بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم

بقلم الأستاذ الدكتور

على جمعة محمد

أستاذ علم أصول الفقه بجامعة الأزهر

الحمد لله الموفق من شاء لما يشاء من عمل الخيرات والمبرات ، والصلاة والسلام على سيد الكائنات محمد المصطفى المبعوث بالمعجزات الباهرات وعلى آله ذوى الصفا والوفاء والمكرمات.

هذا الكتاب نفيس لشرف موضوعه وهو الكلام فى الذات العلية ، ولأن مؤلفه من الجامعيين بين الشريعة والحقيقة ، ومن الذين يوقرون العلماء ويعظمونهم بسبب انهم نواب عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تبليغ الدين إلى العالمين. وآية ذلك : قوله رضى الله عنه : " لم أدخل على أستاذى أبى على إلا صائما ، وكنت اغتسل قبل ذلك ، وكنت أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن ادخل عليه".

وكيف لا يكون من أولياء الله. وقد هدى إلى شرح أسماء الله الحسنى ، وترك الذين يلحدون فى أسمائه؟

وموضوع الكتاب اشرف المواضيع وأعظمها. ولا يستغنى مسلم عنه لأنه به يعرب قدر الخالق وعظمته ، وما يجب له ، وما يجوز فى حقه ، وما يستحيل عليه. وقد بين أن خالق العالم المحسوس هو الله تعالى ، الّذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وحث المسلم على تنزيه أعماله عن الرياء ، وذكر أسماء الله الحسنى ، وشرح كل اسم على حدة شرحا وافيا. وبين أن الله قد كرم بنى آدم وخلقهم فى احسن تقويم. وهذا منه إحسان ، يجب عليهم أن يقابلوه بالإحسان.

ففى شرحه لقوله تعالى : "(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)" يقول المؤلف : " وقد ورد فى القصص والآثار : أن الله تعالى خلق لجبريل ستمائة جناح كلها مرصعة بالياقوت والدر والجلاجل الذهب محشوة بالمسك. لكل جلجل صوت لا يشبه الآخر ، وأن إسرافيل أخذ فى التسبيح عطل على الملائكة تسبيحهم بحسن صوته ، وطيب نغمته ، وأن نور العرش لو بدا لصار نور الشمس بالإضافة إليه كنور السراج بالإضافة إلى نور الشمس. إلى غير هذا من أوصاف المخلوقات.

ثم إنه سبحانه لم يقل لشيء منها احسن صورته ، ولا قال لشيء إنى خلقته فى احسن تقويم إلا لهذا الشخص المخلوق من سلالة من طين".

ومما زاد من شرح الكتاب وعلو قدره : أنه محقق تحقيقا جيدا من عالمين كبيرين من علماء الأزهر الشريف. هما الأستاذ طه عبد الرءوف سعد ، والأستاذ سعد حسن محمد على. فهما من كبار محققى كتب التراث. ويشهد لهما بخدمة التراث ، تحقيق الأستاذ / طه لكتاب فتح البارى لشرح صحيح البخارى ، وغيره من أمهات الكتب.

"(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) ، وعمل صالحا ، وقال : (إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)". أما ولدنا ممدوح وأخوه محمد صاحبا دار الحرم للتراث بالقاهرة ، فإننا نشكرهما على اختيار هما لهذا الكتاب النفيس ، وندعو الله تعالى لهما بالتوفيق. إنه على ما يشاء قدير ، وهو يتولى الصالحين.

د / على جمعة محمد

أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.

الحمد لله رب العالمين ، الّذي اختار لنا أفضل الديانات وخاتمة الرسالات ، وأنزل علينا آياته البينات فى كتابه الكريم وقرآنه العظيم الموجه إلى الصراط المستقيم والطريق القويم.

أشكره جل فى علاه أن بعث فينا أفضل الرسل وخير الأنبياء سيدنا محمد ابن عبد الله الصادق الوعد الأمين ، والّذي ترك فينا سنته الفاضلة المنيرة التى من اتبعها نجى ، ومن حاد عنها ضل وهلك.

اللهم صل وسلم وبارك وكرم على حبيبك وحبيبنا خير الخلق وأفضلهم فى الآفاق ، وأرفعهم فى معالى الأخلاق ، وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطيبات ، وآل بيته العظماء ، وعلى من آثر عملهم وسار على طريقهم ، وصار شبيها لهم.

وبعد ... فيسعدنا أن وفقنا الله تعالى ـ وكلّ موفق لما خلق الله ـ أن نقدم للقارئ المسلم هذا العمل الفاضل والكتاب الطيب الّذي يأتى فضله وطيبه من موضوعه العظيم ، وهو شرح أسماء الله تعالى الحسنى إذ كل أسمائه حسنى ، وكل صفاته عليا.

وإذا كنا قد قدمنا أكثر من كتاب فى هذا الموضوع لأكثر من مؤلف فإنا نرى وقد قدمنا من براعة الاستهلال أن يكون حسن الختام تقديم هذا الكتاب الكريم :

شرح أسماء الله تعالى الحسنى ـ للإمام الكبير القشيرى

ونحن نرجو ممن قرأ فاستفاد ـ وهو إن شاء الله مستفيد ـ أن يدعو الله له ولنا أن يحشرنا فى زمرة العلماء العاملين ، وإن لم نكن منهم ، ولكنا ـ والله نحبهم ونجلهم ونحترمهم ونحاول أن نتبع خطاهم ـ فالمرء يحشر مع من أحب ، وإن لم يصل عمله إلى حسن عملهم.

اللهم واجعل أفضل نعيمنا وأكرمه وأحسنه النظر إلى وجهك فى جنات عرضها الأرض والسماوات أعدت للمتقين.

وفى الختام نقول :

اللهم يا رفيع الدرجات ، يا عالم السر والنجوى ، ارزقنا من درجات الجنة أعلاها ، واكفنا شر النار ، ومن دركاتها نجنا وأعذنا ، واجعلنا من الذين يقولون فيفعلون ، ويفعلون فيخلصون ، ويخلصون فيقبلون.

والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.

وسلام على المرسلين

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

المحققان

التعريف بالمؤلف الإمام القشيرى

المولود فى ربيع الأول ٣٧٦ ه‍ يوليو ٩٨٦ م.

المتوفى فى ربيع الآخر ٤٦٥ ه‍ ١٠٧٢ م.

هو : الإمام عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد القشيرى ، زين الدين أبو القاسم.

من بنى قشير بن كعب أبا ، أما أمه فهى من بنى سليم ، فهو عربى أصيل من جهتيه.

نشأ القشيرى وتربى وتعلم وتوفى فى نيسابور ، ومن صغره وهو منقطع إلى العلم ، لا يعرف غيره من أمور الدنيا لهوا ولعبا.

وقد تتلمذ أولا على الإمام الأسفرائيني الّذي كان معجبا بتلميذه القشيرى فأفاده من علمه وفضله ، ولم يبخل عليه بكل ما جمع من ثقافة.

ثم ساقته الأقدار ـ ونعم ما ساقته ـ إلى رجل من أولياء الله كان قد جمع بين الشريعة والحقيقة ، هو الشيخ العارف بالله أبو على الدقاق ، شيخ الصوفية فى عصره ، وقد التزمه الإمام القشيرى ، وأخذ عنه فانتفع به علما وعملا.

ومن حبه لشيخه وحب شيخه له أن تزوج ابنة شيخه ، فازداد ارتباطهما بهذا النسب المبارك.

إلا أن هذا لم يجعل القشيرى يرفع التكليف بينه وبين أستاذه ، بل زاده ذلك احتراما لشيخه وحبا له واتباعه فى عبادته ومعرفته بالله تعالى.

يقول القشيرى ، رحمه‌الله تعالى :

لم أدخل على أستاذى أبى على إلا صائما ، وكنت أغتسل قبل ذلك ، وكنت

أحضر باب مدرسته غير مرة فأرجع من الباب احتشاما من أن أدخل عليه ، فإذا تجاسرت مرة ودخلت كنت إذا بلغت وسط المدرسة يصحبنى شبه خدر ، حتى لو غرزت فىّ إبرة لعلى كنت لا أحس بها ، ثم إذا قعدت لواقعة وقعت لى لم أحتج أن أسأله بلسانى عن المسألة فكنت كلما جلست كان يبتدئ بشرح واقعتى.

هكذا كان التلميذ مع أستاذه ، فهل نتعلم منه؟ وهل نعلّم هذا أبناءنا وأحفادنا؟.

وعند ما بلغ القشيرى مرتبة الاجتهاد ـ علما وفقها ـ ووصل إلى مستوى أعالى الرجال صدقا ومعرفة أذن له شيخه بالتدريس وعقد له مجلسا للعلم فى مسجد المطرز ، وقد بلغ من العمر ثلاثين عاما.

ولم يشغله التدريس عن التأليف فكان يقسم وقته بينهما مما أنتج أحلى وأجل الكتب العلمية التى استفاد منها الناس ، وما زالوا يستفيدون.

هذا هو القشيرى ، الرجل الفاضل ، والمربى الكريم.

وعلى الرغم من ذلك لم يسلم ـ وهكذا عظماء الرجال الذين يسبقون عصرهم ـ نقول : لم يسلم من الأذى ، فقد قبض عليه ونفى وأهين ومنع من التدريس.

وبعد أن أفرج عنه ساح فى البلاد معلما إلى أن وصل إلى الخليفة العباسى ، القائم بأمر الله ، والّذي قربه منه وعقد له مجالس ، كان يحضرها.

سافر الإمام القشيرى إلى الحج واجتمع بالإمام الجوينى بمكة ، والّذي دعاه إلى الخطابة فى بيت الله الحرام ، فأعجب الخلق به وانتفعوا.

بعد ذلك عاد إلى بلاده خراسان ، والّذي أعجب به أميرها ألب أرسلان ، الّذي كان يقربه ويقدمه.

هكذا كان إمامنا القشيرى ، أحد الذين أسسوا علم التصوف على قواعد راسخة وأساس متين.

أما كتبه فنذكر أهمها ، وإن كانت قد بلغت أكثر من عشرين كتابا :

١ ـ التيسير فى التفسير ، ويقال له : التفسير الكبير.

٢ ـ لطائف الإشارات.

٣ ـ القصيدة الصوفية.

٤ ـ اللمع.

٥ ـ الفصول.

٦ ـ الفتوى.

٧ ـ المعراج.

٨ ـ المقامات الثلاثة.

٩ ـ الرسالة القشيرية ، وهى أهم كتبه.

١٠ ـ التحبير فى التذكير.

١١ ـ شرح أسماء الله الحسنى ، وهو الكتاب الذي نقدم له.

والله من وراء القصد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

القشيرى وأولياء الله الصالحون

من المعروف أن مؤلف كتابنا هذا من أولياء الله تعالى ، فما علينا إذا عرفنا فى مقدماتنا هذه بأولياء الله سبحانه.

من المعلوم أن الله تعالى قد اختار من خلقه عبادا أفاض عليهم من نوره ورباهم على عينه ، فكان هو بصرهم الّذي يبصرون به ، وكان فى قوتهم التى يبطشون بها ، وكان مع مقاصدهم التى يتوجهون بكل خير إليها.

عبدى كن ربانيا تقل للشيء كن فيكون.

فقد اختار الله سبحانه وتعالى من عباده عبادا جعلهم له أولياء ، ولجنابه أصفياء ، وعنده أحباء ، آمنهم من خوف العباد فى الدنيا ، وجنّبهم الرعب والرهبة فى العقبى يوم القيامة.

فهم أولياء الله تعالى.

(أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) (يونس).

والله تعالى وليهم أيضا.

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة : ٢٥٧).

هذه البشارة وهذا الوعد نتيجة لأعمالهم الطيبة ، أحبوا الله فأحبهم الله ، أو أن الله أحبهم فوفقهم فأحبوه ، فلا يفعلون إلا ما يرضيه تعالى.

ويا سعد من أحبهم الله فجعلهم من خلصائه ، فلا يخاف عليهم من لحوق مكروه ، ولا يحزنون من فوت مطلوب ، فهم يعبدون الله تعالى لا رغبة فى جنة ، ولا رهبة من نار ، وإنما هو الحب المتبادل والرغبة فى جواره تعالى فى الآخرة ، وأقصى ما يرغبون فيه هو التمتع بالنظر إلى وجهه الكريم ، جل وعلا ،

إذ هم ليسوا من المحجوبين الذين قال الرب الجليل فيهم : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (١٥) (المطففين).

وعلى الرغم من أعمالهم الطيبة هذه فهم متصفون بالخوف فى الجملة ، حتى لو كانت إحدى قدميهم فى الجنة والأخرى خارجها ، فهم بين الرجاء والخوف غير آيسين ولا آمنين ، يخشون ما قدمت أيديهم ويرجون عفو الله.

وقد عرّف الله تعالى هؤلاء الأولياء وأبان عن حليتهم بأنهم : الذين آمنوا بالله أولا ، ورسله والملائكة والنبيين وباليوم الآخر وما فيه ، وآمنوا بالقدر خيره وشره ، بل هم المؤمنون بكل ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العزيز الحكيم.

هم الذين اتقوا الله حق تقاته بتنزههم عن كل ما يشغل سرهم عن الحق تعالى والتبتل والرجوع فى كل أعمالهم إليه.

بهذا يحصل الشهود والحضور والقرب ، وهذا هو حال سيد الخلق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته الأكرمين ، وأولياء الله المخلصين على الدين القويم.

ذلك أن الشأن فى التبتل والعبادة والتقرب والتنزه درجات متفاوتة حسب درجات العباد واستعداداتهم الروحية ، وأقصى تلك الدرجات ما انتهت إليه همم الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ حتى جمعوا بذلك بين رئاسة النبوة ونعمة الرسالة مع منصب الولاية.

وأقل ما يفعله المؤمن ليكون وليا صالحا أن يتقرب إلى الله تعالى بالفرائض ، مؤديها بأركانها وآدابها ، مع القيام بالسنن والنوافل وامتثال الأوامر مع اجتناب النواهى ، فلا يفتقدك الله ورسوله حيث أمراك ، ولا يجداك فى أمر قد نهيناك عنه.

هؤلاء هم أولياء الله.

يروى الإمام البخارى فى صحيحه الحديث الإلهي القدسى الشريف :

«من عادى لى وليّا فقد آذنته بالحرب».

ويا ويل من آذنه الجبار بالحرب.

«وما تقرب إلى عبدى بشيء أحب مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به ، ويده التى يبطش بها ، ورجله التى يمشى بها ... ولئن سألنى لأعطينه ...».

فهو حافظ حواسه محافظ على جوارحه ، فلا يسمع ولا يبصر ولا يأخذ ولا يمشى إلا فيما يرضى الله تعالى ، وينقلع عن الشهوات ، ويستغرق فى الطاعات ، ويوفق فى الأعمال التى يباشرها بهذه الأعضاء ، وييسر عليه فيها سبيل ما يحبه ويعصمه عن موافقة ما يكرهه.

فالله تعالى يسلب عنه الاهتمام بشيء غير ما يقربه إليه تعالى ، فيصير متخليا عن اللذات الفانية ، متجنبا عن الشهوات الزائلة ، متى ما يتقلب وأينما يتوجه لقى الله تعالى بمرأى له ، ومسمع منه ، ويأخذ الله تعالى بمجامع قلبه فلا يسمع ولا يرى ولا يفعل إلا ما يحبه الله تعالى ، مع كون الله له فى ذلك عونا ومؤيدا وحسيبا ووكيلا ، يحمى جوارحه وحواسه.

هؤلاء هم أولياء الله الذين يجب علينا تعظيمهم واحترامهم والتأدب معهم والكف عن إيذائهم أمواتا وأحياء بأى شيء من أنواع الإيذاء التى لا مسوغ لها شرعا ، كالإنكار عليهم ، عنادا كان هذا الإنكار ، أو حسدا ، لأنهم هم الذين عرفهم سيد البشر : «الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى».

يروى الإمام أحمد عن أبى مالك الأشعرى رضى الله عنه «إن لله عبادا ليسوا بأنبياء

ولا شهداء ، يغبطهم النبيون والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله تعالى» قال أعرابى : يا رسول الله ، انعتهم لنا ، قال : «هم أناس من أفناء الناس ونوازع القبائل ، لم تصل بينهم أرحام متقاربة ، تحابوا فى الله وتصافوا فى الله ، يضع لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، يفزع الناس وهم لا يفزعون ، وهم أولياء الله ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون».

ولا نقول : إنهم يفضلون الأنبياء والرسل ، ولكنهم يكونون مستريحين مما يعترى الأنبياء والرسل من الاشتغال بالمذنبين من أممهم.

ها هم أولياء الله الذين وصفهم المسيح عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا الصلوات والتسليم ، فقد أخرج الإمام أحمد فى الزهد :

«هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناس إلى ظاهرها ، والذين نظروا إلى آجل الدنيا حين نظر الناس إلى عاجلها ، وأماتوا من الدنيا ما يخشون أن يميتهم ، وتركوا ما علموا أنه سيتركهم ، فصار استكثارهم منها استقلالا ، وذكرهم إياهم فواتا ، وفرحهم مما أصابوا منها حزنا ، وما عارضهم من نائلها رفضوه ، وما عارضهم من رفعتها بغير حق وضعوه.

تقطعت الدنيا عندهم فلا يجددونها ، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها ، وماتت فى صدورهم فليسوا يحيونها ، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم ، ويبيعونها فيشترون بها ما يبقى لهم.

رفضوها فكانوا برفضها هم الفرحين ، وباعوها فكانوا ببيعها هم الرابحين.

ونظروا إلى أهلها صرعى قد خلت من قبلهم المثلات فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة.

يحبون الله تعالى ويستضيئون بنوره ، لهم خبر عجيب وعندهم الخبر

العجيب ، بهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وبهم علم الكتاب وبه علموا ، ليس يرون نائلا مع ما نالوا ولا أمانى دون ما يرجون ولا خوفا دون ما يحذرون».

هكذا هم أولياء الله تعالى ، وكأن السيد المسيح ، عليه‌السلام ، يصفهم بالضبط.

غير أنى لا أقول لك : اترك الدنيا كلها وراء ظهرك ، فما تقدم غير المسلمين عليهم إلا بالعلم والعمل ، فأمسك بطرف من الدنيا واعمل فيها للآخرة ، فاعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا ، وقل : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (البقرة : ٢٠١).

واعبد الله تعالى عبادة رجل مودع من هذه الحياة الدنيا.

هؤلاء هم أولياء الله (لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (يونس : ٦٤) بما أولاهم الكريم اللطيف العليم الخبير الرءوف الرحيم من خير الدارين بعد أن وقاهم الله من شرورهما.

أما بشرى الدنيا أن تأتيهم الملائكة عند الموت بالرحمة ، يقول تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت : ٣٠) والبشرى أيضا فى الدنيا هى النصر وهى الفتح والثناء الحسن والذكر الجميل.

وأما البشرى فى الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلّمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون فيها من حسن أعمالهم ، وغير ذلك من البشارات.

والبشرى عموما فى الدارين هى البشارة بما يحقق نفى الخوف والحزن كائنا ما كان ، ذلك الفوز العظيم الذي لا فوز فوقه ولا وراءه.

تعريف

بأسمائه تعالى فى القرآن والسنة

جاء فى القرآن الكريم قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

(طه : ٨)

وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف : ١٨٠).

والأسماء الحسنى بمعنى أنها صفات علا ، ونعوت كمال وجلال وجمال كثيرة ، لأن معالم العظمة ليست لها نهاية ، وهى مبثوثة فى القرآن الكريم ، ويغلب أن تختم بها آياته ، ويختار الاسم أو الأسماء الخاتمة من السياق الّذي جاءت به الآيات.

وأسماء الله تعالى التى يجب على المسلم عرفانها تسع وتسعون اسما وهى التى اشتملت عليها رواية أبى هريرة إذ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة إلا واحدا ، إنه وتر يحب الوتر ، من أحصاها دخل الجنة ، هو الله الّذي لا إله إلا هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلى ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ،

الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوى ، المتين ، الولى ، الحميد ، المحصى ، المبدئ ، المعيد ، المحيى ، المميت ، الحى ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالى ، المتعالى ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغنى ، المغنى ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادى ، البديع ، الباقى ، الوارث ، الرشيد ، الصبور».

وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن أبى هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نعلم فى شيء من الروايات له إسنادا صحيحا فى ذكر الأسماء إلا فى هذا الحديث.

وقد روى آدم بن إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبى هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح (الترمذي ٥ / ٥٣١ : ٥٣٢).

وقال فى الزوائد : لم يخرج أحد من الأئمة الستة عدد أسماء الله الحسنى من هذا الوجه ولا من غيره غير ابن ماجه والترمذي مع تقديم وتأخير ، وطريق الترمذي أصح شيء فى الباب.

قال : وإسناد طريق ابن ماجه ضعيف ، لضعف عبد الملك بن محمد.

وقد تتبع الحافظ العلامة ابن حجر العسقلانى هذا الحديث تتبعا واسع النطاق سندا ومتنا فى كتابه الجليل (فتح البارى بشرح صحيح البخارى) (١).

ومعنى الحديث أن هذه التسعة والتسعين اسما من أسماء الله من أحصاها دخل الجنة ، لا أن أسماء الله تعالى هى ذلك العدد فقط ، ومعنى الإحصاء أن

__________________

(١) انظره من تحقيقنا فى طبعاته الأربع / مصر / بيروت.

لا يقتصر فى الثناء على الله ودعائه على بعضها ولكن لا بد من الاستقامة والعمل بمقتضاها ومعرفة معانيها والتخلق بما توحى به.

ـ وقد استدل الأستاد الكبير أحمد يوسف الدقاق ، نفع الله به ونفعه ، على أن أسماء الله الحسنى وصفاته العليا ليست محصورة فى العدد تسعة وتسعين ، وبيّن مواطن أسماء الله تعالى التى وردت فى القرآن والسنة كما يلى :

أسماؤه تعالى الواردة فى سور القرآن الكريم :

(أ) ما ورد منها فى القرآن الكريم (وقد وضعت أرقام الآيات فى السور بين قوسين):

سورة الفاتحة : «الله ، الرب (١) «الرحمن ، الرحيم» (٢) المالك (٣).

سورة البقرة : المحيط (١٩) القدير (٢٠) العليم (٣٢) الحكيم (٣٣) التواب (٣٧) البارئ (٥٤) البصير (٩٦) الواسع (١١٥) السميع (١٢٧) العزيز (١٢٩) الرءوف (١٤٣) الشاكر (١٥٨) الإله (١٦٣) الواحد (١٦٣) الغفور (١٧٣) القريب (١٨٦) الحكيم (١٢٥) الحى (٢٥٥) القيوم (٢٥٥) العلى (٢٥٥) العظيم (٢٥٥) الغنى (٢٦٣) الولى (٢٥٧) الحميد (٢٦٧) الخبير (٢٣٤) البديع (١١٧).

سورة آل عمران : الوهاب (٨) الناصر (١٥٠) الجامع (٩).

سورة النساء : الرقيب (١) الحسيب (٦) الشهيد (٣٣) الكبير (٣٤) النصير (٤٥) الوكيل (٨١) المقيت (٨٥) العفو (٤٣).

سورة الأنعام : القاهر (١٨) اللطيف (١٠٣) الحاسب (٦٢) القادر (٦٥) الحكيم (٧٣).

سورة الأعراف : الفاتح (٨٩).

سورة الأنفال : القوى (٥٢) المولى (٤٠).

سورة التوبة : العالم (٩).

سورة هود : الحفيظ (٥٧) المجيب (٦١) المجيد (٧٣) الودود (٩٠).

سورة يوسف : المستعان (١٨) القهار (٣٩) الغالب (٢١).

سورة الرعد : المتعالى (٩) الوالى (١١).

سورة الحجر : الحافظ (٩) الوارث (٢٣) الخلاق (٨٦).

سورة الكهف : المقتدر (٤٥).

سورة مريم : الحفى (٤٧).

سورة طه : الغفار (٨٢) الملك (١١٤) الحق (١١٤).

سورة الحج : الهادى (٥٤).

سورة النور : المبين (٢٥) النور (٣٥).

سورة النمل : الكريم (٤٠).

سورة الروم : المحيى (٥٠).

سورة سبأ : الفتاح (٢٦).

سورة فاطر : فاطر (١) الشكور (٣٠).

سورة الزمر : الكافى (٣٦).

سورة غافر : الخالق (٦٢).

سورة الدخان : المنتقم (١٦).

سورة الذاريات : الرزاق (٥٨) المتين (٥٨).

سورة الطور : البر (٢٨).

سورة القمر : المليك (٥٥).

سورة الرحمن : ذو الجلال والإكرام (٢٧).

سورة الحديد : الأول ، الآخر ، الظاهر (٣).

سورة الحشر : القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، الجبار ، المتكبر ، المصور(٢٣).

سورة الأعلى : الأعلى (١).

سورة العلق : الأكرم (٣).

سورة الإخلاص : الأحد (١) الصمد (٢).

(ب) ما ورد منها فى السنة مما لم يرد فى القرآن :

١ ـ (مقلب القلوب) : من حديث عبد الله بن عمر : كانت يمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ، ومقلب القلوب» (البخارى).

٢ ـ (الجميل) من حديث ابن مسعود عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، قال : «إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس» (مسلم).

٣ ـ (سبوح قدوس) : من حديث عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فى ركوعه : «سبوح قدوس ، رب الملائكة والروح» (النسائى).

٤ ـ (مصرف القلوب) فى مسند الإمام أحمد ، فكان يكثر أن يقول : «يا مصرف القلوب».

٥ ـ (المقدم والمؤخر) من حديث طويل عن على رضى الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «... أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت» (البخارى ـ مسلم).

٦ ـ (الوتر) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه قال : «لله تسعة وتسعون اسما ، مائة إلا واحدا ، وهو وتر يحب الوتر» (البخارى).

وعقب على ذلك كله بقوله : (إن ما تقدم من أسماء الله تعالى ، وصفاته دليل على أنها لا يمكن حصرها بالعدد «مائة إلا واحدا» وإن ابن حجر استوفى هذا الموضوع فى فتح البارى بما فيه الكفاية ، والله تعالى أعلم بأسمائه وصفاته ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت السميع العليم.

فاعلم يا أخى المسلم أن أسماء الله الحسنى هى التى أثبتها الله تعالى لنفسه وأثبتها له عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآمن بها جميع المؤمنين.

من أسماء الله الحسنى ما لا يطلق إلا مقترنا بمقابله :

ـ يقول الشيخ الحكمى رحمه‌الله : «واعلم أن من أسماء الله عزوجل ما لا يطلق عليه إلا مقترنا بمقابله ، فإذا أطلق وحده أوهم نقصا ، تعالى الله عن ذلك ، فمنها المعطى المانع ، والضار النافع ، والقابض الباسط ، والمعز المذل ، والخافض الرافع ، فلا يطلق على الله عزوجل المانع الضار القابض المذل الخافض كلا على انفراده ، بل لا بد من ازدواجها بمقابلاتها ، إذ لم تطلق فى الوحى إلا كذلك ، ومن ذلك (المنتقم) لم يأت فى القرآن إلا مضافا إلى «ذو» كقوله تعالى (عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أو مقيدا بالمجرمين كقوله تعالى : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) وأخيرا ذكر أن الإحصاء المذكور فى الحديث السابق له معان متعددة اختلف فيها العلماء ، فقيل : إن معناه الحفظ ، وقيل : عدها ، وقيل : القيام بحقها والعمل بمقتضاها ، وقيل : الإحاطة بجميع معانيها ، ويجوز أن تشمل كل المعانى السابقة ، والله أعلم.

* شرح أسماء الله الحسنى فى إيجاز :

ونقدم ما كتبه الإمام ابن الديبع الشيبانى شرح بعض أسماء الله الحسنى فى إيجاز على النحو التالى لمن أراد العلم بها باختصار :

(القدوس) : الطاهر من العيوب.

(السلام) : ذو السلام ، أى الّذي سلم من كل عيب وبرئ من كل آفة.

(المؤمن) : الّذي يصدق عباده وعده ، فهو من الإيمان بمعنى التصديق ، أو يؤمنهم يوم القيامة من عذابه فهو من الإيمان.

(المهيمن) : الشهيد ، وقيل : الأمين ، وأصله مؤيمن ، فقلبت الهمزة هاء ، وقيل : الرقيب والحافظ.

(العزيز) : القاهر الغالب ، والعزة : الغلبة.

(الجبار) : هو الّذي أجبر الخلق ، وقهرهم على ما أراد من أمر ونهى ، وقيل : هو العالى فوق خلقه.

(المتكبر) : المتعالى عن صفات الخلق ، وقيل : الّذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم ، والتاء فى المتكبر تاء المنفرد ، والمتخصص ، لا تاء المتعاطى المتكلف ، وقيل : إن المتكبر من الكبرياء الّذي هو عظمة الله تعالى لا من الكبر الّذي هو مذموم.

(البارئ) هو الّذي خلق الخلق لا عن مثال ، إلا أن لهذه اللفظة من الاختصاص بالحيوان ما ليس لغيره من المخلوقات ، وقلما تستعمل فى غير الحيوان ، فيقال برأ الله تعالى النسمة ، وخلق السماوات والأرض.

(المصور) : هو الّذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ، ومعنى التصوير التخطيط والتشكيل.

(الغفار) : هو الّذي يغفر ذنوب عباده مرة بعد مرة ، وأصل الغفر : الستر والتغطية، والله تعالى غافر لذنوب عباده ساتر لها بترك العقوبة عليها.

(الفتاح) : هو الحاكم بين عباده ، يقال فتح الحاكم بين الخصمين إذا فصل بينهما ، ويقال للحاكم الفاتح ، وقيل : هو الّذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده ، والمنغلق عليهم من أرزاقهم.

(القابض) : الّذي يمسك الرزق عن عباده بلطفه وحكمته.

(الباسط) : الّذي يبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده ورحمته ، فهو الجامع بين العطاء والمنع.

(الخافض) : الّذي يخفض الجبارين والفراعنة : أى يضعهم ويهينهم.

(الرافع) : الّذي يرفع أولياءه ويعزهم ، فهو الجامع بين الإعزاز والإذلال.

(الحكم) : الحاكم ، وحقيقته الّذي سلم له الحكم ورد إليه.

(العدل) : هو الّذي لا تميل به الأهواء فيجور فى الحكم ، وهو من المصادر التى يسمى بها كرجل ضيف وزور.

(اللطيف) : الّذي يوصل إليك أربك فى رفق ، وقيل : هو الّذي لطف عن أن يدرك بالكيفية.

(الخبير) : العالم العارف بما كان وما يكون.

(الغفور) : من أبنية المبالغة فى القرآن (١).

(الشكور) : الّذي يجازى عباده ويثيبهم على أفعالهم الصالحة ، فشكر الله تعالى لعباده إنما هو مغفرته لهم وقبوله لعبادتهم.

(الكبير) : هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن.

__________________

(١) يقصد كثير الغفران.

(المقيت) : هو المقتدر ، وقيل : هو الّذي يعطى أقوات الخلائق.

(الحسيب) : هو الكافى ، وهو فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم ، وقيل : هو المحاسب.

(الرقيب) : هو الحافظ الّذي لا يغيب عنه شيء.

(المجيب) : هو الّذي يقبل دعاء عباده ويستجيب لهم.

(الواسع) : الّذي وسع غناه كل فقير ورحمته كل شيء.

(الودود) : فعول بمعنى مفعول من الود ، فالله تعالى هو مودود : أى محبوب فى قلوب أوليائه ، أو هو بمعنى فاعل أى أن الله يود عباده الصالحين بمعنى يرضى عنهم.

(المجيد) : هو الواسع الكريم ، وقيل : هو الشريف.

(الباعث) : هو الّذي يبعث الخلق بعد الموت يوم القيامة.

(الشهيد) : هو الّذي لا يغيب عنه شيء ، يقال : شاهد وشهيد كعالم وعليم : أى أنه حاضر يشاهد الأشياء ويراها.

(الحق) : هو المتحقق كونه ووجوده.

(الوكيل) : هو الكفيل بأرزاق عباده ، وحقيقته أنه الّذي يستقل بأمر الموكول إليه ، ومنه قوله تعالى : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).

(القوى) : القادر ، وقيل : هو التام القدرة والقوى الّذي لا يعجزه شيء.

(المتين) : هو الشديد القوى الّذي لا تلحقه فى أفعاله مشقة.

(الولى) : الناصر ، وقيل : المتولى للأمور القائم بها كولى اليتيم.

(الحميد) : المحمود الذي استحق الحمد بفعله وهو فعيل بمعنى مفعول.

(المحصى) : هو الّذي أحصى كل شيء بعلمه فلا يفوته شيء من الأشياء دق أو جل.

(المبدئ) : الّذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداء.

(المعيد) : هو الّذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات ، وبعد الممات إلى الحياة.

(الواجد) : هو الغنى الّذي لا يفتقر ، وهو من الجدة والغنى.

(الواحد) : هو الفرد الّذي لم يزل وحده ، ولم يكن معه آخر ، وقيل : هو المنقطع القرين والشريك.

(الأحد) : الفرد ، والفرق بين الواحد والأحد أن أحدا بنى لنفى ما يذكر معه من العدد ، فهو يقع على المذكر والمؤنث ، يقال : ما جاءنى أحد ، أى لا ذكر ولا أنثى ، وأما الواحد فإنه وضع لمفتتح العدد ، تقول : جاءنى واحد من الناس ، ولا تقول فيه جاءنى أحد من الناس ، فالواحد بنى على انقطاع النظير والمثل ، والأحد بنى على الانفراد ، والوحدة عن الأصحاب ، فالواحد منفرد بالذات ، والأحد منفرد بالمعنى.

(الصمد) : هو السيد الّذي يصمد إليه الخلق فى حوائجهم أى يقصدونه.

(المقتدر) : مفتعل من القدرة ، وهو أبلغ من قادر.

(المقدم) : الّذي يقدم الأشياء فيضعها فى مواضعها.

(المؤخر) : الّذي يؤخرها إلى أماكنها ، فمن استحق التقديم قدمه ، ومن استحق التأخير أخره.

(الأول) : هو السابق للأشياء كلها.

(الآخر) : الباقى بعد الأشياء كلها.

(الظاهر) : هو الّذي ظهر فوق كل شيء وعلاه.

(الباطن) : هو المحتجب عن أبصار الخلائق.

(الوالى) : مالك الأشياء المتصرف فيها.

(المتعالى) : هو المنزه عن صفات المخلوقين ، تعالى أن يوصف بها عزوجل.

(البر) : هو العطوف على عباده ببره ولطفه.

(المنتقم) : هو المبالغ فى العقوبة لمن يشاء ، وهو مفتعل من نقم ينقم إذا بلغت به الكراهية حد السخط.

(العفو) : فعول من العفو بناء مبالغة ، وهو الصفوح عن الذنوب.

(الرءوف) : هو الرحيم العاطف برأفته على عباده ، والفرق بين الرأفة والرحمة أن الرحمة قد تقع فى الكراهية للمصلحة ، والرأفة لا تكاد تقع فى الكراهية.

(ذو الجلال والإكرام) : مصدر جليل ، يقال : جليل بيّن الجلالة والجلال.

(المقسط) : العادل فى حكمه ، أقسط الرجل إذا عدل فهو مقسط ، وقسط : إذا جار فهو قاسط.

(الجامع) : الّذي يجمع الخلائق ليوم الحساب.

(المانع) : هو الناصر الّذي يمنع أولياءه أن يؤذيهم.

(النور) : هو الّذي يبصر بنوره ذوو العماية ، ويرشد بهداه ذوو الغواية.

(الوارث) : هو الباقى بعد فناء الخلائق.

(الرشيد) : هو الّذي يرشد الخلق إلى مصالحهم ، فعيل بمعنى مفعل.

(الصبور) : هو الّذي لا يعاجل العصاة بالانتقام منهم بل يؤخر ذلك إلى أجل مسمى ، فمعنى الصبور فى صفة الله تعالى قريب من معنى الحليم إلا أن الفرق بين الأمرين أنهم لا يأمنون العقوبة فى صفة الصبور كما يأمنون منها فى صفة الحليم ، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون علوا كبيرا.

* * *

* جزء من قصيدة الأمير أحمد شرف الدين أمير كوكبان :

وللأمير أحمد بن محمد شرف الدين أمير كوكبان (١٢٤٤ ـ ١٣١٨ ه‍) قصيدة من واحد وخمسين بيتا فى نظم أسماء الله الحسنى نأتى ببعض أبياتها ، وقد وضع فى آخر كل بيت الرقم الّذي يبين عدد الأسماء الحسنى التى وردت فيه ، يقول فيها :

بدأت بمن لا رب يعبد إلا هو

مليك أمرنا أن نقول (هو الله) (١)

تعالى هو (الرحمن) جل جلاله

تبارك من رب (رحيم) وجدناه (٢)

هو (الملك القدوس) وهو (السلام) إن

دعوناه كم كرب جلاه وأمحاه (٣)

هو (المؤمن) الرب (المهيمن) جل من

(عزيز) فما أعلاه قدرا وأسماه (٣)

ألا وهو (الجبار المتكبر) الّذي

خلق الخلق العظيم وسواه (٢)

مليك تسمى (الخالق البارئ المصور)

الخلق و (الغفار) مهما عصيناه (٤)

ألا وهو (القهار) بالموت والفنا

ولا غالب فيما قضاه وأمضاه (١)

دعوناه (يا وهاب) إذ شأنه العطا

وقلنا هو (الرزاق) جلت عطاياه (٢)

مفاتيح أرزاق الخلائق عنده

فمن قال (يا فتاح) أعطاه مولاه (١)

(عليم) بأسرار العباد وعلمه

خفى على كل الخلائق أخفاه (١)

هو (القابض) الأرزاق (والباسط) الّذي

له الأمر لا يعطى ويقبض إله (٢)

إلى آخر تلك القصيدة الفاضلة.

* جزء من القصيدة النونية المختص ببعض أسماء الله الحسنى :

وينبه الإمام ابن قيم الجوزية فى قصيدته النونية المعروفة (بالكافية الشافية فى الانتصار للفرقة الناجية) إلى أن من أسماء الله الحسنى ما لا يفرد ، وهى المعروفة بمزدوجاتها ، فيذكر منها المقدم المؤخر ، المعطى المانع ، الضار النافع ، القابض الباسط ، المعز المذل الخافض الرافع فيقول :

هذا ومن أسمائه ما ليس يفرد

بل يقال إذا أتى بقران

وهى التى تدعى بمزدوجاتها

إفرادها خطر على الإنسان

إذ ذاك موهم نوع نقص جل رب

العرش عن عيب وعن نقصان

يعطى برحمته ويمنع من يشا

بحكمة والله ذو سلطان

ويقول فيها :

هو المقدم والمؤخر ذانك

الصفتان للأفعال تابعتان

كالمانع المعطى وكالضار الّذي

هو نافع وكما له الأمران

ونظير هذا القابض المقرون

باسم الباسط اللفظان مقترنان

وكذا المعز مع المذل وخافض

مع رافع لفظان مزدوجان

وحديث إفراد اسم منتقم فمو

قوف كما قال ذو العرفان

ما جاء فى القرآن غير مقيد

بالمجرمين وجا بذو نوعان

* * *

وعن علم الأسماء الحسنى وأسراره وخواص تأثيراتها قال البونى :

ينال بها كل مطلوب ، ويتوصل بها إلى كل مرغوب ، وبملازمتها تظهر الثمرات ، وصرائح الكشف والاطلاع على أسرار المغيبات ، وأما إفادة الدنيا فالقبول عند أهلها والهيبة والتعظيم والبركات فى الأرزاق ، والرجوع إلى كلمته وامتثال الأمر منه ، وخرس الألسنة عن جوابه إلا بخير ، إلى غير ذلك من الآثار الظاهرة ، بإذن الله تعالى فى المعانى والصور ، وهذا سر عظيم من العلوم لا ينكر شرعا ولا عقلا.

مبحث فى الاسم المفرد

(الله)

فى الحديث الشريف القدسى أو ما يقال عنه الحديث الإلهي : قال تبارك وتعالى : كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت خلقا فعرّفتهم بى فعرفونى».

قال الله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (البقرة : ٢٥٥) فبهذه الآية وأمثالها ينبهنا الله تعالى كيف ابتدأ فيها بذكر اسم الله ونفى ما سواه وإثباته إياه ، فكل اسم من أسمائه إن أظهره فهو صفة اسم (الله) ونعته وإن أظهر (بالهاء) فهو عائد عليه ، وهو منه وإليه.

توحيد الله أولا :

يقول تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) (الأنعام : ٣٠) (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ) (الزخرف : ٨٤) أراد فيهما معرفته بالألوهية وعبادته وذكره وفعله وحكمه وأمره.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله».

فقد اشترط الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : العلم فى التوحيد والعبادة فى المعرفة.

فلا إله إلا الله هى لاستنقاذنا من العذاب القريب فى الدنيا ومن العذاب الأكبر يوم اللقاء الأعظم ، وعلى النطق بلا إله إلا الله بنى الإسلام ، وعلى قواعدها والعلم بمقتضاها بنى الإيمان ، وعلى فهم عقائدها والجمع بينهما بنى الإحسان ، ومن شهود شرفها يترقى إلى مبادى الإيقان.

فقولها إسلام وعلمها إيمان وفهمها إحسان وتحقيقها إيقان وظاهرها عنوان الإسعاد.

فمن قال : (لا إله إلا الله محمد رسول الله) عصم ماله ودمه إلا بحقهما (١).

ومن مات وهو يعلم أن (لا إله إلا الله محمد رسول الله) دخل الجنة.

إن هذا الاسم المفرد المعظم المقدم المجرد (الله) عز ذكره ، هو اسم الذات العلية الموصوفة بصفة الألوهية المعروفة بنعوت الربوبية ، المتصف بصفة الأحدية ، المنفرد بوحدة الوحدانية ، المنعوت بصمدانية الصمدية ، المنزه عن جنس الكيفية وأنواعه المثلية ، المقدس عن أن يحيط بمعرفة كنه إدراكه العقول البشرية.

اسم الإله ، الواحد ، القديم الحى القيوم العلى العظيم الباقى السرمد الكبير المتعال الموجود المطلق الوجود ، الأزلى الّذي لم يزل أولا وآخرا وظاهرا وباطنا ، ولا يزال ، المستحق بالوجود الحقيقى ، الواجب الوجود ، وكل موجود سواه مستمد منه الوجود.

(والله) هو أعظم الأسماء لأنه دال على الذات العلية الجامعة لكل كمالات صفات الألوهية.

باق جل جلاله أزلا وأبدا وسرمدا فاستحال عليه العدم كما وجب له الوجود والقدم.

فاسمه تعالى (الله) على أحسن الأقوال غير مشتق من شيء كما تشتق الأسماء عادة.

__________________

(١) فلا يحل دمه وماله إلا بثلاث : زنى بعد إحصان ، أو قتل النفس المحرم قتلها بغير حق ، أو التارك لدينه المفارق للجماعة.

وإنما هو دال على ذات الإله الّذي قامت له الصفات بمثابة العلم الدال على المسمى من غير اشتقاق له من شيء.

وهو اسم تفرد به الله سبحانه وتعالى واختصه لنفسه وأطلقه تعالى على ذاته وقدمه على جميع أسمائه وأضاف أسماءه كلها إليه ، فيقال : الله الرحمن ، والله الرحيم ... إلى آخر باقى أسمائه تعالى.

من خواص الاسم (الله):

يختص بأسرار ليست فى غيره من الأسماء وفضله وعظمه ـ وأسماؤه وصفاته كلها فاضلة عظيمة ـ إلا أن هذا الاسم له تخصيص زائد تام كامل على سائرها.

فمن خواصه أنه فى ذاته اسم كامل فى حروفه ، تام فى معناه ، خاص بأسراره مفرد بصفته.

فكان أولا (الله) فحذفت منه الألف فبقى (الله) ثم حذفت اللام الأولى فبقى (له) ثم حذفت اللام الثانية فبقى (هو).

فكان كل حرف منه تام المعنى كامل الخصوصية ، لم يتغير منه معنى ولا اختلف بتفريق حروفه منه فائدة ولا نقصت منه حكمة.

ولكل لفظ منه معان عجيبة مستقلة بذاتها غريبة.

ثم إنه أول الأسماء الحسنى (الله) وجعل افتتاح كل سورة من القرآن بسم الله الرّحمن الرّحيم وفى ذلك معنى لطيف لكونه أول الأسماء ، والرحمة أول الأشياء.

يقول تعالى فى الحديث الصحيح :

«إن الله قال : أنا الله لا إله إلا أنا الرحمن الرحيم سبقت رحمتى غضبى».

معانى أحرف اسم (الله):

هذا الاسم المفرد المتصف بالألوهية أربعة أحرف ، كما قال بعضهم :

أحرف أربع بها هام قلبى

وتلاشت بها همومى وفكرى

ألف قد تألف الخلق بالصن

ع ولام على العلامة تجرى

ثم لام زيادة فى المعانى

ثم هاء بها أهيم وأدرى

(فالألف) مشتق من الألفة والتأليف ، ألف به جميع خلقه على توحيده ومعرفته ، بأنه إلههم وموجدهم وخالقهم ورازقهم.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (الزخرف : ٨٧).

واللام الأول : إشارة إلى لام الملك وهو بعد حذف الألف كمال الاسم المفرد صار (لله) قال تعالى : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة : ٢٨٤) واللام الثانى هى إشارة إلى لام الملك أيضا بعد حذف اللام الأول صار (له) قال تعالى : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الزمر : ٦) والهاء هى هاء الإشارة إلى مطلق الوجود الحق ، وإثبات وحدانيته وإحاطته بجميع الأشياء كلها علما وإرادة وقدرة وملكا وملكا.

وهى من هاء هيبة البهاء وعظمة الألوهية (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) (١).

(الأنعام : ١٩)

__________________

(١) (بتصرف من كتاب : «القصد المجرد فى معرفة الاسم المفرد») لابن عطاء الله السكندرى.

الاسم الأعظم

للإمام الغزالى

العلم بأسماء الله العظام ، من أشرف العلوم ، وقد اختلف العلماء فى معنى الاسم الأعظم ، على ثلاثة أوجه :

الأول : أن الاسم الأعظم كل اسم يجاب به عند الاضطراب والاضطرار.

الثانى : أن اسم الله فيه أقاويل ، فمنهم من قال : إنه الجلالة (الله) وهو الأصح ، ومنهم من قال : إنه (ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ومنهم من قال إنه : (اللطيف) ومنهم من قال إنه : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ومنهم من قال : إنه (الودود) ومنهم من قال إنه أول سورة (الحديد) ومنهم من قال : إنه فى آخر سورة (الحشر) ومنهم من قال : إنه (الحنان المنان ذو الجلال والإكرام) ومنهم من قال : إنه فى سورة (الحج) فى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ) الآية ، ومنهم من قال : إنه فى أوائل السور وهى أحرف نورانية ، ومنهم من قال إنه : (الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ومنهم من قال: إنه (شهادة أن لا إله إلا الله) وكلها روايات بأخبار صحيحة والحديث المروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألظوا (١) بيا ذا الجلال والإكرام» وهو دليل قطعى ، وقد ذكر هذا الاسم فى اللغة السريانية بأخبار صحيحة والعبرية (أهيا شراهيا أو دناى أصباؤت آل شداى) وفى اللغة العربية فى القرآن العظيم فى ثلاثة مواضع : فى البقرة وآل عمران وطه ، وقد قيل إن اسم الله الأعظم هو (هو) وقيل هو (الرب) ...

__________________

(١) أى : الزموا ولا تفارقوا.

والثالث من الأقوال : أن الاسم قطب الأسماء ، ومنه تستمد جميع الأسماء ، منه تحصل الإجابة ، وهو زجر لجميع الأرواح العلوية ، وعلى أهل البسائط السفلية ، كما أنه ذخر لهما فى الإجابة والتوفيق ...

فالاسم الأعظم مبهم فى أسماء الله تعالى التى من جملتها التسعة والتسعون ، والأسماء الواردة فى الكتاب والسنة والأسماء التى استأثر الله تعالى بها فى علم الغيب عنده ، وأن هذا الاسم الشريف مع إبهامه فى جميع الأسماء يطلع الله عليه من شاء من خواص خلقه ، وأعظمهم فى الخصوصية الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام ، ثم تتفاوت رتب الأولياء فى الخصوصية والاطلاع عليه لما أعلم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فهو اسم مبهم فى الأسماء كغيره من المبهمات التى تلتمس فيما أبهمت فيه.

وله علامات وله إشارات يهتدى إليه بعلاماته وإشاراته من وفقه الله لها ، كما يلهم الله سبحانه ذلك من شاء من أهل الإلهام.

ثم المبهمات منها ما يمكن الاطلاع عليه كليلة القدر والاسم الأعظم ، ومنه من استأثر الله نفسه بعلمه كوقت الساعة.

فالاسم الأعظم هو أعظم الأسماء دلالة على كمال الألوهية ، وجلال الصمدية ، وفردانية الربوبية ، وتقدس الذات والصفات العلية وما يتعلق بالأحكام الآحادية ، فكل اسم زادت دلالته فى ذلك على دلالة غيره من الأسماء كان أعظم.

ثم فى أسماء الله تعالى ما ينفرد عن غيره بكمال الدلالة التى يعلم الله سبحانه فيها المطابقة الكاملة فهو الاسم الأعظم الأعظم والأكبر الأكبر ، وربما جاء الأعظم الأعظم الأعظم ثلاثا ، والأكبر الأكبر الأكبر كذلك ، والطيب والأجل والأعز والأحب إلى الله تعالى ، كما ستقف عليه ، ثم هذه الدلالة قد

توجد فى اسم واحد من أسمائه سبحانه كاسمه الله والصمد وقد يكون فى اسمين فصاعدا من أسمائه سبحانه ، كالحى القيوم وكالله الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وقد تكون أعلى الدلالة فى ذكر بعض الأسماء مع الثناء الخالص ، كما سيظهر لك هذا كله فى ذكره إن شاء الله فيما يأتى من الأحاديث ...

ولما كانت دلالة الأسماء الحسنى متفاوتة فى الظهور للخلق والخفاء عنهم وقع الإبهام عليهم بذلك فالله سبحانه يعلمهم اسمه الأعظم الأعظم الأكبر الأكبر ، من حيث إنه أدل الأسماء ظاهرا وباطنا بمنطوقه ومفهومه على كمال الذات والصفات والأحكام ، وكمال انفراده سبحانه بالأفعال والنقض والإبرام ، وجعل سبحانه بقية الأسماء الحسنى كالدوائر التى تدور على القطب وتشير إليه وتدل عليه ، فأعظمها فى الدلالة أعظمها فى الرتبة ، واعتبر هذا المعنى تجده فى كل اسم ورد فيه أنه الاسم الأعظم ، ونجده أيضا فى كل ثناء ورد فى السنة المطهرة أنه ثناء مقبول أو مرفوع أو ثناء يترتب عليه إجابة الدعاء وقد يراد بالاسم الأعظم الاسم الّذي هو أوقع لنفع الداعى وأسرع فى الإجابة فهو أعظم فى حق الداعى ...

ولهذا الاعتبار كان بعض الأشياخ يقول لبعض المريدين : الاسم الأعظم فى حقك كذا ، ويقول لآخر : الاسم الأعظم فى حقك كذا ، ويذكر اسما آخر غير ذلك الاسم.

وسيأتى لهذا المعنى مزيد تقرير وبيان إن شاء الله تعالى.

وقد يكون الاسم الأعظم فى ثلاث آيات من سورة البقرة وآل عمران وطه ، وكما فى الحديث الآخر أن اسم الله الأعظم فى ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ،

وكما فى حديث آخر من أنه فى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (آل عمران : ٢٦) وذلك إما لاشتمال الآية على بعض أسمائه سبحانه ، وإما لاشتمالها على الدلالة التى يدل عليها الاسم الأعظم ...

تنبيه : اختلف العلماء فى الأحرف المقطعة فى أوائل السور من الم ، المص ، المر ، كهيعص ، طه وبقيتها فأحد الأقوال أنها أسماء الله تعالى ، فإن قلنا بهذا كان الاسم الأعظم مبهما فيها وفى بقية أسماء الله تعالى مما علمه الخلق ومما لم يعلموه ، وإذا أمكن أن تكون الأحرف أسماء لله تعالى لدلالتها عليه وتضمنها لأسرار الاسم الأعظم من معانى التوحيد والتفريد والتمجيد فى الألوهية والصمدية والقيومية أمكن أن يتسع المجال فى معانى الأحرف المذكورة ، فكلما كان الحرف أدل على هذا المقصود كان أعظم ، ومن هنا ذهب من ذهب من أشياخ المعرفة إلى أن الاسم الله الأعظم قد يوجد فى بعض هذه الحروف ، وسيأتيك فى الحديث ما يمكن أن يشير إلى هذا ، والله أعلم.

وقد يستشهد لمثل هذا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نسى أن يسمى الله عند أكله فليقرأ سورة الإخلاص» أى إن المقصود التبرك بتوحيد الله ...

وقد يتجوز أيضا فى تسمية الله سبحانه بتحقيق التوحيد فإن الحالة : التوحيد الصحى قد يقوم مقام التلفظ الأثرى إلى ما ذهب إليه إمامنا الشافعى رضى الله عنه وغيره من أن التسمية على الأكل لا تجب ، وإنما يستحب ، وإن الاكل من الّذي لم يذبح على اسم غير الله جائز (١) ، هذا مع صريح قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (الأنعام : ١٢١) فحمل تسمية الله على التوحيد ورأى أنه ما لم يخرجه مخرج عن التوحيد يدخل فيها ذكر اسم عليه

__________________

(١) يقصد إن ذبح ولم يذكر اسم الله سهوا فإن التسمية فى قلب كل مؤمن.

فأرجع التسمية إلى الاعتقاد بل إلى حالة الاعتقاد المستمرة ما لم يقطعها قاطع ، وجعل التلفظ بالاسم مستحبا لأنه أكمل إذ فيه الجمع بين القلب واللسان ...

فإن قلت : مقتضى ما قررته تعدد الاسم الأعظم فى صور عديدة فكيف يسمى اسما وهو أشياء متعددة ...

قلت : الاسم قد يطلق ويراد به جنس الأسماء كما فى قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) وقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وقوله تعالى (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أى سبح أسماءه كلها بالتقديس والتنزيه عن أن يكون كأسماء غيره ، والمعنى فى بسم الله الرّحمن الرّحيم ابدأ ، أو استعن ، أو تبرك ، أو تعلق وما أشبه هذا بأسماء الله الرحمن الرحيم كلها.

فإن قيل : المراد من سبح اسم ربك سبح ربك ...

قلت : فلا بد فى تسبيحه سبحانه من ذكر اسم من أسمائه حتى لو قال سبحان ربى كان فيه ذكر اسم الربوبية ولا يتعين اسم واحد من الأسماء الحسنى فدل على أن المراد بالاسم الأسماء ، وقد يسمى كل اسم من أسمائه سبحانه الخاصة به الاسم الأعظم فى حق كل داع تحقق بالاضطرار ، قال تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) والإجابة من ثمرات الاسم الأعظم ...

وملخص القول : أنه كلما كان أوثق لعروة التوحيد وأسبق فى معارج التمجيد ، كان أعظم فى التقريب إلى المجيد ، وأنفع لصاحبه من العبيد ، سواء أكان هذا بالاقتصار على بعض الأسماء أو بعض الآيات أو بعض الأحرف ، أو بالاقتصار على شيء من محاسن الثناء ، أو يعقد القلب السليم الصحيح من طوارق الأهواء حتى ربما كانت الحالة المرضية المصاحبة للأدوات الشرعية

الناشئة عن صحيح العقيدة الإيمانية كافية فى باب التوجه والاستعداد داعية وإن لم يحصل معها دعاء إلى تنزل الإمداد ...

وبهذا التقرير يظهر لك أنه قد يراد بالاسم الأعظم الأمر الّذي ترتب عليه الإجابة وإن لم يكن معه ذكر شيء من أسماء الله تعالى ، وهذا من باب التجوّز بعلامة ترتب الاستجابة على كل منها.

وعلى هذا فقد يطلق الاسم الأعظم على الحالة القلبية المؤثرة فى سرعة الاستجابة وإن لم يكن معها تلفظ حتى أن من يتوجه إلى الأولياء من يتوجه بقلبه إلى ربه مع سكوت لسانه فيعطى مناه.

وقد يصير الولى ذاكرا الله بكله موحدا له مثنيا عليه سبحانه فيتجوز من يتجوز بإطلاق الاسم الأعظم عليه ، كما نقل عن بعضهم أنه قال فى حق ولى من الأولياء : فلان كان يدعو بالاسم الأعظم وهو الآن عين الاسم الأعظم.

وهذا الإطلاق لا أقول به فإنى لم أجد فى الشرع الشريف ما يقتضي الإذن فيه ، وإنما يجوز التوسل بالصالحين كما سأذكره ، وليس مراد هذا القائل أن هذا الشخص صار اسما من أسماء الله تعالى ، ولكنه يريد أنه فى معنى الاسم الأعظم ، كما يقال : فلان أسد ، بمعنى أنه فى معنى الأسد من الشجاعة ، ثم إن جوزنا هذا التجوز مع بعده ورد الخلافة له معنيان :

أحدهما : أن هذا الولى صار كله آلة من آلات التوحيد وكلمة من كلماته وآية من آياته ودلالة من دلالاته ، فكأنه توحيد وذكر منطوق به.

والثانى : أنه يتوسل به إلى الله كما يتوسل إليه باسم من أسمائه سبحانه ، ولا التفات إلى من ينكر التوسل إلى الله بالصالحين من عباده ، فإن هذا أمر جائز تقوم له الحجة ، وليس هذا محل ذكره ومن العجب موافقة المنكر على

جواز التوسل إلى الله تعالى بصالح العمل ، حسبما ثبت فى الصحيح فى قضية الثلاثة الذين آووا إلى غار فانحدرت عليهم الصخرة ، فتوسل كل منهم إلى الله بصالح عمل قدمه بين يديه(١) ، وكما علمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن نقول عند الخروج من المسجد : «اللهم إنى أسألك بحق السائلين عليك ، وبحق ممشائى ، فإنى لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ...» الحديث ، فإذا جاز التوسل بعمل المتوسل مع أنه معرض لشوائب الخلل وللرد فلأن يتوسل بالصالحين توسلا لا تشوبه فيه هوى من باب أولى ...

__________________

(١) فأزاح الله عنهم الصخرة.

الاسم الأعظم

للإمام السيوطى

الحمد لله الّذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ...

والصلاة والسلام على سيدنا محمد المخصوص بالشفاعة العظمى ، وعلى آله وصحبه ذوى المقام الأسنى ، وبعد :

فقد سئلت عن (الاسم الأعظم) وما ورد فيه فأردت أن أتتبع ما ورد فيه من الأحاديث والآثار والأقوال ، فقلت :

الأول : أنه لا وجود له بمعنى أن أسماء الله تعالى كلها عظيمة لا يجوز تفضيل بعضها على بعض ـ ذهب إلى ذلك قوم ـ منهم أبو جعفر الطبرى وأبو الحسن الأشعرى وأبو حاتم بن حبان والقاضى أبو بكر الباقلانى ، ونحوه قول مالك وغيره ، ولا يجوز تفضيل بعض الأسماء على بعض.

وحمل هؤلاء ما ورد من ذكر الاسم الأعظم على أن المراد به العظيم ، وعبارة الطبرى : واختلفت الآثار فى تعيين الاسم الأعظم.

والّذي عندى أن الأقوال كلها صحيحة إذ لم يرد فى الخبر منها أنه الاسم الأعظم ، ولا شيء أعظم منه.

وقال ابن حبان : إلا عظمته الواردة فى الأخبار المراد بها مزيد ثواب الداعى بذلك كما أطلق ذلك فى القرآن ، والمراد به مزيد من ثواب الداعى والقارئ.

القول الثانى : أنه مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه كما قيل بذلك فى ليلة القدر ، وفى ساعة الإجابة ، وفى الصلاة الوسطى.

القول الثالث : أنه (هو) نقله الإمام فخر الدين (١) عن بعض أهل الكشف واحتج له بأن من أراد أن يعبر عن كلام عظيم بحضرته لم يقل أنت قلت كذا ، وإنما يقول : هو ، تأدبا معه.

القول الرابع : (الله) لأنه اسم لم يطلق على غيره ولأنه الأصل فى الأسماء الحسنى ، ومن ثمّ أضيفت إليه.

قال ابن أبى حاتم فى تفسيره : حدثنا الحسن بن محمد الصباح حدثنا إسماعيل ابن عليّة عن أبى رجاء ، حدثنى رجل عن جابر بن عبد الله بن زيد ، أنه قال : اسم الله الأعظم هو : (الله) ألم تسمع أنه يقول : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ).

وقال ابن أبى الدنيا فى كتاب الدعاء : حدثنا إسحاق بن إسماعيل عن سفيان بن عيينة عن مسعر قال : قال الشعبى : اسم الله الأعظم (يا الله).

القول الخامس : (الله الرحمن الرحيم) قال الحافظ ابن حجر فى شرح البخارى (٢) : ولعل مستنده ما أخرجه ابن ماجه عن عائشة رضى الله عنها أنها سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلمها الاسم الأعظم فلم يفعل فصلت ودعت : (اللهم) إنى أدعوك الله ، وأدعوك الرحمن ، وأدعوك الرحيم ، وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ، ما علمتها وما لم أعلم ... الحديث ، وفيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «إنه لفى الأسماء التى دعوت بها» قال : وسنده ضعيف وفى الاستدلال به نظر. انتهى.

قلت : أقوى منه فى الاستدلال ما أخرجه الحاكم فى المستدرك وصححه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن عثمان بن عفان رضى الله عنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن (بسم الله الرّحمن الرّحيم) فقال : هو اسم من أسماء الله تعالى ، وما بينه وبين اسم

__________________

(١) أراد فخر الدين الرازى صاحب التفسير الكبير (مفاتيح الغيب).

(٢) فتح البارى ، وانظر أهم طبعاته بتحقيق طه عبد الرءوف سعد.

الله الأكبر إلا كما بين سواد العين وبياضها من القرب ، وفى مسند الفردوس للديلمى من حديث ابن عباس رضى الله عنهما ـ مرفوعا ـ اسم الله الأعظم فى ست آيات من آخر سورة الحشر.

القول السادس : (الرحمن الرحيم الحى القيوم) لحديث الترمذي وغيره عن أسماء بنت يزيد أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اسم الله الأعظم فى هاتين الآيتين : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) وفاتحة سورة آل عمران : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

القول السابع : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) لحديث ابن ماجه والحاكم عن أبى أمامة رضى الله عنه فيه : الاسم الأعظم فى ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه ، قال القاسم الراوى عن أبى أمامة : التمسته فيها فعرفت أنه : (الحى القيوم) وقواه الفخر الرازى ، واحتج بأنهما يدلان على صفات العظمة بالربوبية ما لا يدل على ذلك غيرهما كدلالتهما.

القول الثامن : (الحنان المنان بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام) لحديث أحمد وأبى داود وابن حبان والحاكم عن أنس رضى الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجل يصلى ثم دعا : اللهم إنى أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت الحنان المنان ، بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد دعا الله باسمه العظيم الّذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى».

القول التاسع : (بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام) أخرج أبو يعلى من طريق السّرى بن يحيى عن رجل من طيئ وأثنى عليه خيرا قال : كنت أسأل الله تعالى أن يرينى الاسم الأعظم فرأيت مكتوبا فى الكواكب فى السماء (بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام).

القول العاشر : (ذو الجلال والإكرام) لحديث الترمذي عن معاذ رضى الله عنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يقول : يا ذا الجلال والإكرام ، فقال : «قد استجيب لك فسل».

وأخرج ابن جرير فى تفسير سورة النمل عن مجاهد قال : الاسم الّذي إذا دعى به أجاب (يا ذا الجلال والإكرام) واحتج له الفخر بأنه يشمل جميع الصفات المعتبرة فى الإلهية لأن فى الجلال إشارة إلى جميع السلوب وفى الإكرام إلى جميع الإضافات.

القول الحادى عشر : (الله لا إله إلا هو الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) لحديث أبى داود والترمذي وابن ماجه والحاكم عن بريدة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقول : اللهم إنى أسألك بأنى أشهد أنك أنت الله الّذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، فقال : «لقد سألت الله بالاسم الأعظم الّذي إذا سئل به أعطى وإذا دعى به أجاب» وفى لفظ عند أبى داود «لقد سألت الله باسمه الأعظم» وقال الحافظ ابن حجر : وهو أرجح من حديث السند عن جميع ما ورد فى ذلك.

القول الثانى عشر : (رب ، رب) أخرج الحاكم عن أبى الدرداء وابن عباس رضى الله عنهما قالا : اسم الله الأكبر (رب ، رب) وأخرج ابن أبى الدنيا عن عائشة رضى الله عنها ، مرفوعا وموقوفا : «إذا قال العبد : يا رب ، يا رب ، قال الله تعالى : لبيك عبدى سل تعط».

القول الثالث عشر : ولم أدر من ذكره : (مالك الملك) أخرج الطبرى فى الكبير بسند ضعيف عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اسم الله الأعظم الّذي إذا دعى به أجاب فى هذه الآية من آل عمران : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ

الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)) (آل عمران : ٢٦ ، ٢٧).

القول الرابع عشر : دعوة ذى النون ، لحديث النسائى والحاكم عن أصالة بن عبيد رفعه : «دعوة ذى النون فى بطن الحوت : لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين ، لم يدع بها رجل مسلم قط إلا استجاب الله له» أخرج ابن جرير من حديث سعيد مرفوعا : «اسم الله الّذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى» أخرج الحاكم عن سعد بن أبى وقاص مرفوعا : «ألا أدلكم على اسم الله الأعظم؟ دعاء يونس» فقال رجل هل كانت ليونس خاصة؟ فقال : ألا تسمع قوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) وأخرج ابن أبى حاتم عن كثير بن معبد قال : سألت الحسن عن اسم الله الأعظم قال : أما تقرأ القرآن فى قول ذى النون : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : ٨٧).

القول الخامس عشر : كلمة التوحيد ، نقله عياض ...

القول السادس عشر : نقل الفخر الرازى عن زين العابدين أنه سأل الله تعالى أن يعلمه الاسم الأعظم فرأى فى النوم ، هو الله ، الله ، الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم.

القول السابع عشر : هو مخفى فى الأسماء الحسنى ، ويؤيده حديث عائشة رضى الله عنها المتقدم لما دعت ببعض الأسماء الحسنى ، قال : «إنه لفى الأسماء التى دعوت بها».

القول الثامن عشر : إنه كل اسم من أسمائه تعالى دعا العبد ربه مستغرقا بحيث لا يكون فى فكره حالة. إذ غير الله ، فإن من دعا الله تعالى بهذه الحالة كان قريب الإجابة ، وأخرج أبو نعيم فى الحلية عن أبى يزيد البسطامى رضى الله عنه أنه سأله رجل عن الاسم الأعظم فقال : ليس له حد محدود ، إنما هو فراغ قلبك بوحدانيته ، فإذا كنت كذلك فافزع إلى أى اسم شئت ، فإنك تسير به إلى المشرق والمغرب ، وأخرج أبو نعيم أيضا عن أبى سليمان الدارانى قال : سألت بعض المشايخ عن اسم الله الأعظم قال : تعرف قلبك؟ قلت : نعم ، قال : فإذا رأيته قد أقبل ورق فسل الله حاجتك ، فذاك اسم الله الأعظم ، وأخرج أبو نعيم أيضا عن الربيع السائح أن رجلا قال له : علمنى الاسم الأعظم ، فقال : اكتب (بسم الله الرّحمن الرّحيم) أطع الله يطعك كل شيء.

القول التاسع عشر : (اللهم) (١) حكاه الزركشى فى شرح جمع الجوامع واستدل لذلك بأن الله دال على الذات والميم دالة على الصفات التسعة والتسعين ، ذكره ابن مظفر ، ولهذا قال الحسن البصرى اللهم مجمع الدعاء ، وقال النضر بن شميل : من قال : اللهم فقد دعاء الله بجميع أسمائه.

القول المتمم للعشرين : (الم) أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : (الم) هو اسم الله الأعظم ، وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : (الم) قسم أقسم الله به وهو من أسمائه تعالى.

__________________

(١) ومعناه يا الله إذ أن الميم المشددة فى آخره بدلا من ياء النداء ، ولذلك لا يجمع بينهما ، فلا تقول : يا اللهم ، إلا فى لغة شاذة ، أو لضرورة الشعر ، يقول الشاعر :

كنت إذا ما خطب ألمّا

أقول يا للهم يا للهم

فهرس الدراسة والمقدمات وأهم ما جاء بالهوامش

تصدير بقلم المستشار سماحة السيد على الهاشمى................................... ٥

مقدمة المحقق.................................................................. ٧

التعريف بالمؤلف الإمام القشيرى................................................. ٩

القشيرى وأولياء الله الصالحون................................................. ١٢

تعريف بأسمائه تعالى فى القرآن والسنة........................................... ١٧

أسماؤه تعالى الواردة فى سور القرآن الكريم........................................ ١٩

ما ورد منها فى السنة مما لم يرد فى القرآن الكريم.................................. ٢١

من أسماء الله الحسنى ما لا يطلق إلا مقترنا بمقابله................................. ٢٢

شرح أسماء الله الحسنى فى إيجاز................................................. ٢٣

أبيات من قصيدة للأمير أحمد شرف الدين أمير كوكبان فى أسماء الله الحسنى.......... ٢٨

جزء من القصيدة النونية المختص ببعض أسماء الله الحسنى.......................... ٢٩

قول الإمام البونى عن علم الأسماء الحسنى وأسراره وخواص تأثيراتها................... ٣٠

مبحث فى الاسم المفرد (الله) تعالى............................................. ٣١

توحيد الله أولا............................................................... ٣١

من خواص الاسم (الله) تعالى.................................................. ٣٣

معانى أحرف اسم (الله) تعالى.................................................. ٣٤

الاسم الأعظم للإمام الغزالى................................................... ٣٥

الاسم الأعظم للإمام السيوطى................................................ ٤٢

فهرس بأهم التعليقات التى وردت بالكتاب

ذكر الله تعالى............................................................... ٥١

الدعاء ومعناه................................................................ ٧٩

حقيقة الاسم والمسمى........................................................ ٩٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال الشيخ الأستاذ الإمام جمال الدين أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيرى رضى الله عنه :

ذكر الله تعالى (١)

__________________

(١) الذكر هو ما يجرى على اللسان والقلب من تسبيح الله تعالى وتنزيهه ، وحمده ، والثناء عليه ، والإكثار منه واجب مأمور به ، ويذكر الله من يذكره ، والذاكر متفرد بالسبق ، حي على الحقيقة ، وفق لرأس الأعمال الصالحة ، واتخذ سبيل النجاة ، ويصبح ذاكرا من واظب على الأذكار المأثورة صباحا ومساء ، وفى كل الأوقات ، وعلى جميع الحالات.

ويستحب الذكر سرا ، فى ثوب نظيف ، ببدن طاهر طيب الرائحة ، مع استقبال القبلة ، فى حلق للذكر.

والذاكر بكلمات التوحيد له عظيم المنزلة.

والذكر يثقل الميزان ، ويريح النفس ، وهو الكلام بأحب الكلام إلى الله ، ومن الذكر الاستغفار ، وهو حط للخطيئات ، وصفته : أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله.

ويستحب الذكر بالجوامع من الأدعية ، وأن يعد التسبيح بالأصابع فهو خير من السبحة.

ويندب ألا يخلو مجلس من ذكر الله ، والصلاة على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعند الانتهاء يدعو بدعاء ختام المجلس ليكون كفارة لما اقترف فيه.

وثمت أحاديث نبوية عديدة تدور حول ذكر الله تعالى وفضائل ذلك الذكر ، نذكر بعضا منها :

١ ـ عن أبى الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بخير أعمالكم ، وأرفعها فى درجاتكم ، وأزكاها عند مليككم ، وخير لكم من إعطاء الورق (الفضة) والذهب ، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟» قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : «ذكر الله» (مالك ـ الترمذي).

__________________

٢ ـ عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : أخرجوا من النار من ذكرنى يوما أو خافنى فى مقام» (الترمذي).

٣ ـ عن معاذ رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم يبيت على طهر ذكرا لله تعالى ، فيتعارّ (ينتبه) من الليل ، فيسأل الله تعالى خيرا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه» (أبو داود).

٤ ـ عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله عزوجل : أنا عند ظن عبدى بى ، وأنا معه إذا ذكرنى ، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرته فى نفسى ، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم ، وإن تقرّب إلى شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا ، وإن أتانى يمشى أتيته هرولة». (الشيخان).

٥ ـ عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما قال : قلت : يا رسول الله ، ما غنيمة مجالس الذكر؟ قال :

«غنيمة مجالس الذكر الجنة» (أحمد).

٦ ـ عن أنس بن مالك رضى الله عنه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا : وما رياض الجنة؟ قال : «حلق الذكر» (الترمذي).

والذكر كما قال الحكيم الترمذي : الذكر غذاء المعرفة ، والمعرفة حلوة نزهة ، والقلب وعاؤها وخزانتها ، والصدر ساحته ، والمعرفة ذات شعب : شعبة منها للجلال ، وشعبة للعظمة ، وشعبة للرحمة ، وشعبة للجمال ، وشعبة للبهجة ، وشعبة للسلطان ، وشعبه للبهاء ، وأصل هذه الشعب القدرة ، ومن القدرة تتشعب هذه الشعب ، ثم من كل شعبة منها تتشعب الأشياء.

فجوهر الذكر البهجة ، فإذا بدا الذكر على القلب هاج الفرح ، فلو لم يمازجه فرح النفس بها لطاب الذكر ، ولكن النفس لما جاءت بمزاجها تكدر الفرح فانقطع المدد من المذكور فبقى الذكر مع كدورة الفرح ، فأهل الصفاء يلتذون بالذكر لأن نفوسهم فى سجون القلب ، وسلطان المعرفة قد أحاطت بالنفس ، فلا تقدر النفس أن تتحرك للمزاج والأخذ بنصيبها. وأصل الذكر فى القلب ، وعمله بالفؤاد فى الصدر ، فإذا خرجت المشيئة من باب الرحمة جرت الإرادة من باب الحكمة ، هاج الذكر من ملك البهجة فثار ضوؤها إلى الصدر ، فتراءى الضوء لعينى الفؤاد ، فارتحل بعقله شاخصا إلى الله فصار ذلك الضوء مركبه إلى الله ، والراكب عقله ، فهذا هو الذكر ، فالقلوب لها محلات :

__________________

ـ فمحلة العامة قلوبها محبوسة فى الجو لا تصعد ، لأن الشهوات قد ثقلتها ، والهوى قد قيدها ، وقلوب المريدين فى سيرهم فى منازلهم أينما وقف فهو محله ، وإنما قيده هواه ، وثقله باقى شهواته ، وقلوب الواصلين فى محلاتهم عند العرش ، وقد قيدهم باقى أهوائهم لا يصلون إلى مجالسه فى ملكه ، وقلوب أهل الصفو من الواصلين ، واصلة إليه فى مجالسه ، فذلك خالص النجوى ، وصافى الذكر ، وهذا الصنف هم الذين قال موسى : «يا رب ، أقريب أناجيك أما بعيد فأناديك؟ قال : أنا جليس من ذكرنى» فالمجلس لهؤلاء. فالذاكرون تباينت طبقاتهم لاختلاف الأحوال فى الذكر ، فليس من أحد يذكر ربه إلا وبدوّ ذلك الذكر من ربه ، وذلك الذكر من الرب إذن للعبد فى الارتحال إليه.

فإذا ذكر الله مبتديا فإنما ذكره من ملك البهجة ، فذاك شوق الله إلى عبده ، ذكره ليهيج بذكره له من العبد ذكره ، فيهيج شوقه إلى الله كلّ على قدره.

فالعامة لا تقدر مطالعة هذا ولا تمييزه ولا تفطن لما يتردد فى صدورهم من ذلك لأنهم فى المرج والشجر الملتفة ، وهى أشغال النفوس فى الصدور ، ولذلك قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تفرغوا من هموم الدنيا ما استطعتم ، فما أقبل عبد بقلبه على الله إلا أقبل الله بقلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة ، وكان الله بكل خير إليه أسرع».

فذكر الله دنوه من العبد ، فدنوه على قدر مصير العبد إليه ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روى عن ربه : «أنا مع عبدى ما تحركت بى شفتاه» (البيهقى ـ ابن حبان).

فكل ذاكر يرجع إليه من ذكره بما انتهى إليه ، فمن انتهى ذكره إلى محل حاد عنه إلى ذى الإحسان رجع إلى قلبه بحلاوة الرحمة وغليل الرأفة ، ومن انتهى ذكره إلى محل حاد عنه إلى ذكر المن رجع إلى قلبه بحلاوة المحبة البارزة المحتظاة منها ، ومن انتهى ذكره إلى محل حاد عنه إلى ذكر التدبير رجع إلى قلبه بحلاوة القربة ، ومن انتهى ذكره إلى محل خلص إلى القدرة رجع قلبه بحلاوة الفرح بالله وحلاوة محبّة الله الباطنة ، وهو الّذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله إذا أحب عبدا نادى : يا جبريل ، إنى أحب فلانا فأحبوه ، فينادى جبريل فى السماوات : إن الله قد أحب فلانا ورضى عنه فأحبوه» (مسلم).

فليس هذا الحب الموضوع فى هذا الحديث الحب العام لأن كل موحد يحبه ربه ، ولم يعطه التوحيد ولا منّ به عليه إلا من حبه له.

__________________

ولكن هذا من الحب المخزون عنده لا المحتظى منه لجميع الموحدين.

والمخزون هذا الّذي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روى عنه عن الله تبارك وتعالى أنه قال : «ما تقرب إلى عبدى بمثل ما افترضت عليه ، وإن عبدى ليتقرب إلى بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله وفؤاده ولسانه ، فبى يسمع ، وبى يبصر ، وبى يبطش ، وبى يعقل ، وبى ينطق ، وبى يمشى».

فهذا محبوب يستعمله ربه وفى قبضته ، وله الثبات من ربه وله الكلاءة والرعاية.

وروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ، ولله فى كل ساعة صدقة على عبيده ، وما تصدق على امرئ بشيء أفضل من أن يلهمه الذكر».

(عبد الرزاق)

وفى ذكر الله تعالى خمس خصال : رضا الله تعالى ، ورقة القلب ، وزيادة الخير ، وحرز من الشيطان ، ومنع من ركوب المعاصى ، فما ذكره الذاكرون إلا بذكره لهم ، وما عرفه العارفون إلا بتعريفه إياهم ، وما وحده الموحدون إلا بعلمه لهم ، وما أطاعه المطيعون إلا بتوفيقه لهم ، وما أحبه المحبون إلا بتخصيص محبته لهم ، وما خالفه المخالفون إلا بخذلانه لهم ، فكل نعمة منه عطاء ، وكل محنة منه قضاء ، وما أخفته السابقة أظهرته اللاحقة.

وللذكر ثلاثة مقامات :

ذكر باللسان : وهو ذكر عامة الخلق ، وذكر بالقلب : وهو ذكر خواص المؤمنين ، وذكر الروح : وهو لخاصة الخاصة ، وهو ذكر العارفين بفنائهم عن ذكرهم وشهودهم إلى ذاكرهم ومنته عليهم.

والذكر تختلف أنواعه وتتعدد ، والمذكور واحد لا يتعدد ولا يتحدد ، وأهل الذكر أحباب الحق من حيث اللوازم.

وهو على ثلاثة أقسام : ذكر جلى ، وذكر خفى ، وذكر حقيقى.

فالذكر الجلى لأهل البداية وهو ذكر اللسان ، بصرف الشكر والثناء والحمد بتعظيم النعم والآلاء عن العهد ، وحسنته بعشرة إلى سبعين.

والذكر الباطن الخفى لأهل الولاية ، وهو ذكر سر القلب بالخلاص من الفترة ، والبقاء مع المشاهدة بلزوم مشاهدة الحضرة وحسنته بسبعين إلى سبعمائة.

الحمد لله القديم : الّذي لا يستفتح له وجود ، الحكيم الّذي لا يستفتح منه موجود ، العظيم الّذي لم يلده والد فيرثه مولود ، الكريم الّذي لا ينازعه معبود ، الواحد الّذي لا يقوم بذاته حادث ، الماجد الّذي لا يرثه وارث ، القاهر لا بأعوان وأنصار ، الفاطر لا بخواطر وأفكار ، العالم لا بكسب واضطرار ، الدائم لا بزمان ومقدار ، المريد لا بتوطين نفس ، المبدئ المعيد ، لا لدفع نقص أو جلب أنس ، السميع لا بإصغاء ، البديع لا بتأمل وارتياء ، البصير لا بحدقة وحاسة ، القريب لا بمكان ومماسة ، المتكلم لا بلسان ولهاة ، المقدس عن كل آلة وأداة ، الموصوف بنعوت أزلية ، المنعوت بصفات أبدية ، خالق الخلق بقدرته ، وباسط الرزق برحمته ، ومحكم الأفعال بعلمه وحكمته ، ومبرم الأشياء بقضائه ومشيئته ، الملك الّذي لا ينازعه شريك ، الجليل الّذي لا يضارعه عديل ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، يفعل ما يشاء وهو على كل شيء قدير.

__________________

والذكر الكامل الحقيقى لأهل النهاية ، وهو ذكر الروح بشهود الحق إلى العبد ، والتخلص من شهود ذكره ببقائه بالرسم والحكم ، وحسنته بسبعمائة إلى ما لا نهاية له بالتضعيف ، لأن المشاهدة فناء لا لذة فيها ، والروح له ذكر الذات ، والقلب له ذكر الصفات ، واللسان له ذكر العادة للتعرضات.

والذكر مفضل على سائر العبادات ، ومما استدل به على تفضيل الذكر على سائر العبادات أنه لم يرخص فى تركه فى حال من الأحوال ، أخرج ابن جرير الطبرى فى تفسيره عن قتادة قال : افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون ، عند الضراب بالسيوف فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٤٥) (الأنفال).

ومن فضائل الذكر ولا إله إلا الله ، قال ابن عباس رضى الله عنهما : الليل والنهار أربعة وعشرون ساعة ، وحروف «لا إله إلا الله محمد رسول الله» أربعة وعشرون حرفا ، فمن قال : لا إله إلا الله محمد رسول الله كفّر كل حرف ذنوب ساعة فلا يبقى عليه ذنب إذا قالها فى كل يوم مرة ، فكيف بمن يكثر من قوله لا إله إلا الله ويجعله شغله؟. (والله أعلم).

أحمده على ما عرفنا من توحيده ، وأشكره على ما خصنا به من تسديده ، وأستغفره لما سلف من عصيانه ، وأستوفقه بفضله وإحسانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة تصدر عن حقيقة يقين وعرفان ، لا عن تخمين وحسبان.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ونبيه وخليله ، بعثه بعد دروس السبل [الطرق] وطموس الملل ، وعبادة الأوثان وكثرة الطغيان واندراس البرهان ، فقام لدين الله ناصحا ، ولمعالم الشرك فاضحا ، ولعبادة الأصنام قامعا ، ولملة الإسلام شارعا ، وعن الآفة بريا ، وفى الدين قويا.

صلوات الله عليه وسلامه ، وعلى آله الذين اختارهم الله وطهرهم ، وأصحابه الذين اجتباهم وآثرهم.

أما بعد : فقد كثر سؤال الراغبين فى علم التذكير منا فى إملاء كتاب يشتمل على أبواب فى هذا الفن يكون تبصرة للمبتدئين ، وتذكره للمحققين ، وكنت أزهد فى الإجابة إلى ذلك لما ظهر من الخلل فى هذه الطريقة ، وإيثار كثير ممن ينتمى إلى هذه الصنعة العرض اليسير مما يجمعه من حطام الدنيا على ما أعد الله سبحانه لأهل العلم إذا نصحوا لله ولرسوله وللمؤمنين من الدرجات العلاء والمثوبة الحسنى.

ولما انضاف إلى خطأ مقاصدهم فى الأغراض ، خطأ مقالتهم ، وخطل كلماتهم حتى قلّ التحقيق وضاعت البدع على الأفواه وزال التمييز وكثر المتعاطون لهذه الحالة والمتصفون بهذه الصفة رأيت فى حكم النصيحة فى الدين ومقتضى ما أخذه الله على العلماء من ترك الكتمان للحق أن أملى كتابا جامعا يشتمل على حضور مجلس موسمى صالح من هذا العلم يتحقق به من

تأمله ، وربما لا يتفق لبعض الراغبين فى الاتعاظ حضور مجمع الذكر فيعتاض بالنظر فيه عما فاته من التذكير.

وضمنت الكتاب معانى أسماء الله تعالى الحسنى ، وآثرت الترتيب فيها لما روى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنة» وقدمت أبوابا على هذه الأسماء ثم أفردت لشرح كل اسم بابا.

وبالله سبحانه أستعين فى إتمام ما ابتدأته وإياه أسأله العصمة من الخطأ والخطل وترك الصواب والزلل ، إنه على ذلك قدير وبالمن به جدير.

* * *

باب

فى معنى قوله تعالى :

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)

اعلم أن سبب نزول هذه الآية أن رجلا من المشركين سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين يدعون الله تعالى مرة ، ويذكرون الرحمن الرحيم مرة ، فقال : ما باله ينهانا عن عبادة الأصنام وهو يدعو إلهين اثنين ، يقول مرة الله ، ومرة الرحمن ، فأنزل الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وأراد به ولله التسميات ، ولذلك قال الحسنى : وهى تأنيث الأحسن ، ففى الآية دليل على أن الاسم هو المسمى فى قوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) لأنه لو كان الاسم غير المسمى لوجب أن تكون الأسماء لغير الله تعالى ، وفى الآية تعلق أيضا لمن قال : إن الاسم غير المسمى حيث قال : (الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وهو سبحانه واحد والأسماء جمع ، فلا بد من صرف اللفظ عن الظاهر إلى المجاز.

