





بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله الواحد
الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا. ولم يشاركه في ملكه أحد ، يا
من تعالت أسماؤك ، وتقدست صفاتك. تعطي وتمنع ، لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما
منعت ، يا مالك الملك ، تعطي الملك من تشاء ، وتنزع الملك ممن تشاء ، والصلاة
والتسليم على من اصطفيته لخير رسالة ، وأنزلت عليه خير كتاب ، لخير أمة أخرجت
للناس ، سيدنا محمد ابن عبد الله ، خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ،
ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد
فإن علم التوحيد ،
علم جليل الشأن ، عظيم القدر ، شرف بنسبته إلى الله سبحانه تعالى ، وهو أساس لكل
علم نافع ومفيد.
وعقيدة توحيد الله
، وانفراده باستحقاق الربوبية والمعبودية ، جاء أمر الله بها ، لكل رسول ، بعث إلى
قومه ، ليبلغهم باعتناقها لا يعتريها تغيير ، ولا تبديل ، مهما تغيرت الأجيال
والأزمان.
أما الشرائع
المبنية عليها ، فإنها تتغير بما يناسب حال كل أمة مصداقا لقوله تعالى (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) ولما اكتمل رشد الإنسانية واتسعت دائرة تفكيرها ومواهبها ،
جاءت خاتمة الرسالات ، متضمنة شريعة سمحاء لكل زمان ومكان ، لما اشتملت عليه من
المبادي العامة ، وأمهات الفضائل ، ولما فيها من سعادة البشرية ، دنيا ودينا ، مع
يسرها وعدم الحرج
__________________
والمشقة فيها ،
لذلك كانت خالدة خلود الدهر ، لا تبديل فيها ، ولا تحريف إلى أن تقوم الساعة ،
فكانت رحمة للعالمين ، وعامة للناس أجمعين ، وصدق الله حيث يقول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) هذا ولما كان علم التوحيد ، ويسمى علم التوحيد ، ويسمى علم
الكلام ، له هذه المنزلة العظيمة في تأصيل هذه العقيدة ، والدفاع عنها ، عني
المتكلمون قديما وحديثا بالتأليف فيه ، وتباروا في ذلك ، فمنهم المقتصد ، ومنهم
المتعمق ، ومنهم المتوسط. وكان من أشهر الكتب المتعمقة والمشتملة على الأمور
العامة التي يحتاج إليها المستدل على حدوث العالم ، ومنه على وجود الصانع. كتاب (المطالب
العالية) للفخر الرازي ، (والعقائد النسفية) للنسفي وكتاب (المواقف) للإيجي شيخ
سعد التفتازاني ، وكتاب (طوالع الأنوار) للبيضاوي وكتاب (المقاصد) للعلامة السعد
التفتازاني ، وهو كتاب جامع يحتاج إليه كل باحث ، لما حواه من المباحث والنظريات
العقلية ، وقد تدارك فيه ما فات من كتب من سبقه خاصة كتاب (المواقف) ، و (المطالب
العالية) ، وهو وإن كان صعب المنال لدقة أسلوبه ، وتعمق في أبحاثه ، إلا أنه ألف
في عصر نضجت فيه العقول ، واتسعت مداركها ، حتى كانوا لا يقبلون إلا على ما فيه
عمق في التفكير والنظر. هذا كان دأب المؤلفين في هذا العصر ، وشأن تلاميذتهم ،
فأقدرهم علما ، أعقدهم كتابة. وفي الحق إن الإنسان إذا استسهل الصعب ، وفكر فيه
ونظر ، ثم أشحذ ذهنه في المحصل من وراء ذلك على فهم ما دقّ من المسائل ، رسخ ذلك
في عقله ، وربى عنده ملكة قوية ، يفهم بها كل ما دقّ فهمه ، ولا كذلك الذي يجري
وراء السهل من الكتب ، فإنه لا تكون له هذه الملكة ، ولا تبرز له شخصية يتميز بها
عن غيره في الفهم والتحصيل.
ولقد كان كتاب
المقاصد من أعقد العقد ، حتى تبارى الباحثون في فهمه ، فكثرت شراحه ليقربوه إلى
الأفهام ، وكان هذا الكتاب يدرس في الأزهر هو وغيره من الكتب المطولة العميقة ،
حينما كان هناك علماء ، لا يشغل بالهم إلا
__________________
الاطلاع على مثل
هذه الكتب ، وحينما كان هناك أيضا طلاب يسيرون على منهج أساتذتهم ، لا يتعلمون إلا
للعلم ، لا يبغون به جاها ، ولا مالا ولا سلطانا ، واستمر تدريس هذه الكتب في
الأزهر ، إلى أن أنشئ قانون الأزهر الجديد عام ١٩١١ م المعروف بنظام الشيخ شاكر ،
فغيرت هذه الكتب بكتب سهلة التحصيل لأي طالب. مثل كتاب (الجوهرة) و (الخريدة) و (أم
البراهين) و (المسايرة) وغير ذلك.
ولما أنشئت
الكليات الأزهرية ، رجع الأزهر إلى تدريس بعض هذه الكتب المعقدة ، ومنها كتاب
المواقف والمقاصد ، خاصة في نظام التخصص القديم ، ثم وفي تخصص المادة ، حتى تخرج
فيها علماء أجلاء يفخر بهم الأزهر ، بيد أنه لما كثرت الشواغل ، وتعلم الطلاب لأجل
الوظيفة ، صعب عليهم فهم هذه الكتب ، فطلبوا من أساتذتهم وضع مذكرات ليسهل عليهم
المرور بها في الامتحان ، حتى نسوا أسماء هذه الكتب ، وأصبح من النادر وجودها لمن
يطلبها ، لذلك رأت لجنة إحياء التراث ، المنبثقة من مجمع البحوث الإسلامية ، تجديد
طبع هذه الكتب ،. حفاظا على تراث هؤلاء الأعلام الذين ألفوها حتى كانت مفخرة لهم
وللأجيال من بعدهم.
وفعلا أوصت اللجنة
المذكورة بأن يكون كتاب المقاصد هو أول كتاب يطبع ، غير أنه شاء الله تعالى ،
ونعمت مشيئته أن يسبق توصية هذه اللجنة الدكتور عبد الرحمن عميرة الأستاذ بكلية
أصول الدين ـ أسيوط ـ بتحقيق هذا الكتاب وإخراجه إلى حيز الوجود ، فقام مشكورا
بهمة عالية ، باذلا من جهده ووقته وماله وسهره بالسير فيما قصد ، على الرغم من
كثرة مشاغله ، وقد تفضل وعهد إليّ مراجعة هذا التحقيق ، فقبلت شاكرا له وفاءه ،
وحسن ثقته بأستاذه ، وقد كنت قبل الاطلاع على هذا التحقيق أظن ، وبعض الظن غير حسن
، أن الدكتور عبد الرحمن عميرة ، أديب وشاعر أكثر منه متكلما ، لأن من عادة
الأدباء والشعراء أن يعنوا بالخيال والحس والوجدان والشعور ، وأن يبحثوا عن
المحسنات البديعية ، والمجازات والكنايات والتشبيه ليكون لنثرهم وشعرهم وقع
جميل في نفس
السامع ، أما النظريات العقلية التي تحتاج إلى فكر وتأمل. وأما الأدلة والاعتراض
عليها منعا ونقضا ، وأخذا وردا ، فالأديب والشاعر بعيد عن كل ذلك.
غير أني خاب ظني ،
وظهر لي أنه ظن خاطئ ، لأني حينما راجعت هذا التحقيق ، اتضح لي أن المحقق متكلم
أكثر منه شاعرا وأديبا ، في فهم النظريات العقلية ، وفي نظم الأدلة ، وفي فهم ما
يحققه على الرغم من صعوبته ، كما تبين لي أنه عميق في تفكيره ، يغوص البحار ،
ويطوي القفار ، يستسهل الصعب ، صابرا مجدا ، ساهرا منقبا ، مضطلعا على المراجع
الكثيرة ، ليصل بذلك إلى ما يؤمله ويرجوه. لذلك كله أكبرت فيه هذا العمل الضخم
الأشم ، وحق لي أن أفخر ببنوته ، وتلمذته ، والإنسان بجبلته لا يحب أن يساويه أحد
، أو يفوقه ، غير الأب مع ابنه ، والأستاذ مع تلامذته ، فإنه يحب لهم أكثر ما يحب
لنفسه ، ولهذا يقول الشاعر :
قالوا أبا الصقر
من شيبان قلت لهم
|
|
كلا لعمري منه
شيبان
|
فكم أب بابن علا
شرفا
|
|
كما علت برسول
الله عدنان
|
وبالاطلاع على
منهج المحقق في تحقيقه لهذا الكتاب ، يتضح لنا أيضا شخصيته الفذة ، ومدى ما عاناه
من جهد وفكر ، وبعد نظر ، حتى جاء التحقيق وافيا للغرض يستفيد منه كل باحث ، فإنه
بعد أن عرف سعد الدين ، ومكانته العلمية التي جعلت منه إماما في المعقول والمنقول
، وحافظا على كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، وداحضا لشبه الملحدين والمارقين بالحجة والبرهان ، وبمثل
السلاح الذي تسلح به هؤلاء ، سلاح المنطق والعقل ، وبعد أن بين ما احتواه الكتاب
من مقاصده الست ، وفصول كل مقصد ، بعد هذا شرع يبين الخطة التي سار عليها في هذا
التحقيق ، فبين أنه عثر على خمس نسخ مخطوطة ، رمز إلى كل واحدة منها بحرف ، ثم
وازن بين هذه النسخ ، ورجح ما اختاره منها للاعتماد عليها مع بيان سبب الترجيح ،
ثم عني بتنقية النص من الأخطاء النحوية ، وقد رأى أن كثيرا من المباحث والفصول لم
يكن لها عنوان ، فوضع المحقق العنوان
لها. كما رأى أن
السعد في مقاصده ينقل كثيرا من كتاب المواقف ، ومن المطالب العالية ، ومن كتاب
الشفاء ، والنجاة ، والقانون ، لابن سينا وغير ذلك ، وأنه ، تارة ينقلها بالمعنى ،
وتارة يزيد أو ينقص منها. وفي بعض هذه النقول تحريفات ، فكان من جهد المحقق أن
يرجع إلى النص الأصلي مشيرا إلى تحديد صفحات وأسماء الكتب. كذلك مما عني به المحقق
تشكيل الآيات القرآنية ، والدلالة على سورها مع ترقيم الآيات. كما عني أيضا بتخريج
الأحاديث التي استشهد بها السعد ، تخريجا وافيا ، من الكتب المعتمدة ، وقد عرف
البلدان والأماكن ، التي وردت في كتاب المقاصد ، كما عرف المصطلحات العلمية التي
ذكرها السعد في كتابه ، إلى غير ذلك مما جاء في التحقيق. الأمر الذي يدل على جهد
المحقق ، وطول باعه ، وعمق تفكيره.
وإني حينما راجعت
هذا التحقيق ، وما بذل فيه المحقق من جهد ، وعلم ، ودقة فهم ، وقدرة على الابتكار
، أيقنت أن الله تعالى بارك له في وقته وعمله حتى انتهى تحقيقه في مدة لا تعدو
الأربع سنوات ، مع أنه بهذه الدقة ، وصعوبة فهم المقاصد ، كان يتطلب ذلك سنين
عديدة.
وختاما أرجو منه
أن يزيدنا تحقيقا لتراثنا القديم ، الذي لولاه ما علمنا شيئا ، فهو المعلم لنا
والمرشد ، وهو النور الذي نستضيء به ، فجزى الله علماءنا الذين خلفوا لنا هذا
التراث أحسن الجزاء ، وأثابهم بما قدموه للأمة الإسلامية خير الثواب. هذا ومن
الوفاء والخير لنا أن نحافظ على تراثهم ، ونحيي ما درس منها ، أما ما يقوله بعض
المتفقهين : ما لنا ولهذه الكتب الصفراء التي أكل عليها الدهر وشرب؟؟ فهؤلاء عمي
البصيرة ، غلف القلوب ، أعداء ما جهلوا ، فلا يؤبه لقولهم لأنه لا يعرف الفضل من
الناس إلا ذووه.
أما أنت أيها
العالم المحقق المدقق ، فلا نجد منا كلمة توفيك حقك من الثناء على ما قمت به في
هذا التحقيق إلا أن نكل أمر عملك ، وتقديرك إلى الله ، جلت عظمته ، فهو القادر على
كل شيء ، وسيوفي لك إن شاء الله الأجر مضاعفا دنيا ودينا. بارك الله في مسعاك
وخطاك ، وأكثر من أمثالك ، ووفقك إلى
مرضاة ربك ودينك
ومحبة نبيك. إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا (رَبَّنا آتِنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) صدق الله العظيم.
|
صالح موسى شرف
عضو هيئة كبار العلماء
ومجمع البحوث الإسلامية
|
__________________
مقدّمة المحقّق
لكتاب
شرح المقاصد
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تمهيد
الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ، صفوة
الأمة من خلقه ، ومن اهتدى بهداه ، وسار على نهجه إلى يوم الدين.
اللهم إنا نبرأ
إليك من الحول والطول ، ونسألك التوفيق لما ترضاه من الفعل والقول ، ونعوذ بك أن
نتكلف ما لا نحسن ، أو نقول ما لا نعلم ، أو أن نتخذ العلم بضاعة ، أو الدين صناعة
، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على
الذين من قبلنا.
كم أسعدنا وأثلج
صدورنا ، أن نقدم للأمة العربية والإسلامية بعامة وطلاب المعرفة والبحوث الجادة
بخاصة ، كتاب (شرح المقاصد) للعالم الكبير سعد الدين التفتازانى.
وهو كتاب غني عن
التعريف ، لأنه ـ والحق يقال ـ يندر أن يكتب باحث في علم الكلام ، أو العلوم
العقدية ، ولا يكون هذا الكتاب أحد المراجع الأساسية التي يستعين بها في بحثه.
لهذا كانت فرحة
غامرة أن وفقنا الله سبحانه وتعالى ، في إخراج هذا الكتاب في الصورة التي عليها ،
والتي نرجو أن تحوز رضى جهابذة الفكر ، ممن يشتغلون بهذا العلم.
ويعلم الله كم من
الجهد والوقت بذل في تحقيقه وتبويبه ، وتقويم معوجه ،
وإزالة تحريفاته
بإسقاط كلمة هنا ، وزيادة أخرى هناك ، وهو عبء لا يحس به ، ولا يشعر بوطأته إلا من
كابد عملية التحقيق ، وعايش تراثنا معايشة جادة.
وهذه مقدمة بين
يدي الكتاب تشتمل على الآتي :
أولا : كلمة عن
علم الكلام. حقيقته ونشأته ، وموقف المسلمين منه عند قيامه ، ورأيهم فيه الآن ،
وهو يمثل جزءا مهما من تراثهم الفكري والعقدي.
ثانيا : علم الجدل
كظاهرة إنسانية لم يخل منها عصر من العصور ، ونماذج من الجدل ، واكبت تاريخ
البشرية في سلمها وحربها.
ثالثا : الحالة
السياسية ، والاجتماعية ، والعلمية ، في عصر سعد الدين التفتازانى.
رابعا :
التفتازانى. اسمه ونسبه ، مولده ونشأته ، إعداده الفكري وتكوينه العلمي. آثاره
ومؤلفاته.
خامسا : مكانته
العلمية ، ورأي العلماء فيه ، وفاته.
سادسا : كتاب شرح
المقاصد ، وموقف العلماء منه.
سابعا : منهجنا في
تحقيق الكتاب ، النسخ التي اعتمدنا عليها في إخراج الكتاب.
نرجو من الله
سبحانه وتعالى أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه ، وأن يكتبه في حسناتنا يوم العرض
عليه ، إنه نعم المولى ونعم المجيب ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
علم الكلام
بين القبول والرفض
علم الكلام بين القبول والرفض
يتساءل كثير من
غير المشتغلين بالدراسات والأبحاث الفلسفية والعقدية ، عن ماهية علم الكلام ، أهو
علم قديم موغل في القدم ، عرفته البشرية في تاريخها الطويل ، من يوم أن كان لها
علم ومعرفة ، وعلمه السابق للاحق ، حتى وصل إلينا ..؟
أم إنه علم جديد
مبتكر أنشأته الأمة الإسلامية ، في فترة من فترات تاريخها ..؟
الحقيقة أن أقوال
الراصدين لهذا العلم ، والمشتغلين بقواعده ومباديه يتباينون ويختلفون ، فالبعض
منهم يرى أنه علم نشأ في دولة اليونان قديما ، ووفد إلى بلادنا فيما وفد إلينا من
أفكار وآراء وفلسفات.
بينما يرى البعض
الآخر أنه علم جديد نشأ في دولة الإسلام ، لتدافع بأسلحته الكلامية تلبيس المبطلين
، وغارات المغيرين ، وحقد الحاقدين على عقائدها الإيمانية.
واعتقد أن وقوف
الباحث على أي من تعريفات هذا العلم تقرب له تاريخ نشأته ، وأسباب قيامه.
ولقد وضع العلماء
الكلام لعلمهم هذا تعريفات كثيرة ، تتباين بمقدار اقتراب صاحبها من الفلسفة أو
بعده عنها.
وإذا أردنا أن
نقدم بين يدي القارئ ، أحد هذه التعريفات ، فإننا نختار التعريف الذي قدمه ابن
خلدون في مقدمته ، باعتباره يمثل المرحلة الأولى من نشأة هذا العلم ، قبل اختلاطه
بالفلسفة ، وهو مع ذلك يكاد يعبر عن رأي الأغلبية ممن يشتغلون بهذا العلم.
يقول ابن خلدون : «وهو
علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية ، والرد على المبتدعة
المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف ، أو أهل السنة» .
والتعريف الذي قدمه
ابن خلدون يعطينا عند فحصه وتأمله ، أن علم الكلام علم يدافع عن العقائد الإيمانية
.
وأسلحته الدفاعية
هي العقل ومعداته.
وهو دائما يشهر في
وجه المبتدعة الضالين.
وإذا كان ذلك
كذلك. فبما ذا يسمى الآخر الذي يستعمله خصوم أهل السنة والجماعة ، من الجهمية ،
والخوارج ، والباطنية ، وبقية الفرق الضالة الخارجة عن مذهب السلف؟.
إن صاحب كتاب (كشاف
اصطلاحات الفنون) يتساءل أيضا فيقول : «هل علم الكلام يشمل الدفاع عن عقيدة أهل
السنة والجماعة فقط؟ أو يشمل كل العقائد المتعلقة بأصول الدين؟ سواء منها الموافق
، أو المخالف؟ وإذا كان
__________________
الجواب بالنفي ،
فبما ذا يسمى العلم الآخر ، العلم الذي يستعمله الخصوم في الرد والمقارعة ومحاولة
الغلبة»؟.
وقبل الإجابة على
ذلك ، نتساءل كيف نشأ علم الكلام في حياة المسلمين ..؟ أعني ما هي العوامل التي
ساعدت على إيجاده ، وما زالت به حتى أصّلته ، ووضعت له المبادي والقواعد الأساسية
..؟ وإذا كان هذا العلم ، لم يعرف في البيئة العربية ، قبل ظهور الإسلام ، وقبل
مبعث الرسول صلىاللهعليهوسلم.
أيكون القرآن
الكريم ، وما فيه من أدلة قاطعة ، وبراهين ساطعة ، هو أحد العوامل الأساسية في
إنشاء علم الكلام؟
إن ابن عساكر في
كتبه (تبيين كذب المفتري) يروي عن الإمام القشيري قوله : «والعجب ممن يقول : ليس
في القرآن علم الكلام».
والآيات التي هي
في الأحكام الشرعية نجدها محصورة ، والآيات المنبهة على علم الأصول نجدها توفي على
ذلك ، وتربى بكثير من الزيادة .
ويقول صاحب
البرهان : «وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية ،
والسمعية إلا كتاب الله تعالى قد نطق به. لكن أورده تعالى على عادة العرب ، دون
دقائق طرق أحكام المتكلمين». ثم يقول : «واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر
استنباط البراهين العقلية ، على طرق المتكلمين» .
والدكتور سليمان
دنيا يقرر : أن الدور الأساسي في نشأة علم الكلام كان للقرآن وينكر بقوة دعوى
البعض أن القرآن يعوق النظر العقلي .
__________________
فهل نرى أن القرآن
كان أحد العوامل الأساسية في نشأة علم الكلام؟
إن بعض العلماء
يقرر ذلك ، ويضيف إليه ، أن أحاديث الرسول صلىاللهعليهوسلم كانت عاملا مساعدا في إيجاد علم الكلام. من ذلك أن الإمام
البغوي ذكر حديثا من الصحاح بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال :
«جاء ناس من أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى النبي فسألوه. إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن
يتكلم به.
قال : أوجدتموه؟
قالوا : نعم.
قال : ذاك صريح
الإيمان ، وقال : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول :
من خلق ربك فإذا بلغه ، فليستعذ بالله ولينته.
وقال : «لا يزال
الناس يتساءلون حتى يقال : هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فمن وجد مثل ذلك شيئا
فليقل : آمنت بالله ورسوله» .
وأيضا حديث الفرق
من العوامل الأساسية التي ساعدت على الاشتغال بعلم الكلام. روي عن ابن عمر رضي
الله عنهما قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ليأتين على أمتي
كما أتى على بني إسرائيل ، حذو النعل بالنعل ، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية
، لكان في أمتي من يصنع ذلك. وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة ، وتفرقت
أمتي على ثلاث وسبعين ملة ، كلهم في النار ، إلا ملة واحدة».
قالوا : من هي يا
رسول الله؟
قال : «ما أنا
عليه وأصحابي» .
__________________
ثم ما ذا؟ لقد مات
الرسول صلىاللهعليهوسلم ، والمسلمون أمرهم جميع ، يعرفون دينهم ، وينفذون تعاليم
ربهم ـ غير هنات صغيرة ـ وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه انشغل المسلمون بحروب الردة
، وجاء عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقدم عليه رجل يقال له (صبيغ) فجعل يسأل
عن متشابه القرآن ـ فأرسل إليه عمر ـ وقد أعد له عراجين النخل ، فلما قال له عمر :
من أنت؟
قال : أنا عبد
الله صبيغ ، فأخذ عرجونا من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه ، ثم عادله ، ثم
تركه حتى برأ. فدعا به ليعود فقال : إن كنت تريد قتلي ، فاقتلني قتلا جميلا.
فأذن له إلى أرضه
، وكتب إلى أبي موسى الأشعري ألا يجالسه أحد من المسلمين. وأخرج نصر المقدسي ،
وابن عساكر ، عن أبي عثمان النهدي. أن عمر كتب إلى أهل البصرة ألا يجالسوا صبيغا ،
ولا يبايعوه ، وإن مرض فلا يعودوه ، وإن مات فلا يشهدوه ؟).
وأخرج نصر أيضا عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال : كنا عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إذ جاءه رجل
يسأله عن القرآن. أمخلوق هو أو غير مخلوق؟.
فقال علي رضي الله
عنه : هذه كلمة وسيكون لها ثمرة ، ولو وليت من الأمر ما وليت ، ضربت عنقه.
أتكون هذه الوسائل
والخطرات التي كانت تهجس في داخل بعض النفوس ، لها دخل في إنشاء علم الكلام ..؟ أو
أن وراء إنشائه وإيجاده أسبابا أخرى ، مع التي ذكرنا ، دفعت المسلمين إلى طريق
الجدل ، واصطناع علم الكلام ..؟
إننا نرى ويشاركنا
في رأينا هذا كثير من العلماء ، أن تطلع بعض المسلمين
__________________
إلى تراث الأمم
السابقة كدولة الفرس واليونان ، وعكوفهم على ترجمة هذه الكتب عامل جوهري أيضا في
تعريف المسلمين على علم الكلام ، وحذقهم لأدواته بل يبالغ البعض فيرى أن هذا العلم
نبتت جذوره في دولة اليونان ، وغذيت فروعه في مدارسه المختلفة ، من أبيقورية ،
ورواقية ، وسفسطائية ، ثم زحف على الأمة الإسلامية فيما زحف ، فكان والحق يقال :
لفكرها مشتتا ، ولرأيها مفرقا ، ولوحدتها ممزقا وبقي إلى يومنا هذا علما يعرف به
من يشتغلون في البحث عن العقائد والملل المختلفة ، وممن تستهويهم حقائق الوجود ،
ومغلقات الكون وغير ذلك من الأبحاث الفلسفية. أضف إلى ذلك أيضا ، تسرب الأفكار
اليهودية والمسيحية إلى بعض مفكري المسلمين ، عن طريق الحوار والاحتكاك ، ومن هذه
الأفكار ما رددته الجهمية : أن الإنسان مجبور تماما على فعل أفعاله ، وهي تنسب
إليه كما تنسب الأفعال إلى الجمادات.
وما رددته
المعتزلة : أن الإنسان يفعل الأفعال باختياره ، ويخلقها بقدرته. وهذان المذهبان في
نفي القدر وإثباته ، هما مذهب الأبيقوريين القائلين بحرية الإرادة ، ومذهب
الرواقيين القائلين بأن الإنسان مسير لا مخير.
ثم مذهبان مماثلان
لليهود : فمنهم الربانيون ينفون القدر ، والقراءون يقولون بالجبر.
ثم مذهبان تاليان
مسيحيان ، فالمسيحيون الشرقيون يقولون : إن الإنسان مخير ، والآخرون يقولون بالجبر
.
لقد نادى جهم بن
صفوان بخلق القرآن ، ورددت مدرسة الاعتزال ما قاله جهم ، واستعانت بنفوذ السلطة
الحاكمة لإجبار المسلمين على ذلك ، ولم يكن ذلك إلا ترديد للأفكار اليهودية
المنحرفة.
والمؤرخون يروون
في صدد فكرة خلق القرآن سلسلة يصل سندها إلى لبيد بن أعصم اليهودي القائل بخلق
التوراة.
__________________
فالفكرة يهودية
الأصل ، وممن روج لها بشر المريسي ، وأبوه يهودي صباغ بالكوفة.
ولما عرف الرشيد
قوله حلف أن يقتله ، فاختفى طول عهده ، ليظهر بعد ذلك في بلاط المأمون .
من هنا نرى أن علم
الكلام غريبا عن البيئة الإسلامية ، وقد وفد إليها من خلف السدود والحدود ، وكان
هذا بداية للغزو الفكري المنظم الذي شنت جيوشه غاراتها بانتظام على هذه الأمة ،
فأصابت منها مقاتل ، ولكنها لم تجهز عليها.
ومصداقا لما نقول
: ما يرويه المؤرخون من أن كتابا ألفه يحيى الدمشقي في القرن الأول للهجرة ، وكان
هو (وتيودور) أبو قرة يناقشان المسلمين في الدين. وفي هذا الكتاب يدرب النصارى على
زعزعة عقائد المسلمين بقوله : إذا قال لك العربي ما تقول في المسيح ..؟
فقل : إنه كلمة
الله ، ثم ليسأل النصراني المسلم بم سمي المسيح في القرآن ..؟ وليرفض أن يتكلم
بشيء حتى يجيب المسلم ، فإنه سيضطر إلى أن يقول : كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح
منه ، فإن أجاب بذلك فاسأله : هل كلمة الله وروحه مخلوق ، أو غير مخلوق؟
فإذا قال : مخلوق
، فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم يكن له كلمة ولا روح فإن قلت ذلك ، فسيفحم
العربي ، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين وبمثل هذا ظهر الخلاف المدمر
، وتعكر الصفو ، وتفرق الشمل وتعددت الفرق ، وتباينت الأقوال.
وابن الجوزي في
كتابه (تلبيس إبليس) يصور لنا ما حدث في الجماعة
__________________
الإسلامية نتيجة
لهذه الأفكار ، والآراء الغريبة المنافية للوحي ، والرسالة المنزلة.
فيقول : «لقد أفضى
هذا بالمعتزلة إلى أنهم قالوا : إن الله عزوجل يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها.
وقال جهم : علم الله
وقدرته وحياته محدثة.
وروى أبو محمد
النوبختي عن جهم أنه قال : إن الله عزوجل ليس بشيء.
وقال أبو علي
الجبائي ، وأبو هاشم ومن تابعهما من البصريين : المعدوم شيء وذات ونفس ، وجوهر ،
وبياض ، وصفرة ، وحمرة ، وأن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ،
ولا العرض عرضا ، ولا الجوهر جوهرا ، وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى
الوجود.
أما لما ذا اختلف
رجال الكلام ، وتباينت أقوالهم ، فإن ذلك يرجع إلى العجمة التي أصابت المسلمين
بسبب عكوفهم على الفكر الأجنبي ، وإهمالهم لغة القرآن ، وأساليب العربية».
يقول الإمام
الشافعي رضي الله عنه : «ما جهل الناس ، ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب ،
وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس» .
وأخرج الإمام
البخاري في تاريخه الكبير ، عن الحسن البصري رضي الله عنهما قال : «إنما أهلكتهم
العجمة».
ويرى الإمام
السيوطي رحمهالله أن هؤلاء المارقين ، أخذوا يؤولون القرآن والحديث النبوي ،
على مصطلح لسان يونان ، ومنطق أرسطاطاليس.
وما نزل القرآن
إلا بلغة العرب ، وببيان العرب. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) .
__________________
فمن عدل عن لسان
الشرع إلى لسان غيره ، وخرج عن الوارد من نصوص الشرع جهل وضل.
ويؤيد ما قاله
الأئمة الأجلاء ما أخرجه الإمام البيهقي قال : جاء عمرو بن عبيد إلى عمرو بن
العلاء يناظره في وجوب عذاب الفاسق.
فقال له : يا أبا
عمرو الله يخلف وعده؟
فقال : لن يخلف
الله وعده.
فقال عمرو : فقد
قال : وذكر آية وعيد.
فقال أبو عبيد :
من العجمة أتيت ، الوعيد غير الإيعاد ، ثم أنشد :
وإني وإن أوعدته
أو وعدته
|
|
لمخلف إيعادي
ومنجز موعدي
|
__________________
هل كان المسلمون في حاجة إليه ..؟
ونتساءل : هل كان
المسلمون بحاجة إلى علم الكلام حين قام؟
يرى بعض العلماء
أن العقائد ثابتة في القرآن ، وأوضحتها السنة النبوية فلا حاجة إذن إلى علم
الكلام.
هذا على اعتبار أن
علم الكلام : هو علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير ، بإيراد
الحجج ودفع الشبه .. كما يقول (التفتازاني) في شرحه للعقائد العضدية .
ويقولون أيضا : لو
كان علم الكلام هدى ورشادا لتكلم فيه النبي صلىاللهعليهوسلم ، وخلفاؤه وأصحابه ، ولأن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يمت حتى تكلم في كل ما يحتاج إليه من أمور الدين ،
وبيّنه بيانا شافيا ، ولم يترك بعده لأحد مقالا فيما للمسلمين إليه حاجة من أمور
دينهم ، وما يقربهم إلى الله عزوجل ، ويباعدهم عن سخطه ، فلما لم يرووا عنه الكلام في شيء مما
ذكرناه علمنا أن الكلام فيه بدعة ، والبحث عنه ضلالة لأنه لو كان خيرا لما فات
النبيصلىاللهعليهوسلم ولتكلموا فيه.
وقالوا أيضا :
ولأنه ليس يخلو ذلك من وجهين : إما أن يكونوا علموه فسكتوا عنه ، أو لم يعلموه بل
جهلوه ، فإن كانوا علموه ولم يتكلموا فيه وسعنا أيضا نحن السكوت عنه ، كما وسعهم
السكوت عنه ، ووسعنا ترك الخوض فيه ، كما
__________________
وسعهم ترك الخوض
فيه ، ولأنه لو كان من الدين ، ما وسعهم السكوت عنه ، وإن كانوا لم يعلموه وسعنا
جهله ، كما وسع أولئك جهله ، لأنه لو كان من الدين لم يجهلوه ، فعلى كلا الوجهين ،
الكلام فيه بدعة ، والخوض فيه ضلالة .
ولسنا في حاجة
إليه كما كان المسلمون الأول في غير حاجة إليه.
__________________
موقف السلف من علم الكلام
ويكاد السلف
الصالح والتابعون من بعدهم يتفقون على أن علم الكلام بدعة ، وبدعة كان لها أكبر
الأثر في تفريق المسلمين وتشتيت وحدتهم.
حتى العلماء الذين
خدعهم بريق الجدل ، وأخذ بلبهم بهرجه الزائف عادوا في أخريات حياتهم يتوبون منه ،
ويوصون غيرهم بالبعد عنه ، وعدم الاقتراب من منهله. يروى عن أحمد بن سنان قال :
كان الوليد بن
أبان الكرابيسي خالي ، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه : تعلمون أحدا أعلم
بالكلام مني ..؟
قالوا : لا.
قال : فتتهمونني.
قالوا : لا.
قال : فإني أوصيكم
أتقبلون ..؟
قالوا : نعم.
__________________
قال : عليكم بما
عليه أصحاب الحديث ، فإني رأيت الحق معهم.
وكان أبو المعالي
الجويني يقول : لقد جلت أهل الإسلام جولة ، وعلومهم وركبت البحر الأعظم ، وغصت في
الذي نهوا عنه ، كل ذلك في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت عن الكل
إلى كلمة الحق.
عليكم بدين
العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره ، فأموت على دين العجائز ، ويختم عاقبة
أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ، فالويل لابن الجويني.
وكان يقول لأصحابه
: «يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت
به» .
قال هذا رجل عاش
حياته في مجادلة الخصوم ، ومناقشة العلماء ووضع كتابين على نمط منهج علماء الكلام
هما : الإرشاد ، والشامل في أصول الدين .
ويطيب لي أن
نستعرض آراء الأئمة الأربعة في علم الكلام.
فالإمام مالك رضي
الله عنه صاحب كتاب الموطأ يوصي أصحابه بقوله : «إياكم والبدع قيل : يا أبا عبد
الله ، وما البدع ..؟
قال : أهل البدع
الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته ، وكلامه وعلمه ، وقدرته ، ولا يسكتون عما سكت
عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان» .
ويروي ابن عبد
البر ، المتوفى سنة ٤٦٣ ـ ١٠٧٠ م في كتاب (مختصر جامع بيان العلم وفضله) أن الإمام
مالكا كان يقول :
__________________
«الكلام في الدين
أكرهه ، ولم يزل أهل بلدنا ـ يقصد المدينة المنورة ـ يكرهونه ، وينهون عنه ، نحو
الكلام في رأي جهم والقدر ، وما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل» .
أما صاحب مدرسة
الرأي الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه وأرضاه فإنه يقول : «لعن الله عمرو بن عبيد»
، فإنه فتح للناس الطريق إلى الكلام فيما لا يعنيهم من الكلام» .
ويذكر الهروي عن أبي المظفر السمعاني ؛ قال : «قلت لأبي حنيفة : ما تقول
فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام ..؟
فقال : مقالات
الفلاسفة ..
قلت : نعم.
قال : عليك بالأثر
وطريقة السلف ، وإياك وكل محدثة فإنها بدعة»
فإذا تركنا أقوال
الإمام أبي حنيفة ، واتجهنا إلى الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي يقول عنه الإمام
أحمد بن حنبل : «ما رأيت أحدا أفقه من هذا الفتى».
ويسأله ابنه عبد
الله : أي رجل كان الشافعي؟ فإني سمعتك تكثر الدعاء له ، فقال له : يا بني ، كان
الشافعي كالشمس للنهار ، وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف؟ .. وعنهما من
عوض؟ .
الإمام الشافعي
هذا يقول عن علم الكلام وعن أصحابه :
«حكمي في أهل
الكلام أن يضربوا بالجريد ، ويحملوا على الإبل ويطاف
__________________
بهم في العشائر
والقبائل وينادى عليهم : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام».
وفي رواية ليونس
بن عبد الأعلى قال : سمعت الشافعي يقول :
«إذا سمعت الرجل
يقول الاسم غير المسمى ، والشيء غير المشيء ، فاشهد عليه بالزندقة» .
فإذا انتقلنا إلى
الإمام أحمد رضي الله عنه ، نجد إنسانا جديدا من مدرسة القرآن ، أنفق عمره في جمع
حديث الرسول صلىاللهعليهوسلم وتدوينه ، تحمل الكثير من قساوة السجن والتعذيب ، ليبطل ما
يقوله المبطلون من علماء الكلام وغيرهم عن القرآن ، وصفات الله سبحانه وتعالى.
يقول الإمام أحمد
لأحد طلابه عند ما سأله رأيه في هؤلاء أصحاب الكلام : «لا تجالسهم ولا تكلم أحدا
منهم.
وقال له : إني
ربما رددت عليهم.
قال : اتق الله ،
ولا ينبغي أن تنصب نفسك ، وتشتهر بالكلام. لو كان في هذا خير لتقدمنا فيه الصحابة
، هذه كلها بدعة».
قال الطالب : «إني
لست أطلبهم ، ولا أدق أبوابهم ، ولكني سمعتهم يتكلمون بالكلام ، ولا أحد يرد عليهم
، ولا أصبر حتى يرد عليهم».
قال أحمد : «إن
جاءك مسترشد فأرشده» وكررها مرارا . رحمك الله يا إمام السنة ، وما أحوج الأمة الإسلامية الآن
أن تسير كما سرت ، وأن تنهج كما نهجت باتباع الكتاب والسنة.
فإذا أردنا أن نتعرف
على رأي أبي حامد الغزالي رحمهالله. والذي هو عند
__________________
«الطرطوشي» رجل
مظلم الجهالة ، ومن أهل الضلالة ، وكاد ينسلخ من الدين ، بينما هو عند البعض الآخر
، حجة الإسلام ، وكاد الإجماع ينعقد على غزارة علمه وفضله.
الذي يهمنا في رأي
الغزالي . أنه صاحب قلم جال في كل ميدان ، وهاجم في كل موقع ، ونازل
الفلاسفة وكشف زيفهم ، وهاجم الباطنية وفند باطلهم ، واقترب من علماء الكلام ،
ولكنه رفض منهجهم. يقول الغزالي رحمهالله في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) :
«... من أشد الناس
غلوا وإسرافا طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين ، وزعموا أن من لا يعرف
الكلام معرفتهم ، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتهم التي حرروها فهو كافر.
فهؤلاء ضيقوا رحمة
الله الواسعة على عباده أولا ، وجعلوا الجنة وقفا على شرذمة يسيرة من المتكلمين ،
ثم جهلوا ما تواتر من السنة.
ثانيا : إذ ظهر
لهم في عصر الرسول صلىاللهعليهوسلم وعصر الصحابة رضي الله عنهم ، حكمهم بإسلام طوائف من أجلاف
العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بعلم الدليل ، ولو اشتغلوا به لم
يفهموه.
ومن ظن أن مدرك
الإيمان «الكلام» والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد ضيق حد الإيمان.
بل الإيمان نور
يقذفه الله في قلوب عبيده» .
__________________
ولم يكتف أبو حامد
بهذا الكلام ، بل يقدم الدليل على صدق ما يقول ، ويتجه إلى صدر الإسلام حيث الرسول
صلىاللهعليهوسلم ومجالس الصحابة ، فيقول : جاء أعرابي إلى النبي صلىاللهعليهوسلم جاحدا به منكرا ، فما وقع بصره على وجهه الكريم إلا ورآه
يتلألأ بأنوار النبوة. قال : ـ
«والله ما هذا
بوجه كاذب».
وسأله أن يعرض
عليه الإسلام فأسلم.
وجاء آخر إليه
عليه الصلاة والسلام وقال : أنشدك الله ، الله بعثك نبيا؟ .. فقال عليه الصلاة
والسلام : أي والله ، الله بعثني نبيا ، فصدقه بيمينه وأسلم.
وهذه وأمثالها
أكثر من أن تحصى ، ولم يشتغل واحد منهم بالكلام ، وتعلم الأدلة. بل كان يبدو نور
الإيمان بمثل هذه الأشياء في قلوبهم لمعة بيضاء ، ثم لا تزال تزداد إشراقا بمشاهدة
تلك الأجوبة السديدة ، وتلاوة القرآن ، وتصفية القلوب. يقول الإمام الغزالي :
«فليت شعري متى
نقل عن رسول الله أو عن الصحابة رضوان الله عليهم أن قالوا لمن جاءهم مسلما.
الدليل على أن
العالم حادث.
أنه لا يخلو عن
الأعراض.
وما لا يخلوا عن
الحوادث حادث» ..؟
إن ذلك لم يحدث قط
، ولم يتواتر عن أحد منهم ، إن علم الكلام لم يأمر به الرسولصلىاللهعليهوسلم ولا تناوله الصحابة من بعده حتى قال الإمام الشافعي رضي
الله عنه ناهيا عن ذلك :
«لأن يبتلى العبد
بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في علم الكلام» .
__________________
وعلماء الكلام لم
يتركوا لإشاعة أقوالهم ، وبث أفكارهم في المجتمع الإسلامي ، بل وقف لهم علماء
السنة بالمرصاد ، يفندون حججهم ، ويبطلون أدلتهم ، ويؤلفون الكتب ، ويدبجون
المقالات في الرد عليهم.
ومن هؤلاء الإمام
ابن عبد البر المتوفى سنة ٤٦٣ ـ ١٠٧١ م في كتابه (جامع بيان العلم وفضله ، وما
ينبغي في روايته وحمله).
ومنهم الإمام عبد
الله الأنصاري الهروي المتوفى سنة ٤٨١ ـ ١٠٨٨ م في كتابه (ذم الكلام).
ومنهم الإمام عبد
الرحمن بن الجوزي القرشي البغدادي المتوفى سنة ٥٩٦ ه في كتابه (نقد العلم
والعلماء أو تلبيس إبليس) .
ومنهم الإمام موفق
الدين ابن قدامة المقدسي المتوفى بدمشق سنة ٦٢٠ ه ١٢٢٣ في كتابه (تحريم النظر في
كتب أهل الكلام).
ورد في هذا الكتاب
على ابن عقيل الذي أباح علم الكلام.
ومنهم الإمام جلال
الدين السيوطي المتوفى سنة ١٥٠٥ م في كتابه : (صون المنطق والكلام عن فن المنطق
والكلام) .
وقد قام جلال
الدين السيوطي بتلخيص كتاب الإمام الهروي (جامع بيان العلم وفضله ، وما ينبغي في
روايته وحمله) في كتابه سالف الذكر (صون المنطق والكلام).
إن علم الكلام
الذي وفد على الأمة الإسلامية من خارج حدودها ، فرق وحدتها ، وشغلها عن الكثير من
أداء رسالتها تجاه البشرية كلها.
__________________
يقول أحد المفكرين
الإسلاميين موضحا ومعلقا الخلافات الناشبة من علم الكلام : «كانت المناقشات في
الأصل مما لا ينبغي أن يتجاوز حدود المناظرات المنطقية والعلمية والفنية ، ولكنا
أقحمنا اسم الله عزوجل في مناقشات لا معنى لها.
فحاول كل فريق منا
إسناد الكفر والإلحاد إلى الفريق الآخر» .
ونقول وكيف لا يتم
ذلك ...
والنظام المعتزلي
يقول : إن الله عزوجل لا يقدر على شيء من الشر ، وإن إبليس يقدر على الخير
والشر.
وقال هشام الفوطى
: إن الله لا يوصف بأنه عالم لم يزل.
وقال بعض المعتزلة
: يجوز على الله سبحانه وتعالى الكذب إلا أنه لم يقع منه. وقال المجبرة : لا قدرة
للآدمي ، بل هو كالجماد مسلوب الاختيار والفعل.
وقالت المرجئة :
إن من أقر بالشهادتين ، وأتى بكل المعاصي لم يدخل النار أصلا . ونقول لهؤلاء جميعا قول الله تعالى : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً). يقول الشيخ محمد الغزالي : وعفا الله عن أجدادنا فقد
أولعوا بذلك ، وأعانهم عليه أن الدولة الإسلامية كانت سيدة العالم.
فلا بأس على
رجالها أن يشتغلوا بالترف العقلي ، وأن يحولوا فراغهم من الجهاد في سبيل الله إلى
جهاد في هذا الميدان الخطر ، فانشغلوا بأنفسهم عن أعدائهم ، ثم ذهب الرجال وبقي
الجدال ، بقي إلى اليوم يهدد وحدة الأمة ، ويهز كيانها ونصل بذلك إلى السؤال الثالث : هل المسلمون الآن بحاجة إلى
__________________
الكلام؟ وهل
يعطينا درس نشأته عبرة استمراره ..؟
وإذا كان الجواب
بالنفي ، وهو أن المسلمين الآن ليسوا في حاجة إليه ، فكيف نرد طغيان جهمية القرن
العشرين ..؟ لقد كانت الجهمية الأولى تقول : إن القرآن كلام الله مخلوق؟
أما الجهمية
الحديثة المتمثّلة في الاستشراق وأتباعه ، والتبشير وأذنابه ، فإنها تقول ببشرية
القرآن ـ أي أن القرآن مصنوع ومؤلف. قام بتأليفه محمد وهو مرآة لأفق خاص من الحياة
، هو أفق الحياة في شبه الجزيرة العربية وفي مكة بوجه خاص .
كيف نحاج المذاهب
الحديثة الهدامة؟. وما وسيلتنا في الرد على المذهب «الاسمي» الذي يقرر أتباعه ـ قاتلهم
الله ـ أن لفظ الله لا يوجد له مسمى. وكيف نحاج أصحاب المذهب «التجريبي» والذي
يعبر عن أحد أصوله ، (لود فيج باخ) فيلسوف ألماني بقوله :
«الله كان فكرتي
الأولى.
والعقل كان فكرتي
الثانية.
والإنسان بمحيطه
الواقعي هو فكرتي الثالثة والأخيرة» .
كيف نحول بين
مجتمعنا وبين الاستماع إلى هذه المذاهب التي تتسرب إليه عن طريق التلفاز تارة ،
والمذياع تارة أخرى.
إن أتباع المذهب
العقلي يسمون هذا العصر ، عصر التنوير أو عصر الإنسان ويفسر (وولف) الألماني
التنوير بقوله : «إقصاء الدين عن مجال التوجيه ، وإحلال العقل محله».
__________________
أما (لوك)
الإنجليزي و (فليتر) الفرنسي فإنهما يفسران عصر الإنسان بقولهما : عصر الإله
الجديد. العقل الذي استغنى عن آلهة الخرافة والكنيسة.
لقد كانت الباطنية
القديمة تقول : إن الله منزه عن مشابهة المخلوقات ، ولو كان موجودا لأشبه
الموجودات ، ولو كان معدوما لأشبه المعدومات ، فهو لا موجود ولا معدوم.
أما الباطنية
الحديثة المتمثلة في عدمية (سيرجى نيكاييف) وإلحادية (ماركس) وتخريبية (فرويد)
وأحفاد اليهودية العالمية التي يمثلها (دارون) فإنها تقول : الدين خرافة.
والرسل مجموعة من
الأفاكين.
و «الله» أسطورة
الرجعيين ، فقد ذهبنا لنفتش عنه فلم نعثر له على أثر. وصدق الله العظيم إذ يقول : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) . وفي قوله تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)
والآن يحق لنا أن
نتساءل ما هي الأسلحة الفكرية التي أعدتها مدرسة القرآن للدخول بها في معارك
الإلحاد الجديدة السافرة ..؟
إن الإلحاد
المتنمر يحاجج شبابنا بسلاح لم يعرفوه ، وبأسلوب لم يعهدوه ، إن أبناءنا لا يعرفون
شيئا عن الجزء الذي لا يتجزأ ، ولا عن الجوهر الفرد ، ولا عن العدم والوجود عند (سارتر)
ووجوديته ، ولم يتدربوا على خداع المقاييس العصرية. مقاييس الشيطان ، التي تخرب
ولا تعمر ، وتفسد ولا تصلح ، وتشكك ولا تيقن؟؟
ثم ما رأي علماء
العقيدة؟.
__________________
وما وجهة نظر
فقهاء الشريعة؟
وما ذا يقول
جهابذة الأصول؟
إن الأمر جد لا
يحتمل التعطيل ولا التعليل .
__________________
علم الجدل
نشأته ـ تطوره
علم الجدل
نشأته ـ وتطوره
قلنا عند بداية
حديثنا عن علم الكلام ، إذا كان هذا علم يدافع به عن العقائد الإيمانية وأسلحته
الدفاعية هي : العقل ومعداته. فبما ذا يسمى العلم الآخر ..؟
العلم الذي
يستعمله خصوم أهل السنة والجماعة من الخوارج ، والباطنية والجهمية ، وبقية الفرق
الضالة الخارجة عن مذهب السلف.
نعم. ما ذا يسمى
هذا العلم. إننا نرى ويشاركنا في رأينا هذا كثير من العلماء والمفكرين أنه علم
الجدل ، وإذا كان ذلك كذلك. فما هو هذا العلم ، ومتى نشأ ، وما هي الأدوار التي مر
بها حتى وصل إلينا ..؟
يقول ابن سيده :
جدل الشيء : يجد له جدلا ، أحكم فتله. والجدل معناه الصرع على الجدالة وهي الأرض
سميت بذلك لشدتها .
ويقول صاحب لسان
العرب : الجدل لغة : هو اللدد في الخصومة ، والقدرة عليها. وقد جادله مجادلة
وجدالا ، ورجل جدل ومجدال. شديد الجدل. يقال جادلت الرجل فجدلته جدلا ، أي غلبته.
ورجل جدل إذا كان أقوى في الخصام.
والاسم الجدل وهو شدة الخصومة.
__________________
وفي الحديث عن
النبي صلىاللهعليهوسلم.
«أنا خاتم النبيين
في أم الكتاب ، وإن آدم لمنجدل في طينته» أي ملقى على الجدالة وهي الأرض .
الجدل اصطلاحا :
حقيقة الجدل : هو
المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة لإلزام الخصم. قال الجرجاني : «الجدل عبارة
عن مراد يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها» .
وقال أبو البقاء
في كتاب (الكليات) : «الجدل ، هو عبارة عن دفع المرء خصمه عن فساد قوله بحجة أو
شبهة ، وهو لا يكون إلا بمنازعة غيره» .
ويقول ابن سينا في
تعريف الجدل :
«فغرضنا الآن في
هذا الفن تحصيل صناعة يمكننا بها أن نأتي بالحجر على كل ما يوضع مطلوبا من مقدمات
ذائعة ، وأن نكون إذا أجبناه يؤخذ منا ما يناقض وضعنا» .
ويحسن أن نضع إلى
جانب هذا التعريف لابن سينا تعريف أرسطو لنبين الفرق بينهما.
يقول أرسطو في
استهلال الطوبيقا : «إن قصدنا في هذا الكتاب أن نستبين طريقا يتهيأ لنا به أن نعمل
من مقدمات ذائعة قياسا في كل مسألة تقصي وأن نكون ـ إذا أوجدنا جوابا ـ لم نأت فيه
بشيء مضاد» .
يتألف التعريف من
عناصر ثلاثة هي :
__________________
(أ) الطريق.
(ب) الاستدلال من
المشهورات.
(ج) عدم التناقض عند
الجواب.
ويتفق أرسطو وابن
سينا في العنصرين الأخيرين ، ويختلفان في العنصر الأول. فالجدل عند أرسطو : طريق
أو منهج ، وعند ابن سينا صناعة .
هذا الفرق له أثره
في اعتبار الجدل ملحقا بالمنطق العام لأرسطو ، أو هو نوع من القياس ، ولكنه ليس
يقينا ، أي ان المنطق واحد ، وطريقه واحد ، أعلاه البرهان. والجدل مرتبة أضعف منه
، وأما في اعتبار الجدل نوعا متميزا من المنطق وصناعة خاصة هي الصناعة الجدلية.
وإذا أردنا أن
نتعرف على رأي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في تعريف الجدل فإنه يقول :
الجدل : هو
المعارضة على سبيل المنازعة والمغالبة ، وأصله من جدل الشيء أحكم فتله ، كأن كلا
من المتجادلين يفتل الآخر عن رأيه. وقد ورد الجدل في القرآن على وجوه مختلفة.
الأول : معارضة
نوح وقومه. قال تعالى : (يا نُوحُ قَدْ
جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا).
الثاني : مجادلة
أهل العدوان. قال تعالى : (أَتُجادِلُونَنِي فِي
أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها) .
الثالث : جدال
إبراهيم والملائكة في باب قوم لوط. قال تعالى : (يُجادِلُنا فِي
قَوْمِ لُوطٍ) .
__________________
الرابع : جدال
صناديد قريش في إثبات إله العالمين. قال تعالى : (وَهُمْ يُجادِلُونَ
فِي اللهِ) .
وجدال الكفار في
القرآن. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) .
وجدال المنكرين في
إنكار الحجة والبرهان بالشبهة والبطلان. قال تعالى : (وَجادَلُوا
بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) .
وجدال النبي صلىاللهعليهوسلم في باب الخائنين والمنافقين. قال تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) .
وجدال الصحابة في
حقهم. قال تعالى : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ) .
وجدال النبي صلىاللهعليهوسلم أهل الكتاب باللطف والإحسان. قال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وجدال الصحابة
إياهم. قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا
أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وجدال بمعنى
الخصومة بين الحجاج. قال تعالى : (وَلا جِدالَ فِي
الْحَجِ) .
__________________
وجدال ابن الزبعرى
في حق عيسى وعزير والأصنام. قال تعالى : (ما ضَرَبُوهُ لَكَ
إِلَّا جَدَلاً) .
وجدال موجود في
جبلة الإنسان. قال تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ
أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).
وقيل الأصل في
الجدل : الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة أي الأرض الصلبة.
نشأة علم الجدل :
يرى كثير من
المفكرين والعلماء أن الجدل ظاهرة إنسانية وجدت مع وجود الإنسان على ظهر البسيطة.
بل إن هذه الظاهرة
وجدت في غير الجنس البشري كالملائكة وإبليس ويعللون ذلك أن النفس البشرية مجبولة
على حب الدفاع عنها ، وتقريب مطالبها الدنيوية ، ولن يتم لها ذلك إلا باستعمالها
أسلحة الجدل وقوارع الحجج ، وهذه الظاهرة لن يتخلى عنها البشر حتى في ساحة الحشر
ويوم الحساب الأعظم ، قال تعالى :
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) .
والقرآن الكريم
يحدثنا عن موقف الملائكة من ربهم عند ما أخبرهم بقوله : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً
قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ
نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) .
__________________
لقد خفيت على
الملائكة حكمة الله سبحانه وتعالى في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة
وتنوعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق ، وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها
على يد خليفة الله في أرضه هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ليتم
من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل ، خير النمو الدائم ، والرقي
الدائم خير الحركة الهادمة البانية ، خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا
يقف والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير.
عندئذ جاءهم
القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور.
قال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).
وأيضا الجدل الذي
تم بين أبناء آدم.
قال تعالى :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ :
إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ
لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ
اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) .
لقد حكم أحدهما
رغباته وشهواته ، والرغبة تعمي وتصم. وكما قال (اسبينوزا) : «إن الرغبة هي التي
ترينا الأشياء مليحة لا بصيرتنا».
والحقيقة أن
القارئ لتاريخ البشرية يرى أن هذه الرغبة لم يخل منها عصر من العصور ، ولا جيل من
الأجيال.
فلما كانت دولة
اليونان القديمة ظهر فيها علم المنطق والجدل فوضعوا لهما الأصول وقعدوا لهما
القواعد. وكان العقلاء منهم ينظرون إلى الجدل نظرة اشتباه وإنكار وهو الذي سموه ـ بعد
ـ بالسفسطة أو ترفّقوا فسموه علم البراهين الخطابية ، وحسبوه صناعة لازمة في معرض
الإقناع والتأثير.
__________________
وكان الجدل في
نشأته الأولى في دولة اليونان كعلم له قواعد وأصول. معظما مبجّلا بين الحكماء
وتلاميذهم ، وجمهرة المعنيين بالحكمة والمعرفة ، وكان اسم «السوفيست» أعظم شأنا من
اسم الفيلسوف ، لأن السوفيست ينتمي إلى ربّة الحكمة «صوفية» فهو الحكيم الذي
ألهمته تلك الربة وفرغ من مئونة المعرفة.
فلما ظهر الحكيم (فيثاغورس)
استكبر هذه الدعوى وتواضع فسمى نفسه فيلسوفا أي محبا للحكمة.
وتصدى لتعليم
الجدل أو البراهين الخطابية أناس يقصدهم المتعلمون ليعرفوا كيف ينتصرون على خصومهم
في مجال المنازعة والملاحة ، ويضع الآباء أبناءهم في كفالتهم ليدربوهم على صناعة
الجدل ، والتأثير في سبيل الإقناع بالحجة أيا كان حظها من الحقيقة.
ومما يحكى عن
أستاذ جدلي أنه اتفق مع تلميذ له على أن يخرجه للدفاع في القضاء والمنازعات العامة
خلال سنتين بأجر متفق عليه.
فلما انتهت
السنتان طلب الأستاذ أجره.
فقال التلميذ : بل
أناقشك في هذا الأجر هل تستحقه بعملك أو تطلبه بغير حق ..؟ فإن أقنعتك بأنك لا
تستحقه فلا حق لك فيه باعترافك ، وسكوتك حجة على هذا الاعتراف.
وإن لم أقنعك فلا
حق لك فيه ، لأنك لم تعلمني كيف أقيم البرهان على دعواي.؟؟
وكان جواب الأستاذ
كمثال تلميذه ، مثلا للبرهان المطلوب في هذه الصناعة فقال له: إنني أقبل أن أناقشك
ولكن على غير النتيجة التي خلصت إليها.
__________________
أناقشك حقي فتعطيه
مرة إذا ثبت عليك. وتعطيه مرتين إذا لم أثبته أمامك ، لأنني علمت تلميذا ما يغلب
به أستاذه في صناعة البرهان.
وبلغ من التفاهم
على الفصل بين البرهان والحقيقة في صناعة الجدل أنهم أصبحوا يقولون عن الحجة أنها
حجة خطابية ، أي تقع ولا يشترط فيها أن تدل على الحقيقة.
وإذا تركنا
المدارس اليونانية وما كان فيها من جدل عقيم ، وسفسطات تدع الحليم حيران ، وتصيب
الرءوس بالدوار وانتقلنا إلى مسرح الجزيرة العربية في الجاهلية فإننا نرى حشدا
هائلا من الديانات والنحل ، مثل اليهودية ، والنصرانية ، والمجوسية ، والزرادشتية
، والمانوية ، والمزدكية ، والصابئة وأصحاب الروحانيات ، وأصحاب الأشخاص. كلها
تدعي الحق وتدمغ الآخرين بالباطل ، وتستعمل أسلحة الجدل ومنطق العقل ، ومغالطة
الفكر في إثبات حقها ، وإبطال زيف ما عداها .
من ذلك ما يحكيه
ابن هشام في السيرة النبوية عن سلمة بن سلامة من أهل بدر قال:
«كان لنا جار من
يهود في بني عبد الأشهل فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل قال
سلمة : وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا عليّ بردة لي مضطجع فيها بفناء أهلي.
فذكر القيامة
والبعث ، والحساب والميزان ، والجنة والنار ، قال ذلك لقوم أهل شرك ، أصحاب أوثان
لا يرون أن بعثا كائنا بعد الموت.
فقالوا له : ويحك
يا فلان ، أو ترى هذا كائنا ، أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار ،
يجزون فيها بأعمالهم ..؟
قال : نعم.
__________________
فقالوا : ويحك يا
فلان ، فما آية ذلك ..؟
قال : نبي مبعوث
من نحو هذه البلاد وأشار بيده إلى مكة واليمن.
فقالوا : ومتى
نراه ..؟
قال : فنظر إليّ
وأنا أحدثهم سنا فقال : إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه .
فهذه صورة من
الجدل والحوار الذي كان يجري بين هؤلاء الأعراب الذين لا يصدقون بوحي ولا يؤمنون
برسول ، ويشككون في الحياة الآخرة وما فيها من ثواب وعقاب ، ويقولون : «إن هي إلّا
حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر».
وبين أصحاب كتاب
ورسول يدينون بعقيدة البعث ويبشر كتابهم الذي بين أيديهم بنبي جديد.
وكان للقسيسين
والرهبان دور في الحوار والجدل وهم يبشرون بدينهم ويطالبون الآخرين في اتباعهم
والاستماع إليهم.
من ذلك ما جاء في
كلام المستشرق (دوزي) :
«إن الأساقفة
أرادوا أن ينصّروا المنذر الثالث ملك الحيرة حوالي عام ٥١٣ من الميلاد. وأن المنذر
ليصغي إليهم إذ دخل عليه قائد من قواده فأسر إليه بضع كلمات.
ولم يكد ينتهي
منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق فتقدم إليه قسيس من القسيسين
يسأله عما أشجاه.
فأجابه الملك : يا
له من خبر سيئ ، لقد علمت أن رئيس الملائكة قد مات ، فوا حسرتاه عليه.
__________________
فقال القسيس : هذا
محال ، وقد غشك من أخبرك ، فإن الملائكة خالدون يستحيل عليهم الفناء.
فأجابه الملك :
أحق ما تقوله ..؟
قال القسيس : نعم.
قال الملك : فكيف
إذن تريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت ..؟» .
انظر إلى تلك
المناقشة التي تلمح فيها قوة العقل التي ترد أعقد المسائل إلى أقرب البدهيات ،
ليدركها النظر السليم ، وليفحم المجادل العنيد ، وألا تلمح سذاجة الفطرة القوية.
قد التقت مع التفكير المعقد فحلت عقدته وبينت له ما ينبغي أن يدركه الفكر القويم.
ثم جاء الإسلام ،
جاء الإسلام بالدعوة إلى التوحيد ، توحيد الخالق فلا إله إلا الله.
وتوحيد العقيدة
فلا دين إلا الإسلام ، وتوحيد البشرية : كلكم لآدم وآدم من تراب.
وأخذ الوحي يتتابع
والآذان تتسمع إلى الآيات البينات التي تأتي من عند الله. وكأنها أوامر فورية
تلتقطها الآذان ، وتعيها القلوب فتسمع وتطيع ، كما يسمع الجنود في ثكنتهم أوامر
القائد فيبادرون إلى الطاعة ، وإلى التنفيذ.
إن هذا الوحي يبلغه
إليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أمر ربه (مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) .
ولا خيار للمؤمن
ولا للمؤمنة فيما يأتي من عند الله مصداقا لقوله تعالى :
__________________
(ما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) .
ولكن هل خلت فترة
الوحي المتتابع من الجدل والنقاش.؟ الحقيقة أنه كان هناك جدل مع المشركين عبدة
الأوثان .
وجدل مع هؤلاء
الكافرين عباد الشمس والقمر والكواكب والنجوم وجدل مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى .
جادل الرسول صلىاللهعليهوسلم كل هذه الطوائف ، وأمر الله رسوله صلىاللهعليهوسلم الرفق بهم والحسن من مناقشتهم.
قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ
بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) .
وقال تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وقال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وبعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، افترقت الأمة الإسلامية وتباينت إلى شيع وأحزاب ، ودخلوا
في فتنة عمياء كما أخبر الرسول صلىاللهعليهوسلم : «ستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيها مؤمنا
ويمسي كافرا ، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير
من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي» إلخ.
__________________
ومزقتهم الأهواء
والأغراض فافترقوا فرقا وجماعات مصداقا لما قال الرسول صلىاللهعليهوسلم :
«ستفترق أمتي».
فكانت الخوارج
وكانت الشيعة ، وكانت المعتزلة ، وكانت الأشاعرة وكانت القدرية ، وكانت الجهمية ،
وكانت الباطنية.
وغير ذلك كثير من
أشياء تذهب بلب الحليم ، وتصيب الرءوس بالدوار ولكل فرقة من هذه الفرق جدل
ومناقشات يلتبس فيها الحق بالباطل والواقع
__________________
بالأسطورة ،
والخيال بمقاييس العقل ، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : هل توقف الجدل في تاريخ
الانسانية ، وهل امتنعت البشرية عن المعارك الكلامية ،
__________________
()
والمناقشات
البيزنطية؟ نعتقد أن هذا لن يكون ، لأن الجدل في جبلة الإنسان
__________________
وسيستمر ذلك معهم
إلى يوم يبعثون ، وصدق ربي في قوله :
__________________
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ
نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) .
__________________
الحالة السياسية والعلمية والاجتماعية
في عصر التفتازاني
الحالة السياسية
جاء القرن الثامن
الهجري ، وجروح العالم الإسلامي لم تلتئم بعد ، نتيجة لما أحدثه المغول في رقعة
البلاد الإسلامية ، من تخريب وتشريد وقتل ، واستمر الوضع على ذلك فترة ليست
بالقصيرة ، حتى أراد الله سبحانه وتعالى بالمسلمين خيرا ، فدخل في دين الله أفواجا
مغول روسيا والتركستان ، وكان هذا تحولا جديدا في قوة المسلمين في ذلك القرن. فقد
نشطت الدولة العثمانية سياسيا وعسكريا ، وامتدت سيطرتها على كثير من البلاد
الإسلامية ، واتخذت من مدينة الأناضول قاعدة لها ، واستطاعت الجيوش الإسلامية أن
تضيف إقليما جديدا إلى رقعة البلاد هو شبه جزيرة البلقان ، كما استطاع جيش الخلافة
أن يوجه ضربات موجعة للجيش الصليبي ، الذي سيره الغرب تباعا للاستيلاء على بيت
المقدس ، والذي هزم في النهاية عن طريق القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي.
وما كادت الغيوم
تنقشع عن سماء الأمة الإسلامية ، وسحب الأحزان تتوارى حتى ظهر في نهاية هذا القرن
رجل يسمى (تيمور لنك) من طلاب الملك والسلطة ، وخلفه جيش لا تغيب عنه الشمس ، من
مسلمي بلاد ما وراء النهر. وفي فترة وجيزة ، استطاع أن يقيم لنفسه ملكا ، امتد من
الصين إلى روسيا ، واكتسح أمامه بلاد فارس والجزيرة من غير أن يقف في طريقه شيء ،
وأنزل بأرواح المسلمين وأملاكهم الكثير من الدمار والخراب ، واستطاع في فترة
__________________
وجيزة أن يطوي تلك
البلاد ، ويجعلها تحت قبضته ، ودارت بينه وبين الجيش العثماني معركة ضارية على
حدود أنقرة ، انتصر فيها (تيمور لنك) على الجيش العثماني ، وبذلك أصبحت بلاد الشام
ممهدة أمام جيشه لو لا أن تداركها الله سبحانه وتعالى بالجيش المصري الذي أوقع
بالتتار هزيمة منكرة ، وردهم على أعقابهم خاسرين.
وبالجملة فإن
البلاد الإسلامية في ذلك الوقت كانت ممالك صغيرة ، يحكمها أمراء من العجم
والمماليك ، ولم يكن للخلافة في ذلك الحين غير الاسم والرسم ، ومن الأدلة على ذلك
، أنه حدث في عام ٧٣٧ ه أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، اعتقل الخليفة المستكفي بالله ، ومنعه من الاجتماع بالناس ، ثم أفرج عنه بعد ذلك ، ولكنه
ما لبث أن نفاه مع أهله وذويه إلى بلدة قوص من أعمال الصعيد ، وبقي الخليفة بها
إلى أن مات.
من هنا نستطيع أن
نقول : إن القرن الثامن الهجري ، لم يكن خيره عاما بالنسبة للمسلمين ، فالخطر يحدق
بهم من كل جانب ، وآثار الدمار والخراب التي أوجدها المغول في كثير من البلاد
الإسلامية ، لا تزال ماثلة أمام أعينهم ، لقد كانت تحيط بهم وتكاد تكتم أنفاسهم ،
عوامل مضللة خانقة ، يشنها عليهم أتباع الوثنية والزندقة ، وأنصار الصليب والإلحاد
، وكوكبة ضارية من جنود إبليس ، وفرق الضلال.
ومع ذلك كله ،
فلقد استطاع المسلمون في هذا العصر ، أن يجتازوا المحن
__________________
الشداد ، والآلام
الفواتن التي حلت بهم ، وأن يتمسكوا بدينهم وعقيدتهم ، وأن يوجدوا لأنفسهم نهضة
علمية وثقافية ، حالت بينهم وبين الدمار والانهيار ، وإذا كان ذلك كذلك فعلينا أن
نلقي بعض الأضواء على الجانب العلمي الذي حققه المسلمون في ذلك القرن.
الحالة العلمية
المتصفح لكتب
التراجم والأعلام الخاصة بالقرن الثامن الهجري. الرابع عشر الميلادي ، يهوله كثرة
العلماء الذين أنتجهم هذا القرن ، وزخر بهم تاريخ الأمة الإسلامية ، في فترة من
فترات حياتها.
وإن دل ذلك على
شيء فإنما يدل على نهضة علمية ، وثورة فكرية ، واكبت ما عاشت فيه البلاد من إسفاف
اجتماعي ، يتمثل في الفقر المدقع الذي كاد أن يشمل كل أفراد المجتمع ، والأوبئة
الفتاكة ، والأمراض المعدية التي حلت بالبلاد نتيجة للدمار والتخريب ، التي أوجدتها
الحروب المتلاحقة في هذا العصر ، وكأن المسلمين الذين انهزموا في ميدان الحروب ،
وطحنتهم المعارك الضارية ، وانهزموا أيضا في المجال الاجتماعي ، بإجداب أرضهم ،
وقلة مواردهم ، قد أرادوا أن يعوضوا ذلك في مجال العلم ، العلم الذي يشمل كل جوانب
الحياة ، فنشطت الحركة العلمية نشاطا ملحوظا ، وشمل الإنتاج الفكري جميع المعارف
الإنسانية ، والعقدية ، والفقهية ، والشرعية.
فإذا كان المسلمون
قد هزمتهم سيوف المغول الإلحادية ، وسهام الصليبية المشركة ، فإن أقلام علماء
المسلمين من أمثال ابن تيمية ، وابن القيم
__________________
الجوزية ، وسعد الدين التفتازاني وغيرهم. قد صاولت فكرهم المنحط ،
ونازلت معتقداتهم المسفّهة في الضلال ، وأصابت منها مقتلا ، وإذا كانت الحروب قد
أشاعت الفوضى ، وأنزلت بالناس المجاعة ، وتحول الكثير من أفراد المجتمع إلى لصوص
وقطاع طرق ، فإن فقهاء هذا العصر ، قد قعدوا القواعد ، وأصلوا الأصول ، وقدموا
لمجتمعهم الصورة المثلى لما يجب أن يعيش عليه المجتمع الإسلامي ، إذا قلت موارده ،
أو ضاقت عليه سبل الرزق ، وهذا ما فعله العالم الجليل المعز بن عبد السلام ، وابن رفعة ، وابن جماعة ، وغيرهم من الفقهاء الأعلام.
وأيضا فإن تتابع
الحوادث في هذا العصر ، وتقلبات الليالي ، وصروف
__________________
الأيام ، جعل
علماء المسلمين ، يرصدون هذه الحوادث بدقة ، ويتتبعون جزئياتها ، بعين لماحة وفكر
متقد ، لتتخذ من ذلك الأجيال اللاحقة دروسا وعبرا ، فظهر المؤرخون العمالقة ،
أمثال العماد ابن كثير في موسوعته التاريخية (البداية والنهاية) وابن حجر
العسقلاني في كتابيه المحلقين (الدرر الكامنة في أعيان المائة
الثامنة). وكتاب (أنباء الغمر) وابن خلدون (مفخرة العرب) في
دائرة معارفه الكبرى المسماة (العبر) وديوان (المبتدأ والخبر في تاريخ العرب
والعجم والبربر) وغير هذا كثير. ولو ذهبنا نعدد صنوف المعرفة التي أنتجتها عقول
المفكرين في هذا العصر ، لأعيانا الحصر والعد ، ويكفي أن نقول في النهاية ، إن عصر
التفتازاني العلمي هو عصر عمالقة الرجال ، وأفذاذ المفكرين الأبطال.
__________________
الحالة الاجتماعية
لا أحد ينكر أن
موارد العالم الإسلامي كثيرة ومتنوعة ، وأرضه خصبة ومنتجة ، وأهله يميلون إلى
العمل ، وإلى السعي في الأرض ، والضرب في فجاجها ، ولكن ما حل في القرن السابع
الهجري ، من سقوط الخلافة الإسلامية في بغداد عام ٦٥٦ ه على يد المغول والتتار ،
ثم ما حاولته الصليبية في الغرب ، من انتهاز ضعف المسلمين ، وشن الغارات عليهم ،
الواحدة بعد الأخرى ، قد أضعف موارد البلاد وأنهك اقتصادياتها ، فمزارعها
وحدائقها وبساتينها نهبا مباحا للجيوش المغيرة ، وكلأ سهلا أمام شراسة الهجمات ،
من قوم لا يؤمنون بعقيدة ، ولا يهتدون بوحي ، الأمر الذي جعلهم يتسلطون على
الأهالي الآمنين ، تسلط الذئاب المفترسة للقطيع الوديع ، والذي جعل الكثير من
أفراد الشعب تفضل الموت جوعا وعطشا في منازلهم ، على الموت في مزارعهم أو حوانيتهم
بيد المغيرين المتسلطين.
ويصور لنا العماد
ابن كثير ما حدث في سنة ٧١٨ ه فيقول :
«قل المطر في بلاد
الجزيرة والموصل ، فحصل الجدب والقحط ، وارتفعت الأسعار ، وعدمت الأقوات ، بحيث
أكلوا كل ما وجدوا من الجمادات
__________________
والحيوانات. ولما
قلت الأموال التي يشترون بها ، ما يسدون به رمقهم ، باعوا كل شيء يملكونه حتى
أولادهم وأهليهم ، وبيع الولد في ذلك الحين بخمسين درهما ، بل وبأقل من ذلك. وما
حدث في الجزيرة والموصل ، حدث مثله في مصر والشام ، ومكة والمدينة ، واشتد الأمر
على الناس حتى أكلوا الكلاب والحمير والخيل والبغال ، ولم يبق شيء من الدواب عند
أحد من الناس ، وبيع الكلب في ذلك الوقت بخمسة دراهم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذه صورة الحياة
الاجتماعية في القرن الثامن الهجري ، تؤلم القلوب ، وتدمع العيون ، وتوقظ
الإنسانية من غفلتها ، وتدفعها إلى تصور البلاء الذي يصيب الله به عباده ، إذا ما
ابتعدوا عن نهجه القويم ، أو تهاونوا في تكاليفه العظيمة ، أو سلكوا مسالك الشيطان
، أو أغرتهم قوتهم ، فظنوا أنهم هم القادرون والمسيطرون ، وصدق الله في قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً) .
__________________
سعد الدين التفتازاني
اسمه ونسبه ـ مولده – نشأته
اعداده الفكري وتكوينه العلمي
شيوخه وأساتذته ـ آثاره ومؤلفاته
اسمه ونسبه
تتفق الكثرة
الكثيرة من أصحاب كتب التراجم على أنه هو : مسعود بن عمر ابن عبد الله التفتازاني.
ذكر ذلك الإمام السيوطي في كتابه (بغية الوعاة) فهو عنده مسعود بن عمر بن عبد الله التفتازاني. وكذلك صاحب
(شذرات الذهب) وطاشكبري زاده في كتابه (مفتاح السعادة) والإمام البغدادي في (هدية العارفين) .
ويكاد ينفرد
العلامة ابن حجر في كتابه (أنباء الغمر) وفي موضع آخر من كتابه (الدرر الكامنة) من أن اسمه هو (محمود) بدلا من مسعود وهذا مما لا نوافقه
عليه ، ولا ندري كيف وقع العلامة الكبير ، المدقق الحصيف ، في تحريف اسم أحد
الأعلام الذي تزدان المكتبة العربية والإسلامية بذخائر كتبه ومؤلفاته ، وإن كنا
نرجع ذلك إلى التصحيفات ، والتحريفات التي يقع فيها كثير من نساخ المخطوطات ،
بالإضافة إلى التحريفات التي يعتمدها بعض الأفراد رغبة في النكاية والتشهير.
__________________
مولده
المتصفح لكتب
التراجم يجد تاريخين لمولد السعد ، والاختلاف في تاريخ ولادة الأعلام ووفاتهم ،
يكاد يكون ظاهرة عامة لا يخلو منها كتاب من كتب التراجم. فمثلا : صاحب الترجمة
التي بين أيدينا. يذكر عنه طاشكبري زاده ، أنه ولد في صفر سنة ٧٢٢ ه وهذا التاريخ يؤكده طاشكبري
زاده لأنه نقله عن فتح الله الشرواني تلميذ التفتازاني والذي ذكر في أوائل شرحه
لكتاب أستاذه (الإرشاد) أنه زار مرقده بسرخس فوجد مكتوبا عليه «ولد عليه الرحمة
والرضوان في صفر سنة ٧٢٢ ه» ويؤيد هذا التاريخ أيضا الذي ذكره فتح الله الشرواني
أنه وجد مكتوبا على ظهر بعض نسخ المطول ، وينقل هذا عن صاحب (روضات الجنات) حيث يقول إن هذا التاريخ وجدته على بعض نسخ المطول القديمة
، ويوافقه أيضا الشيخ البهائي فيقول :
ولد العلامة
التفتازاني في صفر سنة ٧٢٢ ه. وتوفي سنة ٧٩٢ ه فكان عمره ٧٠ سنة. ويؤكد هذا
التاريخ الإمام البغدادي في (هدية العارفين) والشوكاني في (البدر الطالع) ، واللكنوي في (كتائب أعلام الأخيار). ودائرة المعارف الإسلامية وأرمنيوس فنبري في (تاريخ بخارى) .
__________________
وجورج زيدان في (تاريخ
آداب اللغة العربية) وهناك رأي آخر يتزعمه ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة) حيث يقرر أنه ولد سنة ٧١٢ ه ويقول : إن هذا ما وجد بخط
ابن الجزري ، ونقل عنه هذا التاريخ الإمام السيوطي في كتابه (بغية الوعاة) ، وابن العماد في (شذرات الذهب). وذكره أيضا ابن تغرى بردى في (المنهل الصافي).
من هنا تأتي حيرة
الباحث المدقق ، ويتساءل بينه وبين نفسه : أي الرأيين أقرب إلى الصواب؟ وأيهما
يرجح؟ لأن الاختيار في مثل هذه الحالة ، أو الترجيح بين الآراء لا يتم في العادة
إلا من خلال أدلة قوية ، ترجح أحد القولين على الآخر ، ونحن نميل إلى ترجيح الرأي
الأول اعتمادا على ما ذكر في كثير من كتب التراجم. أن أول كتاب ألفه السعد هو كتاب
شرح التصريف. وكان عمره آنذاك ست عشرة سنة ، وكان ذلك سنة ٧٣٨ ه ، وكذلك ذكر
الخونساري. أن سعد الدين شرع في تأليف شرحه المطول على التلخيص في أواسط سنة ٧٤٢ ه
، وفرغ منه سنة ٧٤٨ ه. وقال : وكان عمره حين الشروع عشرين سنة ، وهذا كله يؤكد أن
مولده كان سنة ٧٢٢ ه ، وأيما كان الأمر ، فلقد ولد التفتازاني ، وعاش عيشة ممتدة
طويلة ، بلغت السبعين عاما ، قام فيها بأعمال خالدة ، وترك فيها بصماته المضيئة
المنيرة على جبهة التاريخ ، وإذا كان ذلك كذلك ، فكيف كانت نشأته ..؟
__________________
نشأته
ولد التفتازاني
بقرية تفتازان ، التابعة لمدينة (نسا) وهي مدينة بخراسان. تحيط بها سرخس ، ومرو ،
ونيسابور ، ويعلل العلماء سبب تسميتها بهذا الاسم أن المسلمين لما وردوا خراسان
قصدوها ، فبلغ أهلها أخبار الجيش المغير الفاتح ، فهربوا ، ولم يتخلف بها غير
النساء ، فلما أتاها المسلمون لم يجدوا فيها رجلا واحدا فقالوا : هؤلاء نساء ،
والنساء لا يقاتلن ، فننسى أمرها الآن إلى أن يعود رجالهن فتركوها ومضوا ، فسميت
بذلك (نسا) والنسبة الصحيحة إليها (نسائي) وقيل نسوي أيضا.
وهذه المدينة كانت
ملتقى أبناء المسلمين النازحين إليها لحفظ القرآن ، والتفقه في أمور الدين ، ولقد
ترك التفتازاني قريته الصغيرة ، ورحل إلى (نسا) ولا ندري كم من الأعوام قضاها في
تلك المدينة؟ ، ولا الحلقات الأولى التي تلقى فيها قواعد الخط ، وإملاء الكتابة ،
واستظهار القرآن ، والتفقه في أمور الدين ..؟
لا شك أنه عاش
فيها فترة يهملها التاريخ تماما ، حتى يحدثنا ابن العماد الحنبلي بأنه يترك (نسا)
وينتقل فجأة إلى سمرقند ، ويظهر ظهورا بارعا في حلقة العضد مع طلاب كبار ، ودعوا
عهد الطفولة ، وأخذوا يعبون من المعرفة عبا ، ويصاولون أستاذهم في أقيسة أرسطو ،
وشذرات ابن سينا ، وتهويمات الفارابي في مدينته الفاضلة ، ويصبون اللعنات على
أفلاطون لقوله بنظرية العقول
العشرة ، كم بقي
التفتازاني في سمرقند؟ إننا لا نكاد نعلم شيئا عن الفترة الأولى التي قضاها في
سمرقند ، حتى إذا كان عام ٧٤٢ ه ينتقل فجأة إلى جرجانية ، وهي مدينة عظيمة على
شاطئ نهر جيحون. وأهل خوارزم يسمونها بلسانهم (كركانج) فعربت إلى الجرجانية. يصفها
صاحب معجم البلدان بأنها أعظم المدن التي رآها ، وأكثرها أموالا ، وأحسنها أحوالا.
دخل التفتازاني
هذه المدينة ، وهو عالم كبير تسبقه شهرته ، لشرحه كتاب التصريف للزنجاني ، ولقد
أعجبه المقام في هذه المدينة ، وعكف على التأليف والتصنيف ، وأصبح له طلاب وتلاميذ
يتسابقون إليه ، ويجنون الثمار من بين يديه ، وفيها أتم كتابه (المطول على التلخيص).
ما كاد يهل عام
٧٤٨ ه حتى قرر الرحيل من الجرجانية إلى بلدة (هراة) وهي مدينة عظيمة مشهورة من
أمهات مدن خراسان. فيها بساتين كثيرة ، ومياه غزيرة ، وخيرات وفيرة حتى قال شاعرها
أحمد السامي الهروي.
هراة أرض خصبها
واسع
|
|
ونبتها اللقاح
والنرجس
|
ما أحد منها إلى
غيرها
|
|
يخرج إلا بعد ما
يفلس
|
ويقول الأديب
البارع الزوزني :
هراة أردت مقامي
بها
|
|
لشتى فضائلها
الوافرة
|
نسيم الشمال
وأعنابها
|
|
وأعين غزلانها
الساحرة
|
وكانت (هراة) في
ذلك مملوءة بالعلماء وبأهل الفضل والحكمة ، ومساجدها تضج بالمناقشات العلمية ،
وصولات العلماء ، ومختلف الآراء والأفكار ، ومن علماء (هراة) الحسين بن إدريس
الهروي المحدث. روى عنه ابن حبان. وللحسين هذا كتاب في التاريخ صنفه على حروف
المعجم.
إلى هذه المدينة
التي تموج بكل أنواع الحياة ألقى السعد رحله فيها ، وكان يتأبط كتابه الضخم (المطول
على التلخيص) والذي كتبه في جرجانية فأهداه إلى ملك (هراة) معز الدين أبو الحسين
بمجرد دخوله إلى المدينة.
فهل ترى
التفتازاني طابت نفسه ، وهدأت روحه بمقامه بالقرب من البساتين الفواحة بالعطر ،
والحدائق المليئة بالأرج؟ غالب الظن أنه لم يكن هادئ البال ، ولا مستريح الفكر ،
لأننا لم نجد له إنتاجا يذكر في هذه المدينة ، أم إنه كان هادئ البال ومستريح
الفكر ، ونعيم الحياة ، ورغد العيش يغريان بالكسل ، ويدفعان إلى التراخي ..؟ أربع
سنوات كوامل قضاها في (هراة) كيف كان يشغل وقته؟ وفي أي الأعمال كان يقدح فكره؟
إننا نفاجأ به يغادر هراة من غير دواع دعته إلى المغادرة والهجرة ، حيث يسرع السير
إلى بلدة (حام) ولقد طاب له فيها المقام واستقر بها النوى ، ويفرغ فيها من كتابه (شرح
الشمسية) في المنطق عام ٧٥٢ ه ثم يتركها إلى غيرها. فمتى ترك بلدة (حام) وإلى أي
البلاد كانت وجهته؟ لا نستطيع أن نحدد تاريخا ثابتا لمفارقته لهذه البلدة. ولكن
ابن العماد الحنبلي في كتابه (شذرات الذهب) يحدثنا عن وجوده فجأة عام ٧٥٦ ه. في (غجدوان)
وهي من قرى بخارى ، ولقد أتم فيها كتابه (المختصر على التلخيص) ولا يطيب له المقام
في بلدة (غجدوان) أكثر من عامين ينتقل بعدها إلى (كلتستان) إحدى مدن (تركستان)
وفيها يفرغ من كتابه (التلويح على توضيح غوامض التنقيح) ويبقى في (كلتستان) عاما
واحدا ليعود منها مرة أخرى إلى (هراة) عام ٧٥٩ ه حيث يشرع في تأليف كتابه (فتاوى
الحنفية) ثم يترك (هراة) إلى جرجانية حيث يطيب مقامه فيها فيستقر حوالي عشر سنوات
، وفي الحقيقة كانت هذه العشر أخصب سني حياته ، حيث كتب (شرح العقائد النسفية) سنة
٧٦٨ ه. وفرغ من (الإرشاد في النحو) سنة ٧٧٤ ه كما ذكره الشوكاني وابن العماد
واللكنوي أو سنة ٧٧٨ ه كما ذكره (طاشكبري زاده) ويروي (خواندمير) أنه لما غزا (تيمور)
خوارزم ولعل ذلك بين عامي ٧٨٠ ه ٧٨١ ه ١٣٧٩ م طلب ملك محمد السرخي بن ملك معز
الدين حسين كرت إلى ابن أخيه بير محمد غياث الدين بير علي. وكان يومئذ من بطانة
تيمور أن يستأذن مولاه في إيفاد التفتازاني إلى سرخس ، فأذن تيمور ، ولكنه عرف بعد
ذلك فضله في العلم ، فأرسل إليه يستقدمه إلى سمرقند ، وقعد التفتازاني أول الأمر
عن إجابة دعوته ، معتذرا بأنه يتهيأ للسفر إلى الحجاز فأرسل إليه يدعوه ثانية ،
فانتقل
إلى سمرقند ،
وأكرم تيمور وفادته. وفي سمرقند ألف كتابه العظيم (المقاصد) عام ٧٨٤ ه الموافق
١٣٨٣ م. ثم غادر سمرقند إلى سرخس وتولى التدريس فيها عام ٧٨٥ ه وشرع في تأليف
كتابه (تلخيص الجامع) ولم تطل إقامته في سرخس ، ولم يستقر مقامه فيها ، بل عاد
سريعا إلى سمرقند حيث ماء النهر العذب ، وحيث القنوات التي تجري بالماء ، وحيث
البساتين التي تغطي أبنية المدينة ، ولا يخلو دار من دورها ، إلا وبه بستان وعيون.
عاد لبلد العلم
والعلماء حيث حلقات الدرس ومدارس العلم ، وأندية الثقافة والمعرفة ، عاد ليشارك في
جدل العلماء ، وعلم الحكماء ليصلوا في النهاية إلى الرأي الأمثل ، والحكمة البالغة
، التي تنير لهم ، ولمن يأتي بعدهم من أجيال وأجيال دروب المعرفة ، وساحات العقول.
وفي سمرقند أكمل
كتابه (تهذيب المنطق) وشرح القسم الثالث من المفتاح. وفي عام ٧٨٩ شرع في كتابة
حاشيته على الكشاف فأتمها في العام نفسه.
ثم ما ذا؟
لقد كانت سمرقند
هي نهاية المطاف التي أطبقت بليل دامس على حياة هذا العملاق حيث بلغ الكتاب أجله.
ولكن كيف كانت وفاته ..؟ وما ذا يقرر العلماء في نهاية هذا العملاق ..؟ إن لذلك
قصة.
إعداده الفكري وتكوينه العلمي
المدرسة الأولى التي تلقى فيها علمه
هل نستطيع أن نحدد
وسائل التعليم التي تلقى فيها التفتازاني دروسه الأولى ، وهل نستطيع أن نتعرف على
المدارس التي قضى فيها حقبة من حياته ..؟ إذا أردنا ذلك فعلينا أن نتعرف على وسائل
التعليم التي كانت منتشرة في ذلك العصر ، وبالجملة ، فلا بد أن نلقي ضوءا على هذه
الوسائل التي كانت قائمة ومنتشرة في العالم العربي والإسلامي.
إن أوثق المصادر
التي بين أيدينا تعتبر أن الكتاب كان ولا يزال هو الوسيلة الغالبة لتعليم أطفال
المسلمين ، ويقرر (جولد زهير) في دائرة معارف الأديان والأخلاق : أن كتاب تعليم
القرآن ومبادي الدين الإسلامي قد أنشئ في عهد مبكر ، وأنه يرجع إلى صدر الإسلام ،
ويدعم رأيه بالأسانيد الآتية :
أولا : أرسلت أم
سلمة زوجة الرسول صلىاللهعليهوسلم مرة إلى معلم كتاب تطلب منه أن يرسل لها بعض تلاميذ كتابه
ليساعدوها في ندف الصوف وغزله.
ثانيا : مر ابن
عمر وأبو أسيد في مناسبة ما بكتاب ، فلفت إليهما أنظار التلاميذ.
وهناك منهج لتعليم
أطفال المسلمين بعامة قرره عمر بن الخطاب ، وبعث به إلى ساكني الأمصار وهو :
__________________
«أما بعد فعلموا
أولادكم السباحة والفروسية ورووهم ما سار من المثل ، وحسن من الشعر».
وكان ابن التوأم
يقول : «من تمام ما يجب على الآباء من حفظ الأبناء أن يعلموهم الكتابة والحساب
والسباحة».
ولما أنشئت
الكتاتيب أصبح القرآن الكريم نقطة الارتكاز في هذه الدراسة ، فيوصي الغزالي بأن «يتعلم
الطفل في المكتب القرآن الكريم ، وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم ، ثم
بعض الأحكام الدينية والشعر».
ويضيف ابن مسكويه «مبادي
الحساب. وقليلا من قواعد اللغة العربية». أما الجاحظ فيضع منهجا مفصلا هاك بعضه :
«ولا تشغل قلب
الصبي بالنحو إلا بقدر ما يؤديه إلى السلامة من فاحش اللحن ، ومن مقدار جهل العوام
في كتاب إن كتبه ، أو شعر إن أنشده ، وشيء إن وصفه ، وما زاد على ذلك فهو مشغل عما
هو أولى به. كرواية الخبر الصادق ، والمثل الشاهد ، والمعنى البارع ويعرف بعض
الحساب دون الهندسة والمساحة ، ويعلم كتابة الإنشاء بلفظ سهل وعبارة حلوة».
ويعقد ابن خلدون
في مقدمته فصلا عنوانه : تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه ،
قال فيه :
«تعليم الولدان
القرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما
يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده بسبب آيات القرآن ومتون الأحاديث ، وصار
القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات واختلفت طرقهم في
تعليم القرآن للولدان ، فأما أهل الغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم
القرآن فقط مع العناية برسمه واختلاف جملة القرآن فيه ولا يخلطون ذلك بسواه في
مجالس تعليمهم لا من حديث ، ولا من فقه ، ولا من شعر ، ولا من كلام العرب».
وأما أهل الأندلس
فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو ، وهذا
الذي يراعونه في
التعليم ، فلا يقتصرون على القرآن بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر ،
والترسل ، وأخذهم بقوانين العربية ، وتجويد الخط.
وأما أهل إفريقيا
فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم
الدينية ، وتلقين بعض مسائلها ، إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه
أكثر. وعنايتهم بالخط تبع لذلك.
وإذا كان للكتاب
هذه الصفة من التعليم والتوجيه ، وكان لها دورها الإيجابي في إشاعة المعرفة وإقامة
دعائم الثقافة ، فإن حوانيت الوراقين كان لها دور أيضا لا يقل عن دور الكتاب ، لأن
بائعي الكتب لم يكونوا مجرد تجار ينشدون الربح ، وإنما كانوا ، في أغلب الأحايين
أدباء ذوي ثقافة ، يسعون للذة العقلية من وراء هذه الحرفة ، وقد حفلت قائمة أسماء
الوراقين بشخصيات لامعة ، كابن النديم صاحب الفهرست ،
وعلي بن عيسى المعروف بابن كوجك ، وكياقوت مؤلف معجم الأدباء ، ومعجم البلدان.
ويروي أبو الحاج
عن بعض شيوخه أن رجلا رحل في طلب العلم إلى بغداد ، فقرأ ما شاء الله ، ثم أراد
الانصراف إلى وطنه فاكترى دابة يركبها ليخرج من البلدة. ولكنه وقف ليشتري صاحب
الدابة بعض حاجاته فسمع الطالب نقاشا علميا يدور بين اثنين من أصحاب الحوانيت
للتجارة فطلب الطالب من صاحب الدابة إعادته إلى بغداد قائلا : إن بلدا باعته في
هذه المنزلة من العلم لا ينبغي أن يرحل عنه .
وما حدث في بغداد
كان يحدث مثيله في القاهرة ، ودمشق ، والقيروان ومكة
__________________
والمدينة كما يصور
ذلك المقريزي .
ويصور الجاحظ مهمة
الكتاب وأثره في دنيا الناس ماضيهم وحاضرهم ومدح فيقول :
«ولو لا الكتاب لا
ختلت أخبار الماضين وانقطعت آثار الغائبين ، وإنما اللسان للشاهد لك والقلم للغائب
عنك ، والماضي قبلك ، والغابر بعدك فصار نفعه أعم ، والدواوين إليه أفقر ، والملك
المقيم بالواسطة لا يدرك مصالح أطرافه ، وسد ثغوره ، وتقويم سكان مملكته إلا
بالكتاب ، ولو لا الكتاب لما تم تدبير ، ولا استقامت الأمور ، وقد رأينا عمود صلاح
الدين والدنيا إنما يعتدل في نصابه ، ويقوم على أساسه بالكتاب والحساب».
وإذا كان للكتاب
دوره أيضا في التعليم والثقافة وتبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم. فلقد كان للمسجد
أيضا دور الريادة والقيادة في كل جوانب التعليم المختلفة بل وشئون الحياة.
وكان أول مسجد في
الإسلام هو مسجد قباء الذي نزل فيه قول الله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ
عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ
يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) .
والحديث عن المسجد
في الحقيقة هو حديث عن الجامعة الرئيسية لنشر أنواع المعرفة والثقافة الإسلامية
بشتى طرقها وتباين شعبها.
والراصد للمساجد
في الأمصار الإسلامية يرى أن حلقات الدرس نشأت في المسجد واستمرت كذلك على مر
السنين والقرون ، وفي مختلف البقاع دون
__________________
انقطاع ، وقد توسع
المسلمون في عصورهم الأولى في فهم مهمة المسجد ، فاتخذوه مكانا للعبادة ومكانا
للتعليم ، ودارا للقضاء ، وساحة تتجمع فيها الجيوش ، ومنزلا لاستقبال السفراء.
ومن أجل ذلك توسع
المسلمون في بناء المساجد ، فبنى عمرو بن العاص مسجده في القاهرة سنة ٢١ ه ، وفي
عهد مبكر جدا جلس فيه سليمان بن عز التجيبي ليعظ الناس ويبصرهم بأمور دينهم
ودنياهم.
وفي عام ١٤٥ ه
بنى المنصور الخليفة العباسي مسجده فأصبح قبلة أنظار الأساتذة والطلاب في ذلك
العهد .. ومما يدل على ذلك ، أن الخطيب البغدادي لما حج شرب من ماء زمزم وسأل الله
أن يحقق له ثلاث حاجات ، كان من بينها أن يتاح له أن يملي الحديث بجامع المنصور.
وقريب من هذا
التاريخ أنشئ مسجد دمشق ، والذي كان يعد واحدا من عجائب الدنيا الأربع في ذلك
العهد ، وكان مركزا هاما من مراكز الثقافة في العالم الإسلامي.
يحدثنا ابن جبير
عنه فيقول : وفيه حلقات للتدريس للطلبة ، وللمدرسين فيها إجراء واسع ، وللمالكية
زاوية للتدريس في الجانب الغربي يجتمع فيها الطلبة المغاربة ولهم إجراء معلوم ..
إلخ.
وفي سنة ٣٦٠ ه
بنى جوهر الصقلي الجامع الأزهر ، وقد خصص منذ سنة ٣٧٨ ه للدراسات والأبحاث
العلمية ، وظل من ذلك التاريخ حتى العهد الحاضر جامعة من الجامعات الأولى في
العالم الإسلامي.
