فهرست العناوين الأصلية

المقدمة.......................................................................... ٩

تبيين محور البحث.............................................................. ١٣

الوجه العقلى لعدالة الصحابة.................................................... ٤١

الوجه النقلى لعدالة الصحابة..................................................... ٤٧

لوجه التاريخى لعدالة الصحابة.................................................. ١١٥

موقف الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام............................................. ١٣١

موقف امير المؤمنين عليه‌السلام....................................................... ١٤٥

موازين الجرح والتعديل.......................................................... ١٧٥

العقبة والمظاهرة............................................................... ٢١٣

آفاق الوحدة................................................................. ٢٧٣

محطة الفتوحات............................................................... ٣٤٣

الفهرست التفصيلى........................................................... ٤٣٥

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

البحث حول الصحابة وعدالتهم كان وما يزال من أهمّ البحوث العقائدية بين المذاهب الإسلاميّة وقد عنى الكثير من الباحثين والكتّاب في ملابسات هذا الموضوع ممّا يدل على مكانة هذا البحث وأهمّيته ـ في دائرة الخلاف ـ.

من هنا جاء البحث في ـ الصحابة بين العدالة والعصمة ـ يتناول هذا الأمر الخطير ، لكنّه هذه المرّة جاء برؤية جديدة ونظرة فاحصة دقيقة تعتمد على تحليل نظرية «عدالة الصحابة» وما يترتّب عليها من آثار. وقد سلّط الضوء في هذه الدراسة على جميع زوايا هذه الظاهرة وملابساتها ، ابتداءً بولادتها وسرّ تبلورها.

ومرورا بالآثار المترتّبة عليها ، وانتهاء بسلامة هذه النظرية أو فسادها.

ولما كانت هذه النظرية ذات ركنين هما : العدالة والصحابة ، كان من الضروري كشف الغموض وإزالة اللبس الذي يحايث ظهور المعنى لهذين الركنين ووضوحه ؛ فما العدالة التي تستند للصحابة؟

هل المراد منها تلك الصفة المعروفة في الأذهان؟ أو المراد منها عصمة الصحابي وحجّية قوله وفعله؟

وهل المراد في حجّية قول الصحابي ، حجّية قوله كراو من الرواة؟ أم أنّ حجّية قوله من باب حجّية اجتهاده؟ ورأيه كمجتهد قد يصيب وخطئ ، هذا مع مراعاة

اجتهاده بموازين الاجتهاد.

أم أنّ حجّية قوله وفعله من باب التفويض؟ وله الحق في التشريع وإنّه مشرّع يخصص إطلاق وعموم الكتاب والسنّة ، فينسخ الأحكام ويحكم بما يراه فيؤخذ به ناسخا لما جاء به الكتاب والسنّة ، أو يحكم بكون ما يراه حكما بمنزلة السنّة النبويّة في ما لم يأت به الكتاب والسنّة!!

من هنا كان على الباحث المتتبع في عدالة الصحابة أن يقف بإمعان على الآثار المترتبة عن العدالة وكيف أنّها تكون في كثير من الأحيان مساوقة لآثار العصمة عند الإمامية وهذا ما يدعو إلى كثير مراجعة وتأمّل!

وكذلك الحال في الصحابة ، فهل كان المراد منهم جميع الصحابة الذين كانوا حول النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على أضيق التعاريف ـ؟

أم أنّهم الذين اتّفقوا على بيعة أبي بكر وكان هواهم ورأيهم على ذلك؟

إذن فما بال الذين قاطعوا السقيفة ولم يحضروها؟ وكان فيهم خير الصحابة وأفضلها. ثمّ ربّما كان بغية أصحاب هذه النظرية هي مساندة الحزب المؤتمر في السقيفة!! أو إضعاف الشريعة لهم في الوقت الذي أقصي الآخرين الذين آزروا النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآزرهم عن دورهم الحق في رسم معالم الدين ومناهجه القويمة!!

هذا ومن المباحث المهمّة في دائرة الصحابة أيضا البحث عن الملاك والميزان والضابط لتوثيقات أئمة الجرح والتعديل من أهل السنّة والجماعة ، فهل هي قائمة على ضوابط علمية دينية في تلقّي الخبر؟ أم هي مبتنية على الأهواء الجاهلية وتسير على قاعدة البغض والعداء لمن أمرنا له بالطاعة والولاء وعلى قاعدة الحبّ والوداد للخوارج والنواصب الذين جاهدوا لطمس معالم هذا الدّين وتحريف سنّة سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بعد هذا العرض السريع لمباحث الكتاب الذي أجاد بها قلم أستاذنا العلّامة المحقق الفقيه آية الله الشيخ محمّد السند البحراني حفظه الله تعالى والتي جاءت

ضمن عدّة مقالات نشرتها مجلة «تراثنا» تحت عنوان «عدالة الصحابة» حيث لاقت هذه البحوث اهتمام الدارسين والعلماء والمثقفين كذلك الهيئات والمراكز العلميّة والدينيّة في البلاد الإسلامية وخارجها.

وكان من الطبيعي أن ينقسم القرّاء بين مؤيّد ومخالف لأنّ موضوع البحث كان في مجال دائرة الخلاف والكاتب قد جاء برؤى جديدة لم تعهدها البحوث السابقة في هذا المجال.

من هنا كانت أهمّية إعداد هذه البحوث وجمعها في كتاب مستقل رجاء أن ينتفع به إخواني من جميع المذاهب والمدارس الفكرية الإسلامية آملين أن يتقبّل المولى عزوجل جهدنا المتواضع هذا ويأخذ بأيدينا بعيدا عن التعصّب والجحود إلى ما هو الخير والصلاح آمين ربّ العالمين.

مصطفى الإسكندري

١

تبيين محور البحث

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

إنّ من أهمّ المباحث الخلافيّة هو البحث حول صحابة النبىّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد عنون هذا البحث فى الكتب الكلاميّة تحت عنوان «عدالة الصحابة» ، ونحن نريد أن نفتح هذا الملفّ وننظر فيه لتوضيح بعض الإبهامات والمعمّيات.

وفى البداية لا بدّ أن نلاحظ بعض مفردات هذا البحث.

منها : مؤدّى العدالة المقصودة ،

ومنها : دائرة الصحابة المتّصفين بذلك ،

ومنها : ثمرة القول بذلك ، وهي : حجّيّة أقوالهم وأفعالهم ، ووجوب الاعتقاد بفضيلتهم وموالاتهم.

فإنّ تحرير المقصود في كلّ نقطة أمر بالغ الأهمّية ؛ كي يتّضح أنّ الأدلّة المعتمدة لكلّ قول هل هي مثبتة له ؛ أم إنّ هناك تباينا بين الدليل والمدّعى؟ فمثلا يقع الترديد في المراد من العدالة التي تسند ويوصف بها الصحابة أو بعضهم ، فإنّها تستعمل بمعنى يمانع إمكان صدور الخطأ أو المعصية منه ، ولا شكّ أنّ هذا المعنى يساوق العصمة!

وكذلك يقع الترديد في المراد من الصحابة ، هل هم الّذين اتّفقوا على بيعة أبي بكر ، وكان هواهم ورأيهم على ذلك ؛ أم إنّه يشمل من خالف بيعته ولم يبايعه إلى نهاية

المطاف؟ فهل دائرة البحث هي في الصحابة والصحبة؟! أم هي في شرعية بيعة السقيفة؟!!

وكذا الترديد في معنى الحجّية لقول الصحابي وفعله ، هل هي بمعنى حجّية قوله كراو من الرواة وأخبار الآحاد ، وكذا فعله من جهة كونه أحد المتشرّعة ، الكاشف فعله عن الحكم المتلقّى من الشارع ، فلا موضوعية لقوله وفعله في نفسه؟ ... أم إنّ حجّية قوله وفعله من باب حجّية اجتهاده ، ورأيه كمجتهد قد يصيب وقد يخطئ؟! وإنّه هل يحدّد اجتهاده بموازين الاجتهاد ، أم لا ينضبط رأيه بقيود الأدلّة والموازين؟! أم إنّ حجّية قوله وفعله ـ ولو لبعض الصحابة ـ هي من باب التفويض له في حقّ التشريع ، وإنّه مشرّع يخصّص إطلاق وعموم الكتاب والسنّة ، وقد ينسخ السنّة ويحكم بكون ما يراه من حكم يؤخذ به بمنزلة السنّة النبويّة في ما لم يأت به الكتاب والسنّة ، وعلى ذلك فلا تصدق على مخالفته ومباينته للكتاب والسنّة أنّها مخالفة ، وأنّها ردّ لهما ، بل هي نسخ أو تقييد وتخصيص لهما؟!

والمتصفّح لكلمات القوم يلوح له تراوحها بين هذه الاحتمالات ، وتقلّبها بين هذه الوجوه ، وإليك بعض الكلمات المتعلّقة بالبحث :

قال الشريف المرتضى في كتابه الذريعة إلى أصول الشريعة عند ردّه للتصويب ، وتخطئة الصحابة بعضهم لبعض ، قال :

واعلم أنّنا أسقطنا بهذا الكلام الذي بيّنّاه إلزام المخالفين لنا في خطأ الصحابة أن يكون موجبا للبراءة بذكر الكبير والصغير الذي هو مذهبهم دون مذهبنا ، فكأنّنا قلنا لهم : ما ألزمتمونا إيّاه لا يلزمنا على مذاهبكم في أنّ الصغائر تقع محبطة من غير أن يستحقّ بها الذمّ وقطع الولاية ، وإذا أردنا أن نجيب بما يستمرّ على أصولنا ومذاهبنا ، فلا يجوز أن نستعير ما ليس هو من أصولنا.

والجواب الصحيح عن هذه المسألة أنّ الحقّ في واحد من هذه المسائل المذكورة ، ومن كان عليه ومهتديا إليه من جملة الصحابة كانوا أقلّ عددا

وأضعف قوّة وبطشا ممّن كان على خلافه ممّا هو خطأ ، وإنّما لم يظهر النكير عليهم والبراءة منهم تقية وخوفا ونكولا وضعفا.

فأمّا تعلّقهم بولاية بعضهم بعضا مع المخالفة في المذهب ، وأنّ ذلك يدلّ على التصويب ، فليس على ما ظنّوه ، وذلك أنّه لم يولّ أحد منهم واليا لا شريحا ولا زيدا ولا غيرهما إلّا على أن يحكموا بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما أجمع عليه المسلمون ، ولا يتجاوز الحقّ في الحوادث ولا يتعدّاه (١).

قال ابن السبكي في جمع الجوامع :

الصحابي من اجتمع مؤمنا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يرو ولم يطل ، بخلاف التابعي مع الصحابي ، وقيل : يشترطان ، وقيل : أحدهما ، وقيل : الغزو أو سنة ... والأكثر على عدالة الصحابة ، وقيل : كغيرهم ، وقيل : إلى قتل عثمان ، وقيل : إلّا من قاتل عليّا (٢).

وشرح ابن المحلّى ـ المتن ـ القول الثاني :

فيبحث عن العدالة فيهم ، في الرواية والشهادة ، إلّا من يكون ظاهر العدالة أو مقطوعها ، كالشيخين.

وشرح القول الثالث :

يبحث عن عدالتهم من حين قتله لوقوع الفتن بينهم من حينئذ وفيهم الممسك عن خوضها.

وشرح القول الرابع :

فهم فسّاق ؛ لخروجهم على الإمام الحقّ ، وردّ بأنّهم مجتهدون في قتالهم له

__________________

(١). الذريعة إلى أصول الشريعة ٢ / ٧٦٧ ـ ٧٦٩.

(٢). حاشية العلّامة البناني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ١٦٧.

فلا يأثمون وإن أخطئوا ، بل يؤجرون كما سيأتي في العقائد.

وقال ابن السبكي :

قول الصحابي على صحابي غير حجّة وفاقا ، وكذا على غيره. قال الشيخ الإمام : إلّا في الحكم التعبّدي ، وفي تقليده قولان لارتفاع الثقة بمذهبه إذ لم يدوّن. وقيل : حجّة في القياس ، فإن اختلف صحابيّان فكدليلين ، وقيل : دونه. وفي تخصيصه العموم قولان. وقيل : إن انتشر. وقيل : إن خالف القياس. وقيل : إن انضمّ إليه قياس تقريب. وقيل : قول الشيخين فقط. وقيل : الخلفاء الأربعة ، وعن الشافعي إلّا عليّا (١).

وقال في مسألة الاجتهاد في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

والأصحّ أنّ الاجتهاد جائز في عصره ... وثالثها : بإذنه صريحا ، قيل : أو غير صريح ، ورابعها : للبعيد ، وخامسها : للولاة ، وأنّه وقع ... وثالثها (٢) : لم يقع للحاضر ، ورابعها : الوقف (٣).

وشرح ابن المحلّى ذلك :

وقيل : لا للقدرة على اليقين في الحكم بتلقّيه منه ، واعترض بأنّه لو كان عنده وحي في ذلك لبلّغه للناس ، وقد بنى ابن السبكي وغيره من علماء العامّة على جواز الاجتهاد في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعنى إبداء الرأي وإن لم يرد نصّ من الكتاب والسنّة في القول المزبور على معتقدهم في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبوّة ، فقد قدم ابن السبكي وغيره على ذلك بقوله : والصحيح جواز تجزّؤ الاجتهاد ، وجواز الاجتهاد للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووقوعه ، وثالثها في الآراء والحروب فقط ،

__________________

(١). حاشية العلّامة البناني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ٣٥٤.

(٢). هذا التعداد بلحاظ وقوع الاجتهاد ، والتعداد السابق بلحاظ حكم الاجتهاد.

(٣). حاشية العلّامة البناني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ٣٨٧.

والصواب أنّ اجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخطئ.

وشرح ابن المحلّى ذلك :

لقوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (١) (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٢) ... عوتب على استبقاء أسرى بدر بالفداء ، وعلى الإذن لمن ظهر نفاقه في التخلّف عن غزوة تبوك ، ولا يكون العتاب في ما صدر عن وحي ، فيكون عن اجتهاد.

وقيل : يمتنع له ، لقدرته على اليقين بالتلقّي من الوحي بأن ينتظره ، والقادر على اليقين في الحكم لا يجوز له الاجتهاد جزما. وردّ بأنّ إنزال الوحي ليس في قدرته.

وشرح أنّ اجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخطئ تنزيها لمنصب النبوّة عن الخطأ في الاجتهاد. وقيل: قد يخطئ ولكن ينبّه عليه سريعا ؛ لما تقدّم في الآيتين ؛ ولبشاعة هذا القول عبّر المصنّف بالصواب.

والمعروف لدى مفسّري العامّة ومحدّثيهم أنّ الوحي نزل في موارد بتخطئة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصويب رأي عمر ـ والعياذ بالله تعالى! ـ منها ما جرى في أسرى بدر ـ وقد رووا في أحاديثهم أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كان من بعدي نبيّ لكان عمر. ومرادهم من اجتهاده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتماده على الظنّ والرأي ـ والعياذ بالله ـ

وقال ابن السبكي :

ونعتقد أنّ خير الأمّة بعد نبيّها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر خليفته ، فعمر ، فعثمان ، فعليّ ، أمراء المؤمنين ... ونمسك عمّا جرى بين الصحابة ، ونرى الكلّ مأجورين. (٣)

__________________

(١). الأنفال / ٦٧.

(٢). التوبة / ٤٣.

(٣). حاشية العلّامة البناني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ٤٢٢.

وشرحه ابن المحلّى :

ونمسك عمّا جرى بين الصحابة من المنازعات والمحاربات ، التي قتل بسببها كثير منهم ، فتلك دماء طهّر الله منها أيدينا فلا نلوّث بها ألسنتنا ، ونرى الكلّ مأجورين في ذلك ؛ لأنّه مبنيّ على الاجتهاد في مسألة ظنّية ، فيها أجران على اجتهاده وإصابته ، وللمخطئ أجر على اجتهاده.

وقال التفتازاني (١) :

يجب تعظيم الصحابة والكفّ عن مطاعنهم ، وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم على محامل وتأويلات ، سيّما للمهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان ، ومن شهد بدرا وأحدا والحديبية ، فقال : انعقد على علوّ شأنهم الإجماع ، وشهد بذلك الآيات الصراح ، والأخبار الصحاح ، وتفاصيلها في كتب الحديث والسير والمناقب ، ولقد أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتعظيمهم وكفّ اللسان عن الطعن فيهم ، حيث قال : أكرموا أصحابي فإنّهم خياركم ...

وتوقّف عليّ رضى الله عنه في بيعة أبي بكر كان للحزن والكآبة ، وعدم الفراغ للنظر والاجتهاد ؛ وعن نصرة عثمان بعدم رضاه ، لا برضاه ، ولهذا قال : «والله ما قتلت عثمان ، ولا مالأت عليه» وتوقّف في قبول البيعة إعظاما للحادثة ، وإنكارا ، وعن قصاص القتلة لشوكتهم ، أو لأنّهم عنده بغاة ، والباغي لا يؤاخذ بما أتلف من الدم والمال عند البعض.

قد استقرّت آراء المحقّقين من علماء الدين على أنّ البحث عن أحوال الصحابة وما جرى بينهم من الموافقة والمخالفة ليس من العقائد الدينية ، والقواعد الكلامية ، وليس له نفع في الدين ، بل ربّما يضرّ باليقين ، إلّا أنّهم ذكروا نبذا من ذلك لأمرين :

__________________

(١). شرح المقاصد ـ للتفتازاني ـ ٥ / ٣٠٣.

أحدهما : صون الأذهان السليمة عن التدنّس بالعقائد الرديّة التي توقعها حكايات بعض الروافض ورواياتهم.

ثانيها : ابتناء بعض الأحكام الفقهية في باب البغاة عليها ، إذ ليس في ذلك نصوص يرجع إليها.

وقال في شرح المتن ـ من توقّف عليّ عليه‌السلام عن نصرة عثمان ـ :

وكذا طلحة والزبير ؛ إلّا أنّ من حضر من وجوه المهاجرين والأنصار أقسموا عليه وناشدوه الله في حفظ بقيّة الأمّة وصيانة دار الهجرة ، إذ قتلة عثمان قصدوا الاستيلاء على المدينة ، والفتك بأهلها ، وكانوا جهلة لا سابقة لهم في الإسلام ، ولا علم لهم بأمر الدين ، ولا صحبة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقبل البيعة.

وقال :

إنّ امتناع جماعة من الصحابة ، كسعد بن أبي وقّاص ، وسعيد ابن زيد ، وأسامة بن زيد ، وعبد الله بن عمر ، وغيرهم ، عن نصرة عليّ رضى الله عنه والخروج معه إلى الحروب لم يكن عن نزاع منهم في إمامته ، ولا عن إباء عمّا وجب عليهم من طاعته ؛ بل لأنّه تركهم واختيارهم من غير إلزام على الخروج إلى الحروب ، فاختاروا ذلك بناء على أحاديث رووها ...

وأمّا في حرب الجمل وحرب صفّين وحرب الخوارج ، فالمصيب عليّ ، لما ثبت له من الإمامة وظهر من التفاوت ، لا كلتا الطائفتين على ما هو رأي المصوّبة ، ولا إحداهما من غير تعيين على ما هو رأي بعض المعتزلة ، والمخالفون بغاة لخروجهم على الإمام الحقّ لشبهة ؛ لا فسقة أو كفرة على ما يزعم الشيعة جهلا بالفرق بين المخالفة والمحاربة بالتأويل وبدونه ؛ ولهذا نهى عليّ عن لعن أهل الشام وقال : إخواننا بغوا علينا. وقد صحّ رجوع أصحاب الجمل. على أنّ منّا من يقول : إنّ الحرب لم تقع عن عزيمة ، وإنّ قصد عائشة لم يكن إلّا إصلاح ذات البين.

وقال :

قاتل عليّ رضى الله عنه ثلاث فرق من المسلمين على ما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك تقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين :

فالناكثون : هم الّذين نكثوا العهد والبيعة ، وخرجوا إلى البصرة ، مقدّمهم طلحة والزبير ، وقاتلوا عليّا رضى الله عنه بعسكر مقدّمهم عائشة في هودج على جمل ، أخذ بخطامه كعب بن مسعود ، فسمّي ذلك الحرب حرب الجمل.

والمارقون : هم الّذين نزعوا اليد عن طاعة عليّ رضى الله عنه بعد ما بايعوه ...

والقاسطون : معاوية وأتباعه الّذين اجتمعوا عليه ، وعدلوا عن طريق الحقّ الذي هو بيعة عليّ رضى الله عنه والدخول تحت طاعته ، ذهابا إلى أنّه مالا على قتل عثمان حيث ترك معاونته ، وجعل قتلته خواصّه وبطانته ...

والذي اتّفق عليه أهل الحقّ أنّ المصيب في جميع ذلك عليّ رضى الله عنه لما ثبت من إمامته ببيعة أهل الحلّ والعقد ، وظهر من تفاوت إمّا بينه وبين المخالفين ، سيّما معاوية وأحزابه ، وتكاثر من الأخبار في كون الحقّ معه ، وما وقع عليه الاتّفاق ـ حتّى من الأعداء ـ إلى أنّه أفضل زمانه ، وأنّه لا أحقّ بالإمامة منه. والمخالفون بغاة ؛ لخروجهم على الإمام الحقّ بشبهة ، هي تركه القصاص من قتلة عثمان ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية» وقد قتل يوم صفّين على يد أهل الشام ، ولقول عليّ رضى الله عنه : إخواننا بغوا علينا ؛ وليسوا كفّارا ولا فسقة ولا ظلمة ؛ لما لهم من التأويل. وإن كان باطلا ، فغاية الأمر أنّهم أخطئوا في الاجتهاد ؛ وذلك لا يوجب التفسيق ، فضلا عن التكفير ؛ ولهذا منع عليّ رضى الله عنه أصحابه من لعن أهل الشام ، وقال : إخواننا بغوا علينا.

كيف؟! وقد صحّ ندم طلحة والزبير ، وانصراف الزبير عن الحرب ، واشتهر ندم عائشة. والمحقّون من أصحابنا على أنّ حرب الجمل كانت فلتة من غير قصد من الفريقين ، بل كانت تهييجا من قتلة عثمان ، حيث صاروا فرقتين ،

واختلطوا بالعسكرين ، وأقاموا الحرب خوفا من القصاص ؛ وقصد عائشة لم يكن إلّا إصلاح الطائفتين ، وتسكين الفتنة ، فوقعت في الحرب.

وما ذهب إليه الشيعة من أنّ محاربي عليّ كفرة ، ومخالفوه فسقة ، تمسّكا بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حربك يا عليّ حربي» ، وبأنّ الطاعة واجبة ، وترك الواجب فسق ، فمن اجتراءاتهم وجهالتهم ، حيث لم يفرّقوا بين ما يكون بتأويل واجتهاد ، وبين ما لا يكون. نعم ، لو قلنا بكفر الخوارج بناء على تكفيرهم عليّا رضى الله عنه لم يبعد ، لكنّه بحث آخر.

فإن قيل : لا كلام في أنّ عليّا أعلم وأفضل ، وفي باب الاجتهاد أكمل. لكن من أين لكم أنّ اجتهاده في هذه المسألة ، وحكمه بعدم القصاص على الباغي ، أو باشتراط زوال المنعة ، صواب ؛ واجتهاد القائلين بالوجوب خطأ ؛ ليصحّ له مقاتلتهم؟! وهل هذا إلّا كما إذا خرج طائفة على الإمام ، وطلبوا منه الاقتصاص ممّن قتل مسلما بالمثقل؟!

قلنا : ليس قطعنا بخطئهم في الاجتهاد عائدا إلى حكم المسألة نفسه ، بل إلى اعتقادهم أنّ عليّا رضى الله عنه يعرف القتلة بأعيانهم ، ويقدر على الاقتصاص منهم ... وبهذا يظهر فساد ما ذهب إليه عمرو بن عبيدة وواصل بن عطاء ، من أنّ المصيب إحدى الطائفتين ولا نعلمه على التعيين. وكذا ما ذهب إليه البعض ، من أنّ كلتا الطائفتين على الصواب بناء على تصويب كلّ مجتهد ؛ وذلك لأنّ الخلاف إنّما هو فيما إذا كان كلّ منهما مجتهدا في الدين على الشرائط المذكورة في الاجتهاد ، لا في كلّ من يتخيّل شبهة واهية ، ويتأوّل تأويلا فاسدا. ولهذا ذهب الأكثرون إلى أنّ أوّل من بغى في الإسلام معاوية ؛ لأنّ قتلة عثمان لم يكونوا بغاة ، بل ظلمة وعتاة ؛ لعدم الاعتداد بشبهتهم ، ولأنّهم

بعد كشف الشبهة أصرّوا إصرارا واستكبروا استكبارا (١).

فإن قيل : يزعمون أنّ الوقيعة في الصحابة بالطعن واللعن والتفسيق والتضليل بدعة وضلالة ، وخروج عن مذهب الحقّ ؛ والصحابة أنفسهم كانوا يتقاتلون بالسنان ، ويتقاولون باللسان بما يكره ، وذلك وقيعة.

قلنا : مقاولتهم ومخاشنتهم في الكلام كانت محض نسبة إلى الخطأ ، وتقرير على قلّة التأمّل ، وقصد إلى الرجوع إلى الحقّ ؛ ومقاتلتهم كانت لارتفاع التباين ، والعود إلى الألفة والاجتماع بعد ما لم يكن طريق سواه. وبالجملة : فلم يقصدوا إلّا الخير والصلاح في الدين. وأمّا اليوم ، فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلّا التهاون بنقلة الدين ، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته.

وأمّا بعدهم فقد جلّ المصاب ، وعظم الواقع ، واتسع الخرق على الراقع ، الّا أنّ السلف بالغوا في مجانبة طريق الضلال خوفا من العاقبة ، ونظرا للمآل. يعني أنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ ، والمذكور على ألسنة الثقات ، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن طريق الحقّ ، وبلغ حدّ الظلم والفسق ؛ وكان الباعث له الحقد والعناد ، والحسد واللداد ، وطلب الملك والرئاسة والميل إلى اللذّات والشهوات ؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوما ، ولا كلّ من لقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخير موسوما. إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق ، وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق ، صونا لعقائد المسلمين عن الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة ، سيّما المهاجرين منهم والأنصار ، والمبشّرين بالثواب في دار القرار.

وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن الظهور

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٣٠٤ ـ ٣٠٩.

بحيث لا مجال للإخفاء ، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ، إذ تكاد تشهد به الجماد والعجماء ، ويبكي له من في الأرض والسماء ، وتنهدّ منه الجبال وتنشقّ الصخور ، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور ، فلعنة الله على من باشر ، أو رضي ، أو سعى ، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

فإن قيل : فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد ، مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد.

قلنا : تحاميا عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى ، كما هو شعار الروافض على ما يروى في أدعيتهم ، ويجري في أنديتهم. فرأى المعتنون بأمر الدين إلجام العوامّ بالكلّية طريقا إلى الاقتصاد في الاعتقاد ، وبحيث لا تزلّ الأقدام عن السواء ، ولا تضلّ الأفهام بالأهواء ؛ وإلّا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟! وكيف لا يقع عليهما الاتّفاق؟! وهذا هو السرّ في ما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال ، وسدّ طريق لا يؤمن أن يجرّ إلى الغواية في المآل ، مع علمهم بحقيقة الحال وجليّة المقال ؛ وقد انكشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال ، واشرأبّت الأهوال (١).

تحليل مفاد هذه المقولة والمسألة

لقد أطلنا في نقل عيّنتين ممّا ذكره ابن السبكي في كتابه في أصول الفقه ، والتفتازاني في شرح المقاصد في علم الكلام ؛ لأنّهما نموذجان لكلمات أكثرهم في كتب أصول الفقه وعلم الكلام والحديث ، كالذي ذكره النووي في شرحه على صحيح مسلم في باب فضائل الصحابة ، أو ابن حجر العسقلاني في شرحه للبخاري في تلك الأبواب ، أو الإيجي والجرجاني في شرح المواقف ، وما يذكروه في كتب الرجال والتراجم والتواريخ ،

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٣١٠ ـ ٣١١.

وكتب التفسير.

وكلماتهم كما ترى تتراوح بين البحث في عدالة الصحابي ، وبين عصمته عن الخطأ والباطل والضلال ، وإن كانت العصمة عند العامّة ـ في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء ـ هي في حدود تبليغ الأحكام والدين ، لا مطلقا ، فكذلك ما يثبتوه للصحابة!

كما إنّ البحث عن دائرة الصحابة تتراوح بين أقوال لديهم ، من كون الصحابي كلّ من أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآمن ، أو حدّث عنه ، أو نصره وآزره وبقي معه مدّة طويلة ، أو الثلّة التي أعدّت لبيعة السقيفة ، لا مطلق المهاجرين والأنصار ، أو هم خصوص الثلاثة أو الأربعة من الخلفاء.

والظاهر أنّ محور الدائرة هم الثلاثة ، وأمّا الدوائر الأوسع المحيطة فالحديث عنها يتبع الثلاثة ، كي لا يتصاعد الحديث والطعن عليهم إلى الطعن على الثلاثة ؛ كما أنّ الغاية من البحث ـ أي المفردة الثالثة المقدّرة في هذا البحث ـ هي حجّية أقوالهم وأفعالهم وسيرتهم وسنّتهم ، فقد يتراءى أنّه من باب كاشفيّته عن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن من تجويزهم لاجتهاد الصحابي في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قبال النصّ القرآني أو النبوي بالتأوّل ، أو أنّ قول أو فعل الصحابي يخصّص إطلاق الكتاب وإطلاق السنّة ، أو أنّ للصحابي الاجتهاد إن لم يكن نصّ يقتضي أنّ حجّيّته ليست من باب الرواية ، بل من باب من له التشريع المفوّض له.

وأظهر ممّا تقدّم في ذلك ، تعليلهم لحجّية سنّة خصوص الشيخين بالحديث الذي نسبوه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» (١) ، وما ينسبونه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا : «خير أمّتي أبو بكر ، ثمّ عمر» و «ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يتقدّم عليه عنده» (٢) وما ينسبونه إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو كان بعدي نبيّ لكان عمر» فإنّ هذا النمط من

__________________

(١). رواه الترمذي في المناقب ، وابن ماجة في المقدّمة ، وابن حنبل في مسنده.

(٢). ويشهد لوضع هذه الأحاديث تأمير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند وفاته لأسامة بن زيد على الجيش الذي فيه أبو بكر

الاستدلال يعطي تفويض التشريع لهما وإمامتهما في الدين ـ كما أسموا الثلاثة أئمّة الدين ـ لا لصحبتهما للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرواية عنه كراوين ، ولا كمجتهدين كبقية المجتهدين في الفتيا ، بل كإمامين يسنّان ويشرّعان في الدين ، ويحتذى بهما إلى يوم القيامة. فحجّية قولهما وفعلهما وسيرتهما ـ على ذلك ـ ليس من باب حجّية الإخبار كما في الرواة ، ولا من باب حجّية فتوى المفتي أو المجتهد غير الملزمة لبقية المجتهدين ، بل اجتهادهما ـ على ذلك ـ كاجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الذي قالوا بتجويزه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ اللازم اتّباعه على كلّ الأمّة ، المجتهدين منهم والعوّام.

ولذلك يستدلّ علماء العامّة كما قال التفتازاني وغيره : «وأمّا السنّة فقوله عليه‌السلام : اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» دخل في الخطاب عليّ رضى الله عنه فيكون مأمورا بالاقتداء ، ولا يؤمر الأفضل ولا المساوي بالاقتداء ، سيّما عند الشيعة» (١) مع أنّهم يختلفون في حجّية اجتهاد صحابي على صحابي آخر ، ولذلك يعدّونهما وعثمان أئمّة في الدين ، لا صحابة كبقية الصحابة.

وبعبارة أخرى : إنّ حيثية وجهة الصحبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غاية ما توجب ـ على تقدير عدم الموانع المضادّة ـ الشرف والفضيلة والرواية عنه ، وكذلك البيعة والشورى ـ على ما يقرّر في قول العامّة ـ غاية ما توجب : تولّي الأمر وولاية الأمور التنفيذية ، لا التفويض في التشريع ، ولا العصمة من الزلل والخطل ، ولا صلاحية السنّ في الدين سننا تخلد إلى يوم القيامة.

فهذا النمط من الدعوى في الشيخين ، أو في الثلاثة ، هو صياغة للإمامة بالنصّ ، ولكون الإمامة عهد من الله ورسوله ، فسيتبيّن أنّ العامّة ملجئون فطريا ، وباضطرار الحجّة المنطقية العقلية ، إلى تنظير الإمامة المنصوصة ، وإنّها عهد إلهي ونبويّ ، غاية الأمر أنّهم يطبّقونه على الثلاثة ، ومنضمّا إلى عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام كإمام رابع ، وبعضهم يضيف

__________________

وعمر ، وغير ذلك من الوقائع.

(١). شرح المقاصد ٥ / ٢٩٢.

الحسن ابن عليّ عليه‌السلام ، وبعضهم يوسّع الدائرة إلى روّاد العلماء في علم وعلوم الدين ، وإنّ اجتهاداتهم لا تردّ!

بيان تردد العامّة في معنى المسألة

فالحكم بفضائل الصحابة وفضيلة الصحبة عنوان فضفاض عائم يتردّد بين أن تعطى الحجّية له كإمام منصوص عليه بالاتّباع له ، وإنّ له تفويض التشريع فيما لا نصّ له ، أو غير ذلك ، أو الحجّية له كمجتهد يجوز عليه الخطأ ، أو كحجّية راو بجانب الحظوة بشرف الصحبة ، مع فرض الوفاء بعهدتها من دون تبديل ونكث.

قال ابن السبكي في جمع الجوامع وشارحه ابن المحلّى في مسألة الإجماع :

وهو اتّفاق مجتهدو الأمّة بعد وفاة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عصر على أيّ أمر كان ، فعلم اختصاصه بالمجتهدين ... وعدم انعقاده في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ التابعي المجتهد معتبر معهم ـ فإن نشأ بعد فعلى الخلاف في انقراض العصر .. وإنّ إجماع كلّ من أهل المدينة النبوية ، وأهل البيت النبوي ، وهم : فاطمة وعليّ والحسن والحسين رضي الله عنهم ، والخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم ، والشيخين أبي بكر وعمر ، وأهل الحرمين مكّة والمدينة ... وهو الصحيح في الكلّ ... وقيل : إنّه في ما قبل الأخيرة من الستّ حجّة ..

أمّا في الأولى : فلحديث الصحيحين : «إنّما المدينة كالكير ، تنفي خبثها ، وينصع طيبها» ، والخطأ خبث ، فيكون منفيا عن أهلها. وأجيب بصدوره منهم بلا شكّ ، لانتفاء عصمتهم ، فيحمل الحديث على أنّها في نفسها فاضلة مباركة.

وأمّا في الثانية : فلقوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) ، والخطأ رجس ، فيكون منفيا عنهم ، وهم من تقدّم ، لما روى الترمذي عن عمر بن أبي سلمة ، أنّه لمّا نزلت هذه الآية لفّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم كساء ، وقال : «هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي ، اللهمّ أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا». وروى مسلم عن عائشة ، قالت : خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن عليّ فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فأدخله معه ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ، ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً). وأجيب : بمنع أنّ الخطأ رجس ، والرجس قيل : العذاب ، وقيل : الإثم ، وقيل: كلّ مستقذر ومستنكر.

وأمّا في الثالثة : فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي ، تمسّكوا بها ، وعضّوا عليها بالنواجذ» رواه الترمذي وغيره ، وصحّحه وقال : «الخلافة من بعده ثلاثون ، ثمّ تكون ملكا» أي : تصير. أخرجه أبو حاتم وأحمد في المناقب ، وكانت مدّة الأربعة هذه المدّة إلّا ستّة أشهر مدّة الحسن بن عليّ ، فقد حثّ على اتّباعهم ، فينتفي عنهم الخط. وأجيب بمنع انتفائه.

وأمّا في الرابعة : فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، رواه الترمذي وغيره وحسّنه. أمر بالاقتداء بهما ، فينتفي عنهما الخطأ. وأجيب بمنع انتفائه (٢).

وعلّق البناني على قوله : «الخلافة بعدي ثلاثون سنة» :

__________________

(١). الأحزاب / ٣٣.

(٢). حاشية العلّامة البناني على شرح الجلال ـ لابن المحلّى ـ على متن جمع الجوامع ـ لابن السبكي ـ ٢ / ١٧٩ ـ ١٨٠.

أخذ من هذا علم الخلفاء في الحديث قبله ، ففيه ما ليس في الذي قبله. واستفيد منه أيضا كون سيّدنا الحسن خليفة ، لتكميله الستّة الأشهر الباقية من الثلاثين ، ومن ثمّ قالوا : إنّه آخر الخلفاء الراشدين بنصّ جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولي الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعة أهل الكوفة، فأقام فيها ستّة أشهر وأيّاما ثمّ خلع نفسه رضى الله عنه وسلّم الأمر لسيّدنا معاوية صونا لدماء المسلمين ، وذلك مصداق قول جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ابني هذا سيّد ، ولعلّ الله يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين».

قال الشهاب : «وقضية اعتبار موافقة سيّدنا الحسن للأربعة» ، وعلّق البناني على قوله : «الثالثة والرابعة» : وأجيب بمنع انتفائه. لقائل أن يقول : لو اقتصر في الاستدلال في الأولى على قوله : «فقد حثّ على اتّباعهم» وذلك يستلزم أنّ قولهم حجّة ، وإلّا لم يصحّ اتّباعهم ، وفي الثانية على قوله : «أمر بالاقتداء بهما» فدلّ على أنّ قوله حجّة ، وإلّا لم يصحّ الاقتداء بهما ؛ لتمّ الاستدلال ولم يلاقه هذا الجواب ، فأيّ حاجة إلى اعتبار انتفاء الخطأ في الاستدلال حتّى توجّه هذا الجواب؟! (١).

وعلّق الشربيني على قول ابن المحلّى ـ الذي تقدّم التعليق السابق عليه ـ :

أي : لأنّ الحثّ على اتّباعهم لا يستلزم أنّ قولهم حجّة ؛ لأنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليكم بسنّتي ... ، و : اقتدوا باللذين ... إنّما يدلّان على أهليّة الأربعة والاثنين لتقليد المقلّد لهم ، لا على حجّية قولهم على المجتهد ... ولأنّه لو كان قولهم حجّة لما جاز الأخذ بقول كلّ صحابي خالفهم ، وإنّه جائز لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم ؛ ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خذوا شطر دينكم

__________________

(١). حاشية العلّامة البناني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ١٨٠ ـ ١٨١.

عن الحميراء (١) ، فوجب الحمل على تقليد المقلّد جمعا بين الأدلّة. كذا في العضد وحاشيته السعدية ، فاندفع ما في الحاشية هنا (٢).

أقول : من البيّن الجلي أنّ حجّية قول الأوّل والثاني ، أو بضميمة الثالث عندهم ـ بحسب هذه المداولة ـ مردّدة في كلماتهم على الاحتمالات الثلاثة السابقة ، وأنّ ما ذكره البناني من عدم الحاجة في الحجّية لاعتبار انتفاء الخطأ ناشئ من الغفلة عن اختلاف سنخ الحجّية بين الإمام المنصوص عليه ، المعصوم من الخطأ ، وأنّ إمامته كعهد من الله ورسوله المشار إليه في قوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٣) ، وبين الحجّية لفتوى المجتهد ، التي هي على نمطين عندهم أيضا ... فتارة لا يخطئ وإن كان مدركه ظنّيا ، كما تقدّم نقله قولهم بذلك الذي ذهبوا إليه في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ والعياذ بالله ـ وأخرى أنّ المجتهد يخطئ ، وبناء على التخطئة فلا يلزم حجّية قوله مطلقا ، كما أنّها لا تشمل المجتهد الآخر. وإذا انفتح باب الخطأ على الثلاثة فلا عصمة في البين ، ويمكن تطرّق المخالفة العلمية أو العملية للأحكام الواقعية.

كما إنّه على فرض كون أقوالهم من باب الاجتهاد ، فلا بدّ من أن تنضبط بموازين الاجتهاد ، لا أن يكون مطلق إبداء الرأي أمام النصّ اجتهادا بذريعة باب التأويل والتأوّل ، فهناك حدّ فاصل بين الاجتهاد وبين مخالفة الكتاب والسنّة ؛ وبين إبداء الرأي وبين الردّ على الرسول ؛ وبين الاجتهاد على الموازين وإن أخطأ وبين الشقاق مع الله ورسوله.

ثمّ إنّه يعزّز هذا الترديد عند العامّة ما اشترطه عبد الرحمن بن عوف على الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام يوم الشورى ، قال التفتازاني :

ثمّ جعلوا الاختيار إلى عبد الرحمن بن عوف ، فأخذ بيد عليّ رضى الله عنه وقال :

__________________

(١). مع أن تحريضها على قتل عثمان وخروجها على عليّ عليه‌السلام ثابت ومقرّر عندهم.

(٢). تعليق (تقرير) الشربيني على شرح ابن المحلّى على متن جمع الجوامع ٢ / ١٨٠.

(٣). البقرة ١٢٤.

تبايعني على كتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين ، فقال : على كتاب الله وسنّة رسول الله وأجتهد برأيي. ثمّ قال مثل ذلك لعثمان فأجابه إلى ما دعاه ، وكرّر عليهما ثلاث مرّات ، فأجابها بالجواب الأوّل ، فبايع عثمان ... وقول عليّ رضى الله عنه : (وأجتهد برأيي) ليس خلافا منه في إمامة الشيخين ، بل ذهابا إلى أنّه لا يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر ، بل عليه اتّباع اجتهاده ، وكان من مذهب عثمان وعبد الرحمن أنّه يجوز إذا كان الآخر أعلم وأبصر بوجوه المقاييس. (١)

لو سلم تأويل التفتازاني لإباء عليّ عليه‌السلام لسيرة الشيخين ، وأنّه من باب عدم حجّية اجتهادهما ، إلّا أنّه أسقط حجّية سيرتهما مطلقا ، ولم يحتمل فيها أنّها من باب الرواية لاحتمال اطّلاعهما على قول أو فعل للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يطّلع عليه غيرهما.

وبعبارة أخرى : مدّعى العامّة في حجّية قولهما وسيرتهما يتردّد لديهم كما قدّمنا بين ذلك ، فالإعراض عن سيرتهما يعني إسقاط لكلّ وجوه الحجّية المدّعاة في سيرة الشيخين ، ولا يفوت الباحث تذكّر امتناع عليّ عليه‌السلام عن بيعة أبي بكر مع موقفه يوم الشورى هذا. ثمّ إنّ هذا التوجيه من التفتازاني يناقض ما قدّمنا نقله عنه ، من دخول عليّ عليه‌السلام في الخطاب المنسوب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» ، وأنّه مأمور بالاقتداء بهما (٢) ؛ فإذا كان حجّية قولهما من باب الاجتهاد ، فكيف يجعل الأمر بالاقتداء بهما دالّ على إمامتهما للناس؟! بل اللازم أن يكون الأمر المزبور ـ على تقدير صدق النسبة ـ محمول على حجّية فتوى المجتهد ، لا على كونه عهد من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامتهما ؛ وإذا حمله على الإمامة ، فكيف يخالف عليّ عليه‌السلام ذلك؟! فيدلّ إسقاطه لحجّية قولهما على وضع هذا الحديث ، وتدليس نسبته إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونحو هذا الحديث بقية الأحاديث المدّعاة من هذا النمط.

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٢٨٨.

(٢). شرح المقاصد ٥ / ٢٩٢.

الخدشة في أدلة المسألة عند العامّة

ويشهد للوضع ـ لجملة هذه الأحاديث ـ أنّه لو قدّر صدورها فكيف لم يحتجّ بها أصحاب بيعة السقيفة على عليّ عليه‌السلام وجماعته الّذين امتنعوا من البيعة؟! كما لم يحتجّ بها عبد الرحمن بن عوف على عليّ عليه‌السلام يوم الشورى عند ما أبى عليّ عليه‌السلام من اتّباع سيرة الشيخين ، وأبى مشارطة عبد الرحمن ابن عوف على ذلك؟! وأحسب أنّ سبب وقوع التفتازاني وأمثاله في مثل هذه التوجيهات المتدافعة ، إمّا إلى إبهام تباين معاني الحجّية لديهم وعدم تفرقتهم بين الإمامة في الدين كعهد من الله ورسوله ، وبين حجّية فتوى المجتهد ، وبين حجّية إخبار الراوي ..

ويومئ إلى هذا الاحتمال ذهابهم إلى اجتهاد الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدين والحكم ـ مع أنّه سيأتي بطلان هذه المزعمة بشهادة الآيات القرآنية ـ ، فإنّه ـ كما سيتّضح ـ يؤول إلى نقص في معرفة حقيقة النبوّة والرسالة ؛ وإمّا إلى تورّطهم في شباك مثل هذه الأحاديث الآحاد في قبال الشواهد التاريخية القطعية والأحاديث المتواترة الأخرى ، مضافا إلى الدأب على الجري على معتقد الآباء!

والمهم : التنبيه على عدم تلاؤم تعليلاتهم المختلفة لحجّية قول الشيخين ، أو الثلاثة ، ولا تفسيراتهم ، لمخالفاتهم لأوامر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سواء في حياته أو بعدها ، إذ كونهما ذوا امتيازات للإمامة العهدية الإلهيّة ، لا يلتئم مع تعليلهم أنّهما مجتهدان بحسب ما توصّل إليه ، وأنّ لهما التأوّل في خطابات القرآن والسنّة ، وأنّ فعلهما وقولهما حجّة لأنّه يكشف عن اطّلاعهم على قول أو فعل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم نطّلع عليه ولم يصل إلينا.

ثمّ إنّه كيف يجمعون بين مسألة حجّية قول الصحابة وفعلهم ، وبين مسألة حرمة التفتيش عن أحوال الصحابة والفتن التي وقعت بينهم والمقاتلة وترك الخوض فيها؟! فإنّ هذه الحرمة وهذا المنع يتدافع مع الحجّية من جهات عديدة ، ويتناقض ويتقاطع معها بأيّ

معنى كان من معاني الحجّية بني عليه!

ولتبيين هذا التدافع ، تأمّل الاعتقاد برسالة النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (١) فإنّه قد جهد المسلمون جهدهم في استقصاء أفعاله وأقواله ، وسيرته وغزواته ، وحركاته وسكناته ، وصلحه وحربه ، ومودّته مع من ، وعدائه مع من ، ورحمه وأهله وعشيرته وولده وزوجاته ، واحتجاجاته ، وصفاته ، وكلّ صغيرة وكبيرة مرتبطة بوجوده الشريف صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. كلّ ذلك لتقام الحجّة في أقواله وأفعاله ، وتبلغ مسامع المكلّفين ، ويأخذوا بهدي شريعته ، وإلّا فكيف تبلغ الحجّة مع انقطاع الخبر وإبهام الحال؟!

فالحال في حجّية أقوال وأفعال الصحابة وسيرتهم لا بدّ في تحقّقها من دراسة سيرتهم وحياتهم وأقوالهم ، لا سيّما وأنّ ما جرى من الفتن بينهم واقع في المسائل الدينية وما يرتبط بالشرع ، سواء في المسائل الفرعية أو الأصولية المرتبطة بالإمامة والحكم وحفظ الدين وإحراز السنّة النبويّة وتفسير الكتاب ، وبدعية بعض الأفعال من رأس أو ركنيّتها في الدين ، والإقامة على العديد من السنن المقترحة وجعلها معالما للدين.

ولقد كان الاختلاف بينهم والتضليل إلى حدّ المقاتلة ، وهي تعني استباحة كلّ طرف دم الطرف الآخر ، فكلّ طرف يرى الطرف الآخر مقيم على أمر وحال يبيح معه دمه ، فإذا كان زعم العامّة أنّه لا بدّ من ترك الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة ، حفظا لحرمة الصحابة وتعظيما وتجليلا لصحبتهم ، فهذا الخطب أولى الناس بمراعاته ـ في ما بينهم ـ الصحابة أنفسهم ، لا الانتهاء إلى نقيض ذلك من استباحة دم الطرف الآخر ؛ فليس إلّا أنّ الخطب جليل ، أحبط في نظر الطرف الأوّل ما للطرف الآخر من أعمال وسابقة ، وانتفت حرمته إلى استباحة دمه!

فمع كلّ ذلك ، كيف يسوغ لنا الاحتجاج بأقوال وأفعال كلّ من المصيب والخاطئ ،

__________________

(١). الأحزاب / ٢١.

والمحقّ والمبطل ، والهادي والضالّ ، والمستقيم الموفي لما عاهد عليه الله ورسوله ، والمبدّل الناكث لما عاهد؟! وهل هذا إلّا جمع بين المتناقضين ، وقلّة الحرج في الدين ، وتهوين لأمر الدين؟! وقول التفتازاني وغيره المتقدّم : «إنّ مقاتلتهم كانت لارتفاع التباين والعود إلى الألفة والاجتماع بعد ما لم يكن طريق سواه. وبالجملة : فلم يقصدوا إلّا الخير والصلاح في الدين. وأمّا اليوم ، فلا معنى لبسط اللسان فيهم إلّا التهاون بنقلة الدين ، الباذلين أنفسهم وأموالهم في نصرته». نعم ، كانت لارتفاع التباين والعود إلى ... ولكنّها تقتضي مدافعة الطرف الآخر ولو بإراقة دمه واستباحته ، لإقامته على المنكر والباطل ؛ فهذا يبرهن على المباينة في سيرتهم وأقوالهم ودعوتهم.

وعلى تقدير وجود قصد الصلاح في الدين في كلّ من الطرفين ، فهذا لا يبرّر اتّباع الطرف المقيم على المنكر والباطل ، ومجرّد حسن النية ـ على تقدير التسليم به ـ لا يدلّل على سلامة النهج ، ولا يرفع التباين بين السيرتين والقولين ـ وقد أقرّ بذلك ـ ، فكيف يتّصف بالحجّية كلا الطرفين المتباينين وهو ممتنع ؛ فلا بدّ من الفحص عن المحقّ الهادي إلى سواء السبيل ، قال تعالى (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١).

وبعبارة أخرى : إنّ حجّية أقوال وأفعال الصحابة أو الثلّة منهم ، إمّا أن تكون من باب الإمامة المنصوصة من الله ورسوله ، ومن الواضح أنّه مع التباين بينهم لا يمكن أن يكون كلا الطرفين منصوص عليه بالإمامة ؛ وإمّا من باب حجّية قول المجتهد وفتواه ، لكونه من أهل الخبرة ، فمن الواضح أيضا أنّه مع الاختلاف والتقاطع لا بدّ من اتّباع الأعلم والواجد للشرائط المؤهّلة ـ وبنحو الوفور التامّ ـ دون غيره ؛ وإمّا من باب حجّية المخبر في أخباره ، أي حجّية رواية الراوي الثقة ، وهذا أيضا يوجب علينا إحراز صفة الوثاقة والعدالة عند أحد المتنازعين ، لا سيّما وأنّ النزاع مستفحل شديد قد وصل إلى استباحة الدم.

__________________

(١). يونس / ٣٥.

الأحاديث النافية للمسألة

ثمّ إنّه يكفي الباحث نظرة في كتاب الفتن من الصحاح لديهم ، كي يصل إلى هذه النتيجة من لزوم التمحيص والفحص عن الطرف المحقّ ـ في الصحابة ـ من الطرف المبطل.

* فقد روى البخاري في الباب الأوّل من كتاب الفتن ، عن أبي وائل ، قال : قال عبد الله : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعنّ معي رجال منكم ، ثمّ ليختلجنّ دوني ، فأقول : يا ربّ! أصحابي؟! فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» (١). فهذا دالّ على إحداث من بعض الصحابة بعده ، وظاهر الحديث أنّ هؤلاء الصحابة ممّن كانوا قد استمعوا خطبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لاستعماله كاف الخطاب.

* وروى البخاري عن سهل بن سعد ، أنّه قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إني فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ، ومن شرب منه لم يظمأ أبدا ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم». وزاد أبو سعيد الخدري : «فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك! فأقول : سحقا سحقا لمن غيّر بعدي» (٢).

وهذا الحديث ـ أيضا ـ دالّ على تبديل بعض الصحابة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهر الحديث هو كون صحبة هؤلاء الصحابة ـ المعنيّين بالحديث ـ كانت وثيقة بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعرفته وطيدة بهم ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعرفهم ويعرفوني».