فلهذا قلنا : إن المراد به ولله التسميات ، ووصف أسمائه بالحسنى يرجع إلى ما تتضمنه وتدل عليه من صفات العلو ونعوت العظمة والكبرياء ، أو إلى ما يستحقه الذاكر والداعى له بتلك الأسماء من جزيل الثواب وحسن المآب.

وقوله جل ذكره (وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ) أى أعرضوا عن أهل الإلحاد فى دينه ، يريد : لا تسلكوا سبيلهم ولا توافقوهم على طريقهم وخالفوهم فى مذاهبهم.

ومعنى الإلحاد : الزيغ والذهاب عن السنن المستقيم والميل عن الطريق القويم ، ومنه اللحد فى القبر ، والإلحاد فى أسماء الله تعالى على وجهين :

بالزيادة على ما أذن فيه ، أو النقصان عما أمر به ، فالأول تشبيه ، والثانى تعطيل ، فإن المشبهة وصفوه بما لم يؤذن فيه ، والمعطلة سلبوه ما اتصف به ، ولهذا قال أهل الحق : ديننا طريق بين طريقين ، يعنى لا تشبيه ولا تعطيل.

وسئل الشيخ أبو الحسن البوشنجي عن التوحيد فقال : «إثبات ذات غير مشبهة بالذوات ، ولا معطلة من الصفات».

وقد اختلف الناس فى اشتقاق الاسم فمنهم من قال : إنه من السمو وهو العلو والرفعة ، ومنهم من قال : إنه من الوسم والسمة ، وهو الكى والعلامة ، فعلى مقتضى اختلافهم من عرف أسماء الله تعالى يجب أن يتصف بهذين الوصفين ، بالسمو والسمة ، فتعلو همته ، عن مساكنة الأغيار وملاحظة الرسوم والآثار والرضا بخسيس الأقذار ، ويتسم بعبادة الجبار ، ويتصف بنعت الافتقار ، ويقوم بين يدى ربه بشواهد الانكسار ، ويبرز فى ميدان الاضطرار ، وخمار الاحتقار.

فصل

«من عرف اسم ربه نسى اسم نفسه»

بل من صحب اسم ربه تحقق بروح أنسه ، قبل وصوله إلى دار قدسه ، بل من عرف ربه سمت رتبته ، وعلت فى الدارين منزلته ، بل من عرف اسم ربه وسم بكى حسرته لما منى به من طلبته وحيل بينه وبين مقصوده لجلالة قدره وعزته.

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

فصل : من عرف أسماء الله تعالى حسن اسمه فى الدنيا والآخرة ، وجاء فى الحكاية أن بشرا الحافى كان فى بداية أمره من الشطار (١) ، فرأى يوما من الأيام قطعة من قرطاس عليها اسم الله مكتوب فأخذ القرطاس ونظفه واشترى بدرهم طيبا فطيبه ، ثم نام فرأى فيما يرى النائم كأن قائلا يقول له : يا بشر طيبت اسمى ، فو عزّتي وجلالى لأطيبن اسمك فى الدنيا والآخرة ، فإلى يوم القيامة يقولون : بشر الحافى ، كم من غنى كان لا يمشى إلا راكبا ويستنكف أن يكون حافيا مات اسمه بموته ، وهذا كان فقيرا حافيا بقى على الأحقاب ذكره ، ليعلم العاملون أنه لا يخسر أحد على الله ولا يضيع عمل عند الله.

وقيل لبشر : لم تمشى حافيا؟ فقال : الأرض بساطه ، وأنا أكره أن أباشر بساطه بواسطة بينه وبين قدمى.

وقيل : لم يخرج أحد من الدنيا كما دخل فيها مثل بشر ، فإنه كان عليه

__________________

(١) أى : قاطع طريق.

ثوب فى مرض موته فاستوهبه إنسان شيئا فأعطاه ثوبه ومات فى ثوب استعاره ، فلما آثر الله على الكل آثره الله على الجميع ، وما أصدق قول قائلهم : ليس العز بالماء والطين ، والتكبر على المساكين إنما العز بطاعة رب العالمين ، ويروى عن عليّ رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من كتاب يلقى بموضع من الأرض فيه اسم من أسماء الله تعالى إلا بعث الله إليه ملائكة يحفونه بأجنحتهم حتى يبعث الله إليه وليا من أوليائه فيرفعه من الأرض».

ومن رفع كتابا فيه اسم الله تعالى رفعه الله فى عليين وخفف عن أبويه ، وإن كانا مشركين.

ويروى عنه منصور بن عمار قال : كنت مولعا فى صباى برفع القراطيس من الأرض حتى عرفت بذلك ، وكان الصبيان أيضا أولعوا بى ، فبينما أنا ذات يوم فى صحراء إذ وجدت قرطاسا فيه : «لا إله إلا الله» فرفعته ولم يكن بإزائى حائط ولا شيء أرفعه فيه فبلعته ، فرأيت فى تلك الليلة هاتفا يهتف بى ويقول : يا منصور إن الله عزوجل سيرى لك ما فعلت.

فصل : علم الخالق سبحانه أنه ليس لك من الأسامى المرضية فقال :

(وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)

ولأن تكون بأسماء ربك داعيا خير لك من أن تكون بأسماء نفسك مدعيا ، فإنك إذا كنت بك كنت بمن لم يبق ، وإذا كنت به كنت بمن لم يزل ، فشتان بين وصف ووصف.

فصل

أسماء العبيد الحسنى

عد أسماءك الجميلة وخصالك الحميدة ثم عطف عليك وأحسن بفضله إليك وجعل لك أسماء جميلة وخصالا حميدة بعد أن لم تكن لك ، ومدحك وأطراك وأثنى عليك بما وشمك به وحلاك ، فقال عزوجل : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ) إلى قوله : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) (التوبة : ١١٢) فذكر أسماءك الحسنى ثم أمرك بأن تذكر أسماءه الحسنى.

ثم علم عجزك عن القيام بحق ذكره فناب عنك حيث عرفك ذكره فقال : (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) (الحشر : ٢٣) الآية ، وسئل بعضهم متى يصير الغنى بليغا فقال إذا ذكر محبوبه وأثنى عليه.

فصل

إما شاكرا وإما كفورا

عرفت أسماء ربك ، فليت شعرى بما تسمى غدا؟ أشقيا تدعى فتبكى اليوم حسرة ، أم سعيدا تدعى فتطيل النوم فرحة ، لا سلبكم الله ما أعطاكم من مواهبه ونعمه ولا نزع عنكم ما حلاكم به من فضله وكرمه بمنه ويمنه إنه ذو الفضل العظيم.

باب

فى معنى قوله تعالى

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)

ومن معانى الدعاء

هذه الآية فى سورة بنى إسرائيل ، وهى مكية ، وسبب نزولها أن المسلمين من أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام وأصحابه قالوا : ما لنا نسمع ذكر الرحمن فى القرآن كثيرا ، وهو فى التوراة كثير ، فأنزل الله سبحانه : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) والدعاء فى القرآن على وجوه خمسة منها :

الدعاء بمعنى العبادة : قال تعالى فى سورة يونس : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أى ولا تعبد ، وقال تعالى فى سوره الأنعام : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) أى أنعبد.

ومنها الدعاء بمعنى الاستعانة : لقوله تعالى فى سورة البقرة : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أى استعينوا بهم.

ومنها الدعاء بمعنى السؤال : قال تعالى فى سورة المؤمن : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أى سلونى أعطكم ، وقال تعالى فى سورة البقرة (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا) الآية ، أى أسأل لنا ربك.

ومنها الدعاء بمعنى القول : لقوله سبحانه فى سورة يونس (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ) إلى (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

ومنها الدعاء بمعنى النداء : كقوله عزوجل فى بنى إسرائيل : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ) أى يناديكم.

وفى هذا الموضع الدعاء بمعنى النداء ، قال تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا) أى : نادونى إن شئتم بقولكم : يا الله ، وإن شئتم : يا رحمن ، وقوله : (أَيًّا ما تَدْعُوا) إن شئت قلت : «ما» صلة ومعناه : أيا تدعوا ، وإن شئت قلت : «ما» للتأكيد وجاز تكريره لما اختلف اللفظ.

وقوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) (الإسراء : ١١٠) الصلاة فى اللغة هى الدعاء ، وفى الشرع : دعاء مخصوص على شروط ، ومن أهل اللغة من قال : الأصل فى الصلاة اللزوم ، فكأن المصلى لزم هذه العبادة المخصوصة لاستنجاح طلبته من الله تعالى ، وبعض العلماء قال : سميت هذه العبادة المخصوصة صلاة لأنها فى أكثر المواضع ثانى الإيمان وتالية فى الذكر ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (البقرة : ٣) وأمثلته كثيرة ، قال : والعرب تسمى الفرس الّذي يتلو السابق من الخيل فى الحلبة المصلى ، لأن رأسه عند صلوى السابق.

واختلفوا فى معنى الصلاة هاهنا ، فقال كثير من المفسرين : إنه أراد : لا تجهر بالقراءة فى الصلاة ولا تخافت بها ، وذلك أن المشركين كانوا إذا سمعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فى الصلاة آذوه ، فأمر أن لا يجهر فى صلاته جهرا يسمعه المشركون ، ولا يخافت بها ، والمخافتة السكوت ، يقال : خفت الميت خفوتا إذا برد ، وهاهنا يريد أن يقتصر فى القراءة على ذكر القلب ، لأن القراءة المأمور بها فى الصلاة محلها اللسان ، فإن اقتصر على ذكر القلب نقل الشيء عن محله إلى غير محله ، ووضع الشيء فى غير موضعه لا يجوز ، وفى الآية إشارة إلى

المنع من ذلك ، وهو حقيقة الظلم ، فمن صرف قلبه عن الأغيار وشغل فكره بالرسوم والآثار ووسم نفسه بخدمة الأمثال ، ومحق عمره بعمارة الأطلال فقد وضع الشيء فى غير موضعه ، ومن وصف معبوده بما لا يليق بحقه من نعوت خلقه ، مما يتضمن نقصا أو يشبه شخصا أو يوجب حدوثا أو يقتضي قصورا فقد وضع الشيء فى غير موضعه.

(وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها)

والقول فى معانيها

وإلى هذه الجملة أشار سيد هذه الطائفة (١) أبو القاسم الجنيد ، رحمه‌الله تعالى ، لما سئل عن التوحيد فقال : إفراد القديم عن الحدوث ، وإذا أخذ بهذا التأويل ففيه إشارة إلى تسلية أصحاب المحن إذا استولى عليهم أهل الفتن وتنبيه لهم على السكون إلى أن تنقضى عنهم أوقات البلا ، فإن سيد الأولين والآخرين صلوات الله عليه قيل له : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) محاماة عن الدين وصبرا على ما كان يقاسيه من المشركين.

وفى بعض الكتب أن نبيّا شكا إلى الله تعالى من امرأة سلطت على أهل عصرها فأوحى الله تعالى إليه فر من أمامها حتى تنقضى أيامها.

ونكتة أخرى : وهو أن الأعداء لما لم يعرفوا قدر ما سمعوه وقابلوه بالتكذيب أمرصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن لا يسمعهم فى بعض الأحوال تنبيها على أنهم لا يستحقون ذلك ، وإن كان قد قال تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) (الحجر : ٩٤).

وأخرى : وهو أنه قال : إذا وقفت على بساط القربة مع المنتخبين للصحبة فاستر المناجاة مع الحبيب خوفا من اطلاع الرقيب.

__________________

(١) جموع السادة المتصوفين.

وفى معناه أنشدوا :

عذيرى سولى أن أرى منك خلوة

فأشكو الّذي بى من هواك وتسمع

تمنى أناس ما أحبوا وإنما

تمنيت أن أشكو إليك فتسمع

وفى خلافه قال بعض من شكا من بلاء الرقيب :

لم ترد ماء وجهه العين

إلا شرفت قبل ربها برقيب

وقد قيل فى تأويل الآية عن الحسن البصرى : لا تحسن صلاتك فى العلانية وتسىء فى السر ، فعلى هذا التأويل ، الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد به أمته ، وفيه الأمر بالإخلاص فى الطاعات ، وترك التصنع للمخلوقات ونفى التزين للمصنوعات ، والاكتفاء برؤية رب الأرضين والسماوات ، وتصفية الأعمال من الآفات وتنقية الأحوال من المكدورات.

وسئل الشبلى عن مثل هذا فقال : أن لا يكون بكلام غيره لافظا ، ولا يكون لغير ربه لاحظا ، ولا يرى لنفسه دون ربه حافظا.

وروى عن عائشة رضى الله عنها وعن ابن عباس وجماعة من المفسرين أن تأويل الآية : لا تجهر بدعائك ، قالوا : هو أن يذنب العبد سرّا ، فقيل له لا تظهر للناس تفصيل توبتك فيطلعوا على ما سترت عليك من زلتك ، ولا تخافت بها أى لا تترك الاستغفار ، وفارق الإصرار ولا تأمن الاغترار ، فلمعبودك فاعتذر ومن مجهودك لا تدخر ، أى أسمعنا خطابك تصر زلتك مغفورة ، ولا تفش سرك تبق حالتك مستورة.

ومن كمال كرمه أن يستر على المنهمكين ، ويسبل ستر عفوه على

المتهتكين ، ويسحب ذيل حلمه على الخاطئين ، أما تخشى هتك سترك فى عقباك ، أما تحذر كشف سترك لما سلف من خطاياك ، أين أنت من لطف مولاك لما اقترفت ما نهاك ، حيث ناداك فقال : لا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها.

وفى معناه أنشد بعضهم :

ارخ سترا على حقارة فعلى

هتك ستر المحب ليس يحل

ربما قصر الفقير المقل

فى حقوق بهن لا يستقل

ولئن قل خدمة ووفاء

فولاء وحرمة لا تقل

وقال عطاء الخرسانى : إن الصّدّيق رضى الله عنه كان يخافت فى صلاته بالليل ، فلا يرفع صوته بقراءته ، وكان عمر رضى الله عنه يجهر فى صلاته ، فسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا بكر عن فعله فقال : أسمع من أناجى ، وقال عمر : أوقظ الوسنان ، وأطرد الشيطان ، وأرضى الرحمن ، فأمر أبا بكر حتى رفع قليلا وأمر عمر حتى خفض قليلا.

وفى الخبر إشارة إلى أن الصواب والحسن ما حصل بالإذن والأمر ما استحسنه الإنسان بعقله واستصوبه من ذات نفسه ، وفيه إشارة إلى أن الشيء قد يكون حسنا وغيره أحسن منه فيدعى إلى الأحسن عن الأول ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ينكر عليهما لكنه أوقفهما على ما هو الأحسن والأصوب.

ودل هذا الخير على مزية الصديق ، وبلوغه رتبة التحقيق حيث أخبر عن التوحيد فقال : أسمع من أناجى ، وعمر أخبر أنه يجاهد الشيطان ويوقظ

الوسنان ، وبين الحالتين وإن صفتا ، والمنزلتين وإن علتا بون ، عبد هو بوصف مجاهدته ، وعبد هو بعين مشاهدته ، الفاروق قال : أطرد الشيطان ، وهو صفة المجاهدين ، والصّدّيق قال : أسمع من أناجى ، وهو نعت العارفين.

وقال بعضهم : تأويل الآية : لا تجهر بجميع صلاتك ولا تخافت بالكل ، أى اجهر صوتك ببعض الصلوات : المغرب والعشاء والصبح ، وأسر فى البعض الظهر والعصر ، وهذا روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «صلاة النهار عجماء» وفى هذا تنبيه على فساد قول الباطنية حيث يطلبون الأسباب فى تفصيل العبادات ، فإن الشرع غير معلل (١) ، بل أمرنا برفع الصوت فى بعض الصلوات والإسرار فى بعض ، ولو كان الأمر بالعكس لكان سائغا.

وكذلك القول فى تثنية السجود وإفراد الركوع ، وعدد الصلوات ، وغير ذلك من العبادات ، وفيه إشارة إلى ترك ما عليه العادة ، لأن عادة الناس التصرف والحركة بالنهار ، والسكون بالليل ، فأمرنا بترك الجهر بالنهار خلافا للعادة ، وبرفع الصوت بالليل خلافا للعادة ، ولهذا قيل : الإرادة ترك ما عليه العادة.

وروى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : نزلت هذه الآية فى التشهد ، أى لا ترفع صوتك فى قراءتك التشهد ، ولا تخافت بها أى : اذكر ذلك بلسانك وأسمع نفسك ، فتكون الصلاة هاهنا بمعنى الدعاء على هذا ، والإشارة فيه أن التشهد فى حال الجلوس ، والقعود بحضرة الملوك يدل على القربة ، والقربة توجب الهيبة.

قال الله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)

__________________

(١) ما دمت آمنت بالله تعالى ربا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ورسولا فلا تقل لما أمراك به : لم كان هذا؟ ولم كان هذا؟ ولكن استجب وافعل.

(طه : ١٠٨) والّذي يشهد لهذه الجملة أن التشهد إخبار عن ثناء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه ليلة المعراج حيث قال : «التحيات لله المباركات ، والصلوات الطيبات لله».

وفى هذا إشارة إلى الفرق بين الحبيب والخليل ، فإن إبراهيم عليه‌السلام قال : (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) (الأنعام : ٧٩) فجعل محل قوله القيام وجعل محل قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم القعود ، فكم بين من يتكلم قائما فى نطاق الخدمة ، وبين من يثنى جالسا على بساط القربة ، وقوله تعالى : (وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) كان الواجب أن يكون بين ذينك ولكن اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر ومثاله كثير كقوله عزوجل (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) ولم يقل وإنهما ، وغير ذلك ، وأراد : وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا ، وبهذا تأدب أهل الحق حيث آثروا فى كل شيء طريقا بين طريقين : تجنبوا التقصير وتنكبوا الغلو ، وهذا ظاهر فى أحوالهم واعتقاداتهم ، وربما نشرح ذلك فى غير هذا الموضع ، إن شاء الله تعالى.

* * *

باب

فى معنى قوله تعالى

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ

وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)

الكلام فى هذه الآية من وجوه منها قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ) (مريم : ٦٥) الآية ، تدل على قول أهل الحق : إن اكتسابات العباد مخلوقة لله سبحانه ، لأن الرب فى هذا الموضع لا يمكن حمله على معنى من معانيه إلا على المالك ، وإذا ثبت أنه مالك ما بين السماوات والأرض دخل فى ذلك اكتساب الخلق ، وإذا ثبت أن اكتساب الخلق ملك له دل على أنه خلقه لأن حقيقة الملك القدرة على الإيجاد ، ومعنى كون الشيء فعلا لفاعله أنه بقدرته وجد.

وقوله : (فَاعْبُدْهُ) وجه نظمه بما تقدم أنه لما ثبت أنه المالك على الإطلاق فله بحق ملكه أن يتعبد من شاء من خلقه بما يريد من حقه ، وحقيقة العبادة الطاعة بغاية الخضوع ، ولا يستحقها أحد سوى المعبود جلت قدرته ، وهى من قولهم : طريق معبّد إذا وطئته السابلة (السائرون على الطريق).

وقوله : (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) فيه دلالة على أن الحال وإن صفت هى لا تكتفى إلا باقتران وفاء العاقبة ، ولهذا قال بعض المشايخ : لا يغرنك صفاء الأوقات فإن تحتها عوارض الآفات.

وفى معناه أنشدوا :

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتى به القدر

وسالمتك الليالى فاغتررت بها

وعند صفو الليالى يحدث الكدر

فكم من شجرة أورقت وأزهرت ، فما أدركت ولا أثمرت ، وكم من مطيع أخلص فى طاعته ، وما تخلص فى عاقبته ، وكم من مسرور بعبادته ، مغرور لصفاء حالته ، بدت له خفايا سابقته ، بما لم يكن فى حسبانه وأمنيته.

ودلت الآية على وجوب الاستقامة ، فإن الاصطبار نهاية الصبر ، ومن صبر ظفر ، ومن لازم وصل ، وقد قيل : من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له ، وفى معناه أنشدوا :

أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته

ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

وأنشدوا أيضا :

إنى رأيت وفى الأيام تجربة

للصبر عاقبة محمودة الأثر

وقل من جد فى شيء يطالبه

فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر

وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) جاء فى التفسير : هل تعلم له نظيرا؟ معناه : هل تعلم أحدا يستحق من الصفات ما يستحقه الله عزوجل؟ وقيل : معناه : هل تعلم أحدا يسمى الله سوى الله؟ وعن الحسن بن الفضل البلخى أنه

قال : نظم هذه اللفظة بما قبلها أنه لما أخبر أنه مالكهم وبحق ملكه تعبّدهم ، وبملازمة طاعته أمرهم ، بيّن أنه لا منازع له ينازعه فيما أمر ، ولا مضارع يساويه فيما أثبت وأظهر ، ودلت الآية على نفى التشبيه ، وأن المعبود سبحانه لا يشبه شيئا من الموجودات ولا يشبهه شيء من المدروكات ، لأن من شرط التماثل التساوى بكل وجه ، والله صانع وما سواه مصنوع ، ويستحيل أن يكون كالمصنوع لاستحالة القول بحدوثه كما يستحيل أن يكون المخلوق كالخالق ، لفساد القول بقدمه ، وعليه دل قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قال الواسطى : ليس كذاته ذات ، ولا كفعله فعل ، ولا كصفته صفة ، إلا من جهة موافقة اللفظ ، وجلت الذات القديمة أن تكون لها صفة حديثة ، كما استحال أن تكون الذات المحدثة لها صفة قديمة ، سبحان من ليس كمثله شيء ، وجل عن الزمان والأين.

وهذه الحكاية تشتمل على جوامع مسائل التوحيد ، وكيف تشبه ذاته ذات المحدثات وهى بوجودها مستغنية عن كل غير بكل وجه ، فهى بها قائمة وباستحقاق نعت صمديتها دائمة.

وما سواها من الأغيار إلى الإيجاد والإبداء مفتقرة حتى تكون ، وإلى الإبقاء والإدامة محتاجة حتى تدوم.

وكيف يشبه فعله فعل الخلق وهو لا لعلة فعل ما فعل.

ولا لجلب أنس أو دفع نقص حصل.

ولا بخواطر وأغراض وجد.

ولا بمباشرة أو معالجة ظهر.

وفعل الخلق لا يخرج عن هذه الوجوه ، وإليه أشار ذو النون المصرى

حيث قال : حقيقة التوحيد أن تعرف أن قدرة الله فى الأشياء بلا علاج ، وصنعه للأشياء بلا مزاج ، وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وما تصور فى وهمك فالله تعالى بخلافه.

ومعنى قوله : وعلة كل شيء صنعه أنه ما ظهر حادث إلا والله صانعه ولا علة لفعله أى : لم يحمله على الفعل غرض ولا دعاه إلى الإيجاد محرك ، فهو سبحانه لا يشبهه أحد ، ولا يوجد من دونه ملتحد ، وكيف لا وهو سبحانه واحد لا يجمعه عدد ، وصمد لا يقطعه أمد ، وفى معناه أنشدوا :

يا من إذا قلت يا من لا نظير له

فى عزه قيل لى يا صادق البشر

وكان الشيخ أبو على الدقاق يقول : إن مجنون بنى عامر ادعى المحبة لشخص وتحقق فيها حتى هجر الأوطان وفارق الإخوان ، واغترب عن كل شيء حتى اسمه ، فلما خرج إلى الصحراء رأى ظبيا فقال :

فعيناك عيناها وجيدك جيدها

سوى أن عظم الساق منك دقيق

فقال له أهل التحصيل : أف لك من محب ، قاسيت ما قاسيت وتحملت ما تحملت ، وحين خرجت إلى الصحراء وجدت من أمثاله ما لا يحصى (١).

__________________

(١) أما الحب فى الله الواحد الأحد ، من ليس له شريك فى الملك فهو الحب على التحقيق ، إذ لا يشبه الله أحد من خلقه.

فصل

فضل الله على أهل التوحيد

ولقد أعظم الله المنة على أهل التوحيد وأجزل النعمة على ذوى التحقيق حيث أعتق أسرارهم من رق عبودية ما له مثل ، والعبادة لما له شكل ، فهو الّذي اصطفاك فى القدم ، وعصمك عن سجود الصنم ، وإن لم يكن لك فى العبودية صدق قدم ، فأرجو أنك لا تحرم وجود الكرم.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنفى التشبيه

فإن قيل : كيف دلت الآية على نفى التشبيه ، وقد أثبتت المثل بقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ).

فالجواب : أن الكاف صلة فى قول بعضهم ، ومعناه : ليس مثله شيء ، والكاف تزاد فى كلامهم على وجه الصلة كقوله القائل :

وصاليات ككما يؤثفين

وقيل : المثل صلة ، ومعناه : ليس كهو شيء ، وقيل : مثل الشيء يذكر والمراد به نفسه ، كقول القائل : ليس هذا كلام مثلك ، يعنى نفسه.

وقيل : إن التشبيه يكون بأحد شيئين : إما بالكاف وإما بالمثل ، فجمع بين حرفى التشبيه ونفى بهما عن نفسه التشبيه ، فكأنه قال : ليس مثله شيء وليس كهو شيء ، وقد قيل هذا غاية نفى التشبيه ، إذ لو كان له مثل لكان كمثله شيء وهو نفسه ، فلما قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) دل على أنه ليس له مثل ، وعليه دل سبحانه بقوله : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل : ١٧) أفمن

هو كبير لم يزل كمن هو حقير لم يكن ، أفمن هو جبار لا نقص له كمن هو مجبور لا غناء به ، وكيف تشبه الحقيقة الخليقة ، وكيف تماثل القدرة الفطرة.

وبما ذا يشبه من المصنوعات بالأرض أم بالسماوات أم يشبه بالشموس والأقمار أو الرسوم والآثار ، أو الديار والأطلال ، أو الأغيار والأشكال ، والكل دان لجبروته ، وناطق بدوام ملكوته ، وأمارات الصنع على الجمع واضحة ، ودلائل النقص على الكل لائحة ، وأسرار العارفين بأنها مصنوعة مناجية.

وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قد يوافق اللفظ اللفظ والاسم الاسم ولا يقتضي التشاكل لعدم التساوى بكل وجه خلافا للباطنية فى قولهم : إن القديم لا يسمى شيئا ، ولا لا شيء كاشتراك البياض والسواد فى اسم اللون ووجوب مخالفتها على التحقيق (١).

__________________

(١) وكيف يتساوى التراب برب الأرباب جل ذكره.

فصل

من حق الله تعالى على العباد

ولما كان المعبود سبحانه لا مثل له حق للعابدين أن لا يذروا مقدورا فيه إلا بذلوه ، ولا يغادروا ميسورا فى طلبه إلا تحملوه ، ولا يحق بذل المهج إلا فى طلب الأعزة ، فحق للدموع أن تتقطر على فوات قربته ، كما حق للقلوب أن تتعطر بنسيم محبته ، وكما حق للأرواح أن تنفطر من خوف فرقته ، وأنشدوا :

سهر العيون لغير وجهك باطل

وبكاؤهن لغير هجرك ضائع

ولغيره :

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن بات من ليلى على اليأس طاويا

(فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) لمن تدخر مجهودك ، إذا لم تطلب معبودك ، هل تعرف أحدا يستحق ما يستحقه ، أو يوجد ما يخلفه ، إن دعوته أجابك ، وإن أطعته أثابك ، وإن تركته أمهلك ، وإن رجعت إليه واصلك ، وإن عرفته أحبك ، وبغير شفيع قربك ، وبلطفه كاشفك ، وبفضله لاطفك ، هل تعلم له سميّا ، لا إله إلا الله ، تقدس عن الأمثال ، وتعالى عن الأشكال ، وهو الكبير المتعال.

باب (١)

فى معنى قوله تعالى

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)

اختلفوا فى نزول هذه الآية ، فروى ابن عباس والضحاك : أنها مكية ، وروى عن مقاتل أنها مدنية ، وقرأ ابن عامر : «ذو الجلال» بواو والباقون : (ذِي الْجَلالِ) بياء ، والكلام فى هذه الآية من وجوه : منها القول فى معنى : (تَبارَكَ) ومنها فى معنى قوله : (اسْمُ رَبِّكَ) ومنها فى معنى قوله : (ذِي الْجَلالِ).

__________________

(١) الدعاء باسمه تبارك وتعالى :

الدعاء : الرغبة إلى الله تعالى ، وقد دعا يدعو دعاء ودعوى ، والدعاء كالنداء أيضا ، لكن النداء قد يقال إذا قيل يا ، وأيا ، ونحو ذلك ، من غير أن يضم إليه الاسم.

والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم بنحو يا فلان ، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر ، ويستعمل أيضا استعمال التسمية نحو : دعوت ابنى محمدا ، أى سميته ، قال تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) (النور : ٦٣) حثا على تعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك مخاطبة لمن يقول : يا محمد.

ودعوته : إذا سألته ، وإذا استغثته ، قال تعالى : (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) (الأنعام : ٤٠) تنبيها أنكم إذا أصابتكم شدة لم تفزعوا إلا إليه ، وقوله : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤) (الفرقان) لأهل النار وهو أن يقول : يا لهفاه ، وا حسرتاه ، ونحو ذلك من ألفاظ التأسف ، والمعنى : يحصل لكم غموم كثيرة ، وقوله تعالى : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) (البقرة : ٦٨) أى سله.

والدعاء إلى الشيء : الحث على قصده ، وقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ) (غافر : ٤٣) أى رفعة وتنويه : و «لهم الدعوة على غيرهم» أى يبدأ بهم فى الدعاء ، وتداعوا عليهم : تجمعوا.

__________________

والداعية : صريخ الخيل فى الحروب ، ودعاه الله بمكروه : أنزله به ، وادعى كذا : زعم أنه له ، حقا كان أو باطلا.

والاسم الدّعوة والدّعاوة والدّعوة والدّعاوة ، والدّعوة الحلف ، والدعاء إلى الطعام ، ويضم كالمدعاة ، والدّعوى : الادّعاء ، قال تعالى : (فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) (الأعراف : ٥).

والدعوى أيضا كقوله تعالى : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠) (يونس) وقال تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٣٢) (فصلت) أى ما تطلبون : معانى لفظ الدعاء فى القرآن الكريم :

والدعاء يرد فى القرآن على وجوه :

الأول : بمعنى القول : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ) (الأنبياء : ١٥) أى قولهم.

الثانى : بمعنى العبادة ، قال تعالى : (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا) (الأنعام : ٧١) أى أنعبد.

الثالث : بمعنى النداء ، قال تعالى : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) (النمل : ٨٠) أى النداء.

والرابع : بمعنى الاستعانة والاستغاثة ، قال تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) (البقرة : ٢٣) أى استعينوا بهم.

الخامس : بمعنى الاستعلام والاستفهام ، قال تعالى : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا) (البقرة : ٦٨) أى استفهم.

السادس : بمعنى العذاب والعقوبة ، قال تعالى : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) (١٧) (المعارج) أى تعذب.

السابع : بمعنى العرض ، قال تعالى : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ) أى أعرضها عليكم (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ) (٤١) (غافر) أى تعرضونها عليّ.

الثامن : دعوة نوح قومه : (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) (٥) (نوح).

التاسع : دعوة خاتم الأنبياء لكافة الخلق : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: ١٢٥).

__________________

العاشر : دعوة الخليل للطيور : (ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) (البقرة : ٢٦٠).

الحادى عشر : دعاء إسرافيل بنفخ الصور يوم النشور لساكنى القبور : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) (٦) (القمر).

الثانى عشر : دعاء الخلق ربهم تعالى (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر : ٦٠).

فضل الدعاء

أما عن فضل الدعاء ووقته فنقول :

عن النعمان بن بشير رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (أبو داود والترمذي).

وعن ابن عمر رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من فتح له باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة ، وما سئل الله تعالى شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية ، وإن الدعاء ينفع مما نزل ، ومما لم ينزل ، ولا يرد القضاء إلا الدعاء ، فعليكم بالدعاء» (الترمذي).

وعن عبادة بن الصامت رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها ، أو صرف عنه من السوء مثلها ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» (الترمذي).

عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : من يدعونى فأستجب له ، من يسألنى فأعطيه ، من يستغفرنى فأغفر له» (الستة إلا النسائى).

عن أبى أمامة رضى الله عنه قال : قيل يا رسول الله : أى الدعاء أسمع؟ قال : «جوف الليل الآخر ، ودبر الصلوات المكتوبات» (الترمذي).

وعن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة» قيل : ما ذا نقول يا رسول الله؟ قال : «سلوا الله العافية فى الدنيا والآخرة» (الترمذي وأبو داود).

وعن سهل بن سعد رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثنتان لا تردان : الدعاء عند النداء ، وعند البأس ، حين يلحم بعضهم بعضا» أى فى قتال الأعداء (مالك ـ أبو داود).

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء» (مسلم ـ أبو داود).

__________________

وعنه رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فى إجابتهن :

دعوة المظلوم ، ودعوة المسافر ، ودعوة الوالد على ولده».

وعن ابن عمرو بن العاص رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من دعوة أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب» (أبو داود ـ الترمذي).

أما عن هيئة الداعى فنقول :

عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تستروا الجدر ، ومن نظر فى كتاب أخيه بغير إذنه فإنما ينظر فى النار ، سلوا الله تعالى ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (أبو داود).

وعن أنس رضى الله عنه قال : «رفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يديه فى الدعاء حتى رأيت بياض إبطيه».

(البخارى)

وعن عمر رضى الله عنه قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا رفع يديه فى الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه) (الترمذي).

وعن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه» (الترمذي).

وعن سلمان الفارسى رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن ربكم حييّ كريم ، يستحى من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا» (أبو داود ـ الترمذي).

كيفيّة الدعاء

وأما عن كيفية الدعاء فنقول :

عن فضالة بن عبيد رضى الله عنه قال : سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا يدعو فى صلاته ولم يصلّ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «عجّل هذا» ثم دعاه فقال : «إذا دعا أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه ، ثم ليصل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ليدع بعد بما شاء» (أخرجه أصحاب السنن).

وعن عمر رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد حتى يصلّى عليّ فلا تجعلونى كغمر الراكب (أى إذا ما أراده استعمله ، وإذا لم يرده تركه) ، صلوا عليّ أول الدعاء وأوسطه وآخره» (الترمذي).

__________________

وعن ابن مسعود رضى الله عنه قال : كنت أصلي والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر وعمر رضى الله عنهما معه ، فلما جلست بدأت بالثناء على الله ، ثم بالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم دعوت لنفسى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سل تعطه ، سل تعطه».

فضيلة الدعاء

وأما عن فضيلة الدعاء فنقول :

قال الله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) (البقرة) وقال تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (الأعراف : ٥٥) وقال تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر : ٦٠).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) وقال : «الدعاء مخ العبادة» وقال : «ليس شيء أكرم على الله من الدعاء» وقال : «إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاث : إما ذنب يغفر له ، وإما خير يعجّل له ، وإما خير يدّخر له» وقال : «سلوا الله من فضله فإنه يحب أن يسأل ، وأفضل العبادة انتظار الفرج».

آداب الدعاء

أما عن آداب الدعاء فهى عشرة :

الأول : أن يترصد الداعى الأوقات الشريفة ، كيوم عرفة من السنة ، ورمضان من الشهور ، ويوم الجمعة من الأسبوع ، ووقت السحر من ساعات الليل.

الثانى : أن يغتنم الأحوال الشريفة ، كزحف الصفوف فى سبيل الله ، إذ عنده تفتح أبواب السماء ، وعند نزول الغيث (المطر) وعند إقامة الصلاة المكتوبة ، وأعقاب الصلوات المفروضة ، وبين الأذان والإقامة ، وحالة الصوم والسجود ، وعند إفطار الصائم.

الثالث : أن يدعو مستقبل القبلة ، ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه ، ويمسح بهما وجهه فى آخر الدعاء ، وينبغى أن يضم كفيه ويجعل بطونهما مما يلى وجهه ، وينبغى أن لا يرفع بصره إلى السماء ، قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم».

الرابع : خفض الصوت بين المخافتة والجهر ، كذا ورد الأثر عن عائشة رضى الله عنهما قالت فى ـ

__________________

ـ قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) (الإسراء) أى بدعائك.

الخامس : أن لا يتكلف السجع فى الدعاء ، فإن السجع تكلف ولا يناسب ذلك فى محل التضرع ، والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة.

السادس : التضرع والخشوع والرغبة والرهبة ، كما هو شأن الدعاء.

السابع : أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقل أحدكم إذا دعا : اللهم اغفر لى إن شئت ، اللهم ارحمنى إن شئت ، فإنه لا مكره له» وقال : «إذا دعا أحدكم فليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء» وقال : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله عزوجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل».

الثامن : أن يلح فى الدعاء ، ويكرره ثلاثا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دعا دعا ثلاثا ، وينبغى أن لا يستبطئ الإجابة فيقول : قد دعوت فلم يستجب لى ، بل يقول : الحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات ، إذا تعرف الإجابة ، ومن أبطأ عنه الإجابة يقول : الحمد لله على كل حال.

التاسع : يفتتح الدعاء بذكر الله تعالى ، ولا يبدأ بالسؤال ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتح بقوله : «سبحان ربى العلى الأعلى الوهاب» وقال أبو سلمان الدارانى : من أراد أن يسأل حاجة فليبدأ بالصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يختم بالصلاة عليه ، فإن الله عزوجل يقبل الصلاتين ، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما.

العاشر : وهو الأدب الباطن ، والأصل فى الإجابة أن يتوب عن الذنوب ، ويرد المظالم ، ويقبل على الله عزوجل بكنه الهمة ، فذلك هو السبب القريب فى الإجابة.

فائدة الدعاء

أما عن فائدة الدعاء فنقول :

إن من القضاء رد البلاء بالدعاء ، فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة ، كما أن الترس سبب لرد السهم ، والماء سبب لخروج النبات من الأرض ، وكما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان ، فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان ، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله عزوجل أن لا يحمل السلاح ، وأن لا تسقى الأرض بعد إلقاء البذر ، فيقال : إن سبق القضاء ـ

__________________

ـ بالنبات نبت ، بل الله تعالى ربط الأسباب بالمسببات ، ويقال له : القضاء الأول هو كلمح البصر ، والدليل على ذلك أنك تأكل حين تجوع ، وتشرب حين تعطش.

عن على بن أبى طالب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن ، وعماد الدين ، ونور السماوات والأرض» (الحاكم فى مستدركه على الصحيحين).

أما عن الإلحاح فى الدعاء فنقول :

إنه من أنفع الأدوية ، فقد روى ابن ماجه فى سننه من حديث أبى هريرة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من لم يسأل الله يغضب عليه» وفى مستدرك الحاكم من حديث أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تجزعوا فى الدعاء ، فإنه لا يهلك مع الدعاء أحد» وذكر الأوزاعى عن الزهرى عن عروة عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله يحب الملحين فى الدعاء» وذكر الإمام أحمد فى الزهد عن قتادة قال : قال مورق : ما وجدت للمؤمن مثلا إلا رجلا فى البحر على خشبة ، فهو يدعو : يا رب يا رب ، لعل الله عزوجل أن ينجيه.

الآفات التى تمنع إجابة الدعاء

ومن الآفات التى تمنع ترتب أثر الدعاء عليه :

أن يستعجل العبد ويستبطئ الإجابة فيستحسر (أى يتعب ويسأم) ويدع الدعاء ، وهو بمنزلة من بذر بذرا ، أو غرس غرسا ، فجعل يتعاهده ويسقيه ، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله ، وفى البخارى من حديث أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول دعوت فلم يستجب لى» وفى صحيح مسلم عنه «لا يزال يستجاب للعبد ، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، ما لم يستعجل» قيل : يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال : «يقول قد دعوت وقد دعوت ، فلم أر يستجاب لى ، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء» وفى مسند أحمد من حديث أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل» قالوا : يا رسول الله ، كيف يستعجل؟ قال : «يقول : قد دعوت ربى فلم يستجب لى».

والمدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه ، دعا به العبد أو لم يدع ، وإن لم يكن قد قدر لم يقع ، سواء سأله العبد أو لم يسأله.

فأما قوله : (تَبارَكَ) فقد اختلفوا فيه ، فقال كثير من المفسرين : إنه بمعنى تعظم وتقدس ، وقال : الفراء : البركة التقدس والعظمة ، وقيل : إنه تفاعل من البركة ، والبركة النفع والزيادة ، وقوله تعالى فى قصة عيسى : (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) (مريم : ٣١) فقيل : نفاعا للخلق ، وقال الزجاج : البركة الخير الكثير فى كل شيء ، وقال بعض أهل اللغة : إن أصله من المبروك ، يقال : برك الطير على الماء إذا دام ، ومبارك الإبل مواضعها التى تستقر عليها ، فكل آية احتملت وجوها وليس بينها تناف ولا تضاد ولا حصل الإجماع على أن المراد منها البعض دون البعض فهى على العموم ، وهذه الوجوه كلها صحيحه فى معنى قوله : (تَبارَكَ) ووجوه الثناء على الله سبحانه تنحصر فى ثلاثة أقسام :

__________________

المواضع التى يستجاب فيها الدعاء

أما عن المواضع التى يستجاب فيها الدعاء فيقول النووى : هى خمسة عشر موضعا : فى الطواف ، وفى الملتزم ، وتحت الميزاب ، وداخل الكعبة ، وخلف المقام ، وعند زمزم ، وعلى الصفا وعلى المروة ، وفى حال السعى ، وجميع منى عموما ، وعند الجمرات الثلاث خصوصا ، وفى عرفة ، وفى مزدلفة.

الذين يستجاب دعاؤهم

وأما عن الذين يستجاب دعاؤهم فهم : المضطر ، المظلوم مطلقا ، ولو كان فاجرا أو كافرا ، الوالد على ولده ، الإمام العادل ، الرجل الصالح ، الولد البار بوالديه ، المسافر ، الصائم حين يفطر ، المسلم حين يدعو لأخيه بظهر الغيب ، المسلم ، ما لم يدع بظلم أو قطيعة رحم ، التائب.

ساعة الجمعة التى يستجاب فيها الدعاء

وأما عن الساعة التى يستجاب فيها الدعاء فيقول ابن عبد ربه : الفضيل عن أبى حازم عن أبى سلمة بن عبد الرحمن عن ناس من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم أجمعوا أن الساعة التى يستجاب فيها الدعاء آخر ساعة من يوم الجمعة ، والله أعلى وأعلم.

أحدها : الثناء عليه بذكر إحسانه وإنعامه.

والثانى : الثناء عليه بذكر استحقاقه لصفات ذاته.

والثالث : الثناء عليه بذكر وجوده على وصف لا يشاركه فيه موجود.

وهذه الآية تشتمل على هذه الوجوه ، فإنها إن كانت من البركة فهى فضله وإحسانه ، وذلك فعله ، وإن قلنا : إنه بمعنى تعظم ، فعظمته استحقاقه لصفات العلو والمجد كعلمه الشامل وإرادته النافذة وقدرته الماضية ، إلى سائر صفات ذاته ، وإن قلنا : إنه من بروك الطير على الماء فهو إخبار عن وجوده ، بشرط القدم ونعت البقاء والدوام.

وكل من ذكر الله سبحانه باسم من أسمائه وأثنى عليه بنعت من نعوته فإن من آداب ذلك أن يطالب نفسه بمقتضى ذلك الاسم وموجب ذلك الذكر ، فمن أثنى عليه بقوله : تبارك ، فمن الواجب أن يقوم بآداب هذا الخطاب ، فإن قلنا إنه من بروك الطير على الماء فهو إخبار عن وجوده بشرط البقاء ، فينبغى لهذا الذاكر إذا عرف وجود الحق سبحانه أن يصغر الخلق فى عينه.

وقد سئل بعضهم عن التوحيد فقال : هو أن تشهد للعالم وجودا بين طرفى عدم ، بمعنى أن الأغيار والرسوم والأطلال والأمثال والأشكال من العدم وجدت بقدرة خالقها ، وآثارها يستحيل عليها الدوام ، وما يصح لها البقاء منها فجواز العدم معها لأن بقاءها بإبقاء المبقى ، ولو قطع عنها البقاء لتلاشت ، وقد قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) قال بعض الناس : كل حي ميت إلا الله ، نظيره : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) أى مات ، وقال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فإذا عرف العبد أن العالم بعرض الفناء لم يوطن إلا على كراهتها نفسه ، ولم يطلب فيها راحته وأنسه ،

كيف لا وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدنيا سجن المؤمن» وقد قيل فى بعض الحكايات : عن جعفر الصادق أنه قال : من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق ، فقيل له : وما ذاك فقال : الراحة فى الدنيا ، وأنشدوا :

تطلب الراحة فى دار العنا

خاب من يطلب شيئا لا يكون

وقال غيره :

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

فإذا كان بهذا الوصف دخل عليه الزهد ، فإن من لم تتساو عنده الأخطار ولم يسقط عن قلبه للدنيا الوزن والمقدار ، لم يزل فى سجن حرصه وفى أسر نفسه ، وفى رق شهوته ، وفى ذل طمعه ، ومن استوت عنده الأخطار ، وصل إلى روح الحرية.

ولهذا قال مشايخ هذه الطريقة : من دخل الدنيا وهو عنها حر ، ارتحل إلى الآخرة وهو عنها حر ، ومن كانت بغيته من المطالبات ، فوق ما لا بد له من الضرورات فهو عن ربه محجوب.

وقد سئل الجنيد ، رحمه‌الله تعالى ، عمن خرج من الدنيا ولم يبق عليه إلا مص نواة فقال مستشهدا : «المكاتب (١) عبد ما بقى عليه درهم».

وحكى عن بنان الجمال أنه قال : كنت مطروحا على باب بنى شيبة سبعة أيام لم أذق شيئا فنوديت فى سرى أن من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أعمى الله عين قلبه.

__________________

(١) وهو الّذي كاتبه سيده على مبلغ معين يدفعه على أقساط يشترى بها حريته.

وكان الدقاق يقول : إن القلوب كانت متفرقة فى الدنيا فقبضها الله تعالى عنها بقوله: (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى) (النساء : ٧٧) فلما تعلقت القلوب بالآخرة قطعها الله سبحانه عنها بقوله : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٣).

وقال يحيى بن معاذ : الزاهد صيد الحق من الدنيا ، والعارف صيد الحق من الآخرة.

ولا غرو أن يزهد عارف بمن لم يزل فى حاصل بعد أن لم يكن إذا صفت همته عن كدورة أمنيته ، وتخلص سره عن وحشة حجبته ، وهذا المتنبى قال : من رأس دعواه على سبيل العادة من غير تحقيقه بمعنى ما قال ، وكل ما خلق الله وما لم يخلق محتقر فى همتى ، كشعرة فى مفرقى.

وأما من قال : «تبارك» أى تعظم فمن طالع عظمته ، وشاهد سلطانه ورفعته ، وتحقق علوه وعزته ، نسى صولته ، وترك سطوته ، فلا يدعى فى شيء أنه من حوله وقوته ، ولا يرى شيئا بقدرته واستطاعته ، واعتصم بعجزه وفاقته ، وفى معناه أنشدوا :

أذل فأعزز به من مذل

ومن طالب لدمى مستحل

إذا ما تعزز قابلته

بذل وذلك جهد المقل

فكنت لعزته خاضعا

ولو لا جلالته لم أذل

وقال بعض المشايخ : إذا عظم الرب فى القلب صغر الخلق فى العين ،

وعلامة من صغر الخلق فى عينه رؤية الإفلاس ، والتحقق باليأس من الناس ، ولزوم الورع ، وقطع الطمع.

ووقف بعضهم على بعض عقلاء المجانين ، فقال : ألك حاجة؟ فقال : نعم ، قال: وما هى؟ قال : تزحزحنى عن النار وتدخلنى الجنة ، فقال : ذلك ليس إلى ، فقال : لم سألتنى عن حاجة لا تقدر على قضائها؟.

قال : وسئل بعضهم عن التصوف فقال : ذبح الأمانى بسكاكين اليأس ، فهاهنا يجد العبد العذر.

لهذا قال بعضهم : التصوف التكبر على أهل الدارين ثقة بالله تعالى.

وقال بعضهم لرابعة العدوية : إن فلانا صديقك يريد أن يواصيك بشيء من الدنيا ، فقالت : إن صديقنا فلان وفلان وكلنا عبيد ، ومن المحال أن الله يرزقهم ويتركنى.

فصل

كيف تعظم ربك

وتعظيم العبد لربه على حسب كماله ومعرفته ، ولو كنت تعرف قدره لما كنت تترك أمره ، ولو تحققت اطلاعه عليك ، وقربه منك ، وسماعه لخطابك ، ورؤيته لأحوالك ، لما جعلته أهون الرائين إليك ، ولكن يستخفون من الناس ولا يستخفون الله وهو معهم ، وليس العجب من إخوة يوسف حيث باعوه بثمن بخس دراهم معدودة ، وإنما العجب ممن باع نصيبه من ربه بحظوظ هى فى الحقيقة مفقودة ، وإن كانت لذات ساعات بل لحظات موجودة إلا أنهم لو عرفوا قدر يوسف لما باعوه بثمن بخس ، ولكنهم وقعوا على ما صنعوا يوم وقفوا بين يديه فى مقام الخجلة ، وخروا له سجدا بدلا من التمكن على بساط الوصلة ، قال الله سبحانه : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (يوسف : ١٠٠).

وهذا جزاء من لم يعرف قدر نسيبه (١) ، فما ظنك بجزاء من لم يعرف قدر حبيبه ، وقد حكى أن المهلب بن أبى صفرة مر يوما فى موكبه فطرق سمعه أن رجلا قال : ترون هذا لا يساوى أكثر من خمسمائة درهم ، فلما رجع المهلب إلى منزله بعث رجلا يعرف ذلك الرجل ، وبعث إليه معه خمسمائة درهم وقال : قل له هذه قيمتنا التى قومتنا بها ، ولو زدت زدناك ، فخجل الرجل من صنعه ، قال الله سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) فمن رضى عنا بدنياه عجلنا له فيما هواه وأوصلنا إليه

__________________

(١) أى قريبه فى النسب كالأخ والأب.

منها مناه ، ولكن الفرقة قصاراه ، والنار مأواه ، والجحيم مثواه ، قال الله سبحانه : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (الشورى : ٢٠).

* * *

فصل

تبارك من البركة وكيفية التبرك بها

وأما من قال : إن معنى تبارك من البركة ، وهى النفع وفيضان الخير فينبغى أن يكون نفاعا لخلقه جيدا فى قومه مشفقا على عباده ، فإن رأس المعرفة تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله.

وقد قيل فى تفسير قوله تعالى فى قصة يوسف صلوات الله عليه : (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : إنه كان يداوى المريض ويواسى الفقير ويجمع المساكين على الطعام ... إلى غير ذلك.

وليست الفتوة أن تحسن إلى من أحسن إليك لأن ذلك جزاء ومكافأة ، ولكن الفتوة أن تحسن إلى من أساء إليك بطيب نفس ، ولهذا أدب الله سبحانه وتعالى نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال له : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (الأعراف : ١٩٩) الآية ، ففى الخبر أنه سأل جبريل عليه‌السلام وقال : بما ذا أمرنى ربى؟ فقال له : يقول : صل من قطعك ، واعف عمن ظلمك ، وأعط من حرمك.

وحكى أن الحسن البصرى سرق له إزار فرئي الحسن وهو فى الطواف يقول : اللهم اغفر لسارق إزارى ، ومعناه أنه لم يرد أن يصيب أحدا مكروه بسببه بوجه من الوجوه (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون» عفا عنهم ثم تشفع لهم ثم اعتذر عنهم.

ويجب أن يكون متبركا بخلق الله يطالعهم بعين الإضافة لا بعين الصورة.

وقد حكى أن شيخا من المشايخ اجتمع عنده مال لعمارة بعض الرباطات فمر به قوم من اللصوص فتشبهوا بزى الصالحين وأخفوا سلاحهم واستضافوه ، فلما قدم إليهم الطعام وغسلوا أيديهم وكانت له أننة (٢) زمنة فشربت واستعملت من ذلك الماء تبركا بالضيفان ، فشفاها الله تعالى فى الوقت ، فجاء الشيخ وتلطف بهم وقال : إنكم مباركون ... وقص عليهم القصة ، فوقع عليهم الندم وقالوا : إنا لغير هذا حضرنا ، ولكن بعد ما أحسن الله إلينا هذا الإحسان وأسبل علينا هذا الستر فقد تبنا.

__________________

(١) وحسن المجازاة له فى الدنيا والآخرة خير وأبقى.

(٢) هى التى يسمع لها صوت أنين بسبب المرض ، وكانت مريضة بمرض مزمن يدوم ويستمر.

فصل

الفضل والإحسان من صاحب الفضل والإحسان

ويجب على من قال : إن معنى تبارك من البركة أن لا يرى الإحسان إلا من الله ويعرف أن الله تعالى إذا أعطى أسبغ ، وإذا نول مولى ، وإذا بذل أوسع.

وقد قيل : إن الكريم إذا صفح عن مجرم عفا عن كل من كان له سميّا ، وتجاوز عن كل من تعاطى مثل ما عفا عنه.

وقد حكى أن بعض أسخياء العرب كان جالسا فى أصحابه ففتح له بمملوك فقال : إن فى الخبر : «جلساؤكم شركاؤكم» فاستبشارى بهذا لا يجمل وتخصيص بعضكم به أيضا لا يحسن ، لأنكم كلكم إخوان ، وقسمته عليكم لا تمكن ، فعدهم فبلغوا ثمانين فأمر حتى اشترى لكل واحد منهم جارية أو غلاما.

وقد أنشدوا :

نحن فى المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر

وأما معنى قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) فمن قال إن الاسم هو المسمى فله فى الآية تعلق لأن الموصوف بأنه تبارك هو الله تعالى : ومن لم يقل : إن الاسم هو المسمى قال : إن الاسم هنا صلة.

وأما معنى قوله : (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) فالإخبار عن الجلال يوجب محو العبد عن وصفه ، وسماع لإكرام يوجب محوه ، بشهود لطفه ، فقائل هذا اللفظ ومستمعه متردد بين عيش وبين طيش ، وبين سرور وبين ثبور ، وبين قبض وبين بسط.

وسنذكر إن شاء الله تعالى فى معناه قدر ما يوفق الله تعالى إليه إذا انتهينا إلى موضعه فى ترتيب الأسماء وبالله التوفيق.

باب

فى معنى قوله تعالى

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١)

هذه السورة مكية بلا خلاف ومعنى التسبيح التنزيه وهو إبعاد الله عن السوء مما لا يليق بوصفه من الآفات والنقائص كذلك قال أهل التفسير وأهل اللغة ، وجاء لفظ التسبيح فى القرآن والمراد به الصلاة مثل قوله تعالى (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (الطور : ٤٨) (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) (آل عمران : ٤١).

__________________

حقيقة الاسم والمسمى والتسمية

المشهور من قول أهل الحق رحمهم‌الله تعالى : أن الاسم نفس المسمى وغير التسمية ، وقالت المعتزلة : إنه غير التسمية وغير المسمى ، واختار الشيخ الغزالى رضى الله عنه أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متباينة.

واعلم أن القول بأن الاسم نفس المسمى أو غيره لا بد وأن يكون مسبوقا ببيان أن الاسم ما هو؟ وأن المسمى ما هو؟ وأن التسمية ما هى؟ فإن كل تصديق لا بد وأن يكون مسبوقا بتصور ماهية المحكوم عليه والمحكوم به.

فنقول : إن كان الاسم عبارة عن اللفظ الدال على الشيء بالوضع وكان المسمى عبارة عن نفس ذلك الشيء فالعلم الضرورى حاصل بأن الاسم غير المسمى ، وإن كان الاسم عبارة عن ذات الشيء والمسمى أيضا ذات الشيء كان معنى قولنا الاسم نفس المسمى هو أن ذات الشيء نفس ذات الشيء ، وهذا مما لا يمكن وقوع النزاع فيه بين العقلاء ، فثبت أن الخلاف الواقع فى هذه المسألة إنما كان بسبب أن التصديق ما كان بالتصور ، وهذا القدر كاف فى هذه المسألة.

وكان اللائق بالعقلاء أن لا يجعلوا هذا الموضع مسألة خلافية ، بل هاهنا دقيقة يمكن أن ـ

__________________

ـ يحمل عليها قول من قال : الاسم نفس المسمى ، وهو أن العقلاء اتفقوا على أن لفظ الاسم اسم لكل ما يدل على معنى من غير أن يكون دالا على زمان معين ، ولا شك أن لفظ الاسم كذلك ، فليزم من هاتين المقدمتين أن يكون الاسم مسمى بالاسم ، فهاهنا الاسم والمسمى واحد قطعا ، إلا أن فيه إشكالا وهو : أن اسم الشيء مضاف إلى الشيء وإضافة الشيء إلى نفسه محال ، فامتنع كون الشيء الواحد اسما لنفسه ، فهذا حاصل التحقيق فى هذه المسألة. ولنرجع إلى الكلام المألوف فنقول : الّذي يدل على أن الاسم غير المسمى وجوه :

الحجة الأولى : أسماء الله تعالى كثيرة والمسمى ليس بكثير ، فالاسم غير المسمى ، إنما قلنا أسماء الله كثيرة لوجوه :

أحدها : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف : ١٨٠).

وثانيها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعا وتسعين اسما».

وثالثها : قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨) (طه).

وأما أن المسمى بهذه الأسماء ليس بكثير فهو متفق عليه.

فثبت أن الأسماء كثيرة وأن المسمى ليس بكثير ، وكانت الأسماء مغايرة للمسمى لا محالة.

فإن قيل : لا نسلم أن الأسماء كثيرة ، وما ذكرتم من القرآن والخبر محمول على كثرة التسميات لا على كثرة الأسماء ، سلمنا أن الأسماء كثيرة لكن لا نسلم أن المسمى واحد ، لأن المفهوم من الخالق حصول الخلق ، والمفهوم من الرازق حصول الرزق ، وبين المفهومين فرق.

والجواب عن الأول من وجوه :

أحدها : أن المذكور فى القرآن والخبر إثبات الأسماء الكثيرة ، إلا إذا بين الخصم أن التسمية غير المسمى ، وأن المراد من الأسماء المذكورة فى هذه النصوص التسمية ، لكن كل ذلك عدول عن الظاهر.

وثانيها : أن المفهوم من التسمية وضع الاسم للمسمى ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان وضع الاسم للمسمى عبارة عن وضع الشيء لنفسه ، وذلك غير معقول.

وثالثها : أن المعقول هاهنا أمور ثلاثة : ذات الشيء ، وهذه الألفاظ المخصوصة ، وجعل هذه الألفاظ المخصوصة معرفة لتلك المعانى المخصوصة بالوضع والاصطلاح ، أما ذات ـ

__________________

ـ الشيء فهو المسمى ، فلو كان الاسم عبارة عن ذات الشيء لزم كون الشيء اسما لنفسه ، وذلك غير معقول.

وأما السؤال الثانى فجوابه أن الخالق ليس اسما للخلق ، بل للشىء الّذي يصدر عنه الخلق ، والرزاق ليس اسما للرزق بل للشىء الّذي يصدر عنه الرزق ، ثم من المعلوم أن الّذي صدر عنه الخلق والّذي صدر عنه الرزق شيء واحد ، فثبت أن المسمى بالخالق والرزاق شيء واحد.

الحجة الثانية : أنّا إذا قلنا : معدوم ومنفى وسلب واللاثبوت واللاتحقق ، فهاهنا الأسماء موجودة والمسميات معدومة ، فكان الاسم غير المسمى لا محالة.

الحجة الثالثة : أن أهل اللغة اتفقوا على أن الكلام جنس تحتها أنواع ثلاثة : الاسم والفعل والحرف ، فالاسم كلمة ، والكلمة هى الملفوظ بها ، وأما المسمى فهو ذات الشيء وحقيقته ، واللفظ والمعنى كل واحد منهما يوصف بما لا يوصف به الآخر ، فيقال فى اللفظ : إنه عرض وصوت وحالّ فى المحل وغير باق ومركب من حروف متعاقبة وإنه عربى وعبرانى ، ويقال فى المعنى : إنه جسم وقائم بالنفس وموصوف بالأعراض وباق ، فكيف يخطر ببال العاقل أن يقول : الاسم هو المسمى.

والحجة الرابعة : قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف : ١٨٠) أمرنا بأن يدعى الله تعالى بأسمائه ، والشيء الّذي يدعى مغاير للشىء الّذي يدعو ذلك المدعو به ، فوجب أن يكون الاسم غير المسمى.

والحجة الخامسة : أنه يقال : فلان وضع هذا الاسم لهذا الشيء ، فلو كان الاسم نفس المسمى لكان معناه أنه وضع ذلك الشيء لذلك الشيء ، وأنه محال.

وأما القول بأن التسمية ليس نفس الاسم فالذى يدل عليه أن التسمية عبارة عن جعل ذلك اللفظ المعين معرفا لماهية ذلك المسمى ، ووضع الاسم للمسمى مغاير لذات الاسم ، كما أن المفهوم من التحريك مغاير للمفهوم من نفس الحركة.

واحتج القائلون بأن الاسم نفس المسمى بوجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) (الأعلى) وقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) (الواقعة).

__________________

وقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (٧٨) (الرحمن) ووجه الاستدلال أنه أمر بتسبيح اسم الله تعالى ، ودل العقل على أن المسبّح هو الله تعالى لا غيره ، وهذا يقتضي أن اسم الله تعالى هو هو لا غيره.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) (يوسف : ٤٠) أخبر الله تعالى أنهم عبدوا الأسماء ، والقول ما عبدوا إلا تلك الذوات ، فهذا يدل على أن الاسم هو المسمى.

الحجة الثالثة : اسم الشيء لو كان عبارة عن اللفظ الدال عليه لوجب أن لا يكون لله تعالى فى الأزل شيء من الأسماء ، إذ لم يكن هناك لفظ ولا لافظ وذلك باطل.

الحجة الرابعة : إذا قال القائل : محمد رسول الله ، فلو كان اسم محمد غير محمد لكان الموصوف بالرسالة غير محمد ، وذلك باطل قطعا ، وكذا قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١) (المسد) فلو كان اسم أبى لهب غير أبى لهب كان الموصوف بالمذمة غير أبى لهب ، وهكذا إذا كانت امرأة مسماة بحفصة فقال : حفصة طالق ، فبتقدير أن يكون الاسم غير المسمى كان قد أوقع الطلاق على غير حفصة ، فوجب أن لا يقع الطلاق على حفصة وذلك باطل.

الحجة الخامسة : التمسك بقول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وإنما أراد باسم السلام نفس السلام ، وهذا يقتضي أن يكون الاسم نفس المسمى.

الحجة السادسة : التمسك بقول سيبويه : الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء ، ومن المعلوم أن الأحداث التى هى المصادر صادرة عن المسميات لا عن الألفاظ ، فدل هذا على أن قوله : من لفظ أحداث الأسماء ، أى : من لفظ أحداث المسميات.

والجواب : أن الشروع فى الاستدلال لا بد وأن يكون مسبوقا بتصور ماهية الموضوع والمحمول ، فإن كان المراد من هذا الاستدلال أن اللفظ الدال على الشيء هو نفس ذلك الشيء ، فذلك باطل بالبديهة ، فالاستدلال فيه غير معقول مقبول ، وإن كان المراد من الاسم نفس ذلك الشيء ، ومن المسمى نفس ذلك الشيء ، فحينئذ يكون قولكم : الاسم نفس المسمى ، أى ذات الشيء هو نفس ذاته ، ومعلوم أن هذا مما لا حاجة فى إثباته إلى ـ

__________________

ـ الدليل ، وإن كان المراد من قولكم : الاسم نفس المسمى مفهوما مغايرا لهذين المفهومين فلا بد من تلخيصه حتى يصير مورد الاستدلال معلوما.

ولنشرع الآن فى الجوابات المفصلة على الوجه المعتاد :

الجواب عن الأول من وجوه :

الوجه الأول : أن التمسك بقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وقوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) يدل على أن الاسم غير المسمى من وجوه :

الأول : أن قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) تصريح بإطلاق إضافة الاسم إلى الرب ، والأصل أن لا تجوز إضافة الشيء إلى نفسه.

والثانى : أن اسم الله سبحانه وتعالى لو كان هو ذات الرب لوجب أن لا يبقى فرق بين قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وبين قوله سبح اسم اسمك ، وقوله سبح ربك ربك ، ولما كان الفرق معلوما بالضرورة علمنا أن اسم الرب مغاير للرب.

والثالث : أن أصحابنا قالوا : السبيل إلى معرفة أسماء الله تعالى هو التوقيف لا العقل ، والسبيل إلى معرفة الرب هو العقل لا التوقيف ، وهذا يقتضي أن يكون الاسم غير المسمى.

فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية تدل على فساد مذهبهم من هذه الوجوه.

الوجه الثانى فى الجواب : أن نقول : للمفسرين فى قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وجهان :

أحدهما : أن المراد منه الأمر بتنزيه اسم الله وتقديسه.

والثانى : أن الاسم صلة ، والمراد منه الأمر بتسبيح ذات الله تعالى.

أما الطريق الأول فقد ذكروا فى تفسير تسبيح أسماء الله تعالى وجوها :

الأول : أن المراد منه : نزه اسم ربك عن أن تجعله اسما لغيره ، فيكون ذلك نهيا أن يدعى غير الله تعالى باسم من أسماء الله ، فإن المشركين كانوا يسمون الصنم باللات ، ومسيلمة برحمان اليمامة ، وكانوا يسمون أوثانهم آلهة ، قال الله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) (سورة ص : ٥).

والثانى : أن المراد بتسبيح أسمائه أن لا تفسر تلك الأسماء بما لا يصح ثبوته فى حق الله سبحانه وتعالى ، نحو أن يفسر قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) (الأعلى) ـ

__________________

ـ بالعلو المكانى ، ويفسر قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) (طه) بالاستقرار ، بل يفسر العلو بالقهر والاقتدار ، وكذا الاستواء يفسر بذلك.

الثالث : أن تصان أسماء الله تعالى عن الابتذال والذكر ، ولا تذكر إلا على وجه التعظيم ، ويدخل فى هذا الباب أن تذكر تلك الأسماء عند الغفلة ، وعدم الوقوف على حقائقها ومعانيها ورفع الصوت بها وعدم الخضوع والخشوع والتضرع عند ذكرها.

الرابع : أن يكون المراد بقوله سبحانه : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) (الواقعة) أى مجده بالأسماء التى أنزلتها إليك وعرفتك أنها أسماؤه ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) (الإسراء : ١١٠) وعلى هذا التأويل فالمقصود من هذا أن لا يذكر الله إلا بالأسماء التى ورد التوقيف بها.

والخامس : أن يكون المراد من التسبيح الصلاة ، قال الله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١٧) (الروم) وكأنه قيل : صل باسم ربك لا كما يصلى المشركون بالمكاء والتصدية.

والسادس : قال أبو مسلم الأصفهانى : المراد من الاسم هنا الصفة وكذا فى قوله سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فيكون المراد الأمر بتقديس صفات الله.

أما الطريق الثانى : وهو أن يقال : قوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) معناه : سبح ربك وهو اختيار جمع من المفسرين ، قالوا : والفائدة فى ذكر الاسم أن المذكور إذا كان فى غاية العظمة والجلالة ، فإنه لا يذكر هو بل يذكر اسمه وحضرته وجنابه ، فيقال : سبح اسمه ومجد ذكره ، ويقال : سلام الله تعالى على المجلس العالى وعلى الحضرة العالية.

والكلام إذا ذكر على هذا الوجه كان ذلك أدل على تعظيم المذكور مما إذا لم يذكر كذلك وبيانه من وجوه:

أحدها : أنه إذا قيل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) فإنه يدل على أنه سبحانه أعظم وأجل من أن يقدر أحد من الخلق على تسبيحه وتقديسه ، بل الغاية القصوى للخلق أن يشتغلوا بتسبيح أسمائه ، ومعلوم أن هذا أدل على التعظيم من أن يقال سبح ربك.

وثانيها : أنه إذا قيل : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) وقيل : سلام الله على المجلس العالى ، فمعناه أنه بلغ فى استحقاق التسبيح إلى حيث إن اسمه يستحق التسبيح ، وبلغ فى استحقاق السلام ـ

__________________

ـ عليه والتعظيم له إلى حيث صار مجلسه وموضعه مستحقّا لهذا التعظيم والتسليم ، ومعلوم أن هذا أبلغ فى التعظيم مما إذا قيل سلام الله على فلان.

وثالثها : أنه تعالى قال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى : ١١) فجعل لفظ المثل كناية عنه ، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يجعل لفظ الاسم هنا أيضا كناية عنه؟.

ورابعها : وهو أحسن من جميع ما تقدم ، أنه لو قال : سبح ربك ، كان هذا أمر بتسبيح ذات الرب ، وتسبيح الشيء فى نفسه لا يمكن إلا بعد معرفته فى نفسه ، ولما امتنع فى العقول البشرية أن تصير عارفة بكنه حقيقته سبحانه وتعالى ، امتنع ورود الأمر بتسبيحه ، أما أسماؤه وصفاته فهى معلومة للخلق ، فلا جرم ورد الأمر بتسبيح أسمائه.

فهذا جملة الكلام فى الجواب عن الحجة الأولى.

وأما الجواب عن الحجة الثانية : فنقول : إن قوله تعالى : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) يدل على أن الاسم غير مسمى لوجهين :

الأول : أن قوله : (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها) يدل على أن تلك الأسماء إنما حصلت بجعلهم ووضعهم ، ولا شك أن تلك الذوات ما حصلت بجعلهم ووضعهم ، وهذا يقتضي أن الاسم غير المسمى.

الثانى : أن الآية تدل على أن اسم الإله كان حاصلا فى حق الأصنام ، ومسمى الإله ما كان حاصلا فى حقهم ، وهذا يوجب المغايرة بين الاسم والمسمى ، ويدل على أن الاسم غير المسمى.

ثم نقول : المراد بالآية أن تسمية الصنم بالإله كان اسما بلا مسمى ، كمن يسمى نفسه باسم السلطان ، وكان فى غاية القلة والذلة ، فإنه يقال : إنه ليس له من السلطنة إلا الاسم ، فكذا هنا. والجواب عن الحجة الثالثة : أن مرادنا من الاسم الألفاظ الدالة ، وأنتم وافقتم على أنه ما كان لله تعالى فى الأزل بهذا التفسير اسم ، ثم أى محذور يلزم فى ذلك إذا عرفنا بأن مدلولات هذه الأسماء كانت موجودة فى الأزل.

والجواب عن الحجة الرابعة : أنه إذا قال : محمد رسول الله ، فليس المراد أن اللفظ المركب من الحروف المخصوصة موصوف بالرسالة ، بل المراد منه أن الشخص المدلول عليه بلفظ محمد موصوف برسالة الله ، وحينئذ يزول الإشكال.

وقال بعض المفسرين فى معنى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) أى صلّ لله ، وإنما جاز ذلك لأن الصلاة محل التسبيح ، ويطلق اسم الشيء على الشيء بمعنى المقارنة ، وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أى نزه ربك من الأوصاف الذميمة ، فيكون الاسم هاهنا صلة ، أو بمعنى المسمى على طريقة من لا يفرق بين الاسم والمسمى.

وتنزيه الله تعالى يكون بالقول والبيان مرة ، وبالاعتقاد وتأمل البرهان ثانيا ، ولا يصح ذلك إلا بعد كمال المعرفة والتحقيق بعلم التوحيد ، فإن التسبيح تقديس الحقيقة عن مشابهة الخليقة ، وإفراد الحق عن أوصاف الخلق ، وإبعاد الله تعالى عن الحدوث وما يقتضيه ، والإخبار عن تقديسه عن موجبات التعطيل والتشبيه ، وإنما يصح ذلك على أصول أهل الحق الذين عرفوه بنعت الجلال ، ولم يسلبوه أوصاف التعالى والجمال ، فسلموا الملك إليه من غير دعوى الربوبية ، وطالبوا أنفسهم باستحقاق العبودية ، فتبرءوا من الحول والمنة ، ورأوا لمولاهم عليهم من خصائص المنة ، عرفوا ما وجب لله من الأوصاف الواجبة ، فلم يقصروا فيما لزمهم من الوظائف الواجبة وعلموا ما اتصف به الحق من نعوته الزاكية ، فلم يجوزوا لأنفسهم مجاوزة حدوده الراتبة ، ووقفوا على ما امتنع فى وصف الله سبحانه وتعالى فامتنعوا من ارتكاب مساخطه اللازبة (اللازمة).

ولا يصح من العبد حقيقة التسبيح الّذي هو التنزيه لله تعالى حتى يتنزه عن أوصافه الذميمة ، فينزه نفسه عن الشهوات ، فإن صاحب الشهوة محجوب عن ربه.

__________________

والجواب عن الحجة الخامسة : أنه تمسك فى إثبات ما علم بطلانه ببديهة العقل بقول واحد من الشعراء والأدباء ، وذلك مما لا يلتفت إليه ولا يعول عليه ، والله أعلم (عن بعض الكتب المؤلفة فى هذا الموضوع).

وقد روى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه‌السلام أن حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عنى محجوبة.

وحكى عن إبراهيم بن شيبان أنه قال : كنت بحلب واشتهيت شبعة من الخبز والعدس ، فاتفق ذلك فأكلت حتى شبعت ، فرأيت على باب المسجد حانوت خمار عليه قوارير معلقة تشبه أنموذجات فتوهمتها خلا ، فقال لى قائل : ما لك تنظر إليها! إنها خمر ، فقلت : لزمنى فرض ، فدخلت الحانوت فلم أزل أصب دنانا حتى أتيت على الجميع ، فأخذونى وضربونى مائتى خشبة وطرحونى فى السجن أربعة أشهر ، حتى دخل أستاذى أبو عبد الله المغربى البلد فسمع بحالى فتشفع فىّ ، فلما وقع بصره عليّ قال : ما شأنك؟ قلت : شبعة خبز وعدس وضرب مائتى خشبة وسجن أربعة أشهر ، فقال : نجوت مجانا إذ وردت عقوبة هذه الأكلة على ظاهرك ولم تقدح فيما كنت به من أسر أمرك ، فكان ذلك رفقا من الله بك ونجاة ولطفا.

وما أصدق ما قال ، فإن من أدب فى دنياه فيما يتعاطاه من متابعة هواه فقد خفف عنه فى عقباه ، بل طهر بالتأديب جوهره ومعناه.

وقد حكى عن إبراهيم الخواص : أنه قال : كنت عقدت أن لا آكل شيئا من الشهوات إلا الرمان ، فاجتزت برجل به علة شديدة ، وإذا الزنابير تقع عليه وتأخذ من لحمه، فسلمت عليه فقال : وعليك السلام يا إبراهيم ، وعرفنى من غير تقدمة معرفة ، فقلت له: أرى لك حالا مع الله ، فلو دعوت الله حتى يخلصك من هذه الزنابير ، فقال : وأرى لك حالا مع الله يا إبراهيم ، فلو دعوت الله حتى يخلصك من شهوة الرمان ، فإن لسع الزنابير على النفوس أهون من لدغ الشهوات على القلوب.

وينبغى لمن يريد أن يتحقق بتسبيحه أيضا أن ينزه مطعمه من الحرام والشهوات ، فإنه قد ورد الخبر بأن لحما نبت من حرام فالنار أولى به.

وقال بعض الحكماء : عجبت لمن يترك الحلال مخافة الداء ، ولا يترك الحرام مخافة النار.

وحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت شابا عليه عباءة وبيده ركوة فقال لى : إنى إنسان أقصد الورع فلا آكل إلا ما ألقاه الناس ، فربما أجد قشرة شيء سبقنى إليه النمل فألقيه ولا أتناوله ، فهل عليّ من ذلك شيء؟ قال : فقلت فى نفسى : بقى على وجه الأرض من يتورع فى مثل هذا؟ كالمنكر له غير المصدق بمقامه ، قال : فنظرت فإذا الرجل واقف على أرض من فضة صافية ، فقال لى : الغيبة حرام ، وغاب عن بصرى.

ومعنى الحكاية أنه لما ترك ما حجب الخلق عن الله أكرمه الله بنور الإشراق ، حتى نطق عما خطر بقلبه من الإنكار ، ثم أخفاه الله تعالى عنه بشؤم الاعتراض ، وهكذا سنة الله فى أوليائه أن يسترهم عمن لا يبلغ مرتبتهم.

فصل

تقديس الأعمال عن الرياء

وينبغى له أن يقدس أعماله عن الرياء والمصانعات والتزين للمخلوقين بإظهار الطاعات ، فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال ، إلا ما كان بوصف الإخلاص لله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (البينة : ٥).

وحكى عن بعضهم عن سهل بن عبد الله أنه قال : هل لك أن تحضر الجمعة؟ قال: فقلت : وكيف وبيننا وبين الجامع مسيرة يوم وليلة ، قال فأخذ بيدى ، فلم يكن إلا قليلا حتى رأيت الجامع ، فدخلنا وصلينا ، فلما خرجنا نظر إلى الناس يجرون فقال : أهل لا إله إلا الله كثير والمخلصون منهم قليل.

وفى الخبر : «أخلص العمل يكفك القليل منه».

فصل

من أراد أن يصفو تسبيحه

وأولى الأشياء لمن يريد أن يصفو تسبيحه أن يجرد قلبه من الأغيار ، ويصون سره عن التدنس بالآثار ، ومساكنة الأشكال والأمثال ، عند هجوم الأشغال ، فإن قيمة توحيد الرجل وقدر معرفته تتبين عند الصدمة الأولى فيما يحل به من البلاء ، فإن فزع إلى الأغيار بقلبه وعلق بالأجناس خواطر لبه ورأى من المخلوقين كشف طوارق كربه ولم يرجع إلا بعد اليأس من الخلائق إلى ربه ، علم تقاصر رتبته ، وخساسة منزلته ، وبعده من الله فى خصائص حفظه وعصمته.

ومن أعرض عن الأسباب ، ولم يعرج على الاستعانة بالأحباب ، ولم ينثن بقلبه فى اعتقاده واستناده إلى الأصحاب ، كفى المهمات ، وخيرت له الخيرات ، وتنكبته الآفات ، ومن صح بالله توسله ، وحق على الله توكله ، كفته كفاية ربه وتفضله.

وقد حكى عن بعض المشايخ أنه قال : كنت أخدم شيخا بطرسوس ، فولدت له بنية فى آخر عمره ، فلما قربت وفاته استوصيته فيها ، فقال لى : تحملها إلى مكة فى الموسم وتدعها فى الحجر وتنصرف ، فلما توفى الشيخ امتثلت أمره ، وكنت أنظر من بعيد أرقب حالها كيف يصير؟ فمر بها خادم للخليفة فاستحسنها وأخذها ، فدخلت بغداد بعد ذلك بمدة طويلة فرأيت البلد قد زين ، فسألت عن السبب فقيل : إن خادما للخليفة رجع بصبية من الحج التقطها فاستظرفتها أم الخليفة فتبنتها ، فلما كبرت زوجتها من ابن الوزير وجهزتها بعشرين ألف دينار ، فعلمت عند ذلك صدق إشارة ذلك الشيخ (١).

__________________

(١) واقرأ تفسير قوله تعالى : (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) من سورة الكهف.

وتقديس الأفعال عن الآثام وصف كل غاية ، وتنزيه الأموال عن الحرام شرط كل زهد، وتصفية الأحوال عن مشاهدة الآثار حق كل واحد ، فمن قدس أفعاله نجا من عقوبته ، ومن طهر أمواله وصل إلى مثوبته : ومن قدس أحواله فاز بقربته ، والأمان من العقوبة لمن طلب النجاة ، والظفر بالمثوبة لمن ابتغى الدرجات ، والتحقق بالقربة لمن أخلص مع الله المناجاة.

فصل

أنواع من التسبيح

وبعض أهل التحقيق قال : إن التسبيح تفعيل من السبح ، والسبح فى اللغة : العوم ، فكأن المسبح يسبح بقلبه فى بحار ملكوته ، فعلى هذا القول أصحاب التسبيح مختلفون ، فالطالب يسبح بقلبه فى بحار الفكرة ، فإن تلاطمت به أمواج الشبهة وقع فى الإنكار والبدعة ، وإن سلمت سباحته عن الآفات فلم يقطع عليه الطريق داعى الكسل والفشل ، وخاطر العجز والملل ولم تسلمه هوءة سلف ، ولا محنة خلف ، ولم يسبق إلى قلبه سابق تقليد ، وأيده الله تعالى بخصائص توفيق وتسديد ، أدرك بسباحته جواهر العوم ولطائف الفهوم ، فالعالم يسبح بروحه فى بحار التعظيم وطلب أوصاف التشريف والتقديم ، فإن هبت عليه رياح الفتنة غرق فى أوشال الحظوظ ، وبقى فى أوحال النفوس ، وإن ساعدته السعادة عبر قناطر الشهوات الخفية ، وجاوز جسور الهمم الدنية وسقط عنه كل نصيب له وهجره كل قريب له ، وعجز عنه كل نسيب له ، كما قال قائلهم :

فريد عن الخلان فى كل بلدة

إذا عظم المطلوب قل المساعد

فإذا كان كذلك وصل إلى جواهر المعرفة ، والواصل منهم يسبح بسره فى

بحار ملكوته ، فإن ملكته حيرة البديهة وصدمته دهشه الغيبة ، قطع عليه الطرق فحيل بينه وبين المقصود ، بمساكنة مع حال ، واستئناس بخواطر ترد عليه ولذيذ مقال ، فهو عند أهل الحقيقة ممكور ، وبما يظنه من الوصلة مهجور ، وبالتلبيس مربوط ، وبخفى خطره منوط ، وإن كان عند الخلق أنه مغبوط.

وفى معناه أنشدوا :

وقد حسدونى قرب دارى منهم

وكم من قريب الدار وهو بعيد

وإن أمد الله عزوجل هذا السابح بعونه عبر منازل المكنونات ، وجاوز قناطر المرسومات، فأدرك جواهر التوحيد ، وتحقق بخصائص التفريد ، فهذا الّذي يسلم له أن يقول: سبحان الله.

ثم إن التسبيح وما يتعلق به من الرغائب فسنفرد له موضعا ، إن شاء الله تعالى.

باب

فى معنى قوله تعالى

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)

هذه السورة مكية بإجماع ، ويقال : إنها أول سورة نزلت ، وذلك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أول ما رأى من تباشير المعجزات أنه كان ينقل الحجارة مع عمه أبى طالب والناس لرمة البيت الحرام ولزمزم ، فغشى عليه ، وكان متجردا عن ثيابه ، فلما أفاق سأله عمه أبو طالب عن حاله فقال : رأيت شخصا أشار إلى أن استتر ، فما رئيت عورته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، ثم أوحى الله إليه بعد ذلك بسنين كثيرة.

وكان يرى فى الابتداء الرؤيا فيصدق جميعها كفلق الصبح ، ثم حببت إليه الخلوة ، فكان يتحنث فى حراء كل سنة شهرا ، على عادة العرب ، إلى سنة الوحى فتعرض له الملك وقال : أنت رسول الله ، فذعر منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودخل بيت خديجة وقال : زملونى زملونى ، ثم إنه بدا له الملك ثانيا فكاد يلقى نفسه من حالق جبل ، وهمّ بذلك ، فظهر له جبريل ، عليه‌السلام ، قاعدا على كرسى فى الهواء ، فى رواية ، وقال له : أنا جبريل ، رسول الله إليك ، ثم قال له : اقرأ ، فقال : ما أنا بقارئ! فقال : اقرأ ، ففى الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : فغتنى جبريل ، عليه‌السلام ، أى ضغطنى ، ويشبه أن يكون مثل غطنى ، وفى الحديث فى صفة أهل النار أن يغتهم غتا ، أى يغمسهم غمسا ، ثم قال جبريل ، عليه‌السلام : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) إلى قوله : (ما لَمْ يَعْلَمْ).

فمن شأن الواعظ إن تكلم فى هذه الآية أن يذكر شيئا من مبادئ الوحى ثم يقرنه بشيء من البيانات ثم يذكر طرفا من بدايات المشايخ ويورد فى كل فن ما يليق به من الحكايات والنكت.

ونحن نذكر طرفا فى هذا الباب من هذا الجنس إن شاء الله تعالى.

واعلم أن تفكير العبد فى ابتداء أمره يحمله على خالص الشكر لربه من قلبه ، قال الله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (إبراهيم : ٥) الآية ، أى بنعم الله ، وكل الأحوال والأوقات ، وقال تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (مريم : ٦٧) وقال تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) (المؤمنون : ١٢) ذكره الله تعالى نفسه لئلا يعجب بحالته وجرده عن كل فضيلة ، ولهذا قال المشايخ : عرفهم مقدارهم لئلا يتعدوا أطوراهم ، وقال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ثم قال : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) ثم قال : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النحل : ٥٣) جردك أولا وعرّاك ثم أخبرك بما عرّفك من العلوم والفهوم ، وأعطاك ثم ذكّرك عظيم ما أنعم به عليك وأولاك ، وفى معناه يقول المنشى :

سقيا لمعهدك الّذي لو لم يكن

ما كان قلبى للصبابة معهدا

فمن أين كان لك العرفان والإسلام والإيمان والطاعة والإحسان والاستدلال والبرهان، لو لا ما ألبسك من التوفيق وأخلص لك من التحقيق ، وأهلك له من التصديق ، قال الله سبحانه (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) (الفتح : ٢٦) ثم اعلم أن سنة الله تعالى مع عباده فى بدء أحوالهم تختلف ، فمنهم

من يكون من الابتداء إلى الانتهاء على وصف الوفاق محروسا من التدنس والزلات ، محفوظا عن التلبس بالمخالفات ، غذتهم الرحمة وربتهم الرعاية وكنفتهم القربة ، وشملتهم الوصلة ، غار الحق سبحانه وتعالى على أحوالهم وأوقاتهم أن تضيع ، أو يكون لغير الله تعالى فيها نصيب.

فمن هؤلاء : أبو زيد البسطامى فإنه دخل على والدته فى حال صباه يوما ، وقال : إنى أجد فى قلبى حزازة لست أدرى ما سببها ، وقد حاسبت نفسى فلم أقف على ما يوجبها ، فهل أطعمتنى فى حال صباى شيئا من غير وجهه؟ ففكرت فتذكرت أنها سرحته يوما بدهن لبعض الجيران بغير علمهم ولا طيب نفوسهم ، واحتاجت أن تطلب عليهم ، فاستحلت منهم ، فزال عن قلبه ما كان يجده.