ولقد فضل المسلمون
المسجد على غيره ليكون مكانا للعبادة وتلقي العلم. يقول العبدري في كتابه (المدخل)
: «أفضل مواضع التدريس هو المسجد ، لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة
، أو تخمد به بدعة ، أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى. والمسجد يحصل فيه هذا الغرض
متوفرا ، لأنه موضع الناس رفيعهم ووضيعهم ، عالمهم وجاهلهم».
ثم كانت المدارس
وكان إنشاؤها على يد الوزير نظام الملك وزر لألب أرسلان والملك شاه ، ونسبت هذه
المدارس إلى منشئها نظام الملك فعرفه باسم «المدارس النظامية» وكانت غاية في
الجلال والعظمة. ثم كانت كثيرة العدد شملت الأمصار والبلدان.
هذه صورة تكاد
تكون موجزة عن وسائل التعليم والمعرفة في المجتمع الإسلامي ، من بداية القرن الأول
الهجري ، إلى نهاية القرن السادس منه ، ولقد عاش سعد الدين التفتازاني في القرن
الثامن الهجري ، فهل ترى أن هناك اختلافا جوهريا قد حدث في وسائل التربية والتعليم
في ذلك العصر؟
الحقيقة : أننا
نشك أن يكون هناك اختلاف جوهري في وسائل التربية والتعليم ، وبناء على هذا فالإمام
التفتازاني فتح عينيه على الوسيلة التي يتبعها أبناء المسلمين في تعليمهم وتثقيفهم
في ذلك العصر ، ألا وهي الكتاب .. ولكن متى وطأت أقدامه عتبة أول كتاب يدخله ..؟
وما هي المدة التي قضاها فيه ..؟ وفي أي من السنوات استظهر كتاب ربه ..؟ كل هذه
الأشياء لا نستطيع الإجابة عليها ، لأن كتب التاريخ لم تتعرض لطفولته في هذا السن
المبكر ، ولكننا نتصور ، أنه لم يبق وقتا طويلا في الكتاب ، بل كان يتردد كثيرا
على حوانيت الكتب ، وأماكن الوارقين. وهنا يلتفت التاريخ إلى السعد عند ما يدلف
إلى أحد المساجد في سمرقند ، ليتابع في شوق ولهفة مع العديد من الطلاب ، الكلمات
القوية الجياشة من فم العالم الجليل عضد الدين الإيجي.
لقد انضم
التفتازاني إلى حلقة الإيجي العملاقة التي يتصاول فيها ، علم الكلام مع المنطق ،
والبيان مع البديع ، وعلم الأصول مع حقائق التنزيل ، ولكن كانت بضاعته من هذه
العلوم قليلة محدودة ، بل كان يوصف بين زملائه ببلادة الذهن. وبلاهة العقل ، وتحجر
الفؤاد.
يقول صاحب شذرات
الذهب : كان سعد الدين في ابتداء طلبه بعيد الفهم جدا ولم يكن في جماعة العضد أبلد
منه ، ومع ذلك فكان كثير الاجتهاد ، ولم يؤيسه جمود فهمه من الطلب ، وكان العضد
يضرب به المثل بين جماعته في
البلادة. فاتفق أن
أتاه إلى خلوته رجل لا يعرفه ، فقال له : قم يا سعد الدين لنذهب إلى السير.
فقال : ما للسير
خلقت. أنا لا أفهم شيئا مع المطالعة ، فكيف إذا ذهبت إلى السير ولم أطالع ..؟
فذهب وعاد وقال له
: قم بنا إلى السير ، فأجابه بالجواب الأول ، ولم يذهب معه فذهب الرجل وعاد وقال
له مثل ما قال أولا.
فقال : ما رأيت
أبلد منك ، ألم أقل لك : ما للسير خلقت؟
فقال له : رسول
الله صلىاللهعليهوسلم يدعوك ، فقام منزعجا ولم ينتعل ، بل خرج حافيا ، حتى وصل
إلى مكان خارج البلد به شجيرات ، فرأى النبي صلىاللهعليهوسلم في نفر من أصحابه تحت تلك الشجيرات ، فتبسم له وقال : نرسل
إليك المرة بعد المرة ، ولم تأت ، فقال : يا رسول الله ما علمت أنك المرسل ، وأنت
أعلم بما اعتذرت به من سوء فهمي ، وقلة حفظي ، وأشكو إليك ذلك.
فقال له رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : افتح فمك ، وتفل له فيه ، ودعا له ثم أمره بالعودة إلى
منزله ، وبشره بالفتح ، فعاد وقد تضلع علما ونورا ، فلما كان من الغد أتى إلى مجلس
العضد ، وجلس مكانه ، فأورد في أثناء جلوسه أشياء ظن رفقته من الطلبة أنها لا معنى
لها ، لما يعهدون منه ، فلما سمعها العضد بكى وقال : أمرك يا سعد الدين إليّ فإنك
اليوم غيرك فيما مضى. ثم قام من مجلسه وأجلسه فيه ، وفخم أمره من يومئذ .
كم كان عمره عند
ما حدث له ذلك ..؟ لا شك أنه لم يبلغ الخامسة عشر.
__________________
لأنه ألف أول كتاب
له ، ووافقه عليه العلماء واستقبلوه بالإحسان ، وهو في سن السادسة عشر.
هذه نبذة مختصرة
عن المدرسة الأولى التي تلقى فيها العلم سعد الدين التفتازاني ، وتقتضينا طبيعة
البحث أن نتكلم عن شيوخه وأساتذته الذين كان لهم دور فعال في تنظيم عقله ، وإنضاج
فكره. وبالله التوفيق.
شيوخه وأساتذته
اهتم المسلمون
اهتماما كبيرا بتلقي العلم عن الأساتذة والمدرسين ، وكرهوا كراهة شديدة ، أن يتلقى
الطالب العلم عن الكتب والقراطيس وحدها ، وكان الشيخ الجليل ابن جماعة يقول : من أعظم البلية تشيخ الصحيفة. أي أن يتعلم الناس من
الصحف والكتب وحدها.
وورد في كتاب
الشكوى . من لا شيخ له فلا دين له. ومن لم يكن له أستاذ فإمامه
الشيطان ، وروي عن مصعب بن الزبير رضي الله عنه أنه كان يقول : إن الناس يتحدثون
بأحسن ما يحفظون ، ويحفظون أحسن ما يكتبون ، ويكتبون أحسن ما يسمعون ، فإذا أخذت
الأدب فخذه من أفواه الرجال ، فإنك لا تسمع إلا مختارا ، ولؤلؤا منثورا .
وروي عن الإمام
الشافعي قوله : من تفقه من بطون الكتب ، ضيع الأحكام .
من أجل ذلك اختار
سعد الدين التفتازاني مجموعة من الأساتذة. ومن مشايخ عصره ممن كان يوثق بهم ، ولهم
بحث وطول اجتماع ، وتقتضينا طبيعة البحث أن نلقي ضوءا على بعض هؤلاء الرجال
الأفذاذ.
__________________
١ ـ عضد الدين
الإيجي :
هو عضد الدين عبد
الرحمن بن ركن الدين عبد الغفار البكري الشبانكاري فقيه شافعي ، ومتكلم أشعري.
اختلف في تاريخ
ولادته فصاحب الدرر الكامنة يرى أنه ولد في (إيج) من نواحي شيراز بعد السبعمائة. في
حين ترى دائرة المعارف الإسلامية بأنه ولد على الأرجح بعد عام ٦٨٠ ه ـ ١٢٨١ م ، وبدأ تعلمه
الديني بين تلاميذ البيضاوي خاصة. وأخذ عن مشايخ عصره ، ولازم الشيخ زين الدين
الهنكي تلميذ البيضاوي وغيره ، وكانت أكثر إقامته بالسلطانية. يقول بروكلمان : .
«دعاه آخر
الإيلخانه أبو سعيد ٧١٦ ـ ٧٣٦ ه ـ ١٣١٦ ـ ١٣٣٦ م إلى بلاطه في سلطانه وأقامه قاضي
المماليك». والراجح أن ذلك تم بناء على مشورة أبداها وزيره غياث الدين محمد بن
رشيد الدين ٧٢٨ ـ ٧٣٦ ه ـ ١٣٢٨ ـ ١٣٣٦ م وكان الإيجي قد تعرف به.
وكان إماما في
المعقول قائما بالأصول والمعاني والعربية مشاركا في الفنون ، وبعد أن قتل غياث
الدين ووفاة أبي سعيد. ظهر الإيجي بوصفه قاضيا لشيراز في بلاط أبي إسحاق اينجو.
ولما كان مبارز
الدين المظفري يدبر أمر غزو مملكة أبي إسحاق ليخص بها نفسه. حاول الإيجي بوصفه
نائب أبي إسحاق أن يوفق بين الطرفين فلم يظفر بطائل.
وكان مبارز الدين
المظفري قد نزل عليه ضيفا أيام في (شاتكاره) ثم عاد الإيجي مرة أخرى إلى شيراز سنة
٧٥٤ ه ـ ١٣٥٣ م.
__________________
وكان الإيجي صاحب
مدرسة أنجب فيها تلامذة عظاما اشتهروا في الآفاق مثل شمس الدين الكرماني.
وضياء الدين
العفيفي.
وسعد الدين
التفتازاني. وغيرهم كثير.
ووقع بينه وبين
الأبهري منازعات وخصومات. اتهمه فيها الأبهري بأشياء كثيرة.
وفي عام ١٣٥٣ م
رحل الإيجي إلى شبانكاره وفيها زاره شاه شجاع ابن مبارز الدين بعد ذلك بسنة. وسجن
الإيجي سنة ٧٥٦ ـ ١٣٥٥ م في قلعة دربميان في (إيج) ، وكان سجنه فيما هو واضح متصلا
بالتمرد على مظفرية ملك أردشير آخر أتابكة شبانكاره ، وتوفي الإيجي بالسجن في
السنة نفسها.
وقد قامت شهرة
الإيجي حتى في حياته على كتاب (المواقف) في علم الكلام وهو لا يزال يستعمل إلى
اليوم أساسا لتدريس الكلام في الأزهر الشريف. وقد أهدي هذا الكتاب إلى أبي إسحاق ،
ومع ذلك فإن من الراجح أن يكون قد صنف قبل عام ٧٣٠ ه ـ ١٣٣٠ م.
ويبسط كتاب
المواقف بالأسلوب الكلامي الجامع في لغة محكمة الآراء السلفية للقرن السادس الهجري
الثاني عشر الميلادي في علم الكلام.
وهو يعتمد في
جوهره على كتاب (المحصل) لفخر الدين الرازي المتوفى ـ ٦٠٦ ه ـ ١٢٠٩ م.
وعلى كتاب آخر
يسمى (أبكار الأفكار) لسيف الدين الآمدي المتوفى سنة ٦٣١ ه ـ ١٢٢٣ م.
كما يعتمد في
مواضع من كتابه أيضا على كتاب الرازي (نهاية العقول في دراية الأصول).
مؤلفاته : ١ ـ أخلاق عضد الدين : وهو
مختصر في جزء ، لخص فيه
زبدة ما في المطولات ورتب على أربع مقالات. شرحه تلميذه شمس الدين محمد ابن يوسف
الكرماني المتوفى سنة ٧٨٦ ه.
٢ ـ آداب العلامة : شرحها محمد الحنفي التبريزي ببخارى في حدود سنة ٩٠٠ ه وعليه
حاشية المحقق مير أبي الفتح ، وشرح الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفي سنة ٨١٦ ه.
٣ ـ أشرف التواريخ : وهو مختصر من بدء الخلق وترجمه إلى التركية مصطفى بن أحمد
المعروف بعالي الشاعر المتوفى سنة ١٠٠٨ ه.
٤ ـ جواهر الكلام : وهو متن كالمواقف لكنه أقل حجما منه أوله : الحمد لله الذي علم
بالقلم إلخ. ذكر أنه ألفه لغياث الدين الوزير ، وفرغ منه في رجب سنة ٧٧٠ ه
بأصبهان.
٥ ـ رسالة في الوضع.
٦ ـ العقائد العضدية : أوله الحمد لله على نواله ، وهي مختصرة مفيدة وهي آخر تآليفه.
٧ ـ الفوائد الغياثية : في المعاني
والبيان أولها : الحمد
لله الذي خلق الإنسان وألهمه المعاني وعلمه البيان إلخ. لخصها من القسم الثالث من
مفتاح العلوم كالتلخيص ، لكنها أخصر منه كما قال : هذا مختصر يتضمن مقاصد المفتاح.
٨ ـ شرحه لكتاب : (منتهى السئول والأمل في علمي الأصول والجدل) للشيخ الإمام جمال الدين
أبي عمرو عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب المالكي المتوفى سنة ٦٤٦ ه.
٩ ـ المواقف : وهو كتاب جليل القدر رفيع الشأن ، ألفه لغياث الدين وزير
خدا بنده. واعتنى
به الفضلاء فشرحه الشريف الجرجاني المتوفى سنة ٨١٦ ه ، وشرحه شمس الدين محمد بن
يوسف الكرماني المتوفى سنة ٧٨٧ ه.
١٠ ـ جواهر الكلام : مختصر المواقف ، شرحه شمس الدين محمد الفناري شرحا مفيدا.
٢ ـ ضياء الدين
عبد الله بن سعد الله بن محمد بن عثمان القزويني :
يسمى ضياء الدين ،
ويعرف بقاضي القرم العفيفي ، الشافعي ، أحد العلماء الأجلاء.
تفقه في بلاده
وأخذ عن القاضي عضد الدين الإيجي وغيره ، واشتغل على أبيه والشيخ الخلخالي وتقدم
في العلم وكانت له حلقة للعلم يجتمع حوله فيها الطلاب ، حتى إن السعد التفتازاني
قرأ عليه وسمع منه.
لا يعرف تاريخ
مولده ، ولا تذكر كتب التاريخ شيئا عن طفولته ، إلا أنه رحل إلى المدينة وسمع من
العفيف المطري.
ويذكر صاحب شذرات
الذهب عنه أنه كان اسمه عبيد الله فغيره لموافقته اسم عبيد الله بن زياد بن أبيه
قاتل الحسين.
وكان لا يمل من
الاشتغال في طلب للعلم ، حتى في حال مشيه وركوبه وقرأ الكشاف والحاوي وحلهما حلا
إليه المنتهى ، حتى قيل إنه حفظهما. وكان يقول : أنا حنفي الأصول ، شافعي الفروع.
وكان يستحضر
المذهبين ويفتي فيهما ويحسن إلى الطلبة بجاهه وماله مع الدين المتين والتواضع
الزائد ، وكثرة الخير ، وعدم الشر. تصفه كتب التاريخ فتقول :
«كانت لحيته طويلة
جدا بحيث تصل إلى قدميه ، وكان لا ينام إلا وهي في
__________________
كيس ، وكان إذا
ركب يفرقها فرقتين. وكان عوام مصر إذا رأوه قالوا : سبحان الخالق».
فكان يقول : عوام
مصر مؤمنون حقا ، لأنهم يستدلون بالصنعة على الصانع. يقول عنه صاحب الدرر الكامنة :
«وقدم القاهرة
وحظي عند الأشرف شعبان ، وولي مشيخة البيبرسية بعد الرضي ، وتدريس الشافعية
بالشيخونية ، وغير ذلك. ولاه الأشرف مشيخة مدرسته ودرس فيها قبل أن تكتمل وسماه
شيخ الشيوخ ، وكان ماهرا في الفقه والأصول والمعاني والبيان ملازما للاشتغال لا
يمل».
كتب إليه زين
الدين طاهر بن الحسن بن حبيب :
قل لرب الندى
ومن طلب الع
|
|
لم مجدا إلى
سبيل السواء
|
إن أردت الخلاص
من ظلمة الج
|
|
هل فما تهتدي
بغير ضياء
|
فأجاب : ـ
قل لمن يطلب
الهداية مني
|
|
خلت لمع السراب
بركة ماء
|
ليس عندي من
الضياء شعاع
|
|
كيف تبغي الهدى
من اسم ضياء
|
توفي في ثالث ذي
الحجة من عام ٧٨٠ ه بالقاهرة .
٣ ـ قطب الدين
محمد بن محمد الرازي :
اختلف في اسمه
فصاحب الدرر الكامنة يقول عنه : هو محمود بن محمد الرازي المعروف بالقطب التحتاني ويوافقه على ذلك الأسنوي.
__________________
وابن كثير ، وابن
رافع ، وابن حبيب ، يقولون : هو محمد بن محمد الرازي كان أحد أئمة المعقول ، أخذ عن
العضد وغيره. وقدم إلى دمشق ، فشرح الحاوي ، وكتب على الكشاف حاشية ، وشرح المطالع
والإشارات ، قال الأسنوي : كان ذا علوم متعددة.
وقال ابن كثير :
كان أوحد المتكلمين بالمنطق وعلوم الأوائل ، وكان لطيف العبارة ، ضعيف العينين ،
وله مال وثروة.
وقال ابن حجر :
كان بحرا في جميع العلوم ، وله تصانيف مفيدة منها :
١ ـ شرح الشمسية.
٢ ـ شرح المطالع .
٣ ـ شرح الحواشي
على كشاف الزمخشري.
وغير ذلك كثير.
وكانت تصانيفه أحسن من تصانيف شيخه العلامة شمس الدين الأصفهاني .
يقول صاحب الدرر
الكامنة : رأيت له سؤالا سأل فيه تقي الدين السبكي عن قولهصلىاللهعليهوسلم :
«كل مولود على
الفطرة فأبواه يهودانه ، أو يمجسانه ، أو ينصرانه». وجواب السبكي له عما استشكل.
فنقض هو ذلك
الجواب ، وبالغ في التحقيق والتدقيق ، فأجابه السبكي وأطلق لسانه فيه ، ونسبه إلى
عدم فهم مقاصد الشرع ، والوقوف مع ظواهر قواعد المنطق ، وبالغ في ذمه بسبب ذلك.
__________________
وقد سكن القاهرة
إلى أن مات بها في ذي القعدة عام ٧٦٦ ه وقد جاوز السبعين من عمره رحمهالله .
٤ ـ نسيم الدين
أبو عبد الله :
هو محمد بن سعيد
بن مسعود بن محمد بن علي النيسابوري ، ثم الكازروني الفقيه الشافعي.
نشأ بكازرون وكان
يذكر أنه من ذرية أبي علي الدقاق ، وأنه ولد سنة خمس وثلاثين وسبعمائة ، وأن المري
أجاز له واشتغل بكازرون على أبيه ، وبرع في العربية ، وشارك في الفقه وغيره مشاركة
حسنة مع عبادة ونسك ، وخلق رضي.
فكر في أداء فريضة
الحج فسافر إلى الأراضي الحجازية ، وأقام بمكة مدة طويلة ثم أدى الفريضة سنة
اثنتين وثمانين ، وجاور بمكة نحو ست عشرة سنة.
يقال عنه : كان
حسن التعليم ، غاية في الورع والتقى ، وانتفع به أهل مكة وغيرهم من جماعة
المسلمين.
قال السيوطي رحمهالله روى لنا عنه جماعة من شيوخنا المكيين ، وتوفي في بلده عام
٨٠١ ه رحمهالله تعالى .
مؤلفاته :
١ ـ شرح التنبيه
لأبي إسحاق الشيرازي.
٢ ـ شرح الجامع
الصحيح للبخاري.
٣ ـ شرح مختصر
التنبيه لعيسى البجلي.
٤ ـ شرح الأسانيد
في رواية الكتب والمسانيد .
__________________
٥ ـ أحمد بن عبد
الوهاب القوصي :
يسمى سعد الدين
أحمد بن عبد الوهاب بن داود بن علي المحمدي القوصي. ولد ببلدة قوص في جنوب الصعيد
، ولما استقام عوده ودرس علوم الشريعة ، رحل إلى القاهرة وعاش فيها فترة ، واشتغل
بالعلوم والمعرفة ثم رحل إلى الشام ، فأقام بها فترة ، ثم ذهب إلى العراق ، وأخذ
ينتقل بين أقاليمها (تبريز وأصبهان وشيراز) وفي كل ذلك لا تذكر المراجع التي تعرضت
لحياته متى دخل هذه البلاد ، ولا متى رحل عنها ..؟ ولا أنواع الوظائف التي كان
يتقلدها ..؟ ولقد استطاع سعد الدين التفتازاني أن يتتلمذ عليه ، وأن يستفيد من
علمه. ففي كتاب شرح الأربعين للنووي ص ٤ يقول السعد عن نفسه : «أخبرني أحمد ابن
السيد عبد الوهاب المصري المحمدي سماعا عليه». وهذا هو الدليل الوحيد لتلمذة السعد
على العلامة أحمد بن عبد الوهاب القوصي يقول صاحب شذرات الذهب : «ثم استمر مقيما بشيراز بالمدرسة
البهائية إلى أن مات في ربيع الآخر سنة ٨٠٣ ه رحمهالله تعالى .
__________________
آثاره
تمهيد
تكلمنا في المبحث
السابق عن المدرسة التي تلقى فيها سعد الدين التفتازاني معارفه الأولية ، حتى صلب
عوده ، واستقام فكره ، وأصبح في عداد المفكرين الذين تفخر بهم المكتبة العربية
والإسلامية.
وقلنا بأنه مر
بمراحل متعددة ، حتى وصل إلى هذه النتيجة الباهرة ، وقسمنا وسائل المعرفة إلى
قسمين :
الأول : المكتبة العربية بكل معارفها من تفسير وحديث وبلاغة وتاريخ وفلك وطب وفلسفة
، وبقية العلوم الإنسانية.
الثاني : مجموعة من الأساتذة قلما يجود بهم الزمان. ولا نستطيع في هذه العجالة أن
نستعرض جميع أساتذته ، لأن هذا أمر تكاد لا تسعفنا به المراجع التي بين أيدينا ،
ونحن نعلم بأن الكثير من كنوز الأمة العربية ومؤلفاتها ، قد تعرض لهجمتين شرستين :
الأولى : عند ما سقطت الخلافة الإسلامية على يد التتار في عام ٦٥٦ ه فاجتاحوا
البلاد وعاثوا فيها فسادا ، وألقوا بهذه الكنوز في نهر دجلة ليقام منها جسر ليكون
معبرا لهم إلى داخل البلاد.
والثانية : عند ما تعرضت رقعة البلاد الإسلامية للاستعمار الغربي ، واستطاع
هؤلاء أن يضعوا أيديهم على تراث الأمة الإسلامية من كتب ومؤلفات ونقلوها إلى
بلادهم.
من هنا تأتي
الصعوبات أمام الباحث عند ما يطلب أحد المراجع ، ويفاجأ بأن يد الضياع قد طوته
فيما طوت من مؤلفاته وكنوز.
وهذا البحث الذي
بين أيدينا يحتوي على آثار سعد الدين التفتازاني وقد قسم إلى قسمين :
الأول : كتبه
ومؤلفاته.
الثاني : تلامذته
وطلاب المعرفة في مدرسته.
كتبه ومؤلفاته
علم الحديث
١ ـ الأربعين في
الحديث :
هذا الكتاب ذكره
صاحب كتاب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون .
٢ ـ رسالة في
الإكراه :
وهذه ذكرها صاحب
كشف الظنون عن أسامي ، الكتب والفنون ج ١ ص ٨٤٧.
التفسير
٣ ـ تلخيصه للكشاف
عن حقائق التنزيل :
للعلامة أبي
القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي ، المتوفى سنة ٥٣٨ ه ولخصه
التفتازاني من حاشية الطيبي على الكشاف مع زيادة تعقيد في العبارة ، ولم يتمها.
وقال : وصل فيها إلى سورة الفتح ، وفرغ منها سنة ٧٨٩ ه ويقال : إنه بدأ في تأليفه بسمرقند في ربيع الثاني عام
__________________
٧٨٩ ه ، وتشمل
هذه التعليقات من سورة البقرة إلى سورة هود الآية ٥٨ ، ومن سورة الزمر إلى سورة
الطلاق ، ومنه مخطوطات في برلين تحت رقم ٧٩٣. وفي المتحف البريطاني ص ٣ وفي مكتبة
وزارة الهند ، وفي غيرها من دور الكتب .
٤ ـ كشف الأسرار ،
وعدة الأبرار :
تفسير فارسي للشيخ
العلامة سعد الدين ، كشف الظنون ج ٢ ص ١٤٨٧ ، وظهر أن نسخة مخطوطة منه موجودة في
مكتبة يكى جامع (انظر فهرس هذه المكتبة ص ٨٠ رقم ٤٣).
الفقه
٥ ـ الفتاوى
الحنفية :
أفتاها (بهراة)
ذكرها صاحب كتاب كشف الظنون ج ٢ ص ١٢٢٢.
٦ ـ شرحه على
فرائض السجاوندي :
وهو الإمام سراج
الدين محمد بن محمود عبد الرشيد السجاوندي الحنفي ، ويقال لها الفرائض السراجية ،
ذكره صاحب كشف الظنون ج ٢ ص ١٢٤٨.
٧ ـ المفتاح في
فروع الفقه الشافعي :
ذكره صاحب كتاب
كشف الظنون ج ٢ ص ١٧٦٩.
وتقول عنه دائرة
المعارف الإسلامية. هو مخطوط ببرلين تحت رقم ٤٦٠٤.
٨ ـ اختصار شرح
تلخيص الجامع الكبير :
وهو موجز لم يتمه
لشرح مسعود بن محمد الفجدواني على مختصر الخلاطي لرسالة الشيباني في فروع الفقه
الشافعي المعروفة بالجامع الكبير.
ويروي صاحب روضات
الجنات أن التفتازاني بدأ في تأليفه بسرخس عام ٧٨٥ ه. ومنه مخطوط في مكتبة يكى
جامع رقم ٤٢٨ مكرر. وطبعت في دلهي
__________________
عام ١٨٧٠ نسخة (مقدمة
الصلاة) أو (الخلاصة) وهي رسالة في شعائر الصلاة نسبها بعضهم إلى الكيداني (انظر
حاجي خليفة ج ٦ ص ٨٣ مع شرح يظن أنه للجرجاني والتفتازاني ، على أنه ليس من المحقق
أن الخلاصة كانت موجودة أيام التفتازاني .
الأصول
٩ ـ التلويح في
كشف حقائق التنقيح :
وهو شرح على كتاب
تنقيح الأصول للعلامة صدر الشريعة عبيد الله ابن مسعود المحبوبي المتوفى عام ٧٤٧ ه
الموافق عام ١٣٤٦ ـ ١٣٤٧ م أتمه التفتازاني في التاسع والعشرين من ذي القعدة عام
٧٥٨ ه / ١٣٥٧ م في كلستان أوله : الحمد لله الذي أحكم بكتابه أصول الشريعة الغراء
... إلخ ، وذكر أن التنقيح مع شرحه كتاب شامل لخلاصة كل مبسوط .
طبعاته :
طبع في دلهي عام
١٢٦٧ ه الموافق ١٨٥١ م مع شرح صدر الشريعة نفسه الموسوم بالتوضيح ، وفي لكهنو عام
١٢٨١ ه الموافق ١٨٧١ م مع التوضيح ، وفي عام ١٢٩٢ ه الموافق ١٨٧٦ م مع التوضيح
وشرح التلويح لحسن جلبي ، وملا خسرو ، وزكريا الأنصاري. وفي قازان عام ١٣٠١ ه
الموافق ١٨٨٤ م مع التوضيح .
١٠ ـ شرح شرح المختصر
على كتاب منتهى السؤال والأمل في علمي الأصول والجدل :
الكتاب للشيخ
الإمام جمال الدين أبي عمرو عثمان ابن عمر المعروف بابن
__________________
الحاجب المالكي
المتوفى سنة ٦٤٦ ه.
أول الشرح : الحمد
لله الذي وفقنا للوصول إلى منتهى أصول الشريعة إلخ .
وذكر محمد بن شنب
نسخة من شرح التفتازاني الذي نحن بصدده في مادة (ابن الحاجب) من هذه الدائرة. وقد
طبعت هذه النسخة في بولاق عام ١٣١٦ ـ ١٣١٩ ه. ومن هذه الشروح مخطوطات محفوظة في
برلين رقم ٤٣٧٦ ومكتبة ـ وزارة الهند رقم ٣٠٢ ـ ٣٠٤ وفي غيرها .
فقه اللغة
١١ ـ النعم
السوابغ في شرح الكلم النوابغ :
وهو شرح على ذخيرة
الزمخشري الموسومة بالكلم. وقد طبع مقتطفات من هذا الشرح في ليدن عام ١٧٧٢ م ،
وطبع في القاهرة عام ١٢٨٧ ه.
١٢ ـ ترجمة نثرية
باللغة التركية لديوان سعدي المعروف بالبستان :
قام بها عام ٧٥٥ ه
.
النحو
١٣ ـ شرح لكتاب
العزى في التصريف :
الكتاب للشيخ عز
الدين أبي الفضائل إبراهيم بن عبد الوهاب المتوفى سنة ٦٥٥ ه وأضاف التفتازاني
إليه فوائد شريفة ، وزوائد لطيفة ، وهو أول تأليفه ، أتمه في شهر شعبان سنة ٧٣٨ ه
، وصنف السيوطي حاشية على شرح السعد ،
__________________
وسماها الترصيف
حاشية على شرح التصريف. تقول عنه دائرة المعارف : يذكر في الهند باسم السعدية.
انظر بروكلمان (كتاب المذكور ج ١ ص ٢٨٣) أتمه في السادسة عشر ، وكان ذلك (بفريومد)
في شعبان عام ٨٣٧ ه الموافق ١٣٣٨ م. ومن هذا الشرح نسخة مخطوطة في برلين رقم ٣٩
وفي غيرها .
طبعاته :
طبع في الآستانة
عام ١٢٥٣ ه وطهران عام ١٢٧٠ ه ، ضمن مجموعة ، ودلهي ١٢٨٩ ه ، ١٢٩٥ ه (مع مفتاح
السعادة لأحمد بن شاهكول). وبومباي عام ١٢٩٢ ، ولكهنو عام ١٣٠٦ ه. والقاهرة عام
١٣٠٧ ه.
١٤ ـ الإرشاد. أو
إرشاد الهادي :
ألفه سنة ٧٧٨ ه
بخوارزم لولده المكرم ، وجعله على مقدمة ، وثلاثة أقسام. المقدمة ، في تعريف النحو
والكلمة.
والقسم الأول : في
الاسم. والثاني ، في الفعل. والثالث في الحرف ، فصار متنا لطيفا ، جامعا متداولا
في أيدي أصحابه ، فشرحوه ممزوجا ، وغير ممزوج. منهم تلميذه ، شاه فتح الله
الشرواني ، والشيخ علاء الدين علي البخاري ، وعلاء الدين علي بن محمد البسطامي
المعروف بمصنفك.
ومحمد المدعو
بأمير حان التبريزي شرحه شرحا ممزوجا ، وسماه توضيح الإرشاد.
تقول دائرة
المعارف عنه. منه مخطوط في فيينا تحت رقم ٢٠٦ ، وشرح محمد بن علي الجرجاني على
كتاب الإرشاد مخطوط في برلين تحت رقم ١٧٥٤ ، ٦٧٥٥ ، وشرح شمس الدين محمد بن محمد
البخاري. محفوظ في الأسكوريال تحت رقم ١٨١ .
__________________
البلاغة
١٥ ـ الشرح المطول
:
على كتاب تلخيص
المفتاح في المعاني والبيان للشيخ جلال الدين محمد ابن عبد الرحمن القزويني
الشافعي المعروف بخطيب دمشق المتوفى سنة ٧٣٩ ه فرغ التفتازاني من تأليفه في صفر
سنة ٧٤٨ ه ثم شرحه شرحا ثانيا ممزوجا مختصرا من الأول ، زاد فيه
ونقصى ، وفرغ منه (بغجدان) سنة ٧٥٦ ه ، وقد اشتهر الشرح الأول بالمطول ، والشرح
الثاني بالمختصر ، وهي أشهر شروحه ، وأكثرها تداولا.
طبعاته :
طبع في الآستانة
عام ١٢٦٠ ه ، ١٢٨٩ ه مع حواشي الجرجاني ، ولكهنو عام ١٢٦٥ ه (الجزء الأول منه
فقط ، و١٢٨٧ ه ، ١٨٨٩ م مع مؤلف تراب على الموسوم بإزالة العضل ، وهو شرح للأبيات
المروية في المطول ، وطهران عام ١٢٧٠ ه وفي دلهي عام ١٣٢٦ ه مع المعول وهو شرح
لمحمد عبد الرحمن ، وطبع المطول طبعة فارسية عام ١٢٧٤ ه مع شروح للفناري
والجرجاني والسمرقندي ، ومحمد رضا كلبايكاني. ذكرت في فهرس دار الكتب المصرية ج ٤ ص ١٥٣. وطبعت شروح الجرجاني على المطول في (لكهنو) عام
١٣١٢ ه. أما شروح عبد الحكم السيالكوتي ، فقد طبعت بالآستانة عام ١٢٦٦ ه.
١٦ ـ مختصر
المعاني :
وهو الاسم الغالب
على شرح تلخيص المفتاح ، ويعرف أيضا ، مختصر
__________________
شرح تلخيص المفتاح
، واختصار شرح التلخيص ، أو الشرح المختصر ، أو المختصر فقط وهو شرح على المتن أتمه عام ٧٥٦ ه (١٣٥٥ ـ ١٣٥٦ م) في
غجدوان ، وأهداه إلى محمود جاني بك ، ولا يزال هذا المختصر يدرس في مدارس الشرق ،
ومنه مخطوطات عدة وله شروح كثيرة.
طبعاته :
طبع في كلكتا عام
١٨١٣ م وفي لكهنو عام ١٢٦١ ـ ١٣١٢ ه مع شرح البناني ، وفي بولاق عام ١٢٧١ ه مع
شرح الدسوقي ١٨٦٠ م.
وفي عام ١٢٨٥ ه
مع شرح البناني ، وفي كوينور عام ١٢٨٥ ـ ١٢٨٦ ه مع شرح الخطائي وقد يكون الختائي
، وفي ١٢٩٦ ه مع الشرح السابق ، وفي بيروت عام ١٢٨٥ ه ، والآستانة عام ١٣٠١ ه.
وفي عام ١٣٠١ ه مع شرح الدسوقي ، وفي لاهور عام ١٣٠٦ ـ ١٣٠٧ ه وفي دلهي ١٨٨٦ م ـ
١٣٢٤ ه ، ونشر (مهرن) مقتطفات منه في (كوبنهاجن) و (فيينا) عام ١٨٥٣ م .
١٧ ـ شرحه على
كتاب المفتاح :
للعلامة سراج
الدين أبي يعقوب يوسف بن أبي بكر السكاكي المتوفى سنة ٦٢٦ ه.
أوله : خير خبر
يوشح به صدر الكلام ... إلخ فرغ منه عام ٧٨٩ ه .
تقول عنه دائرة
المعارف : هذا الشرح من المؤلفات التي كتبها التفتازاني في أواخر عهده بالتأليف ،
فقد أتمه في سمرقند في شوال عام ٧٨٧ ه ـ ١٣٨٥ م أو ٨٧٩ ه ـ ١٣٨٧ م.
وذاع ذيوع مختصر
المعاني والمطول ، ومنه مخطوطات محفوظة في الأسكوريال رقم ٢٦ ، ومكتبة وزارة الهند
رقم ٨٤٧ ـ ٨٤٨ ، وليدن رقم ٢٩٨ ،
__________________
وكلية ترنتي
بكامبردج رقم ١٨ وفي غيرها من دور الكتب .
المنطق
١٨ ـ تهذيب المنطق
والكلام :
ألفه عام ٧٨٩ ه
أوله : الحمد لله الذي هدانا سواء الطريق.
وقال : هذه غاية
تهذيب الكلام ، في تحرير المنطق والكلام : جعله على قسمين الأول في المنطق ،
والثاني في الكلام.
شرحه العلامة :
جلال الدين محمد بن السعد الصديق الديواني سنة ٩٠٧ ه وغيره كثير .
تقول عنه دائرة
المعارف. لم يطبع القسم الثاني منه الذي قال فيه حاجي خليفة : إنه مختصر المقاصد
إلا نادرا. أما القسم الأول : فقد أقبل عليه الدارسون وطبع عدة مرات.
طبعاته :
طبع في كلكتا عام
١٢٤٣ ه مع شرح اليزدي وعام ١٣٢٨ ه مع ترجمة أردية. وعام ١٣٣٣ ه مع هذه الترجمة
الأردية ، لكهنو عام ١٢٦٠ ه مسبوقا (بايساغوجي) وفي لكهنو عام ١٨٦٩ م في مجموعة
منطق ، وفي عام ١٢٨٨ ه مقدمته فقط مع شرح الدواني وحواشي مير زاهد ، وعبد الحي
اللكهنوي. وفي عام ١٢٩٣ ه مع الشرح والتعليق نفسيهما. وعام ١٣٢١ ه مع الشرح
والتعليق أيضا ، وفي عام ١٢٩٢ مع شرح اليزدي وحواشي عبد الحي ، وفي عام ١٢٩٢ ه.
وفي عام ١٨٧٧ م مع شرح بالفارسية لمحمد بن محمود الشهرستاني.
وفي عام ١٣٢٣ ه
في مجموعة بست رسائل منطق. وفي دلهي عام
__________________
١٢٦٤ ، ١٢٧٦ ،
١٢٨٣ ، ١٢٨٤ ، وكل طبعات دلهي هذه عليها شروح اليزدي ، وفي كوينور ، من عام ١٢٨٧ ـ
١٢٨٩ في مجموعة منطق. وفي عام ١٢٩١ ه مع شرح اليزدي وحواشي لإلهي بخشى فيض بادي
عنوانها : (تحفة شاه جبهاني). وفي عام ١٢٩٦ ه كسابقه وفي عام ١٨٨١ م في مجموعة
منطق. وفي عام ١٩١٥ م مع شرح الشهرستاني باللغة الفارسية. وفي بنارس عام ١٨٩٩ م
ترجمة أردية .
١٩ ـ شرح الرسالة
الشمسية :
الرسالة لنجم
الدين عمر بن علي القزويني المعروف بالمكاتبي تلميذ نصر الدين الطوسي ت ٦٩٣ ه ،
وفرغ منه التفتازاني سنة ٧٥٣ ه ببلدة جام.
أوله : الحمد لله
الذي بصرنا بنور الهداية والتوفيق ... إلخ. حقق فيه القواعد المنطقية ، ووصل
مجملاتها ، وشرح ولي الدين الفراماني ديباجة شرح سعد الدين التفتازاني .
تقول عنه دائرة
المعارف ، ويغلب على هذا المؤلف في الهند اسم (السعدية) شأنه في ذلك شأن شرح
التصريف العزى ، وهو شرح لرسالة (الكاتبي في المنطق).
انظر كتابه
المذكور ج ١ ص ٤٦٦ أتمه في جام في جمادى الآخرة عام ٧٥٢ ه الموافق ١٣٥٦ م (انظر
الفوائد البهية) أو عام ٧٦٢ ه ١٣٦٦ م أو عام ٧٧٢ ه ١٣٧٠ ـ ١٣٧١ (انظر روضات
الجنات) ، ومخطوطات هذا الشرح محفوظة في برلين رقم ٥٢٦٦ ـ ٥٢٦٨ وفي غيرها .
__________________
علم الكلام
٢٠ ـ المقاصد في
علم الكلام :
ذكره صاحب كتاب
كشف الظنون ج ٢ ص ١٧٦٩ ، وتقول عنه دائرة المعارف : هو موجز فيما وراء الطبيعة
والكلام. أتمه المؤلف وشرحه في سمرقند في ذي القعدة عام ٧٨٤ ه والموافق ١٣٨٨ م.
وفي رواية روضات الجنات عام ٧٧٤ ه. ورد ذكر طبعة أخرى تاريخها ١٢٧٧ ه. وفي فهرس
دار الكتب المصرية ج ٢ ، ص ٢٦. ومنه مخطوطات في المتحف البريطاني ص ٩ ، وفي مكتبة
وزارة الهند رقم ٤٦١ ـ ٤٦٤ وفي غيرها .
٢١ ـ شرح العقائد
النسفية :
العقائد للشيخ نجم
الدين أبو حفص عمر بن محمد المتوفى عام ٥٣٧ ه. فرغ السعد من شرحها في شعبان عام
٧٦٨ ه ، وسمي هذا الشرح بالمختصر ، وهو يشتمل على غرر الفوائد في ضمن فصول هي
للدين قواعد.
تقول عنه دائرة
المعارف أتمه في (خوارزم) في شعبان عام ٧٦٨ ه ١٣٦٧ م وهو شرح موجز ، ويعد من
الكتب المدرسية المحبوبة ، وقد شرح هذا الشرح عدة مرات.
طبعاته :
طبع في كلكتا عام
١٢٤٤ ه ، ودلهي ١٨٧٠ م ، وفي عام ١٩٠٤ م ، لكهنو عام ١٨٧٦ م ، ١٨٨٨ م وفي عام
١٨٩٠ ـ ١٨٩٤ م وفي الآستانة عام ١٢٩٧ ه مع شرح كستلي وخيالي ، وحواشي لهشي علي
خيالي. وفي القاهرة عام ١٢٩٧ ه مع شرح خيالي وحواشي قرة خليل على الشرح. وفي
كوينور عام ١٣٣٠ ه ١٩٠٣ م. ونقل دوسون مقتطفات منه إلى اللغة الفرنسية ، وتمت
ترجمة ألمانية لشرح العقائد ، وفي استانبول وجنيف عام ١٧٩٠ م.
__________________
أما الشروح التي
كتبت عليه ، فقد طبع منها شرح خيالي في دلهي عام ١٨٧٠ م وعام ١٣٢٧ ه مع حواشي عبد
الحكم السيالكوتي ، وفي عام ١٣٢٦ ه مع الحواشي السابقة. وفي الآستانة عام ١٢٩٧ ه
مع كستلي وبهشي. وفي القاهرة عام ١٢٩٧ ه مع حواشي قرة خليل. وطبع من هذه الشروح
أيضا : شرح الحسن شاهد (أبو الحسن بن الفضل) في بهار عام ١٣٢٨ ه كما طبع شرح
رمضان أفندي في دلهي عام ١٣٢٧ ه.
٢٢ ـ الرد على
زندقة ابن عربي :
وهذا الرد على
كتابه (فصوص الحكم) وهو مخطوط في برلين تحت رقم ٢٨٩١ ـ وعلى الورقة الأولى منه
عنوان مشكوك فيه. وهو (فضيحة الملحدين) .
__________________
تلامذته وطلاب المعرفة في مدرسته
التلاميذ
١ ـ حسام الدين بن علي بن محمد
الأبيوردي (بفتح الهمزة والواو ، وسكون التحتية ، وكسر الباء ، وسكون الراء).
ولد سنة إحدى
وستين وسبعمائة بأبيورد بلدة بخراسان ، المنتقل جده إليها ، ونشأ بها ، وكان هو
وأبوه يعرف كل منهما فيها بالخطيب ولذا قيل له الخطيبي .
واشتغل بعلوم على
جماعة من الكبار ، وكان أبوه يمنعه في الابتداء من الاشتغال بالعقليات ثم أذن له ،
فسره ذلك ولازم السعد التفتازاني ملازمة جيدة ثم رحل إلى بغداد سنة ثلاثة وثمانين وسبعمائة
وقرأ بها على الشهاب أحمد الكردي ، الحاوي في الفقه ، والغاية القصوى ، ولازم فيها
الشمس الكرماني.
ثم دخل اليمن
واجتمع بالناصر ففوض إليه التدريس ببعض المدارس بتعز ، فعاجلته المنية بها عام ٨١٦
ه.
من تصانيفه
١ ـ حاشية على شرح
مطالع الأنوار للأرموي في المنطق والحكمة .
٢ ـ ربيع الجنان
في المعاني والبيان .
__________________
٢ ـ حيدر الشيرازي : هو برهان الدين حيدر بن محمد بن ابراهيم الشيرازي الخوافي.
تلميذ التفتازاني المعروف بالصدر الهروي ولد سنة ٧٨٠ ه.
قال عنه السيوطي :
كان علامة بالمعاني والبيان والعربية وأخذ عن التفتازاني .
يقول عنه السخاوي
صاحب الضوء اللامع : برهان الدين مدرس القزارية بشيراز .
من تصانيفه :
١ ـ الإيضاح في
شرح إيضاح المعاني.
٢ ـ حاشية على
الكشاف.
٣ ـ شرح فرائض
السراجية.
٤ ـ شرح المواقف
في الكلام ، وغير ذلك من المؤلفات والمصنفات الكثيرة التي تزخر بها
المكتبة العربية.
٣ ـ علاء الدين الرومي : هو علاء الدين أبو الحسن علي بن مصلح الدين ، موسى بن
ابراهيم الرومي الحنفي الشيخ العلامة.
ولد سنة ست وخمسين
وسبعمائة ، وكان فقيها بارعا مفننا في علوم شتى ، تخرج على الشريف والسعد
التفتازاني ، وحضر أبحاثهما بحضرة تيمور وغيره فكان يحفظ تلك الأسئلة والأجوبة
المفحمة ويتقنها .
يقول عنه صاحب
الشقائق النعمانية : كان رحمهالله عالما فاضلا حديد
__________________
الطبع قوي الذكاء
والبحث ، حضر دروس العلامة التفتازاني والسيد الشريف الجرجاني ، له رسالة جمع فيها
الأسئلة من فنون شتى ، وهي عندي بخط جدي رحمهالله ، وقدم إلى مصر مرات كثيرة ، ونال الحظوة والتكريم من
الملك الأشرف برسباى ، وولاه مشيخة الصوفية بمدرسته التي أنشأها فباشرها مدة ثم
تركها.
وقيل أبعده عنها
الملك الأشرف لكونه وضع يده على مال جزيل لبعض من مات من صوفيتها ولأمور فاحشة
نقلت عنه .
فخرج من مصر
متوجها إلى الحج ، وسافر من هناك إلى الروم ، ثم عاد إلى مصر في ربيع الآخر سنة
تسع وعشرين ، وأنشد أمام الملك الأشرف :
إذا اعتذر
الفقير إليك يوما
|
|
تجاوز عن معاصيه
الكثيرة
|
فإن الشافعي روى
حديثا
|
|
بإسناد صحيح عن
مغيرة
|
عن المختار : أن
الله يمحو
|
|
بعذر واحد ألفي
كبيرة
|
يقول عنه صاحب
الضوء اللامع : وكان متضلعا من العلوم ممن حضر في الابتداء مناظرات التفتازاني
والسيد بحضرة الوالي وغيره فحفظ تلك الأسئلة والأجوبة الفخمة وأتقنها ، غير أنه
كان مبغضا للناس لطيشه وحدة مزاجة وجرأته واستخفافه بمن يبحث معه.
قال العيني : كان
عالما محققا بحاثا ديّنا.
وقال المقريزي في
عقوده وغيرها : كان فاضلا في عدة علوم مع طيش وخفة وجرأة بلسانه على ما لا يليق.
مات سنة إحدى
وأربعين وثمانمائة ودفن بمقبرة باب النصر بالقاهرة
__________________
٤ ـ علاء الدين البخاري : هو علاء الدين محمد بن محمد بن محمد بن محمد البخاري العجمي
الحنفي العلامة ، علامة الوقت.
قال ابن حجر : ولد
سنة تسع وسبعين وسبعمائة ببلاد العجم ونشأ ببخارى فتفقه بأبيه وعمه العلاء عبد
الرحمن.
وأخذ الأدبيات
والعقليات عن السعد التفتازاني وغيره ، ورحل إلى الأقطار واجتهد في الأخذ عن
العلماء حتى برع في المعقول والمنقول والمفهوم والمنطوق ، واللغة العربية ، وصار
إمام عصره ، وتوجه إلى الهند فاستوطنه مدة ، وعظم أمره عند ملوكه إلى الغاية ، لما
شاهدوه من غزير علمه وزهده وورعه. ثم قدم مكة فأقام بها ، ودخل مصر فاستوطنها
وتصدر للاقرار بها فأخذ عنه غالب من أدركناه من كل مذهب ، وانتفعوا به علما وجاها
ومالا.
ونال عظمة
بالقاهرة مع عدم تردد إلى أحد من أعيانها ، حتى ولا السلطان ، والكل يحضر إليه ،
وكان ملازما للاشتغال والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والقيام بذات الله تعالى
مع ضعف كان يعتريه ، وآل أمره إلى أن توجه إلى الشام فسار إليها بعد أن سأله
السلطان الإقامة بمصر مرارا فلم يقبل ، وفي الشام أقام بها حتى مات رحمهالله في خامس شهر رمضان ، ولم يخلف بعده مثله في العلم والزهد ،
والورع ، وإقماع أهل الظلم والجور .
٥ ـ حيدر الرومي : هو حيدر بن أحمد بن ابراهيم أبو الحسن الرومي الأصل العجمي
الحنفي الرفاعي نزيل القاهرة ، ويعرف بشيخ التاج والسبع وجوه.
ولد بشيراز في
حدود الثمانين وسبعمائة ، وقرأ على أبيه وغيره ، ورحل إلى البلاد ، ووفد على ملوك
الشمس وعلمائه.
وكان ممن اجتمع به
التفتازاني والسيد الجرجاني. وقدم القاهرة سنة أربع
__________________
وعشرين بأخويه
إبراهيم الشاب الظريف والموله حيران وأمهم ، فأكرم الأشرف وفادتهم وأنزله المنظرة
المشار إليها وأنعم عليه ، واقتطعه الأراضي ، حدثت له جفوة مع الظاهر جقمق ، ولكن
ما لبث أن استرضاه.
تولي مشيخة قبة
النصر بعد صرف محمود الأصبهاني منها ، وسكنها إلى أن مرض وطال مرضه. ثم مات ليلة
الاثنين حادي عشر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وثمانمائة عن نحو السبعين ، ودفن
بباب الوزير .
٦ ـ علاء الدين
علي القوج حصاري :
يقول عنه صاحب
الشقائق النعمانية : قرأ على علماء عصره ثم ارتحل إلى بلاد العجم ، وقرأ على
العلامة التفتازاني ، والسيد الشريف ، ثم ارتحل إلى بلاد الروم.
وفي تلك البلاد
البعيدة فوض إليه تدريس بعض المواد في إحدى المدارس وصنف بعض الكتب ، منها :
١ ـ حاشية على شرح
المفتاح للعلامة التفتازاني.
ويتابع صاحب
الشقائق حديثه بقوله : ويفهم من تلك الحاشية أن له مهارة تامة في العلوم العربية ،
لأنها حاشية مقبولة أورد فيها تحقيقات كثيرة.
ولم يورد صاحب
الشقائق شيئا لا من قريب ولا من بعيد عن حياته وتاريخ مولده ووفاته. وإن كان تاريخ
الوفاة يكاد يكون على وجه التقريب في النصف الأول من القرن الثامن الهجري رحمهالله .
٧ ـ محمد بن عطاء الله بن محمد : اختلف في نسبه اختلافا بيّنا فقيل بعد ذلك هو أحمد بن محمود
بن الإمام فخر الدين محمد بن عمر.
__________________
وقيل : محمود بن
أحمد بن فضل الله بن محمد الشمس أبو عبد الله بن أبي الجود وأبي البركات الرازي
الأصل الهروي.
هكذا كان يزعم أنه
من بني الفخر الرازي ، قال شيخنا : ولم نقف على صحة ذلك ، ولا بلغنا من كلام أحد
من المؤرخين أنه كان للإمام ولد ذكر. فالله أعلم.
ولد بهراة سنة سبع
وستين وسبعمائة ، واشتغل في بلاده حنفيا ثم تحول شافعيا ، وأخذ عن التفتازاني.
اجتمع به نوروز
صاحب مملكة الشام ، وولاه تدريس الصلاحية بعد الشهاب ابن الهاشم.
وقدم القاهرة في
صفر سنة ثماني عشرة فخرج الطبغا العثماني لتلقيه وصعد به إلى القلعة وبالغ السلطان
في إكرامه وأجلسه عن يمينه ، ثم أنزله بدار أعدت له.
قال الجمال
الطيماني : إنه يحل الكتب المشكلة ويتخلص فيها ، وصنف شرح مسلم وغيره ، وبنى
بالقدس مدرسة ولم تتم .
وقال العيني : كان
عالما فاضلا متفننا له تصانيف كشرح مشارق الأنوار وشرح صحيح مسلم المسمى «فضل
المنعم» وشرح الجامع الكبير من أوائله ولم يكمله. وكان قد أدرك الكبار مثل
التفتازاني والسيد ، وصارت له حرمة في البلاد واسعة وخصوصا سمرقند وهراة ، حتى كان
الحاكم يعظمه ويحترمه ويميزه على غيره بحيث يدخل عنده في حريمه ويستشيره ، وربما
كان يرسله في مهماته ، ولذا قيل : إنه وزيره ، وليس كذلك.
وقال المقريزي :
إنه ولي القضاء وكتابة السر ، وكان يقرر في المذهبين ويعرف العربية وعلمي البيان
والبديع ، ويذاكر الأدب والتاريخ ، ويستحضر كثيرا
__________________
من الأحاديث ،
والناس فيه بين غال ومقصر.
وقال غيره : كان
شيخا ضخما طوالا أبيض اللحية مليح الشكل إلا أن في لسانه مسكة ، إماما بارعا في
فنون من العلوم ، له تصانيف تدل على غزير علمه واتساع نظره وتبحره في العلوم ،
وكان يركب بعد ولايته البغلة بهيئة الأعاجم بفرجيه وعذبه مرخية على يساره فأقام
مدة ثم لبس زي قضاة مصر وساق الأبيات التي وجدها المؤيد وأولها.
يا أيها الملك
المؤيد دعوة
|
|
من مخلص في حبه
لك يفصح
|
ثم إن غالب
الفقهاء تعصبوا عليه وبالغوا في التشنج ، ورموه بعظائم الظن ، براءته عن أكثرها ، رحمهالله رحمة واسعة.
من مصنفاته :
١ ـ تعريف الأحكام
في فروع الشافعية.
٢ ـ التمحيص في
شرح التلخيص للجامع الكبير من فروع الحنفية.
٣ ـ التنوير في
تلخيص الجامع الكبير للشيباني في الفروع.
٤ ـ شرح مصابيح
السنة للبغوي.
٥ ـ المنعم بشرح
الجامع الصحيح لمسلم
٨ ـ الشمس الكريمي : هو محمد بن فضل الله بن المجد أحمد الشمس الكريمي. (بفتح
أوله أو كسر ثانيه) نسبة لبعض مشايخ خوارزم وقيل بل لأبيه كريم الدين الخوارزمي
المولد البخاري المنشأ السمرقندي المسكن ، الحنفي ويعرف في بلاده بالخطيبي ، وبين
المصريين بالكريمي.
ولد في حدود سنة
ثلاث وسبعين وسبعمائة بخوارزم ، ثم انتقل به أبوه إلى بخارى فقرأ بها القرآن ،
وأخذ النحو عن المولى عبد الرحمن ، وكان يحضر عند التفتازاني ويأخذ منه
__________________
ثم انتقل إلى
سمرقند فأخذ المعاني والبديع عن النور الخوارزمي ثم لازم السيد الجرجاني. حتى
أخذهما مع شرح المواقف في أصول الدين ، وشرح المطالع في المنطق وحواشيه.
وقدم للقاهرة للحج
في جمادى الآخر سنة اثنين وخمسين فلازم الأقراء وانتفع به جماعة في كتب سعد الدين
في المعاني والبيان.
وكذا دخل دمشق
وأقرأ بها وممن قرأ عليه المنطق المشرف بن عبد ، وكان نازلا عنده ، وطلبه ابن
عثمان ملك الروم عقب وفاة بعض علمائهم ليقيم عندهم فسافر ومات بأدرنة من بلاد
الروم في أوائل ستة إحدى وستين وثمانمائة ، وكان إماما علامة صالحا متواضعا جم العلم
كثير الحفظ ، وكان في لسانه عقلة رحمهالله تعالى .
٩ ـ يوسف الحلاج : هو يوسف الجمال الحلاج الهروي الشافعي ، والد الشمس محمد
الماضي ممن أخذ عن التفتازاني وغيره ، وتقدم في الفضائل ، وشرح الحاوي شرحا متوسطا
، وانتفع به الفضلاء كولده الشمس ، ومحمد بن موسى الحاجري شيخ التقي الحصني.
ويصفه تلميذه
التقي الحسني بقوله : ممن تشد له الرحال ويعول عليه في كشف المقال والحال ، زبدة
الأفاضل الماهرين ، الماجد الهمام جمال الدنيا والدين .
١٠ ـ جلال الدين
يوسف بن ركن الدين مسيح :
يتفق بعض المؤرخين
بأنه كان من تلامذة سعد الدين التفتازاني ، ويقدمون بين ذلك إجازة كتبها
التفتازاني إلى تلميذه جلال الدين بتغيير مصنفاته وقراءتها وإصلاحها ، وهذه صورة
الإجازة :
__________________
أما بعد ، حمدا
لله والصلاة على رسول الله ، فقد أجزت للمولى العالم الفاضل الكامل جلال الدين
يوسف بن الإمام المرحوم ركن الدين مسيح أن يروي عني مقروءاتي ومسموعاتي ومنجزاتي
عموما ومصنفاتي خصوصا فقد قرأ الكثير وسمع الكثير مثل شرح الكشاف ، والمفتاح
وغيرهما ، وأن يدرسهما ويصلح ما يتفق أنه من سهو البنان أو البيان بعد التأمل
والاحتياط والمراجعة والمطالعة. وهذا خط الفقير سعد الدين التفتازاني كتبه في آخر
سفر حياته ، والاتصال بوفاته ، وهو الأواخر من محرم سنة ٧٩٢ ه بسمرقند.
١١ ـ ميرك
الصيرامي أو السيرامي :
ذكره صاحب الضوء
اللامع في ترجمة الإمام عبد السلام بن أحمد الحسيني القليوبي حيث قال : إنه قرأ
كثيرا من شروح التلخيص في المعاني ، وكثيرا من الكشاف على مولاه ميرك السيرامي أحد
تلامذة سعد الدين التفتازاني ويقول صاحب الضوء اللامع : لعل ميرك الصيرامي هو يحيى
بن يوسف المصري الحنفي المعروف بالسيرامي المتوفى سنة ٨٢٣ ه والذي صنف حاشية في
البلاغة على كتاب المطول كما ذكره صاحب كشف الظنون وصاحب كتاب هدية العارفين .
١٢ ـ لطف الله
السمرقندي :
ذكره الإمام
السخاوي في ترجمة الإمام إبراهيم بن علي الشهاوي حيث قال : وقد أخذ المعاني
والبيان والمنطق وأصول الدين عن لطف الله السمرقندي ، تلميذ سعد الدين التفتازاني.
وقد ترجم السخاوي
له أيضا في الأسماء التي تبدأ باللام والطاء فقال : لطف الله السمرقندي أحد تلامذة
التفتازاني .
__________________
١٣ ـ شهاب الدين
محمد :
ذكره صاحب الفوائد
البهية في ترجمة نور الدين عبد الرحمن الجامي حيث قال :
«إنه حضر دروس
مولانا شهاب الدين محمد تلميذ التفتازاني. ولم نعثر على شيء آخر يوضح شخصيته
بالرغم من كثرة تفتيشنا وبحثنا في كتب التراجم والأعلام» .
١٤ ـ شمس الدين الفنري : هو محمد بن حمزة العلامة قاضي القضاة شمس الدين أبو عبد
الله الفنري الرومي الحنفي.
كان عارفا
بالعربية والمعاني ، يحدد المؤرخون تاريخ ولادته بعام ٧٥١ ه. وجاء في ترجمة حفيده
محمد بن عمر بن محمد بن حمزة أن جده هذا كان من بلاد ما وراء النهر ، من تلامذة
سعد الدين التفتازاني.
ويرى بعض المحققين
والراصدين للفكر الإنساني أن شمس الدين كان سببا جوهريا في إظهار كتب العلامة
التفتازاني ، إذ إنها انتشرت ورغب الطلبة في قراءتها ولم تكن موجودة بالشراء ،
لعدم انتشار نسخها ، فاحتاجوا إلى كتابتها ، ولكن عطلتهم الأسبوعية وهي يوم الجمعة
والثلاثاء لم تكن وقتا كافيا لكتابة هذه الكتب فأضاف شمس الدين يوم الاثنين إلى
العطلة ليتمكن الطلبة من التزود بكتب التفتازاني .
١٥ ـ الأثير البغدادي : يقول صاحب الضوء اللامع في ترجمته : هو جبريل بن صالح
الأثير البغدادي.
وممن تتلمذ على
سعد الدين التفتازاني ، وقد أخذ عنه محمود بن أحمد العيني وقرأ عليه المفصل في
النحو ، والتوضيح مع متنه التنقيح. ولكن متى كان
__________________
مولده ، وفي أي
عام كانت وفاته؟ ، يصمت الإمام السخاوي عن ذلك ، فلا يذكره لا من قريب ولا من بعيد
ـ وكأنه ـ أراد لمن يترجم لهم أن يكونوا من أعيان القرن التاسع وكفى.
١٦ ـ سعد الدين لر
:
وهذا لم نعثر له
على ترجمة ، ولم يذكر في تاريخ التفتازاني ، ولكن يذكره السخاوي في ترجمة أبي
الحسن علي الكرماني على أنه من شيوخه الفضلاء فقال :
ومن شيوخه سعد
الدين لر الذي كان من طلبة التفتازاني .
١٧ ـ قره داود :
ذكره صاحب كتاب
كشف الظنون عند ذكره للسيد الشريف الجرجاني ، وقال :
له حاشية على شرح
الشمسية لقطب الدين التحتاني ، وعلى هذه الحاشية حواشي كثيرة منها :
حاشية للمولى قره
داود من تلامذة سعد الدين التفتازاني ، ولم يذكره صاحب النجوم الزاهرة ، ولا صاحب الضوء اللامع
، وبذلك لا يمكن تحديد تاريخ ولادته أو وفاته ، وهذه الحيرة التي يعيش فيها الباحث
الذي يتعامل مع كتب التراث لا يقدرها حق قدرها إلا من عاش مثل هذه المعاناة.
١٨ ـ فتح الله الشرواني : تتفق الشقائق النعمانية ، ومفتاح السعادة في أنه هو فتح
الله بن عبد الله الشرواني الرومي الحنفي.
أخذ عن العلامة
التفتازاني ، والسيد الشريف الجرجاني ، واستفاد منهما في العلوم العقلية والشرعية.
ومن تصانيفه (شرح كتاب إرشاد الهادي في النحو)
__________________
للعلامة سعد الدين
التفتازاني وغيره. وتوفي سنة ٨٥٧ ه .
١٩ ـ محمود
السرائي :
ذكره الإمام
السخاوي في ترجمة يوسف بن الحسن بن محمود السرائي حيث قال : وجده محمود قيل : ممن
أخذ عن سعد الدين التفتازاني وغيره . وكعادة صاحب الضوء اللامع أنه في أغلب الأوقات لا يقدم
لنا تاريخا يعطي ضوءا على حياته ونورا يكشف عن جوانب شخصيته .
وبعد ، فهذه مجموعة
من العمالقة ممن تتلمذوا على سعد الدين التفتازاني ، حيث جلسوا بين يديه ، وتلقوا
منه العلم مشافهة ، واستمعوا إلى حديثه ، وتداولوا معه أطراف العلم ، وألوان
المعرفة.
ولكن هناك مجموعات
ضخمة من الأساتذة والمفكرين في العالم الغربي والشرقي تتلمذوا على كتبه ، ونهلوا
من ينابيعه ، وكانت لهم زادا في إعدادهم العلمي ، وتكوينهم الفكري.
إنها مدرسة غنية
بالمعرفة ، ثرية بالعطاء ، وستستمر عبر التاريخ حتى يرث الله الأرض ومن عليها
__________________
مكانته العلمية
ورأي العلماء فيه
مكانته العلمية
ورأي العلماء فيه
عملاق من عمالقة
الفكر ، ورائد من رواد المعرفة ، وشيخ أطبقت شهرته على الآفاق، وتخطت السدود
والحدود. يصفه ابن تغرى بردى فيقول :
«كان فريد عصره ،
ووحيد دهره ، وإنه برع في المعقول ، وساد على أقرانه ، وشارك في المنقول ، وفي
أنواع من العلوم ، وتصدى للإقراء والتدريس ، وبرع في التأليف والتصنيف ، وانتفع
بمؤلفاته وبمصنفاته الخاص والعام» .
وقد عرف ابن خلدون
فضل التفتازاني ، واطلع على مصنفاته في علم البيان والكلام ، وأصول الفقه ، ووصفه
بأنه من عظماء هراة ، وأشاد بمكانته في العلوم العقلية ، وذلك حيث يقول :
«ولقد وقفت بمصر
على تآليف متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشهر بسعد الدين التفتازاني ،
منها في علم الكلام وأصول الفقه ، والبيان ، تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه
العلوم. وفي أثنائها ما يدل على أن له اطلاعا على العلوم الحكمية ، وقدما عالية في
سائر الفنون العقلية»
أما صاحب كتاب
أعلام الأخيار فيصفه بأنه موسوعة علمية ، ودائرة معارف في العلوم الإسلامية ، فهو
وإن كان شافعي المذهب ، إلا أنه يكتب في فقه
__________________
الأحناف ، ويقارن
بين آراء أصحاب مدرسة الرأي ، وبين من يطبقون السنة ، ويتمسكون بالنص فيقول :
«كان التفتازاني
من كبار علماء الشافعية ، ومع ذلك له آثار جليلة في أصول الحنفية ، وكان من محاسن
الزمان ، لم تر العيون مثله في الأعلام والأعيان ، وهو الأستاذ على الإطلاق ،
والمشار إليه بلا شقاق ، والمشهور في ظهور الآفاق ، المذكور في بطون الأوراق ،
اشتهرت تصانيفه في الأرض ، وأتت بالطول والعرض حتى إن السيد الشريف ، في مبادي
التأليف ، وأثناء التصنيف ، كان يخوض في بحار تحقيقه ، وتحريره ، ويلتقط الدرر من
تدقيقه وتسطيره ، ويعترف برفعة شأنه ، وجلالة قدره ، وعلو مقامه» .
وإذا كان هؤلاء
الأعلام ، وهم من كبار المؤرخين ، يصفونه بهذه الصفات ، ويمدحونه بكل صفة حميدة ،
ورأي سديد ، فهناك عملاق من عمالقة المحدثين ، ألا وهو العالم الجليل ابن حجر
العسقلاني صاحب التآليف الكثيرة ، والمصنفات البديعة. يصف الإمام التفتازاني في
كتابه (الدرر الكامنة) فيقول :
«كان من أعاظم
علماء العربية ، وأفاضل محققيهم المتبحرين ، ومصنفاته الجمة تدل على عظم (عقله) ،
وجودة فهمه ، ووفور علمه ، ومتانة رأيه ، واستقامة سليقته ، وكثرة إحاطته ، وحسن
تصرفه ، وتمامية فضله ، وكونه علامة من العلماء ، ومحققا من فنون شتى مع أن
الجامعية والتحقيق قلما يجتمعان في رجل واحد».
لقد رأى ابن حجر
في التفتازاني رجلا يختلف عن كثير من الرجال في سلامة عقله ، وإصابة رأية ، فهو لا
يكتب في علم من العلوم ، ولا يقتصر على فن من الفنون ، ولكنه يتناول العلوم
الشرعية ، واللغوية ، ويتبحر في كل فرع من فروعها ، وفي كل فن من الفنون.
__________________
وما قاله ابن حجر
يردده الإمام الشوكاني العالم المحقق ، المفسر المدقق ، المؤرخ الألمعي يقول :
«أخذ التفتازاني
عن أكابر أهل العلم في عصره ، وفاق في كثير من العلوم ، وطار صيته ، ورحل إليه
الطلبة ، وشرع في التصنيف وعمره ست عشرة سنة ، وقد تفرد بعلومه في القرن الثامن
الهجري ، ولم يكن له في أهله نظير فيها ، وله من الحظ والشهرة والصيت في أهل عصره.
فمن بعدهم ما لا يلحق به غيره فيه ، ومصنفاته قد طارت في حياته إلى جميع البلدان ،
وتنافس الناس في تحصيلها» .
فإذا تركنا الإمام
الشوكاني ، واتجهنا إلى صاحب كتاب مفتاح السعادة ، فنراه يعده عالما حكيما ، ويضعه
في صف واحد مع ابن سينا ، والسهروردي ، والفخر الرازي وغيرهم حيث يقول :
«ومن جملة أساطين
الحكمة أبو علي ابن سينا ، والإمام فخر الدين الرازي ، ومن نحا نحوهما كنصير الدين
الطوسي ، ومن هؤلاء الشيخ شهاب الدين السهروردي ، وممن انخرط في سلكهم العلامة قطب
الدين الشيرازي ، والعلامة قطب الدين الرازي ، ومولانا سعد الدين التفتازاني . ثم يضيف عند ما يذكر التفتازاني بأنه إمام الدنيا الذي
أشرقت الأرض بنور علومه وتصنيفاته وتأليفاته» .
وفي العصر الحديث
تقول عنه دائرة المعارف الإسلامية : «سعد الدين مسعود بن عمر حجة مشهورة في
البلاغة والمنطق ، وما وراء الطبيعة ، والكلام والفقه ، وغيرها من العلوم ، وله
كتب كثيرة ما زالت تعلم في مدارس المشرق» .
هذا هو سعد الدين
في عيون العلماء ، وفي عقول الأدباء والمؤرخين رحمهالله رحمة واسعة بمقدار ما قدم من خير للإسلام والمسلمين.
__________________
وفاته
اختلف العلماء
اختلافا بيّنا في تاريخ وفاة هذا العالم الكبير ، فهو مرة توفي عام ٧٩١ ه الموافق
١٣٨٩ م كما يقرره صاحب بغية الوعاة أو في الثاني والعشرين من المحرم عام ٧٩٢ ه
الموافق ١٠ يناير سنة ١٣٩٠ م كما يقرره صاحب الفوائد البهية ، أو في الثاني
والعشرين من المحرم عام ٧٩٣ ه ، الموافق ٣٠ ديسمبر عام ١٣٩٠ م كما جاء في رسالة
منسوبة إلى الجرجاني. والباحث إزاء هذه الاختلافات والتناقضات يصعب عليه تحديد
الوقت والتاريخ الذي تم فيه ذلك.
ولكننا نميل إلى
ترجيح الرأي الذي يقول : إن وفاته تمت في عام ٧٩١ ه ، وسندنا في ذلك المناظرة
التي تمت بينه ، وبين الشريف الجرجاني في حضرة تيمور لنك وكانت تدور حول اجتماع
الاستعارة التبعية والتمثيلية في كلام صاحب الكشاف في قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ
وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) . وكان الحكم بينهما نعمان الدين الخوارزمي المعتزلي. فأمر
تيمور لنك بتقديم السيد علي السعد وقال : لو فرضنا أنكما سيان في الفضل فله شرف
النسب. فاغتمّ لذلك العلامة التفتازاني. وحزن حزنا شديدا فما لبث حتى ماترحمهالله تعالى. وكان بداية المناظرة في بداية عام ٧٩١ ه وأخذ يعرض
__________________
في شعره بملوك
الأرض وخصوصا تيمور لنك ، فنراه يقول :
إذا خاض في بحر
التفكّر خاطري
|
|
على درّة من
معضلات المطالب
|
حقرت ملوك الأرض
في نيل ما حووا
|
|
ونلت المنى
بالمكتب لا بالكتائب
|
ثم تمتلئ نفسه
باليأس وتكتنفه الأحزان ويسخر من العلم والعلماء وخصوصا بعد أن أخذ السيد الشريف
الجرجاني ـ وهو يعتبر من تلامذته ـ يتهمه بقصور العقل ، وقلة البضاعة
في الفكر ، فكان يقول :
طويت بإحراز
العلوم وكسبها
|
|
رداء شبابي
والجنون فنون
|
فلما تحصلت
العلوم ونلتها
|
|
تبيّن لي أن
الفنون جنون
|
وكان إذا ذهب إلى
ساحة ورأى حلقات الدرس ، وتجمع الطلاب هتف بشعره قائلا :
__________________
فرق فرق الدرس
وحصل مالا
|
|
فالعمر مضى ولم
نذل آمالا
|
لا ينفعك القياس
والعكس ولا
|
|
افعنلل يفعنلل
افعنلالا
|
رحمهالله رحمة واسعة جزاء ما قدم من خير لهذه الأمة في دينها
ولغتها.
__________________








كتاب شرح المقاصد
كتاب شرح المقاصد
في علم التوحيد للعلامة المحقق المدقق مسعود بن عمر التفتازاني.
أحد كتب التراث
الذي تفخر به المكتبة العربية والإسلامية ، كتبه صاحبه قبل وفاته بقليل.
والكتاب يعتبر
خلاصة وافية لكل ما كتب في هذا العلم ، ولقد استفاد مؤلفه استفادة ملحوظة من كل من
سبقه في هذا المضمار ، وعاش ما يقرب من نصف قرن باحثا وقارئا ومنقبا ومدققا ومؤلفا
، ثم كان ثمرة هذا كله هذا الكتاب.
يقول التفتازاني
عن هذا الكتاب : «انتهزت فرصة من عين الزمان ، وأخذت في تصنيف مختصر موسوم
بالمقاصد منظوم فيها غرر الفوائد ودرر الفرائد ، وشرح له يتضمن بسط موجزه ، وحل
ملغزه ، وتفصيل مجمله ، وتبيين معضله مع تحقيق للمقاصد وفق ما يرتاد ، وتدقيق
للمعاقد فوق ما يعتاد» .
ويقول عنه صاحب
كتاب كشف الظنون : المقاصد في علم الكلام للعلامة سعد الدين التفتازاني أوله :
حمدا لمن تلوح نفحات الامكان إلخ ، رتبه على ستة مقاصد ، وفرغ من تأليفه سنة ٧٨٤ ه
بسمرقند ، وله عليه شرح جامع ، وقد توفي سنة ٧٩١ ه ، إحدى وتسعين وسبعمائة.
__________________
ولقد أورد في شرحه
مغلطة سماها (الجذر الأصم) ، وقد شرحها الفضلاء وعليه حاشية لمولانا علي القاري في
مجلد.
وعليه حاشية
للمولى الياس بن ابراهيم السينابي .
قال صاحب الشقائق : «وهي حاشية لطيفة جدا رأيتها بخطه ، وحاشية لخضر شاه
المنتشوي المتوفى سنة ٨٥٣ ه ثلاث وخمسين وثمانمائة وعليه تعليقة للمولى أحمد بن
موسى الخيالي ذكره المجدي في ذيله ، ومولانا مصلح الدين المعروف بحسام زاده ، كتب
عليه حاشية أيضا ، كذا ذكره المجدي ، واختصره الشيخ محمد بن محمد الدلجي. وسماه
مقاصد المقاصد ، وقد نظمه بعضهم» .
__________________
منهجنا في تحقيق الكتاب
أولا : النسخ المطبوعة والمخطوطة التي وقعت أيدينا عليها هي كالآتي :
١
ـ نسخة مطبوعة في
مجلدين الأول يقع في ٢٨٥ صفحة من القطع الكبير والثاني في ٢٥٠ صفحة من القطع
الكبير ويرجع تاريخ طبعها إلى عام ١٢٧٧ ه.
ويوجد في ذيلها : «قد
يسر الله تعالى طبع هذا الكتاب المسمى بشرح مقاصد الطالبين في علم أصول الدين
للعلامة الفاضل سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ، وذلك في دار الطباعة العامرة
الكائنة بدار الخلافة الزاهرة في أيام حضرة ذي الدولة والإجلال والفضل والإفضال
مولانا المكرم وسلطاننا المعظم السلطان بن السلطان السلطان الغازي ، عبد المجيد
خان أدام الله دولته إلى آخر الدوران ، وذلك بمعرفة ناظر المطبعة المذكورة محمد
لبيب أدام الله عزه ، ووافق إنجاز طبعه في شهر شعبان المعظم سنة سبع وسبعين
ومائتين وألف من الهجرة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلوات والتحية وعلى آله
وعترته الزكية».
وهذه النسخة تكاد
تكون أقل النسخ أخطاء ، ولذلك اعتبرت هي الأصل ، والأولى في التحقيق والترتيب
ورمزنا لها بحرف (أ).
٢ ـ نسخة مخطوطة توجد بمكتبة الأزهر
الشريف تحت رقم ٤٠٥٤ توحيد ، ومسطرتها ٢٥ سطرا.
__________________
تبدأ بقول المؤلف
: نحمدك يا من به ملكوت كل شيء وبه اعتضاده ، ومن عنده ابتداء كل حي وإليه معاده ،
تتلى من أوراق الأطباق آيات توحيده وتحميده ، وتخلى من الآفاق والأنفس شواهد
تقديسه وتمجيده ، ما تسقط في الأكوان من ورقة إلا تعلمها حكمته الباهرة .. الخ.
وتقع في ٥٦٤ ورقة
من القطع الكبير ، وهي جيدة الخط ، خالية من المتن.
وفي آخرها : تم
بعون الله وحسن توفيقه ، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكان الفراغ من
كتابة هذه النسخة يوم الاثنين المبارك ثامن عشر جماد الآخر الذي هو من شهور سنة
ألف ومائتين تسعة وستين من الهجرة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة ، وأتم
التسليم على يد كاتبها علي الزرقاني البيسي بلدا ، المالكي مذهبا ، غفر الله له
ولوالديه وللمسلمين أمين ، أمين .
وتعتبر هذه النسخة
الثانية في الترتيب ورمزنا لها بحرف (ب).
٣ ـ نسخة أخرى مخطوطة بمكتبة الأزهر تحت رقم ٤٨٠٥ توحيد مسطرة ٢١ سطرا
وتقع في ١٠٤ ورقة من القطع المتوسط ، وهي تحتوي على المتن فقط ، وتاريخ الانتهاء
من كتابتها سنة ١٢٥٧ ه.
وتبدأ هذه النسخة
:
بقوله : حمدا لمن
يفوح نفحات الإمكان بوجوب وجوده ، ويلوح على صفحات الأكوان آثار كرمه وجوده ، تشرق
في ظلم الحدوث لوامع قدم كبريائه. الخ.
وآخرها : وانقضاء
النظام والانحلال ، وهذا هو الشر الذي يتيقن معه خيرية القرون السابقة بحسب كثرة
الثواب أيضا ، فيكون عند غاية قرب الساعة ، وانقضاض من التوبة والطاعة ، فلا ينافي
احتمال خيرية الأمم ، على ما قال عليهالسلام :
__________________
«مثل أمتي مثل
المطر لا يدري أوله خير أم آخره» .
بناء على احتمال
الفضل مع طول العهد ، وفساد الزمان ثواب المعرفة والإيقان والطاعة والإيمان.
ثبت الله قلوبنا
على الدين ، ووفقنا لما يرضاه يوم الدين ، إنه خير موفق ومعين. وصلّى الله على
سيدنا محمد وآله الطاهرين ، وأصحابه ، والحمد لله رب العالمين .
وتعتبر هذه النسخة
الثالثة في الترتيب ورمزنا لها بحرف (ج).
٤ ـ نسخة أخرى تسمى «أشرف المقاصد في شرح المقاصد» للعالم أحمد بن محمد
بن محمد بن يعقوب المكناسي تقع في مجلدين :
الأول : طبع
بالمطبعة الخيرية سنة ١٣٢٥ ه ويقع في ٣٨٨ من القطع الكبير وبهامشها كتاب شرح
المقاصد لسعد الدين التفتازاني. بدأها بقوله : يقول العبد الفقير إلى الله الغني
أحمد بن محمد بن يعقوب الولائي نسبا ، المكناسي دارا ، طهره الله تعالى بلا محنة
من جميع العيوب وأوجب له برحمته وكرمه مغفرة تمحو جميع الذنوب. الخ.
والمجلد الثاني
مخطوط وتوجد نسخة منه بمكتبة الأزهر تحت رقم ٢٣١٦ توحيد يقع في ٢٠١ ورقة من القطع
الكبير.
٥ ـ نسخة مخطوطة تسمى «شرح مقاصد المقاصد» للشيخ الإمام محمد بن محمد
الدلجي العثماني : تحت رقم ٣٢٦٣ توحيد.
بدأها المؤلف
بقوله : حمدا لمن تفرد بالبقاء والقدم ، وقضى على من سواه بالفناء والعدم ، له
الملك والتدبير ، وبيده الحكم والتقدير ، لا يجب عليه شيء ، ولا يدرك لذاته كنه ،
أرسل رسلا بمعجزات ظاهرة ، وآيات باهرة. الخ.
وبعد : فهذا شرح
لكتابنا مقاصد المقاصد للعلامة التفتازاني بلغه الله رفيع
__________________
الدرجات ، في
غرفات الجنات ، مشتمل على كشف مخدرات أستاره وإبراز مخبئات أسراره الخ.
وآخر النسخة : ختم
الله لنا بخير ، وعصمنا من اتباع الهوى ، ووفقنا لسلوك طريق الهدى ، إنه ولي
التوفيق ، والهادي إلى خير الطريق. وكان الانتهاء من نسخها يوم الاثنين تاسع
المحرم مفتتح سنة ١٠١٧ ه.
ثانيا : ـ
(أ)
قمنا بكتابة
النسخة رقم (١) على حسب قواعد الكتابة الحديثة مع إثبات علامات الترقيم أثناء
الكتابة.
(ب) بعد الانتهاء من الكتابة أخذنا في مراجعة النسخة (أ) على النسخة (ب) و (ج) وأثبتنا بالهامش فروق النسخ الموجودة مع الإشارة إلى
الزيادة والنقص والتحريفات في النسخة المطبوعة.
(ج) حرصنا بقدر الطاقة على تنقية النص من الأخطاء النحوية واللغوية.
(د) الكتاب قسمه المؤلف إلى مقاصد ، والمقاصد إلى فصول ، والفصول إلى
مباحث. ولكنه أغفل في كثير من الأحيان أن يضع عناوين لكثير من الفصول والمباحث ،
فقمنا بوضع العناوين الملائمة لها. وهناك بعض الموضوعات المتداخلة ، والتي رأينا
أنها في حاجة إلى عناوين مستقلة ، وهذا ما حرصنا عليه.
(ه) أخذ المؤلف نصوصا كثيرة من كتاب المواقف لأستاذه عضد الدين
الإيجي.
وتناول كتب فخر
الدين محمد بن عمر الخطيب الرازي وأخذ منها نصوصا جمة وبالأخص الكتب الآتية :
__________________
١ ـ محصل أفكار
المتقدمين والمتأخرين ، من العلماء والحكماء والمتكلمين.
٢ ـ المطالب
العالية.
٣ ـ نهاية المعقول
في دراية الأصول.
٤ ـ اعتقادات فرق
المسلمين والمشركين.
وأيضا مؤلفات :
المحقق المدقق الشيخ : نصير الدين الطوسي وعلى وجه الدقة :
١ ـ كتاب
المتوسطات بين الهندسة والهيئة .
٢ ـ الكرة
والأسطوانة.
٣ ـ تربيع
الدائرة.
٤ ـ المخروطات.
ولقد استفاد من
هذه المؤلفات كثيرا ، ونقل منها نصوصا متفرقة وخصوصا عند حديثه عن المقصد الرابع
من هذا الكتاب ، وتناوله ما يتعلق بالأجسام ، والبسائط الفلكية ، والدوائر ،
والمركبات التي لا مزاج لها ، والمركبات التي لها مزاج ، وغير ذلك.
وأيضا مؤلفات
الرئيس ابن سينا .
__________________
ونخص بالذكر :
١ ـ كتاب الشفاء
قسم الجدل والمنطق.
٢ ـ كتاب
الإشارات.
٣ ـ كتاب القانون
في الطب.
٤ ـ كتاب النجاة.
ولقد أخذ نصوصا
عدة من هذه الكتب وخصوصا عند كتابة المقصد الرابع والمقصد الخامس ، عند حديثه عن
الحواس الباطنة ، والمجردات ، والنفس الفلكية ، والنفس الإنسانية ، والحواس
الظاهرة ، والحواس الباطنة ، وفي إثبات الذات ، والقول بالحلول والاتحاد وغير ذلك.
ولقد وجدنا في
كثير من النصوص التي أخذها من هذه الكتب أن بعضها أخذه بالمعنى ، والبعض أخذه
بالنص ، وفي بعضها زيادات ، أو نقصان أو تحريفات.
فعملنا بقدر
الطاقة على نقلها من أصولها ، وأشرنا إلى ذلك في الهامش مع إثبات أسماء الكتب
وتحديد الصفحات ـ ما أمكن ذلك ـ التي يوجد بها النص.
ثالثا
: بعض الأعلام ذكرت
محرفة ، فعملنا على تصحيحها والترجمة لها من أمهات المراجع ، ليكون الباحث أو
القارئ على بينة منها أو الرجوع إلى مصادرها إن أراد الزيادة.
رابعا
: قمنا بتخريج
الأحاديث القدسية ، والأحاديث النبوية تخريجا وافيا وضبطنا كلماتها بالشكل.
خامسا
: الآيات القرآنية
التي وردت في الأصل عملنا على تشكيل كلماتها وترقيمها والدلالة على سورها.
سادسا
: عرّفنا بالبلدان
والأماكن التي وردت في الكتاب.
__________________
سابعا : في الكتاب الكثير من الاصطلاحات العلمية ، جاء بها المؤلف عند حديثه
عن الصوت والضوء ، وخواص المادة ، وعلم الفلك ، وعلم الطب ، وعلم الهندسة ، وخواص
الحركة ، ودواعي الصحة ، وأسباب المرض ، وعلم المنطق ، ومصطلحات الفلاسفة. فعرفنا
بهذه المصطلحات وأشرنا إلى مظانها في المراجع لمن يريد الاستزادة.
ثامنا
: ناقش المؤلف الفرق
الإسلامية ، معتمدا على بعض نقولهم فأشرنا بقدر الطاقة إلى أماكن هذه النقول.
تاسعا : نسبنا الأشعار التي استشهد بها المؤلف إلى قائلها وأرشدنا إلى بعض المراجع التي توجد
بها.
عاشرا : في النية
بمشيئة الله أن نذيل الكتاب بعمل الفهارس اللازمة عند الانتهاء من طبع أجزاء
الكتاب.
١ ـ فهرس للآيات
القرآنية.
٢ ـ فهرس للأحاديث
النبوية.
٣ ـ فهرس للأعلام.
٤ ـ فهرس للفرق
الإسلامية.
٥ ـ فهرس للأماكن
والبلدان.
٦ ـ فهرس للأشعار.
٧ ـ فهرس
للمصطلاحات العلمية.
٨ ـ فهرس
للموضوعات.
ربنا لا تزغ
قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
أ. د. عبد الرحمن عميرة
أسيوط في ١٥ ربيع
الثاني سنة ١٤٠٣ ه الموافق ٢٩ يناير سنة ١٩٨٣ م
كتاب
شرح المقاصد
مقدّمة المؤلف
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مقدّمة المؤلف
نحمدك يا من بيده
ملكوت كل شيء وبه اعتضاده ، ومن عنده ابتداء كل حي وإليه معاده ، تتلى من أوراق
الأطباق آيات توحيده وتحميده ، وتجلى في الآفاق والأنفس شواهد تقديسه وتمجيده ، ما تسقط في الأكوان من ورقة إلا تعلمها حكمته الباهرة ، ولا توجد في الإمكان من طبقة إلا تشملها
قدرته القاهرة ، تقدس عن الأمثال ، والأكفاء ذاته الأحدية ، وتنزه عن الزوال
والفناء صفاته الأزلية والأبدية ، سجدت لعزة جلاله جباه الأجرام العلوية ، ونطقت
بشكر نواله شفاه الأنوار القدسية ، ونشكرك على ما علمتنا من قواعد العقائد الدينية
، وخولتنا من عوارف المعارف اليقينة ، وهديتنا إليه من طريق النجاة وسبيل الرشاد ،
ودللتنا عليه من سنن الاستقامة ونهج السداد ، ونصلي على نبيك محمد المنعوت بأكرم
الخلائق ، المبعوث رحمة للخلائق ، أرسلته حين درست أعلام الهدى ، وظهرت أعلام
الردى ، وانطمس منهج الحق وعفا ، وأشرفت مصابيح الصدق على الانطفاء ، فأعلى من
__________________
الدين معالمه ، ومن
اليقين مراسمه ، وبيّن من البرهان سبيله ، ومن الإيمان دليله ، وأقام للحق حجته ،
وأنار للشرع محجته ، حتى انشرح الصدر بنور البينات ، وانزاح عن القلوب صدأ الشبهات ، وأشرق وجه
الأيام ، واتسق أمر الإسلام ، واعتصم الأنام ، بأوثق عصام ، ما له من انفصام ، وعلى
آله وأصحابه خلفاء الدين ، وحلفاء اليقين ، مصابيح الأمم ، ومفاتيح الكرم ، وكنوز
العلم ورموز الحكم ، رؤساء حظائر القدس ، وعظماء بقاع الأنس ، قد صعدوا ذرى الحقائق بأقدام
الأفكار ، ونوروا سبع طرائق بأنوار الآثار ، وقارعوا على الدين فكشفوا عنه القوارع
والكروب ، وسارعوا إلى اليقين فصرفوا عنه العوادي والخطوب ، فابتسم ثغر الإسلام وانتظم أمر
المسلمين واتضح ، وعدا من الله وحقا عليه نصر المؤمنين.
أما بعد :
فقد كنت في إبان
الأمر ، وعنفوان العمر ، إذ العيش غض والشباب بمائه ، وغصن الحداثة على نمائه ،
وبدور الآمال طالعة مسفرة ، ووجوه الأحوال ضاحكة مستبشرة ، وربوع الفضل معمورة الأكناف والعرصات ، ورياض العلم ممطورة الأكمام والزهرات ، أسرح النظر في العلوم طلبا لأزهارها
وأنوارها ، وأشرح الكتب من الفنون كشفا لأستارها عن أسرارها ، يرد عليّ حذاق
الآفاق غوصا على فرائد فوائدها ، ويتردد إليّ أكياس الناس روما لشوارد عوائدها ، علما منهم بأنا بذلنا قوانا
لاكتساب الدقائق ، وقتلنا نهانا في طلاب الحقائق ، وحين رأوا علم الكلام ، الذي هو أساس
__________________
الشرائع والأحكام
، ومقياس قواعد عقائد الإسلام ، أعز ما يرغب فيه ويعرج إليه ؛ وأهم ما تناخ مطايا الطلب لديه ، لكونه أوثق العلوم
بنيانا ، وأصدقها تبيانا ، وأكرمها نتاجا ، وأنورها سراجا ، وأصحها حجة ودليلا ،
وأوضحها محجة وسبيلا ، حاموا جميعا حول طلابه ، وراموا طريقا إلى جنابه ، والتمسوا مصباحا على قبابه ، ومفتاحا إلى فتح
بابه ، فافترصت لمعة من ظلم الدهر ونبوة من أنياب النوائب ، وانتهزت فرصة
من عين الزمان وخفة من زحام الشوائب ، وأخذت في تصنيف مختصر موسوم بالمقاصد ،
منظوم فيه غرر الفرائد ودرر الفوائد ، وشرح له يتضمن بسط موجزه ، وحل ملغزه ،
وتفصيل مجمله ، وتبيين معضله ، مع تحقيق للمقاصد وفق ما يرتاد ، وتدقيق للمعاقد
فوق ما يعتاد ، وتحرير للمسائل بحسب ما يراد ولا يزاد ، وتقرير للدلائل بحيث لا يضاد ولا يصاد
، بألفاظ تنفتح بها الآذان وتنشرح الصدور ، وتتفرط بالأنهار والأزهار جبال وصخور ، ومعان تهلل بها وجوه الأوراق ، وتبتسم ثغور
السطور ؛ وتتلألأ خلال الكلام وكأنها نور على نور. باذلا الجهد في إيراد مباحث قلت
عناية المتأخرين بها من المتكلمين ، وقد بالغ في الاعتناء بها المحققون من
المتقدمين ، لا سيما السمعيات التي هي المطلب الأعلى ، والمقصد الأقصى ، في أصول
الدين ، والعروة الوثقى ، والعمدة القصوى لأهل الحق واليقين.
وحين حررت بعضا من
الكتاب ، ونبذا من الفصول والأبواب تسارع إليه الطلاب ،
__________________
وتداولته أيدي
أولي الألباب ، وأحاط به طلبة كل طالب ، وناط به رغبة كل راغب ، وعشا ضوء ناره
كل وارد ، ووجه إليه الهمة كل رائد ، وطفقوا يمتدحون ويقترحون. وزناد الازدياد
يقتدحون ، وأنا أصرف جهدي والمراد ينصرف ، والمقصود يتقاعس عن الحصول وينحرف والأيام تحول وتحجز ، وتعد فلا تنجز ، والدهر يشكي ويتكي ، والعقل يضحك ويبكي ، والعجب من تقاصر همم الرجال وفسادها ، وتراجع سوق الفضائل وكسادها
، وتضعضع بنيان الحق وتداعي أركانه ، وترعرع شأن الباطل وتمادي طغيانه ، وتطاول أيام كلها غضب وعتب ،
وعلى الألباب ، عون وألب ، تجمع بين الجفون والسهاد ، وتفرق بين العيون والرقاد ،
لا في القول إمكان وللتحصيل تأييد ، ولا في قوس الرماة منزع ولسهم النضال ، تسديد ، وهلم جرا .. إلى أن رماني زماني بما رماني وبلاني من الحوادث بما بلاني ، وحالت الأحوال دون الأمان
بل الأماني ، وأصبح شأني ، أن يفيض غروب شناني ، تناء بي الأوطان والأوطار ، وترامت بي الأقطار والأسفار ، آقاسي أحوالا تشيب النواصي ،
وأهوالا تذيب الرواسي ، أشاهد من أسباب انقراض العلوم ، وانتقاص مددها ، وانتقاض
مددها ، ما تكاد الأنفاس له تنقطع والجبال تتصدع ، وقد ملكتها وحشة المضياع ، وحيرة المرتاع ، ووقفت على ثنية الوداع ، لا طلول ولا بقاع ، ولا رسوم ولا رباع ، وكلما نويت نشر ما طويت ، وتصديت لإتمامه أو تمنيت ، عرض من الموانع والقواطع وحدث من النوائب والشوائب
__________________
ما يحول أيسرها
بين المرء وقلبه ، وتصدأ به مرآة فكره وعقله ، ويزول بأدونها ريق خاطره وناظره ، ويذهب
رونق باطنه وظاهره ، إلى أن تداركني نعمة من ربي ، وتماسك بي عودة من فهمي ولبي ، فأقبلت على إتمام الكتاب ، وانتظام تلك
الفصول والأبواب ، فجاء بحمد الله كنزا مدفونا من جواهر الفرائد ، وبحرا مشحونا
بنفائس الفوائد ، في لطائف طالما كانت مخزونة ، وعن الإضاعة مصونة ، مع تنقيح
للكلام ، وتوضيح للمرام ، بتقريرات ترتاح لها نفوس المحصلين ، وينزاح منها شبه
المبطلين ، وتضيء أنوارها في قلوب الطالبين ، وتطلع نيرانها على أفئدة
الحاسدين ، لا يعقل بيناتها إلا العالمون ، ولا يجحد بآياتها إلا القوم الظالمون ،
يهتز لها علماء البلاد ، في كل ناد ، ولا يغض منها إلا كل هائم في واد ، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلله فما له من هاد ، وإذا
قرع سمعك ما لم تسمع به من الأولين ، فلا تسرع وقف وقفة المتأملين ، لعلك تطلع بوميض برق إلهي
، وتألق نور رباني ، من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة على برهان له جلي ،
أو بيان من آخرين واضح خفي ، والله سبحانه وتعالى ولي الإعانة والتوفيق ، وبتحقيق
آمال المؤمنين حقيق.