أقول : كيف تلتئم هذه الأحاديث مع ما يزعمونه من حديث «أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم»؟! إلّا أن يكون في الحديث سقط أسقط!!

* ويروي في الباب الثاني عن عبد الله ، قال : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّكم سترون

__________________

(١). صحيح البخاري ٨ / ٢١٤ ح ١٥٧ ، وانظر : فتح الباري ١١ / ٥٦٦ ح ٦٥٧٦.

(٢). صحيح البخاري ٨ / ٢١٦ ح ١٦٤ ، وانظر : فتح الباري ١١ / ٥٦٧ ح ٦٥٨٣.

بعدي أثرة وأمورا تنكرونها ...» الحديث (١). وهذا الحديث يدلّ على وقوع أثرة وحرص على طلب الدنيا ، وكذا وقوع الأمور المنكرة بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٢). وستأتي الإشارة في سورة الفتح إلى ذلك ، في من بايع بيعة الرضوان.

* وروى في الباب السادس ، أنّ أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : «استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل وهو يقول : لا إله إلّا الله ، ما ذا أنزل الليلة من الفتنة؟! ما ذا أنزل من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ؟! كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة!» (٣). ففي شرح ابن حجر العسقلاني على الحديث قال : قال ابن بطّال :

«قرن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزول الخزائن بالفتنة إشارة إلى أنّها تسبّب عنها ، وإلى أنّ القصد في الأمر خير من الإكثار وأسلم من الفتنة ...» (٤). أي أنّ الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال ، بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه ، وأن يبخل به فيمنع الحقّ ، أو يبطر صاحبه فيسرف ، فأراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحذير أزواجه من ذلك كلّه.

أقول : وستأتي الإشارة في سورة الأنفال وغيرها إلى أنّ غرض وغاية جمع من الصحابة في غزوات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عرض الحياة الدنيا ومتاعها من الغنائم ، فضلا عن الفتوحات التي وقعت بعده ، ويكفيك لإثبات ذلك رصد ما ترك العديد من الصحابة من أموال وثروات طائلة عند موتهم.

* وروى في الباب الثامن قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ٨٤ ح ٤ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٥ ح ٧٠٥٢.

(٢). آل عمران / ١٤٤.

(٣). صحيح البخاري ٧ / ٢٧٩ ح ٦٢.

(٤). فتح الباري ١٠ / ٣٧٢ ح ٥٨٤٤.

رقاب بعض» (١).

* وروى في الباب الثامن عشر عن أبي بكرة ، قال : «لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام الجمل ، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم ، قال : لمّا بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى ، قال : «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» (٢).

* وروى عن الأسدي ، قال : «لمّا سار طلحة والزبير وعائشة إلى البصرة بعث عليّ عمّار بن ياسر وحسن بن عليّ فقدما علينا الكوفة ، فصعد المنبر ، فكان الحسن بن عليّ فوق المنبر في أعلاه ، وقام عمّار أسفل من الحسن ، فاجتمعنا إليه ، فسمعت عمّارا يقول :

إنّ عائشة قد سارت إلى البصرة ، وو الله إنّها لزوجة نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدنيا والآخرة ، ولكنّ الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلم إيّاه تطيعون أم هي؟!» (٣).

أقول : وستأتي الإشارة في سورة الأحزاب إلى أمر نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرّ في البيوت.

* وروى في الباب الواحد والعشرين عن حذيفة بن اليمان ، قال : «إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون» (٤) ؛ فيا ترى إلى من يشير حذيفة؟! وما هو السبب في حرّية الأجواء السياسية للمنافقين بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى صاروا يجهرون آمنين على أنفسهم بينما كانوا في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متستّرين خائفين؟!

* وروى مسلم في صحيحه ، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، عن قيس ، قال:

__________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ١٤ ذ ح ٣٩٥ وح ٣٩٧ ، انظر : فتح الباري ٨ / ١٣٥ ح ٤٤٠٥ وج ١٢ / ٢٣٥ ح ٦٨٦٩.

(٢). صحيح البخاري ٦ / ٢٧ ح ٤١٧ ، ج ٩ / ١٠٠ ح ٤٧ ، فتح الباري ٨ / ١٦٠ ح ٤٤٢٥ وج ١٣ / ٦٧ ح ٧٠٩٩.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ١٠٠ ح ٤٨ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٦٧ ح ٧١٠٠.

(٤). صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٧ ، وانظر : فتح الباري ١٣ / ٨٦ ح ٧١١٣.

«قلت لعمّار : أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليّ ، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ؛ وأربعة لم أحفظ» (١).

وعمّار رضى الله عنه يشير هنا إلى أنّ النصوص من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام ليست خفيّة ، خاصّة عندنا ـ أي الصحابة ـ بل هي منتشرة عند الناس ، من حديث الغدير وغيره ، وكان سبب تولّيه لعليّ عليه‌السلام من بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من يوم السقيفة إلى يوم قتل عثمان ـ فقد صنّف عمّار في من دبّر ذلك ، كما ذكرت ذلك كتب التواريخ ـ إلى يوم الجمل وصفّين ، وصريح الحديث الذي يرويه عمّار عن حذيفة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّ في خاصة الصحابة اثني عشر منافقا لا يدخلون الجنّة ، وأنّ عمّارا رأى هؤلاء الاثني عشر في من ناوأ وعادى عليّا عليه‌السلام.

ثمّ إنّ هذا الحديث صريح في أنّ ما أتى به الصحابة الّذين تولّوا عليّا وناصروه بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى استشهاده عليه‌السلام كان بتصريح ونصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبنفاق مناوئيه وأعدائه ، ولم يكن باجتهاد رأي رأوه كما يقول بذلك علماء العامّة في حكمهم بعدالة الصحابة الّذين ناوءوا الإمام عليّا عليه‌السلام وقد روى مسلم هذا الحديث بطريق آخر فلاحظ (٢).

* وروى عن أبي الطفيل ، قال : «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك! قال : كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد،

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٣.

وعذر ثلاثة قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا علمنا بما أراد القوم ؛ وقد كان في حرّة فمشى فقال : إنّ الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد ، فوجد قوما قد سبقوه فلعنهم يومئذ» (١).

والمراد بالعقبة عقبة على طريق تبوك التي اجتمعت تلك العدّة للغدر والفتك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك وقد أشار الله تعالى إليها في سورة التوبة ، ومن الملاحظ أنّ السائل من تلك العدّة التي تقطن المدينة دار الهجرة ، وأنّهم لم يكونوا ظاهري النفاق عند الجميع ، ولاحظ كتب التاريخ في معرفة السائل الذي سأل حذيفة عن تلك العدّة.

* وروى مسلم ـ بعد باب خصال المنافق ـ بابا في أنّ حبّ الأنصار وعليّ عليه‌السلام من علامات الإيمان وبغضهم من علامات النفاق ؛ فعن زرّ ، قال : قال عليّ : «والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبيّ الأمّيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ أن لا يحبّني إلّا مؤمن ، ولا يبغضني إلّا منافق» (٢).

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٢٣.

(٢). صحيح مسلم ١ / ٦١.

٢

الوجه العقلى

ومن الغريب تمسّك التفتازاني بوجه عقلي نقلي لعدالة جميع الصحابة ؛ وهو أنّهم نقلة الدين! ، ومراده أنّه لو لا ذلك لبطل نقل الشريعة ، وهذا غير لازم لنفيها عن المبطل خاصّة دون المحقّ. هذا مع أنّ التفتازاني نفسه ذكر حديث الثقلين آخذا به ، قال : «أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرنهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقذا من الضلالة ، ولا معنى للتمسك بالكتاب إلّا الأخذ بما فيه من العلم والهداية ، فكذا في العترة» (١) ، فإذا كانت العترة عدل الكتاب في التمسّك بهما كشرط للنجاة من الضلالة فأي انبطال للشريعة وراء ذلك ، وهل يخلط الحابل بالنابل وتؤخذ الشريعة عن من لا حظّ له في الإيمان والعلم. بل الاعتماد في الدين على كلّ من هبّ ودبّ اعتماد على غير ركن وثيق.

هذا ومن المسائل التي تصبّ في هذا البحث وترتبط به بنحو ما هو إصدار أكثر العامّة على مشروعية إمامة المتغلب بالقهر والبغي على رءوس المسلمين ، وأنّه لا مانع من إمامة الفاسق والجاهل ، ويتردد الناظر الباحث هل لهذا القول في الإمامة صلة بإمامة الأوائل من الصحابة وقول الثاني :

إن كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمّت ، ألا وإنّها كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها ... من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي

__________________

(١). شرح المقاصد ٥ / ٣٣.

بايعه تغرة أن يقتلا ... فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتّى فرقت من الاختلاف ، فقلت : ابسط يدك يا أبا بكر ... خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعه أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا فإمّا بايعناهم على ما لا نرضى وإمّا نخالفهم فيكون فسادا ، فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا. هكذا نصّ عبارته في صحيح البخاري (١).

وصدر الحديث الذي رواه عن ابن عباس ، قال : كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف ، فبينما أنا في منزله عنى وهو عند عمر بن الخطاب ان آخر حجّة حجّها إذ رجع إلى عبد الرحمن فقال : لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال : يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول : لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ، فو الله ما كانت بيعة أبي بكر إلّا فلتة تمّت ، فغضب عمر ، ثمّ قال : إنّي إن شاء الله لقائم للعشية في الناس فمعذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم ، قال عبد الرحمن : فقلت يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإنّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ... قال ابن عباس : فقدمنا المدينة ... فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلمّا رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل : ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف ... فجلس عمر على المنبر ، وقال : ... ثمّ أنّه بلغني أنّ قائلا منكم يقول والله لو قد مات عمر بايعت فلانا ، فلا يغترن امرؤ أنّ يقول إنّما كانت بيعة أبي بكر ... الخ.

فإنّ مسلسل الرواية أن قائلا قال بعزمه على بيعة الفلتة وأنّ الثاني غضب لأنّ هذه البيعة بيعة الفلتة ـ البغتة والفجأة والنهزة والخلسة والاغترار والمبادرة ـ غضب

__________________

(١). باب رجم الحبلى من الزنا اذا احصنت ، كتاب الحدود ، باب ٣١.

لأمور المسلمين وأنّه يريد تحذيرهم من هؤلاء الغاصبين وأنّ ما وقع من بيعة الأوّل ألا وإنها كانت كذلك ، وكانت ذات شرّ وقى الله المسلمين شرّها وأنّها من غير مشورة من المسلمين إذ كان لغطا واختلافا في الآراء عند مداولة الإمامة والخلافة والبيعة بينهم ، وأنّ المرتكب لها يستحق القتل ، وأنّ مباغتته ببيعة الأوّل مدافعة للآخرين ، هكذا يرسم لنا الخليفة الثاني إمامة الأوّل. وعلى أيّة حال فإنّ مثل هذه الإمامة على تقدير مشروعيتها ـ بمنطق العسكر والقوة لا بمنطق الدين والعقل ـ فإنّها لا توجب كون صاحبها لا يزلّ ولا يخطأ وتتبع سنته قائمة إلى يوم القيامة ويكون له حظّ المشرّع في الدين.

والحاصل أنّ تحرير العامّة لمسألة عدالة الصحابة ومسألة حرمة الخوض في الفتن التي جرت بينهم ومسألة الإمامة وما يرتبط بها من مسائل أخرى ، يجدها الباحث الناظر مضطربة الوجوه ، مترددة بين الإمامة كعهد من الله ورسوله لا يزلّ ولا يخطأ ، وبين كونه مجتهدا كبقية المجتهدين ، أو أنّ حجيّة قوله وفعله كراوي من رواة الأخبار ، وأنّ إقامة البحث عن مسألة عدالة الصحابة ليست كما يفيده عنوان البحث بل هو حول فئة خاصّة من الصحابة الذين عقدوا البيعة لأبي بكر وأنّ البحث هو لضرب سياج وحواجز عن التنقيب والبحث عن أحوال وصفات وممارسات تلك الفئة وأن ما عقدوا من مباحث مسائل الإمامة هو الآخر في هذا الاتجاه.

وممّا يشهد بتدافع تحرير المسائل عندهم هو أنّهم يستدلّون على الإمامة بأدلّة مفادها لزوم عصمة الإمام ، مع أنّهم يجيرونها للامامة العقدية بالبيعة السياسية ، ومثال ذلك الحديث النبوي «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» فإنّ مفاد الحديث وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان وواضح أنّه واجب اعتقادي كوجوب معرفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإذعان برسالته ، ويزيد ذلك وضوحا أنّه جعل فاقد تلك المعرفة ميتته ميتة كفر ، وفي الحديث عناية ولطيفة وهو أنّه جعل كفره عند موته كفر من لم يدخل الإسلام ، لا كفر من دخل الإسلام وارتدّ عنه ، ومن البيّن في بداهة الشرع والعقل أنّ من

تجعل معرفته بهذا الشأن لا يمكن أن يكون من يزلّ ويخطل أو يجهل ويضلّ ، بل لا بدّ أن يكون مقامه في الدين يتلو مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوما مطهّرا أذهب عنه الرجس وطهّره تطهيرا ، وغير ذلك من الأمثلة.

كما أنّه يلاحظ في نظم الأدلة والوجوه في تلك المسائل عندهم ، التكديس الركامي من دون تمحيص مؤدى كلّ دليل أو وجه ، ومن دون مقايسته بأدلّة الطرف الآخر ، فتراهم مثلا يتمسكون بحجيّة سنّة الشيخين بأحاديث آحاد قد تكون حسنة الاسناد عندهم ، بينما لا يقابلونها مع الأحاديث المتواترة بطرقهم كحديث الثقلين ، وحديث المنزلة ، والغدير وغيرها ، فانظر مثلا إلى التفتازاني في شرح المقاصد عند ما يستعرض وجوه وأدلّة إمامة عليّعليه‌السلام يقرّ بجملة فضائله إلّا أنّه يحكم ويكيل عشوائيّا بأنّ فضائل الشيخين أولى ، مع أنّه هو نفسه حكى عن إمام الحرمين أنّ روايات الفضائل في الأربعة متعارضة والترجيح ظنّي ، مع أنّه لو تعمّق في موازنة كلّ وجه من الوجوه ومدى مؤداه ومقابلته مع الوجه في الطرف الآخر سواء من حيث قوّة السند والدلالة وعلوّ وشموخ المعنى ومسلّمية المصداق المراد بين الفريقين عن غيره ، والأهمّ هو تحليل الفضيلة التي هي عبارة عن كمال ما ؛ فإنّه عنوان مجمل عامّ لا بدّ من تقرير حدّه هل ينطبق على العصمة أو على عمل خاصّ معيّن دون أن يحدث صفة كمالية دائمة في الشخص أو على غير ذلك ممّا يتناسب مع صفات الراوي ونحوه ، والغريب من التفتازاني في الكتاب المزبور مع أنّه يتذمّر من معاوية ويزيد وبني أميّة وما فعلوه من ظلم بذريّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّه يقرر إمامة المتغلّب الباغي القاهر للمسلمين بسيفه وسطوته ، ولا تنقضي الغرائب بسبب تدافع المباني وتردد تحرير المسائل لديهم بنحو مجمل لا توزن فيه مرتبة الحجّة وسنخها ونوعها ومداها.

٣

الوجه النقلى

ثمّ إنّا قد تعرّضنا في تضاعيف تصوير فرض مسألة عدالة الصحابة لأدلّة العامّة من السنّة أو الوجوه الأخرى والردود عليها إجمالا ، والمهمّ بعد ذلك هو التعرّض لما استدلّوا به على ذلك من الآيات القرآنية :

الآية الأولى : قوله تعالى :

(السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

الآية الثانية : قوله تعالى :

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ ... وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢).

__________________

(١). التوبة / ١٠٠.

(٢). الحشر / ٨ ـ ١٠.

الآية الثالثة : قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١).

وقوله تعالى في السورة نفسها الآية الأخيرة :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢).

الآية الرابعة : قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٣).

وقوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٤).

الآية الخامسة : قوله تعالى :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٥).

__________________

(١). الفتح / ١٨.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). النحل / ٤١ ـ ٤٢.

(٤). النحل / ١١٠.

(٥). التوبة / ١١٧.

الآية السادسة : قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ...) (١).

الآية السابعة : قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢)

وقوله تعالى :

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣)

وقوله تعالى :

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤).

وللتنبيه على وهم القائل في مفاد الآيات أنّها دالّة على مدح جميع الصحابة أو جميع من هاجر من مكّة ، وجميع من ناصر في المدينة أو أنّ هذا المديح دالّ على حجيّة أقوال كلّ صحابي مهاجري أو أنصاري ، لأجل ذلك لا بدّ من التعرّض إلى نقاط عامّة مشتركة ثمّ التعرّض تفصيلا لمفاد كلّ آية على حدة وبيان البدن بينه وبين مدّعى المتوهم. أمّا النقاط العامّة :

النقطة الأولى : ما أفاده بعض الأفاضل المعاصرين (٥) من أنّ القرآن الكريم يشير وينبّه إلى ظهور حركة محترفي النفاق من بدايات تكوّن المسلمين في مكّة ويعنونهم

__________________

(١). الانفال / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢). البقرة / ١٤٣.

(٣). آل عمران / ١١٠.

(٤). النساء / ١١٥.

(٥). في كتابه اسلام شناسى تاريخي.

باسم (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وذلك في رابع سورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة قبل الهجرة وهي سورة المدثّر ، وكذلك سورة العنكبوت المكّية نزولا قبل الهجرة في قول الأكثر أيضا فالسورة الأولى وهي قوله تعالى :

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (١).

قد قابلت بين فئات أربعة ؛ فئتين من جهة وهما (الْمُؤْمِنُونَ) و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والفئتين من الجهة الأخرى (الْكافِرُونَ) و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، ومن الواضح أنّ (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بحسب الآية ليسوا من الفئات الثلاث (الْمُؤْمِنُونَ)، و (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) و (الْكافِرُونَ) فيقتضي كونهم من المسلمين غير المؤمنين قلبا ، ويعطي هذا المعنى نفس عنوان (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) فان دلّ على أنّ مرضهم مستبطن في قلوبهم غير ظاهر أي أنّ ظاهرهم يبدو عليه‌السلامة ، أي للاسلام.

ويدلّل على ذلك أيضا بأنّ هذه الفئة يلاحقها القرآن الكريم بعد ذلك في أغلب السور المدنية نزولا ، وفي الوقائع الخطيرة التي حدثت للمسلمين في المدينة حتّى آخر حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويخصّهم القرآن الكريم بهذا العنوان مائزا بينهم وبين عنوان المنافقين ، حيث يسند لهم أدوارا أكثر خطورة وضررا على الدين من المنافقين أي أنّ المراد بالعنوان الثاني في القرآن عموم أهل النفاق ممّن قد ظهر التواءه بنحو أو بآخر بخلاف أصحاب العنوان الأوّل فإنّهم محترفو النفاق قد احترفوا عملية التسلل والنفود في جسم المسلمين منذ أوائل الدعوة للاسلام حتى آخر حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما سنشير إلى ذلك

__________________

(١). المدثّر / ٣١.

في الجملة في السور بعد ذلك ، ولك أن تجرد وتسرد مواقعهم ومواضعهم وأدوارهم بالاستعانة بكشف المعجم المفهرس للقرآن الكريم باستخراج مواضع عنوان (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في السور القرآنية والأحداث التي تضمّنتها.

وعلى أيّة تقدير ففي أوائل الدعوة للإسلام يشير القرآن الكريم إلى تسلل عناصر بشرية في صفوف من سبق إلى الاسلام واعتنقه في الظاهر وأن تلك العناصر كان لها أدوار قبل الهجرة وبعد الهجرة في المدينة وأنّها كانت ذات علاقات متميزة مع كفار قريش ومع اليهود ومع أهل النفاق ذوي النفاق العامّ غير المحترف كلّ ذلك من خلال الخريطة المسلسلة للأحداث السياسية وغيرها التي يرسمها لنا القرآن الكريم في سورة المكّية والمدنية عن هذه الفئة وهي (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

والسورة الثانية المكية قبل الهجرة هي قوله تعالى :

(الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ* مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ* وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ* وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ* وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ* وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ* وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ

وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١).

وهذه الآيات تؤكّد أنّ بين صفوف من أسلم قبل الهجرة فئة منافقة غرضها من اعتناق الإسلام هو الوصول إلى المشاركة في المكاسب السياسية التي سيحققها المسلمون ، كما أنّ من تخصيص السورة خطاب الإغراء من الكفار للمؤمنين خاصّة أن جهد الكفّار كان منصبا لثني المؤمنين دون المنافقين ممّا يدلّ على وجود علاقة وتوافق موطّد بينهم.

وهذا جرد كشفي لمواطن تتبع القرآن لهذه الفئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بحسب ترتيب النزول.

١. سورة المدثر الآية ٣١ ، مكيّة (٤).

٢. سورة العنكبوت الآية ١٠ ـ ١١ ، مكّية (٨٥).

٣. سورة البقرة الآية ١٠ ، مدنية (٨٧).

٤. سورة الأنفال الآية ٤٩ ، مدنية (٨٨).

٥. سورة الأحزاب الآية ١٢ ـ ٣٢ ـ ٦٠ ، مدنية (٩٠).

٦. سورة محمّد الآية ٢٠ ـ ٢٩ ، مدنية (٩٥).

٧. سورة النور الآية ٥٠ ، مدنية (١٠٣).

٨. سورة الحج الآية ٥٣ ، مدنية (١٠٤).

٩. سورة المائدة الآية ٥٢ ، مدنية (١١٣).

١٠. سورة التوبة الآية ١٢٥ ، مدنية (١١٤).

ومن كلّ ذلك ننتهي إلى أن عموم المديح للمهاجرين وللأنصار لا يتناول فئة الذين في قلوبهم مرض والمنافقين ممّن أسلم قبل الهجرة طمعا في المكاسب السياسية التي تحدثت عنه كهنة العرب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانبأت به اليهود قبل ظهور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهم

__________________

(١). العنكبوت / ١ ـ ١٣.

قطنوا الجزيرة العربية لأجل ذلك استعدادا لظهوره كما ذكر ذلك القرآن :

(وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

فكانوا يتوعدون الكفّار بالنصر عليهم بالنبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يملك العرب ، فمعالم ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلطته على الجزيرة منتشرة الآفاق قبل أن يبعث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّ المديح خاصّ بالمؤمنين قلبا حقّا منهم خاصّة ويشهد لذلك النقطة الثانية الآتية.

ثمّ أن هناك سورة مكيّة أخرى وسورة النحل (٧٠ نزولا) فيها إشارة إلى ظهور النفاق قبل الهجرة أيضا :

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢).

فالاستثناء جملة معترضة وسياق الآية هكذا (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) وجيء ب : «لكن» للاستدراك من المستثنى وأنّ المراد بالكفر هو من شرح بالكفر صدرا.

وقيل : أنّ من شرح بالكفر صدرا نزلت في عبد الله بن سعد ابن أبي سرح من بني عامر بن لؤي وظاهر لفظ الجمع في الآيات يعطي أنّها فئة ومجموعة وأنّ سبب كفرهم بعد إيمانهم ليس إكراه المشركين لهم على ذلك بل هو استحباب الحياة الدنيا فطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

النقطة الثانية : أنّ آيات الهجرة الكثير منها يقيّد الهجرة بكونها لله تعالى وبنيّة

__________________

(١). البقرة / ٨٩.

(٢). النحل / ١٠٦ ـ ١٠٩.

أنّها في سبيل الله ، كما في قوله تعالى (الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ...) (١) وهي الآية الرابعة من التي تقدّمت في مديح المهاجرين ، وكذا قوله تعالى (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ) (٢) وقيّدت بقيّة الآيات الهجرة بقيد في سبيل الله ، كما قيّد الجهاد أنّه في سبيل الله مع الهجرة ، ومن ثمّ تظافرت الأحاديث النبويّة في بيان أنّ الهجرة حكمها تابع لنيّة المهاجر فمن كان هجرته إلى الله ورسوله فله الحسنى في العقبى ، ومن كان هجرته إلى حطام الدنيا من مال يصيبه أو امرأة ينكحها أو ولاية يصيبها فله ما هاجر إليه وخسر حظّه في الآخرة ، وكذلك وردت الأحاديث في الجهاد كذلك. وعلى ذلك فليس كلّ من قام بالهجرة البدنية المكانية من مكّة إلى المدينة يكون ممّن هاجر في الله وإلى الله ورسوله والمديح مخصوص بمن هاجر في الله وإلى الله ورسوله ، لا كلّ من هاجر ولو بنيّة إصابة الدنيا.

تحقيق في عنوان المهاجر والأنصاري

إنّ المتتبّع للاستعمال القرآني لمادة الهجرة والنصرة في هيئة الفاعل عند الاطلاق وعدم التقييد بقرينة معينة لا يراد به كل من انتقل ببدنه من مكة أو غيرها إلى المدينة المنورة مظهرا للإسلام ، كما أنّ الأنصاري ليس كلّ من أظهر الاسلام وكان قاطنا في المدينة وحواليها ، وإنّ إجراء الاستعمال بهذا المعنى الوسيع وحصول التوسّع عن المعنى الأوّل إنّما وقع وشاع في الألسن لتخيل تطبيق المعنى اللغوي بلحاظ مطلق الانتقال المكاني ، واستدعاء ذلك المقابلة مع من لم ينتقل من موطنه وهو الأنصاري ، مع وجود الدوافع السياسية المقتضية لهذا التعميم كي تجد مستندا للشرعية فيما تقدّم عليه.

بل المقتنص من التتبع للآي القرآني هو أنّ الهجرة والمهاجر عند الاطلاق من دون تقييد يراد به من انتقل من موطنه وبلاد المشركين إلى المدينة بقصد طاعة الله وفي سبيل

__________________

(١). النحل / ٤١.

(٢). النساء / ١٠٠.

الله وإلى الله ورسوله كما أشارت إلى ذلك الآيات المتقدّمة وكقوله تعالى (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (١) ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) (٢) ، وقوله تعالى (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) وقد اقترن ذكر عنوان الهجرة كثيرا في الآيات (٤) مع الجهاد في سبيل الله ومع الإيمان أو مع الأذية في سبيل الله والقتل في سبيله أو مع الصبر ، وقد وردت الأحاديث النبويّة في تفسير الهجرة الشرعية بذلك.

فالهجرة عند الاطلاق بذلك المعنى كما هو الحال في مقام الثناء والمديح لها كفعل عبادي من الطاعات والقربات العظيمة ، بخلاف ما إذا قيّد الاستعمال بقيد معين ، كترتيب أحكام خاصّة من قبيل حلّ المناكحة وحرمة الدم والمال ونحوها ، ولذلك ترى في قوله تعالى (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) (٥) أنّه لم يكتفى بالهجرة الظاهرية من دون التحقّق من حصول الهجرة الواقعية الحقيقية ، التي هي مقيّدة بالإيمان القلبي وكونها في الله وفي سبيل الله وإلى الله ورسوله ، وكذلك الحال في الاستعمال الآي القرآني ، قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (٦) ، وقال تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٧) ، وقال (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ

__________________

(١). النساء / ١٠٠.

(٢). الحج / ٥٨.

(٣). العنكبوت / ٢٦.

(٤). البقرة / ٢١٨ ، آل عمران / ١٩٥ ، الأنفال / ٧٢ و ٧٤ و ٧٥ ، التوبة / ٢٠ ، النحل / ٤١.

(٥). الممتحنة / ١٠.

(٦). الصف / ١٤.

(٧). الأعراف / ١٥٧.

بَعْضٍ) (١).

فيلاحظ أنّ النصرة والأنصاري ليس مطلق المعاضدة فضلا عن أنّ تكون هي كل مسلم كان موطنه المدينة فليس كلّ أوسي أو خزرجي أو غيرهما ممن حول المدينة هو أنصاري بل من آمن وآوى وعزّر ووقّر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبع النّور الذي أنزل مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان ذلك كلّه في الله وإلى الله كان أنصاريا.

فمن ثم سنرى أنّ في سورة التوبة ـ كما يأتي الحديث عنها ـ تقسم كلّ من أهل المدينة وغيرهم ممّن انتقل إلى المدينة إلى فئات صالحة ينطبق عليها هذين العنوانين الوسامين المهاجر والأنصاري ، وطالحة مردت على النفاق وكان في قلوبهم مرض أو متقاعسة عن القتال أو غيرهم من أنواع المنافقين وسنعاود التذكير على دلالة السورة المزبورة أيضا على اختصاص هذين العنوانين والصفتين كمنقبتين فضيلتين بمن توفرت فيه القيود السالفة ، فهي كبقية الآيات من السور الأخرى منبّهة على خطأ هذا الاصطلاح الشائع من إطلاق المهاجر على كلّ مكّي أسلم ونحوه انتقل إلى المدينة ، والأنصاري على كلّ خزرجي أو أوسي أسلم قطن المدينة ونحوها.

فالهجرة والنصرة منقبتين عظيمتين وطاعتان قريبتان أخذ في ماهيتهما قيود وأجزاء متعددة ومن ثمّ يترتّب على ذلك لزوم إحراز توفّر القيود في من يراد توصيفه بهما.

النقطة الثالثة : أن هناك العديد من القيود التي تستعرضها الآيات كشرط في مديح المهاجر والأنصاري مثلا.

أ ـ ما في سورة الفتح ضابطة تستعرضها الآية في المهاجرين والأنصار هي من المحكم الذي يتبيّن به بقيّة الآيات ، وهو قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ

__________________

(١). الأنفال / ٧٢.

أَجْراً عَظِيماً) (١) فتشترط الآية شرط الوفاء بالعهد وعدم النكث به شرطا لحسن العاقبة والمثوبة فالموافاة للعهد عند الموت وعدم النكث والتبديل شرط في ذلك كما هو الحال في بقيّة المؤمنين إلى يوم القيامة.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى أيضا في آخر السورة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢) فإنّ قيد المغفرة والأجر بمن آمن قلبا منهم وعمل صالحا ، بل أنّ لفظة (منهم) دالّة على التبعيض وأنّ ليس كلّ الذين معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم وعد بالحسنى بل خصوص من اتّصف بالقيد منهم ، فالتقييد والتبعيض احتراز عن إيهام العموم في صدر الآية.

ويشير إلى مثل هذا القيد في مدح المهاجر والأنصاري ، قوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٣) ، حيث دلّت الآية على اشتراط عدم التبديل في المؤمنين كي ينالوا الأجر وأن الموافاة والوفاء وعدم التبديل شرط في وصف المؤمنين بالصدق. وقد اشتهر عند الصحابة أنّهم إذا أرادوا أن يقدحوا في واحد منهم أن يقولوا أنّه بدّل كما هو دائر في ألسنتهم في الفتن التي وقعت بينهم.

ب ـ وكذلك هناك قيد آخر ذكرته الآيات كشرط في المديح وهو اتصافهم بأنّهم رحماء بينهم أشداء على الكفّار أي اللين والرأفة فيما بينهم والشجاعة أمام الكفّار ، كقوله تعالى (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) في سورة الفتح.

وقوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ

__________________

(١). الفتح / ١٠.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). الأحزاب / ٢٣ ـ ٢٤.

وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) (١).

وقوله تعالى (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٢).

فبيّن تعالى أن الجبن والخوف والحزن من خشية الموت وإذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد على عكس صفات المؤمنين من الرحمة فيما بينهم والشجاعة أمام الكفّار ، ومن الثابت أنّ من المهاجرين من كان فظا غليظا مع بقيّة المؤمنين والمسلمين هزوما فرارا في الحروب واذا قاد جيشا ليفتح حصنا عاد يجبّن الناس والناس يجبّنونه بينما المؤمن كرار غير فرار يفتح الله على يديه.

ج ـ كذلك هناك آيات أخرى دالّة على أن هناك أعمالا سيئة موجبة لحبط الأعمال ، كقوله تعالى (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (٣) ، وكقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٤).

ومن الثابت في كتب السير والأحاديث أنّه في العديد من الوقائع قد أبرم وقطع فيها غير واحد من الصحابة العشرة المبشرة قبل أن يحكم الله ورسوله فيها ، بل قد تقدّموا في أشياء قد تقدّم الله ورسوله فيها بحكم خلافا وردّا.

وكقوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ

__________________

(١). محمّد / ٢٠ ـ ٢١.

(٢). الأحزاب / ١٨ ـ ١٩.

(٣). المائدة / ٥.

(٤). الحجرات / ١ ـ ٢.

ما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١).

مع أنّ بعض المهاجرين ارتاب في دينه في صلح الحديبية. فعدم الارتياب قيد في بقاء الإيمان. وهذه نماذج من القيود وعليك بتقصيها في السور القرآنية ممّا يعلم فقدان جماعة من الصحابة المهاجرين والأنصار لها.

النقطة الرابعة : أنّ ممّا قد ثبت مقطوعا به للمتتبّع في الآيات القرآنية وكتب الأحاديث والسير والتواريخ أنّ العديد من الصحابة من المهاجرين والأنصار قد وقعت وصدرت منهم مخالفات للشرع المبين من الكبائر وبعضها من العظائم سواء في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند التنازع والفتن التي انتهت إلى حرب الجمل وصفين فقد وقع منهم الفرار من الزحف في مواطن كوقعة أحد وحنين ولم يبق إلّا ثلّة من بني هاشم مع أنّ الفرار من الزحف من الكبائر السبع المغلظة وكذا ما أتاه الصحابة في صلح الحديبية وفي مقدّمتهم بعض المهاجرين من الاعتراض على صلح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنكير لذلك حتّى أنّهم أبوا أن يحلقوا رءوسهم والتحلل من الإحرام وأبدوا العصيان الجماعي حتى اضطر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يجدّد أخذ البيعة منهم بعد ذلك بعد ما ارعووا وعادوا ويستوثق منهم المواثيق.

وما أتاه عدّة من الصحابة من المهاجرين من التخلّف عن جيش أسامة الذي جهّزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتال الروم مع انه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لعن من تخلّف عن جيش أسامة وقال نفّذوا جيش اسامة. وقد نزلت الآية كما قيل (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) في اقتتال الأوس والخزرج بالأحذية والعصي. وبعضهم ردّ على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما طلب دواة وكتاب يكتب فيه ما إن تمسكوا به فلن يضلّوا أبدا ، وقال أنّه غلب عليه المرض وهي عظيمة.

__________________

(١). الحجرات / ١٥ ـ ١٦.

مفاد الآيات القرآنيّة

هذا وأما الآيات فمفادها بعيد تمام البعد عن تقديس جميع الصحابة أو ثلّة جماعة بيعة السقيفة ، بل أن كلّا منها بنفسه دليل على عدم التعميم في عدالة الصحابة ، سواء فسرّت الصحبة بمعنى كل من رآه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو نقل الحديث عنه أو لازمه مدّة مديدة.

* أمّا الآية الأولى : فهى قوله تعالى :

(السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

فنرى أنّ الآية قد قيّدت المرضيّ عنهم من المهاجرين والأنصار بقيدين : السبق والأولية في السبق ، أى كونه أول السابقين ومن المقرّر في موضعه تاريخيا ـ برغم الدعاوي الاخرى ـ أن أول السابقين إلى الإسلام هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن ثم حاولت الدعاوي الاخرى الاستعاضة لتطبيق الآية بأن عليا أوّل من أسلم من الاحداث وأن خديجة أول من أسلم من النساء.

__________________

(١). التوبة / ١٠٠.

ولكن السبق والأولية في الآية غير مقيدتين بحيثية السن أو الجنس ، هذا من جانب ومن جانب آخر نرى ان استعمال القرآن الكريم للسبق هو بمعنى خاص كما تطالعنا به سورة الواقعة وهذا كديدن الاستعمال القرآني في العديد من عناوين الالفاظ كالصديقين والاصطفاء والتطهير. فالمعنى الذي في سورة الواقعة (السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١) هو خصوص المقرّب وقد أكدت الآية على عنوان «السبق» بالتكرار للإشارة به ، و «المقرّب» قد أريد به معنى خاص في سورة المطففين (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٢) ، فعرّف المقرّب بأنه الذي يشهد كتاب الأبرار وشهادة الاعمال من خصائص الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ذكرت ذلك الآيات كما في سورة التوبة.

وهذا يعطينا مؤدى ان «المقرّب» ليس من درجة الأبرار من أنماط المؤمنين ، بل فوقهم شاهد لما يعملونه وشهادة الأعمال لا ريب أنّها نحو من الغيب الذي لا يطلعه الله إلّا لمن ارتضى من رسول ، فهى نحو من العلم اللدني الالهي المخصص بالمقربين ، فهم نحو من الذين اوتوا مناصب إلهية غيبية جعلها لهم. ويعطي ذلك التقسيم في سورة الواقعة لمن يحشر من البشر إلى ثلاثة أقسام : السابقون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة ، ولا ريب في دخول الأنبياء والرسل والأوصياء في القسم الأول وهو يقتضي عدم مشاركة غيرهم لهم في الدرجة ، فالباقون هم في القسمين الأخيرين ، فالسبق في الاستعمال القرآني هو في من حاز العصمة والطهارة الذاتية من الذنوب ، فالسبق هاهنا هو في الدرجات لا السبق الزمني ، مع أن أول السابقين زمنا في المهاجرين هو علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ومن ذلك يظهر المراد من أوّل السابقين من الأنصار ، فإن المطهّر من الذنب من الأنصار ـ أي الذي لم يهاجر ـ هما الحسنان عليهما‌السلام فانهما اللذان نزلت فيهما وفي أبويهما

__________________

(١). الواقعة / ١٠ ـ ١١.

(٢). المطففين / ١٨ ـ ٢١.

آية التطهير ، كما هو مقرّر في موضعه من سبب نزول الآية في أخبار الفريقين. وكذلك يظهر المراد من الذين اتبعوهم بإحسان ، إنهم المطهّرون من الذنب من الذرية النبوية ، ويطالعك بهذا المعنى ـ مضافا إلى أنّه مقتضى معنى السبق في الاستعمال القرآني ـ أنّ مقام الإحسان في القرآن لا ينطبق على غير المعصوم من الزلل والخطاء ، إذ لم يسند الإحسان إلى فعل مخصوص ، بل جعل وصفا لكل معصوم من الذنب ، لاحظ قوله تعالى :

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٣).

(سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٤).

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٥).

(سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٦).

(سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٧).

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٨).

فترى ان الذي يوصف بالاحسان ـ من غير تقييد في فعل خاص كأداء دية أو مهر أو تسريح بإحسان للمطلقة ، بل بالإحسان في كل أفعاله ـ قد ادّخر تعالى له جزاء دنيويا واخرويا من سنخ الذي ذكرته الآيات السابقة من جعل النبوة في الذريّة وإتيان الحكم والعلم اللدني الإلهي وتقدير السلامة والأمن في النشآت المختلفة. وقد وصف المحسن و

__________________

(١). الانعام / ٨٤.

(٢). يوسف / ٢٢.

(٣). القصص / ١٤.

(٤). الصافات / ٨٠.

(٥). الصافات / ١٠٥.

(٦). الصافات / ١١٠.

(٧). الصافات / ١٢١.

(٨). الصافات / ١٣١.

المحسنون بأنّ رحمة الله قريب منهم وأنّ الله يحبهم وأنّ الله لمعهم معيّة خاصة عن معيّته القيوميّة على كل مخلوق (١) ، فالآية لم تكتف بوصف القسم الثالث بأنّهم تابعون للأولين السابقين ، بل ضيقت الدائرة إلى كون تبعيتهم بإحسان ، والإحسان والمحسن مقام فوق مقام العدل والعدالة.

وكذلك الحال في القسمين الأوّل والثاني ، فإنّه لم يبق على دائرته الوسيعة ، فضيق بحدود «السابقين» وهذه الدائرة لم تبق على حالها ، بل ضيقت إلى دائرة «أول السابقين» فلا بد ـ والحال هذه ـ من تمحيص وفهم دلالة الكلام ، ألا ترى في سورة المدثر ـ وهى رابع سورة نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة ـ انّها تقسم الموجودين حينذاك إلى أربعة أقسام؛ هى «المؤمنون» و «أهل الكتاب» و «المشركون» و (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، فلو كان المراد هو من سبق بإظهار الإسلام من المهاجرين فأين هم الذين في قلوبهم مرض ويستترون بالاسلام عن إظهاره. فبكلّ ذلك ، مع ما ذكرنا من النقاط العامة يقع القاري على المراد في الآية الكريمة.

ثم إنّه لا يخفى على القارئ أن الآية هي من سورة التوبة وقد استعرضت السورة نماذج عديدة سيئة ممن عايش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقاه ، فمثلا فيها (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) (٢) فإنّها نزلت في غزوة تبوك وبعد الغزوة وفي طريق العودة دبّرت مؤامرة لاغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العقبة ، وقد تقدم نقل حديث حذيفة ـ الذي رواه مسلم في صفات المنافقين ـ في منافقي أهل العقبة وأنهم من الصحابة الخاصة.

ونموذج ثان تفصح عنه سورة التوبة : (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٣). ومن البين أن السورة تشير

__________________

(١). النحل / ١٢٨ ، آل عمران / ١٣٤ ، المائدة / ١٣ ، الاعراف / ٥٦.

(٢). التوبة / ٧٤.

(٣). التوبة / ١٠١.

إلى نمط من المنافقين لمن يظهر نفاقهم إلى العيان ، أي كانوا في غاية التستر ، ولا ريب انّ الأباعد الذين يلقون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يحتاجون إلى هذه الشدة من التستر ، كما أنّ هؤلاء كانوا من الخطورة بمكان حتّى إنّهم احتاجوا الى هذه الشدة من التستر ، كما أنّهم مردوا واحترفوا النفاق بحيث لا يمكن اصطياد حركاتهم الظاهرة.

هذا فضلا عن النماذج الاخرى التي تستعرضها سورة التوبة ، من الأعراب وممن حول المدينة وغيرهم (١) ، فإذا كانت السورة تقسّم من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممن كان يتعامل معه يوميّا أو لازموه إلى فئات عديدة صالحة وطالحة ، فكيف يعمم الصلاح الى الكل؟ فلا يكون التعميم إلّا بأن يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض أو يتعامى عن النظر إلى جميع آيات السورة الواحدة أو تصمّ الآذان عن سماعها جميعا.

وهذا التقسيم ـ كما نبهنا سابقا ـ دليل على عدم اطلاق المهاجر على كلّ مكي أسلم وانتقل إلى المدينة ، وعلى عدم اطلاق الانصاري على كلّ مدني أسلم ، بل يطلق كلّ منهما

__________________

(١). مثل قوله تعالى (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) التوبة / ٤٥.

(يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) التوبة / ٦٤

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ) التوبة / ٦٧

(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ ...) التوبة / ١٠٦

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ...) التوبة / ٤٩

(وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ...) التوبة / ٧٥

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ ...) التوبة / ٥٨

(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ...) التوبة / ٧٩

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ...) التوبة / ٦١

(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً ...) التوبة / ١٠٢

مع توافر قيود عديدة اخرى. ولاحظ اسلوب هذه الآيات التي تستعرض النماذج الاخرى ، فإنّه اسلوب لا يرى فيه الهوادة والمهادنة ، كقوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(١)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ* وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ* وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ* أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ* وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (٢).

فترى أن في سورة التوبة نزل الأمر بجهاد المنافقين على حدّ جهاد الكفار سواء ، وأفرد الخطاب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل الأمر بمجاهدة الكفار الذين يلون المؤمنين ـ أي القريبين منهم ـ وجعلت الآيات الذين في قلوبهم مرض من الكفار ، وقد عرفت أنّ الذين في قلوبهم مرض هم من الخاصة التي أظهرت الإسلام في أوائل البعثة كما صرّحت بذلك سورة المدثر ، امّا سورة التوبة فقد نزلت في غزوة تبوك ، أي في أخريات حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد نزل قبل ذلك في سورة الاحزاب التهديد بمجاهدة المنافقين والذين في قلوبهم مرض من دون الأمر به ، قال تعالى

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا

__________________

(١). التوبة / ٧٣.

(٢). التوبة / ١٢٣ ـ ١٢٧.

تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (١).

فسورة التوبة متميزة من بين السور الاخرى في ملاحقة فلول اقسام المنافقين والذين في قلوبهم مرض ، إلى درجة نزول الأمر بجهاد المنافقين على حدّ جهاد الكفر سواء ، ومن ذلك يظهر ملاحقة القرآن الذين في قلوبهم مرض ، وهم ممّن احترف النفاق ومرد عليه ، من أوائل البعثة حتى أواخر نزول القرآن فى المدينة. وقد تقدمت رواية البخاري في صحيحه في الباب الواحد والعشرين من كتاب الفتن ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : «ان المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون!» (٢) فعلى من ينطبق ما يصفه حذيفة؟ ولما ذا كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متسترين وبعده خرجوا من تستّرهم واصبحوا هم الظاهرين وصار الجوّ العام على مشرعتهم؟!.

ولذلك سميت سورة التوبة «بالفاضحة» كما عن سعيد بن جبير ، قال : «قلت لابن عباس : سورة التوبة؟ فقال : التوبة؟ بل هى الفاضحة ، ما زالت تنزل «ومنهم ...» حتى ظننّا أن لا يبقى منّا أحد إلّا ذكر فيها». (٣) وسميت بذلك لأنّها فضحت المنافقين باظهار نفاقهم (٤) ، ومنهم أهل العقبة الذين همّوا بما لم ينالوا وقالوا كلمة الكفر ، وعرفهم حذيفة وعمار في الواقعة المعروفة في كتب السير والتفاسير. وتسمى «بالمبعثرة» ، فعن ابن عباس ، لانّها تبعثر عن أسرار المنافقين ، أى تبحث عنها. (٥) وتسمى «البحوث» ، فعن أبي أيوب الانصاري انّه سمّاها بذلك ، لانّها تتضمن ذكر المنافقين والبحث عن سرائرهم. (٦) وتسمى «بالحافرة» ، فعن الحسن ، لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا

__________________

(١). الاحزاب / ٦٠ ـ ٦٢.

(٢). صحيح البخارى ٩ / ١٠٤ ح ٥٧.

(٣). در المنثور ٤ / ١٢٠.

(٤). مجمع البيان ٥ / ٥.

(٥). مجمع البيان ٥ / ٥.

(٦). مجمع البيان ٥ / ٦.

يسترونه. (١)

ومن الواضح إنه لم تكن هذه الفئة وغيرها من المنافقين من قبيل عبد الله بن أبي سلول وجماعته ممّن كان ظاهر النفاق والشقاق وشاهر بهما وانّما فضحت سورة التوبة المتسترين الذين كانوا في شدة خفاء ولا ريب أنّهم كانوا ذوي خطب ووقع في مجريات الأمور ويرون أنّ حجر العثرة الأساس أمام مخططاتهم هو وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك شدّد على أهمية ملاحقتهم ، وتسمى «المثيرة» ؛ لأنها أثارت مخازيهم ومقابحهم. (٢) فلها عشرة اسماء كما ذكر المفسرون. (٣)

ومع كل ما تضمنته سورة التوبة وما كان سبب النزول الرئيسى لها ومع ما تبين من دلالة (الأوّلين السابقين والاتّباع بالإحسان) بتحديدها لدائرة خاصة جدا ، كيف يتجرأ على نسبة التعميم في مفاد الآية المتقدمة؟!

ومن ما ذكرنا يظهر الحال في مفاد الآية الخامسة من تعداد الآيات التي يستدل بها وهي قوله تعالى في سورة التوبة (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٤) فإن المهاجر ـ كما تقدم ـ لا يطلق على كل مكي أسلم وانتقل الى المدينة وكان في ركاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما دلّت على ذلك سورة التوبة بتقسيمها من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فئات عديدة صالحة وطالحة وكذا الحال في عنوان الأنصاري ، فهو ليس كل مدني أسلم وكان في ركاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ الآية المذكورة فى تفسيرها الوارد عن أهل البيت عليهم‌السلام دالّة على تكفير من ذنب وخطيئة صدرت منهم وأنّ التوبة على الله تعالى بلحاظ ذلك. (٥)

__________________

(١). مجمع البيان ٥ / ٦.

(٢). مجمع البيان ٥ / ٦.

(٣). انظر : مجمع البيان ٥ / ٥ ـ ٦.

(٤). التوبة / ١١٧.

(٥). مجمع البيان ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

* وأمّا الآية الثانية : فهى قوله تعالى

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ* وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١)

وروى السيوطي وغيره عن جمع انهم يحتجّون بهذه الآيات على عدم جواز تناول الصحابة بقصّ ما وقع منهم ، وأنّ من يتناولهم بسوء ما صدر من أفعال بعضهم ففى قلبه غلّ ، وأنّ من يقتصّ ما جرى بينهم لا يدخل في مدلول (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا). (٢)

ولأجل تحصيل المفاد الصحيح للآيات ينبغي ذكر الآيتين اللاحقتين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ* لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (٣) فترى أنّ سورة الحشر كسورة التوبة المتقدمة لا تقتصر في تقسيم من كان مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الفئة الصالحة فسب ، بل تنبّه على ذكر الجماعة الطالحة وهم المنافقون وهو إبطال لدعوى

__________________

(١). الحشر / ٨ ـ ١٠.

(٢). الدر المنثور ٨ / ١٠٥ ـ ١٠٦ و ١١٣ ـ ١١٤ ، تفسير الطبرى ١٢ / ٤٣ ح ٣٣٨٨٨ ، تفسير فخر رازى ٢٩ / ٢٨٩ ، تفسير البغوى ٤ / ٢٩٢

(٣). الحشر / ١١ ـ ١٢.

التعميم في كل من صحب ولقى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أن السورة في الآيات المذكورة تحدّد وتفسر «المهاجر» بأنّه من توافر على قيود أربعة وهي :

الأوّل : الذي اخرج من دياره وأمواله.

الثاني : كون خروجه ابتغاء فضل الله ورضوانه ، كما قدمناه مرارا من أن الهجرة في الاستعمال القرآني هي في المعنى الخاص من الفعل العبادي في سبيل الله ، لا قصد الحطام الدنيوي.

الثالث : نصرة الله ورسوله وقدمنا أنّ كتب السير ملاء بمن كان يجبن في الحروب ومنازلة الأبطال فى ساعة العسرة والشدائد ممن يقال عنهم إنهم من الخاصة الذين صحبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الرابع : الصدق وهو ـ كما تقدمت الإشارة المختصرة إليه ـ قد شرح في آيات عديدة ، كقوله تعالى

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١).

فالاستقامة حتى آخر العمر وعدم التبديل من مقدّمات الصدق ، ولذلك اشتهر بين الصحابة في طعنهم على بعضهم بأنه بدّل وأحدث ، كما درج هذا الاستعمال بكثرة عندهم في فتنة قتل عثمان وبقية الفتن التي دارت بينهم ، فدلّت الآية على اشتراط والوفاء بالعهد وعدم التبديل في وصف المؤمنين بالصدق.

وكقوله تعالى في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ

__________________

(١). الاحزاب / ٢٣ و ٢٤.

* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها* إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى* الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (١).

فنرى في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها تشترط في عنوان الصدق الثبات عند الزحف وعدم الفرار والجبن بينما المنافق الخفي جبان في الحروب والنزال كانّه يغشى عليه من الموت لشدّة خوفه وجبنه ، فإذا قاد جيشا ليفتح حصنا عاد يجبّن الناس والناس يجبّنونه ، بخلاف الصادق ، فإنّه كرار غير فرار ، يفتح الله على يديه ، والمنافق الخفي المحترف للنفاق يحزن من هو الكفار والقتال ، ويقول مثلا يا رسول الله أنّها قريش وخيلاؤها ما هزمت قطّ. فليس ذلك علامة الصدق فى ما يدّعيه من الإيمان فهذا الصحابى الّذي أشارت إلى فئته سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو المنافق المحترف وصفتهم عكس ما اشير إليه فى سورة الفتح بقوله تعالى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٢) وأنّ صحابى هذه الفئة عظّ فظّ مع المؤمنين في السلم ، هجين ذعر جبان في الحرب مع الكفار.

ثمّ إنّ السورة تلاحق وجود فئة محترفة للنفاق وهي (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٣) وهي الفئة التي أشارت إليها سورة المدثر المكيّة (٤) رابع سورة أنزلت في بداية البعثة ، و

__________________

(١). محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ ـ ٣٠.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). محمّد / ٢٠ و ٢٩.

