعلوم والمعارف ، وإرشاد الطوائف مع فساد الزمان وشيوع المنكرات ، وكساد الفضائل ، ورواج الرذائل ، واستيلاء أهل

__________________

(١) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

(٢) سقط من (ب) لفظ (إيمان).

(٣) سبق تخريج هذا الحديث في هذا الجزء.

الجهل والعناد والشر والفساد. وهذا لا ينافي خيرية القرون الأولى ومن يليهم بكثرة الطاعات والعبادات ، وصفاء العقائد ، وخلوص النيات ، وقرب العهد بالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وأصحابه ، ونحو ذلك على ما قال (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «خير القرون القرن الذي أنا فيهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يفشو الكذب» (١).

فإن قيل : في أحاديث قرب الساعة ما يشعر بأنها تقوم قريبا ، كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «بعثت أنا والساعة كهاتين» (٢) يعني السبابة والوسطى. بل على أنها تكون قبل مائة سنة ، كقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «يسألونني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله ، وأقسم بالله ما على الأرض من نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنه». وكقوله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : «لا يأتي مائة سنة وعلى الأرض نفس منفوسة» وها نحن اليوم شارفنا ثمان مائة سنة ، ولم يظهر شيء من تلك العلامات.

قلنا : المراد أن قرب الساعة من مستقبل الزمان بالإضافة إلى ما مضى كقرب ما بين الإصبعين ، أو كفضل الوسطى على السبابة. وحديث مائة سنة إنما هو في القيامة الصغرى المشار إليها بقوله (عليه‌السلام) : «من مات فقد قامت قيامته» ، وقوله لجمع من الأعراب سألوه عن الساعة ، وقد أشار الى أصغرهم : «إن يعش هذا لا يدركه الهرم حتى يقوم عليكم ساعتكم» (٣) وإنما الكلام في القيامة الكبرى التي هي

__________________

(١) الحديث رواه الترمذي في كتاب الفتن ٤٥ باب ما جاء في القرن الثالث ٢٢٢٢ ـ بسنده عن عمران ابن حصين قال : قال رسول الله ـ وذكره. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ورواه البخاري في الشهادات ٩ وفضائل أصحاب النبي وابن ماجه في الأحكام ٢٧ ، وأحمد بن حنبل ١ : ٣٧٨ ، ٤١٧ (حلبى).

(٢) رواية الإمام البخاري في كتاب الرقاق ٣٩ ، والطلاق ٢٥ وتفسير سورة ٧٩ ، ورواه الإمام مسلم في الجمعة ٤٣ ، ١٣ باب تخفيف الصلاة والخطبة ٤٣ (٨٦٧) ـ بسنده عن جابر بن عبد الله قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره. ورواه أيضا في الفتن ١٣٢ ـ ١٣٥ ورواه ابن ماجه في المقدمة ٧ باب اجتناب البدع والجدل ٤٥ بسنده عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وذكره ..

(٣) الحديث رواه الإمام مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة ٢٧ باب قرب الساعة ١٣٦ (٢٩٥٢) بسنده عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت : كان الأعراب إذا قدموا على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ سألوه عن الساعة متى الساعة. فنظر إلى أحدث إنسان منهم : وذكره.

حشر الكل وسوقهم إلى المحشر ، على أن الحديث ليس على عمومه لبقاء الخضر ، بل إلياس أيضا ، على ما ذهب إليه العظماء من العلماء من أن أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء. الخضر وإلياس في الأرض ، وعيسى وإدريس في السماء (عليهم لصلاة والسلام).