قال : (ورتبته على
ستة مقاصد) أقول : اعلم أن للإنسان قوة نظرية كما لها معرفة الحقائق
كما هي ، وعملية كما لها
__________________
القيام بالأمور
على ما ينبغي تحصيلا لسعادة الدارين ، وقد تطابقت الملة والفلسفة على الاعتناء
بتكميل النفوس البشرية في القوتين وتسهيل طريق الوصول إلى الغايتين ، إلا أن نظر
العقل يتبع في الملة هداه وفي الفلسفة هواه ، وكما دونت حكماء الفلاسفة الحكمة
النظرية والعلمية إعانة للعامة على تحصيل الكمالات المتعلقة بالقوتين دونت عظماء
الملة وعلماء الأمة علم الكلام ، وعلم الشرائع والأحكام ، فوقع الكلام للملة بإزاء الحكمة النظرية للفلسفة وهي عندهم تنقسم إلى العلم
المتعلق بأمور تستغني عن المادة في الورود والتصور جميعا ، وهو
الإلهي أو في التصور فقط وهو الرياضي ، أو لا تستغني أصلا وهي الطبيعي ولكل منها
أقسام وفروع كثيرة ، إلا أن المقدم في الاعتبار بشهادة العقل والنقل هو معرفة
المبدأ والمعاد المشار إليهما بالإيمان بالله تعالى واليوم الآخر ، وطريق الوصول
إليها هو النظر في الممكنات من الجواهر والأعراض على ما يرشد إليه مواضع من كتاب الله تعالى وما أحسن ما أشار أمير المؤمنين
علي كرم الله وجهه إلى أن المعتبر من كمال القوة العملية ما به نظام المعاش ،
ونجاة المعاد. ومن النظرية العلم بالمبدإ والمعاد وما بينهما من جهة النظر
والاعتبار حيث قال :
«رحم الله امرأ
أخذ لنفسه ، واستعد لرمسه ، وعلم من أين وفي أين وإلى أين؟»
__________________
فاقتصر الملّيّون على ما يتعلق بمعرفة الصانع وصفاته وأفعاله وما يتفرع على
ذلك من النبوة والمعاد. وسائر ما لا سبيل للعقل باستقلاله ، وما يترتب عليه إثبات ذلك من الأحوال
المختصة بالجواهر والأعراض أو الشاملة لأكثر الموجودات فجاءت أبواب الكلام خمسة
هي: الأمور العامة ، والأعراض والجواهر ، والإلهيات والسمعيات. وقد جرت العادة
بتصديرها بمباحث تجري مجرى السوابق لها تسمى بالمبادئ فرتبنا الكتاب على ستة مقاصد
، ووجه الضبط أن المذكور فيه إن كان من مقاصد الكلام فإما سمعيات وهو المقصد السادس
، أو عقليات مختص بالواجب وهو الخامس ، أو بالممكن الجوهر وهو الرابع ، أو العرض
وهو الثالث ، أو لا مختص بواحد وهو الثاني ، وإن لم يكن من مقاصد الفن فهو المقصد
الأول من الكتاب ، ووجه الترتيب توقف اللاحق على السابق ، في بعض البينات ، وقد يقتضي الضبط والمناسبة إيراد شيء من مباحث تأتي في الآخر كمسألة الرؤية في الإلهيات ، وإعادة المعدوم في
السمعيات.
__________________
المقصد الأول في المبادي
وفيه ثلاثة فصول
١ ـ الفصل الأول :
في المقدمات
٢ ـ الفصل الثاني
: في مباحث العلم
٣ ـ الفصل الثالث
: في مباحث النظر
المقصد الأول
(المقصد الأول : في المبادي. وفيه فصول ثلاثة . الأول في
المقدمات ).
الفصل الأول
في المقدمات
أقول : رتبته على ثلاثة فصول لأن المبادي منها ما رأوا تصدير كل علم بها كمعرفة حده وموضوعه وغايته ونحو ذلك فسماها ، بالمقدمات ، وجعلها في فصل ، ومنها ما
صدروا بها علم الكلام خاصة كمباحث العلم والنظر ، لأن تحصيل العقائد بطريق النظر
والاستدلال والرد على منكري حصول العلم أصلا ، واستفادته من النظر مطلقا ، أو في
الإلهيات خاصة يتوقف على ذلك ، وليس في العلوم الإسلامية ما هو أليق ببيانه فجعلها
في فصلين.
تعريف علم الكلام
قال : (الكلام هو
العلم بالعقائد الدينية
عن الأدلة اليقينية)
أقول : حصول
الكيفيات النفسانية في النفس قد تكون بأعيانها وهو اتصاف بها ، وقد تكون بصورها
وهو تصور لها كالكريم يتصف بالكرم وإن لم يتصوره ، وغير الكريم يتصوره وإن لم يتصف
به ، ولا خفاء في أن حقيقة كل علم من الكلام وغيره تصورات وتصديقات كثيرة يطلب
حصولها بأعيانها بطريق النظر والاستدلال ، فاحتيج إلى ما يفيد
__________________
تصورها بصورة
إجمالية تساويها صونا للطلب والنظر عن إخلال بما هو منها ، واشتغال بما ليس منها ، وذلك هو المعنى بتعريف العلم ، فكان من
مقدماته وإنما كثر تركه سيما في العلوم الشرعية والأدبية لما شاع من تدوين العلوم
بمسائلها ودلائلها ، وتفسير ما يتعلق بها من التصورات ثم تحصيلها كذلك بطريق
التعلم من العلم ، أو التفهم من الكتاب وإذا تقرر هذا فنقول : الأحكام المنسوبة
إلى الشرع منها ما يتعلق بالعمل وتسمى فرعية وعملية ومنها ما يتعلق بالاعتقاد ،
وتسمى أصلية واعتقادية ، وكانت الأوائل من العلماء ببركة صحبة النبيصلىاللهعليهوسلم وقرب العهد بزمانه وسماع الأخبار منه ، ومشاهدة الآثار مع
قلة الوقائع والاختلافات ، وسهولة المراجعة إلى الثقات مستغنين عن تدوين الأحكام ، وترتيبها أبوابا وفصولا ، وتكثير المسائل فروعا وأصولا
إلى أن ظهر اختلاف الآراء ، والميل إلى البدع والأهواء ؛ وكثرت الفتاوى والواقعات
، وأمست الحاجة فيها إلى زيادة نظر والتفات ، فأخذ أرباب النظر والاستدلال في
استنباط الأحكام وبذلوا جهدهم في تحقيق عقائد الإسلام ، وأقبلوا على تمهيد أصولها
وقوانينها ، وتلخيص حججها وبراهينها ، وتدوين المسائل بأدلتها ، والشبه بأجوبتها ،
وسموا العلم باسم الفقه ، وخصوا الاعتقاديات باسم الفقه الأكبر ، والأكثرون خصوا العمليات باسم الفقه ،
والاعتقاديات بعلم التوحيد. والصفات تسمية بأشهر أجزائه وأشرفها وبعلم
الكلام ، لأن مباحثه كانت مصدرة بقولهم : الكلام في كذا وكذا ولأن أشهر الاختلافات فيه كانت مسألة كلام الله تعالى أنه
قديم أو حادث ، ولأنه يورث قدرة على الكلام في تحقيق الشرعيات كالمنطق في
الفلسفيات ، ولأنه كثر فيه من الكلام مع المخالفين والرد عليهم ، ما لم يكثر في غيره. ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام
__________________
دون ما عداه كما
يقال للأقوى من الكلامين هذا هو الكلام ، واعتبروا في أدلتها اليقين لأنه لا عبرة
بالظن في الاعتقاديات بل في العمليات فظهر : أنه العلم بالقواعد الشرعية
الاعتقادية المكتسب من أدلتها اليقينية وهذا هو معنى العقائد الدينية أي المنسوبة إلى دين محمد صلىاللهعليهوسلم ، سواء توقف على الشرع أم لا ، وسواء كان من الدين في
الواقع ككلام أهل الحق أم لا ، ككلام المخالفين ، وصار قولنا هو : العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة
اليقينية مناسبا لقولهم في الفقه إنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها
التفصيلية ، وموافقا لما نقل عن بعض عظماء الملة : إن الفقه معرفة النفس ما لها
وما عليها ، وأن ما يتعلق منها بالاعتقاديات هو الفقه الأكبر وخرج العلم بغير
الشرعيات وبالشرعيات الفرعية ، وعلم الله تعالى ، وعلم الرسول صلىاللهعليهوسلم بالاعتقاديات ، وكذا اعتقاد المقلد فيمن يسميه علما ، ودخل
علم علماء الصحابة بذلك ، فإنه كلام وإن لم يكن ، وسمي في ذلك الزمان بهذا الاسم ، كما أن عملهم بالعمليات فقه ،
وإن لم يكن ثمة هذا التدوين والترتيب ، وذلك إذا كان متعلقا بجميع العقائد بقدر
الطاقة البشرية ، مكتسبا من النظر في الأدلة اليقينية ، أو كان ملكة يتعلق بها ، بأن يكون عندهم من المآخذ والشرائط ما يكفيهم في استحضار
العقائد على ما هو المراد بقولنا العلم بالعقائد عن الأدلة ، وإلى المعنى الأخير
يشير قول (صاحب) المواقف أنه علم يقتدر معه
__________________
على إثبات العقائد
الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه ، ومعنى إثبات العقائد تحصيلها واكتسابها بحيث يحصل الترقي
من التقليد إلى التحقيق ، أو إثباتها على الغير بحيث يتمكن من إلزام المعاندين ،
أو إتقانها وإحكامها ، بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين ، وعدل عن يقتدر به إلى يقتدر
معه مبالغة في نفي الأسباب ، واستناد الكل إلى خلق الله تعالى ابتداء على ما هو
المذهب ، وأورد على طرد تعريفه جميع العلوم الحاصلة عند الاقتدار من النحو والمنطق
وغيرهما وعلى عكسه علم الكلام بعد إثبات العقائد لانتفاء الاقتدار حينئذ
والجواب أن المراد هو علم يحصل معه الاقتدار البتة بطريق جري العادة ، أي يلزمه
حصول الاقتدار لزوما عاديا ، وإن لم يبق ذلك الاقتدار دائما ، ولا خفاء في أن الكلام كذلك بخلاف سائر
العلوم ، وأما مجموع العلوم التي من جملتها الكلام فهو وإن كان كذلك فليس بعلم واحد بل بعلوم جمة ، وقد يجاب بأن المراد ماله مدخل
في الاقتدار أو ما يلزم معه الاقتدار ولو على بعض التقادير والكلام بعد الإثبات
بهذه الحيثية بخلاف سائر العلوم ، ويعترض بأن للمنطق مدخلا في الاقتدار وإن لم
يستقل به ، والاقتدار لازم مع كل علم على تقدير مقارنته للكلام. نعم لو أريد ما يلزم
معه الاقتدار في الجملة بحيث يكون له مدخل في ذلك خرج غير المنطق ، وفيما ذكرنا
غنية عن هذا ، مع أن في إثبات المدخل إشعارا بالسببية ولو قال يقتدر به وأراد
الاستعقاب العادي ، كما في إثبات العقائد بإيراد الحجج على ما هو المذهب في حصول
النتيجة عقيب النظر لم يحتج إلى شيء من ذلك.
__________________
موضوعه ..
(قال : ـ وموضوعه العلوم من حيث يتعلق به إثباتها) .
أقول : اتفقت كلمة
القوم على أن التمييز العلوم في أنفسها إنما هو بحسب تمايز الموضوعات ، فناسب
تصدير العلم ببيان الموضوع لإفادة لما به يتميز بحسب الذات بعد ما أفاد التعريف
التمييز بحسب المفهوم ، وأيضا في معرفة جهة الوحدة للكثرة المطلوبة
إحاطة بها إجمالا بحيث إذا قصد تحصيل تفاصيلها لم ينصرف الطلب عما هو منها إلى ما ليس منها ، ولا شك أن
جهة وحدة مسائل العلم أولا وبالذات هو الموضوع إذ فيه اشتراكها وبه اتحادها على ما
سنفصله ، وتحقيق المقام أنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأشياء بقدر الطاقة البشرية على
ما هو المراد بالحكمة وصنعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وغيرها ، كالإنسان والحيوان
والموجود ، وبحثوا عن أحوالها المختصة وأثبتوها لها بالأدلة فحصلت لهم قضايا كسبية
محمولاتها أعراض ذاتية لتلك الحقائق ، سموها بالمسائل ، وجعلوا كل طائفة منها يرجع
إلى واحد من تلك الأشياء بأن تكون موضوعاتها نفسه أو جزءا له أو نوعا منه أو عرضا ذاتيا له علما خاصا يفرد
__________________
بالتدوين والتسمية
والتعليم نظرا إلى ما لتلك الطائفة على كثرتها ، واختلاف محمولاتها من الاتحاد من
جهة الموضوع أي الاشتراك فيه على الوجه المذكور ثم ، قد يتحد من جهات أخرى كالمنفعة والغاية ونحوهما ، ويؤخذ لها من بعض تلك الجهات
ما يفيد تصورها إجمالا ، ومن حيث إن لها وحدة فيكون حدا للعلم إن دل على حقيقة
مسماه أعني ذلك المركب الاعتباري.
كما يقال : هو علم
يبحث فيه عن كذا أو علم بقواعد كذا ، وإلا فرسما
كما يقال هو علم
يقتدر به على كذا ، أو يحترز عن كذا ، أو يكون آلة لكذا ، فظهر أن الموضوع هو جهة
وحدة مسائل العلم الواحد نظرا إلى ذاتها وإن عرضت لها جهاتأخر كالتعريف والغاية ،
فإنه لا معنى لكون هذا علما وذاك علما آخر سوى أنه يبحث هذا عن أحوال شيء وذلك عن أحوال شيء آخر مغاير له بالذات
أو بالاعتبار ، فلا يكون تمايز العلوم في أنفسها ، وبالنظر إلى ذواتها إلا بحسب
الموضوع ، وإن كانت تتمايز عند الطالب بما لها من التعريفات والغايات ونحوهما ،
ولهذا جعلوا تباين العلوم وتناسبها وتداخلها أيضا بحسب الموضوع ، بمعنى أن موضوع
أحد العلمين إن كان مباينا لموضوع الآخر من كل وجه فالعلمان متباينان على الإطلاق
، وإن كان أعم منه ، فالعلمان متداخلان ، وإن كان موضوعهما شيئا واحدا بالذات
متغايرا بالاعتبار أو شيئين متشاركين في جنس أو غيره ، فالعلمان متناسبان على
تفاصيل ذكرت في موضعها وبالجملة فقد أطبقوا على امتناع أن يكون شيء واحد موضوعا
لعلمين من غير اعتبار تغاير ، بأن يؤخذ في أحدهما مطلقا ، وفي الآخر مقيدا أو يؤخذ
في كل منهما مقيدا بقيد آخر ، وامتناع أن يكون هو موضوع علم واحد شيئين من غير اعتبار اتحادهما في جنس أو
غاية أو غيرهما ، إذ لا معنى لاتحاد العلم واختلافه بدون
__________________
ذلك ، لا يقال
العلم مختلف باختلاف المعلوم أعني المسائل ، وهي كما تختلف باختلاف
الموضوع ، فكذا تختلف باختلاف المحمول ، فلم لم يجعل هذا وجه التمايز بأن يكون
البحث عن بعض من الأعراض الذاتية علما ، وعن بعض آخر علما آخر مع اتحاد الموضوع ،
على أن هذا أقرب بناء على كون الموضوع بمنزلة المادة وهي مأخذ للجنس ، والأعراض
الذاتية بمنزلة الصورة ، وهي مأخذ للفصل الذي به كمال التميز : لأنا نقول حينئذ :
لا ينضبط أمر الاتحاد والاختلاف ويكون كل علم علوما جمة ضرورة اشتماله على أنواع
جمة من الأعراض الذاتية مثلا يكون الحساب علوما متعددة بتعدد محمولات المسائل من
الزوج والفرد وزوج الزوج ، وزوج الفرد إلى غير ذلك ، وكذا سائر العلوم ، والغلط
إنما نشأ من عدم التفرقة بين العلم بمعنى الصناعة أعني جميع المباحث المتعلقة
بموضوع ما. وبين العلم بمعنى حصول الصورة ولو أريد هذا لكان كل مسألة علما على حدة
، وأيضا مبنى الاتحاد ، والاختلاف ، وما يتبعه من التباين والتناسب ، والتداخل يجب
أن يكون أمرا معينا بينا أو مبينا وذلك هو الموضوع إذ لا ضبط للأعراض الذاتية ولا حصر ، بل لكان أحد أن يثبت
ما استطاع ، وإنما يتبين بتحققها في العلم نفسه ، ولهذا كانت حدودها في صدر العلم
حدودا اسمية ، وربما تصير بعد إثباتها حدودا حقيقية بخلاف حدود الموضوع وأجزائه
، فإنها حقيقية ، وأما حديث المادة والصورة فكاذب ، لأن كلا من الموضوع ، والمحمول جزء مادي من القضية ، وإنما الصوري هو
__________________
الحكم على أن
الكلام ليس في المسألة ، بل في المركب الاعتباري الذي هو العلم ، ولا خفاء في أن
المسائل مادة له ومرجّع الصورة إلى جهة الاتحاد إذ بها تصير المسائل تلك
الصناعة المخصوصة فإن قلت : اشتراط تشارك موضوعات العلم الواحد في جنس أو في غيره لا يدفع اختلال أمر اتحاد العلم واختلافه إذ قلما يخلو
موضوعا العلمين عن تشارك في ذاتي أو عرضي أقله الوجود بل مثل الحساب ، والهندسة
الباحثين عن العدد والمقدار ، الداخلين تحت جنس هو الكم لا يجعل علما واحدا بل
علمين متساويين في الرتبة ، بخلاف علم النحو الباحث عن أنواع الكلمة ، قلت :
إذا كان البحث عن
الأشياء من جهة اشتراكها في ذلك الأمر ومصداقه أن يقع البحث عن كل ما يشاركها في
ذلك. فالعلم واحد وإلا فمتعدد ، ألا ترى أن الحساب والهندسة لا ينظران في الزمان
الذي هو من أنواع الكم ، وإلى هذا يشير كلام الشفاء أن كلا من الحساب ، والهندسة إنما يجعل علما على حدة
__________________
لكونه ناظرا فيما
يعرض لموضوعه من حيث هو وهو العدد للحساب والمقدار للهندسة ، ولو كانا ينظران
فيهما من جهة ما هو كم لكان موضوع كل منهما الكم أو كان العلمان علما واحدا ولو نظر كل منهما في موضوعه من حيث هو
موجود لما تميز عن الفلسفة الأولى ، فإن قلت كما صرحوا بذلك الموضوع من المقدمات ، فقد صرحوا بكونه جزءا من العلم
على حدة وبكونه من مباديه التصورية ، فما وجه ذلك؟ قلت :
أرادوا أن التصديق
بهلية ذات الموضوع كالعدد في الحساب جزء منه بدليل تعليلهم ذلك بأن ما لا يعلم ثبوته كيف يطلب ثبوت شيء
له؟ وتصوره من المبادي التصورية والتصديق بموضوعيته من المقدمات ، وأما تصور مفهوم
الموضوع أعني ما يبحث فيه عن أعراضه الذاتية ففي صناعة البرهان من المنطق. فهذه أمور
أربعة ربما يقع فيه الاشتباه ، وإنما لم يجعلوا التصديق بهلية الموضوع من
المبادي التصديقية ، كما جعلوا تصوره من المبادي التصورية ، لأنهم أرادوا بها
المقدمات التي منها تتألف قياسات العلم ، وإنما لم يجعل التصديق بالموضوعية من
الأجزاء المادية لأنه إنما يتحقق بعد كمال العلم فهو بثمراته أشبه منه
بأجزائه ، مثلا إذا قلنا العدد موضوع الحساب لأنه إنما ينظر في أعراضه الذاتية لم
يتحقق ذلك إلا بعد الإحاطة بعلم الحساب ، فكان التصديق بالموضوعية إجمالا من سوابق
العلم ، وتحقيقا من لواحقه ، وينبغي أن يعلم أن لزوم هذه الأمور إنما هو في
الصناعات النظرية البرهانية ، وأما في غيرها فقد يظهر كما في الفقه والأصول. وقد
لا يظهر إلا بتكلف كما في بعض الأدبيات ، إذ ربما تكون الصناعة عبارة عن عدة أوضاع
واصطلاحات ، وتنبيهات
__________________
متعلقة بأمر واحد
من غير أن يكون هناك إثبات أعراض ذاتية لموضوع بأدلة مبنية على مقدمات ، وإنما
أطنبنا بإيراد هذه المباحث مع أنها في نظر صناعة البرهان من قبيل الواضحات لما
تطرقت إليها بعد انعدام قواعد الصناعات الخمس من الشبيهات ، إذا تقرر هذا.
فتقول :
__________________
موضوع
علم الكلام
موضوع علم الكلام
هو المعلوم من حيث يتعلق به إثبات العقائد الدينية لما أنه يبحث عن
أحوال الصانع من القدم ، والوحدة والقدرة ، والإرادة وغيرها ، وأحوال الجسم والعرض
من الحدوث ، والافتقار والتركب من الأجزاء ، وقبول الفناء ونحو ذلك مما هو عقيدة
إسلامية ، أو وسيلة إليها ، وكل هذا بحث عن أحوال :
المعلوم وهو
كالموجود بين الهلية والشمول لموضوعات سائر العلوم الإسلامية ، فيكون الكلام فوق الكل ، [إلا أنه أوثر
على الموجود ليصح على رأي من يقول بالموجود] الذهني ، ولا يفسر العلم بحصول الصورة في العقل ، ويرى
مباحث المعدوم والحال من مسائل الكلام فإن قيل : إن أريد بالمعلوم أو الموجود
مفهومه ، فكثير من محمولات المسائل بل أكثرها أخص منه وهو ظاهر ، وإن أريد معروضه
فأعم كرؤية الصانع وقدم كلامه ، وحدوث الجسم ونحو ذلك ، ولا خلاف في أن الأخص لا
يكون عرضا ذاتيا ، والأعم لا يستعمل على عمومه
__________________
كالمساواة العارضة
للعدد بواسطة الكم لا يستعمل في الحساب إلا بعد التخصيص بالمساواة العددية ، وإنما
الخلاف في أنه قبل التخصيص ، هل يسمى عرضا ذاتيا أم لا ..؟
قلنا لزوم
الاختصاص ليس بالنظر إلى موضوع المسألة ، بل موضوع العلم أعم من أن يكون على
الإطلاق أو التقابل كالعدد لا يخلو عن الزوجية ، والفردية ألا يرى أن الزوج يحمل على مضروب الفرد في الزوج مع كونه
أعم منه. قال في الشفاء : العرض الذاتي قد يكون مساويا للموضوع ، كمساواة الزوايا الثلاث للقائمتين للمثلث ، وقد يكون أخص منه مطلقا كالزوج
للعدد أو من وجه كالمساواة للعدد فإنها عرض ذاتي له لكون جنسه وهو الكم مأخوذا في
حدها ثم إنهما قد يوجدان معا ، وقد يوجد العدد بدونها وهو ظاهر ، وبالعكس كما في
المقادير وقد يكون أعم منه مطلقا كالزوج لمضروب الفرد في الزوج.
مسائل علم الكلام
(قال : مسائلة القضايا النظرية الشرعية الاعتقادية)
أقول : قد يجعل من
مقدمات العلم تصور مسائله إجمالا لإفادته زيادة التميز وقيد القضايا بالنظرية ،
لأنه لم يقع خلاف في أن البديهي لا يكون من المسائل ، والمطالب العملية ، بل لا
معنى للمسألة إلا ما يسأل عنه ، ويطلب بالدليل ، نعم قد يورد في المسائل الحكم
البديهي ليتبين لميته وهو من هذه الحيثية كسبي لا بديهي وقد تجعل الصناعة عبارة عن عدة أوضاع واصطلاحات وأحكام
بينة تفتقر إلى تنبيه هي مسائلها ، وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما وقع في تجريد
المنطق من أن المسائل ما يبرهن عليها في العلم ، إن لم تكن بينة.
__________________
غاية علم الكلام
(قال : وغايته تحلية الإيمان بالإيمان ومنفعته الفوز بنظام المعاش ونجاة
المعاد)
أقول : ما يتأدى إليه الشيء ويترتب عليه يسمى من هذه الحيثية غاية
، ومن حيث يطلب للفعل غرضا ، ثم إن كان مما يتشوقه الكل طبعا يسمى منفعة ، فيصدر
العلم يذكر غايته ليعلم أنه هل يوافق غرضه أم لا ...؟ ولئلا يكون نظره عبثا أو
ضلالا ومنفعته ليزداد طالبه جدا ونشاطا. وغاية الكلام أن يصير الإيمان ، والتصديق
بالأحكام الشرعية متيقنا محكما لا تزلزله شبه المبطلين ومنفعته في الدنيا انتظام أمر المعاش بالمحافظة على العدل والمعاملة التي يحتاج
إليها في بقاء النوع على وجه لا يؤدي إلى الفساد وفي الآخرة النجاة من العذاب
المرتب على الكفر وسوء الاعتقاد.
علم الكلام أشرف العلوم
(قال
: فهو أشرف العلوم).
أقول : لما تبين
أن موضوعه أعلى الموضوعات ، ومعلومه أجل المعلومات ، وغايته أشرف الغايات ، مع
الإشارة إلى شدة الاحتياج إليه ، وابتناء سائر العلوم الدينية عليه ، والإشعار
بوثاقة براهينه لكونها يقينيات يتطابق عليها العقل والشرع تبين أنه أشرف العلوم لأن هذه ، جهات شرف العلم ، وما نقل عن
السلف من
__________________
الطعن فيه ، فمحمول على ما إذا قصد التعصب في الدين ، وإفساد عقائد
المبتدءين ، والتوريط في أودية الضلال بتزيين ما للفلسفة من المقال.
(قال : والمتقدمون على أن موضوعه الموجود من حيث هو ، ويتميز عن الإلهي بكون
البحث فيه على قانون الإسلام أي ما علم قطعا من الدين كصدور الكثرة عن الواحد
ونزول الملك من السماء وكون العالم محفوفا بالعدم والفناء إلى غير ذلك مما تجزم به
الملة دون الفلسفة لا ما هو الحق ولو ادعاء لمشاركة الفلسفة ككلام المخالف).
أقول : أخر هذه
المباحث مع تعلقها بالموضوع محافظة على انتظام الكلام في بيان الموضوع والمسائل
والغاية ، فالمتقدمون من علماء الكلام جعلوا موضوعه الموجود بما هو موجود ، لرجوع
مباحثه إليه ، على ما قال الإمام حجة الإسلام أن المتكلم ينظر في أعم الأشياء وهو الموجود فيقسمه إلى
قديم ومحدث ، والمحدث إلى جوهر وعرض ، والعرض إلى ما يشترط فيه الحياة كالعلم
والقدرة وإلى ما لا يشترط كاللون والطعم ، ويقسم الجوهر إلى الحيوان والنبات
والجماد ، ويبين أن اختلافها بالأنواع أو بالأعراض ، وينظر في القديم فيتبين أنه لا يتكثر ولا يتركب وأنه يتميز عن المحدث بصفات تجب له
، وأمور تمتنع عليه ، وأحكام تجوز في حقه من غير وجوب أو امتناع ، ويبين أن أصل
__________________
الفعل جائز عليه ،
وأن العالم فعله الجائز فيفتقر بجوازه إلى محدث ، وأنه قادر على بعث الرسل وعلى
تعريف صدقهم بالمعجزات وأن هذا واقع وحينئذ ينتهي تصرف العقل ويأخذ في التلقي من
النبي عليه الصلاة والسلام الثابت عنده صدقه ومقبول ما يقوله في الله تعالى ، وفي أمر المبدأ والمعاد ولما كان
موضوع العلم الإلهي من الفلسفة هو الموجود بما هو موجود وكان تمايز العلوم بتمايز
الموضوعات قيد الموجود هاهنا بحيثية كونه متعلقا للمباحث الجارية على قانون الإسلام ، فتميز الكلام عن الإلهي بأن البحث فيه
إنما يكون على قانون الإسلام ، أي الطريقة المعهودة المسماة بالدين والملة ،
والقواعد المعلومة قطعا من الكتاب والسنة والإجماع ، مثل كون الواحد موجد للكثير ،
وكون الملك نازلا من السماء ، وكون العالم مسبوقا بالعدم ، وفانيا بعد الوجود ،
إلى غير ذلك من القواعد التي يقطع بها في الإسلام دون الفلسفة ، وإلى هذا أشار من قال
: الأصل في هذا العلم التمسك بالكتاب والسنة ، أي التعلق بهما وكون مباحثه منتسبة
إليهما جارية على قواعدهما على ما هو معنى انتساب العقائد إلى الدين وقيل المراد بقانون الإسلام أصوله من الكتاب والسنة ،
والإجماع والمعقول الذي لا يخالفها ، وبالجملة فحاصله أن يحافظ في جميع المباحث
على القواعد الشرعية ولا يخالف القطعيات منها جريا على مقتضى نظر العقول القاصرة على ما هو قانون الفلسفة ،
لا أن يكون جميع المباحث حقة في نفس الأمر ، منتسبة إلى الإسلام بالتحقيق ، وإلا
لما صدق التعريف على كلام المجسمة والمعتزلة والخوارج ومن يجري
__________________
مجراهم ، وعلى هذا
لا يرد الاعتراض بأن قانون الإسلام ما هو الحق من مسائل الكلام فإن أريد الحقية
والانتساب إلى الإسلام بحسب الواقع لم يصلح هذا القيد لتميز الكلام عن غيره، لأنه
ليس لازما بينا ، إذ كل من المتكلم وغيره يدعي حقية مقاله ، ولم يصدق التعريف على
كلام المخالف لبطلان كثير من قواعده مع أنه كلام وفاقا ، وإن أريد بحسب اعتقاد
الباحث حقا كان أو باطلا ، لم يتميز الكلام بهذا القيد عن الإلهي لاشتراكهما في
ذلك.
اختلاف الباحثين في حقيقة علم الكلام
(قال : فإن قيل : قد يبحث مع نفي الوجود الذهني عن أحوال ما لا يعتبر
وجوده كالنظر والدليل وما لا وجود كالمعدوم والحال قلنا : ولواحق ولو سلم فنفي الذهني
رأي البعض).
أقول : اعترض في
المواقف على كون موضوع الكلام هو الموجود من حيث هو بأنه قد يبحث عن أحوال ما لا
يعتبر وجوده ، وإن كان موجودا كالنظر والدليل وعن أحوال ما لا وجود له أصلا
كالمعدوم والحال ولا يجوز أن يؤخذ الموجود أعم من الذهني والخارجي ليعم الكل ، لأن
المتكلمين لا يقولون بالوجود الذهني ، والجواب :
إنا لا نسلم كون
هذه المباحث من مسائل الكلام ، بل مباحث النظر والدليل من مباديه على ما قررنا وبحث المعدوم والحال من لواحق مسألة الوجود
__________________
توضيحا للمقصود
وتتميما له بالتعرض لما يقابله لا يقال بحث إعادة المعدوم ، واستحالة التسلسل ،
ونفي الهيولي وأمثال ذلك من المسائل قطعا ، لأنا نقول هي راجعة إلى
أحوال الموجود بأنه هل يعاد بعد العدم؟ وهل يتسلسل إلى غير النهاية؟ وهل يتركب
الجسم من الهيولي والصورة؟ ولو سلم أنها من المسائل فإنما يريد ما ذكرتم لو أريد بالموجود من حيث هو الموجود في الخارج بشرط اعتبار وجوده وليس كذلك. بل الموجود على
الإطلاق ذهنيا كان أو خارجيا واجبا أو ممكنا جوهرا أو عرضا إلى غير ذلك.
فمباحث النظر
والدليل من أحوال الوجود العيني وإن لم يعتبره. والبواقي من أحوال الوجود الذهني ،
وكثير من المتكلمين يقولون به على ما يصرح بذلك كلامهم ، ومن لم يقل فعليه العدول
إلى المعلوم.
(قال : وقيل موضوعه ذات الله تعالى وحده أو مع ذات الممكنات من حيث استنادها إليه لما أنه
يبحث عن ذلك ولهذا يعرف : بالعلم الباحث عن أحوال الصانع من صفاته الثبوتية ، والسلبية ، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا
والآخرة أو عن أحوال الواجب ، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون
الإسلام.
فإن قيل : قد يبحث
في الأمور العامة والجواهر والأعراض عن أحوال الممكنات لا على وجه الاستناد قلنا
على سبيل الاستطراد للتكميل أو الحكاية للتزييف أو المبدئية من التحقيق ، وإلا فهو من فضول الكلام.
فإن قيل : مباديه
يجب أن تكون بينة بنفسها إذ ليس فوقه علم شرعي.
__________________
قلنا : قد تبين
مبادي العلم فيه أو في علم أدنى ، لا على وجه الدور ومبادي الشرعي في غير الشرعي ،
كالأصول في العربية).
أقول : ذهب القاضي
الأرموي من المتأخرين ، إلى أن موضوع الكلام ذات الله تعالى ، لأنه
يبحث عن صفاته الثبوتية والسلبية ، وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا ، ككيفية صدور
العالم عنه بالاختيار ، وحدوث العالم ، وخلق الأعمال ، وكيفية نظام العالم ،
كالبحث عن النبوات وما يتبعها أو بأمر الآخرة ، كبحث المعاد وسائر السمعيات ،
فيكون الكلام هو العلم الباحث عن أحوال الصانع ، من صفاته الثبوتية والسلبية ،
وأفعاله المتعلقة بأمر الدنيا والآخرة ، وتبعه صاحب الصحائف إلا أنه زاد فجعل الموضوع ذات الله تعالى من حيث هي ، وذات
الممكنات من حيث استنادها إلى الله تعالى ، لما أنه يبحث عن أوصاف ذاتية لذات الله تعالى من
حيث هي ، وأوصاف ذاتية لذات الممكنات من حيث إنها محتاجة إلى الله تعالى ، وجهة
الوحدة هي الموجود ، وكان هو العلم الباحث عن أحوال الصانع ، وأحوال الممكنات من
حيث احتياجها إليه على قانون الإسلام ، وينبغي أن يكون هذا معنى ما قال : هو العلم
الباحث عن ذات الله تعالى وصفاته ، وأحوال الممكنات في المبدأ والمعاد على قانون
الإسلام ، وإلا فلا معنى للبحث عن نفس الموضوع ، لكنه أجاب : بأن المراد بذات الله
تعالى في التعريف الذات من حيث الصفات ، كالذات من حيث عدم التركيب والجوهرية
والعرضية ، والبحث عنها من قبيل المسائل ، كالبحث عن نفس الصفات هو الذات من حيث
هي ولا بحث عنها في العلم ، وهذا يشعر بأن المحمول في
__________________
قولنا الواجب ليس
بجوهر ولا عرض هو ذات الله تعالى من حيث عدم الجوهرية والعرضية.
فإن قيل : لو كان
الموضوع ذات الله تعالى وحده أو مع ذات الممكنات من حيث الاستناد إليه لما وقع
البحث في المسائل إلا عن أحوالها ، واللازم باطل ، لأن كثيرا من مباحث الأمور
العامة والجواهر والأعراض بحث عن أحوال الممكنات ، لا من حيث استنادها إلى الواجب.
قلنا : يجوز أن
يكون ذلك على سبيل الاستطراد ، قصدا إلى تكميل الصناعة ، بأن يذكر مع المطلوب ماله
نوع تعلق من اللواحق والفروع والمقابلات ، وما أشبه ذلك ، كمباحث المعدوم والحال
وأقسام الماهية والحركات والأجسام ، أو على سبيل الحكاية لكلام المخالف ، قصدا إلى
تزييفه كبحث علة اليقين والآثار العلوية والجواهر المجردة ، أو على سبيل المبدئية
بأن يتوقف عليه بعض المسائل ، فيذكر لتحقيق المقصود ، بأن لا يتوقف بيانه على ما
ليس يبين كاشتراك الوجود واستحالة التسلسل ، وجواز كون الشيء قابلا
وفاعلا ، وإمكان الخلاء وتناهي الأبعاد ، وأما ما سوى ذلك فيكون من فضول الكلام ،
__________________
يقصد به تكثير المباحث
، كما اشتهر فيما بين المتأخرين من خلط كثير من مسائل الطبيعي والرياضي بالكلام.
فإن قيل : لا يجوز
أن يكون للكلام مبادي تفتقر إلى البيان وتثبت بالبرهان ، لأن مبادي العلم إنما
تتبين في علم منه. وليس في العلوم الشرعية ما هو أعلى من الكلام ، بل الكل جزئي بالنسبة
إليه ، ومتوقف بالآخرة عليه ، فمبادؤه لا تكون إلا بينة بنفسها.
قلنا : ما يبين
فيه مبادي العلم الشرعي لا يجب أن يكون علما أعلى ، ولا أن يكون علما شرعيا ،
للإطباق على أن علم الأصول يستمد من العربية ويبين فيها بعض مباديه ، وتفصيل ذلك
على ما هو المذكور في الشفاء وغيره ، أن مبادي العلم قد تكون بينة بنفسها فلا تبين
في علم أصلا ، وقد تكون غير بينة فتبين في علم أعلى ، بجلالة محله عن أن يبين في ذلك العلم ، كقولنا : الجسم مؤلف من
الهيولي ، الصورة فإنه من مبادي الطبيعي ، ومن مسائل الفلسفة الأولى ، أو في
علم أدنى لدنو شأنه عن أن يبين في ذلك العلم ، كامتناع الجزء الذي لا يتجزأ فإنه
من مسائل الطبيعي ، ومن مبادي الإلهي لإثبات الهيولي والصورة فيجب أن يبين بمقدمات
لا تتوقف صحتها عليها لئلا يلزم الدور.
__________________
(وقد يبين في ذلك
العلم نفسه بشرط أن لا يكون مبدأ لجميع مسائله ، وأن لا يبين بمسألة تتوقف عليه
لئلا يدور) .
فهذا يكون مبدأ
باعتبار ، ومسألة باعتبار ، كأكثر مسائل الهندسة وككون الأمر للوجوب فإنه مسألة من
الأصول ، ومبدأ لمسألة وجوب القياس تمسكا بقوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا) ولا يخفى أنه يجب في هذا القسم أن يكون بحثا عن أحوال
موضوع الصناعة ، ليصح كونه من مسائلها ، فما نحن فيه أعني البحث عن أحوال الممكنات
لا على وجه الاستناد لا يكون من هذا القبيل فتعين البيان في علم أدنى أو أعلى ،
فيثبت هذا المبدأ بدليل قطعي من غير مخالفة للقواعد الشرعية ، وإن لم يعد ذلك
العلم من العلوم الإسلامية ، كالإلهي الباحث عن أحوال الموجود على الإطلاق. وهنا
شيء آخر وهو أن المفهوم من شرح الصحائف أن ليس معنى البحث عن أحوال الممكنات على وجه الاستناد أن
يكون ذلك ملاحظا في جميع المسائل ، بل أن يكون البحث عن أحوال تعرض للممكنات من
جهة استنادها إلى الله تعالى : فإن أحوال الممكنات التي يبحث عنها في الكلام أحوال مخصوصة
معلومة بحكم فيضانها عن تأثير قدرة الله تعالى ، ذلك إنما يكون لحاجتها إلى الله تعالى ،
فيكون عروضها للممكنات ناشئا عن جهة حاجتها إليه.
(قال : واعترض بأن إثبات الصانع من أعلى مطالب الكلام ،
__________________
وموضوع العلم لا يبين فيه ، بل فيما فوقه حتى ينتهي إلى ما موضوعه
بين الوجود كالموجود ، من حيث هو).
أقول : لما كان من
المباحث الحكمية ما لا يقدح في العقائد الدينية ، ولم يناسب غير الكلام من العلوم
الإسلامية ، خلطها المتأخرون بمسائل الكلام إفاضة للحقائق ، وإفادة لما عسى أن يستعان به في التقصي عن المضايق ، وإلا فلا نزاع في أن أصل الكلام لا يتجاوز
مباحث الذات والصفات ، والنبوة والإمامة والمعاد ، وما يتعلق بذلك من أحوال
الممكنات ، فلذا اقتصر القوم في إبطال كون موضوع الكلام ذات الله وحده أو مع ذات الممكنات من جهة الاستناد على أنه لو كان
كذلك لما كان إثباته من مطالب الكلام ، لأن موضوع العلم لا يبين فيه ، بل في علم
أعلى إلى أن ينتهي إلى ما موضوعه بين الثبوت كالموجود ، وذلك لأن حقيقية العلم إثبات
الأعراض الذاتية للشيء على ما هو معنى الهلية المركبة ، ولا خفاء في أنها بعد
الهلية البسيطة لأن ما لا يعلم ثبوته لا يطلب ثبوت شيء له. لكن لا نزاع في أن
إثبات الواجب بمعنى إقامة البرهان على وجوده من أعلى مطالب الكلام ، ثم كونه مبدأ
الممكنات بالاختيار أو الإيجاب بلا وسط في الكل أو بوسط في البعض بحث آخر ـ والقول بأن إثباته إنما هو من مسائل الإلهي دون الكلام ظاهر الفساد ، وإلا لكان هو أحد العلوم
الإسلامية بل رئيسها ، ورأسها ومبنى القواعد الشرعية وأساسها ، وأجاب بعضهم بأنه
جاز هاهنا إثبات الموضوع في العلم لوجهتين :
الأول : أن الوجود من أعراضه الذاتية لكونه واجب الوجود بخلاف سائر العلوم ، فإن
الوجود إنما يلحق موضوعاتها لأمر مباين ، وكان هذا مراد من قال :
__________________
موضوع العلم إنما
لا يبين فيه إذ كان البحث فيه عن الأحوال التي هي غير الوجود ، وإلا فهذه التفرقة مما لا يشهد بها عقل ولا نقل ، بل ليس لها كثير معنى.
فإن قيل : هذا لا
يصح على رأي من يجعل الوجود نفس الماهية وهو ظاهر ، ولا على رأي من يجعله زائدا
مشتركا ، لأن العرض الذاتي يكون مختصا.
قلنا سواء كان ذاته نفس الوجود أو غيره ، فإما أن يكون هناك قضية كسبية
محمولها الموجود في الخارج بطريق الوجوب ، فيتم الجواب أو لا فيسقط أصل الاعتراض.
الثاني : أنه لا علم شرعي فوقه يبين فيه موضوعه ، فلا بد من بيان فيه ،
وفيه نظر.
أما
أولا : فلأنه ليس من شرط
العرض الذاتي أن لا يكون معلوما للغير ، بل أن لا يكون لحوقه للشيء بتوسط لحوقه لأمر خارج غير مساو للاتفاق ، على كون الصحة
والمرض عرضا ذاتيا للإنسان والحركة والسكون للجسم ، والاستقامة والانحناء للخط إلى
غير ذلك.
وأما ثانيا : فلأنه يلزم أن لا يكون ببيان وجود شيء من الممكنات مسألة في شيء من العلوم فلا يصح أن موضوع العلم إنما يبين وجوده في علم أعلى.
وأما ثالثا : فلأن قولهم موضوع العلم لا يبين فيه بعد تقدير أنه لا يثبت في العلم غير
الأعراض الذاتية للموضوع يكون لغوا من الكلام ، لأن وجوده عرض ذاتي بين فيه ، وما
لا يبين ليس بعرض ذاتي.
__________________
وأما رابعا : فلأنه لا يبقى قولهم لكل علم موضوع ومبادي ومسائل على عمومه ،
لأن معناه التصديق بآنية الموضوع وهلية البسيطة ، وقد صار في علم الكلام من جملة
المسائل.
وأما خامسا : فلأن تصاعد العلوم ، إنما هو بتصاعد الموضوعات فلا معنى لكون علم أعلى من آخر ، سوى
أن موضوعه أعم ، فينبغي أن يؤخذ موضوع علم الكلام الموجود أو المعلوم ، وإلا فالإلهي أعلى منه
رتبة ، وإن كان هو أشرف من جهة ، وقد عرفت أن ما يبين فيه موضوع علم شرعي أو
مباديه لا يلزم أن يكون علما شرعيا ، بل يكفي كونه تعينيا وعلى وفق الشرع. فإن قيل : ـ فقد آل الكلام إلى أن الوجود المخصص لموضوع الصناعة ، وإن كان من أغراضه الذاتية لا
يبين فيها لكون نظرها مقصورا على بيان هليته المركبة ، بل ولأنه مسلما في نظرها لكونه بينا أو مبينا في صناعة
أعلى ، وحينئذ يتوجه الإشكال بأن بيانه هناك لا يكون من الهلية المركبة ، وموضوع
هذا العرض الذاتي لا يكون مما هو مسلم الوجود.
قلنا : موضوع
الصناعة الأعلى أعم ، ووجوده لا يستلزم وجود الأخص فيبين فيها وجود الأخص بأن يبين
انقسام الأعم إليه وإلى غيره ، وأنه يوجد له هذا القسم ، ويكون ذلك عائدا إلى
الهلية المركبة للأعم ، مثلا يبين في الإلهي أن بعض الموجود جسم ، فيبين وجود
الجسم ، وفي الطبيعي أن بعض الجسم كرة ، فيبين وجود الكرة.
وعلى هذا القياس
ربما يتنبه الفطن من هذا الكلام لنكتة قادحة في بعض ما سبق.
__________________
الفصل الثاني
في العلم وفيه مباحث
١ ـ مبحث تعريف
العلم
٢ ـ مبحث تقسيمه
مطلقا
٣ ـ مبحث التصورات
الضرورية
المبحث الأول
تعريف العلم
(قال المبحث الأول : قيل تصوره ضروري لأنه حاصل ، وغيره إنما يعلم به ، فلو علم هو بغيره لزم الدور : ولأن
علم كل أحد بوجوده بديهي وهو مسبوق بمطلق العلم فهو أولى بالبداهة. ورد بالفرق بين
تصور العلم وحصوله. فتصور العلم ، بتصور غيره ، وتصور الغير بحصوله فلا دور.
والبديهي حصول العلم بوجوده وهذا لا يستدعي تصور العلم فضلا عن بداهته ، فإن قيل
الحصول في النفس هو العلم).
قلنا : لا مطلقا
بل بوجود غير متأصل ، ومصداقه الاتصاف وعدمه كالكافر يتصف بالكفر ولا يتصوره.
ويتصور الإيمان ولا يتصف به.
فإن قيل : حصول
العلم بتغير يستلزم إمكان العلم بأنه عالم ويقضي إلى العلم بالمقيد قبل
العلم بالمطلق ، وأيضا العلم بأنه عالم بوجوده بديهي لا يفتقر إلى نظر أصلا وجب المطلوب.
قلنا : لو سلم
فاللازم التصور بوجه ما
__________________
ذهب الإمام الرازي
إلى أن تصور العلم بديهي لوجهين :
الأول أنه معلوم ، يمتنع اكتسابه أما المعلومية فبحكم الوجدان وأما امتناع
الاكتساب فلأنه إنما يكون بغيره معلوما ضرورة امتناع اكتساب الشيء بنفسه أو بغيره
مجهولا ، والغير إنما يعلم بالعلم ، فلو علم العلم بالغير لزم الدور ، فتعين طريق
الضرورة وهو المطلوب.
الثاني : أن علم كل أحد بوجوده بديهي أي حاصل من غير نظر وكسب وهذا علم خاص
مسبوق لمطلق العلم لتركبه منه ومن الخصوصية ، والسابق على البديهي بديهي ، بل أولى
بالبداهة ، فمطلق العلم بديهي وهو المطلوب.
وأجيب عن الوجهين
: بأن مبناهما على عدم التفرقة بين تصور العلم وحصوله.
أما الأول : فلأن تصور العلم على تقدير اكتسابه يتوقف على تصور غيره ، وتصور
الغير لا يتوقف على تصوره ليلزم الدور ، بل على حصوله بناء على امتناع حصول المقيد بدون المطلق ،
حتى لو لم يقل بوجود الكلي فى ضمن الجزئيات لم يتوقف على حصوله أيضا ، وعبارة
المواقف : إن الّذي نحاول أن نعلمه بغير العلم تصور حقيقة العلم ، وقد تسامح حيث
حاول العلم بتصور الحقيقة ، والأحسن ما في شرح المختصر : أن الذي يراد حصوله
بالغير إنما هو تصور حقيقة العلم ، إلا أنه تسامح فيه أيضا حيث قال :
__________________
إن توقف تصور غير
العلم إنما هو على حصول العلم به ، أعني علما جزئيا متعلقا بذلك الغير ، إذ لا
معنى لتوقف الشيء على حصوله.
وأما الثاني : فلأن البديهي لكل أحد ليس هو تصور العلم بأنه موجود بل حصول
العلم بذلك ، وهو لا يستدعي تصور العلم به فضلا عن بداهته ، كما أن كل أحد يعلم أن
له نفسا ولا يعلم حقيقتها.
فإن قيل : لا معنى
للعلم إلا وصول النفس إلى المعنى وحصوله فيها ، والعلم من المعاني النفسية ،
فحصوله في النفس علم به وتصور له ، فإذا كان حصول العلم لوجوده بديهيا. كان تصور
العلم به بديهيا ، ويلزم منه أن يكون تصور مطلق العلم بديهيا وهو المطلوب ، وكذا
إذا كان تصور الغير الذي يكتسب به تصور العلم متوقفا على حصول مطلق العلم كان
متوقفا على تصوره هو الدور.
قلنا : قد سبق أن
حصول المعاني النفسية في النفس ، قد تكون بأعيانها وهو المراد بالوجود المتأصل ، وذلك اتصاف بها لا تصور لها ، وقد يكون تصورها
وهو المراد بالوجود الغير المتأصل بمنزلة الظل للشجر ، وذلك تصور لها لا اتصاف بها
، ألا ترى أن الكافر يتصف بالكفر بحصول الإنكار في نفسه ، وإن لم يتصوره ، وهو
يتصور الإيمان بحصول مفهومه في نفسه من غير اتصاف به ، فحصول عين العلم بالشيء في
النفس لا يكون تصورا لذلك العلم ، كما أن حصول مفهوم العلم بالشيء في النفس لا
يكون اتصافا بالعلم به بل ربما يستلزمه ، نعم يكون ذلك اتصافا بالعلم بمفهوم العلم
بناء على أن المفهوم حاصل بعينه.
فإن قيل : في
تقرير الإمام ما يدفع الجواب المذكور لأنه قرر :
الأول : بأن اكتساب العلم يتوقف على حصول العلم بالغير ، وهو يستلزم
__________________
إمكان العلم بأنه
عالم بذلك الغير ، وعلى تقدير وقوع ذلك الممكن يلزم حصول العلم بالعلم الخاص قبل
حصول العلم بمطلق العلم وهو محال. واكتساب العلم يكون ملزوما لتصور الغير الملزوم ، لإمكان المحال
فيكون محالا.
والثاني : بأن علم كل أحد بأنه عالم بوجوده بديهي ، وعلمه بوجود علم خاص ،
ومتى كان العلم الخاص بديهيا ، كان العلم بمطلق العلم بديهيا ، ولما كان مظنة أن
يقال العلم بأنه عالم تصديق ، وبداهته ، لا تستدعي بداهة تصوراته ، لأنه مفسر بما
لا يتوقف بعد تصور طرفيه على نظر أشار إلى دفعه بأن هذا التصديق بديهي ، بمعنى أنه
لا يتوقف على كسب ونظر أصلا ، لا في الحكم ولا في طرفيه ، سواء جعل تصور الطرفين شطرا
له أو شرطا ، وذلك لحصوله لمن لا يتأتى منه النظر والاكتساب كالبله والصبيان.
[قلنا : العلم
بأنه عالم بالشيء تصديق] . عالم به قبل اكتساب حقيقة العلم فغير مسلم ، أو في الجملة
فغير مفيد ، لجواز أن يكون وقوع الممكن بعد الاكتساب.
(قال : ثم أكثر تعريفات العلم مدخولة ، قيل لخفائه ، والمحققون لوضوحه).
ولا نزاع في
اشتراك لفظه كقولهم : ـ معرفة المعلوم على ما هو
__________________
أو إدراك المعلوم على ما هو به أو إثبات المعلوم على ما هو به أو اعتقاد الشيء على ما هو به.
(ما يعلم به) الشيء أو ما يوجب كون من قام به عالما ، إلى غير ذلك ووجوه الخلل ظاهرة ،
إلا أن ذلك عند الإمام حجة الإسلام لخفاء معنى العلم وعسر تحديد قال في المستصفى :
ربما يعسر تحديده
على الوجه الحقيقي بعبارة محررة جامعة للجنس والفصل ، فإن ذلك متعسر في أكثر الأشياء بل
أكثر المدركات الحسية فكيف في الادراكات ..؟ وإنما يبين معناه بتقسيم ومثال ، أما التقسيم فهو أن تميزه عما يلتبس به وهي
الاعتقادات ولا خفاء في غيره عن الشك والظن ، بالجزم وعن الجهل بالمطابقة ، فلم يبق إلا
اعتقاد المقلد ، ويتميز عنه بأن الاعتقاد قد يبقى مع تغير متعلقه كما إذا اعتقد
كون زيد في الدار ثم خرج زيد ، واعتقاد بحاله بخلاف العلم ، فإنه يتغير الملوم ولا
يتبقى عند اعتقاد انتفاء المتعلق لأنه كشف وانحلال في العقيدة والاعتقاد عقد
على القلب ، ولهذا يزول بتشكيك
__________________
المشك بخلاف
العلم. وأما المثال : فهو أن إدراك البصيرة شبه بإدراك الباصرة ، فكما أنه لا معنى
للابصار إلا انطباع صور المبصر ، أي مثاله المطابق في القوة الباصرة كانطباع
الصورة في المرآة كذلك العقل بمنزلة مرآة تنطبع فيها صور المعقولات أي حقائقها
وماهياتها على ما هي عليها ، العلم عبارة عن أخذ العقل صور المعقولات في نفسه
وانطباعها حصولها فيه ، فالتقسيم المذكور يقطع العلم عن مظان الاشتباه ، هذا
المثال يفهمك حقيقة العلم ، هذا كلامه. فظهر أنه يريد عسر تحديده بالحد الحقيقي لا
ما يفيد امتيازه وتفهيم حقيقته ، وأن ذلك ليس ببعيد ، وأنه لا يريد بالمثال جزئيا
من جزئياته كاعتقادنا أن الواحد نصف الاثنين ، على ما فهمه البعض.
وقال الإمام
الرازي تعريفات العلم لا تخلوا عن خلل لأن ماهيته قد بلغت في الظهور إلى حيث لا
يمكن تعريفه بشيء أجلى منه ، وإلى هذا ذهب كثير من المحققين ، حتى قال بعضهم : وإن
ما وقع فيه من الاختلاف إنما هو لشدة وضوحه لا لخفائه.
(ولا نزاع في
اشتراك لفظه فقد يقال المطلق إدراك العقل ، فيفسر بحصول الصورة في العقل أو وصول النفس إلى المعنى. ولأحد أقسام التصديق فيفسر
بالحكم الجازم المطابق الموجب ، ولما يشمل التصور والتصديق اليقيني ، فيفسر بصفة يتجلى
بها المذكور لمن قامت به إذ لا تجلي في غير اليقيني ، أو بصفة توجب تمييزا بين المعاني لا
يحتمل النقيض ، والعاديات إنما تحتمل النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته لا بمعنى تجويز العالم إياه حقيقة كما في الظن ، أو حكما
كما في اعتقاد المقلد).
لفظ العلم يقال في
الاصطلاح على معان منها : إدراك العقل ، فيفسر بحصول صورة الشيء في العقل ، وسيجيء
في بحث الكيفيات تحقيقه ودفع ما
__________________
أورد عليه ،
وبعضهم نظر إلى أن العلم صفة العالم ، والحصول صفة الصورة ، فعدل إلى وصول
النفس إلى المعنى أخذا بما ذكره الرازي وغيره ، أن أول مراتب وصول النفس إلى
المعنى شعور ، فإذا حصل وقف النفس على تمام ذلك المعنى فتصور ، فإذا بقي. بحيث لو
أراد استرجاعه بعد ذهابه أمكنه يقال له : حفظ ، ولذلك الطلب تذكر ، ولذلك الوجدان
ذكر، وأنت خبير بأن حصول الصورة في الفعل أيضا صفة العالم ومنها أحد أقسام التصديق وهو ما يقارن الجزم والمطابقة
والثبات فيخرج الطن والجهل المركب والتقليد ، وسيجيء بيان ذلك. ومنها ما يشمل تصور المطابق والتصديق اليقيني على ما هو الموافق للعرف
واللغة ، ولهم فيه عبارتان الأولى : صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت أي صفة ينكشف بها ما يذكر . ويلتفت إليه انكشافا تاما لمن قامت به تلك الصفة إنسانا
كان أو غيره ، وعدل عن الشيء إلى المذكور ليعم الموجود المعدوم ، وقد يتوهم أن
المراد به العلوم لأن في ذكر العلم ذكر المعلوم وعدل إليه تفاديا عن الدور ،
وبالجملة فقد خرج الظن والجهل إذ تجلى فيهما ، وكذا اعتقادا المقلد لأنه عقدة على
القلب والتجلي وانشراح وانحلال للعقدة الثانية صفة توجب تمييزا للمعاني لا يحتمل النقيض أي صفة تستعقب
لخلق الله تعالى لمن قامت به ، تمييزا في الأمور العقلية كلية كانت أو جزئية ،
فيخرج مثل القدرة والإرادة ، وهو ظاهر إدراك الحواس لأن تمييز في الأعيان ومن
__________________
جعله علما
بالمحسوسات لم يذكر هذا القيد وخرج سائر الإدراكات ، لأن احتمال النقيض في الظن
والشك والوهم ظاهر ، وفي الجهل المركب أظهر ، وكذا اعتقاد المقلد لأنه يزول بتشكيك المشكك بل
ربما يتعلق بالنقيض جزما ، وقد يقال إن الجهل المركب ليس بتمييز ، وكذا التصور
الغير المطابق كما إذا ارتسم في النفس من الفرس صورة حيوان ناطق ، وأما المطابق
فداخل لأنه لا نقيض له بناء على أن في أخذ النقيض شائبة في الحكم والتركيب ، ولا
يخفى ما فيه ومنهم من قيد المعاني بالكلية ميلا إلى تخصيص العلم بالكليات والمعرفة
بالجزئيات (فلا يرد ما ذكر في المواقف أن هذه الزيادة مع الغنى عنها محل نظر) بطرد التعريف ، أي جريانه في جميع أفراد المعرف على ما ذكر
ابن الحاجب أن اسم الفاعل يورد على طرد تعريف الاسم ، والفعل المضارع
على عكسه قالوا : هذا مصطلح النحاة. ثم الظاهر من قولنا تمييزا لا يحتمل النقيض أن
يراد نقيض التمييز ولما لم يكن له كثير معنى ، ذهب بعضهم إلى أن المراد أنه صفة.
توجب التمييز إيجابا لا يتحمل النقيض ، وليس بشيء والحق اعتبار ذلك في متعلق
التمييز على ما قالوا إن اعتقاد الشيء مع أنه لا يكون إلا كذا ، علم ، واحتمال ألا يكون
كذا احتمالا مرجوحا ظن ، فالمعنى أنه صفة توجب للنفس
__________________
تمييز المعنى
عندها بحيث لا يحتمل النقيض في متعلقه ، ويدل على ذلك تقرير اعتراضهم بالعلوم
العادية مثل العلم بكون الجبل حجرا فإنه يحتمل النقيض بأن لا يكون حجرا بل قد ينقلب ذهبا بأن يخلق الله تعالى
مكان الحجر الذهب على ما هو رأي المحققين أو بأن يسلب عن أجزاء الحجر الوصف الذي
به صارت حجرا ، ويخلق فيه الوصف الذي به يصير ذهبا على ما هو رأي بعض المتكلمين من
تجانس الجواهر في جميع الأجسام. والجواب :
أن المراد بعدم
احتمال النقيض في العلم هو عدم تجويز العالم إياه لا حقيقة وحكما ، أما في التصور
فلعدم النقيض أو لأنه لا معنى لاحتمال النقيض بدون شائبة الحكم ، وأما في التصديق
فلاستناد جزمه بالحكم إلى موجب بحيث لا يحتمل الزوال أصلا. والعاديات كذلك لأن
الجزم بها مستند إلى موجب هو العادة.
وإنما يحتمل
النقيض بمعنى أنه لو فرض وقوعه لم يلزم منه محال لذاته لكونه في نفسه من الممكنات
التي يجوز وقوعها أو لا وقوعها ، وذلك كما يحكم ببياض الجسم الشاهد قطعا مع
أنه في نفسه ممكن أن يكون وأن لا يكون. والحاصل أن معنى احتمال النقيض تجويز
الحاكم إياه حقيقة وحالا كما في الظن ، لعدم الجزم بمتعلقه أو حكما ، ومآلا ، كما
في اعتقاد المقلد لعدم استناد الجزم به إلى موجب من حس أو عقل أو عادة فيجوز أن
يزول بل يحصل اعتقاد النقيض جزما. وبهذا يظهر الجواب عن نقض تفسير العلم باعتقاد
المقلد سيما فإنه لا يحتمل النقيض في الواقع ولا عند الحاكم. وهو ظاهر ولا عبرة بالإمكان العقلي كما في
العاديات.
__________________
المبحث الثاني
تقسيم العلم إلى تصديق وتصور
(المبحث الثاني : العلم إن كان حكما أي إذعانا وقبولا للنسبة فتصديق وإلا فتصور واختلافهما بالحقيقة لا بمجرد الإضافة).
أقول : قد اشتهر
تقسيم العلم إلى التصور والتصديق . واستبعده بعضهم لما بينهما من اللزوم إذ لا تصديق بدون
التصور ، بل ذكروا أنه لا تصور بحسب الحقيقة بدون التصديق بالتحقيق وإنما الكلام
في التصور بحسب الاسم فعدلوا إلى التقسيم إلى التصور الساذج ، أي المشروط بعدم
الحكم وإلى التصديق.
__________________
وأجاب آخرون بأن
اللزوم بحسب الوجود لا ينافي التقابل بحسب الصدق كما بين الزوج والفرد ، والحصر في
التصور المقيد بعدم الحكم ، وفي التصديق ليس بتام لخروج تصور الطرفين ، وبالجملة
فكلام القوم صريح في أن التصور المعتبر في التصديق هو التصور المقابل له ، وهو
التصور لا بشرط الحكم أعني الذي لم يعتبر فيه الحكم لا الذي اعتبر فيه عدم الحكم ،
وصرح الإمام والكاتبي بأن هذا هو المراد بالتصور الساذج والتصور فقط ، وحاصل
التقسيم أن العلم إما أن يعتبر فيه الحكم وهو التصديق ، أو لا وهو التصور. ومعناه:
ـ
أن التصديق هو
الحكم مع ما يتعلق به من التصورات ، على ما هو صريح كلام الإمام ، لا الإدراك
المقيد بالحكم على ما سبق إلى الفهم من عبارته ، حيث يقول : إنه الإدراك المقارن
للحكم ، أو الإدراك الذي يلحقه الحكم كيف وأنه يذكر ذلك في معرض الاستدلال على كون
التصور جزءا منه ، ثم إنه كثيرا ما يصرح بأنه عبارة عن نفس الحكم ، ويجعل الحكم
تارة من قبيل الأفعال ، وتارة ماهية مسماة بالكلام النفسي ليست من جنس الاعتقاد ولا الإرادة.
والجمهور على أنه
نفس الحكم ، وأنه نوع من العلم متميز عن التصور بحقيقته لا يتعلق إلا بالنسبة ،
بخلاف التصور حيث يتعلق بها وبغيرها. ألا ترى أنك إذا شككت في حدوث العالم فقد
تصورت العالم والحادث والنسبة بينهما من غير حكم وتصديق ، ثم إذا أقيم البرهان فقد
علمت النسبة نوعا آخر من
__________________
العلم وهو المسمى
بالحكم والتصديق ، وحقيقته إذعان النفس وقبولها لوقوع النسبة أو لا وقوعها. ويعبر عنه
بالفارسية (بگرويدن) على ما صرح به ابن سينا وهذا ما قال في الشفاء : التصور في قولك : البياض عرض ، هو
أن يحدث في الذهن صورة هذا التأليف وما يؤلف منه كالبياض والعرض. والصديق ، هو أن
يحصل في الذهن نسبة هذه الصورة إلى الأشياء أنفسها أنها مطابقة لهما. والتكذيب
يخالف ذلك ، وفي هذا الكلام إشارة إلى أن مدلول الخبر والقضية هو الصدق وإنما الكذب احتمال
عقلي. وليس فيه انحصار التصديق في المطابق كما توهم ، إذ لا يلزم من حصول الشيء
كالمطابقة مثلا في النفس تحققه في الواقع.
(قوله : والضرورة
قاضية بانقسام كل منهما إلى النظري المفتقر إلى النظر والضروري المستغنى عنه ، وقد
يفسر الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى الانفكاك عنه سبيلا ، أي لا
يقدر على الانفكاك عنه أصلا فلا يرد زوال الضرورى بطريان ضده أو عدم حصوله لفقد
شرط ولا لزوم النظري بعد الحصول من غير اقتدار على الانفكاك حينئذ لوجود الاقتدار
قبل ذلك) .
يعني أن كلا من
التصور والتصديق ينقسم إلى النظري والضروري لأنا نجد في أنفسنا احتياج بعض التصورات والتصديقات إلى النظر كتصور
الملك والجن ، والتصديق بحدوث العالم ، واستغناء بعضها عنه كتصور الوجود والعدم ، والتصديق
بامتناع اجتماع النقيضين.
والمراد الاحتياج
والاستغناء بالذات ، حتى يكون الحكم المستغني في
__________________
نفسه عن النظر
ضروريا وإن كان طرفاه بالكسب على ما تقرر عند الجمهور من أن التصديق الضروري ما لا
يتوقف بعد تصور الطرفين على نظر وكسب وعبارة المواقف وهو أن البعض ضروري بالوجدان والبعض نظري
بالضرورة ربما يوهم أن الثاني ليس بالوجدان ، لكن المراد ما ذكرنا ـ وفسر القاضي
أبو بكر العلم الضروري بما يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد إلى
الانفكاك عنه سبيلا ، وقيد بالمخلوق لأن الضروري والنظري من أقسام العلم الحادث ،
واعترض عليه بأن النفس قد تنفك عن العلم الضروري ، بأن يزول بعد الحصول لطريان شيء
من أضداد العلم كالنوم والغفلة ، وبأن لا يحصل أصلا لانتفاء شرط من شرائطه مثل
التوجه وتصور الطرفين ، واستعداد النفس ، والإحساس والتجربة ونحو ذلك مما يتوقف
عليه بعض الضروريات.
وأجيب بأن المراد
أنه لا يقتدر على الانفكاك ، والانفكاك فيما ذكرتم من الصور ليس بقدرة المخلوق وهذا ما قال في المواقف أن عبارته مشعرة
بالقدرة يعني يفهم من قولنا يجد فلان سبيلا إلى كذا أو لا يجد أنه يقتدر عليه أو
لا يقتدر والحاصل أن إطلاق الضروري على العلم مأخوذ من الضرورة. بمعنى عدم القدرة
على الفعل والترك كحركة المرتعش. ولذا قد يفسر بما لا يكون تحصيله مقدورا للمخلوق
إلا أن قيد الحصول مراد هاهنا بقرينة جعل الضروري من أقسام العلم الحادث ، ومصرح
في عبارة القاضي ليخرج العلم بمثل تفاصيل الاعداد والاشكال مما لا قدرة
للعبد على تحصيله ، ولا على الانفكاك عنه.
__________________
فإن قيل : يرد على
طرد العبارتين العلم الحاصل بالنظر ، إذ لا قدرة حينئذ على تحصيله ولا على
الانفكاك عنه.
أجيب بأن المعتبر في الضروري نفي القدرة دائما ، وفي النظري
إنما تنتفي القدرة بعد الحصول إذ قبله يقتدر على التحصيل بأن يكتسب وعلى الانفكاك
بأن لا يكتسب فإن قيل : ـ سلمنا أن مراد القاضي (نفي الاقتدار على الانفكاك. إلا
أن السؤال باق بعد ـ لأن الانفكاك سواء كان مقدورا أو غير مقدور ينافي اللزوم.
قلنا : ـ أراد باللزوم) الثبوت أو امتناع الانفكاك بالقدرة على أن يكون آخر الكلام
تفسيرا لأوله ، وفسر النظري بما يتضمنه النظر الصحيح ، بمعنى أنه لا ينفك عنه
بطريق جري العادة عند حصول الشرائط ، ولم يقل ما يوجبه لما سيجيء من أن حصول
النتيجة عقيب النظر ليس بطريق الوجوب ، ولم يقل ما يحصل عقيب النظر الصحيح لأن من
الضروريات ما هو كذلك كالعلم بما يحدث حينئذ من اللذة أو الألم ولو قال ما يفيده النظر الصحيح وأراد الاستعقاب العادي
لكان أظهر ، والكسبي يقابل الضروري ويرادف النظري فيمن يجعل طريق الاكتساب هو
النظر لا غير.
وأما فيمن جوز
الكسب بمثل التصفية والإلهام من خوارق العادات وقد يقال الكسبي لما يحصل بمباشرة
الأسباب اختيارا كصرف العقل أو الحس. والضروري لما يقابله ويخص الكسبي النظري باسم
النظري باسم الاستدلالي.
(قال : واختار الإمام أن ما يحصل من التصورات ضروري ، لامتناع الاكتساب أما من
جهة المطلوب فلأنه إما معلوم مطلقا فلا يطلب ، أو مجهول مطلقا فلا يمكن التوجه
إليه ، أو معلوم من وجه دون وجه فلا يمكن طلب شيء من وجهيه بخلاف التصديق ، فإنه
يطلب بحصول تصوراته ، ورد بعض جهات المجهول كاف في التوجه إليه ، وأما من جهة
الكاسب فلأنه إما جميع الأجزاء
__________________
وهو نفسه أو بعضها
، وفيه تعريف بالخارج أو خارج وهو يتوقف على العلم ، بالاختصاص المتوقف على تصوره
وتصور ما عداه تفصيلا ، ورد بأنه مجموع تصورات الأجزاء والكسب تصور مجموعها ، وأثر
الكسب في استحضارها مجموعة مرتبة فهي من حيث تعلق تصور واحد بها محدود ، ولشدة
اتصال الاعتبارين قد يتوهم اتحادهما ، وإنما المتحد مجموع الأجزاء والماهية لا
تصوراتها وتصور الماهية ، وأيضا تعريف الجزء للماهية إنما يستلزم تعريف شيء من
أجزائها لو لم يكن مجرد تمييزها عما عداها تعريفا لها وكان العلم بها نفس العلم
بالأجزاء كما أنها نفسها ، وأيضا التعريف بالخارج إنما يتوقف على
الاختصاص لا العلم به ولو سلم فيكفي تصوره بوجه وتصور ما عداه إجمالا).
أقول : اختار الإمام الرازي أن كل ما يحصل من التصورات فهو ضروري لأن
الاكتساب يمتنع من جهة المكتسب أعني المطلوب. والكاسب أعني طريق اكتسابه.
أما الأول : فلأن المطلوب إما أن يكون معلوما فلا يمكن طلبه واكتسابه
لامتناع تحصيل الحاصل ، أو يكون مجهولا فلا يمكن التوجه إليه ، ثم اعترض بوجهين.
أحدهما : أنه لم لا يجوز أن يكون معلوما من وجه فيتوجه إليه مجهولا من وجه فيطلب.
وثانيهما : النقض باكتساب التصديق مع جريان الدليل فيه ـ فأجاب عن الأول :
بأنه إما أن يطلب من وجهه المعلوم وهو محال لامتناع تحصيله ، أو من وجهه المجهول وهو محال لامتناع التوجه إليه. وعن الثاني :
بأن ما يتعلق به التصديق كالقضية أو النسبة معلوم بحسب التصور ، فلا يمنع التوجه
إليه ، ومجهول بحسب التصديق يمتنع فعلا طلب حصوله. وهذا بخلاف التصور ، فإن ما
يكون مجهولا بحسب التصور يكون مجهولا مطلقا ، إذ لا علم قبل التصور ،
__________________
وحاصله أن متعلق
التصديق يجوز أن يتعلق به قبل التصديق علم هو التصور بخلاف متعلق التصور.
وأجيب بأن تختار
أنه معلوم من وجه ، ولا نسلم امتناع التوجه حينئذ إلى وجهه المجهول ، وإنما يمتنع
لو لم يكن الوجه المعلوم من وجوهه واعتباراته بحيث يخرجه عن كونه مجهولا مطلقا ،
وذلك كما إذا علمنا أن لنا شيئا به الحياة والإدراكات ، فتطلبه بحقيقته أو بعوارضه
المميزة له عن جميع ما عداه ، على ما هو المستفاد من الحد أو الرسم.
فالمجهول المطلوب لا ينحصر في الحقيقة ولا في العارض ، وما ذكر في المواقف من أن المجهول
هو الذات والمعلوم بعض الاعتبارات تحقيق لما هو الأهم ، أعني إمكان اكتساب التصور
بحسب الحقيقة وتنبيه على أن مجهولية الذات لازمة فيما يطلب تصوره حتى لو على الشيء
بحقيقته ، وقصد اكتساب بعض العوارض له كان ذلك بالدليل لا التعريف ، ولو قصد اكتساب العارض نفسه كان هو
مجهولا بحقيقته ، وما ذكر في تلخيص المحصل من أن كلا من الوجه المجهول والمعلوم حاصل لأمر ثالث هو
المطلوب ؛ إلزام للإمام بما اعترف به من أن المعلوم إجمالا :
(معلوم من وجه.
مجهول من وجه) :
والوجهان متغايران
أحدهما ، معلوم لا إجمال فيه ، والآخر ليس بمعلوم البتة ، لكن لما اجتمعا في شيء
ظن أن هناك علما إجماليا. وإلا فقد ذكر هو في نقد تنزيل الأفكار : أن المطلوب المجهول هو حقيقة الماهية
__________________
المعلومة من جهة
بعض عوارضها ، وأما الثاني : فلأن الكاسب ـ أعني المعرف ـ للماهية يمتنع أن يكون نفسها لامتناع كون الشيء أجلى وأسرع
معرفة من نفسه بل يكون إما جميع أجزائها وهو نفسها ، فيعود المحذور وإما بعضها ،
أو خارجا عنها. ويندرج فيه المركب من الداخل والخارج ومن أفرده بالذكر أراد
بالداخل والخارج المحض من ذلك ، ثم البعض إنما يعرف الماهية إذا عرف شيئا من
أجزائها ، إذ لو كانت الأجزاء بأسرها معلومة أو بقيت مجهولة لم يكن المعرف معرفا
أي سببا لمعرفة الماهية وموصلا إلى تصورها ، فالجزء المعرف إن كان نفسه عاد
المحذور. وإن كان غيره لزم التعريف بالخارج ، ضرورة كون كل جزء خارجا عن الآخر ،
ولو فرض تداخلها بنقل الكلام إلى تعريفه للجزء منه ومن غيره ، فيعود المحذور أو
التعريف بالخارج وهو أيضا باطل ، لأن الخارج إنما يفيد معرفة الماهية إذا علم
اختصاصه بها بمعنى ثبوته لها ففيه عن جميع ما عداها ، وهذا تصديق يتوقف على تصور
الماهية وهو دور ، وتصور ما عداها من أمور الغير المتناهية على التفصيل وهو محال ،
وفي عبارة المواقف هنا تسامح حيث قال ـ والبعض إن عرف الماهية عرف نفسه وقد أبطل
الخارج وسنبطله لأن الذي سيبطل هو التعريف بالخارج لا الخارج ، وكأنه على حذف
الباء أي عرف بالخارج أو على معنى أو عرف الأمر الذي شأنه أن يكون خارجا عن سائر الأجزاء
فيكون البعض المعرف خارجا عنه ويلزم التعريف بالخارج لا الخارج ، وإنما ادعى لزوم
المحالين على ما هو تقرير المحصل ، بناء على أن معرف الماهية معرف لكل جزء منها ،
ولظهور المنع عليه ، اقتصرنا على أحدهما كما هو تقرير المطالب التالية ، لا يخفى
أن القدح في بعض مقدمات هذا الاستدلال كاف في دفعه ، إلا أنهم لما جوزوا التعريف
بجميع الأجزاء بالبعض وبالخارج احتجنا إلى التقصي عن الإشكالات الثلاثة ، أما عن الأول فبأن جميع الأجزاء
وإن كانت نفس الماهية بالذات ، لكن إنما يمتنع
__________________
التعريف بها لو لم
يغايرها بالاعتبار وتحقيقه أن الأجزاء قد تتعلق بها تصورات متعددة بأن تلاحظ
واحدا على التفصيل والترتيب ، فيكون كاسبا أي حدا وقد يتعلق بها تصور واحد بأن
يلاحظ المجموع من حيث المجموع فيكون مكتسبا أي محدودا ، وهذا معنى قولهم في
المحدود إجمال وفي الحد تفصيل ، ولا امتناع في أن يكون تصور المجموع مترتبا على
مجموع التصورات ، ومسببا عنها.
فإن قيل : إذا كان
مجموع التصورات مفضيا إلى تصورات المجموع ، فإن كانت حاصلة كان هو أيضا حاصلا من غير أثر
للنظر والاكتساب ، وإن لم تكن حاصلة لم يصلح معرفا بل تكون مطلوبة وينقل الكلام
إلى ما يحصلها ، وكذا الكلام في التعريف ببعض الأجزاء أو بالخارج ، بل في اكتساب
التصديقات.
قلنا : يجوز أن
تكون الأجزاء معلومة منتشرة في سائر المعلومات فيفتقر إلى النظر لاستحضار مجموعة
مترتبة بحيث تفضي إلى تصور الماهية وهذا معنى الاكتساب ، وحاصله عائد إلى تحصيل
الجزء الصدري بالحد ، وعلى هذا فقس ، وقال في المواقف : قدحا في قولهم
لمجموع ، التصورات يحصل تصور المجموع ، والحق أن الأجزاء إذا استحضرت مترتبة حتى
حصلت فهى الماهية لا أن ثمة حصول مجموع يوجب حصول تصور شيء آخر هو الماهية ، وهذا
كالأجزاء الخارجية ، إذا حصلت كانت نفس المركب الخارجي لا أمرا يترتب عليه المركب
، وظاهره غير قادح لأنهم لا يدعون أن مجموع الأجزاء أمر يوجب حصوله حصول أمر آخر هو تصور المجموع ، أعني تصور الماهية ، فإن
أراد نفي ذلك فباطل لا يشهد له ضرورة ولا برهان ، بل يكذبه الوجدان ولا عبرة
بالقياس على الوجود الخارجي ، لأنه لا حجر في تصرفات العقل فله أن يلاحظ
__________________
الموجود الواحد ،
تارة جملة ، وتارة شيئا فشيئا ، ولم يرد في حل الإشكال على أن قال : الحد مجموع
الأمور التي كل واحد منها مقدم ، ولا يجدي نفعا لأن المحدود أيضا كذلك ، فلا بد في بيان
المغايرة والسببية من أن يقال تلك الأمور من حيث الملاحظة تفصيلا حدا وإجمالا
محدودا وهو معنى كلامهم.
وأما عن الثاني :
فبأنا لا نسلم أن معرف الماهية يجب أن يعرف شيئا من أجزائها ، لجواز أن تكون
الأجزاء معلومة ، ونفتقر إلى حضورها مجموعة مترتبة ممتازة عما عداها ، ويكون ذلك
بالمعرف وحاصله أن الماهية وإن كانت نفس الأجزاء بحسب الذات لكن لا يلزم أن يكون
العلم بها هو العلم بالأجزاء ، بمعنى التصورات المتعلقة بها ، بل لا بدّ من
ملاحظتها مجتمعة متميزة عن الأغيار ، ويجوز أن تبقى الأجزاء مجهولة ويفيد المعرف ، بالذات ، ويعود التغاير إلى الإجمال والتفصيل ، كما في
تعريف الماهية بأجزائها أو غيره ، ويصح التعريف بالخارج على ما سيجيء وبما ذكرنا
يندفع ما يقال إن جميع أجزاء الماهية نفسها ، فكيف لا يكون العلم بها علما بها؟
وأن معرف الشيء سبب لمعرفته ، أي حصوله في الذهن ، فكيف لا يحصل شيئا من أجزائه
..؟ وأن علة حصول الشيء لو لم تكن علة لشيء من أجزائه لجاز حصول كل جزء بدونه ،
فجاز حصول الكل بدونه ، فلم يكن علة ، ولنعتبر بالهيئة الاجتماعية فإنها علة لحصول
المركب وليست علة لحصول شيء من أجزائه.
وأما عن الثالث :
فبأنا لا نسلم أن التعريف بالخارج يتوقف عن العلم
__________________
باختصاصه بل على
الاختصاص نفسه ، فإن الذهن ينتقل من تصور الملزوم إلى تصور لازمه الذهني ، وإن لم
يتقدم العلم باللزوم ، ولو سلم فيكفي في ذلك تصور الشيء بوجه ، وتصور ما عداه
إجمالا ، كما في اختصاص الجسم بهذا الحيز ، وإن كان مبنيا على امتناع كونه في
حيزين ، واشتغال حيز بمتحيزين ، وإلى هذا التسليم نظر من قال : الوصف الصالح
لتعريف الشيء يجب أن يكون لازما بين الثبوت لافراده ، وبين الانتفاء عن جميع ما
عداه ، وينبغي أن يعلم أنه وإن كان لازما بحسب الصدق لكن لا بدّ أن يكون ملزوما بحسب التصور ، وأجاب بعض المحققين عن الأول
بمنع كون جميع أجزاء الماهية نفسها ، بل جزم بأنه باطل تمسكا بأن الأشياء التي كل واحد منها متقدم على الشيء
يمتنع أن يكون نفس المتأخر.
ثم قال : ويجوز أن
يصير عند الاجتماع ماهيته هي المتأخرة ، فتحصل معرفتها بها ، كما أن العلم بالجنس والفصل وبالتركيب التقيدي متقدم على العلم بالجنس المقيد بالفصل ،
وهي أجزاؤه ، وبها يحصل العلم به ، ورد المنع تارة بدعوى الضرورة ، وتارة
بالاستدلال ، بأن جميع أجزاء الشيء إن لم تكن نفسه فإما تكون خارجة عنه وهو ظاهر
البطلان أو داخلة فيه فتركب الشيء منها ومن غيرها ، فلا تكون هي جميع الأجزاء بل
بعضها ، وأيضا لو كان الشيء
__________________
غير جميع الأجزاء
فتمام حقيقته إما ذلك الغير وحده فلا يكون المفروض أجزاء ، أو مع الأجزاء فلا يكون
جميعا ، وأما التمسك فضعيف ، لأن تقدم كل جزء على الشيء لا يستلزم تقدم الكل عليه
، ليمتنع كونه نفس المتأخر ، ولو كان هذا لازما لكان الكل متقدما على نفسه ، ضرورة
تقدم كل جزء عليه ، والذي يلوح من كلامه أنه يريد بجميع أجزاء الشيء جميع الأمور
الداخلة فيه ، من غير اعتبار التأليف والاجتماع ، وبالمركب تلك الأمور مع الاجتماع
على ما قاله الكشي : ان مجرد جميع أجزاء الشيء ليس نفسه ، وإنما نفسه تلك
الأجزاء مع هيئة مخصوصة اجتماعية وجدانية بها هي هي ، لكن لا يخفى أن هذا راجع إلى
ما ذكره البعض من أن الحد التام تعريف بجميع الأجزاء المادية ، إذ بحصولها في الذهن يحصل
صورة مطابقة لما في الأعيان ، وقد رده هذا المحقق بأنه كما يعتبر في الحد التام
الأجزاء المادية أعني الجنس والفصل يعتبر بالجزء الصوري ، أعني الترتيب ، لأن
التعريف بالجنس والفصل لا على الترتيب لا يكون حدا تاما ، ثم أصر على أن جميع
الأجزاء المادية والصورية ليست نفس المركب ، لأنها علل وهو معلول لها ، ومن
المعلوم بالبديهة أن محصل الاثنين بتحصيل واحد وبتحصيل واحد آخر ، وبضم أحدهما إلى
الآخر لا يكون محصلا للاثنين بنفسه ، بل يكون محصلا له بجميع أجزائه المادية
والصورية.
__________________
المبحث الثالث
في التصورات الضرورية
(المبحث الثالث : العلوم الضرورية تنحصر في ست بديهيات ، يحكم العقل بها بمجرد تصور
الطرفين وتسمى الأوليات ومشاهدات يحكم بها بواسطة حسن ظاهر وتسمى الحسيات ، أو
باطن وتسمى الوجدانيات ، وفطريات ويحكم بها بواسطة لا تغرب عن الذهن وتسمى قضايا
قياساتها ومجربات يحكم بها بواسطة تكرر المشاهدة ، ومتواترات يحكم بها بمجرد خبر
جماعة يمتنع تواطؤها على الكذب ، وحدسيات يحكم بها بواسطة حدس من النفس وستعرفه).
أقول : لما كانت
العلوم النظرية تنتهي إلى الضروريات جعلوا إثباتها والرد على منكريها من مبادي الكلام ، ليعلم أن ما يجعل
منتهى مقدمات القياس ويدعي كونه ضروريا هل هو منها ، ولم يشتغلوا بضبط التصورات
الضرورية وكأنها ترجع إلى البديهات والمشاهدات وحصروا التصديقات
__________________
الضرورية في ست :
البديهيات ، والمشاهدات ، والفطريات ، والمجربات ، والمتواترات ،
والحدسيات ، لأن القضايا إما أن يكون تصور أطرافها بعد شرائط الإدراك من الالتفات
، وسلامة الآلات ، كافيا في حكم العقل أو لا؟ فإن كان كافيا فهي البديهيات ، وإن
لم يكن كافيا فلا محالة يحتاج إلى أمر ينضم إلى العقل ويعينه على الحكم ، أو إلى
القضية أو إليهما جميعا.
فالأول : المشاهدات لاحتياجها إلى الإحساس.
والثاني : لا يخلو من أن يكون ذلك الأمر لازما وهي الفطريات أو غير لازم ،
وحينئذ إن كان حصوله بسهولة فهي الحدسيات ، وإلا فليست من الضروريات بل من
النظريات .
والثالث : إن كان حصوله بالأخبار فالمتواترات وإلا فالمجربات ، أما البديهيات
وتسمى أوليات فهي قضايا يحكم العقل بها بمجرد تصور طرفيها كالحكم بأن الواحد نصف
الاثنين ، والجسم الواحد لا يكون في آن واحد في مكانين ، وقد يتوقف فيه العقل لعدم
تصور الطرفين ، كما في قولنا : الأشياء المتساوية لشيء واحد متساوية ، أو لنقصان الغريزة كما في الصبيان
والبله ، أو لتدنيس الفطرة بالعقائد المضادة كما في بعض الجهال ، أو لأن الله
تعالى لا يخلقه على ما هو المذهب.
وأما المشاهدات :
فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة الحواس الظاهرة
__________________
وتسمى حسيات كالحكم بأن الشمس نيرة ، والنار حارة ، أو الباطنة وتسمى
وجدانيات ، كالحكم بأن لنا خوفا وغضبا ، ومنها ما نجده بنفوسنا لا بالآلات البدنية
كشعورنا بذواتنا وأحوالها ، وجميع أحكام الحس جزئية لأنه لا يفيد إلا أن هذه النار
حارة.
وأما الحكم بأن كل
نار حارة فحكم عقلي ، حصل بمعونة الإحساس بجزئيات ذلك الحكم والوقوف على علله.
وأما الفطريات :
فقضايا يحكم بها العقل بواسطة لا يعزب عنه عند تصور الطرفين وهو المعنى بأمر لازم
منضم إلى القضية ، ولهذا تسمى قضايا قياساتها معها ، كالحكم بأن الأربعة زوج ،
لانقسامها بمتساويين.
وأما المجربات : : فهي قضايا يحكم بها العقل بانضمام تكرر المشاهدة إليه ،
والقياس الخفي المنتج لليقين إليها أن الوقوع المتكرر على نهج واحد لا بد له من سبب وإن لم يعرف ماهيته ، فكلما علم وجود
السبب علم وجود المسبب قطعا ، وذلك كالحكم بأن السقمونيا مسهل للصفراء.
وأما المتواترات :
فهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة كثرة شهادة المخبرين
__________________
بأمر ممكن مستند
إلى المشاهدة ، كثرة يمتنع تواطؤهم على الكذب ، فينضم إلى العقل سماع الأخبار وإلى
القضية قياس خفي ، هو أنه لو لم يكن هذا الحكم حقا لما أخبر به هذا الجمع.
وأما الحدسيات :
فهي قضايا يحكم بها العقل بحدس قوي من النفس يزول معه الشك، ويحصل اليقين بمشاهدة
القرائن ، كالحكم بأن نور القمر مستفاد من الشمس ، لما نرى من اختلاف تشكلات نوره
بحسب اختلاف أوضاعه من الشمس ، وذلك أنه يضيء دائما جانبه الذي يلي الشمس وينتقل
ضوؤه إلى مقابلة الشمس ، فيحدس العقل بأنه لو لم يكن نوره من الشمس لما كان كذلك ،
فهي كالمجربات في تكرر المشاهدة ومقارنة القياس الخفي إلا أن السبب في المجربات
معلوم السببية غير معلوم الماهية. وفي الحدسيات معلوم بالوجهين ، إلا أن الوقوف
عليه يكون بالحدس دون الفكر ، وإلا لكان من العلوم الكسبية ، وستعرف معنى الحدس في
بحث النفس.
قال : (وقد تنحصر في البديهيات والمشاهدات لشمولها الكل ، أو لأن ضرورية ما
سواهما ، بل يقينية المجربات والحدثيات لا تخلو عن نظر ، إلا أن المحققين منهم لم
يجعلوه من النظريات بل بواسطة والنزاع لفظي ، فإن قيل كيف ينازع في المتواتر وهو نوع من الحسي ..؟ قلنا : الكلام في مضمون الأخبار
المسموعة ، كوجود مكة مثلا. فقول الرواة : إنه عليه الصلاة والسلام قال : «البينة
على المدعي واليمين على من أنكر» مسموع ، والعلم
__________________
بأن هذا حديث
النبي صلىاللهعليهوسلم حاصل بالتواتر ضرورة أو غير ضرورة ، وبأن البينة إنما تكون
على المدعي حاصل بخبر الصادق استدلالا).
ذكر في المحصل أن الضروريات هي الوجدانيات ، وأنها قليلة النفع في العلوم
، لكونها غير مشتركة والحسيات والبديهيات ، وتبعه صاحب المواقف إلا أنه ذكر في موضع آخر أن الضروريات هي الست المذكورة ،
والوهميات في المحسوسات كالحكم بأن كل جسم في جهة واعتذر لما في المحصل بوجهين :
أحدهما : أن البديهيات تشمل الفطريات نظرا إلى أن الوسط لما كان لازما لتصور
الطرفين فكان العقل لم يفتقر إلا إلى تصورهما ، والحدسيات تشمل المجربات
والمتواترات ، نظرا إلى استناد حكم العقل فيهما إلى الحس ، لكن مع التكرر وكذا
الحدسيات.
وثانيهما : أن كون المجربات والمتواترات والحدسيات من قبيل الضروريات موضع
بحث على ما فصله الإمام في الملخص ، لاشتمال كل منها على ملاحظة قياس خفي ، وكذا
القضايا التي قياساتها معها ، ونازع بعضهم في كون المجربات والحدسيات من قبيل
اليقينيات ، فضلا عن كونها ضرورية بل جعل كثير من العلماء الحدسيات من قبيل
الظنيات ، ثم المحققون من القائلين هذه الأربعة ليست من الضروريات ، على أنها ليست
من النظريات أيضا بل
__________________
واسطة لعدم
افتقارها إلى الاكتساب الفكري ، وبهذا يشعر كلام الإمام حجة الإسلام حيث قال : العلم الحاصل بالتواتر ضروري بمعنى أنه لا يحتاج
إلى الشعور بتوسط واسطة مفضية إليه مع أن الواسطة حاضرة في الذهن ، وليس ضروريا بمعنى
الحاصل من غير واسطة كما في قولنا : الموجود ليس بمعدوم فإنه لا بد فيه من حصول
مقدمتين .
إحداهما : أن هؤلاء مع كثرتهم ، واختلاف أحوالهم لا يجمعهم على الكذب جامع.
الثانية : أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة لكنه لا يفتقر إلى ترتيب
المقدمتين ولا إلى الشعور بتوسطهما ، ولا بإفضائهما إليه.
وبهذا يظهر أن
النزاع لفظي مبني على تفسير الضروري ، أنه الذي لا يفتقر إلى واسطة أصلا ، أو الذي
نجد أنفسنا مضطرين إليه.
فإن قيل :
المتواترات من قبيل المحسوسات بحس السمع فيجب أن يكون ضروريا بلا نزاع ، كالعلم
بأن النار حارة.
قلنا : الكلام في
العلم بمضمون الخبر المسموع تواتر كوجود مكة مثلا ، وهو معقول. آلته بتكرر السماع حتى إذا كان المسموع المتواتر خبرا عن نسبته خبر إلى صدق
كان العلم بمضمون ذلك الخبر اكتسابيا وفاقا ، مثلا إذا تواترات الأخبار بأن النبيصلىاللهعليهوسلم قال «البينة على من ادعى واليمين على من أنكر» .
فالعلم بأن هذا
صوت المخبرين مأخوذ من الحس ، والعلم بأن الخبر
__________________
المنقول كلام
النبي صلىاللهعليهوسلم هو المستفاد من القضية ، التي من قبيل المتواترات ،
المتنازع في أنه ضروري أو غير ضروري والعلم بأن البينة تجب على المدعي كسبي
مستفاد من ترتيب المقدمتين ، أعني أن هذا خبر النبي عليهالسلام. وكل ما هو خبر عن النبي عليهالسلام فمضمونه حق ، لما ثبت من صدقه بدلالة المعجزات ، وما يقال
من أن هذا الحديث متواتر فمعناه أن الخبر بكونه كلام النبي صلىاللهعليهوسلم متواتر ، سواء كان هو في نفسه خبرا أو إنشاء.
قال (وأما المنكرون فمنهم من قدح في الحسيات بأن الحس قد يغلط كثيرا ، والجواب
أنه لا ينافي الجزم المطابق فيما لا غلط فيه).
أقول قد ثبت اتفاق أهل الحق على أن الحسيات والبديهيات مبادي
أول لما يقوم حجة على الغير ، وأنكر ذلك جماعة فمنهم من قدح في الحسيات وحصر المبادي الأول في البديهيات ، ومنهم من
عكس ، ومنهم من قدح فيهما جميعا ، ولكل من الفرق شبه ، وقد أطنب الإمام فيها بتكثير الأمثلة ، ونسب القول بعدم كون الحسيات من
اليقينيات إلى أكابر الفلاسفة ، ورد بأن علومهم اليقينية مبنية عليها ، والمبادي الضرورية مستندة إليها ، على ما صرحوا بأن مبادي المجربات
والمتواترات والحدسيات هي الإحساس بالجزئيات ، وأن الأوليات يكتسبها الصبيان
باستعداد يحصل لعقولهم من الإحساس بالجزئيات ، فكيف ينسب إليهم القول بأنها ليست
يقينية ..؟ واعتذر بأن المراد أن جزم العقل بالأحكام المأخوذة من الحس قد تتوقف
على شرائط ، ربما لا يعلم ما هي. ومتى حصلت ..؟ وكيف حصلت ..؟ فلذلك جعلوا لبيان
مواضع الغلط في
__________________
المحسوسات ، وأن
أي أحكامها تكون يقينية ، وأيها تكون غير يقينية ، صناعة المناظر كما جعلوا لبيان
ذلك في المعقولات صناعة سوفسطيا ، وما ذكر في تلخيص المحصل من أنه لا حكم للحس لأنه ليس من
شأنه التأليف الحكمي ، بل الإدراك فقط ، وإنما الحكم للعقل ، ليس ردا لكلام الإمام
بالمناقشة في أن الحاكم هو الحس أو العقل بواسطته ، بل لما رتب عليه من المقصود
حيث قال : فالمحسوس من حيث إنه محسوس لا يوصف بكونه يقينيا أو غير يقيني ، وإنما
يوصف به من حيث مقارنته لحكم العقل ، وحينئذ يصير المعنى أن أحكام العقل في
المحسوسات ليست بيقينية لما قد يقع فيها من الغلط ، وهذا لا يختص ، بالمحسوسات ،
لأن المعقولات الصرفة أيضا قد يقع فيها الغلط ، ولا تصح نسبته إلى الحكماء لتصريحهم بخلاف ذلك. نعم لما ذكر الإمام أنه ثبت بما ذكر
من الشبه أن حكم الحس قد يكون غلطا فلا بد من حاكم آخر فوقه يميز صوابه عن خطئه ،
فلا يكون الحس هو الحاكم الأول ، رده بأن الحس ليس بحاكم أصلا ، بل الحاكم في الكل
هو العقل ؛ وأما اشتغاله ببيان أسباب الغلط فيما أورده الإمام من الصور فقد اعترف
بأنه تنبيه لمن يثق أو يعترف بالوقوف على الأوليات والمحسوسات ببيان التقصي عن مضايق مواضع الغلط ، ثم إحالة تصويب
__________________
الصواب وتخطئة
الخطأ إلى صريح العقل ، من غير افتقار إلى دليل في الوثوق بالمحسوسات ، ولا جواب
عن شيء من الشكوك ، ولا تأمل في الأسباب وحصرها ، وانتقائها ونحو ذلك ، وحاصل
الشكوك أنه لا وثوق على حكم الحس ، أما في الكليات فلأنه لا يحيط بها كيف ، وهي لا تقتصر على الأفراد
المحققة. وأما في الجزئيات فلأنه كثير ما يكون حكمه فيها غلطا ، بأن يقع الحكم في المحسوسات
على خلاف ما هو عليه ، فإنا نرى الصغير كبيرا أو بالعكس والواحد كثيرا أو بالعكس ، والساكن متحركا إلى غير ذلك ،
كما نرى العنبة في الماء كالإجاصة ، والجرة من بعيد كالكوز ، والقمر في الماء
قمرين ، والألوان المختلفة في الخطوط المخرجة من مركز الرحى إلى محيطها عند
إدارتها لونا واحدا ممتزجا من الكل ، ويرى من في السفينة ساكنة وهي متحركة ، والشط متحركا وهو ساكن ،
إلى غير ذلك.