وقيل : إن رجلا جاءه فسأله عن بداية أمره ليستن بهداه ويسلك مثل طريقته ، فقال : هو أن تكون فى بطن أمك بحيث لو أرادت أن تتناول شيئا من المحظورات انقبضت يدها.

وهكذا سهل بن عبد الله ، فإنه قال : لما أسلمونى إلى الكتّاب كنت إذا اشتغلت بتعلم القرآن ذهل قلبى ، وإذا اشتغلت بمراعاة القلب ذهب حظى ، قال : فدعوت الله عزوجل حتى سهّل على الجمع بين التعلم ومراعاة القلب.

وحكى عنه خاله معروف أنه كان يسهر لصلاة الليل قال : وكان سهل لا ينام فنظر إليه ، وهو ابن ثلاث سنين ، وكان يقول خاله : يا سهل نم ولا تشغلنى ، فكان لا يأخذه النوم حتى يلقنه ذكر الله عزوجل ، إلى أن قال لخاله : ما تقول فيمن كشف لقلبه شيء فسجد قلبه له؟ فقال : إلى متى؟ قال : للأبد ، قال له خاله : أنا لا أعرف هذه المسألة ، وحالتى لا تبلغ هذه الرتبة.

وحكى أن يحيى بن معاذ الرازى كانت له بنية فطلبت من أمها شيئا تأكله ،

فقالت لها : سلى الله يعطيكيه ، فقالت : أنا أستحي من الله أن أطلب منه شيئا يؤكل.

وطائفة من الأولياء كانت لهم بدايات متشوشة وأحوال فى الظاهر مختلفة فتداركهم الله تعالى بتوفيق التوبة بعد مدة ، وعاد بهم إلى الورع وأحوال السعادة بعد شدة ، مثل إبراهيم بن أدهم وفضيل بن عياض وحبيب العجمى والسرى السقطى وبنان الجمال وغيرهم من المشايخ ، فإن هؤلاء حسنت أحوالهم من بعد ، فما زالت خجلة الابتداء مصحوبة لهم ، وحشمة ما سلف عاصمة لهم عن محل الإعجاب ، ولهذا قال بعض المشايخ : من لم يحسن أن يتفتى لم يحسن أن يقرأ ، وهذا أبو بكر الشبلى سيد عصره فى وقته كان حاجب الموفق إلى أن تاب على يد بعض الشيوخ.

والفضيل بن عياض كان يقطع الطريق بين مرو وتبوك إلى أن تاب لما سمع قارئا يقرأ : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) (الحديد : ١٦) وكان قد قصد إلى دار ليفجر بامرأة ، ثم إنه وقعت التوبة فى قلبه فكف عما قصد ، فرأى رفقة تزلوا فى موضع فقال لهم : ما بالكم لا ترحلون؟ فقالوا : نخشى الفضيل ، فإنه على الطريق ، فقال : لا عليكم ، فأنا الفضيل ، وقد تبت وأنتم فى أمان.

وقد ذكر عن بعضهم أنه قال : كنت فى بعض الطريق فظهرت اللصوص وخاف الناس ، وكان معى صرة دنانير ، فرأيت على البعد رجلا يصلى فقصدته فاستودعته الصرة ، فقال : لا تودعنها فإنى رئيس اللصوص ، فقلت : ولم لم تغلبنى عليها؟ قال : لا أخون الوديعة ، فقلت : وما بالك تقطع الطريق وتصلى النافلة؟ قال : يا أخى ، أدع للصلح موضعا ، قال : فرأيته بعد ذلك بمدة متعلقا بأستار الكعبة يدعو ويتضرع ، وقد زال عما كان عليه ، فقلت : ما حالك؟ فقال : قد حان أوان الصلح.

فصل

بين البدايات والنهايات

وثمّ من كان من الناس فى بداية أمره صاحب جهد وعنا ، وجد وشقا ومعاملات طويلة ، ومنازلات كثيرة ، يقطعون الطريق منزلا بعد منزل ، ومنهلا بعد منهل ، كما قال قائلهم :

ما زلت أنزل من ودادك منزلا

تتحير الألباب دون نزوله

إلى أن يلوح لهم علم الوجود ، وتتبين لهم تباشير الوصول ، فيستريح القلب من تعب الطلب وكد الثقلة ، وإن طولب بأضعاف ما كان مطالبا به قبله من أعباء القربة ، فتطلع الشموس ، وتحسن النفوس ، ويسطع علم الإصباح ، وتلمع أنوار الفلاح كما قال قائلهم :

فلما استبان الصبح أدرج ضوءه

بأسفاره أنوار ضوء الكواكب

وهذا الشبلى قال : طلبت العلوم إلى أن طلعت الشمس فقلت : أريد فقه الله ، فقالوا : لسنا نعرف ما تقول ، يشير إلى هذه الجملة التى ذكرتها.

ومن الناس من يكون موفقا فى بدايته مرزوقا من غير كثير جد ولا كبير سعى وجد ، روح وصلته ، فالأول مريد والثانى مراد ، لكن هذا الوصف قل ما يدوم ، وما أسرع العين إلى هذه الحالة ، وأنشد بعضهم :

عين أصابتك إن العين صائبة

والعين تسرع أحيانا إلى الحسن

وقلما ترى محبا إلا وهو يندب أطلالا ، ويبكى أحوالا ، ويشكو نوى وارتحالا.

وقد حكى عن بعضهم أنه قال : كنت عند الجريرى فجاء رجل وقال : كنت على بساط الأنس ففتح عليّ باب من البسط فزللت زلة فحجبت عن مكانى ، فكيف لى بالسبيل إليه ، دلنى على الوصول إلى ما كنت عليه ، قال : فبكى أبو محمد الجريرى وقال : الكل فى قهر هذه الخطة ، لكن أنشدك أبياتا تجد فيها جوابك ، إن شاء الله تعالى ، ثم أنشأ يقول :

قف بالديار فهذه آثارهم

تبكى الأحبة حسرة وتشوقا

كم قد وقفت بربعها مستخبرا

عن أهلها أو صادقا أو مشفقا

فأجابنى داعى الهوى لى مسرعا

فارقت من تهوى فعز الملتقى

وحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع الجنيد فسمع مغنيا يغنى :

منازل كنت تهواها وتألفها

أيام كنت على الأيام منصورا

فبكى الجنيد وقال : ما أطيب الألفة والمؤانسة وأوحش مقامات المخالفة ، لا أزال أحن إلى بدء إرادتى وجدة سعيى وركوبى الأهوال طمعا فى الوصال ، فها أنا ذا فى أوقات الفترة أتأسف على الأيام الماضية.

فصل

شرط وفاء ملازمة الربع بعد الفراق

وإن من عدم الأحباب وترك الأصحاب ، قطع الأسباب ولازم الاكتئاب وحالف الشجو والانتحاب ، فواصل الليل والنهار وساءل أحجار الديار وتتبع آثار المزار ، كما قيل:

أهوى الديار لمن قد كان ساكنها

وليس فى الدار لى همّ ولا شغل

وقال الآخر :

وإنى لأهوى الدار ما يستفزنى

لها الود إلا أنها من دياركا

وأنشدوا :

خليلى هل بالشام عين حزينة

تبكى على نجد فإنى أعينها

قد أسلمها الباكون إلا حمامة

مطوقة ورقاء بان (١) قرينها (٢)

هذا والله شرط الوفاء ملازمة الربع بعد الارتحال ومساءلة المنزل بعد الانتقال ، والتسلى بالأثر عند عدم النظر والتنغص بالعيش بعد الفرقة ، لا أبلانا الله بفرقة الأحباب ، إنه الكريم الوهاب.

* * *

__________________

(١) أى : فارق.

(٢) أمر على الديار ديار ليلى

أقبّل ذا الجدارا وذا الجدارا

وما حب الديار شغفن قلبى

ولكن حب من سكن الديارا

باب

فى اسمه تعالى

١ ـ الله (١)

جل جلاله

القول فى اشتقاق هذه التسمية :

الكلام فى هذا الباب من وجوه : منها : القول فى اشتقاق هذه التسمية هل هى مشتقة من معنى أو لا؟ وإن كانت مشتقة من معنى فما هو؟ وقد اختلف فى ذلك ، فمنهم من قال : إن هذا الاسم غير مشتق من معنى ، وهو اسم انفرد به الله تعالى ، فهو له اسم خالص كما يكون لغيره أسماء الأعلام والألقاب (٢) ، إلا أنه لم يطلق فى وصفه تعالى اسم اللقب والعلم لعدم التوقيف ، وهذا أحد قولى الخليل بن أحمد.

ويحكى عن الشافعى ، رحمه‌الله تعالى ، أنه قال بهذا القول ، وإليه ذهب الشيخ الحسين بن الفضيل ، وكثير من أهل الحق ممن سلك هذه الطريقة قال : لم نر أهل اللغة تصرفوا فى اشتقاق هذا الاسم وما كانوا يستعملونه فى غير الله ، بل قلّ ما يوجد فى كلامهم استعمال لفظ الله قبل الشرع فى صفته تعالى

__________________

(١) هو اسم للموجود المستحق لصفات الإلهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد بالوجود الحقيقى ، فإن كل موجود سواه غير مستحق للوجود بذاته ، وأن ما استفاد الوجود منه فهو من حيث ذاته هنالك ومن جهته التى تليه كل موجود هالك إلا وجهه.

(٢) واللقب ما أشعر بمدح أو ذم كمحمد سعد ، وفلان ذيل الحمار ، وأنف الناقة مثلا.

فضلا عن صفة غيره ، فكانوا يكتبون باسمك اللهم ، وقد قال الله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم : ٦٥).

جاء فى التفسير : هل تعلم أحدا تسمّى الله غير الله ، وهذا أحد معجزات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم التى تدل على صدقه فى هذا الخبر ، حيث أخبر أنه لا سمىّ له ، فقبض الله سبحانه القلوب عن التجاسر على إطلاق هذه التسمية فى صفة غيره مع كثرة أعداء الدين وشدة حرصهم ، وتوفر دواعيهم على تكذيبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أخباره ، ولهذا قال بعض المشايخ : كل اسم من أسمائه تعالى يصلح التخلق به إلا هذا الاسم فإنه للتعلق دون التخلق (١).

من قال إن لفظ الله مشتق من أله :

ومنهم من قال : إنه مشتق من معنى ، ثم اختلفوا فيما اشتق منه هذا الاسم ، فمنهم من قال : الأصل فيه أله ، والإله من يوله إليه فى الحوائج ، أى يفزع إليه فى النوائب ، كالكاف اسم لما يكتفى به ، والحاف لما يلتحف به ، وفى معناه أنشدوا :

ألهت إليكم فى بلايا تنوبنى

فألفيتكم كلا كريما ممجدا

وهذا القول ذهب إليه الحارث بن أسد المحاسبى فى جماعة من أهل العلم والمفسرين ، وهذا عند أهل العلم لا يصح على وجه التحديد ، على معنى أنه لم يكن إلها إلا بعد الوصف.

__________________

(١) اعلم أن هذا الاسم أعظم الأسماء التسعة والتسعين ، لأنه دال على الذات الجامع لصفات الإلهية كلها حتى لا تشهد منها شيء ، وسائر الأسماء لا تدل آحادها إلا على آحاد المعانى من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ، ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره ، لا حقيقة ولا مجازا ، وسائر الأسماء قد يتسمى بها غيره ، كالقادر والعليم والرحيم وغيره ، فلهذين الوجهين يشبه أن يكون هذا الاسم أعظم هذه الأسماء.

فإن صح هذا المعنى فى نعته فهذه العبارة تصلح للتفسير دون التحديد ، وإنما قلنا ذلك لحصول الإجماع على أنه لم يزل إلها ، وإن هذا الوصف ليس مما استحقه لفعل أظهره ولا لمعنى حصل فيما لا يزال ، كوصفنا له بأنه خالق ومعبود (١) ، ولم يكن فى الأزل من صح منه الفزع إليه ، ولأنه إله من يصح منه الفزع ومن لا يصح ، كالجمادات والأعراض ، ومن لا عقل له ولا تمييز ، فيصح منه القصد إليه بالفزع.

ومن أخذ بهذا القول على الوجه الّذي بينا أنه يصح ، فمن عرف معبوده سبحانه بأنه هو الّذي يفزع إليه فى الحوائج أعرض عمن سواه ، ولم يأخذ من دونه فى دنياه وعقباه ، وعلامة صحة ذلك أن يؤثر رضاه على هواه ، ثم يعرف بأنه وإن جد واجتهد فالعجز والتقصير قصاراه ، فإن تداركته الرحمة فالجنة مأواه ، وإن حق بالعذاب الكلمة عليه فالنار مثواه.

فالعبد إذا التجأ إلى ربه بقلبه دون أن يستبد بتدبيره ولبه ، أو يستعين بأقرانه وصحبه، تعجلت له الكفاية فى عاجله وتحققت له من الله الولاية فى آجله ، وفى بعض الحكايات : لو رجعت إليه فى أول الشدائد ، لأمدك بفنون الفوائد ، لكنك رجعت إلى أشكالك فزدت فى أشغالك.

__________________

(١) معانى سائر الأسماء يتصور أن يتصف العبد بثبوت منها حتى ينطلق عليه الاسم كالرحيم والعليم والحليم والصبور والشكور وغيره ، وإن كان إطلاق الاسم عليه على وجه آخر تباين إطلاقه على الله ، وأما معنى هذا الاسم فخاص خصوصا لا يتصور فيه مشارك لا بالمجاز ولا بالحقيقة ، ولأجل هذا الخصوص توصف سائر الأسماء بأنها اسم الله ، ويعرف بالإضافة إليه فيقال الصبور والشكور والجبار والملك من أسماء الله ، ولا يقال الله من أسماء الصبور والشكور ، لأن ذلك من حيث هو أدل على كنه المعانى الإلهية وأخص بها فكان أشهر وأظهر ، فاستغنى عن التعريف بغيره وعرف غيره بالإضافة إليه.

وقد قال بعض المشايخ : إنما يعرف توحيد الرجل عند الصدمة الأولى من المحنة ، يعنى بذلك إقباله على الله بقلبه فى أول الوهلة.

وقد حكى عن أحمد بن أبى الحوارى أنه قال : كنت مع أبى سليمان الدارانى فى طريق مكة فسقطت منى السطيحة ، فأخبرت أبا سليمان بذلك قال : يا راد الضالة ، يا هادى من الضلالة ، اردد علينا الضالة ، قال : فلم ألبث حتى أتى رجل يقول : من سقطت منه سطيحة ، فإذا هى سطيحتى ، قال : فأخذتها ، قال أبو سليمان : حسبت أنه يتركنا بلا ماء فمضينا قليلا ، وكان برد شديد ، وعلينا الفرا ، فرأينا رجلا عليه طمران رثان وهو يترشح عرقا ، فقال أبو سليمان : نواسيك من فضل ما معنا ، فقال : الحر والبرد خلقان من خلق الله ، إن أمرهما غشيانى ، وإن أمرهما تركانى ، فأنا أسير فى هذه البادية منذ ثلاثين سنة ما ارتعدت ولا انتفضت ، يلبسنى فى البرد فيحا من محبته ، ويلبسنى فى الحر برد رحمته ، يا دارانى ، تشير إلى الزهد وتجد البرد ، يا دارانى تبكى وتصيح وتستريح إلى الترويح ، قال : فمضى أبو سليمان وهو يقول : لم يعرفنى غيره.

قال الأستاذ : هذه الحكاية تدل على أن أبا سليمان صدق فى فزعه إلى الله تعالى والتجائه إلى الله عند فقد السطيحة فحقق الله ظنه لما وصل إليه مفقوده ، ثم صانه عن محل الإعجاب بما أراه من محل من زاد عليه فى معناه ، ثم صغر فى عينه حال نفسه بما اطلع عليه من مزية غيره عليه فى مقامه ، وتلك سنة الله مع أوليائه أن يصونهم عن ملاحظة الأعمال ويصغر فى أعينهم ما يصفو لهم من الأحوال.

وكان الشيخ أبو عليّ الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، يقول : علامة من كان صادقا فيما ظهر عليه من التواجد ، أن تكون خجلته بعد صحوه من تلك الغلبة أكثر من خجلة من قارف كبيرة ، وكان كثيرا ما ينشد فى معناه :

يتجنب الآثام ثم يخافها

فكأنما حسناته آثام

وسئل الشبلى عن أفضل الطاعات فأنشأ يقول :

إذا محاسنى اللاتى أدل بها

كانت ذنوبى فقل لى كيف أعتذر

هكذا وصف من يعتقد فى معنى اسم الله تعالى أنه الّذي يفزع إليه فى النوائب لا يساكن المخلوقين ولا يستعين بغير رب العالمين ، يغتنم خلوته ثم يصفى دعوته ويظهر سرا بين يديه غصته ، وبرفع إليه بإخلاص القلب قصته ، فإن وافق دعوته سابق القضاء فاز بالنجح والظفر بجزيل العطاء وإن كانت القسمة بخلاف ما طلب من البغية ألبسه الله لباس الرضا ، فهو بحسن أدبه بل بكمال وده ومحبته بعد المنع عطاء ومنحة والرد إجابة وقربة ، وفى معناه أنشدوا :

أريد عطاءه ويريد منعى

فأترك ما أريد لما يريد

وأنشد آخر :

حين أسلمتنى إلى الذال واللام [الذل]

تلقيتنى بعين وزاى [العز]

وقل من يوفق للدعاء ثم لا يستجاب له ، فإن من لا يكون أهلا للإجابة قل ما ينطق لسانه بالمسألة.

وقد حكى عن بعضهم أنه باع جارية له فندم على بيعها فاستحيا من الناس أن يظهر حالته ، فكتب حاجته على كفه ورفعها إلى السماء ، فلما أصبح قرع عليه الباب فقال : من أنت؟ فقال : مشترى الجارية مع الجارية ، فقال : اصبر حتى آتيك بالثمن ، فقال : لست أريد الثمن ، فإنى أخذت خيرا من ذلك ، إنى رأيت فى المنام رب العزة يقول لى : إن البائع ولىّ من أوليائنا وقلبه معلق بها ، فإن رددتها إليه بلا ثمن أدخلناك الجنة بلا عمل ، فأنا آثرت الثواب على الثمن.

من قال إن اشتقاق اسم الله من الوله والرد عليه :

قول آخر فى اشتقاق هذا الاسم : ومن الناس من قال : إن اشتقاق هذا الاسم من الوله ، قالوا : والوله هو الطرب وهو خفة تصيب الرجل لسرور أو حزن ، وفى معناه أنشدوا :

ولهت نفس الطروب إليكم

ولها حال دون طعم الطعام

قال الأستاذ : وكان الدقاق يقول : سماع اسم الله يوجب الوله ، لأن المسمى به لا شبه له.

وهذا القول أيضا لا يصح على طريق التحديد لاستحالة وجود الطرب فى الأزل ، ولكونه إلها لمن لا يصح منه الطرب ، كما ذكرنا فى الجمادات والأعراض ، لكنه يصح فى وصفه لا على وجه التحديد كما ذكرنا ، فإن من عرف الله كان بإحدى وقتين : وقت قبض ووقت بسط ، فالقبض يوجب هيبته ، والبسط يقتضي قربته ، وفى حال الهيبة يلحقه طرب هو دهشة ، وفى حال القربة يصحبه طرب هو فرحة.

وقد حكى عن أبى حفص الصفار ، وكان كبيرا فى شأنه ، أنه قال : تهت فى البادية أياما فعطشت مرة وضعفت ، فرأيت رجلا فاتحا فاه ينظر إلى السماء ، فقلت له : ما هذه الوقفة؟ فقال : ما لك وللدخول بين المولى والعبيد ، ثم أشار بيده وقال : هو ذا الطريق ، فنحوت نحو إشارته فما مشيت إلا قليلا حتى رأيت رغيفين ، على أحدهما قطعة لحم حار ، وهناك كوز ماء ، قال : فأكلت حتى شبعت ، وشربت حتى رويت ، ثم رأيت الطريق فرجعت إليه وقلت : ما التصوف؟ فتبسم ثم قال : لائح لاح ، فاصطلم واستباح ، يعنى بذلك أنه كشف

يرد على الأسرار فيختطف العبد ويستبيح منه كل ماله ، حتى لا يؤثر لنفسه شيئا ، والاصطلام محل القهر ونعت الحيرة ووصف الدهشة ، وكان الشبلى كثيرا ما يقول : يا دليل المتحيرين زدنى تحيرا.

وقال ذو النون المصرى : المعرفة أولها التحير ، ثم الاتصال ، ثم الافتقار ، ثم المحبة ، وفى معناه أنشدوا :

حب من أهواه أدهشنى

لا خلوت الدهر من ذاك الدهش

وأنشدوا أيضا :

قد تحيرت فيك خذ بيمينى

يا دليلا لمن تحير فيكا

من قال إن لفظ الله مشتق من (لاه):

ومن الناس من قال : إنه مشتق من قولهم : لاه ، فسروه على وجهين :

أحدهما : أنه بمعنى احتجب واستدلوا عليه بقول الشاعر :

لاهت فما عرفت يوما بخارجة

يا ليتها خرجت حتى رأيناها

ويقول الآخر :

لاه ربى عن الخلائق طرا

خالق الخلق لا يرى ويرانا

وهذا القول خطأ من وجوه ، وإن كان له تعلق باللغة ، منها أن الاحتجاب لا يجوز فى وصفه تعالى لأنه من صفات الأجسام والجواهر لأن المحجوب لا يخلو إما أن يكون مثل الحجاب فى القدر ، أو أصغر منه أو أكبر ، وكل ذلك محال فى وصفه ، ولأنه لم يزل إلها ، والاحتجاب فى الأزل محال ، لأنه لم

يكن فى الأزل غيره فيحتجب عنه ، ولأنه إله الجمادات والأعراض ولا يجوز أن يكون المحجوب محجوبا إلا عمن يجوز أن يكون رائيا ، والجماد والعرض لا يكون رائيا ، والبيت الّذي استدلوا به غير معروف.

فإن قال قائل : أردت بالاحتجاب أنه منع المبصرين من إدراكه ورؤيته ، فيكون هذا القول صحيحا فى وصفه ، وإن لم يجز أن يكون حدا له لكونه فى الأزل إلها ولم يكن معه من منعه وحجبه ، فعلى هذا ، من علم أنه منع المبصرين عن إدراكه ورؤيته فشرطه أن يكون متحققا باطلاع الحق سبحانه عليه فيكون مراقبا لربه ، وعلامته أن يكون محاسبا لنفسه ، ومن لم تصح محاسبته لنفسه لم تصح مراقبته لربه.

وسئل بعضهم عما يستعين به العبد على حفظ البصر فقال : يستعين عليه بعلمه بأن رؤية الله تعالى له سابقة لنظره إلى ما ينظر إليه.

وقيل : إن امرأة راودت طاوسا اليمانى عن نفسه ، فقال لها ، وكانا بمكة : تعالى إلى المسجد الحرام ، فلما دخلت معه المسجد قال لها : اقضى ما تريدين ، قالت : فكيف مع رؤية هؤلاء الناس بأسرهم؟ قال : فكيف لا أستحي ولا تستحيين من رؤية الله تعالى ، قال : فتابت تلك الساعة وحسنت حالتها.

وهكذا صفة من كان من أولياء الله تعالى ، لا يكون بينه وبين أحد شيء إلا ويصير سبب نجاته حقا كان أو باطلا ، وفى هذا المعنى حكى عن أبى سعيد الخراز أنه قال : كنت فى بدايتى حدثا حسن الوجه ، فكان رجل من الشطار الجبارين يؤذينى فى بلدى ، فعزمت على السفر وخرجت من البلد ، فبينا أنا أمشى إذ أنا به وقد لحقنى ، وأخذ يؤذينى ، فقلت له : إما أن تنصرف عنى أو أطرح نفسى فى هذه البئر ، فلم ينصرف ، قال : فألقيت نفسى فى بئر كانت هناك ، قال : فأمسكنى الله وسط تلك البئر فى الهواء ، قال : فنظر ذلك الرجل

إلى وتعجب ، وغلبت عليه الدهشة والحيرة ، قال : فخرجت فجاء الرجل وتضرع إلى وبكى وتاب على يدىّ وصار أحد الأكابر ، ولم يتخرج على يدىّ أحد قبله ، وكان أول مريد لى.

فصل : من قال إن معنى لاه : علا ، والرد عليه :

ومنهم من قال : إن معنى لاه : علا ، يقال : لاهت الشمس إذا علت ، والعرب تسمى الشمس إلاهة ، قال الشاعر :

وأجلت الإلاهة أن تغيبا

فهذا الّذي قالوه إن أرادوا به علو المكان والمنزل فمحال فى وصفه سبحانه ، لقيام الدلالة على استحالة كونه فى المكان ، وإن أرادوا به علو الصفة فذلك واجب فى وصفه تعالى.

فعلى هذا التفسير من علم علوه وجلاله فشرطه أن يتصاغر فى عينه ويتواضع لربه فى نفسه ، وعلامة ذلك أن يعظم أمر الله ، عزوجل ، فلا يكون له فى الطاعة تقصير ، ولا منه لأداء حق الله تأخير ، وعلامة صحة ذلك أن يكفيه الله تعالى جميع أحواله ويصونه عن محل الذل فيما يسنح له من أشغاله ، فإن من حفظ أمر الله حفظ الله عليه وقته.

وفى هذا المعنى حكى عن بعضهم أنه قال : رأيت راعيا يرعى الغنم وهو فى الصلاة ، والذئب يحفط أغنامه ، قال : فقلت له : متى صالح الذئب الغنم؟ فقال : لما تصالح رب الغنم مع رب الذئب وقع الصلح بين الذئب والغنم.

وكان الدقاق يقول : إن من له قدر عند الله أو منزلة فلو ظهر منه خلل فى بعض أحواله عاتبه حتى السنور (القط) فى بيته.

وكان يحكى عن بعض المراوزة أنه قال : اجتاز الواسطى يوم الجمعة بباب

حانوتى فانقطع شسع نعله ، فأخرجت إليه شسعا واستأذنته فى إصلاح نعله فأذن لى ، ثم قال : أتدري لم انقطع شسع نعلى؟ فقلت : حتى تقول ، فقال : لأنى ما اغتسلت للجمعة ، فقلت : هاهنا حمام ، أفتدخله؟ فقال : نعم ، ودخل.

من قال إن لفظ الله مشتق من أله ، أى بالمكان والرد عليه :

قول آخر فى معنى اسمه الله : قال بعض الناس : اشتقاقه من قولهم : أله بالمكان إذا أقام به ، وفى معناه أنشدوا :

ألهنا بدار ما تبين رسومها

كأن بقاياها وشام على اليد

فكأنهم قالوا : إنما كان إلها بقدمه ودوام وجوده.

وقال بعض الناس : إن معنى الإله هو القديم ، وهذا القول باطل ، لأنه لو كان كما قالوا لوجب أن يكون كل من كان له إقامة بمكان أو تقدم بزمان أو دوام لوجود كان له قسط من الألوهية ، وهذا باطل.

فأما دوام تقدم الوجود وتقدم الكون فمستحق للقديم سبحانه واجب ، فمن عرف ذلك فى وصفه فشرطه أن لا يساكن المخلوقات ولا يوطن نفسه على شيء من المصنوعات ، ويرتقى بهمته إلى رب الأرضين والسماوات ، وقال الله تعالى (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) فعند ذلك يكون عظيم الهمة شريف الإرادة جليل الحال لا يتعزز بدنياه ، ولا يرضى بدون مولاه فيكفيه الله ما لا بد منه ويجعل الكون بأسره خادما له ، فلا يستوحش من الغربة لما وجده من الإيناس والقربة.

وقد حكى عن بعضهم أنه قال : خرجت مرة إلى الحج فبينما أنا فى البادية إذ تهت ، فلما جن عليّ الليل ، وكان ليلة مقمرة سمعت صوت شخص ضعيف يقول لى : يا أبا إسحاق ، قد انتظرتك من الغداة ، فدنوت منه ، فإذا هو شاب ضعيف نحيف أشرف على الموت ، وحوله رياحين كثيرة ، منها ما أعرف ومنها

ما لا أعرف ، فقلت له : من أين أنت؟ فقال : من مدينة شمساط ، كنت فى عز ورفعة فطالبتنى نفسى بالعزلة فخرجت ، وقد أشرفت على الموت ، فسألت الله تعالى أن يقيض لى وليا من أوليائه ، وأرجو أنك هو ، فقلت : ألك والدان؟ قال : نعم ، وإخوة وأخوات ، فقلت : هل اشتقت إليهم أو إلى ذكرهم؟ فقال : لا ، إلا اليوم أردت أن أشم ريحهم ، فطافت بى السباع والبهائم فبكين معى وحملت إلى هذه الرياحين ، فقال : فبينا أنا معه على تلك الحالة يرق له قلبى إذا بحية أقبلت وفى فمها طاقة نرجس كبيرة ، فقالت : دع شرك عنه ، فإن الله يغار على أوليائه ، قال : فغشى عليّ فما أفقت حتى خرجت نفسه ، ثم وقع عليّ ثبات فانتبهت وأنا على الجادة (١) ، قال : فدخلت مدينة شمساط بعد ما حججت فاستقبلتنى امرأة بيدها ركوة ، فما رأيت أشبه بالشاب منها ، فلما رأتنى قالت : يا أبا إسحاق ، كيف رأيت الشاب؟ فإنى انتظرتك منذ ثلاث ، فذكرت لها القصة إلى أن قلت : قال : أردت أن أشمهم ، فصاحت وقالت : أولا بلغ الشم؟ وخرجت نفسها ، فخرج أتراب لها عليهن المرقعات والفوط وتكفلن أمرها وتولين دفنها فانصرفت عنها.

من قال إن لفظ الله مشتق من أله إذا تحير والرد عليه :

قول آخر : ومنه ، من قال : إن معنى الله من أله إذا تحير ، وهذا أيضا لا يصح من طريق التحديد وإن صح من طريق المعنى ، على معنى أنه تحار العقول فى جلال سلطان الله تعالى ، وذلك من أوصاف التعظيم ، وأن الّذي يرى مخلوقا فيدهش فى رؤيته ويتحير فيما يأخذ عنه من مشاهدته ، وهو مخلوق مثله ذو نقص ، فحقيق به أن يتحير لو حصلت له ذرة من كمال المعرفة.

__________________

(١) الطريق الواضح.

ولقد قال يحيى بن معاذ الرازى : ولو دارت ألسنة العارفين مع الناس كما تدور قلوبهم مع الله لقال الناس : إنهم مجانين ، وعلامة صحة هذه الحالة أن لا يقع فى أحكام الشريعة تقصير فإن من لم تحفظ عليه أوقاته فى أداء ما كلف ، وإن كان مغلوبا فلنقص فى حاله.

وقيل للشبلى : ما علامة صحة ذلك فى حالك هذه؟ فقال : أن لا يجرى عليّ فى أوقات الغلبة ما يخالف الصحو.

من قال إن لفظ الإله أنه المعهود والرد عليه :

قول آخر فى معنى اسمه تعالى الله : ومن الناس من قال : إن معنى الإله أنه المعهود ، ومنهم من عبّر عنه ، فقال : هو المستحق للعبادة ، ومنهم من قال : الّذي لا تجب العبادة إلا له ، قالوا : والدليل على أنه من التأله الّذي هو التعبد ، قول الشاعر :

لله در الغانيات المده

سبحن واسترجعن من تأله

أى من تعبد.

قالوا : ولأن العرب سمت الأصنام آلهة لما عبدوها ، وهذا أيضا لا يصح من وجوه :

منها : أنه لم يزل إلها ، ولا يقال : كان فى الأزل معبودا لأن المعبود من له عابد وله عبادة ، وتقدير ذلك فى الأزل محال ، ولأن العبادة إنما تجب بأمر الله تعالى ، ولو قدرنا أنه لو لم يأمر أحدا بعبادة لكان ذلك سائغا فى وصفه ، ولو كان كذلك لم يكن إلها على قضيتهم ، ولأنه لو كان معنى الإله أنه المعبود لكان العابد بعبادته جعله إلها ، وهذا محال ، ولأنه إله من لا تصح منه العبادة كالجمادات والأعراض (١) وغير ذلك ، وهذا ظاهر ، وأما التأله فهو مشتق من

__________________

(١) مثل البياض أو السواد مثلا فى وجه الإنسان.

الإله والإله مشتق من التأله ، فالتأله هو التقرب إلى الإله ، على أن هذا المعنى صحيح فى وصفه تعالى لا على سبيل التحديد للإله ، فمن علم أنه المعبود سبحانه دون غيره أخلص فى حالته ، وصدق فى طاعته ، وصفى عن الرياء أعماله وزكى عن الإعجاب أحواله ، قال تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ).

وقد حكى عن يحيى بن معاذ ، رحمه‌الله تعالى ، أنه قال : لو دخل عليك صبى لتغيرت لأجله وغيرت ظاهرك من قبله ، إن أمر الرياء لدقيق.

وحكى عن بعض المشايخ أنه قال : لو أمر بمراء إلى الجنة لالتفت هل يراه أحد.

وأما الإعجاب الّذي هو رؤية المقام واستكبار القدر والجاه واستكثار الطاعة والفعل فإنه سبب الحجاب ، ولهذا قال الشيوخ : من أعجب بنفسه حجب عن ربه ، ولو لم يكن لترك الإعجاب موجب سوى قصة إبليس حيث قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وقصة قارون فى كثرة المال حيث خرج على قومه فى زينته ، وقصة فرعون حيث قال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) لكان فى ذلك كفاية فى الزجر والمنع ، وفى بعض الكتب أن السمكة التى عليها الكون أعجبت لما أطاقت حمل الأرضين بثقلها فقيض الله تعالى لها بعوضة حتى لسعت أنفها فأصابها وجع شديد فسكنت والبعوضة بين عينيها لا تجسر أن تتحرك من خوفها (١).

__________________

(١) مثال ، والله أعلم بحقيقة الحال.

فصل

القول الصحيح فى معنى اسمه تعالى (الله) جل جلاله :

فإن قيل : فما الّذي يصح فى معنى هذا الاسم إذا لم يصح ما ذكرتم من الأقاويل؟.

قلت : قد اختلفت أقاويل أهل الحق فى ذلك ، والكل متقارب يرجع إلى معنى واحد ، فمنهم من قال : الإله من له الألوهية ، والألوهية القدرة على الاختراع ، ومنهم من قال : هو المستحق لأوصاف العلو والرفعة ، ومنهم من قال : هو من له الخلق والأمر ، وذلك لأنّا وجدنا أهل اللغة أطلقوا هذه اللفظة على من اعتقدوا فيه معنى استحقاق التعظيم ، فعلمنا بإطلاقهم أنها لفظة موضوعة لمن يستحق ما لأجله يصح أن يعظم ، فكانوا مصيبين فى التسمية مخطئين فى التعيين.

وأمثال هذا كثير كإطلاقهم لفظ الحسن والقبح على شيء معلوم فى الجملة ثم أخطئوا فى الحكم لبعض الأشياء بأنها حسنة وأنها قبيحة على التعيين ، ولهذا نظائر كثيرة ، فمن عرف علوه سبحانه وقدره وتحقق رفعته ومجده فأمارة صحته سقوط قدر الأغيار من قلبه ، كما قيل : إذا عظم الرب فى القلب صغر الخلق فى العين ، وقيل : المعرفة حقر الأقدار سوى قدره ، ومحو الأذكار سوى ذكره ، وصفة من كان بهذا الوصف أن لا تأخذه فى الله لومة لائم ، فيكون بحق الله قائما ، وبالحق ناطقا ، وفى دين الله قويا ، وعن الأغيار بتعظيم السر بريا ، فإن أفضل الأعمال كلمة حق عند من يخاف ويرجى (١).

__________________

(١) كلمة حق عند سلطان جائر.

وقد حكى أن فيما مضى من الزمان كانوا يعبدون شجرة ، فخرج رجل من المسلمين من بيته وركب حمارا له وأخذ فأسا بيده وقصد إلى قطع تلك الشجرة ، غيرة فى الدين وحمية ، فتمثل له إبليس فى صورة رجل فقال له : إلى أين تريد يا عبد الله؟ فقال : أقلع تلك الشجرة التى تعبد من دون الله غيرة منى فى الدين ، فقال له : لا تفعل ، بل انصرف وأنا أضع تحت وسادتك كل ليلة درهمين ، فطمع الرجل فيه وانصرف ، فأصبح ولم يجد شيئا ، فلبث اليوم الثانى والثالث فلم يجد شيئا ، ثم بعد أيام خرج مغضبا ، وقد أراد حرده ، فاستقبله إبليس فقال له : إلى أين تريد؟ فقال : الشجرة ، فقال له إبليس : إنك لو درت حولها لو قصت عنقك ، إنك لما فات من حظك حردت ، والمرة الأولى ما كان يقاومك أحد ، فانصرف راشدا.

ثم إن من كان بوصفه التعظيم لربه أورثته تلك الحالة شفقة على خلقه ، فيتحمل الأذى بطيب نفس من الكل ، ولهذا قال سهل ، رحمه‌الله تعالى : الصوفى : من كان دمه هدرا وملكه مباحا والخلق فى الدنيا جيرانك فى السجن ، بل رفقاؤك فى السفر ، فأحسنهم خلقا أشرفهم قدرا.

وقد حكى عن مالك بن دينار أنه استأجر دارا من يهودى ، فحول اليهودى مستحمه فى الدار التى كان فيها إلى بيت كان على البيت الّذي فيه مالك ، وإذا الجدار مهدم تدخل النجاسة إلى بيت مالك فى محرابه ، يقصد بذلك أذاه ، ومالك ينظف البيت كل ليلة ويكنسه ولم يقل شيئا ، حتى أتى على ذلك مدة ، فعرف صبره فدخل عليه ، فقال: ما الّذي صبّرك على مقاساة هذه المشقة دون أن تخبرنى بذلك ، فقال : قول نبيناصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما زال جبريل يوصينى بالجار حتى ظنت أنه سيورّثه» قال : فأسلم اليهودى وحسن إسلامه.

فصل آخر فى معنى اسم الله جل جلاله

أصل هذا اللفظ الشريف عند المدارس اللغوية :

واختلف الناس من وجه آخر فى أصل هذه الكلمة ، أى شيء كان؟ فذهب الكوفيون إلى أنه كان فى الأصل لاه ، ثم أدخل فيه الألف واللام فصار الله.

وقال البصريون : كان فى الأصل إله ثم دخل عليه الألف واللام فصار الإله ، فاجتمع فيه همزتان وبينهما حرف ساكن ، والساكن لا يحجز حجزا حصينا فصار كأنه اجتمع فيه همزتان ، ومن شأن العرب إذا اجتمع همزتان حذفت إحداهما ، ولم يجز حذف الأولى لأنها مجتلبة لسكون اللام ، فحذفت الثانية ، فاجتمعت لامان ، فأدغمت إحداهما فصار الله.

وليس هذا موضع البسط فيه ، فاقتصرنا على اليسير منه.

أقوال شيوخ الصوفية فى معنى الاسم الجليل (الله):

فأما أقاويل شيوخ الصوفية فى معنى هذا الاسم فكثيرة ، وأكثرها يحتاج إلى تفسير وبيان لكونه بوصف الزمن ونحن نذكر منه طرفا على وجه الإيضاح.

فمن ذلك ما حكى عن الشبلى أنه قال : ما قال أحد الله سوى الله ، فإن من قاله قاله بحظ ، وأنى تدرك الحقائق بالحظوظ؟.

والإشكال فى هذه الحكاية فى قوله : قال أحد الله سوى الله ، وتفسير ذلك ما قاله مقترنا به : أن كل من قاله قاله لحظ ، فعلم أنه أراد به أن ذكر الخلق لله لا يشبه ذكر الله لله ، والشيء الّذي يقل قدره يعد لا شيئا بالإضافة إلى ما له قدر.

وقال أبو سعيد الخراز : ومنهم من جاوز حد نسيان حظوظ نفسه ووقع فى نسيان حظه من الله ونسيان حاجاته إلى الله ، فلو تكلمت جوارحه وأعضاؤه ومفاصله لقالت : الله الله.

وفى هذا المعنى كان الشيخ أبو على يحكى أن رجلا كان يقول : الله الله دائما ، فأصاب حجر رأسه وشجه فوقع دمه على الأرض فاكتتب الدم على الأرض الله الله.

وحكى أن أبا الحسين النووى بقى فى منزله سبعة أيام لم يأكل ولم يشرب ولم ينم ويقول : الله الله ، فأخبر الجنيد بذلك فقال : انظروا محفوظ عليه أوقاته أم لا؟ فقيل : إنه يصلى الفرائض ، فقال : الحمد لله الّذي لم يجعل للشيطان عليه سبيلا ، ثم قال : قوموا حتى نزوره ، فإما أن نستفيد منه وإما أن نفيده ، فدخل عليه الجنيد فقال : يا أبا الحسن ، ما الّذي دهاك؟ فقال : أقول : الله الله ، زيدوا عليّ ، فقال له الجنيد : انظر هل قولك : الله بالله أم قولك بنفسك ، فإن كنت القائل : الله بالله فلست القائل له ، وإن كنت تقول بنفسك فأنت مع نفسك ، فما معنى الوله؟ فقال : نعم المؤدب أنت ، وسكن ولهه.

وقال بعضهم : إن الألف فى هذا الاسم إشارة إلى الوحدانية ، واللام إشارة إلى محو الإشارة ، واللام الثانية إشارة إلى محو المحو فى تكشف الهاء.

وحكى أن الشبلى قال فى مجلس الجنيد فى ولهه : الله الله ، فقال له الجنيد : يا أبا بكر ، الغيبة حرام.

قيل : معناه إن كنت غائبا فذكر الغائب غيبة ، وإن كنت حاضرا فهو ترك الحرمة.

وحكى عن أبى سعيد الخراز أنه قال : رأيت بعضهم فقلت : ما غاية هذا الأمر؟ قال : الله ، قلت : ما معنى قولك : الله؟ قال : تقول : اللهم ودلنى بك عليك ، وثبتنى عند وجودك ، ولا تجعلنى ممن يرضى بجميع ما هو دونك عوضا منك ، وأقر فؤادى عند لقائك (١).

__________________

(١) ينبغى أن يكون حظ العبد من هذا الاسم التأله ، بمعنى أن يكون مستغرق القلب والهمة ـ

باب

فى معنى

«لا إله إلا الله» وما يتعلق به (١)

اعلم أن هذا القول «إن كان ابتداؤه النفى فالمراد به غاية الإثبات ونهاية التحقيق ، فإن قول القائل : لا أخ لى سواك ولا معين لى غيرك ، آكد من قوله : أنت أخى وأنت معينى ، وقد روى فى الخبر أن من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله دخل الجنة ، وروى عنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه دخل الجنة» وروى فى الخير : «مفتاح الجنة لا إله إلا الله» (٢) وإنما يكون

__________________

ـ بالله تعالى ، لا يرى غيره ولا يلتفت إلى سواه ، ولا يرجو ولا يخاف إلا إياه ، وكيف لا يكون وقد فهم من هذا الاسم أنه الموجود الحقيقى الحق ، وكل ما سواه فان وهالك وباطل إلا به ، فيرى أولا نفسه أول هالك وباطل ، كما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال «أصدق بيت قالته العرب قوله لبيد :

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وكل نعيم لا محالة زائل

(١) قال ابن عباس : (لا إله إلا الله لا نافع ولا ضار ولا معز ولا مذل ولا معطى ولا مانع إلا الله).

(٢) قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (النساء : ٤٨).

وروى عن جابر أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الموجبتين ، أى التى توجب للإنسان الجنة والتى توجب له النار ، عياذا بالله من النار ، فقال : «من لقى الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ، ومن لقى الله يشرك به شيئا دخل النار».

وروى ابن عمر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ، ولا عند النشور ، وكأنى أنظر إلى أهل لا إله إلا الله عند الصيحة ينفضون شعورهم من التراب ويقولون : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)» وروى أبو سعيد الخدرى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما من عبد يقول أربع مرات : اللهم أنى أشهدك ،

العبد قائلا فى الحقيقة : لا إله إلا الله ، إذا كان قائلا بقلبه ، لأن الكلام المخلوق محله القلب ، وذلك معلوم من مذهب أهل الحق (١) وكذلك من طريقة أهل اللغة ، قال الأخطل:

إن الكلام لفى الفؤاد وإنما

جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وإنما يكون قائلا : لا إله إلا الله بقلبه إذا كان عارفا بربه.

وكل الناس يحملون قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله» مخلصا» على أنه أراد أنه إذا مات على الإخلاص ، وأهل الإشارة قالوا إذا كان مخلصا فى مقالته كان داخلا فى الجنة فى حالته ، قال الله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٢) قيل جنة معجلة وهى حلاوة الطاعات ، ولذاذة المناجاة والاستئناس بفنون المكاشفات ، وجنة مؤجلة هى فنون المثوبات وعلو الدرجات.

ولقد أحسن من قال : لا وحشة مع الله ، ولا راحة مع غير الله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا راحة للمؤمن من دون لقاء الله» وأن العارف لا جلوة له إلا فى خلوته ولا راحة له إلا فى مناجاته على بساط قربته ، قال قائلهم :

إذا تمنى الناس روحا وراحة

تمنيت أن ألقاك يا عز (٣) خاليا

__________________

ـ وكفى بك شهيدا ، وأشهد حملة عرشك وملائكتك ، وجميع خلقك ، بأنى أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك ، لا شريك لك ، وأشهد أن محمدا عبدك ورسولك إلا كتب الله له به صكا من النار».

(١) قيل : إذا كان آخر الزمان لم يكن لشيء من طاعتهم فضل لفضل لا إله إلا الله ، لأن صلاتهم وصيامهم يشوبها أنواع من الرياء والسمعة ، ولا إخلاص فى شيء منها ، أما كلمة : لا إله إلا الله فهى ذكر الله ، والمؤمن لا يذكرها إلا عن تصميم القلب.

(٢) الرحمن : ٤٦.

(٣) أصلها : يا عزة ، فرخّم بحذف الحرف الأخير من الاسم فى النداء.

قول المشايخ فى كلمة التوحيد : (لا إله إلا الله):

وأما أقاويل المشايخ فى هذه الكلمة فقد قال بعضهم : إنه نفى ما يستحيل كونه وإثبات ما يستحيل فقده ، ومعنى هذا أن يكون الشريك له سبحانه محالا ، وتقدير العدم لوجوده مستحيلا (١).

وقال بعض المشايخ : مجيبا لمن قال له : لم تقول : الله الله ولا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : نفى العيب حيث يستحيل العيب عيب.

وكان الدقاق رحمة الله تعالى يقول : إنما قول : لا إله إلا الله لاستصفاء الأسرار عن الكدورات ، لأنه إذا قال العبد : لا إله إلا الله صفا قلبه وحضر سره ليكون فى ورود قوله الله على قلب منقى وسر مصفى (٢).

وقال رجل للشبلى : يا أبا بكر ، لم تقول : الله الله ولا تقول : لا إله إلا الله؟ فقال : لا أنفى له ضدا ، فصاح وقال : أريد أعلى من ذلك ، فقال : أخشى أن أوخذ فى وحشة الجحد ، فقال الرجل : أريد أعلى من ذلك ، فقال : قال الله تعالى (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٣) فزعق الرجل وخرجت روحه ، فتعلق أولياء الرجل بالشبلى وادعوا عليه دمه وحملوه إلى الخليفة ، فخرجت الرسالة إلى الشبلى من عند الخليفة فسألوه عن دعواهم ، فقال

__________________

(١) لا إله يرجى فضله ، ويخاف عدله ، ويؤمن جوره ، ويؤكل رزقه ، ويترك أمره ، ويسأل غفره ، ويرتكب نهيه ، ولا يحرم فضله إلا الله الّذي هو رب المؤمنين ، وغفار ذنوب المذنبين ، وملجأ التائبين ، وستار المعيبين ، وغاية رجاء الراجين ، ومنتهى مقصد العارفين.

(٢) قول العبد : لا إله إلا الله ، إشارة المعرفة ، والتوحيد بلسان الحمد ، والتسديد إلى الملك الحميد ، فإذا قال العبد : لا إله إلا الله فالمعنى : لا إله إلا والنعماء والقدرة والبقاء والعظمة والسناء والعز والثناء والسخط إلا لله الّذي هو رب العالمين ، وخالق الأولين والآخرين ، وديان يوم الدين.

(٣) الأنعام : ٩١.

الشبلى : روح حنت فرنت فدعيت فأجابت فما ذنبى؟ فصاح الخليفة من وراء الحجاب : خلّوه فلا ذنب له.

لا إله إلا الله مفتاح الجنة :

وقيل : فمعنى قوله : لا إله الله ، مفتاح الجنة أن العبد إذا كان مطيعا كان داره فى الجنة أشد عمارة وأكثر زينة ، وإذا عصى كان لا يعمر داره ولا يزول ملكه ولا يسلب مفتاح الدار ممن لا يعمرها ، فكذلك ما دام العبد مخلصا فى قول : لا إله إلا الله كان من أهل الجنة.

باب

فى معنى «هو» (١)

اعلم أن «هو» اسم موضوع للإشارة ، وهو عند الصوفية إخبار عند نهاية التحقيق ، وهو يحتاج عند أهل الظاهر إلى صلة تعينه ليكون الكلام مفيدا ، لأنك إذا قلت : «هو» ثم سكت فلا يكون الكلام مفيدا حتى تقول : هو قائم أو قاعد ، أو هو حي أو ميت وما أشبه ذلك (٢).

فأما عند القوم فإذا قلت : هو فلا يسبق إلى قلوبهم غير ذكر الحق ،

__________________

(١) هذا اسم له هيبة عظيمة عند أرباب المكاشفات ، واعلم أن الألفاظ قسمان : مظهرة ومضمرة ، أما المظهرة فهى الألفاظ الدالة على الماهيات المخصوصة كالسواد والبياض والحجر والمدر ، وأما المضمرات فهى الألفاظ الدالة على المتكلم أو المخاطب أو الغائب من غير أن تكون دالة على خصوصية ماهية ذلك الشيء ، وهى ثلاثة : أنا وأنت وهو ، وأعرفها أنا ثم أنت ثم هو ، والدليل على صحة هذا الترتيب أن تصورى لنفسى من حيث إنى أنا لا يتطرق إليه الاشتباه ، فإن من المحال أن أصير مشتبها بغيرى فى عقلى أو يشتبه غيرى فى عقلى ، بخلاف هو ، فإنه قد يشتبه بغيره وغيره يشتبه به ، وأما أنت فلا شك أنه أعرف من هو ، لأن الحاضر أعرف من الغائب ، فالحاصل أن أعرف المضمرات هو قولنا : أنا ، وأشدها بعدا عن العرفان هو قولنا هو ، وأما أنت فكالمتوسط بينهما ، والتأمل التام يكشف عن صدق ما ذكرناه ، وهو جل جلاله بعيد بعزته وقدرته وسائر أوصافه التى لا يستطيع القرب منها مخلوق من مخلوقاته تعالى.

(٢) إن الأسماء المشتقة دالة على الصفات ، ولفظ هو دال على الموصوف ، والموصوف أشرف من الصفة ، ولذلك قال المحققون : إن ذاته ما كملت بالصفات ، بل ذاته لغاية الكمال استلزمت صفات الكمال ، فلفظ هو يوصلك إلى ينبوع العزة والرحمة والعلو ، وسائر الألفاظ يوصلك إلى الصفات.

فيكتفون عن كل بيان يتلوه لاستهلاكهم فى حقائق المقرب باستيلاء ذكر الله على أسرارهم وانمحائهم عن شواهدهم فضلا عن إحساسهم بمن سواه ، وكان الإمام أبو بكر بن فورك رضى الله عنه يقول : «هو» حرفان : هاء وواو ، فالهاء تخرج من أقصى الحلق ، وهو آخر المخارج ، والواو تخرج من الشفة ، وهو أول المخارج ، فكأنه يشير إلى ابتداء كل حادث منه ، وانتهاء كل حادث إليه ، وليس له ابتداء ولا انتهاء ، وهو معنى قوله سبحانه : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) (١) فقوله : «هو الأول» : إخبار عن قدمه ، وقوله «الآخر» : إخبار عن استحالة عدمه ، وهو الأول بإحسانه إليك بديا ، والآخر بإتاحته لك وإدامته عليك لطفا أبديا ، فكل خير لك به نظامه وعليه تمامه ، قال الله سبحانه : (تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ) (٢) وقد حكى عن بعضهم أنه قال : رأيت بعض الوالهين فقلت : ما اسمك؟ فقال : هو ، قلت : من أنت؟ فقال : هو قلت : من أين جئت؟ فقال : هو ، فقلت : من تعنى بقولك هو؟ فقال : هو ، فما سألته عن شيء إلا قال : هو ، فقلت : لعلك تريد الله ، قال : فصاح وخرجت روحه.

الله كاشف كل شيء بأسمائه تعالى :

وقال أهل الإشارة : إن الله تعالى كاشف الأسرار بقوله : هو ، وكاشف القلوب بما عداه من الأسماء ، وقيل كاشف المحبين بقوله : هو ، وكاشف المتيمين بقوله : الله ، وكاشف العلماء بقوله أحد ، وكاشف العقلاء بقوله الصمد ، وكاشف العوام بقوله : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وقيل : كاشف الخواص بإلاهيته ، وكاشف خاصة الخاصة بهويته ، وكاشف العوام بأفعاله الحاصلة بقدرته.

__________________

(١) الحديد : ٣.

(٢) الأنعام : ١٥٤.

باب (٢)

فى معنى اسمه تعالى

٢ ـ الملك (١)

جل جلاله

اعلم أن الله سبحانه وتعالى يوصف بأنه الملك ، قال الله تعالى : (فَتَعالَى

__________________

(٢) لم يذكر المؤلف ، رحمه‌الله تعالى ، اسمه تعالى : الرحمن ، الرحيم ، ونقول كما قال سادتنا من المؤلفين :

هما اسمان مشتقان من الرحمة ، فالرحمن الّذي إذا سئل أعطى ، والرحيم الّذي إذا لم يسأل غضب ، وهو الرحمن بالنعماء ، والرحيم بالآلاء ، فالنعماء ما أعطى وحبى ، والآلاء ما عرف وروى ، وهو الرحمن بالإنقاذ من النيران ، والرحيم بإدخال الجنان ، وهو الرحمن بإزالة الكروب والعيوب ، والرحيم بإنارة القلوب بالغيوب ، وهو الرحمن بكشف الكروب ، والرحيم بغفران الذنوب ، وهو الرحمن بغفران السيئات ، الرحيم بقبول الطاعات ، الرحمن بتعليم القرآن ، الرحيم بتشريف التكريم والتسليم.

وقال بعضهم : الرحمن لأهل الافتقار والرحيم لأهل الافتخار ، إذا شهدوا جلاله طاشوا وافتقروا ، وإذا شهدوا جماله عاشوا وافتخروا.

وقيل : الرحمن بما ستر فى الدنيا ، والرحيم بما غفر فى العقبى.

(١) الملك : هو الّذي يستغنى فى ذاته وصفاته عن كل موجود ، ويحتاج إليه كل موجود ، بل لا يستغنى عنه شيء ، لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى وجوده ولا فى بقائه ، بل كل شيء فوجوده منه ، أو مما هو منه ، وكل شيء سواه فهو له مملوك فى ذاته وصفاته ، وهو مستغن عن كل شيء ، فهذا هو الملك المطلق.

اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) (١) ويوصف بأنه الملك ، قال الله تعالى : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٢) ويوصف بأنه مالك الملك ، قال الله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) (٣) ويوصف بأنه المليك ، قال الله تعالى : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٤) فالمالك مشتق من الملك ، والملك مشتق من الملك ، والمليك مبالغة من المالك كالعليم مبالغة من العالم ، والملك مبالغة من المالك ، وأصل الملك فى اللغة الشد والربط ، ومنه قولهم : ملكت العجين إذا بالغت فى عجنه.

ووجه ثان أنه مشتق من القدرة ، قال الشاعر :

ملكت بها كفى فأنهزت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها

ويقال : ملكت كفى بالطعن إذا بالغ فيه ، ويقال لعقد المصاهرة : الإملاك لأنه يرتبط بعقد التزويج وصلة ما بين الزوجين.

وأما حقيقة الملك عنه أهل التحقيق فهو القدرة على الإبداع والإنشاء ، وعلى هذا فلا مالك على الحقيقة إلا الله ، والعبد إذا وصف بالملك فلفظ الملك فى وصفه مجاز (٥) وإن كان أحكام الملك فى مسائل الشرع تكون على

__________________

(١) المؤمنون : ١٦.

(٢) الفاتحة : ٤ ، وراجع شرح اللفظ فى تفسير «روح المعانى فى تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى» للآلوسى، من تحقيقنا.

(٣) آل عمران : ٢٦.

(٤) القمر : ٥٥.

(٥) العبد لا يتصور أن يكون ملكا مطلقا ، فإنه لا يستغنى عن كل شيء ، فإنه أبدا فقير إلى الله تعالى ، وإن استغنى عمن سواه ، ولا يتصور أن يحتاج إليه كل شيء ، بل يستغنى عنه أكثر الموجودات ، ولكن لما تصور أن يستغنى عن بعض الأشياء ولا يستغنى عن بعض الأشياء كان له شوب فى الملك ، فالملك من العباد هو الّذي يملك إلا الله ، بل يستغنى عن كل شيء سوى الله ، وهو مع ذلك يملك مملكته بحيث يطيعه فيها جنوده ورعاياها ، وإنما مملكته الخاصة به قلبه وقالبه ، وجنده شهوته وغضبه وهواه ، ورعيته لسانه وعيناه ويداه ـ

الحقيقة ، فإن كون اللفظ فى الشيء توسعا ومجازا لا يمنع أن تكون أحكام ذلك المسمى فى الشريعة على الحقيقة ، كلفظ الاستنجاء فى الاستنظاف توسع ، ثم لا يمنع أن تكون أحكام الاستنجاء فى الشريعة على الحقيقة.

وقول المخالفين فى حد الملك أنه القدرة على الإطلاق لا يصح لأنه يجب على قضيتهم أن يكون الغاصب مالكا للمغصوب لكونه قاهرا على الغصب ، وهذا محال ، وقول من قال : حقيقة الملك جواز التصرف فى الشيء على الإطلاق احترازا من الولى والوصى والوكيل لأنهم لا يتصرفون على الإطلاق بل يتصرفون بالإذن لا يصح ، لأن الصبى مالك على الحقيقة والمجنون والمحجور عليه مالكان على الحقيقة ، ولا يصح منهم التصرف فبطل ما قالوه.

هذا طرف من الكلام فى معنى الملك والمالك مما يتعلق باللغة ومسائل الأصول ، فأما ما يتعلق من الكلام فيه بطرائق التذكير فعلى أقسام :

منها : أن يقال إن العبد إذا تحقق أن الملك لله تعالى تنكب عن وصف الادعاء وتبرأ من الحول والقوة فى تسليم الأمر لمالكه ولم يعول على اختياره ، ولم يفزع إلى احتياله عند طلب الخلاص من مهالكه ، فلا يقول : بى ، ولا يقول : لى ، ولا يقول : منى.

__________________

ـ وسائر أعضائه ، فإذا ملكها ولم تملكه ، وأطاعته ولم يطعها ، فقد نال درجة الملك فى عالمه ، فإن انضم إليه استغناؤه عن كل الناس واحتاج الناس كلهم إليه فى حياتهم العاجلة والآجلة فهو الملك فى العالم الأرضى ، وتلك رتبة الأنبياء عليهم‌السلام ، فإنهم استغنوا فى الهداية إلى الحياة الآخرة عن كل أحد إلا عن الله ، واحتاج إليهم كل أحد ، يليهم فى هذا الملك العلماء ، وهم ورثة الأنبياء ، وإنما ملكهم بقدر قدرتهم على إرشاد العباد واستغنائهم عن الاسترشاد ، وبهذه الصفات يقرب العبد من الملائكة فى الصفات ، ويتقرب إلى الله تعالى بها ، وهذا الملك عطية للعبد من الملك الحق الّذي لا مثنوية فى ملكه.

ولهذا قال المشايخ : التوحيد إسقاط الياءات ، يريدون الإضافة إلى نفسه (١).

وقيل لبعض المشايخ : ألك رب؟ فقال : أنا عبده وليس لى ملك ، فمن أنا حتى أقول لى.

فصل : فيمن تحقق بملك سيده جل جلاله :

ومن تحقق بملك سيده عاد جمال ذلك لنفسه ، بل شهد بذلك استقلال نفسه ، وفى معناه قيل :

وما ضرنا أنّا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

وحكى عن شقيق البلخى أنه قال : كان ابتداء توبتى أنى رأيت غلاما فى سنة قحط يمرح زهوا ، والناس تعلوهم الكآبة لمقاساة الجدوبة ، فقلت له : يا هذا ، لم هذا المرح؟ أما ترى ما فيه الناس من المحن؟ فقال : ما يحق لى حزن ولسيدى قرية مملوكة يدخر منها ما أحتاج إليه ، فقلت فى نفسى : إن هذا العبد لمخلوق ولا يستوحش لأن لسيده قرية مملوكة ، فكيف يصح أن استوحش وسيدى مالك الملوك ، فانتبهت وتبت.

فصل : من عرف المالك أعتق من هواه :

وإذا ثبت أنه مالك مملك ، كما قال عز من قائل : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) (آل عمران : ٢٦) يملك من عباده من سبقت له عنايته وحقت له فى عموم الأحوال رعايته ، فيملكه هواه ويعتقه من أسر نفسه ومناه ، ويحرره عن رق البشرية ويخلصه من رعونة الإنسانية.

وفى معناه قيل : من ملك النفس فحر ما هو ، والعبد من يملكه هواه.

وحكى أن بعض الأمراء قال لبعض الصالحين : سلنى حاجتك ، قال : أولى

__________________

(١) أى ياءات الإضافة ، كما تقول : كتابى ، ابنى ، فكل شيء لله الملك.

تقول ولى عبدان هما سيداك ، قال : ومن هما ، قال : الحرص والأمل ، فقد غلبتهما وغلباك، وملكتهما وملكاك.

وقال بعض أهل الإشارة فى معنى قوله تعالى : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) (يوسف : ١٠١) أنه أراد بهذا الملك علو النفس حيث امتنع من مراودة امرأة العزيز.

وقد حكى عن بعضهم أنه قال : كنت أمر بعسفان فوقع بصرى على امرأة جميلة فمال إليها قلبى فاستعنت بالله واتقيت ومررت ، فلما نمت تلك الليلة رأيت يوسف ، عليه‌السلام ، فى المنام ، فقلت : أنت يوسف ، فقال : نعم ، فقلت : الحمد لله الّذي عصمك من امرأة العزيز ، فقال لى : والحمد لله الّذي عصمك من العسفانية.

فصل : معرفة المتوحد بالملك تنفى التذلل للمخلوق :

ومن عرف أنه المتوحد بالملك أنف أن يتذلل لمخلوق ، لأن المعرفة بمالكه توجب التجرد له فى التقرب إليه وقصده.

وفى معناه ما حكى عن الساجى فى فصل ما يقول : أيجمل بالحر المريد أن يتذلل للعبيد وهو يجد من مولاه ما يريد.

وقال بعضهم : من عرف الله لم يحتمل غنج (١) المخلوقين ولا فتنهم.

وحكى عن بشر الحافى أنه قال : رأيت أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه فى النوم فقلت له : عظنى يا أمير المؤمنين ، فقال لى : ما أحسن عطف الأغنياء على الفقراء طلبا للثواب ، وأحسن من ذلك تيه الفقراء على الأغنياء ثقة بالله ، فقلت : زدنى يا أمير المؤمنين ، فقال :

قد كنت ميتا فصرت حيا

وعن قريب تصير ميتا

عز بدار الفناء ليت

فابن بدار البقاء بيتا

__________________

(١) أصل الغنج الدلال من المرأة قد تبدى التمنع وهى راغبة.

فصل : من آداب من عرف أن الملك لله تعالى :

ومن آداب من عرف أن الملك لله ، أن يثق بما يرجوه من الله ويأمله فى جميع ما ينفق فيه ويفعله ويذره ويستعمله ويكون بما بيد الله أوثق مما فى يده.

قال سهل بن عبد الله : من لمن يدبر فمولاه يدبره ، وكان الدقاق ، رحمه‌الله ، يقول : من آمن بالخلف لم يحتشم من التلف.

وحكى عن بعضهم أنه قيل لبعض الفقراء حين دخل عليه ولم يجد شيئا من المتاع فى داره : ليس لكم شيء؟ فقال : بلى لنا داران : أحدهما دار أمن والأخرى دار خوف ، فما يكون لنا من الأموال ندخره فى دار الأمن ، يعنى بذلك إنفاقه فى سبيل الله.

وقيل فى بعض الكتب : بشّر من ادخر ماله بحادث أو وارث.

وحكى عن بعض أهل المعرفة أنه قال : كنت أسير فى البادية مع القافلة فتقدمت الرفقة يوما ، فرأيت امرأة تمشى بين يدى القافلة فقلت : إنها ضعيفة ، فسبقت القافلة لئلا تنقطع ، وكان معى دريهمات فأخرجتها من جيبى وقلت لها : خذيها ، فإذا نزلت القافلة فاطلبينى لأجمع لك شيئا لتكترى مركوبا يحملك ، قال : فمدت يدها وقبضت شيئا من الهواء ، وإذا فى يدها دراهم فناولتنى وقالت : أخذت من الجيب وأخذنا من الغيب.

وقال بعضهم : من أمارات التوحيد والثقة بالمعبود كثرة العيال على بساط التوكل ، ومن آداب من كان واثقا بالله تعالى أن لا يحتشم من الإنفاق والبذل فى سبيل الله تحققا بأن الخلف منه تعالى مسجل ، وجميل العقبى مؤجل.

وحكى عن حاتم الأصم أنه كان صائما يوما فلما أمسى قدم إليه فطوره ، فجاء سائل فدفع ذلك إليه فحمل إليه فى الوقت طبق عليه من كل لون من

الأطعمة والحلاوة ، فأتاه سائل آخر فدفعه إليه ، ففتح له بصرة فيها دنانير فى الوقت ، فلم يتمالك أن صاح : الغوث من الخلف ، الغوث من الخلف ، وكان فى جيرانه من يسمى خلفا ، فتسارع الناس إليه وقالوا : لم تؤذى الشيخ حتى يصيح منك وحملوه إليه ، فقال : إنى لم أعنه وإنما عجزت عن شكر الله تعالى على ما يعجل لى من الخلف ... وذكر القصة.

* * *

باب

فى معنى اسمه

٣ ـ القدوس (١)

جل جلاله

القدوس على وزن فعول ، وهو من القدس ، والقدس : الطهارة ، والتقديس التطهير ، والأرض المقدسة : المطهرة ، ومعناه فى وصفه تعالى يعود إلى استحالة النقائص فى وصفه ، وتنزهه من الآفات (٢) وذلك باستكماله نعوت الجلال ، فمن تحقق معنى ذلك فى وصفه علم أنه عزيز لا يرتقى إلى تصوره وهم ، ولا يطمع فى جواز تقديره فهم ، فلا تنبسط فى ملكه بغير تقديره يد حدثان ، ولا يقف مضى أحكامه على نصرة وأعوان ، تاهت العقول فى قفار

__________________

(١) هو : المنزه عن كل وصف يدركه حس أو يتصوره خيال أو يسبق إليه وهم أو يختلج به ضمير أو يقضى به تفكير ، وهو المنزه عن وصف من أوصاف الكمال الّذي يظنه أكثر الخلق.

قال بعض الشيوخ : القدوس من تقدست عن الحاجات ذاته ، وتنزهت عن الآفات صفاته ، وقيل : القدوس من قدس نفوس الأبرار عن المعاصى ، وأخذ الأشرار بالنواصى ، وقيل : القدوس من تقدس عن مكان يحويه وعن زمان يبليه ، وقيل : القدوس الّذي قدس قلوب أوليائه عن السكون إلى المألوفات ، وأنس أرواحهم بفنون المكاشفات.

(٢) اعلم أن القدوس مشتق فى اللغة من القدس ، وهو الطهارة ، ولهذا يقال : البيت المقدس ، أى : المكان الّذي يتطهر فيه من الذنوب ، وقيل للجنة : حظيرة القدس لطهارتها من آفات الدنيا ، وقيل لجبريل ، عليه‌السلام : روح القدس لأنه طاهر عن العيوب فى تبليغ الوحى إلى الرسل عليهم‌السلام.

الحيرة عن الإحاطة بصمديته ، كيف لا ، وهو مستحق لنعت سرمديته ، متوحد بتقدم أزليته، وكلّت الأبصار عند رؤيته عن إدراك حقيقته ، ولم لا والجبروت حقه باستحقاق الملكوت عينه وذاته.

ومن آداب من عرف هذا الاسم أن يطهر نفسه عن متابعة الشهوات ، وماله عن الحرام والشبهات ، ووقته عن دنس المخالفات ، وقلبه عن كدورة الغفلات ، وروحه عن المضاجعات والمساكنات ، وسره عن الملاحظات والالتفاتات ، فلا يتذلل لمخلوق بالنفس التى بها عبده ، ولا يعظم مخلوقا بالقلب الّذي به شهده ، ولا يبالى بما فقده بعد ما ووجده ، ولا يرجع قبل الوصول إليه بعد ما قصده ، فهو من الأعراض والأدناس متصاون ، وبما يفوته من الأغراض وصحبة الأجناس متهاون ، به يقول إذا قال ، وبه يصول إذا صال ، دلت نجوم عقله على ثبوت وجوده ، وأضاءت أقمار علومه بتحقق نعت شهوده ، وطلعت شموس معارفه فأذنت بفنائه وخموده ، تفرد عند أفعاله عن دعواه ، وتجرد فى عموم أحواله عن متابعة هواه ، وأثر فى جميع أوقاته متابعة رضاه.

فصل : آداب من عرف اسمه تعالى القدوس :

ومن آداب من عرف أنه القدوس أن تسمو همته إلى أن يطهره الحق سبحانه من عيوبه وآفاته ، ويقدسه عن دنس عاهاته فى جميع حالاته ، فيحتال فى تصفية قلبه عن كدوراته ، ويرجع إلى الله تعالى بحسن الاستجابة فى جميع أوقاته ، فإن من طهر لله لسانه عن الغيبة طهر الله قلبه عن الغيبة ، ومن طهر لله طرفه عن النظر بالريبة طهر الله سره عن الحجبة.

حكى عن إبراهيم بن أدهم ، رحمه‌الله : أنه مر بسكران مطروح على قارعة الطريق ، وقد تقايأ ، فنظر إليه وقال : بأى شيء أصابته هذه الآفة ، وقد ذكر الله بهذا الفم ، فغسل فه ، فلما أن أفاق السكران أخبر بما فعله إبراهيم بن أدهم

فخجل الرجل وتاب وحسنت توبته ، فرأى إبراهيم بن أدهم فيما يرى النائم كأن قائلا يقول: غسلت فمه لأجلنا ، فلا جرم طهرنا لأجلك قلبه.

وفى الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نظفوا أفواهكم فإنها مجارى القرآن» وروى عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قالك «بنى الإسلام على النظافة».

فصل : العابدون والزاهدون والعارفون :

واعلم أن الحق سبحانه يطهر نفوس العابدين بحسن تأييده عن دنس المخالفات ، واتباع الهوى ، ويطهر قلوب الزاهدين بيمن التسديد عن الرغبة فى الدنيا واستشعار المنى ، ويطهر أسرار العارفين بنور توحيده عما سوى المولى ، فالعابدون متصفون بطاعة الله مقبلون على عبادة الله ، محترقون باستشعار الخلوص فى تقوى الله ، والزاهدون مقيمون على الاكتفاء بوعد الله معرضون عما يوجب التهمة فى ضمان الله ، والعارفون إن قاموا قاموا بالله ، وإن نطقوا نطقوا بالله ، وإن سكتوا سكتوا بالله ، فكيفما دارت أوقاتهم وتصرفت أحوالهم ، الغالب على قلوبهم ذكر الله ، لاح لأسرارهم منه علم فطاح عن إحساسهم (١) كل وصم ، أذاقنا الله مما أذاقهم شمة ، إنه ولى كل نعمة.

__________________

(١) أى : ذهب فلم يحسوا.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤ ـ السلام (١)

جل جلاله

السلام : اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن الكريم ، واختلفوا فى معناه فمنهم من قال : إن معناه ذو السلام ، والسلام بمعنى السلامة كاللذاذ بمعنى اللذاذة ، والرضاع بمعنى الرضاعة ، ومعناه يعود إلى تنزه الرب سبحانه عن الآفات ، وتقدسه عن سمات المخلوقات ، وهو بمعنى القدوس ، وقيل : معناه : ذو السلامة أى منه السلامة لعباده ، ولهذا قيل : إن معنى السلام : أنه سلم المؤمنين من عذابه ، وقيل إنه السلام أى ذو السلام على أوليائه : قال الله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) (٢) وإذا قلنا إنه ذو السلام أى ذو السلامة من الآفات كان من صفات ذاته ، وإذا قلنا إن المؤمنين يسلمون من عذابه كان من صفات فعله.

ومن آداب من عرف أنه السلام أن يسلم منه المؤمنون ، كما ورد فى الخبر

__________________

(١) هو الّذي تسلم ذاته عن العيب وصفاته عن النقص وأفعاله عن الشر حتى إذا كان كذلك لم يكن فى الوجود سلامة إلا وكانت معزوة إليه صادرة منه ، وقد فهمت أن أفعاله تعالى سالمة عن الشر ، أى الشر المطلق المراد لذاته لا لخير حاصل فى ضمنه أعظم منه ، وليس فى الوجود شر بهذه الصفة.

(٢) النمل : ٥٩.

عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ، وقيل لبعضهم : من البر؟ قال : الّذي لا يضمر الشر ، ولا يؤذى الذر.

وحكى عن بعضهم أنه رأى إنسانا يغتاب رجلا فقال : هل غزوت العام الروم؟ فقال: لا ، فقال : وهل غزوت الترك والهند؟ قال : لا ، قال : وكيف تسلم منك الكفار ولم يسلم منك أخوك المسلم؟.

وقيل : إن أبا يزيد البسطامى حضر الجامع يوما فوقف بجنب شيخ ركز عصا له فى الأرض فركز أبو يزيد عصاه ، فوقف على عصا الرجل وأسقط عصاه ، فلما انصرف أبو يزيد من الجامع مضى إلى دار الرجل وقال : إنك احتجت أن تنحنى إلى الأرض لتأخذ عصاك فتعنيت من أجلى ، فاجعلنى فى حل.

وقيل : إن عثمان بن عفان رضى الله عنه عرك أذن (١) غلام له لترك أدب حصل منه ، فقال الغلام : آه ، قد أوجعتنى يا مولاى ، فقال عثمان : خذ أذنى واعركها ، فأبى الغلام ، فألح عليه وقال : لأن تقتص منى فى الدنيا أحب إلى أن تقتص منى فى الآخرة ، فعرك الغلام أذنه ، فقال عثمان : زد ، فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ، إن كنت تخاف من القصاص يوم القيامة فأنا أخافه أيضا.

وحسبك فى هذا الباب ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه اقتص من نفسه».

وسئل بعضهم عن الورع فقال : هو أن تطالب نفسك بما يطالب به الشريك الشحيح شريكه ، فيناقشه فى النقير والقطمير.

__________________

(١) أى : دلكها.

فصل : آداب من تحقق باسمه تعالى السلام :

ومن آداب من تحقق بهذا الاسم أن يعود إلى مولاه بقلب سليم (١) ، والقلب السليم هو الخالص من الغل والغش والحسد والحقد ، ولا يضمر للمسلمين إلا كل خير وخلوص ، وكل صدق ونصح ، ويحسن الظن بكافتهم ويسىء الظن بنفسه ، فيلاحظ أحواله بعين الازدراء ، وأقواله بعين الافتراء ، يعتقد أنه شر الخلق ، كما قيل : إنه إذا رأى من هو أكبر منه سنا قال : هذا خير منى ، لأنه أكثر منى طاعة وعرف الله قبلى ، وإن رأى من هو دونه فى السن قال : هو خير منى لأنه أقل منى معصية.

وقد قال بعض المشايخ : إذا ظهر لك من أخيك عيب فاطلب له سبعين بابا من العذر ، فإن اتضح لك عذر ، وإلا فعد على نفسك باللوم وقل : بئس الرجل أنت حيث لم تقبل سبعين عذرا من أخيك.

وحكى عن معروف الكرخى أنه مر بإنسان يتصدق بماء وهو يقول : رحم الله من يشرب ، فأخذ معروف ذلك الماء وشرب ، فقيل له : أليس كنت صائما؟ قال : بلى ، كنت نويت أن أصوم ولكن قلت : دعوة مسلم لعلها تستجاب.

ومن أمارات من يكون سليم القلب أن ينصح المسلمين ولا ينطوى لهم على سوء وحيلة تخفى ، ويدعو لهم بظهر الغيب ، وبحسن إليهم ويظلم نفسه وينتصف لهم ولا ينتصف منهم.

__________________

(١) كل عبد سلم عن الغش والحقد والحسد واردة الشر قلبه وسلم عن الآثام والمحظورات جوارحه وسلم عن الانتكاس والانعكاس صفاته فهو الّذي يأتى الله بقلب سليم ، وهو السلام من العباد القريب فى وصفه من السلام المطلق الحق الّذي لا مثنوية فى صفته ، ومعنى الانتكاس فى صفاته أن يكون عقله أسير شهوته وغضبه ، إذ الحق عكسه ، وهو أن تكون الشهوة والغضب أسير العقل وطوعه فإذا انعكس فقد انتكس ولا سلامة ، حيث يصير الأمير مأمورا ، والملك عبدا ، ولن يوصف بالسلام والإسلام إلا من سلم المسلمون من لسانه ويده ، فكيف يوصف به من لم يسلم هو من نفسه.

وحكى أن بهلولا كان الصبيان يؤذونه ويرمونه بالحجارة وهو يقول : إن كان ولا بد فارمونى بالصغار من الأحجار لئلا أحتاج إلى غسل الدم ، فقيل له فى ذلك ، فأنشد :

حسبى الله وتكلانى عليه

من نواصى الخلق طرا فى يديه

رب راض لى بأحجار الأذى

لم أجد بدا من العطف عليه

فعسى يطلع الإله على فرح ال

قوم فيدنينى إليه

وقد قال بعض المشايخ : كن فى التصوف ذنبا (ذيلا) ولا تكن رأسا ، فإن علل الرأس كثيرة ، معناه سلم للناس التقدم عليك يطب لك العيش ، فمن رضى بدون قدره رفعه الله فوق غايته.

واعلم أن الناس يرضون منك باليسير ، ولهذا قالوا : كيلوا عن الناس من هذه الرخيصة ، يعنى ما استسر به أشكالك من تسليمك لهم تقدمهم عليك ، وقد روى فى الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم» قالوا : يا رسول الله : ومن أبو ضمضم؟ قال : «رجل كان إذا خرج من منزله قال : اللهم إنى تصدقت بعرضى على عبادك» وسمعت منصورا المغربى يقول : كان شيخ من المشايخ بالشام أو بالمغرب له أصحاب فجاءه إنسان فقال : إنى أريد أن أخدم هؤلاء الفقراء ، فقال الشيخ : ما اسمك؟ فقال : عيى ، وكان يخدمهم وكل من له شغل كان يستعمله فيه ، فجرى يوما بين هذا الشيخ وبين شيخ آخر مسألة فتنازعا فيها ، فقال الشيخ للآخر تعال نتحاكم إلى أحد ، فقال :

إلى من تريد؟ فقال : إلى عيى ـ على جهة الاستخفاف به والثقة بأن الصواب فيما يقوله ـ فتحاكما إليه ، فقال عيى : أى شيء قلتما فذكرا له ما قالا فقال : أخطأتما جميعا ، والصواب : كيت وكيت ، فقام الشيخ وقبل رأسه ، وقال : أنت أحق بأن تكون أستاذا ، وأكرموه ، فقام وفارقهم وقال : إنما طاب العيش معكم حيث كنت عييا (١) وكنت مستورا فيكم.

__________________

(١) العيى : العاجز عن التعبير اللفظى بما يفيد المعنى المقصود وعدم الاهتداء لوجه المراد والعجز عن أدائه.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٥ ـ المؤمن (١)

جل جلاله

المؤمن : اسم من أسمائه تعالى ، ورد به نص القرآن الكريم ، ومعناه المصدق ، فإن حقيقة الإيمان فى اللغة هو التصديق ، ومعناه فى وصفه تعالى تصديقه لنفسه ، وهو علمه سبحانه وتعالى بأنه صادق ، ويكون تصديقه لعباده هو علمه بأنهم صادقون ، ويكون أيضا بمعنى تصديقه بوعده ووعيده ، وهو أن يفعل ما وعد به وأوعد ، فعلى هذا يكون من صفات فعله ، ويكون معنى المؤمن من الأمان الّذي هو الإجارة ، يقال : أمنه يؤمنه إذا أجاره ، وذلك إذا أعطى الأمان لمن استعاذ به ، فيكون هذا من صفات فعله ، فالعبد يؤمن بالله سبحانه ، والحق تعالى يؤمّن العبد.

ومن آداب من تحقق بهذا الاسم أن يخلص فيما يثبت من هذه التسمية فيصدق فى إيمانه ، وصدقه فى الإيمان تحققه بالدلائل والبرهان ، ثم ينظر فيما قال الناس فى معنى هذه الصفة التى هى إيمان العبد فيأتى بجميع ما قيل فى

__________________

(١) هو الّذي يعزى إليه الأمن والأمان بإفادته أسبابه وسده طرق المخلوق ولا يتصور أمن إلا فى محل الخوف ، ولا خوف إلا عند إمكان العدم والنقص والهلاك ، والمؤمن المطلق هو الّذي لا يتصور أمن وأمان إلا ويكون مستفادا من جهته ، وهو الله تعالى ، وليس يخفى أن الأعمى يخاف أن يناله هلاك من حيث لا يرى ، فالعين البصرية تفيده أمنا منه ، والأقطع يخاف آفة أنه لا تندفع إلا باليد ، فاليد السليمة أمان منها ، وهكذا جميع الحواس والأطراف.

ماهية الإيمان من الإقرار والمعرفة والخضوع وترك الاستكبار والمحبة واجتناب الكبائر ، فإذا استوفى جميع ذلك من نفسه وقف عند الدعوى ، فإذا قيل له : أمؤمن أنت؟ يقول : إن شاء الله ، فيكون قائما بحق المعنى قاعدا عن وصف الدعوى.

واعلم أن الموافقة فى الأسماء لا تقتضى المشابهة فى الذوات ، فيصح أن يكون الحق سبحانه مؤمنا والعبد يكون مؤمنا ، ولا يقتضي مشابهة العبد الرب ، ألا ترى أن الخلافين يشتركان فى الاسم ولا يشتبهان فى المعنى (١).

ومما يتعلق بهذا الباب من طريق التذكير أن يقال : إن الملوك يأبون أن يجسر أحد من رعيتهم أن يتسمى باسم الملك ، والله سبحانه سمى نفسه المؤمن وسمى العبد مؤمنا وسمى عباده المؤمنين ، وهذا لطف منه سبحانه بهم ، وقيل ينادى غدا فى القيامة مناد : إن كل من هو سمىّ نبى من الأنبياء من المؤمنين فليدخل الجنة ، فيبقى أقوام من المؤمنين فيقال لهم : من أنتم؟ فيقولون : نحن

__________________

(١) حظ العبد من هذا الوصف أن يأمن الخلق كلهم جانبه ، بل يرجو كل خائف الاعتضاد به فى دفع الهلاك عن نفسه فى دينه ودنياه كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأمن جاره بوائقه» وأحق العباد باسم المؤمن من كان سببا لأمن الخلق من عذاب الله بالهداية إلى طريق الله والإرشاد إلى سبيل النجاة ، وهذه حرفة الأنبياء والعلماء ، ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنكم تتهافتون فى النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم» ولعلك تقول على الحقيقة من الله فلا مخوف إلا إياه ، فهو الّذي خوف عباده ، وهو الّذي خلق أسباب الخوف ، فكيف ينسب إليه الأمن ، فالجواب : أن الخوف منه والأمن منه ، وهو خالق سبب الخوف والأمن جميعا ، وكونه مخوفا لا يمنع كونه مؤمنا ، كما أن كونه مذلا لا يمنع كونه معزا ، بل هو المعز والمذل ، وكونه خافضا لا يمنع كونه رافعا ، بل هو الخافض الرافع ، فكذلك هو المؤمن المخوف ، ولكن المؤمن ورد به التوقيف به خاصة دون المخوف ، وكما قلنا فإن أسماء الله تعالى توقيفية لا بد من ورود خبر بها.

من لم يوافق اسمه اسم نبى ، فيقول الله تعالى : أنا المؤمن ، وأنا سميتكم المؤمنين ، فيدخلهم الجنة.

ويحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال فى مناجاته : إلهى سميتنى مسلما فتفاءلت به ، وقلت : سلمت من عذابك ، وسميتنى مؤمنا فتفاءلت به ، وقلت : أمنت من عذابك ، ورزقتنى شيبة وقلت : الشيب نورى ، فتفاءلت به ، وقلت : لا تحرق نورك بنارك.

فصل : إجارة الله لعبده وأمانه :

وإذا كان أحد معانى اسمه المؤمن أنه يؤمن عباده ويجيرهم فاعلم أن إجارته وأمانه للعبد على قسمين : مؤجل ومعجل ، فالمؤجل فى القيامة فى الجنة ، قال الله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) (١) ، والمعجل على أقسام ، لكل عبد على حسب ما يليق بوقته ، فمنهم من يؤمنه من خواطر الشيطان التى تقدح فى الإيمان بما يتيح لقلوبهم من واضح البرهان ويتيح لأسرارهم من لائح البيان ، حتى إذا عارضهم بوارح الشكوك ، وناظرهم من هو فى حكم المخالف فى عقد الفقه غيروا فى وجه الشبهة وردوا بالحجج على أصحاب البدعة ، قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٢) لا يتداخلهم شك ، ولا يتخالجهم ريب ، ولا تعارضهم مرية ، ولا تنازعهم شبهة الناس فى أسر التهمة وكرب الغمة وامتداد الظلمة ، وهم فى روح اليقين والنور المبين ، وفى معناه أنشدوا :

ليلى من وجهك شمس الضحى

وإنما الشرقة فى الجو

__________________

(١) الأنعام : ٨٢.