النهاية

تم بعون الله (الجزء الخامس)

من كتاب (شرح المقاصد)

وبانتهائه تم الكتاب

وكان الفراغ منه بحمد الله وتوفيقه

في ١٤ جمادى الآخرة ١٤٠٧ ه‍

في سلطنة عمان

وبالله التوفيق

وصلى الله وبارك على سيدنا

محمد وعلى آله وسلّم

(المحقق)

فهرس الجزء الخامس

من شرح المقاصد

١ ـ المقصد السادس (في السمعيات)................................................ ٥

٢ ـ الفصل الأول : في النبوة....................................................... ٥

٣ ـ المبحث الأول : في تعريف النبي والرسول......................................... ٥

٤ ـ المبحث الثاني : في المعجزة.................................................... ١١

المبحث الثالث : في الاحتياج إلى النبي والشريعة.................................... ١٩

المبحث الرابع : في بعثة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.......................................... ٢٥

المبحث الخامس : بعثته عليه السلام إلى الناس كافة................................. ٤٥

٨ ـ المبحث السادس : الأنبياء صلوات الله عليهم معصومين عما ينافى مقتضى المعجزة... ٤٩

٩ ـ المبحث السابع : (الملائكة).................................................. ٦٢

١٠ ـ الميحث الثامن : الولي...................................................... ٧٢

١١ ـ المبحث التاسع : السحر................................................... ٧٩

الفصل الثاني

١٢ ـ في المعاد وفيه مباحث...................................................... ٨٢

١٣ ـ المبحث الأول : يجوز إعادة المعدوم.......................................... ٨٢

١٤ ـ المبحث الثاني : اختلف الناس في المعاد....................................... ٨٨

١٥ ـ المبحث الثالث : الاختلاف في فناء الجسم وبما يكون.......................... ٩٨

١٦ ـ المبحث الرابع : اختلافهم في الحشر........................................ ١٠٠

١٧ ـ المبحث الخامس : اللجنة والنار مخلوقتان الآن خلافاً لبعض المعتزلة.............. ١٠٧

١٨ ـ المبحث السادس : سؤال القبر وعذابه...................................... ١١١

١٩ ـ المبحث السابع : بعض أحوال البرزخ والآخرة................................ ١١٧

٢٠ ـ المبحث الثامن : السعادة والشقاوة في الآخرة ومذهب المسلمين والحكماء فيهما.. ١٢١

٢١ ـ المبحث التاسع : القول في الثواب والمعقاب.................................. ١٢٥

٢٢ ـ المبحث العاشر : الخلود في الآخرة.......................................... ١٣١

٢٣ ـ المبحث الحادي عشر : إذ خلط المؤمن من الحسنات بالسيئات................ ١٤٠

٢٤ ـ المبحث الثاني عشر : القول عن العفو في الصغائر والقول في الكبائر............ ١٤٨

٢٥ ـ المبحث الثالث عشر : القول في الشفاعة لأهل الكبائر....................... ١٥٦

٢٦ ـ المبحث الرابع عشر : في التوبة............................................ ١٦٢

٢٧ ـ المبحث الخامس عشر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..................... ١٧١

الفصل الثالث

٢٨ ـ في الأسماء والأحكام...................................................... ١٧٥

٢٩ ـ المبحث الأول : في الإيمان................................................ ١٧٥

٣٠ ـ المبحث الثاني : في الإسلام............................................... ٢٠٦

٣١ ـ المبحث الثالث : هل الإيمان يزيد وينقص................................... ٢١٠

٣٢ ـ المبحث الرابع : القول في صحة الاستثناء في الإيمان.......................... ٢١٤

٣٣ ـ المبحث الخامس : القول في إيمان المقلد..................................... ٢١٨

٣٤ ـ المبحث السادس : في تعريف الكفر ـ أعاذنا الله منه.......................... ٢٢٤

٣٥ ـ المبحث السابع : في حكم مخلف الحق في أهل القيامة......................... ٢٢٧

٣٦ ـ المبحث الثامن : حكم المؤمن والكافر والفاسف.............................. ٢٣٠

٣٧ ـ في الإمامة.............................................................. ٢٣٢

٣٨ ـ الميحث الأول : نصب الإمام............................................. ٢٣٥

٣٩ ـ المبحث الثاني : الشروط التي تجب في الإمام................................. ٣٤٣

٤٠ ـ المبحث الثالث : بما تثبت الإمامة.......................................... ٢٥٢

٤١ ـ المبحث الرابع : خل نص عليه السلام على إمام بعينه ـ ومن هو................ ٢٥٨