والجواب : أن غلطه في بعض الصور لا ينافي الجزم المطابق في كثير من الصور ،
كما في الحكم بأن الشمس مضيئة والنار حارة ، إذ العقل قاطع بأنه لا غلط هناك من
غير افتقار إلى نظر ، وإن كان ذلك بمعونة أمور لا تعلم على التفصيل وهذا ما قاله
في المواقف : إن مقتضى ما ذكر من الشبه أن لا يجزم العقل بأحكام المحسوسات لمجرد الحس لا أن لا يوثق بجزمه بما جزم به وكونه محتملا ، أي ولا أن
يكون كل ما جزم به العقل من أحكام المحسوسات محتملا أي بصدد الاحتمال بناء على عدم
الوثوق بما وقع فيه من الجزم.
__________________
فقوله ، وكونه
محتملا مرفوع معطوف على أن لا وثوق لا مجرور معطوف على جزمه ، إذ ليس فيه كثير معنى.
قال : (ومنهم من قدح في البديهيات : بأن أجلاها وأعلاها الشيء إما أن
يكون ، وإما أن لا يكون ، وهو يتوقف على تصور الوجود والعدم وتحقيق معنى الوضع والحمل ، ودفع شبهاتهما ، وفيها أفكار
دقيقة ، والجواب أنها لا تورث شكا فإن شئنا أعرضنا وإن شئنا نبهنا)
أقول : إنها فرع الحسيات لأن الإنسان إنما يتنبه للبديهيات بعد
الإحساس بالجزئيات ، والتنبه لما بينهما من المشاركات والمباينات.
ولا يلزم من القدح
في الفرع القدح في الأصل ، وإنما يلزم لو كان الفرع لازما له نظرا إلى ذاته ، ووجه
القدح أن أجلى التصديقات ليس البديهية وأعلاها قولنا : النفي والإثبات لا يجتمعان ولا
يرتفعان ، يعني أن الشيء إما أن يكون وإما أن لا يكون ، وهذا غير موثوق به ، أما
كونه أجلى فجلى ، وأما كونه أعلى أي أسبق فلتوقف الكل عليه ، واستنادها إليه ،
مثلا يلاحظ في قولنا الكل
__________________
أعظم من الجزء ،
أنه لو لم يكن كذلك لكان الجزء الآخر كائنا وليس بكائن ، وفي قولنا : الجسم الواحد
لا يكون في آن واحد في مكانين ، أنه لو وجد فيهما لكان الواحد اثنين ، فيكون أحد
المثلين كائنا وليس بكائن ، وعلى هذا القياس ، وأما عدم الوثوق ، فلأن العلم
بحقيقة هذه القضية وقطعيتها يتوقف على تصور الوجود ، والعدم أعني الكون واللاكون
وعلى تحقيق معنى كون الشيء موضوعا وكونه محمولا ، وعلى دفع الشبهات التي تورد على
الأمرين ، وهذه الأمور الثلاثة إنما تتبين بأنظار دقيقة فإن تمت الأنظار وحصلت
المطالب ويتوقف لا محالة على أحقية هذه القضية لكونها أول الأوائل ، لزم الدور وكون الشيء نظريا على تقدير كونه ضروريا وهو محال ، وإن بقي شيء منها في حيز الإبهام لم يحصل الجزم بالقضية ، وهو المرام ،
والجواب أن بديهة العقل جازمة بها وبحقيقتها من غير نظر واستدلال في تحقيق النسبة ولا في دفع الشبهة ،
وما يورد من الشكوك لا يورث قدحا في ذلك الجزم ، ولا يمكن دفعه بالنسبة إلى من لا يعترف
بالبديهيات ، فإن شئنا أعرضنا عنه وإن شئنا نبهناه عسى أن يعترف أو يحصل له
استعداد النظر واستحقاق المباحثة ، فمن الشبه أن هذا التصديق يتوقف على تصور
الوجود والعدم وتميزهما ، وهذا يقتضي الثبوت ولو في الذهن ، وثبوت العدم المطلق
تناقض ثم لا بد من إمكان سلب العدم المطلق ليتحقق الوجود في الجملة فيكون هذا السلب قسما من العدم
__________________
المطلق ، لكونه
عدما مضافا وقسيما له. لكونه رفعا له وسلبا.
والجواب : أنه لا استحالة في كون المعنى لا ثابتا من حيث الذات والمفهوم وثابتا من
حيث الحصول في العقل ، ولا في كونه قسما من العدم من حيث كونه عدما مضافا وقسيما
له من حيث المفهوم. وسيجيء لهذا زيادة تحقيق في بحث العدم.
ومنها أن الوجود
إن أخذ في هذه القضية المنفصلة محمولا بمعنى أن الجسم إما كائن أو ليس بكائن ،
فإما أن يكون وجود الشيء نفس ماهيته فيلزم كون الجزء الإيجابي لغوا ، مع أنه مفيد
قطعا ، وكون الجزء السلبي تناقضا لأن إطلاق السلب يناقض دوام الإيجاب ، وإما أن يكون غيرها
فيلزم في الإيجاب قيام الوجود بما ليس بموجود إن أخذ الموضوع خاليا عن الوجود ،
وتسلسل الموجودات إن أخذ موجودا. وسيجيء بيانه ، وجوابه في بحث الوجود ، وأيضا
يلزم كون الشيء غيره وفيه اتحاد الاثنين ، ويلزم في السلب تعقل النفي المستلزم
لثبوته ، وخلو الماهية عن الوجود المستلزم لقيام الوجود بالمعدوم عند ثبوته لها.
والجواب : أنه لا امتناع في كون الشيئين متغايرين باعتبار ، متحدين باعتبار ، على
ما تقرر من أن بين الموضوع والمحمول تغايرا بحسب المفهوم ، واتحادا بحسب
الهوية.
والمعنى : أن ما
يقال له الجسم هو بعينه يقال له الموجود. وكذا لا امتناع في كون النفي المطلق
ثابتا من حيث الحصول في العقل ، ولا في قيام الوجود بما لم يكن موجودا على ما
سيجيء إن شاء الله تعالى ، هذا كله إذا أخذ الوجود محمولا ، وأما إذا أخذ رابطة
بأن يقال: الجسم إما أن يكون أسود أو لا يكون
__________________
أسود ، فيلزم في
الجزء الإيجابي اتحاد الاثنين وقد سبق بجوابه ، وأيضا لما كان المحمول هنا وضعا
كان للموضوع موصوفية به وهي وجودية لأن نقيضها اللاموصوفية وهي عدمية ، ويتصف بها الجسم ضرورة فيتسلسل حكم الموصوفيات ولا تندفع بكونها من الاعتبارات العقلية ، لأن الموصوفية
نسبة فتقوم بالمنتسبين لا بالعقل ، ولأن حكم العقل إن لم يطابق الخارج كان جهلا ، فإذا بطل الإيجاب تعين أن
يكون الصادق دائما هو الجزء السلبي ، وأنتم لا تقولون بذلك بل تجوزون
صدق الإيجاب في الجملة.
والجواب : ما سيجيء من أن صورة السلب كاللاموصوفية لا يلزم أن تكون عدمية ، ولو سلم فنقيض
العدمي لا يلزم أن يكون وجوديا وأن الأحكام الذهنية لا يكون صدقها باعتبار
المطابقة ، لما في الخارج وحصول النسب والإضافات في العقل فقط ، لا ينافي انتسابها
إلى الأمور الخارجية لأن معناه أن تكون تلك الأمور بحيث إذا عقلها عاقل حصلت في
عقله تلك النسب والإضافات ، ومنها أنا لا نسلم عدم الواسطة بين الوجود أو العدم وسيجيء بجوابه على أنها لا تعقل بين الكون واللاكون
وما ذكر في المواقف من أن القائلين بها بلغوا في الكثرة حدا تقوم الحجة بقولهم
معناه : أنه قد يكون حجة
__________________
وذلك عند الإخبار
عن محسوس ، ففي المعقول يكون شبهة لا أقل.
قال : (ومنهم من قدح فيهما جميعا وأمثلهم اللاأدرية القائلون بأني شاك وشاك في أني شاك وتمسكوا بشبه الفريقين ليورث شكا ، والحق يعذبهم ولو
بالنار ، ليعترفوا فتلغى ملتهم ، أو يحرقوا فتنطفئ شعلتهم).
أقول : أي في
الحسيات والبديهيات ، جميعا وهم السوفسطائية قال : في تلخيص المحصل ، إن قوما من الناس يظنون أن
السوفسطائية قوم لهم نحلة ومذهب ، ويتشعبون إلى ثلاث طوائف :
اللاأدرية : وهم
الذين قالوا : نحن شاكون ، وشاكون في أنا شاكون ، وهلم جرا.
والعنادية : وهم
الذين يقولون : ما من قضية بديهية أو نظرية إلا ولها معارضة ومقاومة ، مثلها في
القبول.
والعندية : وهم
الذين يقولون مذهب كل قوم حق بالقياس إليهم ، وباطل بالقياس إلى خصومهم ، وقد يكون طرفا النقيض حقا بالقياس
إلى شخصين ، وليس في نفس الأمر شيء بحق.
والمحققون على أن
السفسطة مشتقة من سوفاسطا ومعناه : علم الغلط والحكمة المموهة لأن سوفا اسم للعلم
ووسطا للغلط ولا يمكن أن يكون في العالم قوم ينتحلون هذا المذهب بل كل غالط
سوفسطائي في موضع غلطه ، ثم لا يخفى ما في كلام العنادية ، والعندية
__________________
من التناقض ، حيث
اعترفوا بحقية إثبات أو نفي سيما إذا تمسكوا فيما ادعوا بشبهة ، بخلاف
اللاأدرية فإنهم أصروا على التردد والشك في كل ما يلتفت إليه ، حتى في كونهم شاكين وتمسكوا بأنه لا
وثوق على حكم الحس والعقل لما مر من شبه الفريقين ، ولا على الاستدلال لكونه فرعها
، فلم يبق الا طريق التوقف ، وغرضهم من هذا التمسك حصول الشك والتهمة لا إثبات أمر
أو نفيه ، فلهذا كانوا أمثل طريقة من العنادية والعندية ، والمحققون على أنه لا
سبيل إلى البحث والمناظرة معهم ، لأنها لإفادة المجهول بالمعلوم ، وهم لا يعترفون
بمعلوم أصلا ، بل يصرون على إنكار الضروريات أيضا حتى الحسيات والبديهيات، وفي
الاشتغال بإثباتهما التزام لمذهبهم ، وتحصيل لغرضهم من كون الحسيات والبديهيات غير
حاصلة بالضرورة بل مفتقرة إلى الاكتساب إذ عندنا لا يتصور كون الضروري مجهولا
يستفاد بالمعلوم ، فالطريق معهم التعذيب ولو بالنار ، فإما أن يعترفوا بالألم وهو
من الحسيات ، وبالفرق بينه وبين اللذة ، وهو من العقليات وفيه بطلان لمذهبهم ،
وانتفاء لملتهم ، وإما أن يصروا على الإنكار فيحترقوا ، وفيه اضمحلال لثائرة فتنتهم وانطفاء لثائر شعلتهم.
__________________
الفصل الثالث
في النظر وفيه مباحث
١ ـ في تصوره
وتعريفه
٢ ـ في افادته في
تقسيمه إلى صحيح وفاسد.
٣ ـ في شرطه.
٤ ـ في التوصل به
إلى الواجب إجماعا.
٥ ـ في أنه أول
واجب أم لا ..؟
٦ ـ في انقسامه
إلى التصور والتصديق.
المبحث الأول
في تصوره وتعريفه
المبحث الأول
:
إذا حاولنا تحصيل
مطلوب فالنفس تتحرك منه في معقولاتها طلبا لمبادئه وتعيينا ثم ترجع هاهنا ترتيبا وتأديا إلى المطلوب فههنا حركتان وملاحظات وترتيب
وإزالة للموانع ، وتوجه إلى المطلوب وغاية للحركة ، وحقيقة النظر مجموع الحركتين ،
لكن قد يكتفى ببعض الأجزاء أو اللوازم ، فتفسر بالحركة الأولى أو الثانية ، أو
ترتيب المعلومات للتأدي إلى مجهول ، أو ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول ، أو تجريد
الذهن عن الغفلات أو تحديق العقل نحو المعقولات ، أو الفكر الذي يطلب به علم أو ظن
ويراد بالفكر حركة النفس في المعاني ، فيخرج ما يكون لطلب علم أو ظن كأكثر حديث النفس ، ويدخل ما يكون لطلب
تصور أو تصديق جازم أو راجح ، من غير ملاحظة المطابقة وعدمها)
أقول : أورد فيه
ستة مباحث : أولها في بيان حقيقته ، ولا خفاء في أن كل مطلوب لا يحصل من أي مبدأ
يتفق بل لا بد من مبادي مناسبة له ، والمبادي لا توصل إليه كيف اتفقت ، بل لا بد
من هيئة مخصوصة فإذا حاولنا تحصيل
__________________
مطلوب تصوري أو
تصديقي ولا محالة ، يكون مشعورا به من وجه تحركت النفس منه في الصور المخزونة عندها ، منتقلا من صورة إلى صورة إلى أن
يظفر بمبادئه من الذاتيات والعرضيات والحدود الوسطى ، فيستحضرها متعينة متميزة ،
ثم يتحرك فيها لترتيبها ترتيبا خاصا يؤدي إلى تصور المطلوب بحقيقته ، أو بوجه
يمتاز به عما عداه ، أو إلى التصديق به يقينا أو غير يقين ، فههنا حركتان يحصل بأولاهما : المادة ، وبالثانية : الصورة والمبادي من حيث الوصول إليها منتهى
الحركة الأولى ، ومن حيث الرجوع عنها مبدأ الحركة الثانية ، ومن حيث التصرف فيها لترتب الترتيب ، المخصوص
مادة الثانية ، وحقيقة النظر مجموع الحركتين ، وهما من جنس الحركة في الكيف بتوارد
الصور والكيفيات على النفس ، ولا محالة يكون هناك توجه نحو المطلوب ، وإزالة لما
يمنعه من الغفلة والصور المضادة والمنافية ، وملاحظة للمعقولات ليؤخذ البعض ويحذف
البعض ، وترتيب للمأخوذ وغاية يقصد حصولها ، وكثيرا ما يقتصر في تفسير النظر على
بعض أجزائه ، أو لوازمه ، اكتفاء بما يفيد امتيازه أو اصطلاحا على ذلك ، فيقال :
هو
__________________
حركة الذهن إلى
مبادي المطلوب ، أو حركته عن المبادي إلى المطالب ، أو ترتيب المعلومات للتأدي إلى
المجهول ، ويراد بالعلم الحضور عند العقل ليعم الظن والجهل المركب أيضا ، ويدخل
التعريف بالفصل وحده ، أو بالخاصة وحدها ، بناء على أنه يكون المشتق
كالناطق والضاحك ، وفيه شائبة التركيب والترتيب بين الموصوف والصفة ، أو يخص
التفسير بالنظر المشتمل على التأليف والترتيب لندرة التعريف بالمفرد فلا يضر خروجه
، وهذا ما قال ابن سينا : إن التعريف بالمفرد ، نزر خداع والإمام ذكر مكان المعلومات التصديقات ، بناء على ما ذهب
إليه من امتناع اكتساب التصورات ، وكثيرا ما يجعله عبارة عن نفس المعلوم المرتبة ،
ومن قال ترتيب أمور معلومة أو مظنونة للتأدي إلى مجهول ، أراد بالعلم التصور
والتصديق الجازم المطابق الثابت على ما هو معنى اليقين ، وبالظن ما يقابل اليقين ،
فيتناول الظن الصرف ، والجهل المركب والاعتقاد ، على ما صرح به في شرح الإشارات ،
وحينئذ لا يرد ما ذكر في المواقف من أن هذا ليس تفسيرا للنظر الصحيح ، والإلزام أن يقيد الظن بالمطابقة ليخرج الفاسد من
جهة المادة المظنونة الكاذبة ، وأن يقال بدل للتأدي بحيث يؤدي ليخرج الفاسد من جهة
الصورة بل لمطلق النظر ، ومقدماته قد لا تكون معلومة ولا مظنونة ، بل مجهولة
__________________
جهلا مركبا ، ولا
يتناوله التفسير فلا يكون جامعا ، وقد يفسر بملاحظة المعقول لتحصيل المجهول ،
ويراد بالمعقول الحاصل عند العقل ، واحدا كان أو أكثر تصورا كان أو تصديقا ، علما
كان أو ظنا أو جهلا مركبا ، فلا يفتقر إلى شيء من التكلفات السابقة. وفي كلام
الإمام أن نظر البصيرة أشبه بنظر البصر ، فكما أن من يريد إدراك شيء ببصره يقطع
نظره عن سائر الأشياء ويحرك حدقته من جانب إلى جانب إلى أن يقع في مقابله ذلك
الشيء فيبصره. كذلك من يريد إدراك شيء ببصيرته يقطع نظره عن سائر الأشياء ويحرك
حدقة عقله من شيء إلى شيء إلى أن يحصل له العلوم المرتبة المؤدية إلى ذلك المطلوب.
فمن هاهنا يقال :
النظر تجريد الذهن عن الغفلات ، بمعنى إخلائه عن الصوارف والشواغل العائقة عن
إشراق النظر الإلهي ، الموجب لفيضان المطلوب ، أو تحديق العقل نحو المعقولات طلبا لما بعده لفيضان المطلوب عليه ، ولما كان امتياز النظر عن
سائر حركات النفس بالغاية في غاية الظهور ، حتى إن شيئا من تفاسيره لا تخلو عن
إشارة إليها ، ذهب المتكلمون إلى أنه الفكر الذي يطلب به علم أو ظن ، والمراد
بالفكر حركة النفس في المعاني ، واحترز بقيد المعاني عن التخيل على ما قال في شرح
الإشارات : إن الفكر قد يطلق على حركة النفس بالقوة ، التي آلتها مقدم البطن
الأوسط في الدماغ ، أي حركة كانت إذا كانت تلك الحركة في
المعقولات ، وأما إذا كانت في المحسوسات فقد تسمى تخيلا فما وقع في المواقف أن
المراد به الحركات التخييلية ليس كما ينبغي ، والصواب ما ذكر في شرح الأصول :
إنه انتقال
__________________
النفس في المعاني
انتقالا بالقصد ، وكأنه احترز بالقصد عن الحدس وعن سائر حركاتها ، لا عن قصد وبالجملة هو بمنزلة الجنس
للنظر على ما قال إمام الحرمين : أن الفكر قد يكون لطلب علم أو ظن فيسمى نظرا ، وقد يكون
كأكثر حديث النفس ، فسقط اعتراض الآمدي بأن لفظ الفكر زائد لأن باقي الحد مغن عنه ، واعتذاره بأنه
لم يجعله جزءا من الحد بل كأنه قال : النظر الفكر وهو الذي يطلب له علم أو ظن ،
وإن كان صحيحا من جهة أن الفكر في الاصطلاح المشهور كالمرادف للنظر لا أعم منه ،
ليمتنع تفسيره بما يطلب به علم أو ظن. لكنه بعيد من جهة أن العبارة لا تدل عليه
أصلا ، ولم يعهد في التعريفات أن يقال الإنسان البشر الذي هو حيوان ناطق مثلا ،
على أن مجرد قولنا الذي يطلب به علم أو ظن لا يصلح تفسيرا للنظر والفكر إلا بتكلف
، وأما اعتراضه بأن الظن قد لا يكون مطابقا وهو جهل يمتنع أن يكون مطلوبا فمدفوع ،
بأن المطلوب هو الظن من حيث إنه ظن ، وهو لا يستلزم طلب الأخص أعني غير
__________________
المطابق ، ليلزم
طلب الجهل وفي عبارة القاضي أبي بكر علم أو غلبة ظن ،
واعترض بأنه لا يتناول ما يطلب به أصل الظن ، وأجاب الآمدي بأن كلا من طلب العلم ،
وطلب الظن ، وطلب غلبته ، وخاصة للنظر.
(ولا خلل في
الاقتصار على بعض الخواص ورده في المواقف)
بأن هذا إنما يكون
في الخاصة الشاملة ، وظاهر أن شيئا من الثلاثة ليست كذلك ، ولهذا لم
يجز الاقتصار على قولنا يطلب به علم ، لخروج ما يطلب به ظن ، بل وجب في تعريف
الشيء بالخواص التي لا يشمل كل منها إلا بعض أقسامه أن يذكر الجميع بطريق التقسيم
، تحصيلا لخاصة شاملة لكل فرد هي كونه على أحد الأوصاف ، وتقع كلمة «أو» لبيان أقسام
المحدود لا للإبهام والترديد لينافي التحديد ، فأجاب بأن الظن هو المعبر عنه بغلبة
الظن ، لأن الرجحان مأخوذ في حقيقته ، إذ هي الاعتقاد الراجح وهذا عذر غير واضح
لأن اعتبار رجحان الحكم في حقيقته لا يصلح مصححا ، أو باعثا على التعبير عنه
برجحان الظن ، اللهم إلا أن يريد أن إضافة الغلبة إليه للاختصاص ، أي الرجحان
المعتبر في الظن ، وليست من إضافة المصدر إلى الفاعل ، بمعنى كون الظن غالبا
راجحا.
وقد يقال إن كلا
من الثلاث خاصة شاملة ، إذ ليس المراد طلب العلم أو
__________________
الظن بالفعل ، بل
أن يكون الفكر بهذه الحيثية وذلك بأن يكون حركة في المعقولات ، لتحصيل مبادي
المطلوب ، فالفكر الذي يطلب به العلم هو الذي يطلب به الظن أو غلبته ، فلا يمتنع الاقتصار.
__________________
المبحث الثاني
تقسيم النظر إلى صحيح وفاسد
قوله : (المبحث
الثاني : النظر إن صحت مادته وصورته فصحيح وإلا ففاسد)
سواء جعلناه نفس
الترتيب أو الحركة المفضية إليه يستدعي علوما مرتبة على هيئة مخصوصة ، يسمى الموصل
منها إلى التصور معرفا ، وإلى التصديق دليلا ، وتكون العلوم أي الأمور الحاضرة
مادة لذلك الموصل ، والهيئة المحصلة صورة له ، وقد يضافان إلى النظر لهذه الملابسة ، أو اطلاقا للفكر والنظر على العلوم المرتبة ،
كما في عبارة الإمام ، وهذا معنى كلام المواقف : أن لكل ترتيب مادة وصورة ثم الشائع في عبارة البعض أن الصورة هي ذلك الترتيب ، إلا
أن المحققين على أن الترتيب هو أن يكون لبعض أجزاء ذلك المجموع عند البعض وضع ما ،
أو جعلها بهذه الحيثية والصورة هي الهيئة العارضة للأجزاء بعد الترتيب بسببها ،
يقال لها : إنها واحدة واتفقوا على أنه إن صحت المادة والصورة ، فالنظر صحيح يؤدي
إلى المطلوب وإلا ففاسد لا يؤدي إليه ، وصحة المادة في المعرف أن يكون المذكور في
معرض الجنس جنسا للماهية ، وفي معرض الفصل فصلا لها ، وفي معرض الخاصة خاصة شاملة
لازمة ، وأن يكون المذكور في الحد التام الجنس والفصل ، القريبين إلى غير ذلك من
الشرائط ، وفي الدليل أن تكون المقدمات مناسبة للمطلوب ، صادقة قطعا أو ظنا أو
فرضا
__________________
بحسب المطالب ،
على ما بين في الصناعات الخمس ، وصحة الصورة في المعرف أن يقدم الأعم فيقيد بالفصل
أو الخاصة ، بحيث تحصل صورة وجدانية موازية أو مميزة لصورة المطلوب ، وفي الدليل
أن يكون على الشرائط المعتبرة في الانتاج على ما فصل في أبواب القياس والاستقراء والتمثيل من المنطق ، فظهر أن في تقسيمه النظر إلى الصحيح والفاسد
باعتبار المادة والصورة تجوزا فلا يبعد تقسيم إلى الجلي والخفي بهذا الاعتبار أيضا
فإن أجزاء كل من المعرف والدليل قد تكون ضرورية تتفاوت في الجلاء والخفاء ، وقد
تكون نظرية تنتهي إلى الضروري بوسائط أقل أو أكثر وكذا الصورة القياسية للأشكال ،
وعبارة المواقف ربما توهم اختصاص التجوز بانقسام النظر إلى الجلي والخفي واختصاصه
بالدليل دون المعرف وابتناء انقسام النظر إلى الصحيح والفاسد باعتبار المادة
والصورة على تفسيره بالترتيب.
النظر الصحيح
(قال : والصحيح المقرون بشرائطه يفيد العلم).
قال الإمام : لا
نزاع في أن النظر يفيد الظن ، وإنما النزاع في إفادته اليقين ، فأنكره السمنية مطلقا وجمع من الفلاسفة في الإلهيات
__________________
والطبيعيات. حتى
نقل عن أرسطو أنه قال : لا يمكن تحصيل اليقين في المباحث الإلهية إنما
الغاية القصوى فيها الأخذ بالأولى والأخلق ، وهذا أقرب بأن يكون محل النزاع ، إذ
لا يتصور تردد في أن الحاصل من ضرب الاثنين في الاثنين أربع ، وبالجملة لما كان
مقصود الإمام الرد على المنكرين اقتصر على أن النظر المفيد للعلم مطلقا أو في
الإلهيات موجود في الجملة ، ولما قصد الآمدي إثبات قاعدة تنطبق على الأنظار
الجزئية الصحيحة الصادرة عنا في اكتساب العلوم افتقر إلى إثبات الموجبة الكلية ،
فقيد النظر بكونه في القطعيات ، إذ النظر في الظني لا يفيد العلم وفاقا ، وبأن لا
يعقبه شيء من أضداد الإدراك كالنوم والغفلة والموت ، فإنه لا علم حينئذ بل لا ظن
أيضا ، وجعل كلا من الأمور المذكورة ضدا للإدراك على ما هو رأي المتكلمين ، وإن لم
يوافق اصطلاح الفلاسفة ، وتركنا التقييد بالقطعي استغناء عنه بذكر الصحيح ، إذ
النظر في الظني لطلب العلم يكون فاسدا من جهة المادة ، حيث لم يناسب المطلوب ،
وليتناول النظر المطلوب به التصور ، هذا وظاهر كلام المتكلمين أنهم يريدون بالعلم
والنظر عند الإطلاق ما يخص التصديقات ، وأن ما ذكرنا في قولهم العلم صفة توجب
تمييزا لا يحتمل النقيض والنظر فكر يطلب به علم أو ظن ، أنه يعم التصور والتصديق
تكلف منا.
(قوله : بمعنى
حصوله عقيبه عادة مع الكسب أو بدونه ، أو لزوما عقليا بخلق الله تعالى عندنا
وتوليدا عند المعتزلة ووجوبا بتمام الاستعداد وكمال الفيض عند الحكماء).
__________________
يشير إلى كيفية
إفادة النظر للعلم فعندنا هي بخلق الله تعالى العلم عقيب تمام النظر ، بطريق إجراء
العادة أي تكرر ذلك دائما من غير وجوب ، بل مع جواز أن لا يخلقه عن طريق خرق
العادة وذلك لما سيجيء من استناد جميع الممكنات إلى قدرة الله تعالى واختياره
ابتداء ، وأثر المختار لا يكون واجبا ثم القائلون بهذا المذهب فرقتان.
منهم من جعله بمحض
القدرة القديمة من غير أن يتعلق به قدرة العبد وإنما قدرته على إحضار المقدمتين ،
وملاحظة وجود النتيجة فيهما بالقوة ومنهم من جعله كسبيا مقدورا ، وعند المعتزلة
بطريق التوليد ومعناه أن يوجب فعل لفاعله فعلا آخر كحركة اليد لحركة
المفتاح ، فالنظر على أي تفسير فسر فعل للناظر يوجب فعلا آخر هو العلم ، إذ معنى الفعل
هاهنا الأثر الحاصل بالفاعل لا نفس التأثير ، ليرد الاعتراض بأن العلم ليس بفعل
وكذا النظر على أكثر التفاسير ، ألا ترى أن الحركة أيضا ليست كذلك؟ وقد اتفقوا على
أن حركة اليد وحركة المفتاح فعلان لفاعل واحد ، واحتج بعض أصحابنا بعد إبطال
التوليد مطلقا على بطلانه هاهنا ، بأن تذكر النظر لا يولد العلم اتفاقا ، فكذا
النظر ابتداء لاشتراكهما في النظرية ، واعترض بأن هذا لا يفيد اليقين ، لكونه
عائدا إلى القياس الشرعي ، وإن ادعى بصورة قياس منطقي بأن يقال : لو كان النظر مولدا لكان
تذكره مولدا لعدم الفرق ، واللازم باطل وفاقا ، ولا لا الزام ، لأنهم إنما قالوا بالحكم أعني عدم التوليد في
الأصل ، أعني في التذكر لعلة لا توجد في الفرع ، أعني ابتداء النظر ، وهو كونه
حاصلا
__________________
بغير قدرة العبد
واختياره ، حتى لو كان التذكر بقصد العبد لكان مولدا ، فيصير الحاصل أن هذا قياس
مركب ، وهو أن يكون حكم الأصل متفقا عليه بين المستدل والخصم ، لكن يعلل عند كل
منهما بعلة أخرى ، والخصم بين منع وجود الجامع بين الأصل والفرع ، إذ ابتداء النظر
لا يشارك تذكره في عدم المقدورية وبين منع وجود الحكم في الأصل ؛ أي لا نسلم أن
التذكر لا يولد العلم عند كونه بقدرة العبد ، وإنما ذلك عند كونه سانحا للذهن من
غير قصد العبد فإنه يكون فعل الله تعالى. فلو قلنا : ـ يتولد العلم
عنه لكان أيضا فعل الله تعالى ، فلا يصح تكليف العبد به ، وفي نهاية العقول ما يشعر بأن علة عدم التوليد في التذكر هو لزوم اجتماع
الموجبين على أثر واحد ، لأنه قال : التذكر عبارة عن وجود علمين أحدهما العلم
بالمقدمات التي سبقت ، والآخر العلم بأنه كان قد أتى بتلك العلوم ، ثم ليس أحد
العلمين أولى بالتوليد من الآخر ، فيلزم أن يكون كل منهما مولدا للعلم بالنتيجة ،
وهو محال.
ويجوز أن يكون
العلة هو لزوم حصول الحاصل إذ التذكير إنما يكون بعد النظر ، وقد حصل به العلم ، وعلى
هذا لا يكون التذكر مفيدا للعلم أصلا ، وعند الفلاسفة هي بطريق الوجوب ، لتمام
القابل مع دوام الفاعل ، وذلك أن النظر يعد الذهن لفيضان العلم عليه من عند واهب
الصور ، الذي هو عندهم العقل الفعال المنتقش بصور الكائنات ، المفيض على أنفسنا
__________________
بقدر الاستعداد
عند اتصالها به ، وزعموا أن اللوح المحفوظ ، والكتاب المبين ، في لسان الشرع
عبارتان عنه ، وهاهنا مذهب آخر اختاره الإمام الرازي ، وذكر حجة الإسلام الغزالي:
أنه المذهب عند أكثر أصحابنا ، وهو أن النظر يستلزم العلم بالنتيجة بطريق الوجوب ،
الذي لا بد منه لكن لا بطريق التوليد ، على ما هو رأي المعتزلة وهذا ما نقل عن
القاضي أبي بكر وإمام الحرمين أن النظر يستلزم العلم بطريق الوجوب ، من غير أن يكون
النظر علة أو مولدا ، أو صرح بذكر الوجوب ، لئلا يحمل الاستلزام على الاستعقاب
العادي ، فيصير هذا هو المذهب الأول ، وقد صرح الإمام الغزالي ، بأن هذا مذهب أكثر
أصحابنا والأول مذهب بعضهم ، واستدل الإمام الرازي على الوجوب بأن من علم أن
العالم متغير وكل متغير ممكن فمع حضور هذين العلمين في الذهن يمتنع أن لا يعلم أن
العالم ممكن ، والعلم بهذا الامتناع ضروري ، وكذا في جميع اللوازم مع الملزومات ،
وعلى بطلان التوليد بأن العلم في نفسه ممكن فيكون مقدور لله تعالى ، فيمتنع وقوعه
بغير قدرته ، فتوجه اعتراض المواقف بأنه لما كان فعل القادر امتنع أن يكون واجبا ،
فإنه الذي إن شاء فعل وإن شاء ترك ، من غير وجوب عليه أو عنه.
لا يقال المراد
الوجوب بالاختيار على ما سيجيء لأنا نقول فحينئذ يجوز أن لا يقع بأن لا تتعلق به
القدرة والاختيار ويكون هذا هو المذهب الأول بعينه.
والجواب : أن وجوب الأثر كالعلم مثلا بمعنى امتناع انفكاكه عن أثر آخر كالنظر
لا ينافي في كونه أثرا لمختار جائز الفعل والترك ، بأن لا يخلقه ولا
__________________
ملزومه ، لا بأن
يخلق الملزوم ولا يخلقه كسائر اللوازم الممكنة ، مثل وجود الجوهر لوجود العرض ،
وتحقيقه أن جواز الترك أعمّ من أن يكون بوسط أو بلا وسط ، وأن جواز ترك المقدور لا يمتنع أن يكون مشروطا بارتفاع مانع هو أيضا
مقدور ، وهذا كالمتولدات عند من يقول من المعتزلة بكونها بقدرة العبد ، وإنما المنافي له امتناع انفكاكه عن المؤثر بأن لا يتمكن من تركه أصلا ، ولو
صح هذا الاعتراض لارتفع علاقة اللزوم بين الممكنات ، فلم يكن تصور الابن مستلزما
لتصور الأب ، ووجود العرض مستلزما لوجود الجوهر ، إلى غير ذلك ، والحاصل أن لزوم
العلم للنظر عقلي عندهم ، حتى يمتنع الانفكاك كتصور الأب لتصور الابن ، وعادي عند
الأولين حتى لا يمتنع الانفكاك بطريق خرق العادة كالإحراق بالنار ، وإلى المذاهب الثلاثة لأصحابنا أشار في
المتن بقوله : عادة مع الكسب أو بدونه أو لزوما عقليا.
(قال : فإن قيل : الحكم بأن النظر يفيد العلم إن كان ضروريا لم يختلف فيه العقلاء،
ولكان مثل الحكم بأن الواحد نصف الاثنين في الجلاء ، وإن كان نظريا كان موقوفا على
ما يتوقف عليه ، وهو دور معلوم قبل أن يعلم ، وهو تناقض. قلنا : ضروري ، وقد يقع
الاختلاف والتفاوت في الضروريات لتفاوت في الإلف وخفاء في التصور : أو نظري ويكتسب
بنظر آخر ضروري في المقدمات ، من غير تناقض كما يقال : في قولنا العالم متغير: وكل
متغير حادث أنه نظر ، وقد أفاد العلم بحدوث العالم ضرورة ، فالنظر يفيد العلم ثم
يعلم أن ذلك ليس بخصوصيته بل لصحته وكونه على شرائطه ، فكل نظر
__________________
كذلك يفيد العلم ،
فالموقوف المجهول هو المهملة المتصلة أو الكلية التي عنوانها مفهوم النظر ، والموقوف عليه
المعلوم هو الشخصية التي موضوعها ذات النظر المخصوص ، وتحقيقه أن لوازم الحكم
الواحد قد تختلف باختلاف التعبير عن موضوعه ، كالحكم بحدوث العالم تعبيرا عنه
بالموجود بعد العدم ، أو المقارن للحادث ، أو المتغير فإن قيل لا خفاء في أنه
ضروري في الشكل الأول نظري في غيره ، فكيف يصح إطلاق القول بأحدهما ..؟ قلنا :
الكلام فيما إذا أخذ عنوان الموضوع ، هو النظر والتفصيل. إنما يرجع إلى الخصوصيات
، على أن المقيد ليس مجرد ترتيب المقدمتين بل مع ملاحظة جهة الانتاج وكيفية
الاندراج وحينئذ تساوي الأشكال).
تقدير السؤال : أن
الحكم بأن النظر يفيد العلم إما أن يكون ضروريا أو نظريا.
(وكلاهما باطل)
أما الأول : فلأنه لو كان ضروريا لما وقع فيه اختلاف العقلاء ، كسائر الضروريات ،
ولكان مثل قولنا : الواحد نصف الاثنين في الوضوح من غير تفاوت. لأن التفاوت دليل
الاحتمال والاشتباه ، وهو ينافي الضرورة ، وكلا اللازمين منتفى لوقوع الاختلاف ، وظهور التفاوت.
وأما الثاني : فلأنه لو كان نظريا لكان إثباته بالنظر ، وفيه دور من جهة توقفه
على الدليل ، وعلى استلزامه المدلول ، وهو معنى الإفادة وتناقض من
__________________
جهة كونه معلوما
لكونه وسيلة ، وليس بمعلوم لكونه مطلوبا ، وهذا معنى قولهم : إثبات النظر بالنظر
تناقض. فإن قيل : معنى إثبات القضية النظرية أن العلم بها يستفاد من النظريات بعلم
المقدمات مرتبة فيعلم النتيجة وهذا إنما يتوقف على كون النظر مفيدا للعلم ، لا على
العلم بذلك ، فالموقوف هو التصديق ، والموقوف عليه هو الصدق ، وهذا كما أن تصور
الماهية مستفاد من الخاصة اللازمة بمعنى أنها تتصور فيتصور وإن لم يعلم الاختصاص
واللزوم.
قلنا : مبنى
الكلام على أن اللازم في القياس هو صدق النتيجة والملزوم صدق المقدمات المرتبة.
وأما التصديق بالنتيجة أعني العلم ، بحقيقتها فإنما يستلزمه التصديق بالمقدمات
المرتبة ، وكونها مستلزمة للمطلوب بديهة أو اكتسابا على ما تقرر من أن العلم بتحقق اللازم يستفاد من العلم
باللزوم ، ويتحقق الملزوم ، وهذا بخلاف التعريف بالخاصة فإن اللزوم متحقق بين
التصورين ، حتى لو كان التصديق بالمقدمات مع التصديق بالنتيجة كذلك سقط السؤال.
وتقرير الجواب أنا نختار أنه ضروري ولا نسلم امتناع الاختلاف والتفاوت في
الضروريات ، بل قد يختلف فيها جمع من العقلاء لخفاء في تصورات الأطراف وعسر في
تجريدها عن اللواحق المانعة عن ظهور الحكم ، وقد يقع فيها التفاوت
لتفاوتها في ذلك وفي كثرة التفات النفس إليها ، أو يختار أنه نظري يثبت بنظر مخصوص
ضروري المقدمات ابتداء وانتهاء ، من غير لزوم دور أو تناقض. بأن يقال : في قولنا
العالم متغير ، وكل متغير حادث. أن هذا الترتيب المخصوص أو العلوم المرتبة نظرا إذ
لا معنى له سوى ذلك ، ثم إنه يفيد بالضرورة العلم بأن العالم حادث ينتج أن نظرا ما
__________________
يفيد العلم على ما
ادعاه الإمام ، وإن شئنا إثبات القاعدة الكلية على ما ادعاه الآمدي. قلنا : معلوم
بالضرورة أن هذه الإفادة ليست لخصوصية هذه المادة ، بل لصحة النظر المخصوص مادة
وصورة وكونه على شرائطه فكل نظر يكون كذلك يفيد العلم وهو المطلوب.
وهذا ما قال إمام
الحرمين : إنه لا يعد في إثبات جميع أنواع النظر بنوع منها يثبت نفسه وغيره ، إلا
أنه لما اعترف بإثبات الشيء بنفسه اعترض الإمام الرازي بأن فيه تناقضا وتقدما
للشيء على نفسه. وجوابه أن نفس الشيء بحسب الذات قد تغايره بحسب الاعتبار ،
فتخالفه في الأحكام كهذا الذي أثبتنا به كون كل نظر مفيدا للحكم ، فإنه من حيث
ذاته وسيلة ومتقدم ومعلوم ، ومن حيث كونه من أفراد النظر مطلوب ومتأخر ومجهول ـ وتفصيله
أن الموقوف المجهول المطلوب بالنظر هو القضية الموجبة المهملة أو الموجبة الكلية ،
التي عنوان موضوعها مفهوم النظر ، أعني قولنا النظر يفيد العلم ، أو كل نظر مقرون
بشرائطه يفيد العلم ، والموقوف عليه المعلوم بديهة هو القضية الشخصية ، التي
موضوعها ذات النظر المخصوص ، أعني قولنا : العالم متغير ، وكل متغير حادث ، يفيد
العلم بأن العالم حادث من غير اعتبار كون هذا الموضوع من أفراد النظر فلا يكون
الشيء الواحد بالذات والاعتبار متقدما على نفسه ، ومعلوما حين ما ليس بمعلوم ،
ليلزم الدور والتناقض.
وأصل الباب أن
الحكم بالشيء على الشيء قد تختلف لوازمه من الاستغناء عن الدليل أو الافتقار إليه
أو إلى التنبيه أو إلى الإحساس أو غير ذلك باختلاف التعبير عن المحكوم عليه مثلا ،
إذا حاولنا الحكم على العالم بالحدوث ، فربما يقع التعبير عنه بما يجعل الحكم غير
مفيد أصلا.
كقولنا : كل موجود
بعد العدم حادث ، أو مفيدا بديهيا.
كقولنا : كل ما
يقارن تعلق القدرة والإرادة الحادثة فهو حادث ، أو مفيدا كسبيا.
كقولنا : كل متغير
فهو حادث ، وبهذا ينحل ما يورد على الشكل الأول من
أن العلم بالنتيجة
لما توقف على العلم بالكبرى الكلية التي من جملة أفراد موضوعها. موضوع النتيجة لزم
توقف النتيجة على نفسها وكونها قبل أن تعلم وهو تناقض ، وذلك لأن معلومية الحكم
كحدوث العالم من جهة كون المحكوم عليه من أفراد الأوسط كالمتغير لا يناقض مجهوليته
من جهة كونه من أفراد الأصغر ، أعني العالم فإن قيل لا خفاء في أن كون النظر مفيدا
للعلم ضروري في الشكل الأول ، نظري في باقي الأشكال. فكيف يصح اختيار أنه ضروري
مطلقا على ما ذهب إليه الرازي أو نظري مطلقا على ما ذهب إليه إمام الحرمين ..؟ قلنا : ـ الكلام
فيما إذا أخذ عنوان الموضوع هو النظر ، فيقال : النظر أو كل نظر على شرائطه يفيد العلم
، وما ذكر من التفصيل قطعا إنما هو في الخصوصيات مثل قولنا : العالم متغير ، مع
قولنا وكل متغير حادث ، أو ولا شيء من القديم بمتغير فإن العلم بإفادة الأول ضروري
، والثاني نظري ، على أن هذا التفصيل إنما هو بالنظر إلى مجرد ترتيب المقدمتين
ووضع الحد الأوسط عن الحدين الآخرين ، وأما بعد حصول جميع الشرائط فالحكم بإفادة
كل من خصوصيات النظر العلم ضروري في جميع الأشكال ، على ما يراه بعض المحققين من أن من جملة
الشرائط ملاحظة جهة دلالة المقدمتين على المطلوب ، وكيفية اندراجه فيهما
بالقوة ، حتى قال الإمام حجة الإسلام : إن هذا هو السبب الخاص لحصول النتيجة
بالفعل ، وبدونه ربما يذهل عن النتيجة ، مع حضور المقدمتين ، كما إذا رأى بغلة
منتفخة البطن فتوهم أنها حامل مع ملاحظة أنها بغلة عاقر ، وكل بغلة ولا خفاء في أن مع ملاحظة جهة الإنتاج والتفطن لكيفية
الاندراج يتساوى الاشكال في الجلاء حتى ذهب بعض أهل التحقيق
__________________
إلى أن الكل حينئذ
يرجع إلى الشكل الأول بحسب التعقل وإن لم يتمكن من تلخيص العبارة فيه ، وتمام
تحقيقه في شرح الأصول لصاحب المواقف ، ثم كلام القوم هو أن العلم يكون التفطن
للاندراج شرطا للإنتاج ضروري ، وحديث البغلة تنبيه عليه ، ومنع الإمام على ما قال
ان ذلك إنما يكون عند حصول إحدى المقدمتين فقط. وأما عند اجتماعهما فلا نسلم إن
كان الشك في النتيجة مكابرة ، واستدلاله على بطلان ذلك بأن الاندراج لو كان معلوما
مغايرا للمقدمتين لكانت مقدمة أخرى مشروطة في الإنتاج فينقل الكلام إلى كيفية
التئامها مع الأوليين ، ويفضي إلى اعتبار ما لا نهاية لها من المقدمات ضعيف ، لأن ذلك ملاحظة لكيفية نسبة المقدمتين
إلى النتيجة ، لا قضية هي جزء القياس ليكون مقدمة ، على أنه لو سمى مقدمة أو جعل عبارة عن
التصديق يكون الأصغر بعض جزئيات الأوسط التي حكم على جميعها بالأكبر ، فليس بلازم
أن يكون له مع المقدمتين هيئة واندراج شرط العلم بها لتحصل مقدمة رابعة وهلم جرا.
فإن قيل : لا نزاع في أنه لا يكفي حضور المقدمتين كيف اتفق بل لا بد من ترتيبهما
على هيئة مخصوصة ، هي الجزء الصوري بحيث يكون على ضرب من الضروب المنتجة ، وأنه لا
بد مع ذلك في غير الشكل الأول من بيان اللزوم بالخلف أو بالعكس أو نحوهما ، حتى لو
استحضرت المقدمتان في حديث البغلة على هيئة الشكل الرابع لم يمتنع الشك ، ما لم يعكس الترتيب مثلا فما المتنازع في هذا المقام ...؟
__________________
قلنا : ـ هو أن
حصول العلم بالنتيجة بعد تمام القياس مادة وصورة بمعنى حضور المقدمتين على هيئة
مخصوصة منتجة مشروطة بملاحظة تلك الهيئة فيما بين المقدمتين ، ونسبة النتيجة
إليهما ، وكيفية اندراجها فيهما بالقوة ، ويكون ذلك في الشكل الأول بمجرد الالتفات
، وفي البواقي بالاكتساب ويرجع الكل إلى بيان إثبات أو نفي هو الواسطة ملزوم
الإثبات أو نفي هو المطلوب على ما هو حقيقة الشكل الأول ، ويكون
طرق البيان لتحصيل هذا الشرط ، ومن هاهنا استدل بعض المتأخرين على هذا الاشتراط
بتفاوت لأشكال في الإنتاج ، وضوحا وخفاء ، إلا إنه لم يجزم بذلك لأن كون طرق
البيان لتحصيل هذا الشرط ليس بقطعي ، لجواز أن تكون هي نفسها شرائط العلم بلزوم
النتائج التي هي لوازم الأشكال بعلم لزوم ، بعضها بلا واسطة وبعضها بوسط خفي أو أخفى ، وقد يقرر الاستدلال بأن المقدمتين المعينتين قد يتخذ منهما شكل
بين الإنتاج كقولنا ، العالم متغير وكل متغير حادث ، وآخر غير بين ، كقولنا : كل
متغير حادث والعالم متغير ، فلو لم يكن للهيئة مدخل في لزوم النتيجة لما كان كذلك
لاتحاد المادة.
ويجاب بأن اللازم
متعدد وهو العالم حادث ، وبعض الحادث هو العالم ، فيجوز أن يكون لزوم أحدهما أوضح
مع اتحاد الملزوم ، لو أخذ اللازم واحدا وهو قولنا : العالم حادث ، فاستنتاجه من
شكل آخر لا يتصور إلا بتغير إحدى المقدمتين أو كلتيهما ، كقولنا : بعض المتغير هو
العالم وكل متغير حادث من الثالث ، أو كل حادث متغير من الرابع ، إذا صدق العكس
كليا وحينئذ يتعدد المادة ولا يمتنع أن يكون اللزوم للبعض أوضح وأنت بعد تحرير محل النزاع خبير بحال هذا التقرير ، لا
يقال الاستدلال بتفاوت الأشكال
__________________
يفيد القطع بهذا
الاشتراط ، لأن القياس المقرون بالشرائط ملزوم للنتيجة قطعا ، واللازم يمتنع
انفكاكه عن الملزوم ، فلو لم يكن التفطن لكيفية الاندراج شرطا متفاوت الحصول بأن
يحصل في البعض بمجرد الالتفات وفي البعض بوسط خفي أو أخفى ، لزوم استواء جميع
الضروب المنتجة في حصول النتيجة عند حصولها ضرورة امتناع انفكاك اللازم عن
الملزوم المستجمع لشرائط اللزوم ، لأنا نقول : فرق بين لزوم الشيء والعلم بلزومه
فالضروب والأشكال متساوية في لزوم النتائج إياها ، بمعنى حقيتها في نفس الأمر على
تقدير حقيتها ، وإنما التفاوت في العلم بذلك ، وشروطه متفاوتة الحصول كالالتفات أو
الاكتساب بخفي أو أخفى ، وإن لم يكن التفطن لكيفية الاندراج من جملتها.
(قال : احتج المخالف بوجوه الأول : العلم بكون ما يحصل عقيب النظر علما إن كان
ضروريا لم يظهر خلافه وإن كان نظريا تسلسل ، قلنا : ظهور الخلاف بعد النظر الصحيح
ممنوع ، وكذا توقف العلم بأنه علم على نظر آخر ، بل يحصل به نفسه كالعلم بأنه لا
معارض. الثاني : إفادته العلم تنافي اشتراط عدم العلم قلنا : ممنوع ، فإن المراد
أنه يستقعبه. الثالث : لو أفاده البتة لقبح التكلف بالعلم).
قلنا : التكليف
بتحصيله وهو مقدور ـ والرابع : أقرب الأشياء إلى الإنسان هويته ، وقد كثر فيها
الخلاف كثرة لا تنضبط ، فكيف فيما هو أبعد ..؟ قلنا : لا يدل على الامتناع بل على
العسر ولا نزاع فيه. الخامس : شرط التصديق وهو
__________________
التصور منتف في
الحقائق الإلهية ـ قلنا ممنوع. السادس : لو صح الاستدلال على الصانع بدليل فموجبه ؛ إما ثبوت الصانع فيلزم انتفاؤه على تقدير
انتفائه ، وإما العلم به فلا يكون دليلا عند عدم النظر فيه ، قلنا : لا نعني
بإفادته ودلالته إلا كونه بحيث متى وجد ، وجد المدلول ، ومتى نظر فيه علم المدلول
فلا يلزم من انتفائه انتفاؤه ، ولا من عدم النظر فيه انتفاء الحيثية ، وأورد على
الكل أن العلم بأن النظر لا يفيد العلم إن كان نظريا استفيد منها فيناقض ، وإن كان
ضروريا نبه عليه لم يقع فيه خلاف أكثر العقلاء.
فإن قيل : عارضنا
الفاسد بالفاسد قلنا : إن أفادت الفساد ثبت المطلوب وإلا لغت.
وإنما لم نورد
الشبهة السابقة في ضمن الوجوه لأنها لنفي أن يكون التصديق الحاصل عقيب النظر علما
: مطلقا أو في الطبيعيات والإلهيات : أو في الإلهيات خاصة على ما ذكره الإمام من
أنه لا نزاع في إفادة النظر الظن وإنما النزاع في إفادته اليقين الكامل ، وينبغي
ألا تكون العدديات محل الخلاف ، والشبهة السابقة تنفي كون النظر مفيدا للتصديق
مطلقا.
الوجه الأول : أن العلم بان الاعتقاد الحاصل عقيب النظر علم إن كان ضروريا لم يظهر
، أي لم يقع عقيب النظر خلاف ذلك ، أو لم يظهر بعد هذا خلاف ذلك ، لامتناع أن يقع
أو يظهر خلاف الضروري ، واللازم باطل ، لأن كثيرا من الناس لا يحصل عقيب نظرهم إلا
الجهل ، وكثيرا ما ينكشف للناظر خلاف ما حصل من نظره ويظهر خطؤه ، ولذلك تنتقل
المذاهب ، وإن كان نظريا افتقر إلى نظر آخر يفيد العلم بأنه علم ويتسلسل. ورد بأنا
نختار أنه ضروري ، ولا نسلم ظهور الخلاف من هذا النظر أو بعده إذ الكلام في النظر
الصحيح ، ولازم الحق حق قطعا ، أو نختار أنه نظري ولا نسلم افتقاره إلى نظر آخر ،
فإن النظر الصحيح
__________________
كما أفاد العلم
بالنتيجة. أفاد العلم بأن ذلك علم لا جهل أو ظن ، وكذا حال العلم بعدم المعارض إذ لا يتصور المعارض للنظر الصحيح في
القطعيات ، وبهذا تندفع شبهة أخرى وهي أن النظر لو أفاد العلم فلا بد أن يكون مع
العلم بعدم المعارض إذ لا جزم مع المعارض. ثم إنه ليس بضروري ، إذ كثيرا ما يظهر
المعارض بل نظري فيفتقر إلى نظر آخر موقوف على عدم المعارض ويتسلسل فقوله :
كالعلم بأنه لا معارض معناه أنه يجوز أن يكون ضروريا ، ولا نسلم ظهور المعارض بعد
النظر الصحيح ، وأن يكون نظريا ، ولا نسلم توقفه على نظر آخر. وهاهنا بحث نطلعك
عليه في آخر المقصد. وفي تقرير الطوالع هاهنا قصور. حيث قال : ـ العلم الحاصل عقيب
النظر إما أن يكون ضروريا أو نظريا ، وكلاهما محال كأنه على حذف المضاف ، أي علمية العلم الحاصل أعني كونه
علما ولهذا صح منه اختبار أنه ضروري ، وإلا فالحاصل بالنظر لا يكون ضروريا إلا
بمعنى أنا نضطر إلى الجزم به للجزم بالمقدمات ، لكنه بهذا المعنى لا يقابل النظرى.
الثاني : أن النظر مشروط بعدم العلم بالمطلوب ، لئلا يلزم طلب الحاصل فلو كان
مفيدا للعلم أي مستلزما له عقلا أو عادة لما كان مشروطا بعدمه ضرورة امتناع كون الملزوم مشروطا بعدم اللازم ورد بأن معنى
الاستلزام هاهنا الاستعقاب عقلا أو عادة ، بمعنى أنه يلزم حصول العلم بالمطلوب عند
تمام النظر ، فالملزوم للعلم انتهاؤه ، والمشروط بعدم العلم بقاؤه .
الثالث : لو أفاد النظر العلم بمعنى لزومه عقيبه عقلا أو عادة لقبح التكليف بالعلم
، لكونه بمنزلة الضروري في الخروج عن القدرة والاختيار وعن استحقاق الثواب والعقاب
، وأجيب بعد تسليم قاعدة القبح العقلي بأن التكليف إنما يكون بالأفعال دون
الكيفيات ، والإضافات ، والانفعالات والعلم عند المحققين من الكيفيات دون الأفعال
، فالتكليف لا يكون إلا بتحصيله ، وذلك بمباشرة الأسباب كصرف القوة والنظر
واستعمال الحواس ، فكان هذا مراد الآمدي بما
__________________
قال : إن التكليف
لم يقع بالمنظور فيه ليصح بل بالنظر وهو مقدور ، وإلا فلا خفاء في وقوع التكليف
بمعرفة الصانع ووحدانيته ونحو ذلك ، وبالجملة ، فالعلم النظري مقدور التحصيل
والترك ، بخلاف الضروري ولزومه بعد تمام النظر لا ينافي ذلك. ومن هاهنا أمكن في
القضية النظرية اعتقاد النقيض بخلاف القضية البديهية .
الرابع : إن أقرب الأشياء إلى الإنسان اتصالا ومناسبة هويته التي يشير إليها بقوله: أنا. وقد كثر فيها الخلاف ، ولم
يحصل من النظر الجزم بأنها هذا الهيكل المحسوس أو أجزاء لطيفة ساريه فيه ، أو جزء لا يتجزأ في القلب ، أو
جوهر مجرد متعلق به أو غير ذلك فكيف فيما هو ابعد كالسماوات والعناصر وعجائب المركبات ،
وأبعد كالمجردات والإلهيات ومباحث الذات والصفات؟
وأجيب : بأن ذلك
إنما يدل على صعوبة تحصيل هذه العلوم بالنظر لا على امتناعه والمتنازع هو الامتناع
لا الصعوبة.
الخامس : لو أفاد النظر العلم أي التصديق في الإلهيات لكان شرطه هو التصور
متحققا لكنه منتف ، إما بالضرورة فظاهر. وإما بالكسب فلأن الحد ممتنع لامتناع
التركيب ، والرسم لا يفيد تصور الحقيقة. وأجيب بأن الرسم قد يفيد تصور الحقيقة وإن
لم يستلزمه ، ولو سلم فيكفي التصور بوجه ما.
السادس : أن العلم بوجود الواجب هو الأساس في الإلهيات ، ولا يمكن اكتسابه
بالنظر ، لأنه يستدعي دليلا يفيد أمرا ويدل عليه ، وذلك إما نفس ثبوت
__________________
الصانع أو العلم
به ، وإلا لما كان دليلا عليه ، فإن كان الأول لزم من انتفائه انتفاؤه ضرورة
انتفاء المفاد بانتفاء المفيد وإن كان الثاني لزم من عدم النظر في الدليل ألا يكون
دليلا لأن هذا وصف إضافي لا يفرض إلا بالإضافة إلى المدلول الذي فرضناه العلم. وهو
منتفي عند عدم النظر وأجيب بأنا لا نعني بكون الدليل مفيدا لشيء وموجبا له أن
يوجده ويحصله على ما هو شأن العلل ، بل إنه بحيث متى وجد وجد ذلك الشيء. ومتى نظر
فيه علم ذلك الشيء.
وحاصله أن وجوده مستلزم لثبوته ، والنظر فيه مستلزم للعلم به ،
ومعلوم أن انتفاء الملزوم لا يوجب انتفاء اللازم ، وأن عدم النظر فيه لا ينافي
كونه بحيث متى نظر فيه علم المدلول ، وأورد على جميع الوجوه بل على كل ما يحتج به
لإثبات أن النظر لا يفيد العلم ، أن العلم بكون النظر غير مفيد للعلم ، إن كان
نظريا مستفادا من شيء من الاحتجاجات يلزم التناقض ، إذ النظر قد أفاد العلم في
الجملة وإن كان ضروريا ، والوجود المذكور تنبيهات عليه لزم خلاف أكثر العقلاء في
الحكم الضروري ، وهو باطل بالضرورة ، وإنما الجائز خلاف جمع من العقلاء وهو لا
يستلزم جواز خلاف الأكثر ، فإن قيل : نحن نعترف بأن الاحتجاج لا يفيد العلم ، لكن
لما احتججتم على الإفادة احتججنا على نفي الإفادة ، معارضة للفاسد بالفاسد ، قلنا
: ما ذكرتم من الوجوه إن أفادت فساد كلامنا كان النظر مفيدا للعلم وهو المطلوب ،
وإن لم يفد كان لغوا وبقي ما ذكرنا سالما عن المعارض.
النظر الفاسد
(قال : وأما النظر الفاسد فالصحيح أنه لا يستلزم الجهل ، أما عند فساد الصورة
فظاهر ، وأما عند فساد المادة فقط فلأن الكاذب قد يستلزم الصادق ، كنا إذا اعتقد
أن العالم أثرا لموجب ، وكل ما هو أثر لموجب فهو حادث. نعم قد يفيده كما إذا اعتقد
أنه غني وكل غني قديم).
__________________
القائلون بأن
النظر الصحيح المقرون بشرائطه يستلزم العلم ، اختلفوا في أن النظر الفاسد قد يستلزم الجهل ، أي الاعتقاد الغير المطابق. فقال الإمام
: يستلزمه لأن من اعتقد أن العالم قديم ، وكل قديم مستغن عن المؤثر استحال أن لا
يعتقد أن العالم غني عن المؤثر.
وقيل : إن كان
الفساد مقصورا على المادة يستلزمه وإلا فلا.
أما الأول : فلأن
لزوم النتيجة للقياس المشتمل على الشرائط ضروري ابتداء أو انتهاء ، سواء كانت
المقدمات صادقة أو كاذبة ، كما في المثال المذكور.
وأما الثاني :
فلأن معنى فساد الصورة أنه ليس من الضروب التي تلزمها النتيجة ، والصحيح أنه لا
يستلزم الجهل على التقديرين ، أما عند فساد الصورة فظاهر كما مر وأما عند فساد المادة فقط بأن تكون الصورة من الضروب
المنتجة فلأن اللازم من الكاذب قد لا يكون كاذبا كما إذا اعتقد أن
العالم أثر الموجب بالذات ، وكل ما هو أثر الموجب بالذات فهو حادث ، فإنه يستلزم
أن العالم حادث. وهو حق مع كذب القياس بمقدمتيه ، نعم قد يفيد الجهل كما إذا اعتقد
أن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر.
والتحقيق : أنه لا
نزاع في أن الفاسد صورة لا يستلزم بالاتفاق ، والفاسد مادة فقط قد يستلزم. وقد لا
يستلزم فمراد الإمام الإيجاب الجزئي كما في المثال المذكور.
__________________
ومرادنا نفي
الإيجاب الكلي لعدم اللزوم في بعض المواد ، والقائلون بأنه لا لزوم أصلا يريدون
اللزوم الذي مناطه صفة في الشبهة ، بمعنى أن شبهة المنظور فيها ليس لها لذاتها صفة ولا وجه ، بكونه مناط للملازمة بينها وبين
المطلوب ، وإلا لما انتفت الدلالة والعناصر ، وعجائب المركبات وأبعد كالمجردات والإلهيات من
مباحث الذات والصفات ، وأجيب بأن ذلك إنما يدل على صعوبة تحصيل هذه العلوم بالنظر
لا على امتناعه ، والمتنازع هو الامتناع لا الصعوبة.
الخامس : لو أفاد
النظر العلم أي التصديق في الحقائق الإلهيات لكان شرطه وهو التصور متحققا لكنه
منتف إما بالضرورة فظاهر ، وإما بالكسب فلأن الحد ممتنع لامتناع التركيب وللرسم لا
يفيد تصور الصور الحقيقية. وأجيب بأن الرسم قد يفيد تصور الحقيقة وإن لم يستلزمه ولو سلم فيكفي التصور
لوجه ما.
السادس : أن العلم
بوجود الواجب هو الأساس في الإلهيات ، ولا يمكن اكتسابه بالنظر ، لأنه يستدعي
دليلا يفيد أمرا ويدل عليه ، وذلك إما نفس ثبوت الصانع أو العلم به ، وإلا لما كان
دليلا عليه ، فإن كان الأول لزم من انتفائه انتفاؤه ضرورة انتفاء المفاد بانتفاء
المفيد ، وإن كان الثاني لزم من عدم النظر في
__________________
الدليل أن لا يكون
دليلا ، لأن هذا وصف إضافي لا يعرض إلا بالإضافة إلى المدلول الذي فرضناه العلم ،
وهو منتف عند عدم النظر ، وأجيب بأنا لا نعني بكون الدليل مفيدا بشيء وموجبا له
أنه يوجده ويحصله على ما هو شأن العلل بل بأنه بحيث متى وجد وجد ذلك الشيء ومتى
نظر فيه علم ذلك بظهور الغلط ولكان المحققون بل المعصومون عن الخطأ أولى بأن
يستلزم نظرهم في الشبهة الجهل ، بناء على أنهم أحق الاطلاع على وجه الدلالة فيها ،
وهذا بخلاف الدليل فإن له صفة ووجه دلالة في ذاته وهو مناط استلزامه المطلوب عند
حصول الشرائط ، وأما اللزوم العائد إلى اعتقاد الناظر في بعض الصور كما إذا اعتقد
حقية المقدمات في المثال المذكور فلا نزاع فيه ، واعترض الإمام بأن عدم حصول الجهل للمحق الناظر في شبهة المبطل يجوز أن يكون بناء على
عدم اطلاعه على ما فيها من جهة الاستلزام أو عدم اعتقاده حقية المقدمات كما أن نظر
المبطل في دليل المحق لا يستلزم العلم بذلك ، وما ذكر من كون المحق أولى بالاطلاع
إنما هو فيما يفيد الحق والعلم لا الباطل. والجهل.
__________________
المبحث الثالث
في شرائط النظر
(قال : المبحث الثالث : يشترط لمطلق النظر صحيحا كان أو فاسدا ـ بعد شرائط العلم ـ عدم الجزم بالمطلوب أو بنقيضه إذ لا
طلب مع ذلك وتعد الأدلة إنما هو لزيادة الاطمئنان أو التحصيل استعداد القبول في
المتعلم بالإجماع أو في كل متعلم بدليل اخر.
وقال الإمام :
المطلوب بالدليل الثاني في كونه دليلا وهو غير معلوم ، ويشترط للنظر الصحيح أن
يكون في الدليل دون الشبهة ومن جهة دلالته دون غيرها ، وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل
الذهن من الدليل إلى المدلول ، كإمكان العالم أو حدوثه لثبوت الصانع ، فالعالم هو الدليل وثبوت
الصانع هو المدلول ، وكونه بحيث يفيد النظر فيه العلم بثبوت الصانع هو الدلالة ،
وإمكانه وحدوثه هو جهة الدلالة ، وهذه الأمور متغايرة فتتغاير العلوم المتعلقة بها
إلا أن
__________________
جهة الدلالة شديدة
الاتصال بالمدلول. فمن هاهنا توهم أن العلم بها نفس العلم بالمدلول).
للنظر صحيحا كان
أو فاسدا بعد شرائط العلم من الحياة والعقل وعدم النوم والغفلة ونحو ذلك ، أمران.
أحدهما : عدم
العلم بالمطلوب إذ لا طلب مع الحصول.
ثانيهما : عدم
الجهل المركب به أعني عدم الجزم بنقيضه ، لأن ذلك يمنعه من الإقدام على الطلب ،
إما لأن النظر يجب أن يكون مقارنا للشك على ما هو رأي أبي هاشم . والجهل المركب مقارن للجزم فيتناقضان وإما لأن الجهل المركب صارف عنه كالأكل مع الامتلاء على ما
هو رأي الحكماء ، ومن أن النظر لا يجب أن يكون مع الشك. وإليه ذهب القاضي ، بل ذهب
الأستاذ إلى أن الناظر يمتنع أن يكون شاكا ، وما ذكرنا مع وجازته أوضح
مما قال في المواقف : إن شرط النظر مطلقا بعد الحياة ، أمران :
الأول : وجود
العقل ، والثاني : عدم ضده أي ضد النظر فمنه أي من ضده ما هو عام أي ضد للنظر ولكل
إدراك كالنوم والغفلة مثلا ومنه ما هو خاص أي ضد للنظر دون الإدراكات وهو العلم
بالمطلوب والجهل المركب به. فإن قيل الجهل المركب ضد للعلم فانتفاؤه مندرج في
شرائط العلم فيكون في عبارتكم استدراك.
قلنا : الجهل
المركب بالمطلوب يكون ضدا للعلم به لا للعلم على
__________________
الإطلاق ، ليكون
انتفاؤه من جملة شرائط العلم ، وبهذا يظهر أن تفسير الضد العام في عبارة المواقف مما يضاد العلم وجميع الإدراكات ، كالنوم والغفلة. والخاص
بما يضاد العلم خاصة كالعلم بالمطلوب والجهل المركب به من قبيل الثاني. فإن قيل :
لو كان النظر مشروطا بعدم العلم بالمطلوب لما جاز النظر في دليل ثان وثالث : على
مطلوب لحصول العلم به بالدليل الأول ، أجيب : بأن ذلك إنما يشترط حيث يقصد بالنظر
طلب العلم أو الظن ، لكن قد تورد صورة النظر والاستدلال لا لذلك بل لغرض آخر عائد
إلى الناظر ، وهو زيادة الاطمئنان بتعاضد الأدلة أو إلى المتعلم بأن يكون ممن يحصل
له استعداد القبول باجتماع الأدلة دون كل واحد أو بهذا الدليل دون ذاك ، فإن
الأذهان مختلفة في قبول اليقين ، فربما يحصل للبعض من دليل ولبعض آخر من دليل آخر
، وربما يحصل من الاجتماع كما في الاقناعيات.
قال الإمام :
النظر في الدليل الثاني نظر في وجه دلالته أي المطلوب منه كونه دليلا على النتيجة
وهو غير معلوم ، والحق أن هذا لازم لكن المطلوب. والنتيجة اسم لما يلزم المقدمات
بالذات وبالتعيين وهو القضية التي موضوعها موضوع الصغرى ومحمولها محمول الكبرى ،
وأما النظر الصحيح فيشترط أن يكون نظرا في الدليل دون الشبهة ، وأن يكون النظر فيه
من جهة دلالته وهي الأمر الذي بواسطته ينتقل الذهن من الدليل إلى المدلول. فإذا
استدللنا بالعالم ـ على الصانع بأن نظرنا فيه وحصلنا قضيتين إحداهما : أن العالم
حادث والأخرى أن كل حادث له صانع ليعلم من ترتيبها أن العالم له صانع. فالعالم هو
الدليل عند المتكلمين ، لا نفس المقدمتين المرتبتين على ما هو اصطلاح المنطق ،
وثبوت الصانع هو المدلول ، وكون العالم بحيث يفيد النظر فيه العلم بثبوت الصانع هو الدلالة ، وإمكان
العالم أو حدوثه الذي هو سبب الاحتياج إلى المؤثر هو جهة الدلالة ، وهذه الأربعة
أمور متغايرة ، بمعنى أن المفهوم من كل منها غير المفهوم من الآخر ، فتكون العلوم
المتعلقة بها متغايرة بحسب الإضافة.
__________________
قال حجة الإسلام : لما كان جهة الدلالة في القياس هو التفطن لوجود النتيجة
بالقوة في المقدمة ، أشكل على الضعفاء فلم يعرفوا أن وجه الدلالة عين المدلول أو
غيره ، والحق أن المطلوب هو المدلول المنتج ، وأنه غير التفطن لوجوده في المقدمة
بالقوة.
وبالجملة :
فالمشهور من الاختلاف في هذا البحث هو الاختلاف في مغايرة جهة الدلالة للمدلول ،
فيتفرع عليه الاختلاف في تغاير العلم بهما على ما قال الإمام الرازي وغيره ، أن
العلم بوجه دلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول ..؟ فيه خلاف والحق المغايرة. لتغاير المدلول : ووجه الدلالة. وأما ما
ذكر في المواقف من أن الخلاف في أن العلم بدلالة الدليل هل يغاير العلم بالمدلول
وفي أن وجه الدلالة هل يغاير الدليل ..؟ فلم يوجد في الكتب المشهورة. إلا أن
الإمام ذكر في بيان مغايرة العلم بوجه الدلالة للعلم بالمدلول أن هاهنا أمورا
ثلاثة : هي العلم بذات الدليل كالعلم بإمكان العالم ، والعلم بذات المدلول ،
كالعلم بأنه لا بد له من مؤثر ، والعلم بكون الدليل دليلا على المدلول ولا خفاء في
تغاير الأولين وكذا في مغايرة الثالث لهما ، لكونه علما بإضافة بين الدليل
والمدلول مغايرة لهما ، وهذا الكلام ربما يوهم خلافا في مغايرة العلم بدلالة
الدليل للعلم بالمدلول ، حيث احتيج إلى البيان وجعل العلم بإمكان العالم مع أنه
وجه الدلالة مثالا للعلم بذات الدليل يوهم القول بأن وجه الدلالة نفس الدليل ، وفي
نقد المحصل ما يشعر بالخلاف في وجوب مغايرته للدليل والمدلول ، لأنه
قال : إن هذه المسألة إنما تجري بين المتكلمين عند استدلالهم بوجود ما سوى الله
تعالى على وجوده تعالى ، فيقولون : لا يجوز أن يكون وجه دلالة وجود ما سوى الله
تعالى على وجوده مغايرا لهما لأن المغاير لوجوده تعالى داخل في وجود ما سواه ،
والمغاير لوجود ما سواه هو وجوده فقط.
__________________
والجواب : أن
العلم بوجه دلالة الدليل على المدلول الذي هو مغاير لهما هو أمر اعتباري عقلي. ليس
بموجود في الخارج كما سيجيء في تحقيق التضايف. هذا كلامه وأنت خبير بأن الأمر الاعتباري الإضافي هو دلالة الدليل
على المدلول ، لا وجه الدلالة الذي هو صفة في الدليل كالإمكان والحدوث في العالم ،
ثم ظاهر عبارته أن المحكوم عليه يكون أمرا اعتباريا هو العلم بوجه الدلالة وفساده
بين.
(قوله : ولا يشترط
للنظر في معرفة الله وجود المعلم) .
لما ثبت من إفادة
النظر الصحيح العلم على الإطلاق ولأنه أيضا يحتاج إلى معلم آخر ويتسلسل إلا أن يخص الحكم
بنظر غير المعلم أو ينتهي إلى الوحي ، ولأن العلم بصدقه إما بالنظر فتهافت ، أو
بقوله فدور ، أو بآخر فتسلسل.
وقد يجاب : بأنه
النظر المقرون بإرشاد من العلم. واحتجت الملاحدة بكثرة اختلاف الآراء في الإلهيات وتحقق الاحتياج إلى
المعلم في أسهل العلوم والصناعات.
والجواب : انها
لكثرة الأنظار الفاسدة وأن الاحتياج بمعنى تعذر الكسب بدونه غير مسلم ، وبمعنى
تعسره غير متنازع ، إذ لا خفاء في أن الإرشاد إلى المقدمات وحل الأشكال نعم العون
على تحصيل الكمالات.
خلافا للملاحدة.
لنا وجوه :
الأول : أنه قد بينا إفادة النظر الصحيح المقرون بالشرائط العلم على
__________________
الإطلاق ، سواء
كان في المعارف الإلهية أو غيرها وسواء كان معه معلم أو لا وأما إمكان تحصيل
المقدمات الضرورية وترتيبها على الوجه المنتج لأنه صناعة المنطق فمعلوم بالضرورة.
الثاني : أن نظر المعلم أيضا لكونه نظر إلى معرفة الله تعالى يحتاج إلى معرفة معلم آخر ويتسلسل ، إلا أن يحض
الاحتياج إلى المعلم بغير المعلم ، ويجعل نظر المعلم كافيا لكونه مخصوصا بتأييد
إلهي ، أو تنتهي سلسلة التعليم إلى المعلم المستند علمه إلى النبي عليه الصلاة
والسلام المستند إلى الوحي.
الثالث : أن إرشاد المعلم لا يفيدنا إلا بغد العلم بصدقه ، وصدقه إما أن يعلم
بالنظر فيكون النظر كافيا في المعرفة ، حيث أفاد صدق المعلم المفيد للمعرفة وإما أن يعلم بقول ذلك المعلم فيدور ، لأن قوله أي إخباره
عن كونه صادقا لا يفيد كونه كذلك إلا بعد العلم بأنه صادق البتة ، وإما بقول معلم
آخر وهكذا إلى أن يتسلسل ، وقد يجاب بأنا لا نجعل المعلم مستقلا بإفادة المعرفة
ليلزمنا العلم بكونه صادقا لا يكذب البتة بل نجعل المفيد هو النظر المقرون بإرشاد
منه إلى الأدلة ودفع الشبهة ، لكون عقولنا قاصرة عن الاستدلال بذلك مفتقرة إلى إمام يعلمنا الأدلة ودفع الشبه ليحصل لنا
بواسطة تعليمه وقوة عقولنا معرفة الحقائق الإلهية التي من جملتها كونه إماما يستحق
الإرشاد والتعليم ثم لا يخفى أن ما ذكر من الوجوه بتقدير تمامها إنما يراد
الاحتياج إلى المعلم في حصول المعرفة ، وأما لو أرادوا الاحتياج إليه في حصول
النجاة بمعنى أن
__________________
معرفة الصانع بالنظر لا تفيد النجاة ما لم يتصل به تعليم ، ولم يكن
مأخوذا من معلم وامتثالا لأمره على ما قاله النبي صلىاللهعليهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله».
وفي التنزيل :
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ)
و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)
وكثير من
المعترفين بالصانع ووحدانيته كانوا كافرين بناء على عدم أخذهم ذلك عن النبي عليه
الصلاة والسلام ، وعدم امتثالهم أمره ، فطريق الرد عليهم أن حاصل ما ذكرتم
الاحتياج في النجاة إلى معلم ، علم صدقه بالمعجزات وذلك هو النبي عليه الصلاة
والسلام ، وكفى به إماما ومرشدا إلى قيام الساعة من غير احتياج في كل عصر إلى معلم
يجدد طريق الإرشاد والتعليم ، وتتوقف النجاة على متابعته والاعتراف بإمامته ، وأما
احتجاج الملاحدة مع الجواب عنه فظاهر من المتن.
__________________
المبحث الرابع
في التوصل بالنظر إلى معرفة الله تعالى
(قال : المبحث الرابع : لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوب النظر في معرفة
الله تعالى لكونه مقدمة مقدورة للمعرفة الواجبة مطلقا ، أما عندنا فبالشرع بالنص والإجماع إذ حكم العقل معزول لما سيجيء ، وأما عند المعتزلة فعقلا
لكونها دافعة لضرر خوف العقاب وغيره ، ورد بمنع الخوف في الأغلب لعدم الشعور ، ولو
سلم فالخوف بحالة لاحتمال الخطأ وكون العارف أحسن حالا ليس على إطلاقه بل البلاهة
أدنى إلى الخلاص ، كما في الصبي والمجنون ، وقد ينازع في إمكان إيجاب المعرفة لما
فيه من تحصيل الحاصل أو تكليف الغافل ، وفي الإجماع على وجوبها ، فلقد كانوا
يكتفون بالتقليد والانقياد وفي أن النظر مقدمها فقد تحصل بمثل التعليم والإلهام ،
وفي إطلاق وجوبها إذ هو مقيد بالشك أو عدم المعرفة ، وفي وجوب المقدمة لجواز إيجاب
الأصل مع الذهول عنها ، فيجاب بأنه لا غفلة مع فهم الخطاب ،
__________________
والإجماع على وجوب
المعرفة متواتر الاكتفاء إنما كان بالأدلة الإجمالية على أن جواز التبرك للبعض لا
ينافي الوجوب في الجملة واحتياج طرق تحصيل غير الضروري إلى نظر ما ضروري ، إذ
الحكم مختص بالأغلب ومعنى إطلاق الوجوب عدم تقيده بتلك المقدمة ، كوجوب الصوم
بالنسبة إلى النية والإقامة والحج بالنسبة إلى الإحرام والاستطاعة والمعرفة كيفية
لا معنى لإيجابها سوى إيجاب تحصيلها وفيه إيجاب سببها قطعا ، وكحز الرقبة في إيجاب
القتل ولو اكتفينا بالإجماع على وجوبه لكفينا هذه المئونات).
أي لأجل حصولها
بقدر الطاقة البشرية لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق (الذي المعرفة ، وكل
مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعا إذ كان وجوب الواجب) .
المطلق شرعيا كما
هو دينا أو عقلا ، إن كان عقليا كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال ، أما
كون النظر مقدورا فظاهر ، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية ـ ولا
معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به ، وأما وجوب المعرفة فعندنا بالشرع
للنصوص الواردة فيه والإجماع المنعقد عليه واستناد جميع الواجبات إليه ، وعند
المعتزلة بالعقل لأنها دافعة لضرر الظنون وهو خوف العقاب في الآخرة حيث أخبر جمع
كثير بذلك ، وخوف
__________________
ما يترتب في
الدنيا على اختلاف الفرق في معرفة الصانع من المحاربات وهلاك النفوس وتلف الأموال
، وكل ما يدفع الضرر المظنون بل المشكوك واجب عقلا ، كما إذا أراد سلوك طريق فأخبر
بأن فيه عدو أو سبعا ورد بمنع ظن الخوف في الأعم الأغلب إذ لا يلزم الشعور
بالاختلاف وبما يترتب عليه من الضرر ولا بالصانع وبما رتب في الآخرة من الثواب
والعقاب والإخبار بذلك إنما يصل إلى البعض وعلى تقدير الوصول لا رجحان لجانب الصدق
لأن التقدير عدم معرفة الصانع وبعثة الأنبياء ودلالة المعجزات ، ولو سلم ظن الخوف
فلا نسلم أن تحصيل المعرفة يدفعه لأن احتمال الخطأ قائم ، فخوف العقاب أو الاختلاف
بحاله والعناء لزيادة.
فإن قيل : لا شك
أن من حصل المعرفة أحسن حالا ممن لم يحصل لاتصافه بالكمال وتحصيل الأحسن واجب في
نظر العقل.
قلنا : نعم إذا
حصلت المعرفة على وجهها ولا قطع بذلك بل ربما يحصل ويقع في أودية الضلال فيهلك. ولهذا قيل البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء ، هذا بعد تسليم وجوب الأحسن وتقرير السؤال على ما
ذكرنا تتميم للدليل المذكور ، لبيان وجوب المعرفة ، وعلى ما في المواقف وهو أن
الناظر أحسن حالا ابتداء دليل على وجوب النظر عقلا ، وأورد على هذا الاستدلال
إشكالات بعضها غير مختص به ولا مفتقر إلى حله ، لكونه منعا على مقدمات مثبتة مقررة ، مثل إفادة النظر العلم مطلقا وفي الإلهيات وبلا
معلم ، وإمكان تحقق الإجماع ونقله ، وكونه حجة وبعضها مختص به مفتقر إلى دفعه. وهي
خمسة :
__________________
الأول : أن وجوب المعرفة فرع إمكان إيجابها ، وهو ممنوع لأنه إن كان للعارف كان
تكليفا بتحصيل الحاصل وهو محال ، وإن كان لغيره كان تكليفا للغافل وهو باطل. والجواب أن إمكانه ضروري ، والسند مدفوع بأن
الغافل من لم يبلغه الخطاب أو بلغه ولم يفهمه ، لا من لم يكن عارفا بما كلف
بمعرفته ، وتحقيقه. إن المكلف بمعرفة أن للعالم صانعا قديما متصفا بالعلم والقدرة
مثلا يكون عارفا بمفهومات هذه الألفاظ ، مكلفا بتحصيل هذا التصديق ، وتصور تلك
المفهومات ، بقدر الطاقة البشرية.
الثاني : أنا لا نسلم قيام الدليل على وجوب المعرفة ، أما النص مثل قوله تعالى :
(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) ...
فلأنه ليس بقطعي
الدلالة إذ الأمر قد يكون لا للوجوب ، وأما الإجماع فلأنه ليس قطعي السند إذ لم ينقل بطريق التواتر ، بل غايته الآحاد ، فللخصم أن
يمنعه بل يدعي الإجماع على أنه يكفي التصديق ، علما كان أو ظنا أو تقليدا ، فإن
الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم كانوا يكتفون من العوام بالتقليد الانقياد
، ولا يكلفونهم التحقيق والاستدلال : والجواب : أن الظن كاف في الوجوب الشرعي ،
على أن الإجماع عليه متواتر إذ بلغ ناقلوه في الكثرة حدا يمتنع تواطؤهم به على
الكذب ، فيفيد القطع ، وما ذكر من الإجماع على الاكتفاء بالتقليد فليس كذلك ،
وإنما هو اكتفاء بالمعرفة الحاصلة من الأدلة الإجمالية ، على ما أشير إليه بقوله
تعالى : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) . من غير تلخيص العبارة في ترتيب المقدمات ، وتحقيق شرائط
الإنتاج ، وتحرير المطالب بأدلتها ، وتقرير الشبه بأجوبتها ، على أنه لو
__________________
ثبت جواز الاكتفاء
بالتقليد في حق البعض فهو لا ينافي وجوب المعرفة بالنظر والاستدلال في الجملة. هذا
والحق أن المعرفة بدليل إجمالي به يرفع الناظر عن حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من
المكلفين ، وبدليل تفصيلي يتمكن معه من إزاحة الشبه وإلزام المنكرين ، وإرشاد
المسترشدين فرض كفاية ، لا بدّ من أن يقوم به البعض.
الثالث : أنا لا نسلم أن المعرفة الكاملة لا تحصل إلا بالنظر ، بل قد تحصل
بالتعليم على ما يراه الملاحدة ، أو بالإلهام على ما يراه البراهمة أو بقول الإمام المعصوم على ما يراه الشيعة أو بتصفية الباطن بالرياضات والمجاهدات ، على ما يراه
المتصوفة .
والجواب : أنا
نعلم بالضرورة أن تحصيل غير الضروري من العلوم يفتقر إلى نظر ما ظاهر أو خفي ، أما
التعليم فظاهر ، لأنه ليس إلا إعانة للغفل بالإرشاد
__________________
إلى المقدمات ودفع
الشكوك والشبهات ، وقد شبهوا نظر البصيرة بنظر الباصرة ، وقول المعلم بالضوء الحسي وكما لا يتم
الإبصار إلا بهما لا تتم المعرفة إلا بالنظر والتعليم ، وكذا الكلام في المعصوم ،
إذ لا يكفي في صدقه إخبار معصوم آخر ، ما لم ينته إلى نظر العقل ، وأما الإلهام
فلأنه لا يثق به صاحبه ما لم يعلم أنه من الله تعالى ، وذلك بالنظر وإن لم يقدر
على العبارة عنه ، وأما تصفية الباطن فلأنه لا عبرة بها إلا بعد طمأنينة النفس في
المعرفة ، وذلك بالنظر على أنه لو ثبت حصول المعرفة بدون النظر لم يضرنا ، لأنا
إنما ندعي الاحتياج إليه في حق الأغلب ، وهذا لا يمنع لظهور كونه طريق العامة.
الرابع : أنا لا نسلم أن المعرفة واجب مطلق ، فإن معناه الوجوب على كل تقدير ،
ووجوب المعرفة مقيد بحال الشك ، أي تردد الذهن في النسبة ، أو بحال عدم المعرفة
للقطع بأنه لا وجوب حال حصول المعرفة بالفعل ، لامتناع تحصيل الحاصل.
والجواب : أن ليس
معنى الوجوب على كل تقدير عموم التقادير والأحوال ، وإلا لما كان شيء من الواجبات
واجبا مطلقا ، إذ لا يجب على تقدير الإتيان به ، ولأن وجوب الصوم مثلا مطلق
بالقياس إلى النية حتى يجب مقيد بالقياس إلى كون المكلف مقيما غير مسافر حتى لا
تجب الإقامة ، وكذا وجوب الحج مقيد بالاستطاعة ، فلا يجب تحصيلها مطلقا بالنسبة
إلى الإحرام ونحوه من الشرائط ، فيجب بل معناه الوجوب على تقدير وجود المقدمة
وعدمها ، ووجوب المعرفة ليس مقيدا بالنظر بمعنى أنه لو نظر تجب المعرفة ، وإلا فلا
يكون مطلقا.
وأما بالنسبة إلى
الشك أو عدم المعرفة فمقيد ، إذ لا وجوب على العارف ، فلا يكون تحصيل الشك وعدم
المعرفة واجبا. ويندفع إشكال آخر هو نقض
__________________
الدليل بهما ،
وإنما لم يورد في المتن لما سيجيء من أن النزاع في مقدورتيهما ، وفي كون الشك غير
واجب.
الخامس : أنا لا نسلم أن مقدمة الواجب المطلق يلزم أن تكون واجبة ، لجواز إيجاب
الشيء مع الذهول عن مقدمته ، بل مع التصريح بعدم وجوبها. فإن قيل : إيجاب الشيء
بدون مقدمته تكليف بالمحال ضرورة استحالة الشيء بدون ما يتوقف عليه ، قلنا :
المستحيل وجود الشيء بدون وجود المقدمة ، ولا تكليف به ، وإنما التكليف بوجود
الشيء بدون وجوب المقدمة ، ولا استحالة فيه.
فإن قيل : ـ لو لم
تجب مقدمة الواجب المطلق لجاز تركها شرعا ، مع بقاء التكليف بالأصل لكونه واجبا
مطلقا ، أي على تقدير وجود المقدمة وعدمها ، ولا خفاء في أنه مع عدم المقدمة محال
فيكون التكليف به حينئذ تكليفا بالمحال.
قلنا : عدم جواز
ترك الشيء شرعا قد يكون لكونه لازما للواجب الشرعي فيكون واجبا بمعنى أنه لا بدّ
منه ، وهذا لا يقتضي كونه مأمورا به متعلقا بخطاب الشارع على ما هو المتنازع.
والجواب تخصيص الدعوى ، وهو أن المأمور به إذا كان شيئا ليس في وسع العبد إلا
مباشرة أسباب حصوله ، كان إيجابه إيجابا لمباشرة السبب قطعا كالأمر بالقتل ، فإنه
أمر باستعمال الآلة ، وحز الرقبة مثلا ، وهاهنا العلم نفسه ليس فعلا مقدورا بل
كيفية ، فلا معنى لإيجابه إلا إيجاب سببه ، الذي هو النظر ، وليس هذا مبنيا على
امتناع تكليف المحال حتى يرد الاعتراض بأنه جائز عندكم ، واعلم أنه لما كان
المقصود وجوب النظر شرعيا ، وقد وقع الإجماع عليه ، كما صرحوا به فلا حاجة إلى ما
ذكروا من المقدمات ، ودفع الاعتراضات بل لو قصد إثبات مجرد الوجوب دون أن يكون
بدليل قطعي لكفى التمسك بظواهر النصوص كقوله تعالى :
(فَانْظُرْ إِلى آثارِ
رَحْمَتِ اللهِ) (قُلِ انْظُرُوا ما ذا
فِي السَّماواتِ) .. إلى غير ذلك.
__________________
(قال : قالوا لو لم يجب إلا شرعا لكان للمكلف أن يقول لا أنظر ما لم يجب ، ولا يجب
ما لم أنظر ، لأنه بالشرع وثبوته بالنظر ، ولا يمكن للنبي إلزامه وفيه إفحامه. وأجيب بأنه مشترك الإلزام إذ الوجوب العقلي
أيضا نظري فله أن لا ينظر ولا يسمع إلى ما يوضع له في المقدمات وأن صحة الإلزام
إنما تتوقف على تحقق الوجوب لا على العلم به ، والمتوقف على النظر هو العلم به لا
تحققه) .
احتجت المعتزلة
على أن وجوب النظر في المعجزة والمعرفة وسائر ما يؤدي إلى ثبوت الشرع عقلي ، بأنه لو لم يجب إلا بالشرع لزم إفحام الأنبياء ، فلم يكن للبعثة
فائدة وبطلانه ظاهر ، ووجه اللزوم أن النبي عليهالسلام إذا قال للمكلف : انظر في معجزتي حتى يظهر لك صدق دعواي ،
فله أن يقول : لا انظر ما لم يجب عليّ لأن ترك غير الواجب جائز ، ولا يجب عليّ ما
لم يثبت الشرع ، لأنه لا وجوب إلا بالشرع ، ولا يثبت الشرع ما لم أنظر ، لأن ثبوته
نظري لا ضروري.
فإن قيل : قوله لا
أنظر ما لم يجب ليس بصحيح ، لأن النظر لا يتوقف على وجوبه. قلنا : نعم إلا أنه لا
يكون للنبي حينئذ إلزامه النظر ، لأنه لا إلزام على غير الواجب ، وهو المعنى
بالإفحام. وأجيب أولا : بأنه مشترك الإلزام ، وحقيقته إلجاء الخصم إلى الاعتراف
بنقض دليله إجمالا ، حيث دل على نفي ما هو الحق عنده في صورة النزاع ، وتقريره أن للمكلف أن يقول لا أنظر
ما لا يجب ،
__________________
ولا يجب ما لم
أنظر ، لأن وجوبه نظري ، يفتقر إلى ترتيب المقدمات ، وتحقيق أن النظر يفيد العلم
مطلقا ، وفي الإلهيات سيما إذا كان طريق الاستدلال ما سبق من أنه مقدمة للمعرفة
الواجبة مطلقا ، فإن قيل : بل هو من النظريات الجلية التي يتنبه لها العاقل بأدنى
التفات أو إصغاء إلى ما يذكره الشارع من المقدمات قلنا : لو سلم فله أن لا يلتفت ،
ولا يصغي فيلزم الإفحام.
وثانيا : بالحل
وهو تعيين موضع الغلط ، وذلك أن صحة إلزامه النظر إنما تتوقف على وجوب النظر ،
وثبوت الشرع في نفس الأمر ، لا على علمه بذلك ، والمتوقف على النظر هو علمه بذلك ،
لا تحققهما في نفس الأمر ، فهو إن أراد نفس الوجوب والثبوت لم يصح قوله لا يثبت
الشرع ما لم أنظر ، وإن أراد العلم بهما لم يصح قوله لا أنظر ما لم يجب ، وإن أراد
من الوجوب التحقق ، وفي الثبوت العلم به لم يصح قوله لا يجب عليّ ما لم يثبت
الشرع ، لأن الوجوب عليه لا يتوقف على العلم بالوجوب ، ليلزم توقفه على العلم
بثبوت الشرع ، بل العلم بالوجوب يتوقف على الوجوب لئلا يكون جهلا ، وهذا ما قال في
المواقف : إن قولك لا يجب عليّ ما لم يثبت الشرع.
قلنا : إن هذا
القول. إنما يصح لو كان الوجوب عليه موقوفا على العلم بالوجوب.
فقوله قلنا ...
الخ ، خبر إن والعائد اسم الإشارة ، وإن خص إرادة العلم بقوله لا يثبت الشرع ما لم
أنظر ، وإرادة التحقق بقوله لا أنظر ما لم يجب ، صحت جميع المقدمات لكن تختل صورة القياس لعدم تكرر الوسط ، فهذا قياس صحة مادته في
فساد صورته وبالعكس.
__________________
المبحث الخامس
في أول الواجبات
(قال : المبحث الخامس : اختلفوا في أول الواجبات فقيل : معرفة الله تعالى
لأنها الأصل ، وقيل : النظر فيها أو القصد إليه لتوقفها عليه ، والحق أنه إن قيد الواجب بما يكون مقصودا في نفسه فالأول.
وإلا فالثاني. وأما المعرفة فليس بمقدور ، إذ الوجوب مقيد به واستدامته ليست
بمقدمة.
وقيل : الشك لأن النظر بعده ، ورد بأنه ليس بمقدور لكونه من الكيف
كالعلم ولا مقدمة لتأتي النظر عند الظن والوهم ، وإن أريد به ما يتناولهما وجعل
مقدورا بمعنى إمكان تحصيله فوجوب النظر مقيد به ، إذ لا نظر عند الجزم والواجب على
المقلد أو الجاهل جهلا مركبا هو النظر في وجه الدلالة ، ليقوده إلى العلم).
ما يجب على المكلف
، فقال الشيخ : هو معرفة الله تعالى لكونها مبنى الواجبات وقال الأستاذ
: هو النظر في معرفة الله تعالى لما مر من كونه المقدمة.
__________________
وقال القاضي
والإمام : هو القصد إلى النظر لتوقف النظر عليه ، والحق أنه إن
أريد أول الواجبات المقصودة بالذات فهو المعرفة ، وإن أريد الأعم فهو القصد إلى
النظر ، لكن مبناه على وجوب مقدمة الواجب المطلق ، وقد عرفت ما فيه ، فلذا قال في
المتن ، وإلا فالثاني ، أي النظر أو القصد إليه. لا يقال النظر مشروط بعدم المعرفة
، بمعنى الجهل البسيط بالمطلوب، فينبغي أن يكون أول الواجبات ، لأنا نقول هو ليس
بمقدور بل حاصل قبل القدرة والإرادة ، ولو سلم فوجوب النظر مقيد به ، لامتناع
تحصيل الحاصل فلا يكون مقدمة للواجب المطلق واستدامته ، وإن كانت مقدورة بأن ترك
مباشرة أسباب حصول المعرفة لكنها ليست بمقدمة. وقال أبو هاشم أول الواجبات هو الشك
لتوقف القصد إلى النظر عليه إذ لا بدّ من فهم الطرفين والنسبة مع عدم اعتقاد المطلوب
أو نقيضه على ما سبق ورد بوجهين.
أحدهما : أن الشك ليس بمقدور لكونه من الكيفيات كالعلم وإنما المقدور تحصيله
أو استدامته ، بأن يحصل تصور الطرفين ويترك النظر في النسبة ولا شيء منهما بمقدمة
، واعتراض المواقف بأنه لو لم يكن مقدورا لم يكن العلم مقدورا لأنه ضده ،
ونسبة القدرة إلى الضدين على السواء ساقط ، بما اعترف به من أن العلم ليس بمقدور ،
وإنما المقدور تحصيله بمباشرة الأسباب.
وثانيهما : أن وجوب النظر والمعرفة مقيد بالشك ، لما سبق من أنه لا إمكان
للنظر بدونه فضلا عن الوجوب ، فهو لا يكون مقدمة للواجب المطلق ، بل
__________________
للمقيد به ،
كالنصاب للزكاة ، والاستطاعة للحج ، فلا يجب تحصيله ، ولما كان إيجاب المعرفة هو إيجاب النظر. قال في المواقف : إن وجوب
المعرفة مقيد بالشك ، وإلا فالقول بوجوب الشك إنما يبنى على كونه مقدمة للنظر ، لا للمعرفة وكلا الوجهين ضعيف.
أما الأول :
فلأنهم لا يعنون بمقدورية مقدمة الواجب أن يكون من الأفعال الاختيارية، بل أن
يتمكن المكلف من تحصيله كالطهارة للصلاة وملك النصاب للزكاة ، ومعنى وجوبها ، وجوب
تحصيلها.