(٤). المدّثّر / ٣١.

كشفت عن وجودها في صفوف المسلمين الأوائل ، وهذه السورة تنبئ عن غرض هذه الفئة من إسلامها منذ البدء ، إنّه تولّي الامور ، وعرّضت بتولّيهم للامور ومقدرات الحكم وإفسادهم في الأرض ، وسيرتهم على غير سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسننه وتقطيعهم للرحم التي امروا بوصلها ، وان إسلامهم في بدء الدعوة ـ كما في سورة المدثر ـ هو لذلك الغرض ، لما اشتهر من الأنباء من الكهنة واليهود عن ظفر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعرب والبلدان كما تشير إليه الآية عن اليهود قبل الاسلام (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(١).

كما أن سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكشف عن وجود ارتباط بين هذه الفئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وبين الكفار الذين كرهوا ما نزّل الله وإنّهم يعدونهم بطاعتهم في بعض الأمر والشئون الخطيرة ، ويحسبون أنّ الله ليس بكاشفهم ، فالسورة تكشف عن فئة منافقة أخفت نفاقها فغدت محترفة في الاختفاء (لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٢) ، في مقابل الفئة المؤمنة أهل الصدق ، كما تكشف عن فئة مرتدّة في الباطن عن الاسلام.

والحاصل أن سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما تشير إلى شرائط عنوان الصدق ، فإنّها أيضا تشير إلى تقسيم من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن صحبه ، لا التسوية بينهم وجعلهم في كفّة واحدة ، فهل إنّ من يقسّم الصحابة إلى فئات ـ كما قسّم القرآن الكريم ـ يؤمن بالكتاب كلّه أم من يبعض الإيمان فهو يؤمن ببعض آيات السورة دون بعضها الآخر ، مع إنّه لم يصب ذلك البعض أيضا؟! وكذا يشير إلى معنى الصدق قوله تعالى في سورة الاحزاب :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ

__________________

(١). البقرة / ٨٩.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٣٠.

ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً* وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً* وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً* وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً* وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً* قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً* قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً ، قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً* أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ* أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً* يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ ، وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً* وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً* مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً* لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (١).

ونقلنا الآيات بطولها من سورة الاحزاب ليلمس الجوّ الذي تصوّره الآيات لنا في واقعة الخندق ، كما أنّ هذه السورة أيضا تبيّن أنّ من شرائط الصدق : الثبات عند الزحف و

__________________

(١). الاحزاب / ٩ ـ ٢٤.

الشجاعة في الحروب وعدم الفرار ؛ إلّا أنّ المنافقين والذين فى قلوبهم مرض إذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد ، فالحدة ليست في شجاعتهم وبطولتهم في النزال والشدائد ، بل في لسانهم في وقت السلم يبتذلون الفضاضة والغضاضة حتى مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتقدمون بما يرتئونه على الله ورسوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ...) (١)

فمن الغريب بعد ذلك أن يرووا في فضائل بعض الصحابة اعتراضه على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أربع موارد لفّقوها وأنّ القرآن نزل بخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفاقا لرأي ذلك البعض وفي بعض الروايات إنّه أمسك بثوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجذبه وكأنّهم لم يقرءوا سورة الحجرات ولم يقرءوا قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٢). ولم يقرءوا قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ* وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٣).

فالقرآن يجعل هذه الهالة المقدّسة لشخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويجعل أحكاما عديدة لكيفية الارتباط بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التوقير له ، وخفض الصوت ، وعدم التقدّم على أمره وحكمه ، وعدم مخالفته وعصيانه بالتسليم له ، وانّ ذلك هو الإيمان ، وهو امتحان القلب

__________________

(١). الحجرات / ١ ـ ٢.

(٢). سورة ص / ٨٦.

(٣). الحجرات / ٣ ـ ٧.

بالتقوى ... فكيف يكون ما يذكرونه من مجابهة ذلك الصحابي لنبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منقبة وفضيلة؟! وكيف يعتقد بتكلّف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلاف ما شرّع وحدّد له من الله تعالى، ويجعلون ذلك الصحابي يستنكر فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويردعه عنه ـ والعياذ بالله تعالى ـ ثمّ ينزل القرآن بتقرير رأي الصحابي على قول نبيّ الله تعالى ، الذي قال الله فيه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١)؟! نعوذ ونستجير بالله من هذه الأقاويل! أليس هذا تبجيلا للصحابي وغلوّا فيه إلى حدّ جعلوه فوق مقام النبوّة والرسالة ، وردّا على قول الله تعالى في شأن رسوله في سورة الحجرات وغيرها من السور؟!

وممّا يستغرب منه أنّ العديد من السور تجعل هذه الصفة ـ وهي عدم الإقدام في الحروب والشدائد ، والإقدام بحدّة اللسان والفظاظة في السلم مع المؤمنين أو مع الرسول ـ من علامات المنافقين ، أو الذين في قلوبهم مرض ـ كما في سورة الفتح وسورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسورة الحجرات وسورة الأحزاب وغيرها ـ فكيف تصاغ هذه الصفة كفضيلة من الفضائل ، وتسمّى بالشدّة والغيرة فى ذات الله وكراهة الباطل؟!!

ونعود ثانية إلى سورة الأحزاب ، فنقول : إنّها تشترط في الصدق ، الصدق عند النزال في الحروب والشدائد ، والرحمة ولين العريكة مع المؤمنين ، بل الآية تنفي الإيمان وتحبط عمل من اتّصف بالجبن في الحروب ـ كحرب الأحزاب (الخندق) ـ وبحدّة اللسان في السلم مع المؤمنين ، كما إنّ هذه السورة تقسّم من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى فئات صالحة وطالحة ، وتنفي صلاح المجموع ، بل تميّزهم إلى فئة مؤمنة ثابتة في الزلازل ، وفئة المنافقين ، والّذين في قلوبهم مرض ـ وهم أكثر احترافا للنفاق من الفئة الأولى ، وأشدّ خطرا ، كما تبيّن في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسورة المدّثّر ـ وفئة المعوّقين.

كما تدعو السورة إلى التأسّي بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاقتداء به ومتابعته ، لا الردّ والاعتراض

__________________

(١). سورة النجم / ٣ و ٤.

عليه كما هو دأب المنافقين ودأب الفئة الثانية (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (١) ودأب بعض القالين ، يجعل ذلك منقبة لبعض الصحابة (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢) ، فأين هي السورة القرآنية التي لا تقسّم من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تميزهم إلى فئات عديدة مختلفة؟! وكذا يشير إلى معنى «الصدق» قوله تعالى في سورة الحجرات :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٣).

فهذه السورة بآياتها هذه هي أيضا تشترط في معنى الصدق : الإيمان ، مع الاستقامة عليه بعدم الارتياب ، والمجاهدة في سبيل الله ؛ مع أنّه قد روى أكثر المفسّرين والمؤرّخين أنّ بعض من يعدّ ويحسب من خاصة الصحابة قد ارتاب في نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقّانية الدين في صلح الحديبية واعتراضه على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وبعد ما تحصّل لدينا معنى الصدق والصادقين من العديد من السور ، يتبيّن بوضوح لا ريب فيه أنّ المقصود من قوله تعالى في الآية الأولى من الآيات الثلاث المتقدّمة من سورة الحشر ، وهي : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً

__________________

(١). المائدة / ٥٢ ، الأنفال / ٤٩ ، التوبة / ١٢٥ ، الأحزاب / ١٢ و ٦٠ ، محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ و ٢٩ ، المدّثّر / ٣١.

(٢). سورة الحجرات ٤٩ : ١٦.

(٣). سورة الحجرات ٤٩ : ١٤ ـ ١٨.

مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١) ليس هو كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة وصحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل خصوص من توافرت فيه القيود العديدة المذكورة في الآية ، والتي منها الصدق ، والذي بيّنت السور العديدة الأخرى عدم توافره في جميع الصحابة ، بل توافر في فئة منهم دون غيرها من الفئات ، وأنّهم ضرب من الجماعات ، وكيف يحتمل وصف الآية كلّ مكّيّ ونحوه أسلم وانتقل إلى المدينة أنّه صادق ، وقد صدر من العديد منهم مخالفات ، كالفرار من الزحف الذي هو من الكبائر؟!

هذا ، وقد فرّ كلّ الصحابة يوم حنين إلّا ثلّة من بني هاشم كما في قوله تعالى :

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) (٢)

ووقعة حنين كانت بعد عام الفتح! وكذا ما أتاه الصحابة في صلح الحديبية ، وفي مقدّمتهم بعضهم من الاعتراض على صلح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) كما سيأتي تفصيله! وكذا ما أتاه عدّة من الصحابة من التخلّف عن جيش أسامة ، الذي جهّزه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقتال الروم ، وقد لعن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تخلّف عن جيش أسامة وقال : «نفّذوا جيش أسامة»! (٤). وقد اقتتل الأوس والخزرج بالأيدي والنعال والعصيّ (٥) فنزلت الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (٦)!

__________________

(١). الحشر / ٨.

(٢). التوبة / ٢٥ ـ ٢٦.

(٣). انظر : تاريخ الطبري ٢ / ١٢٢ حوادث سنة ٦ ه‍ ، البداية والنهاية ٤ / ١٣٦ حوادث سنة ٦ ه

(٤). انظر : الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ١٢ ، شرح نهج البلاغة ٦ / ٥٢ ، شرح المواقف ٨ / ٣٧٦.

(٥). انظر : تفسير الدرّ المنثور ٧ / ٥٦٠.

(٦). الحجرات / ٩.

ألم يمنع بعض الصحابة من كتابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا ـ في مرضه الأخير ـ لا يضلّ المسلمون بعده ما إن تمسّكوا به ، وقولة ذلك الصحابي : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غلبه الوجع ـ أو : المرض ـ أو : إنّ الرجل ليهجر؟! (١) وقد قال تعالى :

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٣)

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤).

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٥).

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) (٦)!

وكم من واقعة قد أبرم وقطع فيها غير واحد من العشرة المبشّرة قبل أن يحكم الله ورسوله فيها؟! بل تقدّموا في أشياء قد تقدّم الله ورسوله فيها بحكم خلافا وردّا لذلك الحكم ، كما في الأمثلة المتقدّمة وغيرها!

ثمّ إنّه بقرينة الآية الثالثة من آيات سورة الحشر المزبورة ، وهي : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) (٧) يتبيّن أنّ المراد من «الفقراء المهاجرين» هم «السابقون» وقد تقدّم في سورة التوبة المراد من «السابقين»

__________________

(١). انظر : صحيح البخاري ٤ / ٢١١ ح ١٠ وج ٦ / ٢٩ ح ٤٢٢ ، صحيح مسلم ٥ / ٧٥ ـ ٧٦ ، مسند أحمد ١ / ٣٢٥ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٨٥ حوادث سنة ١١ ه

(٢). النجم / ٢ ـ ٤.

(٣). الحجرات / ١ و ٢.

(٤). الحشر / ٧.

(٥). الأحزاب / ٢١.

(٦). المائدة / ٩٢.

(٧). الحشر / ١٠.

فلا تغفل ، ويعضد ذلك أيضا التوصيف ب «الصدق» كما تقدّم.

أمّا الآية الثانية من الآيات الثلاث من هذه السورة : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١) ، فقد قيّدت الآية المديح بعدّة قيود ، فلم تكتف بتبوّؤ الدار ، بل قيّدته بالإيمان ، والمحبّة لمن هاجر إليهم ، والإيثار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وعدم الشحّ.

ومن البيّن ضيق الدائرة بلحاظ هذه القيود ؛ لأنّه يخرج المتبوّئ للدار المنافق ، أو من انضمّ إلى فئة الّذين في قلوبهم مرض ، أو من كان من أهل المدينة من الّذين مردوا على النفاق ـ كما في سورة التوبة ـ (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) (٢) ، أو غيرها من النماذج التي استعرضتها سور التوبة والأحزاب ومحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبقرة والأنفال والمائدة ، وغيرها من السور المتعرّضة للفئات الطالحة التي صحبت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ألوان المنافقين المختلفة. فلا الآية الثانية هذه من سورة الحشر مطلقة لكلّ مدنيّ أسلم ، ولا الآيات الأخرى الناصّة على أنّ بعض الفئات الطالحة السيّئة هي من أهل المدينة تبقي الإطلاق المتوهّم.

هذا ، مع أنّه قد ورد في كتب أصحابنا عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ ذيل الآية (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قد نزلت في عليّ وفاطمة عليهما‌السلام ، بل رووا ذلك أيضا عن رواة العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، نعم ، في بعض الروايات أنّ سيّد هذه الآية وأميرها عليّ عليه‌السلام ، ممّا يدلّ على عموم المعنى ، ولا غرابة في ذلك بعد كون الآيات مختلفة نزولا ، فلعلّ صدرها في مورد وذيلها في آخر ، وكم له من

__________________

(١). الحشر / ٩.

(٢). التوبة / ١٠١.

(٣). الأمالي ـ للطوسي ـ ١٨٥ ح ٣٠٩ المجلس ٧ ، مجمع البيان ٩ / ٣٨٦ ، تفسير الصافي ٥ / ١٥٧ ، وانظر : شواهد التنزيل ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٧ ح ٩٧٠ و ٩٧١.

نظير في الآيات ، وعلى كلّ حال ، فالآية تقيّد بعدّة قيود ، فلا مسرح لتوهّم الإطلاق.

الموالاة والبراءة

وأمّا قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١)

فالآية تقيّد الاستغفار لمن سبق بالإيمان ، لا لمن سبق بظاهر الإسلام ، وتنفي الغلّ عن الّذين آمنوا. أمّا قوله تعالى :

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٢) ، فقد علّل النهي عن الاستغفار لمن يكون من أصحاب الجحيم عدوّا لله العزيز.

وقد بيّنت سور القرآن العديدة المتقدّمة أنّ العديد ممّن صحب النبيّ الصادق الأمينصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولقيه كان من فئات المنافقين ، أو الّذين في قلوبهم مرض ، أو الماردين على النفاق ، أو الّذين يلمزون المؤمنين ، أو الّذين يؤذون النبيّ ، أو المعوّقين عن القتال ، أو المتخلّفين ، أو غيرهم من النماذج السيّئة ، وتوعّدهم الله تعالى بالعذاب واللعن ، وأنّ الكافرين سواء في العاقبة.

فمع كون الاستغفار من المؤمنين محرّم لهذه الفئات التي صحبت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكيف يتوهّم شمول الاستغفار والحبّ لكلّ مكّي ونحوه أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ولكلّ مدنيّ أسلم في الظاهر؟! وقد عرفت أنّ سورة المدّثّر ـ رابع سورة نزلت ـ وسورتي العنكبوت والنحل المكّيّات ، قد تتبّعت وجود فئة محترفة للنفاق منذ أوائل البعثة ،

__________________

(١). الحشر / ١٠.

(٢). التوبة / ١١٣ و ١١٤.

وأطلقت عليها عنوان : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، ولاحق القرآن الكريم خطواتهم في العديد من السور تحت هذا العنوان وبيّن أهدافهم من إظهار الإسلام والالتحاق بركب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ورد النهي في العديد من الآيات عن موادّة من حادّ الله ورسوله ، قال تعالى :

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١).

وقد وصف القرآن العديد من الفئات التي كانت تصحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمحادّة لله ولرسوله ، قال تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ ... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ... أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ* أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ* لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ* يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ* اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) (٢).

فترى أنّ القرآن ما يفتأ يلاحق النماذج العديدة من ألوان الّذين في قلوبهم مرض

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

(٢). المجادلة / ٥ و ٨ و ١٤ ـ ٢٠.

والمنافقين وأنشطتهم المضادّة لمحور المسيرة الإلهية وهو المسير النبوي.

وفي سورة التوبة المتقدّمة ، المستعرضة لنماذج منهم ـ بعد قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ ... وَمِنْهُمُ ...) ـ : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ* يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ* أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ) (١) ومنهم من آذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ابنته فاطمة عليها‌السلام (٢).

فمع هذا كلّه كيف لا يتحرّج المؤمن المتديّن في محبّة كلّ مكّيّ أسلم وانتقل إلى المدينة ، وكلّ مدنيّ أسلم؟! وقد تقدّم حديث حذيفة الذي رواه مسلم في كتاب المنافقين أنّ أصحاب مؤامرة العقبة ـ بعد غزوة تبوك ـ اثنا عشر هم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

أليس من حادّ الله ورسوله ، وجعل نفسه ندّا لهما ، منافق ذو شقاق لله ورسوله ، فكيف يتّخذونه وليّا ومحبوبا وقد قال تعالى :

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (٣)؟!

فمع كلّ هذا النكير والتحذير القرآني من اتّباع وموادّة من حادّ الله تعالى ورسوله ، من النماذج الطالحة التي كانت تعايش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة ، أو في ركبه في القتال ، كما

__________________

(١). التوبة / ٦١ ـ ٦٣.

(٢). انظر : مسند أحمد ١ / ٤ و ٦.

(٣). البقرة / ١٦٥ ـ ١٦٧.

تذكر ذلك سورة التوبة وغيرها ، وبعضهم ـ كما عرفت من سورة المدّثّر ـ قد التحقوا بالإسلام ظاهريا منذ أوائل البعثة النبوية ، فكيف يستحلّ القائل بالتعميم الموالاة للجميع؟!

* وأمّا الآية الثالثة : فهي قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (١)

وقوله تعالى في السورة نفسها :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢).

ولأجل تحصيل مفاد هذه الآيات بدقّة لا بدّ من الالتفات إلى الأمور التالية :

* الأمر الأوّل : إنّه تمّ في صدر السورة الكريمة تقسيم من كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مؤمن ومنافق ، قال تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً* لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً* وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ

__________________

(١). الفتح / ١٨.

(٢). الفتح / ٢٩.

مَصِيراً) (١).

فهذه السورة شأنها شأن بقية السور القرآنية تقسّم وتميّز من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى صالح وطالح ، ولا تجعلهم فئة واحدة ، كما إنّها تبيّن أنّ السكينة تنزل على المؤمنين دون المنافقين ممّن صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثمّ يتبيّن أنّ الرضا والسكينة في الآية ١٨ منها خاصّة بالمؤمنين الّذين بايعوا تحت الشجرة لا غيرهم ، أي ليس كلّ من بايع فهو مؤمن وقد رضي الله عنه ، فالرضا كفعل أسند وتعلّق بالمؤمنين الّذين وضعوا في صدر السورة في قبال المنافقين ، فهؤلاء الّذين تميّزوا عن أولئك رضي الله عنهم حال مبايعتهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وستأتي شواهد أخرى على تخصيص الرضا بهم لا بكلّ من بايع ، إذ ليس لفظ الآية هكذا : «لقد رضي الله عن الّذين يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم» ، أي ليس الرضا لمطلق الّذين بايعوا بل مقيّد ، وقد خصّص الله تعالى ذلك أيضا في قوله :

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٢).

بينما لم تعمّ السكينة من كان مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغار كما في قوله تعالى :

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

* الأمر الثاني : إنّ قوله تعالى في سورة الفتح :

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى

__________________

(١). الفتح / ٤ ـ ٦.

(٢). الفتح / ٢٦.

(٣). التوبة / ٤٠.

نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١)

ترى فيه أنّ الحكم لم يخصّص بإسناد المبايعة إلى خصوص المؤمنين ، بل إلى عموم الّذين بايعوا ، أي الّذين كانوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحينئذ اشترط عليهم الوفاء بالبيعة وعدم النكث ، وفي الآية إشعار بوجود كلا الفئتين ، ومن ثمّ عرف بين الصحابة اصطلاح «بدّل» و «نكث» في الطعن الذي يوجّهونه على بعض منهم.

ومنه يظهر أنّ الرضا ـ حتّى الذي أسند إلى المؤمنين منهم خاصة ـ مشروط بالوفاء بما عاهدوا الله عليه ، وأنّ الرضا هو لأجل تسليمهم ومبايعتهم لا مطلقا ، و (إِذْ) من قبيل التعليل.

* الأمر الثالث : وهو متّفق مع سابقيه ، وهو أنّ قوله تعالى في آخر السورة :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٢)

يصف الّذين معه بالشدّة على الكفّار والرحمة فيما بينهم ، وقد انبأتنا سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسورة الأحزاب وسورة التوبة وغيرها من السور ـ كما تقدّمت الإشارة إلى بعضها ـ إلى وجود فئات من المنافقين والّذين في قلوبهم مرض مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا جاء الخوف تدور أعينهم كالمغشيّ عليه من الموت ، فإذا ذهب الخوف سلقوا المؤمنين بألسنة حداد ، وإذا جاءت الأحزاب يودّون لو أنّهم بادون في الأعراب ، يقولون بيوتنا عورة ، وإن تولّى أحدهم الأمور العامّة أفسد في الأرض وقطّع الأرحام (٣) ، وأغلظ وكان فظّا مع المؤمنين والمسلمين.

وبهذا يتبيّن أنّ هذه الآية في سورة الفتح تشير إلى مديح فئة خاصّة ، ومعنى خاصّ من «المعية» بمعنى النصرة الصادقة ، ويدلّ على ذلك أيضا تقييد الآية الوعد الإلهي

__________________

(١). الفتح / ١٠.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). لاحظ سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ٤٧ : ٢٠ ـ ٢٤ ، وما ذكرناه سابقا.

بالمغفرة والأجر العظيم بخصوص المؤمنين العاملين للصالحات ، أي أنّ الآية جاءت بلفظ (مِنْهُمْ) الدالّ على التبعيض وعدم العموم. وهذا ما نطقت به السور جميعها ، فهي تؤكّد على تبعيض المجموع الذي صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سواء في القتال ، أو في السلم حضرا أو سفرا ـ إلى صالح وطالح ، كما إنّ السورة تشترط لحصول المغفرة والأجر العظيم الإيمان والعمل الصالح ، أي الوفاء بالشرط.

* الأمر الرابع : إنّ شأن وقوع بيعة الشجرة ونزول آياتها ـ كما ذكر ذلك في كتب الرواية والتفسير والسير ـ هو ما وقع في صلح الحديبية من عصيان أكثر من كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاهم بالحلق والإحلال من الإحرام بعد ما صدّوا عن الاعتمار إلى بيت الله الحرام ، وصار الأمر إلى عقد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلح مع قريش ، والذي كان فيه انتصار كبير لرسول الله وللمسلمين على قريش ـ كما وعد الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلّا أنّ الّذين كانوا في ركبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضافا إلى أنّهم لم يدركوا الحكمة من ذلك ، لم يسلّموا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، وفي مقدّمتهم أحد الصحابة ممّن يحسب من الخاصة ، فقد ذكرت كتب الصحاح والتواريخ شدّة اعتراضه وردّه لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إنّه ارتاب في دينه ، وقد قال تعالى :

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١)

وقال :

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٢).

ولذلك قدّمنا في بيان آيات سورة الحشر أنّ اصطلاحات (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) ... و

__________________

(١). الحجرات / ١٥ و ١٦.

(٢). الأحزاب / ٣٦.

(الصَّادِقُونَ) لا تعمّ كلّ من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان من الكثير ممّن في ركبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حالة عدم انصياع وعدم استجابة وعدم ائتمار ، حتّى دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيمته مغضبا فاستخبرته الحال أمّ سلمة ، فأشارت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبتدر ويحلق فسيضطرّون إلى متابعته ، فلمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم مثل ذلك استوثق منهم بالبيعة تحت الشجرة كي لا يصدر منهم نكول مرّة أخرى ، فالبيعة أخذت لإنشاء التعهّد والوفاء والالتزام بمقتضى الشهادتين التي أقرّوا بها.

ومن ذلك كلّه يفهم أنّ «الرضا» في الآية كان بعد اعتراض كثير من الصحابة ـ ممّن بايع بعد ذلك ـ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحصول حالة من عدم التسليم والنكول بينهم ، وما يوجب السخط الإلهي عليهم ، ومع ذلك فإنّ هذا «الرضا» خصّص بالمؤمنين لمّا بايعوا ، ولم يسند إلى عموم الّذين بايعوا كما عرفت. ومع ذلك أيضا اشترط الوفاء بالبيعة وعدم النكث ، أي الوفاء بالعهد الإلهي حتّى حلول الأجل ، ومع كلّ ذلك ، فقد دلّت السورة الكريمة على مديح بعض من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظة «منهم» في آخر آية منها.

* أمّا الآيتان الرابعة والخامسة : فهي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١).

وقوله تعالى :

(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢).

وقوله تعالى :

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ

__________________

(١). النحل / ٤١ و ٤٢.

(٢). النحل / ١١٠.

مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

ولأجل إدراك معنى ومفاد الآيات الشريفة لا بدّ من الالتفات إلى أنّ الآية الثانية المذكورة آنفا من سورة النحل قد سبقتها الآيات التالية : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ* أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ* لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ* ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا ...) (٢).

ففي هذه الآيات المكّية دلالة على ظهور النفاق قبل الهجرة ، وأنّ هناك من المسلمين من يكفر بالله بلسانه بعد إسلامه مع انشراح صدره بذلك من دون إكراه ، بل حبّا في الحياة الدنيوية الوادعة ، وأولئك مطبوع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، وهم في غفلة عن الحقّ وهم الخاسرون ، وقيل : إنّها نزلت في عبد الله بن أبي سرح (٣) ، من بني عامر بن لؤي ، لكنّ ظاهر لفظ الجمع في الآيات يعطي أنّها نزلت في مجموعة وفئة تطمع في الأغراض الدنيوية.

هذا ، مضافا إلى ما تشير إليه سورة المدّثّر ، المكّية ـ رابع سورة نزلت ـ من وجود فئة الّذين في قلوبهم مرض في أوائل البعثة في صفوف المسلمين ، وتشير بقية السور إلى ملاحقة هذه الفئة وأهدافها وارتباطاتها بكلّ من الكفّار وأهل الكتاب ، فمن البيّن أنّ (لِلَّذِينَ هاجَرُوا) في هذه السورة لا يراد به كلّ مكّي أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ؛ كيف؟! وهي تقسّم المسلمين إلى فئة صالحة ، وأخرى طالحة تنشرح بالكفر صدرا بعد الإيمان ، حبّا في الدنيا ، مطبوع على قلوبها ، وكذلك سورة المدّثّر السابقة لها نزولا.

بل إنّ في الآية الأولى المذكورة من هذه السورة تقييد الهجرة بكونها في الله ، لا

__________________

(١). التوبة / ١١٧.

(٢). النحل / ١٠٦ ـ ١١٠.

(٣). انظر مثلا : تفسير القرطبي ١٠ / ١٢٦ ، تفسير الدرّ المنثور ٥ / ١٧١.

لأجل الأغراض والطموحات الدنيوية وتقلّد المناصب أو بعض الأمور كما هو دأب فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كما تشير إلى ذلك سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الآيات ٢٠ ـ ٢٤ ، بعد ما اطّلعوا على ظفر ونصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العرب ، اطّلعوا على ذلك من أهل الكتاب ، فقد كانوا على صلة بهم كما تشير إلى ذلك سورة المائدة ، الآية ٥٢ ، إذ كان أهل الكتاب على علم بذلك كما قال تعالى عنهم :

(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (١).

وقد سبق أن بيّنّا مفصّلا أنّ الهجرة والمهاجر والنصرة والأنصار في القرآن ليس بمعنى كلّ مكّي ونحوه أسلم في الظاهر وانتقل إلى المدينة ، كما أنّ اللفظة الثانية ليست لكلّ مدنيّ أسلم في الظاهر وإن شاع ذلك في الأذهان غفلة وخطأ ، فراجع.

وقد تقدّم مفاد الآية الخامسة المذكورة من سورة التوبة ، عند الكلام عن السورة ، فراجع ؛ وأنّها في قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) (٢) وأنّ هذه السورة لم تترك فئة أو لونا من ألوان المنافقين إلّا وكشفتهم ، ومن ثمّ سمّيت بعشرة أسماء ، منها : الكاشفة والفاضحة للمنافقين وغير ذلك ، بل ورد فيها أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجاهدة المنافقين على حدّ مجاهدة الكفّار سواء.

عدم إيمان بعض البدريّين

* أمّا الآية السادسة :

فهي قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ

__________________

(١). البقرة / ٨٩.

(٢). التوبة / ١١٧.

الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ* وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) (١)

ويتّضح أنّ هذه السورة كبقية السور القرآنية في تقسيم وتمييز من صحب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان في ركبه ، إلى صالح وطالح ، وإلى فئات متنوّعة ، ولكن ينبغي الالتفات إلى بقية آيات السورة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ* وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ* إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢).

كما إنّ في الآيات ٤١ ـ ٤٤ من سورة الأنفال ـ والتي سبقت هذه الآيات ـ نبأ عظيم وإفصاح خطير ، هو أنّ من كان في ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر وأثناء القتال كانوا على ثلاث فئات : فئة مؤمنة ثابتة ، وفئة منافقة ، وفئة الّذين في قلوبهم مرض ـ وهي الفئة التي أشارت إلى وجودها سورة المدّثّر المكّية ، رابع سورة نزلت في أوائل البعثة ، في صفوف المسلمين ـ وكان من الفئتين الأخيرتين ـ لمّا رأتا حشد مشركي قريش وبطرهم وخيلاءهم في غزوة بدر ـ أن قالتا عن الفئة الأولى بأنّها مغرورة بسبب دينهم وهو دين الإسلام ، فلم ينسبوا أنفسهم إلى الدين الإسلامي ، وإنّما جعلوا أنفسهم ـ بذلك ـ على دين المشركين!

والإفصاح هذا في هذه السورة عن معسكر جيش المسلمين الذي كان مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه منقسم إلى ثلاث فئات ، يبطل كلّ الروايات التي يرويها العامّة حول قدسية

__________________

(١). الأنفال / ٧٤ ـ ٧٥.

(٢). الأنفال / ٤٥ ـ ٤٩.

البدريّين ، وأنّ الله قد غفر لهم وإن عملوا ما عملوا ـ فضلا عن كون ذلك مناقض للآيات والسور العديدة المشترطة للوفاء حتّى حلول الأجل والثبات على الإيمان والعمل الصالح ـ كما أنّه يبطل مقولة إنّ كلّ بدريّ أو أحدي فهو مؤمن وممدوح ومرضيّ حاله عند الله تعالى.

وفي الآيتين اللاحقتين المتّصلتين بالآيات التي أوردناها ، يقول تبارك وتعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ* ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١) وهو تهديد ووعيد لهم بالعقوبة المبتدأ بها عند الموت.

ولأجل ذلك ترى أنّ الخطاب الإلهي في هذه السورة مخصّص وموجّه إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والّذين آمنوا خاصة دون الفئتين الآخريتين ، قال تعالى : (وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ...) (٢) فخصّ ألفة القلوب والمساعدة على النصر والخطاب بالجهاد بالمؤمنين دون الفئتين الأخريين ، فكيف يتوهّم بأنّ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (٣) شامل للمنافقين والّذين في قلوبهم مرض ممّن كان في ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة بدر؟!

وفي هذه السورة آيات أخرى ، وهي قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ* وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا

__________________

(١). الأنفال / ٥٠ و ٥١.

(٢). الأنفال / ٦٢ ـ ٦٥.

(٣). الأنفال / ٧٤.

مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١).

ففي تفسير ابن كثير عن السدّي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا (٢).

وفي هذه الآيات إشارة واضحة إلى أنّ المسلمين البدريّين سيفتنون بفتنة تصيب الجميع، وأنّهم سيمتحنون بها وفيهم الظالمون ، وأنّ من يخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه فإنّ الله شديد العقاب ، وهذه الآيات الكريمة صريحة ـ كذلك ـ في تقسيم وتمييز من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدر وفي أوائل الهجرة إلى المدينة ، وأنّهم يفتنون ، ويكون بعضهم ظالما ، ويخون الله ورسوله والأمانات المأخوذة عليه.

حال المسلمين في أحد

قال تعالى في سورة آل عمران :

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ* إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ* ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي

__________________

(١). الأنفال / ٢٤ ـ ٢٧.

(٢). تفسير ابن كثير ٢ / ٢٨٦.

أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١).

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٢).

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (٣)

فهذه الآيات ترسم لنا وتقسّم من كان في ركب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأنّ بعضهم كان يريد الدنيا وبعضهم الآخر يريد الآخرة ، وأنّه وقع من كثير من المسلمين فرار بعد ما شاهدوا النصر باستزلال الشيطان لهم بسبب بعض الأعمال السيّئة السابقة ، وأنّ طائفة منهم يظنّون بالله ظنّ الجاهلية ويخفون ذلك في قلوبهم ، وأنّ من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القتال منهم الطيّب ومنهم الخبيث ، وأنّ وقعة أحد كانت للتمييز بينهما.

وهذا خلاف رأي من يدّعي التعميم والمساواة في من صحب ولازم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع أنّ التمييز وقع في من كان من المسلمين أحديّ! ومن ذلك يتبيّن أنّ التوصيف بكون الشخص بدريا أو أحديا إنّما يكون منقبة إذا كان من الفئة المؤمنة ، لا ما إذا كان من الفئات الأخرى ، فليس كلّ بدري أو أحدي هو من الفئة المؤمنة الممدوحة ، بل بعضهم من الفئات المذمومة في سورتي الأنفال وآل عمران.

__________________

(١). آل عمران / ١٥٢ ـ ١٥٥.

(٢). آل عمران / ١٧٩.

(٣). آل عمران / ١٤٤.

ثمّ إنّ السورة تحذّر ـ أيضا ـ من وقوع انقلاب من المسلمين على الأعقاب برحيل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كتب السير أنّ جماعة من المسلمين لمّا شاهدوا الهزيمة وظنّوا أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قتل ، لاذوا بالفرار وصعدوا الجبل ، واجتمعوا حول صخرة ـ عرفوا بعد ذلك بجماعة الصخرة ـ وقالوا : إنّا على دين الآباء (١) ؛ كي يكون ذلك شافعا لهم عند قريش ، وفي ما سطر في السير ما يلوح أنّهم ممّن يعدّون من أعيان القوم ووجوههم.

والمتأمّل للسور الحاكية للغزوات ـ كما تقدّم في سورة الأحزاب عن غزوة الخندق ، وسورة التوبة عن غزوة تبوك وحنين وغيرهما ـ يجدها ناطقة بلسان التمييز والتقسيم والتصنيف لمن صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشارك في القتال ، وأنّ هناك الفئة الصالحة الثابتة المؤمنة ، وهناك الطالحة وأصناف أهل النفاق ومحترفيه الّذين في قلوبهم مرض.

* أمّا الآية السابعة : فهي قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢)

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٣).

(وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (٤).

وهذه الآيات ـ وما هو من قبيلها ـ يستدلّ بها عندهم على حجّيّة إجماع الأمّة ، أو حجّيّة إجماع الصحابة ، بتقريب أنّهم أوّل المصاديق لهذا العنوان ، ونحو ذلك ، وللوصول إلى المعنى ومفاده في حدود ظهور ألفاظ الآيات لا بدّ من الالتفات إلى النقاط التالية :

__________________

(١). انظر مثلا : السيرة الحلبية ٢ / ٥٠٤ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٤٤.

(٢). البقرة / ١٤٣.

(٣). آل عمران / ١١٠.

(٤). النساء / ١١٥.

الأولى : إنّ الآية الثانية المذكورة آنفا قد ورد عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ أحد وجوه قراءتها أنّها بلفظ (أئمّة) (١) ـ جمع إمام ـ لا (أمّة) ؛ ويعضد هذه القراءة النقاط اللاحقة.

الثانية : إنّ لفظة (أمّة) هي من الألفاظ التي تستعمل في الجماعة كما تستعمل في المجموع ، بل تستعمل في الفرد ، كقوله تعالى :

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) (٢)

(رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٣)

(مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) (٤)

(وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٥)

(وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ ...) (٦)

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) (٧)

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) (٨).

والذي يظهر أنّ المعنى المستعمل فيه للّفظة هاهنا هو بمعنى الجماعة لا المجموع ، وهو أنّ هذه الأمّة الوسط تكون شاهدة على جميع الناس ، والرسول شاهد عليها. ومن البيّن أنّ هذا المقام لا يتشرّف به مجموع الأمّة أو جميع أهل القبلة من الموحّدين ، فهل يجوز أن تقبل شهادة من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر أو على صرّة من بقل ، فيطلب الله شهادته يوم القيامة ويقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟!! كما أشار

__________________

(١). انظر : تفسير القمّي ١ / ١١٨ ، تفسير العيّاشي ١ / ٢١٩ ح ١٢٩ ، تفسير الصافي ١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١ ح ١١٠.

(٢). النحل / ١٢٠.

(٣). البقرة / ١٢٨.

(٤). المائدة / ٦٦.

(٥). الأعراف / ١٥٩.

(٦). الأعراف / ١٦٤.

(٧). الأعراف / ١٨١.

(٨). القصص / ٢٣.

إلى ذلك الإمامان الباقر والصادق عليهما‌السلام (١).

لا ريب أنّ الله لم يعن مثل هذا ، بل المراد جماعة خاصة لهم هذا المقام والشأن ، وهم الّذين قال تعالى عنهم : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢) ، فإنّ سنخ اطّلاع هؤلاء على الأعمال وشهادتهم لها لدنّيّة من الله تعالى ، كما إنّ مقتضى ما يعطيه لفظ «الوسط» بقول مطلق هو الوسطية في الصفات والفضائل لا الإفراط ولا التفريط ، فهم النقباء.

كما إنّ الآية السابقة ـ الآية الثانية المذكورة من سورة آل عمران ـ وهي قوله تعالى :

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣) ، فهذه الأمّة الداعية إلى الخير ، والآمرة بالمعروف ، والناهية عن المنكر ، على صعيد الحكم والإمامة هي جزء من مجموع المسلمين ، لا كلّ المجموع.

كما إنّ لفظة (أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) تعطي مفهوم خروجها من الأصلاب ، وفيه إشارة إلى دعوة إبراهيم عليه‌السلام حين قال : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) (٤) وذلك بعد ما حكى الله عنه ما قاله في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٥).

وكما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٦) أي جعل التوحيد والعصمة من الشرك كلمة باقية في عقب إبراهيم من نسل إسماعيل ، فكان تقلّب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأصلاب والأجداد الطاهرين من الشرك والوثنية ، قال تعالى : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ*

__________________

(١). انظر الهامش رقم ٢ من الصفحة السابقة.

(٢). التوبة / ١٠٥.

(٣). آل عمران / ١٠٤.

(٤). البقرة / ١٢٨.

(٥). البقرة / ١٢٤.

(٦). الزخرف / ٢٦ ـ ٢٨.

وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (١).

فمن ذلك كلّه يتبيّن أنّ الأمّة المقصودة من الآيتين هي ثلّة من مجموع المسلمين لهم تلك المواصفات الخاصة التي تؤهّلهم إلى ذلك المقام. وكيف يتوهّم أنّ مجموع من أسلم بالشهادتين هو المراد؟! والحال أنّ سورة

آل عمران ـ كما قدّمنا ـ تصنّف من شهد معركة أحد ـ فضلا عن غيرهم ـ إلى فئات صالحة وطالحة ، وكذا ما في بقية السور التي استعرضناها ، وغيرها ، إذ إنّ فيها الذمّ والوعيد الشديد لألوان من الفئات الطالحة ممّن أظهرت الإسلام على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا الآية الثالثة المذكورة ، فهي تجعل الميزان طاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعدم مشاققته ، وعدم الردّ عليه ، كما في قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٢).

والحال أنّ بعض وجوه من صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ردّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره ، بأنّه غلبه الوجع ، أو : إنّه ـ والعياذ بالله ـ يهجر ؛ وذلك عند ما طلب الدواة والكتف من أجل كتابة كتاب لئلّا تضلّ أمّته من بعده لو تمسّكت به ، والله تعالى يقول : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (٣) ، وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) (٤)!

وذلك على عكس ما حدث عند موت أبي بكر ، فإنّ أبا بكر أراد عند موته أن يوصي ، فذكر بعض الكلمات فأغمي عليه ، فأضاف عثمان اسم عمر كخليفة لأبي بكر ، ولمّا أفاق أبو بكر أمضى ما كتبه عثمان! فتثبيت اسم عمر لم يعدّوه هجرا من مثل أبي بكر!! كما إنّهم أخذوا بكلام عمر ـ وهو في مرض موته ـ في تسمية أعضاء الشورى!!

أليس ذلك ردّا ومعصية وشقاقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا

__________________

(١). الشعراء / ٢١٨ و ٢١٩.

(٢). النساء / ٦٥.

(٣). النجم / ٢ ـ ٥.

(٤). النساء / ١٠٥.

مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (١) ، وقال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٢) وكذا تخلّفهم عن جيش أسامة ، وكذا في صلح الحديبية ، وغيرها من الموارد.

ثمّ إنّ الآية تقيّد بقيد آخر وهو اتّباع سبيل المؤمنين ، وقد بيّنت سورة الأنفال أنّ في البدريّين ومن شهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغزوة الأولى فئات ثلاث ، هي : فئة مؤمنة ، وفئة منافقة ، وفئة الّذين في قلوبهم مرض ، وهم محترفو النفاق! فلاحظ ما تقدّم.

وكذا بيّنت سورة آل عمران أنّ من شهد معركة أحد لم يكونوا متساوين في الصلاح ، بل إنّ بعضهم طالح يريد الدنيا ، ويظنّ بالله ظنّ الجاهلية ، لا يثبت بعد موت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل ينقلب على عقبيه ؛ كما بيّنت ذلك غيرهما من السور المتعرّضة لبقية الحروب والغزوات كما قدّمنا الإشارة إلى ذلك ، فالفئة المؤمنة المخاطبة في الموارد العديدة ـ بوصف «الهجرة» و «النصرة» كمنقبتين ، وبوصف «الهداية» وغيرها من الفضائل ـ هذه الفئة هي فئة معيّنة خاصة ، لا عامة لكلّ من أسلم في الظاهر وكان في ركب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحرب أو السلم.

ويشير إلى ذلك قوله تعالى في سورة التحريم :

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ

__________________

(١). الأحزاب / ٣٦.

(٢). النور / ٥٢.

وَأَبْكاراً) (١)

ثمّ قال تعالى في ذيل السورة :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُ وا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ... الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢).

فالمقارنة التي تذكرها هذه السورة بين اثنتين من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهما كانتا في معرض التظاهر على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وظاهر لحن السورة أنّ الأمر خطير استدعى هذا التهديد بالقوّة الإلهية وخصوص صالح المؤمنين لا كلّ المؤمنين ، فضلا عن كلّ المسلمين ، وعن كلّ من أسلم في الظاهر ، فما هو سبب تخصيص صالح المؤمنين بمناصرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل هذه المواجهة ، وكأنّها كالحرب المعلنة التي نزل ـ في هذه السورة ـ الأمر الإلهي بها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجاهدة المنافقين كما يجاهد الكفّار سواء ، وكذا الأمر بالغلظة عليهم؟! وما هو سبب ذكر صفات من سيبدله الله بهما وتحلّان محلّهما ، وأنّهنّ مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ؛ والتبديل تعويض عن مفقود؟!

وعلى كلّ تقدير ، فإنّ هذا التهديد بالاستنفار في الآية ، الذي هو كاستنفار الحرب والقتال ، لا ينسجم مع تفسير مورد نزول الآية بأنّه بسبب إفشاء لخبر عادي ، بل مقتضى هذه الشدّة في الوعيد أنّ الخبر بمنزلة من الخطورة إلى درجة أنّه يهدّد وجود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

ثمّ إنّ ذيل السورة قد أفصح فيه أنّ الزوجية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقام الأمومة للمؤمنين ، لا يغني عنهما من الله شيئا إذا لزمتا معصية وخيانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائتمار عليه ، كما هو الحال في امرأتي النبيّين نوح ولوط عليهما‌السلام ، وأنّ المدار في الفضيلة هو على التصديق و

__________________

(١). التحريم / ٣ ـ ٥.

(٢). التحريم / ٩ ـ ١١.

الإيمان والعمل الصالح.

ويتطابق هذا المفاد مع ما في سورة الأحزاب من مضاعفة العذاب ضعفين على المعصية ، وإن أطعن الله ورسوله فلهنّ الأجر مرّتين ، وقد نزل القرآن بالأمر بالقرار في البيوت ، وعدم التبرّج ، وبإطاعة الله ورسوله ، علما أنّ الزوجية هي شدّة من الصحبة ، ومع ذلك فالمدار عند الله تعالى بحسب هذه السورة وبقية السور هو على الإيمان والعمل الصالح وطاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ هذه الصحبة لا تغني عنهما من الله شيئا! ، فمن كلّ ذلك يتبيّن أنّ سبيل المؤمنين وصالحهم ليس هو مجموع الأمّة ، بل هو الفئة المؤمنة حقّا وواقعا.

وهؤلاء القائلون بعدالة الصحابة ـ بالمعنى الذي تقدّم شرحه ، فإنّه يضاهي الإمامة في الدين ، والعصمة والحجّيّة بذلك المعنى ، في الدائرة الضيّقة من جماعة السقيفة ، وبالخصوص في الأوّل والثاني ـ هم في الوقت نفسه يلتزمون بعدم عصمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطلقة ، فيجوّزون وقوع الخطأ منه ـ والعياذ بالله ـ! ففي الوقت الذي يرفعون من مقام الأوّلين ، فهم يحطّون من مقام النبوّة ، فتراهم يقولون باجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي قوله بالظنّ ، وأنّه قد يصيب وقد يخطئ! كما إنّهم يلتزمون بمسألة أخرى ، وهي جواز اجتهاد الصحابة في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الحضور أو الغياب! ؛ نعم ، قد رفض هذا القول بعض منهم ، كأبي علي الجبّائي وابنه هاشم لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (١) (٢).

وعن ابن حزم الأندلسي في كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل ، أنّ الأنبياءعليهم‌السلام غير معصومين من الخطأ ، قال تعالى : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٣) وقوله : (فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٤) وأنّ التوبة لا تكون إلّا من ذنب ، وهذا وقع منه عن قصد إلى خلاف ما أمر

__________________

(١). النجم / ٣.

(٢). فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت ـ المطبوع بذيل المستصفى ٢ / ٣٧٥.

(٣). طه / ١٢١.

(٤). طه / ١٢٢.

به ، متأوّلا في ذلك ولا يدري أنّه عاص ، بل كان ظانّا أنّ الأمر للندب مثلا أو النهي لكراهة.

وقال الله لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ* لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) (١) أنّه غاضب قومه ولم يوافق ذلك مراد الله ، فعوقب بذلك ، وإن كان ظانّا أنّ هذا ليس عليه فيه شيء ، وهذا هو ما أراده الله من نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين نهي عن مغاضبة قومه ، وأمر بالصبر على أذاهم ، وأمّا إخبار الله بأنّه استحقّ الذمّ والملامة لو لا النعمة التي تداركه بها للبث معاقبا في بطن الحوت(٢).

وذهب القاضي عياض في الشفا إلى جواز اجتهاد الأنبياء في الأمور الدنيويّة فقط ، مستدلّا بحديث تأبير النخل (٣). وقال كمال الدين ابن همام الدين الحنفي ، المتوفّى سنة ٨٦١ ه‍ ، في كتاب التحرير : إنّ الرسول مأمور (بالاجتهاد مطلقا) في الأحكام الشرعية والحروب والأمور الدينيّة من غير تقييد بشيء منها (٤). وقال ابن تيميّة في غير ما يتعلّق بالتبليغ : إنّ الأنبياء كانوا دائما يبادرون بالتوبة والاستغفار عند الهفوة ، والقرآن شاهد عدل ، فهو لم يذكر شيئا من ذلك عن نبيّ من الأنبياء إلّا مقرونا بالتوبة والاستغفار (٥). وقال الغزّالي في المستصفى :

المختار جواز تعبّده بذلك ، لأنّه ليس بمحال في ذاته ، ولا يفضي إلى محال ومفسدة. فإن قيل : المانع منه أنّه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح ، فكيف يرجم بالظنّ؟! ؛ قلنا : فإذا استكشف فقيل له : حكمنا عليك أن تجتهد وأنت متعبّد به ، فهل له أن ينازع الله فيه ، أو يلزمه أن يعتقد أنّ

__________________

(١). القلم / ٤٨ و ٤٩.

(٢). انظر : الفصل ٢ / ٢٨٤ ـ ٢٨٧ و ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٣). الشفا ٢ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٤). راجع تيسير التحرير ـ شرح محمّد أمين الحنفي على كتاب التحرير ـ ٤ / ١٨٥.

(٥). انظر : منهاج السنّة ٢ / ٣٩٦ ـ ٤٠٣.

صلاحه في ما تعبّد به؟!

فإن قيل : قوله نصّ قاطع يضادّ الظنّ ، والظن يتطرّق إليه احتمال الخطأ ، فهما متضادّان ؛ قلنا : إذا قيل له : ظنّك علامة الحكم ، فهو يستيقن الظنّ والحكم جميعا فلا يحتمل الخطأ ، وكذلك اجتهاد غيره عندنا ، ويكون كظنّه صدق الشهود ، فإنّه يكون مصيبا وإن كان الشاهد مزوّرا في الباطن.

فإن قيل : فإن ساواه غيره في كونه مصيبا بكلّ حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه! ؛ قلنا : لو تعبّد بذلك لجاز ، ولكن دلّ الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده ، كما دلّ على تحريم مخالفة الأمّة كافّة ، وكما دلّ على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم ؛ لأنّ صلاح الخلق في اتّباع رأي الإمام والحاكم وكافّة الأمّة ، فكذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن ذهب إلى أنّ المصيب واحد يرجح اجتهاده لكونه معصوما عن الخطأ دون غيره ومنهم من جوّز عليه الخطأ ولكن لا يقرّ عليه.

فإنّ قيل : كيف يجوز ورود التعبّد بمخالفة اجتهاده ، وذلك يناقض الاتّباع ، وينفّر عن الانقياد؟! قلنا : إذا عرّفهم على لسانه بأنّ حكمهم اتّباع ظنّهم وإن خالف ظنّ النبيّ ، كان اتّباعه في امتثال ما رسمه لهم كما في القضاء بالشهود ، فإنّه لو قضى النبيّ بشهادة شخصين لم يعرف فسقهما ، فشهدا عند حاكم عرف فسقهما لم يقبلهما.

وأمّا التنفير ، فلا يحصل ، بل تكون مخالفته فيه كمخالفته في الشفاعة وفي تأبير النخل ومصالح الدنيا.

فإنّ قيل : لو قاس فرعا على أصل أفيجوز إيراد القياس على فرعه أم لا؟ إن قلتم : لا ؛ فمحال ؛ لأنّه صار منصوصا عليه من جهته. وإن قلتم : نعم ؛ فكيف يجوز القياس على الفرع؟! ؛ قلنا : يجوز القياس عليه وعلى كلّ فرع أجمعت

الأمّة على إلحاقه بأصل ؛ لأنّه صار أصلا بالإجماع والنصّ (١).

نقلنا كلامه بطوله لأنّه تلخيص لأقوالهم في المسألتين ، ويتلخّص من كلامهم أمور :

الأوّل : مساواة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغيره من رعيّته في تجويز الاجتهاد ، وتجويز مخالفة غيره له في الاجتهاد.

الثاني : إنّ الإجماع وإطباق كافّة الأمّة هو الحجّة الأصل عندهم لأقوال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مع إنّ حجّيّة الإجماع لديهم مستقاة من الحديث النبوي.

الثالث : تسويتهم بين الموضوعات والأحكام الكلّيّة ، وبين الموضوع في الأمور العامّة والموضوع في الأمر الخاصّ بأحد المكلّفين ، مع إنّ الموازين المتّبعة في كلّ شقّ مختلفة عنها في الشقّ الآخر كما هو محرّر في أصول الفقه.

وقال الغزّالي في مسألة جواز الاجتهاد في زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المختار أنّ ذلك جائز في حضرته وغيبته ، وأن يدلّ عليه بالإذن أو السكوت ؛ لأنّه ليس في التعبّد به استحالة في ذاته ، ولا يفضي إلى محال ولا إلى مفسدة ، وإن أوجبنا الصلاح فيجوز أن يعلم الله لطفا يقتضي ارتباط صلاح العباد بتعبّدهم بالاجتهاد ؛ لعلمه بأنّه لو نصّ لهم على قاطع لبغوا وعصوا.