(٢) الأعراف : ٢٠١.

فالناس فى الظلمة من ليلهم

ونحن من وجهك فى الضوء

وكان الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، كثيرا ما ينشد :

إن شمس النهار تغرب بالليل

وشمس القلوب ليس يغيب

وأنشد بعضهم :

هى الشمس إلا أن للشمس غيبة

وهذا الّذي نعنيه ليس بغيب

ومما يؤمن أولياءه منه هواجس النفوس ودواعى الزلات ونوازع المخالفات ، حتى لا تدعوه نفسه إلى ارتكاب محظور ، ولا يكون له إلى اقتحام المخالفات ميل نفس ونوازع طبع.

ويحكى عن أبى يزيد أنه قال : كنت هممت أن أدعو الله سبحانه حتى يكفينى شهوات النساء ، ثم قلت : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يسأل عن ذلك ، فتركت هذا الدعاء ، فمن بركات اتباع السنة كفانى الله تعالى شهوة النساء حتى لا أميز بين امرأة تستقبلنى وجدار.

وحكى أن بعض الأكابر سئل : كيف تصير على العزوبة؟ فقال : قاسيت مشقة ذلك سنة ، ثم إن الله سبحانه سهّل ذلك حتى لم تبق لى مطالبة.

فصل : مما يؤمن الله تعالى منه :

ومما يؤمن أولياءه منه خوف الفقر ورعب لحوق الضر ، حتى يكون فارغ الكف طيب النفس ساكن السر ، يثق بموعود ربه كما يثق أرباب الغفلة بمعلوم النفس ومكاسبها.

وسأل أبا يزيد رجل عن سبب معيشته ، وكان قد صلى أبو يزيد خلفه فقال : اصبر حتى أعيد الصلاة التى صليت خلفك حيث شككت فى أرزاق المخلوقين.

وقيل لبعضهم : من أين يأكل فلان؟ فقال : من عرف خالقه لم يشك فى رازقه ، وإن خوف الفقر قرينة الكفر ، وإن حسن الثقة بالرب نتيجة الإيمان.

يحكى عن أبى بكر الكتانى أنه قال : منذ كذا سنة ما خطر ببالى ذكر الطعام حتى يقدم إلى.

وحكى عن بعضهم أنه قال : كنت أخدم الكتانى فى المدينة ، وكان يصوم ، فكنت أقدم إليه كل ليلة ما يفطر عليه وأمضى ، فكنت أرى فيه أثر الضعف والنحول ، فراقبته ليلة فجاء إنسان ووقف عليه فسأله ، فأومأ إلى الطعام ، فحمله الرجل ومضى ، فقفوت أثر الرجل وقلت له : أخبرنى عن القصة ، فقال : هذا الشيخ منذ ليال يعطينى كل ليلة رغيفين ، وكان ذلك ما أقدمه إليه ، فحملت إليه طعاما آخر وقلت : هلا قلت لى حتى أحمل إليك شيئا آخر؟ فقال : كنت أنسى كل ليلة أنى لم آكل شيئا.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٦ ـ المهيمن (١)

جل جلاله

اعلم أن المهيمن اسم من أسمائه تعالى ، نزل به نص القرآن فى قوله : (الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) واختلفوا فى معناه ، فقال بعضهم : إنه بمعنى الرقيب الحافظ ، وقيل هو الأمين ، وقال الكسائى : هو : الشهيد ، وقال المبرد : أصله المؤيمن ، ثم قلبت الهمزة هاء ، كما قالوا : أرقت الماء وهرقته ، وإياك وهياك ، وأرجت وهرجت ، وبابه ، وعلى هذا التأويل فهو بمعنى المؤمن فذكر على

__________________

(١) معناه فى حق الله تعالى أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم ، وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه ، وكل مشرف على كنه الأمر مستول عليه حافظ له فهو مهيمن عليه ، والإشراف يرجع إلى العلم والاستيلاء إلى كمال القدرة والحفظ إلى العقل ، فالجامع بين هذه المعانى اسمه المهيمن ، ولن يجمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا الله تعالى ، ولذلك قيل : إنه من أسماء الله تعالى فى الكتب القديمة.

وقال بعض المشايخ : المهيمن من كان على الأسرار رقيبا ، ومن الأرواح قريبا ، قال تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) (التوبة : ٧٨) وقيل : المهيمن الّذي يشهد خواطرك ، ويعلم سرائرك ، وينصر ظاهرك ، وقيل : المهيمن الّذي يقبل من رجع إليه بصدق الطوية ، ويدفع عن نفسه الغضب والبلية ، وقيل : المهيمن الّذي يعلم السر والنجوى ويسمع الشكر والشكوى ويدفع الضر والبلوى.

الأصل ، لأن مؤمنا كان فى الأصل مويمنا ، وقد جاء بعض هذا البناء على الأصل كقول القائل :

وصاليات ككما يؤتفين

وكقول القائل : كساء مورنب ، وأراد به مرنب.

وقد مضى بعض معنى المؤمن فى وصفه ، وأما إذا كان بمعنى الرقيب والحفيظ والشهيد والأمين فمعناه ظاهر فى وصفه ، وسيجيء بيان هذه الأسماء فى موضعها إن شاء الله تعالى.

وقد قال العباس بن عبد المطلب فى مدح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

حتى احتوى بيتك المهيمن

من خندف علياء تحتها النطق

قيل : معناه حتى احتويت أنت أيها المهيمن من خندف علياء ، وبيته شرفه ، والعرب تقول : فلان كريم البيت أى كريم الشرف ، والمهيمن فى هذا البيت يراد به الأمين ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمينا ، وكان يسمى الأمين قبل النبوة ، وإذا قيل : إنه بمعنى الشاهد فيكون معناه أنه الرائى والمدرك والعالم بالخفيات والمطلع عليها. آداب من تحقق باسمه تعالى المهيمن :

ومن آداب من تحقق بهذا الاسم أن يكون مستحييا من محل اطلاعه عليه محتشما من رؤيته ، وهذا المعنى يسمى المراقبة فى لسان أهل المعاملة ، ومعناه علم القلب باطلاع الرب.

وقال أبو محمد الجريرى : من لم يحكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة (١).

__________________

(١) كل عبد راقب حتى أشرف على غواره وأسراره ، واستولى مع ذلك تقويم أحواله وأوصافه ، ـ

وكان الشيخ أبو على الدقاق يحكى أن بعض الأمراء كان له وزير ، وكان بين يديه يوما فسمع بعض الغلمان يحدث بعضا ، فنظر الوزير إلى من يحدث ، فاتفق أن الأمير نظر إلى الوزير فخاف الوزير أن الأمير توهم بأنه نظر إلى ذلك الغلام بالريبة فجعل ينظر إليه ليرى من نفسه أن ذلك حول فيه ، فكان يدخل على الأمير كل يوم على ذلك الوصف حتى توهم الأمير أن ذلك فيه خلقة.

فإذا كان المخلوق يراعى من مخلوق كل هذه المراعاة فأولى بالعبد أن يستحيى من ربه فيترك ما نهاه عنه لعلمه بأنه يراه.

وحكى أن إبراهيم بن أدهم كان يصلى قاعدا فجلس ومد رجله ، فهتف به هاتف : أهكذا تجالس الملوك؟

وكان الجريرى لا يمد رجله فى الخلوة ، فقيل : إنه ليس يراك أحد وقد خلوت بنفسك ، فهلا تمد رجلك؟ فقال : حفظ الأدب مع الله أحق ، وفى معناه أنشدوا :

كأن رقيبا منك يرعى خواطرى

وآخر يرعى ناظرى ولسانى

فما رمقت عيناى بعدك منظرا

يسوؤك إلا قلت قد رمقانى

وما خطرت فى السر منى خطرة

لغيرك إلا عرجا بعنانى

__________________

ـ وقام بحفظها على الدوام على مقتضى تقويمه ، فهو مهيمن بالإضافة إلى قلبه ، فإن اتسع إشراقه واستيلائه حتى قام بحفظ عباد الله على نهج السداد بعد اطلاعه على بواطنهم وأسرارهم بطريق التفرس والاستدلال بظواهرهم كان نصيبه من هذا المعنى أوفر حظا وأتمه.

وإخوان صدق قد سئمت حديثهم

وأمسكت عنهم ناظرى وجنانى

وما الدهر أسلو عنهم غير أننى

وجدتك مشهودى بكل مكان

فخاطبت موجودا بغير تكلم

ولاحظت معلوما بغير عيان

وإذا قيل : إن معنى المهيمن هو الأمين ، فالأمن فى وصفه يكون بمعنى كونه عدلا فى أفعاله ، ويعود ذلك إلى استحقاقه لصفات جلاله ، إذ كل ما يفعله فهو منه عدل ، ولا يخشى منه حيف ، لأن تقدير وجود القبيح منه محال.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧ ـ العزيز (١)

جل جلاله

العزيز اسم من أسمائه تعالى ورد به القرآن والأخبار الصحيحة وأجمعت الأمة عليه ، وتكلموا فى معناه فقال بعضهم : معناه : الغالب الّذي لا يغلب ، والقاهر الّذي لا يقهر ، يقال : عز يعز إذا غلب ، بضم العين فى المستقبل ، قال الله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) (٢) أى غلبنى ، وفى المثل : من عز بز (٣) ،

__________________

(١) هو الخطير الّذي يقل وجود مثله ، وتشتد الحاجة إليه ، ويصعب الوصول إليه ، فما لم تجتمع له هذه المعانى الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز ، فكم من شيء يقل وجوده ولكن لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا ، وكم من شيء يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولا يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزا ، كالشمس مثلا ، فإنها لا نظير لها ، والأرض كذلك ، والنفع عظيم فى كل واحد منهما والحاجة شديدة إليهما ، ولكن لا يوصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما ، فلا بد من اجتماع المعانى الثلاثة ، ثم لكل واحد من المعانى الثلاثة كمال ونقصان ، فالكمال فى قلة الوجود أن يرجع إلى واحد ، إذ لا أقل من الواحد ، ويكون بحيث يستحيل وجود مثله ، وليس هو إلا الله تعالى ، فإن الشمس وإن كانت واحدة فى الوجود فليست واحدة فى الإمكان ، فيمكن وجود مثلها فى الكمال والنفاسة ، وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء فى كل شيء حتى فى وجوده وبقائه وصفاته ، وليس ذلك على الكمال إلا لله تعالى ، فلا يعرف الله تعالى إلا الله تعالى ، فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه فيه غيره.

(٢) ص : ٢٣.

(٣) بز بمعنى غلب ، ومعنى المثل هنا : من غلب على خصمه فى الحرب سلبه.

بزاى ، من غلب سلب ، وقيل : العزيز الّذي لا مثل له ، يقال : عز الشيء يعز ، بكسر العين فى المستقبل (١) ، أى صار عزيزا ، يقال : عز الطعام فى البلد إذا قل وجود مثله ، فإذا كان من يقل وجوده عزيزا فالذى لا مثل له أولى أن يكون عزيزا ، وقيل : العزيز فى وصفه بمعنى القادر القوى ، يقال : عز يعز ، بفتح العين فى المستقبل ، إذا اشتد ، قال الله عزوجل : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) (يس : ١٤) أى قوّينا ، والأرض الصلبة التى لا تستقل عليها الأقدام تسمى عزازا لقوتها ، وقيل : العزيز الممتنع ، وهو الّذي لا يوصل إليه ، يقال : حصن عزيز إذا تعذر الوصول إليه ، فإذا قيل لما يتعذر الوصول إليه مع جوازه : عزيز ، فالذى يستحيل الوصول إليه أولى أن يكون عزيزا ، إذ لا حد له.

وقيل : العزيز فى وصفه تعالى هو المعز ، والفعيل بمعنى المفعل فى كلام العرب كثير ، كالأليم بمعنى المؤلم ، والوجيع بمعنى الموجع ، وما أشبه ذلك ، فهذا الوجه الواحد فى وصفه من صفات الفعل ، وما ذكرنا قبله من صفات الذات.

هذا طرف مما قاله أهل اللغة وأصحاب الأصول فى معنى اسمه العزيز ، على لسان أهل الظاهر.

وأما على طريق أهل الإشارة فيجىء الكلام فيه على وجوه ، منها : أن معنى العزيز هو الّذي لا يدخر من خدمه عن خدمته شيئا ولا يؤثر من عرفه هواه على رضاه ، فيقضى حقوقه فرضا ، ولا يرى أحد لنفسه عليه حقا ، وفى قريب من هذا المعنى أنشد بعضهم :

ويذكرنها جاراتها فيزرنها

وتقعد عن إتيانهن فتعذر

__________________

(١) يعنى فى صيغة المضارع.

فالعزيز من يمتنع فيشكر ، ويبتلى فلا يشكو من يعرفه ولا يضجر ، يستلذ لحكمته الهوان ، ويستحلى منه الحرمان دون الإحسان ، وفى معناه أنشدوا :

وأهنتنى فأهنت نفسى صاغرا

ما من يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائى فصرت أحبهم

إذا كان حظى منك حظى منهم

وكان الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، كثيرا ما يقول : إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى.

واعلم أن القلوب مجبولة على أن تتحمل المشاق من الأكابر والأعزة ، والانقياد إلى أحكام من تجل رتبته بمواطأة القلب حتم مستحسن ، ولهذا قيل : إنما يعرفه عزيزا من أعز أمره وطاعته ، فأما من استهان بأوامره فمن المحال أن يكون متحققا بعزة مولاه.

وفى هذا المعنى حكى أن رجلا قال لبعض العارفين : كيف الطريق إليه؟ فقال : لو عرفته عرفت الطريق إليه ، فقال : أتراني أعبد من لا أعرفه؟ فقال المسئول : أو تعصى من تعرفه.

وقيل لبعضهم : ما علامة أنك تعرفه؟ فقال : لا أهم بمخالفته إلا نادانى من قلبى مناد : أستحي منه.

وقيل لبعضهم : متى عرفته؟ فقال : ما عصيته منذ عرفته.

وقيل : العزيز من لا يرتقى إليه وهم طمعا فى تقديره ولا يسمو إلى صمديته ، فهم قصد إلى تصوير ، وقيل العزيز من ضلت العقول فى بحار عظمته ، وحارت الألباب دون إدراك نعمته ، وكلت الألسن عن استيفاء مدح جلاله ، ووصف جماله ، وفى معناه أنشدوا :

وكل من أغرق فى نعته

أصبح منسوبا إلى العى

قال سيد الأولين والآخرين وخطيب المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله أجمعين ، بعد ما بالغ فى ثنائه سبحانه وتعالى ونعت كبريائه : لا أحصى ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك.

فصل : آداب من عرف أنه العزيز جل جلاله :

ومن آداب من عرف أنه العزيز أن لا يعتقد لمخلوق إجلالا (١) ، ولهذا قالوا : المعرفة حقر الأقدار سوى قدره ، ومحو الأذكار سوى ذكره ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تواضع لغنى لأجل غناه ذهب ثلثا دينه».

سمعت الدقاق يقول : إنما قال : «ذهب ثلثا دينه» لأن المرء بثلاثة أشياء : قلبه ، ولسانه ، وبدنه ، فإذا تواضع بلسانه وبدنه ذهب ثلثا دينه ، فلو اعتقد بقلبه ما حصل منه لسانه وبدنه للغنى لأجل غناه من التواضع لذهب دينه كله ، وقيل : إذا عظم الرب فى القلب صغر الخلق فى العين.

__________________

(١) والعزيز من العباد من يحتاج إليه عباد الله تعالى فى أهم أمورهم ، وهى الحياة الأخروية والسعادة الأبدية ، وذلك مما يقل ـ لا محالة ـ وجوده ويصعب إدراكه ، وهذه رتبة الأنبياء ، صلوات الله عليهم ، ويشاركه فى العز من يتفرد بالقرب من درجتهم فى عصره كالخلفاء الراشدين وورثتهم من العلماء ، وعن كل واحد منهم بقدر علو مرتبته عن سهولة النيل والمشاركة ، وبقدر عنائه من إرشاد الخلق.

فصل : العز فى طاعة الله تعالى :

وإذا عرف أنه المعز لم يطلب العز إلا منه ، ولا يكون العز إلا فى طاعته سبحانه.

وقال ذو النون المصرى : لو أراد الخلق أن يثبتوا لأحد عزا فوق ما يثبته اليسير من طاعته لم يقدروا ، ولو اجتمع الخلق على أن يوجبوا لأحد ذلا أكثر مما يوجبه اليسير من ذلته ومخالفته لم يقدروا.

وقد حكى أن رجلا أمر بالمعروف هارون الرشيد فحنق عليه ، وكانت له بغلة سيئة الخلق ، فقال : اربطوه معها تقتله برمحها ، ففعلوا ذلك فلم تضره ، فقالوا : اطرحوه فى بيت وطينوا عليه الباب ففعلوا ، فرئى فى بستان وباب البيت مسدود ، فأخبر هارون بذلك ، فأتى بالرجل وقال : من أخرجك من البيت؟ فقال : الّذي أدخلني البستان ، فقال : ومن أدخلك البستان؟ قال : الّذي أخرجنى من البيت ، فقال : أركبوه دابة وطوفوا به البلد وليقل قائل : ألا إن هارون أراد أن يذل عبدا أعزه الله فلم يقدر.

وحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت رجلا فى الطواف وبين يديه شاكرية ، أى خدم.

قال القاموس : والشاكرى : الأجير ، والمستخدم معرب چاكر. انتهى.

والخدم يطردون الناس عنه ، فبعد ذلك بمدة رأيت إنسانا يتكفف على جسر بغداد ويسأل شيئا ، قال : فكنت أنظر إليه وشبهته بذلك الرجل ، فقال : إيش تنظر؟ فقلت : شبهتك برجل رأيته فى الطواف من شأنه كذا وكذا ، فقال : أنا ذاك الرجل ، إنى تكبرت فى موضع يتواضع الناس فيه فوضعنى الله فى موضع

يرتفع الناس فيه ، قال الله سبحانه : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (١) فليس إعزازه لعلة ولا إذلاله لعلة ، بل هما حاصلان بالقضاء والمشيئة ، صادران عن الإرادة والقضية.

ويليق بهذا الباب أن نذكر طرفا من معنى قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (٢) وقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) وكيف الجمع بينهما.

إن إحدى الآيتين توجب انفراده تعالى بالعزة ، والثانية تشير إلى أن لغيره عزة ، ولا منافاة بينهما بالحقيقة ، لأن العز الّذي للرسول وللمؤمنين فهو لله تعالى ملكا وخلقا ، وعزته سبحانه له وضعا ، فإذا العز كله لله تبارك وتعالى.

__________________

(١) آل عمران : ٢٦.

(٢) فاطر : ١٠.

(٣) المنافقون : ٨.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨ ـ الجبار (١)

جل جلاله

الجبار اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وتكلم الناس فى معناه فمنهم من قال : هو مأخوذ من قولهم : نخلة جبار إذا فاتت الأيدى ، قاله ابن الأنبارى وغيره ، فيكون فى وصفه أنه لا تناله يد جائرة ، ولا تنازعه معارضة ، بل له العظمة والجبروت ، والعزة والملكوت ، فيكون هذا من صفات ذاته لأنه إخبار عن وجوده على وصف السمو والجلال(٢).

وقيل : الجبار هو المتكبر ، والجبروت هو المتكبر ، يقال : جبار بيّن الجبرية ، إلا أن التكبر فى وصف الخلق مذموم ، وفى وصف الله سبحانه

__________________

(١) هو الّذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار فى كل أحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد ، والّذي لا يخرج أحد عن قبضته ، وتقصر الأيدى دون حمى حضرته ، فالجبار المطلق هو الله تعالى ، فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد ، ولا مثنوية فى حقه فى الطرفين.

(٢) المتخلق بهذه الصفة من العباد من ارتفع عن الاتباع ونال درجة الاستتباع ، وتفرد بعلو رتبته ، بحيث يجبر الخلق بهيئاته وصورته على الاقتداء به ومتابعته فى سمته وسيرته فيفيد الخلق ولا يستفيد ، ويؤثر ولا يتأثر ويستتبع ولا يتبع ، ولا يشاهده أحد إلا ويفنى عن ملاحظة نفسه ، ويصير متشوقا إليه غير ملتفت إلى ذاته ، ولا يطمع أحد فى استدراجه واستتباعه ، وإنما حظى بهذا الوصف سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى ، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر».

وتعالى محمود ، وهذا أيضا من صفات ذاته لأن تكبره هو استحقاقه لصفات العلو وتقدسه عن النقائص ولوجوده هو كذلك.

وقيل : الجبار من قولهم : جبرته على الأمر وأجبرته أى : أكرهته ، وأجبرته فى الإكراء أكثر من قولهم جبرته ، فيكون على هذا أنه يحصل مراده من خلقه ، ولا يجرى فى سلطانه إلا ما يريد ، شاء الخلق أم أبوا ، أو الإكراه من صفات الفعل ، وقيل : إن الجبار من قولهم: جبرت الكسر إذا أصلحته ، يقال : جبرت العظم وأجبرته ، وجبرت أكثر فى الاصطلاح من أجبرت ، قال الشاعر :

قد جبر الدين الإله فجبر

وعلى هذا يكون من صفات فعله ، والاسم إذا احتمل معانى مما يصح فى وصفه فمن دعاه بذلك الاسم فقد أثنى عليه بتلك المعانى ، فهو الجبار على معنى أنه عزيز متكبر محسن إلى عباده ، لا يجرى فى سلطانه شيء يخالف مراده.

آداب من عرف اسمه تعالى الجبار :

فأما آداب من عرف أنه لا تناله الأيدى لعلو قدره فهو أن يتحقق بأنه لا سبيل إليه ، ولا بد له من الوقوف بين يديه ، فلا يصيب العبد منه إلا لطفه وإحسانه ليوم عرفانه ، وغدا غفرانه ، ثم ثوابه وامتنانه وعفوه ورضوانه ، وأنشدوا :

فلا نيل إلا ما تزود ناظر

ولا وصل إلا بالخيال الّذي يسرى

وقلن لنا نحن الأهلة إنما

نضىء لمن يسرى إلينا ولا نقرى

فصل : فوض أمورك إلى الجبار :

وإذا علم أن الجبار بمعنى مصلح الأمور ، فوض أموره إلبه ، وتوكل فى جميع أحواله عليه ، إن كان خيرا علم أنه مسديه ومتحفه ، وإن كان ضرا علم أنه ينجيه منه ويكشفه ، لم يحتشم من اختلال أحواله وقلّة ماله ، وكثرة عياله ، وضعف احتياله ، ثقة بلطفه وأفضاله ، واستكانة إلى جوده وكريم نواله وحسن أفعاله.

وقد حكى أن رجلا كان كثير العيال ، وأنه ضاقت عليه أسباب المعيشة فهمّ أن يهرب عنهم ، فاستقبله شخص فقال له : هل تأجرنى على أن تسقى طيرا لى فى القفص فترويه وتأخذ منى دينارا ، فاسترخص الرجل ذلك ، وأجابه إليه ، فدله على بئر وقال : تستقى من هذا البئر وتروى هذا الطائر ، فلم يزل الرجل يسقى الطائر طول نهاره إلى المساء ، والطائر لم يرو ، فلما أمسى ضاق صدر الرجل ، فقال له ذلك الشخص : إنى لست ببشر ، وإنما أنا ملك بعثنى الله إليك ليريك ضعفك ، إنك لم تقدر أن تروى طائرا ، فكيف ترزق عيالك! ارجع إليهم وانتظر الرزق من الله تعالى ، فإنه هو الرزاق لا أنت.

وحكى عن بعض الصالحين أنه سئل عن سبب توبته فقال : إنى كنت رجلا دهقانا (الدهقان يطلق على رئيس القرية) فاجتمع عليّ أشغال ليلة من الليالى ، كنت أحتاج إلى أن أسقى زرعا لى ، وكنت حملت حنطة إلى الطاحونة فوثب حمارى وضل ، فقلت : إن اشتغلت بطلب الحمار فات سقى الزرع ، وإن اشتغلت بالسقى ضاع الطحين والحمار ، وكان ذلك ليلة الجمعة ، وبين قريتى وبين الجامع مسافة بعيدة ، فقلت : أترك هذه الأمور كلها وأمضى إلى القصبة (١)

__________________

(١) القصبة من البلاد مدينتها.

لأدرك غدا صلاة الجمعة ، فمضيت وصليت ، فلما انصرفت اجتزت بالزرع فإذا هو قد سقى ، فقلت من سقى هذا؟ فقيل : إن جارك أراد أن يسقى زرعه فغلبته عيناه وانفتق السد فدخل الماء زرعك ، فلما وافيت باب الدار إذا أنا بالحمار على المعلف ، فقلت : من ردّ هذا الحمار؟ فقالوا : صال عليه الذئب والتجأ إلى البيت ، فلما دخلت الدار إذا أنا بالدقيق موضوع هناك ، فقلت : كيف سبب هذا؟ فقالوا : إن الطحان طحن هذا بالغلط ، فلما علم أنه لك رده إلى المنزل ، فقلت : ما أصدق ما قيل : من كان لله كان الله له ، ومن أصلح لله أمرا أصلح الله أموره ، فتركت الدنيا وتبت إلى الله تعالى.

* * *

فصل : اترك ما تهواه وانقد إلى حكم مولاك :

وإذا علم أنه يجبر الخلق على مراده وعلم أنه لا يجرى فى سلطانه ما يأباه ويكرهه ترك ما يهواه وانقاد لما يحكم به مولاه ، فيستريح من كد الفكرة وتعب التدبير.

وفى بعض الكتب : عبدى تريد وأريد ، فلا يكون إلا ما أريد ، فإن رضيت بما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم ترض بما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد.

وقد قيل :

سيكون الّذي قضى

سخط العبد أم رضى

فدع الهم يا فتى

كل هم سينقضى

وقيل :

ملكت نفسى وكنت عبدا

فزال رقى وطاب عيشى

أصبحت أرضى بحكم ربى

إن لم أكن راضيا فأيش (١)

__________________

(١) فما ذا أفعل؟.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٩ ـ المتكبر (١)

جل جلاله

المتكبر اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وتكبره وكبرياؤه ورفعته وعلاه ومجده وسناؤه وعلوه وبهاؤه ، كل ذلك إخبار عن استحقاقه لنعوت الجلال ، وتقدسه عن النقائص والآفات ، وكل ذلك يعود إلى ذاته ووجوده ، على ما وصف.

والتكبر فى صفة الخلق مذموم ، لأن الخلق محل النقص ، فإذا تكبر تكلف أن يتصف بغير ما يليق بنعته ، ومن عرف علوه سبحانه وكبرياءه لازم طريق التواضع ، وسلك سبيل التذلل ، وقد قيل : «هتك ستره من جاوز قدره» (٢).

__________________

(١) هو الّذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه ، فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد ، فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا ، وكان صاحبها متكبرا حقا ، ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا لله تعالى ، فإن كان ذلك التكبر والاستعظام ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته كاذبة ونظره باطلا إلا الله تعالى.

(٢) فالمتكبر من العباد هو الزاهد العارف ، ومعنى زهد العارف أن يتنزه عما يشغل سره من الخلق ويتكبر على كل شيء سوى الحق تعالى ، فيكون مستحقرا للدنيا والآخرة جميعا ، مترفعا عن أن يشغله كلاهما عن الحق تعالى ، وزهد غير العارف معاملة ومعاوضة ، إنما يشترى بمتاع الدنيا متاع الآخرة فيترك الشيء عاجلا طمعا فى أضعافه آجلا ، وإنما هو ـ

وفى بعض الحكايات أن أميرا عرضت عليه جارية بمائة ألف درهم ، فأحضر الثمن ، فلما نظر الأمير إليها استكثر الثمن وقال : إن شراء مملوكة بهذا الثمن لغال ، فقالت الجارية : اشترنى يا أمير المؤمنين ، فإن فىّ مائة خصلة ، كل واحدة منها تساوى أكثر من مائة ألف درهم ، فقال : وما ذاك؟ فقالت : أدناها أنك إن اشتريتنى وقدمتنى على جميع عبيدك لم أغلظ فى نفسى وعلمت أنى مملوكة فاشتراها.

وحكى أنه رفع إلى عمر بن عبد العزيز ، رحمة الله عليه ، أن ابنك اتخذ خاتما اشترى له فصا بألف درهم ، فكتب إليه : أما بعد ، فلقد بلغنى أنك اشتريت فصا بألف درهم ، فبعه وأشبع به ألف جائع ، واتخذ خاتما من حديد صينى ، واكتب عليه : رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.

وقد قيل : الفقير فى خلقه (١) أحسن منه فى جديد غيره ، ولا شيء أحسن على الخدم من التواضع بحضرة السادة ، وفى معناه أنشدوا :

ويظهر فى الهوى عز الموالى

فيلزمنى له ذل العبيد

__________________

ـ سلم ومبايعة.

والسلم كالسلف لفظا ومعنى ، تدفع مقدارا من المال مقدما لتأخذ البضاعة بعد مدة بشروط معروضة فى كتب الفقه.

ومن استعبدته شهوة المطعم والمنكح فهو حقير ، وإن كان ذلك دائما ، وإنما المتكبر من يستحقر كل شهوة وحظ يتصور أن يساهمه فيها البهائم.

(١) ثيابه القديمة.

فصل : الصدق فى المحبة :

وإن الله سبحانه يتفضل على عباده ويتعزز على قوم من خواص عباده فيجعل عيش أسرارهم بتكبره أكثر من عيش قلوبهم بتفضله ، وفى معناه أنشدوا :

أعز من مدرك التمنى

ونيل ملك بلا تعنى

قول محب لذى جفاء

يهيم فيه تنح عنى

وسئل يحيى بن معاذ عن المحبة فقال : هى ما لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفا.

ويحكى عن الشبلى أنه جن مرة فحبس فى المارستان فدخل عليه قوم من إخوانه فقال: من أنتم؟ فقالوا : أحبابك ، فأخذ يرميهم بالحجارة ، ففروا ومروا ، فقال : يا كذبة ، لو صدقتم فى هواى ما هربتم من بلاى.

فصل : الإخلاص فى الود والصدق فى الحب :

اعلم أن من أخلص فى وده وصدق فى حبه كان استلذاذه بمنعه أكثر من استلذاذه بعطائه ، فإن كل أحد يذكره وهو بقربه ، وإنما المخلص فى عقده وصدقه من لا يفتر عن أداء حقه ، وإن كان يبتليه ويعذبه.

وحكى أن الشبلى كان فى داره ديك يصيح بالليل ، فأخذه ليلة وشد قوائمه وطرحه فى بيت فلم يصح تلك الليلة ، فلما أصبح قال له : يا مدّع ، إنما كنت تذكره من رأس العافية ، فلما أصابك البلاء سكت ولم تذكره ، وأنشدوا :

يا مدعى الحب لمولاه

من ادعى صحح دعواه

من ادعى دعوى بلا شاهد

يوشك أن تبطل دعواه

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٠ ـ الخالق (١)

جل جلاله

اعلم أن الخالق اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وانعقد عليه الإجماع ، واختلفت الناس فى معناه ، والصحيح أن الخالق هو المخترع للأعيان ، وأن الخلق هو الإبداع والاختراع ، ومن الناس من قال : الخلق هو التقدير ، قالوا : والعرب تسمى الإسكاف خالقا لأنه يقدر الأديم (٢) ، وقال الشاعر :

ولأنت تفرى (٣) ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفرى

ويقال : فرته أيدى الخوالق يعنى الأساكفة ، ومنهم من قال : إن الخلق بمعنى التصوير ، قال الله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ) (٤) أى تصور ، ومنهم من قال : الخلق لفظ مشترك فى معان ، فيكون بمعنى التصوير ، ويكون بمعنى التقدير ، ويكون بمعنى الاختراع ، ويكون بمعنى الكذب ، قال الله تعالى :

__________________

(١) الخالق هو الّذي بدأ الخلق بلا مشير ، وأوجده بلا وزير ، وقيل : الخالق الّذي ليس لذاته تأليف ، ولا عليه فى قوله تكليف ، وقيل : الخالق الّذي أظهر الموجودات بقدرته ، وقدر كل واحد منها بمقدار معين بإرادته ، وقيل: الخالق الّذي خلق الخلق بلا سبب وعلة ، وأنشأها من غير جلب نفع ولا دفع مضرة.

(٢) يعنى الجلد.

(٣) يفرى أى يجيد عمله ويأتى فيه بالعجيب.

(٤) المائدة : ١١٠.

(وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (١) وقال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٢) يعنى كذب الأولين.

وزعم الجبائى [المعتزلى] أن الله تعالى يسمى خالقا على المجاز ، وغيره يسمى خالقا على الحقيقة ، وهذا خطأ بيّن من قوله ، والصحيح أن الخلق هو الاختراع وما عداه مجاز ، ولا خالق إلا الله عزوجل ، والّذي يدل على صحة هذا وفساد ما عداه من الأقاويل أنه لو كان الخلق بمعنى التقدير لكان كل مقدر خالقا ، ولما كان الخياط يقدر ، والبنا يقدر ، وغيرهم قد يحصل منه التقدير ثم لا يسمى واحد منهم خالقا علم أنه ليس معنى الخلق معنى التقدير.

ولا يجوز أن يكون الخلق بمعنى التصوير لأن المصور على الحقيقة هو الله ، لأن القول بالتولد باطل ، فما يجعل فى العين من الصور ليس بكسب للمخلوق ولا بفعل له ، وإنما يسمى الكذب خلقا على المجاز تشبيها بالإبداع ، لأن الكاذب يخبر عما لا أصل له ، كما أن المخترع يوجد ما لم يكن عينا فيجعله عينا ، ومن قال : إن الله تعالى يسمى خالقا على المجاز وغيره يسمى خالقا على الحقيقة فكفاه خزيا بهذا القول ، وإجماع المسلمين يكفى فى الدليل على فساد قولهم ، وقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٣) أى تصور ، فإنما أطلق هذا اللفظ على التوسع ، وكذلك قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)(٤).

__________________

(١) العنكبوت : ١٧.

(٢) الشعراء : ١٣٧.

(٣) المائدة : ١١٠.

(٤) المؤمنون : ١٤.

فصل : من شرط الاعتقاد الجزم بأن الله تعالى

خالق كل شيء وأثر ذلك :

ومن شرط الاعتقاد أن يتحقق العبد أنه سبحانه خالق الأعيان والآثار والجواهر والأعراض لا يخرج حادث عن أن يكون مخلوقا له فيقتضى هذا تبرأ العبد عن حوله وقوته ورجوعه إلى الله تعالى بصدق الاستعانة ودوام الاستكانة فى سكونه وحركاته ، فإن من صحت بالله استعانته وجب من الله تعالى معونته.

ومن آداب من عرف أنه الخالق أن يمعن النظر فى إتقان خلقه لتلوح لقلبه دلائل حكمته فى صنعه ، فيعلم أنه خلق من نطفة بشرا ركب أعضاءه ورتب أجزاءه (١).

وقسم تلك القطرة فجعل بعضها مخا وجعل بعضها عظما وبعضها عروقا وبعضها أعصابا وبعضها شحما وبعضها لحما وبعضها جلدا وبعضها شعرا ، ثم ركب كل عضو على ترتيب يخالف صاحبه ، وخص كل جزء بتركيب لا يشبه صاحبه : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٢) قال الله سبحانه : (هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (٣) ثم إنه يقسم الطعام الّذي يأكله والشراب الّذي يتناوله على هذه الأجزاء ، ويوصله إلى هذه الأعضاء ، فيجعل لكل عضو مما يتناوله نصيبا مقدرا.

فسبحان من يعلم هذا الّذي يخلقه كيف يخلقه.

__________________

(١) (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ).

(٢) المؤمنون : ١٤.

(٣) لقمان : ١٣.

وحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع الشبلى ففتح عليه بمنديل حسن ، فمر بكلب ميت ملقى على الطريق ، فقال لى : احمل ذلك الكلب الميت وكفّنه فى هذا المنديل وادفنه وسر ، قال : فجعلت الكلب فى ذلك المنديل وطرحته فى موضع وغسلت المنديل وعدت إليه ، فقال لى : قد فعلت ما أمرتك به؟ فقلت : لا ، فلم يقل لى شيئا ، فقلت : أيها الشيخ ، إيش السبب؟ فما كان السبب فيما أمرتنى؟ فقال : لما مررت بتلك الجيفة استقذرته واستقبحته فنوديت فى سرى : أليس قد خلقناه ، فقلت لك ما قلت.

وفى خبر مسند أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله أخى نوحا ، كان اسمه يشكر ، ولكن لكثرة بكائه على خطيئته أوحى الله إليه : يا نوح كم تنوح؟ فسمى نوحا» فقيل : يا رسول الله ، أى شيء كانت خطيئته؟ فقال : «إنه مر بكلب فقال فى نفسه : ما أقبحه ، فأوحى الله إليه : يا نوح ، اخلق أنت أحسن من هذا».

ويحكى أن سنيا كان يناظر معتزليا فى مسألة القدر ، فقطف المعتزلى تفاحة من شجرة ، فقال : أليس أنا فعلت هذا؟ فقال السنى له : إن كنت أنت فعلته فرده إلى ما كان عليه ، فأفحم المعتزلى وانقطع.

وإنما لزمه ذلك لأن المقدرة التى يحصل بها الإيجاد لا بد من أن تكون صالحة للضدين ، فلو كان تفريق الأجزاء من جهته (١) لكان قادرا على وصلها.

__________________

(١) أى من جهة العبد.

فصل : آداب من عرف أنه تعالى المتفرد بالإيجاد :

ومن آداب من عرف أنه الخالق المنفرد بالإيجاد ألا يجحد الكسب ولا يطوى الشرع لأنه ليس بأن يخلق الحق تعالى شيئا ما يجب أن يكون للعبد حجة فيما يطالبه به من مراعاة حقوقه.

ويحكى أن بعض الأكابر قيل له : ما أعجب قول الملائكة حيث تجاسروا على أن قالوا لله سبحانه : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) (١) فقال له : وما عليهم؟ هو أنطقهم ، فبلغ قوله يحيى بن معاذ الرازى فقال : هو أنطقهم ، ولكن انظر كيف أخرسهم ، فمن رحمة الله أن وجود الخلق من قبل الحق سبحانه ثم لا يكون عذر للعبيد فى سقوط اللوم عنهم (٢).

__________________

(١) البقرة : ٣٠.

(٢) (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ).

باب

فى معنى اسميه تعالى

١١ ، ١٢ ـ البارئ (١) المصور (٢)

جل جلاله

اعلم أنه ورد به نص القرآن ، قال الله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٣) يقال : برأ الله الخلق تبرأهم برءا ، والبرية الخلق ، بغير همز وإن كان أصله الهمز اتفاقا منهم وإجماعا ، كما تركوا الهمزة من الذرية والنبي وما جرى مجراه ، وقد قيل : إن البرية من البراء وهو التراب ، والعرب تقول : بغية البراء ، تعنى التراب ، ويقال : برأت من المرض أبرأ ، وبرئت من المرض أيضا ، وبرئت من فلان من دينه ، وبرئ الرجل من شريكه إذا فارقه ، وبريت القلم بغير همز.

__________________

(١) قيل فى تفسير البارئ هو : الموجد والمبدع ، يقال : برأ الله الخلق يبرؤهم ، والبرية الخلق ، فعيلة بمعنى مفعولة ، وقيل : إن أصل البرء القطع والفصل ، قال الأخفش : يقال : برئت العود وبروته إذا قطعته ونحته ، وقيل : إن البارئ مشتق من البرء وهو التراب ، هكذا قاله ابن دريد ، والعرب تقول : بفيه البرى ، أى التراب ، والبارى يدل على أنه تعالى ركب الإنسان من التراب ، كما قال تعالى : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ) (طه : ٥٥).

(٢) قيل فى تفسير المصور : إنه الّذي سوى قامتك ، وعدل خلقتك ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين : ٤) وقيل : المصور من زين الظواهر عموما ، ونور السرائر خصوصا ، وقيل : المصور الّذي ميز العوام من البهائم بتسوية الخلق ، وميز الخواص من العوام بتصفية الخلق.

(٣) الحشر : ٢٤.

وأما المصور فمن التصوير ، وهو تمييز الشيء على صورة ، يقال : صوّره إذا جعله على صورة ، وصور الأمر أى قدره ، ويقال : صاره يصيره ويصوره إذا أماله هو ، من قوله : (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) (١) ورجل صير شير إذا كان ذا صورة وشارة حسنة ، والصور جمع صورة ، وعليه يحمل قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) (٢) أى فى الصّور على بعض التأويلات ، والصور أيضا هو القرن الّذي ورد به الخبر أنه ينفخ فيه الملك ، والله تعالى مصور الخلق ومقدرهم ومدبر العالم ومعبدهم.

وإذا عرف العبد أن الله تعالى برأه من البر الّذي هو التراب وأنه لم يكن شيئا ولا عينا فجعله شيئا وعينا فبالحرى أن لا يعجب بحاله ولا يدل بأفعاله ، بل لا يبتهج بصفو حاله وقد أشكل عليه حكم مآله.

وكيف لا يتواضع من يعلم أنه فى الابتداء نطفة وفى الانتهاء جيفة ، وفى الحال صريع جوعه ، وأسير شبعه ، وجماله وحسنه يختلف فى أطواره فى قميص إن أمسك عن الأكل ساعة تغير عليه خلوفه ، وإن عرق فى سعيه سطع بغير المستطاب صنان إبطه ورائحة جلده ، ثم إذا شاهد نقص نفسه عرف جلال ربه ، قال الله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٣) وقال تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٤) وأحد ما قيل فى قوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) هو أن تفكر فتعلم كيف زين العضو الّذي لا يزال ظاهرا على مجرى العادة من أعضائك ، وهو وجهك ، وستر الوحشة منك ، وفيه تقوية للأمل والرجاء بأن يديم معك هذه السنة فى إسداء النعم وإكمال الكرم ، فإن

__________________

(١) البقرة : ٢٦٠.

(٢) الكهف : ٩٩.

(٣) الذاريات : ٢١.

(٤) القيامة : ١٤.

من ستر فى الحال منك المساوئ لحقيق بأن لا يفضحك على رءوس الأشهاد يوم التناد.

وفى بعض الحكايات أن بعضهم رئى فى المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : أقامنى وأعطانى كتابى فمررت بسيئة فخجلت أن أقرأها فقال لى : لا بد من قراءتها فقلت : إلهى لا تفضحنى ، فقال : الوقت الّذي عملتها فيه ولم تستح ما فضحتك ، أفأفضحك الآن وأنت تستحى.

وقال بعضهم : لما قال تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١) نبههم على حسن الخلق بما دلهم على صفة الأرض ، وذلك أنه يلقى عليها كل وحشة فتخرج كل زهرة وخضرة ، وهكذا المؤمن ينبغى أن يكون متآنسا غير متوحش متحملا للجفا غير منتقم ، لا يقابل بالجفا إلا قابل الجافى بالاحتمال وجميل الإغضاء.

يحكى عن بعضهم أنه كان يسىء القول فى رجل ، والرجل يسمع ويسكت فضاق صدر هذا الرجل فقال له : إياك أعنى ، فقال له الرجل : وعنك أحلم.

__________________

(١) الذاريات : ٢٠ ، ٢١.

فصل : خلق الله الإنسان على صورة لم يشاركه فيها غيره :

وقد قال تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) (١) لم يقل لشيء من المخلوقات أنه أحسن صورته إلا للإنسان ، تخصيصا له من بين المخلوقين ، وهكذا قال فى آية أخرى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (٢) وهذا أيضا مما لا يشاركه فيه غيره ، وقد ورد فى القصص والآثار أن الله تعالى خلق لجبريل ستمائة جناح كلها مرصعة بالياقوت والدر والجلاجل الذهب محشوة بالمسك ، لكل جلجل صوت لا يشبه الآخر ، وأن إسرافيل إذا أخذ فى التسبيح عطل على الملائكة تسبيحهم بحسن صوته وطيب نغمته ، وأن نور العرش لو بدا لصار نور الشمس بالإضافة إليه كنور السراج بالإضافة إلى نور الشمس ، إلى غير هذا من أوصاف المخلوقات.

ثم إنه سبحانه لم يقل لشيء منها أحسن صورته ولا قال الشيء إنى خلقته فى أحسن تقويم إلا لهذا الشخص المخلوق من سلالة من طين ثم دع هذا الّذي هو عائد إلى الخلقة وانظر إلى قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٣) هل قال هذا لملك مقرب أو مخلوق على جمال الصورة مركب؟ كلا ، إن هذا لأولاد آدم خاصة خصوصية ، ولهم بها على أمثالهم مزية ، فضلا من الله ونعمة ، وإحسانا بدأهم به ومنة عليهم ورحمة.

__________________

(١) غافر : ٦٤.

(٢) التين : ٤.

(٣) المائدة : ٥٤.

فصل : بين جمال الخلق وحسن الخلق :

واعلم أن حسن التصوير وإن كان فى ظاهر الخلق فإن حقيقة ذلك أتم فى باب الخلق ، فإن الله تعالى أحسن خلق الأكثرين ، وقليل من حسن خلقه ، وإنما يمتاز العوام من البهائم بتسوية الخلق ، ويمتاز الخواص من العوام بتصفية الخلق ، وكما أن الآدمى يفارق البهائم بتركيب القامة وترتيب الأعضاء فالخواص تباين العامة بحسن الخلق وخلوص الصفاء ، ولم يمن الله سبحانه على رسوله بشيء كما منّ عليه بحسن خلقه ، ألا ترى كيف أثنى عليه بقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) ، والإنسان مستور بخلقه بين أمثاله ، مشهور بخلقه عن أشكاله.

يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال : أنا واحد من الناس إذا سكتّ ، واحد فيهم إذا نطقت.

هكذا يحسن المرء أن يكون واحدا من الناس من حيث الصورة والخلق ، واحدا فيهم من حيث الخلق ، فسبحان من ركب من قطرة واحدة نسمة ، وأوجد فيها بكمال حكمته وشمول قدرته صورة ، ثم كما لا تشبه صورة صورة لم يشبه خلق خلقا.

ويحكى أن بعض الأمراء سأل ندماه عن شر الأشياء فقال بعضهم : المرأة السوء ، وقال بعضهم : الجار السوء ، وقال بعضهم : الخلق السوء ، فتواضعوا أن يتحاكموا إلى أول من يلقونه إذا خرجوا من البلد ، فخرجوا من البلد فاستقبلهم سوادى (٢) معه حمار عليه جرار من خزف ، فأرادوا أن يمتحنوا

__________________

(١) القلم : ٤.

(٢) ريفى فلاح.

الرجل ، فقالوا : لم لا تسلم علينا؟ فقال لهم الراكب : ينبغى أن يسلّم على الراجل ، فقال بعضهم لبعض : إنه يشبه أن يكون حكيما ، فقالوا له : وقعت لنا مسألة فأردنا أن نتحاكم إليك فيها ، فقال لهم : احفظوا حمارى إذا لئلا يشتغل قلبى ، وقعد ، فذكروا له المسألة فقال : شر الثلاثة الخلق السوء ، لأن المرأة يمكن أن يتخلص منها بالطلاق ، والجار السوء يرجى الخلاص منه بالغيبة والفراق ، والخلق السوء معك أينما كنت ، فاستحسن الأمير ذلك وقال : سل حاجتك ، فقال الرجل : إنى لا أريد أن أتحكم عليك فى خزائنك ، ولكن أسألك حاجة لو قضيتها نفعتنى ولم تضرك ، فقال : وما هى؟ فقال : إن النيروز والمهرجان (١) قريب منا ، والناس يبعثون إليك الهدايا ويتحفونك بها ، فناد فى البلد : إنى لا أقبل من أحد هدية إلا مع جرة من عملى لأبيع ذلك بحكمى.

فاستحسن الأمير ذلك وأجابه إليه ، وأمر حتى نودى فى البلد بما قال ، فكل من طلب منه جرة قال : لا أبيع إلا بدينار واحدة ، فكان الناس يشترون ، وكان للأمير وزير فارسى فقيل له : إن هذا الرجل يبيع جرة بدينار ، فقال : إنها تساوى نصف درهم فليأخذ منا درهما أو درهمين ، فأتاه الرسول وأخبره بقول الوزير ، فقال الرجل : لا تشتر إن لم ترد ، فأعاد عليه الرسول فى اليوم الثانى فقال : تعالى وخذ الدينار ، فقال : لا أبيع إلا بمائة دينار ، فحرد الوزير وقال : بالأمس لا أعطيك دينارا واليوم أعطيك مائة ، فقال : لا تشتر إن لم ترد ، فصبر ذلك اليوم ، فلما كان اليوم الثالث لم يجد بدا من الجرة فأرسل إليه وقال : تعال وخذ الذهب ، فقال : لا أبيع إلا بألف دينار ، فزاد غضبه وأبى أن يشترى ، فلما كان الغد كان ذلك يوم العيد ، وكانت العادة ألا يرسل أحد هدية قبل الوزير ،

__________________

(١) من أعياد الفرس.

فبقى الوزير حائرا ، فأرسل إلى الرجل وقال له : تعال وخذ ما تريد ، فقال : لست أبيع الجرة فألح عليه كل الإلحاح فأبى ، فقال : على كل حال إيش تريد؟ فقال : لا أبيع ولا أعطيك الجرة إلا بشرط واحد : تحملنى على رقبتك والجرة بيدى وتمر بى إلى مجلس الأمير ، ففعل ذلك ، إذ لم يجد بدا من إرسال الهدية ، فلما وقع بصر الأمير عليه نادى بالفارسية : يا أمير ، حق الأوتان كواى ، معناه : سوء الخلق الحمل الثقيل ، فاستحسن الأمير ذلك فعزل الوزير ، وولاه الوزارة بدله ، وسلم إليه ماله وملكه.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٣ ـ الغفار (١)

جل جلاله

ومن أسمائه : الغافر والغفور والغفار ، فالغفور المبالغة ، والغفار أشد مبالغة من الغفور ، والمصدر منه المغفرة ، يقال : غفر يغفر مغفرة وغفرا وغفرانا فهو غافر وغفور على الكثرة ، وغفّار على المبالغة ، ومعنى الغفر : الستر والتغطية ، ويقال : لجنة الرأس : المغفر لأنه يستر الرأس ، وغفر الثوب زئبره (٢).

__________________

(١) هو الّذي أظهر الجميل وستر القبيح ، والذنوب من جملة القبائح التى سترها بإرسال الستر عليها فى الدنيا ، والتجاوز عن عقوبتها فى الآخرة ، والغفر هو الستر.

وأول ستره على العبد أن جعل مقابح بدنه أى ما تستقبحها الأعين مستورة فى باطنه ، مغطاة فى جمال ظاهره ، وكم بين باطل العبد وظاهره فى النظافة والقذارة وفى القبح والجمال ، فانظر ما الّذي أظهره وما الّذي ستره.

وستره الثانى أن جعل مستقر خواطره المذمومة وإرادته القبيحة ، ستر قلبه حتى لا يطلع أحد على ستره ، ولو انكشف للخلق ما يخطر بباله فى مجارى وساوسه وما ينطوى عليه ضميره من الغش والخيانة وسوء الظن بالناس لمقتوه بل سعوا فى إزهاق روحه وأهلكوه ، فانظر كيف ستر غيره أسراره وعوراته.

وستره الثالث مغفرته ذنوبه التى كان يستحق الافتضاح بها على ملأ الخلق ، وقد وعد أن يبدل سيئاته حسنات ليستر مقابح ذنوبه بثواب حسناته إذ ما ثبت على الإيمان.

(٢) الزئبر : الوبر والزغب وحظ العبد من هذا الاسم أن يستر من غيره ما يجب أن يستر منه ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته يوم القيامة» والمغتاب ـ

ويقال : جاء القوم جما غفير ، وجما الغفير ، أى جماعتهم ، ومغفرة الله تعالى للعبد ذنوبه ستره وعفوه ، فالله تعالى يغفر ذنوب عباده بفضله ورحمته لا باستحقاقهم ذلك باكتسابهم ، التى هى طاعتهم أو توبتهم عن زلاتهم.

وغلط مخالفو أهل الحق [المعتزلة] فى مسألة المغفرة من وجهين :

أحدهما : أنهم قالوا : غفران الكافر والفاسق من غير إيمان وجد منهم غير جائز فى الحكمة.

والثانى : قولهم إن غفران التائب من الذنب فى الحكمة واجب.

وقال أهل الحق : غفران الزلة من الله تعالى جائز لمن شاء كما شاء ، قال الله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (١) والله تعالى يغفر الذنوب ويستر العيوب ويكشف الكروب ويكفى الخطوب ، كل ذلك فضلا من الله وإنعاما ولطفا وإكراما.

وفى بعض الأخبار ، عبدى ، لو أتيتنى بقراب الأرض ذنوبا لأتيتك بقراب الأرض مغفرة ، ما لم تشرك بى.

وفى خبر مسند أن رجلا يؤمر به إلى النار فإذا بلغ ثلث الطريق التفت ، وإذا بلغ نصف الطريق التفت ، وإذا بلغ ثلثي الطريق التفت ، فيقول الله تعالى :

__________________

ـ والمتجسس والمنتقم والمكافئ على الإساءة بمعزل من هذا الوصف وإنما المتصف به من لا يفشى من خلق الله تعالى إلا أحسن ما فيه ، ولا ينفك مخلوق عن كمال ونقص ، وعن قبح وحسن ، فمن تغافل عن المقابح وذكر المحاسن فهو ذو نصيب من هذا الاسم ، كما روى عن عيسى عليه‌السلام أنه مر مع الحواريين على كلب ميت قد غلب نتنه فقالوا : ما أنتن هذه الجيفة ، فقال عيسى عليه‌السلام : ما أحسن بياض أسنانه ، تنبيها على أن الّذي ينبغى أن يذكر من كل شيء ما هو أحسن.

(١) النساء : ٤٨.

ردوه ، ثم يسأله ويقول : لم التفتّ؟ فيقول : يا رب ، لما بلغت ثلث الطريق تذكرت قولك : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) (١) فقلت : لعلك أن تغفر لى ، فلما بلغت نصف الطريق تذكرت قولك : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (٢) قلت : لعلك تغفر لى ، فلما بلغت ثلثي الطريق تذكرت قولك : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٣) فازددت طمعا ، فيقول الله تعالى : اذهب فقد غفرت لك.

قال الله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (٤) كأنه قال : من أرخى عمره فى الزلات ، وأفنى حياته فى المخالفات ، وأبلى شبابه فى البطالات ، ثم ندم قبل الممات وجد من الله العفو عن السيئات ، لأن قوله : (ثُمَ) يقتضي التراخى ، كأنه قال : من لم يتب فى الحال ولكن فى آخر العمر.

وقيل : إن رجلا كان يقول : إلهى أبطأت ، إلهى أبطأت ، فهتف به هاتف لم تبطئ، إنما أبطأ من مات ولم يتب.

وقوله تعالى : (يَعْمَلْ سُوءاً) إخبار عن الفعل ، وقوله : (ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ) إخبار عن القول ، كأنه قال : الذين زلاتهم أفعال ، توبتهم أقوال.

ولقد سهل عليك الأمر من رضى عنك بمقاله وقد عملت ما عملت ، ثم انظر إيش قال فى قوله : (يَجِدِ اللهَ) طلبوا المغفرة فوجدوا الله ، أى نكتة لمن يعقلها ، ليس العجب من السيارة حيث طلبوا الماء ليشربوا فوجدوا يوسف ، إنما العجب من عاص طلب المغفرة فوجد الله تعالى.

__________________

(١) الكهف : ٥٨.

(٢) آل عمران : ١٤٥.

(٣) الزمر : ٥٣.

(٤) النساء : ١١٠.

وجاء فى بعض الأخبار أن رجلا فى الزمن الأول قتل تسعة وتسعين رجلا بغير حق ، فجاء إلى بعض العلماء فقال : ما تقول فيمن قتل تسعة وتسعين رجلا بغير حق؟ فقال العالم : إنه فى النار ، فغضب الرجل وقتل العالم ، ثم إنه بعد مدة ندم فجاء إلى عالم آخر ، فقال : ما تقول فيمن قتل مائة رجل بغير حق ثم تاب ، فهل يقبل الله توبته (١)؟ فقال : نعم ، فقال : أنا ذلك الرجل ، فما تأمرنى به؟ فقال له العالم : سبيلك أن تمضى إلى البلد الفلانى ، فإن الله تعالى يقبل توبتك هناك ، ومضى الرجل فمات فى الطريق ، فتخاصم ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فى قبض روحه ، فبعث الله ملكا وقال له : امسح الأرض التى قطعها والتى بقيت ، وانظر إلى أى البلدان هو أقرب ، فنظر الملك فوجده أقرب إلى أرض التوبة بشبر ، فأمر الله به إلى الجنة.

__________________

(١) ومن يمنع الله من قبول التوبة ، وهو الّذي يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيئات ، فالبدار البدار ، العجل العجل ، الإسراع الإسراع ، قبل فوات الأوان.

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٤ ـ القهار (١)

جل جلاله

القهار : اسم من أسمائه تعالى ، ورد به نص القرآن بأنه قاهر وأنه قهار ، قال الله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) (٢) وقال سبحانه وتعالى : (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)(٣) واختلف أهل الحق فى معنى القهار ، هل هو من صفات الذات أو من صفات الفعل؟ فقال قوم : إنه من صفات الذات ، وهو بمعنى المبالغة من القاهر ، ومنهم من قال : إنه من صفات الفعل ومعناه : الجبار الّذي يحصل مراده من خلقه ، شاءوا أو أبوا ، رضوا أم كرهوا.

وأما الإشارة فيه فمن علم أنه القهار خشى بغتة مكره ، وخاف فجأة قهره ، فيكون وجلا بقلبه ، منفردا عن قومه مستديما لخدمة ربه ، مفارقا لخلطائه وصحبه (٤) كما قيل :

فريد عن الخلان فى كل موطن

إذا عظم المطلوب قل المساعد

__________________

(١) هو الّذي يقصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالإماتة والإذلال ، فما أذل الجبابرة إلا الموت ، بل لا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته عاجز فى قبضته.

(٢) الأنعام : ١٨.

(٣) الزمر : ٤.

(٤) وحظ العبد من هذا الاسم هو : أن القهار من العباد من قهر أعداءه ، وأعدى عدوه نفسه التى ـ

فصل : قهر نفوس العابدين وقلوب العارفين وأرواح المحبين :

واعلم أن الله سبحانه قهر نفوس العابدين (١) وقهر قلوب العارفين وقهر أرواح المحبين ، فنفس العابد مقهورة بخوف عقوبته ، وقلب العارف مقهور بسطوة قربته ، وروح المحب مقهورة بكشف حقيقته ، فالعابد بلا نفس ، لاستيلاء سلطان أفعاله عليه ، والعارف بلا قلب لاستيلاء سلطان إقبال عليه ، والمحب بلا روح لاستيلاء كشف جلاله وجماله عليه.

* * *

فصل : الفرق بين العابد والعارف :

واعلم أنه لا بقاء للمنى والرغبات مع شهود الجنان ببصر الإيمان ، ولا بقاء للهوى والشبهات مع شهود النيران ببصر البرهان ، ولا بقاء للحظوظ والقلاقات مع شهود السلطان ببصر العرفان ، فمتى أراد العابد فرجة عن قيد مجاهدته قهرته سطوة العتاب فردته إلى بذل المهجة ، ومتى أراد العارف فرجة عن مطالبات القربة قهرته بوادر الهيبة فردته إلى توديع المهجة ، فشتان بين عبد مقهور بأفعاله ، وبين عبد مقهور بجلاله وجماله.

* * *

__________________

ـ بين جنبيه ، فإذا قهر شهوته وغضبه ، وحرصه ووهمه ، وخياله ، فقد قهر أعداءه ، ولم يبق لأحد سبيل عليه ، إذ غاية أعدائه أن يسعوا فى هلاك بدنه ، وذلك إحياء لروحه ، فإن من مات وقت الحياة الجسمانية عاش عند الموت الجسمانى ، كما قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (آل عمران : ١٦٩).

(١) وذلك بحبسها على طاعته ، وقهر قلوب الطالبين فآنسها بلطف مشاهدته.

فصل : من أنواع القهر :

واعلم أن قهر الحق سبحانه وتعالى للأغيار بتنغيص أحوال الدنيا ، وأن قهره الأحباب باختطاف الأسرار عما سوى المولى ، فليس لهم مع مخلوق قرار ، ولا للأغيار عندهم مقدار ، طلعت شواهدهم عند شهوده ، وبادت سرائرهم عند ظهوره ، فهم محو فيما هنالك ، الأشباح موجودة ، والأرواح مفقودة ، وفى معناه أنشدوا :

محوت اسمى ورسم جسمى

وغبت عنى ودمت أنتا

وفى فنائى فنى فنائى

ففى فنائى وجدت أنتا

فأنت منى خيال عينى

وحيث ما كنت كنت أنتا

* * *

فصل : قهر العباد بالموت :

واعلم أن الله تعالى قهر جميع عباده بالموت الذي ليس لأحد عنه محيد ، لم ينج منه نبى مرسل ولا صفى مفضل : ولا ينجو منه ملك مقرب ، ضاقت عند ذلك صولة المخلوقين وبادت عند سطوته قوى الخلائق أجمعين ، ويقال : إن الله تعالى يذيق ملك الموت طعم الموت فيقول عند الفزع : وعزتك لو علمت أن طعم الموت يكون مثل هذا ما قبضت روح أحد ، وناهيك من قهره للعباد أنه يقبض أرواح جميع المخلوقين ، ثم يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فيرد على نفسه : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١) فأين سلطان الجبابرة عند ذلك؟ وأين ولاية الأكاسرة فيما هنالك؟ وأين الأنبياء والمرسلون؟ وأين الملائكة المقربون؟ وأين السفرة الكاتبون؟ وأين آدم وذريته؟ وأين أهل الجحد والإلحاد؟ وأين أهل التوحيد والزهاد؟ زهقت النفوس وبليت الأرواح ، وبقى الّذي لم يزل ولا يزال.

وفى بعض الحكايات أن بعض خلفاء بنى العباس كان له غلام صاحب جيش له ، وأنه تملك خمسة آلاف غلام ، فقربت وفاة هذا الخليفة فأحضر أركان الدولة لأخذ البيعة لبعض أولاده ، وكان هذا صاحب الجيش قائما على رأسه ، وكانوا على بهو ، فنظر هذا الخليفة إليه فخاف صاحب الجيش أنه نظر سخطا فرجع القهقرى ، فسقط من ذاك البهو واندقت عنقه من هيبة نظر الخليفة ، فتوفى الخليفة فى ذلك الوقت والساعة ، فوضعوه فى بيت وتشاغلوا عن دفنه بأخذ البيعة لولى عهده ، فلما رجعوا إليه وجدوا الفأرة قد فقأت عينه التى نظر بها إلى ذلك الغلام.

فسبحان من قهر عباده بما شاء من خلقه.

__________________

(١) غافر : ١٦.

وفى القصص أن نمرودا خرج بعسكره ، وكان معسكره أربعة فراسخ فى أربعة فراسخ ، فقال لإبراهيم عليه‌السلام : قل لهذا الرب الّذي تدعوه حتى يخرج لمحاربتى ، فقال إبراهيم : إلهى تسمع ما يقول هذا الكلب ، فقال الله تعالى لجبريل عليه‌السلام : أرسل عليه أضعف بعوضة خلقتها ، فعرض جبريل جيش البعوض فوجد بعوضة عرجاء شلاء فسلطها الله عليه وقال لها : أمهليه ثلاثة أيام ، كل ذلك إبلاء للعذر وإبقاء للشكر ، فكانت البعوضة تتنقل على وجهه من جانب إلى جانب ، فلم يقلع عن غيه ، فصعدت البعوضة إلى دماغه ، وكانت تأكل دماغه ، حتى وضع عند رأسه مرزبة ، وكان كل من يدخل عليه يأمره أن يضرب بها على دماغه عشر مرات ، وكان يجد فى ذلك راحة حتى هلك ، قال الله سبحانه : (وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١).

__________________

(١) الصافات : ١٧٣.

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٥ ـ الوهاب (١)

جل جلاله

اعلم أن الواهب والوهاب من أسمائه تعالى ، ورد به نص القرآن فى قوله : (الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٢) وانعقد عليه الإجماع ، يقال : وهب يهب وهبا وهبة فهو واهب ووهاب ، على الكثرة ، ومعناه : المعطى ، وهو من صفات الفعل ، والله تعالى جزيل العطاء جميل الهبة والحباء ، كثير اللطف والإقبال ، عظيم المن والنوال ، يعطى قبل السؤال ، ويسمع خصائص الأفضال.

وجاء فى القصة أن موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لله سبحانه : إنى أرى فى التوراة أمة أناجيلهم فى صدورهم ، من هم؟ قال : تلك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يزل يعدد الخصال الجميلة ويقول الله : تلك أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى اشتاق موسى إلى لقائهم ، فقال : إنك لا تراهم ، ولكن إن شئت أسمعتك أصواتهم ، فنادى أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم فى أصلاب آبائهم ، فقالوا : لبيك ربنا ، فقال تعالى : يا أمة محمد ، أعطيتكم قبل أن تسألونى ، وغفرت لكم قبل أن تستغفرونى.

__________________

(١) هو الّذي يعطى كل محتاج ما يحتاج إليه لا لعوض ولا لغرض عاجل أو آجل ، لأن من وهب وله فى هبته غرض يناله عاجلا أو آجلا من ثناء أو مدح أو مودة أو تخلص من مذمة أو اكتساب شرف وذكر فهو معتاض وليس بوهاب ولا جواد ، وحاشا لله من كل ذلك.

(٢) ص : ٩.

ومن تحقق بأنه الوهاب لم يحتشم من الفقر مقاساة الضر ويرجع إليه فى كل وقت بحسن القصد.

ويحكى أن الشبلى سأل بعض أصحاب أبى على الثقفى : أى اسم من أسمائه يجرى على لسانه أكثر؟ فقال الرجل : اسمه الوهاب ، فقال الشبلى : لذلك كثر ماله.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : كنت جالسا فى جماعة فوقف علينا سائل وسأل شيئا فلم يعطه أحد شيئا ، فبكى ذلك الرجل بكاء شديدا فرق له قلبى فقلت له : تعال حتى أعطيك شيئا ، فقال : إنى لم أبك لما توهمت ، ولكن ذكرت ذل من يفتقر من رحمة الله كيف حاله ، ومضى.

فلما كان بعد أيام إذا نحن بإنسان عليه ثياب حسنة وقف علينا وسلم وقال : تعرفونى؟ فقالوا : ولا ننكرك ، فمن أنت؟ فقال : أنا السائل الّذي رددتمونى فى ذلك اليوم ، فرجعت إلى ربى فسألته النعماء فأغنانى وأعطانى وأحسن إنعامى ، ومن الّذي يحتاج منكم إلى شيء؟ قلنا : لا يخلو منا واحد إلا وله شيء ، لك الفضل.

وحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت شيخا عريانا فى الطواف وهو يقول :

أما تستحى يا خالق الخلق كلهم

أناجيك عريانا وأنت كريم

وترزق أبناء الخنازير والزنى

وتترك شيخا من سراة تميم

فقلت له : ألا تعلم أنه لا يخاطب بمثل هذا (١) فقال : إليك عنى ، فإنى أعلم

__________________

(١) نعم لا يخاطب بمثل هذا بل قبل الدعاء يجب الاستغفار من الذنوب والثناء عليه والصلاة على نبيه وهكذا.

به منك ، ومضى ، فلم ألبث أن جاء وعليه جبة خز ، وهو يتبختر ، فلما رآنى قال : ألم أقل لك : أنا أعلم به منك ، قبضت منه جبة خز.

فصل : ما يجب على من تحقق أنه تعالى الوهاب :

ومن تحقق أنه الوهاب لم يرفع حوائجه إلا إليه ، ولم يتوكل على أحد إلا عليه ، فربما يسأل بحكم الخشوع والتذلل ، وربما يسأل بحكم البسط والتذلل.

حكى عن بعضهم أنه قال : كنت فى بيت المقدس فى المسجد فرأيت إنسانا ملتفا بعباءة قائما فسمعته يقول : إن أطعمتنى الخبز والطعام الفلانى والعصيدة وإلا كسرت قناديلك ، قال : فقلت : إنا لله ، إما مجنون ، وإما ولى مدل ، قال : وعاد إلى حالته ونام ، وإذا أنا بحمال معه ما أشار إليه ، فوضعه بين يديه فاستوى الرجل فأكل منه شيئا وحمل الرجل الباقى ومضى ، قال : فقفوت أثره وسألته عن القصة فقال : إنى رجل حمال ، تشهّى عليّ صبيانى هذا منذ زمان فأصلحته اليوم فأغفيت إغفاءة فرأيت كأن قائلا يقول : لى ولى من أوليائنا فى المسجد اشتهى هذا فاحمله إليه ثم احمل ما فضل إلى صبيانك.

واعلم أن من صح توكله عليه لم يرفع حوائجه إلا إليه.

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٦ ـ الرزاق (١)

جل جلاله

الرزاق اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن وانعقد عليه الإجماع ومعناه المبالغة من الرازق ، وحقيقة الرزق ما كان معه الانتفاع به مهيأ له ، وهو مصدر رزقه رزقا فهو رازق ، فكل ما يمكن أن ينتفع به فهو فى ذاته رزق وينقسم إلى حلال ، وحرام وشبهة فما كان موافقا للإذن فهو حلال ، وما كان بعكسه فهو حرام ، ويبطل قول المخالفين أنه الملك لوجوب القول بأن الله سبحانه رازق الطير والبهائم والسباع ، ولا ملك لها ، ومن عرف أن الله هو الرزاق أفرده بالقصد إليه وتقرب إليه بدوام التوكل عليه ، قال الله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (٢).

وقيل لبعضهم : من أين يأكل فلان؟ فقال : مذ عرفت خالقه ما شككت فى رازقه.

وجاء رجل إلى حاتم الأصم فقال : من أين تأكل؟ فقال : من خزائنه ، فقال

__________________

(١) هو الّذي خلق الأرزاق والمرتزقة وأوصلها إليهم وخلق لهم أسباب التمتع بها ، فهو المتكفل بأرزاق المخلوقات ، الّذي يطعم ولا يطعم ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات : ٥٨)

(٢) الرعد : ٢٦.

الرجل : يلقى عليك الخبز من السماء ، فقال : لو لم تكن الأرض له لكان يلقى عليّ الخبز من السماء ، فقال الرجل : أنتم تقولون الكلام ، فقال : إنه لم ينزل من السماء إلا الكلام ، فقال : أنا لا أقوى على مجادلتك ، فقال : لأن الباطل لا يقوم مع الحق.

وقيل لبعضهم : من أين تأكل؟ فقال : من خزائن ملك لا تدخلها اللصوص ولا يأكلها السوس.

ودخل حاتم الأصم على امرأته فقال : إنى أريد أن أسافر ، فكم تحتاجين من النفقة حتى أضعها لك؟ فقالت : بقدر ما نخلف من الحياة ، فقال حاتم وما يدرينى كم تعيشين؟ فقالت له : كله إلى من يعلمه ، فلما خرج حاتم إلى السفر دخل النساء عليها يظهرن الاهتمام لشأنها وأنه تركها بلا نفقة ، فقالت تلك المرأة : إنه كان كيالا للرزق ولم يكن رزاقا.

* * *

فصل : ما خص به الله تعالى الأغنياء والفقراء :

واعلم أن الله سبحانه خص الأغنياء بوجود الأرزاق ، وخص الفقراء بشهود الرزاق ، وأن من سعد بوجود الرزاق ما ضره ما فاته من وجود الأرزاق ، ومن عرف أنه هو الرزاق رجع إليه فيما يسنح له من جليل خطب ودقيق شغل ، لأنه علم أنه لا شريك له فى رزقه كما لا شريك له فى خلقه.

وقيل : إن موسى ، عليه‌السلام ، قال يوما فى مناجاته : إنه لتعرض لى الحاجة الصغيرة أحيانا أفأسألها منك أم أطلبها من غيرك؟ فأوحى الله تعالى إليه لا تسل غيرى وسلنى حتى ملح عجينك وعلف شاتك.

وسمعت الشيخ أبا على يقول : من علامات المعرفة أن لا تسأل حوائجك ، قلّت أو كثرت ، إلا من الله تعالى ، مثل موسى ، اشتاق إلى الرؤية فقال : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١) واحتاج مرة الى رغيف ، فقال : (رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (٢) طلب القليل والكثير من الله.

ويحكى عن حماد بن مسلمة أنه قال : كان فى جوارى امرأة أرملة لها أيتام ، وكانت ليلة ذات مطر ، فسمعت صوتها تقول : يا رفيق ارفق ، قال : فخطر ببالى أنها أصابتها فاقة ، فصبرت حتى احتبس المطر فحملت معى عشرة دنانير ودققت عليها الباب ، فقالت : حماد بن مسلمة ، فقلت : نعم حماد ، كيف الحال؟ فقالت : خير وعافية ، احتبس المطر ودفى الصبيان ، فقلت : خذى هذه الدنانير وأصلحى بها بعض شأنك ، قالت : فصاحت بنية لها خماسية (٣) : لا نريد يا حماد

__________________

(١) سورة الأعراف الآية : ١٤٣.

(٢) سورة القصص الآية : ٢٤.

(٣) إما سنها خمسة أعوام أو طولها خمسة أشبار.

أن تكون بيننا وبين ربنا واسطة ، ثم قالت لأمها : لما رفعت صوتك بإظهار السر علمت أن الله يؤدبنا بإظهار الرفق على يد مخلوق.

فصل : من طلب من الله الحوائج العظيمة :

ومن الناس من تسمو هممهم فلا يطلبون منه الحوائج الخسيسة.

ويحكى عن الشبلى أنه أرسل إلى ابن يزدانيال أن ابعث إلينا شيئا من دنياك ، فكتب إليه ابن يزدانيال : سل دنياك من مولاك ، فكتب إليه الشبلى : دنياى حقيرة وأنت حقير ، وإنما أطلب الحقير من الحقير ، ولا أطلب من مولاى غير مولاى.

ويحكى عن امرأة يحيى بن معاذ أنها قالت ليحيى : لقد قضيت العجب من بنيتنا هذه أنها طلبت منى شيئا تأكله مع الخبز ، فقلت لها : سلى من الله ، فقالت : أنا استحى من الله أن أسأل منه ما آكل.

فشتان بين من هى صبية بلغ من حسن أدبها أن تستحى أن تسأل من الله مباحا من الحلال ، وبين من هو شيخ طعن فى السن لا يستحى من الله وهو يراه على محظور عنه نهاه ، لكنه يختص برحمته من يشاء ، ويفعل فى بريته ما يريد ، قال سبحانه : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (١) فمنهم من يرزقه لطائف التوحيد وخصائص التوفيق ، ومنهم من يحرمه ذلك ؛ ويربطه بالخذلان وسوء الحرمان ، فنعوذ بالله من ذلك.

__________________

(١) الرعد : ٢٦.

فصل : رزق الأرواح والسرائر :

واعلم أنه يرزق الأرواح والسرائر كما يرزق الأشباح والظواهر ، وأرزاق القلوب الكشوفات والمعانى ، كما أن أرزاق الأجساد الغذاء والأحاظى.

يحكى أن رجلا كان يخدم سهل بن عبد الله فأصابه الجوع فقال : يا أستاذ القوت ، فقال سهل : الله الحى الّذي لا يموت ، ثم قال له بعد مدة : يا أستاذ لا بد من القوت فقال سهل : لا بد من الله الحى الّذي لا يموت.

وقيل لبعضهم : أى شيء القوت؟ فقال : ذكر الحى الّذي لا يموت ، وفى معناه أنشدوا :

إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها

فكم تلبث النفس التى أنت قوتها

والحق سبحانه وتعالى يقبض أرزاق الظواهر ويضيقها على قوم ويبسطها على قوم آخرين ، كذلك سنته فى أرزاق القلوب يرددها بين قبض وبسط ، وقبول ورد ، وإنما يعطيهم إذا شاء ما شاء كما شاء ، لا بعلة استحقاق ، ولا بسبب إيجاب.

قيل : إن موسى عليه الصلاة والسلام قال يوما فى مناجاته : إلهى إنى جائع ، فأوحى الله إليه : إنى أعلم ذلك ، فقال : أطعمنى ، فقال سبحانه : إلى أن أريد.

وكما أن للظواهر طعاما وشرابا كذلك للسرائر طعام وشراب ، قال أهل الإشارة فى قوله تعالى : (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) (١) لم يشر إلى طعام معهود ولا إلى شراب مألوف ، وإنما أشار إلى طعام المعرفة وشراب المحبة.

__________________

(١) الشعراء : ٧٩.

وأنشدوا :

شربت الحب كأسا بعد كأس

فلا نفد الشراب ولا رويت

وأنشدوا أيضا :

سقانى شربة أحيا فؤادى

فلا أسلو إلى يوم التناد

وقال بعضهم : دخلت على داود الطائى فرأيته منبسطا ، وكنت إذا دخلت عليه أراه منقبضا ، فقلت : أى شيء حالك؟ فقال : سقانى البارحة شراب أنسه فأردت أن أجعل اليوم يوم عيد ، فقلت : أتأذن لى أن أحمل إليك طعاما حتى تفطر؟ فقال : لست أشير إلى هذا ، وشتان بين شراب يدار على الكف وشراب يكون فى موجب لطف وروية كشف.

وأنشدوا :

فأسكر القوم دور كأس

وكان سكرى من المدير

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٧ ـ الفتاح (١)

جل جلاله

الفتاح : اسم من أسمائه تعالى ورد به الخبر ونص القرآن ، كقوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ) أى احكم (بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٢) أى الحاكمين ، فيكون ذلك فى وصفه بمعنى القضاء والحكم ، والعرب تسمى الحاكم الفتاح ، لأنه يفتح بقضائه ما انغلق من خصومتهم ، ويكون الفتاح فى وصفه : الّذي يفتح لهم ما انغلق من أبواب الرزق وتقاصرت عنه حيلهم ، ويقال : فتح لهم باب الخير ، وفتح عليهم باب العذاب، قال الله سبحانه (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) (٣) والفتح فى اللغة ضد الغلق ، والمفتاح الآلة التى بها يفتح الغلق ، وجمعه مفاتيح ، وهو المفتح أيضا ، وجمعه المفاتح.

__________________

(١) قال المشايخ : الفتاح الّذي فتح قلوب المؤمنين بمعرفته ، وفتح على العاصين أبواب مغفرته ، وقيل : الفتاح الّذي يعينك على الشدائد ، وينيلك وجوه الزوائد ، وقيل : الفتاح الّذي فتح على النفوس باب توفيقه ، وعلى الأسرار باب تحقيقه ، وقيل : الفتاح الّذي لا يغلق وجوه النعمة بالعصيان ، ولا يترك إيصال الرحمة بالنسيان ، وقيل : الفتاح الّذي حكمه حتم ، وقضاؤه جزم.

(٢) الأعراف : ٨٩.

(٣) الأنعام : ٤٤.

وإذا علم العبد أنه هو الفتاح والقاضى بين عباده تجنب سبل الظلم وتنكب عن جميع الجور تحققا بأنه يحاسب على الصغير والكبير ، ويطالب بالنقير والقطمير.

يحكى عن بعض الصالحين أنه قال لولده يوما : لى إليك حاجة ، فقال : وما هى؟ قال : أن تقول بالمساء كل ما قلته بالنهار ، فتكلف الابن ذلك اليوم ، وحفظ ما قاله للناس وأعاد إلى أبيه ، فلما أصبح قال له أبوه مثل ذلك ، فقال له الابن : عذبنى بما شئت ولا تكلفنى هذا ، فإنى لا أطيقه ، فقال الأب : يا بنى ، إذا كنت لا تطيق محاسبة أبيك ليوم واحد ، مع هذا اللطف ، فكيف تطيق محاسبة عمرك يوم لا يسمع من الجواب إلا ما كان صادقا.

ويقال : إن الله تعالى يأمر مناديا يوم القيامة ينادى : إن الله تعالى يقول : أنا ظالم إن جاوزنى اليوم ظلم ظالم.

فإذا علم العبد أنه مسئول عن جميع أفعاله وأقواله استعد لذلك اليوم ، فلا يعمل ما يخاف عليه العتاب ويخشى لأجله العقاب.

وقد روى فى الخبر أنه لا يزول قدم عبد من مكانه (١) حتى يسأل عن ثلاث : يقال : شبابك فيم أبليته ، وعمرك فيم أفنيته ، ومالك من أين جمعته وفيم أنفقته.

وفى هذا المعنى تسلية للمظلومين ، وتفريج لكربة الممتحنين ووعيد شديد على الظالمين.

قال ابن عباس فى معنى قوله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(٢) ما نزلت هذه الآية إلا وعيدا للظالم وتسلية للمظلوم.

وأما من علم أنه الفتاح للأبواب الميسر للأسباب الكافى للخطوب المصلح

__________________

(١) أى يوم القيامة.

(٢) إبراهيم : ٤٢.

للأمور فإنه لا يتعلق قلبه بغيره ، ولا يشتغل بدون فكره ، يعيش منه بحسن الانتظار ، ولا يزداد بلاء إلا ويزداد بربه ثقة ورجاء (١) ، كيعقوب عليه‌السلام قال لبنيه بعد ما طال الأمد وتمادت الغيبة ورجعوا غير مرة خائبين : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) (٢).

ويحكى عن بعض الفقراء أنه كان يأتى كل يوم ويقف بحذاء الكعبة بعد ما كان يطوف ما شاء الله ، ويخرج من جيبه رقعة ينظر فيها ، فلما كان بعد أيام فعل مثل ذلك ثم تباعد ومات ، فجاء بعض من كان يرمقه ونظر فى الرقعة فإذا فيها : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (٣) فكان الرجل إذا أصابته الفاقة صبر ولم يظهر حاله لمخلوق حتى مات.

* * *

فصل : ما يفتحه الله تعالى لخلقه :

واعلم أنه يفتح للنفوس بركات التوفيق ، وللقلوب زوائد التحقيق ، فبتوفيقه تتزين النفوس بالمجاهدات ، وبتحقيقه تتزين القلوب بالمشاهدات

* * *

__________________

(١) ينبغى أن يعطش العبد إلى أن يصير بحيث ينفتح بلسانه مغاليق المشكلات الإلهية ، ويتيسر بمعرفته ما تعسر على الخلق من الأمور الدينية والدنيوية ليكون له حظ من اسم الفتاح.

(٢) يوسف : ٨٧.

(٣) الطور : ٤٨.

فصل : من آداب من علم أنه تعالى الفتاح :

ومن آداب من علم أنه الفتاح أن يكون حسن الانتظار لوجود لطفه ، دائم الترقب لحصول فضله ، مستديم التطلع لنيل كرمه ، تاركا للاستعجال عليه ، ساكنا تحت جريان الحكم ، عالما بأنه لا يقدم ما حكم بتأخيره ، ولا يؤخر ما حكم بتقديمه.

ويحكى أن رجلا كان يؤذن لأمير المؤمنين على رضى الله عنه فى مسجده ، وكانت تخرج من دار على رضى الله عنه جارية تستسقى بالغدوات ، فكان المؤذن يقول لها كل يوم : يا فلانة ، إنى أحبك ، فشكت يوما إلى عليّ رضى الله عنه وقالت : إن المؤذن يقول لى كل يوم : إنى أحبك ، فقال على رضى الله عنه : قولى له : وأنا أيضا أحبك ، فإيش بعد هذا؟ فقالت الجارية للمؤذن ذلك ، فقال المؤذن : إذا نصبر حتى يحكم الله بيننا ، فذكرت ذلك لعلى رضى الله عنه فدعا بالمؤذن وسأله عن القصة ، فأخبره بالصدق ، فقال على رضوان الله عليه : خذ بيدها واحملها إلى بيتك ، فقد حكم الله بينكما.

وقيل : إن رجلا باع جارية فندم واستحى أن يقول ذلك للناس ، وأن يعود إلى المشترى ، فكتب على كفه حاجته ورفع يده إلى السماء ولم يقل بلسانه شيئا فرأى المشترى فى المنام : أن قلب ولينا مشغول بالجارية ، فردها عليه وأجرك عليّ ، فلما أصبح الرجل حمل الجارية إلى البائع ودق الباب عليه ، فقال : من أنت : فقال : مشترى الجارية ، فقال : اصبر حتى أخرج الثمن ، فقال : أردها بلا ثمن ، فقد رضيت بما يعطينى الله بها من الأجر.

وروى أن رجلا من الفقراء طلب قلبه يوما فخرج فى وجده وطلب بلاد

الروم ، من غير قصد ، فأسر وأقيم للبيع فيمن يزيد ، والرجل فى سكره ، فأفاق ورأى نفسه على تلك الحالة فقال :

أقامنى حبك فيمن يزيد

فى صفة الذل ونعت العبيد

ما ضرنى مبتاع أم مشترى

فى حبكم لأن أمرى رشيد

مولاى ولهى بلغ ما ترى

فكيف نمدح غيركم يا حميد

قد حضر البائع والمشترى

عبدك موقوف فما ذا تريد

قال : فتغافلوا عنه فى تلك الحالة ومضى الرجل على وجهه ، وخرج من بلاد الروم إلى بلاد الإسلام ، ولم يقل له أحد شيئا.

باب

فى معنى اسمه تعالى

١٨ ـ العليم (١)

جل جلاله

العليم اسم من أسمائه تعالى ورد به نص القرآن ، وهو عالم وعليم وعلام ، والتوقيف فى أسمائه تعالى معتبر ، والإذن فى جوازها منتظر ، فلا يسمى إلا بما ورد به الكتاب والسنة ، وانعقد عليه إجماع الأمة ، ولهذا لا يسمى عارفا ولا فطنا ولا عاقلا ولا داريا ولا ذكيا ولا شاعرا ولا إماما ، وإن كان الجميع بمعنى واحد.

وعلمه سبحانه نعت من نعوته ووصف مختص بذاته ، ليس بمكتسب ولا ضرورى ، دل على ثبوته شهادة أفعاله المحكمة.