وأما الثاني :
فلأنه يقتضي أن لا يجب النظر والمعرفة عند الوهم ، أو الظن ، أو التقليد أو الجهل
المركب ، وفساده بيّن ، ويمكن دفع الوهم ، والظن ، بأن الشك يتناولهما لأن معناه
التردد في النسبة ، إما على استواء وهو الشك المحض أو رجحان لأحد الجانبين وهو
الظن والوهم ، ودفع التقليد ، والجهل المركب بأن الواجب معها هو النظر في الدليل ،
ومعرفة وجه دلالته ليئولا إلى العلم ، وذلك لأن امتناع النظر والطلب عند الجزم
بالمطلوب أو نقيضه مما لم يقع فيه نزاع ، وقد يقال في رد الشك المحض أنه وإن كان مقدمة للنظر الواجب فليس من أسبابه ليكون
إيجابه إيجابا له بمعنى تعلق خطاب الشارع به وفيه نظر ، لأن مراد أبي هاشم هو
الوجوب العقلي كالنظر والمعرفة. نعم لو قيل : إنه ليس من المعاني التي يطلبها
العاقل ، ويحكم باستحقاق تاركه الذم لكان شيئا.
وستعرف فساد النظر
بمعرفة معنى الوجوب العقلي.
__________________
المبحث السادس
في انقسامه إلى التصور والتصديق
(قال : المبحث السادس : كمال النظر تحصيل طريق ، يوصل بالذات إلى مطلوب ، إما تصوري وهو المعروف ، حدا ورسما تاما وناقصا ، إذ لا بد من مميز ذاتي أو عرضي مع
الجنس القريب ، أو بدونه وإما تصديقي وهو الدليل ، إما قياسا استثنائيا متصلا أو
منفصلا ، أو اقترانيا حمليا وشرطيا وإما استفزازا تاما وناقصا ، وإما تمثيلا قطعيا
أو ظنيا ، إذ لا بدّ من اندراج المطلوب تحت الدليل أو بالعكس ، أولهما تحت ثالث).
قد سبقت إشارة إلى
أن الحركة الأولى : من النظر تحصيل مادة مركب يوصل إلى المطلوب ، والثانية : صورته
، والمطلوب إما تصور أو تصديق فالموصل إلى التصور ويسمى المعرف إما حد أو رسم ،
وكل منهما إما تام أو ناقص ، لأن التمييز أمر لا بدّ منه في التعريف ، لامتناع
المعرفة بدون التمييز عند العقل ، فالمميز إن كان ذاتيا للماهية يسمى المعرف حدا
لأنه في اللغة المنع ،
__________________
ولا بد في المعرف
من منع خروج شيء من الأفراد ، ودخول شيء فيه مما سواها ، فما كان ذلك فيه باعتبار
الذات ، والحقيقة كان أولى بهذا الاسم ، وإن كان عرضيا لها سمي المعرف رسما لكونه
بمنزلة الأثر يستدل به على الطريق ، ثم إن المميز إن كان مع كمال الجزء المشترك أعني ما يقع جواب
السؤال بما هو عن الماهية وعن كل ما يشاركها وهو المسمى بالجنس القريب فالمعرف تام ، أما الحد فلاشتماله على جميع الذاتيات وأما
الرسم فلاشتماله على كمال الذاتي المشترك ، وكمال العرضي المميز ، وإلا فناقص ، فالحد
التام واحد ليس إلا ، وهو الجنس القريب مع الفصل القريب ويشترط تقديم الجنس حتى لو
أخر لكان الحد ناقصا ، ومبنى هذا الكلام على أنه لا اعتبار بالعرض العام لأنه لا
يفيد الامتياز ، ولا الاطلاع على أجزاء الماهية ، ولا بالخاصة مع الفصل القريب ،
وإلا يلزم أن يكون المركب من الفصل القريب مع العرض العام أو مع الخاصة حدا ناقصا
، وليس كذلك في اصطلاح الجمهور ، حيث خصوا اسم الحد بما يكون من محض الذاتيات وقد
يصطلح على تسمية كل معرف حدا حتى اللفظي منه ، أعني بيان مدلول اللفظ بلفظ آخر
أوضح دلالة ، وكثير من المتقدمين على أن الرسم التام ما يفيد امتياز الماهية عن
جميع ما عداها ، والناقص ما يفيد الامتياز عن البعض فقط ، إلا أنه استقر رأي
المتأخرين على اشتراط كون المعرف مساويا أي مطردا ، ومنعكسا ، حتى لا يجوز التعريف
بالأعم محافظة على الضبط ، والموصل إلى التصديق ويسمى الدليل لما فيه من الإرشاد
إلى المطلوب ، والحجة لما في التمسك به من الغلبة على الخصم ، إما قياس ، وإما
استقراء ، وإما تمثيل ، إذ لا بد من مناسبة بين الحجة والمطلوب ليمكن استفادته
__________________
منها ، وتلك
المناسبة إما أن تكون باشتمال أحدهما على الآخر أو لا وعلى الأول فإن اشتملت الحجة
على المطلوب فهي القياس ، إذ النتيجة مندرجة في مقدمتيه ، وإن اشتمل المطلوب على
الحجة فهي الاستقراء ، إذ المطلوب حكم كلي يثبت بتحقق الحكم على الجزئيات المندرجة
تحته ، وعلى الثاني لا بد أن يكون هناك أمر ثالث يشتمل عليهما ، أو يندرجان فيه ،
ليستفاد العلم بأحدهما من الآخر وهو التمثيل ، فإن حكم الفرع وهو المطلوب يستفاد من حكم الأصل وهو
الحجة ، لاندراجهما تحت الجامع الذي هو العلة ، وهذا ما قال الإمام : إنا إذا
استدللنا بشيء على شيء فإن لم يدخل أحدهما تحت الآخر فهو التمثيل ، وإن دخل فإما أن يستدل بالكلي على الجزئي وهو القياس ، أو بالعكس
وهو الاستقراء ، وذكر في بعض كتبه بدل الكلي والجزئي الأعم والأخص ، تصريحا بأن
المراد الجزئي الإضافي لا الحقيقي ، وتنبيها على أن التفسير الجزئي الإضافي
بالمندرج تحت الغير مساو لتفسيره بالأخص تحت الأعم لا أعم منه. على ما سبق إلى بعض الأوهام
، من أن معنى اندراجه تحت الغير مجرد صدق الغير عليه كليا ، وذلك لأن لفظ الاندراج
منبئ عن كون الغير شاملا له ولغيره ، ولم يعرف من اصطلاح القوم أن كلا من
المتساويين جزئي إضافي للآخر ، فلهذا قال صاحب الطوالع : إن استدل بالكلي على الجزئي
__________________
أو بأحد المتساويين
على الآخر فهو القياس ، ليتناول ما إذا كان الأوسط مساو للأصغر كقولنا : كل إنسان
ناطق ، وكل ناطق حيوان.
والجواب : بأن
الناطق معناه شيء ماله النطق ، وهو بحسب هذا المفهوم أعم من الإنسان لا يجدي نفعا
، إذ لا يتأتى في مثل قولنا : كل ناطق إنسان وكل إنسان حيوان والأحسن أن يقال مرجع
القياس إلى استفادة الحكم على ذات الأصغر من ملاحظة مفهوم الأوسط ، وهذا أعم قطعا
، وإن كان مفهوم الأصغر مساويا له كما في المثالين المذكورين ، بل وإن كان أعم منه
كما في قولنا : بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق ـ وقولنا : بعض الحيوان إنسان ،
ولا شيء من الفرس بإنسان ، وقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ، وعلى هذا
الحال الاقترانيات الشرطية ، حيث يستدل بعموم الأوضاع والتقادير على بعضها ، وأما
في القياس الاستثنائي فلا يتضح ذلك إلا أن يرجع إلى الشكل الأول ، فيقال : مضمون التالي
أمر تحقق ملزومه ، وكل ما تحقق ملزومه فهو متحقق. أو مضمون المقدم أمر انتفى لازمه
، وكل ما انتفى لازمه فهو منتف ، والفقهاء يجعلون القياس اسما للتمثيل لما فيه من
تسوية الجزءين في الحكم ، لتساويهما في العلة ، وأما على اصطلاح المنطق فوجهه أن
فيه جعل النتيجة المجهولة مساوية للمقدمتين في المعلومية ، ثم القياس إن اشتمل على
النتيجة أو نقيضها بالفعل بأن يكون ذلك مذكورا فيه بمادته وصورته ، وإن لم تبق
قضية بواسطة أداة الشرط على ما صرح به بعض أئمة العربية من أن الكلام قد يخرج عن
التمام وعن احتمال الصدق والكذب بسبب زيادة فيه ، مثل طرفي الشرطية ، كما يخرج عن
ذلك النقصان فيه ، مثل قولنا زيد عالم بحذف الرابطة . والإعراب سمي استثنائيا لما فيه من استثناء وضع أحد جزأي
الشرطية أو رفعه ، وإلا سمي اقترانيا لما فيه من اقتران الحدود بعضها بالبعض ،
أعني الأصغر والأكبر والأوسط ، والاستثنائي متصل إن كانت الشرطية المذكورة فيه
متصلة ، ومنفصل إن كانت
__________________
منفصلة ،
والاقتراني حملي إن كان تألفه من الجمليات الصرفة ، وشرطي إن اشتمل
على شرطية ، وأما الاستقراء ، وهو تصفح جزئيات كل واحد ليثبت حكمها في ذلك الكلي على سبيل العموم فتام ، إن علم انحصار الجزئيات وثبوت الحكم في كل منها ،
وهذا نوع من القياس الاقتراني الشرطي يسمى القياس المقسم ، وإلا فناقص ، وهو
المفهوم من إطلاق الاسم ، وهو لا يفيد إلا الظن ، وأما التمثيل وهو بيان مساواة
جزئي لآخر في علة حكمه ، لتثبت مساواتهما في الحكم فقطعي ، إن علم استقلال المشترك
بالعلية ، وهذا نوع من القياس ، وذكر المثال حشو وإلا فظني ، ومطلق الاسم منصرف
إليه ، وتفاصيل هذه المباحث في صناعة المنطق ، وأورد صاحب الطوالع تفاصيل الضروب المنتجة من القياس
الاستثنائي المتصل والمنفصل ، ومن الأشكال الأربعة للقياس الاقتراني الحملي بعبارة
في غاية الحسن ونهاية الإيجاز ، وأوردها الإمام على وجه أجمل ، إلا أنه أهمل الشكل
الرابع لبعده عن الطبع ، وعبر عن الشكل الثالث بحصول وصفين في محل أي ثبوت أمرين إيجابا
كان أو سلبا لأمر ثالث ، فيشمل صور سلب الكبرى كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء
من الإنسان بصهال. إذ قد جعل في الإنسان ثبوت الحيوانية ونفي الصهالية ، فعلم أن
بعض الحيوان ليس بصهال ،
__________________
وعبر عن
الاستثنائي المنفصل بالتقسيم المنحصر في قسمين ، ثم رفع أيهما كان ليلزم ثبوت
الآخر أو إثبات أيهما كان ، ليلزم ارتفاع الآخر ، ولما كان ظاهره مختص بالمنفصل
الحقيقي غيره صاحب المواقف إلى ما هو أوجز وأشمل ، وهو أن يثبت المنافاة بين الأمرين فيلزم من ثبوت
أيهما كان عدم الآخر ، يعني أنه إذا ثبت المنافاة بينهما في الصدق والكذب جميعا كما في
الحقيقة يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر ، ومن ثبوت كذب كل عدم كذب الآخر وإذا
كان في الصدق فقط يلزم من ثبوت صدق كل عدم صدق الآخر ، وفي إذا كان في الكذب فقط
يلزم من ثبوت كذب كل عدم وكذب الآخر.
(قال : وقد يقال الدليل لما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم كالعلم للصانع ،
وكثيرا ما يختص بالجازم وتقابله الأمارة) .
في اصطلاح المنطق
هو المقدمات المرتبة المنتجة للمطلوب. وقد يقال للأمر الذي يمكن أن يتأمل فيه
وتستنبط منه المقدمات المرتبة كالعالم للصانع ، فيفسر بما يمكن
التوصل بصحيح النظر فيه إلى حكم قطعيا كان أو ظنيا ، وذكر الإمكان لأن الدليل لا
يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر فيه ، وقيد النظر بالصحيح لأنه لا توصل بالفاسد
إليه ، وذلك بأن لا يكون النظر فيه من جهة دلالته ، وأطلق الحكم ليتناول التفسير
الأمارة ، وكثيرا ما يخص الدليل بما يفيد العلم ، ويسمى ما يتوصل به إلى الظن
أمارة ، والاستدلال هو التوصل المذكور ، وقد يخص بما يكون من الأثر إلى المؤثر ، كالتوصل بالنظر في العالم إلى
__________________
الصانع ، ويسمى
عكسه تعليلا كالتوصل بالنظر في النار إلى الإشراق ، أي إلى التصديق بذلك ، وما
يقال إن الدليل هو الذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول فمعناه العلم بتحقق
النسبة إيجابا كان أو سلبا ، من غير اعتبار وصف المدلولية ، حتى كأنه قيل بتحقق
شيء آخر وهو المدلول ، وحينئذ لا يخرج مثل الاستدلال بنفي الحياة على نفي العلم ،
ولا يلزم الدور بناء على تضايف الدليل والمدلول ، وذلك لأن الدليل عندهم اسم لما يفيد التصديق
دون التصور ، والعلم قسم من التصديق يقابل الظن ، وعلى هذا فمعنى العلم بالدليل
إذا حملناه على مثل العالم للصانع هو العلم بما يؤخذ من النظر في وجه دلالته من المقدمات المرتبة ، مع سائر
الشرائط التي من جملتها التفطن لجهة الإنتاج وكيفية الاندراج ، إذ لا يلزم العلم بالمدلول
إلا حينئذ ، ولا يقال العلم بالنتيجة لازم للعلم بالمقدمات المرتبة ، إلا أنه قد
يفتقر إلى وسط لكونه غير بيّن لأنا نقول لو كان كذلك لامتنع تحقق العلم الأول بدون
الثاني ، كالمثلث لا يتحقق بدون تساوي زواياه القائمتين ، والموقوف على الوسط إنما
هو العلم بذلك ، والحاصل أن اللازم يمتنع انفكاكه عن الملزوم بيّنا كان أو غير
بيّن ، والتفرقة إنما تظهر في العلم باللزوم وبتحقق اللازم.
(قال : والدليل إن لم يتوقف على نقل أصلا فعقلي وإلا فنقلي ، سواء توقف كل من
مقدماته القريبة على النقل أو لا.
وقد يخص النقل
الأول ويسمى الثاني مركبا ، أما النقلي المحض فباطل إذ لا بد من ثبوت صدق المخير
بالعقل ، والمطلوب إن استوى طرفاه عند العقل
__________________
فإثباته بالنقل ،
وإلا فإن توقف ثبوت النقل عليه فبالعقل وإلا فبكل منها).
قد يقسم إلى
العقلي والنقلي ، وقد يقسم إليهما وإلى المركب من العقلي والنقلي ، وهذا يوهم أن
المراد بالنقلي ما لا يكون شيء من مقدماته عقليا وهو باطل ، إذ لو لم تنته سلسلة
صدق المخبرين إلى من يعلم صدقه بالعقل لزم الدور أو التسلسل ، فدفع ذلك بأن من
حصره فيهما أراد بالنقلي ما يتوقف شيء من مقدماته القريبة أو البعيدة على النقل
والسماع من الصادق ، وبالعقلي ما لا يكون كذلك ، ومن ثلث القسمة أراد بالنقلي ما
يكون جميع مقدماته القريبة نقلية كقولنا : الحج واجب ، وكل واجب فتاركه يستحق
العقاب ، وبالمركب ما يكون بعض مقدماته القريبة عقليا وبعضها نقليا كقولنا :
الوضوء عمل ، وكل عمل فصحته الشرعية بالنية. وكقولنا : الحج واجب ، وكل واجب فتاركه عاص ، إذ لا معنى للعصيان إلا ترك امتثال الأوامر
والنواهي وإنما قيد المقدمات بالقريبة لأن النقلي أيضا بعض مقدماته البعيدة عقلية
كما مر ، فلا يقابل المركب بل يندرج فيه ، هذا إن أريد بالدليل نفس المقدمات المرتبة ، وأما إذا أريد
مأخذها كالعالم للصانع ، والكتاب والسنة والإجماع للأحكام ، فلا معنى للمركب ،
وطريق القسمة أن استلزامه للمطلوب إن كان بحكم العقل فعقلي ، وإلا فنقلي ثم الحكم
المطلوب إن استوى فيه عند العقل جانب الثبوت والانتفاء بحيث لا يجد من نفسه سبيلا
إلى تعيين أحدهما فطريق إثباته النقل لا غير ، كالحكم بوجوب الحج ، ويكون زيد في
الدار ، وإلا فإن توقف عليه ثبوت النقل كالعلم بصدق المخبر ، وما يبتنى عليه ذلك ، كثبوت الصانع ـ وبعثة النبي ودلالة المعجزة ،
ونحو ذلك فطريق إثباته العقل لا غير ، لئلا يلزم الدور ، وإلا فيمكن إثباته بكل من
النقل والعقل كوحدة الصانع ، وحدوث العالم ، إذا صح الاستدلال على الصانع بإمكان
العالم أو بحدوث الأعراض ، أو بعض الجواهر ،
__________________
وإذا تعاضد العقل
والنقل كان المثبت ما أفاد العلم أولا. واعلم أن توقف النقل على ثبوت الصانع ،
وبعثة الأنبياء ، إنما هو في الأحكام الشرعية ، وفيما يقصد به حصول القطع ، وصحة
الاحتجاج على الغير ، وأما في مجرد إفادة الظن فيكفي خبر واحد ، أو جماعة يظن
المستدل صدقه كالمنقولات عن بعض الأولياء والعلماء ، أو الشعراء ونحو ذلك ، حتى لو
جعل العلم الحاصل بالتواتر استدلاليا لم يتوقف النقل القطعي أيضا على إثبات الصانع
، وبعثة الأنبياء.
(قال : ولا خفاء في إفادة النقل الظن. وأما إفادته اليقين فيتوقف على العام بالوضع
والإرادة وذلك بعصمة رواة العربية ، وعدم مثل النقل والاشتراك والمجاز ، والإضمار
والمعارض من العقلي إذ لا بد معه من تأويل النقل لأنه فرع العقل فتكذيبه تكذيبه
نعم قد ينضم إليه قرائن تنفي الاحتمال ، فيفيد القطع بالمطلوب ، وينفي المعارض في
العقبات مثل : قل هو الله أحد ، ولا إله إلا الله) .
وإنما الكلام في
إفادته العلم ، فإنها تتوقف على العلم بوضع الألفاظ الواردة في كلام المخبر الصادق
للمعاني المفهومة ، وبإرادة المخبر تلك المعاني ، ليلزم ثبوت المدلول ، والعلم
بالوضع يتوقف على العلم بعصمة رواة العربية ، لغة وصرفا ونحوا ، عن الغلط والكذب ،
لأن مرجعه إلى روايتهم إذ لا طريق إلى معرفة الأوضاع سوى النقل ، أما الأصول أعني
ما وقع التنصيص عليه فظاهر ، وأما الفروع فلأنها مبنية على الأصول بالقياس ، الذي
هو في نفسه ظني ، والعلم بالإرادة يتوقف على عدم النقل إلى معنى آخر وعلى عدم
اشتراكه بين هذا المعنى وبين معنى آخر .
وعلى عدم كونه
مستعملا بطريق التجوز في معنى غير الموضوع له ، وعلى عدم إضمار شيء يتغير به
المعنى ، وعلى عدم تخصيص ما ظاهره عموم الأفراد
__________________
أو الأوقات بالبعض
من ذلك ، بأن يراد من أول الأمر ذلك البعض ، أو يراد ما يفيد بيان انتهاء وقت
الحكم ، ويسمى ناسخا ، وعلى عدم تقديم وتأخير بغير المعنى المطلوب عن ظاهره ، وفي بعض كتب الإمام وعلى عدم الحذف ، وفسر
الحذف بأن يكون في الكلام زيادة يجب حذفها لتحصيل المعنى المقصود ، كقوله تعالى (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) وقوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيامَةِ) .
فإن كلمة «لا» في
الموضعين محذوفة ، أي واجبة الحذف ، وكثير من الناس يفهمون منه أن يكون في الكلام
محذوف يجب تقديره ليحصل المعنى ، ويفرقون بينه وبين الإضمار ، بأن المضمر ما يبقى
له أثر في اللفظ ، كقولك خبر مقدم بإضمار قدمت.
وبالجملة فلا سبيل
إلى الجزم بوجود الشرائط ، وعدم الموانع ، بل غايته الظن ، وما يبتنى على الظن لا
يفيد إلا الظن ، ومن جملة ما لا بد منه ولا سبيل إلى الجزم به انتفاء المعارض
العقلي ، إذ مع وجوده يجب تأويل النقل وصرفه عن ظاهره ، لأنه لا يجوز تصديقهما
لامتناع اعتقاد حقية النقيضين ، ولا تكذيبهما لامتناع اعتقاد بطلان النقيضين ، ولا
تصديق النقل وتكذيب العقل ، لأنه أصل النقل لاحتياجه إليه ، وانتهائه بالآخرة إليه
لما سبق من أنه لا بد من معرفة صدق النقل والفرع جميعا ، وما يفضي وجوده إلى عدمه
باطل قطعا ، واقتصر في المتن على هذا لكونه وافيا بتمام المقصود. وذلك لأنه لما
امتنع تصديق النقل لاستلزامه تكذيب العقل الذي هو الأصل ثبت أنه لا يفيد العلم ،
__________________
إذ لا معنى لعدم
تصديقه سوى هذا ، ولا حاجة إلى باقي المقدمات مع ما في الحصر من المناقشة إذ لا
يلزم تصديقهما أو تكذيبهما ، أو تصديق أحدهما وتكذيب الآخر ، لجواز أن يحكم
بتساقطهما ، وكونهما في حكم العدم ، من غير أن يعتقد معهما حقية شيء أو بطلانه ،
ولو جعل التكذيب مساويا لعدم التصديق لم يلزم من تكذيب العقل والنقل اعتقاد ارتفاع
النقيضين وبطلانهما ، لأن معنى عدم تصديق الدليل عدم اعتقاد صحته واستلزامه لحقية
النتيجة ، وهذا لا يستلزم بطلانها أو اعتقاد بطلانها وارتفاعها ، فغاية الأمر
التوقف في الإثبات والنفي ، على أن تكذيبهما أيضا يستلزم المطلوب ، أعني عدم إفادة
النقل العلم فنفيه يكون مستدركا في البيان ، هذا والحق أن الدليل النقلي قد يفيد
القطع إذ من الأوضاع ما هو معلوم بطريق التواتر كلفظ السماء والأرض ، وكأكثر قواعد الصرف والنحو في وضع هيئات المفردات وهيئات التراكيب
، والعلم بالإرادة يحصل بمعونة القرائن بحيث لا تبقى شبهة كما في النصوص الواردة
في إيجاب الصلاة والزكاة ونحوهما ، وفي التوحيد والبعث ، وإذا اكتفينا فيهما بمجرد
السمع كقوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) (قُلْ يُحْيِيهَا
الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) .
فإن قيل : احتمال
المعارض قائم ، إذ لا جزم بعدمه بمجرد الدليل النقلي ، أو بمعونة القرائن.
قلنا : أما في
الشرعيات فلا خفاء ، إذ لا مجال للعقل فلا معارض من قبله ، ونفي المعارض من قبل
الشرع معلوم بالضرورة من الدين ، في مثل ما ذكرنا من الصلاة والزكاة.
وأما في العقليات
فلأن العلم بنفي المعارض العقلي ، حاصل عند العلم بالوضع والإرادة ، وصدق المخبر
على ما هو المفروض فى نصوص التوحيد ،
__________________
والبعث وذلك لأن
العلم بتحقق أحد المتنافيين يفيد العلم بانتفاء المنافي الآخر ، كما سبق في إفادة
النظر العلم بالمطلوب ، وبانتفاء المعارض. فإن قيل : إفادتها اليقين على العلم
تتوقف على العلم بنفي المعارض ، فإثباته بها يكون دورا.
قلنا : إنما يثبت
بها التصديق بحصول هذا العلم بناء على حصول ملزومه ، على أن الحق إن أفاد العلم إنما يتوقف على
انتفاء المعارض وعدم اعتقاد ثبوته ، لا على العلم بانتفائه إذ كثيرا ما يحصل
اليقين من الدليل ولا يخطر المعارض بالبال إثباتا أو نفيا ، فضلا عن العلم بذلك.
فما يقال : إن
إفادة اليقين تكون مع العلم بنفي المعارض وأنه يفيد ذلك ويستلزمه فمعناه أنه يكون بحيث إذا لاحظ العقل هذا المعارض جزم بانتفائه. ويدل على ما ذكرنا قطعا ما
ذكروا في بيان هذا الاشتراط ، من أنه لا جزم مع المعارض بل الحاصل معه التوقف فليتأمل والله
الهادي.
__________________
المقصد الثاني
في ثلاثة فصول
الأول : الوجود والعدم
الثاني : الماهية
الثالث : لواحق الوجود والماهية
في الأمور العامة
(قال : المقصد الثاني : في الأمور العامة ، وهو ما يعم أكثر الموجودات ، الواجب ،
والجوهر ، والعرض ، فيكون البحث عن العدم ، والامتناع بالعرض وعن الوجوب لكونه من
أقسام مطلق الوجوب وبيانها في فصول) .
قد سبقت الإشارة
إلى أن وجه تقديم هذا المقصد على الأربعة الباقية قد توقف بعض بياناتها عليه ، ووجه إفراده عنها مع كونه عائدا
إليها ، هو أنه لما كان البحث عن أحوال الموجود وقد انقسم إلى الواجب ، والجوهر ،
والعرض ، واختفى كل منها بأحوال تعرف في بابه ، احتيج إلى باب لمعرفة الأحوال
المشتركة بين الثلاثة ، كالوجود والعدم والواحدة ، أو الاثنين فقط ، كالحدوث والكثرة ، وبهذا يظهر
أن المراد بالموجودات في قولهم الأمور العامة ما يعم أكثر الموجودات هو أقسامه
الثلاثة التي هي الواجب ، والجوهر ، والعرض ، لا أفراده التي لا سبيل للعقل إلى
حصرها وتعيين الأكثر منها والحكم بأن مثل القلة والكثرة يعم أكثرها ، ولا خفاء في أن المقصود بالنظر ما
يتعلق به عرض علمي ويترتب عليه مقصود أصلي من الفن ، ولا يكون له ذكر في أحد
المقاصد بالاصالة ، وإلا فكثير من الأمور الشاملة مما لا يبحث عنه في الباب
كالكمية ، والكيفية ، والإضافة ، والمعلومية ، والمقدورية ، وسائر مباحث الكليات
__________________
الخمس ، والحد ،
والرسم والوضع ، والحمل ، بل عامة المقولات الثانية ، ولا يضر كون البعض اعتباريا
محضا ، أو غير مختص بالموجود ، لأن بعض ما يبحث عنه أيضا كذلك كالإمكان ، فإن قيل
: قد يبحث عما لا يشمل الموجود أصلا كالامتناع والعدم وعما يخص الواجب قطعا
كالوجوب والقدم .
قلنا : لما كان
البحث مقصورا على أحوال الموجود ، كان بحث العدم والامتناع بالعرض ، لكونهما في
مقابلة الوجود والإمكان ، وبحث الوجوب والقدم ، من جهة كونهما من أقسام مطلق
الوجوب والقدم ، أعني ضرورة الوجود الوجود بالذات أو بالغير وعدم المسبوقية بالعدم
وهما من الأمور الشاملة ، أما الوجوب فظاهر ، وأما القدم فعلى رأي الفلاسفة ، حيث
يقولون بقدم المجردات ، والحركة ، والزمان وغيرهم من الجواهر والأعراض ، ونظر
__________________
الكلام فيه من جهة
النفي لا الإثبات يعني أنه ليس من الأمور العامة ، كبحث الحال عند من ينفيه وقد
تفسر الأمور العامة بما يعم أكثر الموجودات أو المعدومات ، ليشمل العدم والامتناع
وإلى هذا كان ينبغي أن يذهب صاحب المواقف حيث زعم أن ليس موضوع الكلام هو الموجود
لما أنه يبحث عن المعدوم.
__________________
الفصل الأول
في الوجود والعدم
وفيه ستة مباحث
١ ـ في تصوره وأنه بديهي
٢ ـ في أنه مشترك بين الموجودات زائد
على الذات
٣ ـ في تقسيمه إلى عيني وذهني وخطي وما
يتعلق بذلك
٤ ـ في أنه يرادف الثبوت والعدم
٥ ـ في تمايز الإعدام في العقل
٦ ـ في أن كلا من الوجود والعدم يقع
محمولا ورابطه
الفصل الأول
في الوجود والعدم
(قال : الفصل الأول في الوجود والعدم ، وفيه أبحاث ، البحث الأول : تصور الوجود بديهي بالضرورة والتعريف ، بمثل الكون ،
والثبوت ، والتحقيق ، والشيئية ، وبمثل الثابت العين ، وما يمكن أن يخبر عنه ويعلم
، أو ينقسم إلى الفاعل والمنفعل ، أو القديم أو الحادث تعريف بالأخفى مع صدقه على
الموجود ، فمنهم من زعم أن الحكم كسبي)
رتب المقصد الثاني
على ثلاثة فصول ، في الوجود ، والماهية ، ولواحقهما.
والفصل الأول :
يتضمن البحث عن العدم ، والحق أن تصور الوجود بديهي ، وأن هذا الحكم أيضا بديهي
يقطع به كل عاقل يلتفت إليه ، وإن لم يمارس طرق الاكتساب ، حتى ذهب جمهور الحكماء
إلى أنه لا شيء أعرف من الوجود ، وعولوا على الاستقراء إذ هو كاف في هذا المطلوب ،
لأن العقل إذا لم يجد في معقولاته ما هو أعرف منه بل هو في مرتبته ثبت أنه أوضح
الأشياء عند العقل. والمعنى الواضح قد يعرف من حيث إنه مدلول لفظ دون لفظ ،
فيعرف تعريفا لفظيا يفيد فهمه من ذلك اللفظ ، لا تصوره في نفسه ليكون دورا ،
وتعريفا للشيء بنفسه ، وذلك كتعريفهم الوجود بالكون ، والثبوت ، والتحقيق ،
والشيئية ، والحصول ، ونحو ذلك بالنسبة إلى من يعرف معنى الوجود ، من حيث أنه
مدلول هذه الألفاظ دون لفظ الوجود ، حتى لو انعكس انعكست. وأما التعريف بالثابت
العين أو بالذي يمكن أن يخبر عنه ويعلم ، أو بالذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل ، أو
بالذي ينقسم إلى القديم والحادث ، فإن قصد كونه رسميا فلزوم
الدور ظاهر ، إذ
لا يعقل معنى الذي ثبت والذي أمكن ، ونحو ذلك إلا بعد تعقل معنى الحصول في الأعيان
، أو الأذهان ، ولو سلم فلا خفاء في أن معنى الوجود أوضح عند العقل من معاني هذه العبارات ، وقد يقرر الدور بأن الموصوف المقدر لهذه الصفات
أعني الذي يثبت ، والذي يمكن ، والذي ينقسم هو الوجود لا غير ، لأن غيره إما
الموجود أو العدم أو المعدوم ، ولا شيء منها يصدق على الوجود وهو ضعيف ، لأن
المفهومات لا تنحصر فيما ذكر فيجوز أن يقدر مثل المعنى والأمر والشيء مما يصدق على
الوجود.
(وهو ضعيف لأن
المفهومات لا تنحصر فيما ذكر فيجوز أن يقدر مثل المعنى والأمر والشيء مما يصدق على
الوجود وغيره) .
وإن قصد كونه
تعريفا اسميا فلا خفاء في أنه ليس أوضح دلالة على المقصود من لفظ الوجود بل أخفى
فلا يصلح تعريفا اسميا ، كما لا يصلح رسميا ، على أن كلا منها صادق على
الموجود ، وبعضها على أعيان الموجودات ، وقد يتكلف لعدم صدق الثابت العين على الموجودات بأن معناه الثابت عينه أي نفسه من حيث هي لا
باعتبار أمر آخر بخلاف الموجود فإنه ثابت من حيث اتصافه بالوجود ، فالثابت أعم من
أن يكون ثابتا بنفسه وهو الوجود ، أو بالوجود وهو الموجودات ، وأنت خبير بأنه لا
دلالة للفظ عينه على هذا المعنى ، ولا يعقل من الثابت إلا ماله الثبوت ، وهو معنى
الموجود ، وكون هذه التعريفات للوجود هو ظاهر كلام التجريد والمباحث المشرقية ،
وفي كلام المتقدمين أن الموجود : هو الثابت العين ، والمعدوم : هو المنفي العين ،
وكأن زيادة لفظ العين لدفع توهم أن يراد الثابت لشيء والمنفي عن شيء فإن ذلك معنى
المحمول لا
__________________
الموجود ، وفي
كلام الفارابي أن الوجود إمكان الفعل والانفعال ، والموجود ما أمكنه
الفعل والانفعال.
التصديق ببداهة تصور الوجود
(قال : واستدل بوجوه ، الأول : أن التصديق البديهي بتنافي الوجود والعدم
يتوقف على تصوره ، ورد بأنه أريد البداهة مطلقا بمعنى عدم التوقف على الكسب أصلا فممنوع ، بل مصادرة أو
بداهة الحكم فغير مفيد إذ لا يستلزم تصور الحقيقة ولا ينافي اكتسابه لا يقال بداهة
الكل وان توقفت على بداهة الأجزاء لكن العلم ببداهته لا يتوقف على العلم ببداهتها
بل يستتبعه فلا مصادرة لأنا نقول توقف العلم ببداهة الكل على العلم ببداهة الجزء
ضروري ، كتوقف الكل على الجزء إذ بداهة الجزء جزء بداهة الكل ، والعلم بالكل إما
نفس العلم بالأجزاء أو حاصل به).
الثاني : أنه معلوم يمتنع اكتسابه إما بالحد فلبساطته إذ لو تركب فأما من الموجودات فيلزم تقدم الشيء
على نفسه ، ومساواة الجزء للكل في ماهيته ، أو من غيرها فلا بد أن يحصل عند
الاجتماع أمر زائد يكون هو الموجود ، لئلا
__________________
يكون الموجود محض
ما ليس بموجود والزائد على الشيء عارض ، فلا يكون التركيب فيه ، وإما بالرسم فلما
سبق ورد بالنقض الإجمالي لسائر المركبات.
والحل بأن الأمر
الحاصل يكون زائدا على كل لا على الكل ، بل هو نفس الكل فيكون التركيب فيه ، ويكون
الوجود محض ما ليس شيء من أجزائه بوجود كسائر المركبات ، وحديث الرسم قد سبق.
الثالث : أنه جزء وجودي وهو بديهي ، ورد بأنه إن أريد التصور فممنوع أو
التصديق فغيره مفيد على ما سبق ، وقيل لا يتصور أصلا.
كان الإمام جعل التصديق ببداهة تصور الوجود كسبيا فاستدل عليه بوجوه.
الأول : أن التصديق بأن الوجود والعدم متنافيان ، لا يصدقان معا على أمر أصلا
، بل كل أمر فإما موجود أو معدوم ، تصديق بديهي ، وهو مسبوق بتصور الوجود والعدم ،
فهو أولى بالبداهة. والجواب : أنه إن أريد أن هذا الحكم بديهي بجميع متعلقاته على
ما هو رأي الإمام في التصديق فممنوع ، بل مصادرة على المطلوب ، حيث جعل المدعي وهو بداهة تصور الوجود جزءا من الدليل ،
وإن أريد أن نفس الحكم بديهي بمعنى أنه لا يتوقف بعد تصور المتعلقات على كسب فمسلم
، لكنه لا يثبت المدعي وهو بداهة تصور الوجود بحقيقته لجواز الحكم أن يوجد الحكم البديهي مع عدم تصور الطرفين بالحقيقية بل بوجه ما
ومع كون تصورهما كسبيا لا بديهيا ، وإنما قلنا في الأول فممنوع بل مصادرة ولم
تقتصر على أحدهما تنبيها على تمام الجواب بدون بيان المصادرة ، وتحقيقا للزوم
المصادرة بأن بداهة كل جزء من أجزاء هذا
__________________
التصديق جزء من
بداهة هذا التصديق ، لأنه لا معنى لبداهة هذا التصديق سوى أن ما يتضمنه من الحكم
والطرفين بديهي ، والعلم بالكل : إما نفس العلم بالأجزاء أو حاصل به على ما مرّ في
تصور الماهية وأجزائها ، فبالضرورة يكون العلم بكل جزء سابقا على العلم بالكل لا
تابعا له ممكن الاستفادة منه ، ونبطل ما ذكر في المواقف من أنا نختار أن هذا التصديق بديهي مطلقا ، أي : بجميع
أجزائه ، ولا مصادرة ، لأن بداهة هذا التصديق تتوقف على بداهة أجزائه ، لكن العلم
ببداهته لا يتوقف على العلم ببداهة الأجزاء.
فالاستدلال : إنما
هو على العلم ببداهة الأجزاء فيجوز أن يستفاد من العلم ببداهة هذا التصديق لأنه
يستتبع العلم ببداهة أجزائه بمعنى أنه إذا علم بداهته فكل جزء يلاحظ من أجزائه
يعلم أنه بديهي فإن قيل : قد يعقل المركب من غير ملاحظة الأجزاء على التفصيل.
قلنا : لو سلم ففي
المركب الحقيقي إذ لا معنى لتعقل المركب الاعتباري سوى تعقل الأمور الاعتبارية المتعددة ، التي وضع الاسم بإزائها ، ولو سلم ففي التصور
للقطع بأنه لا معنى للتصديق ببداهة هذا المركب بجميع أجزائه سوى التصديق بأن هذا
الجزء بديهي ، وذاك وذاك ولو سلم فلا يلزم المصادرة في شيء من الصور لجواز أن يعلم
الدليل مطلقا من غير توقف على العلم بجزئه الذي هو نفس المدعي.
الوجه الثاني : إن الوجود معلوم بحقيقته ، وحصول العلم إما بالضرورة أو الاكتساب ،
وطريق الاكتساب إما الحد أو الرسم ، وهذا احتجاج على من يعترف بهذه المقدمات ،
فلهذا لم يتعرض لمنعها والوجود يمتنع اكتسابه أما بالحد فلأنه إنما يكون للمركب ،
والوجود ليس بمركب ، وإلا فأجزاؤه إما وجودات أو غيرها فإن كانت وجودات لزم تقدم
الشيء على نفسه ، ومساواة الجزء للكل في تمام ماهيته وكلاهما محال.
__________________
أما الأول :
فظاهر.
وأما الثاني :
فلأن الجزء داخل في ماهية الكل ، وليس بداخل في ماهية نفسه ، ومبنى اللزوم على أن الوجود المطلق الذي فرض التركيب فيه
ليس خارجا عن الوجودات الخاصة ، بل إما نفس ماهيتها ليلزم الثاني ، أو جزء مقوم لها ليلزم الأول ، وإلا فيجوز أن تكون الأجزاء وجودات
خاصة هي نفس الماهيات أو زائدة عليها ، والمطلق خارج عنها فلا يلزم شيء من
المحالين ، وإن لم تكن الأجزاء وجودات فإما أن يحصل عند اجتماعهما أمر زائد يكون
هو الوجود أو لا يحصل ، فإن لم يحصل كان الوجود محصن ما ليس بوجود وهو محال ، وإن
حصل لم يكن التركيب في الوجود الذي هو نفس ذلك الزائد العارض بل في معروضه هذا
خلف.
وتقرير الإمام في
المباحث أنه لو تركب الوجود فأجزاؤه إن كانت وجودية كان الوجود الواحد وجودات ،
وإن لم تكن وجودية فإن لم يحدث لها عند اجتماعها صفة الوجود كان الوجود عبارة من
مجموع الأمور العدمية ، وإن حدثت يكون ذلك المجموع مؤثرا في ذلك الوجود أو قابلا
له فلا يكون التركيب في نفس الوجود بل في قابله أو فاعله ، وأما بالرسم فلما سبق
من أنه يفيد بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم وهذا متوقف على العلم به وهو دور
وبما عداه مفصلا وهو محال ، ولو سلم فلا يفيد معرفة الحقيقة ، والجواب عن التقرير
الأول لدليل امتناع تركب الوجود النقض أي لو صح بجميع مقدماته لزم أن لا يكون شيء
من الماهيات مركبا لجريانه فيها بأن يقال أجزاء البيت إما بيوت وهو محال ، وإما
غير بيوت ، وحينئذ إما أن يحصل عند اجتماعها أمر زائد . هو البيت فلا يكون التركيب في البيت ، هذا خلف ، أو لا
يحصل فيكون البيت محض
__________________
ما ليس ببيت والحل
بأنا نختار أنه يحصل أمر زائد على كل جزء وهو المجموع الذي هو نفس الوجود فلا يكون
التركيب إلا فيه ، ولا حاجة إلى حصول أمر زائد على المجموع ، فالوجود محض المجموع
الذي ليس شيء من أجزائه بوجود ، كما أن البيت محض الأجسام التي ليس شيء منها ببيت
والعشرة محض الآحاد التي شيء منها بعشرة.
فإن قيل : هذا
إنما يستقيم في الأجزاء الخارجية ، وكلامنا في الأجزاء العقلية التي يقع بها التحديد إلزاما لمن اعترف
بزيادة الوجود على الماهية ، إذ ليس على القول بالاشتراك اللفظي وجود مطلق ، يدعي
بداهته ، أو اكتسابه ، بل له معان بعضها بديهي وبعضها كسبي ، وحينئذ لا يصح الحل
بأن أجزاء الوجود أمور تتصف بالعدم أو بوجود هو عين الماهية ، أو لا تتصف بالوجود
ولا بالعدم.
قلنا : فالحل ما
أشرنا إليه من أنها وجودات ، أي أمور يصدق عليها الوجود صدق العارض على المعروض ،
وحينئذ لا يلزم شيء من المحالين ، ولا اتصاف الشيء بالوجود قبل تحقق الوجود ، لأنه
لا تمايز بين الجنس ، والفصل ، والنوع ، إلا بحسب العقل دون الخارج. فمعنى قولنا
يكون الوجود محض ما ليس شيء من أجزائه بوجود أنه لا يكون شيء من الأجزاء نفس
الوجود ، وإن كان يصدق عليه الوجود كسائر المركبات بالنسبة إلى الأجزاء العقلية
فإنها لا تكون نفس ذلك المركب لكنه يصدق عليها صدق العارض.
والجواب عن
التقرير الثاني : أنا نختار أن أجزاء الوجود وجوديات ، ولا نسلم لزوم كون الوجود
الواحد وجودات ، وإنما يلزم لو كان وجود الوجودي عينه ولو سلم فيكون الوجود الواحد في نفس الأمر وجودات بحسب العقل ، ولا
استحالة فيه كما في سائر المركبات من الأجزاء العقلية.
__________________
والجواب : عما ذكر
في امتناع اكتسابه بالرسم ما سبق من أنه إنما يتوقف على الاختصاص لا على العلم
بالاختصاص وأنه وإن لم يستلزم إفادة معرفة الحقيقة ، لكنه قد يفيدها ، وقد يستدل على امتناع اكتسابه بالرسم بوجهين.
أحدهما : أنه
يتوقف على العلم بوجود اللازم وثبوته للمرسوم ، وهو أخص من مطلق الوجود ، فيدور.
وثانيهما : أن
الرسم إنما يكون بالأعرف ولا أعرف من الوجود بحكم الاستقراء ، أو لأنه أعم الأشياء
بحسب التحقق دون الصدق ، والأعم أعرف لكون شروطه ومعانداته أقل.
والجواب : منع
أكثر المقدمات على أنه لو ثبت كونه أعرف الأشياء لم يحتج إلى باقي المقدمات.
الوجه الثالث : أن
الوجود المطلق جزء من وجودي لأن معناه الوجود مع الإضافة ، والعلم بوجودي بديهي ،
بمعنى أنه لا يتوقف على كسب أصلا فيكون الوجود المطلق بديهيا ، لأن ما يتوقف عليه
البديهي يكون بديهيا.
والجواب : أنه إن
أريد أن تصور وجودي بالحقيقة بديهي فممنوع ، ولو سلم فلا نسلم أن المطلق جزء منه
أو تصوره جزء من تصوره ، لما سيجيء من أن الوجود المطلق يقع على الوجودات وقوع
لازم خارجي غير مقوم ، وليس العارض جزءا للمعروض ولا تصوره لتصوره. وإن أريد أن
التصديق أي العلم بأني موجود ضروري فغير مفيد ، لأن كونه بديهيا لجميع الأجزاء غير
مسلم ، وكون حكمه بديهيا ، غير مستلزم لتصور الطرفين بالحقيقة ، فضلا عن بداهته ،
وظاهر تقرير الإمام بل صريحه أن المراد هو تصديق الإنسان بأنه موجود ، ثم
__________________
أورد منع بداهته ،
فأجاب بأنه على تقدير كونه كسبيا لا بد من الانتهاء إلى دليل يعلم وجوده بالضرورة
قطعا للتسلسل ، والعلم بالوجود جزء من ذلك العلم فيكون ضروريا. وصرح صاحب المواقف
بأنه جزء وجودي وهو متصور بالبديهة ، ثم أورد جواب الإمام عن منع المذكور وزاد
عليه. فقال : وأيضا لا دليل عن سالبتين ، فلا بد من الانتهاء إلى
موجبة يحكم فيها بوجود المحمول للموضوع ضرورة ، ثم دفعهما بأن الذي لا بد من
الانتهاء إليه دليل هو ضروري لا وجوده ، فإنا نستدل بصدق المقدمتين لا بوجودهما في
الخارج وبأن الموجبة ما حكم فيها بصدق المحمول على ما صدق عليه الموضوع لا بوجوده
له ، وأنت خبير بأنه لا دخل للدليل وترتيب المقدمتين في الإيصال إلى التصور ، وإن
كان كلامه صريحا في أنه يريد بالدليل الموصل إلى التصديق لا الموصل في
الجملة وأن مراد الإمام بالدليل الذي لا بد من العلم بوجوده هو الأمر الذي يستدل
به ، كالعالم للصانع لا المقدمات المرتبة وأنه لا معنى لصدق المحمول على الموضوع سوى
وجوده له ، وثبوته له .
نعم يتجه أن يقال
: الوجود هنا رابطة ، وليس الكلام فيه.
الوجود نفس الماهية أو زائد عليها
(قال : فإن قيل : هو إما نفس الماهية فيكتسب مثلها ، أو عارض فلا يعقل إلا تبعا
لها ، والقول بأن الكلام في مطلق الوجود أو المعروض مطلق الماهية لا يدفع التبعية
بل يزيدها ، وأيضا لو كان بديهيا لم يشتغل العقلاء بتعريفه ، ولم يختلفوا في
بداهته ، ولم يحتجوا عليها.
__________________
قلنا : قد يعقل
العارض دور المعروض ، ولو سلم فيكفي ماهية بديهية ، وقد يفسر البديهي لفظ الإفادة
المراد باللفظ لا تصور الحقيقة ، وقد يكون التصديق ببداهة البديهي كسبيا أو خفيا
فيختلف فيه ويفتقر إلى الدليل أو التنبيه).
يريد أن يشير إلى
تمسكات المنكرين ببداهة الوجود ، مع الجواب عنها وهي وجوه :
الأول : أن الوجود إما نفس الماهية أو زائد عليها. فإن كان نفس الماهية
والماهيات ليست ببديهية كان الوجود غير بديهي ، وإن كان زائدا عليها كان عارضا لها
لأن ذلك معناه فيكون تابعا للمعروضات في المعقولية إذ لا استقلال للعارض بدون
المعروض وهو غير بديهية ـ فكذا الوجود العارض بل أولى لا يقال الكلام في الوجود
المطلق ، لا في الوجودات الخاصة التي هي العوارض للماهيات ، ولو سلم فالوجود
المطلق يكون عارضا لمطلق الماهية. والكسبيات إنما هي الماهيات المخصوصة ، فعلى
تقدير كون الوجود المطلق عارضا لا يلزم كونه تابعا للماهيات المكتسبة ، لأنا نقول
الوجود المطلق عارض للوجودات الخاصة على ما سيجيء فيكون تابعا لها ، وهي تابعة
للماهيات المكتسبة ، فيكون المطلق تابعا لها بالواسطة وهذا معنى زيادة التبعية ، وكذا مطلق
الماهية عارض للماهيات المخصوصة لكونه صادقا عليها غير مقوم لها فيكون تابعا لها
فيكون الوجود المطلق العارض مطلق الماهية عارضا لها بالواسطة.
الثاني : أن الوجود لو كان بديهيا لم يشتغل العقلاء بتعريفه ، كما لم يشتغلوا
بإقامة البرهان على القضايا البديهية ، لكونهم عرفوه بوجوه كما مر .
__________________
الثالث : أنه لو كان بديهيا لم يختلف العقلاء في بداهته ، ولم يفتقر
المثبتون منهم إلى الاحتجاج عليها ، لكنهم اختلفوا واحتجوا فلم يكن بديهيا.
والجواب عن الأول
: أنا لا نسلم أن العارض يكون تابعا للمعروض في المعقولية بل ربما يعقل العارض دون
المعروض ، وعدم استقلاله إنما هو في التحقيق في الأعيان ولو سلم فلا نزاع في بداهة
بعض الماهيات فيكفي في تعقل الوجود من غير اكتساب ، لا يقال العارض تابع للمعروض
في التحقق حيث ما كان عارضا ، فإن كان في الخارج ففي الخارج ، وإن كان في العقل
ففي العقل ، وسيجيء أن زيادة الوجود على الماهية ، إنما هي في العقل. والمعقول
بتبعية الماهية البديهية يكون وجودها الخاص ، وليس المطلق ذاتيا له حتى يلزم
بداهته ، بل عارضا لأنا نقول : ليس معنى العروض في العقل أن لا يتحقق العارض في العقل بدون المعروض وقائما به كما في العروض الخارجي ،
بل إن العقل إذا لاحظهما ولاحظ النسبة بينهما لم يكن المعقول من أحدهما نفس
المعقول من الآخر ، ولا جزء له بل صادقا عليه.
والوجود المطلق
وإن لم يكن ذاتيا للخاص لكنه لازم له بلا نزاع ، وليس إلا في العقل إذ لا تمايز في
الخارج فتعقل الخاص لا يكون بدون تعقله فيكون بديهيا مثله.
وعن الثاني : أن
البديهي لا يعرف تعريفا حديا أو رسميا لإفادة تصوره لكن قد يعرف تعريفا اسميا
لإفادة المراد من اللفظ ، وتصور المعنى من حيث أنه مدلول لفظ وإن كان متصورا في
نفسه ، ومن حيث أنه مدلول لفظ آخر ، وتعريفات الوجود من هذا القبيل.
وعن الثالث : أن
الذي لا يقع فيه اختلاف العقلاء هو الحكم البديهي
__________________
الواضح ، وبداهة
تصور الوجود لا تستلزم بداهة الحكم بأنه بديهي ، فيجوز أن يكون هذا الحكم كسبيا أو
بديهيا خفيا لا يكون في حكم قولنا : الواحد نصف الاثنين فيقع فيه الاختلاف ،
ويحتاج على الأول إلى الدليل ، وعلى الثاني إلى التنبيه ويكون ما ذكر في معرض
الاستدلال تنبيهات وقد يقال الوجود لا يتصور أصلا وهو مكابرة في مقابلة القول بأنه
أظهر الأشياء واخترع الإمام لذلك تمسكات ، منها : أنه لو كان متصورا لكان الواجب
متصورا إلزاما للقائلين بأن حقيقة الوجود المجرد ، ومعنى التجرد معلوم قطعا ومبناه
على أن الوجود طبيعة نوعية ، لا تختلف إلا بالإضافات وليس كذلك على ما سيأتي ،
ومنها أنه لو تصور لارتسم في النفس صورة مساوية له مع أن للنفس وجودا فيجتمع
مثلان. والجواب : منع التماثل بين وجود النفس والصورة الكلية للوجود على أن
الممتنع من اجتماع المثلين هو قيامهما بمحل واحد كقيام العرض وهاهنا لو سلم قيام الصورة كذلك فظاهر ، أن
ليس قيام الوجود كذلك لما سيجيء من أن زيادة الوجود على الماهية إنما هي في الذهن
فقط.
وأما الجواب :
بأنه يكفي لتصور الوجود وجود النفس كما يكفي لتصور ذاتها نفس ذاتها فإنما يصح على
رأي من يجعل الوجود حقيقة واحدة لا يختلف إلا بالإضافة ، وإلا فكيف يكفي لتصور
الوجود المطلق حصول الوجود الخاص الذي هو معروض لها ، ومنها أن تصوره بالحقيقة لا
يكون إلا إذا علم تميزه عما عداه ، بمعنى أنه ليس غيره ، وهذا سلب مخصوص لا يعقل
إلا بعد تعقل السلب المطلق ، وهو نفي صرف لا يعقل إلا بالإضافة إلى وجود فيدور.
والجواب : ـ أن
تصوره يتوقف على تميزه لا على العلم بتميزه ولو سلم ، فالسلب المخصوص إنما يتوقف
تعقله على تعقل السلب المطلق لو كان ذاتيا له ، وهو ممنوع ولو سلم، فلا نسلم أن
النفي الصرف لا يعقل ، ولو سلم فالسلب يضاف إلى الإيجاب وهو غير الموجود.
__________________
المبحث الثاني
في أن الوجود مفهوم مشترك بين الموجودات
(قال : المبحث الثاني أن الوجود مفهوم واحد مشترك بين الموجودات وهي زائدة على
الماهيات ينبه على الأول الجزم بالوجود مع التردد في الخصوصية ،
وصحة التقسيم إلى الواجب وغيره مع قطع النظر عن الوضع واللغة ، فإن نوقض بالماهية والشخص
، قلنا مطلقهما أيضا مشترك وتمام الحصر في الموجود والمعدوم ، والقطع باتحاد مفهوم
العدم ، ولو بمعنى رفع الحقيقة إذ لا تغاير إلا بالإضافة).
المنقول عن الشيخ
أبي الحسن الأشعري أن وجود كل شيء غير ذاته وليس للفظ الوجود مفهوم واحد مشترك بين الوجودات بل
الاشتراك لفظي ، والجمهور على أن له مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات ، إلا أنه
عند المتكلمين حقيقة واحدة تختلف بالقيود والإضافات ، حتى إن وجود الواجب هو كونه
في الأعيان ، على ما يعقل من كون الإنسان.
__________________
وإنما الاختلاف في
الماهية فالوجود معنى زائد على الماهية في الواجب والممكن جميعا ، وعند الفلاسفة
وجود الواجب مخالف لوجود الممكن في الحقيقة واشتراكهما في مفهوم الكون اشتراك
معروضين في لازم خارجي غير مقوم ، وهو في الممكن زائد على الماهية عقلا ، وفي
الواجب نفس الماهية ، بمعنى أنه لا ماهية للواجب سوى الوجود الخاص المجرد عن
مقارنة الماهية ، بخلاف الإنسان فإن له ماهية هو الحيوان الناطق ، ووجودا هو الكون
في الأعيان ، فوقع البحث في ثلاثة مقامات . الأول : أنه مشترك معنى. الثاني : أنه زائد ذهنا . الثالث : أنه في الواجب زائد أيضا.
والإنصاف أن
الأولين بديهيان. والمذكر في معرض الاستدلال تنبيهات ، فعلى الأول وجود
الأول : أنا إذا نظرنا في الحادث جزمنا بأن له مؤثرا مع التردد في كونه واجبا أو ممكنا ، عرضا أو جوهرا
متحيزا أو غير متحيز ، ومع تبدل اعتقاد كونه ممكنا إلى اعتقاد كونه واجبا إلى غير
ذلك من الخصوصيات ، فبالضرورة يكون الأمر المقطوع به الباقي مع التردد في
الخصوصيات ، وتبدل الاعتقادات مشتركا بين الكل.
الثاني : أنا نقسم الموجود إلى الواجب والممكن ، ومورد القسمة مشترك بين أقسامه ،
ضرورة أنه لا معنى لقسم الشيء إلى بعض ما يصدق هو عليه ، فقولنا : الحيوان إما أبيض
أو غير أبيض ، تقسيم له إلى الحيوان الأبيض وغيره ، لا إلى مطلق الأبيض الشامل
للحيوان وغيره ، ولو سلم فلا يضرنا لأن المقصود مجرد اشتراكه بين الواجب والممكن ،
ردا على من زعم عدم الاشتراك أصلا ، أو لأنه لا قائل بالاشتراك بينهما دون سائر
الممكنات أو لأنه يرشد إلى البيان في
__________________
الكل ، بأن يقال
الموجود من الممكن إما جوهر أو عرض ، ومن الجوهر إما إنسان أو غيره.
فإن قيل : على
الوجهين الأولين لم لا يجوز أن يكون الأمر الباقي المقطوع به هو تحقق معنى
من معاني لفظ الوجود لا مفهوم له كلي ، وأن يكون التقسيم لبيان مفهومات اللفظ المشترك
كما يقال العين إما فوارة وإما باصرة لا لبيان أقسام مفهوم كلي.
قلنا : لأنا نجد
الجزم وصحة التقسيم مع قطع النظر عن الوضع واللغة ، ولفظ الوجود ، فإن نوقض
الوجهان بالماهية والتشخيص حيث يبقى الجزم بأن لعلة الحادث ماهية وتشخصا مع التردد
في كونها واجبا ، أو ممكنا وتقسيم كل منهما إلى الواجب والممكن ، مع أن شيئا من
الماهيات والتشخصات ليس بمشترك بين الكل.
أجيب بأن مطلق
الماهية والتشخص أيضا مفهوم كلي مشترك بين الماهيات والتشخصات المخصوصة فلا نقض ،
وإنما يرد لو ادعينا أن الوجودات متماثلة حقيقتها مفهوم الوجود ولا خفاء في أن
شيئا من الوجود لا يدل على ذلك.
الثالث : أنه لو لم يكن للوجود مفهوم مشترك لم يتم الحصر في الموجود والمعدوم ، لأنا إذا قلنا : الإنسان متصف
بالوجود بأحد المعاني أو معدوم كان عند العقل تجويز أن يكون متصفا بالوجود بمعنى
آخر ويفتقر إلى إبطاله وهذا لا يتوقف على اتحاد مفهوم العدم ، إذ على تقدير تعدده
كان عدم الحصر أظهر لجواز أن يكون متصفا بالعدم بمعنى آخر ، فلذا عدلنا عما ذكره
القوم من أن
__________________
مفهوم العدم واحد
، فلو لم يتحد مفهوم مقابله لبطل الحصر العقلي وجعلنا اتحاد مفهوم العدم وجها رابعا تقريره أن مفهوم
العدم واحد ، فلو لم يكن للوجود مفهوم واحد لما كانا نقيضين ضرورة ارتفاعهما عن الوجود
بمعنى آخر. واللازم باطل قطعا.
فإن قيل : لا نسلم
اتحاد مفهوم العدم ، بل الوجود نفس الحقيقة والعدم رفعها ، فلكل وجود رفع يقابله.
قلنا : سواء جعل
رفع الوجود بمعنى الكون المشترك ، أو بمعنى نفس الحقيقة ، فهو مفهوم واحد بالضرورة
، وإنما التعدد بالإضافة.
فإن قيل : لا خفاء
في أن اللاإنسان واللافرس واللاشجر وغير ذلك مفهومات مختلفة فإن لفظ العدم موضوعا
بإزاء كل منها لم يتحد مفهومه.
قلنا : الكل مشترك
في مفهوم لا. وهو معنى العدم ولا نعني باتحاد المفهوم سوى هذا.
زيادة الوجود على الماهية
(قال : وعلى الثاني صحة سلبه عنها ، وافادة حمله عليها ، واكتساب ثبوته واتحاد مفهومه دونها وانفكاك تعقله عنها).
أي ينبه على زيادة
الوجود على الماهية أمور تجامع الوجود ، وتنافي الماهية ، وذاتياتها.
الأول
:
صحة السلب ، فإنه
يصح سلب الوجود عن الماهية ، مثل
__________________
العنقاء ليس
بموجود ، ولا يصح سلب الماهية وذاتياتها عن نفسها.
الثاني
:
إفادة الحمل فإن
حمل الوجود على الماهية المعلومة بالكنه يفيد فائدة غير حاصلة بخلاف حمل الماهية
وذاتياتها.
الثالث
:
اكتساب الثبوت ،
فإن التصديق بثبوت الوجود للماهية يفتقر إلى كسب ونظر كوجود الجن مثلا بخلاف ثبوت
الماهية وذاتياتها لها.
الرابع
:
اتحاد المفهوم ،
فإن وجود الإنسان والفرس والشجر مفهوم واحد وهو الكون في الأعيان ، ومفهوم الإنسان
والفرس والشجر مختلف.
الخامس
:
الانفكاك في
التعقل ، فإنا قد نتصور الماهية ولا نتصور كونها أما في الخارج فظاهر ، وأما في الذهن
فلأنا لا نعلم أن التصور هو الوجود في العقل ، ولو سلم فلبديل ، ولو سلم فتصور
الشيء لا يستلزم تعقل تصوره ولو سلم فيجوز أن يوجد في الخارج ما لا نعقله أصلا وأيضا قد نصدق ثبوت الماهية وذاتياتها لها بمعنى أنها
هي من غير تصديق بثبوت الوجود العيني أو الذهني لها ، فأثرها لفظ التعقل ليعم
التصور والتصديق ، وعبارة الكثيرين أنا نتصور ماهية المثلث ونشك في وجودها العيني
والذهني ، ويرد عليها الاعتراض بأنه لا يفيد المطلوب لأن حاصله أنا ندرك الماهية
تصورا ولا ندرك الوجود تصديقا ، وهذا لا ينافي اتحادهما.
واعلم أن هذه
تنبيهات على بطلان القول بأن المعقول من وجود الشيء هو المعقول من ذلك الشيء
وبعضها يدل على ذلك في الواجب والممكن جميعا ،
__________________
وبعضها في الممكن
مطلقا ، وبعضها في صور جزئية من الممكنات.
فلا يرد الاعتراض
على بعضها ، بأنه لا يفيد الزيادة في الواجب والممكن جميعا وعلى بعضها بأنه يختص
بصور جزئية من الممكنات .
والمثال الجزئي لا
يصحح القاعدة الكلية ، وعلى الكل بأنها إنما تفيد تغاير الوجود والماهية بحسب
المفهوم دون الهوية.
(قال : ومنعت الفلاسفة زيادته في الواجب إذ لو قام بماهيته لزم كونها
قابلا وفاعلا ، وتقدمها بالوجود على الوجود ضرورة تقدم العلة على المعلول (وجواز) زوال الوجود عن الواجب ضرورة تقدم العلة نظرا إلى احتياجه
في نفسه ، وأجيب عن الأول بمنع بطلان اللازم وعن الأخيرين بمنع الملازمة ، إذ
التقدم قد لا يكون بالوجود كالثلاثة للفردية.
وماهية الممكن
لوجوده ، والمحتاج قد يمتنع زواله ضرورة كونه مقتضى الماهية).
احتجت الفلاسفة
على امتناع زيادة وجود الواجب على ماهيته بوجوده ، حاصلها أنه لو كان كذلك لزم
محالات الأول كون الشيء قابلا وفاعلا وسيجيء بيان استحالته.
الثاني : تقدم الشيء بوجوده على وجوده وهو ضروري الاستحالة ، لا
يحتاج إلى ما ذكره الإمام من أنه يفضي إلى وجود الشيء مرتين ، وإلى التسلسل في
الوجودات ، لأن الوجود المتقدم إن كان نفس الماهية فذاك ، وإلا عاد الكلام فيه
وتسلسل.
الثالث : إمكان. زوال وجود الواجب وهو ضروري الاستحالة وجه اللزوم.
__________________
أما الأول : فلأن الماهية تكون قابلا للوجود من حيث المفروضية ، وفاعلا من حيث الاقتضاء.
وأما الثاني : فلأن الوجود يحتاج حينئذ إلى الماهية احتياج العارض إلى المعروض فيكون ممكنا ضرورة
احتياجه إلى الغير فيفتقر إلى علة هي الماهية لا غير ، لامتناع افتقار وجود الواجب
إلى الغير ، وكل علة فهي متقدمة على معلولها بالضرورة ، فتكون الماهية متقدمة
بالوجود على الوجود.
وأما الثالث : فلأن الوجود إذا كان محتاجا إلى غيره كان ممكنا وكان جائز الزوال نظرا
إلى ذاته ، وإلا لكان واجبا لذاته ، هذا خلف. وإنما قلنا نظرا إلى ذاته دفعا لما
قيل : لا نسلم أن كل ممكن جائز الزوال ، وإنما يكون كذلك لو لم يكن واجبا بالغير .
وأجيب. عن الأول :
بأنا لا نسلم استحالة كون الشيء قابلا وفاعلا ، وسيجيء الكلام على دليلها.
وعن الثاني : بأنا
لا نسلم لزوم تقدم الماهية على الوجود بالوجود ، وإنما يلزم ذلك لو لزم تقدم العلة
على المعلول بالوجود وهو ممنوع ، ودعوى الضرورة غير مسموعة ، وإنما الضرورة تقدمها
بما هي علة به إن كانت بالوجود ، فبالوجود أو بالماهية ، فبالماهية كما في اللوازم
المستندة إلى نفس الماهية ، فإن الماهية تتقدمها بذاتها ومن حيث كونها تلك الماهية
من غير اعتبار وجودها أو عدمها ، كالثلاثة للفردية ، وذلك كالقابل فإن تقدمه على المقبول ضروري ، لكنه قد
__________________
يكون بالماهية من
حيث هي لا باعتبار الوجود أو العدم كماهيات الممكنات لوجوداتها.
وعن الثالث : بأنا
لا نسلم أن الوجود إذا كان محتاجا إلى الماهية كان جائز الزوال عنها نظرا إلى ذاته
، وإنما يلزم لو لم تكن الماهية لذاتها مقتضية له ، ولا معنى لواجب الموجود سوى ما
يمتنع زوال وجوده عن ذاته ، نظرا إلى ذاته ، ولا يضره احتياج وجوده إلى ذاته ولا
تسميته ممكنا بهذا الاعتبار وإن كان خلاف الاصطلاح ، فإن الممكن ما يحتاج إلى
الغير في ثبوت الوجود له ، فلهذا لم يتعرض في المتن للإمكان واقتصر على الاحتجاج.
(قال : فإن قيل : تقدم المفيد للوجود بالوجود ضروري ، إذ العقل ما لم
يلحظ للشيء وجود لم يمكنه تعقل كونه مفيدا لوجود بخلاف المستفيد فإنه لا بد أن
يلحظ خاليا عن الوجود.
قلنا : ممنوع إذ
لا معنى للإفادة هاهنا إلا اقتضاء الوجود لذاته ، وعدم تقدمه بالوجود ضروري فإن
قيل : ـ فيكون وجوده مطولا فيمكن.
قلنا : لذاته فيجب
، (إذ لا معنى لوجوب الوجود) سوى كونه مقتضى الذات).
العمدة في احتجاج
الفلاسفة هو الوجه الثاني ، وحاصل ما ذكره الإمام في الجواب. أنه لم لا يجوز أن
يكون علة الوجود هي الماهية من حيث هي هي فتقدمه لا بالوجود كما أن ذاتيات الماهية متقدمة عليها لا بالوجود ، وكما أن الماهية علة
للوازمها بذاتها لا بوجودها ، وكما أن ماهية الممكن قابلة لوجوده مع أن تقدم
القابل أيضا ضروري ورده الحكيم المحقق في مواضع من كتبه بأن الكلام فيما يكون علة لوجود أمر
موجود في الخارج وبديهة العقل حاكمة
__________________
بوجوب تقدمها عليه
بالوجود فإنه ما لم يلحظ كون الشيء موجودا امتنع أن يلحظ كونه مبدأ للوجود ومقيدا
له بخلاف القابل للوجود فإنه لا بد أن يلحظه العقل خاليا عن الوجود أي غير معتبر
فيه الوجود لئلا يلزم حصول الحاصل ، بل عن العدم أيضا لئلا يلزم اجتماع
المتنافيين. فإذن هي الماهية من حيث هي هي ، وأما الذاتيات بالنسبة إلى الماهية والماهية
بالنسبة إلى لوازمها فلا يجب تقدمها إلا بالوجود العقلي ، لأن تقدمها بالذاتيات
واتصافها بلوازمها إنما هو بحسب العقل ، وإذا تحققت فتقدم قابل الوجود أيضا كذلك
لما سيجيء من أنه بحسب العقل فقط ، لا كالجسم مع البياض. فنقول على طريق البحث دون
التحقيق : لا نسلم أن المفيد لوجود نفسه يلزم تقدمه عليه بالوجود ، فإنه لا معنى
للإفادة هاهنا سوى أن تلك الماهية تقتضي لذاتها الوجود ويمتنع تقدمها عليه بالوجود
ضرورة امتناع حصول الحاصل ، كما في القابل بعينه بخلاف المقيد لوجود الغير ، فإن
بديهة العقل حاكمة بأنه ما لم يكن موجودا لم يكن مبدأ لوجود الغير ومن هاهنا يستدل بالعالم على وجود الصانع.
فإن قيل : إذا
كانت ماهية الواجب مفيدة لوجوده ومقتضية له كان وجوده معلولا للغير ، وكل معلول
للغير ممكن فيكون وجود الواجب ممكنا ، هذا خلف . قلنا بعد المساعدة على تسمية مقتضى الماهية معلولا لها
وتسمية الذات الموجودة غير الوجود : لا نسلم أن كل معلول للغير بهذا المعنى ممكن ،
وإنما يلزم ذلك لو لم يكن المعلول هو الوجود والغير ، هو الماهية ، التي قام بها
ذلك الوجود ، كيف ولا معنى لوجوب الوجود سوى كونه مقتضى الذات التي قام بها الوجود
من غير احتياج إلى غير تلك الذات؟ وهذا معنى قوله قلنا لذاته فيجب أن يكون وجود
الواجب مقتضى لذات الواجب ، فيكون اللازم وجوبه لا إمكانه وتحقيقه. إنا إذا وصفنا
الماهية بالوجوب فمعناه أنها لذاتها تقتضي الوجود ، وإذا وصفنا به الوجود فمعناه
أنه مقتضى ذات الماهية من غير احتياج إلى غيرها.
__________________
فسواء قلنا : واجب
الوجود لذاته أو الوجود واجب لذاته فالمراد ذات الموجود لا ذات الوجود.
أدلة المتكلمين على زيادة وجود الواجب على ماهيته
(قال : وعورضت بوجوده :
الأول : لو لم يكن وجود الواجب مقارنا لماهيته فتجرده إما لذاته فيعم الكل ، أو
لغيره فيحتاج إلى الواجب.
الثاني : مبدأ الممكنات حينئذ إما الوجود وحده فيكون الشيء مبدأ لنفسه ولعلله.
وإما مع التجرد شطرا فيتركب الواجب أو شرطا فيكون كل وجود مبدأ لكل شيء ويتخلف عنه
الأثر لفقد شرطه لا لذاته.
الثالث : الواجب يشارك الممكنات في الوجود ويخالفها في الحقيقة فيتغايران.
الرابع : الواجب إن كان مجرد الكون تعدد ، أو مع التجرد تركب ، أو شرطه
افتقر ، وإن كان غيره فإن كان بدون الكون فمحال ، وإن كان معه فزائد ضرورة امتناع
كونه داخلا.
الخامس : الوجود معلوم ضرورة بخلاف الواجب.
وأجيب بأنه لا
نزاع في زيادة الوجود المطلق بل الخاص وما ذكر لا يدل عليه) .
استدل المتكلمون
على زيادة وجود الواجب على ماهيته بوجوه :
__________________
الأول : لو كان وجود الواجب مجردا عن مقارنة الماهية فحصول هذا الوصف له
إن كان لذاته لزم أن يكون كل وجود كذلك لامتناع تخلف مقتضى الذات ، وقد مر بطلانه
، بل واجبا فيلزم تعدد الواجب ، وإن كان لغيره لزم احتياج الواجب في وجوبه إلى
الغير ضرورة توقف وجوبه على التجرد المتوقف على ذلك الغير ، لا يقال : يكفي في
التجرد عدم ما يقتضي المقارنة لأنا نقول : فيحتاج إلى ذلك العدم.
أجيب بأنه لذاته
يقتضي هذا الوجود الخاص المخالف بالحقيقة لسائر الموجودات.
الثاني : الواجب مبدأ الممكنات فلو كان وجودا مجردا فكونه مبدأ للممكنات إن
كان لذاته فيلزم أن يكون كل وجود كذلك ، وهو محال لاستحالة كون وجود زيد علة لنفسه
ولعلله ، وإلا فإن كان هو الوجود مع قيد التجرد لزم تركب المبدأ بل عدمه
ضرورة إذ أحد جزأيه وهو التجرد عدمي ، وإن كان بشرط التجرد لزم جواز كون كل
وجود مبدأ لكل وجود ، إلا أن الحكم تخلف عنه لانتفاء شرط المبدئية. ومعلوم أن كون
الشيء مبدأ لنفسه ولعلله ممتنع بالذات ، لا بواسطة انتفاء شرط المبدئية.
والجواب : أن ذلك
لذاته الذي هو وجود خاص مباين لسائر الوجودات فلا يلزم أن يكون كل وجود كذلك.
الثالث : الواجب يشارك الممكنات في الوجود ويخالفها في الحقيقة ، وما به
المشاركة غير ما به المخالفة ، فيكون وجوده مغايرا لحقيقته.
والجواب : أن ما به المشاركة هو الوجود المطلق ، والحقيقة هو الوجود
الخاص ، وهو المتنازع فيه
__________________
الرابع : الواجب إن كان نفس الكون في الأعيان ـ أعني الوجود المطلق لزم تعدد
الواجب ، ضرورة أن وجود زيد غير وجود عمرو ، وإن كان هو الكون مع القيد التجرد لزم
تركب الواجب من الوجود ، والتجرد مع أنه عدمي لا يصلح جزءا للواجب ، أو بشرط
التجرد لزم أن يكون الواجب واجبا لذاته ، بل بشرطه الذي هو التجرد ، وإن كان غير
الكون في الأعيان فإن كان بدون الكون في الأعيان فمحال ضرورة أنه لا يعقل الوجود
بدون الكون ، وإن كان مع الكون فإما أن يكون الكون داخلا فيه وهو محال ، ضرورة
امتناع تركب الواجب ، أو خارجا عنه وهو المطلوب ، لأن معناه زيادة الوجود على ما
هو حقيقة الواجب.
والجواب : أنه نفس
الكون الخاص المجرد المخالف الأكوان ، ولا نزاع في زيادة الكون المطلق عليه.
الخامس : الوجود معلوم بالضرورة ، وحقيقة الواجب غير معلومة اتفاقا وغير المعلوم (هو)
غير المعلوم ضرورة والجواب : أن المعلوم هو الوجود المطلق للمغاير للخاص الذي هو
نفس الحقيقة ، وإلى هذه الأجوبة أشار بقوله : لا نزاع في زيادة الوجود المطلق أي
على ماهية الواجب ، وإنما النزاع في زيادة وجوده الخاص ، وما ذكر من الوجوه لا يدل
عليها.
(قال : فإن قيل : الوجود طبيعة نوعية فلا تختلف لوازمها. قلت : ممنوع بل
الوجودات متحالفة بالحقيقة يجب للبعض منها ما يمتنع على البعض كالأنوار ويقع
المطلق عليها وقوع لازم غير ذاتي لها) .
__________________
إشارة إلى دليل
آخر للإمام لا يندفع بما ذكر : تقريره. أن الوجود طبيعة نوعية لما بينتم من كونه
مفهوما واحدا مشتركا بين الكل ، والطبيعة النوعية لا تختلف لوازمها بل يجب لكل فرد
منها ما يجب للآخر ، لامتناع تخلف المقتضى عن المقتضى ، وعلى هذا بنيتم كثيرا من
القواعد كما سيأتي. فالوجود إن اقتضى العروض أو اللاعروض لم يختلف ذلك في الواجب
والممكن ، وإن لم يقتض شيئا منهما ما احتاج الواجب في وجوبه إلى منفصل كما سبق.
والجواب : أنما لا
نسلم أنه طبيعة نوعية ، ومجرد اتحاد المفهوم لا يوجب ذلك لجواز أن يصدق مفهوم واحد
على أشياء مختلفة الحقيقة واللوازم ، كالنور يصدق على نور الشمس وغيره ، مع أنه
يقتضي إبصار الأعشى بخلاف سائر الأنوار ، فيجوز أن تكون الوجودات الخاصة
متخالفة بالحقيقة يجب للوجود الواجب التجرد ويمتنع عليه المقارنة ، والممكن بالعكس
مع اشتراك الكل في صدق مفهوم الوجود المطلق عليها صدق العرضي اللازم على معروضاته
الملزومة ، كالنور على الأنوار ، لا يصدق الذاتي بمعنى تمام الحقيقة ، ليكون طبيعة
نوعية ، كالإنسان لأفراده أو بمعنى جزء الماهية ، ليلزم التركب كالحيوان لأنواعه.
(قال : متواطئا أو مشككا وهو الحق لكونه في الواجب أولى وأشد وأقدم).
إشارة إلى أن
الجواب يتم بما ذكرنا من المنع مستندا بأنه يجوز اشتراك الملزومات المختلفة
الحقائق في لازم واحد غير ذاتي ، سواء كانت مقوليته عليها بالتواطؤ كالماهية على
الماهيات ، والتشخص على التشخيصات ، أو بالتشكيك
__________________
كالبياض على
البياضات ، والحرارة على الحرارات ، فلا يلزم من كون الوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات ، كونه طبيعة نوعية ، والوجودات
أفرادا متفقة الحقيقة واللوازم وإن فرضنا اشتراك الكل في مفهوم الوجود على السواء
، من غير أولية ولا أولوية، إلا أنه لما كان الواقع هو التشكيك وكان من
دأب الحكيم المحقق سلوك طريق التحقيق ذكر في جواب استدلالات الإمام أن الوجود مقول
على الوجودات بالتشكيك ، لأنه في العلة أقدم منه في المعلول ، وفي الجواهر أولى
منه في العرض ، وفي العرض القار كالسواد أشد منه في غير القار كالحركة ، بل هو في
الواجب أقدم وأولى وأشد منه في الممكن ، والواقع على الأشياء بالتشكيك يكون
عارضا لها خارجا عنها ، لا ماهية لها أو جزء ماهية ، لامتناع اختلافهما على ما
سيأتي ، فلا يكون الوجود طبيعة نوعية للوجودات ، بل لازما خارجا يقع على ما تحته
بمعنى واحد ، ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجودات
الممكنات في الحقيقة ، ليمتنع اختلافها في العروض واللاعروض ، وفي المبدئية
للممكنات وعدم المبدئية إلى غير ذلك. والعجب أن الإمام قد اطلع من كلام الفارابي وابن سينا على أن مرادهم أن حقيقة الواجب وجود مجرد ، هي محض
الواجبية لاشتراك فيه أصلا ، والوجود المشترك العام المعلوم لازم له غير مقوم بل صرح في بعض كتبه بأن
الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك ثم استمر على شبهته التي زعم أنها من المتانة بحيث لا يمكن توجيه شك نحيل عليها ،
__________________
وهي أن الوجود إن
اقتضى العروض أو اللاعروض تساوى الواجب والممكن في ذلك ، وإن لم يقتض شيئا منهما
كان وجوب الواجب من الغير. وجملة الأمر أنه لم يفرق بين التساوي في المفهوم
والتساوي في الحقيقة ، فذهب إلى أنه لا بد من أحد الأمرين ، إما كون اشتراك الوجود
لفظيا أو كون الوجودات متساوية في اللوازم.
منع تساوي وجودي الواجب والممكن في الماهية
(قال : فيزيد عليها ولا يستلزم زيادتها على ماهياتها).
دفع لما سبق إلى
بعض الأوهام من أن الوجود إذا كان مشككا كان زائدا في الكل وهو المطلوب ، حتى
قالوا : إن اختلافه في العروض واللاعروض على تقدير التواطؤ محال ، وعلى تقدير التشكيك
تهافت ، لاستلزامه العروض في الكل ، فنقول : كلاهما فاسد.
أما الأول : فلما سبق من أن المتواطي قد لا يكون ذاتيا لما تحته بل عارضا تختلف
معروضاته بالحقيقة واللوازم.
وأما الثاني : فلأن كون الوجود مشككا إنما يستلزم زيادته على ما تحته من
الوجودات ، وهو غير مطلوب ، والمطلوب ، زيادة الوجودات الخاصة بها بأن يكون كل
منها عارضا لماهية قائما بها في العقل ، وهو غير لازم ، لجواز أن يكون أحد معروضات
مفهوم الوجود أو المشكك وجودا قيوما ، أي قائما بنفسه مقيما لغيره ، لكونه حقيقة
مخالفة لسائر المعروضات وأما تعجب الإمام : بأن العرض الذي بلغ في الضعف إلى حيث
لا يستقل بالمفهومية والمحكومية ، لكونه أمرا إضافيا وهو الكون في الأعيان ، كيف
صار في حق الواجب ذاتا
__________________
مستقلا بنفسه غنيا
عن السبب مبدأ لاستقلال كل مستقل؟ فأولى بالتعجب حيث صدر مثل هذا الكلام عن مثل ذلك الإمام.
(قال : فإن قيل فتتباين الوجودات. قلنا : بمعنى عدم التصاديق غير محال ، وبمعنى
عدم المتشارك في مفهوم الكون غير لازم كأفراد الماشي) .
أي في إثبات المقدمة
الممنوعة لو لم يكن الوجود طبيعة نوعية هي تمام حقيقة الموجودات لزم التباين الكلي
، بين الوجودات ضرورة أنها لا تشترك في ذاتي أصلا ، لامتناع تركب وجود الواجب ،
واللازم باطل ، لما ثبت من اشتراك الوجود معنى.
قلنا : إن أريد
بالتباين عدم صدق بعضها على البعض فلا نسلم استحالته ، وما ثبت من اشتراك الكل في
مفهوم الوجود لا يقتضي تصادقها ، وإن أريد عدم التشارك في شيء أصلا فلا نسلم لزومه
، وما ذكر من عدم الاشتراك في تمام الحقيقة أو بعض الذاتيات لا ينفي الاشتراك في
عارض هو مفهوم الكون ، وذلك كأفراد إذ الماشي من أنواع الحيوانات وأشخاصها يشترك
في مفهوم الماشي ، من غير تصادق بينها.
أدلة القائلين بكون الوجود نفس الماهية
(قال : وذهب الشيخ إلى أن وجود كل شيء عينه ، والاشتراك لفظي ، لأنه لو أراد
فقيامه إما بالمعدوم فيتناقض ، أو بالموجودية فيدور ، أو بوجود آخر فيتسلسل وأيضا
فهو إما معدوم فيتصف بنقيضه ، ويتحقق في المحل ما لا تحقق له ، أو موجود فيتسلسل.
وأجيب عن الأول :
بأن قيامه بالماهية من حيث هي. فإن قيل فيقوم باللاموجود وهو أظهر في التناقض.
__________________
قلنا : بل بما لا
يعتبر فيه الوجود والعدم وإن لم ينفك عن أحدهما. فإن قيل فيتقارن أحدهما فيعود
المحذور.
قلنا : القيام بها
عقلي فيكفي حصولها في العقل من غير اعتباره ، وإن اعتبر فلا تسلسل في الاعتبارات ،
وعن الثاني بأن وجود الوجود عينه ، وإنما النزاع ، في غيره ، وتحقيقه أن بالوجود
تتحقق الأشياء ، فيكون تحققه بنفسه كحال الزمان مع التقدم والتأخر على أنه لا
استحالة في كونه معدوما).
احتج القائلون
بكون الوجود نفس الماهية في الواجب والممكنات جميعا بوجوه حاصلها : أنه لو لم يكن
نفس الماهية وليس جزءا منها بالاتفاق لكان زائدا عليها قائما بها ، قيام الصفة
بالموصوف ، وقيام الشيء بالشيء فرع ثبوتهما في نفسهما ، لأن ما لا كون له في نفسه
لا يكون محلا ولا في محل ، وهذا بالنظر إلى الوجود والماهية ممتنع. أما في جانب
الماهية فلأنها لو تحققت محلا للوجود فتحققها إما بذلك الوجود فيلزم تقدم الشيء
على نفسه ، ضرورة تقدم وجود المعروض على العارض ، وإما بوجود آخر فيلزم تسلسل
الوجودات ضرورة ، إلا أن هذا الوجود أيضا عارض يقتضي سابقية وجود المعروض وأما في
جانب الوجود فلأنه لو تحقق ـ والتقدير إن تحقق الشيء ، أي وجوده زائد عليه ـ تسلسلت
الوجودات فباعتبار الوجود والعدم في كل من المعروض والعارض يمكن الاحتجاج على
امتناع زيادة الوجود على الماهية بأربعة أوجه.
الأول : أنه لو قام بها وهي بدون الوجود معدومة لزم قيام الوجود بالمعدوم
، فجمع بين صفتي الوجود والعدم ، وهو تناقض.
الثاني : أنه لو قام بها لزم سبقها بالوجود كما في سائر المعروضات ، فإن كان
ذلك الوجود هو الوجود الأول لزم الدور ، لتوقف قيام الوجود بالماهية على الماهية
الموجودة المتوقفة على قيام ذلك الوجود بها ، وإن كان غيره لزم التسلسل لأن هذا
الوجود أيضا عارض يقتضي سبق الماهية عليه بوجود آخر وهلم جرا.
قيل : هذا التسلسل
مع امتناعه لما سيأتي من الأدلة ، ولاستلزامه انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين الوجود والماهية ، يستلزم المدعي ، وهو كون الوجود نفس
الماهية ، لأن قيام جميع الموجودات العارضة بالماهية يستلزم وجودا لها غير عارض ، وإلا لم يكن الجميع جميعا وفيه نظر ، لأنا لا
نسلم على تقدير التسلسل تحقق جميع لا يكون وراءه وجود آخر ، بل كل جميع فرضت معروضها بواسطة وجود آخر عارض
، لأن معنى هذا التسلسل عدم انتهاء الوجودات إلى وجود ، لا يكون وراءه وجود ، بينه وبين الماهية وجود آخر.
الثالث : أن وجود الشيء لو كان زائدا عليه لما كان الوجود موجودا ضرورة
امتناع تسلسل الوجودات ، بل معدوما ، وفيه اتصاف الشيء بنقيضه وكون ما لا ثبوت له
في نفسه ثابتا في محله.
الرابع : أنه لو قام بالماهية لكان موجودا ضرورة امتناع اتصاف الشيء بنقيضه ،
وامتناع أن يثبت في المحل ما لا ثبوت له في نفسه ، فننقل الكلام إلى وجوده ويتسلسل
، لأن التقدير أن وجود كل شيء زائد عليه ، والتحقيق يقتضي رد الوجوه الأربعة إلى
وجهين بطريق الترديد بين الوجود والعدم ، في جانبي المعروض والعارض ، على ما
أوردنا في المتن.
الأول : (أنه قام
بالماهية. فالماهية المعروضة إما معدومة فيتناقض أو موجودة فيدور أو يتسلسل) .
وتقرير الثاني :
أن الوجود العارض إما معدوم فيتصف الشيء بنقيضه ويثبت في المحل ما لا ثبوت له في
نفسه ، وإما موجود فيزيد وجوده عليه وتتسلسل الوجودات.
والجواب : إما
إجمالا فهو أن زيادة الوجود على الماهية وقيامه بها إنما هو
__________________
بحسب العقل ، بأن
يلاحظ كلا منهما من غير ملاحظة الآخر ، ويعتبر الوجود معنى له اختصاص ناعت
بالماهية ، لا بحسب الخارج بأن يقوم الوجود بالماهية قيام البياض بالجسم ، وتلزم
المحالات ، وإما تفصيلا.
فعن الأول : أن
قيامه بالماهية من حيث هي هي لا بالماهية المعدومة ليلزم التناقض ، ولا بالماهية
الموجودة ليلزم الدور أو التسلسل.
فإن قيل : إن أريد
بالماهية من حيث هي هي ما لا يكون الوجود أو العدم نفسها ولا جزءا منها على ما قيل
، فغير مفيد لأن العروض كاف في لزوم المحالات ، وإن أريد ما لا يكون موجودا ولا
معدوما لا بالعروض ولا بغيره ، فالتناقض فيه أظهر لأن اللاوجود نقيض الوجود ، بلا
نزاع ولا اشتباه.
قلنا : المراد ما
لا يعتبر فيه الوجود ولا العدم ، وإن كان لا ينفك عن أحدهما في الخارج. فإن قيل :
عدم الانفكاك عن أحدهما كاف في لزوم المحال ، لأنه إن قارن العدم فيناقض ، أو
الوجود فيدور أو يتسلسل.
قلنا : قيام
الوجود بالماهية أمر عقلي ليس كقيام البياض بالجسم ليلزم تقدمها عليه بالوجود ،
تقدما ذاتيا أو زمانيا ، فتلزم المحالات ، بل غاية الأمر أنه يلزم تقدمها عليه
بالوجود العقلي ، ولا استحالة فيه لجواز أن تلاحظ وحدها من غير ملاحظة وجود خارجي
أو ذهني ، ويكون لها وجود ذهني لا بملاحظة العقل ، فإن عدم الاعتبار غير اعتبار
العدم ، وإن اعتبر العقل وجودها الذهني لم يلزم التسلسل ، بل ينقطع بانقطاع
الاعتبار.
وأما القائلون
بنفي الوجود الذهني فجوابهم الاقتصار على منع لزوم تقدم
__________________
المعروض على
العارض بالوجود على الإطلاق ، وإنما ذلك في عوارض الوجود دون عوارض الماهية.
وعن الثاني : أنا
نختار أن الوجود موجود ، ولا نسلم لزوم التسلسل وإنما يلزم لو كان وجوده أيضا
زائدا عليه ، وليس كذلك بل وجوده عينه وإنما النزاع في غيره ، والأدلة إنما قامت
عليه ، وتحقيق ذلك أنه لما كان تحقق كل شيء بالوجود ، فبالضرورة يكون تحققه بنفسه
، من غير احتياج إلى وجود اخر يقوم به كما أنه لما كان التقدم والتأخر فيما بين
الأشياء بالزمان كائنا فيما بين أجزائه بالذات من غير افتقار إلى زمان آخر.
فإن قيل : فيكون
كل وجود واجبا إذ لا معنى له سوى ما يكون تحققه بنفسه.
قلنا : ممنوع فإن
معنى وجود الواجب بنفسه أنه مقتضى ذاته من غير احتياج إلى فاعل ، ومعنى تحقق
الوجود بنفسه أنه إذا حصل للشيء إما من ذاته كما في الواجب ، أو من غيره كما في
الممكن ، لم يفتقر تحققه إلى وجود آخر يقوم به بخلاف الإنسان فإنه إنما يتحقق بعد
تأثير الفاعل بوجود يقوم به عقلا ، على أن في قولنا تحقق الأشياء بالوجود تسامحا
في العبارة ، إذ الوجود نفس تحقق الأشياء لا ما به تحققها ، والمعنى أن تحقق
الأشياء يكون عند قيام الوجود بها عقلا ، واتحادها به هوية. أو نختار أن الوجود
معدوم ولا يلزم منه اتصاف الشيء بنقيضه ، بمعنى صدقه عليه ، لأن نقيض الوجود هو
العدم واللاوجود لا المعدوم ، ولا اللاموجود ، فغاية الأمر أنه يلزم أن الوجود ليس بذي وجود ، كما أن
السواد ليس بذي سواد ، والأمر كذلك ، ولا يلزم أيضا أن يتحقق في المحل ما لا تحقق
له في نفسه ، لما عرفت من أن قيام الموجود بالماهية ليس بحسب الخارج ، كقيام
البياض بالجسم ، بل بحسب العقل ، فلا يلزم إلا تحققه في العقل وقد يجاب عن الأول بأنه منقوض بالأعراض القائمة بالمحال
كسواد
__________________
الجسم ، فإن قيامه
إما بالجسم الأسود ، فدور أو تسلسل واجتماع للمثلين ، أو اللاأسود فتناقض ، وهو
ضعيف لأن قيامه بجسم أسود به لا بسواد قبله ليلزم محال ، وطريانه على محل لا أسود
يصير حال طريانه أسود من غير تناقض ، ولا كذلك حال الوجود مع الماهية ، لأن الخصم
يدعي أن تقدم المعروض على العارض بالوجود ضروري ، فلا يصح قيام الوجود بمحل موجود
بهذا الوجود فلا محيص سوى المنع ، والاستناد بأن ذلك إنما هو في العروض الخارجي ،
كسواد الجسم ، وهذا ليس كذلك.
وعن الثاني : بأن
الوجود ليس بموجود ولا معدوم ، وهو أيضا ضعيف لما سيأتي من نفي الواسطة.
التوفيق بين الآراء المتنازعة
(قال : فإن قلت لا خفاء مثلا أن ليس مفهوم الوجود مفهوم الإنسان ، وليس لفظ
الوجود وما يرادفه من جميع اللغات موضوعا بالاشتراك لمعان لا تكاد تتناهى ،
واحتجاج الفريقين يشهد بأن النزاع في الوجود بمعنى الكون. وليس نائبا عن أن الوجود
كما يطلق على الكون يطلق على الذات على أن مفهوم الذات أيضا معنى مشترك فما وجه
هذا الاختلاف؟
قلت : مضمون أدلة
الجمهور أن ليس مفهوم الوجود مفهوم الماهية المتصفة به ، وأدلة الشيخ أن ليس لهما
هويتان متمايزتان تقوم إحداهما بالأخرى ، كالجسم مع البياض ، فلا خلاف في أن
الوجود زائد ذهنا بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الماهية دون الوجود وبالعكس ، لا عينا
بأن يكون للماهية تحقق ، ولعارضها المسمى بالوجود تحقق آخر ، حتى يجتمعا اجتماع
القابل والمقبول ، كالجسم والبياض ، فعند التحرير لا يبقى نزاع ، ويظهر أن جعل
الاشتراك لفظيا مكابرة ، ولا يتفرع على الوجود الذهني سوى أن للمثبت أن يقول زائد
في العقل ، وعلى النافي أن يقول عقلا أو في التعقل وليس له نفي التغاير العقلي ،
والاشتراك المعنوي كما في سائر المفهومات الكلية سيما
المنفية ، فإن
التعقل عندهم لا يقتضي الثبوت ، ولهذا جرت كلمة الجمهور بينهم على أنه مشترك معنى
زائد ذهنا) .
يريد تحقيق مذاهب
الشيخ وسائر المتكلمين والحكماء على وجه لا يخالف بديهة العقل فإن الظاهر من مذهب
الشيخ أن مفهوم وجود الإنسان هو الحيوان الناطق مثلا ولفظ الوجود في العربية ولفظ (هستى)
في الفارسية إلى غير ذلك من اللغات مشترك بين معان لا تكاد تتناهى من الموجودات
ومن مذهب المتكلمين أن الوجود عرض قائم بالماهية قيام سائر الأعراض بمحالها. ومن
مذهب الحكماء أنه كذلك في الممكنات ، وفي الواجب معنى آخر غير مدرك للعقول ، وجميع
ذلك ظاهر البطلان ، وذهب صاحب الصحائف إلى أن منشأ الاختلاف هو إطلاق لفظ الوجود على مفهوم الكون
، ومفهوم الذات ، فمن ذهب إلى أنه زائد على الماهية أراد به الكون ، ومن ذهب إلى
أنه نفس الماهية أراد به الذات ، فعند تحرير المبحث يرتفع الاختلاف وهذا فاسد.
أما أولا : فلأن احتجاج الفريقين صريح في أن النزاع في الوجود المقابل للعدم وهو
بمعنى الكون.
وأما ثانيا : فلأن مفهوم الذات أيضا معنى واحد مشترك بين الذوات ، واشتراك الوجود
بين الوجودات من غير اشتراك لفظ ، وتعدد وضع.
وأما ثالثا : فلأن
القول بأن ذات الإنسان نفس ذاته وماهيته مما لا يتصور فيه فائدة فضلا عن أن يحتاج
إلى الاحتجاج عليه فنقول : أدلة القائلين بأن وجود الشيء زائد عليه لا يفيد سوى أن
ليس المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء من غير دلالة على أنه عرض قائم
به قيام العرض بالمحل.
__________________
فإن هذا مما لا
يقبله العقل وإن وقع في كلام الإمام وغيره ، وأدلة القائلين بأن وجود الشيء نفس
ذاته لا يفيد سوى أن ليس للشيء هوية ، ولعارضه المسمى بالوجود هوية أخرى ، قائمة
بالأولى بحيث يجتمعان اجتماع البياض والجسم من غير دلالة على أن
المفهوم من وجود الشيء هو المفهوم من ذلك الشيء. فإن هذا بديهي البطلان ، فإذا لا
يظهر من كلام الفريقين ولا يتصور من المنصف ، خلاف في أن الوجود زائد على الماهية
ذهنا ، أي عند العقل وبحسب المفهوم والتصور بمعنى أن للعقل أن يلاحظ الوجود دون
الماهية ، والماهية دون الوجود لا عينا ، أي بحسب الذات والهوية بأن يكون لكل
منهما هوية متميزة يقوم أحدهما بالأخرى كبياض الجسم ، فعند تحرير المبحث وبيان أن
المراد الزيادة في التصور أو في الهوية يرتفع النزاع بين الفريقين ، ويظهر أن
القول يكون اشتراك الوجود لفظيا ، بمعنى أن المفهوم من الوجود المضاف إلى الإنسان
غير المفهوم من المضاف إلى الفرس ، ولا اشتراك بينهما في مفهوم الكون مكابرة
ومخالفة لبديهة العقل ، وذهب صاحب المواقف إلى أن النزاع راجع إلى النزاع في الوجود الذهني فمن أثبته
قال بالزيادة عقلا. بمعنى أن في العقل أمرا هو الوجود وآخر هو الماهية.