فإن قيل : الاجتهاد مع النصّ محال ، وتعرّف الحكم بالنصّ بالوحي الصريح ممكن ، فكيف يردّهم إلى ورطة الظنّ؟!

قلنا : فإذا قال لهم : أوحي إليّ أنّ حكم الله تعالى عليكم ما أدّى إليه اجتهادكم وقد تعبّدكم بالاجتهاد ، فهذا نصّ ، وقولهم : (الاجتهاد مع النصّ محال) مسلّم ، ولكن لم ينزل نصّ في الواقعة ، وإمكان النصّ لا يضادّ الاجتهاد ، وإنّما يضادّه نفس النصّ ؛ كيف؟! وقد تعبّد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقضاء بقول الشهود حتّى قال : إنّكم لتختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون

__________________

(١). المستصفى ٢ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦ القطب الرابع ، الفن الأوّل في الاجتهاد.

ألحن بحجّته من بعض ؛ وكان يمكن نزول الوحي بالحقّ الصريح في كلّ واقعة حتّى لا يحتاج إلى رجم بالظنّ وخوف الخطأ» (١).

ويتلخّص من كلامه :

الأوّل : جواز التقدّم بين يدي الله ورسوله في الحكم.

الثاني : أنّ بغي الناس وطغيانهم على حكم الله تعالى يسوّغ الاجتهاد من أنفسهم دون الرجوع إلى الله ورسوله ، وهو نمط من تفويض التشريع للأهواء (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) (٢) (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) (٣) (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) (٤) (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) (٥) (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٦).

الثالث : خلطه بين الموضوعات والأحكام الكلّيّة وبين الموضوع في الأمور العامّة والموضوع في الأمر الخاصّ بأحد المكلّفين ـ كما تقدّم ـ

ونجم عن هذا الالتزام عندهم ما ذكره صاحب المنار ـ في معرض كلام له عن العمل بالحديث ـ :

ـ حكم عمر بن الخطّاب على أعيان الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث ، ثمّ ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأوّل والثاني من اكتفاء الواحد منهم ـ كأبي حنيفة ـ بما بلغه ووثق من الحديث وإن قلّ ، وعدم تعنّيه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبيّن أحكامه ، قوى عندك ذلك الترجيح ، بل تجد الفقهاء لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتّفاق على العمل به ، فهذه

__________________

(١). المستصفى ٢ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥.

(٢). المؤمنون / ٧١.

(٣). المائدة / ٤٩.

(٤). البقرة / ١٤٥.

(٥). محمّد / ١٤.

(٦). الأنعام / ١١٩.

كتب الفقه في المذاهب المتّبعة ، ولا سيّما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية ، فيها المئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتّفق على صحّتها.

وقد أورد ابن القيّم في أعلام الموقّعين شواهد كثيرة جدّا من ردّ الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس أو لغير ذلك ، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه ، وقد أورد لهذا أكثر من ستّين شاهدا (١) ، ومع ذلك كلّه فمن الغريب جمع الغزّالي بين ذلك وبين رأيه في الصحابة ، قال في المستصفى :

الأصل الثاني من الأصول الموهومة : قول الصحابي ، وقد ذهب قوم إلى أنّ مذهب الصحابي حجّة مطلقا ، وقوم إلى أنّه حجّة إن خالف القياس ، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول أبي بكر وعمر خاصّة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (اقتدوا باللذين من بعدي) ، وقوم إلى أنّ الحجّة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتّفقوا.

والكلّ باطل عندنا ؛ فإنّ من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه ، فلا حجّة في قوله ، فكيف يحتجّ بقولهم مع جواز الخطأ؟! وكيف تدّعى عصمتهم من غير حجّة متواترة؟! وكيف يتصوّر عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف؟! وكيف يختلف المعصومان؟!

كيف؟! وقد اتّفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة ، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد ، بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كلّ مجتهد أن يتّبع اجتهاد نفسه ، فانتفاء الدليل على العصمة ، ووقوع الاختلاف بينهم ، وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ، ثلاثة أدلّة قاطعة (٢).

ثمّ ذكر أدلّة بقية الأقوال وأخذ في ردّها ، وتتلخّص ردوده عليها في النقاط التالية :

الأولى : إنّ ما يروى عندهم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، هو خطاب مع عوّام ذلك العصر ، لتعريف درجة الفتوى للصحابة ، إذ الصحابي

__________________

(١). انظر : أعلام الموقّعين ٢ / ٢٩٤ ـ ٤٢٤.

(٢). المستصفى ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦٢.

خارج عن الخطاب فله أن يخالف الآخر.

الثانية : إنّ اتّباع كلّ واحد من الخلفاء الراشدين محال مع اختلافهم في المسائل.

الثالثة : إنّ الاقتداء بأبي بكر وعمر واتّباعهما هو إيجاب للتقليد في الفتوى ، مع إنّه معارض بتجويز هما مخالفة الآخرين لهما ، ولو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيّهما يتّبع؟!

الرابعة : إنّ مذهب عبد الرحمن بن عوف معارض بمذهب الإمام عليّ عليه‌السلام ، حين أبى اشتراط عبد الرحمن الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين.

الخامسة : إنّ قول الصحابي ليس بحجّة ، وإنّما الحجّة الخبر إلّا أنّ إثبات الخبر بقول الصحابي من دون تصريح منه أنّه خبر إثبات موهوم ، وخبر الواحد الحجّة هو الخبر المصرّح لا الموهوم المقدّر الذي لا يعرف لفظه ومورده ، فقوله ليس بنصّ صريح في سماع خبر ، بل ربّما قاله من دليل ضعيف ظنّه دليلا وأخطأ فيه ، والخطأ جائز عليه ، وربّما يتمسّك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نصّ قاطع لصرّح به.

السادسة : إنّ جميع ما يذكر لحجّيّة قول الصحابي أخبار آحاد لا تقاوم الحجج القطعية الأخرى.

السابعة : إنّ (جعل) قول الصحابي حجّة كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخبره (إثبات) أصل من أصول الأحكام ومداركه ، فلا يثبت إلّا بقاطع كسائر الأصول.

الثامنة : حكى عن الشافعي في الجديد : أنّه لا يقلّد العالم صحابيا كما لا يقلّد عالما آخر. ونقل المزني عنه ذلك ، وأنّ العمل هو على الأدلّة التي بها يجوز للصحابة الفتوى ؛ ثمّ قال :

وهو الصحيح المختار عندنا ، إذ كلّ ما دلّ على تحريم تقليد العالم للعالم كما

سيأتي في كتاب الاجتهاد لا يفرّق فيه بين الصحابي وغيره (١).

وذكر أنّ ما ورد من الثناء عليهم لا يوجب تقليدهم ، لا جوازا ولا وجوبا ، وإنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثنى أيضا على آحاد الصحابة كأبي بكر وعمر وعليّ وزيد ومعاذ بن جبل وابن أمّ عبد ، مع إنّهم لا يتميّزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه.

التاسعة : حكى عن القاضي أنّه لا يرجّح أحد الدليلين المتعارضين بقول الصحابي ؛ لأنّه لا ترجيح إلّا بقوّة الدليل ، ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه (٢) ، واستقرب احتمال مصير الصحابي إلى أحد القولين أو أحد الدليلين لمجرّد الظنّ ، لا لاختصاصه بمشاهدة.

هذا ، فإذا كان مدار الحجّيّة المطلقة ـ عند الغزّالي وجماعة منهم معروفين ـ في قول شخص ما ، هو عصمته عن الغلط والسهو وعدم الخطأ ، وعدم جواز مخالفته ، فكيف يصوّرون حجّيّة قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المطلقة ولزوم طاعته ، ويجوّزون عليه الخطأ والاجتهاد الظنّي ، بل ومخالفة غيره له في الاجتهاد؟! في حين ينكر الغزّالي على القائلين بحجّيّة قول عمر وأبي بكر وبقية الصحابة بتمسّكهم بأخبار آحاد لا تثبت أصلا من أصول الأحكام التي لا بدّ فيها من القطع ، تراه يرفع يده عن قطعيات الآيات في لزوم متابعة النبيّ وعدم الخلاف عليه وعصمته ، بأخبار آحاد في تأبير النخل والمخالفة في الشفاعة ونحوها ، مع إنّ لها وجه من التأويل يتلاءم مع العصمة من الخطأ ، فما هذا إلّا تدافع ، وأقوال ينقض أوّلها آخرها!

ثمّ أليس كما قال الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام في صحيفته في وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

... فرضت علينا تعزيره وتوقيره ومهابته ، وأمرتنا أن لا نرفع الأصوات على صوته ، وأن تكون كلّها مخفوضة دون هيبته ، فلا يجهر بها عليه عند

__________________

(١). المستصفى ٢ / ٤٥٨ ـ ٤٥٩.

(٢). المستصفى ٢ / ٤٦٥.

مناجاته ، ونلقاه عند محاورته ، ونكفّ من غرب الألسن لدى مسألته ، إعظاما منك لحرمة نبوّته ، وإجلالا لقدر رسالته ، وتمكينا في أثناء الصدور لمحبّته ، وتوكيدا بين حواشي القلوب لمودّته (١)

وهو يشير إلى المناصب الإلهية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي جعلها الله تعالى له ، فقد قال تعالى : (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) ، وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣).

والغريب ولا تنقضي غرابته أنّهم يجعلون فضيلة لبعض الصحابة بالتقدّم على الله ورسوله في الحكم في موارد ، ويدّعون حالات لنزول آيات أخرى في تلك الموارد موافقة من الوحي لرأي ذلك الصحابي ، وكأنّهم لا يصغون إلى هذه الآية الصريحة ، ويتأوّلون تلك الآيات بما يدافع ظهورها.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (٤) وقال تعالى : (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٥).

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ* وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ* فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦).

__________________

(١). الصحيفة السجّادية : الدعاء العاشر ـ ط. مؤسسة الإمام المهدي عليه‌السلام.

(٢). النجم / ٢ ـ ٤.

(٣). الحجرات / ١.

(٤). الحجرات / ٢ و ٣.

(٥). الحجرات / ١٦.

(٦). الحجرات / ٦ ـ ٨.

أليست هذه الآية في الموضوعات الخارجيّة والأمور العامّة في تدبير الحكم ، وأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو يتابع من أسلم معه لوقعوا في المشقّة والحرج العظيم ، ولكنّ الله حبّب إليهم طاعة الرسول ومتابعته وهو الإيمان ، وكرّه إليهم مخالفة الرسول التي هي كفر وفسوق وعصيان ، والرشاد إنّما يصيبه المؤمنون بمتابعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو الفضل والنعمة من الله ، وكلّ هذا عن علم وحكمة منه تعالى.

فمع كلّ ذلك كيف يكون الرشاد في مخالفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً* أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً* فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً* أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً* وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً* فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (١)؟!

وفي هذه الآيات عدّة أحكام :

الأوّل : لزوم ردّ كلّ شيء يختلف فيه إلى الله وإلى الرسول ، وأنّ ذلك مقتضى الإيمان بالله وبالمعاد ، فكيف يرجع إلى الظنون مقدّمة على الرجوع والردّ إلى الله وإلى رسوله؟!

الثاني : إنّ الاحتكام في الأمور إلى غير ما أنزل الله على رسوله تحاكم إلى الطاغوت وضلال ونفاق وظلم للنفس.

__________________

(١). النساء / ٥٩ ـ ٦٥.

الثالث : إنّ غاية رسالة الرسول هو طاعة أمّته له بإذن الله ، لا خلافهم عليه.

الرابع : إنّ الإيمان مشروط بتحكيم الرسول في ما يختلف فيه ، وطاعة الرسول في ما يحكم به ، مع عدم التحرّج ممّا حكم به الرسول ، ومع التسليم القلبي التامّ لذلك.

وقال تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١). وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٢). وقال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٣). وقال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٤).

إلى غير ذلك من آيات الله العزيز ، فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموا النبيّ في ما اختلفوا فيه ، ولا يجدوا تحرّجا في نفوسهم من حكمه وقضائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسلّموا تسليما لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم يتذرّعون بموارد من الآيات التي ظاهرها العتاب في الخطاب الإلهي للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقضي بالبيّنات والأيمان ، وهي قد تخطئ الواقع ، أو بأخبار آحاد في تأبير النخل ونحوه في قبال الدليل القطعي ، مع إنّ لتلك الآيات الظاهرة في العتاب ، في المنسبق من دلالتها بدوا ، وجوها من المعنى ، ذهلوا عنه!

الأوّل : إن مقتضى قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٥) أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخاطب بفعل أمّته كما يخاطب الوليّ بفعل المولى عليه ، وكما يخاطب المربّي بفعل من هو تحت قيمومته وتربيته ، والرئيس يخاطب بفعل مرءوسه ، والإمام بفعل مأمومه ، إذ إنّ صلاح الرعية من مسئولية الراعي ، ومن ثمّ يسند

__________________

(١). التوبة / ٦١.

(٢). التوبة / ١٢٨.

(٣). الحشر / ٧.

(٤). آل عمران / ٣١.

(٥). هود / ١١٢.

فعلهم إلى فعله وإن كان الفعل صادر حقيقة منهم لا منه.

ومن هذا القبيل إسناد فعل الحكومة وجهاز الحكم والدولة إلى الرئيس ويخاطب به ، ومن هذا الباب قد يسند المعصوم الخطأ لنفسه كما في قول عليّ عليه‌السلام في خطبة له بعد تسلّمه مقاليد الأمور والخلافة بصفّين :

فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطئ ، ولا آمن ذلك من فعلي ، إلّا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي (١).

ومن هذا الباب أكثر ما يخاطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعاتب في لحن الخطاب ، فإنّه بالتتبّع في تلك الموارد والتدبّر مليّا يظهر أنّ الفعل الذي كان مورد الخطاب هو من فعل المسلمين خوطب به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإلى هذا يشير قول الإمام الصادق عليه‌السلام :

إنّ القرآن نزل بإيّاك أعني واسمعي يا جارة (٢).

كما هو الحال في أسارى بدر ، فإنّ اللازم كان على المسلمين هو الإثخان في القتل ما دامت المعركة محتدمة ، وعدم استبقاء المشركين أحياء ما دامت الحرب لم تضع أوزارها ، فكان في أخذهم الأسارى أثناء المعركة خلاف الحكم والإرادة الإلهيّة ، وكما هو الحال في مساءلة الله تعالى النبيّ عيسى عليه‌السلام : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ... وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) (٣).

الثاني : إنّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، أي إنّه كلّما قرب الشخص من القدس الإلهي كلّما كان الحساب معه والتوقّع منه أكثر في مجال كمال الأفعال ، كما هو الحال في الموالي في العرف البشري ، فإنّ الملك يتوقّع من الوزير مستوى من الاحترام والأدب

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٢١٤.

(٢). الكافي ٢ / ٤٦١ ح ١٤ باب النوادر.

(٣). المائدة / ١١٦ ـ ١١٧.

والكون رهن الإشارة ما لا يتوقّعه من سائر الرعية ، بل إنّ في طبقات الوزراء اختلاف في المكانة والحظوة لدى الملك ، وبالتالي اختلاف في ما يتوقّعه وينتظره الملك منهم في مجال التقيّد بأقصى مكارم الآداب معه ، ومن هذا الباب ما يشاهد من خطاب عتاب مع الأنبياء في القرآن ، فإنّها ليست أخطاء ومعاص في الشرع وحكم العقل ، وإنّما هي من باب ترك الأولى في منطق القرب والزلفى ومقام المحبّين.

الثالث : إنّ خطأ الميزان الظاهر المجعول في باب القضاء ، أو في باب الإمارة وتدبير الحكم ، ونحوهما ممّا يكون في الموضوعات الخارجيّة ، ليس من خطأ المعصوم ، كالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه موظّف في مصالح التشريع بالعمل بهذا الميزان في تلك الموضوعات الجزئية ، ممّا يتدارك خطأ الميزان الشرعي الظاهري بالمصالح الأخرى ؛ وأين هذا من الأحكام الكلّيّة ومعرفة الشريعة؟! وإذا فرض جهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها ـ والعياذ بالله تعالى ـ وتحرّيه لها بالاجتهاد الظنّي ، فأين الطريق إليها المأمون عن الخطأ؟! وما هو ميزان الصحّة من الخطأ إذا كان الطريق مسدودا إلى الأبد ، إذ لا فاتح لما انسدّ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبواب العلم؟! وهذا بخلاف باب الموضوعات الجزئية ، فإنّ طريق العلم بها مفتوح وراء ميزان القضاء والحكم.

الربع : إنّهم خلطوا بين السؤال الممدوح عن الأحكام ومعارف الدين كما في قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) (١) وقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢) ، وبين السؤال المذموم عن الأحكام والشريعة ، قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها) (٣) وقال : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) (٤).

__________________

(١). التوبة / ١٢٢.

(٢). النحل / ٤٣ ، والأنبياء / ٧.

(٣). المائدة / ١٠١.

(٤). البقرة / ١٠٨.

فإنّ الفرق بين السؤالين هو الفرق بين الاجتهادين اللذين عند الشيعة وعند أهل السنّة ، فإنّ الأوّل مخصوص باستكشاف الحكم الشرعي الثابت واقعا ، وتطبيقه على الموارد والدرجات المختلفة ، بموازين منضبطة دقيقة ، والثاني يشمل ذلك ويعمّ إنشاء أحكام جديدة تتميما لما يدّعى من نقص الشريعة! نظير تتميم القوانين الدستورية بالتبصرة القانونية في القوانين الوضعية.

فالاجتهاد الأوّل هو تمسّك بالعموم المشرّع الوارد ، والسؤال الممدوح هذا مورده ، وهو فهم ما ورد ، ومعرفة العمومات والأدلّة المشرّعة ؛ والاجتهاد الثاني هو الاجتهاد الابتداعي ، والسؤال المذموم منطقته هو إنشاء الأحكام الجديدة وضمّها إلى أحكام الشريعة ، أو السؤال والمطالبة بإنشائها ؛ والمنطقة الأولى هي كانت سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسليم والاتّباع لربّه ، والمنطقة الثانية لم يكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتكلّفها كما في قوله تعالى : (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (١) ، فالمنطقة الثانية والنمط الثاني كان ديدن اليهود ، والنمط الأوّل هو ديدن الأنبياء بالوحي القطعي والرسالة والملّة الحنيفية الإبراهيمية.

فتخلّص أنّهم فرّطوا في عصمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وغالوا في عدالة الصحابة إلى العصمة والتفويض في التشريع.

__________________

(١). ص / ٨٦.

٤

الوجه التاريخى

ثمّ إنّه بقي وجه آخر أو أخير يتمسّك به القائل بعدالة الصحابة ، ـ بالترديد المتقدّم في معنى العدالة وفي دائرة الصحابة المرادة لذلك القائل ـ وهو : إنّ الصحابة هم الّذين قاموا بفتوحات الإسلام ونشر الدين في أرجاء المعمورة ، وهذا بعد ما عانوا ما عانوا مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغزوات الأولى.

وهذا الوجه ـ مع غضّ النظر عن التحليل الآتي فيه ، وعن الخوض في حقيقته ـ ما هو المقدار اللازم منه في الحجّيّة المبحوث عنها في عدالة الصحابة ؛ فقد تقدّم أنّ صدور العمل الصالح أو الحسن من شخص ـ بعد افتراض ذلك ـ لا يلازم عدالته واستقامته في كلّ أفعاله الأخرى ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.

ففي كثير من الغزوات التي قام بها المسلمون في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتكب من صحبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها أعمالا تعدّ في الشرع من الخطايا الكبيرة المغلّظة عقوبتها ، وقد ذكرنا شطرا منها في ما سلف ، ونذكر هنا شطرا آخر منها :

قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١) والآية تبيّن أنّ الواجب على المسلمين الإثخان في قتل المشركين ، وعدم

__________________

(١). الأنفال / ٦٧ و ٦٨.

أخذ الأسرى والحرب قائمة قبل أنّ ينهدّ صفّ المشركين ويستولي عليهم الرعب.

وقد وصفت الآية أنّ العقوبة لو لا عفو الله تعالى لكانت عذاب ، ووصفته بالعظيم ، وظاهر الآية وبمقتضى الإثخان هو : كون الواجب القتل لا الأسر أثناء قيام الحرب مع المشركين وقبل انتهائها بتقويض معسكرهم ، لا ما يقال : إنّ الآية ناظرة إلى حكم الأسرى بعد انتهاء الواقعة ، وإنّ الواجب هو قتلهم لا مفاداتهم ؛ لأنّه يخالف الآيات اللاحقة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١) ، الدالّة على أنّ القتل المطلوب هو أثناء الحرب لا بعد أنّ تضع الحرب أوزارها.

وكلّ هذا في غزوة «بدر» ، وكذلك الحال في غزوة «حنين» ، قال تعالى : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) (٢) ، والفرار في اللقاء من الكبائر التي توعّد الله عليها النار ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ* وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٣).

وكذلك الحال في غزوة «أحد» كما أشرنا إليه سابقا في سورة آل عمران ، وقد قتل خالد بن الوليد بني جذيمة في فتح مكّة حينما بعثه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حولها في سرايا تدعو إلى الله تعالى ولم يأمرهم بقتال ، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، فغدر خالد بهم وقتلهم ، فانتهى الخبر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرفع يديه إلى السماء ثمّ قال : «اللهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» ثلاث مرّات ؛ ثمّ أرسل رسول

__________________

(١). الأنفال / ٧٠ و ٧١.

(٢). التوبة / ٢٥.

(٣). الأنفال / ١٥ و ١٦.

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا عليه‌السلام فودى لهم الدماء وأرضاهم (١).

فتبيّن أن لا تلازم بين صدور العمل الصالح ـ على تقدير ثبوته ـ وبين استقامة الشخص في بقيّة أعماله ، فضلا عن عصمته وإمامته في الدين.

أمّا الخوض في الفتوحات بشكل إجمالي فالنظرة المقابلة تقيّم الفتوحات التي حصلت بأنّها كانت بمثابة سدودا أمام انتشار الدين في كلّ أرجاء المعمورة ، فإنّ هذا الدين الحنيف لا يصمد أمام بريق نوره الأقوام البشريّة إلّا وتنجذب إليه ، وهذا هو عمدة نهج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته إلى الإسلام.

قال تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً)(٢) ، فالدخول الفوجي الأفواجي للناس كان بحكم الانجذاب إلى عظمة الدين ، والمثالية التي يتّصف بها صاحب الدعوة ، والكيان الداخلي الذي بناه ، إلّا إنّ مجموع الممارسات في أحداث الفتوحات كبّلت الدين ، وألبست الإسلام أثوابا قاتمة ، وولّدت انطباعا لدى بقيّة الأمم والملل أنّ الدين الحنيف هذا هو دين السيف والدم ، ولغته لغة القوّة بالدرجة الأولى وفي القاعدة الأصلية له ، لا أنّه دين الفطرة العقلية ، (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) (٣).

ومن ثمّ أخذت بعض الكتابات في العالم العربي الإسلامي منذ نصف قرن في التنكّر لقانون الجهاد الابتدائي في الإسلام ، باعتبار أنّه يعني لغة القوّة والعنف والعسكر ، ورفضا للغة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، التي هي من الثوابت الأوّلية لطريقة الدعوة إلى الإسلام ، وربّما تمسّكوا بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع غزواته ؛ إذ إنّها لم تكن مبتدأة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل من مناوشات الكفّار أوّلا للمسلمين ، وبذيل بعض الآيات من قبيل قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُ

__________________

(١). المغازي للواقدي ـ ٣ / ٨٧٥ ـ ٨٨٤.

(٢). النصر / ١ و ٢.

(٣). الروم / ٣٠.

الْمُعْتَدِينَ) (١). وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢). ونحوها من الآيات التي ظاهرها يوهم بأنّ القتال مخصوص بالمدافعة ، وقد تسرّب مثل هذا النظر إلى بعض الأوساط الفقهيّة.

والذي أوقعهم في مثل هذا الوهم المخالف للمسلّمات الفقهيّة في الدين ، هو ما جرى من الأحداث والممارسات في الفتوحات عبر تاريخ المسلمين ، فإنّه قد وقع الخلط لديهم بين الجهاد الابتدائي وبين العدوان المبتدأ ، وحصر الدفاع في الجهاد الدفاعي ، مع إنّ الجهاد الابتدائي ليس بمعنى الابتداء بالعدوان ، بل إنّ الغطاء الحقوقي للجهاد الابتدائي هو الدفاع الحقوقي ، وإن كان ابتداء الحرب من المسلمين بمعنى الضغط على الكفّار تحت تأثير القوّة ، لكن ليس هو ابتداء عدوان ، بل ابتداء الضغط بالقوّة لردّ العدوان الذي مارسه الكفّار تجاه المسلمين في ما سبق ، فالابتداء في استخدام القوّة أمر ، والابتداء في العدوان أمر آخر.

وأمّا التمسّك بسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلقد خلط أصحاب هذه المقولة بين الجهاد الابتدائي في مصطلح الفقهاء وبين العدوان الابتدائي الحقوقي ، فالثاني لم يكن في سيرتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أمّا الأوّل ؛ فغزوة «بدر» أعظم الغزوات كانت ابتداء في استخدام القوّة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّا على مصادرة أموال المسلمين في مكّة التي قام بها كفّار قريش ، وردّا على الغارات المباغتة التي كان يقوم بها أفراد منهم على أطراف المدينة ، ونحو ذلك ، لكنّ ذلك لا يستوجب تصنيف غزوة «بدر» في الجهاد الدفاعي وإخراجه عن الابتدائي بالمصطلح الفقهي ؛ إذ لكلّ شرائط تختلف عن الآخر ، وكذا غزوة «خيبر» وغزوة «حنين» وغزوة «تبوك» وغيرها من الغزوات الكبرى أو الوسطى والصغيرة ، وقوله تعالى في سورة الأنفال

__________________

(١). البقرة / ١٩٠.

(٢). الممتحنة / ٨ و ٩.

صريح في ذلك : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ* يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ* وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ* لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (١) ؛ فإنّ خروج قريش للحرب كان بعد انتداب أبي سفيان لحماية قافلة التجارة التي كان فيها عند ما سمع بخروج المسلمين للاستيلاء عليها ابتداء انتقاما لما فعل المشركون بهم.

وقوله تعالى : (فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً* وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٢). فإنّ هذه الآيات تفيد الغطاء الحقوقي الدفاعي للجهاد الابتدائي.

وكذا قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٣). و (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤). و (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٥).

وتمام الكلام في أدلّة الجهاد الابتدائي موكول إلى الكتب الفقهية ، إلّا أنّ الغرض

__________________

(١). الأنفال / ٥ ـ ٨.

(٢). النساء / ٧٤ ـ ٧٦.

(٣). التوبة / ٣٨ و ٣٩.

(٤). التوبة / ٤١.

(٥). التوبة / ٢٩.

في المقام الإشارة إلى أنّ الخلط الذي حصل كان بسبب عدم التمييز بين الجهاد الابتدائي على مستوى التنظير وسيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والفلسفة الحقوقية التي تنطلق منها مشروعيّته ، وبين ما حصل من ممارسة في فتوحات البلدان ، فإنّ الانطباع الذي أورثته تلك الممارسات في أذهان الأمم الأخرى عاد عقبة كئودا أمام انتشار الدين الإسلامي في أرجاء المعمورة.

فالدين الإسلامي ـ بناء على هذا الانطباع ـ غطاء يحرز من وراءه جمع الثروات ، واستعباد البشر في صورة الرقيق ، ولقضاء النزوات بعنوان ملك الإماء ، فيهلك الحرث في البلدان ، ويبيد النسل البشري فيها ، وتحت ركام هذه الصورة حاولت تلك المجموعة من المثقّفين والكتّاب في الدول الإسلاميّة القيام بعملية الغسيل ، وتمييز الوجه الناصع للدين الحنيف عن تلك الممارسات ، لكنّها خلطت بين حقيقة الجهاد الابتدائي وفلسفته الحقوقية التي ينطلق منها ، وبين ما حصل من ممارسات باسم الجهاد الابتدائي في الفتوحات التي جرت ، ونفتح أمام القارئ ملفّة كي يتبيّن له حقيقة الحال.

أغراض تشريع الجهاد الابتدائي

إنّ أغراض هذا التشريع للجهاد الابتدائي كما تدلّ عليه مجموع الآيات القرآنية المتعرّضة للجهاد الابتدائي ـ والتي تقدّمت الإشارة إلى بعضها ـ في الدين الحنيف ، كما في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (١).

فإنّ هذه الآية تحدّد معلما مهمّا من معالم الجهاد ، وإنّ الغرض فيه ليس جمع الغنائم والأموال والاسترقاق ، بل قيادة الجموع البشرية وهدايتها إلى طريق الله وعبادته.

__________________

(١). النساء / ٩٤.

وكذا قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (١).

وهذه ملحمة قرآنية عمّن هو في الصفوف مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو عسل اللسان والكلام ، ولكنّ قلبه مخالف تماما لما يظهره على لسانه ، وهو شديد العداوة لله ولرسوله ، والآية تخبر أنّه إذا تولّى الأمور فسوف يكون سعيه في ولايته فسادا في الأرض وإهلاكا للحرث والنسل البشري ، والحال إنّ الله تعالى لا يحبّ الفساد في التكوين ، وإنّ خاصية هذا المتولّي التعصّب لفعله أمام نصيحة الآخرين له ، كما إنّ هذه الآية تحدّد أغراض الدين ـ بما فيه الجهاد الابتدائي ـ بأنّه ليس للإفساد في الأرض وإهلاك الموارد الطبيعية أو الإنجازات المدنية التي حقّقها البشر ، ولا الهدف تبديد النسل.

وكذا قوله تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها* إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٢).

فهذه الآيات ترسم ملحمة مستقبلية لجماعة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، وهذه

__________________

(١). البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

(٢). محمّد / ٢٠ ـ ٣٠.

الجماعة قد أشار إليها القرآن الكريم في سورة المدّثّر ، رابع سورة نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوائل البعثة الشريفة في مكّة المكرّمة ، وأعلن وجودها في صفوف الثلّة الأولى التي أسلمت ، قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ* وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) (١).

فإنّ الآيات تبيّن أنّ المخاطب بعدّة الملائكة الموكّلين بالنار على أربعة أقسام :

الأوّل : (الَّذِينَ آمَنُوا) ، والثاني : (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ، والثالث : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، والرابع : (الْكافِرُونَ) ، وتخبر أنّ الذي سيحصل له الإيمان هما القسمان الأوّلان ، أمّا القسمان الآخران فسيحصل لديهما الارتياب. ومن الواضح أنّ المرض الذي في القلب نحو من النفاق الخفيّ جدّا ، أي الذي لا يظهر على صاحبه ، بل يبطنه في قلبه وخفاء أعماله ، وقد ذكرنا أنّ الآيات القرآنية تتابع هذه الفئة والجماعة في كثير من السور ، تحت هذا العنوان وبهذا الاسم إلى آخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزول القرآن.

والآيات هنا من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبيّن أنّ غرض هذه الفئة هو تولّي الأمور والأخذ بزمامها ، وأنّ ذلك الغرض هو وراء انضمامها إلى صفوف المسلمين الأوائل ؛ إذ إنّ خبر ظفر النبيّ المبعوث صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان منتشرا قبل البعثة ، كما يشير إليه قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ)(٢).

فقد أشارت الآية إلى أنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون وينتظرون ويطلبون الفتح والنصر والظفر بالنبيّ ـ الذي سيبعث خاتما ـ على الكافرين من مشركي الجزيرة العربية

__________________

(١). المدّثّر / ٣٠ و ٣١.

(٢). البقرة / ٨٩.

، فلمّا عرفوا ذلك وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بعث كفروا برسالته ؛ فالسورة تبيّن أنّ غرض هذه الفئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هو تسلّم مقاليد الأمور ، وأنّها كانت على اتّصال في الخفاء وارتباط مع فئات معادية علنا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ...) ، وكذلك بقية السور المتعرّضة لهذه الفئة بهذا الاسم تشير إلى هذه العلاقات بين هذه الفئة وبين بقية الفئات الأخرى.

ثمّ إنّ السورة تبيّن أنّ طابع سياسة الدولة التي يقيمها أفراد هذه الفئة هو الإفساد في الأرض ، وقطع الصلة بمن أمر تعالى بوصلهم ومودّتهم ، كالذي تشير إليه آية ٢٠٥ من سورة البقرة : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ؛ فهذه الآيات تحدّد أنّ أغراض الشريعة ـ في أحكامها وقوانينها السياسية ، وأبواب فقه النظام والسياسة الشاملة للجهاد الابتدائي ـ ليس الإفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث ، وتبديد النسل البشري ، فإنّ الله يحبّ صلاح الأرض وأهلها ، فهذا هو سبيل الله تعالى الذي أمرت الآيات القرآنية العديدة بالقتال فيه ، وفي سبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ؛ لأجل إزالة استضعافهم وإرجاع حقوقهم المغتصبة.

ونلخّص ما تقدّم فى هذا الموضوع بجملة مختصرة ، وهى : إنّ البحث عن «عدالة الصحابة» لا بدّ من التعمّق فيه ، ورفع الإجمال يكتنفه ، هل المراد به : كلّ الصحابة ، أم بعضهم؟! ومن هم أولئك البعض؟! هل هم تكتّل بيعة السقيفة ورموزها ، أم يشمل سعد بن عبادة والأنصار والبيت الهاشمى وعليا عليه‌السلام وسلمان وأبا ذر والمقداد وعمّارا ، وغيرهم ممّن كان فى تكتّل على عليه‌السلام؟! فهل الدائرة هى بحسب ما يذكر فى تعريف الصحابى ، أم أضيق؟!

ثمّ ما المراد بالعدالة؟! هل هى بمعنى الإمامة فى الدين؟! وما المراد بحجيّة قول وعمل الصحابى؟! هل هى بمعنى العصمة؟!

أم بمعنى حجّية الفتوى كمجتهدين ، مثل بقية المجتهدين ، بحدود اعتبار الاجتهاد وضوابط موازينه الشرعية؟!

وعلى هذا ، فلم لا يحتمل القائل خطأ أصحاب السقيفة في بيعتهم ، وخطأ اجتهادهم مع وجود النصّين القرآني والنبوي على إمامة عليّ عليه‌السلام؟! ولم يدّعي القائل امتناع احتمال ذلك؟! وكيف يبيّن الملازمة بين فضيلة الشيخين ، وبين امتناع خطأ اجتهادهما ، بعد فرض تسليمه بعدم عصمتهما؟! وإذا كانت المسألة اجتهاديّة فلم لا يسوّغ الاجتهاد المخالف؟!

أم هي بمعنى حجّية روايتهم كرواة ثقات ، بحدود حجّيّة قول الراوي في الخبر؟! ثمّ ما هو الغرض المترتّب على سدّ الحديث والكلام عمّا وقع منهم وبينهم؟! وكيف يتلاءم ذلك مع دعوى الاقتداء بهم ، إذا لم تعرف سيرتهم وأعمالهم؟!

ونذيّل المقال ببعض الأحاديث التي ذكرها أصحاب الصحاح :

١. روى البخاري في صحيحه ، عن أبي وائل ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : «إنّ المنافقين اليوم شرّ منهم على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا يومئذ يسرّون واليوم يجهرون» (١).

وهو مثار سؤال واجه كثيرا من الباحثين في التاريخ الإسلامي ؛ إذ أنّ القرآن الكريم في سوره المباركة أشار إلى مشكلة كبيرة وخطيرة كانت قائمة تواجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وهي أصناف وطوائف المنافقين ، وقد أشرنا في ما سبق إلى بعض تلك السور الكريمة ، ولا يفتأ القرآن يتابعهم في كلّ خطواتهم ، التي كانت خطيرة على أوضاع المسلمين حتّى آخر حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن فجأة لا يرى الباحث في التاريخ وجودا لهذه المشكلة بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فهل إنّ أفراد طوائف ومجموعات النفاق قد تابوا وآمنوا بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أم إنّ الوضع ـ كما يصفه حذيفة بن اليمان ، الخبير بمعرفة المنافقين ، كما في روايات الفريقين ، والذي شهد مؤامرة العقبة التي دبّرت في غزوة «تبوك» لاغتيال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عاد مؤاتيا لتحرّكهم وفسح المجال لهم بالجهر بمقاصدهم التي يحيكونها

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٦ كتاب الفتن ب ٢١.

ضدّ الإسلام؟!

٢. وروى أيضا ، عن أبي الشعثاء ، عن حذيفة ، قال : «إنّما كان النفاق على عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمّا اليوم فإنّما هو الكفر بعد الإيمان» (١).

٣. وروى مسلم في صحيحه ، عن قيس ، قال : «قلت لعمّار : أرأيتم صنيعكم هذا الذي صنعتم في أمر عليّ ، أرأيا رأيتموه ، أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ، فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكنّ حذيفة أخبرني ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، فيهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ؛ وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم. والذيل من قول الراوي عن شعبة ، عن قتادة ، عن أبي نضرة ، عن قيس» (٢).

وروى مثله بطريق آخر (٣).

وما قاله عمّار بيّن ؛ لأنّ تنصيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام يوم الغدير كان على ملأ الناس الراجعين من حجّة الوداع ، وغيرها من المواطن الأخرى ، وإنّما أراد عمّار بيان أنّ مناوئي عليّ عليه‌السلام وخصومه كان حذيفة قد عدّهم من الاثني عشر منافقا الّذين يمتنع دخولهم الجنّة.

٤. وروى بعد الحديثين السابقين ، عن أبي الطفيل ، قال : «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله ، كم كان أصحاب العقبة؟ قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك! قال : كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ١٠٤ ح ٥٨ كتاب الفتن ب ٢١.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

(٣). صحيح مسلم ٨ / ١٢٢ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

الدنيا ويوم يقوم الأشهاد (١) ...» الحديث.

٥. وروى مسلم ، عن ابن عمر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام عند باب حفصة ، فقال بيده نحو المشرق : «الفتنة هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان» قالها مرّتين أو ثلاثا(٢).

وقال عبيد الله بن سعيد في روايته : قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند باب عائشة (٣). وروى عن ابن عمر ، قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بيت عائشة فقال : «رأس الكفر من هاهنا ، من حيث يطلع قرن الشيطان» يعني المشرق. والذيل من تفسير الراوي (٤).

٦. وروى أيضا ، عن أبي سعيد الخدري ، قال : أخبرني من هو خير منّي ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعمّار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول : «بؤس ابن سميّة ، تقتلك فئة باغية» وفي طريق : «ويس أو : يا ويس ابن سميّة» (٥). قال النووي في شرح الحديث : «قال العلماء : هذا الحديث حجّة ظاهرة في أنّ عليّا رضى الله عنه كان محقّا مصيبا ، والطائفة الأخرى بغاة ، لكنّهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك ، كما قدّمناه في مواضع ، منها هذا الباب ، وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوجه ، منها : إنّ عمّارا يموت قتيلا ، وإنّه يقتله مسلمون ، وإنّهم بغاة ، وإنّ الصحابة يقاتلون ، وإنّهم يكونون فرقتين : باغية وغيرها ، وكلّ هذا وقع مثل فلق الصبح ، صلّى الله وسلّم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحي يوحى (٦). وروى بطرق أربعة أخرى ما يقرب من ألفاظ هذا الحديث من أنّ عمّارا تقتله الفئة الباغية» (٧).

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٢٣ كتاب صفات المنافقين وأحكامهم.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٨١ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٣). صحيح مسلم ٨ / ١٨١ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٤). صحيح مسلم ٨ / ١٨١ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٥). صحيح مسلم ٨ / ١٨٥ ـ ١٨٦ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٦). صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ / ٣٤ ح ٢٩١٦.

(٧). صحيح مسلم ٨ / ١٨٥ ـ ١٨٦ ، صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ / ٣٣ ـ ٣٤ ح ٢٩١٥ و ٢٩١٦.

هذا ، وإذا كان النووي يجوّز خطأ اجتهاد معاوية لوجود النصّ على حقّ وصواب عليّ عليه‌السلام ، فلم لا يجوّز النووي وأهل الجماعة خطأ اجتهاد الشيخين مع وجود النصّ على عليّ عليه‌السلام؟! فإذا كان الاجتهاد ممكن مع وجود النصّ ، ويمكن تأوّل المجتهد للنصّ ، فلم لا يمكن خطأ المجتهد في تأوّله؟! ولم يمتنع خطأ اجتهاد أصحاب السقيفة في تأوّلهم للنصّ على عليّ عليه‌السلام؟! ولم لا يسوّغ أهل الجماعة لأنفسهم الاجتهاد في صحّة أو خطأ بيعة السقيفة ، ويفتحوا باب الاجتهاد في ذلك ما دامت أنّ المسألة اجتهادية؟! فكيف يدّعون فيها الضرورة أو التسالم ويغلقون باب الاجتهاد والفحص والتحرّي عن الحقيقة؟!

٧. وروى أيضا ، عن أبي إدريس الخولاني : «كان يقول حذيفة بن اليمان : والله إنّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة في ما بيني وبين الساعة وما بي إلّا أن يكون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسرّ إليّ في ذلك شيئا لم يحدّثه غيري ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال وهو يحدّث مجلسا أنا فيه عن الفتن (١). الحديث». وروى أيضا ، عن عبد الله بن يزيد ، عن حذيفة ، أنّه قال : «أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، فما منه شيء إلّا وقد سألته ، إلّا أنّي لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة» (٢).

٨. ورووا في الصحاح ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «بينا أنا قائم ـ يعني يوم القيامة على الحوض ـ إذا زمرة ، حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال : هلمّ. فقلت : أين؟! ؛ فقال : إلى النار والله ؛ قلت : وما شأنهم؟! ؛ قال : إنّهم ارتدّوا بعدك على أدبارهم القهقرى ـ إلى أن قال : ـ فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم» (٣). الحديث.

وهو يطابق قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٧٢ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٢). صحيح مسلم ٨ / ١٧٢ كتاب الفتن وأشراط الساعة.

(٣). صحيح البخاري ٨ / ٢١٧ ح ١٦٦ كتاب الرقاق باب الحوض.

انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ)(١). ومفاد الآية ملحمة قرآنية عمّا بعد حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ إنّ القائلين بعدالة الصحابة ما داموا لا يرون في تفسير فضيلة الشيخين معنى العصمة ، فلم يدّعون الملازمة بين اجتهادهما في أمر الخلافة وبين الصواب ، وأنّ تخطئتهما في ما اجتهدا فيه مخالفة لضرورة الدين أو للمتسالم عندهم؟! ، أليست دعوى ضرورة صوابهما هي تثبيت عصمتهما؟! ، أو ليس امتناع الخطأ منهما ينافي القول بأنّ ما أتيا به هو اجتهاد منهما؟! ؛ كما إنّه ما هو المحصّل من وراء الفضيلة لهما؟! ، هل بمعنى امتناع خطئهما ، وأنّ ما أتيا به لا يمكن أن يخطئ الواقع ؛ فبتوسّط تلك الفضيلة لم يكن ما يريانه اجتهاد ، وإنّما هو عين اللوح المحفوظ؟!! كلّ هذه الجهات يراها الناظر مدمجة عند القائلين بالمقالة المزبورة!

__________________

(١). آل عمران / ١٤٤.

٥

موقف الصديقة فاطمة عليها‌السلام

تجاه الصحابة

فقد روي عن المفضّل بن عمر ، قال :

قال مولاي جعفر الصادق عليه‌السلام : لمّا ولي أبو بكر بن أبي قحافة ... ثمّ سردعليه‌السلام منعه فاطمة وعليّ وأهل بيته الخمس والفيء وفدكا ، ومجيء فاطمة لمحاجّة أبي بكر بقوله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) (١) وأنّها وولدها أقرب الخلائق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (٢) وقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ) (٣) وأنّ ما لله فهو لرسوله ، وما لرسوله فهو لذي القربى ، وأنّها وعليّ وولدهما ذوو القربى الّذين قال الله تعالى فيهم : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٤)

فنظر أبو بكر بن أبي قحافة إلى عمر بن الخطّاب وقال : ما تقول؟ ؛ فقال عمر :

ومن اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟! ؛ قالت فاطمة عليها‌السلام : اليتامى الّذين

__________________

(١). الروم / ٣٨.

(٢). الأنفال / ٤١.

(٣). الحشر / ٧.

(٤). الشورى / ٢٣.

يأتمّون بالله وبرسوله وبذي القربى ، والمساكين الّذين أسكنوا معهم في الدنيا والآخرة ، وابن السبيل الذي يسلك مسلكهم. قال عمر : فإذا الخمس والفيء كلّه لكم ولمواليكم وأشياعكم؟!

فقالت فاطمة عليها‌السلام : أمّا فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا ، وأمّا الخمس فقسّمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله. قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟! قالت فاطمة : إن كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسّمها الله وأوجبها في كتابه فقال الله عزوجل : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ) (١) ... إلى آخر القصّة. قال عمر : فدك لك خاصّة والفيء لكم ولأوليائكم؟! ما أحسب أصحاب محمّد يرضون بهذا!!

قالت فاطمة : فإنّ الله عزوجل رضي بذلك ، ورسوله رضي به ، وقسّم على الموالاة والمتابعة لا على المعاداة والمخالفة ، ومن عادانا فقد عادى الله ، ومن خالفنا فقد خالف الله ، ومن خالف الله فقد استوجب من الله العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة. فقال عمر : هاتي بيّنة يا بنت محمّد على ما تدّعين؟! ؛ فقالت فاطمة عليها‌السلام : قد صدّقتم جابر بن عبد الله وجرير بن عبد الله ولم تسألوهما البيّنة! وبيّنتي في كتاب الله. فقال عمر : إنّ جابرا وجريرا ذكرا أمرا هيّنا ، وأنت تدّعين أمرا عظيما يقع به الردّة من المهاجرين والأنصار! فقالت ٣ : إنّ المهاجرين برسول الله وأهل بيت رسول الله هاجروا إلى دينه ، والأنصار بالإيمان بالله ورسوله وبذي القربى أحسنوا ، فلا هجرة إلّا إلينا ، ولا نصرة إلّا لنا ، ولا اتّباع بإحسان إلّا بنا ، ومن ارتدّ

__________________

(١). التوبة / ٦٠.

عنّا فإلى الجاهلية (١)

فها هي بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمحّص عن الضابطة القرآنية في حسن الصحبة وسوئها ، وهي على الموالاة والمتابعة لرسول الله وأهل بيته لا المعاداة لهم والمخالفة ، وأنّ الهجرة تحقّقت بهم ، والنصرة بنصرة الله ورسوله وذي القربى ، فلا هجرة إلّا إليهم لا إلى غيرهم ، ولا نصرة إلّا لهم لا عليهم ، ولا اتّباع بإحسان إلّا باتّباع سبيلهم وصراطهم. اهدنا الصراط المستقيم صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين ، سبيل وصراط المطهّرين من المعصية والذنوب ، ومن الضلالة والجهل والعمى.

ودلّلت على ذلك بأن قرن تعالى بين رسوله وبين ذي القربى في مواطن ، كما في اختصاص الخمس والفيء ـ الذي وصفه عمر بأنّه أمرا عظيما ـ بالله ورسوله وذي القربى ، لمكان اللام ، دون اليتامى والمساكين وابن السبيل ، والتفرقة للدلالة على أنّ ملكية التصرّف هي شأنه تعالى ورسوله وذي القربى ، وأنّ مودّة ذوي القربى المفترضة في الكتاب كأجر لكلّ الرسالة هو موالاتهم ومجانبة عدائهم ومخالفتهم ، فمدار حسن الصحبة على ذلك وسوئها على خلافه.

ولقد أنصف أحمد بن حنبل ؛ إذ يروي عنه الفقيه الحنبلي ابن قدامة عند قوله :

وأمّا حمل أبي بكر وعمر (رض) على سهم ذي القربى في سبيل الله ، فقد ذكر لأحمد فسكت وحرّك رأسه ولم يذهب إليه ، ورأى أنّ قول ابن عبّاس ومن وافقه أولى ؛ لموافقته كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلّم ، فإنّ ابن عباس لمّا سئل عن سهم ذي القربى فقال : إنّا كنّا نزعم أنّه لنا فأبى ذلك علينا قومنا ؛ ولعلّه أراد بقوله (أبى ذلك علينا قومنا) فعل أبي بكر وعمر (رض) في حملهما عليه في سبيل الله ومن تبعهما على ذلك ، ومتى اختلف الصحابة وكان قول بعضهم يوافق الكتاب والسنّة كان أولى ، وقول

__________________

(١). الكشكول في ما جرى على آل الرسول : ٢٠٣ ـ ٢٠٥ ، وبحار الأنوار ٢٩ / ١٩٤ ح ٤٠ ، نقلا عنه.

ابن عبّاس موافق للكتاب والسنّة (١).

وروى البخاري بسنده عن عائشة ، في كتاب المغازي باب ٣٨ باب غزوة خيبر :

إنّ فاطمة عليها‌السلام بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر. فقال أبو بكر : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّا لا نورّث ما تركناه صدقة ، إنّما يأكل آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا المال ، وإنّي والله لا أغيّر من صدقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حالها التي كانت عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا ، فوجدت فاطمة فهجرته ، فلم تكلّمه حتّى توفّيت ، وعاشت بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستّة أشهر ، فلمّا توفّيت دفنها زوجها عليّ ليلا ، ولم يؤذن بها أبو بكر ، وصلّى عليها (٢).

ورواه مسلم في صحيحه بنفس ألفاظه ، وأحمد في مسنده (٣).

وفي هذا الرواية التي هي من طرقهم (٤) ، ونظيراتها ممّا رووها ، فضلا عن طرقنا ، ما يدلّ على إنّها عليها‌السلام كانت ساخطة على أبي بكر وعمر ، منكرة لخلافتهم وإمامتهم إلى أن توفّيت عليها‌السلام ، مع إنّ من مات ولم يبايع أو لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وكفر وضلال ، ممّا يدلّ على نفي إمامتهم وخلافتهم ، لكونها مطهّرة في القرآن من كلّ

__________________

(١). المغني ٧ / ٣٠١.

(٢). صحيح البخاري ٥ / ١٧٧ ، فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٤٩٣.

(٣). صحيح مسلم : ١٣٨٠ ح ١٧٥٩ ، مسند أحمد ٢ / ٢٤٢ وص ٣٧٦ وص ٤٦٣ ـ ٤٦٤ ؛ وفيه : عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله :

لا تقتسم ورثتي دينارا ولا درهما ، ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة

(٤). صحيح ابن حبان ١٤ / ٥٧٣ ح ٦٦٠٧.

رجس ، وهي سيّدة نساء العالمين ، وأنّ الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها.

والغريب في دعوى أبي بكر بكون الخمس والفيء الخاصّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذي القربى صدقة ، فإنّ الناظر على الصدقة الجارية أيضا هو الوارث لا الأجنبي ، فإنّ ولاية النظارة على الصدقات الجارية أيضا هي من نصيب الوارث ، فكيف يمنعها عن الوارث؟!! وفي موضع آخر (١) قالت عليها‌السلام في معرض خطبتها المعروفة تجاه المهاجرين :

قالت ـ بعد الثناء على الله تعالى بأبلغ ثناء ، وذكر نعمة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على هدايته للأمّة ، وكثرة وشدّة بلاء ابن عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب في إرساء الدين ـ :

وأنتم في بلهنية من العيش ـ أي سعة ـ وادعون آمنون ، حتّى إذا اختار الله لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبع خامل الآفلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه صارخا بكم ، فوجدكم لدعائه مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، فاستنهضكم فوجدكم خفافا ، وأحمشكم فألفاكم غضابا ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتموها غير شربكم.

هذا ، والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، بدارا زعمتم خوف الفتنة (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢) ، فهيهات منكم! وأنّى بكم؟! وأنّى تؤفكون؟! وهذا كتاب الله بين أظهركم ، وزواجره بيّنة ، وشواهده لائحة ، وأوامره واضحة ، أرغبة عنه تدبرون؟! أم بغيره تحكمون؟! (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) (٣) ... (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ

__________________

(١). بلاغات النساء : ١٢ ـ ٢٠ ، الاحتجاج ١ / ٢٦٣ ، بحار الأنوار ٢٩ / ١٠٨ ح ٢ وص ٢٣٣ ضمن ح ٨ خطبة الزهراء عليها‌السلام ، وانظر : شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٢.

(٢). التوبة / ٤٩.