فإذا ثبت ذلك فمن شأن من تحققه أن يكون مكتفيا بفعله عند جريان حكمه ، ساكنا عن تدبيره وتقديره ، فارغا عن اختياره واحتياله ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

ولما أن تعرض جبريل للخليل ، صلوات الله تعالى عليهما ، وهو فى الهواء حين رمى من المنجنيق ، قال له : هل لك من حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، فقال : فسل ربك ، فقال حسبى من سؤالى علمه بحالى.

__________________

(١) العليم : الّذي لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه قاصية ولا دانية ، وقيل : من عرف أنه عليم بحاله صبر على بليته ، وشكر على عطيته ، واعتذر عن قبيح خطيئته.

(٢) الأنفال : ٦٤.

وقيل إن رجلا قال لبعض الموفقين : أيطلب الرجل الرزق؟ فقال : إن علم أين هو فليطلب.

فقال : أيسأل الله تعالى؟ فقال : إن علم أنه نسيه فليذكره.

قال : فما الحيلة؟ قال : ترك الحيلة.

آداب من علم أنه تعالى عالم الخفيات :

ومن آداب من علم أن الله تعالى عالم الخفيات ، خبير بما فى الصدور عليم بما فى الضمائر والسرائر من الخطرات ، لا يخفى عليه شيء من الحوادث فى جميع الحالات ، فبالحرى أن يستحى عن موضع اطلاعه ويرعوى (١) عن الاغترار بجميل ستره ، ويخشى بغتات قهره ومعاجلة مكره (٢) ، قال الله تعالى : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (٣) الآية.

وفى بعض الكتب : إن لم تعلموا أنى أراكم فالخلل فى إيمانكم ، وإن علمتم أنى أراكم فلم جعلتمونى أهون الناظرين إليكم.

__________________

(١) ارعوى : رجع وارتدع.

(٢) فإن معلومات العبد وإن اتسعت فهى محصورة فى قلة ، فأنى يناسب ما لا نهاية له.

(٣) النساء : ١٠٨.

فصل : ومن آداب من علمه تعالى عليما :

ومن آدابه أن لا يعارض مخلوقا فيما يحتاج إليه من مطالبة اكتفاء بعلمه ، فإنه إن ساكن بقلبه مخلوقا عوقب فى الوقت ، إن كان له عند الله قدر.

يحكى عن إبراهيم الخواص أنه قال : كنت فى البادية ، وكنت قد تهت ، فسمعت نباح كلب من بعيد ، فأصغيت إليه ، وأخذت نحو ذلك الصوت ، وقلت فى نفسى : أمشى نحو نباحه لأوافى العمارة ، فإنه لا يكون إلا فى عمارة ، فلم ألبث أن صفعنى شخص من ورائى ، ولم أره ، فوقع عليّ البكاء ، وقلت : إلهى ، هذا جزاء من توكل عليك ، قال : فهتف بى هاتف : ما دمت فى خفارتنا كنت عزيزا ، وإنما صفعت لأنك دخلت فى خفارة كلب ، وهذا رأس من صفعك ، فنظرت فإذا برأس مقطوع بين يدى.

ويحكى عن الخواص أيضا أنه قال : كنت بائعا فى الطريق فوافيت الرى ، فخطر ببالى أن لى بها معارف ، فإذا دخلتها أضافونى وأطعمونى ، قال : فلما دخلت البلد رأيت منكرا احتجت أن آمر فيه بالمعروف ، فأمرت بالمعروف فأخذونى وضربونى ، فقلت فى نفسى : من أين أصابنى هذا الضرب على جوعى؟ فنوديت فى سرى : إنما أصابك ذلك لأنك سكنت إلى معارفك بقلبك وقلت : إنهم يطعموننى إذا دخلت البلد.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : كنت جائعا فقلت لبعض معارفى : إنى جائع ، فلم يفتح لى من قبله بشيء ، فمضيت فوجدت درهما ملقى على الطريق ، فرفعته فإذا فيه مكتوب : أما كان الله عالما بجوعك حتى قلت لضعيف : إنى جائع.

ويحكى عن أبى سعيد الخراز أنه قال : خرجت وقتا فى البادية ، وكنت جائعا ، فدخلت الكوفة ، وكان لى بها صديق يقال له : الحوارى ، وكان يضيفنى إذا دخلت الكوفة ، فأتيت حانوته فوجدته غائبا ، فدخلت مسجدا بقرب حانوته أنتظر رجوعه ، وقلت : بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين ، وسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين المتوكلين ، وقعدت مستندا إلى اسطوانة أنتظر الحوارى ، قال : فدخل داخل فقال : الحمد لله رب العالمين ، وسبحان من أخلى الأرض من المتوكلين ، وسلام علينا وعلى جميع الكذابين ، يا أبا سعيد ، يا مدعى التوكل فى الصحارى والبرارى ، ليس التوكل الجلوس على البوارى ، تنتظر الحوارى ، قال فالتفت فلم أجد أحدا.

وهكذا سنة الله مع خواص عباده ، لا يسامحهم فى خطرة ولا يتجاوز عنهم فى لحظة ، يطالبهم بالكبير والصغير ، ويضايقهم بالنفير والقطير ، وأما الذين خست رتبتهم وقلّت قيمتهم فيذرهم بإمهاله يغترون وفى غفلاتهم ينهمكون ، حتى إذا أخذهم بغتة أهلكهم مرة ، نعوذ بالله من ذلك.

باب

فى معنى اسميه تعالى

١٩ ، ٢٠ ـ القابض الباسط (١)

جل جلاله

اعلم أنهما اسمان لله تعالى ورد بهما الخير ونطق بهما لفظ الكتاب ، وهما من صفات فعله ، قيل : معناه قابض الأرواح والأشباح عند الممات ، وباسط الأرواح فى الأجساد عند الحياة ، وقيل : معناه أنه يقبل الصدقات عن الأغنياء ، يعنى يقبلها ، ويبسط الأرزاق للفقراء ، يعنى يعطيها ويهبها ، وقيل : يقبض القلوب أى يضيقها ويوحشها (٢) ويبسط القلوب أى يبهجها ويؤنسها (٣) ، وقيل : يقبض الرزق أى يضيقه ، ويبسطه أى يوسعه.

واعلم أن القبض والبسط على اصطلاح أهل المعرفة فى تخاطبهم نعتان يتعاقبان على القلوب ، فإذا غلب على قلب عبد الخوف كان بعين القبض ، وإذا غلب على قلبه الرجاء صار من أهل البسط.

يحكى عن الجنيد أنه قال : الخوف يقبضنى والرجاء يبسطنى والحق يجمعنى والحقيقة تغرقنى ، وهو فى ذلك كله موحشى غير مؤنسى بحضورى بذوق طعم وجودى فليته غيبنى عنى وأفنانى منى.

__________________

(١) معناهما فى اللغة : القبض فى اللغة الأخذ ، والبسط التوسيع والنشر ، وهذان الأمران يعمان جميع الأشياء ، فكل أمر ضيقه فقد قبضه ، وكل أمر وسعه فقد بسطه.

(٢) وذلك بما يكشف لها من قلة مبالاته وتعاليه وجلاله.

(٣) وذلك بما يتقرب إليها من بره ولطفه وجماله.

فصل : كيف يكون البسط والقبض :

فإذا كاشف الحق سبحانه عبدا بنعت جماله بسطه ، وإذا كاشفه بوصف جلاله قبضه ، فالقبض يوجب إيحاشه والبسط يوجب إيناسه ، واعلم أنه يرد العبد إلى أحوال بشريته فيقبضه حتى لا يطيق رده ويأخذه مرة عن نعوته فيجد لتحمل ما يرد عليه قوة وطاقة (١).

يحكى عن أبى عثمان الحيرى أنه كان عند أبى حفص أستاذه فمد يده إلى زبيب ، فأخذ أبو حفص على حلقه واسترده منه ، فلما سكن أبو حفص قال له أبو عثمان : يا أستاذ أنا أعلم أنه ليس للدنيا عندك حظ فكيف ضايقتنى فى زبيبة؟ فقال أبو حفص : من ذا يثق بقلب لا يملكه صاحبه.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع الخواص فى سفر فنزلنا تحت شجرة فجاء أسد فربض بقربنا ، ففزعت فزعا شديدا وعلوت الشجرة وقعدت على غصن إلى الصباح ، من خوف الأسد ، ونام الخواص ولم يحفل به ، فلما كان الليلة الثانية نزلنا فى مسجد فنام الخواص فوقع على وجهه بقة فضج ،

__________________

(١) القابض الباسط من العباد من ألهم بدائع الحكم ، وأوتى جوامع الكلم ، فتارة يبسط قلوب العباد بما يذكرهم من آلاء الله ونعمائه ، وتارة يقبضها بما ينذرهم به من جلال الله وكبريائه وفنون عذابه وبلائه وانتقامه من أعدائه ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قبض قلوب الصحابة عن الحرص على العبادة ، حيث ذكر لهم أن الله تعالى يقول لآدم يوم القيامة : ابعث بعث النار ، فيقول : كم؟ من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، فانكسرت قلوبهم حتى فتروا عن العبادة ، فلما أصبح ورآهم على ما هم عليه من القبض والفتور روّح قلوبهم وبسطهم ، فذكر أنهم فى سائر الأمم قبلهم كشامة سوداء فى ثور أبيض.

فقلت : إن هذا عجب ، لم تحتشم البارحة من الأسد وفزعت الليلة من البقة! فقال : إن البارحة كنت مأخوذا عنى ، والليلة أنا مردود عليّ ، فلهذا جزعت.

ويحكى عن الشبلى أنه قال : من عرف الله حمل السماوات والأرضين على شعرة من جفن عينيه ، ومن لم يعرف الله لو تعلق به جناح بعوضة لضج.

فحمل هذا منه على حالتى القبض والبسط.

وقال بعض أهل المعرفة : إذا قبض قبض حتى لا طاقة ، وإذا بسط بسط حتى لا فاقة.

* * *

فصل : الكل لله ومن الله :

واعلم أن الله يقبض الصدقات من الأغنياء ويقبلها لئلا يمن الغنى على الفقير ، ويبسط الرزق للفقراء لئلا تلحقهم منة من الأغنياء ليكون دفع الغنى إلى الله ، وقبض الفقير من الله ، فلا يبتغى الفقير غير الله ولا يبتغى الغنى غير الله ، وكأن الإشارة إلى الجملتين إفراد القلب لله عن غير الله وتصفية السر عما سوى الله ، فالغنى ينبغى أن لا يدل على الفقراء بل يذل لله ، والفقير يجب أن لا يذل لغير الله بل يشتغل بالله تعالى.

* * *

فصل : بين القبض والبسط :

وكان الدقاق ، رحمه‌الله تعالى يقول : القبض حق الحق منك ، والبسط حظ العبد منه ، ولأن تكون بحقه منك أتم من أن تكون بحظك منه.

وينبغى أن يتجنب الضجر فى وقت قبضه ويتجنب ترك الأدب فى حال بسطه.

وفى بعض الحكايات أن بعضهم قال : فتح على باب من البسط فزللت زلة فحجبت عن مكانى ، وسئل بعض المشايخ عن تلك الزلة إيش كانت؟ فقال : انبساط مع الحق بغير إذن ، ومن هذا خشى الأكابر والسادة.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢١ ، ٢٢ ـ الخافض الرافع (١)

جل جلاله

اعلم أنهما اسمان من أسمائه تعالى ورد بهما الخبر ، وهما من صفات فعله ، يرفع من يشاء بإنعامه ، ويخفض من يشاء بانتقامه ، وعلى هذا يحمل تصريفه لعباده فى حالتى عزهم وذلهم وغناهم وفقرهم ، وكذا رفع الحق وحزبه ، وخفض الباطل وصحبه ، ورفع الدين وشعاره ، وخفض الكفر وآثاره ، ورفع التوحيد ودليله ، وخفض الإلحاد وسبيله ، ورفع الإسلام وأنواره ، وخفض الأصنام ومن رضى تعظيمها واختاره ، ورفع القلوب بتقريبه وخفض النفوس بحكم تعذيبه ، ورفع أولياءه بحفظ عهده وحسن رده وجميل رفده وصدق وعده ، وخفض الأعداء بصده ورده ، وطرده وبعده ورفع من اتبع رضاه ، وخفض من اتبع هواه ، وقيل من رضى بدون قدره رفعه الله فوق غايته.

وقيل فى بعض الحكايات : إن رجلا رئى واقفا فى الهواء فقيل له : بم بلغت هذه المنزلة؟ فقال : أنا رجل جعلت هواى تحت قدمى فسخر الله لى الهواء.

__________________

(١) هو الّذي يخفض الكفار بالإشقاء ، ويرفع المؤمنين بالإسعاد ، يرفع أولياءه بالتقريب ويخفض أعداءه بالإبعاد ، ومن يرفع مشاهدته عن المحسوسات والمتخيلات ، وإرادته عن ذميم الشهوات فقد رفعه الله تعالى إلى أفق الملائكة المقربين ، ومن قصر مشاهدته على المحسوسات وهمته على ما يشاركه فيه البهائم من الشهوات فقد خفضه إلى أسفل السافلين ، ولا يفعل ذلك إلا الله تعالى ، فهو الخافض الرافع جل جلاله.

وليس المرفوع قدرا ، والمعلى شأنا وأمرا ، والمستحق مجدا وفخرا ، من وضع الطين على الطين ، وتكبر على المساكين ، وافتخر على أشكاله بكثرة ماله واستقامة أحواله ، وإنما المشرف شأنا ، والمعلى رتبة ، ومكانا من رفعه الله بتوفيقه وأيده بتصديقه وهداه إلى طريقه ، صفا مع الله قلبه وخلا له وجهه ولبه ، وصعد إلى السماء أنينه ، وصدق إلى الله شوقه وحنينه.

وروى فى الخبر : «كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له ، لو أقسم على الله لأبر قسمه».

واعلم أن المخفوض حقا من تنكبه التوفيق والنصرة ، وأدركه الخذلان والفترة ، وأسرته نفسه ، فهو بشهواتها مربوط ، وفى وقته تقصير وتخليط وتفريط ، إن رجع إلى قلبه لم يجد خبرا من ربه وإن رجع إلى ربه لم يجد خطرا لقدره ، فهو بالهجران موسوم ، وبين الفترات والأشغال مقسوم ، يبيت فى فترة ، ويصبح على حسرة.

وفى بعض الحكايات : من أراد ملك الدارين فليدخل فى مذهبنا يومين ، وفى معناه أنشدوا :

لله درهم من فتية بكروا

مثل القضاة وكانوا كالمفاليس

وقيل : إن امرأة كانت تكنس المساجد وكانت تسمى مسكينة ، فماتت فرئيت فى المنام فقيل لها : ما حالك يا مسكينة ، فقالت : هيهات ، ذهبت المسكنة وجاء الغنى الأكبر.

فصل : تذلل فى دنياك ترفع فى عقباك :

واعلم أن من تذلل لله تعالى فى دنياه رفعه الله فى عقباه ، قال الله تعالى : (وَمُلْكاً كَبِيراً) (١) جاء فى التفسير أنه سبحانه يرسل الملك إلى وليه ويقول له : استأذن على عبدى ، فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع ، فيستأذن عليه من سبعين حجابا ، ثم يدخل عليه ومعه كتاب الله مكتوب على عنوانه : من الحى الّذي لا يموت إلى الحى الّذي يموت ، فإذا فتح الكتاب وجد مكتوبا فيه : عبدى ، اشتقت إليك فزرنى ، فيقول : هل جئت بالبراق؟ فيقول : نعم ، فيركبه فيغلب الشوق على قلبه فيحمله شوقه ، ويبقى البراق ، إلى أن يصل إلى بساط اللقاء.

وأما الذين يخفضهم فهم أذل من التراب ، تطؤهم الأقدام ، قال الله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (٢).

__________________

(١) الإنسان : ٢٠.

(٢) الكهف : ١٠٥.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢٣ ، ٢٤ ـ المعز المذل (١)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى وصفات فعله ، فإعزازه للعبد يكون فى الدنيا والآخرة ، فأما فى الدنيا فيكون بالمال والحال ، فالمال لتجمل الظواهر ، والحال لتزين السرائر ، والمال يتحصل الاستغناء به من الأمثال والأشكال ، والحال يتحصل الافتقار بها إلى من لم يزل ولا يزال ، فالإعزاز بالمال فيما بين الخلق ، والإعزاز بالحال على باب الحق.

واعلم أن الله سبحانه وتعالى يعز الزاهدين بعزوب نفوسهم عن الدنيا ، ويعز العابدين بسلامة نفوسهم عن الرغائب والمنا ، ويعز أصحاب العبادات بسلامتهم عن اتباع الهوى ، ويعز المريدين بزهادتهم فى صحبة الورى وانقطاعهم إلى باب المولى ، ويعز العارفين بتأهيلهم لمقامات النجوى ، ويعز المحبين بالكشف واللقا والفناء عن كل ما هو غير وسوى ، ويعز الموحدين بشهود جلال من له البقاء والبهاء.

__________________

(١) المعز الّذي أعز أولياءه بعصمته ، ثم غفر لهم برحمته ، ثم نقلهم إلى دار كرامته ، ثم أكرمهم برؤيته ومشاهدته ، والمذل الّذي أذل أعداءه بحرمان معرفته وركوب مخالفته ، ثم نقلهم إلى دار عقوبته ، وأهانهم بطرده ولعنته.

قال بعضهم : ما أعز الله عبدا بمثل ما يدله على ذل نفسه ، وما أذل الله عبدا بمثل ما يشغله بعز نفسه.

فصل : بم يكون إعزاز الحق لعباده :

واعلم أن إعزاز الحق لعباده يكون بصحة القناعة فإن الذل كله فى الطمع ، وقيل : إن العقاب يطير فى الهواء فى تصاعده فلا يرتقى طرف إلى سطاره ، ولا تسمو همة إلى الوصول إليه فيرى قطعة لحم معلقة على شبكة فيدليه الطمع من مطاره فتعلق الشبكة بجناحه فيصيده صبى ، ثم يلعب به ، ولو لا الأطماع الكاذبة لما استعبد الأحرار بكل شيء لا خطر له ، وفى معناه أنشدوا :

وخير رداء يرتديه ابن حرة

سلامة عرض لم يدنس بمطمع

وأنشدوا :

طمعت بليلى أن تجود وإنما

تقطع أعناق الرجال المطامع

وأنشدوا :

إذا أظمأتك أكف الليا

لى كفتك القناعة شبعا وريا

فكن رجلا رجله فى الثرى

وهامة همته فى الثريا

أبيا لقاؤك ذا ثروة

تراه بما فى يديه أبيا

فإن إراقة ماء الحيا

ة دون إراقة ماء المحيا

وأنشدوا :

وإنى عفيف عن مطاعم جمة

إذا زين الفحشاء للنفس جوعها

وقيل : إن فتحا الموصلى كان قاعدا فسئل عمن يتابع الشهوات كيف صفته؟ وكان بقربه صبيان ، مع أحدهما خبز بلا إدام ، ومع الآخر خبز مع كامخ (١) ، فقال الّذي لم يكن له كامخ لصاحبه : أطعمنى مما معك ، فقال : بشرط أن تكون كلبى ، فقال له صاحبه : نعم ، فجعل خيطا فى رقبته وجعل يجره كما يقاد الكلب ، فقال فتح للسائل : أما إنه لو رضى بخبزه ولم يطمع فى كامخه لم يصر كلبا لصاحبه ، وقيل : لو لا الأطماع لما اندقت الأعناق.

فصل : عز العبد وذله منه تعالى :

وإذا أراد الله إعزاز عبد قربه من بساطه وأهّله لمناجاته ، وإذا أراد الله إذلال عبد ربطه بشهواته وحال بينه وبين قربته ومخاطباته.

وأوحى الله تعالى إلى داود عليه‌السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عنى محجوبة.

وحكى عن بعضهم أنه دخل على تلميذ له فقدم التلميذ إليه خبزا قفارا ولم يكن له إدام ، فأخذ يتمنى بقلبه أن ليت كان له إدام يقدمه إلى أستاذه ، فقام الأستاذ وقال : تعال معى ، فحمله إلى باب السجن ، فرأى الناس يضرب واحد ويقطع آخر ويعذب كل واحد بنوع من العذاب ، فقال الأستاذ للتلميذ : ترى هؤلاء هم الذين لم يصبروا على الخبز القفار.

وقيل إن رجلا خرج من السجن وفى رجله قيد ويسأل الناس ، فقال لإنسان : أعطنى كسرة ، فقال له : لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد فى رجلك.

__________________

(١) الكامخ : ما يؤتدم به ، أى يؤكل به الخبز.

وحكى أن رجلا خطر بباب أمير فرأى الناس محجوبين عليه إلا خادما كان يدخله بلا حجاب ، فسأل عن حاله ، فقيل : دار الحرام متى شاء بلا حجاب ، فقال : ولم؟ فقالوا : إنه مفقود آلة الشهوة ، فقال : سبحان من وعظنى بعد سبعين سنة بخصى ، فمن أراد الدخول بلا حجاب فعليه بترك الشهوات.

فصل : من هو العزيز ومن هو الذليل :

ليس العزيز من تطاول على أشكاله بماله ورياشه (١) وانتظام أسباب معاشه ، ويتطاول على أبناء جنسه ويعجب بسلامة نفسه ، وينسى ما كان يقاسى فى أمسه ، إنما العزيز من له ذرة من روح أنسه ، وجنب عن صحبة نفسه ، وأبناء جنسه ، وشهود قدسه.

واعلم أن الذليل من اعتز بالعصيان ، وتعود موجبات النسيان ، واتصف بالكفر والطغيان ، فهو بآفاته موسوم ، وبمخالفاته فى أغلب أوقاته عن وجود توفيقه محروم ، فإن المشايخ قالوا : ما أعز الله عبدا بمثل ما يدله على ذل نفسه ، وما أذل الله عبدا بمثل ما يرده إلى توهم عزه.

وقيل فى معنى قوله تعالى : (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (٢) تعز من تشاء بأن يكون لك بك معك بين يديك ، وتذل من تشاء بأن يكون فى أسر نفسه وغطاء شهواته وسجن تمنيه وآفاته ، يصبح عجوبا ويمسى محروما لا بالطاعات توفيق ، ولا بالقلب تصديق ، ولا فى الحال تحقيق ، نعوذ بالله من شر الأقدار وسوء الاختيار ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) الرياش : هو الغنى بالمال ، وذو رياش أى صاحب مال كثير.

(٢) آل عمران : ٢٦.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢٥ ، ٢٦ ـ السميع (١) البصير (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ، ورد بهما النص وانعقد عليهما الإجماع.

وسمعه وبصره صفتان له زائدتان على علمه ، بخلاف من خالف فيه من القدرية ، وهما إدراكان له ، فلا يخرج مسموع عن سمعه ، ولا موجود عن بصره ، وحد ما يحدون أن يسمع ويرى على الحقيقة ، فهو الموجود ، وليس من شرط سمعه وبصره حلول فى عضو واختصاص منه بجزء ، لأنه سبحانه أحدىّ

__________________

(١) السميع : هو الّذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفى ، ويدرك دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى الليلة الظلماء ، يسمع حمد الحامدين فيجازيهم ، ودعاء الداعين فيستجيب لهم ، ويسمع بغير أصمخة وأذن كما يفعل بغير جارحة ، ويتكلم بغير لسان ، وسمعه منزه عن أن يتطرق إليه الحدثان ، ومهما نزهت السمع عن تغيير يعتريه عند حدوث المسموعات ، وقدسته عن أن يسمع بأذن أو آلة أو أداة علمت أن السمع فى حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات ومن لم يحقق نظرا فيه وقع بالضرورة فى محض التشبيه فخذ منه حذرك ودقق فيه نظرك.

(٢) البصير : هو الّذي يشاهد ويرى حتى لا يعزب عنه ما تحت الثرى ، وإبصاره أيضا منزه عن أن يكون بحدقة وأجفان ، ومقدس عن أن يرجع إلى انطباع الصور والألوان فى ذاته كما ينطبع فى حدقة الإنسان ، فإن ذلك من التأثر والتغير المقتضى للحدثان ، وإذا نزه عن ذلك كان البصر فى حقه عبارة عن الصفة التى ينكشف بها كمال تفرق المبصرات ، وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراكه البصر القاصر عن ظواهر المرئيات.

الذات ، فردى الحقيقة ، غير منقسم فى ذاته ، ولا متألف بشيء من أمثاله ، وسمعه وبصره لا يتعلقان بمعدوم لاستحالة أن يكون المعدوم مدركا ، وأنه لا يحجب شيء عن بصره وسمعه ، يسمع السر والنجوى ، ويبصر ما هو تحت أطباق الثرى.

وكل من عرف من عباده أنه هو السميع البصير فمن آدابه دوام المراقبة ومطالبة النفس بدقيق المحاسبة.

وقيل : إن رجلا من الملوك كان له عبد وكان يقبل عليه أكثر مما يقبل على أمثاله ، ولم يكن أحسن منهم صورة ولا أكثر قيمة فتعجبوا منه ، وكان قد ركب الأمير يوما فى صحراء ومعه ندماؤه وغلمانه ، فنظر إلى جبل من بعيد وعليه قطعه ثلج ، فنظر الملك نظرة واحدة وأطرق ، فركض هذا الغلام دابته من غير أن ينظر الأمير إليه أو أشار بشيء عليه ، ولم يعلم الناس لم يركض ، فما لبثوا إلا يسيرا حتى جاء الغلام ومعه شيء من ذلك الثلج ، فسئل بم عرفت أنه أراد الثلج؟ فقال : لأنه نظر إليه ، ونظر الملوك إلى شيء لا يكون إلا على أصل ، فقال الأمير : إنما أقبل على هذا أكثر من إقبالى على غيره بهذا الّذي رأيتم ، لأن الكل مشتغلون بأنفسهم وهذا مشتغل بمراعاة أحوالى.

وإن من علامات من يعلم أنه السميع البصير أن يكون مستحييا من اطلاعه عليه وسمعه لما يقول.

روى عن الصديق رضوان الله عليه أنه قال : إنى لأغتسل فى الليلة الظلماء فأحنى صلبى حياء من ربى.

ويقال : إن عصيت مولاك فاعص فى موضع لا يراك.

فصل : من ألطاف الله تعالى على عبده الّذي يحفظ سمعه وبصره :

ومن ألطاف الله سبحانه بعباده الذين يحفظون له سمعهم وبصرهم أن يكفيهم مئونة أنفسهم ويصونهم فى أحوالهم ، فتكون أسماعهم مصونة عن سماع كل لغو ، وأبصارهم محفوظة عن شهود كل كبيرة ولهو.

روى فى الخبر أن الله تعالى يقول : «ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم ، ولا يزال العبد يتقرب إلى بالنوافل حتى يحبنى وأحبه ، فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ، فبى يسمع وبى يرى» وهذا هو محل الحفظ ووصف التخصيص فى العناية.

روى عن سهل بن عبد الله أنه قال : مذ كذا سنة وأنا أخاطب الحق سبحانه والناس يتوهمون أنى أكلمهم ، وفى معناه أنشدوا :

وظنونى مدحتهم قديما

وأنت بما مدحتهم مرادى

وهذا هو صفة الجمع الّذي أشار إليه القوم أن لا يكون العبد لنفسه بنفسه بل يكون لربه بربه ، وإذا علم أن مولاه يسمع ما يقول ويرى ما يختلف به من الأحوال فإنه يكتفى بسمعه وبصره عن انتقامه وانتصاره ، فإن نصرة الحق سبحانه أتم له من نصرته لنفسه ، قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) (١) ثم انظر بما ذا سلاه وكيف خفف عنه تحمل أثقال بلواهم بما شغلهم به فأمره به حيث قال عز ذكره : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٢) أى اتصف أنت بمدحنا

__________________

(١) الحجر : ٩٧.

(٢) الحجر : ٩٨ ، ٩٩.

وثنائنا إذا تأذيت بسماع السوء فيك ، فاستروح بروح ثنائك علينا ، ثم إنه سبحانه لما قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه مجنون ، تولى نفى ذلك عنه ورد عليهم فقال تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ(١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) (١) فنفى ذلك عنه بما أقسم عليه تحقيقا لتنزيهه ، وتطهيرا لنعمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم عاب قائله بعشر خصال من الذم حيث قال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) إلى قوله : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) (٢) فإن رد الحق سبحانه الّذي رد به عنه عليه الصلاة والسلام أتم من رده ذلك لنفسه.

* * *

__________________

(١) القلم : ١ ، ٢.

(٢) القلم : ١٠ ـ ١٣.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٢٧ ، ٢٨ ـ الحكم (١) العدل (٢)

جل جلاله

الحكم : هو الحاكم وحكمه خبره عن الشيء على وصف ، فيكون ذلك من صفات ذاته ، ويكون حكمه أيضا بين عباده بشيء وهو أن يخلق ذلك الشيء على الوجه الّذي يريد ، يقال : حكم لفلان بالنعمة ، أى أنعم عليه ، وحكم على فلان بالمصيبة : إذا خلق الله له البلاء ، فيكون هذا من صفات الفعل.

أما الوصف له بأنه العدل فيكون من صفات الذات ، على أن له أن يفعل فى ملكه ما يريد ، فيشير إلى استحقاقه لصفات العلو ، لأن حقيقة العدل أن يكون فعلا حسنا صوابا ، وإنما يكون حسنا صوابا إذا كان لفاعله أن يفعله ، فهو عادل وأفعاله عدل وله أن يفعل بحق ملكه ما يريد فى خلقه.

حكى أن رجلا جاء إلى سمنون وقال له : ما معنى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٣)؟ فأنشد سمنون :

ويقبح من سواك الفعل عندى

فتفعله فيحسن منك ذاكا

__________________

(١) الحكم : الّذي لا يقع فى وعده ريب ، ولا فى فعله عيب ، وقيل : الحكم الّذي حكم على القبول بالرضا والقناعة ، وعلى النفوس بالانقياد والطاعة.

(٢) العدل : هو مصدر عدل يعدل عدلا فهو عادل ، وهو الّذي له أن يفعل ما يريد ، وحكمه ماض فى العبيد ، وأنه لا يظلم ولا يجوز.

(٣) آل عمران : ٥٤.

فقال الرجل : نسألك عن آية من كتاب الله تعالى فتجيبنى ببيت شعر؟ فقال له سمنون : من أى بلد أنت؟ فقال : من الجبل ، فقال له : من الذين هم فى الناس كالكرات فى البقل؟ لم أجبك ببيت لقصورى فى الجواب ، ولكن أردت أن أبين لك أن فى أقل القليل أدل دليل على ما سألت بخليته إياهم مع مكرهم مكره بهم.

فمن علم أنه العدل لم يستقبح منه موجودا ، ولم يستثقل منه حكما ، بل يستقبل حكمه بالرضا ويصبر تحت بلاياه بغير شكوى ، ولم يضق بتحمل بلاياه قلبا ، ووسع بمقاساة مفاجآت تقديره صدرا.

يحكى عن أبى عثمان المغربى أنه قال : قلوب العارفين أفواهها فاغرة لمفاجأة القدر.

فصل : لا تبديل لحكم الله تعالى :

واعلم أن الله تعالى حكم فى الأزل لعباده بما شاء ، فمنهم شقى وسعيد ، وقريب وبعيد ، فمن حكم له بالشقاوة لا يسعد أبدا ، ومن حكم له بالسعادة لا يشقى أبدا ، ولذا قالوا : من أقصته السوابق لم يدنه الوسائل ، وقالوا : من قعد به جده لم ينهض به جده ، وقيل : إذا كان الرضا والغضب صفة أزلية فما تنفع الأكمام المقصرة والأقدام المورمة والوجوه المصفرة ، وقيل : إن بعض الأكابر كان قاعدا فمر به تابوت يهودى أوصى بأن يدفن فى بيت المقدس ، فقال ذلك الشيخ : أيكابرون الأزل ، أما علم هؤلاء أنهم لو دفنوا هذا فى فراديس العلاء لجاءت لظى بأنكالها وحملته إلى نفسها.

وكان الدقاق ، رحمه‌الله ، كثيرا ما ينشد :

ما حيلتى تفعل الأقدار ما أمرت

والناس من بين ذى غى وذى رشد

واعلم أن الناس على أربعة أقسام : أصحاب السوابق ، فتكون فكرتهم أبدا فيما سبق لهم من الله سبحانه ، يعلمون أن الحكم الأزلى لا يتغير باكتساب العبد.

سمعت الدقاق يقول : سمعت بعضهم يقول : كان الواسطى ، رحمه‌الله ، يصيح ليلة إلى الصباح ، فلما أصبح قيل له : ما أصابك؟ فقال : سمعت البارحة رجلا يقول : أيا راهبى نجران ما فعلت هند؟ فقلت فى نفسى : ما الّذي سبق لك من الله تعالى فى الأزل؟.

وطائفة ثانية هم أصحاب العواقب يتفكرون فيما يختم به أمرهم ، فإن الأمور بخواتيمها ، والعاقبة مستورة ، ولهذا قيل : لا يغرنكم صفاء الأوقات ، فإن تحتها غوامض الآفات ، وقيل : ظلال الأسنة تلوح من خلال المنة.

فكم من ربيع تتورد أشجاره وتظهر ثماره وأزهاره ووطن عليه أهله قلوبهم قلم يلبثوا أن أصابته جائحة سماوية فطاح واضمحل ، قال الله سبحانه : (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) (١) وكم من مريد لاحت عليه أنوار الإرادة وظهرت عليه آثار السعادة وانتشر صيته فى الآفاق وعقدت عليه الخناصر بالأطباق وظنوا أنه من جملة أوليائه وأهل صفائه ، فأبدل بالوحشة صفاؤه وبالغيبة ضياؤه ، وأنشدوا :

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت

ولم تخف سوء ما يأتى به القدر

وسالمتك الليالى فاغتررت بها

وعند صفو الليالى يحدث الكدر

__________________

(١) يونس : ٢٤.

وقيل أيضا فى معناه :

يا سائلى كيف كنت بورى

لقيت ما ساءنى وسره

ما زلت أحتال فى رضاه

حتى أمنت الزمان مكره

صال على الصدود حتى

لم يبق مما شهدت ذره

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول : كان بعض المشايخ له حالة مع الله جميلة ، فلم ير مدة ، فلما رئى بعد زمان لم يكن على ما عهد عليه قبله من صفاء الوقت ، فقيل له : يا أبا فلان ، إيش أصابك؟ فقال : آه ، حجاب وقع.

والطائفة الثالثة : هم أصحاب الوقت ، لا يشتغلون بالفكر فى السوابق والعواقب ، بل يشتغلون بمراعاة الوقت ، وأداء ما كلفوا من أحكام الوقت فيكون الغالب عليهم هذا.

وقد قيل : العارف ابن وقته ، وقيل لبعضهم : تكلم ، فقال : حتى أجد إنسانا ، فقيل له : ومن تريد؟ فقال : من لا يهمه ماضى وقته ولا آتيه ، بل يهمه وقته الّذي هو فيه ، وقيل : الصوفى من لا ماضى له ولا مستقبل ، وسمعت الشيخ منصور المغربى يقول : رأى بعض الفقراء أبا بكر الصديق فقال : أوصنى ، فقال : كن ابن وقتك.

وأما الطائفة الرابعة فالغالب عليهم ذكر الحق سبحانه ، فهم مأخوذون بشهود الحق عن مراعاة الأوقات ، لا يتفرغون إلى مراعاة وقت وزمان ، ولا يتطلعون لشهود حين وأوان.

قال عبد الله بن يوسف : دخلت على بعض المشايخ بهراة فأردت أن أقوم من عنده فقال لى : تخرج؟ فقلت : لا أشغل فى وقت الشيخ أكثر من هذا ، فقال : يا بنى ، أنا لست للوقت ، الوقت ما شغلنى به ربى ، وفى معناه أنشدوا :

لست أدرى أطال ليلى أم لا

كيف يدرى بذاك من يتقلى

لو تفرغت لاستطالة ليل

ولرعى النجوم كنت مخلا

إن للعاشقين عن قصر الليل

وعن طوله من الهجر شغلا

ويحكى عن الجنيد أنه قال : دخلت على السرى يوما وقلت له : كيف أصبحت؟ فأنشأ يقول :

ما فى النهار ولا فى الليل لى فرج

ولا أبالى أطال الليل أم قصرا

ثم قال : ليس عند ربكم صباح ولا مساء ، أشار بهذا إلى أنه غير متطلع للأوقات ، بل هو مستغرق بشهود الموقف عن الحالات والشارات.

وفى معناه أنشد :

لا كنت إن كنت أدرى كيف كنت ولا

أكون إن كنت أدرى كيف لم أكن

كن لى كما كنت لى فى حين لم أكن

يا من به صرت بين الرزء والحزن

وربما يزبد المعنى ويغلب على صاحب هذا النعت حتى يصير فانيا عن كل

إحساس وحتى يفنى عن فنائه ، قال الله سبحانه : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) (١) ، وحكى أن رجلا دق الباب على أبى يزيد فقال : إيش تريد؟ فقال : أبا يزيد ، فقال : ليس فى الدار أبو يزيد ، وحكى أن رجلا قال للشبلى : أين الشبلى؟ فقال : مات ، لا رحمه‌الله.

وقيل : إن ذا النون المصرى بعث رجلا يتعرف له أحوال أبى يزيد البسطامى ويصفها له ، لما تناهى إليه أخباره ، فحضر الرجل بسطام واستدل على أبى يزيد فدل عليه وهو فى مسجده ، فدخل عليه وسلم ، فقال : إيش تريد؟ فقال : أريد أبا يزيد ، فقال أبو يزيد : أين أبو يزيد؟ أنا فى طلب أبى يزيد ، فقال الرجل فى نفسه : هذا مجنون ، لقد ضاع سفرى ، فرجع إلى ذى النون ووصف له ما رأى وسمع ، فبكى ذو النون وقال : أخى أبو يزيد ذهب فى الذاهبين فى الله.

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول فى قوله تعالى مخبرا عن إبراهيم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢) قال : كان ذاهبا فى الله فلهذا صار ذاهبا إلى الله ، فذهابه فى الله أوجب ذهابه إلى الله تعالى.

واعلم أن هذه الألفاظ توهم ظواهرها ، وإنما يقف على معانيها ومرمى القوم فيها من جمع بين حقائق الأصول وبين شيء من علوم هذه الطائفة ، وتحقق ولو بشظية من معانيه ، وإلا وقع فى الاعتراض على السادة ، ونعوذ بالله من تلك العقوبة.

__________________

(١) الكهف : ١٨.

(٢) الصافات : ٩٩.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٢٩ ـ اللطيف (١)

جل جلاله

اعلم أن اللطيف اسم من أسمائه نطق به القرآن ، قال الله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) (٢) واللطيف فى اللغة له ثلاثة معان :

أحدها : أن يكون عالما بدقائق العلوم وغوامضها ومشكلاتها ، يقال : فلان لطيف الكف إذا كان حاذقا فى صنعته ماهرا بما يشكل على غيره.

واللطيف هو الشيء الصغير الدقيق وهو ضد الكثيف ، يقال : لطف يلطف فهو لطيف إذا صغر ودق ، ويقال : لطف يلطف إذ رفق به وأوصل إليه منافعه من حيث لا يعلم هو ولا يقدر عليه برفق منه ، فاللطيف هو الدقيق ضد الكثيف ، وهذا المعنى فى وصفه مستحيل.

واللطيف هو العليم بدقائق الأمور ومشكلاتها ، وهذا فى وصفه واجب.

واللطيف المحسن الموصل للمنافع برفق ، وهذا فى نعته مستحق ، وهذا من صفات فعله ، وقوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يحتمل المعنيين جميعا : أن يكون عالما بهم وبمواضع حوائجهم ، يرزق من يشاء كما يشاء ، ولطيف بهم يحسن إليهم ويتفضل عليهم ويرفق بهم.

__________________

(١) اللطيف : من وفق للعمل فى الابتداء ، وختمه بالقبول فى الانتهاء ، وقيل : اللطيف من ولى فستر ، وأعطى فأغنى ، وأنعم فأجزل ، وعلم فأجمل.

(٢) الشورى : ١٩.

فصل : من معانى اللطف :

وإذا حمل قوله : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) على صفات الذات وأنه بمعنى العالم بخفايا أمورهم ، فالآية تشير إلى تخويف ما لأنه العليم بخفيات الالتفاتات ، ودقائق اللحظات ، قال الله تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) (١) فيوجب قبض العبد ويذكره لوصف الاطلاع ، وإن كثيرا من الناس يتوهمون أن لهم طاعات يستحقون عليها درجات وكرامات ، فإذا حصل ذلك ظهرت الآفات ، قال الله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٢) وقال تعالى : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣) قال المشايخ : لكم من الآفات فى الطاعات ما يمنعكم عن ارتكاب المخالفات ، وأن المفلس حقا من ظن أنه موسر ثم بان له إفلاسه عند تصفح ديوانه.

فصل : من لطفه تعالى بعباده :

وقد قيل من لطفه سبحانه وتعالى بعباده أنه أعطاهم فوق الكفاية وكلفهم دون الطاقة ، قال الله سبحانه وتعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (٤) والإسباغ ما يفضل عن قدر الحاجة ، وقال فى صفة التكليف : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) ، وقال عز ذكره : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٦) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السمحة السهلة» وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» وأنه تعالى لما أوجب على

__________________

(١) غافر : ١٩.

(٢) الزمر : ٤٧.

(٣) الكهف : ١٠٤.

(٤) لقمان : ٢٠.

(٥) الحج : ٧٨.

(٦) الأعراف : ١٥٧.

العبد فى اليوم والليلة خمس صلوات لم يكلفه أن يؤديها دفعة واحدة ، بل جعلها عليه منجمة [مفرقة] فصلاة يومك لم يقبضها منك دفعة واحدة ، وأعطاك من الرزق يكفيك لسنين كثيرة ، وأنت تشكو وتتهم.

حكى أن رجلا جاء إلى بعض الصالحين وقال : إلى كم تقولون إنه يوسع الرزق ومذ كذا يوم لم يكن فى دارى شيء ولم يطعم عيالى شيئا ، حتى بعت شيئا ورثته عن أبى وورثه أبى عن جدى ، فقال الرجل الصالح : يا ضعيف اليقين والنظر ، ويا قليل الفتوة والعبر ، مذ كذا وكذا سنة قبضت منه هذا الرزق وأنت تشكوه وتتهمه.

ومن لطفه بعباده أن يوصل إليهم ما يحتاجون إليه من غير تجشم كلفة ، فإن الرجل إذا أكل لقمة ، فلو فكر فيها لعلم كم عين سهرت فى تلك الليلة حتى صلحت لتناوله ، من عامل أصلح الأرض لزراعتها ثم لإلقاء البذر فيها ثم لحصادها ثم لتنقيتها ثم لطحنها ثم لخبزها ، وهكذا كل شيء يرتفق به من ملبوس ومشروب ومطعوم ، فلو احتاج إلى ممارسة تلك الأشياء للحقه من المشقة ما لا طاقة له به ، ومن لطفه بعباده توفيق الطاعات وتسهيل العبادات وتيسير الموافقات ، إذ لو لا ذلك لكان للمخالفات مرتكبا وفى الزلات منهمكا ، ثم من لطفه بالعباد حفظ التوحيد فى القلوب وصيانة العقائد عن الارتياب وسلامة القلوب عن الاضطراب ، قال الله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١) فإن بقاء المعرفة بين وحشة الزلة أعجب من إخراج اللبن من بين الفرث والدم ، ولكن جرت سنته سبحانه وتعالى يحفظ كل لطيفة بين كل كثيفة ، بل أجرى سنته بإخفاء الودائع فى

__________________

(١) إبراهيم : ٢٧.

مواضع مجهولة ، وكما أنه جعل الحجر الصلد معدن الذهب والفضة وكثيرا من الجواهر كذلك جعل القلوب معادن العقائد الصافية والمعارف الصحيحة ، وكما جعل الغار للمصطفى والصّدّيق مأوى ، والجب ليوسف مثوى ، والصدف للدر دربا ، والنحل للعسل مكانا ، والدود للإبريسم محلا ، كذلك جعل قلب العبد لمحبته ومعرفته مستقرا.

حكى عن ذى النون أنه قال : رأيت رجلا شهد له قلبى بالولاية وتقذرته نفسى ، فبقيت بين قلبى ونفسى ، فنظر إلى وقال : يا ذا النون الدر وراء الصدف.

ومن لطفه بالعباد أنه يوفقهم لذكره والرجوع إليه ومناجاته ورفع الحوائج بحضرته ودوام المناجاة معه متى شاءوا مع كثير ما يتعاطونه من مخالفة أمره ، فسبحانه ما أحلمه على العاصين وأكرمه للمؤمنين.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٠ ـ الخبير (١)

جل جلاله

الخبير : اسم من أسمائه ورد به الكتاب وهو بمعنى العليم ، وخبرت الشيء أخبره فأنا به خبير ، واختبرته أى خبرته ، والخبير فى غير هذا الموضع زبد أفواه الإبل ، والخبير الأكار ، والمخابرة اكتراء الأرض ببعض ما يخرج منها ، وهو مأخوذ من الخبر ، والخبير أيضا العذق ، ويقال : خبرت خبرا أى علمت ووجدته خبرة إذا تلوته وجربته ، وقد يكون الخبير فى وصفه تعالى بمعنى المخبر ، وفعل بمعنى المفعل كثير فى كلام العرب ، ويكون العليم والخبير من صفات ذاته.

فإذا علم العبد أنه خبير بأحواله فبالحرى أن يكون متصاونا فى أقواله وأفعاله

__________________

(١) الخبير : هو الّذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ، ولا يجرى فى الملك والملكوت شيء ، ولا تتحرك ذرة ولا تسكن ولا تضطرب نفس ولا تطمئن إلا ويكون عنده خبره ، وهو بمعنى العليم ، لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمى خبرة ، وسمى صاحبها خبيرا.

أما العبد فلا بد وأن يكون خبيرا بما يجرى فى عالمه الّذي هو قلبه وبدنه ، والخفايا التى يتصف القلب بها من الغش والخيانة ، والتطواف حول العاجلة وإضمار الشر وإظهار الخير ، والتجمل بإظهار الإخلاص مع الإفلاس عنه ، هذه أشياء لا يعرفها إلا ذو خبرة بالغة قد خبر نفسه ومارسها وعرف مكرها وتلبيسها وخدعها فحاذرها ، وتشمر لمعاداتها ، وأخذ الحذر منها ، فذلك من العبيد جدير بأن يسمى خبيرا.

واثقا بجميل اختباره سبحانه متحققا بأن ما قسم له لا يفوته ، والّذي لم يحكم له به لا يدركه ، وإنما تنحصر الأحوال على من كان غائبا عن شهود التقدير فيضيف بعض الحادثات إلى الخلق ، ويرى البعض من الحق فأما من رأى الأشياء كلها من الحق سبحانه فإنه تهون عليه الأمور من وجه وتصعب من وجه لأنه يعلم أنه يعد أنفاسه ويعلم ظواهره وحواسه.

حكى عن بعضهم أنه قال : قصدت الخواص فى بعض أوقات أصابتنى فيها فاقة ومجاعة وكان معى جماعة أصابهم من المجاعة ما أصابنى ، فقلت فى نفسى : أباسط الشيخ فى أحوالى وأحوال هؤلاء الفقراء ، قال : فلما وقع بصر الخواص عليّ قال لى : الحاجة التى جئتنى فيها الله عالم بها أم لا؟ فقلت : بل هو عليم ، قال : إذا فادفعها إليه ، قال : فسكت ثم انصرفت ، فلما وافيت المنزل فتح علينا بأرزاق كفتنا ذلك اليوم.

وإذا علم العبد أنه سبحانه مطلع على سره عليم بأمره يكتفى من سؤاله برفع همته إليه وإحضار الحاجة بقلبه لربه من غير أن ينطق بلسانه أو يعرب ببيانه.

حكى أن رجلا جاء إلى أبى يزيد البسطامى وقال : أيها الشيخ ، إن الناس قد احتاجوا إلى المطر فادع الله يرزقهم ذلك ، قال أبو يزيد : يا غلام ، أصلح الميزاب ، فلم يفرغ الغلام من إصلاح الميزاب حتى جاء المطر ولم يتكلم بشيء.

وحكى أن رجلا ولد له مولود ببغداد بالليل ولم يكن له شيء فخرج إلى معروف الكرخى ، وكان فى مسجده ، فذكر له حاله فقال : اقعد هناك ، فظهر له مشغل من الدجلة ، فلم يزل يقرب منه حتى انتهى إلى مسجد معروف ، فإذا بخادم معه صرة فقال : أنا قهرمان من دار الخليفة بعثنى بهذه الدنانير إليك لتصرفها فى أمر من تريد ، فقال : ادفعها إلى ذلك الرجل ، فقال : إنها ثلاثمائة دينار ، كأنه استكثر دفعها إلى رجل واحد ، فقال له معروف : كذا أردنا أن تكون.

فصل : من علم أن الله تعالى خبير بأحواله :

وإذا علم أنه خبير بأحواله علم أن الله أحصى ما عمله ، وإن كان قد نسيه ، فيحصل له من تذكر علمه من الخجل ما يجشمه ، وربما تذهب روحه فيه فيتلفه.

حكى أن رجلا فكر فى نفسه وقال : كم عمرى؟ ثم عد ذلك ، قال : كم تكون شهورا؟ فعد ذلك ، ثم عد الأيام ، فقال : كم يوما يكون؟ فبلغ ألوفا ، فقال : لو لم أعص فى كل يوم إلا معصية واحدة لكان ذلك كذا وكذا ألف زلة ، فكيف وفى كل يوم اجترحت زلات كثيرة؟! فخنقته العبرة وزهقت نفسه فمات ، رحمة الله عليه.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣١ ـ الحليم (١)

جل جلاله

الحليم اسم من أسمائه ورد به القرآن ، واختلف الناس فى معناه فقال بعضهم الحلم تأخير العقوبة عن المستحقين ، فهو حليم على معنى أنه يؤخر العقوبة عن المستحقين ، ويكون هذا من صفات أفعاله يوصف به فيما لا يزال ، وقال بعض أهل الحق : حلمه إرادته لتأخير العقوبة فهو من صفات ذاته ، لم يزل حليما ولا يزال ، ويقال فى اللغة : حلم ، بضم اللام ، يحلم حلما فهو حليم ، وحلم ، بفتح اللام ، يحلم حلما فهو حالم إذا رأى فى المنام شيئا ، وجمع الحلم أحلام ، وكذلك جمع الحلم ، وحلم الأديم ، بكسر اللام ، يحلم حلما فهو حليم إذا وقع فيه دود ، وحلّمت فلانا إذا جعلته حليما وحكمت بحلمه ، وحلم الغلام إذا صار سمينا ، فصرف هذا اللفظ فى اللغة على أوجه.

والله تعالى يريد تأخير العقوبة عن بعض المستحقين ، ثم قد يعذبهم وقد يتجاوز عنهم ، وأنه تعالى يجعل العقوبة لبعضهم ، والأمر فيه على ما سبق عليه

__________________

(١) الحليم : هو الّذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر ثم لا يستفزه غضب ولا يعتريه غيظ ، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام ، مع غاية الاقتدار ، عجلة وطيشا ، كما قال تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) (فاطر : ٤٥).

والحلم من محاسن خصال العباد ، وذلك مستغن عن الشرح والإطناب.

الحكم وتعلقت به الإرادة والعلم ، وأنه تعالى إذا أخر العقوبة عن المستحقين فبفضل منه سبحانه يخصهم به.

حكى أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما رأى ملكوت السماوات والأرض رأى عاصيا يعمل معصية فقال : اللهم أهلكه ، فأهلكه الله ، فرأى إنسانا آخر يعصى فقال: اللهم أهلكه ، فأهلكه الله ، فرأى ثالثا يعصى فقال : اللهم أهلكه ، فأهلكه الله ، فرأى رابعا يعصى فقال مثل ذلك ، فأوحى الله إليه : كف يا إبراهيم ، فلو أهلكنا كل عاص رأيناه لم نبق منهم أحدا ، ولكنا بحلمنا لا نعذبهم ، فإما أن يتوبوا وإما أن يصروا فلا يفوتنا شيء.

وحكى أن رجلا قال لبعض الأنبياء : كم أخالفه وأعصيه ولا يعاقبنى ، فأوحى الله إلى ذلك النبي : قل لفلان : ذلك لتعلم أنى أنا ، وأنت أنت.

وقد يكون من معلوم الله تعالى من أحوال بعض العصاة أنه يتوب ويحسن حاله فيحلم عنه فى الوقت ، لأنه يعلم أنه يصير من جملة أوليائه فى مآله.

وأنشدوا :

إذا فسد الإنسان بعد صلاحه

فرج له عود الصلاح لعله

يحكى عن مالك بن دينار أنه قال : كان لى جار مسرف على نفسه ، وكان يتعاطى الفواحش ، وتبرم به الجيران فأتونى شاكين به متظلمين منه ، فأحضرناه وقلنا له : إن هؤلاء الجيران يشكونك فسبيلك أن تخرج من المحلة ، فقال : أنا فى منزلى لا أخرج ، فقلنا تبيع دارك ، فقال : لا أبيع ملكى ولا يمكنكم أن تخرجونى منه ، فقلت : نشكوك إلى السلطان ، فقال إن السلطان يعرفنى وأنا من أعوانه ، فقلت ندعو الله عليك ، فقال : الله أرحم بى منكم ، فغاظنى ذلك ، فلما

أمسيت قمت وصليت ، فلما فرغت من الصلاة دعوت عليه ، فهتف بى هاتف : لا تدع عليه فإن الفتى من أولياء الله ، قال : فلما أصبحت جئت باب داره ودققته عليه ، فلما خرج ورآنى ظن أنى جئت لأخرجه من المحلة فقال كالمعتذر ، فقلت : ما جئت لذلك ، ولكن رأيت كذا وكذا ، قال : فوقع عليه البكا وقال : إنى تبت بعد ما كان هذا ، قال : وخرج من البلد ولم أره بعد ذلك ، قال : فاتفق أنى خرجت إلى الحج فرأيت فى المسجد الحرام حلقة فتقدمت إليهم فرأيت ذلك الشاب عليلا مطروحا ، قال : فلم ألبث حتى قالوا : قضى الشاب ، رحمه‌الله.

فصل : يلذ حلمه لرجاء عفوه :

وإنما يلذ حلمه لرجاء عفوه ، لأنه إذا ستر فى الحال بفضله فالمأمول منه أن يعفو فى المآل بلطفه.

وفى بعض الحكايات أن بعضهم رئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : أعطانى كتابى بيمينى فمررت بزلة استحييت أن أقرأها ، فقال : لا بد من قراءتها ، فقلت : إلهى ، لا تفضحنى ، فقال : حين عملتها ولم تستح لم أفضحك ، أفأفضحك وأنت تستحى.

ومن حلمه أنه لا يستفزه عصيان العاصين ، ولا يحمله على سرعة الانتقام تهتك الخاطئين ، فيحلم حتى يظن الجاهل أنه ليس يعلم ، ويستر حتى يتوهم الغمر (١) أنه ليس يبصر.

__________________

(١) الغمر : هو الّذي ليس له تجارب فى أمور الحياة ، يقصد هنا الجاهل بالله تعالى.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٢ ـ العظيم (١)

جل جلاله

العظيم : اسم من أسمائه ورد به نص القرآن ، وانعقد عليه الإجماع ومعناه عند أهل الحق يرجع إلى استحقاقه لصفات العلو والمجد ورفعة القدر ، فهو عظيم القدر رفيع النعت جليل الوصف.

واعلم أن العظيم فى اللغة لا يكون إلا بأحد أمرين :

إما بعظم الذات فى الجرم ويعود ذلك إلى كثرة الأجزاء ، وإما بعظم القدر ، فأما عظم الأجزاء فى وصفه تعالى فمحال ، فوجب أن يكون بمعنى استحقاق علو الوصف ، وأوصاف التعالى كاستحقاق القدم ووجوب الوحدانية والانفراد بالقدرة على الإيجاد وشمول العلم لجميع المعلومات وتعلق القدرة بجميع المقدورات ونفوذ الإرادة فى المتناولات وإدراك السمع والبصر لجميع المسموعات والمرئيات واستغنائه عن الأنصار والأعوان وتقدسه عن الأقطار والأزمان وتنزه ذاته عن قبول الحدثان ، فسبحانه من عزيز لا تصادره عن ، ولا تلاصقه إلى ، ولا تحده كيف ، ولا يقابل بكم ، ولا يخبر عن نفسه بما ، ولا يستخبره عن حقيقته بأين ، ولا يرتقى وهم إلى تصويره ، ولا يطمع فهم فى تقديره ، ولا يلحقه كنه ، ولا يماثله شبه.

__________________

(١) العظيم : هو الّذي لا تكون عظمته بتعظيم الأغيار ، وجل قدره عن الحد والمقدار ، وقيل : هو الّذي ليس لعظمته بداية ، ولا لجلاله نهاية.

فأما قول المخالفين من الكرامية (١) أن معنى العظيم فى وصفه أنه يلاقى من وجه واحد من المخلوقات أكثر من آخر فهو خطأ ، لأنه غير معقول من قول أهل اللغة ، ولا هو صحيح فى العقول.

وأما من سلك فى وصف عظمته بذكر بعض مقدراته مما نطق به القصص والروايات فإن ذلك شرح النعت الأدنى من عظمته ، وإن كانوا قد قالوا ذلك.

يحكى أن بعض المشايخ سئل عن عظمته فقال : ما تقول فيمن له عبد واحد يسمى جبريل ، له ستمائة جناح ، لو نشر منها جناحين لستر الخافقين.

وهذا وإن كان صحيحا فإن من عرف أن مقدوراته لا نهاية لها علم أنه لو أراد أن يخلق فى لحظة ألف ألف عالم لم يكن ذلك عليه بأشد من خلق بقة ، ولا خلق البقة عليه أهون من خلق ألف عالم ، لأنه سبحانه وتعالى منزه عن لحوق المشقة ونيل الراحة ، لأن الراحة والمشقة من نعوت المخلوقات ، ويتعالى عن ذلك خالق الأرضين والسماوات ، وقد جاء فى بعض الأخبار أن ملكا من الملائكة قال : يا رب ، إنى أريد أن أرى العرش ، فخلق الله له ألف جناح وطار ثلاثين ألف سنة ، فقال الله سبحانه : هل بلغت إلى أعلى العرش؟

فقال : يا رب ، لم أقطع بعد قائمة من قوائم العرش ، فاستأذن أن يعود إلى مكانه فأذن له.

وقيل : إن سليمان عليه‌السلام سأل من الله تعالى أن يأذن له أن يضيف يوما جميع الحيوانات فأذن له الله فيه ، فأخذ سليمان فى جمع الطعام مدة طويلة ، فأرسل الله سبحانه حوتا من البحر فأكل جميع ما أعده سليمان حتى أتى على

__________________

(١) فرق من فرق المتكلمين ، وانظرها وانظر مبادئها فى كتاب : «المرشد الأمين إلى اعتقادات فرق المسلمين والمشركين» تأليف طه عبد الرءوف سعد.

جميع ما أعده فى طول تلك المدة ثم استزاد منه ، فقال سليمان : لم يبق لى شيء ، وقال له: أنت تأكل كل يوم مثل هذا؟ فقال : رزقى كل يوم ثلاثة أضعاف هذا ، ولكن الله تعالى لم يطعمنى اليوم إلا ما أطعمتنى أنت ، فليتك لم تضفنى ، فإنى بقيت اليوم جائعا حيث كنت ضيفك.

وقيل : إن موسى عليه‌السلام أراد أن يرى السمك الّذي عليه العالم فأمره الله أن يأتى شاطئ البحر فأتى موسى شاطئ البحر فصعد سمك من البحر فأخذ يصعد نحو السماء ثلاثة أيام متصلة ، فضاق قلب موسى فقال : إلهى أهو مثل هذا السمك؟ فأوحى الله تعالى إليه إنه يأكل كل يوم ألف سمك أمثال هذا ، قال الله تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (١) ثم أعظم بما جرى ذكره من مخلوقاته تعالى همة العارفين التى تتضع وتتلاشى فيها جملة المقدورات فضلا عن المخلوقات سبحانه ما أعظم شأنه.

__________________

(١) المدثر : ٣١.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٣٣ ، ٣٤ ـ الغفور (١) الشكور (٢)

جل جلاله

الغفور اسم من أسمائه تعالى ، مضى ذكره فيما تقدم من معنى الغفار ، وتكلمنا فى معنى المغفرة بما حصل به الإقناع ، وأما الشكور فقد ورد به القرآن فى وصفه تعالى ، قال سبحانه : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (٣) والشكور مبالغة من الشاكر ، والشاكر من له الشكر ، وتكلم الناس فى معنى الشكر فقال أهل الحق : حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على سبيل الخضوع ، لأن الرجل قد يعترف بنعمة غيره على سبيل الاستهزاء به ، فلا يقال : إنه شكره ، ولهذا قالوا : إن حقيقة الشكر الاعتراف بنعمة المنعم على طريق الخضوع ، قالوا : والله سبحانه سمى نفسه شكورا على معنى أنه يجازى

__________________

(١) الغفور : هو بمعنى الغفار لكنه ينبئ عن نوع مبالغة لا ينبئ عنه الغفار فإن الغفار مبالغة فى المغفرة بالإضافة إلى مغفرة متكررة مرة بعد أخرى ، فالفعال ينبئ عن كثرة الفعل ، والفعول ينبئ عن جودته وكماله وشموله ، فهو غفور بمعنى أنه تام المغفرة كامله حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة.

(٢) الشكور : هو الّذي يجازى بيسير الطاعات كثير الدرجات ، ويعطى بالعمل فى أيام معدودة نعيما فى الآخرة غير محدود ، وهو من جازى الحسنة بأضعافها ، فهو تام الشكر وكامله حتى يبلغ أقصى الدرجات.

(٣) فاطر : ٣٤.

العبد على الشكر فسمى جزاء الشكر شكرا كما سمى جزاء السيئة سيئة فى قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) ويصح أن يقال ، وهو الّذي أختاره وأرتضيه : إن حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه ، ثم العبد يثنى على الرب بذكر إحسانه الّذي هو نعمته ، فيكون ثناؤه عليه شكره له ، فعلى هذا التأويل معنى اسمه الشكور المبالغة فى الوصف له بالثناء على عبده ومدحه له بذكر إحسانه وطاعته ، وقيل : إن الشكور فى وصفه بمعنى أنه يعطى الثواب الكثير على اليسير من الطاعة ، والعرب تقول : دابة شكور ، إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف ، وناقة شكرة وشكرى إذا كانت ممتلئة الضرع ، ونبت شكور إذا كان يجتزئ بيسير من الماء ، ويقال : كثر شكير الرجل أى عياله ، وشكير الشجر القضبان التى تنبت فى أصل الشجر ، فإذا الأصل فيه الزيادة فى اللغة على وصف مخصوص على ما جرى بيانه فى هذه الألفاظ ، والله تعالى يجازى العبد على اليسير من الطاعات بالكثير من الدرجات ، قال تعالى : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) (٢) والله سبحانه أنعم على العباد بجميع ملاذ الدنيا وكرائمها ثم عد ذلك قليلا فقال تعالى : (قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ) (٣) ويقبل اليسير من طاعة العباد ويثنى عليهم بالكثير ، قال تعالى : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (٤) وترى كم كان عمرهم حتى عد ذكرهم كثيرا؟ وكذلك شكر لصاحب موسى حيث خطا لأجله خطوات فقال عز اسمه : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) (٥) جاء فى التفسير أنه جاء من قرب.

__________________

(١) الشورى : ٤٠.

(٢) الحاقة : ٢٤.

(٣) النساء : ٧٧.

(٤) الأحزاب : ٣٥.

(٥) القصص : ٢٠.

وفى بعض الحكايات أن رجلا رئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال أقامنى بين يديه وقال : لم خفتنى كل ذلك الخوف؟ أما علمت أنى كريم؟.

وحكى أن رجلا رئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : حاسبنى فخفت كفة حسناتى فوقعت فيها صرة فثقلت ، فقلت : ما هذا؟ فقال : كف تراب ألقيتها فى قبر مسلم ، فرجح بذلك المقدار ميزانك.

وحكى أن رجلا من الصالحين كان يصلى الصلوات بالجماعة فى المسجد فضعف عن الحركة فكان يأمر بأن يحمل إلى المسجد ، فمات فرئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال غفر لى وقال : شيخ لم تعنيت كل ذلك العنا.

فصل : من آداب من علم أنه تعالى شكور :

ومن آداب من علم أنه شكور فليجد فى شكره ولا يفتر ويواظب على حمده ولا يقصر.

والشكر على أقسام : فشكر بالبدن ، وهو أن لا تستعمل جوارحك إلا فى طاعته ، وشكر بالقلب ، وهو أن لا تستغله بغير ذكره ومعرفته ، وشكر باللسان وهو أن لا يستعمله فى غير ثنائه ومدحه ، وشكر بالمال وهو أن لا تنفقه فى غير رضاه ومحبته.

وقيل : الشكر هو أن لا تستعين بنعمه على معاصيه ، ومن أمارات الشكر وجود الزيادة فى النعمة ، قال الله تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (١) ولهذا قيل : الشكر قرع باب الاستزادة من النعمة ، وقال تعالى (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (٢) قال بعضهم : هم الأكثرون وإن قلوا ، ومواضع الأنس حيث حلوا ، وقال بعضهم : قليل من عبادى من شهد النعمة منى ، ومن حقيقة الشكر الغيبة عن شهود النعمة لشهود المنعم.

__________________

(١) إبراهيم : ٧.

(٢) سبأ : ١٣

باب

فى معنى اسميه تعالى

٣٥ ، ٣٦ ـ العلى (١) الكبير (٢)

جل جلاله

هما اسمان لله تعالى ورد بهما القرآن والإجماع ، قال الله تعالى : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (٣) وليس علوه علو جهة ولا اختصاصا ببقعة ولا هو كبير بعظم جثة وكثرة بنية ، بل العلى وصفه وهو استحقاقه لنعوت الجلال والكبرياء نعته ، وهو استجابة لصفات الكمال ، ولم يزل الله تعالى عليا ، ومن

__________________

(١) العلى : هو الّذي لا رتبة فوق رتبته ، وجميع المراتب منحطة عنه ، وهو الّذي علا عن الدرك ذاته ، وكبر عن التصور صفاته ، وقيل : هو الّذي تاهت الألباب فى جلاله ، وعجزت العقول عن وصف كماله.

(٢) هو ذو الكبرياء ، والكبرياء عبارة عن كمال الذات الّذي هو كمال الوجود ، وكمال الوجود ، يرجع إلى شيئين :

أحدهما : دوامه أزلا وأبدا ، وكل وجود مقطوع بعدم سابق أو لاحق فهو ناقص ، ولذلك يقال للإنسان إذا طالت مدة وجوده أنه كبير ، أى كبير السن طويل مدة البقاء ، ولا يقال عظيم السن ، والكبير يستعمل فيما لا يستعمل فيه العظيم ، فإن كان ما طال مدة وجوده مع كونه محدود مدة البقاء كبيرا فالدائم الأزلى الأبدى الّذي يستحيل عليه العدم أولى بأن يكون كبيرا.

والثانى : أن وجوده هو الوجود الذي يصدر عنه وجود كل موجود ، فإن كان الّذي تم وجوده فى نفسه كاملا وكبيرا ، فالذى حصل منه وجود جميع الموجودات أولى بأن يكون كاملا وكبيرا.

(٣) غافر : ١٢.

الآفات والنقائص بريا ولا يقال فى وصفه كبر يكبر ، ومن علوه وكبريائه أنه لا يصير بتكبير العباد له كبيرا ، أو بإجلالهم له جليلا ، بل من وفقه لإجلاله فبتوفيقه أجلّه ، ومن أيده لتكبيره وتعظيمه فقد رفع محله ، لا يلحقه نقص فينجز ذلك بتعظيم المخلوقين ، ولا ينزل بساحته وهن فينتفى ذلك بتوحيد عبادة العابدين ، فهو العزيز الّذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يتوجه عليه سنة ولا يوم ، ومن حق من عرف عظمته أن يذل لحقه ويتواضع بين خلقه فإن من تذلل لله فى نفسه رفع الله قدره على أبناء جنسه.

وقيل فى بعض القصص : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام فقال له : تدرى لم رزقتك النبوة؟ فقال : يا رب أنت أعلم به ، فقال له : تذكر اليوم الّذي كنت ترعى الغنم بالموضع الفلانى فندت شاة فعدوت خلفها ، فلما لحقتها لم تضربها وقلت : لا يا مسكينة ، أتعبتني وأتعبت نفسك ، فحين رأيت منك تلك الشفقة على ذلك الحيوان رزقتك النبوة (١).

وقيل فى بعض القصص : إن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام أن يأتى الجبل ليسمعه كلامه عليه ، فتطاول كل جبل طمعا أن يكون محلا لموسى ، وتصاغر طور سينا فى نفسه وقال : متى أستحق أن أكون محلا لقدم موسى فى وقت المناجاة ، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه‌السلام أن ائت إلى هذا الجبل المتواضع الّذي ليس يرى لنفسه استحقاقا.

وقد قيل : حقيقة الإجلال أن ترى الكل دونه بعين الإقلال ، فكما لا تثبت لنفسك قدرا ، فكذلك لا ترى للمخلوقين مع قدرته بالإضافة إلى علوه خطرا.

__________________

(١) وإن كان الله عالما بما سيكون كما هو عالم بما كان.

فصل : حقيقة التواضع :

واعلم أن حقيقة التواضع هو قبول الحق ممن قاله ، والتكبر هو جحد الحق ، قال الله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ) (١).

فصل : ما تفعل إذا قيل لك : اتق الله :

حكى أن خالد بن مقول قال له رجل : اتق الله فألصق خده بالتراب وقال : حبا وكرامة.

وروى أن بلالا شكا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا ذر وقال له : عيرنى بالسواد (٢) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى ذر : «ما علمت أنه بقى فى قلبك شرف الجاهلية»؟! فوضع أبو ذر خده على الأرض وحلف أن يضع بلال قدمه على خده.

وحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : ما سررت فى الإسلام إلا مرات معدودة كنت فى مركب يوما وكان فيه رجل يحكى الحكايات المضحكة فضحكت منه الناس ، وكان يقول : رأيت وقتا فى معركة الترك علجا ففعلت به هكذا ، وكان يأخذ بلحيتى ويمر يديه على حلقى ، والناس يضحكون منه ، ولم يكن فى ذلك المركب عنده أحد أصغر ولا أحقر منى فسررت بذلك.

ويوما آخر كنت جالسا فجاء إنسان فبال عليّ ، ويوما آخر كنت جالسا وجاء إنسان فصفعنى من غير سبب.

وإنما كان سروره بأن قلبه لم يستوحش منهم ولم يحرد عليهم ولم يتغير لسوء ما قابلوه به ، لا أنه سر بقبيح أفعالهم ، وفى الخبر : «كم من أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره».

__________________

(١) البقرة : ٢٠٦.

(٢) قال له : يا ابن السوداء.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٧ ـ الحفيظ (١)

جل جلاله

الحفيظ : اسم من أسمائه ورد به الخبر ، وهو فعيل مبالغة من الفاعل ، وهو الحافظ لعباده فى جميع الأحوال ، والحافظ للسماوات والأرضين ، قال الله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (٢) وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) (٣) فهو رافع السماوات بلا عمد وحافظها بعد رفعها بلا استعانة بأحد ولا اعتضاد بمدد ، بل هو الوتر الفرد الصمد ، وأن الله تعالى حافظ دينه ، قال الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٤) أنزل التوراة على موسى ، عليه‌السلام ، فوكل حفظها إلى أمته ، قال الله تعالى : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) (٥) فحرفوا وبدلوا ، وأنزل الله تعالى الفرقان

__________________

(١) الحفيظ : هو الّذي صانك فى حال المحنة عن الشكوى ، وفى حال النعمة عن البلوى ، وقيل : الحفيظ : من هداك إلى التوحيد وخصك فى الخدمة بأنواع الحفظ والتسديد ، وقيل : هو الّذي حفظ سرك عن ملاحظة الأغيار ، وصان ظاهرك عن موافقة الفجار.

قال بعضهم : ما من عبد حفظ جوارحه إلا حفظ الله عليه قلبه ، وما من عبد حفظ الله عليه قلبه إلا جعله حجة على عباده.

(٢) البقرة : ٢٥٥.

(٣) فاطر : ٤١.

(٤) الحجر : ٩.

(٥) المائدة : ٤٤.

على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضمن حفظه على أمته بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، فلا جرم عصم الله الأمة عن تبديل الكتاب حتى لو أخطأ مخطئ فى حركة من حركات حروف القرآن أو سكون لنادى ألف ألف صبى بتخطئته ، فضلا عن القراء ، فشتان بين أمة استحفظهم الله كتابه فحرفوا وبدلوا ، وبين أمة حفظ عليهم الكتاب فبقوا مع الحق ووصلوا.

ومن حفظه سبحانه لأوليائه صيانة عقائدهم فى التوحيد عن اكتفائهم بالتقليد وتحقيق العرفان فى أسرارهم بجميل التأييد ، وليس كل الحفظ أن يحفظ عبدا بين الملاء عن البلاء ، وإنما الحفظ أن يحفظ قلبا عن خلوص المعرفة بين الأهواء حتى لا يزال عن الطريقة المثلى ولا يجد إلى البدع والهوى.

قال الله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٢) وأن الله تعالى قيض الملائكة ووكلهم بحفظ بنى آدم من البلاء والآفات حتى إذا قعدوا وقاموا أو انتبهوا وناموا تقلبوا فى حفظه وحراسته وتصرفوا على حكم رعايته.

قال الله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) (٣) فهو الّذي يحفظ نفسك ومالك ودينك وحالك وقوتك وعيالك ، إذ لو رفع كل رعايته عن أسبابك لهلكت.

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول : ورث بعض الصالحين عن مورث له عشرة آلاف درهم فقال : إلهى إنى محتاج إلى هذه الدراهم ، ولكن لست أحسن حفظها فأدفعها إليك لتردها عليّ وقت حاجتى ، فتصدق بتلك الدراهم

__________________

(١) الحجر : ٩.

(٢) إبراهيم : ٢٧.

(٣) الأنبياء : ٤٢.

ولزم الفقر ، قال : فما احتاج ذلك الرجل فى دنياه قط إلى شيء ، وكان إذا أراد شيئا فتح له فى الوقت.

وقيل : من حفظ الله فى جوارحه حفظ الله تعالى عليه قلبه ، لا ، بل من حفظ لله حقه فقد حفظ الله حظه.

حكى عن بعض الصالحين أنه وقع بصره يوما على محظور فقال : إلهى ، إنما أريد بصرى هذا لأجلك ، فإذا صار سببا لمخالفة أمرك فاسلبنيه ، قال : فعمى الرجل ، وكان يقوم بالليل ويصلى ، فغاب ليلة من الليالى من كان يعينه علي الطهارة ، فقال : إلهى إنما قلت : خذ بصرى لأجلك ، فالليلة أحتاج إليه لأجلك فرده عليّ قال : فعاد إليه بصره ، فكان يبصر بعد العمى.

وحكى أن اللص دخل حجرة رابعة العدوية ، وكان النوم أخذها فأخذ اللص ملاءتها فخفى عليه باب الحجرة ، فوضع الملاءة فأبصر الباب ، فرفع الملاءة ثانية فخفى عليه الباب ، فلم يزل يفعل ذلك مرات ، فهتف به هاتف : ضع الملاءة فإنا نحفظها لها ولا ندعك تحملها ، وإن كانت هى نائمة.

وهذا تحقيق الحفظ ، ومن هذا الباب قصة أم موسى عليه‌السلام لما رجعت إلى الله بصدق التوكل انظر كيف ألقى فى قلبها وكيف ألهمها حيث قال عز ذكره : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) إلى قوله : (مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (١) انظر كيف ربط على قلبها وكيف حفظ لها ولدها وكيف رده إليها.

وفى بعض الحكايات أن امرأة تصدقت برغيف فأخذ السبع ولدها ونوديت : لقمة بلقمة ، إنك تصدقت لأجلنا برغيف فرددنا ولدك ، فإنه حافظ ما استودع وراحم من استرحم وبالله التوفيق.

__________________

(١) القصص : ٧.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٨ ـ المقيت (١)

جل جلاله

قال الله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) (٢) فالمقيت بمعنى المقتدر ، وقيل : إنه بمعنى الحفيظ ، هذا قول أصحاب المعانى ، وقيل : المقيت الاسم من أقاته يقيته ، يقال : قاته وأقاته إذا أعطاه قوته ، وفى الحديث : «كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت» وروى : «من يقيت» والقوت ما به استقلال النفس ، ويكون قواما لها وسبب بقائها ، وأن الله سبحانه جعل أقوات العباد والحيوانات من المخلوقين والمخلوقات مختلفة ، فمنهم من جعل قوته المأكولات والمشروبات ، على حسب اختلافهما فى الأجناس والأصناف المطعومات ، ومنهم من جعل قوته فى التسبيح والطاعات كالملائكة الذين هم سكان الأرضين والسماوات ، وأنه خص بنى آدم بأن جعل قوتهم أطيب الأشياء

__________________

(١) المقيت : خالق الأقوات وموصلها إلى الأبدان ، وهى الأطعمة ، وإلى القلوب ، وهى المعرفة ، فيكون بمعنى الرزاق ، إلا أنه أخص منه ، إذ الرزق يتناول القوت وغير القوت ، والقوت ما يكتفى به فى قوام البدن ، وإما أن يكون بمعنى المستولى على الشيء القادر عليه والاستيلاء يتم بالقدرة والعلم ، وعليه يدل قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) أى مطلعا قادرا ، فيكون معناه راجعا إلى القدرة والعلم ، ويكون بهذا المعنى وصفه بالمقيت أتم من وصفه بالقادر وحده وبالعلم وحده ، لأنه دال على اجتماع المعنيين ، وبهذا يخرج هذا الاسم على الترادف.

(٢) النساء : ٨٥.

وألذها ، قال الله تعالى : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) (١) ، ثم إنه جعل قوت الأشباح الطعام والشراب وجعل قوت الأرواح المعانى التى لها قدرها ورتبتها ، وبها يحصل تفاوت درجاتها ، فمن أقوات القلوب والأرواح العقل الّذي به نظام جميع المحاسن ، فمن رزقه الله العقل أكرمه وأزانه ، ومن حرمه ذلك فقد أذله وأهانه ، قيل : إن جبريل عليه‌السلام جاء إلى آدم عليه‌السلام وقال : إنى أتيتك بثلاثة أشياء ، فاختر منها واحدا ، فقال : وما هى : فقال : العقل والدين والحياء ، فقال آدم : اخترت العقل ، فخرج جبريل وقال : إنه اختار العقل ، فانصرفا أنتما ، فقال الدين والحياء : إنما أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان.

ولهذا قيل : ما خلق الله تعالى شيئا أحسن من العقل ، وسئل بعضهم عن معنى العقل فقال : لم يعط أحد كماله فيوصف ، وأن الله تعالى إذ شغل العبد بطاعته أقام لأجله من يقوم بشغله ، فإذا اشتغل العبد بطاعة ربه جعل الحق سبحانه من يقوم بخدمة عبده ، وإذا رجع إلى متابعة شهوته وتحصيل أمنيته وكله إلى حوله وقوته ورفع عنه ظل عنايته.

سمعت منصور المغربى يقول : كان الكتانى بمكة ، وكان له خادم يخدمه ، وكان فى المسجد شاب حسن الجلسة ، فكان الكتانى إذا فتح عليه بشيء قال لخادمه : ابدأ بذلك الشاب ، فقال الخادم له يوما : كنت تأمرنى أن أبدأ بذلك الشاب ولم تقل لى ذلك منذ أيام ، فقال : إنى رأيته فى الحذائين يطلب شعسا ، ومن أمكنه أن يحتال لنفسه شعسا قد سقط منا فرضه.

أشار بهذا أنه إنما كان ذلك الشيخ منصوبا لمراعاة حقه وتقديمه على أشكاله لما لم يكن الشاب محترفا لنفسه ، فحيث اتصف باحتياله فى بعض أحواله رد إلى أفعاله واختياره.

__________________

(١) يونس : ٩٣.

وحسبك تأييدا لهذه الجملة قصة آدم عليه‌السلام وهو أن الله سبحانه قاته ، وصان عن المحن أوقاته ، وكفاه كل شغل ولقاه كل يسر ، ورفع له مناره وأسجد له أبراره وأسكنه جواره وأجزل له مباره ، وقال جل وعلا : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) (١) فلما نسى وعده ومد إلى شهواته يده لقى ما لقى.

روى مجاهد أن الله سبحانه أوحى إلى الملائكة أن أخرجوا آدم وحواء من جوارى فإنهما عصيانى ، قال : وناداه ربه : أى جار كنت لك يا آدم؟ فقال : يا سيدى ومولاى ، نعم الجار كنت ، قال : فاخرجا من جوارى ، قال : فرفع جبريل التاج عن رأسه وحل ميكائيل الإكليل من جبينه وسقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فالتفت إلى حواء وقال : هذا أول شؤم المعصية ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، فأخذ آدم يفر فتعلق غصن من أغصان الشجرة بشعره وسمع نداء الحق جل جلاله : أمنّا تفر يا آدم؟ فقال: بل أستحيي منك يا رب ، ثم قال : إلهى إن تبت تعيدنى إلى الجنة؟ فقال : نعم ، فذلك معنى قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (٢).

فصل : اختلاف الأقوات :

فإذا اختلفت الأقوات فمن عباده من جعل قوت نفسه توفيق العبادات ، وقوت قلبه تحقيق المعارف والمكاشفات ، وقوت روحه إدامة المشاهدات والمؤانسات.

__________________

(١) طه : ١١٨ ، ١١٩.

(٢) البقرة : ٣٧.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٣٩ ـ الحسيب (١)

جل جلاله

الحسيب اسم من أسمائه قال الله تعالى (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) (٢) ومعناه شيئان : أحدهما : الكافى ، والثانى : المحاسب.

فإذا قيل : إنه بمعنى الكافى ، فمن قولهم : أعطانى حتى أحسبنى أى أعطانى ما كفانى حتى قلت : حسبى ، فيكون الحسيب بمعنى المحسب ، كالأليم بمعنى المؤلم ، وإذا كان بمعنى المحاسب ، ففعيل بمعنى الفاعل كثير كالأكيل بمعنى المواكل ، والشريب بمعنى المشارب ، والنديم بمعنى المنادم.

فأما إذا كان بمعنى الكافى ، فكفاية الله للعبد أن يكفيه جميع أحواله وأشغاله وأجل الكفايات أن لا يعطيه إرادة شيء ، فإن سلامته عن إرادة الأشياء حتى لا يريد شيئا أتم من قضاء الحاجة وتحقيق المأمول.

__________________

(١) الحسيب : هو الكافى الّذي من كان له كان حسيبه ، والله تعالى حسيب كل أحد وكافيه ، وهذا وصف لا يتصور حقيقته لغيره.

وقيل : هو من يعد عليك أنفاسك ، ويصرف بفضله عنك بأسك.

وقيل : الحسيب الّذي يرجى خيره ويؤمن شره.

وقيل : هو الّذي يكفى بفضله ، ويصرف الآفات بطوله.

وقيل : هو الّذي إذا رفعت إليه الحوائج قضاها وإذا حكم بقضية أبرمها وأمضاها.

(٢) النساء : ٦.

وإذا علم العبد أن الحق سبحانه كافيه لم يرفع حوائجه إلا إليه فإنه سبحانه لسريع الإجابة لمن انقطع إليه وتوكل فى جميع أحواله عليه ، ولا سيما إذا كانت حاجته متمحضة فى حق الله تعالى لأنه إذا كانت حاجته فى حفظ نفسه فربما يحصل منع وتأخير فى قضاء الحاجة.

يحكى عن أبى الحسين الديلى ، وكان كبير الشأن ، أنه قال : وصف لى بأنطاكية إنسان أسود يتكلم على القلوب ، قال : فقصدته ، فلما رأيته رأيت معه شيئا من المباحات يريد أن يبيعه فساومته وقلت له : بكم تبيع هذا؟ فنظر إلى ثم قال : اقعد فإنك جائع منذ يومين ، حتى إذا بعنا هذا نعطيك من ثمنه شيئا ، قال فمضيت إلى غيره وتغافلت عنه كأنى لم أسمع ما قال ، وساومت غيره مما كان بين يديه ، ثم عدت إليه وقلت له : بكم تبيع هذا؟ فنظر إلى وقال : اقعد فإنك جائع منذ يومين ، حتى إذا بعنا هذا نعطيك من ثمنه شيئا ، قال: فمضيت إلى غيره ، وتغافلت عنه كأنى لم أسمع ما قال ، وساومت غيره ثم عدت إليه وقلت مثل قولى الأول والثانى فقال : اقعد فإنك جائع منذ يومين حتى إذا بعنا هذا نعطيك من ثمنه شيئا ، قال : فوقع على قلبى منه هيبة ، فلما باع ذلك أعطانى شيئا ومضى ، قال : فمضيت خلفه لعلى أستفيد منه شيئا يقوله لى ، قال : فالتفت إلى وقال : إذا عرضت لك حاجة فأنزلها بالله ، إلا إن يكون لك فيها حظ فتحجب عن الله تعالى إذا.

ومن علم أنه كافيه لا يستوحش من أعراض الخلق ولا يستأنس بقبول غير الحق ، ثقة بأن الّذي قسم له لا يفوته ، وإن أعرضوا ، وأن الّذي لم يقسم له لا يصل إليه ، وإن أقبلوا ، ثم إن العبد إذا اكتفى بحسن توليه سبحانه لأحواله فعن قريب يرضيه بما يختار له مولاه سبحانه ، فعند ذلك يؤثر العدم على الوجود

والفقر على الغنى ، ويستريح إلى عدم الأسباب بدل ما كان يستأنس أمثاله بالأعراض والأسباب.

وفى معناه يحكى عن عطاء السلمى أنه بقى سبعة أيام لم يذق شيئا من الطعام ولم يقدر على شيء ، فسر قلبه لذلك غاية السرور ، وقال : يا رب إن لم تطعمنى ثلاثة أيام أخر لأصلين لك ألف ركعة.