ومن نفاه أطلق
القول بأنه نفس الماهية ، لأنه لا تغاير ولا تمايز في الخارج ، وليس وراء الخارج
أمر يتحقق فيه أحدهما بدون الآخر ، فيتحقق التمايز وفيه نظر. لأنه لا نزاع
للقائلين بنفي الوجود الذهني في تعقل الكليات والاعتبارات ، والمعدومات ،
والممتنعات ، ومغايرة بعضها للبعض بحسب المفهوم وإنما نزاعهم
__________________
في كون التعقل
بحصول شيء في العقل وفي اقتضائه الثبوت في الجملة. فلا يتجه لهم بمجرد نفي الوجود
الذهني. نفي التغاير بين الوجود والماهية ، في التصور بأن يكون المفهوم من أحدهما
غير المفهوم من الآخر ، ونفي الاشتراك المعنوي ، بأن يعقل من الوجود معنى كلي
مشترك بين الوجودات ، كما لا ينبغي تغاير مفهوم الفرس ومفهوم الإمكان لمفهوم
الامتناع ، ولاشتراك كل من ذلك بين الأفراد ، بل غاية الأمر ألا يقولوا الوجود أمر
زائد في العقل ، والمعنى الكلي المشترك ثابت فيه ، بل يقولوا : زائد ومشترك
عقلا ، وفي التعقل بمعنى أن العقل يفهم من أحدهما غير ما يفهم من الآخر ، ويدرك
منه معنى كليا يصدق على الكل ، ولهذا اتفق الجمهور من القائلين بنفي الوجود الذهني
على أن الوجود مشترك معنى ، وزائد (على الماهية. ذهنا بالمعنى الذي ذكرنا) .
الوجود زائد على الماهية ذهنا في الممكن
(قال : هذا في الممكن ، وأما في الواجب فعندنا له حقيقة يزيد عليها وجودها الخاص ذهنا ، كما في الممكنات وعند الفلاسفة حقيقته الوجود الخاص القائم بالذات، المخالف بالحقيقة
لسائر الموجودات ، المعبر عنه بالوجود البحث. والوجود بشرط لا إذ في الماهية مع
الوجود شائبة التركيب ، والاحتياج ، ولا كذلك الوجود الخاص مع المطلق ، فإنه كون
خاص متحقق بنفسه قائم بذاته ، غني في التحقق عن المطلق وغيره.
__________________
وإنما يقع المطلق
عليه وقوع لازم خارجي غير مقوم ولا يتصور هذا في غير الوجود ، لأن احتياجه في
التحقق إلى الوجود ضروري ، ومبنى هذا على أن الوجودات متخصصة متكثرة بأنفسها ، مشتركة
في عارض هو مفهوم الكون ، كنور الشمس والسراج وبياض الثلج، والعاج ولكن لما لم يكن لها أسام مخصوصة توهم أن تخصصها وتكثرها
بمجرد الاضافة إلى المحال ، كما في بياضات الثلوج).
يعني أن ما ذكر من
عدم تحقق الخلاف في زيادة الوجود على الماهية ذهنا ، بمعنى كون المفهوم من أحدهما
غير المفهوم من الآخر ، وفي كونه نفسها عينا بمعنى عدم تمايزها بالهوية، إنما هو في الممكن ، وأما في الواجب فعند
المتكلمين له حقيقية غير مدركة للعقول مقتضية بذاتها لوجودها الخاص المغاير لها
بحسب المفهوم دون الهوية ، كما في الممكنات وعند الفلاسفة حقيقته وجود خاص قائم
بذاته ذهنا وعينا ، من غير افتقار إلى فاعل يوجده، أو محل يقوم به في العقل ، وهو
مخالف لوجودات الممكنات بالحقيقة ، وإن كان مشاركا لها في كونه معروضا للوجود
المطلق ، ويعبرون عنه بالوجود البحث ، وبالوجود بشرط، لا بمعنى أنه لا يقوم بماهية
ولو في العقل ، كما في وجود الممكنات وإنما ذهبوا إلى ذلك لاعتقادهم أنه لو كان له
ماهية ووجود فإن كان الواجب هو المجموع لزم تركبه ولو بحسب العقل ، وإن كان أحدهما
لزم احتياجه ، ضرورة احتياج الماهية في تحققها إلى الوجو ، واحتياج الوجود لعروضه
إلى الماهية ولو في العقل ، وحين اعترض عليهم بأن الوجود الخاص أيضا محتاج إلى
الوجود المطلق ، ضرورة امتناع تحقق الخاص بدون العام. أجابوا بأنه كون خاص متحقق
بنفسه لا بالفاعل ، قائم بذاته لا بالماهية غني في التحقق عن الوجود المطلق وغيره
من العوارض والأسباب ، مخالف لسائر الوجودات بالحقيقة وإن
__________________
كان مشاركا لها في
وقوع الوجود المطلق عليها ، وقوع لازم خارجي غير مقوم ، وهذا لا يوجب التركيب ولا
الافتقار. كما أنكم إذا جعلتموه ماهية موجودة فكونه أخص من مطلق الماهية والموجود
لم يوجب احتياجه كيف والمطلق اعتباري محض؟ وحين اعترض بأنه لم لا يجوز أن
تكون تلك الحقيقة المخالفة لسائر الحقائق المتحققة بنفسها الغنية عما سواها أمرا
غير الوجود ..؟ أجابوا : بأن المتحقق بنفسه الغني عما سواه لا يجوز أن يكون غير
الوجود لأن احتياج غير الموجود في التحقق إلى الوجود ضروري. وحين اعترض بأن الوجود
مفهوم واحد لا يتكثر ولا يصير حصة حصة إلا بالإضافة إلى الماهيات كبياض هذا الثلج وذاك، إذ لا معنى للمقيد دون المطلق مع قيد الإضافة. أجابوا بمنع ذلك بل الوجودات حصص
مختلفة وحقائق متكثرة بأنفسها ، لا بمجرد عارض الإضافة لتكون متماثلة متفقة
الحقيقة ، ولا بالفصول ليكون الوجود المطلق جنسا لها ، بل هو عارض لازم لها كنوز
الشمس ونور السراج ، فإنهما مختلفان بالحقيقة واللوازم مشتركان في عارض النور وكذا
بياض الثلج والعاج ، بل كالكم والكيف المشتركين في العرضية ، بل الجوهر والعرض المشتركان في
الإمكان والوجود ، إلا أنه لما لم يكن لكل وجود اسم خاص كما في أقسام
__________________
الممكن ، وأقسام
العرض ، وغير ذلك. توهم أن تكثر الوجودات وكونها حصة حصة إنما هو بمجرد الإضافة
إلى الماهيات المعروضة لها كبياض هذا الثلج وذاك ونور هذا السراج وذاك ، وليس كذلك
، والإنصاف أن ما ذكروا من الاختلاف بالحقيقة حق في وجود الواجب والممكن ومحتمل في
مثل وجود الجوهر والعرض ، ومثل وجود القار وغير القار ، وأما في مثل وجود الإنسان
والفرس ووجود زيد وعمرو فلا.
(قال : فإن قلت لو كان المطلق عارضا لها لكان في كل منها حصة من مفهوم الكون كما هو شأن الأعراض العامة فتكون الحصة من مفهوم الكون زائدا على ما هو حقيقة الواجب كما في الممكنات ، ويلزم فيه
وجودان معروض وعارض. وفي الممكن وجودان وماهية ، وعلى هذا في الثلج بياضان ، وهذا مما يكذبه العقل والحس. قلت لا نزاع لهم في زيادة
الحصة من مفهوم الكون على الوجود الخاص ، الذي هو حقيقة الواجب ، إذ لا فرق بين
مفهوم الكون والحصص منه إلا بمجرد اعتبار الإضافة ، وإنما نزاعهم في أن تكون له
ماهية يزيد عليها الوجود الخاص في التعقل وثبوته وبعد القول بالتشكيك. فمغايرة
الوجودات المخصص من مفهوم الكون ضروري لكن بحسب العقل دون الخارج ، لما تقرر من
اتحاد الموضوع والمحمول بحسب الذات ، على أن الحصص من مفهوم العام صور عقلية لا
تحقق لها في الأعيان ، فلا يلزم للممكن وجودان ، ولا في الأبيض بياضان.
لما لاح من كلام
الفارابي وابن سينا ، أن حقيقة الواجب وجود خاص ، معروض للوجود العام المشترك
المقابل للعدم على ما لخصه الحكيم المحقق. اعترض الإمام بأن فيه اعترافا بكون وجود
الواجب زائدا على حقيقته ، وبأنه
__________________
يستلزم كون الواجب
موجودا بوجودين مع أنه لا أولوية لأحدهما بالعارضية ، وقد سبق أن النزاع
في الوجودات الخاصة لا المطلق ، ولما كان معنى صدق الوجود المطلق على الوجودات
الخاصة أن في كل منها حصة من مفهوم الوجود المطلق الذي هو الكون في الأعيان. صرح
بعض من حاول تلخيص كلام الحكماء بأن الحصة من مفهوم الكون في الأعيان زائد على
الوجود المجرد المبدئ للممكنات ، الذي هو نفس ماهية الواجب ، فتأكد الاعتراض بأن
الوجود الخاص الذي هو الحصة من مفهوم الكون زائد على حقيقة الواجب ، كما في
الممكنات ، ويلزم منه أن يكون في الواجب وجودان عارض ومعروض ، وفي الممكن كالإنسان
مثلا ماهية هو الحيوان الناطق ، ووجود هو الحصة من مفهوم الكون ، وأمر
ثالث هو ما صدق عليه الوجود ، وهو عارض للماهية معروض للحصة ، وهذا مما لم يقل به أحد ولم يقم عليه دليل ، وإذا اعتبر
هذا في بياض الثلج لزم أن يكون فيه بياض عارض هو الحصة من مفهوم البياض ، وآخر
معروض لهذه الحصة عارض للثلج هو بياضه الخاص.
والجواب : أن معنى
الحصة من مفهوم الكون هو نفس ذلك المفهوم مع خصوصية ما ، لا ما صدق هو عليه من
الوجودات المتخالفة ، وكما لا نزاع لهم في زيادة مفهوم الكون فكذا في الحصة. كيف
وقد اتفقوا على أن حقيقة الواجب غير معلومة ، ومفهوم الكون معلوم بل بديهي ، وكذا
قيد الوجوب مثلا ، وإنما النزاع في أن يكون لوجود الخاص ماهية مغايرة له بحسب
المفهوم ، كما في الممكنات وإذا تقرر أنه لا معنى للحصة من مفهوم العام إلا نفس
ذلك المفهوم مع خصوصية ما ، فكل من قال بكون الوجود مقولا على الوجودات بالتشكيك (وأن
المقول بالتشكيك) لا يكون ماهية أو جزء ماهية لما تحته بل
__________________
عارضا ، فقد قال :
ـ بأن في الممكن أمرا وراء الماهية ، والحصة من مفهوم الكون هو وجوده الخاص الذي
به تحققه في الأعيان ، بل نفس تحققه ، وكل دليل على ذلك فقد دل على هذا إلا أن هذا التغاير إنما هو بحسب العقل لا غير ، فليس في
الخارج للإنسان مثلا أمر هو الماهية وآخر هو الوجود فضلا عن أن يكون هناك وجودان على أنا لو فرضنا كون وجوده زائدا
على الماهية بحسب الخارج أيضا كما في بياض الثلج لم يلزم ذلك ، لأن مفهوم العام أو
الحصة منه صورة عقلية محضة ولو سلم فاتحاد الموضوع والمحمول بحسب الخارج ضروري ،
فمن أين يلزم في الإنسان وجودان وفي الثلج بياضان ..؟
حقيقة الواجب هو مطلق الوجود
(وقال : ثم إن جمعا من المتفلسفة والمتصوفة ، توهموا أن في الوجود الخاص مع المطلق أيضا شائبة التركيب
والاحتياج ، فذهبوا إلى أن حقيقة الواجب هو مطلق الوجود، وأنه ليس
معنى كليا يتكثر إلى الجزئيات ، بل واحد بالشخص موجود بوجود هو نفسه ، وإنما التكثر في الموجودات بواسطة
الإضافات ، ومعنى قولنا الواجب موجود أنه الوجود ، والممكن موجود ، أنه ذو الوجود
بمعنى أن له نسبة إلى الواجب ، وادعوا أن قول الحكماء هو الوجود البحت وبشرط لا
رمز إلى ذلك ، وهذا قولهم الوجود خير محض لا يعقل له ضد ولا مثل ولا جنس ولا فصل ،
وأنت خبير بأن هذا ينافي تصريحهم بأنه من المحمولات العقلية ، لامتناع استغنائه عن
المحل ، وحصوله فيه خارجا عن المعقولات الثانية ، إذ ليس في الأعيان ما هو وجود بل
إنسان وسواد مثلا ، وأنه
__________________
ينقسم إلى الواجب
والممكن ، والقديم والحادث ، وأنه يتكثر بتكثير الموضوعات الشخصية والنوعية والجنسية وأنه يقال على الوجودات بالتشكيك ووجوه فساد هذا الرأي أصولا وفروعا أظهر من أن يخفى وأكثر
من أن يحصى ).
قد اشتهر فيما بين
جمع من المتفلسفة والمتصوفة ، أن حقيقة الواجب هو الوجود المطلق ، تمسكا بأنه لا
يجوز أن يكون عدما أو معدوما ، وهو ظاهر ولا ماهية موجودة أو مع الوجود ، لما في
ذلك من الاحتياج والتركيب ، فتعين أن يكون وجودا وليس هو الوجود الخاص ، لأنه إن
أخذ مع المطلق فمركب ، أو مجرد المعروض فمحتاج ضرورة احتياج المقيد إلى المطلق ،
وضرورة أنه لو ارتفع المطلق لارتفع كل وجود ، وحين أورد عليهم أن الوجود المطلق
مفهوم كلي لا تحقق له في الخارج ، وله أفراد كثيرة ، لا تكاد تتناهى ، والواجب
موجود واحد لا تكثر فيه ، أجابوا بأنه واحد شخصي موجود بوجود هو نفسه ، وإنما
التكثر في الموجودات فبواسطة الإضافات لا بواسطة تكثر وجوداتها فإنه إذا نسب إلى
الإنسان حصل موجود ، وإلى الفرس فموجود آخر ، وهكذا. وعلى هذا فمعنى قولنا :
الواجب موجود أنه وجود ، ومعنى قولنا : الإنسان أو الفرس أو غيره موجود أنه ذو
وجود ، بمعنى أن له نسبة إلى الواجب وهذا احتراز عن شناعة التصريح بأن الواجب ليس بموجود ، وأن كل وجود حتى وجود
القاذورات واجب ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وإلا فتكثر الوجودات
وكون الوجود المطلق مفهوما كليا لا تحقق له إلا في الذهن ضروري ، وما توهموا من
احتياج
__________________
الخاص إلى العام
باطل ، بل الأمر بالعكس ، إذ لا تحقق للعام إلا في ضمن الخاص. نعم إذا كان العام
ذاتيا للخاص يفتقر هو إليه في تعقله ، وأما إذا كان عارضا فلا. وما ذكروا من أنه
لو ارتفع لارتفع كل وجود حتى الواجب فيمتنع ارتفاعه ، أي عدمه فيكون واجبا.
فمغالطة. وإنما يلزم الوجوب لو أثبت القائلون امتناع العدم لذاته ، وهو ممنوع ، بل لأن ارتفاعه بالكلية
يستلزم ارتفاع بعض أفراده الذي هو الواجب ، كسائر لوازم الواجب ، مثل الماهية
والعلية والقابلية وغير ذلك. فإن قيل : بل يمتنع لذاته لامتناع اتصاف الشيء
بنقيضه. قلنا : الممتنع اتصاف الشيء بنقيضه بمعنى حمله عليه بالمواطأة مثل قولنا : الوجود عدم لا بالاشتقاق مثل قولنا : الوجود
معدوم ، كيف وقد اتفق الحكماء على أن الوجود المطلق من المعقولات الثانية ،
والأمور الاعتبارية ، التي لا تحقق لها في الأعيان. ثم ادعى القائلون بكون الواجب
هو الوجود المطلق ، وأن في مواضع من كلام الحكماء رمزا إلى هذا المعنى ، منها
قولهم : الواجب هو الوجود البحت ، والوجود بشرط ، لا أي الوجود الصرف ، الذي لا
تقييد فيه أصلا. ومنها قولهم : الوجود خير محض ، لأن الشر نفسه ، إنما هو عدم وجود
أو عدم كمال الموجود من حيث أن ذلك العدم غير لائق به ، أو غير مؤثر عنده.
فالوجود بالقياس
إلى الشيء العادم كماله قد يكون شرا ، لكن لا لذاته ، بل لكونه مؤديا إلى ذلك
العدم ، فحيث لا عدم لا شر قطعا ، فالوجود البحث خير محض ، لأن الشر في نفسه لا يعقل له ضد ، ولا مثل. أما الضد فلأنه يقال عند الجمهور
لموجود مساو في القوة لموجود آخر ممانع له.
__________________
والوجود وإن فرضنا
كونه موجودا بمعنى العروضية للوجود فلا يتصور أن يمانعه شيء من الموجودات ، وعند
الخاص لما شارك شيئا آخر في الموضوع مع امتناع اجتماعهما فيه ، والموضوع هو المحل
المستغني في قوامه عن الحال ، ولا يتصور ذلك للوجود إذ لا تقوم لشيء بدونه ، ولو
سلم فلا يتصور وجودي يعاقبه ولا يجامعه ومنها قولهم : الوجود ليس له جنس ولا فصل ، لأنه بسيط لا
جزء له عينا ولا ذهنا ، وإلا لزم تقدمه على نفسه ضرورة تقدم وجود الجزء على وجود
الكل في الخارج ، إن كان التركب خارجيا ، وفي الذهن إن كان ذهنيا ، ولأن جزءه وإن
كان وجودا موجودا لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان عدما أو معدوما لزم تقدم
الشيء بنقيضه ، ولأن الجنس يجب أن يكون أعم ولا أعم من الوجود إذ ما من شيء إلا وله وجود ، وفي بعض
المقدمات ضعف لا يخفى ، ولو سلم فغاية الأمر اتصاف كل من الوجود الواجب بهذه
المعاني ، ولا إنتاج عن الموجبتين في الشكل الثاني. وتحقيقه أن لزوم هذه الأمور
للوجود لا يوجب كونه الواجب ما لم تتبين مساواتها للملزوم. ثم القول بكون الواجب
هو الوجود المطلق ينافي تصريحهم بأمور منها : أن الوجود المطلق من المحمولات
العقلية ، أي الأمور التي يمتنع استغناؤها عن المحل عقلا ويمتنع حصولها فيه بحسب
الخارج كالإمكان والماهية بخلاف مثل الإنسان فإنه مستغن عن المحل ، ومثل البياض فإن قيامه بالمحل خارجي ومنها أنه من المعقولات الثانية أي العوارض التي
تلحق المعقولات الأولى ، من حيث لا يحاذي بها أمر
__________________
في الخارج ،
كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية ، لأنها أمور تلحق حقائق الأشياء عند حصولها
في العقل ، وليس في الأعيان شيء هو الوجود أو الذاتية أو العرضية مثلا. وإنما في
الأعيان الإنسان والسواد مثلا وهاهنا نظر من جهة أن ما انساق إليه البيان هو أن
وجودات الأشياء من المحمولات العقلية والمعقولات الثانية وكان الكلام في الوجود
المطلق ، ومنها أنه ينقسم إلى الواجب والممكن ، لأنه إن كان مفتقرا إلى سبب فممكن
وإلا فواجب ، وإلى القديم والحادث ، لأنه إن كان مسبوقا بالغير أو بالعدم فحادث
وإلا فقديم ، ومنها أنه يتكثر بتكثر الموضوعات الشخصية ، كوجود زيد وعمرو والنوعية
كوجود الإنسان والفرس ، والجنسية كوجود الحيوان والنبات.
فإن قيل : الموضوع
هو المحل المستغني في قوامه عن الحال ولا يتصور ذلك للوجود.
قلنا : المراد
هاهنا ما يقابل المحمول ، وهو الذي يحمل عليه الوجود بالاشتقاق ، ولو سلم فالقيام
هاهنا عقلي ، والماهية تلاحظ دون الوجود ، وهذا معنى استغنائه عن العارض ، وإن كان
لا ينفك عن وجود عقلي ، وظاهر هذا الكلام أن وجودات الممكنات إنما هي نفس الوجود
المطلق ، تكثرت بالإضافة إلى المحل ، وليست أمورا متكثرة متخصصة بأنفسها معروضة له
، وكان المراد أن الوجود المطلق يتكثر ما صدق هو عليه من الموجودات الخاصة بتكثر
الموضوعات ، ومنها أنه مقول على الوجودات بالتشكيك ، كما سبق. وجميع ذلك مما
يستحيل في حق الواجب تعالى وتقدس. وبالجملة فالقول بكون الواجب هو الوجود المطلق
مبني على أصول فاسدة ، مثل كونه واحدا بالشخصي موجودا في الخارج ، ممتنع العدم
لذاته ، ومستلزم لبطلان أمور اتفق العقلاء عليها ، مثل كونه أعرف الأشياء مشتركا بين الوجودات مقولا عليها بالتشكيك
__________________
معدودا في ثواني
المعقولات ، وكون الواجب مبدأ لوجود الممكنات متصفا بالعلم والقدرة والإرادة والحياة ،
وإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وغير ذلك بما وردت به الشريعة .
اختلاف العقلاء في الوجود هو جزئي أو كلي؟
(قال : وما أعجب حال الوجود أطبقوا على أنه بديهي لا أعرف منه ، ثم اختلفوا
في أنه جزئي أو كلي ، واجب أو ممكن. عرض أو لا عرض. ولا جوهر موجود أو اعتباري لا
تحقق له في الأعيان. أو واسطة ، وأفراده عين الماهيات أو زائدة ولفظه مشترك ، أو
متواطئ ، أو مشكك.
يتعجب من اختلافات
العقلاء في أحوال الوجود ومع اتفاقهم على أنه أعرف الأشياء مع أن الغالب من حال
الشيء أن تتبع ذاته في الجلاء والخفاء ، فمنها اختلافهم في أنه جزئي أو كلي. فقيل
: جزئي حقيقي لا تعدد فيه أصلا. وإنما التعدد في الموجودات بواسطة الإضافات ، حتى
إن قولنا : وجود زيد أو وجود عمرو ، بمنزلة قولنا : إله زيد وإله عمرو. والحق أنه
كلي. والوجودات أفراده ، ومنها اختلافهم في أنه واجب أو ممكن. فقد ذهب جمع كثير من
المتأخرين إلى أنه واجب على ما ذكرنا ، وذلك هو الضلال البعيد.
ومنها اختلافهم في
أنه عرض أو جوهر ، أو ليس بعرض ولا جوهر ، لكونهما من أقسام الممكن
الموجود. وهذا هو الحق. وفي كلام الإمام ما يشعر أنه عرض. وبه صرح جمع كثير من
المتكلمين ، وهو بعيد جدا لأن العرض ما لا يتقوم بنفسه بل بمحله المستغني عنه في
تقدمه .. ولا يتصور استغناء شيء
__________________
في تقدمه وتحققه
عن الوجود ، ومنها اختلافهم في أنه موجود أو لا فقيل : موجود بوجود هو نفسه. فلا
يتسلسل. (وقيل : بل اعتباري محض لا تحقق له في الأعيان إذ لو وجد فإما أن يوجد
بوجود زائد فيتسلسل) . أو بوجود هو نفسه فلا يكون إطلاق الموجود على الوجود وعلى
سائر الأشياء بمعنى واحد ، لأن معناه في الوجود أنه الوجود ، وفي غيره أنه ذو
الوجود ، ولأنه إما أن يكون جوهرا فلا يقع صفة للأشياء ، أو عرضا فيتقوم المحل
دونه ، والتقوم بدون الوجود محال ، ولأن ما ذكر في زيادة الوجود على الماهية من
أنا نعقل الماهية ونشك في وجودها جار ، بعينه في وجود الوجود فإنا نعقل الوجود ونشك في وجوده
فلو وجد لكان وجوده زائدا وتسلسل. وبهذا يتبين بطلان ما ذهب إليه الفلاسفة من أن
ماهية الواجب نفس الوجود المجرد. وذلك لأنا بعد ما نتصور الوجود المجرد نطلب
بالبرهان وجوده في الأعيان ، فيكون وجوده زائدا ويتسلسل ، ولا محيص إلا بأن الوجود
المقول على الوجودات اعتبار عقلي ، كما سبق. وقيل : الوجود ليس بموجود ولا معدوم ،
بل واسطة على ما سيأتي. ومنها اختلافهم في أن الوجودات الخاصة نفس الماهيات أو
زائدة عليها كما سبق.
ومنها اختلافهم في
أن لفظ الوجود مشترك بين مفهومات
مختلفة على ما نقل عن الأشعري ، أو متواطئ يقع على الوجودات بمعنى واحد لا تفاوت فيه أصلا ، أو مشكك يقع عليها بمعنى واحد هو
مفهوم الكون. لكن لا على السواء. وهو الحق.
__________________
المبحث الثالث
تقسيم الوجود عينيا وذهنيا ولفظيا وخطيا
المبحث الثالث : الوجود يتناول عينيا ، وذهنيا ، ولفظيا ، وخطيا. والأول : متأصل يكون الموجود به حقيقة الشيء.
والثاني ( غير متأصل بمنزلة الظل من الجسم ، يكون الموجود به صورة
الشيء. والأخيران مجازيان ، يكون الموجود بهما اسم الشيء وصورة اسمه. ولكل لاحق
دلالة على السابق ، إلا أن الأولى عقلية ، لا يختلف فيها الطرفان ، والأخريان
وضعيتان يختلف في أولاهما الدال فقط.
وفي ثانيهما
الطرفان جميعا على مراتب كثيرة أعلاها : الوجود في الأعيان ، وهو الوجود المتأصل المتفق عليه الذي به تحقق
ذات الشيء وحقيقته بل نفس تحققها ثم الوجود في الأذهان وهو وجود غير متأصل بمنزلة
الظل للجسم ، يكون المتحقق به الصورة المطابقة للشيء بمعنى أنها لو
تحقق في
__________________
الخارج لكانت ذلك
الشيء ، كما أن الشجر لو تجسم لكان ذلك الشجر ، ثم الوجود في العبارة ثم في
الكتابة وهما من حيث الإضافة إلى ذات الشيء وحقيقته مجازيان ، لأن الموجود من زيد
في اللفظ صوت موضوع بإزائه ، وفي الخط نقش موضوع بإزائه اللفظ الدال عليه ، لا ذات
زيد ولا صورته.
نعم. إذا أضيف إلى
اللفظ الموضوع بإزائه أو النقش الموضوع بإزاء ذلك اللفظ كان وجودا حقيقيا ، من قبيل الوجود في الأعيان ، ولكل لاحق فيما ذكرنا من
الترتيب دلالة على السابق ، فللذهني على العيني ، وللفظي على الذهني ، وللخطي على
اللفظي ، فتحقق ثلاث دلالات. أولاها : عقلية محضة : لا يختلف فيها بحسب اختلاف
الأشخاص والأوضاع الدال ولا المدلول ، إذ بأي لفظ عبر عن السماء. فالموجود منها في
الخارج هو ذلك الشخص وفي الذهن هو الصورة المعينة المطابقة له ، والأخريان أعني
دلالة اللفظ على الصورة الذهنية. ودلالة الخط على اللفظ وضعيتان يختلف في الأولى
منهما الدال بأن تعين طائفة لفظا كالسماء ، وطائفة أخرى لفظا آخر كما في الفارسية وغيرها ،
لا المدلول لأن الصورة الذهنية لا تختلف باختلاف اللغات ، وتختلف في الثانية :
أعني دلالة الخط على اللفظ الدال والمدلول جميعا ، واختلاف الدال لا يختص بحالة
اختلاف المدلول ، بل قد يكون مع اتحاده كلفظ السماء ، يكتب بصور مختلفة بحسب اختلاف
الاصطلاحات في الكتابة. فإن قيل : ـ
معنى الدلالة : كون الشيء بحيث يفهم منه شيء آخر ، فإذا اعتبرت فيما
__________________
بين الصور الذهنية
، والأعيان الخارجية ، لا معنى لفهمها والعلم بها سوى حصول صورها ، كان بمنزلة أن يقال : يحصل من حصول الصور حصول الصور.
قلنا : المراد أنه
إذا حكم على الأشياء كان الحاصل في الذهن هو الصور ، ويحصل منها الحكم على الأعيان
الخارجية. فإنا إذا قلنا : العالم حادث ، فالحاصل في الذهن صورة العالم وصورة الحدوث ، وقد حصل منها العلم بثبوت الحدوث للعالم الموجود (في
الخارج فإن قيل نحن) قاطعون بأن المواضع إنما عين الألفاظ ، بإزاء ما نعقله من
الأعيان ، وللدلالة عليها ولهذا يقول بالوضع والدلالة من لا يقول بالصور الذهنية
في الخارج .
فإن قيل : نحن نعم
إذا لم يكن للمعقول وجود في الخارج ، كان المدلول هو نفس الصورة عند من يقول بها
كالمعدوم والمستحيل.
قلنا : مبني هذا
الكلام على إثبات الصور الذهنية ، فإنه مما يكاد يقضي به بديهة العقل. ولما كان عند سماع
اللفظ ترتسم الصورة في النفس ، فيعلم ثبوت الحكم لما في الخارج ، جعلوا الخارج
مدلول الصورة ، والصورة مدلول اللفظ ، وأما كون مدلول الخط هو اللفظ فظاهر ،
والحكمة فيه قلة المئونة ، حيث اكتفى بحفظ صور متعددة تترتب بترتب الحروف في الألفاظ ، من غير احتياج إلى أن
يحفظ لكل معنى صورة مخصوصة.
__________________
الاستدلال على إثبات الوجود الذهني
(قال : ويستدل على تحقق الذهني : بأن نحكم إيجابا على ما لا ثبوت له ، في الخارج ،
كالممتنعات مع استحالة الإثبات لما لا ثبوت له ، وبأن نجد من
المفهومات ما هو كلي يمتنع بكليته في الخارج. ومن القضايا حقيقية لا يقتصر الحكم
فيها على الموجود في الخارج ، واعترض بأنه يكفي في الإيجاب تميز الموضوع عند العقل
، وهو معنى التعقل فيرجع الكل إلى أن الفهم والتعقل ، يقتضي الثبوت في العقل وفيه
النزاع.
والجواب : أن
اقتضاء التعقل والتميز إضافة بين العاقل والمعقول ضروري ، ولا تعقل الإضافة إلى
النفي السرف ، بل لا بد من ثبوت (ما) وإذ ليس في الخارج ففي العقل.
فإن قيل : يجوز أن
يقوم بنفسه ، كالمثل المجردة لأفلاطون والمعلقة لغيره ، أو ببعض المجردات كصور الكائنات
بالعقل الفعال عند الفلاسفة.
قلنا : معلوم
بالضرورة أن الممتنع بل المعدوم سيما ما ليس من قبيل الذوات لا يقوم بنفسه ، ولا ببعض المجردات
بهويته بل بصورته ، وفيه المدعي
__________________
من جهة استلزامه
كون التعقل بحصول الصورة ، لا من جهة استلزامه أن للمعقولات نوعا من التمييز غير
التميز بالهوية الخارجية سواء اخترعه العقل أو لاحظه من محل آخر ، لأن اقتضاء التميز الثبوت في العقل أول
المسألة) .
كون العلم سيما
العلم بما لا تحقق له في الأعيان مقتضيا لثبوت أمر في الذهن ظاهر يجري مجرى
الضروريات ، فمن هنا زعم بعضهم أن إنكار الوجود الذهنى إنكار للأمر الضروري واستدل
المثبتون بوجوه.
الأول : أنا نحكم حكما إيجابيا على ما لا تحقق له في الخارج أصلا ، كقولنا :
اجتماع النقيضين مستلزم لكل منهما ، ومغاير لاجتماع الضدين ، ونحو ذلك. ومعنى
الإيجاب الحكم بثبوت أمر لأمر ، وثبوت الشيء لما لا ثبوت له في نفسه بديهي
الاستحالة ، فيلزم ثبوت الممتنعات ، لتصح هذه الأحكام ، وإذ ليس في الخارج نفي
الذهن. وتقرير آخر أن من الموجبات ما لا تحقق لموضوعه في الخارج. والموجبة تستدعي وجود الموضوع في
الجملة فيكون في الذهن. وما يقال إنا نحكم على الممتنعات بأحكام ثبوتية ، فمعناه
أحكام إيجابية فلا يرد عليه : أنه إن أريد الثبوت في الخارج فمحال أو في الذهن
فمصادرة على أنه يجوز أن يقال المراد الثبوت في الجملة وكونه
منحصرا في الخارجي والذهني لا يستلزم أن يراد أحدهما ليلزم المحال والمصادرة.
__________________
الثاني : إن الكلي مفهوم ، وكل مفهوم ثابت ضرورة تميزه عند العقل. فالكلي
ثابت وليس في الخارج ، لأن كل ما هو في الخارج مشخص فيكون في الذهن.
الثالث : إن من القضايا موجبة حقيقية ، وهي تستدعي وجود الموضوع ضرورة ،
وليس في الخارج لأنه قد لا يوجد في الخارج أصلا ، كقولنا : كل عنقاء حيوان ، وعلى
تقدير الوجود لا تنحصر الأحكام في الأفراد الخارجية ، كقولنا : كل جسم متناه ، أو
حادث ، أو مركب من أجزاء لا تتجزأ ، إلى غير ذلك من القضايا المستعملة في
العلوم ، فالحكم على جميع الأفراد لا يكون إلا باعتبار الوجود في الذهن ، وفي
المواقف ما يشعر بأن قولنا : الممتنع معدوم قضية حقيقية. وليس كذلك في اصطلاح
القوم واعترض بأنا : لا نسلم أن الايجاب يقتضي وجود الموضوع ، قولكم إن ثبوت الشيء للشيء فرع ثبوته في نفسه.
قلنا : معنى
الإيجاب أن ما صدق عليه الموضوع ، هو ما صدق عليه المحمول من غير أن
يكون هناك ثبوت أمر لأمر ، بمعنى الوجود والتحقق فيه ، وإنما ذلك بحسب العبارة ،
وعلى اعتبار الوجود الذهني ، بل اللازم هو تميز الموضوع ، والمحمول عند العقل
بمعنى تصورهما ، فيكون مرجع الوجوه الثلاثة : إلى أنا نتصور ونفهم أمورا لا وجود
لها في الخارج ، فتكون ثابتة في الذهن لأن تعقل الشيء إنما يكون بحصوله في العقل
بصورته ، إن كان من الموجودات العينية ، وإلا فبنفسه ، وهذا نفس المتنازع. لأن القول بكون التعقل بالحصول في
العقل إنما هو رأي القائلين بالوجود الذهني ، وإلا لكان بشيء ما كافيا في إثبات
المطلوب.
والجواب : أنه لا
بد في فهم الشيء وتعقله وتمييزه عند العقل من تعلق بين
__________________
العاقل والمعقول ،
سواء كان العلم عبارة عن حصول صورة الشيء في العقل ، أو عن إضافة مخصوصة بين
العاقل والمعقول ، أو عن صفة ذات إضافة ، والتعلق بين العاقل وبين العدم الصرف محال بالضرورة. فلا
بد للمعقول من ثبوت في الجملة ، ولما امتنع ثبوت الكليات بل سائر المعدومات سيما
الممتنعات في الخارج تعين كونه في الذهن.
فإن قيل : في رد
هذا الجواب أن المعقولات التي لا وجود لها في الخارج لا يلزم أن تكون موجودة في
الذهن ، لجواز أن تكون صورا قائمة بأنفسها ، كالمثل المجردة الأفلاطونية على ما سيأتي. في بحث الماهية ، وكالمثل المعلقة التي يقول
بها بعض الحكماء ، زعما منهم أن لكل موجود شبحا في عالم المثال. ليس بمعقول ولا
محسوس على ما سيأتي في آخر المقصد.
الرابع : أو قائمة ببعض المجردات كما تدعيه الفلاسفة من ارتسام صور الكائنات
في العقل الفعال ، وينبغي أن يكون هذا مراد الإمام بالأجرام الغائبة عنا ، وإلا
فقيام المعدومات بالأجسام مما لا يعقل.
قلنا : الكلام في
المعدومات سيما الممتنعات ، ولا خفاء في امتناع قيامها بأنفسها بحسب الخارج ، ولا
بالعقل الفعال بهوياتها ، إذ لا هوية للممتنع بل غاية الأمر أن يقوم به تصورها
بمعنى تعقله إياها ، وهو يستلزم المطلوب من جهة استلزامه كون التعقل بحصول الصورة
في العاقل ، فترتسم الصورة في القوة
__________________
العاقلة. وهو
المعنى الموجود الذهني ، ثم إذا كان طريق التعقل واحدا كان تعقل الموجودات أيضا
بحصول صورها في العقل. وذكر صاحب المواقف : أن المرتسم في العقل الفعال إن كان
الصور والماهيات الكلية يثبت الوجود الذهني ، إذ غرضنا إثبات نوع من التميز
للمعقولات ، غير التميز بالهوية الذي نسميه بالوجود الخارجي ، سواء اخترع العقل
تلك الصور أو لاحظها من موضوع آخر ، كالعقل الفعال وغيره ، وفيه نظر ، لأن غاية
ذلك أن يكون للمعقولات تميز عند العقل بالصورة والماهية ، لكن كون ذلك بحصول
الصورة في العقل هو أول المسألة.
اتصاف الذهن بالحرارة والبرودة بديهي الاستحالة
(قال : تمسك المانعون بأن اتصاف الذهن بالحرارة والبرودة وحصول السموات فيه
بديهي الاستحالة ، وبأنه لو وجد في الذهن ما لا تحقق له في الخارج لوجد فيه ، لأن
الموجود في الوجود في الشيء موجود فيه ورد بأن ذلك في الوجود المتأصل ، فالحار ما يقوم به هوية
الحرارة لا صورتها ، والمحال حصول هويات السموات في الذهن لا صورها . والحاصل في الذهن صورة المعدوم ، وفي الخارج هوية الذهن ،
بخلاف وجود الماء في الكوز والكوز في الدار).
لما كان مبنى
الوجود الذهني على استلزام التعقل إياه. اقتصر المانعون على إبطال ذلك وتقريره من
وجوه :
__________________
الأول : لو كان تصور الشيء مستلزما لحصوله في العقل ، لزم من تصور الحرارة
والبرودة أن يكون الذهن حارا باردا وهو محال ، لما فيه من اجتماع الضدين ، واتصاف
العقل بما هو من خواص الأجسام.
الثاني : أنه يلزم أن تحصل السموات بعضها في العقل عند تعقلها في الكل ، وفي الخيال عند تخيلها ، وهو باطل بالضرورة.
الثالث : أنه يلزم من تعقل المعدومات وجودها في الخارج ، لكونها موجودة في
العقل الموجود في الخارج ، مع القطع بأن الموجود في الموجود في الشيء موجود في ذلك
الشيء ، كالماء الموجود في الكوز الموجود في البيت.
والجواب : أن مبنى
الكل على عدم التفرقة بين الوجود المتأصل الذي به الهوية العينية ، وغير المتأصل
الذي به الصورة العقلية ، فإن المتصف بالحرارة ما تقوم به هوية الحرارة لا صورتها
، والتضاد إنما هو بين هويتي الحرارة والبرودة لا بين صورتيهما والذي علم بالضرورة استحالة حصوله في العقل والخيال هو
هويات السموات لا صورها الكلية أو الجزئية ، والموجود في الموجود في الشيء إنما يكون موجودا في ذلك
الشيء ، إذا كان الوجودان متأصلين ، ويكون الموجودان هويتين كوجود الماء في الكوز
، والكوز في البيت ، بخلاف وجود المعدوم في الذهن الموجود في الخارج. فإن الحاصل
في الذهن من المعدوم صورة ، والوجود غير متأصل ، ومن الذهن في الخارج هوية.
والوجود متأصل. وبالجملة فماهية الشيء أعني صورته العقلية مخالفة لهويته العينية
في كثير من اللوازم ، فإن الأولى : كلية ومجردة بخلاف الثانية ، والثانية : مبدأ
للإمكان بخلاف الأولى ومعنى المطابقة بينهما : أن الماهية إذا وجدت في الخارج
كانت تلك الهوية ، والهوية إذا جردت عن العوارض المشخصة واللواحق الغريبة ، كانت تلك الماهية ،
فلا يرد ما يقال إن الصورة العقلية إن ساوت الصورة الخارجية لزمت المحالات ، وإلا
لم تكن صورة لها.
__________________
المبحث الرابع
الوجود يرادف الثبوت
(قال : المبحث الرابع : الوجود يرادف الثبوت ويساوق الشيئية ، والعدم يرادف النفي ، فلا المعدوم ثابت ، ولا بينه وبين
الموجود واسطة ، وخوله في الأمرين إفرادا وجمعا. فقيل : المعلوم إما لا ثبوت له ،
وهو المعدوم أو له ثبوت باعتبار ذاته ، وهو الموجود ، أو تبعا لغيره. وهو الحال ،
فهو صفة لموجود لا موجودة ولا معدومة ، فتتحقق الواسطة. وقال جمهور المعتزلة : إن
كان له كون في الأعيان فموجود ، وإلا فمعدوم وإن كان له تحقق في نفسه فثابت ، وإلا
فمنفي . الموجود أخص من الثابت والمنفي من المعدوم ، فالمعدوم قد يكون ثابتا ولا
واسطة بينه وبين الموجود. وقال بعضهم : إن كان له كون في الأعيان فإما بالاستقلال
، وهو الموجود أو بالتبعية وهو الحال وإلا فمعدوم ، إما متحقق في نفسه فثابت ، أو
لا فمنفي ، فالمعدوم ثابت وبينه وبين الموجود واسطة).
__________________
قد اختلفوا في أن المعدوم هل هو ثابت وشيء أم لا؟ وفي أنه هل بين الموجود
والمعدوم واسطة أم لا؟ والمذاهب أربعة حسب الاحتمالات الأربعة أعني إثبات الأمرين أو نفيهما ، أو إثبات الأول ونفي
الثاني أو بالعكس. وذلك أنه إما أن يكون المعدوم ثابتا أو لا. وعلى التقديرين إما
أن يكون بين الموجود والمعدوم واسطة أو لا. والحق نفيهما بناء على أن الوجود يرادف
الثبوت ، والعدم يرادف النفي ، فكما أن النفي ليس ثابتا ، فكذا المعدوم ، وكما أنه
لا واسطة بين الثابت والمنفي ، فكذا بين الموجود والمعدوم ، وأما الشيئية فتساوق
الوجود بمعنى أن كل موجود شيء ، وبالعكس ، ولفظ المساوقة يستعمل عندهم فيما يعم
الاتحاد في المفهوم. فيكون اللفظان مترادفين والمساواة في الصدق فيكونان متباينين
، ولهم تردد في اتحاد مفهوم الوجود والشيئية. بل ربما يدعي نفيه بناء على أن قولنا
: السواد موجود ، يفيد فائدة يعتد بها بخلاف قولنا : السواد شيء فصار الحاصل أن كل
ما يمكن أن يعلم إن كان له تحقق في الخارج أو الذهن فموجود وثابت وشيء وإلا فمعدوم
، ومنفي ولا شيء ، وأما المخالفون : فمنهم من خالف في نفي الواسطة وإليه ذهب من
أصحابنا إمام الحرمين أولا ، والقاضي ، ومن المعتزلة أبو هاشم ، فقالوا : المعلوم إن لم يكن له ثبوت ، أي في الخارج لأن
مبنى الكلام على نفي الوجود الذهني ، وإلا فالمعلوم موجود في الذهن قطعا فهو
المعدوم. وإن كان له ثبوت فإن كان باستقلاله وباعتبار ذاته فهو الموجود ، وإن كان
باعتبار التبعية
__________________
للغير فهو الحال ،
فهو واسطة بين الموجود والمعدوم ، لأنه عبارة عن صفة للموجود لا تكون موجودة ولا
معدومة ، مثل العالمية والقادرية ونحو ذلك. والمراد بالصفة ما لا يعلم ، ولا يخبر
عنه بالاستقلال بل بتبعية الغير ، والذات بخلافها ، وهي لا تكون إلا موجودة أو
معدومة ، بل لا معنى للموجود إلا ذات لها صفة العدم ، والصفة لا يكون لها ذات فلا
تكون موجودة ولا معدومة. فلذا قيد بالصفة واحترز بقولهم : لموجود عن صفات المعدوم
فإنها تكون معدومة لا حالا. وبقولهم : لا موجودة عن الصفات الوجودية مثل السواد
والبياض وبقولهم : ولا معدومة عن الصفات السلبية. قال الكاتبي : وهذا الحد لا يصح على مذهب المعتزلة ، لأنهم جعلوا
الجوهرية من الأحوال مع أنها حاصلة للذات حالتي الوجود والعدم.
قلنا : إنما يتم
هذا الاعتراض لو ثبت ذلك من أبي هاشم ، وإلا فمن المعتزلة من لا يقول بالحال ،
ومنهم من يقول بها لا على هذا الوجه ، ثم قال : وأول من قال بالحال أبو هاشم وفصل القول فيه
بأن الأعراض التي لا تكون مشروطة بالحياة كاللون والرائحة لا توجب لمن قامت به
حالا ولا صفة ، إلا الكون فإنه يوجب لمحله الكائنية وهي من الأحوال ، وأما الأعراض
المشروطة بالحياة ، فإنها توجب لمحلها أحوالا للمحل كالعلم للعالمية والقدرة للقادرية.
وزعم القاضي وإمام
الحرمين : أن كل صفة فهي توجب للمحل حالا ، كالكون للكائنية والسواد للأسودية
والعلم للعالمية. ومنهم من خالف في نفي كون المعدوم ثابتا وهم أكثر المعتزلة ، حيث
زعموا أن المعلوم إن كان له كون في الأعيان فموجود وإلا فمعدوم فلا واسطة بينهما ـ
وباعتبار آخر : المعلوم إن كان له تحقق في نفسه وتقرر فثابت ، وإلا فمنفي وكل ما له كون في
__________________
الأعيان فله تقرر
في نفسه من غير عكس ، فيكون الموجود أخص من الثابت. وكل ما لا تقرر له في نفسه لا
كون له في الأعيان ، وليس كل ما لا كون له تقرر له ، فيكون المنفي أخص من المعدوم
، فيكون بعض المعدوم لا منفيا بل ثابتا ، ومنهم من خالف في الأمرين جميعا وهم بعض
المعتزلة قالوا : ـ المعلوم إن كان له كون في الأعيان ، فإن كان له ذلك بالاستقلال فهو الموجود ، وإن كان بتبعية الغير فهو
الحال ، وإن لم يكن له كون في الأعيان فهو المعدوم ، والمعدوم إن كان متحققا في
نفسه فثابت ، وإلا فمنفي. فقد جعلوا بعض المعدوم ثابتا. وأثبتوا بين الموجود
والمعدوم واسطة هو الحال ، وظاهر العبارة يوهم أن الثابت قسم من المعدوم ، وليس
كذلك. بل بينهما عموم من وجه لأنه يشمل الموجود والحال بخلاف المعدوم ، والمعدوم
يشمل المنفي بخلاف الثابت ، وان كان المعدوم مباينا للمنفي على ما صرح به في تلخيص
المحصل من أن القائلين بكون المعدوم شيئا لا يقولون للممتنع معدوم
بل منفي. كان الأول في هذا التقسيم ، أن يقال : المعلوم إن لم يتحقق في نفسه فمنفي
، وإن تحقق فإن كان له كون في الأعيان ، فإما بالاستقلال فموجود ، أو بالتبيعة
فحال ، وإن لم يكن له كون في الأعيان فمعدوم ، وفي التقسيم السابق أنه إن لم
يتحقق فمنفي ، وان تحقق فثابت ، وحينئذ إن كان له كون في الأعيان فموجود ، وإلا
فمعدوم.
__________________
نفي ثبوت المعدوم
ونفي الواسطة بينه وبين الوجود
لنا في المقامين الضرورة فإنه لا يقل من الثبوت إلا الوجود ذهنا أو خارجا من العدم إلا نفي ذلك ، ولا يتصور بينهما واسط.
أي في نفي ثبوت
المعدوم وشيئيته ونفي الواسطة بين الموجود والمعدوم الضرورة. فإنها قاضية بذلك ،
إذ لا يعقل من الثبوت إلا الوجود ذهنا ، أو خارجا من العدم إلا نفي ذلك ، والشيئية
تساوق الوجود ، فالثابت في الذهن أو الخارج موجود فيه ، وكما لا تعقل الواسطة بين
الثابت والمنفي ، فكذا بين الموجود والمعدوم ، والمنازع مكابر ، وجعل الوجود أخص
من الثبوت والعدم من المنفي ، وجعل الموجود ذاتا لها الوجود ، والمعدوم ذات لها العدم
، لتكون الصفة واسطة اصطلاح لا مشاحة فيه. قال : فاستدل بوجوه.
الأول : أن ثبوت المعدوم ينافي المقدورية ، لأن الذات أزلية والوجود حال لا يتعلق به قدرة .
الثاني : أن العدم صفة نفي فينتفي الموصوف به.
__________________
الثالث : أن ثبوت الذوات عندكم ليس من الغير فيلزم تعدد الواجب.
الرابع : أنها غير متناهية مع أن الموجود منها متناه. فالكل أكثر من الباقية على
العدم بمتناه فتكون متناهية.
الخامس : أن المعدوم كان مساويا للمنفي أو أخص منه لم يكن ثابتا ، وإن كان أعم
منه لم يكن نفيا صرفا ، والا لما بقي فرق بين العام والخاص. بل ثابتا. وهو صادق
على المنفي فيلزم ثبوته وهو محال.
ورد الأول : بجواز
أن يكون اتصاف الذات بالوجود حادثا بالقدرة فإن قيل : هو منفي وإلا لزم التسلسل واتصاف المعدوم
بالوجود.
أجيب : بمنع
استحالة التسلسل في الثابت واتصاف الثابت بالوجود. والثاني بمنع الأول إن أريد صفة
هي نفي. أو إن أريد صفة منفية. والثالث : بأن الواجب ما يستغني عن الغير في
وجوده لا ثبوته . والرابع : يمنع تناهي ما يزيد على الغير بمتناه. بل إذا
كان الغير متناهيا. وإثبات ذلك بالتطبيق بينه وبين الكل ضعيف. والخامس : بأن عدم
كونه نفيا صرفا لا يستلزم كونه اثباتا صرفا بل قد وقد فلا يصدق إلا بعض المعدوم
ثابت فلا يلزم ثبوت المنفي.
فإن قيل : المراد
أنه لو كان أعم لكان متميزا عن الخاص ، فيكون ثابتا إلزاما قلنا فيلغو أكثر
المقدمات.
منا من جعل نفي
ثبوت المعدوم غير ضروري فاستدل عليه بوجوده.
الأول : لو كان المعدوم ثابتا لامتنع تأثير القدرة في شيء من الممكنات
__________________
واللازم باطل
ضرورة واتفاقا. وجه اللزوم أن التأثير إما في نفس الذات وهي أزلية ، والأزلية
تنافي المقدورية. وإما في الوجود وهو حال إما على المثبتين فإلزاما ، وإما على
النافين فإثباتا بالحجة على ما سيأتي. والأحوال ليست بمقدورة باتفاق القائلين بها
، ولأن عدم توقف لونية السواد وعالمية من قام به العلم على تأثير القدرة ضروري ،
وأما التمسك بأنه لو كان مثل عالمية العالم ، ومتحركية المتحرك بالفاعل ، لكن بدون العلم والحركة ويؤدي إلى إبطال القول بالأعراض ، فلا
يخفى ضعفه ، ثم نفي المقدورية لا يستلزم ثبوت الأزلية ، ليلزم أزليه الوجود ، بل
أزلية اتصاف الذات بالوجود بناء على كونه نسبة بينهما ، لا يتوقف على غيرهما لأنهم
يجوزون الثبوت بلا علة أو بعلة غير قادرة.
وأجيب : بمنع
الحصر لجواز أن يكون تأثير القدرة في اتصاف الذات بالوجود ، لا يقال الاتصاف منتف.
أما أولا : فلأنه لو ثبت لكان له اتصاف بثبوت وتسلسل.
وأما
ثانيا : فلما سبق من أنه
ليس بين الماهية والوجود اتصاف بحسب الخارج ، كما بين البياض والجسم. وإنما ذلك
بحسب الذهن فقط ، وإلا لزم اتصاف المعدوم بالوجود ، لأن الماهية بدون الوجود لا
تكون بحسب الخارج إلا معدومة ، إذ الماهية من حيث هي هي إنما هي في التصور فقط لأنا نجيب عن الأول : بأنه لو سلم زيادة
اتصاف الاتصاف بالثبوت على نفس الاتصاف ، فلا نسلم نفي استحالة التسلسل في الثابتات ، وإنما قام الدليل عليه في
الموجودات. وعن الثاني : بأنا لا نسلم استحالة اتصاف المعدوم الثابت بالوجود ، وصيرورته عند
الاتصاف موجودا بذلك الوجود ، كالجسم الغير الأسود يتصف بالسواد ، ويصير أسود بذلك
السواد ، وإنما يستحيل ذلك فيما ليس بثابت في الخارج ، وهذا ما ذكره الإمام : من
أن القول بثبوت المعدوم متفرع على
__________________
القول بزيادة
الوجود. بمعنى أنهم زعموا أن وجود السواد زائد على ماهيته. ثم زعموا أنه يجوز خلو
تلك الماهية عن صفة الوجود. وأيضا لما اعتقدوا أن الوجود صفة تطرأ على الماهية
وتقوم بها ، ولم يتصور ذلك في النفي الصرف. أنتج لهم ذلك كون الماهية ثابتة قبل
الوجود ، ويجوز العكس لأن الماهية إذا كانت ثابتة قبل الوجود ، لم يكن الوجود
نفسها ، وإلا لكان ثبوتها ثبوته وارتفاعها ارتفاعه.
الثاني : أن المعدوم متصف بالعدم الذي هو صفة نفي ، لكونه رفعا للوجود الذي هو صفة ثبوت ، والمتصف بصفة النفي منفي ، كما أن المتصف بصفة
الإثبات ثابت.
وأجيب : بأنه إن
أريد بصفة النفي صفة هي نفي في نفسه وسلب حتى يكون معنى المتصف به هو المنفي ، فلا
نسلم أن كل معدوم متصف بصفة النفي ، وإنما يلزم لو كان العدم هو النفي وليس كذلك ،
بل أعم منه لكونه نقيضا للوجود ، الذي هو أخص من الثبوت ، وإن أريد بها صفة هي نفي
شيء وسلبه كاللاتحيز واللاحدوث مثلا ، فظاهر أن المتصف به لا يلزم أن يكون منفيا ،
كالواجب يتصف بكثير من الصفات السلبية ، إذ ليس يمنع اتصاف الموجود بالصفات
العدمية ، كما يمتنع اتصاف المعدوم بالصفات الوجودية.
الثالث : لو كانت الذوات ثابتة في العدم ، وعندكم أن ثبوتها ليس من غيرها
كانت واجبة ، إذ لا معنى للواجب سوى هذا ، فيلزم وجوب الممكنات ، وتعدد الواجب. وتقريرهم
أنها لو كانت ثابتة ، فثبوتها إما واجب فيتعدد الواجب ، أو ممكن فيكون محدثا
مسبوقا بالنفي ، فتكون الذوات من حيث هي مسبوقة بالنفي ، وهو مع ابتنائه على كون كل ممكن الثبوت
محدثا ، بمعنى المسبوق بالنفي لا ينفي كون الذوات ثابتة بدون الوجود ، بل غايته أن
ثبوتها في العدم مسبوق بنفيها.
__________________
وأجيب : بأن
الواجب ما يستغني عن الغير في وجوده لا في ثبوته الذي هو أعم.
الرابع : أن الذوات الثابتة والعدم غير متناهية عندكم ، هذا محال لأن القدر
الذي خرج منها إلى الوجود متناه اتفاقا ، فيكون الكل أكثر من القدر الذي بقي على
العدم بقدر متناه ، وهو القدر الذي دخل في الوجود ، فيكون الكل متناهيا بكونه
زائدا على الغير بقدر متناه.
وأجيب : بأنا لا
نسلم أن الزائد على الغير بقدر متناه يكون متناهيا ، وإنما يكون كذلك لو كان ذلك
الغير متناهيا وليس كذلك ، لأن الباقية على العدم أيضا غير متناهية كالكل.
فإن قيل : هي أقل
من الكل قطعا ، فينقطع عند التطبيق فيتناهى ويلزم تناهي الكل.
فالجواب : النقض
بمراتب الأعداد ، ومنع الزيادة والنقصان فيما بين غير المتناهيين. ولو سلم
فلا يلزم من بطلان القول بعدم تناهيها بطلان القول بثبوتها.
الخامس : أن المعدوم إما مساو للمنفي أو أخص منه أو أعم ، إذ لا تباين
لظهور التصادق ، فإن كان مساويا له أو أخص ، صدق كل معدوم منفي ، ولا شيء من
المنفي بثابت ، فلا شيء من المعدوم بثابت. وإن كان أعم لم يكن
__________________
نفيا صرفا ، وإلا
لما بقي فرق بين العام والخاص بل ثابتا. وقد صدق على المنفي فيلزم كونه ثابتا
ضرورة أن ما صدق عليه الأمر الثابت ثابت ، وهو باطل ضرورة استحالة صدق أحد النقيضين على الآخر ، هذا تقرير الإمام على اختلاف عباراته
، وقد اعتبر في بعضها النسب بين العدم والنفي ، ثم قال : وإذا لم يكن العدم نفيا
صرفا بل ثابتا وهو صادق على النفي انتظم قياس هكذا : كل نفي عدم ، وكل عدم ثابت.
فكل نفي ثابت. وهو محال. وأجيب عنه : بعبارات محصلها أنا لا نسلم أنه إذا لم يكن نفيا صرفا ، كان ثبوتيا محضا. لجواز أن
يكون مفهوما بكون بعض أفراده ثابتا كالمعدومات الممكنة ، وبعضها منفيا كالممتنعات
، وهذا القدر كاف في الفرق ، وحينئذ لا يصدق أن كل معدوم ثابت ، ليلزم كون المنفي
ثابتا. وزعم صاحب المواقف أن الاستدلال إلزامي. تقريره : أنه لو كان المعدوم ثابتا كان المعدوم أعم من المنفي ، وكان متميزا عنه ، فكان
ثابتا ، لأن كل متميز ثابت عندكم ، وقد صدق المعدوم على المنفي فيكون ثابتا ضرورة
أن ما صدق عليه الوصف الثبوتي فهو ثابت ، ولا خفاء في أن الجواب المذكور لا يتأتى
على هذا التقدير ، فمن أورده لم يتفطن بمراد المستدل ، وكون كلامه إلزاميا.
فنقول : الجواب
المذكور إنما أورد على تقرير الإمام ، ولا أثر فيه لحديث الإلزام ، على أنه لو قصد
ذلك لكانت أكثر المقدمات لغوا. إذ يكفي أن يقال : لو لم يكن المعدوم والمنفي واحدا
لكان المنفي متميزا عنه ، وكان ثابتا ، على أن الحق أنه لا تعلق لهذا الإلزام بكون
المعدوم ثابتا. إذ يقال : لو كان المنفي مباينا للموجود كان متميزا عنه ، وكان
ثابتا. وليت شعري كيف جعل خصوص المعدوم مستلزما لكونه منفيا ، وعمومه مستلزما
لكونه ثابتا مع قيام التميز في الحالين ، فإن قيل على التقريرين : لما كان زعم الخصم ثبوت
__________________
المعدوم : فأي
حاجة للمستدل إلى إثبات ذلك بالتكلف ، ليفرع عليه ثبوت المنفي؟. وهلا قال : من أول
الأمر : ـ لو كان المعدوم ثابتا وهو صادق على المنفي لزم ثبوته.
قلنا : زعمه أن
الذوات المعدومة الممكنة ثابتة ، ومقصود المستدل إثبات : أن الوصف الذي هو المعدوم
المطلق ثابت منه ثبوت موصوفه. وإلى هذا يشير قول المواقف : لو كان المعدوم ثابتا
كان المعدوم أعم بإعادة لفظ المعدوم دون ضميره. ألا يرى أن ما آل إليه كلامه ، أنه
لو كان المعدوم ثابتا. لكان المعدوم ثابتا فلو لم يرد الموصوف وبالثاني الوصف لكان
لغوا. ومما يجب التنبه له : أن المراد بالأعم في تقرير الإمام ، ما يشمل العموم المطلق ، والعموم من وجه ليتم الحسر ، وفي
تقرير المواقف يجوز أن يحمل على المطلق ويبين الملازمة بأنه صادق على كل منفي .
أدلة القائلين بشيئية المعدوم والرد عليهم
(قال : تمسك المخالف بوجوه. الأول : أن المعدوم متميز ، لأنه معلوم ومراد ومقدور وكل متميز
ثابت. لأن التميز إنما يكون بالإشارة العقلية ، والإشارة إلى النفي الصرف محال.
الثاني : أنه ممكن ، وكل ممكن ثابت لأن الإمكان ثبوتي.
قلنا : كل من
التميز والإمكان عقلي ، يكفيه ثبوت المتميز والممكن في الذهن ، ولو اقتضيا الثبوت
عينا لزم ثبوت الممتنعات لتميزها ، والمركبات الخياليات لتميزها وإمكانها.
الثالث : أن معنى ثبوت المعدوم ، أن السواد المعدوم مثلا سواد في نفسه ؛ إذ لو
كان ذلك بالغير لزم ارتفاعه بارتفاع الغير ، فلا يبقى السواد الموجود سوادا حينئذ .
__________________
قلنا : ممنوع إذ
كما ترتفع سواديته يرتفع وجوده.
فإن قيل : فلا
يكون السواد سوادا وهو محال.
قلنا : بمعنى
السلب فيمتنع الاستحالة ، أو بمعنى العدول بأن نتصور ماهية السواد مع كونها لا سوادا فتمتنع الملازمة.
فإن قيل : السواد
سواد ، وإن لم يوجد الغير ضرورة أن لكل شيء ماهية هو بها مع قطع النظر عن كل ما
عداه. قلنا : قطع النظر عن الشيء لا يوجب انتفاءه).
القائلون بأن
المعدوم الممكن ثابت في الخارج تمسكوا بوجوه :
الأول : أنه متميز وكل متميز ثابت ، أما الصغرى فلأنه قد يكون معلوما فيتميز
عن غير المعلوم ، ومرادا فيتميز عن غير المراد ، ومقدورا فيتميز عن غير المقدور.
وأما الكبرى فلأن التميز عند العقل لا يتصور إلا بالإشارة العقلية بهذا وذاك ،
والإشارة تقتضي ثبوت المشار إليه ضرورة امتناع الإشارة إلى النفي الصرف .
الثاني : أنه ممكن ، وكل ممكن ثابت لأن الإمكان وصف ثبوتي على ما سيأتي ،
فيكون الموصوف به ثابتا بالضرورة.
والجواب عن الأول
: أنه إن أريد أن التميز يقتضي الثبوت في الخارج فممنوع ، وإنما يلزم لو كان
التميز بحسب الخارج ، وإن أريد في الذهن فلا يفيد.
وعن الثاني : أنا
لا نسلم كون الإمكان ثبوتيا بمعنى كونه ثابتا في الخارج ، بل هو
اعتبار عقلي يكفي ثبوت الموصوف به في العقل ، ثم لا خفاء في أن الممتنعات كشريك
الباري ، واجتماع النقيضين وكون الجسم في آن
__________________
واحد في حيزين بعضها متميز عن البعض وعن الأمور الموجودة مع أنها منتفية قطعا ، وإن مثل جبل من
الياقوت ، وبحر من الزئبق من المركبات الخيالية ، متميز مع أنها غير ثابتة وفاقا ،
فيورد بالأول معارضة أو نقض على الوجه الأولى ، وبالتالي على الوجهين ، وقد يورد
النقض بالأحوال من الوجود وغيره ، فإنها مع تميزها ليست بثابتة في العدم ، إذ لا
عدم لها ولا وجود ، لما سبق من أن الحال صفة للموجود ، لا موجودة ولا معدومة ،
وفيه نظر لأن قاعدة الخصم ليست سوى أن كل متميز ثابت في الخارج ، فإن كان موجودا ،
ففي الوجود ، أو معدوما ففي العدم ، أو لا موجودا ولا معدوما ففي تلك الحال ،
والوجود وغيره من الأحوال ليس لها حالة العدم أصلا فمن أين يلزم ثبوتها في العدم.
الثالث : أن معنى كون المعدوم الممكن ثابتا في الخارج ، أن السواد المعدوم
مثلا سواد في نفسه ، سواء وجد الغير أو لم يوجد ، وبيانه ظاهر ، لأنه لو كان كونه
سوادا بالغير لزم ارتفاع كون السواد سوادا عند ارتفاع الغير واللازم باطل. لأنه
يستلزم أن لا يبقى السواد الموجود سوادا عند ارتفاع ذلك الغير ، الذي هو الموجب
لكونه سوادا وهو محال.
والجواب : أنا لا
نسلم استلزامه لذلك ، وإنما يلزم لو كان وجود السواد باقيا عند ارتفاع موجب
السوادية وهو ممنوع ، لم لا يجوز أن يكون ارتفاع ذلك الغير كما يوجب ارتفاع
سواديته ، يوجب ارتفاع وجوده لكونه العلة للوجود أو لازمها.
فإن قيل : لو
ارتفع عند ارتفاع ذلك الغير سوادية السواد ، لزم أن لا يكون السواد سوادا ، وهو
بديهي الاستحالة.
قلنا : إن أريد به
أنه يلزم السلب أي ليس السواد المعدوم سوادا ، فلا
__________________
نسلم استحالته ،
وإن أريد العدول ، أي السواد المتقرر في نفسه لا سواد ، فلا نسلم لزومه ، وإنما
يلزم لو كان السواد متقررا في نفسه حينئذ .
فإن قيل : لكل شيء
ماهية هو بها هو مع قطع النظر عن كل ما عداه لازما كان أو مفارقا ،
فيكون السواد سوادا وسواء وجد غيره أو لم يوجد.
قلنا : لا يلزم من
هذا سوى أن يكون السواد سوادا ، نظرا إلى الغير أو لم ينظر وقطع النظر عن الشيء لا يوجب انتفاءه
ليلزم كون السواد سوادا ، وجد الغير أو لم يوجد ، وهذا كما أنه يكون موجودا مع قطع
النظر عن الغير لا مع انتفائه.
الاختلاف إذا كانت الشيئية بعض الثبوت العيني
(قال : هذا في الشيئية بعض الثبوت العيني ، وأما أن الشيء اسم للموجود أو المعدوم
، أو ما ليس بمستحيل أو القديم أو الحادث أو غير ذلك فلغوي ، والمرجع إلى النقل والاستعمال).
يعني أن ما ذكرنا
من الاختلاف والاحتجاج ، إنما هو في شيئية المعدوم بمعنى ثبوته في الخارج ، وأما
أنه هل يطلق عليه لفظ الشيء حقيقة ، فبحث لغوي يرجع فيه إلى النقل والاستعمال. وقد
وقع فيه اختلافات نظرا إلى الاستعمالات. فعندنا هو اسم للموجود لما نجده شائع
الاستعمال في هذا المعنى ، ولا نزاع في استعماله في المعدوم مجازا كما في قوله
تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ
تَكُ شَيْئاً) .
__________________
لا ينفي الاستعمال
المجازي بل الحقيقي ، وما ذكره أبو الحسين البصري والنصيبي من أنه حقيقة في الوجود مجاز في المعدوم ، وهو مذهبنا
بعينه ، وعند كثير من المعتزلة ، هو اسم للمعلوم ، ويلزمهم أن يكون المستحيل شيئا
وهو لا يقولون به ، اللهم إلا أن يمنع كون المستحيل معلوما على ما سيأتي أو يمنع
عدم قولهم بإطلاق الشيء عليه. فقد ذكر جار الله أنه اسم لما يصح أن يعلم ، يستوي فيه
الموجود والمعدوم ، والمحال والمستقيم ، والذي لا قائل به هو كونه شيئا ، بمعنى
الثبوت في الخارج.
وعند بعضهم هو اسم
لما ليس بمستحيل موجودا كان أو معدوما ، وما نقل عن أبي العباس الناشئ . أنه اسم للقديم ، وعن الجهمية . أنه اسم للحادث ، وعن هشام بن الحكم أنه اسم للجسم ، فبعيد جدا من جهة أنه لا
__________________
يقبله أهل اللغة ،
ولا تقوم عليه شبهة لا من جهة وقوع استعماله ، في غير ما ذكر كل منهم ، فإن له أن
يقول هو مجاز. كما نقول نحن في مثل قوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ) وكون الأصل في الإطلاق هو الحقيقة مشترك الإلزام ، فلا بد
من الرجوع إلى أمر آخر من نقل ، أو كثرة استعمال أو مبادرة فهم أو نحو ذلك.
الأدلة على ثبوت الحال
(قال : احتج المثبتون للحال بوجوده :
الأول : أن الوجود ليس بموجود وإلا تسلسل ، ولا معدوم وإلا اتصف بنقيضه ،
والقول بأنه لا يرد عليه القسمة اعتراف بالواسطة. قلنا : موجود ووجوده عينه ، أو
معدوم وإنما يلزم الاتصاف بالنقيض ، لو كان الوجود عدما أو الموجد معدما.
الثاني : الكلي ليس بموجود ، وإلا لكان مشخصا ولا معدوم وإلا لما كان جزءا
للموجود ، وكذلك حال كل جنس أو فصل مع نوعه ، على أنه لو وجد يلزم في
الأعراض قيام العرض بالعرض.
قلنا : لا تركب في
الخارج ، إذ ليس هنا شيء هو إنسان وآخر خصوصية زيد ، ولا في السواد شيء هو لون
وآخر قابض للبصر ، وآخر مركب منهما يقوم واحد منهما بآخر ، على أن مثل هذا القيام
ليس من قيام العرض بالمحل في شيء ، وإنما التمايز في الذهن ، فثبت فيه الكلي
والجنس).
__________________
لكان له وجود
وتسلسل ، ولا معدوم وإلا لا تصف بنقيضه ، أي بما يصدق على نقيضه وذلك لأن العدم
على تقدير الواسطة ليس نقيضا للوجود ، بل أخص منه ، وإنما نقيضه اللاوجود .
وأجاب صاحب
التجريد : بأن الوجود لا يرد عليه القسمة إلى الموجود والمعدوم ،
فلا يكون أحدهما ، ولا يخفى ما فيه من تسليم المدعي والاعتراف بالواسطة.
فإن قيل : الواسطة
يجب أن تكون قسما من الثابت ، والوجود ليس بثابت كما أنه ليس بمنفي ، وإنما هو
ثبوت ، وهذا كما أن كلا من الثبوت والنفي ، ليس ثابتا ولا منفيا ولم يلزم من ذلك
كونه واسطة بينهما.
قلنا : العذر أشد
من الجزم ، لأن ما ذكرنا قول بالواسطة بين الثابت والمنفي بارتفاع النقيضين.
وأجاب الإمام :
بأنا نختار أن الوجود موجود ، ووجوده عينه لا زائد ليلزم تسلسل الوجودات ،
فامتيازه عن سائر الموجودات يكون بقيد سلبي ، هو أن لا ماهية له وراء الوجود. وقد
يجاب بأنا نختار أنه معدوم ، واتصاف الشيء بنقيضه إنما يمتنع بطريق المواطأة. مثل
إن الموجود عدم ، والموجود معدوم ، وإما بطريق الاشتقاق مثل إن الوجود ذو عدم ،
فلا نسلم استحالته ، فإنه بمنزلة
__________________
قولنا : الحيوان
ذو لا حيوان ، هو السواد أو البياض وسائر ما يقوم به من الأعراض. والأقرب أنه إن أريد الوجود المطلق فمعدوم أو الخاص كوجود الواجب ،
ووجود الإنسان ، فموجود ، ووجوده زائد عليه ، عارض له ، هو المطلق أو الحصة منه ، وليس له وجود آخر
ليتسلسل ، فإن أريد بكونه موجودا بوجود هو نفسه ، هذا المعنى فحق. وإن أريد بمعنى
أنه نفسه وجود فلا يدفع الواسطة بين المعدوم والموجود ، بمعنى ماله الوجود هذا
والحق أن هذه لشبهة قوية.
والثاني : أن
الكلي الذي له جزئيات متحققة مثل الإنسان ، ليس بموجود ، وإلا لكان مشخصا ، فلا
يكون كليا ، فلا يكون كليا ، ولا معدوما ، وإلا لما كان جزءا من جزئياته الموجودة
، كزيد مثلا ، لامتناع تقدم الموجود بالمعدوم ، وأيضا الجنس كالحيوان ليس بموجود
لكليته ، ولا معدوم لكونه جزءا من الماهية الحقيقية كالإنسان ، وأيضا جنس الماهيات
الحقيقية من الأعراض ، كلونية السواد ليس بمعدوم لما ذكر ، ولا موجود لاستلزامه
قيام العرض بالعرض. قيل : ـ أي اللون بالسواد لأنه المحمول طبعا. وقيل بالعكس :
لأن الجنس مقوم للنوع ، وقيل : أي اللون بالفصل الذي هو قابض البصر ، مثلا لكونه المحمول ، وقيل بالعكس. لكون
الفصل مقوما للجنس ، والكل فاسد. لأن جزء المركب سيما المحمول عليه لا يكون عرضا
__________________
قائما به ولا
بالعكس ، وكذا المحمول الأعم ، والنعت لا يلزم أن يكون عرضا للموضوع بل يمتنع لأن العرض لا يكون
محمولا على المحل إلا بالاشتقاق ، وكذا المقوم للشيء بمعنى كونه داخلا ، في قوامه
كالجنس للنوع ، أو بمعنى كونه علة لتقومه وتحصله ماهية حقيقية كالفصل للجنس ، لا
يقتضي كون ذلك الشيء عرضا قائما به سيما إذا كان محمولا ، ألا ترى أن الحيوان
محمول على الإنسان ، مقول له ومحمول على الناطق خارج ، والناطق مقوم له علة لتحصله ،
وكان الغلط من اشتراك لفظ العروض والقيام ، وإلى ما ذكرنا أشار في المتن بقوله ، على أن مثل هذا القيام ، ليس من قيام العرض بالمحل
في شيء ، ولم يتعرض لمنع امتناع قيام العرض بالعرض ، لأنه ربما ثبت بالدليل ، أو
يكون على طريق الإلزام ، ولما كان هاهنا به تحقيق به يخرج الجواب عن هذا الوجه بالكلية ، جعلناه
العمدة ، وهو أن ليس في الخارج تمايز بين الكلي ، والتشخص يحصل من تركبهما الشخصي
، ولا بين الجنس والفصل يحصل من تركبهما النوع ، لظهور أن ليس في الخارج شيء ، هو
الإنسان الكلي ، وآخر هو خصوصية زيد ، يتركب منهما زيد ، وكذا
__________________
ليس في الخارج شيء
هو اللون ، وآخر هو قابض البصر ، وآخر مركب منهما هو السواد ، ليلزم من قيام واحد
من الثلاثة بآخر منها على ما مر من التفصيل ، قيام العرض بالعرض بل في الوجود أمر
واحد ، وإنما التركب والتمايز بحسب العقل فقط ، فلا يلزمنه إلا كون الكلي أو الجنس
موجودا في الذهن ، ولا استحالة فيه.
وأنا أتعجب منهم.
كيف ادعوا أن جزء الموجود يجب أن يكون من أفراد اللاموجود ، الذي هو نقيض الموجود
، ويمتنع أن يكون من أفراد المعدوم ، الذي ليس عندهم نقيض الموجود بل أخص منه.
(قال : وإنما يلزم الجهل لو أخذت في الذهن على أنها صور لأمور متمايزة في
الخارج).
اعترض الإمام على
قولهم ، لا تمايز بين الأجناس والفصول في الأعيان ، بل في الأذهان ، بأن حكم العقل
إن طابق الخارج عاد كلام مثبتي الحال ، وثبت المطلوب ، وإن لم يطابق كان جهلا ولا
عبرة به.
فأجيب : بأن
الكلام في تصور الأجناس والفصول ، ولا حكم فيه تعتبر مطابقته ولا مطابقته ، وإنما يلزم الجهل لو حكم بأنها متمايزة في الخارج ، ولا
تمايز ، فدفع بأن مراده : أن هذه التصورات بل الصور ، إن طابقت الخارج فذاك ، وإلا
كان جهلا.
والجواب : أنه إن
أريد بالمطابقة أن يكون في الخارج بإزاء كل صورة هوية على حدة. فلا نسلم لزوم
الجهل على تقدير عدمها ، وإنما يلزم لو أخذت في الذهن على أنها صور لأمور متمايزة
في الخارج ، وإن أريد بالمطابقة أن تكون بإزائها هوية يكون المتحقق بها في الخارج تلك
الهوية ، والمتحقق من تلك الهوية في الذهن تلك الصور فلا نسلم أن المطابقة تستلزم
__________________
أن يكون هناك أمور
متمايزة بحسب الخارج ، وإنما يلزم ذلك ، لو لم ينتزع العقل من أمر واحد صورا
مختلفة ، باعتبارات مختلفة على ما سيحقق في بحث الماهية.
نقض أدلة إثبات الحال
(قال : ونوقض الوجهان بالحال. فإن الأحوال متماثلة في الثبوت ، متخالفة في
الخصوصيات فيزيد ثبوتها ويتسلسل ، وإنها تحمل على جزئياتها ، فإن كانت ثابتة تشخصت
، وإلا انتفت ، وعلى أحوال هي أعراض فيقوم العرض بالعرض.
فإن قيل : الأحوال
لا تقبل التماثل والاختلاف ، فلا يزيد ثبوتها ليتسلسل ، ولا يكون شيء منها كليا وحالا ، والآخر جزئيا ومحلا على أن التسلسل إنما يمتنع في الموجود دون الثابت.
قلنا : قبول
المفهومين التماثل والاختلاف ضروري وامتناع التسلسل سيجيء).
تقرير الأول : أن
الأحوال لو كانت ثابتة لكانت متشاركة في الثبوت ،
__________________
متخالفة
بالخصوصيات ، فكان ثبوتها زائدا عليها ضرورة أن ما به الاشتراك مخالف لما به
الامتياز ، وثبوتها ليس بمنفي فيكون ثابتا ، وبتسلسل لما ذكرتم في الوجود.
وتقرير الثاني :
أن الحال قد يكون كليا محمولا على جزئيات ثابتة ، فإن كان ثابتا كان متشخصا ، وإن
كان منفيا امتنع كونه جزءا من الثابت ، وكذا إذا كان جنسا لأنواع ، وإذا كان من
أجناس الأعراض ، لزم قيام العرض بالعرض. على ما ذكرتم فما هو جوابكم؟ فهو جوابنا.
فإن قيل : الحال
لا تقبل التماثل والاختلاف. لأن ذلك من صفات الموجود فلا يتحقق فيها ما به الاشتراك ، وما به الاختلاف ليلزم
زيادة ثبوتها ، ويتسلسل ، ولا يتعين حال للكلية ، وآخر للجزئية ، أو حال للحالية.
وآخر للمحلية ليلزم ما ذكرتم ، بخلاف الموجودات فإنها قابلة لذلك باعترافكم. وأيضا
لا نسلم : استحالة التسلسل في الأمور الثابتة ، وإنما قام الدليل على
استحالته في الموجودات.
قلنا : قبولها
التماثل والاختلاف ضروري ، لأن المعقول من الشيء. إن كان هو المعقول من الآخر فهما
متماثلان ، وإلا فمختلفان.
وما قيل : إنهم
جعلوا التماثل والاختلاف : إما حالا أو صفة ، وعلى التقديرين فلا يقوم إلا
بالموجود ليس بشيء ، لأن الصفة قد تقوم بالثابت ، وإن لم يكن موجودا وإن أريد أنه
حال أو صفة موجودة فممنوع ، واستحالة التسلسل في الأمور الثابتة ، مما قام عليه
بعض أدلة امتناع التسلسل على ما سيجيء ، وأما ما ذكره الإمام. من أنا لو جوزناه
أفسد إبطال حوادث لا أول لها ، وإثبات الصانع القديم فضعيف ، لأنا لا نجوزه في
الموجودات ، وبه يتم إثبات الصانع ، وتقرير القوم في النقض بالحال. أن الأحوال متخالفة
__________________
بخصوصياتها ،
ومتشاركة في عموم كونها حالا ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة ، فيلزم أن
يكون للحال حال آخر إلى غير النهاية. ودفعه الإمام بأن الحالية ليست صفة
ثبوتية ، حتى يلزم أن يكون للحال حال آخر وذلك لأنه لا معنى للحال إلا ما يكون موجودا ، ولا معدوما
وهو صفة سلبية فلا يكون الاشتراك فيها اشتراكا في حال ليلزم تسلسل الأحوال.
ورده الحكيم
المحقق ، بأن الحال عندهم ليس سلبا محضا ، بل هو وصف ثابت للموجود ، ليس بموجود
ولا معدوم ، ولهذا لم يجعلوا المستحيل حالا مع أنه ليس بموجود ولا معدوم ، فإذن الحال يشتمل عندهم على معنى غير سلب الوجود والعدم يختص
بتلك الأمور التي يسمونها حالا ، وتشترك الأحوال فيه ، وهي لا توصف بالتماثل
والاختلاف ، لأن المثلين عندهم ذاتان يفهم منهما معنى واحد ، والمختلفان ذاتان لا
يفهم منهما معنى واحد ، والحال ليس بذات لأنها التي تدرك بالانفراد ، والحال لا
تدرك بالانفراد ، والمشترك ليس بمدرك بالانفراد ، حتى يحكم بأن المدرك من أحدهما هو المدرك من الآخر أو ليس ..
من أدلة إثبات الحال
(قال : الثالث : الإيجاد ليس بموجود ، وإلا احتاج إلى إيجاد آخر وتسلسل ، ولا معدوم ، وإلا لما كان الفاعل موجودا.
قلنا : عدم مبدأ المحمول لا يستلزم عدم الحمل ، فزيد أعمى ، مع أن
__________________
العمى معدوم
واجتماع الضدين ممتنع ، مع أن الامتناع معدوم.
أي من وجوه إثبات
الحال : إن الإيجاد ليس بموجود ، وإلا احتاج إلى إيجاد له محتاج إلى آخر ، وهكذا
إلى ما لا نهاية له ، ولا معدوم ، وإلا لما كان الفاعل موجدا ، لأنه بعد صدور
المعلول عنه ، لم يحصل له صفة ، وكما لم يكن قبل الصدور موجدا ، فكذا بعده ، لا
يقال إيجاد عينه ، لأنا نقول : مثل هذا لا يصح في الأمور الموجودة ، لأن ذلك إيجاد
للمعلول ، وهذا إيجاد للوصف الذي هو إيجاد .
والجواب
: إنا نختار. أنه
معدوم ، ولا نسلم لزوم أن لا يكون الفاعل موجدا ، فإن صحة الحمل الإيجاب لا تنافي
كون الوصف ، الذي أخذ منه المحمول معدوما وما في الخارج كما في قولنا : زيد أعمى
في الخارج ، واجتماع الضدين ممتنع في الخارج ، مع أن كلا من العمى
والامتناع معدوم في الخارج.
ذكر تفريعات المثبتين لشيئية المعدوم والحال
(قال : ولهم على الأصلين تفريعات : مثل اتفاقهم على أن الذوات المتحققة في العدم غير
متناهية ، ولا تأثير للمؤثر فيها ، ولا تباين بينها ، وأنه يجوز
القطع ، بأن للعالم صانعا ، متصفا بالحياة والقدرة والعلم مع الشك في وجوده).
__________________
أي للقائلين بكون
المعدوم شيئا ، والحال ثابتا على هذين الأصلين تفريعات. مثل اتفاقهم على أن الذوات
الثابتة في العدم من كل نوع غير متناهية ، وعلى أنه لا تأثير للمؤثر في تلك الذوات
، لأنها ثابتة في العدم من غير سبب ، وإنما التأثير في إخراجها من العدم إلى
الوجود ، وعلى أنه لا تباين بين تلك الذوات ، بمعنى أنها متساوية في الذاتية ،
وإنما الاختلاف بالصفات لا في الحقيقة ، وإلا لصح على كل ما صح على الآخر ، وهو
باطل بالضرورة نعم : أفراد كل نوع متساوية في الحقيقة وهو ظاهر ، وعلى أنه يجوز
القطع بأن للعالم صانعا متصفا بالعلم ، والقدرة ، والحياة مع الشك في وجوده ، حتى
يقوم عليه البرهان ، وذلك لأنهم جوزوا اتصاف المعدوم الثابت بالصفات الثبوتية ، واعترض بأن هذا يستلزم جواز
الشك في وجود الأجسام بعد العلم باتصافها بالمتحركية والساكنية ، لجواز أن تتصف
بذلك في العدم ، فيحتاج وجودها إلى دلالة منفصلة ، وذلك جهالة عظيمة.
والجواب ؛ بأنا بعد ما نتصور ذاتا متصفة بتلك الصفات ونصدق بأن صانع العالم يجب أن يكون
كذلك ، يجوز أن نشك في أن للعالم صانعا كذلك. أو بأنا بعد العلم بأن كل ما لو وجد
، كان صانع العالم فهو بحيث لو وجد كان متصفا بتلك الصفات ، يجوز أن نشك في أنه موجود في الخارج ليس
بشيء لأنه لا يتفرع حينئذ على كون المعدوم شيئا وثابتا في الخارج ، بل يصح على قول
النافين أيضا ، ألا يرى أنا نستدل على وجود الواجب ، ومعناه أن الذات المتصفة
بوجوب الوجود يفتقر التصديق بوجودها إلى الدليل ، ونقطع بأن شريك الباري ممتنع ،
ومعناه أن الذات المتصفة بالوجود ، وسائر صفات الكمال المغايرة للباري تعالى وتقدس
، تمتنع أن توجد في الخارج.
واعلم أنهم وإن جعلوا هذا التفريع متفقا عليه إلا أنه إنما يصح على رأي
القائلين بأن للمعدوم صفة.
__________________
(قال : واختلافهم في أن الذوات المعدومة هل تتصف بصفة الجنس كالسوادية ، وما يتبعها في الوجود ،
كالحلول في المحل ، وأن التميز هل يغاير الجوهرية ، وأن المعدوم هل له بكونه
معدوما صفة ، وأنه هل يمكن وصفه بالجسمية) .
من تفاريع القول
بكون المعدوم شيئا : اختلافهم في أن الذوات المعدومة هل تتصف بصفة الجنس ، كالجوهر
بالجوهرية ، والسواد بالسوادية إلى غير ذلك ، وبما يتبع صفة الجنس ، كالحلول في
المحل التابع للسوادية مثلا.
فقال الجمهور :
نعم لأنها متساوية في الذاتية ، فلو لم تتخالف بالصفات لكانت واحدة ، ولأنها إما متماثلة ، فتكون متماثلة في الوجود ، لأن ما بالذات لا
يزول بالعرض ، وإما متخالفة فتكون بالصفات ، ضرورة اشتراكها في الذاتية ، ولأن
التميز اللازم للجوهر حالة الوجود ، ليس لأنه ذات ، ولا لأنه موجود ، وإلا لكان
لازما للعرض ، فتعين أن يكون لصفة يتصف بها في العدم.
وأجيب : بأن
التساوي في الذاتية لا يمنع الاختلاف بالحقيقة ، كالحقائق المشاركة في الوجود ،
وحينئذ لا يرد شيء مما ذكر .
وذهب أبو إسحاق بن عياش : إلى أنها في العدم عارية عن جميع الصفات ، لأنها لما كانت
متساوية في الذات ، فاختصاص بعضها بصفة
__________________
معينة لا تكون
لذاته وهو ظاهر ، ولا لصفة أخرى وإلا تسلسل ، بل لمباين ، ولا يجوز أن يكون موجبا
لأن نسبته إلى الكل على السواء فيكون مختارا. وفعل المختار حادث فيلزم كون المعدوم
موردا للصفات المتزايلة وهو باطل بالاتفاق ، فتعين أن يكون ذلك حالة الوجود.
والجواب : أنه يجوز أن يكون لذاته المخصوصة ، فظهر أن مبنى كلام الطرفين على عدم
التفرقة بين العارض الذي هو الذات المطلقة ، والمعروض الذي هو الذات المخصوصة ،
ومنها اختلافهم في أن التميز هل يغاير الجوهرية؟
فالجمهور : على أن الجوهرية صفة تابعة للجوهر حالتي الوجود والعدم ، والتميز
وهو اقتضاء الجوهر حيزا ما ، صفة تابعة ثابتة للجوهر الموجود أي صادرة عن الجوهر
بشرط الحدوث ويسمونه الكون. وحصول الجوهر في الحيز المعين ويسمونه الكائنية معلل
بالتحيز بمعنى الكون ، وذهب الشحام والبصري وابن عياش إلى أن الجوهرية نفس التحيز ، إذ لا معنى للجوهرية إلا
المتحيز بالذات ، ومنها اختلافهم في أن المعدومية هل هي صفة ثابتة للمعدومات حالة العدم ، فأثبته أبو عبد الله البصري ، ونفاه غيره لأنها لافتقارها إلى الذات ممكن ، فإن كان
علتها الذات ، أو الفاعل الموجب من غير توسط الاختيار أصلا لزم دوامها ، فلا توجد الذات ، وإن كان هي
الفاعل بالاختيار ابتداء أو انتهاء لزم حدوثها وهو محال ، ومنها اختلافهم في أن
__________________
الجواهر المعدومة.
هل هي أجسام في العدم؟ فنفاه الجمهور ، وأثبته أبو الحسين الخياط .
أدلتهم على ثبوت الحال تقسيمه
(قال : ومثل تقسيم الحال إلى العلل بصفة موجودة ، كالعالمية المعللة بالعلم ،
وغير المعلل كلونية السواد ، وتعطيل اختلاف الذوات بالأحوال إلى غير ذلك).
من تفاريع القول
بالحال تقسيمه إلى حال هو معلل بصفة موجودة في الذات ، كالعالمية المعللة بالعلم ،
والقادرية المعللة بالقدرة ، وإلى حال ليس كذلك كلونية السواد ، فإنها لا تعلل
بصفة في السواد ، وكذا وجود الأشياء ، ومنها تعليل اختلاف الذوات في العدم
بالأحوال ، فإن القائلين بكون الذوات المعدومة متخالفة بالصفات ، جعلوا تلك الصفات
أحوالا ، ودل ذلك على أن الحال عندهم لا يجب أن يكون صفة لموجود ، ومنها
تقسيمهم تلك الصفات في الجواهر إلى ما يعود إلى الجملة ، أعني مجموع ما يتركب عنه
البنية كالحيثية ، وما هو مشروط بها كالعلم والقدرة ، وإلى ما يعود إلى التفصيل ،
أي الافراد كالجوهرية ، والوجود ، والكون ، والكائنية. وفي الأعراض إلى الصفة
النفسية كالسوادية ، والصفة الحاصلة بالفاعل كالوجود ، وإلى ما يتبع العرض بشرط
الوجود كالحلول في المحل .
__________________
أدلة بطلان ثبوت المعدوم والحال
(قال : فإن قلت : بطلان ثبوت المعدوم والواسطة في غاية الجلاء ، فكيف ذهب على
الكثير من العقلاء؟
قلت : كان مبنى الأول : على أن السواد المعدوم مثلا سواد في الخارج لا يتعلق
سواديته بأسباب الوجود.
والثاني : على أن من الصفات ما قام الدليل على أنها ليست بموجودة ، ولا
سبيل إلى نفيها ، لاتصاف الموجود بها ، وجد فرض العقل أو لم يوجد ، كالوجود
والإيجاد والعالمية ، واللونية فجزموا بأنها لا موجودة ولا معدومة).
لما كان بطلان القول بثبوت المعدوم في الخارج ، وتحقق الواسطة بينه وبين
الموجود جليا بل ضروريا ، وقد ذهب إليهما سيما إلى تحقق الواسطة كثير من العلماء المحققين ، حاول التنبيه على ما
يصلح مظنة للاشتباه في المقامين.
أما الأول فهو أن
العقل جازم بأن السواد سواد في الواقع ، وإن لم يوجد أسباب الوجود من الفاعل والقابل ، فإن أسباب
الماهية غير أسباب الوجود ، على ما سيجيء فعبروا عن هذا المعنى بالثبوت في الخارج
، لما رأوا فيه من شائبة التقرر والتحقق ، مع نفيهم الوجود الذهني ، وهو قريب من
قول
__________________
الفلاسفة : أن
الماهيات ليست بجعل الجاعل ، وحاصله : أنهم وجدوا تفرقة بين الممتنعات والمعدومات
الممكنة فإن لها ماهيات تتصف بالوجود تارة ، وتتعرى عنه أخرى بحسب حصول أسباب
الوجود ولا حصولها ، فعبروا عن ذلك بالشيئية والثبوت في الخارج.
وأما الثاني : فهو
أنهم وجدوا بعض ما يتصف به الموجود كوجود الإنسان ، وإيجاد الله تعالى إياه ،
وعالمية زيد ، ولونية السواد ، قد قام الدليل على أنه ليس بموجود ، ولم يكن لهم
سبيل إلى الحكم بأنه لا تحقق له أصلا لما رأوا الموجودات تتصف به سواء : وجد
اعتبار العقل أو لم يوجد على أنه لو وجد اعتبار العقل وفرضه فهو عندهم ليس بموجود
في العقل ، فجزموا بأن لهذا النوع من المعاني تحققا ما في الخارج ، وليست بموجودة
ولا معدومة بل واسطة ، وسموه بالحال توضيحه : أنه إذا صدر المعلول عن العلة ، فنحن نجد في كل منهما صفة كانت
معدومة قبل الصدور ، أعني الموجدية والوجود ، فلا تكون حينئذ معدومة ، ضرورة
التفرقة بين الحالين ، وقد قام الدليل على أنها ليست بموجودة فتكون واسطة.
(قال : وأما ابتناء ذلك على أنهم لم يجعلوا تقابل العدم والوجود ، وتقابل السلب والإيجاب ، بل العدم والملكة. إذ العدم ارتفاع ما من شأنه الوجود ، فجعلوا المفهومات الاعتبارية : التي لا يتصور عروض الوجود لها لا
موجودة ، ولا معدومة فإنما يصح ذلك إذا لم يجعل الممتنع معدوما).
__________________
أقول ؛ ذكر صاحب
المواقف على ما نطق به أصل النسخ : أنه يظن ظنا قريبا من اليقين ، أن مبنى إثبات
الواسطة على أنهم وجدوا من المفهومات ما يتصور عروض الوجود لها ، فسموا تحققها
وجودا ، وارتفاعها عدما ، ومنها ما لا يتصور عروض الوجود لها أصلا ، كالاعتبارات
العقلية التي تسميها الحكماء معقولات ثانية ، فجعلوها ، لا موجودة ، ولا معدومة ،
بمعنى أنها ليست متحققة ، ولا من شأنها التحقق ، فعندنا تقابل الوجود والعدم تقابل
إيجاب وسلب. وعندهم تقابل ملكة وعدم.
والحق أن هذا الظن
لا يغني من الحق شيئا.
أما أولا : فلأنه إنما يصح لو كان المعدوم عندهم مباينا للممتنع لا يطلق عليه
أصلا ، كما ذكره صاحب التلخيص : لا أعم على ما قرره صاحب المواقف وغيره ، لظهور أنه لا
يعرض له الوجود أصلا.
وأما ثانيا : فلأن
الحال حينئذ تكون أبعد عن الوجود من المعدوم ، لما أنه ليس له التحقق ولا إمكان
التحقق وليس كذلك ، لما أنهم يجعلونه قد تجاوز في التقرر والتحقق والثبوت حد العدم ، ولم يبلغ
حد الوجود ، ولهذا جوزوا كونه جزءا لموجود كلونية السواد.
وأما ثالثا : فلأنه ينافي ما ذكره في تفسير الواسطة ، في أنه المعلوم الذي له تحقق
لا باعتبار ذاته ، بل تبعا لغيره ، أو الكائن في الأعيان ، لا بالاستقلال بل تبعا
لغيره ، ويمكن دفع الأخيرين : بأن المراد بالتحقق الذي يتصور عروضه للمعدوم دون
الواسطة ، هو التحقق بالاستقلال ، وأن الواسطة تكون أقرب إلى الوجود من حيث أن التحقق بالتبعة حاصل له بالفعل.