٤٢ ـ المبحث الخامس : الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم................................. ٢٦٣

٤٣ ـ المبحث السادس : الأفضلية بين الخلفاء الراشدين............................ ٢٩٠

(تم الفهرس)

شرح المقاصد - ٥

المؤلف: مسعود بن عمر بن عبدالله [ سعد الدين التفتازاني ]
الصفحات: 323
  • 1 ـ المقصد السادس (في السمعيات) 5
  • 2 ـ الفصل الأول : في النبوة 5
  • 3 ـ المبحث الأول : في تعريف النبي والرسول 5
  • 4 ـ المبحث الثاني : في المعجزة 11
  • المبحث الثالث : في الاحتياج إلى النبي والشريعة 19
  • المبحث الرابع : في بعثة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم 25
  • المبحث الخامس : بعثته عليه السلام إلى الناس كافة 45
  • 8 ـ المبحث السادس : الأنبياء صلوات الله عليهم معصومين عما ينافى مقتضى المعجزة... 49
  • 9 ـ المبحث السابع : (الملائكة) 62
  • 10 ـ الميحث الثامن : الولي 72
  • 11 ـ المبحث التاسع : السحر 79
  • الفصل الثاني
  • 12 ـ في المعاد وفيه مباحث 82
  • 13 ـ المبحث الأول : يجوز إعادة المعدوم 82
  • 14 ـ المبحث الثاني : اختلف الناس في المعاد 88
  • 15 ـ المبحث الثالث : الاختلاف في فناء الجسم وبما يكون 98
  • 16 ـ المبحث الرابع : اختلافهم في الحشر 100
  • 17 ـ المبحث الخامس : اللجنة والنار مخلوقتان الآن خلافاً لبعض المعتزلة 107
  • 18 ـ المبحث السادس : سؤال القبر وعذابه 111
  • 19 ـ المبحث السابع : بعض أحوال البرزخ والآخرة 117
  • 20 ـ المبحث الثامن : السعادة والشقاوة في الآخرة ومذهب المسلمين والحكماء فيهما.. 121
  • 21 ـ المبحث التاسع : القول في الثواب والمعقاب 125
  • 22 ـ المبحث العاشر : الخلود في الآخرة 131
  • 23 ـ المبحث الحادي عشر : إذ خلط المؤمن من الحسنات بالسيئات 140
  • 24 ـ المبحث الثاني عشر : القول عن العفو في الصغائر والقول في الكبائر 148
  • 25 ـ المبحث الثالث عشر : القول في الشفاعة لأهل الكبائر 156
  • 26 ـ المبحث الرابع عشر : في التوبة 162
  • 27 ـ المبحث الخامس عشر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر 171
  • الفصل الثالث
  • 28 ـ في الأسماء والأحكام 175
  • 29 ـ المبحث الأول : في الإيمان 175
  • 30 ـ المبحث الثاني : في الإسلام 206
  • 31 ـ المبحث الثالث : هل الإيمان يزيد وينقص 210
  • 32 ـ المبحث الرابع : القول في صحة الاستثناء في الإيمان 214
  • 33 ـ المبحث الخامس : القول في إيمان المقلد 218
  • 34 ـ المبحث السادس : في تعريف الكفر ـ أعاذنا الله منه 224
  • 35 ـ المبحث السابع : في حكم مخلف الحق في أهل القيامة 227
  • 36 ـ المبحث الثامن : حكم المؤمن والكافر والفاسف 230
  • 37 ـ في الإمامة 232
  • 38 ـ الميحث الأول : نصب الإمام 235
  • 39 ـ المبحث الثاني : الشروط التي تجب في الإمام 343
  • 40 ـ المبحث الثالث : بما تثبت الإمامة 252
  • 41 ـ المبحث الرابع : خل نص عليه السلام على إمام بعينه ـ ومن هو 258
  • 42 ـ المبحث الخامس : الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم 263
  • 43 ـ المبحث السادس : الأفضلية بين الخلفاء الراشدين 290