وقيل : إن فتحا الموصلى رجع ليلة إلى بيته فلم يجد عشاء ولا سراجا ولا حطبا ، فأخذ يحمد الله تعالى ويتضرع إليه ويقول : إلهى ، لأى شيء وبأى وسيلة واستحقاق عاملتنى بما تعامل به أولياءك.

وأما من علم أنه حسيب بمعنى محاسب علم أنه يطالبه عذابا للصغير والكبير ، ويحاسبه على النقير والقطمير ، فعند ذلك يحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، ويطالب قلبه بالقيام بحقوقه قبل أن يطالب ، فإن الله تعالى حكم بأنه لا يزول قدم العبد حتى يسأل عن حركاته وسكناته وجميع حالاته.

يحكى عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كنت ببيت المقدس ليلة فبت تحت الصخرة خاليا ، فلما كان بعد هدء من الليل إذا أنا بملكين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه : من هاهنا؟ قال : إبراهيم بن أدهم ، فقال الّذي نقص من درجاته درجة؟ فقال الآخر : ولم؟ قال : لأنه اشترى بالبصرة تمرا فوقع من تمر صاحب الدكان على ما اشتراه تمرة بغير علمه فنقص من درجاته درجة ، قال إبراهيم : فلما أصبحت حولت وجهى إلى البصرة وأتيتها ، واشتريت من صاحب الدكان تمرا ثم ألقيت على تمره تمرة واحدة وانصرفت إلى بيت المقدس ، وبت تحت الصخرة ، فلما كان بعد ساعة من الليل رأيت ملكين نزلا من السماء فقال أحدهما لصاحبه : من هاهنا؟ قال : إبراهيم بن أدهم ، فقال الآخر : الّذي ردت درجته إلى ما كانت عليه.

فصل : إذا حاسبك ربك فثق بفضله :

وقد يعلم العبد أنه يحاسبه ربه فيثق بفضله ويرجو أنه يستر عيوبه ، ويغفر ذنوبه ، ويرضى خصومه ويكفيه همومه ، فإن الكريم بالعفو جدير ، وعلى ما يرجى من سعة إحسانه وحسن غفرانه قدير ، والكريم من يطلب لجرائم العصاة عذرا.

وأنشدوا :

إذا شئت أن تدعى كريما معظما

حليما ظريفا ماجدا فطنا حرا

إذا ما بدت من صاحب لك زلة

فكن أنت محتالا لزلته عذرا

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٠ ، ٤١ ـ الجليل (١) الجميل (٢)

جل جلاله

الجليل والجميل : اسمان من أسمائه تعالى ورد بهما التوقيف ، ولا خلاف عند أهل الحق أن جلاله استحقاقه لنعوت التعالى ، وهو بمعنى رفعته وعلوه ، وقالوا : جليل بيّن الجلال والجلالة ، وأما الجميل فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال : إنه بمعنى الجليل ، وجماله هو جلاله ، ومنهم من قال : إن معنى الجميل المحسن ، والجميل بمعنى المجمل ، وقد ذكرنا أن الفعيل بمعنى المفعل كثير.

وقد مضى فى هذا الكتاب فصول فى معنى إحسانه ورفعته فى غير موضع ، ونذكر هاهنا منه طرفا.

__________________

(١) الجليل : هو الموصوف بنعوت الجلال ، ونعوت الجلال هى : الغنى والملك والتقديس والعلم والقدرة ، وغيرها من الصفات.

وقالوا : الجليل الّذي جل من قصده ، وذل من طرده.

وقيل الّذي جل قدره فى قلوب العارفين ، وعظم خطره فى نفوس المحبين.

وقيل : الّذي جل فى علو صفاته أن يشرف عليه أحد ، وتعذر بكبريائه أن يعرف كمال جلاله حينئذ.

وقيل : الجليل الّذي كاشف القلوب بوصف جلاله ، وكاشف الأسرار بنعت جماله.

وقيل : الجليل الّذي أجل الأولياء بفضله ، وأذل الأعداء بعدله.

(٢) لم يذكر هذا الاسم غالب من تكلم فى شرح أسمائه الحسنى.

فاعلم أن الله سبحانه يكاشف القلوب مرة بوصف جلاله ، ومرة بوصف جماله ، فإذا كاشفها بنعت جماله سارت أحواله عطشا فى عطش ، وإذا كاشفها بوصف جلاله صارت أحواله دهشا فى دهش ، ومن كاشفه بجلاله أفناه ، ومن كاشفه بجماله أحياه ، فكشف الجلال يوجب محوا وغيبة ، وكشف الجمال يوجب صحوا وقربة ، وكشف الجلال يوجب اجتياحا وثبورا ، وكشف الجمال يوجب ارتياحا وسرورا ، والعارفون كاشفهم بجلاله فغابوا ، والمحبون كاشفهم بجماله فطابوا ، فمن غاب فهو مهيم ، ومن طاب فهم مقيم.

فصل : اختصاص الله سبحانه وتعالى الأبرار :

واعلم أن الله سبحانه يختص الأبرار بما يسقيهم من شراب محابه ، ويخص الأحباب بما يلقّيهم من روح أنسه وإتحافه.

فطائفة يحضرهم بلطفه ، وطائفة يسكرهم بكشفه ، فمن أحضره بسطه ، ومن أسكره أخذه عما نيط به واستلبه.

والحقائق إذا اصطلحت على القلوب لا تبقى ولا تذر ، والمعانى إذا استولت على الأسرار فلا عين ولا أثر ، وإن للعلوم على القلوب مطالب وللحقائق سلطان يغلب أقسام المراتب ، فالحال تؤذن حتى ليس الأقرب ، والحقائق تبرز نعت الصمدية حتى لا قرب ، وفى معناه أنشدوا :

يا من أشاهده عندى فأحسبه

منى قريبا وقد عزت مطالبه

وأنشدوا :

فقلت لأصحابى هى الشمس ضوؤها

قريب ولكن فى تناولها بعد

وأنشدوا :

بأى نواحى الأرض أبغى وصالكم

وأنتم ملوك ما لمقصدكم نجد

واعلم أن العابدين شهدوا أفضاله فبدلوا نفوسهم ، والعارفين شهدوا جلاله فبذلوا له قلوبهم ، والمحبين شهدوا جماله فبذلوا له أرواحهم ، بل من كان له علم اليقين وجد أفضاله ، ومن له عين اليقين شهد جلاله ، ومن له حق اليقين شهد جماله.

فصل : قلوب العابدين وأسرار العارفين :

واعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل تقلب قلوب العابدين بين شهود ثوابه وأفضاله وشهود عذابه وأنكاله ، فإذا فكروا فى أفضاله ازدادت رغبتهم ، وإذا فكروا فى عذابه وأنكاله ازدادت رهبتهم ، وأنه جعل تنزه أسرار العارفين فى شهود جلاله وجماله ، فإذا كوشفوا بنعت الجلال فأحوالهم طمس فى طمس ، وإذا كوشفوا بوصف الجمال ، فأحوالهم أنس فى أنس ، كما قال قائلهم :

جمالك نزهتى ورضاك عيشى

وحبك لى من الأديان دين

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٢ ـ الكريم (١)

جل جلاله

الكريم اسم من أسمائه تعالى ورد به التوقيف وتكلموا فى معناه ، فقال أهل الحق : إن الوصف له بأنه كريم من صفات ذاته ، ولم يزل الله كريما ولا يزال ، ومعناه نفى الدناءة والنقائص ، والعرب تقول للشىء الخطير الحسن النفيس : إنه كريم ، قال الله سبحانه : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٢) قالوا : ثوابا حسنا ، وكذلك قوله تعالى : (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) (٣) قيل : حسن ، ونفى الدناءة فى وصفه يكون بمعنى استحقاق لصفات جلاله ، وقيل : إن الكريم فى وصفه يكون بمعنى المحسن المجمل الكثير العطاء والإحسان ، والعرب تقول للرجل الّذي يكون صفوحا عن الذنوب محسنا إلى من يسىء إليه تاركا للانتقام مسبغا للإنعام : إنه كريم ، ويقال : فلان كريم السجية.

__________________

(١) الكريم : هو الّذي إذا قدر عفا ، وإذا وعد وفى ، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء ولا يبالى كم أعطى ولمن أعطى ، وإن وقعت حاجة إلى غيره لا يرضى وإذا جفا عاتب وما استقصى ، ولا يضيع من لاذ به والتجأ ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء ، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكليف فهو الكريم المطلق ، وذلك هو الله تعالى فقط.

(٢) الأحزاب : ٤٤.

(٣) الدخان : ٢٦.

والله تعالى هو المحسن إلى خلقه من غير استحقاق ، والأخذ بأيديهم عند الضرورة من غير استيجاب ، بل ابتداء فضل وإكمال لطف.

وقال الجنيد : الكريم الّذي لا يحوجك إلى وسيلة ، وقال الحارث المحاسبى : الكريم الذي لا يبالى بما أعطى ولا لمن أعطى ، وقال جعفر بن نصير : الكريم الّذي لن يقبل عطاءه منه على نفسه ، وقيل : الكريم الذي لا يستقصى ، قال الله تعالى : (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) (١).

سمعت الشيخ أبا على الدقاق يقول : الكريم الّذي إذا عفا عن عبد عفا عمن عمل مثل تلك المعصية وعمن كان سميا له.

وفى بعض الكتب : ما أنصفنى عبد أستحي أن أعذبه ولا يستحى أن يعصينى.

وقيل : الكريم الّذي لا يرضى بأن ترفع حاجته إلا إليه.

وروى أن موسى عليه‌السلام قال فى مناجاته : إنه لتعرض لى الحاجة أحيانا فأستحى أن أسألك ، أفأسأل غيرك؟ فأوحى الله إليه أن لا تسأل غيرى وسلنى حتى ملح عجينك وعلف شاتك.

ويقال : الكريم لا يخيب رجاء المؤمنين ، وقيل : الكريم الّذي لا يضيع من توسل به ، ولا يترك من التجأ إليه ، ويحفظ حقوق خدمة الذين ماتوا ، وقيل : الكريم : الّذي إذا أبصر خللا جبره ولم يظهره ، وإذا أولى فضلا أجز له ثم ستره.

ويحكى : أن بعض الأكابر أشرف من قصر له على دار عجوز من جيرته

__________________

(١) التحريم : ٦.

فرآها تتوضأ من جرة من خزف ، فقال فى نفسه : عجوز فى جيرتى ليس لها قمقمة ، ثم فكر وقال : إن أمرت لها بقمقمة فإنها تخجل وتعلم أنى اطلعت عليها ، فأمر بأن يعطى لكل واحد من جيرانه قمقمة حتى دفع إليها قمقمة ولم تخجل.

وقيل : الكريم هو الّذي إذا أذنبت اعتذر عنك ، وإذا هجرت وصلك ، وإذا مرضت عادك ، وإذا وافيت من السفر زارك ، وإذا افتقرت أحسن إليك ببقية ماله ، وقيل : الكريم هو الّذي إذا رفعت إليه حاجة عاتب نفسه كيف لم يبادر إلى قضائها قبل أن تسأله.

حكى عن على رضى الله عنه أنه جاءه إنسان ليلة يسأله حاجة ، فقال : ارفع السراج يا غلام ، فقيل له فى ذلك فقال : لئلا أرى فى وجهه ذل السؤال.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى يقول : كان الأستاذ أبو سهل الصعلوكى ، رحمه‌الله ، لا يناول أحدا شيئا من عطائه بيده ، بل كان يضعه على الأرض ليأخذه المستحق ، ويقول : الدنيا أقل خطرا من أن أرى يدى لأجلها فوق يد أحد.

روى فى بعض الأخبار أنه قال : لا تقولوا لشجرة العنب الكرم ، فإنما الكرم قلب الرجل المسلم ، والعرب كانت تسمى العنب الكرم ، وكان الأصل كرما فلما كثر على لسانهم قالوا : كرم ، يقال : رجل كرم ورجلان كرم ، والذكر والأنثى والجمع والتثنية فيه سواء كما يقال : رجل عدل وصوم وخصم ، ورجلان كذلك ، ورجال كذلك أيضا ، وكذلك كل اسم يسمى باسم المصدر ، وإنما سمت العرب العنب الكرم للطافة شجره وطيب ثمره وتأتى قطافه من غير تجشم مشقة ، وليس له شوك يضر جانيه كما للنخل ، ولا يحتاج قاطفه إلى ارتقاء شجره ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الرجل المؤمن أولى باستحقاق هذه التسمية لما فيه من كرم السجايا».

ويحكى عن أبان بن عياش أنه قال : خرجت يوما من عند أنس بن مالك بالبصرة فرأيت جنازة يحملها أربعة من الزنج ولم يكن معهم رجل آخر ، فقلت : سبحان الله! سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها أحد ، فلأكونن خامسهم ، فمضيت معهم ، فلما وضعوها بالمصلى قالوا لى : تقدم ، فقلت : أنتم أولى به ، فقالوا : كلنا سواء ، فتقدمت وصليت عليه وقلت لهم : ما القصة؟ فقالوا : أكبرتنا تلك المرأة ، قال : فقعدت حتى دفنوه ، فلما كان بعد ساعة انصرفت تلك المرأة وهى تضحك ، فدخل قلبى من ذلك شيء ، فقلت لها : لا ينجيك إلا الصدق ، أخبرينى إيش القصة ، فقالت لى : إن هذا ابنى ، ما ترك شيئا من المعاصى إلا فعله ، فمرض منذ ثلاثة أيام فقال لى : يا أماه ، إذا مت فلا تخبرى بوفاتى جيرانى ، فإنهم لا يحضرون جنازتى ويشمتون بموتى ، واكتبي على خاتمى لا إله إلا الله محمد رسول الله ، واجعليه فى كفنى فلعل الله تعالى يرحمنى ، وضعى رجلك على خدى وقولى : هذا جزاء من عصى الله تعالى ، فإذا دفنتينى فارفعى يدك إلى الله تعالى وقولى : إنى رضيت عنه فارض عنه ، فلما مات فعلت جميع ما أوصانى به ، فلما رفعت يدى إلى السماء سمعت صوته بلسان فصيح : انصرفى يا أماه ، فقد قدمت على رب كريم رحيم غير غضبان ، فإنما ضحكت من هذا.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٣ ـ الرقيب (١)

جل جلاله

الرقيب : اسم من أسمائه تعالى وهو : بمعنى الحفيظ ، يقال : رقبته أرقبه رقبة ورقوبا إذا راعيته ، قال الله سبحانه : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢) يريد به الملك الّذي يكتب أعمال العبد ، والله تعالى رقيب لعباده أى حفيظ لهم يعلم أحوالهم ويعد أنفاسهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم ، يقال : راقبت الله إذا علمت أنه مطلع عليك فراعيت حقه ، والمراقبة عند هذه الطائفة هو أن يصير الغالب على العبد ذكره بقلبه أن الله مطلع عليه فيرجع إليه فى كل حال ويخاف سطوات عقوبته فى كل نفس ويهابه فى كل وقت.

سئل بعضهم : بم يستعين الرجل على حفظ بصره من المحظورات؟ قال : بعلمه بأن رؤية الحق سبحانه سابقة على نظره إلى تلك المحظورات.

__________________

(١) الرقيب : هو العليم الحفيظ ، وقالوا : الّذي هو من الأسرار قريب وعند الاضطرار مجيب.

وقيل : هو المطلع على الضمائر ، الشاهد على السرائر.

وقيل : الّذي يعلم ويرى ولا يخفى عليه السر والنجوى.

وقيل : الّذي يسبق علمه جميع المحدثات ، وتتقدم رؤيته جميع المكونات.

وقيل : هو الحاضر الّذي لا يغيب.

(٢) ق : ١٨.

حكى أن ابن عمر مر بغلام يرعى غنما فقال : بعنى شاة ، فقال : إنها ليست لى ، فقال ابن عمر : قل أكلها الذئب ، فقال الغلام : فأين الله فاشتراه ابن عمر واشترى تلك الغنم وأعتقه ووهبه تلك الغنم ، وكان ابن عمر يقول مدة طويلة : قال ذلك العبد : فأين الله.

فصاحب المراقبة يدع من المخالفات استحياء منه وهيبة له أكثر مما يتركه من يدع المعاصى لخوف عقوبة ، قال الله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) (١) وأن من راعى قلبه عد مع الله أنفاسه ولا يضيع مع الله نفسا ، ولا يخلو عن طاعته لحظة ، كيف وقد علم أن الله سبحانه يحاسبه على ما قلّ وجلّ.

وحكى عن بعضهم أنه كان يشترى فى كل سنة من الشعير بيسير من الفلوس وكان يتقوت به طول سنة ، فلما مات رفعت جنازته بالغداة فلم يفرغوا من دفنه إلا قبل العشاء لكثرة الزحام ، فرئى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لى وأحسن إلى كثيرا ، إلا أنه حاسبنى حتى طالبنى بيوم كنت صائما فكنت قاعدا على حانوت صديق لى حناط ، فلما كان وقت الإفطار أخذت حنطة من حانوته فكسرتها نصفين ، ثم ذكرت أنها ليست لى فألقيتها على حنطته ، فأخذ من حسناتى قيمة ما نقص من تلك الحنطة بالكسر.

وأن من تحقق ذلك لم يرخ عنانه فى البطالة ، ولا يضيع عمره فى الجهالة ، ولم يمحق فى الغفلات وقته ، ولكن يصل بالطاعات ليله بنهاره ويبذل غاية جهده وكنه استطاعته فى أوقاته.

ويحكى عن سلمان الفارسى أنه كان إذا جن عليه الليل أخذ يصلى ، فإذا عيى ذكر الله بلسانه بفنون التسبيح ، فإذا عيي أخذ يبكى ، فإذا عيى فكر فى

__________________

(١) العلق : ١٤.

جلاله وعظمته ثم يقول لنفسه : استرحت فقومى فصلى ، فإذا صلى زمانا قال للسانه : استرحت ، فأخذ فى التسبيح ، فإذا ذكر زمانا قال لعينه : استرحت ، فأخذ فى البكاء ، على هذا الوصف كان يقطع طول ليله.

وقيل للحسن البصرى : إن بالبصرة شابا لا يحضر مجلسك ، فقال له الحسن : لم لا تحضر مجلسى؟ فقال : أنا أنوي كل ليلة أن أحضر مجلسك ، فإذا أصبحت استقبلنى قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (١) فأفكر فى ذلك كيف يكون حالى ، ثم يستقبلنى قوله تعالى : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢) فأفكر فى ضيق القبر كيف يكون فيه حالى ، ثم يستقبلنى قوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (٣) فأفكر فى القيامة كيف يكون حالى ، ثم يستقبلنى قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (٤) فأفكر فى أى الفريقين أكون ، فيفوتنى حضور مجلسك ، فصاح الحسن صيحة ثم قال : إن الحسن يحتاج أن يحضر مجلسك.

وإن من أيقن أن آخر عمره دخول اللحد لم يشتغل بتزيين المهد ، بل عمر قبره ، ولم يشيد قصره ، وعلم أنه يركب الأعناق والأجياد (٥) ولم يبتهج بأن يركب العتاق والجياد ، واستيقن أن ماله إن لم يزل عنه بحادث زال عنه إلى وارث.

وأنشدوا :

يا غافلا أدركه الموت

إن لم تبادر فهو الفوت

__________________

(١) السجدة : ١١.

(٢) المؤمنون : ١٠٠.

(٣) ق : ٤١.

(٤) هود : ١٠٥.

(٥) عند حمله إلى قبره.

من لم تزل نعمته قبله

زال عن النعمة بالموت

وإن أحسن الناس من كان كما قال الأول :

منازل دنياك شيدتها

وخربت دارك فى الآخرة

لا جعل الله نصيبنا من هذه الكلمات سردها وذكرها دون منازلتها ومعاملتها بمنه وسعة فضله.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٤ ـ المجيب (١)

جل جلاله

المجيب اسم من أسمائه تعالى ، قال جل ذكره : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) (٢) ومعنى المجيب فى وصفه أن يجيب دعوة الداعين ويكشف ضرورة المتوسلين ، قال الله تعالى : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (٣) ، ومن خصائص لطفه أنه يعطى قبل السؤال ، ويحقق مراد عبده بعد سؤاله بجميل النوال ، وفى الخبر : «أن الله تعالى يستحى أن يرد يد عبده صفرا» وأنه سبحانه إذا أحضر لأوليائه حاجتهم ببالهم يحقق لهم مرادهم قبل أن يذكروا بألسنتهم ، وربما يضيق عليهم الحال حتى إذا يئسوا وظنوا أنه لا يجيبهم تداركهم بحسن إيجاده وجميل إمداده.

يحكى عن عطاء الأزرق أنه دفع إليه أهله درهمين وقالوا له : اشتر لنا دقيقا

__________________

(١) المجيب : هو الّذي يقابل مسألة السائلين بالإسعاف ، ودعاء الداعين بالإجابة ، وضرورة المضطرين بالكفاية ، بل ينعم قبل النداء ، ويتفضل قبل الدعاء ، وليس ذلك إلا لله تعالى ، فإنه يعلم حاجة المحتاجين قبل سؤالهم ، وقد علمها فى الأزل فدبر أسباب كفاية الحاجات بخلق الأطعمة والأقوات ، وتيسير الأسباب والآلات الموصلة إلى جميع المهمات.

(٢) البقرة : ١٨٦.

(٣) غافر : ٦٠.

فرأى مملوكا يبكى فسأله عن حاله فقال : إن مولاى دفع إلى درهمين لأشترى له شيئا فسقطا منى ، فدفع إليه عطاء الدرهمين ومضى يصلى إلى قرب المساء ، ينتظر شيئا يفتح له فلم يفتح له بشيء ، فقعد على حانوت صديق له نشار وذكر له حاله ، وكان الرجل فقيرا فقال : خذ من هذه النشارة شيئا لعلكم تحتاجون إليها تسجرون بها التنور ، إذ ليس لى شيء أواسيك به ، فأخذ ذلك فى جرابه ورجع إلى بيته ، وفتح الباب وطرح الجراب فى الدار ومضى إلى المسجد ، حتى صلى العشاء الأخيرة ومضى صدر من الليل ، رجاء أن يكون أهله قد ناموا لئلا يخاصموه ، فلما دخل الدار رآهم يخبزون الخبز فقال : من أين لكم الدقيق؟ قالوا : من الّذي حملته فى الجراب ، ولا تشترى لنا الدقيق إلا من عند هذا الرجل.

فصل : الله سبحانه هو الكافى عبيده :

وربما يجتهد الرجل فى تحصيل شيء لبعض الأولياء فلا يتفق ذلك ثم يكفى الله تعالى ذلك من وجه آخر ليعرف أنه تولى أمور أوليائه بنفسه ، ولا يكل ذلك إلى غيره ليعلم أنه لا يذل أولياءه.

حكى عن الخواص أنه قال : كنت فى مسجد فرأيت فقيرا ساكنا ثلاثة أيام لم يتحرك ، لم يطعم ولم يشرب ، وكنت أرقبه وأصبر معه ، قال : فعجبت منه فتقدمت إليه وقلت له : ما تشتهى؟ فقال : خبزا حارا ومصلية ، قال : فخرجت وتكلفت طول نهارى كى أحصّل ما قال فلم يتفق ، قال : فعدت إلى المسجد فأغلقت الباب ، فلما كان بعد زمان من الليل دق علينا الباب ، ففتحت الباب فإذا أنا بإنسان معه خبز حار ومصلية ، فسألته عن السبب فقال : اشتهاها عليّ صبيانى فتخاصمنا وحلفنا أن لا يأكل هذا إلا أهل المسجد الفلانى ، قال : فقلت : إلهى ، إذا كنت تريد أن تطعمه فلم عنيتنى طول نهارى.

فصل : اجعل قصدك الأصلي إلى الله تعالى :

وربما يحصل من بعض أوليائه قصد إليه وإشارته فى الظاهر إلى الخلق ويكون القصد بالتحقيق إلى الحق ، كما يحكى عن حذيفة المرعشى أنه قال : كنت مع إبراهيم بن أدهم فى بعض الأسفار فدخلنا الكوفة فآوينا إلى مسجد خراب فنظر إلى وقال : يا حذيفة ، إنى أرى بك الجوع ، فقلت : هو ما يراه الشيخ ، فقال عليّ بالدواة والقرطاس ، فجئته به فكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم أنت المقصود إليه بكل حال ، والمشار إليه بكل معنى :

أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر

أنا جائع أنا ظامئ أنا عارى

هى ستة وأنا الضمين لنصفها

فكن الضمين لنصفها يا بارى

مدحى لغيرك لهب نار خضتها

فأجر عبيدك من دخول النار

ثم دفع إلى الرقعة وقال : ادفعها إلى أول من تلقاه ، قال : فرأيت شابا حسن الوجه نظيف الثياب راكبا على بغلة ، قال : فناولته الرقعة فنظر فيها وبكى وقال : أين صاحب الرقعة؟ فقلت : فى المسجد الفلانى ، فناولنى صرة فيها ستمائة دينار وقال : احملها إليه ، قال : فسألت إنسانا : من صاحب هذه البغلة؟ قال : نصرانى ، قال : فعجبت منه ، وحملت الصرة إلى إبراهيم وأعلمته بالقصة ، فقال : ضعها فإنه يجيء الساعة ، فما لبثنا أن جاء الرجل وقبّل رأس الشيخ وقال : نعم ما أرشدتنى ، اعرض عليّ الإسلام فأسلم ، فلما كانت إشارته صحيحة حصل منه ما حصل.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٥ ـ الواسع (١)

جل جلاله

اختلف الناس فى معناه فقال بعضهم : معنى الواسع فى وصفه أنه العالم ، قال الله تعالى : (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) (٢) وقال تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) (٣) قيل : أراد به : أحاط بكل شيء علما ، وقيل : إنه بمعنى الغنى ، قال الله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (٤) قيل : ذو غنى من غناه ، وقيل : إنه واسع العطاء كثير الخير ، حكى هذا عن ابن الأنبارى ، وهو الأقوى ، لأن العرب تقول : فلان موسع إذا كان غنيا ، قال الله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٥) ولا يقال للغنى : واسع ، فإذا كان بمعنى العالم فقد جرى القول فى معنى العالم والعليم فى صفاته سبحانه فيما تقدم ، وإذا قيل : إنه بمعنى كثير العطاء فكثرة

__________________

(١) الواسع : الّذي لا نهاية لبرهانه ، ولا غاية لسلطانه ، وقيل : واسع فى علمه فلا يجهل ، واسع فى قدرته فلا يعجل ، وقيل : الواسع الّذي لا يعزب عنه أثر فى الضمائر ، وقيل : الواسع الّذي لا يحد غناه ، ولا تعد عطاياه ، وقيل : الواسع الّذي فضله شامل ، ونواله كامل.

(٢) غافر : ٧.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

(٤) الطلاق : ٧.

(٥) البقرة : ٢٣٦.

عطائه لا تستوفى بالحصر ولا تستقصى بالذكر ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١).

وحكى أن رجلا من الأكابر كان قد حج حجات كثيرة فطاب قلبه ليلة فقال فى مناجاته : اللهم إنى قد وهبت كذا وكذا حجة من حجاتى للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولأصحابه كذا وكذا حجة ، ولوالدىّ كذا وكذا حجة ، ووهبت الباقى للمسلمين ، فهتف به هاتف : سيعلم أهل الجمع غدا من أولى منا بالجود والكرم.

وأن أهل العلم بالأصول قالوا : نعم الله سبحانه على ضربين : نعمة نفع ونعمة دفع ، فنعمة النفع ما أولاهم ، ونعمة الدفع ما زوى عنهم وكفاهم ، ثم قالوا : إن المشركين فى النار وإن لم تكن لله تعالى عليهم نعمة نفع فله عليهم نعمة دفع ، لأنه سبحانه لا يوصل إليهم فى النار ألما إلا وهو يقدر أن يوصل إليهم ألما فوق ذلك ، فإذا لم يؤلمهم بأشد مما آلمهم كان ذلك دفعا عنهم.

ومن آداب من عرف أنه لا يتناهى إحسانه إليه أن يقف عن عصيانه له استحياء من كرمه وكثرة إنعامه.

ومن الواجب على العبد أن يعلم أنه ليس كل إنعامه انتظام أسباب الدنيا والتمكن من تحصيل المنا والوصول فيها إلى الهوى ، بل ألطاف الله سبحانه إلى ما يزوى عنهم من الدنيا أكثر ، وإحسانه إليهم أوفر ، وإن قرب العبد إلى الله سبحانه وتعالى على حسب تباعده من الدنيا.

وفى بعض الكتب : إن أهون ما أصنع بالعالم إذا مال إلى الدنيا أن أسلبه حلاوة مناجاتى.

__________________

(١) إبراهيم : ٣٤.

وقيل : إن وزيرا للمعتضد بعث مالا إلى أبى الحسين النورى ليفرقه على أصحابه ، فصب النورى ذلك المال فى بيت وقال للفقراء : ادخلوا هذا البيت وخذوا منه بقدر حاجتكم إليه ، فدخلوا فمنهم من أخذ دانقا ، ومنهم من أخذ نصف دانق ، ومنهم من أخذ درهما ، ومنهم من أخذ أكثر منه ، فلما خرجوا قال النورى : قربكم من الحق وبعدكم على مقدار ما أخذتم.

فصل : أحسن كما أحسن الله إليك :

فإذا علم أن الله سبحانه يعطيه ما يكفيه لم يبخل عليه بما يأمره به ويستدعيه ، بل من آدابهم أن يوسعوا على عباده إذا وسع الله عليهم ، وإذا ضيق الله عليهم انتظروا من الله جميل الفرج وقالوا للناس قولا ميسورا ، فإن البخيل من ضن بالبشر والكلام الحسن.

يحكى عن بعضهم أنه سأله سائل فقال لغلامه : ما الّذي معك؟ قال : أربعمائة دينار ، فقال : ناولها إياه ، فجاء سائل آخر فقال : يا غلام ، ناوله ما معك ، فناوله دينارا ، فجاء سائل ثالث فقال لغلامه : ما معك؟ فقال : درهم ، فقال : ناوله إياه ، فجاء رابع فقال لغلامه : ما معك؟ فقال : ما عندى شيء ، فقيل له : لو لم تدفع الجميع إلى الأول لكان ذلك يتسع لجميعهم ، فقال : إنما تأدبت بأدب الله حيث يقول : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) (١) فأعطينا الأول على السعة ، والثانى عن قلة ، وأما الآخر فلم يكن معنا إلا شيء يسير فأعطيناه إياه ، وأما الآخر فلم يكن معنا شيء ولم يكلفنا الله شيئا فنحن ننتظر الفرج من الله تعالى.

__________________

(١) الطلاق : ٧.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٦ ـ الحكيم (١)

جل جلاله

قد مضى القول فى معنى الحكيم فى وصفه ، واستقامة لفظ الحكمة فى معنى اسمه الحكم بما يغنى عن إعادته ، ومن حكمته فى عباده تخصيصه قوما بحكم السعادة من غير استحقاق ولا سبب ، بل تعلق العلم القديم بإسعاده وسبق الحكم الأزلى بإيجاده ، وخص قوما بطرده وإبعاده ، ووضع قدره بين عباده من غير جرم سلف ، ولا ذنب اقترف ، بل حقت الكلمة عليه بشقاوته ونفذت المشيئة بحجب قلبه وقساوته ، قال الله تعالى فى وصفه: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (٢) وقال تعالى فى قصة بلعام بن باعورا : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها) (٣) ثم قال فى قصته بعد ما أتاح له من كرامته وما أوهم فى

__________________

(١) الحكيم : ذو الحكمة ، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، وأجل الأشياء هو الله الّذي لا يعرف كنه معرفته غيره ، فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم ، إذ أجل العلوم هو العلم الأزلى الدائم الّذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليه خفاء وشبهة ، ولا يتصف بذلك إلا علم الله تعالى ، وقد يقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويحكمها ويتقن صنعتها : حكيم ، وكمال ذلك أيضا ليس إلا لله تعالى ، فهو الحكيم الحق.

(٢) المائدة : ٤١.

(٣) الأعراف : ١٧٦ ، وانظر قصته فى كتاب (من قصص القرآن الكريم والحديث النبوى الشريف) للإمام ابن كثير ـ تحقيق طه عبد الرءوف سعد.

الظاهر أنه من أهل قربته حتى جاء فى القصص أنه كان يرى من الثرى إلى العلى ، وأنه كان يعرف اسم الله الأعظم ، فقال سبحانه فى صفته : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) (١).

فصل : الّذي كان عدوا أبرزه فى نظام أوليائه ثم قال : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ) والّذي كان من أهل ولايته خلقه فى صورة الكلب ثم حشره فى جملة أوليائه ذكره فى زمرة أصفيائه ، فقال : (رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) (٢) وقال : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) (٣).

فصل : الاعتبار بسابق الحكم وما قسمه تعالى :

لا عبرة بالخلقة ولا اعتماد على الحال والصورة ، وإنما الاعتبار لسابق الحكم والقسمة.

سمعت الأستاذ الدقاق يقول : إن أصحاب الكهف صرفوا ذلك الكلب فلم ينصرف ، وأنطقه الله سبحانه فقال لهم : لم تصرفوننى ، إن كان لكم إرادة فلى أيضا إرادة ، وإن كان خلقكم فقد خلقنى ، فازدادوا بكلامه يقينا ، فقالوا فيما بينهم : لا يمكننا صرف هذا ، ويستدل بآثار قدمه علينا ، فالحيلة أن نحمله على أكتافنا.

فقال ، رحمه‌الله : إن الأولياء كانوا يمشون رجالا ، وأما الكلب فكان حامله الأولياء.

وكان يقول ، رحمه‌الله : كانوا فى الابتداء لذلك الكلب بلاياه فصاروا فى الانتهاء مطاياه.

__________________

(١) الأعراف : ١٧٦.

(٢) الكهف : ٢٢ ، وهو كلب أهل الكهف.

(٣) الكهف : ١٨.

نكتة : إن نباح الكلب يوجب لسامعه الوحشة ، ولكن لما ساعدت العناية أوجب نباح ذلك الكلب لهم زيادة بصيرة ، قال الله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا) (١) جاء فى التفسير : بكلام الكلب ليعلم العاملون أن العبرة بالحكم الأزلى لا بالسكون والحركات والعلل والأسباب.

وأنشدوا :

شكا إليك ما وجد

من خانه فيك الجلد

حيران لو شئت اهتدى

ظمآن لو شئت ورد

فصل : العبرة بالخواتيم :

لم يكن فى الملائكة أكبر قدرا ولا أجل خطرا من إبليس ، ما دام الحكم له بإلباسه خلعة التوفيق ، فلما أراد به الإسقاط عن رتبته صار بحيث لا يلوح رسم شقاوة على أحد إلا كان منه بسبب.

وأنشدوا :

لا تعجبوا عن ذلتى فأنا الّذي

حكم المليك بزلتى فأذلنى

فصل : إذا أراد الله لك السعادة فأنت سعيد :

وربما حكم الحق سبحانه وتعالى لبعض عباده بالسعادة فيظهر عليه مدة اختيار الكفر وإيثار الشرك وأوضار الجحد إلى أن يبلغ الكتاب أجله فيدركه أزلى الرحمة وسابق الحكمة ، كما حكى عن أبى حفص النيسابورى أنه قال يوما لأصحابه فى وقت الربيع : تعالوا نخرج إلى التنزه ، فخرجوا ، فكان يمر بمحلة الجزرى فرأى شجرة كمثرى قد زهت فى دار ، فوقف مع أصحابه ينظر

__________________

(١) الكهف : ١٤.

إليها بالعبرة ، فخرج من تلك الدار رجل مجوسى شيخ كبير ، فقال له : يا مقدم الأخيار : هل تقنع أن تكون ضيفا لمقدم الأشرار؟ فدخل أبو حفص مع أصحابه داره ، وكان معهم من قراء القرآن ، فأخرج المجوسى كيسا فيه دراهم كثيرة وقال : أنا أعلم أنكم تتنزهون عما تصل أيدينا إليه من الطعام فمروا من يشترى لكم بهذه الدراهم شيئا من السوق ، ففعلوا وأكلوا شيئا ، فلما أراد أبو حفص أن يخرج قال له الشيخ المجوسى : لا يمكنك أن تخرج إلا وأنا أصحبك ، فاعرض عليّ الإسلام ، فأسلم هو وأولاده ورهطه ، بضعة عشر نفسا ، فخرج أبو حفص ثم قال لأصحابه : إذا خرجتم إلى النزهة فاخرجوا هكذا.

لما سبق الحكم له بالسعادة سيق إليه مثل أبى حفص حتى أكمل الله له نوره ، كذلك جرت سنته الكريمة : (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

* * *

__________________

(١) يس : ٨٢.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٧ ـ الودود (١)

جل جلاله

الودود : اسم من أسمائه تعالى ، قال جل قدره : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) (٢) وفى معناه قولان :

أحدهما : أنه فعول بمعنى المبالغة من الفاعل ، كما يقال : رجل قتول إذا كان كثير القتل.

وقيل : إنه فعول بمعنى مفعول ، كقولهم ناقة حلوب بمعنى محلوبة ، فمعنى الودود فى وصفه تعالى أنه يود المؤمنين ويودونه ، قال الله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٣) ، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٤) ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٥) ، قيل : يخلق فى قلوبهم ودا لله تعالى.

فأما معنى المحبة فى صفة الحق سبحانه لأوليائه فتكون بمعنى رحمته

__________________

(١) الودود : هو الّذي يحب الخير لجميع الخلق فيحسن إليهم ويثنى عليهم ، وقيل : الودود هو المتحبب إلى أوليائه بمعرفته والى المذنبين بعفوه ورحمته ، وإلى العوام برزقه وكفايته ، وقيل : هو الّذي إذا أحبك قطعك عن الأغيار ، وأزال عن قلبك ملاحظة الرسوم والآثار.

(٢) البروج : ١٤.

(٣) المائدة : ٥٤.

(٤) البقرة : ١٦٥.

(٥) مريم : ٩٦.

عليهم وإرادة الجميل لهم ، وتكون بمعنى مدحه لهم وثنائه عليهم ، وتكون بمعنى إنعامه عليهم وإحسانه إليهم ، فإذا كانت بمعنى الرحمة والإرادة والمدح لهم كان من صفات ذاته ، ولم يزل الله تعالى محبا لأوليائه ، ولا يزال محبا لهم ، وإن كان بمعنى الإنعام والإحسان كانت من صفات الفعل.

وأما محبة العبد لله فتكون بمعنى لزوم طاعته ، وموافقته لأمره ، وتكون بمعنى تعظيمه له وهيبته منه ، فكل من كان أكثر طاعة له وأشد تعظيما كان أكثر محبة ، ومن كان عاصيا لأمره ومخالفا له كان بعيدا من محبته.

وتكلم الناس فى اشتقاق المحبة ، وفى أصل ذلك فقال بعضهم : أصله من حبب الأسنان وهو صفاؤها ونظافتها ، فكأن محبة العبد صفاء أقواله وضياء أحواله ، وذلك لتنزهه عن الغفلات ، وتباعده عن العلات ، وتنقيته عن أوضار المخالفات ، وتوقيه عن أجناس الزلات ، فإن القلب كالمرآة التى تشاهد فيها أحكام الغائبات ، ولا تريك المرآة الشواهد إلا إذا صفت.

وأجمعوا أن كل محبة تكون على ملاحظة غرض ، فإنها تكون معلولة حتى تكون صافية عن كل مطمع ، وقيل : أصلها من قولهم : أحب البعير إذا استناخ فلم يبرح ، قال الله سبحانه وتعالى : (فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) (١) أى لصقت بالأرض من حب الخير.

فالمحب أبدا يكون مقرا على باب محبوبه بنفسه وبدنه ، فإن لم يمكنه فبقلبه وروحه.

سمعت الدقاق يقول : إن المشايخ قالوا : إن طريقتنا هذه بينة لا تصلح إلا

__________________

(١) ص : ٣٢.

لأقوام كنس الله بأرواحهم المزابل ، فالمحب أبدا يكنس باب محبوبه بروحه لا يدع خدمته ما أمكنه ، ليصل سيره بسراه ، ويدع هواه فى رضاه.

وأنشدوا :

أحبكم ما دمت حيا وإن أمت

أحبك قلب فى التراب تريب

وأنشدوا :

ومن كاشفات الريب أنى وامق

تجافيك عنى واعتكافى ببابكا

يهجر فيأبى إلا الوصال ، ويقابل بالصد والرد والإهانة والطرد والتنفير والبعد ولا يزداد فى الظاهر إلا جهدا على جهد ، وفى الباطن إلا وجدا على وجد ، يؤثر الذل على العز ، والبعد على القرب.

وأنشدوا :

وأهنتنى فأهنت نفسى صاغرا

ما من يهون عليك ممن يكرم

أشبهت أعدائى فصرت أحبهم

إذا كان حظى منك حظى منهم

وأنشدوا :

رأيتك يدنينى إليك تباعدى

فباعدت نفسى لابتغاء التقرب

وقيل : أصله من الحب ، وهو القرط ، سمى حبا لقلقه وهو اضطرابه ، كما أن القرط لا يستقر ، بل يضطرب دائما ، كذلك المحب عديم القرار بعيد

الاصطبار ، لا يسكن أنينه ، ولا يهدأ حنينه ، نهاره ليل ، وليله ويل ، ونومه مفقود ، وفى قلبه وقود.

وقيل : أصله من الحبة وهو بزر ينبت فى الصحراء ، فالمحبة شجرة تغرس فى الفؤاد وتسقى بماء الوفاء ، أصلها ثابت فى السر ، وفرعها ثابت فى هواء الهمة ، وثمرها لطائف الأنس ، تؤتى أكلها دائما ، جوره أعلى من عدله ، ومنعه أشهى من بذله ، ورده أحلى من قبوله ، لا يؤدى قتيله (١) ، ولا يسلك إلا بتعب التحمل فى سبيله.

وقيل : المحبة الإيثار ، وهو أن لا يدع لمحبوبه ميسورا إلا بذله ، ولا ممكنا إلا استعمله ، لا يبقى لنفسه ولحظه نوما ولا سنة (٢) ، ولا يستثنى من جملة ما يبذله لحظة ولا سنة.

وأنشدوا :

لئن بقيت فى العين منى قطرة

فإنى إذا فى العاشقين دخيل

__________________

(١) أى لا يؤدى له الدية.

(٢) أول النوم.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٨ ـ المجيد (١)

جل جلاله

المجيد فى وصفه سبحانه قيل : بمعنى العظيم الرفيع القدر : والمجد فى اللغة الشرف ، ويقال : معناه الجميل العطاء ، يقال : مجدت الإبل تمجد ، بالنصب فى الماضى والرفع فى المستقبل ، إذا رعت فى مرعى خصيب ، وأمجدها صاحبها ، ويقال : أمجدت الدابة إذا أحسنت علفها ، والعرب تقول : فى كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار ، وهما شجرتان إذا حك إحداهما بالأخرى اضطرم النار منهما ، فمعنى استمجد أى استكثر.

فإن قيل : إن المجيد بمعنى جليل القدر فهو فعيل مبالغة من الفاعل ، وإذا قيل إنه بمعنى جزيل العطايا فهو فعيل بمعنى مفعل ، كأنه أمجد عباده ، أى أكثر عطاءهم ، فهو مجيد ، كالأليم بمعنى مؤلم ، من قولهم أمجدت الدابة إذا أحسنت علفها ، وكل وصف من أوصافه يحتمل معنيين فمن أثنى عليه بذلك الوصف فقد أتى بالمعنيين جميعا ، وكل من قال له مجيد فقد وصفه بأنه عظيم رفيع القدر وأنه محسن جزيل البر ، والله تعالى يحسن إلى عباده ويفيض عليهم سنى نواله.

__________________

(١) المجيد : هو الشريف ذاته ، الجميل أفعاله ، الجزيل عطاؤه ونواله ، فكما أن شرف الذات إذا قارنه حسن الفعال سمى مجدا ، وهو الماجد أيضا ، ولكن أحدهما أدل على المبالغة ، وكأنه يجمع معنى اسم الجليل والوهاب والكريم.

ومن وجوه إحسانه إليهم الّذي يخفى على أكثر الخلق حفظه عليهم قلوبهم وتصفيته لهم أقواتهم وأوقاتهم ، فإن النعمة العظمى نعمة القلوب ، كما أن المحنة الكبرى محنة القلوب.

يحكى عن بعضهم أنه قال : كنت قاعدا عند سحنون وكان يترنم فى نفسه وبيده قضيب يضرب به على فخذه ، فانشق اللحم وسال الدم وهو يقول :

كان لى قلب أعيش به

ضاع منى فى تقلبه

رب فاردده عليّ فقد

ضاقت الدنيا عليّ به

رب فاردده عليّ فقد

عيل صبرى فى تطلبه

وأغث ما دام بى رمق

يا غياث المستغيث به

ويحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت رجلا يطوف بالبيت وهو يقول : واوحشاه بعد الأنس ، وإذلاله بعد العز ، وإفقاره بعد الغنى ، قال : فقلت له : أذهب لك مال أم أصابتك مصيبة؟ قال : لا ، ولكن كان لى قلب فقدته.

ويحكى عن أبى عبد الله بن خفيف أنه قال : رأيت بمصر فقيرا يطوف على الناس ويقول : ارحمونى فإنى رجل صوفى ، ذهب منى رأس مالى ، فقلت : أو للصوفى رأس مال؟ قال : فقال : نعم ، كان لى قلب ففقدته.

وأن الحق سبحانه إذا أراد أن يتحف عبدا أغناه بلا مال ، وكفاه بلا احتيال ، وأعزه من غير رهط وأشكال ، يعافيه إذا مرض من غير علاج ، ويحميه فى عمره من غير فاقة واحتياج.

حكى عن عمرو بن عثمان المكى أنه قال : دخلت على مريض أعوده وهو شاب فقير ، وكان معنا جماعة من الفقراء ، فلما قعد عمرو قال الفتى : يا أستاذ ، هل فيهم من يقول شيئا؟ فأشار عمرو على واحد منهم فقال القوال :

ما لى مرضت فلم يعدنى عائد

منكم ويمرض عبدكم فأعود

وأشد من مرضى عليّ صدودكم

وصدود من أهوى عليّ شديد

فلم يزل الفتى يتعاطى القول وهو يقول حتى استوى قاعدا وخرج معنا ، فسئل عمرو عن حالته ، فقال : إن السماع إذا سمع والإشارة عن قبل أحيى ، وإذا كانت الإشارة من بعد قتلت.

فتبين بهذا أن فى السماع إحياء وقتلا وإثباتا ومحوا ، وإن كان الناس عما هم فيه غافلين.

ومن أعظم ما ينعم الله على عباده حفظه عليهم توحيدهم ودينهم حتى لا يبدلوا ولا يزيفوا ، إذ لو لا لطفه وإحسانه لضلوا وارتدوا.

يحكى أن رجلا ببغداد كان يسمى صالحا أذّن فى المسجد أربعين سنة ، فصعد المنارة يوما فأذن فأشرف على دار نصرانى فرأى فيها امرأة جميلة افتتن بها ، فنزل ودخل دار النصرانى واعتنقها ، فسألته عن حاله فقال : إنه عشقها ، فقالت : لا سبيل لك إلى حتى يدخل والدى فيزوجنى منك ، وحتى تدخل فى دينى ، قال : فتنصر الرجل وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، وقصد المرأة فدخلت بيتا وردت الباب ، فأشرف الرجل على السطح وسقط فى صحن الدار ومات على النصرانية ، ففقد الدين ولم يصل إلى الأمنية ، وخسر الدنيا والآخرة ، فنعوذ بالله من مكره ، وفجئات نقمه ، ونسأله أن يختم لنا بالخير برحمته.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٤٩ ـ الباعث (١)

جل جلاله

معنى هذا الاسم أنه باعث الخلق يوم القيامة ، يقال : بعث الله الموتى إذا أحياهم ، قال الله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٢) وقيل : إنه باعث الرسل ، قال الله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ) (٣) فيكون البعث فى اللغة بمعنى الإثارة ، يقال : بعثت البعير إذا أثرته ، والانبعاث انفعال منه ، يقال : فلان منبعث فى هذا الأمر أى مجد ، ويكون البعث القوم المبعوثين كالركب والصحب والشرب.

والله تعالى قادر على بعث الخلق وحشر الخلق يوم النشور ، ومن تحقق ذلك وعلم أن بين يديه يوما هو يوم الحساب والعتاب والثواب والعقاب فبالحرى أن يتصفح أحواله ويفتش أعماله ، ولا يفعل ما يقاسى عليه ندما أو

__________________

(١) الباعث : هو الّذي يحيى الخلق يوم النشور ، ويبعث من فى القبور ، ويحصّل ما فى الصدور ، وقيل : إنه باعث الهمم إلى الترقى فى ساحات التوحيد ، والتنقى من ظلم صفات العبيد ، وقيل : هو الّذي يبعثك على عليات الأمور ، ويرفع عن قلبك وساوس الصدور ، وقيل : هو الّذي يصفى الأسرار عن الهوس ، وينقى الأفعال عن الدنس.

(٢) الحج : ٧.

(٣) يونس : ٧٤.

يجد بسببه ألما ، قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (١) ، يحكى عن الربيع بن خيثم أنه قال : مررت بمكتب فرأيت صبيا يبكى ، فقلت : مم تبكى؟ فقال : غدا يوم الخميس أحتاج أن أعرض الدرس على المعلم ولست أحفظ ، فقلت : كيف بى إذا كان يوم القيامة وأحاسب على ما أسلفت.

وإذا علم العبد أن الله سبحانه قال : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (٢) وتحقق بأنه يطالبه بأفعاله وأعماله غدا داخله الروع والفزع والطمع شاء أو أبى.

يحكى عن أبى الحارث الأوسى أنه قال : كنت قاعدا فى بيتى فدقت عليّ جارية الباب فقلت من؟ فقالت : جارية تسترشد الطريق ، فقلت : طريق الهرب أم طريق النجاة؟ فقالت : يا بطال ، أو إلى الهرب طريق؟ ثم قالت : اقرأ عليّ شيئا من القرآن ، فجرى على لسانى : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً) (٣) فصاحت وخرج روحها ، فإذا عليها مسح من شعر ، فوجدت فى جيبها رقعة مكتوب فيها : إذا مت فادفنونى فيها ، فإن كان لى ثمّ قبول أبدلها الله سندسا وحريرا ، وإن لم يكن فسحقا وبعدا.

وهكذا إذا علم العبد أن الآخرة هى دار القرار ، علم أن النعيم الأكبر لا ينفع مع العاقبة الأليمة ، والبلاء الشديد فى الدنيا لا يضر مع الخاتمة الجميلة.

يحكى عن بشر الحافى أنه كان يلتقط يوما الحثالة من الطريق ، فجاء كلب يلتقط معه ، وكان بشر يلتقط البقل والكلب يلتقط العظام ، فظهر لقمة خبز ، فأراد بشر أن يأخذها فنبح عليه الكلب ، فطرح بشر الخبز إليه وقال : إن كان عاقبتى إلى خير فلا يضرنى ما أنا فيه ، وإن كان على وجه آخر فأنت خير منى.

__________________

(١) البقرة : ٢٨١.

(٢) القيامة : ٣٦.

(٣) المزمل : ١٢ ، ١٣.

فصل : إذا غلب الرجاء على العبد

وقد يغلب على العبد الرجاء فى بعض الأحوال فيؤمل من الله جميل عفوه ويرجو حسن فضله.

يحكى أن الشبلى كان جالسا فدخل عليه إنسان وقال : يا أبا بكر ، من يحاسبنا؟ فقال : الله ، فأخذ الرجل يتواجد ويزعق ، فقيل له فى ذلك فقال : الكريم إذا قدر عفا.

وروى أن أبا هريرة قال للحسن بن على رضى الله عنهم : العجب من هذا الخلق ، كيف ينجو أحدهم مع كثرة زلاتهم؟ فقال الحسن رضى الله عنه : العجب ممن يهلك منهم مع سعة رحمة الله ، فقال أبو هريرة : الله يعلم حيث يجعل رسالته.

وقيل : إن رجلا من الصالحين رؤى فى المنام فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لى ، فقيل له : بما ذا؟ فقال : هاهنا يعاملون بالجود ، لا بالركوع والسجود ، ويعطون بالمنة لا بالخدمة ، ويغفرون بالفضل ، لا بالفعل.

فصل : معنى الباعث فى وصفه تعالى :

ويكون معنى الباعث فى وصفه تعالى أنه يبعث الخواطر الخفية فى الأسرار ، فمن دواع يبعثها إلى الحسنات ، ومن دواع يبعثها إلى السيئات ، ومن موفق لا لاستحقاق طلب ، ومن مخذول لا لعلة وسبب ، ختم الله تعالى لنا بالجميل ، إنه على ما يشاء قدير.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٥٠ ـ الشهيد (١)

جل جلاله

الشهيد اسم من أسمائه تعالى ومعناه العليم ، قال الله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (٢) قيل : علم الله أنه لا إله إلا هو ، ويكون الشهيد هو الحاضر ، يقال : شهد فلان أى حضر ، وحضوره سبحانه يكون بمعنى علمه ورؤيته وقدرته على الشيء ، وأنه لا يخفى عليه خافية ، ويكون الشهيد مبالغة من الشاهد ، والله تعالى شاهد على الخلق غدا ، قال الله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) (٣) ويقال : شهد فلان كذا أى رأى ذلك ، ويكون الشهيد بمعنى المشهود ، فكأن العباد يشهدونه ، ويكون الشاهد والشهيد فى وصفه تعالى أنه يبين الدلائل ويوضح الحجج ، ويسمى الشاهد

__________________

(١) الشهيد : يرجع معناه إلى العليم مع خصوص إضافة ، فإنه تعالى عالم الغيب والشهادة ، والغيب عبارة عما بطن ، والشهادة عبارة عما ظهر ، وهو الّذي يشاهد ، فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم ، وإذا أضيف إلى الغيب والأمور الباطنة فهو الخبير ، وإذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد ، وقد يعتبر مع هذا أن يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم.

(٢) آل عمران : ١٨.

(٣) الأنعام : ١٩.

شاهدا لأنه تبين شهادته حكم المشهود عليه ، لأنه إذا شهد الشهود اتضح حكم المشهود به.

وأما الشهيد فى صفة الخلق فالمقتول فى سبيل الله سمى شهيدا ، واختلف الناس لم سمى بذلك؟ فمنهم من قال : لأن دمه سال على شهادة الأرض ، أى على ظاهرها ، وهذا لا يقوى ، لأن غير المقتول يسمى شهيدا ، كالمبطون والغريق وغيره ، وليس كل مقتول فى سبيل الله يجرى دمه على شهادة الأرض ، وقيل : سمى شهيدا لأنه شهد الوقيعة والمعركة ، وهذا أيضا لا يقوى ، لأنه إذا لم يقتل فى سبيل الله لا يسمى شهيدا وإن حضر الوقيعة ، وقيل : إنما سمى شهيدا لأن ملائكة الرحمة تشهده ، أى تحضره ، فيكون فعيلا بمعنى مفعول ، وهذا أقوى ، وقيل : إنما سمى شهيدا مبالغة من الشاهد ، أى شهد هو رحمة الله ولطفه ، وقيل : سمى شهيدا بمعنى مفعول ، أى الله شهد له باللطف والرحمة [فهو مشهود].

وإذ علم العبد أن الله تعالى يشهد ويعلم ويبصر جميع أفعاله وأحواله سهل عليه ما يقاسيه لأجله وهان عليه ما يعانيه لرضاه ، قال الله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) (١).

وحكى أن رجلا كان يضرب بالسياط ، وكان يصبر ولا يصيح ، فوقف عليه بعض المشايخ فقال له : أما يؤلمك؟ فقال : نعم ، فقال : لم لا تصيح؟ فقال : فى القوم لى عين ترقبنى أخشى أن يذهب ماء وجهى عنده إن صحت.

سمعت الشيخ منصور المغربى يقول : جرد إنسان للسياط فصبر ولم يصح ، فلما فرغوا من ضربه قال لبعض أصحابه : تقدم إلى ، فتفل على يديه رقاق

__________________

(١) الطور : ٤٨.

الفضة ، فقال : ما هذا؟ فقال : درهم كان فى فمى ، كلما أوجعنى الضرب شددت عليه أسنانى ، لأنه كان ينظر إلى بعض من اعتقد فىّ الشجاعة والجلادة فقلت : إن صحت ذهب ماء وجهى عنده.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : دخلت بلاد الترك فرأيت بيتا للأصنام فيه صنم كبير معلق على رأسه طابق ، وفى عنقه فأس معلق ، فقلت : ما هذا؟ فقال : جاء إنسان وادعى محبة هذا الصنم فقيل له : ما علامة صدقك؟ فقال : أن أقطع بين يدى هذا الصنم إربا إربا ، ويعلى عليّ هذا الطابق وأنا لا أتحرك فى رؤيته ، ففعل به ذلك فصبر ، فعلق هذا على رأسه.

ويقال : من ادعى محبة هذا الصنم فليصبر على ما صبر عليه ذلك الرجل.

وإذا كان الناس يحملون على رؤية أمثالهم وأشكالهم أمثال هذه المحن ، فمن ادعى المحبة لرؤية الله تعالى ثم لا يصبر على قرصة نملة يكون مخدوعا ، وإذن علم أنه متجوز فى دعواه ، غير صادق فى حق مولاه ، قال الله سبحانه : (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (١) وأن أهل المعرفة لم يطلبوا معه مؤنسا سواه ، ولا أحد يشكو بين يديه غيره ، بل رضوانه شهيدا على أحوالهم ، عليما بأمورهم ، كيف وهو يعلم السر وأخفى ، ويسمع النجوى ، ويكشف البلوى ، ويجزل الحسنى ، ويصرف السوء.

أنتم سرورى وأنتم مشتكى حزنى

وأنتم فى سواد الليل سمارى

فإن تكلمت لم ألفظ بغيركم

وإن سكت فأنتم عقد إضمارى

__________________

(١) النساء : ١٠٨.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٥١ ، ٥٢ ـ الحق (١) المبين (٢)

جل جلاله

الحق : من أسمائه تعالى ، وهو بمعنى الموجود الكائن الّذي ليس بمعدوم ولا منتف ، والحق المطلق فى اللغة بمعنى الموجود ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «السحر حق والعين» أى كائن موجود ، وكذلك يقال : «الجنة حق والنار حق» أى كائن موجود ، وكذلك «الصراط حق والساعة حق» ويكون الحق بمعنى ذى الحق كما يقال : رجل عدل ورضى أى ذو عدل وذو رضى ، كما قال الشاعر (٣) :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت

فإنما هى إقبال وإدبار

أى ذات إقبال وإدبار.

__________________

(١) الحق : هو فى مقابلة الباطل ، والأشياء قد تستبان بأضدادها ، وكل ما يخبر عنه فإما باطل مطلقا ، وإما حق مطلقا ، وإما حق من وجه باطل من وجه ، فالممتنع بذاته هو الباطل مطلقا ، والواجب بذاته هو الحق مطلقا ، والممكن بذاته الواجب بغيره هو حق من وجه باطل من وجه ، فهو من حيث ذاته لا وجود له فهو باطل ، وهو من جهة غيره مستفيد للوجود ، فهو من الوجه الّذي يلى مفيد الوجود موجود ، فهو من ذلك الوجه حق ومن جهة نفسه باطل ، ولذلك كل شيء هالك إلا وجهه.

(٢) غالب من تكلموا فى هذا العلم لم يذكروا هذا الاسم الشريف.

(٣) ليس شاعرا ، ولكنها الخنساء الشاعرة ترثى أخاها صخرا فى الجاهلية ، من قصيدتها الرائية التى أولها :

قذى بعينيك أم بالعين عوار

أم ذرفت أن خلت من أهلها الدار

ويكون الحق فى وصفه سبحانه بمعنى يحق الحق ، والحق المفيد فى وصف غيره يكون بمعنى ما يحسن فعله ويصح اعتقاده ويجوز النطق به ، يقال : هذا فعل حق ، وهذا القول حق وهذا الاعتقاد حق ، وعكسه الباطل المطلق ، يكون بمعنى المعدوم ، ويقال فى اللغة : حققت الشيء وأحققته فهو حق ، ويقال : حق لك أن تقول كذا ، وحق عليك أن يفعل لك الحق ، وحقيق لك ، فيكون حقيقا فعيلا بمعنى الفاعل ويكون بمعنى المفعول.

وأما الحق والحقيقة فى صفات الخلق فى اصطلاح هذه الطائفة فيعنون بالحق ما يعود إلى الحقائق وأوصاف القلوب من المعارف ، ويعنون بالحقيقة المعاملات والمنازلات ، وإنما أخذوا هذا الاصطلاح من خبر حارثة حيث قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك؟» قال : أسهرت ليلى وأظمأت نهارى ... فأشار بالحقيقة إلى المعاملات فى سهر الليل وظمأ النهار.

سمعت الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، يقول : سمعت العباس الزوزنى الزاهد يقول : كنت فى ابتداء أمرى أسافر وعليّ مسح وفى عنقى غل ، فدخلت ديرا للنصارى بالشام ، فوصف لى فيه امرأة مجتهدة ، فأردت أن ألقاها فرأيتها كالخلال دقة ونحافة لكثرة الاجتهاد فى طول الجوع والخلوة ، فقلت لها : ما أحسن هذا الجهد لو كان فى حق ، فقالت : إن لم يكن هذا فى حق فإنه حقيقة ، فأنت تدعى الحق فأين الحقيقة؟ تعنى الجهد والمعاملة ، قال : ولم تكن لى تلك المعاملة فخجلت.

فصل : اسمه الحق أكثر ما يجرى على لسان السادة الصوفية :

وأكثر ما يجرى على لسان هذه الطائفة من أسمائه تعالى : الحق ، وذلك لما ذكرنا أن الحق هو الموجود ، لأن القوم ارتقوا من شهود الأفعال إلى شهود الصفات ، ثم من شهود الصفات إلى شهود الذات ، وكما أن العلماء

الذين هم أهل الاستدلال بالفعل على الفاعل أكثر ما يجرى على لسانهم البارى ، والبارى هو الخالق ، فكذلك الغالب على لسان هؤلاء من أسمائه تعالى الحق.

سمعت الدقاق يقول : إن الله تعالى تعرّف إلى العامة بأفعاله فقال عز ذكره : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) وتعرف إلى الخواص بصفاته فقال عز من قائل : (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ) (٢) وتعرف إلى خاصة الخاصة بحقيقة حقه وذاته فقال تعالى : (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ) (٣).

فصل : حق الحق أحق :

ومن عرف أنه ذو الحق أثر حقه على حظه وحق الحق أحق ، وعلامة من أثر على حظه حقه أن يسخر له خلقه ويحقق له ظنه.

يحكى عن بعض الصالحين أنه قال : كان ابتداء توبتى أنه كان تاجرا بزازا ، فدخل السوق خادم من دار الخليفة يطلب ثيابا لهم ، فعرض هذا الرجل الثياب على الخادم ، فبينما هو فى ذلك إذ أذن المؤذن ، فترك هذا الرجل الخادم واشتغل بالصلاة ، فحرد الخادم وقال : احمل ثيابك ، وحمل الثياب من حانوت آخر إلى دار الخليفة فلم ترتض ، ورجع الخادم إلى حانوت هذا الرجل شاء أم أبى ، وحمل ثيابه وارتضوها واشتروا منه بربح كثير وافر ، فلما أمسى الرجل رأى فى المنام كأن قائلا يقول له : آثرت الصلاة على تجارتك ، فلا جرم قدمنا

__________________

(١) الأعراف : ١٨٥.

(٢) يونس : ١٦.

(٣) الأنعام : ٩١.

ثيابك على ثياب غيرك ، فلما أصبح الرجل سر بتلك الرؤيا وتصدّق بجميع ماله وصار شيخ وقته.

وأما المبين فى وصفه سبحانه فهو الّذي يوضح الحق ويعليه ، ويقيم البرهان ويوضحه ، ويظهر الحق من الباطل بالعلامات التى ينصبها ، ويبين من مكنونات العبد ما لم يخطر ببال أحد من دقائق آثار الحكمة وعجائب متعلقات القدرة ، ويبين لقلوب الموحدين على الخصوم فى شواهد الربوبية ما يزيل الشبهة ويعلى الحجة.

* * *

باب

فى معنى اسميه تعالى

٥٣ ، ٥٤ ـ الوكيل (١) القوى (٢)

جل جلاله

الوكيل والقوى اسمان من أسمائه تعالى ، قال الله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (٣) ومعنى الوكيل : الّذي وكل إليه الأمور ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، ومن عرفه وكل إليه أموره ، بل هو المتولى لأحوال عباده يصرفهم على ما يريد ويتولى أسبابهم على ما يختاره وهو وكيل قوى يقدر على ما يريد إمضاءه ، ويقوى على ما يشاء إنشاءه ، وإذا تولى أمر عبد بجميل الكفاية كفاه كل شغل وأغناه عن كل غير ومثل ، ولا يستكثر العبد حوائجه لأنه يعلم أن كافيه مولاه ، ولهذا قيل : من علامات التوحيد كثرة العيال على بساط التوكل.

ويحكى عن ممشاد الدينورى أنه قال : كان عليّ دين فهممت ليلة من الليالى وضاق صدرى ، فرأيت فيما يرى النائم كأن قائلا يقول لى : يا بخيل ،

__________________

(١) الوكيل : هو الموكل إليه جميع الأمور ، وقيل هو : من ابتداك بكفايته ثم والاك بحسن رعايته ، ثم ختم لك بجميل ولايته ، وقيل : هو الّذي يثنى جميلا ، ويعطى جزيلا ، لمن رضى به وكيلا.

(٢) القوى : القوة تدل على القدرة التامة دون نقص ، والقوى هو الّذي لا غالب له ، والّذي لا أحد ينصره ، وأمد يحصره.

(٣) النساء : ٨١.

أخذت على هذا المقدار ، خذ فعليك الأخذ وعليّ القضاء ، قال : فانتبهت ففتح لى بما قضيت الدّين ، وما حاسبت بعد ذلك قصابا ولا بقالا.

وحكى أن أحمد بن خضرويه لما حضرته الوفاة كان عليه سبعون ألف درهم فحضره غرماؤه ، فقال : يا إلهى ، روحى رهن فى أيديهم ، فإن أردت قبضها فاقض حقوقهم ، فدق إنسان الباب وقال : ليخرج غرماء أحمد بن خضرويه ، فقضى دينه ثم مات ، رحمه‌الله تعالى.

فصل : حسبى الله ونعم الوكيل :

وأن من له وكيل يتولى أشغاله فيسأله الأجرة على أعماله ، وربما يخون فى ماله ثم يخطئ فى كثير من أحواله ، وربما لا يهتدى كما ينبغى لوجوه أشغاله.

والحق سبحانه يأخذ لمن يرضى به وكيلا ، ثم يحقق له تأميلا ويثنى عليه جميلا ويعطيه جزيلا ولا يسأله على ما يتولاه من أموره عوضا ، بل يضاعف له فضلا ونعمة ، وبلطف به فى دقائق أموره وأشغاله ما لا يرتقى إليه آماله ، ولا يأتى على تفضيله سؤاله سنة منه سبحانه جميلة أمضاها وعادة كريمة بين عباده أجراها.

فصل : من عرف أن الله وكيله :

ومن عرف أنه وكيله وصدق عليه تعويله فبالحرى أن يكون وكيله سبحانه على نفسه فى استيفاء حقوقه ولوازمه واقتضاء أوامره وفرائضه ، فيكون خصمه سبحانه على نفسه ليلا ونهارا ، لا يغتر لحظة ولا يجوز التقصير بتة.

وأنشدوا :

عليّ رقيب منك خال بمهجتى

إذا رمت تسهيلا عليّ تصعّبا

ويحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت ببلاد الهند شيخا كبيرا يسمى الصبور ، فسألت عن حاله فقيل : إنه كان له حبيب فى عنفوان شبابه ، فسافر يوما فخرج هذا الرجل إلى وداعه ، فبكت إحدى عينيه ولم تبك الأخرى ، فقال لعينه : لأحرمنك النظر إلى محبوب الدنيا عقوبة لك إذ لم تساعدينى على البكاء لفراق محبوبى ، فمنذ ثلاثين سنة غمض عينه ولم ينظر بها إلى شيء.

وفى القصة أن يوسف عليه‌السلام كان له زوج حمام ، فلما فارق يوسف يعقوب عليهما‌السلام ، فكلما أراد يعقوب أن يبتسم أو يخاطب أحدا أو يتكلم جاء الحمام ووقف بحذائه يذكره عهد يوسف عليه‌السلام ، فكان يتنغص بعيشه.

فإذا كان مثل هذا موجود فى وصف المخلوقين إذ كانت محبتهم لأشكالهم فأولى وأحرى أن يكون مثل هذه المطالبات محفوظة على الأحباب ، فإن عهد الأحباب لا يخلق عند الأحباب ، ولا يزدادون على ممر الأيام إلا وفاء على وفاء ، وصفاء على صفاء ، يخلق الدهر ويبلى وهم بعد طول الزمان أحبة.

وفى معناه أنشدوا :

لم ينسينك سرور لا ولا حزن

وكيف لا كيف ينسى وجهك الحسن

ولا خلا منك قلبى لا ولا بدنى

كلى بكلك مشغوف ومرتهن

وأنشدوا :

ولا أنس بالأشيا لم أنس قولها

وأجفانها من شدة الوجد تذرف

ألست على العهد الّذي كان بيننا

فلسنا وحق الله عن ذاك نصرف

وأنشدوا :

يا عزّ (١) ما طلعت شمس ولا غربت

إلا وأنت منا قلبى ووسواسى

وما جلست إلى قوم أحدثهم

إلا وأنت حديثى بين جلاسى

وما هممت بشرب الماء من ظمأ

إلا رأيت خيالا منك فى الكاس

وأما القوى فى وصفه تعالى فهو بمعنى القادر ، واشتقاقه فى اللغة من قوى الحبل ، وهى طاقاته ، وقد مضى معناه فى معنى القادر فيما تقدم فأغنى عن إعادته.

__________________

(١) منادى مرخم حذف منه الحرف الأخير ، والأصل : يا عزة.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٥٥ ـ المتين (١)

جل جلاله

المتين : اسم من أسمائه تعالى ورد به الخبر ، وهو بمعنى القوى ، واشتقاقه من المتانة ، وهى الصلابة ، مأخوذة من المتن الّذي هو الظهر ، لأن استمساك أكثر الحيوان يكون بالظهر ، فتسمى القوة متانة.

ولا يصح فى وصفه تعالى المتن ولا الصلابة ولكنه يكون بمعنى القدرة ، وفى هذا دلالة على صحة مذهب أهل الحق ، لأن الله تعالى لا يسمى بما لم يرد به التوقيف والإذن من قبله ، لأنه لا يوصف بالجلادة والشجاعة ، ويوصف بالقوة والقدرة ، لأن التوقيف ورد بذلك دون غيره ، ويجوز أن يسمى المتين ولا يسمى بالمتانة ولا بالصلابة ، فالمعتبر فى هذا الباب إطلاق ما ورد به التوقيف على الوجه الّذي قد ورد ، صح معناه فى وصفه أو لم يصح ، والامتناع مما لم يرد به الإذن ، صح معناه فى وصفه أو لم يصح.

وهو سبحانه على ما يشاء قدير ، لا يخرج عنه قدرته مقدور ، كما لا ينفك عن حكمته مفطور ، وهو سبحانه فى إمضائه بحكمه غير مستظهر بجند ومدد ،

__________________

(١) المتانة تدل على شدة القوة ، فالله تعالى من حيث أنه بالغ القدرة تامها قوى ، ومن حيث أنه شديد القوة متين ، فهو الّذي إذا فعل شيئا لم تلحقه فى أفعاله مشقة ، فأمره أن يقول كن فيكون ، وهذا مثال ولكن تكفى الإرادة فى التكوين بدون لفظ كن.

ولا مستعين بجيش وعدد ، إن أراد إهلاك أحد أهلكه بيده حتى يخرج على نفسه فيتلف نفسه ، إما خنقا وإما غرقا وإما تعاطيا لما فيه هلاكه بوجه من الوجوه.

سمعت الشيخ الدقاق يقول : لما أراد الله إهلاك قوم نوح نصح نوح ابنه وأمره أن يركب معه فى السفينة ، فآوى إلى الجبل واتخذ بيتا من زجاج ودخل فيه ، لئلا يؤثر فيه الماء ، فأبلاه الله بكثرة البول حتى امتلأ ذلك البيت من بوله وغرق فيه ، فغرق الله سبحانه جميع العالم فى الماء ، وغرق ابن نوح فى بوله.

سئل الجنيد عن الخوف فقال : توقع العقوبات مع مجارى الأنفاس.

وقال سرى السقطى : إنى لأنظر إلى أنفى كل يوم كذا كذا مرة مخافة أن يكون قد اسودّ وجهى من عقوبته.

وفى بعض الحكايات أن رجلا سمع فى الطواف يقول : اللهم إنى أعوذ بك من سهم الغضب ، فسئل عن معناه فقال : إنى مجاور منذ خمسين سنة فرأيت يوما شخصا فاستحسنته ، فوقعت على وجهى لطمة ، فسالت عينى على خدى ، فإذا أنا بصوت : لطمة بلحظة ، ولو زدت لزدنا.

وقد يمتحن الحق تعالى أولياءه ويختبرهم بما يقدر أن يتولاه بنفسه فيكله إليهم امتحانا لهم واختبارا ، ثم يفعل ما يريد ، وربما يحوج بعض أوليائه فى الظاهر إلى خلقه ، وهو قادر على كفاية أسبابهم من غير أن يكلهم إلى أمثالهم.

يحكى عن الكتانى أنه قال : كان لأبى حفص الدينورى أخ ، وكان لا يبيت فى المسجد أكثر من ليلة ، وكان حسن الطريقة ، فاعتل فى قرية وقتا فبقى فيها سبعة أيام عليلا لم يكلم أحدا ولم يتعاهده أحد ، فمات فأخذوا فى جهازه ، فاجتمع الخلائق من القرى وقالوا : سمعنا صوتا : من أراد أن يحضر جنازة ولى من أولياء الله فليحضر قرية بنى فلان ، فلما دفنوه أصبحوا وجدوا الكفن ملفوفا

فى المحراب وفيه رقعة مكتوب فيها : لا حاجة لنا فى كفنكم ، هذا ولى من أوليائنا مات ، فلا أطعمتموه ولا سقيتموه ولا عللتموه ولا كلمتموه ، قال : فاتخذوا فى تلك القرية دارا للضيافة ، فلم يمر بهم غريب إلا أضافوه وأحسنوا إليه ، وتلك القرية بالشام.

وأن من علم أن مولاه قدير على ما يريد قطع رجاءه عن الأغيار وتفرد سره بمن لم يزل ولا يزال ، كما أخبر سبحانه عن إبراهيم أنه قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) (١) قال أهل الإشارة : معناه : سهلت طريقهم إليك وقطعت رجاءهم عمن سواك ، ثم قال : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أى شغلتهم بخدمتك فأنت أولى بهم منى ومنهم ، ثم قال : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) أى إذا احتاجوا إلى شيء فذلل عبادك لهم وأوصل رعايتك إليهم ، فإنك على ما تشاء قدير.

وأن من لزم بابه أوصل إليه محابه وكفاه أسبابه وذلل له كل صعب وأورده كل منهل عذب من غير قطع شقة ولا تحمل مشقة.

يحكى عن الجنيد أنه قال : سمعت السرى يقول : إن فى قرى بغداد أولياء لله لا يعرفهم الخلق ، فكنت أمشى وأدور فى القرى لعلّى أجد منهم أحدا.

__________________

(١) إبراهيم : ٣٧.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٥٦ ـ الولى (١)

جل جلاله

الولى اسم من أسمائه ، قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٢) فالولى فى وصفه تعالى هو المتولى لأعمال عباده ، وقيل هو فعيل من الوالى يقال ولى فلان الأمر ولاية فهو وال ، وولى على المبالغة ، والولى فى اللغة : يكون بمعنى الناصر وأولياء فلان أنصاره ، والولى القريب ، وقوله تعالى : (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (٣) قيل معناه : قاربك ودنا منك ما خوفت به فانتبه له ، والولى فى اللغة فى غير هذا الموضع : المطر الّذي يأتى بعد الوسمى (٤) فأولياء الله تعالى أنصار دينه وأشياع طاعته ، وقد مضى طرف من هذا ، وقال تعالى : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٥) قيل : معناه نحن أنصاركم ، وتكون الولاية بمعنى المحبة (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦)

__________________

(١) الولى : الّذي نصر أولياءه ، وقهر أعداءه ، فالولى بحسن رعايته منصور ، والعدو بحكم شقاقه مقهور ، وقيل: الولى الّذي أحب أولياءه بلا علة ، ولا يردهم بارتكاب ذلة ، وقيل : الولى الّذي تولى سياسة النفوس فأدبها ، وحراسة القلوب فهذبها.

(٢) البقرة : ٢٥٧.

(٣) القيامة : ٣٤.

(٤) الوسمى : بداية المطر فى فصل الربيع.

(٥) فصلت : ٣١.

(٦) آل عمران : ٦٨.

أى يحبهم ، وأخبر الله تعالى عن نبيه يوسف أنه قال : (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ)(١).

وقال بعض أهل الإشارة : لما علم الله تعالى تقاصر ألسنة المذنبين وعلم أن فى هذه الأمة من ارتكب الذنوب وليس لهم جسارة الدعوى بدأهم بجميل فعله فقال عز من قائل : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) فشتان بين عبد يقول : أنت وليى ، وبين عبد يقول له الحق : (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ) لا نقدم الواحد منا على رتبة نبى ولكن الرفق بالضعفاء أكثر والفضل منهم أقرب ، ولو لم تكن فى القرآن آية فى هذا الباب غير قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) (٢) لكفى بذلك شرفا لهم وذخرا.

واعلم أن العبودية بالعبد لسبب وولاية الله سبحانه له ابتداء ، فالسبب لم يكن ، وما من الحق لك لم يزل ، فلأن يكون إذلالك ـ بمعنى لم يزل ـ خير لك من أن يكون حما لك ـ بمعنى لم يكن.

فصل : ومن علامات من يكون الحق سبحانه وليه أن يصونه ويكفيه فى جميع أحواله وشئونه ، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق فى دفع ضر أو جلب نفع ، بل يكون القائم على قلبه فى كل نفس ، فيحقق آماله عند إشاراته ، ويعجل له مآربه عند خطراته.

يحكى عن يوسف الرازى أنه قال : دخلت على ذى النون المصرى يوما فقال : إيش يقول الناس فىّ؟ فقلت : يقولون : إنه زنديق ، فقال : الأمر سهل حيث لم يقولوا : إنه يهودى ، فإن الناس تنفر قلوبهم عن اليهود أكثر مما تنفر

__________________

(١) يوسف : ١٠١.

(٢) محمد : ١١.

عن غيرهم ، فخرجت فلم ألبث أن سمعت أنهم يقولون : إنه يهودى ، فدخلت عليه وأخبرته فتبسم ، ثم إنهم قصدوا السلطان ليسعوا به فركبوا الزورق ، فنظر إليهم ذو النون وحرك شفتيه فكادوا يغرقون ، ثم إنهم تابوا إليه وتضرعوا فقبل عذرهم.

وإن من لم ينتقم لنفسه انتقم الله له ، ومن لم ينتصر لنفسه انتصر الله له.

فصل : من أمارات ولايته لعبده :

ومن أمارات ولايته لعبده يديم توفيقه حتى لو أراد سوءا أو قصد محظورا عصمه عن ارتكابه ، أو لو جنح إلى تقصير فى طاعته أبى إلا توفيقا له وتأييدا ، وهذا من أمارات السعادة ، وعكس هذا من أمارات الشقاوة ، ومن أمارات ولايته أيضا أن يرزقه مودة فى قلوب أوليائه ، فإن الله سبحانه ينظر إلى قلوب أوليائه فى كل وقت ، فإذا رأى لعبد فى قلوبهم محلا نظر إليه باللطف ، وإذا رأى همة ولى من أوليائه فى شأن عبد ، أو سمع دعاء ولى فى شأن شخص يأبى إلا الفضل والإحسان إليه ، بذلك أجرى السنة الكريمة.

يحكى عن بعضهم أنه قال : رأيت منصور بن عمار فى المنام ، فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : أقامنى بين يديه وقال : يا مشغب ، أنت المشغب لو لا أنك كنت تثنى عليّ فى بعض مجالسك فمر بك ولىّ من أوليائى فاستحسن ثناءك عليّ فاستوهبك منى فوهبتك له وإلا لعذبتك.

وسمعت الدقاق يقول : لو أن وليا من أولياء الله مر ببلدة للحق بركات مروره أهل تلك البلدة حتى تعمهم كلهم ، قال الله سبحانه : (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) (١) فأولياؤه يكونون فى العز فى دنياهم وعقباهم ، جعلنا الله منهم بمنه ورحمته.

__________________

(١) الشورى : ٤٦.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٥٧ ـ الحميد (١)

جل جلاله

الحميد : اسم من أسمائه تعالى ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، محمود بحمده لنفسه وحمد خلقه له ، ويكون فعيلا بمعنى فاعل ، حامد لنفسه وحامد لعباده المؤمنين.

فالحمد يتصرف فى اللغة على وجوه : يكون فعلا بمعنى المدح والثناء ، ويكون بمعنى الشكر ، ويكون الفرق بينهما أن الشكر فى مقابلة إحسان ، والحمد يكون من مقابلة إحسان ، ويكون بمعنى المدح بذكر صفات العلو ، وإن لم يكن ذكر إحسان يقال : حمدته على رفعته وشكرته على نعمته ، قال الشاعر :

بحمد من ثنائك لا يذم

أنافر أن تجود على مثالى

__________________

(١) الحميد : هو المحمود المثنى عليه ، والله تعالى هو الحميد بحمده لنفسه أزلا ، وبحمد عباده له أبدا ، ويرجع هذا إلى صفات الجلال والعلو والكمال ، منسوب إلى ذكر الذاكرين له ، فإن الحمد هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال ، والحميد هو الّذي يوفق للخيرات ، ويحمد عليها ويمحو السيئات عن العبد ولا يخجله بذكرها ، فالعامة يحمدونه على إيصال اللذات الجسمانية ، والخواص يحمدونه على إيصال اللذات الروحانية ، والمقربون يحمدونه لأنه هو لا شيء غيره.

أى بمدح واستحقاق ثناء ، ويكون الحمد فى اللغة بمعنى الرضا ، يقال : بلوته فحمدته أى اختبرته فارتضيته ، ويكون الحمد بمعنى العاقبة ، يقال : حمادى أمرك أى عاقبة أمرك ، فقول القائل : الحمد لله يكون بمعنى المدح لله والشكر لله والرضا لله ، وأن من حمد الله تعالى جل جلاله وكما حمد نفسه بخطابه الأزلى حمد خلقه الذين أثنى عليهم بذكر خصالهم الحميدة ، وحمد العبيد لله سبحانه إذا كان بمعنى مدحهم وثنائهم ، فيكون بتوفيق من الله سبحانه وتعالى ولا يقبل ذلك إلا أن يكون عن تحقيق.

والتحقيق عرفان القلب ما يثنى به على الرب ، لأن الله تعالى أبى أن يقول العبد ما لا يعلم فى وصفه ، وإن كان صادقا فى قوله ، قال الله سبحانه : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١) وأما حمده الّذي هو شكره فينبغى أن يكون على شهود المنعم لأن حقيقة الشكر الغيبة بشهود المنعم عن شهود النعمة.

وقيل : إن داود عليه‌السلام قال فى مناجاته : إلهى كيف أشكرك وشكرى لك نعمة منك عليّ ، فأوحى الله إليه : الآن قد شكرتنى.

وكم من عبد يتوهم أنه فى نعمة يجب عليه شكرها وهو فى الحقيقة فى محنة يجب عليه الصبر عنها ، فإن حقيقة النعمة ما يوصلك إلى المنعم ، لا ما يشغلك عنه ، فإذا النعم ما كان دينيا ، فإن كان مع النعم الدينية إرب معجل فهو الكمال ، فإن وجد التوفيق للشكر وإلا انقلبت النعمة محنة.

ويقال : إن الله تعالى أوحى إلى موسى ، عليه‌السلام : ارحم جميع الخلق ، المبتلى منهم والمعافى ، فقال : هذا المبتلى فما بال المعافى؟ قال : لقلة شكرهم ، وبالله التوفيق الموسع الأشياء بعد الضيق.

__________________

(١) البقرة : ١٦٩.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٥٨ ـ المحصى (١)

جل جلاله

ورد الخبر بهذا الاسم وقال تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢) ومعناه العالم بجميع المعلومات ، فقوله تعالى : (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أى أحاط بكل شيء علما ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة» قيل : من علمها ، ويحتمل أن يكون معنى المحصى فى وصفه بمعنى عده الأشياء ، وهو إخباره عن الأعداد ، والله تعالى يخبر عن تفصيل المعدودات ، والعدد لفظ اللافظ وخبر المخبر عن المعدود فيما بيننا ، وكذلك عدة الأشياء إخباره عن تفصيل أعدادها ، ومن آداب من علم أنه يحصى أنفاسه أن يحفظ معه أنفاسه ويراعى له حواسه لأنه إذا علم أنه منه قريب وعليه رقيب فحقيق بأن يهاب أماكن اطلاعه.

__________________

(١) المحصى : هو العالم ، ولكن إذا أضيف العلم إلى المعلومات من حيث يحصى المعلومات ويعدها ويحيط بها سمى إحصاء ، والمحصى المطلق هو الّذي ينكشف فى علمه حد كل معلوم وعدده ومبلغه ، والمحصى هو الّذي بالظاهر راقب أنفاسك ، وبالباطن راعى حواسك ، وقيل : هو الحافظ لأعداد طاعتك ، والعالم بجميع حالاتك.

(٢) الجن : ٢٨.

فصل : من آداب من علم أنه تعالى المحصى :

ومن آداب من علم أنه المحصى أن يتكلف عد آلائه لديه ، وإن علم أنه لا يحصيها ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (١) ويرعى وقته بذكر إنعامه وشكر أقسامه ، فيستوجب المزيد من عوائد إحسانه حسبما وعد من فضله وإنعامه.