__________________
المبحث الخامس
تمايز الإعدام في العقل وما يتعلق بذلك
(قال : المبحث الخامس : للاعدام تمايز في العقل كاختصاص عدم المعلول بالاستناد إلى عدم العلة ، وعدم الشرط بمنافاة وجود المشروط ، وعدم الضد بتصحيح
وجود الآخر).
قد اشتهر خلاف في
تمايز الإعدام ، فإن أريد أن ليس التمايز أمرا محققا في الخارج أو ليست للمعدومات أو المعدومات عينية متمايزة فضروري لا يتصور فيه نزاع ،
وإن أريد أن ليس لمفهوم العدم أفراد متمايزة عند العقل يختص كل منها بأحكام مخصوصة
، صادقة في نفس الأمر فباطل ، لأن عدم العلة موجب لعدم المعلول ، من غير عكس ،
وعدم الشرط مناف ، لوجود المشروط ، وعدم المشروط لا ينافي وجود الشرط وعدم الضد عن
المحل يصحح طريان الضد الآخر ، بخلاف عدم غير الضد ولما لم يكن التمايز إلا بحسب التعقل ، الذي وقع الخلاف في أنه هل هو وجود ذهني
أو لا ..؟.
__________________
ذهب صاحب المواقف
إلى أن الخلاف في تمايز الإعدام فرع الخلاف في الوجود الذهني ، فمن أثبته نفاه ،
لأن التمايز لا يكون إلا في العقل ، أي بحسب التعقل والتصور ، فإن كان ذلك بوجود
في الذهن ، على ما هو رأي المثبتين لم يتصور معدوم مطلقا. أي معدوم ليس له شائبة
الوجود ، لأن كل متصور فله وجود ذهني ، فلا يكون التمايز إلا للموجودات ، ومن نفاه
أثبته. لأن الإعدام ليست لها شائبة الوجود متمايزة في التصور ، وأنت خبير بأن
الأمر بالعكس. لأن الفلاسفة المثبتين للوجود الذهني يقولون : بتمايز الإعدام ،
وجمهور المتكلمين النافين له هم القائلون بعدم تمايزها ، فالأولى أن يقال في بيان
التفرع. أنه لما كان التميز عندهم وصفا ثبوتيا ، يستدعي ثبوت الموصوف به فمن أثبت
الوجود الذهني حكم بتمايز الإعدام عند تصورها لما لها من الثبوت الذهني ، وإن كانت
هي إعداما في أنفسها ، ومن نفاه حكم بعدم التمايز لعدم الثبوت أصلا.
(قال : والعدم قد يعرض لنفسه ، بأن يعقل فيغفل عنه فيكون نوعا من العدم باعتبار
ومقابلا له باعتبار ، كما أن المعدوم المطلق ثابت باعتبار ، فيصح الحكم عليه وقسيم
له باعتبار فيمتنع.
فإن قيل : فمن حيث
إنه ليس بثابت يمتنع الحكم عليه وهذا حكم.
قلنا : نعم. لكن
من حيث أنه ثابت ، ولا يناقض لاختلاف الاعتبارين ، وكذا الحكم بامتناع الحكم على المجهول المطلق واللاممكن التصور.
__________________
لما كان الحكم
بتمايز الإعدام في التصور مظنة الاعتراض ، بأن التمايز حينئذ يكون للموجودات
الذهنية على ما هو رأي المحققين من الحكماء والمتكلمين. حاول التنبيه على الجواب ،
بذكر مسائل تدل على أن العدم بالذات لا ينافي الوجود باعتبار منها : أن العدم يعرض
لنفسه بأن يتصور العدم المطلق ، الذي هو نفي الكون في الأعيان ، ثم يزول ذلك عن
الذهن فيكون ذلك عروضا للعدم ، على ما هو عدم في نفسه ، وإن كان موجودا من حيث
حصوله في الذهن. ومنها أن زوال العدم عن الذهن نوع من العدم المطلق من حيث كونه
مضافا إلى العدم ، ومقابل له من حيث كونه نفيا له وسلبا. وفيها أن المعدوم المطلق
، أعني ما ليس له ثبوت في الخارج ولا صورة في العقل ثابت من حيث إنه متصور الحكم
عليه بامتناع الحكم عليه ، وقسيم للثابت من حيث ذاته ، فيمتنع الحكم عليه ،
لاستدعائه ثبوت المحكوم عليه في الجملة.
فإن قيل : فما لا
يكون ثابتا بوجه من الوجوه ، من حيث إنه لا ثابت يمتنع الحكم عليه ، والحكم
بامتناع الحكم حكم فيتناقض.
قلنا : صحة الحكم
عليه ، بامتناع الحكم ليست من جهة أنه لا ثابت ، بل من جهة أنه متصور ، ثابت في
العقل ، وامتناع الحكم من جهة أنه لا ثابت في نفسه ، وبحسب مفهومه ، ولا تناقض
لاختلاف الجهتين وهذا هو الجواب عن الشبهة المشهورة على قولهم : الحكم على الشيء
مشروط بتصوره بوجه ما ، وهي أنه لو صح ذلك لصدق قولنا : لا شيء مما انتفى فيه هذا
الشرط كالمجهول مطلقا ، يصح الحكم عليه ضرورة انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ؛ واللازم باطل. لأن موضوع هذه السالبة ، إن
كان ثابتا ، معلوما بوجه ما ، صح الحكم عليه في الجملة فيكذب الحكم بعدم صحة الحكم
__________________
أصلا ، وإن كان
مجهولا مطلقا ، والحكم بعدم صحة الحكم حكم فتناقض ، لأن بعض المجهول المطلق صح
الحكم عليه ، وقد يجاب بأن القضية مشروطة ، أي لا يصح الحكم عليه ما دام مجهولا مطلقا ، وهي لا تناقض المطلقة ، وهو مدفوع
بأدنى تغير ، وهو أن يقيد انتفاء الشرط بالدوام ، أي ما يكون مجهولا مطلقا دائما
لا يصح الحكم عليه دائما ، أو يعتبر إمكان التصور.
فيقال : لو كان
الحكم على الشيء مشروطا بتصوره ، لكان مشروطا بإمكان تصوره ضرورة ، فيلزم أن لا
يمكن الحكم على ما لا يمكن تصوره أصلا ، والحكم بعدم الإمكان حكم ، وبالجملة
فالشبهة مما يورد في موارد كثيرة مثل قولنا : ضرب فعل ماض ، ومن حرف جر ، وليس
باسم ، وما لا يتصور أصلا ، ليس بكلي إلى غير ذلك ، فينبغي أن يكون الجواب حاسما
للمادة ، وحاصله أن الموضوع في أمثال هذه القضايا متعدد. فالمجهول المطلق من حيث
ذاته ممتنع الحكم عليه ، ومن حيث كونه متصورا محكوم عليه ، وضرب من حيث
ذاته فعل ، ومن حيث كونه هذا اللفظ اسم وهكذا. وقد يقال في بيان بطلان قولنا : لا
شيء من المجهول مطلقا ، يصح الحكم عليه. أن كل مجهول مطلقا فهو شيء أو لا شيء
وممكن أو لا ممكن ، وبالجملة فإما (ب) أو ليس (ب). ضرورة امتناع ارتفاع النقيضين ،
وفيه منع ظاهر ، وهو أنا لا نسلم صدق شيء من هذه القضايا ، إنما يلزم ارتفاع النقيضين لو
سلبا عن شيء واحد ، وهاهنا كما لا سلب لا إيجاب ، لأن كلا منهما حكم مشروط بتصور الموضوع فلذا بينه القوم بطريق الترديد
على ما ذكرنا.
__________________
لا حجر على تصورات العقل
فقد يجمع بين متنافيين
(قال : وبالجملة : لا حجر في تصورات العقل ، فله أن يعتبر النقيضين ، ويحكم بينهما بالتناقض ، ويعتبر عدم كل شيء حتى نفسه ، ويقسم الموجود إلى ثابت في
الذهن ، وغير ثابت فيه ، وإلى ممكن التصور ، واللاممكن عدم التصور ويحكم بالتمايز بينها ، فيكون كل من اللاثابت ، واللاممكن
التصور ، لا هوية له من حيث الذات ، مع أن له هوية من حيث الثبوت في العقل كالهوية
واللاهوية ).
فلا حجر زيادة
تعميم لتصرفات العقل ، واعتباراته يعني أن له أن يعتبر النقيضين من المفردات
كالموجود ، واللاموجود ، أو من القضايا ، مثل موجود ، وهذا ليس بموجود ، ويحكم
بينهما بالتناقض بمعنى امتناع صدق المفردين على شيء واحد ، وامتناع صدق النقيضين في
نفس الأمر ، فيكون النقيضان موجودين في العقل ، وإن كان أحدهما عبارة عما لا وجود
له أصلا ، وله أن يعتبر عدم كل شيء حتى عدم نفسه ، مع أن تصور العقل عدمه يستدعي
ثبوته ، فيكون هذا جمعا بين وجوده وعدمه ، لكن أحدهما بحسب الذات ، والآخر بحسب
التصور ، وله أن يعتبر تقسيم الموجود إلى ثابت في الذهن ، وغير ثابت فيه ، فيكون
اللاثابت في الذهن ، قسما للثابت فيه بحسب
__________________
الذات ، وقسما منه
باعتبار كونه متصورا ، وكذا في تقسيمه إلى ممكن التصور ، واللاممكن التصور ، فيكون الثاني
قسما من ممكن التصور ، بل من المتصور ، له أن يحكم بالتمايز بين
الثابت في الذهن ، واللاثابت فيه ، وكذا بين ممكن التصور ، واللاممكن التصور ، مع
أنه يستدعي أن يكون للممتازين هويتان عند العقل ، ولا هوية للاثابت في العقل ،
واللاممكن التصور ، فيكون كل منهما لا هوية له عند العقل ، من حيث الذات ، وله
هوية عنده من حيث التصور ، وهذا كما أنه يعتبر الهوية واللاهوية ، ويحكم بينهما
بالتمايز ، فتكون اللاهوية قسيما للهوية بحسب الذات ، وقسما منها باعتبار ثبوتها
في العقل ، ولا تناقض في شيء من ذلك ، وهذه أصول يستعان بها على حال كثير من
المغالطة.
__________________
المبحث السادس
الوجود والعدم كل منهما يكون محمولا ورابطة
(قال : المبحث السادس : كل من الوجود والعدم قد يقع محمولا ، وقد يقع رابطة ،
ولا بد في حمل الايجاب من اتحاد الطرفين هوية ليصح ، وتغيرهما مفهوما ليفيد ).
كما في قولنا :
الإنسان موجود ، والعنقاء معدوم ، وقد يقع رابطة بين الموضوع والمحمول ، كما في
قولنا : الإنسان يوجد كاتبا أو بعدم ، أو بين غيرهما كما في وجود زيد في الزمان أو
المكان ، وفي الأعيان أو الأذهان ، والحمل قد يكون إيجابا وهو الحكم بثبوت المحمول
للموضوع ، وقد يكون سلبا وهو الحكم بانتفائه عنه ، وحقيقتهما إدراك أن النسبة
واقعة أو ليست بواقعة ، وهو حقيقة عرفية فيهما. فلذا قلنا : ولا بد في حمل الإيجاب من اتحاد
الموضوع ، والمحمول بحسب الذات والهوية ، ليصح الحكم بأن هذا ذاك للقطع. بأن هذا
لا يصح فيما بين الموجودين المتمايزين بالهوية ، ومن تغايرهما
__________________
بحسب المفهوم ،
ليفيد فائدة يعتد بها ، وهي أن هذين المتغايرين بحسب المفهوم متحدان بحسب الذات ،
والوجود للقطع بعدم الفائدة في مثل الأرض أرض ، والسماء سماء.
فإن قيل : إن أريد
الاتحاد في الوجود الخارجي ، فرب موجبة لا وجود لطرفيها في الخارج.
كقولنا : العنقاء
معدوم ، وشريك الباري ممتنع ، والوجوب ثبوتي ، والإمكان اعتباري ، والجنس مقوم للنوع ،
والنوع كلي ، والفصل علة للجنس ، إلى ذلك. فإنها وإن منع إيجاب بعضها فلا كلام في
البعض ، وإن أريد الأعم ليتناول أمثال هذه القضايا لم يستقم ، لأنه لا يتصور
التغاير في المفهوم مع الاتحاد في الوجود الذهني ، إذ لا معنى للموجود في الذهن
إلا الحاصل فيه ، وهو معنى المفهوم.
قلنا : معنى
الاتحاد بالذات والهوية والوجود ، هو أن يكون ما صدق عليه عنوان الموضوع هو بعينه
ما يصدق عليه مفهوم المحمول ، من غير أن ينفرد كل بوجود ، بل يكون موجودا واحدا
عينيا ، كما في القضايا المعتبرة في العلوم ، سيما اذا أخذت بحسب الحقيقة أو الخارج ، أو ذهنيا ، كما في القضايا الذهنية ،
على ما قالوا : إن معنى قولنا : المثلث شكل. هو أن الذي يقال له المثلث هو بعينه
الذي يقال له الشكل ، وهذا هو المراد بقولهم: المراد بالموضوع الذات ، وبالمحمول
المفهوم. للقطع بأنه لو أريد أن ذات الموضوع نفس مفهوم المحمول ، لم يستقم ولم
يتكرر الوسط في الشكل الأول ، فلم ينتج ، كما إذا أخذت القضية طبيعية المحمول أو
الموضوع. كقولنا : جزء مفهوم الإنسان ناطق ، وكل ناطق ضاحك ، وقولنا : بعض النوع
إنسان ، ولا شيء من الإنسان بنوع ، مع كذب النتيجة ، لأن المعتبر عندهم في الأحكام
من الموجبة المعنى الذي ذكرنا ، وهذه ليست كذلك.
__________________
وبالجملة ، فمعنى
الإيجاب في الذهنيات ، أن المعقول الأول الذي يصدق عليه (في الذهن عنوان الموضوع ،
هو بعينه الذي يصدق عليه) مفهوم المحمول من غير تعدد في ذاته ، ووجوده العقلي ،
وإنما التعدد مفهوميهما اللذين كلاهما أو أحدهما من ثواني المعقولات ، فمعنى قولنا
شريك الباري ممتنع أن ما يصدق عليه في الذهن ، أنه شريك الباري ، يصدق عليه
في الذهن ، أنه ممتنع الوجود في الخارج ، وعلى وهذا فقس.
دفع توهم في حمل الوجود والعدم على الماهية
(قال : ولا يلزم في حملهما على الماهية ، اعتبار الوجود أو العدم فيها ليلغيا أو يتناقض . كما أن في حمل الأسود على الجسم ، لا يعتبر فيه السواد
وعدمه ، وانما يجيء ذلك من قبل المحمول ، وكذا الثبوت الذهني وإن كان لازما ).
قد يتوهم أنه كما
لا واسطة بين الوجود والعدم ، لا واسطة بين اعتبارهما ، فالماهية المحمول عليها
الوجود. إما مع اعتبار الوجود ، فيكون الحمل لغوا بمنزلة أن يقال : الماهية
الموجودة موجودة ، وإما مع اعتبار العدم
__________________
فيكون تناقضا
بمنزلة أن يقال : الماهية المعدومة موجودة ، وكذا في حمل العدم ، بل كل وصف كقولنا
: الجسم أسود. فإن الموضوع إما مع اعتبار المحمول فلغو. ومع اعتبار عدمه فتناقض.
فأزال ذلك الوهم ، بأن الموضوع وإن كان لا يخرج عن المحمول ، أو نقيضه وجودا كان
أو عدما أو غيرهما ، لكن لا يلزم أن يعتبر فيه أحدهما ، وإنما يجيء تقيده من قبل الحمل. فإن حمل عليه الوجود كان موجودا ، أو العدم فمعدوما
، أو السواد فأسود ، أو البياض فأبيض ، من غير أن يعتبر معه شيء من ذلك ، وكذا
الثبوت الذهني ، وإن كان لازما ، من جهة أن الحكم على الشيء يستدعي تصوره ، وهو
ثبوت ذهني لكن لا يلزم اعتباره في الموضوع ، لأن الحكم إنما هو على الذات من غير
اعتبار الأوصاف لازمة كانت أو مفارقة ، فليس معنى قولنا : الماهية موجودة. أن
الماهية الثابتة في الذهن موجودة حتى لو كان المحمول هو الثبوت الذهني أو نفيه ،
لم يكن لغوا أو تناقضا ، إلا بالنسبة إلى من يعلم أن المحكوم عليه متصور البتة ،
وأن التصور ثبوت ذهني.
إثبات صحة الحكم
(قال : ولا يشترط في صحة المطابقة لما في الأعيان ، إذ قد لا يوجد فيها الطرفان ، ولا يكفي
المطابقة لما في الأذهان ، اذ قد يرتسم فيها الكواذب ، بل المعتبر المطابقة لما في نفس الأمر ، ومعناه ما يفهم من قولنا : هذا الأمر
كذا في نفسه ، أي في حد ذاته ، مع قطع النظر عن حكم
__________________
الحاكم وتفسيره
بما في العقل الفعال بعيدا جدا ، اذا قصد بيان المفهوم ، لأنه قد يقع التصديق
ممن لا يعرفه ، بل ينكره. وأما الاعتراض بأنه لا يشمل علمه ، ولا العلم السابق
عليه ، ولا العلم بالجزئيات فيمكن دفعه :.
يعني. أن الحكم قد
يكون صحيحا أي حقا وصدقا وقد يكون فاسدا أي باطلا وكذبا وإن كان غالب استعمال الصدق والكذب في الأقوال خاصة ،
وليست صحة الحكم بمطابقته لما في الأعيان ، إذ قد لا يتحقق طرفا الحكم في الخارج ،
كما في الحكم بالأمور الذهنية ، على الأمور الذهنية أو الخارجية.
كقولنا : الإمكان
اعتباري ومقابل للامتناع ، واجتماع النقيضين ممتنع.
كقولنا : الإنسان
ممكن ، أو أعمى ، ولا يكفي المطابقة لما في الأذهان لأنه قد يرتسم فيها الأحكام
الغير المطابقة للواقع ، فلزم أن يكون قولنا : العالم قديم حقا وصدقا ، لمطابقته
لما في أذهان الفلاسفة ، وهو باطل قطعا ، بل المعتبر في صحة الحكم
مطابقته لما في نفس الأمر ، وهو المراد بالواقع والخارج ، أي خارج ذات المدرك
والمخبر. ومعناه ما يفهم من قولنا ، هذا الأمر كذا في نفسه ، أو ليس كذا أي في حد
ذاته ، وبالنظر إليه مع قطع النظر عن إدراك المدرك ، وإخبار المخبر. على أن المراد
بالأمر الشأن والشيء ، وبالنفس الذات.
فإن قيل : كيف
يتصور هذا فيما لا ذات له ، ولا شيئية في الأعيان كالمعدومات سيما الممتنعات.
فالجواب إجمالا :
أنا نعلم قطعا أن قولنا : اجتماع الضدين مستحيل مطابق لما في نفس الأمر. وقولنا :
إنه ممكن غير مطابق ، وإن لم يعلم كيفية
__________________
تلك المطابقة
بكنهها ، ولم يتمكن من تلخيص العبارة فيها. وتفصيلا : أن المطابقة
إضافة يكفيها تحقق المضافين بحسب العقل ، ولا خفاء في أن العقل عند ملاحظة
المعنيين ، والمقايسة بينهما سواء كانا من الموجودات أو المعدومات ، نجد بينهما
بحسب كل زمان نسبة إيجابية أو سلبية تقتضيها الضرورة أو البرهان ، فتلك النسبة من
حيث إنها نتيجة الضرورة أو البرهان بالنظر إلى نفس ذلك المعقول من غير خصوصية
المدرك والمخبر ، هي المراد بالواقع وما في نفس الأمر ، وبالخارج أيضا عند
من يجعله أعم مما في الأعيان على ما بينا ، فصحة هذه النسبة تكون بمعنى أنها
الواقع وما في نفس الأمر ، وصحة النسبة المعقولة ، أو الملفوظة من زيد أو عمرو أو
غيرهما بين ذينك المعنيين ، يكون بمعنى أنها مطابقة لتلك النسبة الواقعة ، أي على
وفقها في الإيجاب والسلب ، ولما لم تتصور للنسبة المسماة بالواقع ، ومما في نفس
الأمر ، سيما فيما بين المعدومات حصول إلا بحسب التعقل ، وكان عندهم أن جميع صور
الكائنات وأحكام الموجودات والمعدومات مرتسمة في جوهر مجرد أزلي يسمى بالعقل الفعال ، فسر بعضهم ما في نفس الأمر بما في
العقل الفعال ، ويستدل على وجوده بأن : الأحكام مع اشتراكها في الثبوت
الذهني ، منها ما هو مطابق لما في نفس الأمر كالحكم بأن الواحد نصف الاثنين ،
ومنها ما هو غير مطابق كالحكم بنقيض ذلك. فللأول متعلق خارج عن الذهن يطابقه ما في
الذهن ، ولأن من الأحكام ما هو أزلي ، لا يلحقه تغير أصلا ولا خروج من قوة إلى فعل ، ولا يتعلق
بوضع أو زمان أو مكان ، مع أن المطابقة لما في نفس الأمر في الكل معنى واحد ، لزم
أن يكون ذلك المتعلق الخارجي مرتسما في مجرد أزلي مشتمل على الكل بالفعل ،
__________________
وليس هو الواجب
لامتناع اشتماله على الكثرة ، ولا النفس لامتناع اشتمالها على الكل بالفعل ، فتعين
العقل الفعال . ثم قال : وهو الذي عبر عنه في القرآن المجيد باللوح المحفوظ والكتاب المبين ، المشتمل على كل رطب ويابس ، وأنت خبير
بأن ما ذكره مع ضعف بعض مقدماته مخالف لصريح قوله تعالى :
(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ) الآية.
فليته سكت عن
التطبيق ، ثم القول بأن المراد بما في نفس الأمر ، ما في العقل الفعال باطل قطعا ،
لأن كل أحد من العقلاء يعرف أن قولنا : الواحد نصف الاثنين مطابق لما نفس الأمر ،
مع أنه لم يتصور العقل الفعال أصلا ، فضلا عن اعتقاد ثبوته ، وارتسامه بصور
الكائنات ، بل مع أنه ينكر ثبوته ، ويعتقد انتفاءه ، على ما هو رأي المتكلمين ،
وكان المراد أن ما في نفس الأمر على وجه يعم الكل ، ولا يحتمل النقيض أصلا ، هو ما
في العقل الفعال وإن تغايرا بحسب المفهوم ، وقد يقال : لو أريد بما في نفس الأمر
في علم العقل الفعال ، امتنع اعتبار المطابقة لما في نفس الأمر في علم العقل
الفعال لعدم الاثنينية ، وفي العلم السابق عليه ، ولو بالذات ، كعلم الواجب
لامتناع مطابقة الشيء لما لا تحقق له معه ، وفي العلم بالجزئيات ، مثل هذا الحرف ،
وقيام زيد في هذا الوقت لامتناع ارتسامها في العقل ويمكن الجواب عن الأول : بأن
صحة الحكم الذي في نفس الأمر لا يكون لكونه مطابقا لما في نفس الأمر بل عينه.
__________________
وعن الثاني : بعد
تسليم امتناع مطابقة الشيء مع ما هو متأخر عنه بالذات ، بأن اعتبار المطابقة ، إنما يكون في العلم الذي هو بارتسام
الصورة ، ولا كذلك علم الواجب. على أنهم لا يثبتون له أولا إلا تعقل ذاته ، وهو
عين ذاته.
وعن الثالث بأن
ارتسام الجزئي في العقل على الوجه الكلي كاف في المطابقة.
__________________
الفصل الثاني
الماهية وفيه أربعة مباحث
١ ـ في التعريف وما يتعلق به.
٢ ـ تقسيم الماهية باعتبار ثبوت العوارض
أو نفيها.
٣ ـ الماهية بسيطة ومركبة.
٤ ـ الماهيات مجعولة خلافا لجمهور
الفلاسفة.
(قال : الفصل الثاني : في الماهية وفيه مباحث) :
المبحث الأول
تعريف الماهية وما يتعلق به
(المبحث الأول : ماهية الشيء ما به يجاب عن السؤال بما هو ويفسره بما به الشيء هو هو ، ولا ينتقض بالفاعل إذ به وجود
الشيء لا هو ، وهي باعتبار التحقق تسمى ذاتا وحقيقة ، وباعتبار التشخص هوية).
وهي لفظة مشتقة
عما هو ولذا قالوا : ماهية الشيء ما به يجاب عن السؤال بما هو كما
أن الكمية ما به يجاب عن السؤال بكم هو ، ولا خفاء في أن المراد بما هو الذي تطلب
الحقيقة دون الوصف ، أو شرح الاسم وتركوا التقييد اعتمادا على أنه المتعارف ، واحترازا عن ذكر الحقيقة في تفسير الماهية ، ومنهم من صرح بالقيد فقال ، الذي يطلب به جميع ما به
الشيء هو هو ، وأنت خبير بأن ذلك بعينه معنى الماهية. وأن هذا التفسير لفظي فلا
دور وقد يفسر بما به الشيء هو هو ، ويشبه أن يكون هذا تحديدا ، إذ لا يتصور لها مفهوم سوى
هذا ، وزعم بعضهم أنه صادق على العلة الفاعلية ،
__________________
وليس كذلك ، لأن
الفاعل ما به يكون الشيء موجودا ، لا ما به يكون الشيء ذلك الشيء، فإنا نتصور
حقيقة المثلث ، وإن لم نعلم له وجودا ولا فاعلا.
وبالجملة فمعنى
هذا التفسير على أن نفس الماهية ليست بجعل الجاعل على ما سيجيء بيانه ،
ثم الماهية إذا اعتبرت مع التحقيق سميت ذاتا وحقيقة ، فلا يقال ذات العنقاء.
وحقيقته بل ماهيته أي ما يتعقل منه ، وإذا اعتبرت مع التشخص سميت هوية ، وقد يراد
بالهوية التشخص ، وقد يراد الوجود الخارجي ، وقد يراد ما صدقت عليه الماهية من
الأفراد.
تحقيق الماهية باعتبار تميزها عن العوارض
(قال : وتغاير عوارضها اللازمة والمفارقة ، وتتقابل بتقابلها فحيث يقال : الأربعة من حيث هي زوج ،
أو ليست بفرد يراد أن ذلك من مقتضيات الماهية ، وإلا فهي من حيث هي ، ليست إلا هي
، حتى لو قيل : الأربعة من حيث هي زوج ، أو ليست بزوج ، أو هي زوج أو فرد .
قلنا : ليست من
حيث هي هي بزوج ولا فرد. بمعنى أن شيئا منهما ليس نفسها ، ولا داخلا فيها ، ولا يصح هي من حيث هي زوج أو
ليست بفرد ، أو لا هذا ولا ذاك).
أي ماهية الشيء
وحقيقته مغاير جميع عوارضها اللازمة والمفارقة كالفردية للثلاثة ، والزوجية
للأربعة ، وكالمشي للحيوان ، والضحك للإنسان ، ضرورة
__________________
تغاير المعروض
والعارض ، ولهذا يصدق على المتنافيين كالإنسان الضاحك وغير الضاحك ، فهي في نفسها
ليست شيئا من العوارض ، ولو على طرفي النقيض ، كالوجود والعدم ، والحدوث والقدم ،
والوحدة والكثرة ، وإنما ينضم إليه هذه العوارض فيحصل بها موجودا ومعدوما ، حادثا وقديما ، واحدا وكثيرا إلى غير ذلك
، وتتقابل تلك الماهية ، أي يعرض لها تقابل الأفراد بتقابل الأوصاف ، فلا يصدق
الإنسان الواحد. على الإنسان الكثير وبالعكس ، ولا الجسم المتحرك على الجسم الساكن
، وعلى هذا القياس فحيث يحمل بعض العوارض على الماهية من حيث هي هي ، كما يقال
الأربعة من حيث هي هي زوج أو ليست بفرد ، يراد أن ذلك من عوارض الماهية ، ولوازمها
، ومقتضياتها من غير نظر إلى الوجود ، ولو لم يرد ذلك لم يصح إلا حمل الذاتيات ،
فالأربعة من حيث هي هي ليست إلا الأربعة ، ولهذا قالوا لو سئل بطرفي النقيض. فقيل
الأربعة من حيث هي ، هي زوج ، أو ليست بزوج.
كان الجواب الصحيح
: سلب كل شيء بتقديم حرف السلب على الحيثية مثل أن يقال : ليست من حيث هي بزوج ولا
فرد ولا غير ذلك من العوارض. بمعنى أن شيئا منها ليس نفسها ولا داخلا فيها ، ولا
يصح أن يقال هي من حيث هي زوج أو ليست بفرد، أو ليست هذا ولا ذاك بتقديم الحيثية ،
لدلالته على أن ذلك الثبوت أو السلب من ذاتياتها.
والتقدير أنها من
العوارض ، وأما إذا أريد بتقديم الحيثية أن ذلك العارض من مقتضيات الماهية صح في
مثل قولنا : الأربعة من حيث هي هي زوج ، أو ليست بفرد دون قولنا : الإنسان من حيث هو ضاحك أو
ليس بضاحك. فما ذكر في المواقف من أن تقديم الحيثية على السلب معناه اقتضاء السلب
، وهو باطل ليس على إطلاقه.
__________________
وقال الإمام : ولو
سئلنا بموجبتين هما في قوه النقيضين. كقولنا الإنسان إما واحدا أو كثيرا ، لم
يلزمنا أن نجيب عنه البتة ، بخلاف ما إذا سئل بطرفي النقيض ، لأن معنى السؤال
بالموجبتين. أنه إذا لم يتصف بهذا الموجب ، اتصف بذاك ، والاتصاف لا يستلزم
الاتحاد ، بل يستلزم التغاير ، وهذا ما قال في المواقف : لو سئلنا عن المعدولتين فقيل الإنسانية من حيث هي هي أو لا لم يلزمنا الجواب. ولو قلنا لا هذا ولا ذاك. أي ليست
من حيث هي ولا بتقديم الحديثية صح لما مر ، ولا يخفى ما في لفظ المعدولتين من العدول عن الطريق. فإن قولنا هذا ليست من المعدولة في شيء.
كذا قولنا : هذا
واحد أي لا كثير ، وكثير أي لا واحد وبصير أي لا أعمى ، وأعمى أي لا بصير ، لم يقل
أحد بكونها معدولة ، وفي قوله : تتقابل بتقابلها إشارة إلى جواب سؤال تقديره : إن
الإنسانية التي في زيد إن كانت هي التي في عمرو لزم أن يكون للشخص الواحد في آن
واحد في مكانين ، وموصوفا بوصفين متضادين ، وإن كانت غيرها لم تكن الماهية أمرا
واحدا مشتركا بين الأفراد ، وتقرير الجواب : أنها عينها بحسب الحقيقة غيرها بحسب
الهوية ، ولا يمتنع كون الواحد لا بالشخص في أمكنة متعددة ، ومتصفة بصفات متقابلة
، بل يجب في طبيعة الأعم أن يكون كذلك.
__________________
المبحث الثاني
تقسيم الماهية باعتبار ثبوت العوارض أو نفيها
(قال : المبحث الثاني : الماهية قد تؤخذ بشرط شيء وتسمى المخلوطة ، ولا خفاء في وجودها وقد تؤخذ
بشرط لا شيء وتسمى المجردة ، ولا توجد في الأذهان فضلا عن الأعيان ، وإن قيدت
اللواحق بالخارجية ، لأن الكون في الذهن مما يلحقها في نفسها ، وإن لم يتصوره
العقل ، ولم يجعله وصفا لها ، وما يقال من أن للعقل أن يلاحظها وحدها ، أو يعتبرها
مجردة عن جميع ما عداها ، حتى عن الكون في الذهن لا يقتضي تجردها ، وإن اكتفى
بمجرد اعتبار العقل جاز وجودها في الخارج أيضا بأن يعتبر المقرونة بالمشخصات كذلك).
مقارنة العوارض
وتسمى المخلوطة ، والماهية بشرط شيء ، ولا خفاء في وجودها كزيد وعمرو من
أفراد ماهية الإنسان ، وقد تؤخذ بشرط ألا يقارنها
__________________
شيء من العوارض
وتسمى المجردة والماهية بشرط لا ولا خفاء في امتناع وجودها في الأعيان ، لأن
الوجود من العوارض ، وكذا التشخص ، وفي الأذهان أيضا سواء أطلقت العوارض ، أو قيدت
بالخارجية ، لأن الكون في الذهن أيضا من العوارض التي لحقت الصورة الذهنية ، بحسب الخارج لا بمجرد اعتبار العقل ،
وجعله إياه وصفا لها ، وقيدا فيها. وزعم بعضهم أنه يجوز وجودها في الذهن ، إذا
قيدت العوارض الخارجية زعما منه أن الكون في الذهن من العوارض الذهنية ، وكأنه
أراد بالعوارض الخارجية ما يلحق الأمور الحاصلة في الأعيان ، وبالذهنية ما يلحق
الأمور القائمة بالأذهان ، وعلى هذا فكون الوجود في الخارج من العوارض الخارجية ،
محل نظر على سبقها في بحث الوجود ، فلا يتحقق امتناع وجود المجردة في الخارج أيضا ، وذكر بعضهم أنها موجودة في
الأذهان من غير تقييد للعوارض بالخارج وبينوه بوجهين :
أحدهما ، أن للعقل
أن يلاحظ الماهية وحدها من غير ملاحظة شيء معها. ورد : بأن مثل هذا لا يكون مأخوذا
بشرط لا. وهو ظاهر ، وثانيهما : أن للعقل أن يعتبر عدم كل شيء حتى عدم نفسه ،
فجاز أن يعتبر الماهية مجردة عن جميع العوارض حتى عن الكون في الذهن ، وإن كانت هي
في نفسها مقرونة بها. ورد بأن هذا لا يقتضي كونها مجردة. بل غاية الأمر ، أن
العقل قد تصورها كذلك تصورا غير مطابق .
__________________
فإن قيل : لا معنى
للمأخوذ بشرط (لا) سوى ما يعتبره العقل كذلك.
قلنا : فحينئذ لا
يمتنع وجوده في الخارج بأن يكون مقرونا بالعوارض والمشخصات ، ويعتبره العقل مجردا
عن ذلك ، فصار الحاصل : أنه إن أريد بالمجرد ما لا يكون في نفسه مقرونا بشيء من
العوارض مطلقا ، أو العوارض الخارجية امتنع وجوده في الخارج ، وفي الذهن جميعا ،
وإن أريد ما يعتبره العقل كذلك ، جاز وجوده فيهما.
فإن قيل : فكيف
يصح على الأول الحكم بامتناع الوجود في الذهن؟
قلنا : هي شبهة
المجهول المطلق وقد سبقت.
ما نقل عن أفلاطون يفيد ظاهره وجود الماهية
(قال : وما نسب إلى أفلاطون من المثل ، ليس قولا بوجود المجردة ، بل بوجود الأنواع في علم الله تعالى . أو بأن لكل نوع جوهرا مجردا يدبر أمره بمنزلة النفس للبدن).
قد نقل عن
أفلاطون. ما يشعر بوجود الماهية المجردة عن اللواحق. وهو أنه يوجد في الخارج لكل
نوع ، فرد مجرد أزلي أبدي ، قابل للمتقابلات. أما التجرد وقبول المتقابلات ، فليصح
كونه جزءا من الأشخاص المتصفة بالأوصاف المتقابلة.
وأما الأزلية
والأبدية فلما سيأتي من أن كل مجرد أزلي ، وكل أزلي أبدي ،
__________________
ولما كان هذا ظاهر
البطلان. بناء على أن القابل للمتقابلات ، والجزء من الأشخاص يتصف بالعوارض لا
محالة ، وأنه هو الماهية لا بشرط شيء لا الماهية بشرط لا شيء ، وأن الوجود من
العوارض.
فالقول بوجود
المجردة تناقض. اللهم إلا أن تقيد العوارض بغير الوجود ، أو يجعل الوجود نفس
الماهية.
قال الفارابي في كتاب الجمع بين رأي أفلاطون وأرسطو أنه إشارة إلى أن
للموجودات صورا في علم الله تعالى باقية لا تتبدل ولا تتغير. وقال صاحب الإشراق وغيره ، أنه إشارة إلى ما عليه الحكماء المتألهون ، عن أن
لكل نوع من الأفلاك والكواكب والبسائط العنصرية ومركباتها جوهرا مجردا من عالم العقول يدبر أمره ، حتى إن الذي لنوع النار هو الذي يحفظها وينورها ، ويجذب
الدهن والشمع إليها ، ويسمونه رب النوع ، ويعبر عنه في لسان الشرع ، بملك الجبال ،
وملك البحار ونحو ذلك. ومع الاعتراف بكونه جزئيا يقولون. إنه كلي ذلك النوع ،
بمعنى أن نسبة فيضه إلى جميع أشخاصه على السواء ، لا بمعنى أنه مشترك بينها ، حتى
يلزم أن تكون إنسانية مجردة ، موجودة في الأعيان مشتركة بين جميع الأفراد محققة في
المواد ، فيكون هناك إنسان محسوس فاسد ، آخر معقول مجرد دائم ، لا يتغير أبدا. ثم
هذا غير المثل المعلقة التي يسمونها عالم الأشباح المجردة ، فإنها لا تكون من
الجواهر المجردة ، بل كالواسطة بين المحسوس والمعقول ، ولا تختص بأنواع
__________________
الأجسام. بل يكون
لكل شخص من الجواهر والأعراض على ما سيجيء. صرح بذلك صاحب الاشراق.
فقال : والصور
المعلقة ليست مثل أفلاطون. لأن مثل أفلاطون نورية. أي من عالم العقل ، وهذه مثل
مغلقة من عالم الأشباح المجردة منها ظلمانية ، ومنها مستنيرة ، وذكر أن لكل نوع من
الفلكيات ، والعنصريات التي في عالم المثل أيضا ، رب نوع من عالم العقول ، وأن رب
النوع إنما يكون للأنواع الجسمانية المستقلة ، وتدبير الأعراض والأجزاء مفوض إلى
رب النوع ، الذي هو محلها من الأجسام. مثلا في عالم العقل. جوهر مجرد له هيئات
نورية ، إذا وقع ظله في هذا العالم يكون منه المسك مع رائحته ، أو السكر مع طعمه ،
أو الإنسان مع اختلاف أعضائه.
القسم الثالث
لا يعتبر فيه خلط
ولا تجريد
(قال : وقد تؤخذ لا بشرط شيء وهي أعم من المخلوط ، فتوجد لكونها نفسها في الخارج لا
جزءا منها ، إذ لا تمايز في الخارج ، فضلا عن الجزئية ، وإنما ذلك في الذهن.
فإن قيل : المأخوذ
لا بشرط شيء كلي طبيعي ، فيمتنع وجوده العيني ، ضرورة استلزامه التشخص المنافي
للكلية.
قلنا : لا ، بل
الكلي الطبيعي هو المأخوذ ، بشرط كونه معروضا للكلية ، وما يقال من أنه موجود.
فمعناه أن معروضه الذي هو المأخوذ لا بشرط شيء
__________________
موجود ، وذلك عند
عروض التشخص ، وحاصلها أن ما صدق هو عليه موجود).
لا خفاء في تباين
المخلوطة والمجردة ، وأما المطلقة أعني المأخوذة لا بشرط شيء فأعم
منهما لصدقه عليهما ضرورة صدق المطلق على المقيد.
فإن قيل : المشروط
بالشيء واللامشروط به متنافيان ، فكيف يتصادقان؟.
قلنا : التنافي
إنما هو بحسب المفهوم ، بمعنى أن هذا المفهوم لا يكون ذاك ، وهو لا ينافي الاجتماع
في الصدق ، كالإنسان المشروط بالنطق ، والحيوان اللامشروط به ، وإنما التنافي في
الصدق بين المشروط بالشيء ، والمشروط بعدمه ، كالمخلوطة والمجردة ، ثم لا نزاع في
أن الماهية لا بشرط شيء موجودة في الخارج ، إلا أن المشهور أن ذلك مبني على كونها
جزءا من المخلوطة الموجودة في الخارج ، وليس بمستقيم لأن الموجود من الإنسان مثلا
إنما هو زيد وعمرو وغيرهما من الأفراد ، وليس في الخارج إنسان مطلق ، وآخر مركب
منه ، ومن الخصوصية هو الشخص ، وإلا لما صدق المطلق عليه ضرورة امتناع صدق الجزء الخارجي المغاير ، بحسب
الوجود للكل ، وإنما التغاير والتمايز بين المطلق والمقيد في الذهن دون الخارج.
فلذا قلنا : إن المطلق موجود في الخارج لكونه نفس المقيد ومحمولا عليه.
__________________
فإن قيل : المأخوذ
لا بشرط شيء يمتنع أن يوجد في الخارج لأنه كلي طبيعي ، ولا شيء من
الكلي بموجود في الخارج ، لأن الموجود في الخارج يستلزم التشخص المنافي للكلية ،
وتنافي اللوازم دليل على تنافي الملزومات.
قلنا : لا نسلم أن
مجرد المأخوذ لا بشرط شيء كلي طبيعي ، بل مع اعتبار كونه معروضا للكلية ، والمأخوذ
لا بشرط شيء أعم من أن يعتبر مع هذا العارض أو لا يعتبر ، فلا يمتنع وجوده.
فإن قيل : فينبغي
أن لا يكون الكلي الطبيعي موجودا في الخارج ، لأن كلية العارضية تنافي الوجود
الخارجي المستلزم للتشخص ، وقد اشتهر فيما بينهم. أن الكلي الطبيعي موجود في
الخارج.
قلنا : معناه أن
معروض الكلي الطبيعي وهو المأخوذ لا بشرط شيء موجود في الخارج ، ووجوده الخارجي
إنما يتحقق عند عروض التشخص ، فيصير الحاصل أن ما صدق عليه الكلي الطبيعي ، وهو
المخلوط موجود في الخارج ، وأما المأخوذ مع عارض الكلية ، فلا يوجد في الخارج ،
كالمجموع المركب من المعروض والعارض والمسمى بالكلي العقلي.
تقسيم الماهية باعتبار وجود الشرطية أو عدمها
(قال : وذكر ابن سينا : أن الماهية قد تؤخذ بشرط لا شيء بمعنى أن
__________________
يزيد عليها كل ما
يقارنها فتكون مادة للمجموع متقدمة عليه في الوجودين ، ممتنعة الحمل عليه ضرورة
لزوم اتحاد الموضوع ، والمحمول في الوجود ، وقد تؤخذ لا بهذا الشرط بل مع تجويز أن يقارنها غيرها ، وأن لا يقارنها ، وحينئذ إن
كانت مبهمة محتملة للقولية على مختلفات الحقائق غير متحصلة بنفسها ، بل بما ينضاف
إليها ، فتجعلها أحد تلك المختلفات فجنس ، والمنضاف فصل ، وإن كانت متحصلة بنفسها
، أو بما انضاف إليها فنوع ، فالحيوان بشرط أن لا يدخل فيه الناطق ، مادة للإنسان
جزء له غير محمول عليه ، وبشرط أن يدخل نوع وهو الإنسان نفسه ، ولا بشرط أحدهما جنس له محمول عليه ـ فلا يكون جزءا له ، وإنما يقال له الجزء لما
يقع جزءا من حده ، ضرورة أنه لا بد للعقل من ملاحظته في تحصيل صورة الإنسان ، وأما
في الخارج فمتأخر ، ضرورة أنه ما لم يوجد الإنسان لم يعقل له شيء يعمه وغيره).
ما ذكرنا من معنى
الماهية بشرط شيء وبشرط لا شيء ، ولا بالشرط هو المشهور فيما بين المتأخرين ، وذكر
ابن سينا أن الماهية قد تؤخذ لا شيء بأن يتصور معناه. بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده ،
ويكون كل بشرط ما يقارنه زائدا عليه ، ولا يكون المعنى الأول مقولا على ذلك
المجموع حال المقارنة جزءا منه مادة له ، متقدما عليه في الوجود
الذهني ، والخارجي ضرورة امتناع تحقق الكل بدون الجزء ويمتنع حمله على المحمول لانتفاء شرط
__________________
الحمل ، وهو
الاتحاد في الوجود ، وقد يوجد لا بشرط أن يكون ذلك المعنى وحده ، بل مع تجويز أن
يقارنه غيره ، وأن لا يقارنه. ويكون المعنى الأول مقولا على المجموع حال المقارنة
، والمأخوذ على هذا الوجه ، قد يكون غير متحصل بنفسه ، بل يكون مبهما محتملا
للمقولية على أشياء مختلفة الحقائق وإنما يتحصل بما ينضاف إليه ، فيتخصص به ويصير
هو بعينه أحد تلك الأشياء فيكون جنسا ، والمنضاف الذي قومه ، وجعله أحد الأشياء المختلفة الحقائق فصلا ، وقد يكون
متحصلا بنفسه كما في الأنواع البسيطة ، أو بما انضاف إليه فجعله أحد الأشياء ، كما
في الأنواع الداخلة تحت الجنس وهو نوع. مثلا الحيوان إذا أخذ بشرط أن لا يكون معه شيء وإن اقترن به ناطق صار
المجموع مركبا من الحيوان والناطق ، ولا يقال إنه حيوان كان مادة ، وإذا أخذ بشرط
أن يكون معه الناطق متخصصا أو متحصلا به كان نوعا ، وإذا أخذ بشرط أن
يكون معه شيء بل من حيث يحتمل أن يكون إنسانا أو فرسا ، وإن تخصص بالناطق
يحصل إنسانا ، ويقال إنه حيوان كان جنسا. فالحيوان الأول جزء الإنسان متقدم
عليه في الوجوديين. والثاني نفس الانسان. والثالث جنس له محمول عليه فلا يكون جزءا
له لأن الجزء لا يحمل على الكل بالمواطأة لما مر وإنما يقال للجنس والفصل إنه جزء
من النوع ، لأن كلا منهما يقع جزءا من حده ، ضرورة أنه لا بد للعقل من ملاحظتهما
في تحصيل صورة
__________________
مطابقة للنوع
الداخل تحت الجنس ، فبهذا الاعتبار يكون متقدما على النوع في العقل بالطبع ، وأما
بحسب الخارج فيكون متأخرا ، لأنه ما لم يوجد الإنسان مثلا في الخارج ، لم يعقل له
شيء يعمه وغيره ، وشيء يخصه ويحصله ويصيره هو هو بعينه ، هذا ما ذكره أبو علي في الشفاء ولخصه المحقق في شرح الإشارات وفيه مواضع بحث :
١ ـ أن المفهوم من المأخوذ بشرط أن يكون وحده ، هو أن لا يقارنه شيء أصلا
زائدا كان أو غير زائد ، وحينئذ يكون القول بكونه جزءا أو منضما إلى ما هو زائد
عليه تناقضا. إلا أن المراد هو أن لا يدخل فيه غيره على ما صرح به أبو علي في
بيانه حيث قال: أخذنا الجسم جوهرا ذا طول وعرض وعمق من جهة ما له هذا ، بشرط أنه
ليس داخلا فيه معنى غير هذا ، بل بحيث لو انضم إليه معنى آخر من حس أو اغتداء كان
خارجا عنه.
٢ ـ أنه جعل غير المبهم من أقسام المأخوذ بلا شرط شيء وصرح آخرا بأنه
مأخوذ بشرط شيء ، ومبناه على ما مر من كون الأول أعم من الثاني.
٣ ـ أن النوع هو مجموع الجنس والفصل ، فجعل عبارة عن المتحصل بما انضاف
إليه والمأخوذ بشرط شيء تسامح ، مبني على أن الجنس والفصل والنوع واحد بالذات.
وحقيقة الكلام : أن المأخوذ لا بشرط شيء إذا اعتبر بحسب التغاير بينه وبين ما
يقارنه من جهة ، والاتحاد من جهة كان ذاتيا
__________________
محمولا ، وإذا
اعتبر بحسب محض الاتحاد كان نوعا ، وهو المراد بالمأخوذ بشرط شيء.
٤ ـ أنه كما أن الجنس يحتمل أن يكون أحد الأنواع ، فكذلك النوع يحتمل
أن يكون أحد الأصناف أو الأشخاص ، فكيف جعل الأول مبهما غير متحصل ، والثاني
متحصلا غير مبهم؟.
والجواب : أن
العبرة عندهم بالماهيات والحقائق ، فالمراد الإبهام ، وعدمه بالقياس إليها.
٥ ـ أن المادة إذا كانت من الأجزاء الخارجية ، فمن أين يلزم تقدمها في
الوجود العقلي؟ والجواب : أن ذلك من جهة أن تصور النوع يتوقف على تصور الجنس
والفصل ، ومعروض الجنسية والجزئية واحد ، هو الماهية الحيوانية ، وإنما التغاير
بحسب الاعتبار ، حيث أخذت في الأول بشرط لا. وفي الثاني لا بشرط.
وقد يقال : إن هذه
المعاني إنما اعتبرت في الصور العقلية ، من المفهومات الكلية ، فتكون المادة من
المواد العقلية ، وتقدمها بالوجود العقلي ضروري كتقدم المادة الخارجية بالوجود
الخارجي ، وأما التقدم بالوجود الخارجي فإنما هو بحسب المبدأ ، فإن المواد العقلية
مأخوذة من المبادي الخارجية ، كالحيوان من البدن ، والناطق من النفس ، فكما أن
الحيوان المأخوذ مادة عقلية. يتقدم الإنسان في الوجود العقلي كذلك ، مبدؤه الذي هو
البدن يتقدمه في الوجود الخارجي ، حتى لو لم تكن المادة مأخوذة من مبدأ خارجي كاللون
للسواد لم يكن له تقدم إلا في العقل ، واعلم أن الحكيم المحقق مع مبالغته : في أن المأخوذ بشرط أن يكون وحده هو الجزء الموجود في الخارج ، وأن المأخوذ لا بشرط شيء هو المحمول ،
__________________
وليس بجزء أصلا ،
وإنما يقال له جزء الماهية بالمجاز ، لما أنه يشبه الجزء من جهة أن اللفظ الدال
عليه يقع جزءا من حدها ، أورد هذا الكلام في كتاب التجريد على وجه يشهد بأنه ليس من تصانيفه ، وذلك أنه قال : قد تؤخذ الماهية محذوفا عنها ما عداها ، بحيث لو انضم
إليها شيء لكان زائدا عليها ، ولا يكون هو مقولا على ذلك المجموع الحاصل منها ، ومن الشيء المنضم
إليها ، والمأخوذ على هذا الوجه هو الماهية بشرط لا شيء ، ولا توجد إلا في الأذهان
وقد توجد الماهية لا بشرط شيء وهو كلي طبيعي موجود في الخارج ، هو جزء من الأشخاص
، وصادق على المجموع الحاصل منه ، ومما انضاف إليه ، وهذا خبط ظاهر وخلط لما ذكره
في شرح الإشارات بما اشتهر بين المتأخرين ، وفيه شهادة صادقة بما رمى به
التجريد ، من أنه ليس من تصانيفه مع جلالة قدره ، عن أن ينسب إلى غيره.
__________________
المبحث الثالث
الماهية بسيطة ومركبة
(قال : المبحث الثالث : الضرورة قاضية بوجود الماهية المركبة فلا بد من انتهائها إلى البسيطة) .
الماهية : إما بسيطة لا جزء لها أصلا كالواجب والنقطة والوحدة والوجود وإما مركبة
لها أجزاء كالجسم والإنسان والسواد ، ووجود المركبة معلوم بالضرورة ، ويلزم منه
وجود البسيطة ، إما مطلقا فلأن كل عدد ولو غير متناه ، فالواحد موجود فيه بالضرورة
، وإما في المركب العقلي ، فلأنه لو لم ينته إلى البسيط امتنع تعقل الماهية
لامتناع إحاطة العقل بما لا يتناهى ، وكلاهما ضعيف.
أما الأول : فلأنه مغالطة من باب اشتباه المعروض بالعارض ، فإن وجود الواحد بمعنى ما
لا جزء له أصلا ، إنما يلزم في العدد الذي هو العارض وإما في معروض العدد فلا يلزم
إلا معروض الواحد ، الذي هو أحد أجزائه ، فعلى
__________________
تقدير عدم
الانتهاء إلى البسيط تكون الماهية مركبة من مركبات غير متناهية. مرارا غير متناهية
، ويلزمه وجود المركب الواحد بالضرورة وهو لا يثبت المدعي.
أما الثاني : فلأن معنى المركب العقلي أن لا يكون تمايز أجزائه إلا بحسب
العقل ، وهذا لا يستلزم كونه معقولا بأجزائه ، فالأولى التمسك في إثبات البسيط
أيضا بالضرورة كالوجود.
المشاركة دليل تركيب الماهية
(قال : ويدل على التركيب الاشتراك في ذاتي مع الاختلاف في ذاتي أو شيء من لوازم
الماهية لا مجرد الاشتراك أو الاختلاف في ذاتي )
يعني إذا اشتركت
الماهيات في ذاتي مع الاختلاف في ذاتي ، دل ذلك على تركيب كل من الماهيتين مما به
الاشتراك وما به الاختلاف ، وكذا إذا اشتركا في ذاتي مع الاختلاف في عارض هو من
لوازم الماهية لأن ذلك الذاتي المشترك لا يكون تمام ماهيتهما ، وإلا امتنع
الاختلاف في لوازمها ، فيكون جزءا وفيه المطلوب.
فإن قيل : إن أريد بالذاتي جزء الماهية كان هذا لغوا من الكلام ،
__________________
بمنزلة أن يقال :
كل ما له جزء فهو مركب ، مع الاستغناء عن باقي المقدمات ، وإن أريد ما ليس بعرضي
جاز أن يكون الذاتي المشترك ، تمام إحدى الماهيتين ، وجزء الأخرى الممتازة عنها
بالذاتي الآخر ، أو بلوازم الماهية ، فلا يلزم تركب الماهيتين جميعا ، كالجوهر مع
الجسم المتميز عنه بالذاتي ، ولوازم الماهية الجسمية.
قلنا : المراد
لزوم تركب الماهية الممتازة بالذاتي أو بلوازم الماهية ، فإن كانت كلتاهما كذلك
كما في الإنسان والفرس فكلتاهما ، وإن كانت إحداهما كما ذكرتم فإحداهما ، وأما
مجرد الاشتراك في ذاتي مع الاختلاف في العوارض الثبوتية أو السلبية ، أو مجرد
الاختلاف بالذاتي مع الاشتراك في العوارض ، فلا يستلزم التركيب لجواز أن يكون
الذاتي المشترك تمام ماهيتهما ، ويستند اختلاف العوارض إلى أسباب غير الماهية ،
كما في أصناف الإنسان وأفراده ، وأن يكون الذاتيات المختلفات تمام الماهيتين
البسيطتين المشتركتين في العوارض كالوحدة ، والنقطة في العرضية والإمكان ونحو ذلك.
(قال : وقد تعتبر التركب والبساطة متضايفين فيكون بين البسيطين عموم من وجه ، وبين المركبين
مساواة إن لم يشترط في الإضافة في اعتبار الإضافة وعموم مطلقا إن اشترط.
وما قيل : إن
البسيط الحقيقي أخص مطلقا من الإضافي والمركب بالعكس فاسد).
البساطة والتركيب
بالتفسير السابق وصفان متنافيان لا يصدقان على شيء أصلا ، ولا يرتفعان لكونهما في
قوة النقيضين ، وقد يؤخذان متضايفين ، بأن يؤخذ البسيط بسيطا ، بالقياس
إلى ما تركب منه ، بمعنى كونه
__________________
جزءا منه ،
والمركب مركبا بالقياس إلى جزئه ، بمعنى كونه كلا له ، وهذا المعنى غير معنى كونه
ذا جزء في الجملة ، وهو معنى المركب الحقيقي ، وإن كان في نفسه من قبيل الإضافة ،
وبين البسيط الحقيقي والبسيط الإضافي عموم من وجه ، لتصادقهما في بسيط حقيقي ، هو
جزء من مركب . كالوحدة للعدد ، وصدق الحقيقي بدون الإضافي في بسيط حقيقي لا يتركب منه
شيء ، كالواجب وبالعكس في مركب وقع جزءا المركب كالجسم للحيوان وبين المركب
الحقيقي والإضافي مساواة إن لم يشترط في الإضافي اعتبار الإضافة لأن كل مركب حقيقي ،
فهو مركب بالقياس إلى جزئه ، وبالعكس وعموم مطلقا إن اشترط ذلك ، لأن مركب بالقياس إلى جزئه فهو مركب حقيقي ، ولا نعكس
لجواز أن لا تعتبر في الحقيقة الاضافة إلى جزئه فيكون أعم مطلقا من الإضافي ، وذكر
في التجريد ، أن البسيط الحقيقي أخص مطلقا من الإضافي .
أما الأول : فلأن كل بسيط حقيقي فهو بسيط بالقياس إلى المركب منه ، ولا ينعكس لجواز
أن يكون البسيط الإضافي مركبا حقيقا ، كالجسم للحيوان والجدار للبيت.
وأما الثاني : فلأن كل مركب إضافي مركب حقيقي ، وليس كل مركب حقيقي مركبا إضافيا
لجواز أن لا يعتبر فيه الإضافة ، وفيه نظر ، لأن البسيط الحقيقي ، قد لا يكون
بسيطا إضافيا ، بأن لا يعتبر جزءا من شيء أصلا .
فالقول بأن المركب
الحقيقي قد لا يكون إضافيا مع أن له جزءا البتة ،
__________________
والبسيط الحقيقي
يكون إضافيا البتة ، مع أنه لا يلزم أن يكون جزءا من شيء أصلا فضلا عن اعتبار ذلك باطل قطعا.
يشترط في المركبة تقدم أجزائها ذهنا وخارجا
(قال : ولا بد من تقدم الجزء ذهنا ، وخارجا ، فيلزمه الاستغناء عن الوسط في التصديق ، والواسطة في الثبوت ، إلا أن الخاصة الأولى حقيقية ،
والأخريان إضافيتان).
يعني بأن جزء
الشيء يتقدمه وجودا وعدما في الذهن الخارج ، أما الوجود. فبالنسبة إلى كل جزء ،
وأما العدم فبالنسبة إلى شيء ما من الأجزاء بمعنى أن وجود الإنسان مثلا في العقل ،
يفتقر إلى وجود الحيوان والناطق ، وعدمه إلى عدم أحدهما ، ووجود البيت في الخارج ،
يفتقر إلى وجود الجدار والسقف ، وعدمه إلى عدم شيء منهما ويتفرع على الأول
الاستغناء عن الواسطة في التصديق ، بمعنى أن جزم العقل بثبوت الذاتي للماهية لا
يتوقف على ملاحظة وسط واكتساب بالبرهان ، بل يجب إثباته لها. ويمتنع سلبه عنها
بمجرد تصورها. وعلى الثاني : الاستغناء عن الوسط في الثبوت ، بمعنى أن حصول الجزء
للمركب ، كالجدار للبيت ، واللون للسواد لا يفتقر إلى سبب جديد ، فإن جاعل الجدار
هو جاعل البيت ، وجاعل اللون هو جاعل السواد ،
__________________
فظهر أن للجزء خواصا ثلاثا : ـ
الأولى : ـ التقدم في الذهن ، والخارج ، وهي خاصة حقيقية لا تصدق على شيء من
العوارض.
الثانية : الاستغناء عن الواسطة في التصديق ، بمعنى وجوب الثبوت ، وامتناع السلب بمجرد
إخطار الجزء والماهية بالبال ، بل بمجرد تصور الماهية وهذه خاصة إضافية لا حقيقية
، لصدقها على اللوازم البينة بالمعنى الأعم ، إن اشترط اخطارهما ، والأخص إن اكتفى
بتصور الماهية.
الثالثة :
الاستغناء عن الوسط في الثبوت ، وهي أيضا إضافية ، لصدقها على الأعراض الأولوية ،
أعني اللاحقة للشيء لذاته من غير واسطة ، سواء كان الجزم بثبوتها للموضوع ، محتاجا
إلى وسط كتساوي الزوايا الثلاث للقائمتين بالنسبة إلى المثلث ، فإنه لازم له لذاته
، ويفتقر بيانه إلى وسائط أو غير محتاج ، كالانقسام بالمتساويين للأربعة ، والبيض
بسطح الجسم الأبيض فالاستغناء عن الوسط يجعل القضية أولية ، والاستغناء عن الواسطة يجعل محمولها أوليا ، وبينهما
عموم من وجه ، لتصادقهما في انقسام الأربعة ، وبياض السطح ، وصدق الأولى بدون
الثانية في بياض الجسم ، وبالعكس في تساوي زوايا المثلث للقائمتين.
فإن قيل : إن أريد
بالخاصة الأولى التقدم في الوجودين جميعا على ما
__________________
ظاهر عبارة القوم
فباطل ، لأن الجزء الذهني كالجنس والفصل لا يتقدم في الوجود العيني ، وإلا امتنع
الحمل ، وإن أريد أن الجزء الذهني متقدم بالوجود الذهني والعيني على ما ذكر.
فالعلة الفاعلية للشيء متقدمة عليه في الخارج ، إن كانت علة له في الخارج. وفي
الذهن إن كانت في الذهن فهذه الخاصة أيضا ، تكون إضافية لا حقيقية.
قلنا : الظاهر أن
مرادهم الأول على ما صرح به الإمام ، ومبناه على ما تقرر عندهم من وجود الكلي
الطبيعي ، لكونه جزءا من الأشخاص ، وإذ قد بينا بطلان ذلك.
فالأولى :
ابتناؤها على ما ذكرنا من أن الجزء أي ما يعرض له الجزئية متقدم بالوجودين ، إما
بالوجود العيني ، فباعتبار كونه مادة لكونه مأخوذا بشرط لا.
وإما بالوجود
الذهني ، فباعتبار كونه جنسا أو فصلا لكونه مأخوذا لا بشرط ، فتكون الخاصة حقيقية غير صادقة على العلة
الفاعلية. غاية الأمر أنها لا تكون شاملة بناء على أن من الأجزاء ما لا تقدم له في
الخارج ، كلونية السواد ، أو في الذهن كالهيولى ، والصورة ، أو الأجزاء التي لا
تتجزأ إذا جوزنا تعقل حقيقة الجسم دون ذلك.
(قال : والتركيب قد يكون حقيقيا فيلزم احتياج بعض الأجزاء إلى البعض ، كصورة المركب المتقومة بأجزائه المادية ، وكالجنس الذي هو أمر
__________________
مبهم لا يتحصل
نوعا حقيقيا ، إلا بمقارنة الفصل. وهذا معنى عليته ، وإلا فلا تمايز في الخارج بين
الجنس والفصل ، بل النوع والشخص أيضا ، فزيد هو الإنسان والحيوان الناطق ، وإنما
التمايز في العقل من جهة أنه يحصل من الشيء صور متعددة باعتبارات مختلفة).
بأن يحصل من
اجتماع عدة أشياء حقيقة واحدة بالذات ، مختصة باللوازم والإشارات واحتياج بعض أجزائه إلى البعض ضروري للقطع بأنه لا يحصل من
الحجر الموضوع بجنب الإنسان حقيقة واحدة ، والاحتياج فيما بين الجزءين ، قد يكون
من جانب واحد كالمركب من البسائط العنصرية ، ومما يقوم بها عن الصورة المعدنية ،
أو النباتية ، أو الحيوانية. فإن الصورة تحتاج إلى تلك المواد من غير عكس ،
وكالمركب من الجنس والفصل ، فإن الجنس محتاج إلى الفصل من جهة أنه أمر مبهم ، لا
يتحصل معقولا مطابقا لما في الأعيان من الأنواع الحقيقية ، إلا إذا اقترن به فصل ،
لأنه الذي يحصل طبيعة الجنس ويقررها ، ويعينها ويقومها نوعا. وهذا معنى علية الفصل للجنس ، وحاصله. أنه الذي به
يتحصص الجنس ، أي يصير حصة حصة ولذا نقل الإمام عن أبي علي ، أن الفصل علة لحصة النوع من
الجنس ، وإن كان صريح عبارته ، أنه علة لطبيعة الجنس ، بمعنى أن الصورة الجنسية ليست متحصلة بنفسها ، بل مبهمة
محتملة لأن تقال على أشياء مختلفة الحقائق ، وإذا انضافت إليها الصورة الفعلية تحصلت ، وصارت بعينها أحد تلك الأشياء.
فالفصل بالحقيقة
علة لتحصلها بهذا المعنى ، وارتفاع إبهامها لحصولها في العقل ، لظهور أن المعنى الجنسي يعقل من غير فصل ، ولا
__________________
لحصولها في الخارج
، لأنه لا تمايز بينهما في الخارج ، وإلا امتنع حمل أحدهما على الآخر بالمواطأة ،
ومن البين أن ليس في السواد أمر محقق هو اللون ، وآخر هو قابضية البصر يجتمعان ،
فتحصل منهما السواد. بل التحقيق أن ليس في الخارج إلا الأشخاص ، وإنما الجنس
والفصل والنوع صور متمايزة عند العقل ، يحصلها من الشخص بحسب استعدادات تعرض للعقل
، واعتبارات يتعقلها من جزئيات أقل أو أكثر مختلفة في التباين والاشتراك ، فيدرك
من زيد تارة صورة شخصية بحيث لا يشاركه فيها غيره ، وأخرى صورة يشاركه فيها عمرو وبكر ،
وأخرى صورة يشاركه فيها الفرس وغيره ، وعلى هذا القياس.
فإن قيل : هذا
إنما هو في النوع البسيط كالسواد ، لظهور أن ليس في الخارج لونية ، وشيء آخر به
امتاز السواد عن سائر الألوان ، ولهذا لا يصح أن يقال : جعل لونا فجعل سوادا. بل
جعلاهما واحدا ، وأما في غيره ، فالذاتيات المتمايزة في العقل ، متمايزة في الخارج
، وليس جعلاهما واحدا كالحيوان. فإنه يشارك النبات في كونه جسما ، ويمتاز عنه
بالنفس الحيوانية ، وجعل الجسم غير جعل النفس ، حتى إذا زالت عنه النفس بقي ذلك
الجسم بعينه موجودا ، كالفرس الذي يموت ، وجسميته باقية ، ولهذا يصح أن يقال : جعل
جسما فجعل حيوانا.
قلنا : الجسم
المأخوذ على وجه كونه مادة ، غير المأخوذ على وجه كونه جنسا بالذاتي.
[ولا كلام في تميز
الأول عن الكل بالوجود الخارجي ، وإنما الكلام في الثاني ، لأنه الجزء المحمول
المسمى بالذاتي] . وقد سبق تحقيق ذلك.
والحاصل أن
الذاتيات المتمايزة بحسب العقل فقط ، قد يكون لها مبادي
__________________
متمايزة بحسب
الخارج كالحيوان من الجسم ، والنفس الحيوانية والإنسان من البدن ، والنفس الناطقة
، وقد لا يكون كالسواد من اللون ، وقابضية البصر ؛ وكالسطح من الكم ، وقابليته
القسمة في الطول والعرض جميعا ، وهو المسمى بالنوع البسيط ، ومن هاهنا جوز بعض
المحققين ، كون الفصل عدميا فإن المعنى الجنسي من الكم المتصل ، يتحصل بما له من
طول وعرض فقط ، فيكون سطحا ، وبما له طول فقط فيكون خطا.
(قال : وكالهيولى والصورة المفتقر كل منهما إلى الآخر باعتبار) .
يعني أن الاحتياج
فيما بين الجزءين ، قد يكون من الجانبين ، لكن لا باعتبار واحد ، وإلا يلزم الدور
، وذلك كالهيولى والصورة للجسم ، فإن تشخص الصورة يكون بالمادة المعينة ، ومن حيث
هي قابلة لتشخصها [وتشخص المادة بالصورة المطلقة ، ومن حيث هي فاعلة لتشخصها] وسيجيء بيان ذلك.
(قال : وقد يكون اعتباريا كالعسكر فلا يلزم).
بأن يكون هناك عدة
أمور يعتبرها العقل أمرا واحدا ، وإن لم يكن أمرا واحدا في الحقيقة. وربما يضع
بإزائه اسما ، كالعشرة من الآحاد ، والعسكر من الأفراد ، ولا يلزم فيه احتياج بعض
الأجزاء إلى البعض.
__________________
فإن قيل : إن أريد
عدم الاحتياج أصلا فباطل ، لأن احتياج الهيئة الاجتماعية إلى الأجزاء المادية لازم قطعا ، وإن أريد
الاحتياج فيما بين الأجزاء المادية ، فذلك ليس بلازم في المركب الحقيقي أيضا ،
كالبسائط العنصرية للمركبات المعدنية مثلا.
قلنا : المراد
الأول ، والصورة الاجتماعية في المركبات الاعتبارية محض اعتبار العقل ، لا تحقق
لها في الخارج ، إذ ليس من العسكر في الخارج إلا تلك الأفراد ، بخلاف المركبات
الحقيقية ، فإن هناك صورا تفيض على المواد في نفس الأمر ، وستعرفها. وأما في مثل
الترياق والسكنجبين فهل يحدث صورة جوهرية هي مبدأ الآثار ، أو هو مجرد المزاج
المخصوص الذي هو من قبيل الأعراض ، وأن يكون التركيب الحقيقي ، هل يكون من الجوهر والعرض ففيه تردد.
تقسيم أجزاء المركب إلى متداخلة ومتباينة
(قال : والأجزاء قد تتداخل بأن يكون بينها تصادق بالمساواة ، أو العموم مطلقا ، أو من وجه ، وقد تتباين متماثلة أو
متخالفة ، وجودية أو عدمية ، أو مختلطة أو حقيقية ، أو إضافية أو ممتزجة).
أجزاء المركب
تنقسم إل متداخلة ومتباينة أما المتداخلة ، فهي التي يكون
__________________
بينها تصادق في
الجملة ، إما على الوجه الكلي من الجانبين ، بأن يصدق كل من الجزءين على كل ما
يصدق عليه الآخر ، فيكونان متساويين كالمركب من المغتذي والنامي ، أو من جانب واحد
بأن يصدق أحدهما على كل ما يصدق عليه الآخر ، من غير عكس ، فيكون بينهما عموم
وخصوص مطلق ، كالمركب من الحيوان والناطق. وإما لا على الوجه الكلي بأن يصدق كل
منهما على بعض ما يصدق عليه الآخر ، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه كالمركب من
الحيوان والأبيض ، وأما المتباينة ، فإما متماثلة كما في العشرة من الآحاد ، وإما
متخالفة محسوسة ، كما في البلقية من السواد والبياض ، أو معقولة كما في الجسم من
الهيولي والصورة ، أو مختلفة كما في الإنسان من البدن المحسوس ، والنفس المعقولة.
وقد تقسم المتخالفة إلى ما تكون للشيء مع ما عرض له من الإضافة إلى الفاعل ،
كالعطاء لفائدة من المعطي ، أو إلى القابل كالفطوسة لتقعير في الأنف ، أو إلى الصورة كالأفطس الأنف فيه تقعير
، أو إلى الغاية كالخاتم لحلقة يتزين بها الأصبع ، وإلى ما يكون للشيء مع إضافة
إلى المعلول ، كالخالق والرازق ، وإلى ما لا يكون فيما بين العلة والمعلول وهو ظاهر ،
وباعتبار آخر : الأجزاء إما وجودية كالنفس والبدن للإنسان أو عدمية كسلب ضرورة
الوجود والعدم للإمكان ، أو مختلطة من الوجودي والعدمي كالسابقية ، وعدم المسبوقية
للأولية ، وأيضا إما حقيقة كما في الإنسان من النفس والبدن ، أو إضافية كما في
الأقرب من القرب. وزيادته ، أو ممتزجة بعضها حقيقي ، وبعضها إضافي كما في السرير
من الأجزاء الخشبية ، والترتيب النسبي .
__________________
المبحث الرابع
الماهيات مجعولة أم لا ..؟
(قال : المبحث الرابع : الماهيات مجعولة خلافا لجمهور الفلاسفة والمعتزلة مطلقا ، وللبعض في البسائط لنا وجوه.
الأول : أن علة الاحتياج هي الإمكان وهو صفة للماهية ، مركبة كانت أو
بسيطة بالنسبة إلى وجودها ، (والفرق بين مجموع الموجودات ووجود المجموع بحسب
الخارج غير معقول) .
الثاني : لا يعقل التأثير إلا في تقرر الماهية. بمعنى صيرورتها تلك الماهية في
الخارج ، ويلزم منه تقرر الكون ، وذلك لأن المعلول لو تقرر بكماله عند اقتناء الوجود لم
يكن للفاعل تأثير.
الثالث
:
تقرر الماهية ليس
بذاتها ، فيكون بالفاعل ، ورد الكل بأن مآلها الى مجهولية الوجود.
__________________
الرابع : المجهول إما الماهية أو الوجود أو اتصافها به أو انضمام الأجزاء ، والكل ماهية ، ورد بأنه الوجود الخاص لا ماهية الوجود).
بعد الاتفاق على
أن وجود الممكن بالفاعل ، اختلفوا في ماهيته ، فذهب المتكلمون إلى أنها بجعل
الجاعل مطلقا أي بسيطة كانت أو مركبة ، وذهب جمهور الفلاسفة والمعتزلة إلى أنها
ليست بجعل الجاعل مطلقا. بمعنى أن شيئا ليس بمجعول ، وذهب بعضهم إلى أن المركبات
المجعولة دون البسائط. استدل المتكلمون بوجوه :
الأول : أن كلا من
المركبة والبسيطة ممكن. لأن الكلام فيه. وكل ممكن محتاج إلى الفاعل لما سيأتي : من
أن علة الاحتياج هي الإمكان. ولما اعترض بأن الإمكان نسبة تقتضي الاثنينية ، فتنافى البساطة . أشار إلى الجواب. بأنه ليس نسبة بين أجزاء الماهية حتى
تختص بالمركبة ، بل بين الماهية ووجودها ، لكونه عبارة عن عدم ضرورة الوجود
والعدم.
فمع قطع النظر عن
الوجود ، لا يعقل تعقل عروض الإمكان للماهية بسيطة كانت أو مركبة ، ومعنى كونه
ذاتيا لها ، إنها في نفسها بحيث إذا نسبها العقل
__________________
إلى الوجود يعقل
بينهما نسبة هي الإمكان ، وهذا المعنى كاف في الاحتياج إلى الفاعل.
وقد يجاب : بأنه
لو لم تكن البسيطة مجعولة لم تكن المركبة مجعولة ، لأنه إذا تقرر في الخارج جميع
بسائط المركب حتى الجزء الصوري من غير جاعل ، تقرر المركب ضرورة . لا يقال : يجوز أن يكون لكل جزء تقرر ، ويتوقف تقرر
المركب على تقرر المجموع ، كما سبق في مجموع التصورات ، وتصور المجموع. لأنا نقول
الفرق بين مجموع التقررات ، وتقرر المجموع بحسب الخارج غير معقول ، وإنما ذلك بحسب
العقل ، بأن يتعلق بالأمور المتعددة تارة تصورات متعددة ، وتارة تصور واحد من غير
ملاحظة التفاصيل.
الثاني : أن
الفاعل لا بد أن يؤثر في الماهية ، ويجعلها تلك الماهية الخارج حتى يتحقق الوجود.
لأن ذات المعلول عند افنائها الوجود من الفاعل ، لا يجوز أن تكون حاصلة في الخارج
بكمالها. بل لا بد أن يبقى شيء منها يحصله الفاعل ، ولو هيئة اجتماعية ، وإلا لكان
المعلول متحققا. سواء تحقق الفاعل أو لا ، فلا يكون للفاعل تأثير فيه ، ولا له
احتياج إلى الفاعل.
الثالث : أنه لا
تقرر للماهية في الخارج بذاتها ، لما سبق في بحث العدم ، فيكون بالفاعل ضرورة ،
ولا معنى لمجعولية الماهية سوى هذا.
والجواب عن الأول
: أن معنى احتياج الممكن. أن وجوده ليس من ذاته ، بل من الفاعل.
وعن الثاني : أنه
لا يدل إلا على أن ماهية المعلول لا تكون حاصلة متحققة بدون الفاعل ، والحصول
والتحقق هو الوجود ، وهذا لا ينافي كونها متقررة في نفعها من غير احتياج لها وإلى الفاعل ولا تأثير له فيها.
__________________
وعن الثالث : إن
أريد بالتقرر التحقق والثبوت فهو الوجود ، وإن أريد كون الماهية في نفسها تلك الماهية
في الخارج ، فلم يسبق ما يدل على أن ذلك بالفاعل ، فالوجوه الثلاثة على تقدير
تمامها. لا تفيد إلا كون الوجود بالفاعل.
الرابع : انه لا
نزاع في أن للعلة جعلا وتأثيرا في الممكن ، فالمجعول. إما الماهية أو الوجود ، أو
اتصاف الماهية بالوجود ، أو انضمام لأجزاء بعضها إلى بعض في المركب خاصة ، وكل من
الأمور الأربعة ماهية من الماهيات ، فيكون المجعول هو الماهية.
والجواب : أن
النزاع في الماهيات التي هي حقائق الأشياء ، لا فيما صدقت هي عليه من الأفراد ،
فيجوز أن يكون المجعول ذلك الشخص الذي هو من أفراد ماهية الانسان مثلا ، أو الوجود
الخاص الذي هو من أفراد ماهية الوجود كذا الاتصاف والانضمام.
دليل المخالفين في مجعولية الماهية
(قال : قالوا لو كانت انسانية الإنسان بالفاعل لما كان انسانا عند عدمه ، لنا اللازم السلب والمحال العدول .
فإن قيل : معلوم
أن ليس هنا تأثير في ماهية الممكن ، وآخر في وجوده ،
__________________
وأن ليس لها تقرر
في الخارج بدون الفاعل لها ، فما وجه هذا الاختلاف .
أجيب : بأنه قد
يراد بالمجعولية الاحتياج إلى الفاعل وهي من لوازم الوجود كتناهي الجسم دون الماهية ، كزوجية الأربعة ، وقد يراد الاحتياج إلى
الغير ، فيكون من لوازم الماهية في المركب خاصة ، فمن قال : بالمجعولية مطلقا أراد عروضها للماهية في الجملة ، ومن نفاها أراد أن
الاحتياج إلى الفاعل ليس من عوارض الماهية ، ومن فصل أراد أن الاحتياج إلى الغير
من لوازم الماهية ، المركب دون البسيط ، وان اشتركا في احتياج الوجود إلى الفاعل).
احتج القائلون
بعدم مجعولية الماهية ، بأن كون الانسان إنسانا لو كان بالفاعل لارتفع بارتفاعه ،
فيلزم أن لا يكون الإنسان إنسانا على تقدير عدم الفاعل وهو محال.
والجواب : أنه إن
أريد أنه يلزم أن يكون الإنسان ليس بإنسان بطريق السلب ، ولا نسلم استحالته ، فإن
عند ارتفاع الفاعل يرتفع الوجود ، وتبقى الماهية معدومة ، فيكذب الايجاب ، فيصدق
السلب ، وإن أريد بطريق العدول ، بأن يتقرر الإنسان في نفسه بحسب الخارج ، ويكون
لا إنسانا فلا نسلم لزومه ، فإن عند ارتفاع الفاعل لا يبقى الإنسان حتى يصلح
موضوعا للإيجاب.
قال : فإن قيل :
يريد التنبيه على ما يصلح محلا للخلاف في هذه المسألة ، فإنه معلوم أن ليس للفاعل تأثير ،
وجعل بالنسبة إلى ماهية الممكن ، وآخر بالنسبة إلى وجوده ، حتى تكون الماهية
مجعولة ، كالوجود ، وأن ليس للماهية تقرر في الخارج ، بدون الفاعل ، حتى يكون
المجعول : هو الوجود فقط ، بل أثر
__________________
الفاعل مجعولية
الماهية ، بمعنى صيرورتها موجودة ، وما ذكره الإمام من أن المراد ، أن الماهية من
حيث هي هي ليست بمجعولة ، كما أنها ليست بموجودة ، ولا معدومة ولا واحدة ، ولا
كثيرة إلى غير ذلك من العوارض ، بمعنى أن شيئا منها ليس نفسها. ولا داخلا فيها ،
ليس مما يتصور فيه نزاع ، أو يتعلق بتخصيصه بالذكر فائدة ، والأقرب ما ذكره صاحب
المواقف ، وهو أن المجعولية قد يراد بها الاحتياج إلى الغير على ما يعم الجزء ، وكلاهما بالنسبة إلى الممكن من العوارض
، والعوارض منها ما يكون من لوازم الماهية ، كزوجية الأربعة. حتى لو تصورنا أربعة
ليست بزوج ، لم تكن أربعة ، ومنها ما يكون من لوازم الهوية ، كتناهي الجسم وحدوثه ، حتى لو تصورنا جسما ليس بمتناه أو حادث كان جسما ولا خفاء في
أن احتياج الممكن إلى الفاعل في المركب والبسيط جميعا من لوازم الهوية دون الماهية
، وأن الاحتياج إلى الغير من لوازم الماهية المركب دون البسيط ، إذ لا يعقل مركب
لا يحتاج إلى الجزء ، فمن قال بمجعولية الماهية مطلقا ، أي بسيطة كانت أو مركبة ،
أراد أن المجعولية تعرض للماهية في الجملة. أعني الماهية بشرط شيء ، وهي الماهية
المخلوطة ، ومرجعها إلى الهوية ، وإن لم تعرض للماهية من حيث هي ، ويحتمل أن
يراد أنه يعرض للماهية من حيث هي المجعولية في الجملة ، أي بمعنى الاحتياج إلى
الغير ، وإن لم تكن بمعنى الاحتياج إلى الفاعل ومن قال بعدم مجعولية الماهية أصلا ، أراد أن الاحتياج إلى الفاعل ليس من عوارض الماهية ، بل
من عوارض الهوية ، ومن فرق بين المركبة والبسيطة أراد أن الاحتياج إلى الغير من لوازم ماهية المركب دون البسيط ،
وإن اشتركا في الاحتياج إلى الفاعل بالنظر إلى الهوية ، هذا ولكن لم يتحقق نزاع في
المعنى.
__________________
الفصل الثالث
في لواحق الوجود والماهية وهو مناهج
الأول : في
التعين.
الثاني : في
الوجوب والامتناع والإمكان.
الثالث : في القدم
والحدوث.
الرابع : في
الوحدة والكثرة.
الخامس : في
العلية والمعلولية.
الفصل الثالث
لواحق الوجود والماهية
(قال : الفصل الثالث في لواحق الوجود والماهية ، ولنجعله مناهج ، المنهج الأول في التعين
وفيه مباحث).
جعل صاحب التجريد
الوجوب ، والإمكان ، والامتناع ، وكذا القدم والحدوث في فصل الوجود ، وجعل التعين
، وكذا الوحدة والكثرة في فصل الماهية ، وجعل العلة والمعلول ، فصلا على حدة ،
وصاحب المواقف جعل التعين في فصل الماهية والوجوب ، ومقابليه فصلا على
حدة ، وكذا الوحدة والكثرة ، وكذا العلة والمعلول ، وذكر القدم والحدوث في فصل
الوجوب ومقابليه ، وصاحب الصحائف جعل الوجوب ومقابليه ، والعلة والمعلول من لواحق الموجود ،
(والبواقي من لواحق الوجود ، فأطلقنا القول بكون الكل من لواحق الوجود) ، والماهية ليصح على جميع التقارير.
__________________
المبحث الأول
التعين
(المبحث الأول : التعين يغاير الماهية ، والوجود والوحدة لصدقها على الكلي دونه ولا يلزم فيه اعتبار المشاركة بخلاف التمايز ، فيتصادقان إذا اعتبر مشاركة الشخصين ،
ويتفارقان إذا لم تعتبر المشاركة أو كان التميز كليا فبينهما عموم من وجه).
تعين الشيء وتشخصه
الذي به يمتاز عن جميع ما عداه غير ماهيته ووجوده وحدوثه ، لكون كل من هذه الأمور
مشتركا بينه وبين غيره ، بخلاف التعين ، ولذا يصدق قولنا :
الكلي ماهية وموجود
وواحد. ولا يصدق قولنا. إنه متعين ، وإن كان التعين أو المتعين مفهوما كليا صادقا
على الكثرة ، وبين التعين والتمييز عموم من وجه لتصادقهما على تشخصات الأفراد إذا
اعتبر مشاركتها في الماهية مثلا ، فإن كلا منها متشخص في نفسه ، ومتميز عن غيره ،
ويصدق التعين دون التميز حيث لا تعتبر المشاركة ، وبالعكس حيث تتميز الكليات
كالأنواع المعتبرة اشتراكها في الجنس.
__________________
المبحث الثاني
التعين اعتباري
(قال : المبحث الثاني : التعين اعتباري لوجهين :
الأول : أنه لو وجد لكان له تعين وتسلسل.
فإن قيل : المحوج
إلى التمايز بالتعين هو الاشتراك في الماهية ، واشتراك التعين لفظي أو عرضي.
قلنا : كل تعين
فله عند العقل ماهية ، سواء تعددت أفرادها أو لا. فإذا وجدت في الخارج لزم التعين بالضرورة.
فإن قيل : تعينه
عينه.
قلنا : فيكون
اعتباريا إذ تغاير المعروض والعارض في الأمور العينية ضروري.
الثاني : أنه لو وجد لتوقف انضمامه إلى حصة الشخص من النوع على تميزه فيدور أو يتسلسل.
__________________
فإن قيل : الماهية
إذا وجدت ، وجدت متخصصة معروضة للتعين ، لا انهما يتحققان ، فيتقارنان ليلزم تميز
سابق.
قلنا : تقدم
المعروض بالوجود المقارن للتميز ضروري وفيه نظر) .
أمر اعتباري لا
تحقق له في الأعيان لوجهين : ـ
الأول : أنه لو
كان موجودا في الخارج لكان له تعين ضرورة ، وينقل الكلام إليه ويتسلسل.
فإن قيل : لا نسلم
أنه لو كان موجودا لكان له تعين ، وإنما يلزم ذلك لو كانت التعينات متشاركة في الماهية ، ليحتاج في التمايز
إلى تعين ، وهو ممنوع بل هي متخالفة بالماهية متمايزة بالذات ، وإنما يتشارك في
لفظ التعين أو في عرض لها هو مفهوم التعين.
قلنا : ضروري. إن
لكل موجود ماهية كلية في العقل ، وإن امتنع تعدد أفرادها بحسب الخارج ، وهذا في حق
الواجب محل نظر ، فلذا خص الدعوى بالتعين ، وإن كانت المناقشة باقية.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون تعين التعين نفسه لا زائدا عليه ليتسلسل :
قلنا : لأن ماهية
التعين كلية ، وإنما التمايز بالخصوصيات العارضة التي لا تقبل الاشتراك ، وتغاير
المعروض والعارض في الأمور الموجودة في الخارج ضروري ، وإنما يصح الاتحاد وبحسب
الواقع في الأمور الاعتبارية كقدم القدم ، وحدوث الحدوث . قال : ـ
__________________
الثاني : وقد
يستدل أي على كون التعين اعتباريا بأنه لو وجد في الخارج لتوقف عروضه لحصة
هذا الشخص من النوع دون الحصة الأخرى منه على وجودها وتميزها ، فإن كان تميزها
بهذا التعين فدور أو بتعين آخر فيتسلسل ، وهذا هو المراد بقولهم : لو وجد لتوقف
انضمامه إلى الماهية على تميزها ، فلا يرد ما قيل أن تميز الماهية بذاتها ، وبما
لها من الفصول ، لا بهذا التعين.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون هذا المعروض هو الحصة المتميزة بهذا التعين لا بتعين سابق؟
ليلزم المحال ، كما أن معروض البياض ، هو الجسم الأبيض به لا بياض آخر. وحاصله أن ذلك دور معية ، فإن الماهية إذا
وجدت ، وجدت متخصصة متميزة بما عرضت له من التعينات كحصص الأنواع من الجنس تتمايز
بالفصول ، ولا يتوقف اختصاص كل فصل بحصة على تميز لها سابق.
قلنا : وجود
المعروض متقدم على العارض بالضرورة ، فكذا تميزه لكونه مقارنا للوجود السابق ،
وهذا بخلاف الفصول ، وحصص الأنواع من الجنس ، فإن التمايز هناك عقلي لا غير وفيه
نظر ، لأن تقدم معروض التعين عليه ، إنما هو بالذات دون الزمان. وهو ما يستلزم
تقدم ما معه بالزمان ، لجواز أن يكون الشيء محتاجا إليه ، ولا يكون مقارنه كذلك.
فإن قيل : المعروض
المتقدم هو هذه الحصة ، فيلزم تقدم الهذية ، وهو التعين والتميز.
قلنا : نعم بمعنى
أنه معروض الهذية فلا يمتنع أن يكون هذيتها بهذا التعين.
__________________
احتجاج المخالف لمدعي اعتبارية التعين
(قال : احتج المخالف بوجوه :
الأول : أنه جزء المتعين وهو موجود. قلنا : الموجود معروض التعين لا المركب من المعروض والمعارض فإنه اعتباري .
فإن قيل : المتعين
هو الشخص كزيد مثلا ، ولا خفاء في وجوده ، وليس مفهومه مجرد الانسان
، بل مع شيء آخر نسميه التعين ، فيكون جزءا من زيد الموجود فيوجد.
فالجواب : أنه
الإنسان المقيد بالعوارض المشخصة لا المجموع ، ولو سلم فذلك الشيء هو المشخصات من الكم والكيف ، والأين المخصوصة ونحو ذلك مما وجوده ضروري ، وإنما الكلام في
التشخص.
__________________
الثاني : أن طبيعة النوع الواحد لا تتكثر بنفسها ، بل بما ينضاف إليها وهو
المراد بالتشخيص.
الثالث : لو كان عدميا لما كان متعينا في نفسه ، فلا تعين غيره.
قلنا : غير
المتنازع.
الرابع : لو كان عدميا لكان عدما للاتعين مطلقا ، أو لتعين آخر عدمي أو
ثبوتي فيكون ثبوتيا لأن رفع العدمي ثبوتي ، وحكم الأمثال واحد.
قلنا : بعد
المساعدة على أن العدمي عدم لشيء ، وأن نقيضه ثبوتي إن أريد باللاتعين والتعين
مفهوما هما ، فلا حصرا وما صدقا عليه ، فلا يلزم كون ما صدق عليه اللاتعين عدميا.
الخامس : لو كان عدميا لكان عدما لما ينافيه ، فإن كان عدما للإطلاق ،
أو لما يساويه كان مشتركا بين الأفراد كعدم الإطلاق ، فلا يكون متميزا ، إن لم يكن
لزم جواز انفكاكه عن عدم الإطلاق ، إما بتحقق عدم الإطلاق بدونه ، فيكون
الشيء لا مطلقا ، ولا معينا. وإما بالعكس فيكون مطلقا ومعينا.
قلنا : إن أريد
مطلق التعين لم يمتنع اشتراكه بين الأفراد ، وتمايزها بالتعينات الخاصة وإن أريد
التعين الخاص لم يمتنع كون الشيء لا مطلقا ولا معينا لجواز أن يكون معينا بتعين
آخر).
أي القائل بكون
التعين وجوديا بوجوه :
الأول : أنه جزء المتعين لكونه عبارة عن الماهية مع التعين وهو موجود وجزء الموجود موجود
بالضرورة.
وأجيبه : بأنه إن أريد بالمتعين الموصوف بالتعين ، فظاهر أن التعين
__________________
عارض له لا جزء
منه ، وإن أريد المجموع المركب منهما ، فلا نسلم أنه موجود ، فإن الوصف إذا كان من
الأعراض المحسوسة كما في الجسم الأبيض لم يكن المجموع إلا مركبا اعتباريا ، فكيف
إذا كان مما وجوده نفس المتنازع ، واعترض صاحب المواقف : بأن المراد بالمتعين هو
ذلك الشخص المعلوم وجوده بالضرورة كزيد مثلا ، وليس مفهومه مجرد مفهوم الانسان
وإلا لصدق على عمرو ، بل الإنسان مع شيء آخر يسميه التعين فيكون جزءا من زيد
الموجود فيكون موجودا. والجواب : أنا سلمنا أن ليس مفهومه مفهوم الإنسان الكلي
الصادق على عمرو. ولكن لم لا يجوز أن يكون هو الانسان المقيد بالعوارض المخصوصة
المشخصة التي لا تصدق على غيره دون المجموع ولو سلم فجزء المفهوم لا يلزم أن يكون
موجودا في الخارج ولو سلم فذلك الشيء هو ما يخصه من الكم والكيف والأين ونحو ذلك ،
مما يعلم وجوده بالضرورة من غير نزاع لكون أكثرها من المحسوسات ، وهم لا يسمونها
التعين ، بل ما به التعين الثاني ، أن الطبيعة النوعية كالإنسان مثلا لا تتكثر بنفسها ، لما سبق من أن
الماهية من حيث هي لا تقتضي الوحدة والكثرة ، وإنما تتكثر بما ينضاف إليهما من
العوارض الموجودة المخصوصة التي ربما تكون محسوسة وهو المراد بالتشخص.
الثالث : أن التعين لو كان عدميا لما كان متعينا في نفسه ، إذ لا هوية للمعدوم ، فلم يكن معينا لغيره ضرورة
أن ما لا ثبوت له ، لا يصلح سببا لتميز الشيء عما عداه بحسب الخارج. والجواب :
عنهما أن ما ينضاف إلى الطبيعة ،
__________________
ويعينها ويكثرها
هي العوارض المشخصة ، ولا نزاع في وجودها على ما سبق.
الرابع : أن التعين لو كان عدميا وليس عدما مطلقا لكان عدما للاتعين مطلقا ، أو
لتعين إذ لا مخرج عن النقيضين ، وذلك التعين إما عدمي أو ثبوتي ، وعلى التقارير
يلزم كونه وجوديا. إما على الأولين ، فلأن نقيض العدمي وجودي ، وإما على الثالث
فلأن حكم الأمثال واحد.
والجواب : أنا لا
نسلم أن العدمي يلزم أن يكون عدما لأمر ما ، بل يكون معدوما في الخارج على ما ادعينا من أنه
اعتباري. ولو سلم ، فلا نسلم أن نقيض العدمي وجودي ، كالعمى واللاعمى ، ولو
سلم فإن أريد بالتعين ، واللاتعين مفهومهما ، فلا حصر. لجواز أن يكون التعين عدما
لمفهوم آخر. وإن أريد ما صدق عليه. فلا نسلم أن كل ما يصدق عليه اللاتعين فهو عدمي ، ليكون نقيضه ثبوتيا. كيف واللاتعين صادق على
جميع الحقائق ، ولو سلم فلا نسلم تماثل التعينات ، لم لا يجوز أن تكون متخالفة
متشاركة في عارض هو مفهوم التعين.
الخامس : أن التعين لو كان عدميا لكان عدما لما ينافيه ضرورة ، كالإطلاق ،
والكلية ، والعموم ، وما يجري مجرى ذلك. فإن كان عدما للإطلاق ، أو لما يساويه
كالكلية ، والعموم. وبالجملة ، ما لا ينفك عدمه عن عدم الإطلاق ، كان التعين
مشتركا بين الأفراد كعدم الإطلاق ، لأن التقدير أنه عدم لأمر لا ينفك
__________________
عدمه عن عدم
الإطلاق ، وعدم الإطلاق متحقق في جميع الأفراد ، فكذا التعين فلا يكون متميزا ،
فلا يكون تعينا ، وإن لم يكن التعين عدما للإطلاق ، ولا عدما لما لا ينفك عدمه عن
عدم الإطلاق ، لزم جواز الانفكاك بين عدم الإطلاق بدون التعين ، فيلزم كون الشيء لا مطلقا ولا متعينا ، وفيه رفع للنقيضين ، وإما أن
يتحقق التعين بدون عدم الإطلاق ، فيلزم كون الشيء مطلقا ومتعينا وفيه جمع
للنقيضين.
والجواب : أنه إن
أريد بالتعين الذي يجعله عدم الإطلاق مطلق التعين ، فلا نسلم ثم امتناع اشتراكه بين الأفراد كعدم الإطلاق ، وإنما يمتنع لو
لم يكن تمايز الأفراد بالتعينات الخاصة المعروضة لمطلق التعين ، وإن أريد بالتعين التعين الخاص فنختار أنه ليس عدما للاطلاق ، ولا لما لا
ينفك عدمه عن عدم الإطلاق ، بل لأمر يوجد عدم الإطلاق بدون عدمه ، الذي هو ذلك
التعين ، وهو لا يستلزم إلا كون الشيء لا مطلقا ولا معينا بذلك العين ،
ولا استحالة في ذلك لجواز أن يكون معينا بتعين آخر.
الاختلاف في عدمية التعين ووجوده لفظيا
(قال : خاتمة : افراد النوع إنما تتمايز بعوارض مخصوصة ، ربما
__________________
تنتهي إلى ما يفيد
الهذية ، والعدمي قد يطلق على المعدوم ، وعلى عدم أمر ما ، وعلى ما يدخل في
مفهومه العدم ، والوجودي بخلافه ، والحقيقي على ما هو ثابت في نفس الأمر من غير
شائبة الفرض والتقدير ، والاعتباري بخلافه. فبعد تلخيص المراد بالثبوتي والعدمي ،
وأن التشخص هو تلك العوارض ، أو ما يحصل عندها من الهذية ، أو كون الفرد بحيث لا
يقبل الشركة ، أو عدم قبوله لذلك كان الحق جليا).