(٣). الكهف / ٥٠.

مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١)

ثمّ لم تريثوا إلّا ريث أن تسكن نغرتها ، تشربون حسوا ، وتسرون في ارتغاء ، ونصبر منكم على مثل حزّ المدى ، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا. (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (٢)؟!

ويها معشر المهاجرين! أأبتزّ إرث أبي؟! أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريّا. فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله ، والزعيم محمّد والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون و (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)(٣).

ثمّ انحرفت إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تقول :

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا

تجهمتنا رجال واستخفّ بنا

بعد النبيّ وكلّ الخير مغتصب

سيعلم المتولى ظلم حامتنا

يوم القيامة أن سوف ينقلب

فقد لقينا الذي لم يلقه أحد

من البرية لا عجم ولا عرب.

وقالت عليها‌السلام (٤) تجاه الأنصار :

__________________

(١). آل عمران / ٨٥.

(٢). المائدة / ٥٠.

(٣). الأنعام / ٦٧.

(٤). بلاغات النساء : ١٢ ـ ٢٠.

معشر البقية ، وأعضاد الملّة ، وحصون الإسلام! ما هذه الغميزة في حقّي ، والسنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : المرء يحفظ في ولده؟! سرعان ما أجدبتم فأكديتم ، وعجلان ذا إهانة ، تقولون : مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! فخطب جليل استوسع وهيه ، واستنهر فتقه ، وبعد وقته ، وأظلمت الأرض لغيبته ، واكتأبت خيرة الله لمصيبته ، وخشعت الجبال ، وأكدت الآمال ، وأضيع الحريم ، وأزيلت الحرمة عند مماتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتلك نازلة علن بها كتاب الله في أفنيتكم ، في ممساكم ومصبحكم ، يهتف بها في أسماعكم ، وقبله حلّت بأنبياء الله عزوجل ورسله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (١)

إيها بني قيلة! أأهضم تراث أبيه وأنتم بمرأى منه ومسمع؟! تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الحيرة ، وفيكم العدد والعدّة ، ولكم الدار ، وعندكم الجنن ، وأنتم الألى نخبة الله التي انتخب لدينه ، وأنصار رسوله وأهل الإسلام والخيرة التي اختار لنا أهل البيت ، فباديتم العرب ، وناهضتم الأمم ، وكافحتم البهم ، لا نبرح نأمركم وتأتمرون ، حتّى دارت لكم بنا رحا الإسلام ، ودرّ حلب الأنام ، وخضعت نعرة الشرك وباخت نيران الحرب ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى حرتم بعد البيان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأسررتم بعد الإعلان ، لقوم نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أوّل مرة. (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢)؟!

ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وركنتم إلى الدعة فعجتم عن الدين ، ومججتم الذي وعيتم ، ودسعتم الذي

__________________

(١). آل عمران / ١٤٤.

(٢). التوبة / ١٣.

سوّغتم ف (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١).

ألا وقد قلت الذي قلته على معرفة منّي بالخذلان الذي خامر صدوركم ، واستشعرته قلوبكم ، ولكن قلته فيضة النفس ، ونفثة الغيظ ، وبثّة الصدر ، ومعذرة الحجّة ، فدونكموها فاحتقبوها ، مدبرة الظهر ، ناكبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بشنار الأبد ، موصولة ب (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ* الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٢) ، فبعين الله ما تفعلون. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٣) ، وأنا ابنة (نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (٤) ف (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ* وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (٥).

ثمّ إنّها عليها‌السلام تشير في استنهاضها الأنصار إلى بيعتهم ، بيعة العقبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حين عاهدوه على أن يمنعوه وذرّيّته ممّا يمنعون منه أنفسهم وذراريهم ، وكانت تقول عند ما دار بها عليّ عليه‌السلام على أتان والحسنين عليهما‌السلام معها على بيوت المهاجرين والأنصار :

يا معشر المهاجرين والأنصار! انصروا الله فإنّي ابنة نبيّكم وقد بايعتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بايعتموه أن تمنعوه وذرّيّته ممّا تمنعون منه أنفسكم وذراريكم ، ففوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببيعتكم (٦).

وقالت عليها‌السلام عند ما اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار فقلن لها : يا بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم! كيف أصبحت عن علّتك؟ فقالت عليها‌السلام :

أصبحت والله عائفة لدنياكم ، قالية لرجالكم ، لفظتهم بعد أن عجمتهم ،

__________________

(١). إبراهيم / ٨.

(٢). الهمزة / ٦ و ٧.

(٣). الشعراء / ٢٢٧.

(٤). سبأ / ٤٦.

(٥). هود / ١٢١ و ١٢٢.

(٦). الاختصاص ١٨٣ ـ ١٨٥ ، وانظر : شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٠ ـ ٢١٣ ، الاحتجاج ١ / ٢٠٦ وص ٢٠٩ ، الغدير ٧ / ١٩٢ ؛ وذكر جملة من المصادر.

وشنئتهم بعد أن سبرتهم ، فقبحا لفلول الحدّ ، وخور القناة ، وخطل الرأي ، و (لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) (١) ، لا جرم لقد قلّدتهم ريقتها ، وشنت عليهم عارها ، فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين.

ويحهم! أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوّة ، ومهبط الوحي الأمين ، والطبين بأمر الدنيا والدين ، ألا ذلك هو الخسران المبين ، وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا والله منه نكير سيفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله عزوجل.

والله لو تكافئوا عن زمام نبذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه لاعتلقه ، ولسار بهم سيرا سجحا ، لا يكلم خشاشه ، ولا يتعتع راكبه ، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا ، تطفح ضفتاه ، ولأصدرهم بطانا ، قد تحرّى بهم الريّ غير متحلّ منه بطائل إلّا بغمر الماء وردعه شررة الساغب ، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. (وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) (٢).

ألا هلمّ فاستمع! وما عشت أراك الدهر عجبا! وإن تعجب فعجب قولهم! ليت شعري إلى أيّ سناد استندوا؟! وعلى أيّ عماد اعتمدوا؟! وبأيّة عروة تمسّكوا؟! وعلى أيّة ذرّيّة أقدموا واحتنكوا؟! لبئس المولى ولبئس العشير ، وبئس للظالمين بدلا ، استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ، فرغما لمعاطس قوم (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٣) ، (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) (٤) ويحهم! (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا

__________________

(١). المائدة / ٨٠.

(٢). الزمر / ٥١.

(٣). الكهف / ١٠٤.

(٤). البقرة / ١٢.

يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (١) أما لعمري لقد لقحت ، فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القعب دما عبيطا وزعافا مبيدا ، هنالك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم أنفسا ، واطمئنّوا للفتنة جأشا ، وأبشروا بسيف صارم ، وسطوة معتد غاشم ، وبهرج شامل ، واستبداد من الظالمين يدع فيئكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم ، وأنّى بكم وقد عمّيت عليكم؟! (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٢)؟! (٣)

فتحصّل أنّها عليها‌السلام لا ترى مجرّد الهجرة والنصرة دليلا على الاستقامة والصلاح وحسن العاقبة والخاتمة ، بل لا بدّ من الإقامة على شروط العهد والمواثيق التي أخذها عليهم الله تعالى ورسوله ، من الإقرار بالتوحيد والرسالة والولاية لأهل بيته ومودّتهم ونصرتهم. وهذا عين ما تقدّم استفادته من الآيات العديدة ، والروايات النبويّة التي رواها أهل سنّة الجماعة ، نظير روايات العرض على الحوض من أنّ بعض الصحابة يزوون عنه إلى جهنّم فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ربّ أصحابي! فيجاب : إنّهم بدّلوا بعدك وأحدثوا ، فيقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بعدا بعدا سحقا سحقا.

وروى ابن قتيبة الدينوري في كتابه الإمامة والسياسة : أنّ عليّا عليه‌السلام خرج يحمل فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على دابّة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله! قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به ، فيقول عليّ كرّم الله وجهه : أفكنت أدع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). يونس / ٣٥.

(٢). هود / ٢٨.

(٣). معاني الأخبار / ٣٥٤ ـ ٣٥٦ ، الأمالي ـ للطوسي ـ ٣٧٤ مج ١٣ ح ٥٥ ، الاحتجاج ١ / ٢٨٦ ـ ٢٩٢ ، بحار الأنوار ٤٣ / ١٥٨ ـ ١٦٠.

في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟! فقالت فاطمة : ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبهم.

وروى ـ بعد ما ذكر هجوم عمر وجماعته على بيت فاطمة لإخراج عليّ عليه‌السلام للبيعة ـ أنّ عمر قال لأبي بكر : انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها ، فانطلقا جميعا فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليّا فكلّماه ، فأدخلهما عليها ، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط ، فسلّما عليها ، فلم تردّ عليهما‌السلام.

فتكلّم أبو بكر فقال : يا حبيبة رسول الله! والله إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي متّ ولا أبقى بعده ، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك وميراثك من رسول الله؟! إلّا أنّي سمعت أباك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : لا نورث ما تركناه ، فهو صدقة.

فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرفانه وتفعلان به؟! ؛ قالا : نعم.

فقالت : نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟! قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قالت : فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه. فقال أبو بكر : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة.

ثمّ انتحب أبو بكر يبكي حتّى كادت نفسه أن تزهق ، وهي تقول : والله لأدعونّ الله عليك في كلّ صلاة أصليها. ثمّ خرج باكيا ، فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كلّ رجل منكم معانقا حليلته ، مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي» (١).

__________________

(١). الإمامة والسياسة / ١٣ و ١٤.

٦

موقف امير المؤمنين عليه‌السلام

تجاه الصحابة

ورد في كتاب للإمام عليّ عليه‌السلام إلى معاوية ـ جوابا على كتاب له ـ ما نصّه :

كان أشدّ الناس عليه [على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] تأليبا وتحريضا هم أسرته ، والأدنى فالأدنى من قومه إلّا قليلا ممّن عصمه الله منهم. وأنّ الله اجتبى لرسول الله من المسلمين أعوانا أيّده بهم ، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام ، فكان أفضلهم في الإسلام ـ كما زعمت ـ وأنصحهم لله ولرسوله الخليفة الصدّيق ، ومن بعده خليفة الخليفة الفاروق.

ثمّ قال : وما أنت والصدّيق؟! فالصدّيق من صدّق بحقّنا وأبطل باطل عدوّنا ، وما أنت والفاروق؟! فالفاروق من فرّق بيننا وبين عدوّنا. وذكرت أنّ عثمان بن عفّان كان في الفضل ثالثا ، فإن يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه ، وإن يك مسيئا فسيلقى ربّا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره. ولعمر الله ، إنّي لأرجو إذا أعطى الله المؤمنين على قدر فضائلهم في الإسلام ونصيحتهم لله ولرسوله أن يكون نصيبنا أهل البيت في ذلك الأوفر.

إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له كنّا أهل البيت أوّل من آمن به وصدّق بما جاء به ، فلبثنا أحوالا كاملة مجرّمة تامّة وما يعبد الله في ربع ساكن من العرب أحد غيرنا ، فأراد قومنا قتل نبيّنا ، واجتياح أصلنا ، وهمّوا بنا الهموم ، وفعلوا بنا الأفاعيل ، ومنعونا الميرة ، وأمسكوا عنّا العذب ،

وأحلسونا الخوف ، واضطرّونا إلى جبل وعر ، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون ، وأوقدوا لنا نار الحرب ، وكتبوا علينا بينهم كتابا : لا يؤاكلوننا ، ولا يشاربوننا ، ولا يناكحوننا ، ولا يبايعوننا ، ولا يكلّموننا ، ولا نأمن فيهم حتّى ندفع إليهم نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقتلوه ويمثّلوا به ؛ فلم نكن نأمن فيهم إلّا من موسم إلى موسم. فعزم الله لنا على منعه ، والذبّ عن حوزته ، والرمي من وراء حرمته ، والقيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف ، وبالليل والنهار ؛ فمؤمننا يبغي بذلك الأجر ، وكافرنا يحامي عن الأصل.

وأمّا من أسلم من قريش بعد ، فإنّه خلوّ ممّا نحن فيه بحلف يمنعه ، أو عشيرة تقوم دونه ، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف ، فهو من القتل بمكان نجوة وأمن ؛ فكان ذلك ما شاء الله أن يكون. ثمّ أمر الله تعالى رسوله بالهجرة ، وأذن له بعد ذلك في قتال المشركين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا احمرّ البأس ، ودعيت نزال ، وأحجم الناس قدّم أهل بيته فوقى بهم أصحابه حرّ السيوف والأسنّة ، فقتل عبيدة ابن الحارث يوم بدر ، وقتل حمزة يوم أحد ، وقتل جعفر وزيد يوم مؤتة ، وأسلم الناس نبيّهم يوم حنين غير العبّاس عمّه وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب ابن عمّه ، وأراد من لو شئت يا معاوية ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مرّة ، ولكنّ آجالهم عجّلت ومنيّته أجّلت ، والله وليّ الإحسان إليهم ، والمنّان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات.

وأيم الله ما سمعت بأحد ولا رأيت من هو أنصح لله في طاعة رسوله ، ولا أطوع لرسوله في طاعة ربّه ، ولا أصبر على اللأواء والضرّاء وحين البأس ومواطن المكروه مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هؤلاء النفر من أهل بيته الّذين سمّيت لك ، وفي المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم الله خيرا بأحسن أعمالهم.

وذكرت حسدي على الخلفاء ، وإبطائي عنهم ، وبغيي عليهم ؛ فأمّا الحسد

والبغي عليهم ، فمعاذ الله أن أكون أسررته أو أعلنته ، بل أنا المحسود المبغي عليه ؛ وأمّا الإبطاء عنهم والكراهة لأمرهم ، فإنّي لست أعتذر منه إليك ولا إلى الناس ؛ وذلك لأنّ الله جلّ ذكره لمّا قبض نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختلف الناس ، فقالت قريش : منّا الأمير ، وقالت الأنصار : منّا الأمير ؛ فقالت قريش : منّا محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنحن أحقّ بالأمر منكم ؛ فعرفت ذلك الأنصار فسلّمت لقريش الولاية والسلطان ؛ فإذا استحقّوها بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون الأنصار ، فإنّ أولى الناس بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحقّ بها منهم ، وإلّا فإنّ الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا. فلا أدري أصحابي سلّموا من أن يكونوا حقّي أخذوا ، أو الأنصار ظلموا؟! بل عرفت أنّ حقّي هو المأخوذ. (١)

ويتّضح من كلامه عليه‌السلام إنّ الصدق والصدّيقية في الصحبة والصحابة إنّما هي بالإقامة على العدل والوفاء بمواثيق الله ورسوله التي أخذت في الكتاب والسنّة عليهم ، وهي التسليم لأهل البيت بالولاية والمودّة ، وإنّهم ولاة الفيء والأنفال والخمس ، وإنّهم الثقل الثاني الواجب التمسّك بهم أعدال الكتاب ، فيتولّى أهل البيت ويبرأ من أعدائهم ، والفاروق من يميّز بين الحقّ الثابت لأهل البيت وبين الباطل الذي عند عدوّهم.

وإنّ أشدّ الناس عناء وبلاء وجهدا في الجهاد والذبّ عن حوزة وحومة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم أهل بيته ، وإنّهم أوّل الناس إيمانا به قبل أن يؤمن به أصحابه من قريش أو الأنصار ، فقد سبق أهل البيت جميع الصحابة سنينا وأعواما ، وهم الّذين تحمّلوا أعباء الرسالة في المرتبة الأولى ، وهم الّذين قدّموا الشهداء في الصفوف الأولى ، فلا تشهد الحروب لأبي

__________________

(١). نهج البلاغة : كتاب ٤٩. ط مؤسّسة الإمام صاحب الزمان عليه‌السلام ـ تحقيق السيّد الموسوي ـ ، وهي الطبعة المعتمدة في التخريجات اللاحقة ؛ وقد ذكر للكتاب ولبعض ما ورد فيه مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين. وانظر : شرح نهج البلاغة ١٥ / ٧٤ ـ ٧٨ آخر شرح الكتاب ٩ ، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة ٤ / ١٧٢ ـ ١٨٦ الكتاب ٧٠.

بكر وعمر وعثمان وبقيّة الصحابة من قريش ممّن اجتمع في السقيفة أو الأنصار ثباتا في حرب ، كيوم حنين وغيرها ؛ فأهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم أنصح وأطوع وأصبر لله ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم مع ذلك أقرب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحقّ الناس بخلافته.

وقال عليه‌السلام في كتاب آخر له إلى معاوية ـ جوابا على كتابه الذي ذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدينه ، وتأييده إيّاه بمن أيّده من أصحابه ـ :

فلقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا ؛ إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ، ونعمته علينا في نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر ، أو داعي مسدّده إلى النضال .. وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمرا إن تمّ اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه. وما أنت يا ابن هند والفاضل والمفضول ، والسائس والمسوس؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء ، والأحزاب وأبناء الأحزاب ، والتمييز بين المهاجرين الأوّلين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم؟! هيهات ، لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها!

ألا تربع ـ أيّها الإنسان ـ على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟! فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر ، وإنّك لذهّاب في التيه ، روّاغ عن القصد. ألا ترى ـ غير مخبر لك ، ولكن بنعمة الله أحدّث ـ أنّنا قد فزنا على جميع المهاجرين كفوز نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سائر النبيّين؟! أو لا ترى أنّ قوما استشهدوا في سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار ولكلّ فضل ، حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل : سيّد الشهداء ، وخصّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه ، ووضعه بيده في قبره؟! أولا ترى أنّ قوما قطّعت أيديهم في سبيل الله ولكلّ فضل ، حتّى إذا فعل بواحد ناما فعل بواحدهم قيل : الطيّار في الجنّة وذو الجناحين؟!

أو لا ترى أنّ مسلمنا قد بان في إسلامه كما بان جاهلنا في جاهليّته ، حتّى

قال عمّي العبّاس بن عبد المطّلب لأبي طالب :

أبا طالب! لا تقبل النصف منهم

وإن أنصفوا حتّى نعقّ ونظلما

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت

صوارم في أيماننا تقطر الدما

تركناهم لا يستحلّون بعدها

لذي حرمة في سائر الناس محرما (١)

ولو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ، ولا تمجّها آذان السامعين.

فدع عنك يا ابن هند من قد مالت به الرميّة! فإنّا صنائع ربّنا ، والناس بعد صنائع لنا ، لم يمنعنا قديم عزّنا ، ولا عاديّ طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا ، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء ، ولستم هناك. وأنّى يكون ذلك كذلك؟! ومنّا المشكاة الزيتونة ومنكم الشجرة الملعونة ، ومنّا النبيّ ومنكم المكذّب ، ومنّا أسد الله ومنكم طريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا هاشم بن عبد مناف ومنكم أميّة كلب الأحلاف ، ومنّا الطيّار في الجنّة ومنكم عدوّ الإسلام والسنّة ، ومنّا سيّدا شباب أهل الجنّة ومنكم صبية النار ، ومنّا خير نساء العالمين بلا كذب ومنكم حمّالة الحطب ، في كثير ممّا لنا وعليكم.

فإسلامنا ما قد سمع وجاهليّتكم لا تدفع ، والقرآن يجمع لنا ما شذّ عنّا ، وهو قوله ـ سبحانه وتعالى ـ (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٢)

__________________

(١). أوردها ابن عساكر في تاريخه ٢٦ / ٢٨٥ وزاد عليها غيرها ، وفي تصحيفات المحدثين : ١٣٩ ذكر البيتين الأوّليين.

(٢). الأنفال / ٧٥.

وقوله تعالى : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (١) فنحن مرّة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة ؛ ولمّا احتجّ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلجوا عليهم ، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم ، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم ، وزعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت ، وعلى كلّهم بغيت ، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

وقلت : إن كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتّى أبايع .. ولعمر الله لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، وأن تفضح فافتضحت. وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكّا في دينه ، ولا مرتابا بيقينه ، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها ، ولكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها ... (٢).

فهو عليه‌السلام يفضّل ذوي القربى الّذين آزروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفادوه بأرواحهم وبكلّهم على جميع المهاجرين والأنصار ، وذلك لكونهم أولى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رحما ، وأشدّ الناس متابعة ونصحا وطاعة ونصرة له ، كما تشير إليه الآيتان اللتان استشهد عليه‌السلام بهما ، ومن ثمّ قدّم القرآن ذوي القربى مصرّحا في آية الفيء بقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَ ...).

وكذلك في آية الخمس ، قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى

__________________

(١). آل عمران / ٦٨.

(٢). نهج البلاغة : الكتاب ٥٩ ، وقد ذكر للكتاب ولبعض ما ورد فيه مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين. وهو برقم ٢٨ في الطبعة المعروفة.

عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فخصّ تعالى ذوي القربى بالمقام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرنهم به وبذاته المقدّسة دلالة على تشريفهم ولزوم طاعتهم وأحقّيّتهم بالأمر دون غيرهم ، فكرّر اللام التي للاختصاص وملكية التصرّف لذاته تعالى ولرسوله ولذي القربى دون غيرهم ، دلالة على منصب ذوي القربى الخاص في الولاية على الأموال والأمور العامّة.

وقال تعالى مخاطبا نبيّه : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) كما خصّهم بالذكر في الأمر بالمودّة ، وجعله أجرا لكلّ الرسالة والدين وعدلا لمجموع الإسلام الحنيف حين قال تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) وقال : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (١) وقال : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) (٢) ، فبيّن تعالى أنّ مودّة وولاية ذوي القربى هي السبيل إليه تعالى ، وهي لنفع جميع المسلمين وصلاحهم وكمالهم. فلم يدرجهم تعالى مع سائر المهاجرين والأنصار مع إنّ ذوي القربى هم أوّل الناس هجرة إلى الله ورسوله وأوّلهم نصرة وطاعة ونصحا وصبرا.

وقال عليه‌السلام في الخطبة المعروفة بعد النهروان :

أمّا بعد. أيّها الناس! أنا الذي فقأت عين الفتنة ، شرقيّها وغربيّها ، ومنافقها ومارقها ، ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري ، بعد أن ماج غيهبها ، واشتدّ كلبها ، وأيم الله ، لو لم أك فيكم لما قوتل أصحاب الجمل الناكثون ، ولا أهل صفّين القاسطون ، ولا أهل النهروان المارقون ... إنّ قريشا طلبت السعادة فشقيت ، وطلبت النجاة فهلكت ، وطلبت الهداية فضلّت. إنّ قريشا قد أضلّت أهل دهرها ومن يأتي من بعدها من القرون ؛ ألم يسمعوا ـ ويحهم ـ قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(٣)؟! فأين المعدل والمنزع عن ذرّيّة الرسول ، الّذين شيّد الله بنيانهم فوق بنيانهم ، وأعلى رءوسهم

__________________

(١). الفرقان / ٥٧.

(٢). سبأ / ٤٧.

(٣). الطور / ٢١.

فوق رءوسهم ، واختارهم عليهم؟!

أين الّذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا علينا وحسدا لنا أن رفعنا الله سبحانه ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم؟! بنا يستعطى الهدى لا بهم ، وبنا يستجلى العمى لا بهم. إنّ الأئمّة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ... والهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان لله تعالى في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة ومعلنها ، ولا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجّة في الأرض ؛ فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر ، ولا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه ووعاها قلبه ...

ثمّ ذكر عليه‌السلام ضلال الخوارج والثواب الخاصّ في مقاتلتهم ، وقال :

أتراني أكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! والله لأنا أوّل من صدّقه فلا أكون أوّل من كذب عليه. وأنا الصدّيق الأكبر ، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر ، وأسلمت قبل أن يسلم أبو بكر ، وصلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يصلّي معه أحد من الناس.

أنا صفيّ رسول الله وصاحبه ، وأنا وصيّه وخليفته من بعده.

أنا ابن عمّ رسول الله ، وزوج ابنته ، وأبو ولده.

أنا الحجّة العظمى ، والآية الكبرى ، والمثل الأعلى ، وباب النبيّ المصطفى.

أنا وارث علم الأوّلين ، وحجّة الله على العالمين بعد الأنبياء ومحمّد خاتم النبيّين ، أهل موالاتي مرحومون ، وأهل عداوتي ملعونون ..

لقد كان حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيرا ما يقول : يا عليّ! حبّك تقوى وإيمان ، وبغضك كفر ونفاق ، وأنا بيت الحكمة وأنت مفتاحه ، كذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك ... (١)

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٢١ ، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين.

فها هو عليه‌السلام بعد أن بيّن أفضلية أهل البيت عليهم‌السلام على سائر قريش يذكر ضابطة الهجرة والمهاجر ، وهي معرفة الشخص الذي هو حجّة الله في أرضه ، وهي الضابطة نفسها المتقدّمة في كلام الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بأنّ الهجرة إنّما هي بالهجرة إليهم ، إلى أهل البيتعليهم‌السلام ، لا الابتعاد عنهم ، فالهجرة إلى المدينة ـ إضافة لكونها مقام النبيّ وآله صلوات الله عليهم ـ هي هجرة إلى نور الله تعالى ومصابيح هدايته ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته من بعده ، وإنّ الهجرة تكليف شرعي باق ببقاء الشريعة ؛ لأنّ معرفة حجّة الله تعالى في أرضه مفتاح أبواب الشريعة.

وهذا خلاف ما يزعمه أهل سنّة الجماعة من أنّ لا هجرة بعد الفتح ، وسنشير في ما يأتي إلى دلالة الآيات على بقاء الهجرة والنصرة ، وملازمة ذلك ؛ لكون مدار الهجرة والنصرة هو : الهجرة إلى أهل البيت عليهم‌السلام ومناصرتهم ، لا الهجرة إلى بقعة من الأرض معينة مقدّسة ، وهي المدينة المنوّرة ، والتي تقدّست بوجود النبيّ وأهل بيته صلوات الله عليهم ، بخلاف الضابطة التي يذكرها أهل سنّة الجماعة من أنّها الانتقال الجسماني من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة ، كسفر بدني ، وقد انتهى ومضى.

وقال عليه‌السلام في خطبته المعروفة بالطالوتية :

ألا إنّ مثل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمثل نجوم السماء ، إذا هوى منهم نجم طلع نجم ، فكأنّكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع ، وأراكم ما كنتم تأملون. فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها!!! وبؤسا لهذه الأمّة الجائرة في قصدها ، الراغبة عن رشدها ، لا يقتصّون أثر نبيّ ، ولا يقتدون بعمل وصيّ ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفّون عن عيب ، يعملون في الشبهات ، ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرئ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها في ما يرى بعرى ثقات ، وأسباب محكمات ؛ فلا يزالون بجور ، لا يألون قصدا ،

ولن يزدادوا إلّا خطأ ، لا ينالون تقرّبا ، ولن يزدادوا إلّا بعدا من الله عزوجل ؛ لشدّة أنس بعضهم ببعض ، وتصديق بعضهم لبعض.

كلّ ذلك حيادا ممّا ورّث الرسول النبيّ الأمّيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونفورا عمّا أدّى إليهم من أخبار فاطر السموات والأرض العليم الخبير ، فهم أهل عشوات ، وكهوف شبهات ، وقادة حيرة وضلالة وريبة. من وكّله الله إلى نفسه ورأيه فاغرورق في الأضاليل فهو مأمون عند من يجهله ، غير متّهم عند من لا يعرفه ، فما أشبه أمّة صدّت عن ولاتها بأنعام قد غاب عنها رعاؤها.

هذا ، وقد ضمن الله قصد السبيل (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

أيّتها الأمّة المتحيّرة بعد نبيّها في دينها ، التي خدعت فانخدعت ، وعرفت خديعة من خدعها فأصرّت على ما عرفت ، واتّبعت أهواءها ، وخبطت في عشواء غوايتها ، وقد استبان لها الحقّ فصدعت عنه ، والطريق الواضح فتنكّبته.

أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو كنتم قدّمتم من قدّم الله ، وأخّرتم من أخّر الله ، وجعلتم الولاية والوراثة حيث جعلها الله ، واقتبستم العلم من معدنه ، وشربتم الماء بعذوبته ، وادّخرتم الخير من موضعه ، وأخذتم الطريق من واضحه ، وسلكتم الحقّ من نهجه ؛ لنهجت بكم السبل ، وبدت لكم الأعلام ، وأضاء لكم الإسلام ، فأكلتم رغدا وما عال فيكم عائل ، ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد ، ولكنّكم سلكتم سبل الظلام ، فأظلمت عليكم دنياكم برحبها ، وسدّت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهوائكم ، واختلفتم في دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم ، واتّبعتم الغواة فأغووكم ، وتركتم الأئمّة

__________________

(١). الأنفال / ٤٢.

فتركوكم ، فأصبحتم تحكمون بأهوائكم ، إذا ذكر الأمر سألتم أهل الذكر ، فإذا أفتوكم قلتم : هو العلم بعينه ، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه؟!

فذوقوا وبال أمركم ، وما فرطتم في ما قدّمت أيديكم ، وما الله بظلّام للعبيد ، رويدا عمّا قليل تحصدون جميع ما زرعتم ، وتجدون وخيم ما اجترمتم وما اجتلبتم. فو الذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لقد علمتم أنّي صاحبكم والذي به أمرتم ، وأنّي عالمكم والذي بعلمه نجاتكم ، ووصيّ نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخيرة ربّكم ، ولسان نوركم ، والعالم بما يصلحكم ، فعن قليل رويدا ينزل بكم ما وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم ، وسيسألكم الله عزوجل عن أئمّتكم ، فمعهم تحشرون ، وإلى الله عزوجل غدا تصيرون ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) ... (١)

ويشير عليه‌السلام إلى ما يشير إليه قوله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) فقد تركوا وصية القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام ـ وعترته عليهم‌السلام ـ ، من أنّه وليّ الأمور من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه مفزع الأمّة وملجأها ، وقد أشارت فاطمة الزهراء عليها‌السلام إلى ذلك أيضا كما تقدّم ، وأنّ سبب الاختلاف والفرق الحادثة في المسلمين بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو تركهم التمسّك بالثقلين اللذين هما ضمان عصمتهم من الضلال.

وقال عليه‌السلام في خطبة أخرى :

فأين تذهبون؟! وأنّى تؤفكون؟! والأعلام قائمة ، والآيات واضحة ، والمنار منصوبة ، فأين يتاه بكم؟! بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم ، وهم أزمّة الحقّ ، وأعلام الدين ، وألسنة الصدق؟! فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن ، وردوهم ورود الهيم العطاش. ألا وإنّ من أعجب العجائب أنّ معاوية بن أبي

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٢٠ ، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين.

سفيان الأموي ، وعمرو بن العاص السهمي ، أصبحا يحرّضان الناس على طلب الدين بزعمهما!!

والله لقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّي لم أردّ على الله سبحانه ولا على رسوله ساعة قطّ ، ولم أعصه في أمر قطّ ، ولقد بذلت في طاعته صلوات الله عليه جهدي ، وجاهدت أعداءه بكلّ طاقتي ، ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال ، وترتعد فيها الفرائص ، وتتأخّر فيها الأقدام ، نجدة أكرمني الله بها وله الحمد.

ولقد أفضى إليّ من علمه ما لم يفض إلى أحد غيري ، فجعلت أتبع مأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأطأ ذكره حتّى انتهيت إلى العرج ، ولقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّ رأسه لعلى صدري ، ولقد سالت نفسه في كفّي فأمررتها على وجهي ، ولقد وليت غسله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدي والملائكة المقرّبون أعواني ، فضجّت الدار والأفنية ، ملأ يهبط وملأ يعرج ، وما فارقت سمعي هينمة منهم يصلّون عليه ، حتّى واريناه في ضريحه ، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا وميّتا؟! وأيم الله ما اختلفت أمّة قطّ بعد نبيّها إلّا ظهر أهل باطلها على أهل حقّها إلّا ما شاء الله ... (١)

ويشير عليه‌السلام إلى أنّ مدار فضيلة الصحبة ومقامها متحقّق فيه عليه‌السلام بأرفع درجاتها ، بنحو لا يدانيه بقيّة الصحابة.

وبيان ذلك : إنّه قد اشتهر عند أهل سنّة الجماعة الاستدلال لحجّيّة الصحابة وقول الصحابي وفعله ، لا سيّما من عاشر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدّة مديدة ، لا سيّما جماعة السقيفة ، الّذين وطّدوا الأرضية لبيعة أبي بكر ، ومن ناصرهم على ذلك ، ولا سيّما أبي بكر وعمر ، بأنّ الصحابة هم الّذين حملوا علم الدين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخالطوه ، وهم أعلم

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ١٩ ، وقد ذكر للخطبة ولبعض ما ورد فيها مصادر أخرى عديدة من كتب الفريقين.

بأقوال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله ومراده ، وهم الّذين تربّوا بتربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهتدوا على يديه وأطاعوه وتابعوه ، فهم أقرب الخلق إليه ، فهم حملة الدين إلى الناس والقرون اللاحقة ، وحملة سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحفّاظها ووعاتها والمؤدّين عنه ، وبما نقلوه كمال الدين ، وثبات حجّة اللهعزوجل على العباد ، فهم الواسطة بين النبيّ وأمّته ، فإنّ الرسول حقّ ، والقرآن حقّ ، وما جاء به حقّ ، وإنّما أدّى إلينا ذلك كلّه الصحابة ؛ لأنّهم الّذين ناصروا النبيّ على عدوّه وآزروه ، فهم المؤتمنين على دينه.

والناظر المتدبّر في هذه الصفات التي أوجبوا بها حجّيّة الصحابة ، أو حجّيّة الشيخين ـ على إجمال وترديد إبهام ما يرمي إليه أهل سنّة الجماعة من معنى الحجّيّة كما أشرنا إليه مرارا في هذه الحلقات من كون الحجّيّة بمعنى العصمة والإمامة الإلهيّة ، أو بمعنى العدالة وحجّيّة فتوى المجتهد والفقيه ، أو بمعنى وثاقة وحجّيّة خبر الراوي ـ يلاحظ أنّ هذه الصفات متوفّرة بدرجة رفيعة سابقة في عليّ عليه‌السلام سبقا شاسعا لا يمكن لغيره من الصحابة ـ كأبي بكر وعمر وغيرهما ـ اللحوق به ، فضلا عن مقايسته بهم.

ولا أجد نفسي بحاجة إلى تذكير القارئ بتوفّر كلّ تلك الصفات والجهات في عليّعليه‌السلام بنحو أسبق وأوفر وأوصل وأنمى وأزكى وأشدّ من بقيّة الصحابة ؛ بعد أن استعرضنا كلامه عليه‌السلام ممّا تواتر وقوع مضمونه في مواطن شهيرة في تاريخ الإسلام.

وإلى مثل ذلك يشير قوله عليه‌السلام حين سأله سليم بن قيس الهلالي بأنّه سمع من سلمان والمقداد وأبي ذرّ شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما في أيدي الناس ، ثمّ سمع منه عليه‌السلام تصديق ما سمع منهم ، ورأى في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخالفهم فيها عليه‌السلام هو والصحابة الموالين له ، ويبطلونها ؛ متعجّبا من كون الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدين ، ويفسّرون القرآن بآرائهم؟!!

فقال عليه‌السلام :

قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا ومنسوخا ، وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتّى قام خطيبا فقال : أيّها الناس! قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار ، ثمّ كذب عليه من بعده.

وإنّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس : رجل منافق ، يظهر الإيمان ، متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدا ، فلو علم الناس أنّه منافق كذّاب ، لم يقبلوه منه ولم يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورآه وسمع منه ، وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله ، وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره ووصفهم بما وصفهم فقال عزوجل : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) (١) ، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا إلى أئمّة الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك والدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أحد الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله شيئا ، لم يحمله على وجهه ، ووهم فيه ، ولم يتعمّد كذبا ، فهو في يده ، يقول به ويعمل به ، فيقول : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ، ولو علم هو أنّه وهم لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا أمر به ، ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه ينهى عن شيء ، ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، فحفظ منسوخه ولم يحفظ الناسخ ، ولو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون إذ سمعوه أنّه

__________________

(١). المنافقون / ٤.

منسوخ لرفضوه.

وآخر رابع لم يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم ينسه ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به كما سمع ، لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ.

فإنّ أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل القرآن ، ناسخ ومنسوخ ، خاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام له وجهان : كلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن ، وقال الله عزوجل في كتابه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١) ، فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأله عن الشيء فيفهم ، وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه ، حتّى إن كانوا ليحبّون أن يجيء الأعرابي والطارئ فيسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يسمعوا.

وقد كنت أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة ، فيخلّيني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر ذلك في بيتي ، وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّي نساءه ، فلا يبقى عنده غيري ، وإذا أتاني للخلوة معه في منزلي لم تقم عنّي فاطمة ولا أحد من بنيّ.

وكنت إذا سألته أجابني ، وإذا سكتّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ ، فكتبتها بخطّي وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها

__________________

(١). الحشر / ٧.

ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، ودعا الله لي بما دعا. وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهي ، كان أو يكون ، ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلّا علّمنيه وحفظته ، فلم أنس حرفا واحدا.

ثمّ وضع يده على صدري ودعا الله لي أن يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت: يا نبيّ الله! بأبي أنت وأمّي ، منذ دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه ، أفتتخوّف عليّ النسيان في ما بعد؟! فقال : لا لست أتخوّف عليك النسيان والجهل (١).

فعليّ عليه‌السلام بجانب من شدّة الصلة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقربه منه زمانا ومكانا وبيتا وصحبة ورحما وملازمة وأخوّة ومحبّة ، حتّى نزلت آية وجوب التصدّق قبل نجوى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يعمل بها إلّا هو عليه‌السلام دون بقيّة الصحابة حتّى نسخت ، وكانت بيوت بعضهم في العوالي قد لا يرون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّاما كما جاء ذلك على لسان بعضهم (٢) ، مضافا إلى شدّة عناية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به عليه‌السلام وإزلافه له ، فخصّه بتزويج فاطمة عليها‌السلام والمؤاخاة معه ، كما في آية المباهلة وغير ذلك من المواطن والمشاهد المذكورة في كتب الفريقين.

والغريب من أهل سنّة الجماعة ـ حين يستدلّون لحجّيّة الصحابي ـ التغافل عن كلّ ذلك ، وعن تقديم حجّيّة قول عليّ عليه‌السلام وفعله ومقامه على بقيّة الصحابة. وكيف يستقيم ذلك مع حجيّة الصحابي ، بأنّه لو لا هم لانقطع نقل الدين وثبوته؟! وكيف يستبدلون حجّيّة الثقلين ـ كتاب الله وعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ المنصوص عليها في القرآن وحديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المتواتر بين الفريقين ، بحجّيّة الصحابة ـ إن كان مرادهم من الحجّيّة مقام العصمة والإمامة في الدين ـ أو بحجّيّة جميع الصحابة ـ إن كان مرادهم حجّيّة الفتوى أو

__________________

(١). أصول الكافي ١ / ٦٢ ـ ٦٤ ح ١ ، الخصال : ٢٥٥ ح ١٣١.

(٢). انظر مثلا : صحيح البخاري ١ / ٥٥ ـ ٥٦ ح ٣١ باب التناوب في العلم ، سنن الترمذي ٥ / ٣٩٢ ح ٣٣١٨ كتاب تفسير القرآن.

الرواية ـ مع إنّ فيهم الأقسام الأربعة التي أشار إليها عليه‌السلام؟!!

وكيف يتعطّل الدين ويبطل مع وجود عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهادية العاصمة عن ضلال الأمّة وتحيّرها؟! وهل تمحيص الصحابي المستقيم على عهد الله وعهد رسوله في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعد مماته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، عن الصحابي الذي نكث العهد وبدّل وأحدث في الدين ، يوجب تعطيل وبطلان الدين؟! أم إنّه صيانة للدين عن تحريف المبطلين وزيغ المحدثين ، وحياطة للدين عن السنن المحدثة التي خولفت فيها سنن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فها هو عليه‌السلام يشير إلى مثل ذلك في قوله عليه‌السلام :

لقد عملت الولاة قبلي أعمالا عظيمة خالفوا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعمّدين لخلافه ، ناقضين لعهده ، مغيّرين لسنّته ، ولو حملت الناس على تركها وتحويلها عن مواضعها إلى ما كانت تجري عليه في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لتفرّق عنّي جندي حتّى لا يبقى في عسكري غيري وقليل من شيعتي الّذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله عزّ ذكره وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه‌السلام فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة عليها‌السلام ، ورددت صاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومدّه إلى ما كان ، وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأقوام مسمّين لم تمض لهم ولم تنفذ ، ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته وهدمتها من المسجد ، ورددت قضايا من الجور قضى بها من كان قبلي ، ونزعت نساء تحت رجال بغير حقّ فرددتهنّ إلى أزواجهنّ ، واستقبلت بهنّ الحكم في الفروج والأحكام ، وسبيت ذراري بني تغلب ، ورددت ما قسم من أرض خيبر ، ومحوت دواوين العطايا وأعطيت كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعطي بالسويّة ولم أجعلها دولة بين الأغنياء ، وألقيت المساحة ، وسوّيت بين المناكح ، وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله عزوجل وفرضه ، ورددت

مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما كان عليه ، وسددت ما فتح فيه من الأبواب وفتحت ما سدّ منها ، وحرّمت المسح على الخفّين ، وحددت على النبيذ ، وأمرت بإحلال المتعتين ، وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات ، وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وأخرجت من أدخل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجده ممّن كان رسول الله أخرجه ، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله ممّن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدخله ، وحملت الناس على حكم القرآن ، وعلى الطلاق على السنّة ، وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها ، ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها ، ورددت أهل نجران إلى مواضعهم ، ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا لتفرّقوا عنّي.

والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلّا في فريضة ، وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة ، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل سيفه معي : يا أهل الإسلام! غيّرت سنّة عمر ، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعا في جماعة! حتّى خفت أن يثوروا في ناحية عسكري. بؤسي لما لقيت من هذه الأمّة بعد نبيّها من الفرقة وطاعة أئمّة الضلال والدعاة إلى النار!! وأعظم من ذلك! لو لم أعط سهم ذوي القربى إلّا من أمر الله بإعطائه ، الّذين قال الله عزوجل : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) كلّ هؤلاء منّا خاصّة (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ).

فنحن والله الّذين عنى الله بذي القربى ، الّذين قرنهم الله بنفسه وبرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ

مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ) في ظلم آل محمّد (أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن ظلمهم ، رحمة منه لنا ، وغنى أغنانا الله به ووصّى به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّه لم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيبا ، وأكرم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكرمنا أهل البيت أن يطعمنا من أوساخ أيدي الناس ، فكذّبوا الله ، وكذّبوا رسوله ، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقّنا ، ومنعونا فرضا فرضه الله لنا. ما لقي أهل بيت نبيّ من أمّته ما لقينا بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله المستعان على من ظلمنا ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم (١).

وموقف عليّ عليه‌السلام يوم الشورى حينما رفض شرط عبد الرحمن بن عوف لمبايعته أن يحكم بسنّة الشيخين ، وحصر الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، موقف مشهود معلن معروف عند الحاضر والبادي.

وقال عليه‌السلام :

إنّه لا يقاس بآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذه الأمّة أحد ، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا ، هم أطول الناس أغراسا ، وأفضل الناس أنفاسا ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصية والوراثة ، وحجّة الله عليكم في حجّة الوداع يوم غدير خمّ ، وبذي الحليفة ، وبعده المقام الثالث بأحجار الزيت.

تلك فرائض ضيّعتموها ، وحرمات انتهكتموها ، ولو سلّمتم الأمر لأهله سلمتم ، ولو أبصرتم باب الهدى رشدتم ـ إلى أن يقول : ـ يا أيّها الناس! اعرفوا فضل من فضّل الله ، واختاروا حيث اختار الله ، واعلموا أنّ الله قد فضّلنا أهل البيت بمنّه حيث يقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ٣ ، كتاب سليم بن قيس : ١٦٢ ، روضة الكافي ٨ / ٥٨ ح ٢١.

يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (١) ، فقد طهّرنا الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ومن كلّ دنيّة وكلّ رجاسة ، فنحن على منهاج الحقّ ، ومن خالفنا فعلى منهاج الباطل ...

وعندنا أهل البيت معاقل العلم ، وأبواب الحكم ، وأنوار الظلم ، وضياء الأمر ، وفصل الخطاب ، فمن أحبّنا ينفعه إيمانه ، ويتقبّل منه عمله ، ومن لا يحبّنا أهل البيت لا ينفعه إيمانه ، ولا يتقبّل عمله وإن دأب في الليل والنهار قائما صائما.

والله لئن خالفتم أهل بيت نبيّكم لتخالفنّ الحقّ ، ولقد علم المستحفظون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّي وأهل بيتي مطهّرون ، فلا تسبقوهم فتضلّوا ، ولا تخالفوهم فتجهلوا ، ولا تتخلّفوا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم ، هم أحلم الناس كبارا ، وأعلمهم صغارا ، إنّهم لا يدخلونكم في ردى ، ولا يخرجوكم من باب هدى ، فاتّبعوا الحقّ وأهله حيث كانوا ... الآن إذ رجع الحقّ إلى أهله ونقل إلى منتقله ... (٢).

وقال في الخطبة القاصعة المعروفة ، التي أنشأها لبيان أنّ كفر إبليس هو كفر جحود لولاية وليّ الله تعالى ، وهو آدم عليه‌السلام ، وعدم انقياد له ، وأنّ كلّ أبواب التوحيد وأركان فروع الدين تنتهي إلى ولاية وليّ الله تعالى :

ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية ، وإنّ الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة ، في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي يتنقّلون في ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ؛ لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر. واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا ، وبعد الموالاة

__________________

(١). الأحزاب / ٣٣.

(٢). نهج البلاغة : الخطبة ٣.

أحزابا ، ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه (١).

فقد جعل عليه‌السلام المدار في الهجرة هو : السير والانتقال مع ولاية وليّ الله تعالى ، وهو الإمام من أهل البيت عليهم‌السلام ، والإعراض عنه تعرّب ؛ فبالموالاة والنصرة يقع عنوان الهجرة ، وبالتحزّب والتفرّق عن الموالاة يقع عنوان التعرّب ، وكلامه عليه‌السلام يقضي بأنّ عنوان الهجرة وصف قابل للزوال عن الشخص ، وهذا اللازم قهري بعد عدم كون الهجرة سفر وانتقال من مكان إلى مكان آخر.

فتحصّل أنّ معنى الهجرة والنصرة عند فاطمة وعليّ عليهما‌السلام متطابق على هذا المعنى ، وهذا المعنى هو الذي يستفاد من تعريف الهجرة والنصرة من سورة الحشر ؛ إذ قيّدت الهجرة ب (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) (٢) ، وقيّدت النصرة ب (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) (٣) ، فالهجرة هي نصرة وموالاة وليّ الله تعالى ، والنصرة هي محبّة ذلك والمؤازرة عليه.

نتف من كلماته عليه‌السلام في عدّة من الصحابة بأعيانهم :

١. قال له ابن الكوّاء : «يا أمير المؤمنين! أخبرني عن أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

قال عليه‌السلام : «عن أيّ أصحاب رسول الله تسألني؟» قال : «يا أمير المؤمنين! أخبرني عن أبي ذرّ الغفاري!» قال : «سمعت رسول الله يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ».

٢. قال : «يا أمير المؤمنين! فأخبرني عن سلمان الفارسي. قال : بخ بخ ، سلمان منّا أهل البيت ، ومن لكم بمثل لقمان الحكيم ، علم علم الأوّل والآخر».

٣. قال : «يا أمير المؤمنين! أخبرني عن حذيفة بن اليمان. قال : ذاك امرؤ علم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عن حدود الله تجدوه بها عالما».

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة ١١.

(٢). الحشر / ٨.

(٣). الحشر / ٩.

٤. قال : «يا أمير المؤمنين! فأخبرني عن عمّار بن ياسر. قال : ذاك امرؤ حرّم الله لحمه ودمه على النار أن تمسّ شيئا منها».

٥. قال : «يا أمير المؤمنين! فأخبرني عن نفسك. قال : كنت إذا سألت أعطيت ، وإذا سكتّ ابتدئت» (١).

٦. وقال بعد استشهاد محمّد بن أبي بكر : «ألّا وإنّ محمّد بن أبي بكر قد استشهدرحمه‌الله ، فعند الله نحتسبه ، أما والله لقد كان ـ ما علمت ـ ينتظر القضاء ، ويعمل للجزاء ، ويبغض شكل الفاجر ، ويحبّ سمت المؤمن ، ولقد كان إليّ حبيبا ، وكان لي ربيبا ، وكان بي برّا ، وكنت أعدّه ولدا ، فرحم الله محمّدا ، فقد أجهد نفسه ، وقضى ما عليه»(٢).

٧. وقال عليه‌السلام : «أمّا والله لقد كنت أردت تولية مصر المرقال هاشم ابن عتبة ، ولو ولّيته إيّاها لما خلّى لهم العرصة ، ولا انهزهم الفرصة ، ولما قتل إلّا وسيفه بيده ، بلا ذمّ لمحمّد بن أبي بكر» (٣).

وهاشم بن عتبة بن أبي وقّاص ابن أخي سعد بن أبي وقّاص ، كان نافذ البصيرة ، شديد الولاء لأمير المؤمنين ، وشديد البراءة من أعدائه ، وقد دعا له أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال: «اللهمّ ارزقه الشهادة في سبيلك ، والمرافقة لنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»

٨. وقال عليه‌السلام لمّا مرّ ـ وهو عائد من صفّين ـ على عدّة قبور فيها قبر خبّاب بن الأرتّ : «رحم الله خبّابا ، فلقد أسلم راغبا ، وهاجر طائعا ، وعاش مجاهدا ، وابتلي في جسمه آخرا ، وقنع بالكفاف ، ورضي عن الله تعالى ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا» (٤).

٩. وقال بعد مرجعه من صفّين وقد توفّي سهل بن حنيف الأنصاري بالكوفة ، وكان

__________________

(١). الاحتجاج ـ للطبرسي ـ ١ / ٣٨٧.

(٢). نهج البلاغة : الخطبة ٥٦.

(٣). نهج البلاغة : الخطبة ٥٦.

(٤). نهج البلاغة : الكلام ١٣١.

من أحبّ الناس إليه : «لو أحبّني جبل لتهافت» (١). وسهل بن حنيف صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان بدريا ، وشهد مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حروبه كلّها ، وكان من النقباء (٢).

١٠. وقال لمّا بلغه نعي مالك الأشتر : «لله درّ مالك ، وما مالك! والله لو كان جبلا لكان فندا ، ولو كان حجرا لكان صلدا ، لا يرتقيه الحافر ، ولا يوفي عليه الطائر. أما والله ليهدّنّ موتك عالما وليفرحنّ عالما ، فهل مرجوّ كمالك؟! وهل قامت النساء عن مثل مالك؟! فعلى مثله فلتبك البواكي.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، والحمد لله ربّ العالمين ، اللهمّ إنّي أحتسبه عندك ، فإنّ موته من مصائب الدهر ، فرحم الله مالكا ، فقد وفى بعهده ، وقضى نحبه ، ولقي ربّه ، مع إنّا قد وطّنّا أنفسنا أن نصبر على كلّ مصيبة بعد مصابنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّها أعظم المصيبات» (٣).

وقال عنه أيضا : «لا ينام أيّام الخوف ، ولا ينكل عن الأعداء ساعات الروع ، حذّار الدوائر ، أشدّ على الفجّار من حريق النار ، وأبعد الناس من دنس أو عار ، وهو مالك بن الحارث أخو مذحج ... فإنّه سيف من سيوف الله ، لا كليل الظبة ، ولا نابي الضريبة» (٤).

١١. وقال في كتاب له إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي ـ ابن أمّ المؤمنين أمّ سلمة ، وهي التي أرسلته لنصرة الأمير في الجمل ـ واليه على البحرين : «ولعمري لقد أحسنت الولاية ، وأدّيت الأمانة ، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ، ولا متّهم ولا مأثوم ، فلقد أردت المسير إلى ظلمة أهل الشام وبقية الأحزاب ، وأحببت أن تشهد معي لقاءهم ، فإنّك ممّن أستظهر به على جهاد العدوّ ونصر الهدى وإقامة عمود الدين إن شاء الله» (٥).