رئى بعضهم يعد تسبيحاته فقيل له : يا فلان ، أتعد عليه؟ فقال : لا ، ولكن أعد له.

ويجب أن يراعى أيامه ويعد آثامه ، فيشكر جميل ما يوليه ربه ويعتذر من قبيح ما تأتيه نفسه.

يحكى عن أبى حفص أنه قال : منذ ثلاثين سنة ما أمليت على مثلى ما أستحي منه، ومنذ ثلاثين سنة ما واليت أحدا للدنيا.

ويحكى عن أبى عثمان الحيرى أنه قال : منذ أربعين سنة ما أقامنى الله فى شيء فكرهته ، وقيل العاقل الفاضل من عدت سقطاته.

فصل : ما الّذي يجب أن تحصيه على نفسك :

ومنهم من يعدد آثامه ، ومنهم من يعد أيامه فيقول ويفكر : منذ كم يوم فقد قلبه؟ أو منذ كم يوم يؤمل منه شيئا؟ فلا يجد بعد إربه ، أو منذ كم يوم بلى بحجابه أو منى ببعاده؟ وأنشد بعضهم :

الإلف لا يصبر عن إلفه

أكثر مما تطرف العين

وقد صبرنا عنكم ساعة

ما هكذا بى يفعل البين

__________________

(١) إبراهيم : ٣٤.

فإن تذكرت الأيام الماضية والتأسف على ما سلف من الأوقات الصافية صفة الأكثرين من هذه الطائفة ، إذ قل كثير منهم إلا وله من هذه القصة حصة ، وهذا سيد هذه الطائفة أبو القاسم الجنيد يقول : لا أزال أحن إلى بدء إرادتى وحدة سعيى وركوبى للأهوال طمعا فى الوصال ، وها أنا فى أوقاتى أبكى على أيامى الماضية ، ثم أنشد يقول :

منازل كنت تهواها وتألفها

أيام كنت على الأيام منصورا

قال الله تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) واعجبا للقلوب التى منيت بالبعاد بعد الوصلة ، وأضلتها سحائب الغيبة بعد أنس القربة ، كيف لا تنقطع أسفا ولا تتبدد حسرة ولهفا ، إن هذا لعظيم من المحنة وشديد من الوقعة.

فصل : ما يحصيه تعالى على العبد :

وقد يحصى الحق سبحانه على العبد أوقات غيبته ، حتى إنه لو قصر فى الحضور أو جنح إلى الفترة عاتبه بدقائق الإشارة بما لو لم يسرع فى الأوبة لأدار على رأسه رحى المحنة وأقام عليه قيامة المعاتبة ، فإن الأحباب يسامحون فى كل شيء إلا الغيبة.

يحكى أن شيخا نظيفا حسن الشارة رئى معه حدث يضرب حر وجهه بنعله ، فقيل: ألا تستحى من ضربك هذا الشيخ؟ فقال الحدث : هذا الشيخ يدعى أنه يهوانى ، ومنذ ثلاث ما رآنى.

__________________

(١) إبراهيم : ٥.

فصل : من علم أنه تعالى رقيب عليه :

ومن علم أنه سبحانه رقيب عليه لم يخاطب أحدا إلا وقلبه مع الله تعالى ، فأوقاته كلها جد وأحواله كلها صدق ، انتفى المزح والهزل عن أحواله أجمع.

سمعت الدقاق يقول : يحكى عن ممشاد الدينورى أنه قال : جرت لى مع فقير حكاية فما مازحت بعدها فقيرا لأنى علمت أن أوقات الفقراء كلها جد وذلك أنه ورد عليّ فقير يوما فقال لى : يا أستاذ أريد العصيدة ، فقلت : إرادة وعصيدة! فمر الفقير وهو يقول : إرادة وعصيدة ، إرادة وعصيدة ، قال : فظننت أنه يمزح فتغافلت عنه ، ثم تذكرت أمره فقلت لبعض أصحابنا : أصلحوا له عصيدة ، قال : فطلب الرجل فلم يوجد ، فسألت عن حاله فقالوا : إنه هام على وجهه فلم يزل يقول : إرادة وعصيدة حتى مات.

ويحكى أنه كان بين أحمد بن أبى الحوارى وبين أبى سليمان الدارانى عقد أن لا يخالفه فى شيء يأمره به ، فسجر أحمد التنور يوما وقال لأبى سليمان سجرت التنور ، فلم يجبه ، فقالها مرتين أو ثلاثا ، وكان أبو سليمان ضاق صدره من شيء فقال : إيش أفعل؟ قال له : مر واقعد فيه ، واشتغل بشيء ثم تذكر أمره بعد ساعة فقال : أدركوا أحمد لأنه فى التنور ، لأن بينى وبينه عقدا أن لا يخالفنى ، قال : فنظروا فإذا أحمد فى التنور لم تتغير منه شعرة.

* * *

باب

فى معنى اسميه تعالى

٥٩ ، ٦٠ ـ المبدئ المعيد (١)

جل جلاله

هما اسمان ورد بهما نص القرآن ، والمبدئ المظهر وهو بمعنى الخالق المنشئ ، يقال : بدأ الله الخلق وأبداهم بمعنى واحد ، قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٢) فهذا من بداء وقال تعالى (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) (٣) وهذا من إبداء ، ويقال : ابتدأ الله الخلق بمعنى بداء ، وهو إظهار الشيء من العدم إلى الوجود ، فأما الإعادة فهو خلق الشيء بعد ما عدم ، والله تعالى قادر على إعادة الحوادث إذا عدمت جواهرها وأعراضها خلافا لمن قال : إن الإعادة للشىء بمعنى خلق مثله لا إعادة عينه ، وذلك أنه إذا كان مقدورا قبل أن خلقه ، فإذا عدم بعد وجوده أعاده إلى ما كان عليه ، فكما قدر على أن يخلقه ابتداء وجب أن يكون قادرا على أن يخلقه ثانيا ، والإعادة ابتداء ثان ، وكما لا فرق بين الخلق والمخلوق فكذلك لا فرق بين الإعادة والمعاد ، وقد يسمى رد

__________________

(١) المبدئ المعيد : هو الموجد ، لكن الإيجاد إذا لم يكن مسبوقا بمثله سمى إبداء ، وإذا كان مسبوقا بمثله سمى إعادة ، والله تعالى بدأ خلق الناس ، ثم هو الّذي يعيدهم ، أى يحشرهم ، والأشياء كلها منه بدت ، وإليه تعود ، وبه بدئت ، وبه تعود.

(٢) الروم : ٢٧.

(٣) البروج : ١٣.

الشيء إلى مثل تركيبه الأول وتأليفه الأول إعادة ، ومنه قولهم : أعاد فلان بناء داره ، وكذلك يقال : أعاد فلان حديثه إذا تكلم بمثل كلامه الأول ، ويجوز أن تكون الإعادة أيضا جمع الأجزاء المتفرقة من الهالكين ، فإذا بعث الخلق وحشرهم فقد أعادهم ، والله تعالى يبدأ الخلق أى يخلقهم فى الدنيا ، ثم يعيدهم أى يحشرهم فى القيامة.

وما يتعلق بباب الوعظ والتذكير فى معنى هذا الاسم إعادة الله سبحانه للعبد عوائده وألطافه وإحسانه ، وقد أجرى الله سبحانه سنته بأن ينعم على عباده عودا على بدء ، وأن الكريم من بدأ بصنائعه يعود على بدء ، وفى معناه أنشدوا :

بدأت بإحسان وثنيت بالرضا

وثلثت بالنعماء وربعت بالفضل

وفى بعض الحكايات أن بعضهم دخل على بعض الكرام فقال له : عهدك بنا قرب ، فلم أسرعت العود؟ فقال : لقول الشاعر فيك :

فأعطى ثم أعطى ثم عدنا

فأعطى ثم عدت له فعادا

مرارا ما أعود إليه إلا

تبسم ضاحكا وثنى الوسادا

قال : فأضعف له العطية وأكرمه.

وإذا كان مثل هذا يوجد فى صفه المخلوق ففى كرم الحق سبحانه وتعالى أولى أن يؤمل أضعاف هذا ، كيف والمخلوق إنما يحبك إذا أعفيته عن السؤال ، والله تعالى إذا ازددت منه سؤالا ازداد لك حبا ونوالا ، وأنشد بعضهم :

الله يغضب إن تركت سؤاله

وبنى آدم حين يسأل يغضب

ومن حميد سنته وجميل فضله وعادته أنه إذا تغير لعبد وقت أو تلون له حال أو خانه زمان أنس استبدل غيبته بوصال يجدد أيامه الدارسة ويعيد عليه أوقاته الذاهبة ، كما قيل :

لئن درست آثار ما كان بيننا

من الوصل ما شوقى إليك بدارس

وما أنا من يجمع الله بيننا

كأحسن ما كنا عليه بآيس

وأنشدوا :

أؤمل عطف الدهر بعد انصرافه

فيا أملى فى الدهر هل أنت كائن

فصل : هل للأوقات بدل :

وذهب جماعة من المشايخ إلى أن الأوقات ليس لها بدل ، وأن من فاته وقت فلا يكون له إليه وصول ، وأنشدوا :

فخل سبيل العين ويحك للبكا

فليس لأيام الشباب رجوع

سمعت الدقاق يقول : تمادى بكاء داود عليه‌السلام فأوحى الله إليه : إلى كم تبكى؟ إن كان هذا البكاء من خوف النار فقد أمنتك ، وإن كان لطلب الجنة فقد بشرتك ، وإن كان لذنب الخصم فقد أرضيته ، فزاد داود فى البكاء وقال : إنما أبكى لما فاتنى من صفاء ذلك الوقت ، فرد عليّ ذلك الوقت ، فأوحى الله إليه : هيهات يا داود ، لا سبيل إلى ذلك ، فإن شئت فابك ، وإن شئت فاسكت ، فقال داود : الآن طاب البكاء.

فصل : أوقات تأسف العارفين :

واعلم أنهم وإن لم يصلوا إلى تلك الأوقات فأوقات تأسفهم وتلهفهم أتم من تلك الأوقات ، لأن ذلك حق الحق منهم.

يحكى عن بعض المشايخ أنه رأى شابا بعد الموسم دخل مكة منقطعا منكسرا محزونا ، كما يكون المنقطعون ، فقال له ذلك الشيخ : أنا حججت كذا وكذا فهبنى تلك الحسرة التى أنت فيها وأهب لك تلك الحجات كلها.

وفى قريب من هذا المعنى قال موسى : إلهى أين أجدك؟ فقال تعالى : عند المنكسرة قلوبهم من أجلى ، وبالله التوفيق.

* * *

باب

فى معنى اسميه تعالى

٦١ ، ٦٢ ـ المحيى المميت (١)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (٢) والإحياء فى وصفه تعالى خلق الحياة فى العبيد والحيوان ، والإماتة خلق الموت فيها ، وليس من شرط الحياة وجود البنية والبلة كما توهمه بعض المعتزلة ، بل كل جوهر يخلقه الله تعالى فلا بد أن تكون فيه حياة أو ضد للحياة ، من مواتية أو جمادية ، وإنما يختلف هذا بالأسماء وإلا فالذى يضاد الحياة جنس واحد ، والله تعالى خلق النطف أمواتا ، ثم خلق فيها الحياة ، ثم يخلق فيها الموت عند قبض الأرواح ، ثم يخلق فيهم الحياة فى القبور للسؤال ، ثم يميتهم ثم يحييهم فى القيامة ، ثم لا موت بعده ، إما خلود فى الجنة أو خلود فى النار.

وخالفت القدرية أهل السنة فى هذه الجملة فى مواضع منها قولهم : إن

__________________

(١) المحيى المميت : يرجع هذا إلى الإيجاد ، ولكن الموجود إذا كان هو الحياة يسمى فعله إحياء ، وإذا كان هو الموت سمى فعله إماتة ، ولا خالق للموت والحياة إلا الله تعالى ، فلا محيى ولا مميت إلا الله تعالى ، وقيل : المحيى من أحياك بذكره ، واستعبدك ببره ، ونصبك لشكره ، والمميت من أمات قلبك بالغفلة ، ونفسك باستيلاء الزلة ، وعقلك بالشهوة.

(٢) غافر : ٦٨.

الحياة تقتضى بنية وبلة ، ومنها : إنكارهم سؤال القبر وعذاب القبر ، وليس هذا موضع بسط الكلام فى هذه المسألة ، ولهذا أعرضنا عنه.

وليس معنى الإحياء والإماتة أيضا فى وصفه ما ظنه نمرود حيث حاجّ إبراهيم فى قوله: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) (١) فعمد إلى رجل محبوس فى سجنه فأطلقه فقال : هذا كان ميتا فأحييته ، وقتل رجلا برئ الساحة وقال : هذا كان حيا فأمته ، لأنه لم يخلق لأحد لا موتا ولا حياة ، والمحيى والمميت على الحقيقة من يخلق الموت والحياة ، وذلك صفة القديم سبحانه.

ثم إن هذه الطائفة أطلقوا لفظ الإحياء والإماتة لا على هذا الوصف ، ولكن على معنى السرور والفرح والمحن والترح بنوع توسع ، على ما سيجيء ذكر بعضه إن شاء الله تعالى.

من ذلك أنهم قالوا : أجرى فى عادة الناس أن فلانا أحيى فلانا إذ جبر حاله وأصلح أموره ، ويقولون : قد مات حال فلان إذا ساء أمره ، ويقولون : من أقبل عليه الحق أحياه ، ومن أعرض عنه أماته وأفناه ، ومن قرّبه أحياه ومن غيبه أفناه ، وأنشد بعضهم :

أموت إذا ذكرت ثم أحيا

فكم أحيا عليك وكم أموت

قال الله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢) قيل فى بعض التفاسير : إحياء بذكره سبحانه لهم بالجميل ، ومن المشهور فى ألفاظ الناس : لم يمت من كان له مثل فلان خلف ، قال الشاعر :

فإن يك عتاب مضى إلى سبيله

فما مات من يبقى له مثل خالد

__________________

(١) البقرة : ٢٥٨.

(٢) آل عمران : ١٦٩.

قالوا : من كان فناؤه فى الله فهو حي وإن هلك ، ومن كانت حياته لحظوظه فهو ميت وإن عاش ، وأنشدوا :

ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

وقيل : قد مات قوم وهم فى الناس أحياء.

فصل : الإيمان والإسلام عند القوم :

وعند القوم أن الإسلام ذبح النفوس بسيوف المجاهدة ، والإيمان حياة القلوب بنور الموافقة ، فيكون الموت فناء النفوس والحياة استيلاء القلوب ، ولهذا قالوا : لا يصح السماع إلا لمن كانت نفسه ميتا وقلبه حيا ، فالله تعالى يحيى نفوس العابدين ويحيى قلوب العارفين ، ويحيى قلوب أهل الوصال ، ويميت أحوال أهل الفراق ، قال الله تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) (١) جاء فى التفسير : كافرا فهديناه.

فصل : علامات من ماتت نفسه :

ومن أمارات من ماتت نفسه زوال آفاته عنه وسقوط شهواته منه وقيامه بحقوق ربه وما فيه رضاه وتباعده عما فيه حظوظ نفسه ومناه ، فيعيش مع الحق بالمروة ، ومع الخلق بالفتوة ، فبمروته لا يخالفه فى أوامره ، وبفتوته لا ينازع الخلق فى مآربه ومطالبه ، فيكون مع الله تعالى بنعت الصدق ، ويصحب الخلق بحسن الخلق ، وحكاياتهم فى الفتوة لا تحصى ، فمن ذلك ما يحكى عن المرتعش أنه قال : دخلت مع أبى حفص النيسابورى على مريض نعوده ، فقال أبو حفص للمريض : تحب أن تبرأ؟ فقال : نعم ، فقال للفقراء : احملوا عنه،

__________________

(١) الأنعام : ١٢٢.

قالوا : نعم ، قال : فخرجنا وخرج المريض معنا ، وأصبحنا كلنا أصحاب فراش نعاد.

وحكى أن النورى مرض فدخل عليه الجنيد يعوده وحمل إليه شيئا من الفواكه والمنثور، فبرئ النورى ومرض الجنيد ، فدخل عليه النورى يعوده فقال للفقراء الذين معه : تحمّلوا عنه، فخرجوا وحموا وبرئ الجنيد من علته ، فقال له النورى : هكذا أعود المرضى.

* * *

باب

فى معنى اسميه تعالى

٦٣ ، ٦٤ ـ الحى (١) القيوم (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٣) ، فأما الحى فهو الّذي له حياة ، والله تعالى حي ، والدليل على ثبوت الوصف له تعالى أنه عالم قدير مريد ، والحياة شرط فى العلم والقدرة ، وقول من قال : يقال له : محيى ولا يقال له : حي ، لأن غيره يكون حيا فاسد ، لأن الاشتراك فى الاسم لا يقتضي المشابهة فى الذات.

وحياته صفة من صفات ذاته زائدة على بقائه ، والحى فى اللغة فى غير وصفه يقع على معان ، منها : القبيلة ، يقال : حي من العرب ، وجمعه أحياء ،

__________________

(١) الحى : هو الفعال الدراك حتى إن ما لا فعل له أصلا وإدراك فهو ميت ، وأقل درجات الإدراك أن يشعر المدرك بنفسه ، فما لا يشعر بنفسه فهو الجماد والميت ، فالحى الكامل المطلق هو الّذي يندرج جميع المدركات تحت إدراكه ، وجميع الموجودات تحت فعله ، حتى لا يشذ عن علمه مدرك ، ولا عن فعله مفعول ، وكل ذلك لله تعالى ، فهو الحى المطلق ، وكل حي سواه فحياته بقدر إدراكه وفعله.

(٢) القيوم : صيغة مبالغة من القائم ، وهو القائم بنفسه مطلقا ، وهو الّذي يقوم به كل موجود ، حتى لا يتصور للأشياء وجود ولا دوام وجود إلا به تعالى ، فهو القيوم لأن قوامه بذاته ، وقوام كل شيء به.

(٣) البقرة : ٢٥٥.

والحى دعاء الإبل إلى المشرب ، ودعاؤها إلى العلف ، ويقال : حي على الصلاة ، أى : هلم ، والحى فرج المرأة ، ويقال للنبات إذا اخضر الحى ، والحى بالكسر جمع الحياة.

وأما القيوم فهو المبالغة من القائم بالأمور ، يقال : فلان قائم بهذا الأمر وقيم وقيام ، وقيوم فى وصفه تعالى ، قرأ عمر بن الخطاب رضى الله عنه الحى القيام ، ونظير قيوم وقيام قولهم : ما فى الدار ديور ولا ديار.

ومعنى القيوم فى وصفه تعالى أنه المدبر والمتولى لجميع الأمور التى تجرى فى العالم ، قال الله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (١).

وإذا علم العبد أنه سبحانه حي ، وعلم أنه تعالى حي لا يموت وقديم لا يجوز عليه العدم صح توكله عليه ، ولهذا قال تعالى : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (٢) أى إن من اعتمد على مخلوق واتكل عليه ليوم حاجته اختل حاله وقت حاجته إليه ، فيضيع رجاؤه وأمله لديه.

وقيل : إن رجلا كتب إلى آخر : إن صديقى فلانا قد مات ، فمن كثرة ما بكيت عليه ذهب بصرى ، فكتب إليه : الذنب لك حيث أحببت الحى الّذي يموت ، هلا أحببت الحى الّذي لا يموت حتى لم تحتج إلى البكاء عليه؟.

فمن علم أنه سبحانه حي أبدا علم أن نفسه لا بد من فنائها وهلاكها ، وإن طالت مدة بقائها وملكها.

حكى أن المأمون لما قربت وفاته فرش الرماد وكان يتمرغ عليه ويقول : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه.

__________________

(١) الرعد : ٣٣.

(٢) الفرقان : ٥٨.

بل من علم أنه الباقى لا يزال علم أن فيه خلفا من كل تلف ، بل من علم أنه لا يصل إلى مولاه إلا بعد موته اشتاق إلى وفاته.

قيل لبعضهم : إن الدنيا لا تساوى مع الموت شيئا ، فقال : بل الدنيا لو لم يكن الموت ما كانت تساوى شيئا.

وقيل : الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب ، وأنشدوا :

أنت تبقى والفناء لنا

فإذا أفنيتنا فكن

حكى عن على بن أبى الفتح أنه رأى الناس يتقربون بقرابينهم فى يوم عيد : فقال : إلهى الناس يتقربون إليك بقرابينهم وأنا أتقرب إليك بأحزانى ، وغشى عليه ، فلما أفاق قال: إلهى كم ترددنى فى هذه الدنيا؟ قال : فمات من ساعته.

وقيل : من أمارات الاشتياق إلى الله تعالى تمنى الموت على بساط العافية.

وأما من عرف أنه القيوم بالأمور استراح عن كد التدبير وتعب الأشغال وعاش براحة التفويض فلم يضن بكريمة ولم يجعل فى قلبه للدنيا كبير قيمة.

يحكى عن الطرماح أنه قال : كنت عند الحسين بن على بن أبى طالب رضوان الله عليهما إذ جاءه سائل فسأله شيئا فأعطاه نعليه ، فقلت : يا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الله أولى بعباده ، فقال : اسكت يا طرماح ، فأنا أستحي من الله أن أسأله فيعطينى ثم لا أعطى من يسألنى.

حكى عن بعضهم أنه قال : من اهتم للخبز فليس له عند الله قدر ، وإنما قال ذلك لأنه إذا علم أنه القائم بتدبير الأمور لا ينبغى له أن يهتم للخبز ولا لغيره ، ولهذا قيل : من صح توكله فى نفسه صح توكله فى غيره.

وقال الأكابر : إن جميع كرائم الدنيا والعقبى عند الله أقل من تبنة عند

سلطان ، ومن سأل من سلطان الوقت أن يهب منه تبنة واحدة فقد صغرت همته.

وفى هذا المعنى ما يحكى عن عمر البسطامى ، تلميذ أبى يزيد ، أنه قال : كنت عند أبى يزيد فقال لى : إن وليا من أولياء الله يأتى فمر معنا حتى نستقبله ، فخرج ، فلما وافى بسطام إذا بإبراهيم بن أنيسة الهروى ، فسلم عليه أبو يزيد فقال له : علمت أنك تحبنى فاستوهبتك فوهبك لى ، فقال له إبراهيم : ولو شفعك فى جميع الخلق ما كان بكبير ، فأية شفاعة فى قطعة طين! قال : فتعجب أبو يزيد من قوله.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٦٥ ، الواجد (١)

جل جلاله

ومن أسمائه تعالى الواجد ، وهو بمعنى الغنى فى وصفه ، يقال : فلان يعطى من جدة أى عن سعة وغنى ، وقيل : إنه بمعنى العالم ، قال الله تعالى (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) (٢) أى علمه ، يقال : وجد فلان وجودا ووجدانا إذا أصاب ، ووجد وجدا إذا حزن ، ووجد فلان على فلان موجدة إذا غضب ، ووجد فلان وجدا وجدة إذا استغنى ، والاسم الواجد من الجميع.

فإذا عرف أن الله غنى فمن أمارته أن يستغنى به ، وإذا علم أن الله تعالى عالم فمن أمارته أن يلتجئ إليه ، وقد استعمل على طريقة هذه الطائفة لفظ

__________________

(١) الواجد : هو الّذي لا يعوزه شيء ، وهو فى مقابلة الفاقد ، ولعل من فاته ما لا حاجة به إلى وجوده لا يسمى فاقدا ، والّذي يحضره ما لا تعلق له بذاته ولا بكمال ذاته لا يسمى واجدا ، بل الواجد ما لا يعوزه شيء مما لا بد له منه ، وكل ما لا بد منه فى صفات الإلهية وكمالها فهو موجود لله تعالى ، فهو بهذا الاعتبار واجد ، وهو الواجد المطلق ، ومن عداه إن كان واجدا لشيء من صفات الكمال وأسبابه فهو فاقد لأشياء ، فلا يكون واجدا إلا بالإضافة

ويلاحظ أن المؤلف رحمه‌الله تعالى لم يذكر اسمه تعالى : الماجد وهو : بمعنى الكثير الخير ، صاحب الكمال والعز الكامل ، وهو تأكيد لمعنى الواجد.

(٢) النور : ٣٩.

الوجد والوجود والتواجد ، ومعناهم يعود إلى الإصابة والحزن ، على ما يجيء فى بعض شرحه ، وذلك أنهم قالوا : الوجد المصادفة ، ومعنى ذلك ما يجدونه ويصيبونه فى قلوبهم من الأحوال من غير تكلف ولا تطلب.

ونحن نذكر طرفا من أقاويلهم وحكاياتهم :

قال الثورى : الوجد لهيب ينشأ فى الأسرار ينتج عن الشوق فتضطرب الجوارح طربا أو حزنا عند ذلك الوارد.

وقيل : تواجد النورى شهرا فقام على رجله فى مسجد الشيرازية ، فكان إذا حضرت الصلاة صلى ثم عاد إلى القيام ، فقال بعض القوم : إنه صاح ، فبلغ ذلك الجنيد فقال : لا ، ولكن أرباب التواجد محفوظون بين يدى الله تعالى ، لا يجرى عليهم لسان ذم.

وسئل أبو على الروذبارى عن الوجد فى السماع ، فقال : مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب.

وقال المرتعش : من تواجد ولم ير فى تواجده زيادة فى دينه فينبغى أن يستحى ويتوب.

وكان الشبلى يقول : اللهم لا تبلنى بفقد ولا بوجد ، وأحينى حياة حتى لا توصف ولا تحد ، وكان يقول : الوجد فقد والفقد فى الوجد وجد.

وقد قيل : الوجد وجود نسيم الحبيب لقوله تعالى : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) (١) ، وقال الجنيد : الوجد انقطاع الأوصاف عند الشهود ، وقال أبو عطا : متى ما ذكرت فالوجد منك بعيد ، وقال النورى :

إن كذبتك ليس لى

وجد يوافق ما لقيت

لو كان لى وجد على

مقدار ما ألقى فنيت

__________________

(١) يوسف : ٩٤.

وقال آخر :

نطقت ضمائره بكامن سره

عن وجده بالوهم من خطراته

وشكا الضمير إلى الهوى ألم الهوى

وشكا الّذي يلقاه من زفراته

وقيل : الوجد نيران الأنس يثيرها رياح القدس ، وقيل : الوجد : ما لا أركان للعلم عليه ، وقال أبو سعيد الخراز : كل وجد يظهر على الجوارح الظاهرة وفى النفس أدنى حمولة له فهو مذموم ، وقال النصرآباذي : مواجيد القلوب تظهر بركاتها على الأبدان ، ومواجيد الأرواح تظهر بركاتها على الأسرار ، وقال الجنيد : لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم ، وإنما يضر فضل الوجد مع نقصان العلم ، وأنشدوا :

وسكر الوجد فى معناه صحو

وصحو الوجد فى سكر الوصال

وقيل : لما أخرج ابن منصور للصلب قال : حسب الواجد إفراد الواحد ، فما سمع ذلك من المشايخ أحد إلا استحسنه.

وسئل أبو يعقوب النهرجورى عن علامة صحة الوجد فقال : معرفة قلوب الأشكال ، وعلامة فساده إنكار قلوب الأشكال.

وقال الجنيد : ذكر الوجد عند السرى فقال : يبلغ بحيث يضرب وجهه بالسيف ولا يحسه ، قال الجنيد : فكان فى نفسى من ذلك شيء حتى صح عندى.

وكان سهل يتوالى عليه الوجد فلا يأكل فى خمسة وعشرين يوما ، ويكون عليه قميص واحد وهو يعرق فى الشتاء ، وإذا سألوه مسألة قال : لا تسألونى فى هذا الوقت فإنكم لا تنتفعون بكلامى.

وقيل لا يقع على الوجد عبارة لأنه سر بين الله وبين عبده ، وقيل : تقع العبارة على الوجود.

هذا طرف من صفات من تحقق بالوجد ، لا جعل الله نصيبنا منه الذكر دون الوجود.

باب

فى معنى اسميه تعال

٦٦ ، ٦٧ ـ الواحد (١) الأحد (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه ، قال الله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) (٣) ، وقال تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فأما الواحد فهو الّذي لا قسم له ولا استثناء منه ، هذا حقيقته عند أهل التحقيق ، فإذا قيل للجملة الحاملة : إنها واحد فعلى المجاز كما يقال : دار واحدة ودرهم واحد ، لأنه يصح أن يستثنى منه البعض ، واسم واحد له مجاز ، وكان الشيخ أبو بكر بن فورك يقول : الواحد فى وصفه سبحانه له ثلاثة معان ، ولفظ الواحد فى كلها حقيقة :

أحدها : أنه لا قسم لذاته وأنه غير متبعض ولا متجزئ.

والثانى : أنه لا شبيه ، والعرب تقول : فلان واحد فى عصره ، أى لا شبيه له ، قال الشاعر :

يا واحد العرب الّذي

ما فى الأنام له نظير

__________________

(١) الواحد : هو الّذي لا يعد ، وهو الّذي تناهى فى سؤدده ، فلا شبيه يساميه ولا شريك يساويه ، وهو الّذي يكفيك من الكل ، والكل لا يكفيك من الواحد.

(٢) الأحد : هو المنفرد بإيجاد المعدومات ، المتوحد بإظهار الخفيات ، وقيل : الأحد الّذي ليس لوجوده أمد ، ولا يجرى عليه حكم أحد ، ولا يعييه خيل ولا مدد.

(٣) البقرة : ١٦٣.

لو كان مثلك آخر

ما كان فى الدنيا فقير

والثالث : أنه واحد على معنى أنه لا شريك له فى أفعاله ، يقال : فلان متوحد بهذا الأمر أى ليس يشركه فيه أحد ولا يعاونه أحد.

والأولون قالوا : هذه المعانى الثلاثة مستحقة لله تعالى ، ولفظ التوحيد فيه حقيقة فى نفى القسمة وفى الباقى مجاز.

وأما الأحد فأصله فى اللغة وحد ، يقال : وحد يوحد فهو وحد ، كما يقال : حسن يحسن فهو حسن ، ويقال : رجل وحد ووحيد ووحد ، بسكون الحاء ، كما يقال : فرد فهو فرد وفريد ، ويقال : هو وحيد فريد أحيد بمعنى ، والأصل فى أحد وحد ثم أبدلت الواو همزة فقالوا : أحد والواو المضمومة تنقلب همزة كقولهم أفيت ووفيت ، الواو المكسورة تنقلب همزة كقولهم : أشاح ووشاح وإكاف ووكاف ، والواو المفتوحة تنقلب أيضا همزة كقولهم امرأة اسما يعنون وسما من الوسامة وهو الحسن.

فصل : الفرق بين الواحد والأحد وتعريف التوحيد :

وأما الفصل بين الواحد والأحد فمن الناس من لم يفرق بينهما ، ومنهم من فرق فقال : الواحد اسم لمفتتح العدد ، لأنه يقال : واحد واثنان ، والأحد اسم ينفى ما يذكر معه من العدد ، ويقال : الأحد يذكر مع الجحود ، ويقال : لم يأت أحد معناه أنه لم يأته الواحد ولا الاثنان ولا ما فوقه ، وتقول : قد جاءنى واحد ولا يقال : قد جاءنى أحد ، وقيل : الأحد إنما يذكر فى وصفه تعالى على جهة التخصيص ، يقال : هو الله الأحد ، ولا يقال : رجل أحد ، ويقال فى وصف غيره : وحيد وواحد ، ولا يقال ذلك فى وصفه تعالى لعدم التوقيف، وأما قوله

تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقال الفراء : هو عماد ، ومعناه الله أحد ، وهذا ضعيف لأن العماد لا يكون إلا بعد إن وأخواتها ، وأما التوحيد فهو الحكم بأن الواحد واحد ولا يكون ذلك الحكم إلا بالقول وبالعلم ، وقد يكون بالإشارة إذا عقد على إصبع واحد.

والتوحيد ثلاثة : توحيد الحق سبحانه لنفسه ، وهو علمه بأنه وإخباره عنه بأنه واحد واحد ، وتوحيد العبد للحق بهذا المعنى ، وتوحيد الحق للعبد هو إعطاؤه له التوحيد وتوفيقه ذلك.

وقال الشبلى : التوحيد للحق توحيد وللخلق تطفيل ، وقال الجنيد : التوحيد إفراد القدم عن الحدث ، وقال ذو النون المصرى : التوحيد أن تعرف أن قدرة الله تعالى فى الأشياء بلا علاج ، وصنعه للأشياء بلا مزاح ، وعلة كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، وقيل : التوحيد : إسقاط الياءات ، أى لا تقول لا متى ولا إلى ، وقيل : التوحيد فناء الرسم لظهور الاسم ، وقيل انمحاء الرسوم لظهور الحقائق ، وقيل : دثور الخلق لظهور الحق ، وقيل : التوحيد أن تعلم أن كل ما يخطر ببالك مما ترتقى إليه كيفية أو تنتهى إليه كمية أو تنتمى إليه ماهية أو تليق بوصفه أينية فالله جل جلاله بخلافه ، وقال بعضهم : تدرى لم لا يصح لك توحيدك؟ لأنك توحده بك وتطلبه لك ، بمعنى الواجب أن تعرف أن طلبك له به ووجودك إياه منه ، فهو المبتدئ بالفضل بل هو المجرى والمبدئ للصنع ، تبارك الله رب العالمين.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٦٨ ـ الصمد (١)

جل جلاله

الصمد اسم من أسمائه تعالى ، ومعناه الباقى الّذي لا يزول ، وقيل : الدائم وقيل : هو الّذي لا يطعم ، وقيل : هو الّذي لا جوف له.

وأما أهل اللغة فإنهم قالوا : الصمد الّذي يصمد إليه فى الحوائج ، يقال : صمدت صمده ، أى قصدت قصده ، وهذا هو الصحيح ، وقيل : هو السيد الّذي ينتهى إليه السؤدد ، وهو يؤول إلى ما ذكرناه أنه الّذي يصمد إليه فى الحوائج لأن القصود والرغائب تتوجه إلى ذوى السؤدد والأكابر ، قال الشاعر :

لقد بكر الناعى بخبر بنى أسعد

بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد

فإذا قيل : إنه بمعنى الباقى الدائم الّذي لا يزول فمن حق من عرفه بهذا الوصف أن يعرف نفسه بالفناء والزوال ووشك الارتحال ، ويلاحظ السكون بعين الفناء فيزهد فى حطامها ولا يرغب فى حلالها فضلا عن حرامها ، ولهذا

__________________

(١) الصمد : هو الّذي يصمد إليه فى الحوائج ، ويقصد إليه فى الرغائب ، إذ ينتهى إليه منتهى السؤدد ، ومن جعله الله تعالى مقصد عباده فى مهمات دينهم ودنياهم وأجرى على لسانه ويده حوائج خلقه فقد أنعم عليه بحظ من معنى هذا الوصف ، ولكن الصمد المطلق هو الّذي يصمد إليه فى جميع الحوائج هو الله تعالى.

قال أهل الحكمة : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لوجب على العاقل أن يزهد فى الذهب الفانى ويرغب فى الخزف الباقى ، فكيف والدنيا مذرة (١) ومآلها إلى الفناء.

قال الشبلى : الدنيا مذرة ، ولك منها عبرة.

وحكى عن رجل أنه اشترى دارا فحفر موضعا فوجد جرة فيها دنانير فمضى إلى البائع وقال : إنى اشتريت الدار ولم أشتر الدنانير فخذ مالك ، فقال البائع : أنا بعت الدار بما فيها لا آخذها ، فتحاكما إلى القاضى فقال الحاكم : ألكما أولاد فقال أحدهما : لى ابن ، وقال الآخر : لى بنت ، فقال : زوّجا أحدهما من الآخر وأنفقا الدنانير عليهما.

فهذا من صفات من لم يجعل للدنيا عنده خطرا.

وحكى أن رجلين تنازعا فى أرض فأنطق الله تعالى لبنة من جدار تلك الأرض حتى قال : إنى كنت ملكا من الملوك ، ملكت الدنيا ألف سنة ثم مت وصرت رميما ألف سنة فأخذنى خزاف واتخذ منى خزفا ، ثم أخذنى رجل وضرب منى لبنا ، وأنا فى هذا الجدار منذ كذا سنة ، فلم تتنازعا فى هذه الأرض.

وأما من علم أنه الصمد بمعنى أنه لا يطعم علم أنه يطعم ، قال الله تعالى : (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) (٢) فتتوجه رعايته عند مآربه إليه ويصدق توكله فى جميع حالاته عليه فلا يتهمه فى رزقه ، كما أنه لا يستعين بأحد من خلقه عليه ، فإن الّذي يحتاج إلى ملبوس ومأكول لا تصدق الرغبة إليه فى مأمول ولا يرجى منه النجح لمسئول ، وإذا عرف أنه الّذي يصمد إليه فى الحوائج شكا إليه فاقته ورفع إليه حاجته وتملق بجميع تضرعه وتقرّب بصنوف توسله.

__________________

(١) أى فاسدة.

(٢) الأنعام : ١٤.

يحكى عن بعضهم أنه زار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إلهى إن غفرت لى سررت وليك هذا ، وإن رددتنى أشمت عدوك الشيطان ، وأنا لا أتوقع منك أن تؤثر شماتة عدوك على سرور وليك ، فإن الكريم من يرفع قدر من يقصده ويحقق ظن من يعتمده ، وإذا كان قصد المسلم لزيارته وقضاء حقه حسنا محمودا فقصد الحق أولى أن يكون محمودا.

روى فى بعض الأخبار أن رجلا خرج يوم عاشوراء إلى زيارة أخ له فأتاه ملك وقال له: من أين يا عبيد الله؟ فقال : من بيتى ، فقال : وإلى أين؟ فقال : إلى زيارة أخ لى ، فقال : أرحما تصل؟ فقال : لا ، فقال : أدينا تقضى؟ قال : لا ، قال : فإنى ملك خلقنى الله يوم استوى على عرشه فلم أزل راكعا وساجدا منذ خلقنى ، أرسلنى الله إليك أبشرك بأنه غفر لك ولأخيك بحق زيارتك له.

* * *

باب

فى معنى اسميه

٦٩ ، ٧٠ ـ القادر (١) المقتدر (٢)

جل جلاله

القادر اسم من أسمائه تعالى ، والقدرة صفة من صفاته تعالى ، والمقتدر من أسمائه سبحانه ، قال الله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (٣) وحقيقة القادر من له قدرة ، وحقيقة القدرة ما يقتدر بها المراد على حسب قصد الفاعل فى الوقوع ، ثم جهة الوقوع تختلف إلى خلق وكسب ، فقدرة الحق سبحانه تصلح للخلق ، وقدرة الخلق تصلح للكسب ، والخلق لا يوصف أحد منهم بالقدرة على الإيجاد ، والحق سبحانه لا يوصف بالقدرة على الكسب ، ولله قدرة واحدة يقدر بها على جميع المقدورات ، لا يخرج مقدوره عن قدرته ، ولا نهاية لمقدوراته ، والمعدوم يكون مقدورا ، والمخلوق فى حال الحدوث يكون مقدورا ، والاقتدار افتعال من القدرة ، والدليل على وجوب كونه

__________________

(١) القادر : هو ذو القدرة لا يعجزه شيء ، صاحب النفوذ والسلطان والتصرف التام ، فمشيئته تنفذ بلا واسطة ، ولا يستطيع أحد معارضته فى أمر أو ينازعه فى سلطان.

(٢) المقتدر : أكثر مبالغة من القادر ، فهو المستولى على كل شيء ، ذو القدرة العظيمة ، الّذي لا يستعين بأحد ، وقدرته ليس لها بداية ولا نهاية ، فهو المتمكن من ملكه بسلطانه ، المسيطر على خلقه بقدرته.

(٣) القمر : ٥٥.

قادرا استحالة الوصف له بأن يكون عاجزا ، ووجود أفعاله أيضا تدل على قدرته.

ومن عرف أنه قادر على الكمال خشى سطوات عقوبته عند ارتكاب مخالفته ، وأمّل لطائف رحمته ، وزوائد رحمته سؤاله ، وحاجته لا بوسيلة طاعته بل بابتداء كرمه ومنته ، وكذلك من عرف أن مولاه قدير سكن عن الانتقام ثقة بأن صنع الحق له وانتصاره له أتم من انتقامه لنفسه.

يحكى أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه‌السلام وقال : تدرى لم فرقت بينك وبين يوسف كذا وكذا سنة؟ لأنك اشتريت جارية لها ولد ففرقت بينهما فى البيع ، فلما لم يصل ولدها إليها لم أوصل إليك يوسف.

بين بهذا أن تلك المملوكة وإن لم يكن لها يد نظر لها الحق سبحانه وإن كان الحكم على نبى من الأنبياء ، صلوات الله عليهم أجمعين ، ولهذا قيل : احذروا من لا ناصر له إلا الله تعالى (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) (١).

فصل : من عرف أنه تعالى كريم :

ومن عرف أنه كريم علم أنه يقدر ولكنه يعفو ويحلم ، ويبصر ولكنه يصبر.

روى أن حملة العرش ثمانية : أربعة تسبيحهم : سبحان الله عدد حلمه بعد علمه ، وأربعة تسبيحهم : سبحان الله عدد عفوه بعد قدرته.

فصل : من جميل صنع الله وكريم نظره تعالى :

وأنه بجميل صنعه وكريم نظره يؤوى عبده إلى كهف رحمته فيعصمه عما يشتهى برحمته ويعينه على ما يحتاج إليه بقدرته ، فمرة ينبهه لما فيه نجاته ، ومرة يوفقه لما فيه درجاته ، ومرة يؤهله لما يتحقق به قربه ومناجاته.

__________________

(١) البروج : ١٢.

يحكى عن أحمد بن أبى الحوارى أنه قال : سمعت الدارانى يقول : نمت ليلة فجاءتنى واحدة من الحور العين فركضتنى برجلها وقالت لى : أتنام وأنا لك ، فقلت : لا نامت عينى بعد هذا ، فضحكت وخرجت وبها نور أضاء محرابى ومصلاى من ضياء وجهها ، فقلت : من أين لك هذا الحسن؟ فقالت : أتذكر الليلة الفلانية ـ وكانت ليلة باردة ـ قمت وتوضأت وصليت ثم دعوت وبكيت فأخذت من دموعك دمعة وحملت إلى فمسح بها وجهى فضياء وجهى من تلك الدمعة.

وأنه سبحانه إذا أراد بعبد خيرا دله على طريق نجاته فرجع إلى الله مبتهلا فى سؤال حاجاته ، فيوصل إليه مراده بقدرته ويجبر حاله بنصرته.

حكى أن ابن أخ لصفوان بن محرز حبس فلم يبق بالبصرة أحد له جاه إلا كلم الأمير فى حاله فلم ينفع ، فرأى فى المنام كأن قائلا يقول له : ائت الأمر من بابه ، فقام الليل وصلى ركعتين فقرع عليه الباب فإذا بحاجب الأمير ومعه ابن أخيه فقال : إن الأمير دعانى الساعة وقال : احمله إليه.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٧١ ، ٧٢ ـ المقدم (١) المؤخر (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ورد بهما الخبر ، ومعناهما تقديمه بعض الأفعال على بعض، وتأخير بعض الأفعال عن بعض ، إما فى الوقت وإما فى الرتبة ، لأنه قدم بعض أفعاله على بعض ، وأخر بعضها عن بعض ، وذلك من دلالات إرادته ، لأن الطريق الّذي به يعرف أنه مريد قاصد جل جلاله ترتيب أفعاله فى الوجود وتخصيصها ببعض الأحكام الجائزة دون بعض ، فعلم أنه لو لا قصد قاصد قدم المتقدم وأخر المتأخر وإلا لم يكن تخصيصها ببعض الأحكام أولى من تخصيصها بغيرها ، وكذلك أفعاله متقدمة بعضها على بعض ، فى المعنى والرتبة ، فدل على رفعه لبعض وخفضه لبعض ، وإعزازه لقوم وإذلاله لقوم ، فطائفة قدمهم لطاعته وعبادته ، وطائفة أخرهم لماضى إرادته ونافذ مشيئته ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ) (٣) وأن

__________________

(١) المقدم : هو الّذي يقدم الأشياء فيضع كل شيء فى موضعه الصحيح ، فيقدم العالم على الجاهل ، ويقدم الطائع على العاصى ، والتقى على الفاجر.

(٢) المؤخر : هو الّذي يؤخر الأشياء إلى أزمانها وأماكنها ، فهو المؤخر عقاب المذنبين ليتوبوا ، ويؤخر عذاب المشركين والكفار إلى أجل مسمى ، وهو الّذي يؤخر الأخذ للظالم حتى إذا أخذه يكون أخذ عزيز مقتدر.

(٣) الحجر : ٢٤.

أولياءه مختلفون ، فمنهم من يتقدم بجهده وعبادته ويتكلف أن لا يتخلف عن أشكاله فى مرافقته.

سمعت الدقاق يقول : رئى بعضهم مجتهدا فقيل له فى ذلك ، فقال : ومن أولى منى بالجهد وأنا أحتاج أن ألحق بالأبرار والكبار من السلف ، قال الله تعالى : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) (١) وفى معناه أنشدوا :

السباق السباق قولا وفعلا

حذر النفس حسرة للسبوق

سمعت الدقاق يقول فى يوم عيد ، وقد اجتمع الناس فى المصلى : لو قيل لى : إن واحدا من هؤلاء يرى الله تعالى قبلك غدا لزهقت نفسى ، وقوم لم يروا لأنفسهم استحقاق التقدم وكانت همتهم السلامة فحسب.

وقال بعضهم فى مناجاته : إلهى إنى أعلم أنى لا أستوجب تلك الدرجات ولكن سترا من النار.

وقال يحيى بن معاذ : العارف شريف الطلب ، قيل له : وما شرف طلبه؟ قال لا يجاوز بهمته طلب المغفرة ، قال الله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (٢) ثم قال تعالى : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) (٣).

يحكى عن ابن المبارك أنه خرج يوما على أصحابه ، فقال : تجاسرت البارحة على الله فسألته الجنة.

__________________

(١) المطففين : ٢٦.

(٢) آل عمران : ١٤٦.

(٣) آل عمران : ١٤٧.

وفى معناه أنشدوا :

وما رمت الدخول عليه حتى

حللت محلة العبد الذليل

وأغضيت الجفون على قذاها

وصنت النفس عن قال وقيل

وقال غيره :

نزلوا بمكة فى قبائل نوفل

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

وقال أبو سعيد الخراز : خيرت يبن القرب والبعد فآثرت البعد على القرب.

فصل : الله أعلم بما قدم وأخر :

وإن الله تعالى قدم قوما فى سابق حكمه ، فربما يجرى عليهم أوصاف المطرودين ، ويقيمهم فى صورة المبعدين ، وهم بحقائق رحمته بالحكم السابق مقربون.

يحكى عن جبر بن عمران اللؤلؤى ، وكان صالحا يخدم الفقراء ، وداره بيت الضيافة ، فتزل عليه قوم فمضى إلى القاضى يطلب لهم شيئا منه فلم يقدر ، فمضى إلى إنسان يهودى كان يميل إلى الفقراء وكان يدفع إليهم أحيانا شيئا ، فذكر حاجته إليه فبعث إلى داره ما احتاج إليه ، فلما نام القاضى رأى فى منامه أنه كان على باب قصر من لؤلؤة حمراء فهمّ أن يدخله فمنع منه ، فقيل له : إن هذا كان لك فدفع إلى فلان اليهودى ، فلما أصبح القاضى بكى وتضرع ومضى إلى جبر بن عمران فسأله عن القصة فأخبره بحديث اليهودى ، فاستحضر القاضى اليهودى وقال له : قصر لك فى الجنة تبعنيه بعشرة آلاف درهم ، فقال :

لا ، فزاده فأبى ، فسأله عن القصة ، فقص عليه الرؤيا ، فقال : لا أبيعه ، ولو طلبته منى بألوف ، ثم قال اليهودى لجبر بن عمران ، اعرض عليّ الشهادة فأسلم.

وكان اليهودى ممن قدّمه الله فى سابق حكمه وأخّر القاضى فى مساواة حاله.

حكى عن بعض الصالحين أنه قال كان عندنا ببغداد رجل يسمى صالحا ، أذّن خمسا وعشرين سنة ، فدخل يوما فى رمضان يوم الخامس والعشرين منه وقد أذّن للظهر إلى دار أخيه فرآهم يشربون الخمر فحلف أخوه بالطلاق أن يشرب واحدا فشرب لئلا تطلق امرأة أخيه ، ثم شرب ثانيا وثالثا حتى سكر ، فدعاه الإمام لإقامة الصلاة فحلف لا يصلى أبدا ومات فى سكره.

فهذا أخّره الله فى سابق حكمه فلم ينفعه طول جهده ، فإن من سبق عليه الحكم والقضاء لم ينفعه الجهد والعناء ، فنسأل الله تعالى حسن العاقبة.

* * *

باب

فى معنى اسمائه تعالى

٧٣ ، ٧٤ ـ الأول (١) والآخر (٢)

٧٥ ، ٧٦ ـ والظاهر (٣) والباطن (٤)

جل جلاله

قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) (٥) والأول فى اللغة أصله من آل يؤول إذا رجع ، وكان فى الأصل أأول على وزن أفعل ، وتأنيثه أولى على وزن فعلى كأكبر وكبرى ، وأصغر وصغرى ثم قلبت إحدى الهمزتين واوا فاجتمع واوان فأدغمت إحداهما فى الأخرى فقيل : أول ، والتأويل تفعيل

__________________

(١) الأول : هو الّذي لم يسبقه شيء ، وليس قبله شيء ، فهو القديم الأزلى الّذي لا ابتداء له ، فهو المستغنى عن غيره بنفسه ، لا يحتاج إلى أحد والكل محتاج إليه.

(٢) الآخر : هو الباقى الدائم بعد فناء الخلق ، فهو الّذي لا انتهاء له ولا انقضاء لوجوده (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧).

(٣) الظاهر : هو الّذي لا يخفى عليه شيء ، وهو الظاهر فوق كل شيء ليس فوقه شيء ، وقيل : هو الظاهر للعقول السليمة بآياته وبراهينه ودلائل توحيده ، فلم يحجب عن المؤمنين آيات وحدانيته.

(٤) الباطن : هو الّذي ليس دونه شيء ، وهو الباطن يعلم ما بطن وما خفى ، وقيل الباطن : أى الّذي حجب عن الكفار معرفته ، وعن المؤمنين رؤيته ، رحمة بهم حتى نتمتع برؤية وجهه الكريم يوم القيامة ، وقيل : الباطن الّذي احتجب عن الخلق من عظمته وعلو شأنه.

(٥) الحديد : ٣.

من آل ، وأما الآخر فهو على وزن فاعل وتأنيثه الآخرة ، وأصل آخر يأخر لكنهم أماتوا هذا التصريف ، ويقال : نظر فلان بمؤخر عينه ، ويقال : باعه بآخرة ، بكسر الخاء ، أى نظرة ، ويقال : جاء فلان بآخرة ، بفتح الخاء ، أى أخيرا ، وأما الآخر بفتح الخاء فتأنيثه الأخرى ، وفى وصف القديم سبحانه الأول بمعنى القديم الّذي لا ابتداء له ، وهو بمعنى السابق فى وصفه والأبدى والأزلى ، وأما الآخر فى وصفه فهو بمعنى أنه لا نهاية ولا انقضاء لوجوده ، وكونه أولا لا يقتضي أن لا يكون معه غيره ، وإنما علمنا أنه لم يكن معه غيره فى الأزل بدليل آخر لا بكونه أولا قديما ، وليس إذا كان آخرا يجب أن يكون معه غيره فيما لا يزال كما توهم بعضهم وقال : إنه يفنى الجنة والنار حتى لا يبقى غيره لأنه قال : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) فكما لم يكن معه فى الأزل غيره لأنه أول ، كذلك لا يكون معه فيما لا يزال غيره لأنه آخر ، وهذا الّذي قاله باطل لما ذكرناه.

وأما الظاهر فى وصفه تعالى فقيل : معناه القادر على خلقه ، يقال : ظهر فلان على فلان ، أى قدر عليه وقهره.

والباطن فى وصفه تعالى قيل بمعنى العليم بخلقه المدبر لأحوالهم ، وقيل معناه : الظاهر بآياته وبراهينه ودلالات توحيده ، والباطن المتعزز على قوم حتى جحدوه ولم يتحققوا بوجوده.

وقيل : الأول إخبار عن قدمه والآخر إخبار عن استحالة عدمه ، والظاهر إخبار عن قدرته ، والباطن إخبار عن علمه وحكمته ، وقال بعضهم : معناه أنه الأول بالأمور ، وهو مجريها ومتوليها ، كما يقول فلان : أول هذا الحديث وآخره وظاهر هذا الأمر وباطنه ، أى هو متوليه ومدبره ، وله ذلك وإليه يعود كله ، ويقال : إنه يشير إلى صفات أفعاله بهذه الأسماء ، وهو الأول بإحسانه والآخر بغفرانه ، والظاهر بنعمته والباطن برحمته ، وقيل : هو الأول

بحسن تعريفه ، إذ لولاه ولو لا فضله ولو لا ما بدأك به من إحسانه لما عرفته ، وفى معناه أنشدوا :

سقيا لمعهدك الّذي لو لم يكن

ما كان قلبى للصبابة معهدا

وهو الآخر بإكمال لطفه عما كان أولا بابتداء عرفه ، وهو الظاهر بما يفيض عليك من العطايا والنعماء ، والباطن بما يدفع عنك من فنون البلاء وصنوف الأذى ، وقيل الظاهر لقوم فلذلك وجدوه ، والباطن عن قوم فلذلك جحدوه ، وقيل : ظاهر للقلوب بحكم البرهان ، باطن عن العيون بحق العيان وقيل : الأول بالهداية والآخر بالرعاية والظاهر بالكفاية والباطن بالعناية ، وقيل : الأول بالتحقيق والآخر بالتوفيق ، والظاهر بالتأييد والباطن بالتسديد ، وقيل : الأول بالإسعاد والآخر بالإمداد ، والظاهر بالإيجاد والباطن بالإرشاد ، وقيل : الأول بأن عرفك والآخر بأن شرفك ، والظاهر بما أسعفك والباطن بما لاطفك.

ويحكى عن أبى يزيد أنه قال : إن لم أعرف ما أولى وما أخرى ، وما ظاهر حالى وباطن أمرى ، فأنا لا أعلم من الأول والآخر والظاهر والباطن.

وقيل : لما قال إبليس : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) (١) أى لآتينهم من بين أيديهم لأشككهم فى أمر آخرتهم ، ومن خلفهم لأزين لهم أحوال الدنيا ، وعن أيمانهم لأنسينهم أمر الآخرة ، وعن شمائلهم لأزين الباطل فى أعينهم ، قال الله تعالى : «أنا الأول أحفظ عليهم دينهم ، وأنا الآخر أختم لهم بالسعادة ، والظاهر أفيض عليهم النعم ، والباطن أسبغ عليهم المنن ، وأكفيهم أشغالهم وأصون بالسعادة مالهم وأصلح أعمالهم وأصدق آمالهم.

__________________

(١) الأعراف : ١٧.

وقيل : قال لإبليس : إنى سلطتك عليهم عن جهاتهم الأربع ، فما سلطتك عليهم من فوقهم ولا من تحتهم ، بل أمطر عليهم من فوقهم الرحمة ، وأخسف من تحتهم ما اجترحوه من معاصيهم ، ذلك جزاء من كان الله تعالى فى أزله قبل أن كان لنفسه بلاحق فعله.

فصل : فائدة زائدة فى معانى تلك الأسماء :

ويقال : الأول بوده لك بديا ، إذ لو لا أنه بدأك بسابق وده لما أخلصت له فى عقده وعهده ، فأين كنت حيث كان لك؟ ومتى كانت رحمة أبيك وشفقة أمك وذويك وقد قسم لك الإيمان ورضى لك الإسلام ووسمك بالصلاح ، فقال عز من قال : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١) جاء فى التفسير أنهم أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آثرك فى سابق القدم ، وحكم لك بصدق القدم ، رباك بفنون النعم ، وعصمك عن سجود الصنم ، واختارك على جميع الأمم ، وردّاك برداء الإيمان ، وتلقاك بجميل الإحسان ، ورقاك إلى درجة الرضوان ، وحرسك من الشرك والبدع ، وألقى فى قلبك حسن الرجاء والطمع ، وإن لم يلبسك رداء الوفاء والورع فلم يؤيسك من لطفه بنهاية الفزع ، وإن الّذي هداك فى الابتداء لهو الّذي يكفيك فى الانتهاء.

يقال : إن العبد يبتهل إلى الله تعالى فى الاعتذار والحق سبحانه وتعالى يقول له : «عبدى لو لم أقبل عذرك لما وفقتك للعذر» وإن من فكر فى صنوف الضلال ، وكثرة طرق المحال ، وشدة أغاليط الناس فى البدع والأهواء وما تشيع به كل قوم من مختلفى النحل والآراء ، ثم فكر فى ضعفه ونقصان عقله وكثرة تحيره فى الأمور ، وشدة جهله وتناقض تدبيره فى أحواله وشدة حاجته

__________________

(١) الأنبياء : ١٠٥.

إلى الاستعانة بأشكاله فى أعماله ، ثم رأى خالص يقينه وقوة استبصاره فى دينه ، ونقاوة توحيده عن غبرة الشرك وصفا عين عرفانه عن وهج الشك ، علم أن ذلك ليس من طاقته ولا بجهده وكده وسعة وجده ، بل بفضل ربه وسابق طوله.

قال الله تعالى : (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (١) فهو الظاهر بنعمائه ، وآثار نعمه عليك متظاهرة والباطن بآلائه وزوائد كرمه لديك متواترة.

فصل : من آداب من عرف تلك الأسماء :

ومن آداب من عرف أن له هذه الأسامى أن لا يؤخر فى ظاهره وباطنه وسره وعلنه وقلبه وبدنه ودقه وجله شيئا من أمره وحكمه ، كيف لا وهو منشئ أوائل أمره ومجرى أواخر حكمه ، والمتولى لأمور ظاهره والعالم بسرائره وباطنه (٢).

__________________

(١) لقمان : ٢٠.

(٢) لم يذكر المؤلف ، رحمة الله عليه ، اسمه تعالى : الوالى ، المتعالى ، ونقول :

الوالى : هذا الاسم لم يرد فى القرآن ، ومعناه هو المالك للأشياء ، المستولى عليها المتصرف فيها بمشيئته ، ينفذ فيها أمره ، ويجرى عليها حكمه.

المتعالى : هو العالى الكامل فى العلو والعظمة ، المنتهى فى الرفعة والكبرياء فى ذاته ، المنزه عن النقائص وصفات الحوادث.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧٧ ـ البر (١)

جل جلاله

البر اسم من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) (٢) يقال : رجل بر وبار ، وامرأة برة وبارة ، والبر هو المحسن ، وفلان بار بوالديه إذا كان محسنا إليهما ، والبر فى صفات الخلق من تتوالى منه أعمال البر ، ومن كان الله سبحانه بارا به عصم عن المخالفات نفسه ، وأدام بفنون اللطائف أنسه ، طيب فؤاده وحصل مراده ووفق فى طريقة اجتهاده ، وجعل التوفيق زاده ، وجعل قصده سداده ومبتغاه رشاده ، أغناه عن أشكاله بإفضاله وحماه عن مخالفته بيمن إقباله ، فهو غنى بلا مال وعزيز بلا أشكال ، ملك لا يستظهر بجيش وعدد ، وغنى بلا تمول مال وعدد ، تشهده فى زى مسكين وهو بربه متعزز مكين.

يحكى عن خلف المقدسى أنه قال : ورد عليّ بعض الفقراء فاعتل بعلة شديدة فتغافلت عنه أياما ثم ذكرت حاله فجئته معتذرا وقلت : قد غفلت عنك فاعذرنى ، فقال : ولينى من لا ينسانى ، فلما مات دخلت بيت الأكفان فرفعت

__________________

(١) البر : هو المحسن ، وهو الّذي منّ على المريدين بكشف طريقه ، وعلى العابدين بفضله وتوفيقه ، وقيل : هو الّذي من على السائلين بحسن عطائه ، وعلى العابدين بجميل جزائه ، وقيل : هو الّذي لا يقطع الإحسان بسبب العصيان.

(٢) الطور : ٢٨.

كفنا فوجدته طويلا فقطعت منه قطعة ودفنته فيه ، فرأيت فى منامى كأن قائلا يقول لى : بخلت بقطعة كفن على ولى من أوليائنا ، لا حاجة لنا فى كفنك ، فأصبحت ودخلت بيت الأكفان فوجدت الكفن ملفوفا فى زاوية من زواياه.

ومن آداب من عرف أنه البر أن يكون بارا بكل أحد لا سيما بأبويه ، فإن الخبر ورد عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «رضا الرب فى رضا الوالدين ، وسخط الرب فى سخط الوالدين».

يحكى أن موسى ، عليه‌السلام ، لما كلمه الله تعالى رأى رجلا قائما عند ساق العرش فتعجب من علو مكانه فقال : يا رب ، بم بلغ هذا العبد هذا المحل؟ فقال : إنه كان لا يحسد عبدا من عبادى على ما آتيته ، وكان بارا بوالديه.

ويقال : إن الحسن بن على رضى الله عنهما كان لا يأكل مع فاطمة رضى الله عنها فقالت له فى ذلك فقال : أخشى أن يقع بصرك على شيء فأسبقك بأخذه ولا أشعر ، فأكون عاقا لك ، فقالت : كل معى يا بنى ، وأنت منى فى حل.

ويحكى عن أبى يزيد البسطامى أنه قال : كنت فى ابتداء أمرى صبيا ولى دون عشر سنين ، فكان لا يأخذنى النوم بالليل ، وكنت أصلي ، فأقسمت عليّ والدتى ليلة أن أبيت معها فى الفراش وأنام ، فلم أرد مخالفتها ، فنمت معها ، وكانت يدى تحت جنبها فلم أخرجها مخافة أن تنتبه ، ولم يأخذنى النوم فقرأت عشرة آلاف مرة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وعوذتها بها ، قال : فلم تعلم بيدى هذه ولم أخرجها من تحتها مخافة أن تنتبه.

فصل : البر بالشيوخ والأساتذة :

واعلم أن بر الأصاغر من التلامذة للشيوخ والأساتذة يجب أن يكون أكثر من برهم بوالديهم ، فإن الأب يحمى ولده عن آفات الدنيا ، والشيخ يحمى تلميذه عن آفات الآخرة ، والأب يربى ولده بنعمته والشيخ يربى تلميذه بهمته.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى يقول : سمعت الأستاذ أبا سهل الصعلوكى يقول : من قال لأستاذ : لا ، لم يفلح أبدا.

يحكى عن أبى الحسن العلوى أنه قال : كنت تلميذا لجعفر بن نصير ، رحمه‌الله تعالى ، فكنت ليلة عنده ، وكنا علقنا طيرا فى التنور فى البيت ، وكان قلبى مع ذلك الطير ، فقال لى الشيخ جعفر : بت عندنا الليلة فاعتللت بعلة ، ورجعت إلى البيت ، قال : فأخرج الطير من التنور ووضع بين يدى ، وكان باب الدار مفتوحا فدخل كلب فأخذ الطير ومر ، وعثرت الخادم بالجرداب قصبته ، وأكلت الخبز بلا إدام ، فتغير قلبى واستوحشت ، فأصبحت ودخلت على جعفر ، فلما وقع بصره قال : من لم يحفظ قلوب المشايخ سلط الله عليه كلبا يؤذيه.

سمعت الشيخ أحمد بن يحيى ، وكان كبير الشأن يقول : من حفظ حق أستاذه وشيخه لا يكافأ فى حياة الشيخ ، لئلا يسقط تعظيم الشيخ من قلبه ، ومن لم يحفظ حرمة شيخه لا يعاقب فى حياة الشيخ ، لأن لهم بهم رحمة وشفقة ، فتداخلهم الشفقة عليهم ، بل ينتقم الله سبحانه منهم ويكافئهم بعد موت شيوخهم ، ونعوذ بالله من سوء الخاتمة.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧٨ ـ التواب (١)

جل جلاله

التواب اسم من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٢) والتوبة فى اللغة والتوب : هو الرجوع ، يقال : تاب يتوب توبا وتوبة إذا رجع ، وتاب وآب وأناب بمعنى واحد ، وكذلك ثاب ، بالثاء المعجمة ثلاثا ، يقال : ثاب اللبن فى الضرع إذا رجع إليه ، ومعنى الوصف بأن الله سبحانه تواب أنه يتوب على العبد ، أى يعود عليه بألطافه وييسر التوبة له.

قيل : توبة الله على العبد خلقه التوبة له وقبل قبوله لتوبته قال الله تعالى : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٣) فعلم أنه إذا لم يتب الله على العبد لا يتوب ، فإذا ابتداء التوبة وأصلها من الله عزوجل ، وكذلك تمامها على الله سبحانه ، ونظامها بالله ، نظامها فى الحال وتمامها فى المآل ، ولو لا أن الله تعالى يتوب على العبد وإلا متى كان للعبد توبة؟ وقوم من أهل الحكمة يقولون : إن العبد

__________________

(١) التواب : هو الّذي يرجع إلى تيسير أسباب التوبة لعباده مرة بعد أخرى بما ظهر لهم من آياته ، ويسوق إليهم من تنبيهاته ، ويطلعهم عليه من تخوفاته وتحذيراته ، حتى إذا اطلعوا بتعريفه على غوائل الذنوب استشعروا الخوف بتخويفه ، فرجعوا إلى التوبة فرجع إليهم فضل الله تعالى بالقبول.

(٢) النصر : ٣.

(٣) التوبة : ١١٨.

يزجره العلم عن المعاصى فيتوب لتكلفه ، فربما ينقض توبته ويعيد بطالته ، فأما إذا أراد الله سبحانه لعبد خيرا وحكم بصحة توبته كان ذلك آخر عهده بتلك الزلة ، فلا ينقض تلك التوبة ، وإن من كرم الله سبحانه أن يضيف التوبة على العبد إلى نفسه فالعبد يذنب وهو يتوب عليه وهذا حقيقة الكرم ، قال الله سبحانه (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (١) وقيل : إن الله تعالى أخبر عن سنن من مضى وما عملوا ، ثم أخبر عما عاملهم به مكافأة لهم على ما قدموا وأسلفوا ، قال الله تعالى (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢) يعنى به صنوف معاصيهم وفنون مخالفتهم ، ثم أخبر عما عاملهم به فقال : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) (٣) فانتظرت هذه الأمة وقالت : ما يعاجلنا به على قبيح ما أسلفنا ، فقال تعالى : (وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) أولئك أبلاهم وعذبهم ، وهؤلاء تاب عليهم ورحمهم ، سنة منه كريمة مضت بتخصيص هذه الأمة ، ولهذا أثبت فى اللوح المحفوظ : أمة مذنبة ورب غفور.

وفى خبر مسند أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا لأمته عشية عرفة واستغفر الله لهم فأوحى الله إليه إنى قد غفرت لهم ما بينى وبينهم ولم أغفر لهم ظلم بعضهم لبعض ، فزاد فى الاستغفار وقال : إنك قادر أن ترضى خصماءهم ، فلم يجبه تلك الليلة ، فلما

__________________

(١) النساء : ٢٧ ، ٢٨.

(٢) النساء : ٢٦.

(٣) العنكبوت : ٤٠.

كان غداة المزدلفة أوحى الله إليه بالإجابة فابتسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : عجبت من فعل إبليس لما أجاب الله تعالى دعائى ، صاح بالويل والثبور ووضع التراب على رأسه.

وفى بعض الحكايات أنه لما تاب الله على آدم ، عليه‌السلام ، قال فى مناجاته : «إلهى لم عاقبتنى وقد علمت أنى إنما أكلت من الشجرة طمعا فى الخلود ، لأبقى معك ، فأوحى الله تعالى إليه : لأنك رأيت الخلود من الشجرة ، فأشركت بى فى سرك ولم تشعر ، وإن من الكرم أن تتوب على من أذنب إليك كما تاب الله عليك والمشهور من قول القائل :

إذا مرضتم أتيناكم نعودكم

وتذنبون فنأتيكم ونعتذر

يحكى عن أبى عمرو بن علوان أنه قال : كنت فى حداثة سنى مولعا بشراء الجوارى ، فكنت ليلة فى صلاتى أفكر فى بعض أحوال ما مضى لى معهن حتى أخطأت فأنزلت فى صلاتى ، قال : فورد كتاب الجنيد على أبى بأن أرسل إلى ابنك أبا عمرو ، قال : فأتيت ، فلما وقع بصره عليّ ، قال : لى أما تستحى تفكر فى مثل تلك الحال وأنت بين يدى الله تعالى ، لو لا أنى تبت عنك وإلا لبقيت فى ذلك إلى الأبد ، لا تصحب إلا من إذا مرضت عادك ، وإذا أذنبت تاب عنك.

وكثير من الناس ينهمكون فى غوايتهم ويتهتكون بسوء جهالتهم حتى إذا أشرفت سفينتهم على الغرق تداركهم الحق سبحانه بجميل لطفه فيغفر قبيح أفعالهم ويصلح سوء أحوالهم.

يحكى أن رجلا كان يتعاطى الفواحش فلم يدع شيئا إلا فعله ، فمرض فلم

يعده جيرانه فدعا بعضهم وقال له : إن جيرانى فى المقبرة يتأذون بجوارى فادفنونى فى زاوية بيتى ، فلما مات رئى فى المنام على هيئة حسنة فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : قال لى: عبدى ، ضيعوك وأعرضوا عنك ، أما إنى لا أضيعك ولا أعرض عنك برحمتى ، تاب الله علينا بفضله وختم لنا بالسعادة بلطفه.

* * *

باب

فى معنى اسمه تعالى

٧٩ ـ المنتقم (١)

جل جلاله

المنتقم اسم من أسمائه تعالى ، ورد به الخبر ، والانتقام افتعال من النقمة ، يقال : نقم ينقم إذا كره منه الشيء غاية الكراهة ، والانتقام غاية العقوبة على الشيء الّذي يكرهه ، قال الله تعالى : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) (٢) أى ما كرهوا منهم ، وقال تعالى : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) (٣) أى تكرهون ، وانتقام الله تعالى عقوبة للعصاة على ما كره منهم ، وليس كراهيته ككراهة الخلق من نفور النفس ولحوق المشقة ، وإنما معناه ذمه لما كرهه وذم فاعله والحكم بعقوبته ، والله تعالى ينتقم من عباده بعد طول الإعذار والإنذار وكثرة الإمهال وسابق الحكم ، فإذا أبى العبد إلا إصرارا وعتوا وإعراضا من موافقته انتقم منه بعد ذلك ، قال تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٤) ثم إن الله تعالى قد يغضب فى حق خلقه بما لا يغضب فى حق نفسه ، وينتقم لعباده ما لا ينتقم لنفسه فى خالص حقه.

__________________

(١) المنتقم : هو الّذي يقصم ظهور العتاة وينكل بالجناة ويشدد العقاب على الطغاة ، وذلك بعد الإعذار والإنذار ، وبعد التمكين والإمهال ، وهو أشد للانتقام من المعاجلة بالعقوبة ، فإنه إذا عوجل بالعقوبة لمن يمعن فى المعصية ، فلم يستوجب غاية النكال فى العقوبة.

(٢) البروج : ٨.

(٣) المائدة : ٥٩.

(٤) النحل : ١١٢.

وقد حكى أن نبيا من الأنبياء عارضه سبع فى طريقه فلطمه النبي فلطم السبع ذلك النبي ، صلوات الله على نبينا وعليه ، فقال ذلك النبي : إلهى هذا كلبك وأنا نبيك وقد لطمنى ، فأوحى الله إليه لطمة بلطمة والبادى أظلم.

وحكى أن رجلا نظر فى الطواف إلى شخص فأصاب عينه سهم وهتف به هاتف : نظرت فبصر ظاهرك إلى محظور فقلعناه ، ولو نظرت بسرك إلى غيرنا لقطعناه.

سمعت الإمام أبا بكر بن فورك ، رحمه‌الله تعالى ، يحكى هذه الحكاية وقيل : أوحى الله إلى بعض الأنبياء : احذر أن تلقانى ولا عذر لك ، فمن عرف عظمته خشى نقمته ، كما أن من عرف كرمه أمل لطفه ونعمه.

ثم إن أكثر انتقام الله تعالى من عباده إنما يكون بتسليط من لا يعرفه عليهم بذاك ، وردت الآثار إذا عصانى من يعرفنى سلطت عليه من لا يعرفنى.

قيل : إن جماعة اجتمعوا على نبى من الأنبياء ، فقالوا : ما علامة رضا الله عن الخلق؟ فأوحى الله إليه : قل لهم : إن علامة رضائى عنهم أن أولى أمورهم خيارهم ، وعلامة غضبى أن أولى أمورهم شرارهم.

وقيل : إن الله تعالى ينتقم من الظالم بالظالم ، يسلط بعضهم على بعض ، فانتقامه تعالى على قسمين : معجل ومؤجل ، فالعارفون يخشون مفاجآت النقمة وبغتات العقوبات والمحنة.

قالت ابنة الربيع بن خثيم لأبيها : يا أبت ، ما لك لا تنام بالليل؟ فقال : إن أباك يخاف البيات.

وقيل : من خاف البيات لم يأخذه السبات ، وربما يظل البلاء قوما فينبههم الله للاعتذار ويوفقهم للتوبة قبل حلول النقمة ، فيكشف عنهم الضر والبأس كما

فعل بقوم يونس ، عليه‌السلام ، لما غشيهم العذاب وطلبوا يونس ففقدوه ورجعوا إلى الله عزوجل بصدق الضرورة قبل منهم العذر وكشف عنهم الضر ، قال عز من قائل : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١).

حكى أن رجلا من بنى إسرائيل بلغ رتبة الصديقين ، فذبح يوما عجلا بين يدى أمه فأسقطه الله عن مقامه وسلبه قلبه ، فكان يهيم على وجهه يهزأ منه الصبيان ، فمر يوما فى هيمانه بفراخ طير قد وقعن من العش وقد غاب الطير فرحمهن فردهن إلى العش ، فلما عاد الطائر شكر إليه الفراخ فشكر الطائر الله تعالى فرد الله سبحانه إلى ذلك الرجل قلبه وأعاد وقته وبلغه رتبة الأنبياء وجعله نبيا.

ويروى عن أبى الدرداء أنه قال : إن العبد يكون له وقت طيب فيأمر الله جل جلاله جبريل عليه‌السلام أن يرفع ذلك عن قلبه ، فإن صاح العبد إلى الله تعالى بالدعاء والرغبة رده إليه وزاده ، وإن لم يبال به لم يصل إلى ذلك أبدا ، وكان ذلك منه نقمة ، وقد يكون العبد يستجير بربه عقب زلته بلا فصل فتتداركه الرحمة قبل حلول النقمة فيؤويه إلى كشف ستره ويعجل له المغفرة بلطيف بره.

يحكى أن بعض الأنبياء سرق له حمار فقال : إلهى نبيك سرق حماره ، فاطلعنى عليه ، فأوحى الله إليه أن ذلك الرجل الّذي سرق حمارك سألنى أن أستره وأنا لا أريد رده ولا ردك ، فخذ منى حمارا آخر حتى لا يفتضح ذلك الرجل ، أعاذنا الله من أليم نقمته ، وأكرمنا بجميل رحمته بجوده ومنته.

__________________

(١) يونس : ٩٨.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨٠ ـ العفو (١)

جل جلاله

العفو اسم من أسمائه تعالى ورد به النص ، وهو مبالغة من العافى والعفو له معنيان :

أحدهما : الفضل ، ومنه قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (٢) يعنى ما فضل من أموالهم ، ومنه إعفاء اللحية ، وعفا مال فلان إذا كثر ، فالعفوّ على هذا الاشتقاق الّذي يعطى الكثير ويهب الفضل الجزيل.

والمعنى الثانى : العفو بمعنى المحو والإزالة ، يقال : عفت الرياح الآثار إذا أزلتها.

فالعفو فى وصفه تعالى على هذا التأويل إزالة آثار الأجرام بجميل المغفرة ، فالله سبحانه يعفو عن العباد إجرامهم وذنوبهم فيزيل أحكامها ، كما قال تعالى (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) (٣) قيل : يمحو الذنوب من ديوان الحفظة وينسيها من قلوبهم وقلوب المذنبين.

__________________

(١) العفو : هو الّذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصى ، وهو قريب من الغفور ولكنه أبلغ منه ، فإن الغفران ينبئ عن الستر ، والعفو ينبئ عن المحو ، والمحو أبلغ من الستر.

(٢) البقرة : ٢١٩.

(٣) الرعد : ٣٩.

وقال بعضهم : لما كتبت الحفظة على العباد المعاصى قال الله سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ) لئلا تقطع الملائكة بعصيانك لتجويزهم أن يكون قد عفا عنك.

وفى بعض الحكايات أنه كان شيخ سوء صاحب لهو فمات ، فرئى فى المنام ، فقيل : ما فعل الله بك؟ فقال : أقامنى وقال لى : لو لا أنى أستحي من شيبتك لعذبتك.

وروى عن بعض العلماء ، وكان كبيرا فى شأنه قال : قلت فى آخر مجلسى يوما : اللهم اغفر لأقسانا قلبا وأجمدنا عينا وأقربنا بالمعاصي عهدا ، وقال : وكان فى بلدنا محب معروف وقف على حلقتى فقال : أعد هذا الدعاء ثانيا فأنا أقساكم قلبا وأجمدكم عينا وأقربكم بالمعاصي عهدا ، فادع الله لى حتى يتوب عليّ ، قال : فرأيت الليلة الثانية فى المنام رب العزة يقول : سرنى حيث أوقعت الصلح بينى وبين عبدى ، وقد غفرت لك وله ولأهل مجلسك.

وقيل : إن رجلا من الصالحين قال يوما لرجل : والله لا يغفر الله لفلان ، قال : فأوحى الله سبحانه إلى نبى ذلك الزمان أن قل لفلان : قد غفرت له وأحبطت عمل ذلك الرجل.

وقيل : كان بعبادان رجل مشهور بالخير ، وكانت له امرأة صالحة ، وكان لهما ابن فاسق لا يدع شيئا من المعاصى ، وكان لا يقبل نصيحتهما ، فمرض فلم يعده أبواه ، فأرسل إليهما ، فقالا له : سحقا لك وبعدا ، فإنك لم ترع حق الله تعالى ، فقال لأمه : لو كان إليك أمرى ما ذا كنت تعملين مكانى؟ فقالت : كنت أتجاوز عنك ، فقال لها : إن ربى أرحم منك ، فمات فأظهر أبواه السرور بموته وقالا : إن الله سبحانه قد خلّصنا منه ، ثم قالت والدته للأب : ائذن لى الليلة حتى لا نوقد السراج ونصلى ونبكى على ولدنا إن كان من أهل النار ،

ففعلا ، فرأت أمه فى المنام كأن قائلا يقول لها : إن الله سبحانه قد غفر لولدكما بحسن عزائكما ، روى كعب بن عجرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على أصحابه يوما فقال : ما تقولون فى رجل قتل فى سبيل الله؟ فقالوا ، الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك فى الجنة ، قال : فما تقولون فى رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا : لا نعلم منه إلا خيرا؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : ذلك فى الجنة ، قال : فما تقولون فى رجل مات فقام رجلان ذوا عدل فقالا : لا نعلم فيه خيرا؟ فقالوا : ذلك فى النار ، قال : بئس ما قلتم ، عبد مذنب ورب غفور.

وأما قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) (١) فقيل : معناه خذ ما صفا من الإخلاص ، وقيل : معناه خذ العفو والفضل والمحاسن من الأخلاق ، فاعف عمن ظلمك ، وأحسن إلى من أساء إليك ، وصل من قطعك ، وتجاوز عمن يذنب ولا يحسن مكانك ، وآت من آثر حرمانك.

ومن عرف أنه سبحانه عفوّ طلب عفوه ، ومن طلب عفوه تجاوز عن خلقه ، فإن الله سبحانه بذلك أدبهم وإليه ندبهم ، فقال عز من قائل : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) (٢) وأن الكريم إذا عفا حفظ قلب المسيء عن الاستيحاش بتذكيره سوء فعله ، بل يزيل عنه ذلك الخجل بما يسبل عليه من ثوب العفو ويفيض عليه من ذيول الصفح ، كما يحكى عن قيس بن عاصم المنقرى أنه عثر مملوك له وبيده شيء مشوى على سفود فوقع على ولد له صغير فمات ، فقال قيس بن عاصم له : اذهب فأنت حر ، يريد بذلك صيانته عن استشعار الخجل.

واعلم أن عفو الله تعالى عن العباد ليس مما يستقصى بالعبارات كنه معانيه ، وفيما ذكرناه كفاية وبالله التوفيق.

__________________

(١) الأعراف : ١٩٩.

(٢) النور : ٢٢.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨١ ـ الرءوف (١)

جل جلاله

الرءوف : اسم من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه وتعالى : (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ)(٢) والرأفة شدة الرحمة ، يقال : رأف يرأف رأفة ، على وزن فعلة ، ورآفة على وزن فعالة ، ورؤف يرؤف على وزن عظم يعظم ، فهو رؤف على وزن فعل ، ورءوف على وزن فعول أولى لأن فى صفاته على وزن فعول كثير كشكور وغفور ، وقد مضى القول فى معنى وصفه بالرحمة فيما تقدم ، وذكرنا أن معنى الرحمة فى الحقيقة إرادة النعمة ، ثم تسمى النعمة رحمة على المجاز.

ورحمة الله تعالى لعباده إرادته الإحسان إليهم ، وليس ذلك شرطا عليه ، والله تعالى أرحم بعباده من كل أحد ، ورحمته سبحانه فى الدنيا عامة للبر والفاجر ، وهى فى الآخرة للمؤمنين خاصة.

وفى بعض الروايات أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فى بعض الأسفار فمر بامرأة

__________________

(١) الرءوف : هو المتعطف على المذنبين بالتوبة ، وعلى الأولياء بالعصمة ، وقيل : هو الّذي جاد بلطفه ، ومنّ بتعطفه ، وقيل : هو الّذي ستر ما رأى من العيوب ، ثم عفا عما ستر من الذنوب ، وقيل : هو الّذي صان أولياءه عن ملاحظة الأشكال ، وكفاهم بفضله مئونة الأشغال.

(٢) البقرة : ٢٠٧.

تخبز ومعها صبى لها ، فقيل لها : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمر ، فجاءته وقالت : يا رسول الله ، بلغنى أنك قلت : إن الله سبحانه أرحم بعباده من الأم الشفيقة بولدها ، أفهو كما قيل لى؟ فقال : نعم ، فقالت : إن الأم لا تلقى ولدها فى هذا التنور ، فبكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : إن الله لا يعذب إلا من أنف أن يقول لا إله إلا الله ، ومن رحمته سبحانه بعباده أن يصونهم عن موجبات عقوبته ، فإن عصمته عن الزلة أبلغ فى باب الرحمة من غفران المعصية ، وربما يرحم عباده بما يكون فى الظاهر مشقة وشدة ، وهو فى الحقيقة نعمة ورحمة.

وقد روى فى بعض الأخبار أن العبد يدعو الله تعالى فيقول الله سبحانه : يا جبريل ، قد قضيت حاجة عبدى ، وقد أجبت دعاءه ، ولكن احبس عنه حاجته فإنى أحب أن أسمع صوته ، وكم من عبد يرحمه الخلق لما به من الضر والفاقة وسوء الحالة ، وهو فى الحقيقة فى غاية الرحمة تغبطه الملائكة فى حالته ، والناس يرقون له لظاهر محنته.

ويحكى عن بعضهم أنه قال : مات فقير فكنت أغسله ، فرأيت فى عنقه بين الجلد واللحم طوبى لك يا غريب ، وكم من عبد يظهر عليه اليوم آثار زلته وهو فى سابق علمه بل رحمته وحكمه من خواص عباده.

يحكى عن بعضهم أنه قال : كان فى جيرانى إنسان شرير فمات فرفعت جنازته فتنحيت عن الطريق لئلا أحتاج إلى الصلاة عليه فرئي فى المنام على حالة حسنة ، وكان اسم هذا العبد أيوب ، فقال له هذه الرائى : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لى وقال لى : قل لأيوب : (لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) (١).

__________________

(١) الإسراء : ١٠٠.

وفى بعض الكتب أن نبيا من الأنبياء شكا إلى الله الجوع والعرى والقمل فأوحى الله تعالى إليه : ما تعرف ما فعلت بك ، سددت عنك باب الشكر وفتحت عليك الصبر ، ومن رحمته بعباده أن يصونهم عن ملاحظة الأغيار والأطلال ، ورفع الحوائج إلى الأمثال والأشكال بصدق الرجوع إلى الملك الجبار ، وحسن الاستغناء به فى جميع الأحوال.

وقد حكى عن بعضهم أنه قيل له : سل حاجتك فقال : من وضع قدمه على بساط المعرفة لا يحسن أن يكون لغير الله عليه منة.

وقال رجل لواحد منهم : ألك حاجة؟ فقال : لا حاجة لى إلى من لا يعلم حاجتى.

وقيل لممشاد الدينورى : ألا تجيء معنا إلى باب السلطان ، فإن الشيوخ مجتمعون هناك ليسعوا فى شأن فلان ، فقال : وما الّذي يمنعكم عن باب الله تعالى ، إنما يحضر الموتى باب الموتى ، ونحن نحضر باب الملك الجبار ، وأن الله تعالى ربما يدنى العبد من المحنة ثم يمن عليه بعد يأسه ، بفتح باب الرحمة» قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ) (١) وإذا كانت الحسنى بعد اليأس كانت أوجب للسرور والاستئناس.

يحكى عن بعض الصالحين أنه قال : رأيت بعضهم فى المنام فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال : وزنت حسناتى وسيئاتى فرجحت سيئاتى على حسناتى ، فجاءت صرة من السماء وسقطت فى كفة الحسنات فرجحت ، فحلت الصرة فإذا فيها كف تراب ألقيته فى قبر مسلم.

هكذا تحيط بالعبد جهات البلاء فتكشف عنه بأدنى حسنة وأقل طاعة ، فضلا منه سبحانه ورحمة.

__________________

(١) الشورى : ٢٨.