تصور الشيء بوجه
ما وإن كان كافيا في الحكم عليه في الجملة. لكن خصوصيات الأحكام ربما تستدعي تصورات مخصوصة ، لا بد منها في صحة الحكم ،
فلا بد في تحقيق أن التعين وجودي أو عدمي ، اعتباري أو غير اعتباري ، من بيان ما
هو المراد من هذه الألفاظ.
فنقول : الحقيقة
النوعية المتحصلة بنفسها ، أو بما لها من الذاتيات ، قد يلحقها كثرة بحسب ما يعرض لها من الكميات والكيفيات ، والأوضاع
والإضافات ، واختلاف المواد ، وغير ذلك ، وربما تنتهي العوارض إلى ما يفيد الهذية
، وامتناع الشركة كهذا الانسان وذاك ، وتسمى العوارض المشخصة ، فلا بد في تحصيل
موضوع القضية المطلوبة من بيان ، أن المراد بالتشخص هو تلك العوارض ، أو ما يحصل
عندها من الهذية ، أو عدم قبول الشركة ، أو كون الحصة من النوع بهذه
الحيثية ، أو نحو ذلك ، ثم لا بد لتحصيل معنى المحمول من بيان المراد بالوجودي ،
والعدمي ، والاعتباري.
__________________
فقيل : العدمي
المعدوم ، وقيل ما يكون عدما مطلقا ، أو مضافا متركبا ، مع وجودي ، كعدم البصر عما من شأنه ،
أو غير متركب كعدم قبول الشركة ، وقيل ، ما يدخل في مفهومه العدم ككون الشيء بحيث لا يقبل الشركة. والوجودي بخلافه ، فهو الموجود ، أو
الوجود مطلقا ، أو مضافا ، أو ما لا يدخل في مفهومه العدم ، والعبرة بالمعنى دون
اللفظ ، حتى إن العمى عدمي ، واللاعدم وجودي ، وفي المواقف أن الوجودي ما يكون
ثبوته لموصوفه بوجوده له ، أي بحسب الخارج. نحو السواد لا أن يكون ذلك باعتبار
وجودهما في العقل ، واتصاف موصوفه به فيه أي في العقل دون الخارج كالإمكان ، وهو أعم من
الموجود ، لجواز وجودي لا يعرض له الوجود أبدا ، لكنه بحيث إذا ثبت للموصوف ، كان
ذلك بوجوده له. وهذا معنى ما قال القاضي الأرموي ، إذا قلنا لشيء إنه وجودي ، لا
نعني أنه دائم الوجود ، بل نعني أنه مفهوم يصح أن يعرض له الوجود الخارجي عند
قيامه بموجود ، وعند قيامه بمعدوم ، لا يكون له وجود ، وكأنه يريد الأعم من وجه ،
وإلا فمن الموجود ما لا يسمى وجوديا كالانسان ، وغيره من المفهومات المستقلة ،
وأما الاعتباري فهو ما لا تحقق له إلا بحسب فرض العقل ، وإن كان موصوفه متصفا به
في نفس الأمر كالإمكان ، فإن الإنسان متصف به في نفس الأمر ، بمعنى أنه بحيث إذا
نسبه العقل إلى الوجود يعقل له وصفا هو الإمكان ، ويقابله الحقيقي إذا تقرر هذا ،
فلا خفاء في أن العوارض المشخصة وجودية ، والهذية اعتبارية ، وتميز الفرد عما عداه
، وعدم قبوله الشركة وكونه ليس غيره أو لا يقبل الشركة عدمية.
__________________
المبحث الثالث
التعين
(قال : المبحث الثالث : التعين يتوقف على امتناع الشركة ذهنا ، فلا يحصل بانضمام الكلي إلى الكلي ولو بحيث يمنع
الشكرة عينا ، بل يستند عندنا إلى إرادة القادر المختار ، أو عند البعض
إلى الوجود الخارجي ، لتحققه عنده قطعا ، وتتعدد الأشخاص بتعدد الوجودات.
ورد : بأن الدوران
لا يفيد العلية ولو سلم ، فالكلام في خصوص التعينات. وعند الفلاسفة إلى نفس
الماهية ، فينحصر في فرد ، أو إلى المادة المشخصة بالأعراض التي تلحقها بحسب
الاستعدادات المتعاقبة ، فيتكثر بتكثر المواد القابلة للتكثر بذواتها ، واعتراض بأن تعين الأعراض ، إنما
هو بتعين المادة فتعينها بها دور.
وأجيب بأن تعينها
بالأعراض لا بتعيناتها.
قلنا : فليكن تعين
الماهية بما يخصها من الصفات ، وتكثر له أفراد بتكثرها).
__________________
لا بد في التعين
من كون المفهوم بحيث لا يمكن للعقل فرض صدقه على كثيرين ، وهذا معنى امتناع
الشركة ذهنا ، ومعلوم أنه لا يحصل بانضمام الكلي إلى الكلي ، لأن كلا من المنضم ،
والمنضم إليه والانضمام لكونه كليا ، يمكن للعقل فرض صدقه على كثيرين ، بل على ما لا يتناهى من الأفراد ، وإن كان بحسب الخارج
ربما لا يوجد منه الأفراد ، بل يمتنع تعدده كمفهوم الواجب.
فإن قيل : حكم
الكلي قد تخالف حكم كل واحد ، فيجوز أن يكون كل من المنضم ، والمنضم إليه كليا ،
والمجموع جزئيا.
قلنا : لا معنى
للانضمام هاهنا سوى أن العقل يعتبر مفهوما كليا كالإنسان ، ثم يعتبر له وصفا
كليا كالفاضل ، ومعلوم بالضرورة أن الكلي الموصوف بالأوصاف الكلية لا ينتهي إلى حد
الهذية ، حتى لو كان ذلك الوصف هو مفهوم الجزئية والتشخص ، وامتناع قبول الشركة ،
كانت الكلية بحالها.
وقد يجاب : بأن
المراد أنّ انضمام الكلي إلى الكلي ، وتقيده به لا يستلزم الجزئية والتشخص ، وإن كان قد يفيدها ، فيكون حاصل الكلام أن المركبات
العقلية ، مثل الجوهر المتميز ، والجسم النامي ، والحيوان الناطق ، والإنسان الفاضل ، لا يلزم أن يكون جزئية ، بل قد يكون
كلية ، وهذا من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يخير به فضلا عن أن يجعل من المطالب العلمية.
__________________
فإن قيل : ـ فعلى
ما ذكرتم يلزم أن يكون ما ينضم إلى الكلى ، وتقيده الجزئية جزئيا ، وله لا محالة مفهوم
كلي ، يفتقر إلى ما ينضم إليه ، ويجعله جزئيا ويتسلسل.
قلنا : ليس هناك
موجود هو الكلي ، وآخر ينضم إليه ويجعله جزئيا ، بل الموجود الأشخاص ، والعقل
ينتزع منها الصور الكلية بحسب الاستعدادات والاعتبارات المختلفة ،
والمقصود أن المعنى الذي يسببه امتنع للعقل فرض صدق المفهوم على الكثيرين ، لا
يصلح أن يكون انضمام الكلي إلى الكلي ، بل الشخص يستند عندنا إلى القادر المختار ، كسائر الممكنات بمعنى أنه الموجد لكل
فرد على ما شاء من التشخص ، وعند بعضهم إلى تحقق الماهية في الخارج ، للقطع بأنها إذا تحققت لم يكن إلا
فردا مخصوصا لا تعدد فيه ، ولا اشتراك ، وإنما قبول التعدد والاشتراك في المفهوم
الحاصل في العقل .
فإن قيل : فيلزم
أن لا يتعدد التعين ، لأن الوجود أمر واحد.
قلنا : هو وإن كان
واحدا بحسب المفهوم ، لكن يتعدد أفراده بحسب الأزمنة ، والأمكنة والمواد وسائر الأسباب ، فتتعدد التعينات.
واعترض : بأن
الدوران لا يفيد العلية ، فيجوز أن يكون الوجود ما معه التعين لا ما به التعين. [فإن
قيل : نحن نقطع بالتعين عند الوجود الخارجي ، مع قطع النظر عن جميع ما عداه.
__________________
قلنا : قطع النظر
عن الشيء لا يوجب انتفاؤه ، فعند الوجود لا بد من ماهية ، وأسباب فاعلية أو مادية.
وبالجملة أمر يستند إليه الوجود ، فيجوز أن يستند التشخص أيضا إليه ، ولو سلم.
فالوجود لا يقتضي إلا تعينا ما ، والكلام في التعينات المخصوصة ، فلا يثبت
المطلوب ما لم يتبين أن وجود كل فرد يقتضي تعينه الخاص.
وذهبت الفلاسفة
إلى أن التعين قد يستند إلى الماهية بنفسها أو بلوازمها كما في الواجب. فينحصر في
شخص ، وإلا لزم تخلف المعلول عن علته لتحقق الماهية في كل فرد ، مع عدم تشخص
الآخر ، وقد يستند إلى غيرها ، ولا يجوز أن يكون أمرا منفصلا عن الشخص ، لأن نسبته
إلى كل الأفراد ، والتعينات على السواء ، ولا حالا فيه ـ لأن الحال في
الشخص لافتقاره إليه يكون متأخرا عنه ، ولكونه علة لتشخصه المتقدم عليه ضرورة أنه
لا يصير هذا الشخص إلا بهذا التشخص فيكون متقدما عليه ، وهو محال ،
فتعين أن يكون محلا له ، وما ذكرنا من نسبة الحال والمحل إلى الشخص دون الماهية ،
أو التشخص أقرب وأوفق بكلامهم والمراد بمحل الشخص معروضه في الأعراض ، ومادته في
الأجسام ، ومتعلقه في النفوس على ما ذكروا من حدوث النفس بعد البدن وتعينها به ،
فالعقول المجردة تستند تعيناتها ، إلى ماهياتها ، فينحصر كل في شخص ، لا إلى مجرد
الإضافة كعقل الفلك الأول مثلا على ما قيل ، لأن هذه الإضافة متأخرة عن وجود الفلك
المتأخر عن وجود العقل وتعينه ، والاستناد إلى المادة أعم من أن يكون بنفسها ، أو
بواسطة ما
__________________
فيها من الأعراض. فلا يرد ما قيل : أن غير المنفصل لا ينحصر
فيما يكون حالا في التشخص أو محلا له ، لجواز أن يكون حالا في محله. ولما اعترض
بأن المادة التي يستند إليها الشخص ، تكون متشخصة لا محالة ، فتشخصها إما لماهيتها
فلا تتعدد أفرادها ، أو للتشخص المعلول فيدور ، أو لمادة أخرى فيتسلسل.
أجيب : بأنه لما
فيها من الكميات والكيفيات ، والأوضاع ، وغير ذلك من الأعراض التي تتعاقب
عليها بتعاقب الاستعدادات حتى لو ذهبت إلى غير النهاية ، لم يمتنع على ما هو رأيهم
فيما لا يجتمع في الوجود ، كالحركات والأوضاع الفلكية. وإذا استند التشخص إلى
المادة تكثرت أفراد الماهية بتكثر المواد ، والمادة قابلة للتكثر بذاتها ، فلا تفتقر
إلى قابل آخر ، وإنما تفتقر إلى فاعل يكثرها.
واعترض : على ما
ذكروا بعد تسليم مقدماته بأن تعين الأعراض الحالة التي في المادة ، إنما هو بتعين
المادة على ما سيجيء ، فلو تعينت المادة بها كان دورا.
وأجيب : بأن تعين
المادة إنما هو بنفس الأعراض الحالة في المادة المعينة بتعين ما لا بتعيناتها
الحاصلة بتعين المادة ، وحاصله أن تعيناتها بتعينها ، وتعينها مع تعيناتها ، فلا
يلزم الدور ، ولا حصول التشخص من انضمام الكلي إلى الكلي. إلا أنه يرد عليه ، أنه
إذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز تكثر الماهية ، وتعين أفرادها بما لها من الصفات
المتكثرة العارضة لها ، من غير لزوم مادة.
__________________
المنهج الثاني
في الوجوب والامتناع
والإمكان
وفيه مباحث.
الأول : المعقولات
تحصل من نسبة المفهوم
الثاني : تقسيم الوجوب
والامتناع والإمكان
الثالث : الوجود
رابطة وتوابعه مواد القضايا
الرابع : في اعتبارية
الوجوب وما يجري مجراه
الخامس : احتياج
الممكن إلى المؤثر
السادس : في موجب
احتياج الممكن إلى المؤثر
السابع : تساوي طرفي
الممكن بالنسبة إلى ذاته.
المنهج الثاني
في الوجوب والامتناع والإمكان
(قال : المنهج الثاني في الوجوب والامتناع والإمكان ).
وفيه مباحث جعل الامتناع من لواحق الوجود والماهية. نظرا إلى أن ضرورة
سلب الموجود عن الماهية ، حال لهما. أو إلى أنه من أوصاف الماهية المعقولة ، أو
لكونه في مقابلة الإمكان ، أو لأن المراد بلواحقهما ما جرت العادة بالبحث عنه بعد
البحث عنهما.
__________________
المبحث الأول
المعقولات تحصل من نسبة المفهوم
(المبحث الأول : هي معقولات تحصل من نسبة المفهوم ، إلى هلية البسيطة أو المركبة. إذ
حمل الوجود أو الربط بواسطته قد يجب ، وقد يمتنع ، وقد يمكن ، وتصورها ضروري . والتعريف بمثل ضرورة الوجود ، وضرورة العدم ، ولا
ضرورتهما لفظي ).
قد تقرر في موضعه
، أن (هل) إما بسيطة يطلب بها وجود الشيء في نفسه أو مركبة ، يطلب بها وجود شيء
لشيء ، فإذا نسب المفهوم إلى وجوده في نفسه ، أو وجوده لأمر حصل في العقل معان هي
الوجوب ، والامتناع والإمكان ، لأن حمل الوجود على الشيء أو ربط الشيء بالشيء
بواسطته. قد يجب كما في قولنا الباري تعالى موجود ، والأربعة توجد لها الزوجية ،
وقد يمتنع كما في قولنا : اجتماع النقيضين موجود ، والأربعة توجد لها الفردية وقد
يمكن كما في قولنا : الإنسان موجود ، أو يوجد له الكتابة ، ولا خفاء في حصولها عند
حمل العدم ، إذ الربط بواسطته ، لكنه مندرج فيما ذكرنا ، من حمل الوجود أو الربط
بواسطته ، لكونه أعم من الإيجابي والسلبي ، وتصورات
__________________
هذه المعاني
ضرورية حاصلة لمن لم يمارس طرق الاكتساب إلا أنها قد تعرف تعريفات لفظية ، كالوجود
والعدم. فيقال :
الوجوب ضرورة
الوجود أو اقتضاؤه أو استحالته العدم ، والامتناع ضرورة العدم أو اقتضاؤه ، أو
استحالة الوجود ، والإمكان جواز الوجود والعدم ، أو عدم ضرورتهما ، أو عدم اقتضاء
شيء منهما ، ولهذا لا يتحاشى عن أن يقال الواجب ما يمتنع عدمه ، أو ما لا يمكن عدمه ،
والممتنع ما يجب عدمه ، أو ما لا يمكن وجوده ، والممكن ما لا يجب وجوده ، ولا عدمه
، أو ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه ، ولو كان القصد إلى إفادة تصور هذه المعاني ،
لكان دورا ظاهرا ، وظهر هذه المفهومات الوجود لكونه تأكد الوجود ، الذي هو أعرف من
العدم ، لما أنه يعرف بذاته ، والعدم يعرف بوجه ما بالوجود ، والنزاع في أن مفهوم
الوجوب والإمكان وجودي أو عدمي ، مبني على اختلاف مفهومات الخواص ، التي باعتبارها
يطلقان على الواجب والممكن. وأما في الواجب فكاقتضاء الوجود بحسب الذات ،
والاستغناء عن الغير ، وعدم التوقف عليه ، وما به يمتاز الواجب عن الممكن والممتنع ، وأما في الممكن ؛
فالاحتياج إلى الغير والتوقف عليه وعدم الاستغناء عنه ، وعدم اقتضاء الوجود أو
العدم ، أو ما به يمتاز الممكن عن الواجب والممتنع.
__________________
المبحث الثاني
في تقسيم الوجوب والامتناع والإمكان
(المبحث الثاني : كل من الواجب والامتناع والإمكان ، إن كان بالنظر إلى ذات الشيء ، فذاتي وإلا فغيري ، أو وضعي ، أو وقتي أو غيرها).
قد يكون بالذات ،
وقد يكون بالغير ، لأن ضرورة وجود الشيء ، أو لا وجوده في نفسه ، أو ضرورة وجود
شيء لشيء آخر ، أو لا وجوده له إن كانت بالنظر إلى ذاته ، كوجود
الباري ، وعدم اجتماع النقيضين ، ووجود الزوجية للأربعة ، وعدم الفردية لها فذاتي
، وإلا فغيري ، وهو وإن لم ينفك عن علة ، لكن قد ينظر إلى خصوص العلة كوجوب الحركة
للحجر المرمي ، وامتناع السكون له ، وقد ينظر إلى وصف الذات الموضوع ، كوجوب حركة
الأصابع للكاتب ، وامتناع سكونها له ، وقد ينظر إلى وقت له كوجوب الانخساف للقمر
في وقت المقابلة المخصوصة ، وامتناعه في وقت التربيع ، وقد ينظر إلى ثبوت المحمول
له ، كوجود الحركة للجسم المأخوذ ، بشرط كونه متحركا ، وامتناع السكون له حينئذ.
__________________
الموصوف بالذاتي إما واجب أو ممتنع
(قال ؛ والموصوف بالذاتي واجب الوجود لذاته ، أو ممتنع الوجود لذاته ، إن أخذ
الوجود محمولا ، وواجب الوجود لشيء ، وممتنع الوجود له نظرا إلى ذاته ، إن أخذ
رابطة فلازم الماهية ، كزوجية الأربعة واجب الوجود لها لذاتها ، لا واجب الوجود لذاته.
يعني إذا أخذ
الوجود محمولا ، فالموصوف بالوجوب الذاتي يكون واجب الوجود لذاته ، كالباري تعالى ،
وبالامتناع الذاتي يكون ممتنع الوجود لذاته ، كاجتماع النقيضين ، وإذا أخذ رابطة بين
الموضوع والمحمول فالموصوف بالوجوب الذاتي ، يكون واجب الوجود لموضوعه نظرا إلى ذات
الموضوع ، كالزوجية للأربعة ، وبالامتناع الذاتي يكون ممتنع الوجود له نظرا إليه ،
كالفردية للأربعة ، فلازم الماهية كالزوجية مثلا واجب الوجود لذاتها. أي واجب
الثبوت للماهية نظرا إلى نفسها ، لا واجب الوجود لذاته ، بمعنى اقتضائه الوجود
بالذات ليلزم المحال ، وبهذا يسقط ما ذكر في المواقف من أن الوجوب ، والإمكان ،
والامتناع ، المبحوث عنها هنا غير الوجوب ، والإمكان ، والامتناع ، التي هي جهات
القضايا وموادها ، وإلا لكانت لوازم الماهيات واجبة لذاتها ، وو ذلك لأنه إن أراد
كونها واجبة لذات اللوازم ، فالملازمة ممنوعة ، أو لذات الماهيات فبطلان التالي
ممنوع ، فإن معناه أنها واجبة الثبوت للماهية نظرا إلى ذاتها ، من غير احتياج إلى
أمر آخر ، وكأنه يجعل بعض القضايا خلوا عن كون الوجود فيه محمولا أو رابطة. كقولنا
:
__________________
الإنسان كاتب ،
ويمتنع أن يكون معناه أنه يوجد كاتبا أو توجد له الكتابة : بل
معناه أن ما صدق عليه هذا ، يصدق عليه ذاك أو يحمل.
والمحققون على أنه
لا فرق بين قولنا : يوجد له ذاك ، ويثبت ، ويصدق عليه ، ويحمل ونحو ذلك إلا بحسب العبارة ، وما ذكرنا هو الموافق لكلام المحقق في التجريد.
(قال : والإمكان ذاتي لا غير).
إذ لو كان غيريا
لكان الشيء في نفسه واجبا أو ممتنعا ، أي ضروري الوجود أو العدم بالذات ، ثم يصير
لا ضروري الوجود والعدم بالغير ، فيرتفع ما بالذات ، وهو محال بالضرورة ، وهذا
معنى الانقلاب.
(قال : قد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة الوجود أو العدم ، فيعم الإمكان الخاص ، وضرورة
الطرف الآخر ، فيصدق على الممتنع ممكن العدم ، وعلى الواجب ممكن الوجود ، وقد
يتوهم ، أنه بمعنى سلب ضرورة أحد الطرفين فيعم الكل).
الإمكان بمعنى سلب
ضرورة الوجود والعدم ، هو الإمكان الخاص المقابل للوجوب ، والامتناع بالذات ، وقد
يؤخذ بمعنى سلب ضرورة الوجود ، فيقابل الوجوب ، ويعم الإمكان الخاص ، والامتناع
فيصدق على الممتنع أنه ممكن العدم ، وقد يؤخذ بمعنى سلب ضرورة العدم ، فيقابل
الامتناع ويعم الإمكان الخاص ، والوجوب فيصدق على الواجب ، أنه ممكن الوجود. وهذا
هو الموافق للغة والعرف ، ولهذا سمي بالإمكان العامي ، فإن العامة تفهم منه نفي الامتناع ،
فمن إمكان الوجود نفي امتناع الوجود ، ومن إمكان العدم
__________________
نفي امتناع العدم.
وقد سبق إلى كثير من الأوهام ، أن للإمكان العام مفهوما واحدا ، يعم الإمكان
الخاص. والوجوب والامتناع ، هو سلب ضرورة أحد الطرفين ، أعني الوجود والعدم وهو
بعيد جدا. إذ لا يفهم هذا المعنى من إمكان الشيء على الإطلاق ، بل إنما يفهم من
إمكان وجوده نفي الامتناع ، ومن مكان عدمه نفي الوجوب. ولهذا يقع الممكن العام
مقابلا للممتنع ، شاملا للواجب كما في تقسيم الكلي إلى الممتنع ، وإلى الممكن الذي
أحد أقسامه أن يوجد منه فرد واحد ، مع امتناع غيره كالواجب ، وبهذا ينحل ما يقال
على قاعدة كون نقيض الأعم أخص من نقيض الأخص ، من أنه لو صح هذا الصدق في قولنا : كل ما ليس بممكن عام ليس بممكن خاص ، لكنه باطل
، لأن كل ما ليس بممكن خاص ، فهو إما واجب أو ممتنع ، وكل منهما ممكن عام ، فيلزم
أن كل ما ليس بممكن عام فهو ممكن عام.
(قال : وقد يعتبر بالنظر إلى الاستقبال ، ومن اشترط فيه العدم في الحال كأنه
أراد به إمكان طريان الوجود في المستقبل ، ففي إمكان العدم يشترط الوجود في الحال
، ولا يلزم الجمع بين النقيضين).
بمعنى جواز وجود
الشيء في المستقبل ، من غير نظر إلى الماضي والحال ، وذلك لأن الإمكان في مقابلة الضرورة ، وكلما كان الشيء أخلى عن الضرورة كان أحق باسم
الممكن ، وذلك في المستقبل ، إذ لا يعلم فيه حال الشيء من الوجود والعدم ، بخلاف
الماضي والحال ، فإنه قد تحقق فيهما وجود الشيء أو عدمه ، ومنهم من اشترط في
الممكن الاستقبال العدم في الحال. لأن الوجود ضرورة ، فيجب الخلو عنه.
ورد ؛ بأن العدم
أيضا ضرورة ، فيجب الخلو عنه أيضا ، وتحقيقه أنه
__________________
ممكن في جانبي
الوجود والعدم ، وكما أن الوجود يخرجه إلى جانب الوجود كذلك ، ويشترط الخلو عنه. كذلك العدم يخرجه إلى جانب الامتناع ،
فيلزم اشتراط الخلو عنه أيضا ، فيلزم ارتفاع النقيضين بل اجتماعهما ، والظاهر أن
من اشترط ذلك أراد بالإمكان الاستقبالي ، إمكان حدوث الوجود ، وطريانه في المستقبل
، وهو إنما يستلزم إمكان عدم الحدوث ، لا إمكان حدوث العدم ، ليلزم اشتراط الوجود
في الحال ، بل لو اعتبر الإمكان الاستقبالي في جانب العدم ، بمعنى إمكان طريان
العدم وحدوثه ، يشترط الوجود في الحال من غير لزوم محال :
(قال : وقد يعتبر بمعنى تهيؤ المادة لحصول الشيء ، باعتبار تحقق الشرائط ، فتتفاوت شدة وضعفا وتسمى استعدادية).
إشارة إلى الإمكان
الاستعدادي ، وهو تهيؤ المادة لما يحصل لها من الصور والأعراض ، بتحقق بعض الأسباب
والشرائط ، بحيث لا ينتهي إلى حد الوجوب الحاصل عند تمام العلة ، ويتفاوت شدة
وضعفا بحسب القرب من الحصول أو البعد عنه بناء على حصول الكثير مما لا بد منه ، والقليل
كاستعداد الإنسانية الحاصل للنطفة ، ثم للعلقة ، ثم للمضغة ، وكاستعداد الكتابة
الحاصل للجنين ، ثم للطفل ، وهكذا إلى أن يتعلم ، وهذا الإمكان ليس لازما للماهية
، كالإمكان الذاتي ، بل يوجد بعد العدم ، بحدوث بعض الأسباب والشرائط ، وبعدم بعد
الوجود لحصول الشيء بالفعل.
(قال : وعروض الإمكان يكون بالنظر إلى المفهوم ، من
__________________
حيث هو مقيسا إلى الوجود ، وأما مع اعتبار الوجود أو العدم ،
فيعرض الوجوب أو الامتناع الغيري ، فهو ينفك عنهما تعقلا لا تحققا).
يعني أن الماهية
إذا أخذت مع وجودها ، أو وجود علتها كانت واجبة بالغير ، وإذا أخذت مع عدمها ، أو
عدم علتها ، كانت ممتنعة بالغير ، وإنما يعرض لها الإمكان الصرف ، إذا أخذت لا مع
وجودها ، أو عدمها ، أو وجود علتها ، أو عدمها ، بل اعتبرت من حيث هي هي ، واعتبرت
نسبتها إلى الوجود ، فحينئذ يحصل من هذه المقايسة معقول هو الإمكان.
فالإمكان ينفك عن
الوجوب بالغير ، والامتناع بالغير بحسب التعقل ، بأن لا يلاحظ للماهية ، ولا
لعلتها وجود أو عدم ، لا بحسب التحقق في نفس الأمر ، لأن كل ممكن فهو إما موجود ،
فيكون واجبا بالغير ، أو معدوم فيكون ممتنعا بالغير ، اللهم إلا على
رأي من يثبت الواسطة.
(قال : والغيريان يتشاركان في اسم الضرورة عند تقابل المضاف إليه ، وحينئذ يتصادقان ، وعند اتحاده يتنافيان ، فبينهما منع
الجمع مع جواز الانقلاب ، وكذا بين الذاتين مع استحالة كما بين الذاتي وغير الذاتي
، من الوجوب والامتناع ، لاستلزامه الإمكان المنافي للذاتي ، والاستدلال بأن
__________________
الذاتي لو كان
بالغير ، لارتفع بارتفاعه فممنوع الملازمة ، وبين الإمكان ، والذاتيين انفصال
حقيقي ، والانقلاب محال.
فإن قيل : الحادث
ممتنع في الأزل ، ثم يمكن ، والمقدورية ممكنة قبل الوجود ، ثم تمتنع.
قلنا : فرق بين
أزلية الإمكان ، وإمكان الأزلية. فالحادث ممكن في الأزل والأبد ، والحادث في الأزل
ممتنع دائما ، وامتناع المقدورية بعد الوجود غيري لا ذاتي).
يعني أن الوجوب
بالغير ، والامتناع بالعير يتشاركان في اسم الضرورة ، إلا أن الأول ضرورة الموجود.
والثاني : ضرورة العدم ، وهذا يعني تقابل المضاف إليه ، وإذا أخذ الوجوب والامتناع
متقابلي المضاف إليه ، بأن يضاف أحدهما إلى الوجود والآخر إلى العدم ، صدق كل
منهما على ما صدق عليه الآخر ، بطريق الاشتقاق ، بمعنى أن كل ما يجب وجوده بالغير
، يمتنع عدمه بالغير ، وبالعكس ، وكل ما يجب عدمه بالغير يمتنع وجوده
بالغير ، وبالعكس. وإذا أضيف كل منهما إلى الوجود أو إلى العدم امتنع صدق أحدهما على الآخر ، إذ لا شيء مما يجب وجوده
يمتنع وجوده ، ولا شيء مما يجب عدمه يمتنع عدمه ، وهو ظاهر ، فبينهما منع الجمع
دون الخلو ، إذ لا يصدق شيء منهما على الواجب بالذات ، أو الممتنع بالذات ، لكن
جزء هذه المنفصلة المانعة للجمع. أعني قولنا : إما أن يكون الشيء واجبا بالغير ،
أو ممتنعا بالغير مما يجوز انقلاب أحدهما إلى الآخر بأن ينعدم الموجود الواجب
بالغير ، لانتفاء علته ، فيصير ممتنعا بالغير ، ويوجد الممتنع المعدوم بالغير لحصول علته ، فيصير واجبا بالغير ، بخلاف الوجوب
الذاتي ، والامتناع
__________________
الذاتي ، فإن
بينهما أيضا منع الجمع ، ضرورة امتناع كون الشيء واجبا وممتنعا بالذات دون الخلو
لارتفاعهما عن الممكن ، لكن يمتنع انقلاب أحدهما إلى الآخر ، لأن ما بالذات لا يزول ، وكذا بين الوجوب بالذات ، والوجوب
بالغير ، وبين الامتناع بالذات ، والامتناع بالغير ، منع الجمع دون الخلو
مع امتناع الانقلاب. أما منع الجمع ، فلأن الواجب بالغير أو الممتنع بالغير
لا يكون إلا ممكنا ، وهو ينافي الواجب بالذات ، أو الممتنع بالذات ، ولأنهما لو
اجتمعا لزم توارد العلتين المستقلتين ، أعني الذات والغير على معلول واحد ، هو
الوجود أو العدم ، وأما عدم منع الخلو فلارتفاع الوجوب بالذات ، والوجوب بالغير ،
عن الممتنع بالذات أو بالغير ، وارتفاع الامتناع بالذات ، والامتناع بالغير عن
الواجب بالذات أو بالغير ، وأما امتناع الانقلاب فظاهر ، وقد يستدل على امتناع كون
الواجب بالذات واجبا بالغير ، بأنه لو كان كذلك لارتفع بارتفاع الغير. فلم يكن
واجبا بالذات ، وفيه نظر. لأنا لا نسلم : أنه لو كان واجبا بالغير لارتفع بارتفاعه
، وإنما يلزم لو لم يكن واجبا بالذات ، وهو ظاهر وبين الإمكان والوجوب الذاتي ،
والامتناع الذاتي انفصال حقيقي. بمعنى أن كل مفهوم فهو إما واجب أو ممتنع ، أو
ممكن ، لأنه إما أن يكون ضروري الوجود أو لا ، والثاني : إما أن يكون ضروري العدم
أو لا فالثلاثة لا تجتمع ولا ترتفع ، وهذا في التحقيق منفصلتان ، كل منهما مركبة
من الشيء ونقيضه ، وكذا كل منفصلة. تكون من أكثر من جزءين فهي متعددة على ما تقرر في موضعه ، والاعتراض
بضروري الوجود والعدم ليس بشيء لأنه مفهوم إذا لاحظه العقل لم يكن إلا ضروري العدم
، وهذا كما يقال على قولنا : كل مفهوم إما ثابت أو منفي يفرض مفهوما هو ثابت ومنفي
فيجتمعان أو ليس بثابت ولا منفي فيرتفعان. فنقول : هذا المفهوم منفي لا غير ، وفيما بين الواجب والممتنع والممكن الانقلاب
محال ، لأن ما بالذات لا يزول. فإن قيل : لم لا
__________________
يجوز أن يختلف
مقتضى الذات بحسب الأوقات؟
قلنا : لأنه حينئذ
لا يكون مقتضى الذات ، بل مع دخل للأوقات.
فإن قيل : الحادث
ممتنع في الأزل ، لأن الأزلية تنافي الحدوث ، ثم ينقلب ممكنا فيما لا يزال ، وكون
الحادث مقدورا ممكن قبل وجوده ، ثم ينقلب بعد وجوده ممتنعا ضرورة امتناع القدرة
على تحصيل الحاصل.
أجيب عن الأول :
بأن قولكم في الأزل ، وإن كان قيدا للحادث ، فلا نسلم أنه يصير ممكنا فيما لا
يزال. بل الحادث في الأزل ممتنع أزلا وأبدا ، وإن كان قيدا للممتنع ، فلا نسلم أن
الحادث ممتنع في الأزل ، بل هو ممكن أزلا وابدا ، فأزلية الإمكان ثابتة للحادث ،
وإمكان الأزلية منتف عنه دائما ولا انقلاب أصلا .
وعن الثاني : فإنا
لا نسلم أن مقدورية الشيء بعد وجوده ، تصير ممتنعة بالذات ، بل إنما تمتنع بالغير
لمانع ، هو الحصول حتى لو ارتفع لبقي مقدورا كما كان.
__________________
المبحث الثالث
الوجود رابطة وتوابعه مواد للقضايا
(قال : المبحث الثالث : إذا جعل الوجود رابطة ، فالثلاثة في نفسها مواد القضايا ، وباعتبار التعقل أو التلفظ جهاتها وحينئذ إن كان المحمول أحدهما ، أو الوجود أو العدم ، كما
في قولنا : الباري واجب أو موجود ، واجتماع النقيضين ممتنع أو معدوم ، والإنسان
ممكن ، أو موجود بتعدد الاعتبارات ، ويكون نسبة الثلاثة إلى موضوعاتها بالوجوب ،
ونسبة الغيريين بالإمكان ، وكل ممكن الوجود لغيره ، ممكن الوجود في نفسه من غير
عكس).
بين الموضوع
والمحمول ، فالكيفية الحاصلة لتلك النسبة من الوجوب ، والامتناع ، والإمكان كما في
قولنا : الإنسان حيوان أو حجر أو كاتب من حيث أنها الثابتة في نفس الأمر تسمى مادة
القضية ، ومن حيث أنها تتعقل أو تتلفظ بها تسمى جهة القضية سواء طابقت المادة بأن تكون نفسها. كقولنا
الإنسان حيوان بالوجوب ، وحينئذ تصدق القضية ، أو لم تطابقها ، بأن تكون أعم منها
أو أخص ، أو مبانيا ، وحينئذ قد تصدق القضية ، كقولنا الإنسان
__________________
حيوان بالإمكان
العام ، وقد تكذب كقولنا : الإنسان حيوان بالإمكان الخاص ، وإنما لم يقتصروا على
المواد ، بل تجاوزوا إلى الجهات ، بما لها من التفاصيل ، لأن الغرض من معرفة
القضايا تركيب الاقيسة لاستخراج النتائج ، وهي لا تحصل من المقدمات بحسب موادها
الثابتة في نفس الأمر ، بل بحسب جهاتها المعتبرة عند العقل ، ثم
كلامهم متردد في أن المعتبر في المادة ، هو الربط الإيجابي حتى تكون مادة نسبة
الحيوان إلى الإنسان هو الوجوب ، سواء قلنا : الإنسان حيوان ، أو ليس بحيوان ، أو
أعم من الإيجابي والسلبي ، حتى تكون المادة في قولنا : الإنسان حيوان هو الوجوب
الذاتي وفي قولنا : الإنسان ليس بحيوان هو الامتناع ، والأظهر
الأول. ثم المحققون على أن في كل قضية الوجود ، واللاوجود رابطة ، والوجوب
والامتناع والإمكان جهة سواء ، صرح بها أو لم يصرح. وسواء كان المحمول أحد هذه الامور أو غيرها.
حتى إن قولنا : الباري تعالى واجب وموجود في معنى يوجد واجبا ، ويوجد موجودا ،
وقولنا : اجتماع النقيضين ممتنع ومعدوم ، في معنى يوجد ممتنعا
ومعدوما ، أو لا يوجد ممكنا وموجودا.
وقولنا : الإنسان
ممكن وموجود في معنى يوجد ممكنا وموجودا ، فاذا كان المحمول أحد هذه الأمور تتعدد
الاعتبارات ، أي يعتبر وجود هو المحمول وآخر هو الرابطة. ووجوب أو امتناع أو إمكان
هو المحمول ، وآخر هو الجهة ، وتكون نسبة كل من الوجوب والامتناع والإمكان إلى
موضوعاتها بالوجوب إذا أخذت ذاتية ، وإذا أخذ الوجوب والامتناع غيريين ، فبالإمكان
وممكن الوجود لغيره يجب أن يكون ممكن الوجود في نفسه ، وممكن الوجود في نفسه قد
يجب وجوده للغير كلوازم الماهية ، وقد يمتنع كالذوات المستقلة ، وقد يمكن كسواد الجسم.
وهذا معنى قولنا : كل ممكن لغيره ، ممكن الوجود في نفسه من غير عكس.
__________________
المبحث الرابع
في اعتبارية الوجوب وما يجري مجراه
(قال : المبحث الرابع : كل ما يوصف أي فرد يفرض منه بمفهومه كالوجوب والقدم ، والوحدة ومقابلاتها والتعين والبقاء والموصوفية فهو اعتباري إذ لو وجد لزم التسلسل ، للقطع بامتناع الصفة الموجودة ،
المحمولة على الشيء بالاشتقاق عينه ، وإنما ذلك في الاعتباريات. فمعنى كون الشيء
واجبا في الخارج. أنه بحيث إذا عقل مستندا إلى الوجود لزم في العقل معقول هو
الوجوب ، وكذا الكلام في البواقي ).
لا خفاء في أن
امتناع اعتبار عقلي ، وكذا الوجوب والإمكان عند المحققين ، لأن الوجوب مثلا لو كان
موجودا لكان واجبا ضرورة أنه لو كان ممكنا لكان جائزا لزوال نظرا إلى ذاته ، فلم
يبق الواجب واجبا ، وهو محال
__________________
لما سبق من امتناع
الانقلاب ، والواجب ماله الوجوب ، فينقل الكلام إلى وجوبه ويلزم التسلسل في الأمور
المترتبة الموجودة معا وهو محال. وكذا الإمكان ، ولما كان هذا الدليل بعينه جاريا
في الوجود ، والبقاء والقدم والحدوث ، والوحدة ، والكثرة ، والتعين ، والموصوفية ،
واللزوم ، ونحو ذلك ، جعله صاحب التلويحات قانونا في ذلك. فقال : كل ما يكون نوعه متسلسلا ومترادفا ،
أي كل ما يتكرر نوعه بحيث يكون أي فرد يفرض منه موصوفا بذلك النوع ، فيكون مفهومه
تارة تمام حقيقته محمولا عليه بالمواطأة ، وتارة وصفا عارضا به محمولا عليه بالاشتقاق ، يلزم أن يكون اعتباريا ، لئلا
يلزم التسلسل في الأمور الموجودة ، ولهذا لم تكن الأمور الموجودة متصفة بمفهوماتها
، فلم يكن السواد أسود ، والعلم علما والطول طويلا ونحو ذلك.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون وجوب الوجوب مثلا عينه ، ونفس ماهيته ، لا أمرا زائدا عليه ، قائما
به كبياض الجسم ليلزم التسلسل ، وكذا البواقي.
قلنا : لأنه لو
كان كذلك لكان محمولا عليه بالمواطأة ضرورة واللازم باطل لأن الوجوب إذا كان واجبا
، كان حمل الوجوب عليه بالاشتقاق دون المواطأة. لأنه لا معنى للواجب لا ما له
الوجوب ، وأما إذا أريد أن لوجود موجود. بمعنى أنه وجود الوجوب واجب بمعنى أنه
وجوب. والإمكان ممكن ، بمعنى ، أنه إمكان إلى غير ذلك ، فلم يكن له فائدة ، ولم
يتصور فيه نزاع. نعم يصح ذلك في الأمور الاعتبارية ، بأن يعتبر العقل له أوصافا متعددة ، تنقطع بانقطاع الاعتبار من غير تعدد في
الخارج ، وقدرة في المطارحات بوجه آخر
__________________
يندفع عنه هذا
المنع ، وهو أن الوجوب ، والإمكان ، والوجود والوحدة والكثرة والتعين ، ونحو ذلك حالها واحد في أنها أمور موجودة عندكم
، اعتبارية عندنا ، وكل موجود فله وحدة وتعين ووجوب ، أو إمكان وقدم أو حدوث ، فلو
كان الإمكان مثلا موجودا لكان له وحدة موجودة ، لها إمكان موجود له وحدة موجودة.
وهلم جرا فيلزم التسلسل في وحدات الإمكان ، وإمكانات الوحدة ، التي هي أمور مترتبة
مجتمعة في الوجود ، مع القطع بأن ليست الوحدة نفس الإمكان ، وكذا يلزم سلسلة من
وجودات الإمكان ، وإمكانات الوجود ، وأخرى من تعينات الإمكان ، وإمكانات التعين ، على
هذا فقس. ولما كان هاهنا مظنة إشكال ، وهو أنا قاطعون ، بأن الباري تعالى موجود
وواجب ومتعين وواحد وقديم وباق في الخارج ، لا في الذهن فقط وكذا إمكان الإنسان
وحدوثه ، وكثرته ونحو ذلك.
أشار إلى الجواب :
بأن هذا لا يقتضي كون الوجوب والإمكان وغيرهما أمورا متحققة في الخارج ، لها صور
عينية ، قائمة بالموضوعات كبياض الجسم ، لأن معنى قولنا : الباري تعالى واجب في
الخارج ، أنه بحيث إذا نسبه العقل إلى الوجود ، حصل له معقول هو الوجوب ، ومعنى قولنا : الإنسان ممكن أنه إذا نسبه إلى الوجود ،
حصل له معقول هو الإمكان .
__________________
ومعنى قولنا :
الشيء متعين أو واحد أو كثير أو قديم أو حادث في الخارج ، أنه بحيث إذا نسبه العقل
إلى هذه المفهومات كانت النسبة بينهما الإيجاب لا السلب. وهذا ما يقال : إن انتفاء
مبدأ المحمول في الخارج ، لا يوجب انتفاء الحمل في الخارج كما في قولنا : زيد
أعمى.
الاستدلال على اعتبارية الإمكان والوجوب
(قال : وقد يستدل بأن الوجوب والإمكان لو كانا موجودين لزم محالات.
أحدها : عدم الصدق على العدم .
الثاني : إمكان الواجب . لأن الوصف لاحتياجه إلى الموصوف ممكن ، والممكن نظرا إلى نفسه جائز الزوال ، وأيضا إذا كان ما
به واجبية الشيء ممكنا ، فهو أولى.
الثالث : تقدم الشيء على نفسه ، والتسلسل ضرورة تقدم المقتضى بالوجوب.
الرابع : سبق وجود الممكن على إمكانه ضرورة تقدم المعروض على العارض .
الخامس : قيام الصفة الموجودة بالمعدوم أو بغير موصوفها ، ضرورة
__________________
أن إمكان الشيء
لكونه ذاتيا يكون قبل وجوده ، ولا بد له من محل.
السادس : الانقلاب ضرورة ، إن الإمكان نسبة بين الممكن ووجوده ، فلو وجد
لتأخر عنهما فيكون فيكون الممكن مثله واجبا أو ممتنعا وفي أكثر الوجوه للجدال مجال).
كون الامتناع وصفا
اعتباريا لا تحقق له في الأعيان مما لا نزاع فيه ، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه ، وأما الوجوب والإمكان فقد استدل على كونهما اعتباريين
بوجوه :
الأول : أنهما لو كانا موجودين لما صدقا على المعدوم ، ضرورة امتناع قيام الصفة
الموجودة بالمعدوم ، واللازم باطل ، لأن الممتنع واجب العدم ، والمعدوم الممكن
ممكن الوجود والعدم ، ومبناه على أن كلا من الوجوب والإمكان مفهوم واحد ، يضاف
تارة إلى الوجود ، وأخرى إلى العدم ومع ذلك فقد اعترض بأن انتفاء بعض جزئيات
المفهوم لا ينافي كونه وجوديا يوجد منه بعض الجزئيات كسائر الكليات.
الثاني : لو كان الوجوب موجودا لزم إمكان الواجب ، وهو محال بالضرورة بيان اللزوم
من وجهين :
أحدهما : أن الوجوب إذا كان وصفا قائما موجودا بالواجب ، كان محتاجا إلى موصوفه
ضرورة ، وكل محتاج إلى الغير فهو ممكن ، وكل ممكن فهو جائز الزوال ، نظرا إلى نفسه
، وإن كان لازم الوجود نظرا إلى غيره وزوال الوجوب عن الموجود يستلزم إمكانه
ضرورة.
وثانيهما : أن واجبية الواجب تكون للوجوب الممكن في نفسه ، ضرورة احتياجه إلى
الموصوف ، وما يكون واجبيته لأمر ممكن ، لا يكون لذاته بل ممكنا بطريق الأول ، لأن
المحتاج إلى الواجب ممكن ، فكيف إلى الممكن؟
__________________
والجواب : أنا لا
نسلم أن الوجوب ما به الواجبية بل نفسها ، وأن الوجوب على تقدير إمكانه ، يكون جائز الزوال في نفسه ، وإنما يكون كذلك لو لم يكن مقتضى
ذات الواجب ، كالوجود. ولا معنى للواجب ، إلا ما يكون وجوده ، ووجوبه ، وسائر
صفاته لذاته ، وإن سميت كلا منها ممكنا في نفسه.
وأما الجواب : بأن
وجوب الواجب نفسه ، لا وصف له فضعيف. لأن المتنازع هو الوجوب ، بمعنى ضرورة الوجود
اقتضائه ، ولا خفاء في أنه إذا كان أمرا محققا موجودا كان زائدا في الذهن والخارج
جميعا.
الثالث : أن الوجوب لو كان موجودا لكان ممكنا لما مر ، فيحتاج إلى سبب متقدم عليه بالوجود ، الوجوب ضرورة أن
الشيء ما لم يكن موجودا واجبا بالذات ، أو بالغير لم يصلح سببا لوجود شيء آخر ،
فذلك الوجوب. إن كان نفس هذا الوجوب لزم تقدم الشيء على نفسه ، وإن كان غيره ينقل
الكلام إليه ويتسلسل ، وفي هذا التقرير دفع لما يقال : إن وجوب الواجب بذات الواجب
لا بوجوبه.
الرابع : لو كان الإمكان موجودا ، وهو وصف عارض للممكن لزم تقدم وجود الممكن على
الإمكان ، ضرورة تقدم المعروض على العارض ، ولو بالذات ، واللازم باطل للقطع بصحة قولنا : أمكن فوجد دون العكس.
والجواب : بأنه من
عوارض الماهية دون الوجود ، فلا يلزم إلا تقدم الماهية بمعنى الاحتياج إليها ،
مدفوع بأن المتنازع هو الإمكان الذي هو نسبة بين الممكن ووجوده ، فيكون متأخرا عنهما.
__________________
الخامس : أن الإمكان لو كان موجودا لزم قيامه بالمعدوم ، أو بغير ما هو موصوف
بالإمكان ، واللازم ضروري البطلان ، وجه اللزوم ان إمكان الشيء من أوصافه الذاتية
، ولا بد للوصف من محل يقوم به ، فقبل وجود الممكن يكون قيامه ، إما بالممكن
المعدوم وهو الأمر الأول أو بغيره وهو الثاني.
والجواب : أن
الوصف الذاتي ما يكون مقتضى الذات ، ولا يلزم من كونها موجودة أن يوجد قبل الذات.
السادس : أن الإمكان نسبة بين الممكن ووجوده ، فيكون متأخرا عنهما ، فقبل تحققه
يكون الممكن إما واجبا أو ممتنعا ، وبعده يصير ممكنا وهو معنى الانقلاب.
فإن قيل : فعلى
تقدير كونه اعتباريا أيضا يكون متأخرا ، ويلزم المحال.
قلنا : إذا لم يكن
له تحقق في الخارج لم يكن بينه وبين الماهية تقدم وتأخر ، إلا بحسب العقل. بمعنى :
أنه إذا لاحظ العقل الماهية والوجود والنسبة بينهما ، حصل له معقول عارض للماهية ،
هو الإمكان ، من غير لزوم انقلاب ، لأن الماهية دائما بهذه الحيثية.
احتجاج المخالف في نفي عدمية الوجوب والإمكان
(قال : احتج المخالف بأن الوجوب والإمكان لو كانا عدميين ، لزم محالات أحدهما كون العدم مؤكدا للوجود ، ومقتضيا لثباته ، ضرورة أن الوجوب كذلك .
قلنا : اعتبار
عقلي لا عدم محض.
__________________
الثاني : ارتفاع النقيضين ضرورة أن للوجوب واللاإمكان عدميان لصدقهما على الممتنع.
قلنا : قد يكون
الصادق على المعدوم وجوديا ، باعتبار بعض الأفراد ولو سلم فقد يكون النقيضان عدميين ، كالامتناع واللاامتناع
، والعمى. واللاعمى. ومعنى ارتفاع النقيضين في المفردات عدم صدقهما على الشيء ، لا
خلوهما عن الوجود والثبوت ، كما في القضايا ، وذلك كالمساواة ، والعموم ، والخصوص ، والمباينة ، فإنها في المفردات باعتبار الصدق على الشيء. وفي القضايا
باعتبار ثبوتها في نفسها.
الثالث : سلب الإمكان عن الممكن ، والوجوب عن الواجب عند عدم فرض العقل ، بل مطلقا لأن إمكانه لا في معنى لا
إمكان له ، وكذا الوجوب.
قلنا : ممنوع ، بل
قد يكون المحمول عدميا ، والحمل ضروريا كالمعدوم والممتنع. فالإمكان عدمي ، أريد ممكن بالضرورة ، بمعنى أنه بحيث لو أسنده العقل إلى الوجود ، لزم معقول هو الإمكان ومعنى
إمكانه لا أن ذلك
__________________
الوصف الصادق عليه
عدمي ، ولا إمكان له أنه لا يصدق عليه ذلك الوصف. وكذا في الوجوب. فإن قيل : ثبوت
الشيء للشيء فرع ثبوته في نفسه.
قلنا : ممنوع في
الثبوت بمعنى الصدق ، إذ كثير من الأوصاف سلبي).
قد سبقت إشارة إلى
الفرق بين الموجود والوجودي ، والاعتباري والعدمي والتمسكات السابقة إنما دلت على أن ليس الوجوب والإمكان أمرين موجودين في
الخارج ، من غير دلالة على كونهما وجوديين أو عدميين ، وتمسكات المخالف. إنما تدل
على أنهما ليسا عدميين من غير دلالة على كونهما موجوديين أو اعتباريين ، فالظاهر
أنهما لم يتواردا على محل واحد ، إلا أنا اقتفينا أثر القوم.
فالوجه الأول ؛ من تمسكات المخالف ، وهو مختص بالوجوب أنه لو كان عدميا لزم كون العدم مؤكدا للوجود ،
ومقتضيا لثباته ضرورة أن الوجوب تأكد الوجود واقتضاؤه ، واللازم باطل ، لأن العدم
مناف للوجود ، فكيف يؤكده؟!.
والجواب : أنه ليس
عدما محضا ليس له شائبة الوجود ، بل هو أمر اعتباري مفهومه ضرورة الوجود واقتضاؤه
، فيصلح مؤكدا له.
الثاني : أن الوجوب والإمكان لو كانا عدميين لزم ارتفاع النقيضين ، لأن
نقيضيهما. أعني اللاوجوب واللاإمكان أيضا عدميان ، لصدقهما على الممتنع مع القطع
بأن الوجودى لا يصدق على المعدوم ، وكون النقيضين عدميين هو معنى ارتفاعهما.
والجواب : أن صدق
الشيء على المعدوم لا ينافي كونه مفهوما ، يوجد بعض أفراده كالإنسان الصادق على
الممتنع وعلى الفرس ، ونحن لا نعني بالموجود والوجودي ، ما يكون جميع أفراده
الممكنة موجودة البتة ، ولو سلم ،
__________________
فلا نسلم استحالة
كون النقيضين عدميين. كيف وهو واقع كالامتناع واللاامتناع ، والعمى واللاعمى ، وما
ذكر من أنه ارتفاع النقيضين ممنوع ، بل معنى ارتفاع النقيضين في المفردات ، أن لا
يصدقا على شيء حتى لو لم يصدق الوجوب واللاوجوب على شيء ، بل كانا مسلوبين عنه ، كان ذلك ارتفاعا للنقيضين ، وليس معناه خلو النقيضين
عن الوجوب والثبوت في نفسهما ، بأن يكون الامتناع معدوما ، وكذا اللاامتناع لصدقه
على المعدوم الممكن ، فإن استحالة ذلك ممنوعة ، نعم ارتفاع النقيضين في القضايا هو أن لا تصدق القضيتان
المتناقضتان في أنفسها ، ولا يثبت مدلولاهما بأن يكذب قولنا ، هذه ممكن ، وهذا ليس
بممكن ، وهذا كسائر النسب من المساواة والعموم والخصوص ، والمباينة ، فإنها في
المفردات ، تكون باعتبار صدقها على الشيء. وفي القضايا باعتبار صدقها في نفسها ،
وثبوت مدلولاتها مثلا.
إذا قلنا الإنسان
أخص من الحيوان ، فمعناه أن كل ما صدق عليه الإنسان صدق عليه الحيوان من غير عكس.
وإذ قلنا :
الضرورية أخص من الدائمة ، فمعناه أنه كلما صدقت الضرورية في نفس الأمر ، صدقت
الدائمة من غير عكس. بمعنى أن كل موضوع ومحمول يصدق بينهما الإيجاب الضروري ، يصدق بينهما الإيجاب الدائمي ، وليس كل موضوع ومحمول
يصدق بينهما الإيجاب الدائمي ، يصدق بينهما الإيجاب الضروري.
الثالث : لو كان الوجوب والإمكان عدميين لا تحقق لهما إلا بحسب العقل ، لزم
أن لا يكون الواجب واجبا ، والممكن ممكنا. لا عند فرض العقل ، واعتباره وصفي الوجود
والإمكان ، لأن ما لا تحقق له إلا باعتبار العقل لا يقع وصفا للشيء إلا باعتباره ، واللازم باطل للقطع بأن الواجب واجب ،
__________________
والممكن ممكن سواء
وجد فرض العقل أو لم يوجد.
والجواب : أنا لا
نسلم الملازمة ، لجواز أن يكون المحمول مما لا تحقق له إلا في العقل ، ويكون صدقه
على الموضوع دائما ، بل ضروريا في نفس الأمر.
كقولنا : اجتماع
النقيضين معدوم وممتنع ، فإن هذا الحكم ضروري صادق في نفس الأمر ، مع أنه لا تحقق
للعدم والامتناع إلا بحسب العقل ، فكذا هاهنا الوجوب والإمكان عدميان ، والحكم بأن
الشيء واجب أو ممكن ضروري ، بمعنى أنه في نفس الأمر بحيث إذا نسبه العقل إلى
الوجود ، حصل معقول هو الوجوب أو الإمكان.
الرابع : أنهما لو كانا عدميين لزم سلب الوجوب عن الواجب ، والإمكان عن الممكن
بحسب الخارج ، سواء وجد اعتبار العقل أو لم يوجد ، لأن العدم في نفسه ، عدم
بالنسبة إلى كل شيء. وهذا معنى قولهم إمكانه ، لا في معنى لا إمكان له.
والجواب : المنع.
فإن معنى قولنا : إمكانه لا أن ذلك الوصف الصادق على الموضوع عدمي ، ومعنى
لا إمكان له ، أنه لا يصدق عليه ذلك الوصف ، كما في صدق العدم والامتناع. فإن بنى
ذلك على أنه لا تمايز في الإعدام.
أجيب : بأن
التمايز العقلي ضروري ، وهو كاف.
فإن قيل : ثبوت
الشيء للشيء. فرع ثبوته في نفسه ، فما لا يكون ثابتا في نفسه لا يكون ثابتا لغيره.
قلنا : نعم بمعنى
حصوله للشيء في الخارج كبياض الجسم ، وأما بمنع الحمل على الشيء ، والصدق عليه.
كما في قولنا : زيد أعمى ، والعنقاء لا موجود ، واجتماع النقيضين ممتنع فلا ، فإن
الأوصاف الصادقة على الشيء بعضها ثبوتية ، وبعضها سلبية.
__________________
المبحث الخامس
احتياج الممكن إلى المؤثر
(قال : المبحث الخامس : الضرورة قاضية باحتياج الممكن إلى المؤثر ، وامتناع ترجح أحد طرفيه بلا مرجح . وخفاء التصديق بخفاء التصور غير قادح).
من خواص الممكن :
أنه يحتاج في وجوده وعدمه إلى سبب ، وأنه لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح ، ولتلازم
هذين المعنيين ، بل لتقارب مفهوميهما جدا قد يجعل الثاني تفسيرا للأول ، والجمهور على
أن هذا الحكم ضروري بعد تلخيص معنى الموضوع والمحمول ، من غير أن يفتقر إلى برهان.
فإن معنى الممكن ما لا يقتضي ذاته وجوده ولا عدمه ، ومعنى الاحتياج أن كلا من
وجوده وعدمه ، يكون لا لذاته ، بل لأمر خارج.
فإن قيل : يحتمل
أن لا يكون لذاته ولا لأمر خارج ، بل لمجرد الاتفاق.
قلنا : هذا مما
يظهر بطلانه بأدنى التفات ، ولهذا يحكم به من لا
__________________
يتأتى منه النظر والاستدلال ، ثم اختلاف البعض في نفس الحكم أو
في بداهته ، والتفاوت بينه ، وبين قولنا الواحد نصف الاثنين لا ينافي البداهة على
ما سبق ، وأما ما ذهب إليه الكثيرون. من أن الله تعالى خلق العالم في وقت دون سائر
الأوقات من غير مرجح ، وخصص أفعال المكلفين بأحكام مخصوصة من غير أن يكون فيها ما
يقتضي ذلك ، وأن قدرة القادر قد تتعلق بالفعل أو الترك من غير مرجح ، فليس من ترجح
الممكن بلا مرجح ، بل من ترجح المختار أحد المتساويين من غير مرجح ، ونحن لا نقول
بامتناعه فضلا عن أن يكون ضروريا ، وإلى هذا يستند عندنا اختلاف حركات الكواكب ،
ومواضعها ، وأوضاعها.
وأما الفلاسفة
القائلون بالإيجاب دون الاختيار ، فلا يلتزمون وقوع تلك الاختلافات والاختصاصات
بلا سبب ، بل يعترفون باستنادها إلى أسباب فاعلية ، لا اطلاع على تفاصيلها. ففي
الجملة لم يقل أحد ممن يعتد به بوقوع الممكن بلا سبب.
الاستدلال على احتياج الممكن إلى المؤثر
(قال : والاستدلال بأن وقوع أحدهما بلا سبب يقتضي رجحانه فينافي التساوي ، وبأنه لا بد من مرجح قبل الوجود ، وهو وجودي يقوم بالمؤثر ضرورة تأخر الأثر ضعيف).
القائلون بأن
الحكم بامتناع الترجح بلا مرجح كسبي ، استدلوا عليه بوجهين :
__________________
الأول : أن الإمكان يستلزم تساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى ذات الممكن ، وهذا
معنى اقتضاء ماهية الممكن لتساوي الطرفين ، ووقوع أحدهما بلا مرجح يستلزم رجحانه ،
وهما متنافيان.
والجواب : أن
التساوي بالنظر إلى الذات ، إنما ينافي الرجحان بحسب الذات وهو غير لازم.
فإن قيل : الترجح
إذا لم يكن بالغير كان بالذات ضرورة أنه لا ثالث.
قلنا : نفس
المتنازع لجواز أن يقع بحسب الاتفاق من غير سبب.
الثاني ؛ أن الممكن ما لم يترجح لم يوجد ، وترجحه أمر حدث بعد أن لم يكن فيكون
وجوديا ، ولا بد له من محل ، وليس هو الأثر لتأخره عن الترجيح ، فيكون هو المؤثر
لعدم الثالث فلا بد منه.
والجواب : أن
الترجح مع الوجود لا قبله ، إذ لا يتصور رجحان الوجود مع كون الواقع هو العدم ولو
سلم فقيام ترجح وجود الممكن أو عدمه بالمؤثر ، ضروري البطلان. والمذكور في كلام
الإمام. فكان الترجح الوجوب ، وهما متلازمان ، بناء على أن أحد الطرفين يمتنع وقوعه مع التساوي. فكيف مع المرجوحية.
فالراجح لا يكون إلا واجبا ، وهذا الوجوب متقدم على الوجود ، على ما سيجيء من أن
وجود الممكن محفوف بوجوبين سابق ولاحق. وهو نسبة بين المؤثر والأثر ، يسمى من حيث
الإضافة إلى المؤثر إيجابا ، وإلى الأثر وجوبا ، فمنع سبقه على الوجود ، وكونه
وصفا للمؤثر ليس بسديد ، سيما وقد قال الإمام في المباحث المشرقية : إنه على تقدير كونه ثبوتيا. فمعنى عروضه للمؤثر أنه يصير
محكوما عليه بوجوب أن يصدر عنه ذلك الأثر ،
__________________
فالأولى منع كونه
أمرا محققا مفتقرا إلى ما يقوم به في الخارج ، بل هو أمر عقلي قائم بالمتصور من
الممكن عند الحكم بحدوثه.
شبه المنكرين على عدم الاحتياج
(قال : ومن أقوى شبه المنكرين أن التأخير حال الوجود ، إيجاد للموجود ، وحال العدم جمع بين النقيضين ، وأن الضرورة قاضية بوقع
الترجيح بلا مرجح في مثل الهارب من السبع ، يسلك أحد الطريقين ، والعطشان يشرب أحد
الماءين مع التساوي ، وأن العدم نفي محض لا يصلح أثرا.
والجواب عن الأول
: أن المحال إيجاد الموجود ، بوجود حاصل ، بغير هذا الإيجاد ، وهو غير لازم ،
غايته أن الوجود يقارن الإيجاد بالزمان ، وهو لا ينافي التأخر بالذات.
وعن الثاني : أن
اللازم على تقدير التسليم ترجيح المختار أحد المتساويين ، بلا مخصص لا الترجح بلا
سبب.
فإن قيل : هذا
الاختيار والترجيح وقع بلا سبب.
قلنا : ممنوع ، بل
الإرادة التي من شأنها الترجيح والتخصيص.
وعن الثالث : أنه
عدم مضاف مستند إلى عدم العلة. بمعنى أن العقل يحكم بأنه عدم لعدم علته ، وأما
التمسك بأن العلية لكونها نقيض اللاعلية ثبوتية. وكذا موصوفها ، وبأن التأثير إما
في الماهية ، أو الوجود ، أو الموصوفية ، والكل باطل لما سبق ، وبأنه لو وجدت المؤثر به أو الحاجة تسلسلت فضعفه
ظاهر).
__________________
ذكر الإمام من
جانب المنكرين ، لامتناع وقوع الممكن بلا سبب كديمقراطيس وأتباعه القائلين : بأن
وجود السموات بطريق الاتفاق ، شبها منها ، أنه لو احتاج الممكن إلى مؤثر فتأثيره
فيه ، إما أن يكون حال وجوده ، وهو إيجاب للموجود ، وتحصيل للحاصل ، أو حال عدمه ،
وهو جمع بين النقيضين ، أعني العدم الذي كان ، والوجود الذي حصل ، وما ذكر في
المواقف من أن كون التأثير حال العدم باطل ، لأنه جمع بين النقيضين ، ولأن العدم
نفي صرف ، فلا يصلح أثرا ، ولأنه مستمر ، فلا يستند إلى مؤثر الوجود ، ليس على ما
ينبغي ، لأن الكلام في التأثير بمعنى الإيجاد ، وإلا لما صح أن التأثير حال الوجود
، إيجاد الموجود ، وحال العدم جمع النقيضين ، على أن الوجه الثالث ليس بتام ، لأن
العدم ربما يكون حادثا لا مستمرا ، لا يقال في الكلام اختصار. والمراد أن التأثير
أعم من الإيجاد والإعدام ، أما حال الوجود وهو باطل ، لأنه إيجاد الموجود ، ولأن
العدم نفي محض ، وأما حال العدم ، وهو باطل ، لأنه جمع النقيضين ، ولأن
العدم نفي محض ، لأنا نقول ، لو أريد ذلك لم يكن لقوله ، فلا يستند معنى الوجود
إلى مؤثر ، لأن العدم على تقدير كونه أثرا ، إنما يستند إلى مؤثر العدم لا الوجود.
وبهذا تبين ، أن ليس قوله. ولأنه نفي محض ، أو قوله : ولأنه مستمر ابتداء شبهة على
نفي التأثير. بمعنى أن الممكن لو احتاج إلى مؤثر في وجوده ، لاحتاج إليه في عدمه ،
وهو باطل ، لأنه نفي محض ، ولأنه مستمر. كيف : وقد أورد بعد ذلك هذه
الشبهة بعينها ، والمذكور في كلام الإمام. أن التأثير حال العدم باطل ، لأنه لا
أثر حينئذ ، فلا تأثير ، لأنه إما عين الأثر ، أو ملزومه ، بناء على أن كون المعلول متأخرا عن العلة ، مع العلة بحسب الزمان.
والجواب : أنا
نختار أن التأثير حال الوجود. فإن أريد بإيجاد الموجود ،
__________________
الموجود بالوجود الحاصل بهذا الإيجاد ، فلا نسلم استحالته ، كما في
القابل. فإن السواد قائم بالجسم الأسود بهذا السواد ، وإن أريد بوجود آخر سابق ،
فلا نسلم لزومه ، فإن الوجود الحاصل بالتأثير مقارن له. وقد نختار أن التأثير حال
العدم ، ولا جمع بين النقيضين ، لأن الأثر عقيب آن التأثير ، بناء على أن المؤثر
سابق على الأثر بالزمان أيضا ، ومعنى امتناع التخلف أنه لا يتخللهما آن ، وكان هذا
مراد من أجاب بأن وجود المؤثر يستتبع وجود الأثر ، على معنى أن وجود الأثر يحصل
عقيب وجود المؤثر بصفة المؤثرية ، وهو معنى التأثير. فيكون في آن عدم الأثر ،
ويكون معنى تأثيره في الممكن إخراجه من العدم إلى الوجود ، ومنها أنه لو امتنع
وقوع الممكن بلا مؤثر ، وترجحه بلا مرجح ، لما وقع. واللازم باطل بحكم الضرورة ،
في مثل العطشان يشرب أحد الماءين ، والجائع يأكل أحد الرغيفين ، والهارب من السبع
يسلك أحد الطريقين ، مع فرض التساوي وعدم المرجح.
والجواب ؛ بعد
تسليم عدم المرجح عند العقل أصلا ، أن هذا ليس من وقوع الممكن بلا سبب ، وترجح أحد
طرفيه بلا مرجح ، بل من ترجيح المختار أحد الأمرين المتساويين من غير مرجح ومخصص ،
وهو غير المتنازع.
فإن قيل : هذا
الاختيار والترجيح أمر ممكن وقع بلا سبب وفيه المطلوب.
قلنا : ممنوع. بل
إنما وقع بالإرادة التي من شأنها الترجيح والتخصيص ومنها أنه لو احتاج الممكن في
وجوده إلى المؤثر ، لاحتاج إليه في عدمه لتساويها واللازم باطل ، لأن العدم نفي
محض لا يصلح أثرا.
والجواب : أن
العدم إن لم يصلح أثرا ، منعنا الملازمة لجواز أن يتساوى
__________________
الوجود والعدم
بالنظر إلى ذات الممكن ، لكن لا يحتاج العدم إلى المؤثر لعدم صلوحه لذلك بخلاف الوجود ، فإن المقتضى فيه سالم عن المانع ، وإن صلح
أثرا منعنا بطلان اللازم ، وهو ظاهر. وتحقيقه أنه وإن كان نفيا صرفا ، بمعنى أنه
ليس له شائبة الوجود العيني ، لكن ليس نفيا صرفا. بمعنى أن لا يضاف إلى ما يتصف
بالوجود ، بل هو عدم مضاف إلى الممكن الوجود ، فيستند إلى عدم علة وجوده ، بمعنى
احتياجه إليه عند العقل ، حيث يحكم بأنه إنما بقى عدمه الأصلي ، أو اتصف بعدمه الطارئ ، بناء على عدم
وجوده مستمرا أو طارئا.
فإن قيل : العدم
لا يصلح علة ، لأن العلة وجودية ، لكونها نقيض اللاعلية العدمية ، فيفتقر إلى موصوف وجودي ، ولأنه لا تمايز في
الإعدام ، فلا يصلح بعضها علة ، وبعضها معلولا.
قلنا : مجرد صورة
السلب أو الصدق ، على المعدوم في الجملة لا يقتضي كون المفهوم الكلي عدميا ، بجميع جزئياته ، ولو
سلم فنقيض العدمي لا يلزم أن يكون وجوديا. وقد سبق مثل ذلك ، وعدم تمايز الإعدام
ممنوع التحقيق : أن تساوي طرفي الممكن إلا في العقل ، فالمرجح لا يكون إلا عقليا ،
وعدم العلة ، أو عدم الممكن ليس نفيا صرفا ، بل كل منهما ثابت في العقل ، ممتاز عن
الآخر ، فيصلح أحدهما علة للآخر في حكم العقل ، ولا يلزم عنه صلوح عليته للوجود ،
ليلزم انسداد إثبات الصانع ، لأن ذلك إنما يكون بحسب الخارج ، ومنها أن الممكن لو
احتاج إلى مؤثر ، فتأثيره إما في ماهية الممكن أو وجوده ، أو موصوفيته بالوجود ،
إذ لا يعقل غير ذلك ، والكل باطل لما مر في نفي شيئية المعدوم ، ومجعولية الماهية
، من أن الماهية ماهية ، والوجود وجود ، والموصوفية موصوفية سواء وجد الغير أو لم
يوجد ،
__________________
وأن الوجود حال لا تأثير فيه ، وأن الموصوفية أمر اعتباري لا تحقق له في
الأعيان.
والجواب ؛ أن التأثير في الماهية بأن يجعلها متحققة. لا بأن يجعلها ماهية ، أو
في الوجود الخاص بأن يحصله للماهية. لا بأن يجعله وجودا ، ومنها أنه لو وجدت مؤثرية
المؤثر في الممكن ، أو احتياج الممكن إليه ، لكان كل منهما أمرا ممكنا له مؤثر واحتياج ، ويتسلسل ، ولا يندفع بأن مؤثرية المؤثر في الممكن ،
واحتياج الاحتياج عينه لأن ذلك يمتنع في الأمور التي بها تحقق في الأعيان.
الجواب أن يكون
المؤثرية أو الاحتياج اعتباريا ، لا ينافي كون المؤثر مؤثرا ، أو المحتاج محتاجا
على ما سبق غير مرة. وما يقال : من أنه لو حصل في العقل دون الخارج كان جهلا
لانتفاء المطابقة ، وأن كلا منهما صفة حاصلة قبل الأذهان ، فيستحيل قيامها بالذهن.
فجوابه. أن عدم
المطابقة للخارج إنما يكون جهلا ، إذا حكم العقل بالثبوت في الخارج ، ولم يثبت ،
وأن الحاصل قبل الأذهان هو كون الشيء بحيث إذا تعقله الذهن حصل فيه معقول ، هو
المؤثرية أو الحاجة.
__________________
المبحث السادس
في موجب احتياج الممكن إلى المؤثر
(قال : المبحث السادس : العقل بحكم الاحتياج بمجرد ملاحظة كون الذات غير مقتضية للوجود والعدم ، فيكون المحوج هو الإمكان. الحدوث مستقلا أو شرطا أو شطرا كيف. والحدوث صفة للوجود المتأخر عن التأثر المتأخر عن
الاحتياج؟
وكثير من
المتكلمين عكسوا الدعوى ، والدليل والابطال. فقالوا : العقل يحكم بالاحتياج بمجرد ملاحظة أن
الشيء لم يكن فكان ، فيكون المحوج هو الحدوث لا الإمكان ، كيف وهو كيفية نسبة الماهية إلى الوجود المتأخر عن الاحتياج.
الجواب : بأنا لا نعني أن الإمكان يتحقق فيوجب احتياجا ، بل إن العقل يلاحظ الإمكان
فيحكم بالاحتياج ، كما يقال علة الاحتياج إلى الخير هو
__________________
التحيز ، جوابهم بعينه ، والاعتراض بأنه لا احتياج حال البقاء ، لأن التأثير حال البقاء في
الوجود ، تحصيل الحاصل.
قيل : وفي البقاء
وفي أمر متجدد تأثير في غير الباقي جاز في الإمكان مع زيادة حال ما قبل الوجود ،
فإنه نفي محض.
الجواب : أن معنى الاحتياج إلى المؤثر ، توقف الوجود أو العدم أو استمراره على أمر ما).
قد سبق أن الممكن
محتاج إلى السبب. إلا أن ذلك عند الفلاسفة وبعض المتكلمين لإمكانه ، وعند قدماء
المتكلمين لحدوثه ، وقيل لإمكانه مع الحدوث ، وقيل بشرط الحدوث. احتجت الفلاسفة
على دعواهم ، بأن العقل إذا لاحظ كون الشيء غير مقتضي الوجود أو العدم بالنظر إلى
ذاته. حكم بأن وجوده أو عدمه لا يكون إلا بسبب خارج وهو معنى الاحتياج ، سواء لاحظ
كونه مسبوقا بالعدم أو لم يلاحظ. واحتجوا على إبطال مذهب المخالف ، بأن الحدوث وصف
للوجود ، ومتأخر عنه لكونه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم ، والوجود متأخر عن
تأثير المؤثر ، وهو عن الاحتياج إليه ، وهو عن علة الاحتياج وجزئها وشرطها ، فلو
كان الحدوث علة للاحتياج أو جزؤها أو شرطها ، لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب ،
وعارضهم بعض المتكلمين ، فقالوا : سبب الاحتياج هو الحدوث ، لأن العقل إذا لاحظ
كون الشيء مما يوجد بعد العدم ، حكم باحتياجه إلى علة تخرجه من العدم إلى
الوجود ، وإن لم يلاحظ كونه غير ضروري الوجود والعدم ، ولا يجوز أن يكون هو
الإمكان ، لأنه كيفية لنسبة الوجود إلى الماهية ، فيتأخر عن الوجود المتأخر عن التأثير
المتأخر عن الاحتياج إلى المؤثر. والحق أن هذه العلة إنما هي بحسب العقل بمعنى أنه
يلاحظ الإمكان
__________________
أو الحدوث فيحكم
بالاحتياج. كما يقال علة الحصول في الخير هو التحيز لا بحسب الخارج ، بأن يتحقق
الإمكان أو الحدث فيوجد الاحتياج ، وبهذا يظهر أن كلام الفريقين في الإبطال
مغالطة. وأما في الإثبات فكلام المتأخرين أظهر ، وبالقبول أجدر.
واعترض : بأنه لو
كان علة الاحتياج إلى المؤثر هو الإمكان أو الحدوث ، وهما لازمان للممكن ، والحادث
لزم احتياجهما حالة البقاء لدوام المعلول بدوام العلة ، واللازم باطل ، لأن
التأثير حينئذ. إما في الوجود وقد حصل بمجرد وجود المؤثر فيلزم تحصيل الحاصل بحصول
سابق ، وإما في البقاء أو في أمر آخر متجدد ، وهو تأثير في غير الباقي ، اعني
الممكن والحادث فيلزم استغناؤهما عن المؤثر ، وفي كون الإمكان علة الاحتياج فساد
آخر ، وهو احتياج الممكن إلى المؤثر حال عدمه السابق ، مع أنه نفي محض أزلي لا
يعقل له مؤثر.
الجواب ؛ أن معنى
احتياج الممكن أو الحادث إلى المؤثر ، توقف حصول الوجود له أو العدم أو استمرارهما
على تحقق أمر أو انتفائه ، بمعنى امتناعه بدون ذلك ، وهو معنى دوام الأثر بدوام
المؤثر ، وإذا تحققت فاستمرار الوجود. أعني البقاء ، ليس إلا وجودا مأخوذا بالإضافة إلى الزمان الثاني ، وصحة قولنا : وجد فلم يبق
ولم يستمر لا يدل إلا على مغايرة البقاء لمطلق الوجود ولا نزاع في ذلك.
__________________
المبحث السابع
تساوي طرفي الممكن بالنسبة إلى ذاته
(قال : المبحث السابع : لا أولوية لأحد طرفي الممكن نظرا إلى ذاته ، وقيل بأولوية العدم مطلقا ، وقيل في الأعراض السيالة ، والظاهر أنه إن أريد فلأولوية بحيث يستغني الوقوع عن سبب
، فضروري البطلان ، وإن أريد القرب إلى الوقوع لقلة الشروط والموانع ، وكثرة اتفاق
الأسباب فعائد إلى الغير ، وإن أريد اقتضاء ما للوجود أو العدم لا إلى حد
الوجوب فمحتمل والاستدلال على امتناعه ، بأنه إن امتنع مع تلك الأولوية ،
وقوع الطرف الآخر ، وجب هذا ، وإن أمكن فإما بلا سبب فيترجح المرجوح ، أو بسبب
فيتوقف هذا على عدمه ، فلا يكون أولى لذاته ، وبأن اقتضاء التساوي ينافي اقتضاء
أولوية أحدهما ، وبأنه إن أمكن زوالها بسبب لم تكن ذاتية ، بل متوقفة على عدمه ،
وإن لم يمكن ، كانت الماهية واجبة أو ممتنعة ضعيف ، لأن المتوقف على عدم ذلك السبب
هو الوقوع لا الأولوية ، ولأن عدم اقتضاء
__________________
أحدهما غير اقتضاء
التساوي ، ولأنه لا يلزم من امتناع زوال أولوية طرف وقوعه ، فضلا
عن كونه ضروريا ، فجواز وقوع الآخر بأولوية خارجية منتهية إلى حد الوجوب ).
الجمهور على أن
وجود الممكن وعدمه بالنظر إلى ذاته على السواء ، لا أولوية لأحدهما عن الآخر ، وقيل
العدم أولى بالممكن جوهرا كان أو عرضا زائلا أو باقيا لتحققه بدون تحقق سبب مؤثر ،
ولحصوله بانتفاء شيء من أجزاء العلة التامة للوجود المفترق إلى تحقق جميعها.
ورد : بأن الممكن
كما يستند وجوده إلى وجود العلة ، يستند عدمه إلى عدمها ، ولا معنى لعدم المركب
سوى أن لا يتحقق جميع أجزائه ، سواء تحقق البعض أو لم يتحقق ، وهذا القدر لا يقتضي
أولوية العدم بالنظر إلى ذات الممكن بمعنى أن يكون له نوع اقتضاء للعدم.
وقيل : العدم أولى
بالأعراض السيالة كالحركة والزمان والصوت وصفاتها ، بدليل امتناع البقاء عليها ،
والذي يقتضيه النظر الصائب. أنه أريد بأولوية الوجود أو العدم ترجحه بالنظر إلى
ذات الممكن ، بحيث يقع بلا سبب خارج ، فبطلانه ضروري ، لأنه حينئذ يكون واجبا ، أو
ممتنعا ، لا ممكنا.
فإن قيل : هذا
إنما يلزم لو لم يكن وقوع الطرف الآخر بمرجح خارجي.
قلنا : فيتوقف
وقوع الطرف الأولى إلى عدم المرجح الخارجي ، وإن أريد بالأولوية كونه أقرب إلى
الوقوع لقلة شروطه وموانعه ، وكثرة اتفاق أسبابه ، فهذه الرواية بالغير لا بالذات وهو ظاهر. وإن أريد : أن الممكن قد يكون
بحيث إذ لاحظه العقل وجد فيه نوع اقتضاء للوجود أو للعدم ، لا إلى حد
__________________
الوجوب ليلزم كونه
واجبا أو ممتنعا ، فلا يظهر امتناعه. واستدل الجمهور على امتناعه بوجوه: ـ
الأول : أنه لو كان أحد الطرفين أولى بالممكن نظر إلى ذاته ، فمع تلك الأولوية
، إما أن يمتنع وقوع الطرف الآخر فيكون الطرف الأولى واجبا لذات الممكن فلا يكون
ممكنا ، بل واجبا أو ممتنعا هذا خلف ، وإنما يمكن ، وحينئذ فوقوعه إما أن يكون بلا سبب يرجحه ، فيلزم
ترجيح المرجوح. أعني الطرف الغير الأولى ، أو يكون بسبب بغير رجحانه فيكون وقوع الطرف الأولى متوقفا على عدم ذلك السبب ، فلا يكون أولى بالنظر إلى ذات الممكن ، بل مع عدم
ذلك السبب هذا خلف.
والجواب : أنه لا
يلزم من توقف الوقوع على أمر توقف الأولوية عليه ، حتى يلزم كونها غير ذاتية ،
وذلك لأن التقدير : أن المراد بها رجحان ما لا إلى حد الوجوب.
الثاني : أن الممكن يقتضي تساوي الوجود والعدم بالنظر إلى ذاته ، لما أن كلا منهما
لا يكون إلا بالغير ، فلو اقتضى أحدهما لذاته لزم اجتماع المتنافيين. أعني اقتضاء
التساوي ولا اقتضاءه.
والجواب : أنا لا
نسلم أن الممكن يقتضي تساوي الطرفين ، بل لا يقتضي وقوع أحدهما وهو لا ينافي
اقتضاء أحدهما لا إلى حد الوجوب ، والوقوع على ما هو المراد بالأولوية.
الثالث : أنه لو كان أحد الطرفين أولى لذات الممكن ، فإما أن يمكن زوال تلك
الأولوية بسبب أو لا. فإن أمكن لم تكن الأولوية ذاتية لتوقفها على عدم ذلك السبب ،
ولأن ما بالذات لا يزول بالغير ، وإن لم يمكن كان الطرف
__________________
الأولى ضروريا
بالذات الممكن ، فلم يكن الممكن ممكنا ، بل واجبا إن كان هو الوجود ، وممتنعا إن كان هو
العدم.
والجواب : أنه لا
يلزم من امتناع زوال أولوية الوجود أو العدم بالمعنى الذي ذكرنا وقوعه ، فضلا عن
كونه ضروريا ليلزم وجوب الممكن أو امتناعه ، وذلك لأنه يجوز أن يقتضي ذات الممكن
الوجود اقتضاء ما لا إلى حد الوجوب والوقوع ، ويقع العدم باقتضاء أسباب خارجية ،
تنتهي إلى حد الوجوب والوقوع أو بالعكس ، وتكون الأولوية الذاتية بحالها باقية غير
زائلة.
(قال : إذ لا بد من ذلك لأن الوقوع تارة ، واللاوقوع أخرى من استواء الحالين ترجح بلا مرجح ، فالممكن ما لم يجب صدوره لم يوجد ، وعين الوجود امتنع عدمه ، فوجوده محفوف بوجودين
سابق ولاحق ، وليس معنى السبق الاحتياج في التحقق أو التعقل ، بل في اعتبار العقل
عند ملاحظة هذه المعاني . بمعنى أنه يحكم بأنه لم يوجد ما لم يجب.
وهذا الوجوب لا
ينافي الاختيار لكونه بالاختيار الذي هو من تمام العلة).
يعني أنه لا يكفي
في الوقوع مجرد الأولوية ، بل لا بد من انتهائها إلى حد الوجوب ، بأن يصير الطرف
الآخر ممتنعا بالغير ، إذ لو جاز وقوعه أيضا ، لكان وقوع الطرف الأول تارة ، ولا
وقوعه أخرى مع استواء الحالين ، حيث لم يوجد إلا مجرد الأولوية ترجحا بلا مرجح.
فالممكن بحسب صدوره عن العلة ،
__________________
ثم يوجد ، وهذا
وجوب سابق ، وبعد ما وجد يمتنع عدمه ضرورة امتناع اجتماع الوجود والعدم وهذا وجوب لاحق يسمى بالضرورة ، بشرط
المحمول.
فإن قيل : سبق
الوجوب على الوجود غير معقول ، أما الزمان فظاهر ، وأما بالذات بمعنى الاحتياج
إليه ، فلأنه أما أن يراد الاحتياج في الوجود العيني وهو باطل ، لأن الوجوب
والوجود ، ليسا أمرين متميزين في الخارج ، يتوقف أحدهما على الآخر ، ولو كان
فالوجوب صفة للوجود ، فيكون متأخرا عنه لا متقدما ، أو في الوجود الذهني ، وهو أيضا باطل. لظهور
أنه لا يتوقف تعقل الوجود على تعقل الوجوب ، بل ربما يكون بالعكس.
قلنا : المراد
السبق بمعنى الاحتياج في اعتبار العقل عند ملاحظة هذه المعاني ، واعتبار الترتيب
فيما بينهما ، فإنه يحكم قطعا بأنه ما لم يتحقق علة الممكن لم يجب هو وما لم يجب
لم يوجد.
فإن قيل : حكم
العقل بهذا الترتيب باطل ، لأنه لا وجوب بالنسبة إلى العلة الناقصة، بل التامة.
والوجوب إذا كان مما يتوقف عليه الوجود كان جزءا من العلة التامة ،
فيكون متقدما عليها لا متأخرا.
قلنا : جزء العلة
التامة ، ما يتوقف عليه المعلول في الخارج لا في اعتبار العقل ، ولو سلم فالوجوب
يعتبر بالنسبة إلى علة ناقصة ، من هي جميع ما يتوقف عليه الوجود سوى الوجوب.
فإن قيل : ما
ذكرتم من كون وجود الممكن مسبوقا بالوجوب لا يصح فيما يصدر عن الفاعل بالاختيار ، لأن الوجوب ينافي الاختيار ، وحينئذ
ينتقض دليلكم.
__________________
قلنا : إذا كان
الاختيار من تمام العلة لم يتحقق الوجوب ، إلا بعد تحقيق الاختيار ، وكون المعلول
واجبا بالاختيار ، لا ينافي كونه مختارا بل يحققه.
تم بعون الله الجزء
الأول من كتاب شرح المقاصد ويليه إن شاء الله الجزء الثاني وأوله المنهج الثالث.
فهرس الجزء الأول
من شرح المقاصد
١
|
تصدير
فضيلة الشيخ صالح موسى شرف
|
٩
|
٢
|
تمهيد
|
١٩
|
٣
|
علم الكلام بين القبول والرفض
|
٢١
|
٤
|
هل كان المسلمون في حاجة إلى علم
الكلام
|
٣٢
|
٥
|
موقف السلف من علم الكلام
|
٣٤
|
٦
|
علم الجدل. نشأته وتطوره
|
٤٥
|
٧
|
الحالة السياسية والعلمية والاجتماعية
في عصر التفتازاني
|
٦٣
|
٨
|
الحالة السياسية
|
٦٥
|
٩
|
الحالة العلمية
|
٦٨
|
١٠
|
الحالة الاجتماعية
|
٧١
|
١١
|
سعد الدين التفتازاني اسمه ونسبه
|
٧٣
|
١٢
|
مولده
|
٧٦
|
١٣
|
نشأته
|
٧٨
|
١٤
|
إعداده الفكري وتكوينه العلمي
|
٨٢
|
١٥
|
المدرسة الأولى التي تلقى فيها علمه
|
٨٢
|
١٦
|
شيوخه وأساتذته
|
٩٠
|
|
١ ـ عضد الدين
الإيجي
|
٩١
|
|
٢ ـ ضياء الدين عبد
الله بن سعد الله القزويني
|
٩٤
|
|
٣ ـ قطب الدين محمد
بن محمد الرازي
|
٩٥
|
|
٤ ـ نسيم الدين أبو
عبد الله
|
٩٧
|
|
٥ ـ أحمد بن عبد
الوهاب القوصي
|
٩٨
|
١٧
|
آثاره ـ کتبه ومؤلفاته. تلامذته وطلاب المعرفة في مدرسته
|
٩٩
|
١٨
|
تمهيد
|
٩٩
|
|
١ ـ كتبه ومؤلفاته
|
١٠١
|
|
٢ ـ تلامذته وطلاب المعرفة في مدرسته
|
١١٢
|
١٩
|
مكانته العلمية وأي العلماء فيه
|
١٢٥
|
٢٠
|
وفاته
|
١٣٠
|
|
نماذج من المخطوطات
|
١٣٣
|
٢١
|
كتاب شرح المقاصد
|
١٤١
|
|
منهجنا في تحقيق الكتاب
|
١٤٣
|
٢٢
|
مقدمة المؤلف
|
١٥١
|
٢٣
|
المقصد الأول في المبادئ وفيه ثلاثة فصول
|
١٦١
|
٢٤
|
الفصل الأول : في المقدمات
|
١٦٣
|
٢٥
|
تعريف علم الكلام
|
١٦٣
|
٢٦
|
موضوعه
|
١٦٧
|
|
موضوع علم الكلام
|
١٧٣
|
٢٧
|
مسائل علم الكلام
|
١٧٥
|
٢٨
|
غاية علم الكلام
|
١٧٥
|
٢٩
|
علم الكلام أشرف العلوم
|
١٧٥
|
٣٠
|
اختلاف الباحثين في حقيقة علم الكلام
|
١٧٨
|
٣١
|
الفصل الثاني : في العلم وفيه مباحث
|
١٨٧
|
٣١
|
المبحث الأول : تعزيف العلم
|
١٨٩
|
٣٣
|
المبحث الثاني : تقسيم العلم إلى تصديق وتصور
|
١٩٨
|
٣٤
|
معلوم من وجه :
مجهول من وجه
|
٢٠٤
|
٣٥
|
المبحث الثالث :
التصورات الضرورية
|
٢١٠
|
٣٦
|
الفصل الثالث : في
النظر وفيه مباحث
|
٢٢٥
|
٣٧
|
المبحث الأول : في
تصوره وتعريفه
|
٢٢٧
|
٣٨
|
المبحث الثاني :
تقسيم النظر إلى صحيح وفاسد
|
٢٣٤
|
٣٩
|
النظر الصحيح
|
٢٣٥
|
٤٠
|
النظر الفاسد
|
٢٥١
|
٤١
|
المبحث الثالث : في
شرائط النظر
|
٢٥٥
|
٤٢
|
المبحث الرابع : في
التوصل بالنظر إلى معرفة الله تعالى
|
٢٦٢
|
٤٣
|
المبحث الخامس : في
أول الواجبات
|
٢٧١
|
٤٤
|
المبحث السادس : في
انقسامه إلى التصور والتصديق
|
٢٧٤
|
|
المقصد الثاني في
ثلاثة فصول
|
٢٨٧
|
٤٥
|
في الأمور العامة
|
٢٨٩
|
٤٦
|
الفصل الأول : في
الوجود والعدم
|
٢٩٣
|
٤٧
|
التصديق ببداهة تصور
الوجود
|
٢٩٧
|
٤٨
|
الوجود نفس الماهية
أو زائد عليها
|
٣٠٣
|
٤٩
|
المبحث الثاني : في
أن الوجود مفهوم مشترك بين الموجودات
|
٣٠٧
|
٥٠
|
زيادة الوجود على الماهية
|
٣١٠
|
٥١
|
أدلة المتكلمين على
زيادة وجود الواجب على ماهيته
|
٣١٦
|
٥٢
|
منع تساوی
وجود الواجب والممكن في الماهية
|
٣٢١
|
٥٣
|
أدلة القائلين بأن
الوجود نفس الماهية
|
٣٢١
|
٥٤
|
التوفيق بين الأراء
المتنازعة
|
٣٢٧
|
٥٥
|
الوجود زائد على
الماهية ذهناً في الممكن
|
٣٣٠
|
٥٦
|
حقيقة الواجب هو
مطلق الوجود
|
٣٣٥
|
٥٧
|
اختلاف العقلاء في
الوجود هو جزئي أو كل
|
٣٤٠
|
٥٨
|
المبحث الثالث :
تقسيم الوجود عيناً وذهنياً ولفظياً وخطياً
|
٣٤٢
|
٥٩
|
الاستدلال على إثبات
الوجود الذهني
|
٣٤٥
|
٦٠
|
اتصالات الذهن
بالحرارة والبرودة بديهي الاستحالة
|
٣٤٩
|
٦١
|
المبحث الرابع :
الوجود يرادف الثبوت
|
٣٥١
|
٦٢
|
نفي ثبوت المعدوم
ونفي الواسطة بينه وبين الوجود
|
٣٥٥
|
٦٣
|
أدلة القائلين
بشيتية المعدوم والرد عليهم
|
٣٦١
|
٦٤
|
الاختلاف إذا كانت
الشيئة بعض الثبوت العيني
|
٣٦٤
|
٦٥
|
الأدلة على ثبوت
الحال
|
٣٦٦
|
٦٦
|
نقض أدلة إثبات
الحال
|
٣٧١
|
٦٧
|
من أدلة إثبات الحال
|
٣٧٣
|
٦٨
|
ذكر تفريعات
المثبتين لشيئة المعدوم والحال
|
٣٧٤
|
٦٩
|
أدلتهم على ثبوت
الحال تقسيمه
|
٣٧٨
|
٧٠
|
أدلة بطلان ثبوت
المعدوم والحال
|
٣٧٩
|
٧١
|
المبحث الخامس :
تمايز الإعدام في العقل وما يتعلق بذلك
|
٣٨٢
|
٧٢
|
لاحجر على تصورات
العقل فقد يجمع بين متنافيين
|
٣٨٦
|
٧٣
|
المبحث السادس :
الوجود والعدم كل منهما يكون محمولاً ورابطة
|
٣٨٨
|
٧٤
|
دفع توهم في حمل
الوجود والعدم على الماهية
|
٣٩٠
|
٧٥
|
إثبات صحة الحكم
|
٣٩١
|
|
الفصل الثاني :
الماهية وفيه أربعة مباحث
|
٣٩٧
|
٧٦
|
المبحث الأول :
الماهية
|
٣٩٩
|
٧٧
|
تحقيق الماهية
باعتبار تميزها عن العوارض
|
٤٠٠
|
٧٨
|
المبحث الثاني :
تقسيم الماهية باعتبار ثبوت العوارض أو نفيها
|
٤٠٣
|
٧٩
|
ما نقل عن أفلاطون
يفيد ظاهرة وجود الماهية
|
٤٠٥
|
٨٠
|
القسم الثالث : لا
يعتبر فيه خلط ولا تجريد
|
٤٠٧
|
٨١
|
تقسيم الماهية
باعتبار وجود الشرطية أو عدمها
|
٤٠٩
|
٨٢
|
المبحث الثالث :
الماهية بسيطة ومركبة
|
٤١٥
|
٨٣
|
المشاركة دليل تركيب
الماهية
|
٤١٦
|
٨٤
|
يشترط في المركبة
تقدم أجزائها ذهناً وخارجاً
|
٤١٩
|
٨٥
|
تقسيم أجزاء المركب
الى متداخلة ومتباينة
|
٤٢٥
|
٨٦
|
المبحث الرابع :
الماهيات مجعولة أم لا
|
٤٢٧
|
٨٧
|
دليل المخالفين في
مجعولية الماهية
|
٤٣٠
|
٨٨
|
الفصل الثالث :
لواحق الوجود والماهية
|
٤٣٣
|
٨٩
|
المبحث الأول :
التعين
|
٤٣٧
|
٩٠
|
المبحث الثاني :
التعين اعتباري
|
٤٢٨
|
٩١
|
احتجاج المخالف
لمدعي اعتبارية التعين
|
٤٤١
|
٩٢
|
الاختلاف في عدمية
التعين ووجوده لفظياً
|
٤٤٥
|
٩٣
|
المبحث الثالث :
التعين
|
٤٤٨
|
٩٤
|
المنج الثاني : في
الوجوب والامتناع والإمكان
|
٤٥٣
|
٩٥
|
المبحث الأول :
المعقولات تحصل من نسبة المفهوم
|
٤٥٦
|
٩٦
|
المبحث الثاني : في
تقسيم الوجوب والامتناع والإمكان
|
٤٥٩
|
٩٧
|
الموصوف بالذاتي إما
واجب او ممتمع
|
٤٦٠
|
٩٨
|
المبحث الثالث :
الوجود رابطة ونوابعه مواد للقضايا
|
٤٦٨
|
٩٩
|
المبحث الرابع : في
اعتبارية الوجوب وما يجري مجراه
|
٤٧٠
|
١٠٠
|
الاستدلال على
اعتبارية الإمكان والوجوب
|
٤٧٣
|
١٠١
|
احتجاج المخالف في
نفي عدمية الوجول والإمكان
|
٤٧٦
|
١٠٢
|
المبحث الخامس : في
احتياج الممكن إلى المؤتمر
|
٤٨١
|
١٠٣
|
الاستدلال على
احتياج الممكن إلى المؤتمر
|
٤٨٢
|
١٠٤
|
شبه المنكرين على
عدم الاحتياج
|
٤٨٤
|
١٠٥
|
المبحث السادس : في
موجب احتياج الممكن الى المؤتمر
|
٤٨٩
|
١٠٦
|
المبحث السابع : في
تساوي طرفي الممكن بالنسبة الى ذاته
|
٤٩٢
|
|