١٢. ونظيره ما قاله عليه‌السلام لمخنف بن سليم الأزدي ، عامله على أصبهان (٦).

__________________

(١). نهج البلاغة : الكلام ١٣٣.

(٢). وقعة صفّين : ١١٢.

(٣). نهج البلاغة : الكلام ١٥٣.

(٤). نهج البلاغة : كتاب ٦٩.

(٥). نهج البلاغة : كتاب ٣١.

(٦). نهج البلاغة : كتاب ٣٢.

١٣. وقال عليه‌السلام لزيد بن صوحان العبدي : «رحمك الله يا زيد ، قد كنت خفيف المئونة ، عظيم المعونة» ، كما قد ورد حديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بشارته بالشهادة على الحقّ (١).

١٤. وقال عليه‌السلام في حكيم بن جبلة العبدي : «فقتلوه ـ ويقصد أصحاب الجمل ـ في سبعين رجلا من عبّاد أهل البصرة ومخبتيهم ، يسمّون المثفّنين ، كأنّ راح أكفّهم وجبهاتهم ثفنات الإبل» (٢).

١٥. وقال عليه‌السلام في يزيد بن الحارث اليشكري : «وأبى أن يبايعهم وهو شيخ أهل البصرة يومئذ ، فقال ـ مخاطبا طلحة والزبير ـ : اتّقيا الله ، إنّ أوّلكم قادنا إلى الجنّة ، فلا يقودنا آخركم إلى النار ، فلا تكلّفونا أن نصدّق المدّعي ونقضي على الغائب ، أمّا يميني فقد شغلها عليّ بن أبي طالب ببيعتي إيّاه ، وأمّا شمالي فهذه خذاها فارغة إن شئتما ؛ فخنق حتّى مات رحمه‌الله» (٣).

١٦. وقال عليه‌السلام في عمران بن حصين الخزاعي : «فقام صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الذي جاءت فيه الأحاديث ، وقال : يا هذان! ـ مخاطبا طلحة والزبير ـ مخاطبا طلحة والزبير ـ لا تخرجانا ببيعتكما من طاعة عليّ ، ولا تحملانا على نقض بيعته ، فإنّها لله رضى. أما وسعتكما بيوتكما حتّى أتيتما بأمّ المؤمنين؟! فالعجب لاختلافها إيّاكما ومسيرها معكما!!! فكفّا عنّا أنفسكما وارجعا من حيث جئتما ، فلسنا عبيد من غلب ، ولا أوّل من سبق ؛ فهمّا به ثمّ كفّا عنه» (٤).

١٧. وقال عليه‌السلام : «ثمّ أخذوا عاملي عثمان بن حنيف أمير الأنصار غدرا ، فمثّلوا به كلّ المثلة ، ونتفوا كلّ شعرة في رأسه ووجهه» (٥). وهو صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شهد

__________________

(١). رجال الكشّي ١ / ٢٨٤ ، الاختصاص : ٢٩.

(٢). نهج البلاغة : الكتاب ٧٥.

(٣). نهج البلاغة : الكتاب ٧٥.

(٤). نهج البلاغة : الكتاب ٧٥.

(٥). نهج البلاغة : الكتاب ٧٥.

معه المشاهد ، أحدا وما بعدها. وهو أحد الاثني عشر الّذين أنكروا على أبي بكر جلوسه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم ستّة من المهاجرين ، وستّة من الأنصار ، فالمهاجرين هم : سلمان الفارسي ، وأبو ذرّ الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، إضافة إلى :

١٨. خالد بن سعيد بن العاص ـ وكان من بني أميّة ـ

١٩. المقداد بن الأسود.

٢٠. وبريدة الأسلمي.

والأنصار هم ـ إضافة إلى عثمان بن حنيف ـ :

٢١. أبو الهيثم بن التيّهان.

٢٢. سهل بن حنيف ، أخي عثمان.

٢٣. خزيمة بن ثابت ، ذو الشهادتين.

٢٤. أبيّ بن كعب.

٢٥. وأبو أيّوب الأنصاري ..

فقد قال لهم عليّ عليه‌السلام ـ عند ما اتّفقوا على إنزال أبي بكر عن منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ : «وأيم الله لو فعلتم ذلك لما كنتم لهم إلّا حربا ، ولكنّكم كالملح في الزاد وكالكحل في العين ـ إلى أن قال لهم : ـ فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرّفوه ما سمعتم من قول نبيّكم ، ليكون ذلك أوكد للحجّة ، وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله إذا وردوا عليه».

وقال لهم عليّ عليه‌السلام ـ بعد أن اعترضوا على أبي بكر ـ : «اجلس يا خالد فقد عرف الله لك مقامك وشكر لك سعيك ...» ، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : «انصرفوا رحمكم الله» (١).

٢٦. وقال عليه‌السلام في العبد الصالح عمرو بن الحمق الخزاعي ، صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بعد تشدّد في موالاته لأمير المؤمنين ، واستبسال في نصرته : «اللهمّ نوّر قلبه بالتقى ، و

__________________

(١). الخصال : ٤٦١ ح ٤ ، الاحتجاج ١ / ١٨٦ ح ٣٧ ، اليقين في إمرة أمير المؤمنين : ١٠٨ ب ١٢٦.

اهده إلى صراط مستقيم ، ليت أنّ في جندي [شيعتي] مائة مثلك!» (١).

٢٧. وقال عليه‌السلام في عديّ بن حاتم بن عبد الله الطائي ، الصحابي المعروف ، مخاطبا بني الحزمر : «إنّي أراه رأسكم قبل اليوم ، ولا أرى قومه كلّهم إلّا مسلمين له غيركم» (٢) وكان شديد الذود عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، متفانيا في ولايته ، وشهد معه مشاهده.

٢٨. وقال عليه‌السلام في عبد الله بن كعب المرادي ـ عند ما استشهد في صفّين ـ : «رحمه‌الله ، جاهد معنا عدوّنا في الحياة ، ونصح لنا في الوفاة» وكان قد أبلغ الأسود بن قيس السلام لأمير المؤمنين عليه‌السلام في آخر رمق له وأوصاه بنصرته عليه‌السلام (٣).

٢٩. وعامر بن واثلة بن عبد الله الكناني الليثي ، أبو الطفيل ، وهو آخر من مات من الصحابة ، توفّي سنة ١٠٠ ه‍ ، ولم يرو عنه البخاري ؛ لأنّه كان من شيعة عليّعليه‌السلام ، وقد شهد مع عليّ عليه‌السلام جميع حروبه ، ومادح عليّ عليه‌السلام بشعره ، ومن ثقاته(٤).

٣٠. وقال عليه‌السلام في سعد بن مسعود الثقفي ، عمّ المختار بن أبي عبيد : «أمّا بعد ، فإنّك قد أدّيت خراجك ، وأطعت ربك ، وأرضيت إمامك ، فعل البرّ التقي النجيب ، فغفر الله ذنبك ، وتقبّل سعيك ، وحسّن مآبك» (٥).

٣١. وقال عليه‌السلام في صعصعة بن صوحان بن حجر العبدي ، الذي كان لسانه السيف البتّار دفاعا عن عليّ عليه‌السلام ، وشهد معه الجمل وبقيّة حروبه : «إن كنت لما علمت خفيف المئونة عظيم المعونة» (٦) ، وهو نظير ما قاله عليه‌السلام لأخيه زيد. وقد قتل مع أخيه سيحان

__________________

(١). وقعة صفّين : ١٠٣ ، الاختصاص : ١٤.

(٢). تاريخ الطبري ٥ / ٩ ، تاريخ ابن الأثير ٢ / ٣٦٩.

(٣). وقعة صفّين : ٤٥٧ ، تنقيح المقال ـ ط الحجرية ـ ٢ / ١٦٩ ؛ وفي شرح نهج البلاغة ٨ / ٩٣ أنّ هذا القول كان في حقّ عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ، وكان قد أوصى الأسود بن طهمان الخزاعي بنصرة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٤). رجال الشيخ الطوسي : ٧٠ رقم ٦٤٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٣٠٧ ، تاريخ دمشق ٢٦ / ١٢٨ ، سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٦٨ رقم ٩٧.

(٥). تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٠١.

(٦). رجال الكشّي ١ / ٢٨٤ رقم ١٢١ ، الغارات ـ للثقفي ـ ٢ / ٥٢٤ ، مقاتل الطالبيّين : ٥٠.

اثنين وثلاثين يوم الجمل ودفنا في قبر واحد.

٣٢. أمّا سليمان بن صرد بن الجون الخزاعي ، فهو من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن وجوه الشيعة في الكوفة ، شهد مع عليّ عليه‌السلام صفّين ، وقد أتاه بعد التحكيم في صفّين ووجهه مضروبا بالسيف ، فلمّا نظر إليه عليّ عليه‌السلام قال : «(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (١) فأنت ممّن ينتظر وممّن لم يبدّل» (٢). وقد قاد ثورة التوّابين على ابن زياد في الكوفة بعد استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام.

٣٣. وقال عليه‌السلام في حجر بن عديّ بن معاوية الكندي ـ له صحبة ـ الذي كان من خواصّه ، وشهد معه حروبه ، بصيرا بمعرفة عليّ عليه‌السلام ومقامه في الدين : «لا حرمك الله الشهادة ، فإنّي أعلم أنّك من رجالها» (٣). وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثا في استشهاده على الحقّ ، وأنّ أهل السماء يغضبون لقتله (٤).

٣٤. حبّة بن جوين البجلي العرني ، أبو قدامة ، من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام ، وشهد معه حروبه ، وروى حديث الغدير.

٣٥. وقال عليه‌السلام لجندب بن كعب بن عبد الله الأزدي الغامدي ، من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام : «يا جندب! ليس هذا زمان ذاك» (٥) ، وذلك عند ما أصرّ جندب عليه عليه‌السلام أن يدعو إليه عند ما بويع عثمان لأنّه أحقّ بالخلافة ممّن تقدّم عليه ، وأنّه سيجد من يناصره.

٣٦. جعدة بن هبيرة بن أبي وهب القرشي المخزومي ، وأمّه أمّ هاني بنت أبي طالب ، وكان ممّن يحفيه عليه‌السلام ويوليه عناية خاصّة (٦).

٣٧. وقال في جارية بن قدامة التميمي السعدي وكان من صحابة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و

__________________

(١). الأحزاب / ٢٣.

(٢). وقعة صفّين : ٥١٩.

(٣). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٩٦.

(٤). تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢٣١.

(٥). الإرشاد ١ / ٢٤١ ، أمالي الطوسي : ٢٣٤ ح ٤١٥ ، شرح نهج البلاغة ٩ / ٥٧.

(٦). وقعة صفّين : ٤٦٣.

عليّ عليه‌السلام ، ثابتا صلبا في ولائه له ، شديدا على أعدائه ، من جملة شرطة الخميس.

٣٨. جابر بن عبد الله الأنصاري ، الصحابي المعروف ، شهد مع الإمام عليه‌السلام صفّين، وكان يدور في سكك الأنصار ومجالسهم ويقول : عليّ خير البشر ، فمن أبى فقد كفر ، يا معشر الأنصار! أدّبوا أولادكم على حبّ عليّ ، فمن أبى فانظروا في شأن أمّه (١). وعن الصادق عليه‌السلام أنّه آخر من بقي من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان رجلا منقطعا إلى أهل البيت (٢).

٣٩. ثابت بن قيس بن الخطيم الأنصاري الظفري ، من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شهد أحدا وما بعدها ، وكان له بلاء مع عليّ عليه‌السلام في حروبه ، واستعمله على المدائن ، وكان معاوية يهابه (٣).

٤٠. أبو قتادة الحارث بن ربعي بن بلدمة الأنصاري الخزرجي ، من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شهد أحدا وما بعدها ، وشهد مع عليّ عليه‌السلام حروبه ، كان شديد الإيمان بعليّ عليه‌السلام ، وقد ولّاه مكّة.

٤١. أبو رافع ، مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، شهد معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشاهد ما عدا بدرا ، ولازم عليّا عليه‌السلام ، وكان على بيت المال من قبله (٤).

٤٢. أبو سعيد سعد بن مالك بن شيبان الأنصاري الخدري ، من صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان معه في عدّة من المشاهد ، ولازم عليّا عليه‌السلام وكان معه في حرب النهروان(٥).

٤٣. أبو الأسود الدؤلي ، ظالم بن عمرو ، وهو من الثابتين على محبّة عليّ عليه‌السلام وولده ، شهد معه حروبه. وغيرهم ممّن مدحهم أمير المؤمنين عليه‌السلام.

__________________

(١). علل الشرائع : ١٤٢ / ٤ ، أمالي الصدوق : ١٣٥ ح ١٣٤ ، رجال الكشّي ١ / ٢٣٦ رقم ٩٣.

(٢). الكافي ١ / ٤١٩ ، رجال الكشّي ١ / ٢١٧ رقم ٨٨.

(٣). تاريخ بغداد ١ / ١٧٥ ـ ١٧٦ ، الإصابة ١ / ٥١٠ رقم ٩٠٤.

(٤). رجال النجاشي : ٤ رقم ١ ، رجال ابن داود : ٣١ رقم ١٢ ، الخلاصة ـ للشيخ الطوسي ـ ٤٧ رقم ٢.

(٥). تاريخ بغداد ١ / ١٨٠ ، رجال الكشّي ١ / ١٨٣ رقم ٧٨.

٧

موازين

الجرح والتعديل

قد تبيّن ممّا مرّ كرارا أنّ البحث في عنوان عدالة الصحابة غير عاكس لحقيقة البحث بصورة عامّة ، بل الحقيقة هو البحث عن أصحاب السقيفة ، الذين بايعوا أبا بكر دون عامّة الأنصار ، والذين خالفوا البيعة تبعا لسعد بن عبادة ، ودون بني هاشم ، وكذا من والى عليّا عليه‌السلام ممّن ذكرنا أسمائهم في الحلقات السابقة ، كما أنّ البحث ليس في الصحبة للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّما البحث الجاري في مشروعية ما أقيم وأسّس في السقيفة من نهج الخلافة وما تبع ذلك من النهج الأموي والمرواني كل ذلك إقصاء لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ورغم الوعي بهذه الحقيقة فمسايرة مع عنوان البحث نتابع النقطة التالية :

من موازين التعديل والجرح في الصحابي :

المودّة للعترة أو نصب العداوة لهم :

وذلك لكون المودّة فريضة قرآنية كبرى أوجبها الله تعالى على كلّ مسلم وعظّمها في الذكر الحكيم ، قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَ

اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (١) ، مضافا إلى ما استفاض بل تواتر من السنّة النبويّة في حبّ علي والعترة عليهم‌السلام ، فمن كان قائما من الصحابة بهذه الفريضة مراعيا لها كان على حدّ العدالة ، ومن كان تاركا لها ناقضا لهذا الميثاق فهو خارج عن حدّ العدالة فضلا عن نصب العداوة للعترة. الذي هو بمثابة الجحود.

وسنرى أنّ من أهل سنّة الجماعة قد عكس العيار عندهم وجعلوا النصب والعداوة سنّة يدينون بها. ولنتعرض للمعيار القرآني والنبوي أوّلا ، ثم نتبعه بتركهم له ثانيا.

المقام الأوّل

المعيار القرآني والنبويّ لفريضة المودّة

فأمّا الآية الشريفة فقبل التعرّض إلى إطار مفادها نذكر :

أوّلا : مورد نزولها هو أنّ الأنصار والمهاجرين اجتمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا :

يا رسول الله أنّ لك مئونة في نفقتك ومن يأتيك من الوفود وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها مأجورا ، اعط منها ما شئت وأمسك ما شئت من غير حرج فأنزل الله عزوجل عليه الروح الأمين ، فقال : يا محمّد قل : (لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢) يعني : أن تودّوا قرابتي من بعدي فخرجوا ، فقال المنافقون : ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلّا ليحثّنا على قرابته من بعده ، إن هو إلّا شيء افتراه في مجلسه ، فكان ذلك من قولهم عظيما ، فأنزل الله عزوجل : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٣) فبعث إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : هل من حدث؟ فقالوا : أي والله قال بعضنا

__________________

(١). الشورى / ٢٢ و ٢٣.

(٢). الشورى / ٢٣.

(٣). الأحقاف / ٨.

كلاما غليظا كرهناه ، فتلا عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية فبكوا واشتدّ بكاؤهم فأنزل اللهعزوجل : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ)(١)(٢).

وقد روي قريب منه عن عبد الله بن عبّاس ، كما روي في عدّة مصادر لأهل سنّة الجماعة أنّهم سألوا : يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : «علي وفاطمة وابناهما عليهم‌السلام» (٣).

ثانيا : قال في الكشاف :

يجوز أن يكون استثناء متّصلا أي : لا أسألكم أجرا إلّا هذا وهو أن تودّوا أهل قرابتي ولم يكن هذا أجرا في الحقيقة لأنّ قرابته قرابتهم فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة ، ويجوز أن يكون منقطعا أي : لا أسألكم أجرا قط ولكنني أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم ، فإن قلت : هلا قيل : إلّا مودة القربى ، أو إلّا المودّة للقربى ، وما معنى قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) قلت : جعلوا مكانا للمودّة ومقرا لها ، كقولك : لي في آل فلان مودّة ، ولي فيهم هوى وحبّ شديد ، تريد : أحبّهم وهم مكان حبّي ومحله وليست (في) بصلة للمودّة ، كاللام إذا قلت : إلّا المودّة للقربى ، أنّما هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك المال في الكيس وتقديره : إلّا المودة ثابتة في القربى ومتمكنة فيها. والقربى : مصدر كالزلفى والبشرى

__________________

(١). الشورى / ٢٥.

(٢). تفسير البرهان ٤ / ٨١٩.

(٣). لاحظ : فضائل الصحابة ـ لابن حنبل ـ ٢ / ٦٦٩ ح ١١٤١ ، والعمدة ـ لابن بطريق ـ ٩٤ ح ٤٧ ، وصحيح البخاري ـ في تفسير آية المودّة ـ ٦ / ٢٣١ ح ٣١٤ ، وتفسير الطبري ٢٥ / ١٦ ، وشواهد التنزيل ٢ / ١٤ ح ١٣٧ ، ومستدرك الحاكم ٣ / ١٧٢ ، والصواعق المحرقة : ١٧٠ ، والطرائف : ١١٢ ح ١٦٩ ، مناقب الخوارزمي : ١٩٤ ، ومقاتل الطالبيين : ٦٢ ، وغيرها من المصادر العديدة.

بمعنى : قرابة والمراد في أهل القربى. وروي أنّها لمّا نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال : «عليّ وفاطمة وابناهما».

ويدلّ عليه ما روي عن علي رضي الله عنه : شكوت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسد الناس لي ، فقال : «أما ترضى أن تكون رابع أربعة : أوّل من يدخل الجنّة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا ، وذريتنا خلف أزواجنا» (١).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة.

ثم ذكر مورد النزول المتقدّم ، وقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا (٢) ، ألّا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات تائبا ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الإيمان ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ، ثمّ منكر ونكير ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزف إلى الجنّة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة ، ألا ومن مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة والجماعة ، ألا ومن مات على

__________________

(١). في هامش الكشّاف ٤ / ٢٢٠ ، أخرجه الكريمي عن ابن عائشة بسنده عن علي ، ورواه الطبراني من حديث أبي رافع.

(٢). في هامش الكشاف ٤ / ٢٢٠ ، أخرجه الثعلبي.

بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد مات كافرا ، ألا ومن مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة (١).

وقال في تفسير : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً) ، عن السدّي أنّها المودّة في آل رسول الله: نزلت في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ومودّته فيهم (٢). والظاهر : العموم في أي حسنة كانت ، إلّا أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى ، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولا أوّليا ، كأنّ سائر الحسنات لها توابع (٣). انتهى.

أقول : ويدلّ تقريبه الأخير لحسنة المودّة وعظمتها أنّها من الفرائض الكبرى في الدّين ، وسيأتي تقريب دلالة الآية على ذلك بنحو أوضح. وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير بعد ما نقل كلام الزمخشري :

وأنا أقول آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم الّذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل. ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّا والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ التعلّقات وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل ، وأيضا اختلف الناس في الآل ، فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم أمّته ، فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وإن حملناه على الأمّة الّذين قبلوا دعوته فهم أيضا الآل ، فثبت على جميع التقديرات هم الآل ،

__________________

(١). وفي تفسير القرطبي ١٦ / ٢٢ ، في ذيل الآية حكي عن الثعلبي هذه الرواية مذيّلة ب : «ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي».

(٢). ويشهد لذلك موت فاطمة عليها‌السلام وهي واجدة على أبي بكر ، ما رواه البخاري في صحيحيه ٥ / ٨٢ غزوة خيبر ، وإيصائها عدم حضوره جنازتها وأخذه لفدك منها ، في قبال إعطاءه ابنته عائشة حجرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توريثا.

(٣). تفسير الكشّاف ٤ / ٢٢١.

وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل؟ فمختلف فيه (١).

أقول : يشير الفخر الرازي إلى ما قاله الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون ـ في حديث ـ :

فلمّا أوجب الله تعالى ذلك ثقل لثقل وجوب الطّاعة ، فأخذ بها قوم أخذ الله ميثاقهم على الوفاء ، وعاند أهل الشقاق والنفاق وألحدوا في ذلك ، فصرفوه عن حدّه الذي قد حدّه الله تعالى ، فقالوا القرابة هم العرب كلّها وأهل دعوته ، فعلى أيّ الحالتين كان ، فقد علمنا أنّ المودّة هي للقرابة فأقربهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاهم بالمودّة ، وكلما قربت القرابة كانت المودّة على قدرها» (٢).

ثمّ قال الرازي في تفسيره :

وروى صاحب الكشّاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، قيل : يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ فقال : «علي وفاطمة وابناهما». فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التعظيم ، ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، ووجه الاستدلال به ما سبق.

الثاني : لا شك أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّ فاطمة عليها‌السلام ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها» ، وثبت بالنقل المتواتر عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يحبّ عليّا والحسن والحسين ، وإذا ثبت ذلك وجب على كلّ الأمّة مثله ؛ لقوله : (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (٣) ؛ ولقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (٤) ؛ ولقوله : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (٥) ؛ ولقوله سبحانه : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٦).

__________________

(١). التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٦.

(٢). عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢١١ ح ١.

(٣). الأعراف / ١٥٨.

(٤). النّور / ٦٣.

(٥). آل عمران / ٣١.

(٦). الأحزاب / ٢١.

الثالث : أنّ الدعاء للآل منصب عظيم ، ولذلك جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد في الصلاة وهو قوله : اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد وارحم محمّدا وآل محمّد ، وهذا التعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل ، فكلّ ذلك يدلّ على أنّ حبّ آل محمّد واجب ، وقال الشافعي رضي الله عنه :

يا راكبا قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى

فيضا كملتطم الفرات الفائض

إن كان رفضا حبّ آل محمّد

فليشهد الثقلان أنّي رافضي (١)

أقول : عقد ابن قدامة الحنبلي صاحب كتاب المغني ، وكذا صاحب الشرح الكبير فصلا في باب التشهد في الصلاة ـ بعد ما نقلا الأقوال في صفة الصلاة على النبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ هناك من اختار وجوب الصلاة على (آله) ـ. قال :

فصل آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتباعه على دينه ، كما قال الله تعالى (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ)(٢) ، يعني أتباعه من أهل دينه ، وقد جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سئل من آل محمّد؟ فقال : كلّ تقيّ ، أخرجه تمام في فوائده ، وقيل : آله أهله ، الهاء منقلبة عن الهمزة ـ إلى أن قال ـ ومعناهما جميعا أهل دينه ، وقال ابن حامد وأبو حفص : لا يجزي لما فيه من مخالفة لفظ الأثر وتغيير المعنى فإنّ الأهل أنّما يعبّر عن القرابة والآل يعبّر به عن الأتباع في الدين(٣).

أقول : وتحريف الكلم عن مواضعه في المقام وأمثاله ممّا يخصّ مناقب عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتثالا لفريضة المودّة ، فتراه يترك ما يروونه من ذكر الذريّة في صفة الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التشهد ، ولا يشير إليها من قريب ولا بعيد ، مع أنّ الآل في قوله تعالى :

__________________

(١). التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٦ ، ديوان الشافعي : ٨٤.

(٢). غافر / ٤٦.

(٣). المغني ١ / ٥٨٢.

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) (١) المراد به الرحم ؛ لأنّه ابن عمّ أو ابن خال فرعون ، وليس استعمال الآل في الأتباع على وجه الحقيقة بل المجاز.

فكان الأولى بهم الاستشهاد فى معنى اللآل بقوله تعالى (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (٢) ، فحيث وضّحت الآية الاصطفاء في آل إبراهيم وآل عمران هو في الذريّة والرحم لا في الأتباع. فالموازنة بين آل محمّد مع آل إبراهيم وآل عمران لا مع آل فرعون.

ثمّ قال الرازي :

قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، فيه منصب عظيم للصحابة ؛ لأنّه تعالى قال : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (٣) ، فكلّ من أطاع الله كان مقرّبا عند الله تعالى فدخل تحت قوله : (إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) ، والحاصل أنّ هذه الآية تدلّ على وجوب حبّ آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّ أصحابه وهذا المنصب لا يسلم إلّا على قول أصحابنا أهل السنّة والجماعة الّذين جمعوا بين حبّ العترة والصحابة ، وسمعت بعض المذكّرين قال أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا» ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات ، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين :

أحدهما : السفينة الخالية من العيوب والثقب.

والثاني : الكواكب الظاهرة الطالعة النّيرة ، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجا السلامة غالبا ، فكذلك ركب أصحابنا أهل السنّة سفينة حبّ آل محمّد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة ،

__________________

(١). غافر / ٢٨.

(٢). آل عمران / ٣٣ و ٣٤.

(٣). الواقعة / ٩ و ١٠.

فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة (١). انتهى.

أقول : ١. كيف يجمع الرازي بين تفسير القربى بمعنى القرابة وتفسيرها بمعنى العبادة. مع ما روي بطرق عديدة أنّهم «عليّ وفاطمة وابناهما» ، بل مع قوله تعالى في آيتي الخمس (٢) والفيء (٣) من جعلهما لله وللرسول ولذي القربى بمعنى القرابة وكذلك في آية إيتاء ذي القربى حقّه (٤) التي نزلت خطابا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اعطاء فاطمة فدكا ، بل لم يرد لفظ وهيئة (القربى) في القرآن بمعنى العبادة والطاعة ونحوهما ، بل جميع مواردها بمعنى القرابة والأهل.

٢. أنّه لم ينقل تتمّة حديث السفينة وهي : «ومن تخلّف عنها هلك» ، وحديث السفينة دالّ على انحصار النجاة بهم ؛ كما أنّ حديث النجوم المنقول في بعض الطرق الأخرى لديهم أيضا هو : «أهل بيتي كالنجوم ...» ، ولو سلّمنا كون ألفاظ الحديث هو ما ذكرها فإنّ أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على مجموعات ، منهم جماعة السقيفة الذين عقدوا بيعة أبي بكر ، ومنهم الأنصار الذين خالفوا تلك البيعة ، ومنهم الموالين لعلي عليه‌السلام ، كسلمان وأبي ذرّ وعمّار والمقداد وبقية الاثني عشر الّذين ذكرناهم سابقا الذين اعترضوا على أبي بكر وجلوسه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا جابر بن عبد الله الأنصاري وزيد بن أرقم وأبي سعيد الخدري وغيرهم ، وبمقتضى الجمع بين الحديثين وعدم المعارضة والتوفيق بينهما هو الاقتداء بالصحابة الذين والوا عترة النبيّ وركبوا سفينة النجاة ، كما أنّ حديث السفينة المخاطب به كلّ المسلمين بما فيهم الصحابة ، ولفظ الحديث حسب ما زعم (بأيّهم اقتديتم) لفظ العموم البدلي (أي) ، المنطبق على مثل سلمان وأبي ذرّ والمقداد بل إنّ أكثر من صحب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأد من ملازمته هم قرابته علي وفاطمة عليهما‌السلام.

__________________

(١). التفسير الكبير ٢٧ / ١٦٧.

(٢). الأنفال / ٤١.

(٣). الحشر / ٧.

(٤). الإسراء / ٢٦.

٣. أن دعواه ركوب أصحابه سفينة حبّ آل محمّد سيأتي تفشي سنّة العداء والنصب لآل محمّد فيهم ، وجعلهم حبّ آل محمّد علامة للضعف والجرح ، وأنّهم مقيمون على الجفاء والهجر لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واقرأ التاريخ من يوم وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحدوث السقيفة إلى يومنا هذا فانظر من الذي وصل العترة رحم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) (١)؟! ومن الذي قطع الصلة بالعترة (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)(٢)؟!

ثالثا (٣) : قد حكى القرطبي في تفسيره عن قوم القول بنسخ الآية بقوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ) (٤) وبقوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (٥) ، لكي يلحق الله تعالى نبيّه بإخوانه من الأنبياء ، حيث قالوا : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) ، ثمّ حكى تقبيح هذا القول عن الثعلبي (٧).

أقول : إنّ قوله تعالى : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) يعزز آية المودّة ولا يصادم مفادها ، بل هو شارح للأجر في آية المودّة وأنّ منفعته ونفعه عائد للمكلّفين والمسلمين أنفسهم لا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فليس سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمره الله تعالى بها في آية المودّة مخالفة لسنن الأنبياء من قبل من عدم طلب الأجر على أدائهم وتبليغهم للدّين والنبوّة.

إذ المودّة في القربى التي سألها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ليس أجرا عائدا نفعه له بل نفعه ينتفع به هم أنفسهم ، وهذا ممّا ينادي أنّ مودّة القربى هي منشأ هداية لهذه الأمّة ، وهذا ما يوضحه أيضا قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ

__________________

(١). الرعد / ٢١.

(٢). البقرة / ٢٧.

(٣). تقدّم «أو لا» فى صفحة ١٧٦ و «ثانيا» فى صفحة ١٧٧.

(٤). سبأ / ٤٧.

(٥). ص / ٨٦.

(٦). الشعراء / ١٠٩.

(٧). تفسير القرطبي ١٦ / ٢٢.

سَبِيلاً) (١) ، أي : أنّ الأجر الذي سأله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو المودّة في القربى هو اتخاذ السبيل إلى الربّ تعالى ، فنفع المودّة عائد للأمّة نفسها لا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ المودّة تتخذ سبيلا للهداية إلى الله تعالى ، فمودّة علي وفاطمة وابناهما هداية ، وهم السبيل إليه تعالى.

ويتحصّل من ذلك : تطابق آية المودّة مع حديث الثقلين وحديث السفينة وغيرها من الآيات والأحاديث في أصحاب الكساء.

مفاد آية المودة

إنّ التأمّل والتدبّر في ألفاظ الآية يرشدنا إلى ما أشارت إليه الآيتان الأخريان من كون المودّة في القربى مصلحة عامّة للأمّة وسبيل هداية ، وأنّ هذه الفريضة التي أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغها للأمّة هي من عظائم الفرائض وأركانها ؛ وذلك لأنّ المودّة جعلت أجرا معادلا لكلّ الرسالة ومن البين أنّ تبليغ الرسالة اشتمل على تبليغ التوحيد والمعاد والإقرار والايمان بالنبوّة وغير ذلك من الأصول الاعتقادية ، فضلا عن بقية أركان الدين ، ومقتضى المعادلة بين الأجر والمعوض كون هذه الفريضة من أركان الدين.

وفي حديث الرضا عليه‌السلام في مجلس المأمون عن آية المودّة :

وهذه خصوصية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم ، وذلك أن الله عزوجل حكى ذكر نوح في كتابه : (وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) (٢) وحكى عزوجل عن هود أنّه قال : (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣) وقال عزوجل لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا محمّد! (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ

__________________

(١). الفرقان / ٥٧.

(٢). هود / ٢٩.

(٣). هود / ٥١.

فِيها حُسْناً) (١)

ولم يفرض الله تعالى مودّتهم إلّا وقد علم أنّهم لا يرتدّون عن الدّين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا ، وأخرى أن يكون الرجل وادّا للرجل ، فيكون بعض أهل بيته عدوّا له ، فلم يسلم قلب الرجل له ، فأحبّ الله عزوجل أن لا يكون في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المؤمنين شيء ففرض الله عليهم مودّة ذوي القربى فمن أخذ بها وأحبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحبّ أهل بيته لم يستطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبغضه ، ومن تركها ولم يأخذ بها وأبغض أهل بيته ، فعلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبغضه لأنّه قد ترك فريضة من فرائض الله تعالى ، فأيّ فضيلة وأيّ شرف يتقدّم هذا أو يدانيه؟ ...

ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ وما بعث الله عزوجل نبيّا إلّا أوحى إليه أن لا يسأل قومه أجرا ، لأنّ الله يوفّي أجر الأنبياء ، ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرض الله عزوجل مودّة قرابته على أمّته ، وأمره أن يجعل أجره فيهم ، لتودّوه في قرابته ، لمعرفة فضلهم الذي أوجب الله عزوجل لهم ، فإنّ المودّة إنّما تكون على قدر معرفة الفضل. ـ إلى أن قال عليه‌السلام ـ وما أنصفوا نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حيطته ورأفته ، وما منّ الله به على أمّته ممّا تعجز الألسن عن وصف الشكر عليه ، أن يودّوه في قرابته وذريّته وأهل بيته ، وأن يجعلوهم فيهم بمنزلة العين من الرأس ، حفظا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيهم ، وحبّا لهم ، وكيف والقرآن ينطق به ويدعوا إليه ، والأخبار ثابتة أنّهم أهل المودّة والذين فرض الله تعالى مودّتهم ووعد الجزاء عليها ، فما وفى أحد بهذه المودّة مؤمنا مخلصا إلّا استوجب الجنّة ، لقول الله عزوجل في هذه الآية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ* ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ

__________________

(١). الشورى / ٢٣.

عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (١) مفسّرا مبيّنا (٢).

ثمّ إنّ هناك آيات أخر دالّة على هذه الفريضة ، كقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٣) وهذه الآية نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام تصدّق وهو راكع في واقعة معروفة ، فلاحظ فيها مصادر الفريقين ، وكذا آية التبليغ وآية خير البريّة ، وسورة هل أتى وغيرها من الآيات الكثيرة.

وأمّا الروايات ، والأحاديث الواردة في افتراض محبّة عترة المصطفى علي وفاطمة وولديهما فهي فوق حدّ التواتر ، فقد روي عن جابر : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نعرض أولادنا على حبّ علي بن أبي طالب (٤). وروي عن عبادة بن الصامت ، أنّه قال : كنا نبور أولادنا بحبّ علي ابن أبي طالب فإذا رأينا أحدا لا يحبّه علمنا أنّه ليس منّا وأنه لغير رشدة (٥).

وروى المناوي في كنوز الحقائق ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حبّ علي عليه‌السلام براءة من النفاق» (٦) ، وروى الطبراني وغيره عن فاطمة الزهراء عليها‌السلام قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أنّ السعيد كلّ السعيد من أحبّ عليّا عليه‌السلام في حياته وبعد موته ، وأنّ الشقيّ كلّ الشقيّ من أبغض عليّا عليه‌السلام في حياته وبعد موته» (٧) ، وروى جابر رضى الله عنه : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). الشورى / ٢٢ و ٢٣.

(٢). عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢١١ ح ١.

(٣). المائدة / ٥٥ و ٥٦.

(٤). ميزان الاعتدال ١ / ٢٣٦ ، لسان الميزان ٢ / ٢٣١.

(٥). الغريبين ـ للهروي ـ ٢١ مخطوط ، مجمع بحار الأنوار ـ للصديقي ـ ١ / ١٢١ طبعة لكهنو ، الأربعين ـ لعلي الهروي ـ ٥٤ ، المناقب ـ لعبد الله الشافعي ـ ٢١ مخطوط ، تاج العروس ٣ / ٦١ مادة «بور» ، نزهة المجالس ـ للصفوري ـ ٢ / ٢٠٨.

(٦). كنوز الحقائق : ٦٧ ، ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ ١٨.

(٧). المناقب ـ للخوارزمي ـ ٤٧ و ٨٠ عن معجم الطبراني ، ذخائر العقبى : ٩٢ ، الرياض النضرة ٢ / ٢١٤،

يقول : «لكلّ شيء أساس وأساس الدّين حبّنا أهل البيت» ، وفي طريق آخر «حبّ أهل بيتي» (١). وروي عن أنس بن مالك أنّه يقول : والله الذي لا إله إلّا هو لسمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالب» (٢).

ويمكن للقاريء العزيز مراجعة كتاب ملحقات إحقاق الحقّ بتوسط فهرست الملحقات مادة «ح ب ب» ليقف على عشرات المصادر من كتب أهل سنة الجماعة التي روت الأحاديث الجمّة في ذلك ، مثل «من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا» ، فقد أخرج له في الملحقات العديد من المصادر ، وكذا «من مات على حبّ آل محمّد فأنا كفيله بالجنّة وجعل الله زوار قبره ملائكة الرحمة» ، و «لو اجتمع الناس على حبّ عليّ بن أبي طالب لما خلق الله النار» ، و «حبّ علي براءة من النار» ، و «حبّ علي حسنة لا تضرّ معها سيئة وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة» ، و «أساس الإسلام حبّي وحبّ أهل بيتي» ، «لن يقبل الله فرضا إلّا بحبّ علي بن أبي طالب» ، «لا ينال ولاية النبيّ إلّا بحبّ علي» ، «أكثركم نورا يوم القيامة أكثركم حبّا لآل محمّد» ، «أثبتكم على الصراط أشدّكم حبّا لأهل بيتي» ، «من أحبّ هذين ـ الحسنين ـ وأمّهما وأباهما كان معي في درجتي» ، «من أحبّ عليّا فقد أحبّني ومن أحبّني فقد أحبّ الله» ، «شفاعتي لأمّتي من أحبّ أهل بيتي» ، «لا يحبّنا إلّا من طابت ولادته» ، «لا يحبّنا أهل البيت إلّا مؤمن تقيّ» ، «لا يحبّني حتّى يحبّ ذوي قرابتي» ، «من أراد دخول الجنّة بغير حساب فليحبّ أهل

__________________

ـ شرح النهج ٢ / ٤٤٩ ، مقتل الحسين ـ للخوارزمي ـ ٤٦ ، مجمع الزوائد ٢ / ١٣٢ ، منتخب كنز العمال ٥ / ٤٧ ، ينابيع المودّة : ١٢٧ و ٢١٣ ، الأربعين ـ للهروي ـ ٦٥ مخطوط ، أرجح المطالب ـ للأمرتسري ـ ٥٢٢ و ٥٠٧ و ٥١٨ ، مفتاح النجاة ـ للبدخشي ـ : ٦٠.

(١). لسان الميزان ٥ / ٣٨٠ ، المناقب المرتضوية ـ للكشفي الحنفي ـ ١٠٠ ، كنز العمال ١٣ / ٩٠ و ٦ / ٢١٨ ، رموز الأحاديث ـ للكمشخانوي ـ ٤٩٨.

(٢). تاريخ بغداد ٤ / ٤١٠ ، والمناقب : ٢٤٣ ح ٢٩٠ ، لسان الميزان ٤ / ٤٧١ ، الجامع الصغير ٢ / ١٤٥ ، تاريخ دمشق ١ / ٤٥٤.

بيتي» ، «لا يقبل إيمان عبد إلّا بمحبته أهل بيتي» ، «عاهدني ربّي أن لا يقبل إيمان عبد إلّا بمحبّة أهل بيتي» ، وغيرها من عشرات الأحاديث لو أردنا أن نستوفيها بأكملها لخرجنا عن حدّ البحث ، لكن يمكن مراجعة تلك المصادر (١).

__________________

(١). لاحظ : فهرس ملحقات إحقاق الحقّ ٣٤ / ٤٠١ ، مادة : «ح ب ب».

المقام الثاني

في ترك القوم فريضة المودّة وتبديلها بسنّة النّصب

والعداوة

قال ابن قدامة في المغني في كتاب الشهادات ـ شروط الشهادة ـ :

الشرط الرابع : العدالة ... فالفسوق نوعان :

أحدهما : من حيث الأفعال فلا نعلم خلافا في ردّ شهادته.

والثاني : من جهة الاعتقاد وهو اعتقاد البدعة فيوجب ردّ الشهادة أيضا ، وبه قال مالك وشريك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ، وقال شريك أربعة لا تجوز شهادتهم ، (رافضي) يزعم أن له إماما مفترضة طاعته ، (وخارجي) يزعم أن الدنيا دار حرب. إلى أن قال ـ وقال أبو حامد من أصحاب الشافعي المختلفون على ثلاثة أضرب.

الأوّل : اختلفوا في الفروع ، فهؤلاء لا يفسقون بذلك ولا تردّ شهادتهم وقد اختلف الصحابة في الفروع ومن بعدهم من التّابعين.

الثاني : من نفسّقه ولا نكفّره وهو من سبّ القرابة كالخوارج أو سبّ الصحابة كالروافض فلا تقبل لهم شهادة لذلك ... (١)

ونظير ذلك قال صاحب الشرح الكبير (٢). وقال في المغني في فصل التوبة من الكتاب المزبور :

وقد ذكر القاضي أنّ التائب من البدعة يعتبر له مضي سنة لحديث صبيغ رواه أحمد في الورع قال : ومن علامة توبته أن يجتنب من كان يواليه من أهل

__________________

(١). المغني ١٢ / ٢٨ ـ ٢٩.

(٢). الشرح الكبير بذيل المغني ١٢ / ٣٩ ـ ٤٠.

البدع ويوالي من كان يعاديه من أهل السنّة ... (١)

أقول : فالرفض أحد تعاريفه لديهم هو : من يعتقد بالإمام المفترض الطاعة من عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعلوا هذا الاعتقاد بدعة في الدّين ولا أدري أيّ دين يعنون؟! هل آية المودّة وآية التطهير وآية المباهلة وسورة الدهر وآية الولاية ، والتصدّق في حال الركوع ، وآية الإبلاغ في غدير خم من سورة المائدة ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي نزلت في أصحاب الكساء ، فضلا عن الأحاديث النبويّة فيهم كحديث الغدير والسفينة والثقلين والدار والمنزلة والأئمّة من قريش اثنا عشر ، وغيرها من الأحاديث النبويّة الكثيرة التي رواها الفريقان ، كلّ هذه الحجج من الكتاب والسنّة ابتداع في الدين الذي يرسمه القوم لأنفسهم؟!

والأنكى أنّ جماعة من أهل سنّة الجماعة ـ كما نقل التفتازاني في شرح المقاصد (٢) ، في مبحث الإمامة وغيره في كتب أخرى ـ قائلون بالنصّ على أبي بكر وأنّه الخليفة المنصوب المفترض طاعته ، وكذلك النصّ على عمر ، فهل القول بالنصّ عليهما غير مخرج عن الدين ، والقول بالنصّ على عليّ عليه‌السلام وولده بدعة في الدين ، لا أرى هذه التفرقة إلّا امتثالا لفريضة المودّة في القربى التي أمر القرآن بها!!

والغريب أنّ التفتازاني ثمّة أعترف ـ ونقل عن بعضهم أيضا ـ أنّ الدلائل من كلا الطرفين موجودة ، غاية الأمر انّه رجّح الدالّ منها ـ بزعمه ـ على فضائل الشيخين ، على ما دلّ على فضائل علي عليه‌السلام ، ولا ينقضي التدافع في أقوال القوم فهم من جانب يجعلون الخلافة والإمامة بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفروع دون الاعتقادات ، ومن جانب آخر يجعلون الاختلاف بينهم وبين الشيعة في الإمامة والخلافة خلافا اعتقاديا ، وهذا بخلاف الاختلاف في المذاهب الأربعة ونحوها فإنّه خلاف في الفروع لاتّفاقهم على إمامة الشيخين وإن اختلفوا في التجسيم والتشبيه وفي الجبر والتفويض وفي خلق القرآن

__________________

(١). المغني ١٢ / ٨١.

(٢). تقدّم نقله.

وغيرها من المسائل الخطيرة الخلافية في الاعتقادات.

ثمّ أنّهم اشترطوا في التوبة الاجتناب ممّن كان يواليه من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ويوالي من كان يعاديه من أهل سنّة الجماعة ولم يذكروا ذلك في الناصبة الذين عادوا أهل البيتعليهم‌السلام ، ولم يعتبروهم من أهل البدع بل من أهل سنّة الجماعة الذين اشترط موالاتهم في التوبة المتقدمة. وقال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي :

شيعي جلد ، لكنّه صدوق ، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم وأورده ابن عدي وقال : كان غالبا في التشيّع ، وقال السعدي : زائغ مجاهر. فلقائل أن يقول : كيف ساغ توثيق مبتدع ، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟! فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟!

وجوابه : أنّ البدعة على ضربين : فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرف ، فهذا كثير في التّابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة ، وهذه مفسدة بيّنة ثم بدعة كبرى ، كالرفض الكامل والغلو فيه ، والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، والدعاء إلى ذلك ، فهذا النوع لا يحتجّ بهم ولا كرامة. وأيضا فما استحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا ، بل الكذب شعارهم ، والتقية والنفاق دثارهم ، فكيف يقبل نقل من هذا حاله! حاشا وكلا ، فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلّم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممّن حارب عليّا رضي الله عنه ، وتعرّض لسبّهم ، والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة ، ويتبرأ من الشيخين أيضا ، فهذا ضالّ معثّر ، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلا ، بل قد يعتقد عليّا أفضل منهما (١). انتهى.

__________________

(١). ميزان الاعتدال ١ / ٥.

أقول : وإقرار الذهبي بأنّ كثيرا من رواة التّابعين وتابعيّهم هم ممن تشيّع وكان من الرافضة ، يقتضي على أصول القوم تعديلهم لأولئك الرواة وحجّيتهم بمقتضى القاعدة والأصل الذي عدّلوا به الصحابة ، وهو كونهم نقلة الدّين وأنّه لو لا هم لما وصل إلينا ، إلّا أنّ القوم لم يعملوا بهذا الأصل في التّابعين وتابعيهم فى الرواة المذكورين ، ممّا يدلل على أن وجهة التعديل ليس ذلك الأصل المتقدّم وإنّما هو بيعة السقيفة.

ويلحظ في نهج الذهبي الدمشقي الذي هو من أئمّة الجرح والتعديل لدى أهل سنّة الجماعة والذي وصفه تلميذه ابن السبكي في الطبقات بالنصب ، بل إنّ غالب أئمّة الجرح والتعديل لديهم ممّن ينصب العداوة لآل البيت عليهم‌السلام ـ كما يفوح من كلماتهم ـ : أنّه جعل حبّ أهل البيت عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو التشيّع كما يسمّيه ـ بدعة ، ولا يستغرب من جرأة القوم على القرآن والسنّة وجعلهم الفريضة العظيمة بدعة ، وسيأتي أنّهم جعلوا بغض أهل البيت سنّة وكلّما أشتد البغض أطلقوا عليه صلب في السنّة. وقد جرى على ذلك غالب أئمّة الجرح والتعديل لديهم.

ففي ترجمة إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق السعدي الجوزجاني قال ابن حجر في تهذيب التهذيب :

قال الخلال : إبراهيم جليل جدّا ، كان أحمد بن حنبل يكاتبه ويكرمه إكراما شديدا ... وقال ابن حبّان في الثقات : كان حروري المذهب ، ولم يكن بداعية ، وكان صلبا في السنّة ، حافظا للحديث ، إلّا أنّه من صلابته ربّما كان يتعدّى طوره. وقال ابن عدي : كان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في الميل على علي. وقال السلمي عن الدارقطني بعد أن ذكر توثيقه : لكنّ فيه انحراف عن علي ، اجتمع على بابه أصحاب الحديث فأخرجت جارية له فرّوجة لتذبحها فلم تجد من يذبحها ، فقال : سبحان الله فرّوجة لا يوجد من يذبحها ، وعليّ يذبح في ضحوة نيفا وعشرين ألف مسلم. قلت : وكتابه في الضعفاء يوضح مقالته ، ورأيت في نسخة من كتاب ابن حبان حريزي المذهب وهو

بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وبعد الياء زاي نسبة إلى حريز ابن عثمان المعروف بالنصب(١). انتهى.

وقال الذهبي في ترجمته :

أحد أئمّة الجرح والتعديل ... كان مقيما بدمشق يحدّث على المنبر وكان أحمد يكاتبه فيتقوّى بكتابه ويقرؤه على المنبر (٢). انتهى.

أقول : فقد أفصحوا بأبلغ وضوح مرادهم من السنّة والصلابة في السنّة وهي نصب العداوة لعلي عليه‌السلام وولده ، ويلاحظها المتتبع في تراجم كثير من الرواة من التّابعين وتابعيّهم المعروفين بالنصب والجفاء للعترة ، وهذه السنّة أفرزتها السقيفة من إقصاء أهل البيت عليهم‌السلام ، ومن الهجوم على بيت فاطمة عليها‌السلام ، كما جاهر بها بنو أميّة وهي طابع النهج المرواني.

ولقد ارتجّ المسجد من صياح من فيه بعمر بن عبد العزيز : السنّة السنّة تركت السنّة! عند ما ترك في خطبة الجمعة لعن ابن عمّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخيه!! وأصرّ أهل حران على الاستمرار على تلك السنّة لمّا نهوا عن اللعن ، وقالوا أنّ الجمعة لا تصحّ بدونها ، ولا غرو فقد أخرجت تلك السنّة في تلك البلدان أجيال ممّن تصلّبوا فيها من الوقيعة واللمز في أهل البيت عليهم‌السلام. هذا في حين يذكر الذهبي في ترجمة عمر بن سعد قاتل سبط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وقال العجلي : روى عنه الناس ، تابعي ثقة.

وقال ابن حجر في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي البصري :

قال أبو طالب عن أحمد : لا بأس به ، قيل له : أن سليمان بن حرب يقول : لا يكتب حديثه ، فقال : أنّما يتشيّع ، وكان يحدّث بأحاديث في فضل علي ، وأهل البصرة يغلون في علي ـ أي في بغضه ـ وقال عباس عنه : ثقة كان يحيى بن سعيد لا يكتب حديثه لا يروي عنه وكان يستضعفه ، وقال أحمد بن

__________________

(١). تهذيب التهذيب ١ / ١٥٩ رقم ٣٣٢.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٧٥ ـ ٧٦.

سنان : رأيت عبد الرحمن بن مهدي لا ينبسط لحديث جعفر بن سليمان قال أحمد بن سنان : استثقل حديثه ، وقال ابن سعد : كان ثقة وبه ضعف وكان يتشيّع ، وقال جعفر الطيالسي عن ابن معين : سمعت من عبد الرزاق كلاما يوما فاستدللت به على ما ذكر عنه من المذهب ، فقلت له : أنّ أستاذيك الذين أخذت عنهم ثقات ، كلهم أصحاب سنّة فعمّن أخذت هذا المذهب؟ فقال : قدم علينا جعفر بن سليمان فرأيته فاضلا حسن الهدي فأخذت هذا عنه.

وقال ابن الضريسي : سألت محمّد بن أبي بكر المقدمي عن حديث لجعفر ابن سليمان ، فقلت : روى عنه عبد الرزاق قال : فقدت عبد الرزاق ما أفسد جعفر غيره ـ يعني في التشيع ـ ... قال ابن حبان : كان جعفر من الثقات في الروايات غير أنّه ينتحل الميل إلى أهل البيت ولم يكن بداعية إلى مذهبه وليس بين أهل الحديث من أئمّتنا خلاف ، أن الصدوق المتقن إذا كانت فيه بدعة ولم يكن يدعوا إليها الاحتجاج بخبره جائز» (١). انتهى.

فيلاحظ من نقله لكلمات أئمّة الجرح والتعديل الأمور التالية :

الأوّل : جعلهم حبّ علي عليه‌السلام ونقل الرواية في فضائله بدعة ، ويسمونه تشيع ، وهم في ذلك يستحرمون الفريضة العظيمة التي أمر بها القرآن من مودّة القربى.

الثاني : جعلهم الميل إلى أهل البيت مصدر طعن وقدح في الراوي ، وتراهم يفصحون بذلك ويجاهرون به في كثير من تراجم الرواة من غير نكير وهذا شقاق مع الله ورسوله ومحادّة ، وقد طعنوا في كثير من أصحاب علي عليه‌السلام وحواريّه بمثل ذلك.