باب (١)

فى معنى اسمه تعالى

٨٢ ـ ذى الجلال والإكرام (٢)

جل جلاله

مضى الكلام فى معنى جل جلاله فيما تقدم وأنه بمعنى استحقاقه الرفعة وصفات التعالى ، ومن عرف جلاله تذلل وتواضع له.

جاء فى بعض الروايات أن لله ملائكة مذ خلقهم لا يفترون عن البكاء ولا تقطر من دموعهم قطرة إلا ويخلق الله تعالى منها ملكا لا يرفعون لنا رءوسهم إلى يوم القيامة من هيبة الله سبحانه ، فإذا كان يوم القيامة يقولون : ما عبدناك حق عبادتك.

وقيل : إن من جملة حملة العرش ملائكة صورتهم كصورة العجل فمذ عبد بنو إسرائيل العجل وضعوا أيديهم على وجوههم حياء من الله تعالى.

وقيل : الإجلال أن ترى ما دونه بعين الإقلال.

يحكى عن ابن الجلاء أنه قال : كنت راكبا جملا مرة فقلت : جل الله ،

__________________

(١) لم يذكر المؤلف اسمه تعالى : مالك الملك ، الّذي هو قبل «ذى الجلال والإكرام» ومعنى مالك الملك : هو الّذي ينفذ مشيئته فى مملكته كيف يشاء ، وكما شاء ، إيجادا وإعداما ، وإبقاء وإفناء.

(٢) ذو الجلال والإكرام : هو الّذي لا جلال ولا كمال إلا وهو له ، ولا كرامة ولا مكرمة إلا وهى صادرة منه ، فالجلال له فى ذاته ، والكرامة فائضة منه على خلقه ، وفنون إكرامه خلقه لا تكاد تنحصر ولا تتناهى ، وعليه دل قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (الإسراء : ٧٠).

فسمعت الجمل يقول بلسان فصيح : جل الله ، وليس جلاله بأنصار يعينونه ولا بأشكال ينصرونه ولا برسوم وأطلال وأجلال وأفعال ، ولا سلف ولا خلف ولا نسب أو سبب أو استظهار بنشب ، وإنما جلاله وكبرياؤه وعلوه وبهاؤه كونه بالوصف الّذي يحق له العز.

وأما الإكرام فقريب من معنى الإنعام ، إلا أنه أخص لأنه ينعم على من لا يقال أكرمه ، ولكن لا يكرم إلا من يقال : أنعم عليه ، وإكرامه للعبد يكون فى الدنيا معجلا وفى الآخرة مؤجلا ، فقد يربى عبدا برحمته ويتولى جميع أمره بفضله ومنته من أول أمره إلى آخر عمره ، أما ترى كيف أكرم موسى عليه‌السلام حيث سلمته إليه أمه كيف رباه فى حجر عدوه ، وكيف صرف عنه كيده؟ أسلمته إلى البحر متوكلة على الله بالغداة فرده إليها قبل الظهر.

جاء فى الروايات أن فرعون قتل فى ذلك اليوم سبعين ألف صبى ، وموسى فى حجره يربيه.

وهكذا قالت أيضا أم مريم : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١) فلما وضعتها أنثى خجلت لأن الأنثى لا تصلح لخدمة المسجد فتقبلها ربها بقبول حسن ، وبلغها المقام الّذي بلغها حتى وقع الغلط لجماعة من الناس لا يحصون فى أمرها حتى قالوا ما قالوا.

نكتة : إذا سلم إليه ولده فرباه فى حجر عدوه وصرف عنه كيده ، فمن سلم إليه قلبه حفظه ، كما فى الخبر : «إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» أى : بين نعمتين من نعمه ، ترى أنه يضيعه ولا يحفظه ، حاش لله.

نكتة أخرى : من سلم إليه ولده وجعله لخدمة المسجد لم يرده بنقص

__________________

(١) آل عمران : ٣٥.

الأنوثية ، ترى أن من سلم قلبه إلى صحبة الملك يرده بنقص زلة البشرية أنه لا يفعل ذلك.

وقد روى فى بعض القصص أن العبد إذا هم بالمعصية يقول الله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (١) فإذا عمل المعصية يقول الله تعالى : (تُوبُوا إِلَى اللهِ) (٢) فإذا أصر يقول الله تعالى : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٣).

بئس البدل من الله لأن ربنا عزيز لم يزل ، وغيره ذليل لم يكن ، وإذا كان الحق تعالى ينعم والعبد يشكر غيره ، ويرزق والعبد يخدم غيره ، وهو يعطى والعبد يسأل غيره ، فقد أخطأ طريق الرشد وسلك سوء الطريق.

يحكى أن رجلا أتى الحجاج يسأله حاجة فوجد الحجاج فى الصلاة فقال فى نفسه : كيف أسأل من هو محتاج مثلى ، بل أسأل من ربى حاجتى ، فانصرف ، فلما فرغ الحجاج من صلاته دعا بالرجل فقضى له حاجته وأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له : أعطاك من سألته وأنا ساجد.

__________________

(١) الزمر : ٥٤.

(٢) النور : ٣١.

(٣) الكهف : ٥٠.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٨٣ ، ٨٤ ـ المقسط (١) الجامع (٢)

جل جلاله

هما اسمان من أسمائه تعالى ، فأما المقسط فهو بمعنى العادل ، وأما القاسط فهو بمعنى الجائر ، يقال : قسط إذا جار ، وأقسط إذا عدل ، ومعنى العادل فى وصفه أن أفعاله حسنة جميلة ، والفعل الحسن ما للفاعل أن يفعله ، وأما الجامع فى وصفه تعالى فيكون بمعنى الجائز لهم يوم القيامة للثواب والعقاب ، فيجمع لحومهم المتفرقة وجلودهم المتمزقة وعظامهم النخرة ، ويكون الجامع اليوم لأجزائهم وأوصالهم ، ركبهم على ما أراد من التركيب ورتب أحوالهم على ما شاء من الترتيب ، قال الله تعالى : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) (٣) شد أوصالهم وربط أجزاءهم بعضها ببعض ، فمن عظم

__________________

(١) المقسط : هو الّذي ينتصف للمظلوم من الظالم ، وكماله فى أن يضيف إلى إرضاء المظلوم إرضاء الظالم ، وذلك غاية العدل والإنصاف ، ولا يقدر عليه إلا الله تعالى ، فهو العادل فى حكمه.

(٢) الجامع : هو الّذي جمع الأجزاء وألفها وركبها تأليفا وتركيبا مخصوصا ، وهو الّذي جمع بين قلوب الأحباب ، وهو الّذي يجمع أجزاء الخلق عند الحشر والنشر بعد تفرقها ، وبجميع بين الجسد والروح بعد الانفصال بالموت ، وهو الجامع للخلق يوم القيامة ، وهو الجامع بين الظالم والمظلوم ، وقيل : هو الّذي جمع قلوب أوليائه إلى شهود عظمته ، وصانهم عن ملاحظة الأغيار برحمته.

(٣) الإنسان : ٢٨.

الغالب عليه اليبوسة ولحم كساه الغالب عليه اللين والرطوبة ومخ بين العظم الغالب عليه اللين والرخاوة ، فسبحان من جمع بين هذه الأشياء المختلفة ، وانظر إلى التئام كل نوع وكل جنس ، كيف جمع بين الأشياء المختلفة فى الطعم واللون والرائحة ، كالرمان مثلا انظر إلى قشره فى لونه وشكله وطعمه ، وما قال أهل الطب فيه ، وإن لم تكن له حقيقة فى القول بطبعه ، ولكن على ما أجرى به العادة فى الآثار التى يخلقها الله سبحانه عقيب أكله واستعماله فى الطبع وغيره ، ثم انظر شكل حبه ولونه وطعمه ثم ما بين الحب من عجمه ، ثم ما بين الحباب من رقيق قشره ، ثم هكذا القول فى الأترج ، من قشره ولحمه وحماضه وحبه وسائر الثمار ، وجميع أصناف المخلوقات والحيوانات من الجمادات ، كيف جمع هذه الأعراض المختلفة وهذه الجواهر المتجانسة ، ومن صرف قلبه إلى الاعتبار بما توعد به عباده من أحوال يوم القيامة وصنوف أهوالها تحقق بديع قدرته وظاهر حكمته ، وتنبه للانزجار عن أليم مساخطه.

ومما روى فى أوصاف يوم القيامة أنه يوقف شيخ للحساب فيقول الله له : يا شيخ ، ما أنصفت ، غذوتك بالنعم صغيرا ، فلما كبرت عصيتنى ، أما إنى لا أكون لك كما كنت لنفسك ، اذهب فقد غفرت لك ما كان منك.

وإنه ليؤتى بالشاب كثير الذنوب ، فإذا وقف تضعضعت أركانه واصطكت ركبتاه فيقول الرب جل جلاله : أما استحييت منى؟ أما راقبتنى؟ أما خشيت نقمتى؟ أما علمت أنى مطلع عليك؟ خذوه إلى أمه الهاوية.

وفى خبر أن الوحوش والبهائم تحشر يوم القيامة فتسجد لله سجدة فتقول الملائكة : ليس هذا يوم سجود ، هذا يوم الثواب والعقاب ، فتقول البهائم : هذا منا سجود شكر حيث لم يجعلنا الله من بنى آدم.

ويقال : إن الملائكة تقول للبهائم : لم يحشركم الله جل جلاله لثواب ولا لعقاب وإنما حشركم لتشهدوا فضائح بنى آدم.

وقيل : لو أن رجلا له ثواب سبعين نبيا وله خصم بنصف دانق ، لا يدخل الجنة حتى يرضى خصمه.

وقيل : إن الدانق من الفضة يؤخذ به يوم القيامة سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى إلى الخصم.

وفى خبر مسند عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا ، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ، ما نفعكم ذلك إلا بورع صادق».

وقيل : كما يرجو الظالم رحمة الله فإن المظلوم أيضا يرجو رحمة الله سبحانه ، فإذا أخذ حقه من الظالم فذلك برحمة منه ، ولو لم يأخذ للمظلوم حقا من الظالم لما رحم المظلوم.

وروى عن ابن مسعود أنه قال : يؤخذ بيد العبد يوم القيامة على رءوس الأشهاد فينادى مناد : ألا من له قبل هذا حق فليأخذه.

وقيل : لا يكون شيء أشد على أهل القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يدعى عليه شيئا (١).

فصل : لا راحة لمؤمن دون لقاء الله تعالى :

وقد يجمع اليوم قلب وليه إلى شهود تقديره حتى يتخلص عن أسباب التفرقة فيطيب عيشه ، إذ لا راحة للمؤمن دون لقاء الله تعالى فلا يرى الوسائط ولا ينظر إلى الحادثات إلا بعين التقدير ، إن كانت نعمة علم أن الله سبحانه

__________________

(١) (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) (٣٧) (عبس).

منتجها ، وإن كانت شدة علم أن الله تعالى هو الكاشف لها ومزيحها ، وأنشد بعضهم :

فلا ألبس النعمى وغيرك ملبسى

ولا أقبل الدنيا وغيرك واهب

يحكى عن بعضهم أنه قال لبعض أصحابه : ائتنى بباقلا فأتاه به ، فكان بين يديه سنور مهزول ، قال : فألقى إليه شيئا من ذلك فلم يأكل ، فلما طرح القشور مضى السنور وأكله ، فقال فى نفسه : ما أخسه ، لم يأكل بالعز وقد أعطيته ثم ذهب يلتقط من القمامات ، قال : فغفا غفوة ، فرأى السنور فيما يرى النائم على صورة حسنة قال : لم لم تأكل بالعز وأكلت بالذل؟ قال : فصاح فى وجهه وقال : أمرنا أن لا نأخذ بالواسطة.

* * *

باب (١)

فى معنى اسميه تعالى

٨٥ ، ٨٦ ـ المغنى (٢) المانع (٣)

جل جلاله

المغنى معطى الغنى لعباده ، ويكون بمعنى معطى الكفاية ، والغنى هو الكفاية ، والله تعالى مغنى عباده بعضهم عن بعض ، على الحقيقة ، لأن الحوائج لا تكون على الحقيقة ، إلا إلى الله سبحانه ، فإن المخلوق لا يكون له إلى مخلوق اشتداد حاجة ، ولهذا قيل : تعلق الخلق بالخلق كتعلق المسجون بالمسجون.

قيل : من أشار إلى الله ثم رجع عند حوائجه إلى غير الله ابتلاه الله سبحانه بالحاجة إلى الخلق ثم ينزع الرحمة من قلوبهم ، ومن شهد محل افتقاره إلى الله سبحانه فرجع إليه بحسن العرفان أغناه من حيث لا يحتسب ، وأعطاه من حيث لا يرتقب.

__________________

(١) لم يذكر المؤلف ، رحمه‌الله ، اسمه تعالى : الغنى ، وهو قبل المغنى ، ومعناه : الّذي لا يحتاج إلى أحد ، المتعالى فوق عباده ، يرزقهم بالغنى ، وهو الغنى عن عبادتهم وطاعتهم ، المتفضل عليهم بإحسانه ، فلا يزيد فى ملكه العابدون ، ولا ينقص من ملكه الكافرون.

(٢) المغنى : هو الّذي يغنى من يشاء من عباده ، فمنهم من يغنيه بالمال ، ومنهم من يغنيه بالذرية ، ومنهم من يغنيه بالطاعة والورع ، فهو سبحانه الّذي يستغنى به العباد.

(٣) المانع : هو الّذي يرد أسباب الهلاك والنقصان فى الأديان والأبدان بما يخلقه من الأسباب المعدة للحفظ ، وهو الّذي إذا منع فلا معطى لما منع.

وإغناء الله تعالى لعباده على قسمين : منهم من يغنيه بتنمية أمواله ، ومنهم من يغنيه بتصفية أحواله ، وهذا هو الغنى الحقيقى.

سمعت بعض المشايخ ببغداد قال : جاء رجل ببغداد إلى الجنيد فعرض عليه نفسه وماله وسأله أن يباسطه فيما يسنح له من حوائجه ، فقال له : لعلك تحتاج إلى ما معك ، فقال : لا ، فإنى رجل موسر ، ولى صامت وعقار وضياع ، فقال : أتريد غيره وتستزيده إلى ما معك؟ فقال : نعم ، فأخرج خرقة فيها كسوة فحلها وناوله إياه ، وقال له : أضفها إلى ما معك ، فإنى لست أحتاج إليها وأنت تحتاج إلى الزيادة ، وصاحب الحال أبدا يجود على صاحب المال ، وصاحب المال عيال على صاحب الحال ، وصاحب المال يشفق وصاحب الحال ينفق ويتخلق مع الخلق بالهمة ، والخلق إلى همة صاحب الحال أحوج منهم إلى نعمة صاحب المال.

يحكى أن أبا العباس الفقيه التبان ، وكان موسرا عاد أبا بشر الخياط ، وكان شيخا كبيرا فقال : إن لى ثوبا عرضته على كثير من الخياطين ، وأردت أن يقطفوا لى منه ثوبا لنفسى فقالوا : لا يتم لك منه ثوب ، فقدر أنت لعله يجيء ببركتك منه ثوب واسع ، فقدره أبو بشر فوجده لا يجيء منه ثوب واسع كما أراد ، فقال : يجيء إن شاء الله تعالى كما تريد ، وحمل الثوب إلى حانوته واشترى من ماله قطعة توافق ذلك الثوب وخاطه كما أراد وحمله إليه فسر به أبو العباس التبان ، فقيل لأبى بشر فى ذلك : إن جود الفقير مع الغنى أتم من جود الغنى مع الفقير.

وأما المانع فى وصفه جل جلاله فيكون بمعنى منع البلاء عن أوليائه ويكون بمعنى منع العطاء عمن شاء من أوليائه وأعدائه ، فإذا منع البلاء عن أوليائه كان

ذلك لطفا جميلا ، وإذا منع العطاء عن أوليائه كان ذلك أيضا فضلا جزيلا ، وإذا لم يمنع الخير عن أعدائه كان ذلك فى الحال احتجاجا عليهم واستدراجا ، وإذا منعهم الخير فى الآخرة كان عقوبة وإذلالا.

فصل : لا يقع فى ملكه تعالى إلا ما أراده جل جلاله :

حكى أن موسى ، عليه‌السلام قال فى مناجاته : إلهى إنى جائع ، فأوحى الله إليه إنى لأعلم ذلك يا موسى ، قال : فأطعمنى ، قال : حتى أريد.

ويحكى عن ابن المنكدر أنه قال : قلت ليلة فى الطواف : اللهم اعصمنى ، وأقسمت على الله طويلا ، فرأيت فى المنام كأن قائلا يقول لى : أنت الّذي قلت : اعصمنى ، فقلت : نعم ، فقال : إنه لا يفعل ، فقلت : لم؟ فقال : لأنه يريد أن يعصى حتى يغفر ، وربما يكون فى منعه لبعض عباده منع قلبه عما يضره بأن لا يخلق له إرادة ذلك ، فيكون رفقا به ، قال الله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (١) وأنه سبحانه يعطى الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولكنه لا يحمى قلب أحد عن المخالفات إلا وهو من خواص أوليائه ، وقد يمنع التمنى والشهوات من نفوس العوام ويمنع الإرادات والاختيارات عن قلوب الخواص ، ويمنع الشبهة عن القلوب والبدع عن العقائد والمخالفات فى الأوقات والزلل عن النفوس من أجل النعم التى يخص بها عباده المقربين ويكرم به أولياءه المنتخبين جعلنا الله من جملتهم وحشرنا فى زمرتهم.

__________________

(١) الأنفال : ٢٤.

باب

فى معنى اسميه تعالى

٨٧ ، ٨٨ ـ الضار (١) النافع (٢)

جل جلاله

ورد الخبر بهذين الاسمين ، وفى معناهما إشارة إلى التوحيد ، وهو أنه لا يحدث شيء فى ملكه إلا بإيجاده وحكمه وقضائه وإرادته ومشيئته وتكوينه ، قال الله سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا) (٣) ثم أخبر عن بيانه فقال سبحانه : (هُوَ مَوْلانا) ليعلم العالمون أن له أن يتصرف فى ملكه بموجب إرادته ، فلا يلحق أحد آخر لا نفع ولا خير ولا شر ولا سرور ولا حزن إلا من قبله جل جلاله ، فإن تك نعمة فهو النافع والدافع ، وإن تك محنة فهو الضار القامع الحابس المانع ، ومن استسلم لحكمه عاش فى راحة ، ومن نافر اختياره وقع فى كل آفة.

يقال : أول ما كتب الله جل جلاله فى اللوح المحفوظ : أنا الله لا إله إلا

__________________

(١) الضار : هو الّذي يضر الكافرين بما سبق لهم من قديم عداوته ، وهو الّذي يضر العاصين بحرمانه ، وهو الّذي يقدر الضرر لمن أراد وكيف شاء.

(٢) النافع : هو الّذي ينفع الأبرار بما تحقق لهم من كريم رعايته ، وهو الّذي ينفع الطائعين بتوفيقه وإحسانه ، وهو الّذي ينفع المؤمنين برحمته يوم القيامة حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(٣) التوبة : ٥١.

أنا ، من لم يستسلم لقضائى ، ولم يصبر على بلائى ، ولم يشكر نعمائى فليطلب ربا سوائى.

وقيل : ناجى داود عليه‌السلام ربه جل جلاله فقال : إلهى ، من شر الناس؟ فقال عز من قائل : من استخارنى فى أمر ، فإذا خرت له اتهمنى ولم يرض بحكمى.

وقيل : من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء.

وقال الواسطى : الطينة (١) إذا نازعت الربوبية أظهرت رعونتها.

وفى خبر مسند : إياكم ولو فإن لو من أقوال المنافقين ، فإذا عرف العبد توحد مولاه فى الإيجاد وتفرده فى الاختراع فوض الأمور إليه وعاش فى راحة من الخلق ، والخلق فى راحة منه ، فبذل النصيحة من نفسه ولم يستشعر الغش والخيانة لغيره.

وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الدين النصيحة».

يحكى عن أيوب السختيانى أنه كان يجيء إلى السوق فرأى رجلا اشترى من غلام شيئا فقال : بكم باعك هذا؟ فقال : بكذا ، فقال : ارجع فإن عليك غبنا إن هذا لا يساوى هذا الثمن ، ثم قال لغلامه على وجه العتاب : أتخدع الرجل؟ رد عليه الفضل.

وروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يقول الله تعالى : «اطلبوا الفضل عند الرحماء من عبادى تعيشوا فى أكنافهم ، فإنى جعلت فيهم رحمتى ، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم ، فإن فيهم غضبى» وأن رحمة الله تعالى أتم من رحمة بعضهم لبعض.

فمن عرف ذلك علم أنه سبحانه يحب من عباده من يرحم خلقه ، ولا

__________________

(١) يقصد ابن آدم إذ أصله من طين.

يرحم العبد إلا إذا رحمه الحق قال الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) (١) ، ويروى عن ابن أبى أوفى أنه قال : خرجت أريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا أبو بكر وعمر رضى الله عنهما قاعدان وصبى صغير يبكى فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ضم إليك الصبى يا عمر» فضم عمر الصبى إلى نفسه ، فإذا بامرأة كاشفة عن رأسها تولول ، وتقول : يا بنياه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحق المرأة فإنها أم الصبى» فأخذت المرأة ولدها وضمته إلى صدرها ، والصبى يبكى فى حجرها ، فلما التفتت رأت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : وا حزناها ، إنى لأرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رآنى وأنا كاشفة عن رأسى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أترون هذه رحيمة بولدها؟» فقالوا : بلى ، يا رسول الله ، كفى بهذه رحمة ، فقال : «والّذي نفسى بيده لله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها».

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الراحمون يرحمهم الرحمن».

حكى أن الحسن البصرى سرق له إزار فقعد يبكى ، فقيل له فى ذلك فقال : إنما أبكى لأن مسلما تلحقه غدا عقوبة من أجلى ، ثم قال : اللهم إن كنت تغفر لأحد ذنبا فاغفر لسارق إزارى ذنبه.

ويحكى أن معروفا الكرخى كان قاعدا على شاطئ الدجلة ، وكان هناك جماعة من الشطار يشربون الخمر ويضربون بالأوتار ، فقيل له : أما ترى جراءة هؤلاء على الله سبحانه وتعالى ، ادع الله عليهم لعل الله يخلص المسلمين من شرهم فقال : اللهم كما فرّحت هؤلاء فى الدنيا ففرحهم فى الآخرة ، فقالوا : سألناك أن تدعو عليهم لا أن تدعو لهم ، فقال : إذا فرحهم فى الآخرة تاب عليهم فلم يضروكم.

__________________

(١) آل عمران : ١٥٩.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٨٩ ـ النور (١)

جل جلاله

النور من أسمائه جل وعلا ، قال الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) قيل: فى التفسير معناه نور السماوات والأرض ، وقيل : معناه الهادى لأهل السماوات والأرض ، وقيل : سمى النور لأن منه النور ، والعرب تسمى من منه الشيء باسم ذلك الشيء كتسميتهم المقبل والمدبر بالإقبال وبالإدبار ، قال الشاعر (٣) :

ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت

فإنما هى إقبال وإدبار

أى ذات إقبال وإدبار.

فإذا كان بمعنى النور فإنما هو منور الآفاق بالنجوم والأنوار ، ومنور القلوب

__________________

(١) النور : هو الّذي نوّر قلوب الصادقين بتوحيده ونوّر أسرار المحبين بتأييده ، وقيل هو الّذي حسّن الأبشار بالتصوير ، والأسرار بالتنوير ، وقيل : هو الّذي أحيا قلوب العارفين بنور معرفته ، وأحيا نفوس العابدين بنور عبادته ، وقيل : وهو الّذي يهدى القلوب إلى إيثار الحق واصطفائه ، ويهدى الأسرار إلى مناجاته واجتبائه.

(٢) النور : ٣٥.

(٣) هى الخنساء الشاعرة ترثى أخاها صخرا فى الجاهلية وتشبه نفسها فى البيت ببقرة فقدت ولدها.

بفنون الدلائل وصنوف الحجج والملاطفات ، ومنور الأبدان بآثار العبادات ، فالطاعات زينة النفوس والأشباح ، والمعارف زينة القلوب والأرواح ، والتأييد بالموافقات نور الظواهر ، والتوحيد بالمواصلات نور السرائر ، وأن الله سبحانه يزيد قلب العبد نورا على نور يؤيده بنور البرهان ثم يمده بحسن البيان ، قال الله سبحانه (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) (١) ، وقد يهدى القلوب إلى محاسن الأخلاق لتؤثر الحق وتصطفيه ، وتترك الباطل وتدع ما يستدعيه.

وفى بعض الأخبار أن الله تعالى يحب حسن الأخلاق ويكره سفاسفها (٢) ، فمن معالى الأخلاق التحرز عن رق الأشياء واستصغار قدر الدنيا والجود بها على كل أحد ، وأن الله سبحانه يحب كل جواد سخى.

وفى بعض القصص أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه‌السلام : لا تقتل السامرى (٣) فإنه سخى.

يحكى أن عبد الله بن عباس كان والى البصرة من قبل على رضى الله عنه فأتاه قراء البصرة وقالوا له : إن رجلا هاهنا صالحا مشتغلا بالعبادة ، وله بنت ، وقد زوجها من رجل وليس له ما يجهزها به ، فأدخلهم داره وأخرج ست بدارات دراهم وقال : احملوها إليه ، وحمل هو واحدة ، ومضوا إلى دار الرجل ووضعوها ، فلما انصرفوا قال لهم : ما عملنا جميلا ، شغلناه عن العبادة ، انصرفوا بنا نتولى ذلك الشغل ، فليس للدنيا من الخطر ما يشغل به عابد عن عبادته تعالى ، ولا فينا أيضا من يترفع عن القيام بأمر مسلم ، ومضى وقام يتولى ذلك الأمر بنفسه.

__________________

(١) النور : ٣٥.

(٢) السفيساف : كل ردئ حقير.

(٣) الّذي اتخذ العجل إلها ليعبده بنو إسرائيل.

وقيل : السخاء أن تجود على من لا يعرفك ، والسؤدد أن تنصف من لا ينصفك ، وفى معناه أنشد.

بث النوال ولا يمنعك قلته

فكل ما سد فقرا فهو محمود

إن الكريم ليخفى عنك عسرته

حتى تراه غنيا وهو مجهود

وللبخيل على أمواله علل

زرق العيون (١) عليها أوجه سود

وفى بعض الحكايات أن عبد الله بن العباس خرج فى بعض أسفاره فنزل ليلا على حي من العرب فاستضاف شيخا فأنزله ورحب به ، وكان فقيرا ، فعمد إلى شاة له فذبحها ، فقالت امرأته : نموت إذا من الجوع ، فقال الأعرابى : الموت خير من اللوم ، فلما أصبح عبد الله بن العباس قال لغلامه : إيش معك؟ فقال : خمسمائة دينار ، فقال : ضعها عنده ، فقال يكفيه ضعف قيمة الشاة ، قال : إليك عنى ، فإنه إن لم يكن يعرفنى ، فأنا أعرف نفسى ، إن الرجل جاد علينا بجميع ماله ونحن جدنا عليه ببعض دنيانا.

__________________

(١) إذ إن أهل النار تزرق عيونهم فيها.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٩٠ ـ الهادى (١)

جل جلاله

ومن أسمائه سبحانه الهادى ، قال الله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) وغير ذلك كثير ، والهداية فى اللغة الإمالة ، والهدية تسمى هدية لأنها تمال من ملك إلى ملك ، والهدى يسمى هديا لأنه حيوان يساق إلى بقعة مخصوصة ، وأهديت المرأة إلى بيت زوجها من ذلك ، فالهداية إسالة القلب إلى الحق.

قال الجنيد فى معنى قوله تعالى (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) مل بقلوبنا إليك وأقم هممنا بين يديك وكن دليلنا منك عليك.

وقيل : أصله التقديم ، والعرب تسمى العنق : الهادى لتقديمه على البدن ، فالهادى فى وصفه بمعنى المقدم لأهل الخير إلى الرتبة التى يستحقونها ، والّذي يميل القلوب إلى الحق عن الباطل ، قال الله سبحانه : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ) (٣)

__________________

(١) الهادى : هو الّذي يهدى القلوب إلى معرفته ، والنفوس إلى طاعته ، وقيل : هو الّذي يهدى المذنبين إلى التوبة ، والعارفين إلى حقائق القربة ، وقيل : الهادى الّذي يشغل القلوب بالصدق مع الحق ، والأجساد بالخلق مع الخلق.

(٢) يونس : ٢٥.

(٣) يونس : ٩.

وكما يهديهم إلى نفسه بحسن التعريف يهديهم إلى محاسن الأخلاق ومعالى الأمور بحسن التشريف ، قال الله سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١) يكرم قوما لما يلهمهم من جميل الأخلاق ، ويصرف قلوبهم إلى ابتغاء ما فيه رضاه ، ويهديهم إلى استصغار قدر الدنيا واستحقار كرائمها حتى لا يسترقهم ذل الأطماع ولا تستعبدهم أخطار المستحقرات ، فلا يتدنسون بالركوع إلى كل خسيسة ، ولا يتلبسون بتعاطى كل نعمة (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٢) وحكايات الأسخياء فى ذات الله أعلى منهم رتبة.

يحكى عن قيس بن سعد بن عبادة أنه مرض وقتا فلم يجد فى عواده كثرة ، فسأل عن ذلك فقالوا له : إنهم يستحيون عن عيادتك لأن لك عليهم ديونا ، فقال : لا خير فى مال يحول بيننا وبين إخواننا ، نادوا فى البلد أنه من كان لى عليه شيء فقد وهبناه ، فلما أصبح كسرت عتبة بابه من كثرة عواده.

وقيل : كان يبنه وبين رجل عداوة فأراد ذلك الرجل أن يماكره ، فمضى إلى الناس فقال : إن قيسا يدعوكم ، فحضر بابه خلق كثير ، فقال : ما بال الناس ، فقيل له : إنك دعوتهم ، ولم يكن عنده فى الوقت مال حاضر ، وكان له على الناس ديون ، فأخرج الصكوك على الناس بعشرين ألف دينار ففرقها على من حضر منهم وقال : إذا خرج العطاء فخذوا هذا من الناس واعذرونى ، إذ ليس فى يدى ما أبركم بالنقد.

وأن الهداية إلى حسن الخلق باب الهداية إلى اعتقاد الحق ، لأن الدين شيئان : صدق مع الحق ، وخلق مع الخلق ، ثم منازل الناس فى الخلق

__________________

(١) الشمس : ٧ ، ٨.

(٢) الحشر : ٩.

متفاوتة ، فمن وضيع تقاصر أمره ، ومن كبير تناهى قدره ، ولهذا قال بعضهم : حسن الخلق أن لا يبقى أثر للكون.

وقيل : احتمال المكروه بحسن المداراة ، وقيل : هو بسط الوجه وكف الأذى ، وقيل : هو ترك الخيانة فى حال النعمة ورفض الشكاية فى حال المحنة.

روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «طوبى لمن بات حاجا ، وأصبح غازيا» قالوا : من هو يا رسول الله؟ قال : «من كثرت عياله وضاقت يده وحسن خلقه معهم ، يدخل ضاحكا ويخرج ضاحكا ، أنا منهم وهم منى ، وهم الحاجون الغازون فى سبيل الله».

وقال الفضيل بن عياض : لأن يصحبنى رجل فاجر حسن الخلق أحب إلى من أن يصحبنى عابد سيئ الخلق.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخلق الحسن طوق من رضوان الله فى عنق صاحبه ، والطوق مشدود إلى سلسلة من الرحمة ، والسلسلة مشدودة إلى حلقة من أبواب الجنة ، حيثما ذهب الخلق الحسن جذبته السلسلة إلى نفسها فتدخله من ذلك الباب الجنة ، والخلق السوء طوق من سخط الله فى عنق صاحبه ، والطوق مشدود إلى سلسلة من عذاب الله ، والسلسلة مشدودة إلى حلق من باب النار ، من حيثما ذهب الخلق السوء جذبته السلسلة إلى نفسها فتدخله من ذلك الباب النار».

باب

فى معنى اسمه تعالى

٩١ ـ البديع (١)

جل جلاله

البديع : من أسمائه تعالى ، قال الله سبحانه : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) ومعناه المبدع ، وفعيل بمعنى مفعل ، كثير وقد مضى فيما تقدم فى غير موضع ، وقيل : كان فى الأصل بدع ولكنهم أماتوا هذا التصريف ، وكل من فعل فعلا لم يسبق إليه قيل أبدع ، ولهذا سميت البدعة بدعة لأنه قول لم يسبق إليه قائله ، والله تعالى مبدع الأعيان لا على مثال تقدم ولا من أحد تعلم ، وقيل : إن البديع هو الّذي لا مثل له ، ويقال : هذا شيء بديع إذا كان عديم المثل ، والوصفان جميعا يجبان لله تعالى لأنه المنشئ لا على مثال ، وهو القديم بلا مثال.

وأما المبدئ (٣) فهو مفعل بمعنى فاعل ، يقال : بدأ الله الخلق وأبداهم ، قال تعالى : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (٤) وأن الله تعالى خالق الأعيان ومبديها

__________________

(١) البديع : هو الّذي لا عهد بمثله ، فإن لم يكن بمثله عهد ، لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ولا فى كل أمر راجع إليه فهو البديع المطلق ، وإن كان كل شيء من ذلك معهودا فليس ببديع مطلق ، ولا يليق هذا الاسم مطلقا إلا بالله تعالى ، فإنه ليس له قبل فيكون مثله معهودا قبله ، وكل موجود بعده ، فحاصل بإيجاده وهو غير مناسب لموجده فهو بديع أزلا وأبدا.

(٢) البقرة : ١١٧.

(٣) ذكر شرح هذا الاسم فيما تقدم.

(٤) الروم : ١١.

وجاعل العين عينا والذات ذاتا ، ويصبح هذا على طريقة أهل السنة دون من خالفهم من أهل الأهواء والبدعة حيث قالوا : إن البديع : الّذي أبدع التصوير وأحسن التدبير ، ولم يخلق الأكوان خامدة مملة ، بل خلقها حافلة ببدائع المصنوعات وغرائب الفنون وعجيب الحوادث ، شيقة للمتفكرين ، كثيرة الدلالات والآيات للمتوسمين ، فسبحانه وتعالى لا نهاية لكماله ولا حدّ لجلاله ولا مثيل له ، وذاكره يكون من أهل البصيرة والفهم ، وتقضى حاجته ، ويأمن الصواعق ، الحوادث كانت فى العدم أعيانا وأشياء فسدوا على أنفسهم طريق التوحيد بهذه البدعة الشنعاء وليس هذا موضع بسط الكلام فيه.

ومن آداب من عرف هذا الاسم لله تعالى أن يجتنب البدعة ويلازم السنة ، والبدعة ما ليس لها أصل فى كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا إجماع الأمة ، قال الله سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) وقال تعالى: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) (٢) وقال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٣) وقال أبو عثمان الحيرى : من أمر السنة على نفسه قولا وفعلا نطق بالحكمة ، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب سنتى فقد أحبنى ، ومن أحبنى كان معى فى الجنة» وقال سهل بن عبد الله : أصول مذهبنا ثلاثة : الاقتداء بالنبىصلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية فى جميع الأعمال ، وقول الله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) (٤) جاء فى التفسير الحكمة : السنة ، وقال تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٥) جاء فى التفسير أنه

__________________

(١) النور : ٦٣.

(٢) النور : ٥٤.

(٣) الأحزاب : ٢١.

(٤) آل عمران : ٤٨.

(٥) فاطر : ١٠.

الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفى خبر مسند : «عمل قليل فى سنة خير من اجتهاد فى بدعة».

وقيل : رئى عمرو بن الليث فى المنام بعد موته فقيل له : ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لى ، فقيل : بما ذا؟ فقال : صعدت ذروة جبل يوما وفى سفح الجبل جنودى فأعجبنى كثرتهم ، فتمنيت أنى حضرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعنته ، فشكر الله لى ذلك فغفر لى.

ويحكى عن أحمد بن حنبل رحمه‌الله تعالى أنه قال : كنت يوما مع جماعة يتجردون ويدخلون الماء ، فاستعملت خبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر» ولم أتجرد ، فرأيت تلك الليلة فى المنام قائلا يقول لى : أبشر يا أحمد فإن الله قد غفر لك باستعمال السنة ، فقلت : من أنت؟ فقال : جبريل ، وقد جعلك لله تعالى إماما يقتدى بك.

ويحكى عن بعضهم أنه قال رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام فقلت له : يا رسول الله اشفع لى ، قال : قد شفعت لك ، فقلت متى؟ فقال : اليوم الّذي أحييت فيه سنة من سنتى وقد أميتت.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من خالف الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».

وقال ابن عباس : ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ، حتى تحيا البدعة ، وتموت السنة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مشى إلى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام».

وأوحى الله لموسى عليه‌السلام : لا تجالس أهل الأهواء فيحدثوا فى قلبك ما لم يكن.

وقال سهل بن عبد الله : من داهن مبتدعا سلبه الله تعالى حلاوة السنن ، ومن ضحك إلى مبتدع نزع الله تعالى نور الإيمان من قلبه.

سمعت الشيخ أبا على الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، يقول : من استهان بأدب من آداب الإسلام عوقب بحرمان السنة ، ومن ترك سنة عوقب بحرمان الفريضة ، ومن استهان بالفرائض قيض الله له مبتدعا يذكر عنده باطلا فيوقع فى قلبه شبهة.

واعلم أن بركات السنة توصل العبد إلى حقائق القربة وتجعله أهلا لخصائص الرأفة ، قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) وفقنا الله وإياكم لمتابعة السنة وعصمنا عن اتباع البدعة.

* * *

باب

فى معنى اسميه تعالى

٩٢ ، ٩٣ ـ الباقى (١) الوارث (٢)

جل جلاله

الباقى اسم من أسمائه تعالى ، والباقى صفة من صفات ذاته ، وهو تعالى باق ببقاء هو قائم به ، وبقاؤه باق لنفسه ، لأنه فى نفسه باق ، وصفات ذاته باقية ببقائه تعالى ، وحقيقة الباقى من له البقاء ، وإنما جاز أن يكون بقاؤه بقاء لصفاته ولم يجز أن يكون بقاء الجوهر بقاء لأعراضه لأن الجوهر غير العرض ، ولا يجوز أن يكون الباقى باقيا ببقاء هو غيره.

ومما يجب أن تشتد به العناية أن يتحقق العبد أن المخلوق لا يجوز أن يكون متصفا بصفات ذات الحق سبحانه ، فلا يجوز أن يكون العبد بعلم الله عالما ولا يجوز أن يكون العبد بقدرة الله قادرا ، ولا أن يكون سميعا وبصيرا

__________________

(١) الباقى : هو الّذي لا يموت ولا يفنى ، فهو واجب الوجود لذاته ، ولا حياة لغيره إلا به ، فهو غير قابل للعدم بوجه من الوجوه ، فهو الّذي لا ابتداء لوجوده ولا نهاية لوجوده ، فهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء.

(٢) الوارث : هو الّذي يرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك ، وذلك هو الله سبحانه ، إذ هو الباقى بعد فناء خلقه ، وإليه مرجع كل شيء ومصيره ، وهو القائل إذا ذاك : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) وهو المجيب : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وقيل : الوارث الّذي تسربل بالصمدية بلا فناء ، وتفرد بالأحدية بلا انتفاء ، وقيل : الوارث الّذي يرث لا بتوريث أحد ، الباقى الّذي ليس لملكه أمد.

بسمعه وبصره تعالى ، ولا أن يكون حيا بحياته ولا باقيا ببقائه تعالى ، لأن الصفة القديمة لا يجوز قيامها بالذات الحادثة ، كما لا يجوز قيام الصفة الحادثة بالذات القديمة ، وحفظ هذا الباب أصل التوحيد ، فإن كثيرا ممن لا تحصيل له ولا تيقن زعموا أن العبد يصير باقيا ببقاء الحق ، وأنه يكون سميعا بسمعه ، بصيرا ببصره ، حيا بحياته ، وهذا خروج عن الدين وانسلاخ عن الإسلام بالكلية ، وهذه البدعة أشنع من قول النصارى حيث قالوا : إن الكلمة القديمة اتحدت بذات عيسى ، وهذه البدعة توازى قول الحلولية حيث جوزوا على ذات الحق سبحانه الحلول فى الأشخاص المحدثة ، كذلك هؤلاء جوزوا قيام الصفة القديمة بالذات المحدثة ، وربما تعلقوا فى نصرة هذه المقالة الشنيعة بما روى فى الخبر عن الله تعالى إذ قال : «فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ، فبى يسمع وبى يبصر» ولا احتجاج لهم فى ظاهره ، لأنه ليس فيه أنه يسمع بسمعى ويبصر ببصرى ، بل قال : بى يسمع وبى يبصر ، فالاتفاق أن ذاته لا يجوز أن تكون لأحد سمعا ولا بصرا ، فإذا تركوا الظاهر لم يبق إلا التأويل ، فالواجب الاشتغال بالتأويل الصحيح دون الباطل.

وإنما حملنا على المبالغة فى شرح هذا الفصل ما رأينا من الواجب علينا فى نصرة الدين ، ونحن فى زمان يناظرنا فيه من ليس له تحقيق ولا تحصيل ، ولما كثر من اغترار أهل الغباوة بما قد موهوا من التلبيس وغلب عليهم من قلة التحقيق وشدة التهويس ، حتى أن منهم من يقول : إن معرفة العبد ليست بمخلوقة ، وروحه ليست بمخلوقة ، وإنما أصل هذه البدع الفاسدة والأقاويل الركيكة الباطلة قول من قال : لفظ العبد وقراءاته القرآن ليس بمخلوق ، وإنما جوز هؤلاء الحشوية أن يكون قرآن قديم يوجد على لسان العبد ويسمع من

المخلوق ، وارتقى هؤلاء المهوسون وتوهموا أنهم زودوا على إخوانهم فى التدقيق وقالوا : إن العبد يكون باقيا ببقائه سبحانه ، سميعا بصيرا بسمعه وبصره.

قال النصرآذباي ، رحمه‌الله تعالى : الحق سبحانه وتعالى باق ببقائه ، والعبد باق بإبقائه.

ولقد حقق ، رحمه‌الله تعالى ، وحصل وأخبر عن نكتة المسألة وفصل.

وأما الوارث فهو الباقى بعد فناء الخلق ، يفنى الأولين والآخرين من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين ثم يقول : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ويجيب نفسه بقوله : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١).

__________________

(١) غافر : ١٦.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٩٤ ـ الرشيد (١)

جل جلاله

الرشيد من أسمائه تعالى ، ورد به الخبر الوارد فى تفصيل أسمائه ، ومعناه المرشد ، وإرشاد الله تعالى لعبده : هدايته لقلبه إلى معرفته ، هذا هو الإرشاد الأكبر الّذي خص به أولياءه من المؤمنين ، قال الله سبحانه : (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) وبعد هذا إرشاده لعباده فى الآخرة إلى الجنة ، ثم إرشاده لهم اليوم إلى اختيار طريق طاعته والتوقى عن مخالفته ، ثم إرشاده إياهم لما فيه صلاح أحوالهم من انتظام أسباب معايشهم ، قال الله سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٣).

وأمارة من يرشده الحق لإصلاح نفسه أن يلهمه حسن التوكل عليه وتفويض أموره بالكلية إليه واستجارته إياه فى كل خطب واستخارته فى كل شغل ، كما أخبر سبحانه عن موسى ، عليه‌السلام ، حيث قال : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ

__________________

(١) الرشيد : هو الّذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها عن سنن السداد من غير إشارة مشير وتسديد مسدد ، وإرشاد مرشد ، وقيل : الرشيد الّذي أسعد من شاء بإرشاده ، وأشقى من شاء بإبعاده ، وقيل : الرشيد الذي لا يوجد سهو فى تدبيره ، ولا لهو فى تقديره.

(٢) البقرة : ١٤٢.

(٣) الشمس : ٧ ، ٨.

عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (١) ، هكذا ينبغى إذا أصبح ، أن يتوكل على ربه فلا يستقبله شغل إلا فزع إليه ونظر إلى ما يرد على قلبه من الإشارة من قبله فتندفع عنه الأشغال ويكفيه الله تعالى جميع الأمور ، فإن رجع بعد ما أرشده الله تعالى إلى هذا عاتبه الله تعالى بما يعلم أنه كان منه سوء أدب حتى يعود إلى سكونه وترك اختياره واحتياله.

يحكى عن بعضهم أنه قال : كنت مع إبراهيم بن أدهم فى السفر وقد أصابنا الجوع فأخرج كتابا كان معه بعد ما نزلنا فى مسجد فقال لى : مر وارهن هذا الكتاب وجئنا بشيء نأكله ، فقد مسنا الجوع ، قال : فخرجت فاستقبلنى رجل بين يديه بغلة موقرة ، وكان يقول الّذي أطلبه رجل أشقر طويل يقال له : إبراهيم ابن أدهم ، فقلت له : إيش تريد منه؟ فقال : أنا غلام أبيه ، وهذه الأشياء له ، فدللته عليه ، قال : فدخل المسجد وأكب على رأسه ويديه يقبلهما ، فقال له : إبراهيم : من أنت؟ فقال : غلام أبيك ، وقد مات أبوك ومعى أربعون ألف دينار ميراثك من أبيك ، وأنا عبدك فمر بما شئت ، فقال إبراهيم : إن كنت صادقا فأنت حر لوجه الله تعالى ، والّذي معك كله وهبته لك ، انصرف عنى ، فلما خرج قال : يا رب ، كلمتك فى رغيف فصببت عليّ الدنيا ، فو حقك لئن أمتنى من الجوع لا تعرضت بعد لطلب شيء أبدا.

انظر كيف أرشده الله تعالى بحسن الإشارة على قلبه لما رأى فى إتمام ما قصده من طريق زهده.

ومن إرشاد الله تعالى للعبد تثبيته إياه على طريق الملازمة والاستقامة حتى لا ينقص عزمه ولا يفسخ مع الله عزوجل عقده.

__________________

(١) القصص : ٢٢.

يحكى عن بعضهم أنه قال : صحبت إبراهيم بن أدهم فى طريق مكة وتشارطنا أن لا ننظر لأحد إلا لله تعالى ، فدخلنا الطواف يوما وكان فى الطواف غلام فتن الناس بحسن وجهه ، فإذا إبراهيم بن أدهم يديم النظر إليه ، فقلت له : أيها الشيخ أليس قد تشارطنا أن لا ننظر إلا لله تعالى؟ قال : نعم ، فقلت : فلم ذا تكثر النظر إلى هذا الصبى الّذي قد فتن الناس بوجهه؟ فقال : إنه ابنى ، فقلت : لم لا تتعرف إليه؟ فقال : شيء تركته لله لا أعود إليه ، مر أنت وسلم عليه ، ولا تخبره بشأنى ، ولا تدله على مكانى ، قال : فمررت وسلمت عليه وقلت له : من أنت؟ فقال : أنا ابن إبراهيم بن أدهم ، قيل لى : إن أبى يحج كل سنة ، فجئت لعلى أراه ، قال : فرجعت إلى إبراهيم فسمعته ينشد :

هجرت الخلق فى رضاكا

وأيتمت الوليد لكى أراكا

فلو قطعتنى فى الحب إربا

لما حن الفؤاد إلى سواكا

فصل : هو الّذي أرشد النفوس والقلوب والأرواح والأسرار :

وأنه سبحانه أرشد نفوس الزاهدين إلى طريق طاعته ، وقلوب العارفين إلى سبيل معرفته ، وأرواح الواجدين إلى حقيقة صحبته ، وأسرار الموحدين إلى حقيقة تطلع قربته ، لا حرمنا الله ما رزقهم ووفقنا لما وفقهم بمنه ولطف صنعه.

باب

فى معنى اسمه تعالى

٩٥ ـ الصبور (١)

جل جلاله (٢)

الصبور مما ورد به الخبر فى أسمائه تعالى ، فإن صح ورود الرواية به فمعناه الحليم فى وصفه ، لأن معنى الصبر فى اللغة الحبس ، يقال : قتل فلان صبرا ، وسمى شهر الصوم شهر الصبر أى شهر الحبس ، والصابر يكون على وجهين : صابر عن شيء ، وصابر على شيء ، وكل واحد منهما يحبس نفسه على ما يصبر عليه ، ويحبس نفسه عما يصبر عنه.

وفى صفة القديم سبحانه لا يصح حبس النفس ، ولكن يكون بمعنى تأخير العقوبة عن العباد ، وقد مضى طرف من الكلام فى حلمه وتأخيره العقوبة عن العباد.

__________________

(١) الصبور : هو الّذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه ، بل ينزل الأمور بقدر معلوم ، ويجريها على سنن محدودة ، لا يؤخرها عن آجالها المقدرة لها تأخير متكاسل ، ولا يقدمها على أوقاتها تقديم مستعجل ، بل يودع كل شيء فى أوانه على الوجه الّذي يجب أن يكون ، وكما ينبغى ، وكل ذلك من غير مقاساة داع على مضادة الإرادة ، وقيل : الصبور : الّذي لا تزعجه كثرة المعاصى إلى كثرة العقوبة ، وقيل : الصبور الّذي إذا قابلته بالجفاء قابلك بالعطية والوفاء ، وإذا أعرضت عنه بالعصيان أقبل إليك بالغفران.

(٢) يلاحظ أن المؤلف رضى الله عنه قدّم فى أسمائه الحسنى البعض وأخّر البعض ، وزاد بعض الأسماء ، ولم يذكر بعض الأسماء ، وقد استدركنا عليه ما فاته فشرحناها شرحا موجزا فى الهامش.

فأما رتبة العبادات فى الصبر فعلى أقسام :

أولها : التصبر وهو تكلف الصبر ومقاساة الشدة فيه ، وبعد ذلك الصبر وهو سهولة تحمل ما يستثقله غيره من فنون القضاء وضروب البلاء ، وبعد ذلك الاصطبار ، وهو النهاية فى الباب ، ويكون ذلك بأن يألف الصبر ، فلا يجد مشقة بل يجد روحا وراحة.

قال الشاعر :

تعودت حسن الصبر حتى ألفته

وأسلمنى حسن العزاء إلى الصبر

وأنشدوا :

صابر الصبر فاستغاث به الصبر

فصاح المحب يا صبر صبرا

سمعت أبا على الدقاق ، رحمه‌الله تعالى ، يقول : إن محنة أيوب عليه‌السلام ، إنما كانت من عجز الصبر عن مقاومته ، ومثل هذا إنما يقال على سبيل ضرب المثل والإخبار عن نهاية حال العبد فى الصبر ، وإلا فالصبر صفة ولا توصف بالعجز والقدرة ، وقد قيل : المحنة إذا دامت ألفت.

سمعت الدقاق يقول : ليس الصبر أن لا تذكر البلاء لفظا ونطقا ، إنما الصبر أن لا تعترض على قدرته استقباحا لذلك ونكرا ، وشاهده ما أخبر الله تعالى عن أيوب بقوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ثم قال تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) (١) وكان يقول ، رحمه‌الله تعالى : علم الله ضعف هذه الأمة وأنهم لا يطيقون تحمل البلاء فجعل قصة أيوب سلوة لكل ممتحن يخبر عن شدة محنته ، ومقاساة صبره.

__________________

(١) ص : ٤٤.

وقال جماعة : من شرط الصبر أن لا تتنفس بخلاف الإذن تحت جريان حكمه ، وأنشدوا :

إن كنت للسقم أهلا

فأنت للشكر أهلا

عذب فلم يبق قلب

يقول للسقم مهلا

قالوا : حقيقة الصبر ترجيع البلاء من غير تعبيس.

وقيل : إن أيوب ، عليه‌السلام ، أنّ يوما أنّة فأوحى الله إليه : يا أيوب شكوتنى! فقال : إلهى ، إلى من ولم تسمع أنّتي؟ فقال : شكوتنى إلى أعدى عدو لك ، وهى نفسك.

سمعت الدقاق يقول فى آخر عمره ، وقد قربت وفاته ، وهو فى ألم شديد : من علامات التأييد حفظ التوحيد فى أوقات المحنة ، ثم قال : معنى هذا الحديث أن يقطعك إربا إربا وأنت ساكن تحت جريان حكمه ، راض بنفوذ تقديره فيك وأمره.

وقيل : ينبغى أن يكون الصابر فى حكمه كالميت بين يدى الغاسل ، يقلبه كيف يشاء.

وقيل : فرق ما بين الحليم وبين الصبور فى صفة الخلق أن الحليم من يتجاوز عن غيره بلا تكلف ولا مقاساة مشقة ، والصبور هو الّذي يراود نفسه عن أخلاقها فيحتمل كرهها.

يحكى عن الأحنف بن قيس أنه قال : أنا صبور ولست بحليم ، وكان يضرب به المثل فى الحلم.

حكى أنه كان يأتى من موضع وإنسان يتسفه عليه وهو يصبر ، فلما قارب

محلته وقف وقال لذلك الرجل : إن كان بقى فى قلبك شيء فقله فإنى أكره أن يسمع شبان جيرتى ما تقول فيقابلوك بما تكره.

وأما ما يجب على العبد من الصبر فهو الصبر على ما أمر الله تعالى به من أوامره ، والصبر عما تنهى عنه محارمه ، والسكون تحت ما يجرى قضاؤه به وقدره.

وفقنا الله تعالى لذلك بمنه ورحمته

إنه على كل شيء قدير

وصلى الله على سيدنا محمد نبيه

وعلى آله وصحبه وعترته وسلم تسليما

* * *

* * * تم بعون الله تعالى هذا المؤلف الشريف ، والّذي بذلنا فى تحقيقه جهد المقل الضعيف ، وليس لنا إلا أن نستعير بيت الشاعر القديم :

ويا ملوك القوافى استميحكموا

عفو الكرام فهذا كل مجهودى

اللهم واجعلنا من الذين يقولون فيفعلون ، ويفعلون فيخلصون ، ويخلصون فيقبلون.

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (١٨١) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

المحققان

فهرس الموضوعات

فهرسة موضوعات كتاب أسماء الله الحسنى للإمام القشيرى

مقدمة التحقيق............................................................. ٧

التعريف بالإمام القشيرى..................................................... ٩

شرح أسماء الله الحسنى....................................................... ٥١

ذكر الله تعالى................................................................. ٥١

معنى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)....................... ٥٩

من عرف اسم ربه نسى اسم نفسه............................................. ٦١

ولله الأسماء الحسنى........................................................... ٦١

علم الخالق سبحانه أنه ليس لك أسامى مرضية فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)    ٦٢

أسماء العبيد الحسنى........................................................... ٦٣

إما شاكرا وإما كفورا.......................................................... ٦٣

معنى قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ)......................... ٦٥

معنى قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها)...................... ٦٧

معنى قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ)............... ٧٢

فضل الله على أهل التوحيد................................................... ٧٦

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنفى التشبيه............................................. ٧٦

من حق الله تعالى على العباد.................................................. ٧٨

معنى قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).................... ٧٩

كيف تعلم ربك............................................................. ٩١

تبارك من البركة وكيفية التبرك بها............................................... ٩٢

الفضل والإحسان من صاحب الفضل والإحسان................................. ٩٤

معنى قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)................................ ٩٥

تقديس الأعمال عن الرياء................................................... ١٠٤

من أراد أن يصفو تسبيحه................................................... ١٠٥

أنواع من التسبيح........................................................... ١٠٦

معنى قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)............................ ١٠٨

بين البدايات والنهايات..................................................... ١١٢

شرط وفاء ملازمة الربع بعد الفراق............................................ ١١٤

١ ـ اسمه تعالى «الله» جل جلاله............................................. ١١٥

القول فى اشتقاق هذه التسمية............................................... ١١٥

من قال : إن لفظ الله مشتق من أله.......................................... ١١٦

من قال إن اشتقاق اسم الله من الوله والرد عليه................................ ١٢٠

من قال : إن لفظ الله مشتق من (لاه)........................................ ١٢١

من قال إن معنى لاه : علا والرد عليه......................................... ١٢٣

من قال : إن لفظ الله مشتق من أله ، أى بالمكان والرد عليه..................... ١٢٤

من قال : إن لفظ الله مشتق من أله إذا تحير والرد عليه.......................... ١٢٥

من قال إن لفظ الإله أنه المعهود والرد عليه.................................... ١٢٦

القول الصحيح فى معنى اسمه تعالى (الله) جل جلاله............................. ١٢٨

فصل آخر فى معنى «الله»................................................ ١٣٠

أقوال شيوخ الصوفية فى معنى الاسم الجليل (الله)............................... ١٣٠

معنى «لا إله إلا الله» وما يتعلق به......................................... ١٣٢

قول المشايخ فى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).................................. ١٣٤

لا إله إلا الله مفتاح الجنة.................................................... ١٣٥

معنى «هو»............................................................. ١٣٦

الله كاشف كل شيء بأسمائه تعالى............................................ ١٣٧

٢ ـ معنى اسمه تعالى «الملك» جل جلاله..................................... ١٣٨

فصل فيمن تحقق بملك سيده جل جلاله...................................... ١٤١

فصل : من عرف المالك أعتق من هواه........................................ ١٤١

فصل : معرفة المتوحد بالملك تنفى التذلل للمخلوق............................. ١٤٢

فصل : من آداب من عرف أن الملك لله تعالى.................................. ١٤٣

٣ ـ معنى اسمه تعالى «القدوس» جل جلاله................................... ١٤٥

فصل : آداب من عرف اسمه تعالى القدوس.................................... ١٤٦

فصل : العابدون والزاهدون والحامدون........................................ ١٤٧

٤ ـ معنى اسمه تعالى «السلام» جل جلاله.................................... ١٤٨

فصل : آداب من تحقق باسمه تعالى السلام.................................... ١٥٠

٥ ـ معنى اسمه تعالى «المؤمن» جل جلاله.................................... ١٥٣

فصل : إجارة الله لعبده وأمانه................................................ ١٥٥

فصل : مما يؤمن الله تعالى منه................................................ ١٥٧

٦ ـ معنى اسمه تعالى «المهيمن» جل جلاله................................... ١٥٨

٧ ـ معنى اسمه تعالى «العزيز» جل جلاله..................................... ١٦٢

فصل : آداب من عرف أنه العزيز جل جلاله.................................. ١٦٥

فصل : العز فى طاعة الله تعالى............................................... ١٦٦

٨ ـ معنى اسمه تعالى «الجبار» جل جلاله..................................... ١٦٨

فصل : آداب من عرف اسمه تعالى الجبار...................................... ١٦٩

فصل : فوض أمورك إلى الجبار............................................... ١٧٠

فصل : اترك ما تهواه وانقد إلى حكم مولاك.................................... ١٧٢

٩ ـ معنى اسمه تعالى «المتكبر» جل جلاله.................................... ١٧٣

فصل : الصدق فى المحبة.................................................... ١٧٥

فصل : الإخلاص فى الود والصدق فى الحب................................... ١٧٦

١٠ ـ معنى اسمه تعالى «الخالق» جل جلاله................................... ١٧٧

فصل : من شرط الاعتقاد الجزم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأثر ذلك........... ١٧٩

فصل : آداب من عرف أنه تعالى المتفرد بالإيجاد................................ ١٨١

١١ ، ١٢ ـ معنى اسميه تعالى «البارئ المصور» جل جلاله.................... ١٨٢

فصل : خلق الله الإنسان على صورة لم يشاركه فيها غيره........................ ١٨٥

فصل : بين جمال الخلق وحسن الخلق......................................... ١٨٦

١٣ ـ معنى اسمه تعالى «الغفار» جل جلاله.................................... ١٨٩

١٤ ـ معنى اسمه تعالى «القهار» جل جلاله................................... ١٩٣

فصل : قهر نفوس العابدين وقلوب العارفين وأرواح المحبين........................ ١٩٤

فصل : الفرق بين العابد والعارف............................................. ١٩٤

من أنواع القهر............................................................. ١٩٥

فصل : قهر العباد بالموت................................................... ١٩٦

١٥ ـ معنى اسمه تعالى «الوهاب» جل جلاله.................................. ١٩٨

فصل : ما يجب على من تحقق أنه تعالى الوهاب............................... ٢٠٠

١٦ ـ معنى اسمه تعالى «الرزاق» جل جلاله................................... ٢٠١

فصل : ما خص به الله تعالى الأغنياء والفقراء.................................. ٢٠٣

فصل : من طلب من الله الحوائج العظيمة...................................... ٢٠٤

فصل : رزق الأرواح والسرائر................................................. ٢٠٥

١٧ ـ معنى اسمه تعالى «الفتاح» جل جلاله................................... ٢٠٧

فصل : ما يفتحه الله تعالى لخلقه............................................. ٢٠٩

فصل : من آداب من علم أنه تعالى الفتاح.................................... ٢١٠

١٨ ـ معنى اسمه تعالى «العليم» جل جلاله................................... ٢١٢

فصل : آداب من علم أنه تعالى عالم الخفيات.................................. ٢١٣

فصل : ومن آداب من علمه تعالى عليما...................................... ٢١٤

١٩ ، ٢٠ ـ معنى اسميه تعالى «القابض الباسط» جل جلاله.................... ٢١٦

فصل : كيف يكون القبض والبسط.......................................... ٢١٧

فصل : الكل لله ومن الله.................................................... ٢١٩

فصل : بين القبض والبسط................................................. ٢١٩

٢١ ، ٢٢ ـ معنى اسميه تعالى «الخافض الرافع» جل جلاله.................... ٢٢٠

فصل : تذلل فى دنياك ترفع فى عقباك......................................... ٢٢٢

٢٣ ، ٢٤ ـ معنى اسميه تعالى «المعز المذل» جل جلاله...................... ٢٢٣

فصل : عز العبد وذله منه تعالى.............................................. ٢٢٥

فصل : من هو العزيز ومن هو الذليل......................................... ٢٢٦

٢٥ ، ٢٦ ـ معنى اسميه تعالى «السميع البصير» جل جلاله.................... ٢٢٧

فصل : من ألطاف الله تعالى على عبده الّذي يحفظ سمعه وبصره.................. ٢٢٩

٢٧ ، ٢٨ ـ معنى اسميه تعالى «الحكم العدل» جل جلاله..................... ٢٣١

فصل : لا تبديل لحكم الله تعالى............................................. ٢٣٢

٢٩ ـ معنى اسمه تعالى «اللطيف» جل جلاله.................................. ٢٣٧

فصل : من معانى اللطف.................................................... ٢٣٨

فصل : من لطفه تعالى بعباده................................................ ٢٣٨

٣٠ ـ معنى اسمه تعالى «الخبير» جل جلاله................................... ٢٤١

فصل : من علم أن الله تعالى خبير بأحواله..................................... ٢٤٣

٣١ ـ معنى اسمه تعالى «الحليم» جل جلاله................................... ٢٤٤

يلذ حلمه لرجاء عفوه....................................................... ٢٤٦

٣٢ ـ معنى اسمه تعالى «العظيم» جل جلاله................................... ٢٤٧

٣٣ ، ٣٤ ـ معنى اسميه تعالى «الغفور الشكور» جل جلاله.................... ٢٥٠

فصل : من آداب من علم أنه تعالى شكور.................................... ٢٥٢

٣٥ ، ٣٦ ـ معنى اسميه تعالى «العلى الكبير» جل جلاله....................... ٢٥٣

فصل : حقيقة التواضع...................................................... ٢٥٥

فصل : ما تفعل إذا قيل لك : اتق الله........................................ ٢٥٥

٣٧ ـ معنى اسمه تعالى «الحفيظ» جل جلاله.................................. ٢٥٦

٣٨ ـ معنى اسمه تعالى «المقيت» جل جلاله.................................. ٢٥٩

فصل : اختلاف الأقوات.................................................... ٢٦١

٣٩ ـ معنى اسمه تعالى «الحسيب» جل جلاله................................ ٢٦٢

فصل : إذا حاسبك ربك فثق بفضله......................................... ٢٦٥

٤٠ ، ٤١ ـ معنى اسميه تعالى «الجليل الجميل» جل جلاله.................... ٢٦٦

فصل : اختصاص الله سبحانه وتعالى الأبرار................................... ٢٦٧

فصل : قلوب العابدين وأسرار العارفين........................................ ٢٦٨

٤٢ ـ معنى اسمه تعالى «الكريم» جل جلاله................................... ٢٦٩

٤٣ ـ معنى اسمه تعالى «الرقيب» جل جلاله.................................. ٢٧٣

٤٤ ـ معنى اسمه تعالى «المجيب» جل جلاله................................. ٢٧٧

فصل : الله سبحانه هو الكافى عبيده......................................... ٢٧٨

فصل : اجعل قصدك الأصلي إلى الله تعالى.................................... ٢٧٩

٤٥ ـ معنى اسمه تعالى «الواسع» جل جلاله................................... ٢٨٠

فصل : أحسن كما أحسن الله إليك.......................................... ٢٨٢

٤٦ ـ معنى اسمه تعالى «الحكيم» جل جلاله.................................. ٢٨٣

فصل : الاعتبار بسابق الحكم وما قسمه تعالى................................. ٢٨٤

فصل : العبرة بالخواتيم...................................................... ٢٨٥

فصل : إذا أراد الله لك السعادة فأنت سعيد.................................. ٢٨٥

٤٧ ـ معنى اسمه تعالى «الودود» جل جلاله................................... ٢٨٧

٤٨ ـ معنى اسمه تعالى «المجيد» جل جلاله.................................. ٢٩١

٤٩ ـ معنى اسمه تعالى «الباعث» جل جلاله.................................. ٢٩٤

فصل : إذا غلب الرجاء على العبد........................................... ٢٩٦

فصل : معنى الباعث فى وصفه تعالى.......................................... ٢٩٦

٥٠ ـ معنى اسمه تعالى «الشهيد» جل جلاله.................................. ٢٩٧

٥١ ، ٥٢ ـ معنى اسميه تعالى «الحق المبين» جل جلاله...................... ٣٠٠

فصل : اسمه الحق أكثر ما يجرى على لسان السادة الصوفية...................... ٣٠١

فصل : حق الحق أحق...................................................... ٣٠٢

٥٣ ، ٥٤ ـ معنى اسميه تعالى «الوكيل القوى» جل جلاله...................... ٣٠٤

فصل : حسبى الله ونعم الوكيل............................................... ٣٠٥

فصل : من عرف أن الله وكيله............................................... ٣٠٥

٥٥ ـ معنى اسمه تعالى «المتين» جل جلاله................................... ٣٠٨

٥٦ ـ معنى اسمه تعالى «الولى» جل جلاله.................................... ٣١١

فصل : من أمارات ولايته لعبده.............................................. ٣١٣

٥٧ ـ معنى اسمه تعالى «الحميد» جل جلاله.................................. ٣١٤

٥٨ ـ معنى اسمه تعالى «المحصى» جل جلاله................................ ٣١٦

فصل : من آداب من علم أنه تعالى المحصى.................................... ٣١٧

فصل : ما الّذي يجب أن تحصيه على نفسك.................................. ٣١٧

فصل : ما يحصيه تعالى على العبد............................................ ٣١٨

فصل : من علم أنه تعالى رقيب عليه......................................... ٣١٩

٥٩ ، ٦٠ ـ معنى اسميه تعالى «المبدئ المعيد» جل جلاله.................... ٣٢٠

فصل : هل للأوقات بدل................................................... ٣٢٢

فصل : أوقات تأسف العارفين............................................... ٣٢٣

٦١ ، ٦٢ ـ معنى اسميه تعالى «المحيى المميت» جل جلاله................... ٣٢٤

فصل : الإيمان والإسلام عند القوم........................................... ٣٢٦

فصل : علامات من ماتت نفسه............................................. ٣٢٦

٦٣ ، ٦٤ ـ معنى اسميه تعالى «الحى القيوم» جل جلاله....................... ٣٢٨

٦٥ ـ معنى اسمه تعالى «الواجد» جل جلاله................................... ٣٣٢

٦٦ ، ٦٧ ـ معنى اسميه تعالى «الواحد الأحد» جل جلاله..................... ٣٣٥

فصل : الفرق بين الواحد والأحد وتعريف التوحيد.............................. ٣٣٦

٦٨ ـ معنى اسمه تعالى «الصمد» جل جلاله.................................. ٣٣٨

٦٩ ، ٧٠ ـ معنى اسميه تعالى «القادر المقتدر» جل جلاله..................... ٣٤١

فصل : من عرف أنه تعالى كريم.............................................. ٣٤٢

فصل : من جميل صنع الله وكريم نظره تعالى.................................... ٣٤٢

٧١ ، ٧٢ ـ معنى اسميه تعالى «المقدم المؤخر» جل جلاله.................... ٣٤٤

فصل : الله أعلم بما قدم وأخر............................................... ٣٤٦

٧٣ : ٧٦ ـ معنى أسمائه تعالى «الأول والآخر والظاهر والباطن» جل جلاله        ٣٤٨

فصل : فائدة زائدة فى معانى تلك الأسماء...................................... ٣٥١

فصل : من آداب من عرف تلك الأسماء...................................... ٣٥٢

٧٧ ـ معنى اسمه تعالى «البر» جل جلاله...................................... ٣٥٣

فصل : البر بالشيوخ والأساتذة............................................... ٣٥٥

٧٨ ـ معنى اسمه تعالى «التواب» جل جلاله................................... ٣٥٦

٧٩ ـ معنى اسمه تعالى «المنتقم» جل جلاله.................................. ٣٦٠

٨٠ ـ معنى اسمه تعالى «العفو» جل جلاله.................................... ٣٦٣

٨١ ـ معنى اسمه تعالى «الرءوف» جل جلاله.................................. ٣٦٦

٨٢ ـ معنى اسميه تعالى «ذى الجلال والإكرام» جل جلاله..................... ٣٦٩

٨٣ ، ٨٤ ـ معنى اسميه تعالى «المقسط الجامع» جل جلاله................... ٣٧٢

فصل : لا راحة لمؤمن دون لقاء الله تعالى...................................... ٣٧٤

٨٥ ، ٨٦ ـ معنى اسميه تعالى «المغنى المانع» جل جلاله..................... ٣٧٦

فصل : لا يقع فى ملكه تعالى إلا ما أراده جل جلاله............................ ٣٧٨

٨٧ ، ٨٨ ـ معنى اسميه تعالى «الضار النافع» جل جلاله...................... ٣٧٩

٨٩ ـ معنى اسمه تعالى «النور» جل جلاله..................................... ٣٨٢

٩٠ ـ معنى اسمه تعالى «الهادى» جل جلاله.................................. ٣٨٥

٩١ ـ معنى اسمه تعالى «البديع» جل جلاله................................... ٣٨٨

٩٢ ، ٩٣ ـ معنى اسميه تعالى «الباقى الوارث» جل جلاله..................... ٣٩٢

٩٤ ـ معنى اسمه تعالى «الرشيد» جل جلاله................................... ٣٩٥

فصل : هو الّذي أرشد النفوس والقلوب والأرواح والأسرار....................... ٣٩٧

٩٥ ـ معنى اسمه تعالى «الصبور» جل جلاله.................................. ٣٩٨

الفهرسة................................................................... ٤٠٣

شرح أسماء الله الحسنى

المؤلف: زين الدين أبي القاسم عبدالكريم ابن هوازن بن عبدالملك ابن طلحة بن محمد النيسابوري القشيري
الصفحات: 412
  • تصدير بقلم المستشار سماحة السيد على الهاشمى 5
  • مقدمة المحقق 7
  • التعريف بالمؤلف الإمام القشيرى 9
  • القشيرى وأولياء الله الصالحون 12
  • تعريف بأسمائه تعالى فى القرآن والسنة 17
  • أسماؤه تعالى الواردة فى سور القرآن الكريم 19
  • ما ورد منها فى السنة مما لم يرد فى القرآن الكريم 21
  • من أسماء الله الحسنى ما لا يطلق إلا مقترنا بمقابله 22
  • شرح أسماء الله الحسنى فى إيجاز 23
  • أبيات من قصيدة للأمير أحمد شرف الدين أمير كوكبان فى أسماء الله الحسنى 28
  • جزء من القصيدة النونية المختص ببعض أسماء الله الحسنى 29
  • قول الإمام البونى عن علم الأسماء الحسنى وأسراره وخواص تأثيراتها 30
  • مبحث فى الاسم المفرد (الله) تعالى 31
  • توحيد الله أولا 31
  • من خواص الاسم (الله) تعالى 33
  • معانى أحرف اسم (الله) تعالى 34
  • الاسم الأعظم للإمام الغزالى 35
  • الاسم الأعظم للإمام السيوطى 42
  • فهرس بأهم التعليقات التى وردت بالكتاب
  • ذكر الله تعالى 51
  • الدعاء ومعناه 79
  • حقيقة الاسم والمسمى 95
  • مقدمة التحقيق 7
  • التعريف بالإمام القشيرى 9
  • شرح أسماء الله الحسنى 51
  • ذكر الله تعالى 51
  • معنى قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) 59
  • من عرف اسم ربه نسى اسم نفسه 61
  • ولله الأسماء الحسنى 61
  • علم الخالق سبحانه أنه ليس لك أسامى مرضية فقال : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)    62
  • أسماء العبيد الحسنى 63
  • إما شاكرا وإما كفورا 63
  • معنى قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) 65
  • معنى قوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) 67
  • معنى قوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ) 72
  • فضل الله على أهل التوحيد 76
  • (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) تنفى التشبيه 76
  • من حق الله تعالى على العباد 78
  • معنى قوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) 79
  • كيف تعلم ربك 91
  • تبارك من البركة وكيفية التبرك بها 92
  • الفضل والإحسان من صاحب الفضل والإحسان 94
  • معنى قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) 95
  • تقديس الأعمال عن الرياء 104
  • من أراد أن يصفو تسبيحه 105
  • أنواع من التسبيح 106
  • معنى قوله تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) 108
  • بين البدايات والنهايات 112
  • شرط وفاء ملازمة الربع بعد الفراق 114
  • 1 ـ اسمه تعالى «الله» جل جلاله 115
  • القول فى اشتقاق هذه التسمية 115
  • من قال : إن لفظ الله مشتق من أله 116
  • من قال إن اشتقاق اسم الله من الوله والرد عليه 120
  • من قال : إن لفظ الله مشتق من (لاه) 121
  • من قال إن معنى لاه : علا والرد عليه 123
  • من قال : إن لفظ الله مشتق من أله ، أى بالمكان والرد عليه 124
  • من قال : إن لفظ الله مشتق من أله إذا تحير والرد عليه 125
  • من قال إن لفظ الإله أنه المعهود والرد عليه 126
  • القول الصحيح فى معنى اسمه تعالى (الله) جل جلاله 128
  • فصل آخر فى معنى «الله» 130
  • أقوال شيوخ الصوفية فى معنى الاسم الجليل (الله) 130
  • معنى «لا إله إلا الله» وما يتعلق به 132
  • قول المشايخ فى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) 134
  • لا إله إلا الله مفتاح الجنة 135
  • معنى «هو» 136
  • الله كاشف كل شيء بأسمائه تعالى 137
  • 2 ـ معنى اسمه تعالى «الملك» جل جلاله 138
  • فصل فيمن تحقق بملك سيده جل جلاله 141
  • فصل : من عرف المالك أعتق من هواه 141
  • فصل : معرفة المتوحد بالملك تنفى التذلل للمخلوق 142
  • فصل : من آداب من عرف أن الملك لله تعالى 143
  • 3 ـ معنى اسمه تعالى «القدوس» جل جلاله 145
  • فصل : آداب من عرف اسمه تعالى القدوس 146
  • فصل : العابدون والزاهدون والحامدون 147
  • 4 ـ معنى اسمه تعالى «السلام» جل جلاله 148
  • فصل : آداب من تحقق باسمه تعالى السلام 150
  • 5 ـ معنى اسمه تعالى «المؤمن» جل جلاله 153
  • فصل : إجارة الله لعبده وأمانه 155
  • فصل : مما يؤمن الله تعالى منه 157
  • 6 ـ معنى اسمه تعالى «المهيمن» جل جلاله 158
  • 7 ـ معنى اسمه تعالى «العزيز» جل جلاله 162
  • فصل : آداب من عرف أنه العزيز جل جلاله 165
  • فصل : العز فى طاعة الله تعالى 166
  • 8 ـ معنى اسمه تعالى «الجبار» جل جلاله 168
  • فصل : آداب من عرف اسمه تعالى الجبار 169
  • فصل : فوض أمورك إلى الجبار 170
  • فصل : اترك ما تهواه وانقد إلى حكم مولاك 172
  • 9 ـ معنى اسمه تعالى «المتكبر» جل جلاله 173
  • فصل : الصدق فى المحبة 175
  • فصل : الإخلاص فى الود والصدق فى الحب 176
  • 10 ـ معنى اسمه تعالى «الخالق» جل جلاله 177
  • فصل : من شرط الاعتقاد الجزم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأثر ذلك 179
  • فصل : آداب من عرف أنه تعالى المتفرد بالإيجاد 181
  • 11 ، 12 ـ معنى اسميه تعالى «البارئ المصور» جل جلاله 182
  • فصل : خلق الله الإنسان على صورة لم يشاركه فيها غيره 185
  • فصل : بين جمال الخلق وحسن الخلق 186
  • 13 ـ معنى اسمه تعالى «الغفار» جل جلاله 189
  • 14 ـ معنى اسمه تعالى «القهار» جل جلاله 193
  • فصل : قهر نفوس العابدين وقلوب العارفين وأرواح المحبين 194
  • فصل : الفرق بين العابد والعارف 194
  • من أنواع القهر 195
  • فصل : قهر العباد بالموت 196
  • 15 ـ معنى اسمه تعالى «الوهاب» جل جلاله 198
  • فصل : ما يجب على من تحقق أنه تعالى الوهاب 200
  • 16 ـ معنى اسمه تعالى «الرزاق» جل جلاله 201
  • فصل : ما خص به الله تعالى الأغنياء والفقراء 203
  • فصل : من طلب من الله الحوائج العظيمة 204
  • فصل : رزق الأرواح والسرائر 205
  • 17 ـ معنى اسمه تعالى «الفتاح» جل جلاله 207
  • فصل : ما يفتحه الله تعالى لخلقه 209
  • فصل : من آداب من علم أنه تعالى الفتاح 210
  • 18 ـ معنى اسمه تعالى «العليم» جل جلاله 212
  • فصل : آداب من علم أنه تعالى عالم الخفيات 213
  • فصل : ومن آداب من علمه تعالى عليما 214
  • 19 ، 20 ـ معنى اسميه تعالى «القابض الباسط» جل جلاله 216
  • فصل : كيف يكون القبض والبسط 217
  • فصل : الكل لله ومن الله 219
  • فصل : بين القبض والبسط 219
  • 21 ، 22 ـ معنى اسميه تعالى «الخافض الرافع» جل جلاله 220
  • فصل : تذلل فى دنياك ترفع فى عقباك 222
  • 23 ، 24 ـ معنى اسميه تعالى «المعز المذل» جل جلاله 223
  • فصل : عز العبد وذله منه تعالى 225
  • فصل : من هو العزيز ومن هو الذليل 226
  • 25 ، 26 ـ معنى اسميه تعالى «السميع البصير» جل جلاله 227
  • فصل : من ألطاف الله تعالى على عبده الّذي يحفظ سمعه وبصره 229
  • 27 ، 28 ـ معنى اسميه تعالى «الحكم العدل» جل جلاله 231
  • فصل : لا تبديل لحكم الله تعالى 232
  • 29 ـ معنى اسمه تعالى «اللطيف» جل جلاله 237
  • فصل : من معانى اللطف 238
  • فصل : من لطفه تعالى بعباده 238
  • 30 ـ معنى اسمه تعالى «الخبير» جل جلاله 241
  • فصل : من علم أن الله تعالى خبير بأحواله 243
  • 31 ـ معنى اسمه تعالى «الحليم» جل جلاله 244
  • يلذ حلمه لرجاء عفوه 246
  • 32 ـ معنى اسمه تعالى «العظيم» جل جلاله 247
  • 33 ، 34 ـ معنى اسميه تعالى «الغفور الشكور» جل جلاله 250
  • فصل : من آداب من علم أنه تعالى شكور 252
  • 35 ، 36 ـ معنى اسميه تعالى «العلى الكبير» جل جلاله 253
  • فصل : حقيقة التواضع 255
  • فصل : ما تفعل إذا قيل لك : اتق الله 255
  • 37 ـ معنى اسمه تعالى «الحفيظ» جل جلاله 256
  • 38 ـ معنى اسمه تعالى «المقيت» جل جلاله 259
  • فصل : اختلاف الأقوات 261
  • 39 ـ معنى اسمه تعالى «الحسيب» جل جلاله 262
  • فصل : إذا حاسبك ربك فثق بفضله 265
  • 40 ، 41 ـ معنى اسميه تعالى «الجليل الجميل» جل جلاله 266
  • فصل : اختصاص الله سبحانه وتعالى الأبرار 267
  • فصل : قلوب العابدين وأسرار العارفين 268
  • 42 ـ معنى اسمه تعالى «الكريم» جل جلاله 269
  • 43 ـ معنى اسمه تعالى «الرقيب» جل جلاله 273
  • 44 ـ معنى اسمه تعالى «المجيب» جل جلاله 277
  • فصل : الله سبحانه هو الكافى عبيده 278
  • فصل : اجعل قصدك الأصلي إلى الله تعالى 279
  • 45 ـ معنى اسمه تعالى «الواسع» جل جلاله 280
  • فصل : أحسن كما أحسن الله إليك 282
  • 46 ـ معنى اسمه تعالى «الحكيم» جل جلاله 283
  • فصل : الاعتبار بسابق الحكم وما قسمه تعالى 284
  • فصل : العبرة بالخواتيم 285
  • فصل : إذا أراد الله لك السعادة فأنت سعيد 285
  • 47 ـ معنى اسمه تعالى «الودود» جل جلاله 287
  • 48 ـ معنى اسمه تعالى «المجيد» جل جلاله 291
  • 49 ـ معنى اسمه تعالى «الباعث» جل جلاله 294
  • فصل : إذا غلب الرجاء على العبد 296
  • فصل : معنى الباعث فى وصفه تعالى 296
  • 50 ـ معنى اسمه تعالى «الشهيد» جل جلاله 297
  • 51 ، 52 ـ معنى اسميه تعالى «الحق المبين» جل جلاله 300
  • فصل : اسمه الحق أكثر ما يجرى على لسان السادة الصوفية 301
  • فصل : حق الحق أحق 302
  • 53 ، 54 ـ معنى اسميه تعالى «الوكيل القوى» جل جلاله 304
  • فصل : حسبى الله ونعم الوكيل 305
  • فصل : من عرف أن الله وكيله 305
  • 55 ـ معنى اسمه تعالى «المتين» جل جلاله 308
  • 56 ـ معنى اسمه تعالى «الولى» جل جلاله 311
  • فصل : من أمارات ولايته لعبده 313
  • 57 ـ معنى اسمه تعالى «الحميد» جل جلاله 314
  • 58 ـ معنى اسمه تعالى «المحصى» جل جلاله 316
  • فصل : من آداب من علم أنه تعالى المحصى 317
  • فصل : ما الّذي يجب أن تحصيه على نفسك 317
  • فصل : ما يحصيه تعالى على العبد 318
  • فصل : من علم أنه تعالى رقيب عليه 319
  • 59 ، 60 ـ معنى اسميه تعالى «المبدئ المعيد» جل جلاله 320
  • فصل : هل للأوقات بدل 322
  • فصل : أوقات تأسف العارفين 323
  • 61 ، 62 ـ معنى اسميه تعالى «المحيى المميت» جل جلاله 324
  • فصل : الإيمان والإسلام عند القوم 326
  • فصل : علامات من ماتت نفسه 326
  • 63 ، 64 ـ معنى اسميه تعالى «الحى القيوم» جل جلاله 328
  • 65 ـ معنى اسمه تعالى «الواجد» جل جلاله 332
  • 66 ، 67 ـ معنى اسميه تعالى «الواحد الأحد» جل جلاله 335
  • فصل : الفرق بين الواحد والأحد وتعريف التوحيد 336
  • 68 ـ معنى اسمه تعالى «الصمد» جل جلاله 338
  • 69 ، 70 ـ معنى اسميه تعالى «القادر المقتدر» جل جلاله 341
  • فصل : من عرف أنه تعالى كريم 342
  • فصل : من جميل صنع الله وكريم نظره تعالى 342
  • 71 ، 72 ـ معنى اسميه تعالى «المقدم المؤخر» جل جلاله 344
  • فصل : الله أعلم بما قدم وأخر 346
  • 73 : 76 ـ معنى أسمائه تعالى «الأول والآخر والظاهر والباطن» جل جلاله        348
  • فصل : فائدة زائدة فى معانى تلك الأسماء 351
  • فصل : من آداب من عرف تلك الأسماء 352
  • 77 ـ معنى اسمه تعالى «البر» جل جلاله 353
  • فصل : البر بالشيوخ والأساتذة 355
  • 78 ـ معنى اسمه تعالى «التواب» جل جلاله 356
  • 79 ـ معنى اسمه تعالى «المنتقم» جل جلاله 360
  • 80 ـ معنى اسمه تعالى «العفو» جل جلاله 363
  • 81 ـ معنى اسمه تعالى «الرءوف» جل جلاله 366
  • 82 ـ معنى اسميه تعالى «ذى الجلال والإكرام» جل جلاله 369
  • 83 ، 84 ـ معنى اسميه تعالى «المقسط الجامع» جل جلاله 372
  • فصل : لا راحة لمؤمن دون لقاء الله تعالى 374
  • 85 ، 86 ـ معنى اسميه تعالى «المغنى المانع» جل جلاله 376
  • فصل : لا يقع فى ملكه تعالى إلا ما أراده جل جلاله 378
  • 87 ، 88 ـ معنى اسميه تعالى «الضار النافع» جل جلاله 379
  • 89 ـ معنى اسمه تعالى «النور» جل جلاله 382
  • 90 ـ معنى اسمه تعالى «الهادى» جل جلاله 385
  • 91 ـ معنى اسمه تعالى «البديع» جل جلاله 388
  • 92 ، 93 ـ معنى اسميه تعالى «الباقى الوارث» جل جلاله 392
  • 94 ـ معنى اسمه تعالى «الرشيد» جل جلاله 395
  • فصل : هو الّذي أرشد النفوس والقلوب والأرواح والأسرار 397
  • 95 ـ معنى اسمه تعالى «الصبور» جل جلاله 398
  • الفهرسة 403