الثالث : إعراضهم عن روايات فضائل أهل البيت عليهم‌السلام التي يرويها الثقات ، وكم

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٢ / ٦١ ـ ٦٣.

طمس وضيّع من الآثار النبويّة في مناقب العترة ، الجمّ الغفير وترى تصريحهم بالإعراض المزبور في تراجم رواة ثقات كثير ، ومن ذلك قول الشافعي في حقّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما ذا أقول في رجل أخفت أولياؤه فضائله خوفا ، وأخفت أعداؤه فضائله حسدا ، وشاع من بين ذين ما ملأ الخافقين (١). وكيف لا يكون ذلك منهم وقد منع كتابة الحديث النبوي في الصدر الأوّل تحت شعار حسبنا كتاب الله.

الرابع : جريهم على استبشاع الروايات الواردة في فضائل علي عليه‌السلام فتارة يعبرون لا ينبسط لحديث فلان ، وأخرى لا يكتب حديثه ، وثالثة استثقل حديثه وغير ذلك من عبائرهم التي تفوح بالاشمئزاز والنفرة من الذي قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» ، «وعلي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار» ، «لا يبغضك يا علي إلّا منافق أو ابن زنا أو ابن حيضة» ، وغيرها من الأحاديث النبويّة.

الخامس : جعلهم الانقطاع عن أهل البيت عليهم‌السلام والابتعاد عنهم وتركهم سنّة ، والعاملين بها أصحاب سنّة كما عبّر بذلك ابن معين في كلامه مع المحدّث الحافظ عبد الرزاق الصنعاني ، وجعل موادّة عبد الرزاق لأهل البيت عليهم‌السلام فساد في الدين. ولا يخفى أن جعفر بن سليمان ممّن روى حديث الطير ، وحديث «ما تريدون من عليّ! عليّ مني وأنا منه وهو وليّ كل مؤمن بعدي» كما ذكر ذلك الذهبي في الميزان (٢).

وقال ابن حجر في ترجمة حريز بن عثمان الحمصي :

قال معاذ بن معاذ حدّثنا حريز بن عثمان ولا أعلم أني رأيت بالشام أحدا أفضله عليه. وقال الآجري عن أبي داود : شيوخ حريز كلّهم ثقات ، قال : وسألت أحمد بن حنبل فقال : ثقة ثقة ، وقال أيضا : ليس بالشام أثبت من

__________________

(١). حلية الأبرار ١ / ٢٩٤ ، وانظر : الرواشح السماويّة : ٢٠٣ ، الأنوار البهيّة : ٦٠ ، كشف اليقين : ٤٠.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٤١٠ ـ ٤١١.

حريز إلّا أن يكون بحير ، وقال أيضا عن أحمد وذكر له حريز وأبو بكر بن أبي مريم وصفوان فقال : ليس فيهم مثل حريز ليس أثبت منه ...

وقال عمر بن علي : كان ينتقص عليّا وينال منه وكان حافظا لحديثه وقال في موضع آخر : ثبت شديد التحامل على علي. وقال الحسن بن علي الخلال : سمعت عمران بن إياس سمعت حريز بن عثمان يقول : لا أحبّه قتل آبائي ـ يعني عليّا ـ وقال أحمد بن سعيد الدارمي ، عن أحمد بن سليمان المروزي : سمعت إسماعيل بن عياش قال : عادلت حريز بن عثمان من مصر إلى مكّة فجعل يسبّ عليّا ويلعنه ، وقال الضحاك بن عبد الوهاب ـ وهو متروك متّهم ـ حدّثنا إسماعيل بن عياش سمعت حريز بن عثمان يقول : هذا الذي يرويه الناس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لعلي : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» حقّ ، ولكن أخطأ السامع ، قلت : فما هو؟ فقال : إنّما هو : أنت منّي بمنزلة قارون من موسى. قلت : عمّن ترويه؟ قال : سمعت الوليد بن عبد الملك يقول وهو على المنبر.

وقال ابن عدي : وحريز من الأثبات في الشاميين ، ويحدّث عن الثقات منهم ، وقد وثّقه القطان وغيره ، وإنّما وضع منه ببغضه لعلي ، وقيل له في ذلك ، فقال : هو القاطع رءوس آبائي وأجدادي. وقد اعتمده البخاري في صحيحه (١).

انتهى.

أقول : فانظر إلى مدح هذا الناصبيّ الوضّاع ، وتوثيقهم له وجعلهم إيّاه من الأثبات ، واعتمادهم عليه وملازمة روايته وتوثيقهم لجميع مشايخه الذين منهم الوليد بن عبد الملك!! ثمّ أين غيرتهم على الصحابة والبراءة من سبّ الصحابة؟! وأين تلك الهالة القدسيّة التي يحيطونها بالصحابي؟! وأين تلك الحميّة لصحبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! أو ليس ابن عمّ

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٢.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجم ورأس في الصحبة والصحابة؟! علاوة على قرابته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقاماته في بناء صرح الدّين.

كلّ هذا شاهد لما كررناه في بحوث هذه الحلقات أنّ عنوان الصحابة لا يراد به إلّا أصحاب السقيفة دون الأنصار ودون بني هاشم ودون من والى عليّا عليه‌السلام من المهاجرين وسائر الصحابة ، كما أنّ مرادهم من أصحاب السنّة هو سنّة العداء والقطيعة والجفاء لعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل إنّ هذه السنّة الجاهلية والمنبعثة من السقيفة والأمويّة المروانية قد طالت شخص النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال ابن حجر في ترجمة خالد بن سلمة بن العاص المخزومي المعروف بالفأفأ :

قال أحمد ـ أي ابن حنبل ـ وابن معين وابن المديني : ثقة ... وقال أبو حاتم : شيخ يكتب حديثه ، وقال ابن عدي : هو في عداد من يجمع حديثه ، ولا أرى بروايته بأسا ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال محمّد بن حميد عن جرير : كان الفأفأ رأسا في المرجئة وكان يبغض عليّا ، ذكره علي بن المديني يوما ، فقال : قتل مظلوما. وقع في صحيح البخاري ضمنا ، وذكر ابن عائشة أنّه : كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجى بها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١). وقد وثّقه الذهبي أيضا (٢).

أقول : وكيف لا يركنون إلى أمثال هؤلاء الرواة المبغضين للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته ، ـ كمروان بن الحكم ونظائره في صحاحهم ـ؟! وكيف لا يأمنونهم على دينهم والسنّة عندهم هي على قطيعة العترة وجفائهم وهجرهم والعداوة لهم؟! وهي تؤدي إلى قطيعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعداوة له ، كما أنّ مودّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤدي إلى مودّة عترته ، فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته متلازمان في المودّة ، وبغض أحدهما يؤدي إلى بغض الآخر وهذا هو مفاد آية المودّة ، إذ مقتضى كون مودّة القربى أجر الرسالة هو : أن تقدير نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٢ / ٥١٤ ـ ٥١٥.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٦٣١.

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقديسه ، بأداء أجرها وقيمتها وهو مودّة القربى ، فالاستخفاف بمودّة القربى استخفاف بأجر الرسالة والنبوّة ، واستحلال عداوة العترة استحلال لحرمة الرسالة.

وقال ابن حجر في ترجمة لمازة بن زبّار ـ أبو لبيد البصري ـ :

ذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة ، وقال : سمع من علي وكان ثقة وله أحاديث ، وقال حرب عن أبيه : كان أبو لبيد صالح الحديث ، وأثنى عليه ثناء حسنا ، وقال موسى بن إسماعيل ، عن مطر بن حمران : كنّا عند أبي لبيد فقيل له : أتحبّ عليّا؟ فقال : أحبّ عليا وقد قتل من قومي في غداة ستة آلاف ، وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين : حدّثنا وهب بن جرير ، عن أبيه ، عن أبي لبيد وكان شتاما ، قلت : زاد العقيلي ، قال وهب : قلت لأبي : من كان يشتم؟ قال : كان يشتم علي بن أبي طالب ، وأخرجه الطبري من طريق عبد الله بن المبارك عن جرير بن حازم ، حدّثني الزبير بن خريت ، عن أبي لبيد ، قال : قلت له : لم تسبّ عليّا؟ قال : ألا أسبّ رجلا قتل منّا خمسمائة وألفين والشمس هاهنا ..

ثمّ قال ابن حجر ـ وقد كنت استشكل توثيقهم الناصبي غالبا ، وتوهينهم الشيعة مطلقا ، لا سيّما أنّ عليّا ورد في حقّه : «لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق». ثمّ ظهر لي في الجواب عن ذلك أنّ البغض هاهنا مقيّد بسبب وهو كونه نصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن من الطبع البشري بغض من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض ، والحبّ بعكسه ؛ وذلك ما يرجع إلى أمور الدنيا غالبا ، والخبر في حبّ علي وبغضه ليس على العموم ، فقد أحبّه من أفرط فيه حتّى ادعى أنّه نبيّ ، أو أنّه إله تعالى الله عن إفكهم ، والذي ورد في حقّ علي من ذلك قد ورد مثله في حقّ الأنصار ، وأجاب عنه العلماء أن بغضهم لأجل النصر كان

ذلك علامة نفاقه وبالعكس ، فكذا يقال في حقّ علي ، وأيضا فأكثر من يوصف بالنصب يكون مشهورا بصدق اللهجة والتمسّك بأمور الديانة بخلاف من يوصف بالرفض فإنّ غالبهم كاذب ، ولا يتورّع في الأخبار ، والأصل فيه أنّ الناصبة اعتقدوا أنّ عليّا رضي الله عنه قتل عثمان ، أو كان أعان عليه فكان بغضهم له ديانة بزعمهم ، ثمّ انضاف إلى ذلك أنّ منهم من قتلت أقاربه في حروب علي (١). انتهى كلامه.

وقال الذهبي في ترجمة لمازة بن زبّار :

بصري حضر وقعة الجمل ، وكان ناصبيا ينال من علي رضي الله عنه ، ويمدح يزيد (٢). انتهى.

أقول : دفاع ابن حجر عن الناصبة وإن كان استحلالا منه لعداوة علي عليه‌السلام بتسويل واهي إلّا أننا نوضّح لوازم كلامه ونسجّل نقاط اعترافه :

الأولى : إقراره بتوثيق أهل سنّة الجماعة غالب الناصبة المعادين لعترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعتمادهم في الرواية عليهم وأخذ أحكام الدّين عنهم ، ولا غرابة في ذلك لأنّ مآل من يترك العترة النبويّة التي أمر الله بمودّتها ـ وهو ترك لأعظم فريضة ـ الركون إلى العصاة البغاة أهل النفاق والشقاق.

الثانية : إقراره بتوهين أهل سنّة الجماعة كافة الشيعة ممّن يميل إلى عترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويواليهم ، وهذا يعزز ما ذكرناه من أنّ مرادهم من السنّة هو سنّة العداء وقطعية عترة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الثالثة : دعواه : أنّ حرمة بغض علي عليه‌السلام وكون البغض نفاقا مقيّدا بسبب نصرة

__________________

(١). تهذيب التهذيب ٨ / ٤١٠ ـ ٤١١ رقم ٨٣١.

(٢). ميزان الاعتدال ٣ / ٤١٩ رقم ٦٩٨٩.

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستدل على التقييد بأنّ من وقعت منه إساءة في حقّ المبغض يبغضه بحكم الطبع البشري.

ويندفع : مع ذيل كلامه من أنّ الناصبة يبغضون عليّا لمخالفته لعثمان ، وليس كلّ الناصبة ممّن كان في عصر علي عليه‌السلام ، ولا كلّ الناصبة هم ممّن قتل علي آباءهم في بدر وأحد وحنين والأحزاب وخيبر والجمل وصفين ، كما أن قتل علي لآباء الناصبة وأجدادهم في حروب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في سبيل الله واعلاء كلمة الإسلام وإرغام كلمة الكفر ، وكذلك في حرب الجمل وصفين والنهروان كان قتالا للناكثين للبيعة والقاسطين الظلمة والمارقين من الإسلام ، كما يمرق السهم من القوس ، كما أمره بذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاءت به الأحاديث النبويّة ، وكما في أحاديث قتل عمار بن ياسر وغيرها ، وكيف يطلق ابن حجر على ذلك الجهاد في سبيل الله أنّه إساءة لآباء الناصبة وفعل سوء ـ ربنا نعوذ بك من استحلال حرمات دينك ـ

ولعمري إنّ دفاع ابن حجر بمثل ذلك أعظم فدحا في الدّين من نصب الناصبة ، لأن ذلك يفتح الباب للآخرين ببغض العترة بذلك التسويل ، ثمّ ما ذا يصنع ابن حجر مع آية المودّة فهل يؤوّلها أيضا؟ وإذا ساغ مثل هذا العبث بمحكمات وبيّنات الدّين فليعذر عندهم إبليس في معاداته لخليفة الله آدم عليه‌السلام ؛ لأنّه تأوّل فأخطأ لا سيّما وأن خلقة إبليس من نار فطبعه الخلقي الحمية والعصبية.

ثمّ إن حديث «علي مع الحقّ والحقّ مع علي يدور معه حيثما دار» ، أو مثل حديث السفينة وحديث الثقلين وغيرها من الأحاديث دالّ على أنّ بغض علي عليه‌السلام في أيّ موقف مخالفة للحقّ وهلاك وضلال ؛ لأنّ عليّا عليه‌السلام في كلّ سيرته وفعله مع الحقّ ونصرة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بعد وفاته.

الرابعة : إنّ إفراط بعض من أحبّ عليّا وغلوه لا يسوّغ بغض وعداوة علي عليه‌السلام ، وإلّا لجاز بغض ومعاداة النبيّ عيسى عليه‌السلام ، وكيف يتعذّر ابن حجر بمثل ذلك في مخالفة آية

المودّة التي تنادي بعظم فريضة المودّة في القربى؟! وما وزر من أحبّ عليّا ولم يغل فيه؟!

وأمّا قياس ما ورد في علي عليه‌السلام بما ورد في حقّ الأنصار ، فهو قياس مع الفرق والبون الشاسع ، فإنّ ما ورد في علي عليه‌السلام لا يحصى من أحاديث الفضائل والمناقب ، وأين ذلك ممّا ورد في الأنصار ، مضافا إلى أنّ الحكم في علي عليه‌السلام قد رتّب على ذاته الطاهرة التي أذهب الله عنها الرجس بنصّ آية التطهير.

وأمّا الحكم في الأنصار فقد رتّب على عنوان نصرتهم ، والوصف مشعر بعلّة الحكم ، بخلاف عنوان الذات في علي عليه‌السلام فإنّه يعطي ملازمة ذاته الطاهرة للحقّ ونصرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدّين في كلّ المواطن.

ثمّ ما يصنع ابن حجر في الحديث الآخر : «لا يبغضك يا علي إلّا منافق أو ابن زنا أو ابن حيضة» ، أو ما في حديث جابر : «كنّا نباري أولادنا بحبّ علي عليه‌السلام ، فمن كان يحبّه علموا أنّه طاهر الولادة ، ومن كان يبغضه علموا أنّه لغير أبيه» ، وغير ذلك من الأحاديث التي تهيّج ثائرة أهل النصب.

الخامسة : وصفه أكثر الناصبة بالتمسّك بأمور الديانة والصدق ، ومن تلك الديانة قطع ما أمر الله به أن يوصل ، ومنع أجرة النبوّة العائد نفعها لا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف لا يكون إبليس أعبد العباد على هذا المنطق ؛ لأنّه أبى أن يسجد لآدم وأصرّ أن يكون خضوعه لله خالصا من طاعة ولي الله ، فلقد اقترح إبليس على الله أن اعفني من السجود لآدم ولأعبدنّك عبادة لم يعبدك أحد مثلها ، فأجابه تعالى : «إنّي أحبّ أن أعبد من حيث أريد لا من حيث تريد» ، ثمّ إنّ ممّن وثّقوه من الناصبة خالد بن سلمة بن العاص الذي تقدّم أنّه ينشد بني مروان أشعاره التي يهجو بها المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذا عمر بن سعد قاتل الحسين عليه‌السلام ، ونظائرهم فبخ بخ له بهذه الديانة.

السادسة : دعواه كذب أكثر الرافضة يناقضه ما تقدّم من إقرار الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب : «فهذا كثير في التّابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو ردّ حديث

هؤلاء لذهبت جملة من الآثار النبويّة وهذه مفسدة بيّنة» (١). هذا مع أنّ تأوّل ابن حجر في جرح أهل سنّة الجماعة في الرواة الشيعة يدفعه تنصيصهم على أنّ منشأ الطعن هو الميل إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، أو حبّ علي عليه‌السلام ، فكلماتهم تنادي بابتداع المودّة في القربى التي أمر الله تعالى بها.

السابعة : أنّ الناصبة يعذرون في بغضهم لعلي عليه‌السلام ، مع افتراض مودّته بنصّ الكتاب ومع ذلك يوصفون بالديانة ، فلم لا يعذر من ينسب إليهم بغض الشيخين وأصحاب السقيفة؟!

العداوة مرض في قلوب الناصبة

إنّ القرآن الكريم كما أمر وفرض مودّة أهل البيت وأمر بصلتهم وعظّم من هذه الفريضة حتّى جعل خطبها في مصافّ أصول الاعتقاد والإيمان بجعلها أجرا لكلّ الرسالة المشتملة على العقيدة والمعرفة ، وهذا البيان شاف لإقامة الحجّة البالغة على العباد وقطع العذر وإنارة سبيل النجاة.

كذلك القرآن حذّر ونهى عن البغض والعداوة لهم ، حيث تعرّضت كثير من الآيات للنهي عن قطع ما أمر الله به أن يوصل ، كما حذّر من الضغينة التي هي ضد المودّة في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) (٢).

__________________

(١). ميزان الاعتدال ١ / ٥.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٥ ـ ٣٠.

فقد سلّطت الضوء هذه الآيات الشريفة على تعريف الضغينة بأنّها مرض في قلوب ثلّة ، ولا نجد في القرآن الكريم أنّ الله تعالى افترض المحبّة والمودّة ـ التي هي من أفعال القلب ـ ، ومن ثمّ تظهر على أفعال الجوارح إلّا في المحبّة لله تعالى وللرسول ولذي القربى ، فالضغينة المحرّمة لا تكون إلّا في موارد عصيان فريضة المحبّة والمودّة ؛ فالقرآن قد حرّم المودّة والمحبّة لآخرين في موارد أخرى ، كما في قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١) ، وقد أطلق القرآن على موادّة من حادّ الله ورسوله أنّها موالاة في السورة نفسها في الآيات الكريمة التى تحكي عن طائفة ممّن هم حول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ...)(٢).

ولك أن تقول أطلق على الموالاة أنّها موادّة.

وهذا تعريف آخر يطلعنا ويوقفنا عليه القرآن الكريم وهو كون المودّة موالاة ، غاية الأمر أنّ المودّة ـ والتي هي موالاة ـ على نحوين :

منها : واجبة مفترضة ، وهي المحبّة والمودّة والموالاة لله ولرسوله ولذي القربى.

ومنها : محرّمة ، وهي المودّة والموالاة لمن حادّ وشاقق الله ورسوله.

كما أنّ الضغينة المحرّمة هي التي يؤتى بها وترتكب في موارد الفريضة الواجبة مخالفة ، فبتوسط آية المودّة في سورة الشورى وهذه الآيات من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمجادلة يتبيّن أنّ المودّة والموالاة والنصرة هي لله ولرسوله ولذي القربى ـ علي وفاطمة وابناهما ـ ، وهو الإيمان الذي يكتبه الله تعالى في القلوب ، فالإيمان في القلب هو المودّة والموالاة لله ولرسوله ولذي القربى والمرض في القلوب هو العداوة والضغينة لله ولرسوله ولذي القربى.

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

(٢). المجادلة / ١٤.

ويتّضح من هذه الآيات : إنّ الإيمان يقابل المرض في القلوب ، وإنّ الّذين في قلوبهم مرض من أوائل عهد الإسلام ـ كما تشير إليه سورة المدّثر ـ أولئك لم يكتب في قلوبهم الإيمان من البدء وبقوا على تلك الصفة.

ومن ذلك يعلم أنّ من الهدى الذي نزّل الله تعالى ـ وكرهه جماعة وتابعهم جماعة أخرى طواعية للجماعة الأولى إسرارا بين الجماعتين ـ هو افتراض مودّة ذي القربى في آية المودّة كما أنّ ممّا نزّل الله تعالى من الهدى ـ والذي كرهه جماعة أيضا وأبطلوا العمل به ـ هو افتراض الخمس والفيء لذي القربى في سورة الأنفال والحشر ، ولا ريب أنّ أداء الخمس لذي القربى وتمكينهم من الفيء الذي افترضه الله لهم هو من أبرز مصاديق الموالاة والمودّة لذي القربى.

وقد مرّ بنا في ما تقدّم أنّ الّذين في قلوبهم مرض هم ثلّة نشأت في أوائل الدعوة وبداية الإسلام ، حيث ورد ذكرهم في سورة المدثّر وهي رابع سورة نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في أوائل عهد البعثة الشريفة ، وقد جعلت سورة المدثّر الّذين في قلوبهم مرض فئة في قبال فئة الّذين آمنوا وفئة الّذين أوتوا الكتاب وفي مصافّ فئة رابعة هي فئة الّذين كفروا ، لكنّها ميّزتهم عنوانا واسما عن الذين كفروا وإن كانوا في موقف واحد بحسب الحقيقة والواقع لا بحسب الظاهر ؛ لأنّ الّذين في قلوبهم مرض يبطنون هذا المرض وهو الضغينة المحرّمة بحسب تعريف آيات سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الضغينة تجاه من أمر تعالى بمحبّتهم ومودّتهم وموالاتهم ، وهذه السور تلاحق هذه الفئة والثلّة التي نشأت في صفوف من أسلم في أوائل البعثة.

وتبيّن أن مخططهم مبني على الضغينة لذي القربى وكراهة ما نزّل الله في حقّهم من المودّة والموالاة والخمس والفيء ، كما تبيّن الآيات السابقة في سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تتحدّث في وصف الّذين في قلوبهم مرض : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ

عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (١).

فهذه الآيات تنبأ عن ملحمة قرآنية عن هذه الثلّة والفئة ـ التي ترعرعت في أوائل البعثة ووصفتهم هذه السورة بأنّ وصفهم البارز هو الضغينة لمن أمر الله تعالى بمودّته وصلته وموالاته ـ وكراهة ما نزّل على رسوله من الهدى الذي منه مودّة وموالاة ذي القربى ، وتخصيص الخمس والفيء بهم أي بولايتهم ، وقد أطلقت اسم مرض القلب في قبال الإيمان المكتوب في القلب ـ حسب ما ورد في سورة المجادلة كما مرّ بنا ـ هذه الملحمة تولي هذه الفئة سدّة الحكم والتصرّف في الأمور العامّة للمسلمين ، وسيكون الطاغي على أفعال هذه الفئة ـ الّذين في قلوبهم مرض ـ عدّة أمور :

الأوّل : هو الفساد في الأرض ، وهو مخالفة الكتاب والسنّة في الأحكام والتشريعات ، ممّا يوجب استشراء الفساد في الأرض شيئا فشيئا حتّى ينتشر في بلاد المسلمين الظلم والفساد المالي والفساد الأخلاقي والحيف في القضاء والتلاعب في مقدّرات الحكم والسلطة ، وغيرها من وجوه الفساد في الأرض.

والثاني : قطع ما أمر الله به أن يوصل ، وهو معاداة من أمر الله بمودّتهم وموالاتهم وتمكينهم من حقّ الولاية لهم على الخمس والفيء ، وقد أنبأت آية أخرى من كتاب الله العزيز عن نفس هذه الملحمة المستقبلية لأوضاع المسلمين وهي (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) ، حيث علل هذه في الآيات

__________________

(١). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ ـ ٢٣.

(٢). الحشر / ٦ و ٧.

تخصيص ذوي القربى بالفيء ـ وهو الأموال العامّة والمنابع الطبيعة في البلاد كما هو مقرّر في الفقه ـ كي لا تكون ـ أي الأموال العامّة ـ دولة يتداولها الأغنياء خاصّة منكم يستأثرون بها دون عامّة المسلمين ، أي كي تسود العدالة المالية بين المسلمين لا بد من ولاية ذوي القربى على الفيء والأموال العامّة ومقتضى هذا التعليل أنّ مجيء غيرهم على سدّة الحكم والولاية على الأموال العامّة سوف ينجم منه الظلم والفساد المالي ، وهذا ما وقع فإنّه قد فرّق بين المسلمين في عطاء بيت المال في عهد الأوّل ، وازداد ذلك في عهد الثاني ووصل إلى ذروة الحيف ، واللامساواة في توزيع وعطاء بيت المال في عهد الثالث حتّى ثار المسلمون وحدث الذي حدث ، وكذلك استمر النهج في عهد بني أمية وبني العبّاس ، وقد أخبرت الصديقة فاطمة عليها‌السلام بذلك في خطبتها التي سبق نقلها.

وقد توعّدت آيات سورة الحشر عن مخالفة هذا الحكم والتشريع بشدّة العقاب.

فتلخّص ـ ممّا مرّ بنا ـ أنّ المودّة للقربى وعترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي موالاة لهم ـ كما أوضحت ذلك سورة المجادلة التي مرّ ذكر آياتها ـ وأنّ الضغينة والعداوة لهم مرض في القلوب ـ كما أوضحت ذلك سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في قبال المودّة والموالاة لهم فإنّه إيمان.

وإلى ظاهر هذه الآيات من السور يشير الصادق عليه‌السلام فى ما رواه عنه عبد الله بن سنان أنّه عليه‌السلام قال : في معرض كلامه عن علامات ظهور القائم من آل محمّد (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وأنّه يكون في السماء نداء «ألا أن الحقّ في علي بن أبي طالب وشيعته ، قال عليه‌السلام : ف (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) (١) على الحقّ وهو النداء الأوّل ، ويرتاب يومئذ الذين في قلوبهم مرض ، والمرض والله عداوتنا» (٢). الحديث.

وقد روى ابن المغازلي الشافعي في المناقب ، عن أبي سعيد الخدري في قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣) ، قال : ببغضهم علي بن أبي طالب (٤) ، والآية المذكورة في

__________________

(١). إبراهيم / ٢٧.

(٢). الغيبة ـ للنعماني ـ : ٢٦٠ ح ١٩ الباب ١٤.

(٣). محمّد / ٣٠.

(٤). مناقب ابن المغازلي : ٢٦٢ ح ٣٥٩.

سياق وصف الّذين في قلوبهم مرض ، وغيرها من الروايات (١).

هذا ، وممّا يدلّ على كون مودّة ذوي القربى موالاتهم ، مضافا إلى ما تقدّم في سورة المجادلة ، قوله تعالى في سورة آل عمران : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢) ، فإنّ في الآية تصريحا بأنّ مقتضى المحبّة الاتّباع ، كما أنّ مقتضى مفهوم الشرطية في الآية أيضا هو أنّ ترك الاتّباع كاشف مسبب عن عدم المحبّة. فيتحصّل أنّ مودّة ذوي القربى مقتضاها اتّباعهم وموالاتهم وهي التي قد جعلها أجرا لكلّ الرسالة. فمفاد الآية متطابق مع حديث الثقلين وحديث السفينة.

فتحصّل أنّ مقتضى فريضة المودّة في القربى والتي عظّم شأنها القرآن الكريم ، وكون بغضهم والعداوة لهم وجفاءهم وقطعيتهم مرض يعري القلوب ويسلبها الإيمان ، هو أن المودّة للقربى ميزان ومعيار لتعديل الصحابي ، وبغض ذوي القربى والمصادمة معهم ميزان ومعيار لجرح الصحابي ، فهذا الضابط يتطابق مع ما تقدّم من الموازين والمعايير التى مرّت بنا في ما سبق.

ومن ذلك قول الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بأن الهجرة كوصف للصحابي إنّما تنطبق عليه لا لكون معناها انتقال البدن من مكان إلى مكان كسفر جغرافي ، بل الهجرة إنّما هي بالهجرة إلى أهل البيت عليهم‌السلام ، لا الابتعاد عنهم ، وأنّ المدار على الموالاة والمتابعة لرسول الله وأهل بيته ، لا المعاداة لهم والمخالفة ، والهجرة تحققت بهم ، والنصرة بنصرة الله ورسوله وذي القربى ، فلا هجرة إلّا إليهم لا إلى غيرهم ، ولا نصرة ومودّة وموالاة إلّا لهم لا عليهم ، ولا اتّباع بإحسان إلّا باتباع سبيلهم ، وما أسألكم عليه من أجر إلّا ـ وهو المودة في القربى ـ من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، كما مرّ بنا قول علي عليه‌السلام : «أنّ الصدّيق من

__________________

(١). لاحظ : ما روي عنهم عليه‌السلام في تفسير البرهان ، ونور الثقلين في ذيل آيات سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢). آل عمران / ٣١.

صدّق بحبهم وأبطل باطل عدوهم ، والفاروق من فرّق بينهم وبين عدوهم» (١) ، وأنّ من ترك الهجرة إليهم يتعرّب ، وأنّ من يترك المودّة والموالاة لهم يتحزّب.

فهذه وقفة يلزم إعطاءها الإمعان التّام في مبحث عدالة الصحابة.

__________________

(١). نهج البلاغة : كتاب ٤٩. ط مؤسسة الإمام صاحب الزمان ـ عجّل الله فرجه ـ

٨

العقبة والمظاهرة

يشير القرآن الكريم في سورة التوبة (براءة) وسورة التحريم إلى تصاعد حدّة العداء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى جماعة ممّن كان معه وممّن يحيط به ، وكذلك كتب الحديث والسير والتواريخ ، وقد بلغ هذا العداء ذروته بتدبيرهم محاولتين للفتك به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

* الأولى :

في رجوعه من تبوك عند العقبة ، ومدبّريها عرفوا ب : أهل العقبة. قال تعالى :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ* لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) (١).

وقال تعالى في السورة نفسها أيضا :

(يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (٢)

قال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآيات الأولى :

__________________

(١). التوبة (براءة) / ٦٥ ـ ٦٦.

(٢). التوبة (براءة) / ٧٤.

قيل : نزلت في اثني عشر رجلا وقفوا على العقبة ليفتكوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند رجوعه من تبوك ، فأخبر جبرئيل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك وأمره أن يرسل إليهم ويضرب وجوه رواحلهم ، وعمّار كان يقود دابّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذيفة يسوقها ، فقال لحذيفة : اضرب وجوه رواحلهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه فلان وفلان. حتّى عدّهم كلّهم. فقال حذيفة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟! فقال : أكره أن تقول العرب لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

وروي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام مثله ، إلّا أنّه قال : ائتمروا بينهم ليقتلوه ، وقال بعضهم لبعض : إن فطن نقول : إنّا كنّا نخوض ونلعب ، وإن لم يفطن نقتله.

وفي ذيل الآيات اللاحقة قال :

وقيل : نزلت في أهل العقبة ؛ فإنّهم ائتمروا في أن يغتالوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقبة عند مرجعهم من تبوك وأرادوا أن يقطعوا انساع راحلته ، ثمّ ينخسوا به ، فأطلعه الله تعالى على ذلك ، وكان من جملة معجزاته ؛ لأنّه لا يمكن معرفة مثل ذلك إلّا بوحي من الله تعالى.

فسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة وعمّار وحذيفة معه ، أحدهما يقود ناقته والآخر يسوقها ، وأمر الناس كلّهم بسلوك بطن الوادي ، وكان الّذين همّوا بقتله اثني عشر رجلا أو خمسة عشر رجلا على الخلاف فيه ، عرفهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّاهم بأسمائهم واحدا واحدا. عن الزجّاج والواقدي والكلبي ، والقصّة مشروحة في كتاب الواقدي. وقال الباقرعليه‌السلام : كانت ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب (١).

وقال الزمخشري في ذيل الآية ٧٤ :

أقام رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه

__________________

(١). مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٥ / ٧٠ ـ ٧٨.

القرآن ، ويعيب المنافقين فيسمع من معه منهم ، منهم الجلاس بن سويد ... ـ

إلى أن قال : ـ فتاب الجلاس وحسنت توبته.

(وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) : وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام. (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) : وهو الفتك برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وذلك : عند مرجعه من تبوك تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل ، فأخذ عمّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثّمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا (١).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف في ذيل كلام الزمخشري المتقدّم :

أخرجه أحمد من حديث أبي الطفيل ، قال : لمّا قفل رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم من غزوة تبوك أمر مناديا ينادي لا يأخذنّ العقبة أحد ، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يسير وحده ، فكان النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يسير وحذيفة رضى الله عنه يقود به ، وعمّار رضى الله عنه يسوق به ، فأقبل رهط متلثّمين على الرواحل حتّى غشوا النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فرجع عمّار فضرب وجوه الرواحل ، فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لحذيفة : قد قد. فلحقه عمّار فقال : سق سق. حتّى أناخ ، فقال لعمّار : هل تعرف القوم؟!

فقال : لا ، كانوا متلثّمين ، وقد عرفت عامّة الرواحل.

فقال : أتدري ما أرادوا برسول الله؟!

__________________

(١). الكشّاف ـ للزمخشري ـ ٢ / ٢٩١.

قلت : الله ورسوله أعلم.

فقال : أرادوا أن يمكروا برسول الله فيطرحوه من العقبة.

فلمّا كان بعد ذلك وقع بين عمّار رضى الله عنه وبين رجل منهم شيء ممّا يكون بين الناس ، فقال : أنشدكم الله ، كم أصحاب العقبة الّذين أرادوا أن يمكروا برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم؟!

فقال : ترى أنّهم أربعة عشر ، فإن عشر ، كنت فيهم فهم خمسة عشر ..

ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزّار ، وقال : روي من طريق عن حذيفة ، وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ، ومن طريقه البيهقي في الدلائل ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي البختري ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أقود به ، وعمّار رضى الله عنه يسوق الناقة حتّى إذا كنّا بالعقبة وإذا اثني عشر راكبا قد اعترضوه فيها ، قال : فانتهت إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فصرخ بهم فولّوا مدبرين (١).

وقال الفخر الرازي في تفسيره الكبير ـ بعد أن ذكر أسبابا أخرى لنزول هذه الآيات ـ :

قال القاضي : «يبعد أن يكون المراد من الآية هذه الوقائع ؛ وذلك لأنّ قوله : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ) إلى آخر الآية ، كلّها صيغ الجموع ، وحمل صيغة الجمع على الواحد ، خلاف الأصل.

فإن قيل : لعلّ ذلك الواحد قال في محفل ورضي به الباقون.

قلنا : هذا أيضا خلاف الظاهر ؛ لأنّ إسناد القول إلى من سمعه ورضي به خلاف الأصل ..

ثمّ قال : بلى الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي : أنّ المنافقين همّوا بقتله

__________________

(١). ذيل الكشّاف ٢ / ٢٩٢.

عند رجوعه من تبوك ، وهم خمسة عشر تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل ، وكان عمّار بن ياسر آخذا بالخطام على راحلته وحذيفة خلفها يسوقها ، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح ، فالتفت فإذا قوم متلثّمون ، فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله ، فهربوا.

والظاهر أنّهم لمّا اجتمعوا لذلك الغرض ، فقد طعنوا في نبوّته ونسبوه إلى الكذب والتصنع في ادّعاء الرسالة ، وذلك هو قول كلمة الكفر. وهذا القول اختيار الزجّاج».

فأمّا قوله : (وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) ، فلقائل أن يقول : إنّهم أسلموا ، فكيف يليق بهم هذا الكلام؟! والجواب من وجهين :

الأوّل : المراد من الإسلام : الذي هو نقيض الحرب ؛ لأنّهم لمّا نافقوا ، فقد أظهروا الإسلام ، وجنحوا إليه ، فإذا جاهروا بالحرب ، وجب حربهم.

والثاني : أنّهم أظهروا الكفر بعد أن أظهروا الإسلام.

وأمّا قوله : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا) ، المراد : إطباقهم على الفتك بالرسول ، والله تعالى أخبر الرسول عليه‌السلام بذلك حتّى احترز عنهم ، ولم يصلوا إلى مقصودهم. ـ إلى أن قال في ذيل الآيات الثلاث التي تتلو الآية المزبورة ـ : اعلم أنّ هذه السورة أكثرها في شرح أحوال المنافقين ، ولا شكّ أنّهم أقسام وأصناف ، فلهذا السبب يذكرهم على التفصيل (١).

أقول : قد مرّ بنا في ما سبق أنّ سورة التوبة (البراءة) سمّيت : «الفاضحة».

فعن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عبّاس : سورة التوبة؟

فقال : التوبة؟! بل هي الفاضحة ، ما زالت تنزل : «ومنهم ...» حتّى ظننّا أن لن

__________________

(١). التفسير الكبير ـ للرازي ـ ١٦ / ١٣٦ ـ ١٣٨.

يبقى منّا أحد إلّا ذكر فيها ..

وكذلك سمّيت : «المبعثرة» ؛ لأنّها تبعثر عن أسرار المنافقين ..

وسمّيت : «البحوث» ؛ لأنّها تذكر المنافقين وتبحث عن سرائرهم ..

و «المدمدمة» ، أي : المهلكة ..

و «الحافرة» ؛ لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ..

و «المثيرة» ؛ لأنّها أثارت مخازيهم وقبائحهم ..

و «العذاب» ؛ روى عاصم بن زر بن حبيش ، عن حذيفة ، قال : يسمّونها سورة التوبة وهي سورة العذاب (١).

فترى أن سورة التوبة (البراءة) مليئة بالإشارة إلى أقسام المذمومين ممّن كان في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بظاهر الإسلام ، وأبرز ما فيها الكشف عن أفضع عملية حاول جماعة منهم ارتكابها ، وهي الفتك بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والجدير بالانتباه أنّ هذه السورة من أواخر السور نزولا ؛ فهي نزلت قبيل عام الفتح وعند غزوة تبوك ، وقد صوّرت ـ بتفصيل ـ الأجواء التي كان يعيشها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إلى من حوله.

حذيفة وأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام أعلم الناس بالمنافقين

فقد ورد هذا المضمون في الحديث النبوي الشريف (٢) ، وكذلك في عدّة روايات قد مرّت في ما سبق ، وهو بروز الصحابي حذيفة بن اليمان في علمه ومعرفته بالمنافقين ، والظاهر أنّ هذه الواقعة ـ وهي محاولة اغتيال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ هي مربض الفرس ، والحادثة العظمى التي أطلعت حذيفة على رءوس شبكة النفاق ، ومن المهمّ أن نتتبّع خيوط وتفاصيل الحادثة ؛ لترتسم لنا منظومة هذه الشبكة والمجموعة ، وهل هي من دائرة

__________________

(١). مجمع البيان ـ للطبرسي ـ ٥ / ٣ ـ ٤.

(٢). تفسير البرهان ٢ / ٨١٢ سورة التوبة (براءة) ط الحديثة ـ قم ، وكذا في مصادر العامّة.

الصحابة المحيطة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من الدائرة المتوسطة ، أو الدوائر البعيدة؟!

وهاهنا ـ في البدء ـ عدّة موارد وتساؤلات مطروحة :

الأولى : ما مرّ من قول ابن كيسان وروايته : أنّ حذيفة قد قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقب الحادثة : ألا تبعث إليهم فتقتلهم؟! فأجابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكره أن تقول العرب لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم» ؛ فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفيد أنّ المجموعة التي قامت بهذا التدبير هي من خواصّ الصحابة المحيطين به.

الثانية : إنّ في كثير من الروايات لدى الفريقين التعبير عنهم بفلان وفلان و ... من دون ذكر أسمائهم ؛ فما هذه الحشمة عن ذكر أسمائهم وعدّتهم بكاملها؟! ولم هذا التحاشي عن التصريح إلى الكناية المبهمة؟! ومن هم هؤلاء الّذين يتحفّظ عن ذكر أسمائهم؟! أترى لو كانوا من الأباعد في الصحبة يتستّر عليهم؟! أو لو كانوا من المشهورين علنا بالنفاق لكان يتخفّى عليهم؟! وهذا مؤشّر مهمّ يضع بصماته على هذه الجماعة.

الثالثة : قول الباقر عليه‌السلام : إنّ ثمانية منهم من قريش وأربعة من العرب.

الرابعة : إنّه وقع بين عمّار رضى الله عنه وبين رجل من تلك المجموعة شجار بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشار عمّار ولمّح بين ملأ من الناس إلى كون ذلك الرجل منهم.

الخامسة : إنّ سرّ معرفة حذيفة بالمنافقين واختصاصه بهذه المعرفة هو مشاهدته لهذه الواقعة ، وهذا يفيد أنّ أصحاب هذه المجموعة لم يكونوا مشهورين في العلن لدى عامّة المسلمين بأنّهم من المتمرّدين والمنافقين ، بل كانوا يتستّرون في عداوتهم وكيدهم للدين والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وإلّا لما اختصّ حذيفة بمعرفتهم كخصيصة أشاد بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة ، ولما ذا لم تشمل هذه المعرفة أصحاب السقيفة والخلفاء الثلاثة ، بينما اختصّ بها أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وحذيفة؟!

السادسة : من الملاحظ والملفت للنظر أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصطحب على

العقبة إلّا عمّار وحذيفة وسلمان والمقداد ، حسب اختلاف الروايات ، بينما باقي الصحابة ـ كالصاحب في الغار ، وغيره من أصحاب السقيفة ـ لم يكونوا معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وستأتي تتمّة للموارد الفاحصة لأوراق هذه الحادثة.

قال السيوطي في الدرّ المنثور :

وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة رضى الله عنه ، قال : رجع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قافلا من تبوك إلى المدينة ، حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ناس من أصحابه ، فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق ، فلمّا بلغوا العقبة أرادوا أن يسلكوها معه ، فلمّا غشيهم رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أخبر خبرهم ، فقال : من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم.

وأخذ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم العقبة وأخذ الناس بين الوادي إلّا النفر الّذين مكروا برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لمّا سمعوا ذلك استعدّوا وتلثّموا وقد همّوا بأمر عظيم ، وأمر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حذيفة بن اليمان رضى الله عنه وعمّار بن ياسر رضى الله عنه فمشيا معه مشيا ، فأمر عمّار أن يأخذ بزمام الناقة وأمر حذيفة يسوقها. فبينما هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه فغضب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وأمر حذيفة أن يردّهم ، وأبصر حذيفة رضى الله عنه غضب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم فضربها ضربا بالمحجن ، وأبصر القوم وهم متلثّمون لا لا يشعروا إنّما ذلك فعل المسافر ، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة رضى الله عنه وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه فاسرعوا حتّى خالطوا الناس.

فأقبل حذيفة رضى الله عنه حتّى أدرك رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فلمّا أدركه قال : اضرب الراحلة يا حذيفة ، وامش أنت يا عمّار. فاسرعوا حتّى

استووا بأعلاها ، فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس ، فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لحذيفة : هل عرفت يا حذيفة من هؤلاء الرهط أحدا؟!

قال حذيفة : عرفت راحلة فلان وفلان ، وقال : كانت ظلمة الليل وغشيتهم وهم متلثّمون.

فقال النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : هل علمتم ما كان شأنهم وما أرادوا؟!

قالوا : لا والله يا رسول الله.

قال : فإنّهم مكروا ليسيروا معي حتّى إذا طلعت في العقبة طرحوني منها.

قالوا : أفلا تأمر بهم يا رسول الله فنضرب أعناقهم.

قال : أكره أن يتحدّث الناس ويقولوا أنّ محمّدا وضع يده في أصحابه.

فسمّاهم لهما وقال : اكتماهم.

ثمّ إنّ السيوطي ذكر رواية البيهقي بطريق آخر ، فيها ذكر أسمائهم ، قال :

وأخرج ابن سعد عن نافع بن جبير بن مطعم ، قال : لم يخبر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بأسماء المنافقين الّذين تحسّوه ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة رضى الله عنه ، وهم اثنا عشر رجلا ليس فيهم قرشي وكلّهم من الأنصار ومن حلفائهم.

ثمّ ذكر السيوطي رواية أخرى عن البيهقي أيضا في الدلائل ، وذكر سرد الواقعة إلى أن قال : قلنا : يا رسول الله! ألا تبعث إلى عشائرهم حتّى يبعث إليك كلّ قوم برأس صاحبهم.

قال : لا ، إنّي أكره أن تحدّث العرب بينها أن محمّدا قاتل بقوم حتّى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم. ثمّ قال : اللهمّ ارمهم بالدبيلة.

قلنا : يا رسول الله! وما الدبيلة؟

قال : شهاب من نار يوضع على نياط قلب أحدهم فيهلك (١).

ويستفاد من هذه الروايات عدّة موارد أخرى كشواهد مقرّبة إلى معرفة هذه المجموعة ـ مضافا إلى ما تقدّم ـ

السابعة : قد عبّر الراوي الأخير لهذه الواقعة عن تلك المجموعة بأنّهم : «ناس من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، ولا يخفى أنّ التعبير لدى الرواة بوصف الصحبة يخصّ من يتّصل بصحبة وبعلاقة قريبة ، فلم يكن تعبيرهم بلفظ الصحبة عن كلّ من أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو وصف خاص لدى الرواة لخصوص من هو ممّن حواليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بخلاف أصحاب التراجم والرجال ؛ إذ أنّهم اصطلحوا على تعاريف عدّة للصحابي ، شملت بعضها كلّ من رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يرو عنه ، أو كلّ من أدركه وروى عنه ولو بعض روايات قليلة ، أو حتّى رواية واحدة أو اثنتين.

فالاستعمال الجاري لدى الرواة أنّهم لا يطلقون لفظ الصحبة إلّا على الخواصّ ، وممّن هم حواليه على علاقة متميزة به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في الاستعمال العرفي الدارج حاليا ، فإنّه لا يقال أصحاب فلان إلّا على من لهم صلة خاصّة بذلك الشخص.

هذا مضافا إلى قرائن أخرى في هذه الروايات :

منها : إضافة اللفظ إلى الضمير «من أصحابه» ؛ فإنّه يختلف في الظهور عن تعبير: «من الصحابة» ؛ إذ الأوّل أكثر تخصّصا.

ومنها : أنّهم أرادوا أن يسلكوا العقبة مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بدء الأمر من دون الناس الّذين كانوا يمشون ببطن الوادي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ـ بعد ما أخبر خبرهم ـ : «من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي ، فإنّه أوسع لكم» ؛ وهذا يفيد أنّهم ممّن يتعارف مشيه مع الرسول قريب منه في الأسفار والحركة ، وهذه الصفة لا تكون للأباعد.

ومنها : جواب حذيفة ـ عند ما سأله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن معرفة الرهط الّذين همّوا بذلك

__________________

(١). الدرّ المنثور ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

الأمر العظيم ـ بأنّه رأى راحلة فلان وفلان ؛ وهذا يفيد أنّ الرهط هم من وجوه المسلمين ، وممّن لحذيفة خلطة قريبة معهم ، وليسوا من الأباعد كي تخفى رواحلهم ودوابّهم على حذيفة.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عند ما طلب منه حذيفة وعمّار قتل الرهط ـ : «إنّي أكره أن يتحدّث الناس ويقولوا أنّ محمّدا وضع يده في أصحابه» ؛ ومنه يتبيّن أنّ الرهط والمجموعة هم ممّن ناصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحسب الظاهر ، وكانوا ممّن حوله من الخواصّ الّذين لهم علاقة متميزة به أمام مرأى الناس ، ومن الّذين لا يتوقّع الناس معاداتهم له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل كان الإقدام على قتلهم من قبله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستنكرا عند الناس ، وهذا ظاهر في عدم كونهم من أوساط الناس أو من الأباعد.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة وعمّار لمّا أطلعهم بأسمائهم : «اكتماهم» ؛ فما وجه الأمر بالكتمان لو كان هؤلاء الرهط من أوساط الناس ، ومن حلفاء الأنصار ونحوهم ، كما روى ابن سعد أنّهم لم يكونوا من قريش بل من الأنصار وحلفائهم؟!

لا ريب أنّ علّة الأمر بالكتمان ظاهرة في كون هؤلاء الرهط هم ممّن يحسب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصحبة خاصّة ، ممّن يؤدّي فضحه وكشفه ـ لا سيّما بمثل هذا الفعل الشنيع المنكر ، الذي هو على أصول الكفر الباطني ـ إلى حدوث بلبلة واضطراب في أوساط الناس وعامّتهم ممّن لا يعرف من الإسلام إلّا رسمه ، ومن الدين إلّا طقوسا ظاهرية ..

فحفاظا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عدم إثارة الفتنة بين عامّة الناس بذلك ، وعدم تزلزل إسلامهم أمر بالكتمان ؛ ولا سيّما أنّ قوله تعالى في الآية السابقة لهذه الآيات : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١) في تفسير أهل البيت عليهم‌السلام ـ كما روى ذلك الطبرسي في مجمع البيان (٢) ، وغيره من مفسّري الإمامية ، وبطرق مسندة عنهم عليه‌السلام ـ (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) ، قالوا : لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن

__________________

(١). التوبة (براءة) / ٧٣.

(٢). مجمع البيان ٥ / ٧٧.

يقاتل المنافقين وإنّما كان يتألّفهم ؛ لأنّ المنافقين لا يظهرون الكفر ، وعلم الله تعالى بكفرهم لا يبيح قتلهم إذا كانوا يظهرون الإيمان. فعلى هذا التفسير كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمورا بأن يستبقيهم ويجاهد بهم الكفار.

ثمّ أنّه من الغريب من ابن سعد أنّه يروي أنّهم ليسوا من قريش ، بل من الأنصار وحلفائهم ، ويروي ـ في الوقت نفسه ـ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخبر بأسمائهم غير حذيفة ، فكيف نفى كونهم من قريش؟! والغريب منه أيضا نفي كونهم من حلفاء قريش ؛ إذ نسبهم إلى الأنصار وحلفائهم خاصّة.

ولا غرابة في ذلك ؛ فإنّ أصحاب السقيفة لم يواجههم في السقيفة إلّا الأنصار وحلفاؤهم ـ إلّا القليل ـ ولم يعقد البيعة في السقيفة إلّا قريش وحلفائها.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرواية الأخرى المتقدّمة : «إنّي أكره أن تحدّث العرب بينها أنّ محمّدا قاتل بقوم حتّى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم» ؛ فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف هؤلاء الرهط بأنّهم : «قوم قاتل بهم» و : «أظهره الله بهم» ، ولو بنظر عامّة الناس وأذهان العرب ، فهل هذا الوصف ينطبق إلّا على الخواصّ ممّن هاجر من الأوائل معه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بيّن أنّ عامّة أذهان الناس ، التي تنظر إلى مجريات الأحداث بسطحية وتحكم عليها حسب ظواهرها لا حقيقتها ، تستنكر الاقتصاص من هؤلاء الرهط ومعاقبتهم وفضحهم على الملأ ؛ إذ كانوا قد أوجدوا ـ بحسب الظاهر ـ لأنفسهم مكانة واختصاص لدى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعين الناس ، لدرجة كان يصعب معها كشف زيف هذه الصنيعة ، ولم يكن من الهيّن واليسير بيان الحقيقة لعقول الناس القاصرة ، التي لا تزن الأمور حسب الواقع بل حسب الظواهر.

الثامنة : إنّ هؤلاء الرهط تميّزوا بأنّهم دعا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بأن يبتليهم الله تعالى بالدبيلة ، وسيأتي في روايات أخرى كالتي أوردها صحيح مسلم وغيره أنّها تشير إلى تلك الجماعة.

التاسعة : إنّ اقتران حذيفة وعمّار في هذه الواقعة أمر تكرّر في الروايات والنقول التاريخية ، أي اقترنا في معرفة هؤلاء الرهط ، وهذه علامة سيتمّ الاستفادة منها في الموارد الروائية اللاحقة بشأن المنافقين.

والملفت للنظر أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أخبره الوحي بنيّة تلك الجماعة الفتك به لم يستعنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأحد من خواصّ أصحابه سوى حذيفة وعمّار وسلمان والمقداد ، فما شأن البقية من الخواصّ؟! لما ذا لم يستأمنهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأمنهم في الدفاع عنه وحمايته؟! أم أنّ الحال كان على عكس ذلك. وأمّا أبا ذرّ فلم يكن عنده راحلة في غزوة تبوك ، فكان يتأخّر عن جيش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سيره ماشيا على قدميه ، كما ذكرت ذلك مصادر السير والتواريخ.

العاشرة : إنّ هذه الواقعة الخطيرة في حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسيرة الدين متّفق على وقوعها في كتب حديث الفريقين وكتب السير والتواريخ ، سواء كانت هي سبب نزول الآيات ، كما هو الأقوى الظاهر ، أم كان السبب للنزول واقعة أخرى.

قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب في ترجمة أبي موسى الأشعري ، عبد الله بن قيس بن سليم ، أنّه :

ولّاه عمر البصرة في حين عزل المغيرة عنها ، فلم يزل عليها إلى صدر من خلافة عثمان ، فعزله عثمان عنها وولّاها عبد الله بن عامر بن كريز ، فنزل أبو موسى حينئذ بالكوفة وسكنها ، فلمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى وكتبوا إلى عثمان يسألونه أن يولّيه ، فأقرّه عثمان على الكوفة إلى أن مات. وعزله عليّ رضى الله عنه عنها فلم يزل واجدا منها على عليّ حتّى جاء منه ما قال حذيفة ؛ فقد روي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره والله يغفر له. ثمّ كان من أمره يوم الحكمين ما كان (١).

__________________

(١). الاستيعاب ـ في ذيل الإصابة ـ ٢ / ٣٧٢.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج البلاغة :

قلت : الكلام الذي أشار إليه أبو عمر بن عبد البرّ ولم يذكره ، قوله فيه ـ وقد ذكر عنده ، أي عند حذيفة ، بالدين ـ أمّا أنتم فتقولون ذلك ، وأمّا أنا فأشهد أنّه عدوّ لله ولرسوله وحرب لهما ، في الدنيا (وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (١). وكان حذيفة عارفا بالمنافقين ، أسرّ إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم وأعلمه أسماءهم. وروي أنّ عمّارا سئل عن أبي موسى ، فقال : لقد سمعت فيه من حذيفة قولا عظيما ، سمعته يقول : صاحب البرنس الأسود. ثمّ كلح كلوحا علمت منه أنّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط.

وروي عن سويد بن غفلة ، قال : كنت مع أبي موسى على شاطئ الفرات في خلافة عثمان ، فروى لي خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : سمعته يقول : إنّ بني إسرائيل اختلفوا ، فلم يزل الاختلاف بينهم ، حتّى بعثوا حكمين ضالّين ضلّا وأضلّا من اتّبعهما ، ولا ينفكّ أمر أمّتي حتّى يبعثوا حكمين يضلان ويضلّان. فقلت له : احذر يا أبا موسى أن تكون أحدهما! قال : فخلع قميصه ، وقال : أبرأ إلى الله من ذلك ، كما أبرأ من قميصي هذا».

ثمّ ذكر ما قاله أبو محمّد بن متّويه في كتاب الكفاية : «أمّا أبو موسى فإنّه عظم جرمه بما فعله ، وأدّى ذلك إلى الضرر الذي لم يخف حاله ، وكان عليّ عليه‌السلام يقنت عليه وعلى غيره فيقول : اللهمّ العن معاوية أوّلا وعمرا ثانيا وأبا الأعور السلمي ثالثا وأبا موسى الأشعري رابعا. وروي عنه عليه‌السلام أنّه كان يقول في أبي موسى : صبغ بالعلم صبغا وسلخ منه سلخا (٢).

__________________

(١). غافر / ٥١ و ٥٢.

(٢). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٣ / ٣١٤ ـ ٣١٥.

وقال المزّي في تهذيب الكمال :

وعمل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على زبيد وساحل اليمن ـ وهذا قبل تبوك كما لا يخفى.

واستعمله عمر بن الخطّاب على الكوفة والبصرة ، وشهد وفاة أبي عبيدة بن الجراح بالأردن ، وشهد خطبة عمر بالجابية ، وقدم دمشق على معاوية. إلى أن قال : ـ وقال مجالد ، عن الشعبي : كتب عمر في وصيّته : أن لا يقرّ لي عامل أكثر من سنة ، وأقرّوا الأشعري أربع سنين (١).

وفي تاريخ دمشق عن أبي تحيى حكيم :

كنت جالسا مع عمّار فجاء أبو موسى ، فقال [عمّار] : ما لي ولك؟! قال : ألست أخاك؟! قال : ما أدري ، إلّا أنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلعنك ليلة الجمل.

قال : إنّه استغفر لي. قال عمّار : قد شهدت اللعن ولم أشهد الاستغفار (٢).

وذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء ، عن شقيق :

كنّا مع حذيفة جلوسا فدخل عبد الله وأبو موسى المسجد ، فقال ـ أي حذيفة ـ : أحدهما منافق. ثمّ قال ـ أي حذيفة ـ : إنّ أشبه الناس هديا ودلّا وسمتا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله (٣).

وروى الشيخ المفيد في أماليه عن عليّ عليه‌السلام ـ بشأن أبي موسى ـ :

والله ما كان عندي مؤتمنا ولا ناصحا ، ولقد كان الّذين تقدّموني استولوا على مودّته ، وولّوه وسلّطوه بالإمرة على الناس ، ولقد أردت عزله فسألني الأشتر فيه أن أقرّه ، فأقررته على كره منّي له ، وتحمّلت على صرفه من بعد (٤).

__________________

(١). تهذيب الكمال ٤ / ٢٤٤.

(٢). تاريخ دمشق ٣٢ / ٩٣ ، كنز العمّال ١٣ / ٦٠٨ ح ٣٧٥٥٤.

(٣). سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٩٣ رقم ٨٢ ، تاريخ دمشق ٣٢ / ٩٣.

(٤). الأمالي ـ للمفيد ـ ٢٩٥ رقم ٦.

وذكر المسعودي في مروج الذهب :

إنّ أبا موسى ثبّط الناس عن عليّ عليه‌السلام في حرب الجمل ، فعزله عن الكوفة وكتب إليه : «اعتزل عملنا يا بن الحائك مذموما مدحورا ، فما هذا أوّل يومنا منك ، وإنّ لك فينا لهنّات وهنيّات» (١).

وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي بردة ـ وهو ابن أبي موسى الأشعري ـ :

ـ إذ دخل يزيد بن معاوية فقال له معاوية : إن وليت من أمر الناس شيئا فاستوص بهذا ، فإنّ أباه كان أخا لي ـ أو خليلا أو نحو هذا من القول ـ غير أنّي قد رأيت في القتال ما لم ير (٢).

الحادية عشرة : إنّ أحد أعضاء مجموعة أهل العقبة والرهط هو عبد الله بن قيس بن سليم ، المشتهر ب أبي موسى الأشعري ، صاحب البرنس الأسود ، وهو أوّل بصمات المجموعة يجدها المتتبّع بوضوح ، ومنه تتلاحق بقية البصمات.

الثانية عشرة : ما تقدّم من قول عليّ عليه‌السلام من أنّ الخلفاء قبله «استولوا على مودّته!! وولّوه وسلّطوه بالإمرة على الناس» ، وقال عليه‌السلام له : «فما هذا أوّل يومنا منك ، وإنّ لك فينا لهنّات وهنيّات» ؛ فما هو يا ترى سبب مودّتهم له بالدرجة الشديدة ، كما عبّرعليه‌السلام : «استولوا على مودّته»؟! وما هو سبب توليتهم وتسليطهم له ، على نقيض نفرة حذيفة وعمّار له ، وتنويههم وتصريحهم بأنّه من مجموعة أهل العقبة؟!

الثالثة عشرة : ما تقدّم من تصريح معاوية بخلّته لأبي موسى الأشعري ، كما في شدّة مودّة الخلفاء السابقين له أيضا ، وتوافقهم على توليته وتسليطه على إمارة على الناس ..

__________________

(١). مروج الذهب ٢ / ٣٦٧ ، تاريخ الطبري ٤ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٢). الطبقات الكبرى ٤ / ١١٢ ، تاريخ الطبري ٥ / ٣٣٢ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ٤٠١ رقم ٨٢.

ذكر الطبري في تاريخه عن جويرية بن أسماء :

قدم أبو موسى على معاوية فدخل عليه في برنس أسود ، فقال : السلام عليك يا أمين الله!!! قال : وعليك السلام. فلمّا خرج قال معاوية : أقدم الشيخ لأوّليه ، ولا والله لا أوّليه (١).

وروى الثقفي في الغارات عن محمّد بن عبد الله بن قارب :

إنّي عند معاوية لجالس ، إذ جاء أبو موسى فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين!! قال : وعليك السلام ، فلمّا تولّى قال : والله لا يلي هذا على اثنين حتّى يموت (٢).

يظهر من ذلك شدّة حرص أبي موسى الأشعري على تولّي الإمارة ، وأنّ سيرته في هذا الحرص ـ بالتالي ـ توضّح لنا معالم دواعي مشاركته في عملية الفتك بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ دواعي المجموعة هي الوصول إلى سدّة الحكم والإمارة في ظل أجواء الدين الجديد ، لا كبقية المنافقين ممّن يريد إعادة الكفر والشرك مرّة أخرى جهارا.

فالظاهر إنّ هذه المجموعة رأت الفرصة متاحة للوصول إلى السلطة في ظلّ الدعوة للإسلام ؛ إذ لم تكن متاحة لهم في ظلّ سنن الملّة الجاهلية ، التي تحكمها القوانين القبلية والعشائرية ، وهم ليسوا بذوي حسب ونسب قبلي يؤهلهم إلى ذلك.

ويتوافق هذا الشاهد في توضيح معالم دواعي أهل العقبة ـ وهي الوصول إلى سدّة الحكم في ظلّ الدعوة الجديدة ـ مع الشاهد المتقدّم سابقا عنهم من أنّهم من خاصّة أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنظر الناس وعامّة المسلمين ، أي أنّهم رسموا وصنعوا لأنفسهم صورة لمكانة دينية في أذهان المسلمين ، وهذه الصورة هي السلّم والطريق لوصولهم لأمارة الحكم ؛ ففي ظلّ الدعوة الجديدة يغيب المعيار القبلي والتحالفات العشائرية ،

__________________

(١). تاريخ الطبري ٥ / ٣٢٢ ، الكامل في التاريخ ٢ / ٥٢٧ ، أنساب الأشراف ٥ / ٥٠.

(٢). الغارات ٢ / ٦٥٦.

ومعيار القدرة المالية ، وينفتح باب تقنين جديد لعلاقات المجتمع وشرائعه ، ومن الممكن أن يسنّوا ـ حينئذ ـ ما يوافق تمركز القدرة لهم دون ما يرسمه الدين ، ودون ما يرسمه ويقننه الدين الإسلامي ، ودون ما كانت ترسمه شريعة الجاهلية السابقة.

فلا القدرة الشرعية الدينية المتمثّلة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه أمير المؤمنين ابن عمّه عليه‌السلام ، ولا القدرة التقليدية القبلية ، بل السماح ببروز قدرة ثالثة في ظلّ الأجواء الجديدة إلّا أنّها وليد اصطناعي من هذه المجموعة.

وروى الواقدي في المغازي حادثة العقبة كما مرّ وذكر في ذيلها قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما سئل عن قتل أولئك الرهط :

إنّي لأكره أن يقول الناس أنّ محمّد لمّا انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه. فقال : يا رسول الله! فهؤلاء ليسوا بأصحاب. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا الله؟! قال : بلى ، ولا شهادة لهم! قال : أليس يظهرون أنّي رسول الله؟! قال : بلى ، ولا شهادة لهم! قال : فقد نهيت عن قتل أولئك.

وروى عن أبي سعيد الخدري :

قال : كان أهل العقبة الّذين أرادوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة عشر رجلا ، قد سمّاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحذيفة وعمّار رحمهما‌الله.

وروى عن جابر بن عبد الله :

قال : تنازع عمّار بن ياسر ورجل من المسلمين في شيء فاستبّا ، فلمّا كاد الرجل يعلو عمّارا في السباب قال عمّار : كم كان أصحاب العقبة؟ قال : الله أعلم.

قال : أخبرني عن علمكم بهم؟! فسكت الرجل ، فقال من حضر : بيّن لصاحبك ما سألك عنه. وإنّما يريد عمّار شيئا قد خفي عليهم ، فكره الرجل أن يحدّثه ، وأقبل القوم على الرجل فقال الرجل : كنّا نتحدّث أنّهم كانوا أربعة

عشر رجلا. قال عمّار : فإنّك أن كنت منهم فهم خمسة عشر رجلا. فقال الرجل : مهلا ، أذكرك الله أن تفضحني. فقال عمّار : والله ما سمّيت أحدا ، ولكنّي أشهد أن الخمسة عشر رجلا اثنا عشر منهم حرب لله ولرسوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ* يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)» (١).

الرابعة عشرة : ما تقدّم من أنّ أهل العقبة والرهط هم ممّن يحيط بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدرجة عدّهم ـ عند الناس ـ من أصحابه في مقابل بقية الناس. وقد روى الصدوق في الخصال ، بإسناده إلى حذيفة بن اليمان أنّه قال :

الّذين نفروا برسول الله ناقته في منصرفه من تبوك أربعة عشر : أبو الشرور ، وأبو الدواهي ، وأبو المعازف ، وأبوه ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبو عبيدة ، وأبو الأعور ، والمغيرة ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وخالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وأبو موسى الأشعري ، وعبد الرحمن ابن عوف ، وهم الّذين أنزل الله عزوجل فيهم : (وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا)» (٢).

الخامسة عشرة : إنّ الرجل الذي تنازع معه عمّار فتسابّا يشهد نقل الواقدي أنّه بقدر عمّار في قرب الصحبة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو بنظر الناس ؛ إذ كيف يسأله عمّار عن عدّة أهل العقبة وعن علمه بهم مع كونه من الأباعد وأوساط الناس ، كما أنّ تعبير الآخرين أنّ الرجل صاحب عمّار ، شاهد على كونه ممّن يحيط بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن ثمّ هو على علقة قريبة من عمّار ؛ كما أن تعبير عمّار وخطابه له : «أخبرني عن علمكم بهم» دالّ على كون كلّ مجموعة أهل العقبة هم من قبيل ذلك الرجل ، أي من الدائرة القريبة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كما أنّ تحاشي عمّار عن ذكر أسماء هؤلاء ـ مضافا إلى كونه وصية النبيّ

__________________

(١). المغازي ٢ / ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥.

(٢). الخصال : ٤٩٦ حديث ٦.

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له ولحذيفة في تلك الواقعة ، ولو بحسب ما دام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيا ـ هو لمكانة أولئك الرهط في أعين الناس ، فكان من المشقّة والصعوبة بمكان كشف الحقائق والأوراق لعامّة الناس.

روى ابن عبد البرّ في الاستيعاب في ترجمة حذيفة :

من كبار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ... وكان عمر بن الخطّاب يسأله عن المنافقين وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وقتل صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصفّين وكانا قد بايعا عليّا بوصية أبيهما بذلك إيّاهما (١).

وروى المزّي في تهذيب الكمال ، عن قتادة :

قال حذيفة : «لو كنت على شاطئ نهر ، وقد مددت يدي لأغترف فحدّثتكم بكلّ ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتّى أقتل!!».

وقال عطاء بن السائب ، عن أبي البختري : «قال حذيفة : لو حدّثتكم بحديث لكذّبني ثلاثة أثلاثكم ـ أي كلّكم ـ

قال : ففطن له شاب فقال : من يصدّقك إذا كذّبك ثلاثة أثلاثنا؟!

فقال : إنّ أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر.

قال : فقيل له : ما حملك على ذلك؟ فقال : إنّه من اعترف بالشر وقع في الخير».

وروى عن النزّال بن سبر : «كنّا مع حذيفة في البيت فقال له عثمان : يا أبا عبد الله! ما هذا الذي يبلغني عنك. قال : ما قلته. فقال عثمان : أنت أصدقهم وأبرّهم. فلمّا خرج قلت : يا أبا عبد الله! ألم تقل ما قلته؟! قال : بلى ، ولكنّي أشتري ديني ببعضه مخافة أن يذهب كلّه».

__________________

(١). الاستيعاب ـ بذيل الإصابة ـ ١ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

وروى عن بلال بن يحيى : «بلغني أنّ حذيفة كان يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا : فأنت؟! قال : وأنا .. والله إنّي لأدخل على أحدهم ، وليس من أحد إلّا وفيه محاسن ومساوئ ، فأذكر من محاسنه وأعرض عن ما سوى ذلك ، وربّما دعاني أحدهم إلى الغذاء فأقول : إنّي صائم ولست بصائم» (١).

السادسة عشر : إنّ أسرار المنافقين ـ وعمدتها أسماء مجموعة أهل العقبة ـ لا يحتمل غالب الناس وعامّة المسلمين كشفها والإعلان عنها ، كما صرّح بذلك حذيفة ، بل لقتلوه كما قال ، كما إنّ حذيفة يصرّح بانسياق وذهاب كثير من الصحابة وراء الدنيا وتكالبهم عليها ، ونكث العهود التي أخذها الله ورسوله عليهم.

السابعة عشرة : إنّه كانت بين حذيفة وعثمان منافرة ومراقبة ومواجهة بسبب ما يعرفه حذيفة من أسماء أهل العقبة ، وكان منها ما يمسّ عثمان وأمثاله من جماعته من الصحابة.

قول ابن حزم في المحلّى :

ومن طريق مسلم (٢) : حدّثنا زهير بن حرب ، حدّثنا أحمد الكوفي ، حدّثنا الوليد بن جميع ، حدّثنا أبو الطفيل ، قال : «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة ما يكون بين الناس ، فقال : انشدك الله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم : أخبره إذ سألك. قال ـ يعني حذيفة ـ كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت فيهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة ؛ قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم ولا علمنا بما أراد القوم».

__________________

(١). تهذيب الكمال ٢ / ٧٥ ـ ٧٧.

(٢). صحيح مسلم ٤ / ٢١٤٤ ح ١١.

إلى أن قال ابن حزم : «وأحاديث موقوفة على حذيفة ، فيها : أنّه كان يدري المنافقين ، وأنّ عمر سأله : أهو منهم؟ قال : لا ، ولا أخبر أحدا بعدك بمثل هذا ، وأنّ عمر كان ينظر إليه فإذا حضر حذيفة جنازة حضرها عمر وإن لم يحضرها حذيفة لم يحضرها عمر ، وفي بعضها : منهم شيخ لو ذاق الماء ما وجد له طعما ؛ كلّها غير مسندة. وعن حذيفة ، قال : مات رجل من المنافقين فلم أذهب إلى الجنازة ، فقال : هو منهم ، فقال له عمر : أنا منهم؟ قال : لا».

إلى أن قال : «وعن زيد بن وهب ، قال : كنّا عند حذيفة ـ وهو من طريق البخاري (١) ـ فقال حذيفة : ما بقي من أصحاب هذه الآية إلّا ثلاثة ، ـ يعني قوله تعالى : (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) إلى قوله : (يَنْتَهُونَ) (٢) ـ قال حذيفة : ولا بقي من المنافقين إلّا أربعة. فقال له إعرابي : إنّكم أصحاب محمّد تخبروننا بما لا ندري ، فما هؤلاء الّذين ينقرون بيوتنا ويسرقون أعلافنا؟ قال : أولئك الفسّاق ، أجل لم يبق منهم إلّا أربعة ، شيخ كبير لو شرب الماء وجد له بردا».

ثمّ نقل أحاديث بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يقتل أصحابه : «لا يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه» (٣).

وقال : «إنّه لا خلاف بين أحد من الأمّة في أنّه لا يحلّ لمسلم أن يسمّي كافرا معلنا بأنّه صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أنّه من أصحاب النبيّ عليه‌السلام ، وهو عليه‌السلام قد أثنى على أصحابه ، فصحّ أنّهم أظهروا الإسلام فحرّمت بذلك دماؤهم في ظاهر الأمر ، وباطنهم إلى الله تعالى في صدق أو كذب ، فإن كانوا صادقين في توبتهم فهم أصحابه حقّا ، عند الناس ظاهرهم

__________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ٨٢ ؛ وفيه : «لو شرب الماء البارد لما وجد برده».

(٢). التوبة / ١٢.

(٣). المحلّى ١١ / ٢٢١ ـ ٢٢٢.

وعند الله تعالى باطنهم وظاهرهم ، فهم الّذين أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم : لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهبا ما بلغ نصيف مدّ أحدهم. وإن كانوا كاذبين فهم في الظاهر مسلمون وعند الله تعالى كفّار» (١).

وقال : «وأمّا حديث حذيفة فساقط ؛ لأنّه من طريق الوليد بن جميع ، وهو هالك ، ولا نراه يعلم من وضع الحديث ؛ فإنّه قد روى أخبارا فيها أنّ أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنهم أرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلم وإلقاءه من العقبة في تبوك وهذا هو الكذب الموضوع الذي يطعن الله تعالى واضعه ، فسقط التعلّق به ، والحمد لله ربّ العالمين» (٢).

إلى أن قال : «وأمّا الموقوفة على حذيفة فلا تصحّ ، ولو صحّت لكانت بلا شكّ على ما بيّنا من أنّهم صحّ نفاقهم وعاذوا بالتوبة ولم يقطع حذيفة ولا غيره على باطن أمرهم فتورّع عن الصلاة عليهم. وفي بعضها : أنّ عمر سأله : أنا منهم؟ فقال له : لا ، ولا أخبر أحدا غيرك بعدك. وهذا باطل ، كما ترى ؛ لأنّ من الكذب المحض أن يكون عمر يشكّ في معتقد نفسه حتّى لا يدري أمنافق هو أم لا؟ وكذلك أيضا لم يختلف اثنان من أهل الإسلام في أنّ جميع المهاجرين قبل فتح مكّة لم يكن فيهم منافق ، إنّما كان النفاق في قوم من الأوس والخزرج فقط ، فظهر بطلان هذا الخبر» (٣).

ثمّ روى عن البخاري (٤) : «نا آدم بن أبي إياس ، نا شعبة ، عن واصل الأحدب ، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة ، عن حذيفة بن اليمان ، قال : إنّ المنافقين اليوم

__________________

(١). المحلّى ١١ / ٢٢٣.

(٢). المحلّى ١١ / ٢٢٤.

(٣). المحلّى ١١ / ٢٢٥.

(٤). صحيح البخاري ٩ / ٧٢ ؛ وفيه : «يومئذ» بدل : «حينئذ».

شرّ منهم على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانوا حينئذ يسرّون واليوم يجهرون» (١).

أقول : ذكر في تهذيب الكمال في ترجمة الوليد بن جميع :

الوليد بن عبد الله بن جميع الزهري الكوفي ، والد ثابت بن عبد الله بن جميع ، وقد ينسب إلى جدّه أيضا. ثمّ نقل عن أحمد بن حنبل وأبي داود قولهما فيه : لا بأس. وعن يحيى بن معين : ثقة ـ وزاد مصحّح الكتاب حكاية الدارمي عن يحيى بن معين ذلك عن ابن محرز ، وزاد : مأمون مرضي ـ وكذلك عن العجليّ. وقال أبو زرعة : لا بأس به. وقال أبو حاتم : صالح الحديث. وقال عمرو بن علي : كان يحيى بن سعيد لا يحدّثنا عن الوليد بن جميع فلمّا كان قبل موته بقليل حدّثنا عنه. وذكره ابن حبّان في كتاب الثقات ، روى له البخاري في الأدب ، والباقون سوى ابن ماجة (٢).

وذكر مثل ذلك في التهذيب ، وقال :

وذكره ـ اي ابن حبّان ـ في الضعفاء ، وقال : ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات ، فلمّا فحش ذلك منه بطل الاحتجاج به. وقال ابن سعد : كان ثقة ، له أحاديث. وقال البزار : احتملوا حديثه ، وكان فيه تشيّع. وقال العقيلي : في حديثه اضطراب. وقال الحاكم : لو لم يخرج له مسلم لكان أولى (٣).

فترى أنّهم مسلّمون بوثاقة الوليد بن جميع إلّا أنّ سبب الطعن بوثاقته هو روايته عن أبي الطفيل ، عن حذيفة روايات أصحاب عقبة تبوك. وقد ذكر ابن جرير الطبري في المسترشد بعض تلك الروايات ، قال :

وروى عبيد الله بن موسى ، عن الوليد بن جميع ، عن أبي الطفيل ، عن حذيفة

__________________

(١). المحلّى ١١ / ٢٢٥.

(٢). تهذيب الكمال ٧ / ٤٧٤ رقم ٧٣٠٨.

(٣). تهذيب التهذيب ٩ / ١٥٤.

أو عمّار ، قال : «تجسّسوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة : ...» ، وذكر جماعة من الصحابة. وروى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ بعد فشل أصحاب العقبة في تنفير راحلته ومطالبة بعض من كان معه بقتل تلك المجموعة ـ «إنّي أكره أن يقول الناس : أنّ محمّدا لمّا انقطعت الحرب بينه وبين المشركين ، وضع يده في قتل أصحابه. فقال : يا رسول الله! فإنّ هؤلاء ليسوا بأصحاب. قال : أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلّا الله؟ قال : بلى ، ولا شهادة لهم. قال : أليس يظهرون أنّي رسول الله؟ قال : بلى ، ولا شهادة لهم. قال : فقد نهيت عن قتل أولئك» (١).

وأخرج الذهبي في سير أعلام النبلاء في ترجمة حذيفة (٢) :

وكان النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلم قد أسرّ إلى حذيفة أسماء المنافقين ، وضبط عنه الفتن الكائنة في الأمّة (٣). وقد ناشده عمر : أأنا من المنافقين؟

فقال : لا ، ولا أزكّي أحدا بعدك (٤)» (٥).

وقال :

حمّاد بن سلمة : أخبرنا علي بن زيد ، عن الحسن ، عن جندب : أنّ حذيفة قال :

ما كلام أتكلّم به يردّ عنّي عشرين سوطا ، إلّا كنت متكلّما به.

خالد ، عن أبي قلابة ، عن حذيفة ، قال : إنّي لأشتري ديني بعضه ببعض ؛ مخافة أن يذهب كلّه (٦).

أبو نعيم : حدّثنا سعد بن أوس ، عن بلال بن يحيى ، قال : بلغني أنّ حذيفة كان

__________________

(١). المسترشد ـ لمحمّد بن جرير الطبري ـ ٥٩٣.

(٢). سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٦١ رقم ٧٦.

(٣). انظر : البخاري ١٣ / ٤٠ ـ ٤١ في الفتن ، ومسلم : ١٤٤ ، والترمذي : ٢٢٥٩.

(٤). نسبه في الكنز ١٣ / ٣٤٤ إلى رستة.

(٥). سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٦٤.

(٦). حلية الأولياء ١ / ٢٧٩.

يقول : ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلّا قد اشترى بعض دينه ببعض. قالوا : وأنت؟ قال : وأنا والله ، إنّي لأدخل على أحدهم ـ وليس أحد إلّا فيه محاسن ومساوئ ـ فأذكر من محاسنه وأعرض عمّا سوى ذلك (١).

وروى الديلمي في إرشاد القلوب حادثة أخرى مشابهة ـ هي المحاولة الثانية لأصحاب عقبة تبوك ـ وقعت عقب بيعة غدير خمّ وتنصيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليّ عليه‌السلام خليفة من بعده ؛ إذ اجتمعوا.

ودار الكلام فيما بينهم وأعادوا الخطاب ، وأجالوا الرأي فاتّفقوا على أن ينفروا بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناقته على عقبة الهريش ، وقد كانوا صنعوا مثل ذلك في غزوة تبوك فصرف الله الشرّ عن نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فاجتمعوا في أمر رسول الله من القتل والاغتيال واستقاء السمّ على غير وجه ، وقد اجتمع أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الطلقاء من قريش والمنافقين من الأنصار ، ومن كان في قلبه الارتداد من العرب في المدينة ، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته ، وكانوا أربعة عشر رجلا ، وكان من عزم رسول الله أن يقيم عليّا عليه‌السلام وينصبه للناس بالمدينة إذا قدم ، فسار رسول الله ...» ، وذكر واقعة غدير خمّ.

وقال : «قال حذيفة : ودعاني رسول الله ودعا عمّار بن ياسر وأمره أن يسوقها وأنا أقودها حتّى إذا صرنا في رأس العقبة ثار القوم من ورائنا ودحرجوا الدباب بين قوائم الناقة فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله ...» ، ثمّ ذكر تفاصيل الحدث قريب ممّا جرى في عقبة تبوك.

«قال حذيفة : فقلت ـ أي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومن هؤلاء المنافقون يا رسول الله! أمن المهاجرين أم الأنصار؟ فسمّاهم لي رجلا رجلا حتّى فرغ منهم ، وقد كان فيهم أناس أكره أن يكونوا منهم فأمسكت عن ذلك. فقال رسول

__________________

(١). سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٦٨.

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا حذيفة! كأنّك شاكّ في بعض من سمّيت لك؟! ارفع رأسك إليهم. فرفعت طرفي إلى القوم وهم وقوف على الثنية ، فبرقت برقة فأضاءت جميع ما حولنا وثبتت البرقة حتّى خلتها شمسا طالعة ، فنظرت والله إلى القوم فعرفتهم رجلا رجلا ، وإذا هم كما قال رسول الله ، وعدد القوم أربعة عشر رجلا ، تسعة من قريش وخمسة من سائر الناس ...»(١)

وقد ذكرنا في ما سبق ما رواه مسلم في صحيحه عن قيس بن عبّاد قال : «قلت لعمّار : أرأيتم صنيعكم هذا فيما كان من أمر عليّ ، أرأيا رأيتموه أو شيئا عهده إليكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : ما عهد إلينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافّة ، ولكن حذيفة أخبرني عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : في أصحابي اثنا عشر منافقا ، منهم ثمانية لا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط» (٢).

ومن الواضح أنّ حكاية عمّار عن حذيفة حديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الاثني عشر منافقا ـ عدد أصحاب العقبة الّذين نفروا دابّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ذلك الوقت ، تعريض بأنّ بعض الصحابة كانوا من جملة الاثني عشر ، لا سيّما وأنّ عمّار وحذيفة هما اللّذان كانا مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينها ، وأنّ تعبيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان : «في أصحابي» ، الذي يعطي اختصاصهم القريب بالصحبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وروى مسلم في صحيحه أيضا في كتاب صفات المنافقين روايات أخرى فيهم نقلناها سابقا ، فلتلحظ. وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن زيد بن وهب الجهني ، يحدّث عن حذيفة :

قال : مرّ بي عمر بن الخطّاب وأنا جالس في المسجد فقال : يا حذيفة! إنّ فلانا قد مات فاشهده. قال : ثمّ مضى حتّى إذا كاد أن يخرج من المسجد

__________________

(١). راجع تفاصيل الحادثة والأسماء في : إرشاد القلوب : ٣٣٠ ـ ٣٣٢.

(٢). صحيح مسلم ٤ / ٢١٤٣ ح ٩ ، كتاب صفات المنافقين.

التفت إليّ فرآني وأنا جالس فعرف ، فرجع إليّ فقال : يا حذيفة! أنشدك الله أمن القوم أنا؟ قال : قلت : اللهمّ لا ، ولن أبرّئ أحدا بعدك ، قال : فرأيت عيني عمر جاءتا»(١).

وروى هذه الرواية ابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب بسنده (٢). وجواب حذيفة في هذه الرواية يتضمّن التعريض الشديد ، كما هو طافح من ألفاظه ؛ إذ ما معنى : «ولن أبرّئ أحدا بعدك»؟! فإنّ أيّ فرد من الناس إذا لم يكن من المنافقة أصحاب العقبة فلا معنى لامتناع حذيفة من الجواب ، والتعبير ب : «لن أبرّئ أحدا بعدك» يعطي : لن أبرئ أحدا من الجماعة الخاصّة التي هي أصحاب العقبة ؛ فالتعبير «أبرّئ» أي : أثبت له البراءة مع كونه متورّطا في عملية الاغتيال المدبّر في العقبة ؛ ولذلك قال بعد ذلك : «فرأيت عيني عمر جاءتا» أي : وقع في دهشة وهلع شديد ، وذلك لكون جواب حذيفة صريح بالتخلّص الذكي ؛ وهو لا يعني تبرئة صافية عن شوب التعريض بالنفي.

مضافا إلى أنّ الرجل الميت الذي كنّى عنه حذيفة ب : «فلان» لا بدّ أن يكون من رجالات الدولة البارزين ؛ حتّى سبّب حصول التساؤل لدى عمر عن حاله عند حذيفة ، وعن مدى معرفة حذيفة بجميع أصحاب العقبة ، وإلّا فكيف لا يعرف ـ و (الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٣) ـ أنّه كان منهم أم لم يكن؟!! فلا بدّ وأن يكون مصبّ السؤال هو عن مدى معرفة حذيفة بتمام المجموعة.

ومثل هذا التساؤل قد يوحي ويقضي بتورّط السائل ؛ لأنّ البريء لا يحصل لديه الشكّ في كونه من مجموعة العقبة. والسبب في الشكّ بمعرفة حذيفة بالمجموعة هو أنّ وقت تنفيذ العملية في العقبة كان ليلا مظلما ، وكانت الجماعة ملثّمة ، وعند ما تصدّى لهم حذيفة وعمّار ورجعوا واختفوا في الناس ظنّوا وحسبوا أنّ حذيفة وعمّار لم يعرفوهم ،

__________________

(١). تاريخ مدينة دمشق ١٢ / ٢٧٦.

(٢). بغية الطلب في تاريخ حلب ٥ / ٢١٦٧.

(٣). القيامة / ١٤.

لا سيّما وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ الرحمة لم يفصح ولم يشهّر بهم بأمر من الله تعالى ، كما جاء في كتب حديث الفريقين وكتب السير ، قال تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) (١) ، وقال تعالى : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٢).

وروى ابن عساكر عن النزّال بن سبرة الهلالي :

قال : وقفنا من عليّ ابن أبي طالب ذات يوم طيب نفس ومراح فقلنا : يا أمير المؤمنين! حدّثنا عن أصحابك ـ إلى أن قال : ـ فحدّثنا عن حذيفة ، قال : فذاك امرؤ علم المعضلات والمفصّلات ، وعلم أسماء المنافقين ، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالما (٣).

وقد تكرّر تسمية علم أسماء المنافقين بعلم المعضلات في الأحاديث الواردة في حذيفة ، وذلك إشارة إلى خطورة الأسماء المندرجة في تلك القائمة بحيث أنّ ذلك معضل يصعب إفشاؤه علنا أمام عامّة الناس.

وروى في بغية الطلب في تاريخ حلب بسنده عن النمري :

وكان عمر بن الخطّاب يسأله عن المنافقين ، وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول الله ، وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر (٤).

وقال :

وقتل صفوان وسعيد ابنا حذيفة بصفّين ، وكانا قد بايعا عليّا بوصية أبيهما

__________________

(١). الإسراء / ٦٠.

(٢). العنكبوت / ٢ ـ ٣.

(٣). تاريخ مدينة دمشق ١٢ / ٢٧٥.

(٤). بغية الطلب في تاريخ حلب ٥ / ٢١٥٩.

بذلك إياهما (١).

وروى الذهبي بسنده ، وغيره ، عن بلال بن يحيى :

إنّ حذيفة أتي وهو ثقيل بالموت فقيل له : قتل عثمان فما تأمرنا؟ فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أبو اليقظان على الفطرة ، ثلاث مرّات ، لن يدعها حتّى يموت أو يلبسه الهرم (٢).

والذيل لم يسلم من تصرّف بعض الرواة. وروي عن حذيفة بأسانيد مختلفة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر» (٣).

هذا ، والمتصفّح لترجمة حذيفة بن اليمان في كتب السير والتراجم ، ولرواياته في كتب الحديث يستشرف أنّ ولاءه وهواه مع عليّ عليه‌السلام وأصحابه كعمّار بن ياسر ، وقد آخى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينه وبين عمّار ، وأنّه كان يتحفّظ في تعامله مع أصحاب السقيفة ، وقد مرّ لوم عثمان بن عفّان له على كلام تحدّث به فلمّا أحضره أنكر حذيفة ذلك ، كعادته في التحفّظ ، كما مرّ ذلك في كلامه المروي عنه.

وروى البخاري في التاريخ الكبير عن قيس بن رافع ، أنّه :

سمع حذيفة قال : كيف لا يضيع أمر أمّة محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إذا ملك أمرهم من لا يزن عند الله جناح بعوضة (٤).

وروى ابن عدي بسنده عن حذيفة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

«يكون لأصحابي بعدي زلّة فيغفر الله لهم بسابقتهم معي ، يعمل قوم بها بعدهم يكبّهم الله

__________________

(١). بغية الطلب في تاريخ حلب ٥ / ٢١٦٠.

(٢). سير أعلام النبلاء ١ / ٤١٧. وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٣ / ١ رقم ١٨٨ ، وذكره الهيثمي في المجمع ٩ / ٢٥٩ ؛ وقال : ورواه الطبراني والبزّار باختصار ، ورجالهما ثقات.

(٣). الكامل ـ لابن عدي ـ ٤ / ١٤٨ ، الضعفاء الكبير ـ للعقيلي ـ ٣ / ١١١ ، تاريخ مدينة دمشق ٤٢ / ٣٧٢.

(٤). التاريخ الكبير ٧ / ١٤٩.

في النار على مناخرهم» (١).

والحديث قد اشتمل على معنى متدافع ، وهو إنّ الزلّة تغفر لجماعة وتدخل النار جماعة أخرى ، والظاهر أنّ الجملة المتوسّطة ـ وهي الغفران بسبب الصحبة السابقة ـ زيادة من يد الوضع ، كما في مقولة : «المغفرة للصحابي وإن بلغ عمله الطالح ما بلغ» ، والتي تعرّضنا لزيفها في الحلقات السابقة بدلالة آيات «الأنفال» في واقعة بدر وآيات «آل عمران» في واقعة أحد. والحديث وإن اشتمل على هذه الزيادة ، وعلى هذا المعنى المتدافع ، إلّا أنّ أصله متطابق مع الأحاديث المستفيضة الواردة وجملة من الآيات الدالّة على الإحداث والتبديل.

ولنعم ما قال الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام :

إنّ العرب كرهت أمر محمّد ٩ ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيامه حتّى قذفت زوجته ، ونفرت به ناقته مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حيّا على صرف الأمر عن بيته بعد موته ، ولو لا أنّ قريشا جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة ، وسلّما إلى العزّ والإمرة لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا (٢).

__________________

(١). الكامل ـ لابن عدي ـ ٤ / ١٤٨.

(٢). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢٠ / ٢٩٨.

* الثانية :

المظاهرة بالمكيدة

أمّا الواقعة الخطيرة الثانية التي وقعت من بعض خواصّ الصحابة ، فهي المظاهرة والمؤازرة على الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي أشار إليها القرآن الكريم في سورة التحريم بالخصوص ، وكذلك في بعض آيات من سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآية من سورة البقرة ..

قال تعالى في سورة التحريم : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ* عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً).

إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ* ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (١).

__________________

(١). التحريم / ٣ ـ ١٠.

والقراءة المبتدأة للسورة ، والتدبّر للوهلة الأولى في سياق آياتها وأسلوب خطابها يوقف الناظر على أنّ هناك حديثا أسرّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بعض أزواجه فقامت بإفشاء سرّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زوجة أخرى ، أو بالإضافة إلى جماعة أخرى. واستعقب هذا الحديث مأربا لزوجتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقيام بتدبير مناهض له ، ومكيدة واحتيالا في غاية الخطورة على وجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممّا استدعى نفيرا إلهيا عامّا ، وتعبئة شاملة لجنود الرحمن ، وأوجب تحذيرا وتهديدا معلنا من قبله تعالى لأصحاب المؤامرة.

ولا يعقل في الحكمة العقلية ، فضلا عن الحكمة الإلهية ، أن يكون كلّ هذا الاستعراض للقوّة الإلهية في قبال خلاف في الأمور الزوجية حدث بينه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين زوجتيه ، بل لا محالة أنّ الحدث وإن ابتدأ بذلك إلّا أنّه انتهى إلى المواطأة الدهياء على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن المنطقي اتّصال هذه المواطأة بأصحاب مصلحة في إجرائها ، وأنّهم على مكمن إعداد وتهيّئ لتنفيذها ، فهي على اتّصال محتمل بقوّة مع الحادثة الخطيرة الأولى الواقعة في عقبة تبوك. وقد توصّلنا ثمّة إلى تجميع العديد من خيوط المجموعة التي قامت بارتكاب محاولة الاغتيال ، والملفت للنظر أنّ تلك المجموعة على اتّصال وثيق بزوجتي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللتين نزلت السورة فيهما ، وكشفت هول ما عزمتا عليه تواطئا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذا هو المتراءى البدوي من ألفاظ السورة.

ولنستعرض أقوال المفسّرين ، والروايات الواردة من الفريقين في ذيل السورة ، ثمّ نرجع إلى متن السورة ونمعن النظر في معانيها مرّة أخرى ؛ لنتعرّف على ملابسات الحدث بصورة أوضح وأشمل.

قال في الدرّ المنثور :

أخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عائشة : إنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا ، فتواصيت أنا وحفصة أن أيّتنا دخل

عليها النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فلتقل : إنّي أجد منك ريح المغافير ، أكلت مغافير؟ فدخل على إحداهما فقالت ذلك له ، فقال : لا ، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود. فنزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) إلى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) لعائشة وحفصة (١).

وقال أيضا :

وأخرج النسائي ، والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، عن أنس : إنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كانت له أمة يطؤها ، فلم تزل به عائشة وحفصة حتّى جعلها على نفسه حراما ، فانزل الله هذه الآية ...

وأخرج الترمذي ، والطبراني ، بسند حسن صحيح ، عن ابن عبّاس ، قال : نزلت : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) .. الآية ، في سريّته. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ابن عبّاس (رض) ، قال : قلت لعمر بن الخطّاب (رض) : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟! قال : عائشة وحفصة. وكان بدء الحديث في شأن مارية أمّ إبراهيم القبطية ، أصابها النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في بيت حفصة في يومها ، فوجدت حفصة ، فقالت : يا نبيّ الله! لقد جئت شيئا ما جئته إلى أحد من أزواجك ، في يومي وفي داري وعلى فراشي؟ فقال : ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها. قالت : بلى. فحرّمها ، وقال : لا تذكري ذلك لأحد. فذكرته لعائشة (رض) ، فأظهره الله عليه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) ، الآيات كلّها ، فبلغنا أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كفّر عن يمينه وأصاب جاريته (٢).

وأخرج ابن سعد ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس (رض) ، قال : «كانت عائشة وحفصة متحابّتين ، فذهبت حفصة إلى بيت أبيها تحدّث عنده ، فأرسل النبيّ

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٣٩ ، سورة التحريم.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٣٩.

صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى جاريته ...» ثمّ ذكر بقية القصّة ، وفيها : «فأسرّت إليها ـ أي حفصة لعائشة ـ أن أبشري إنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قد حرّم عليه فتاته ، فلمّا أخبرت بسرّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أظهر الله النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليه ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا ...) ...» (١).

وأخرج ابن مردويه ، عن أنس : أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أنزل أمّ إبراهيم منزل أبي أيوب ، قالت : عائشة (رض) : فدخل النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بيتها يوما فوجد خلوة ، فأصابها فحملت بإبراهيم. قالت عائشة : فلمّا استبان حملها فزعت من ذلك ، فمكث رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حتّى ولدت ، فلم يكن لأمّه لبن فاشترى له ضائنة يغذّي منها الصبي ، فصلح عليه جسمه وحسن لحمه وصفا لونه ، فجاء به يوما يحمله على عنقه فقال : يا عائشة! كيف تري الشبه؟!

فقلت : أنا غيرى ما أدري شبها. فقال : ولا باللحم؟! فقلت : لعمري لمن تغذّى بألبان الضان ليحسن لحمه. قال : فجزعت عائشة (رض) وحفصة من ذلك ، فعاتبته حفصة ، فحرّمها ، وأسرّ إليها سرّا فأفشته إلى عائشة (رض) ، فنزلت آية التحريم ، فاعتق رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم رقبة» (٢).

ويتبيّن من هذه الرواية الأخيرة التي أوردها السيوطي أنّ السرّ الذي أفشته حفصة لعائشة ليس هو تحريم مارية على نفسه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو أمر آخر ، كما يتبيّن من الروايات السابقة التي أوردها أنّ هناك تحالفا شديدا بين حفصة وعائشة ، وأنّهما كانتا تغاران بشدّة من مارية ومن ولادتها إبراهيم ابنا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّهما كانتا تمانعان من الشبه له بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه بصمات لحديث الإفك.

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٣٩.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٠.

والعمدة : أنّ الرواية الأخيرة دالّة على أنّ السرّ وراء التحريم الذي تحلّل منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أمر ما ، وأنّ تسميته في الآية والرواية ب «السرّ» يقتضي خطورة المعلومة التي ذكرها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحفصة ، وأنّ هذه المعلومة لا ريب في ارتباطها الوثيق مع التظاهر الخفي المدبّر من ضدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ إنّ السيوطي روى روايات عديدة عن ابن مردويه ، وابن عساكر ، والطبراني ، وابن المنذر ، وعبد الرزّاق ، والبخاري ، وغيرهم ، عن ابن عبّاس ، وعائشة ، وغيرهما :

أنّ السرّ الذي أسرّه النبيّ إلى حفصة هو في أمر الخلافة من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ الذي سيلي الأمر بعده أبويهما ، إلّا أنّ ألفاظ الروايات مختلفة ، ففي بعضها : «قال : أسرّ إلى عائشة في أمر الخلافة بعده ، فحدّثت به حفصة». وفي بعضها : «إنّ إمارة أبي بكر وعمر لفي الكتاب : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) ، قال لحفصة : أبوك وأبو عائشة واليان الناس بعدي ، فإيّاك أن تخبري أحدا». وفي بعضها : «أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لحفصة : لا تخبري عائشة حتّى أبشّرك بشارة ، فإنّ أباك يلي الأمر بعد أبي بكر إذا أنا متّ. فذهبت حفصة فأخبرت عائشة ، فقالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا)؟ قال : (نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) (١).

والغريب في صياغات هذه الأحاديث أنّها تعبّر عن هذا السرّ بأنّه : «بشارة» ، أو أنّه: «عهد من الباري تعالى» ، وأنّه : «من فضائل الصديق والفاروق» ؛ فإذا كان جوّ المحيط ومناخ هذه المعلومة أنّها «بشارة» و «عهد إلهي» و «فضيلة عظمى» فلم تتظاهرا وتتآزرا في تدبير أمر خفيّ خطير على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى درجة تستدعي النفير الإلهي ، والتعبئة الشديدة المحال ، والإرباك الأمني؟!! من البيّن الشاهر أنّ المناخ الذي تصوّره السورة هو جوّ ملبّد بظلمة المجابهة ، والمواجهة ، والاستعداد ، وإثم قلوبهما واستدعائه التوبة إلى الله

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤١.

تعالى.

وقد روى في الدرّ المنثور عن مجاهد ، قال :

كنّا نرى أنّ (صَغَتْ قُلُوبُكُما) شيء هيّن ، حتّى سمعناه بقراءة عبد الله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). وفي التمثيل والتعريض في ذيل السورة بامرأتي نوح ولوط ، وأنّهما مثلا للّذين كفروا ، قال الرازي في تفسيره : «وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين ، وهما : حفصة وعائشة ، لما فرط منهما ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه ؛ لما في التمثيل من ذكر الكفر» (١).

وإنّ الخيانة التي ارتكبتها امرأتي نوح ولوط كانت في الدين ، وعداوتهما للنبيّين العظيمين كانت في رسالتيهما الإلهيّتين ، فكيف يكون كلّ هذا المسار الذي ترسمه الآية هو عن بشارة خلافة والدي عائشة وحفصة؟! ، بل لو كان الحال حال بشارة لاقتضى طبع الحال تعاونهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لما جبلت عليه الطباع من الميل إلى نفع الرحم ، ولو كان الحال حال عهد إلهي بخلافة أبي بكر وعمر لاقتضى انشداد الابنتين إلى ذلك ، مديحا منه تعالى وعطفا ربّانيا على ما قد أتيتاه ؛ لأنّه ذوبان في الإرادة الإلهية ومسارعة في الغاية الدينية.

وكيف يكون ما فعلتاه مضادّة لدين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حذو مضادّة امرأة نوح وامرأة لوط ، لو كان خبر خلافة أبي بكر وعمر عهد معهود من رضا الربّ المعبود؟! ثمّ كيف يتلائم كون خلافتهما عهدا في الكتاب ويصرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إخفائه وعدم تبليغه للناس ، ويكون إفشاؤه من ابنتيهما مضادّة لله ولرسوله وخيانة في الدين؟!

ولم لا ينزل الكتاب بذلك ، كما نزلت في عليّ عليه‌السلام عشرات الآيات ، كقوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ*

__________________

(١). التفسير الكبير ٣٠ / ٤٩.

وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (١). وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (٢) ، الذي نزل في غدير خمّ.

نعم ، كون الخبر وصول أبويهما إلى سدّة الحكم هو ظاهر اتّفاق روايات الفريقين ـ كما ستأتي بقيّتها ـ لكن هل أنّه بشارة وعهد أم أنّه نذارة وتغلّب ونزاع مع الحقّ وأهله؟! فهذا ما اختلفت فيه الروايات ، وسياق السورة صدرا وذيلا يتنافى مع الأوّل ويتوافق مع الثاني ؛ وهو ما سيتبين من مواصلة البحث في بقية فقرات السورة.

روى في الدرّ المنثور ، عن الطبراني في الأوسط ، وابن مردويه :

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) : يعنى عائشة ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) : أي بالقرآن ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) : عرّف حفصة ما أظهر من أمر مارية ، (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) : عمّا أخبرت به من أمر أبي بكر وعمر ، فلم يبده ، (فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ) إلى قوله : (الْخَبِيرُ) ، ثمّ أقبل عليهما يعاتبهما فقال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ). الحديث (٣).

وفي هذا الحديث إلفاتة حسّاسة ، هي : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينبئ حفصة أو عائشة عمّا فعلتاه من إفشاء الخبر المرتبط بأمر أبي بكر وعمر وما اتّصل من أمور أخرى بذلك الأمر ، ممّا عدّه القرآن الكريم تظاهر وتواطؤ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودين الله تعالى ، وممّا له صلة أمنية خطيرة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ الذي استدعى هذا النفير والتعبئة الإلهية الشاملة.

فهذه قصاصة وثائقية بالغة المؤدّى تقتضي أنّ التدبير الخفي الذي قامتا به هو ممّا يتّصل بأمر أبي بكر وعمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والغريب ما في جملة من تفاسير أهل سنّة الجماعة ورواياتهم من تصوير هذه التظاهرة التي قامتا بها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّها شأن دارج في الحياة الزوجية ، واستدعى كلّ هذا الصخب والاهتمام منه تعالى والإنذار الشديد

__________________

(١). المائدة / ٥٥ ـ ٥٦.

(٢). المائدة / ٦٧.

(٣). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٠ ـ ٢٤١.

اللحن.

فقد روى السيوطي عن عبد بن حميد ، ومسلم ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس :

قال : حدّثني عمر بن الخطّاب ، قال : ... فقلت : يا رسول الله! ما يشقّ عليك من شأن النساء ، فإن كنت طلّقتهنّ فإنّ الله تعالى معك وملائكته وجبريل وميكائيل ، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك ، وقلّما تكلّمت وأحمد الله بكلام إلّا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقوله. ونزلت هذه الآية : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) ، وكانت عائشة (رض) بنت أبي بكر وحفصة تظاهران على سائر نساء النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. الحديث (١).

وآثار الوضع لائحة بيّنة على هذا الحديث ؛ إذ يتضمّن المتناقضات ، فإنّ المنازعة الزوجية الاعتيادية إذا استلزمت هذه النصرة المهيبة فتكون أشبه بالهزل البارد منها بالحدث الجدّي الخطير ، وحاشاه تعالى عن الباطل ، كما تضمّن أنّ تظاهرهما هو على بقية أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو مخالف لصريح القرآن الكريم من أنّ المجابهة في تدبيرهما الخفي كانت قبال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تضمّن أنّ «صالح المؤمنين» هو : أبو بكر وعمر ، فكيف يكونا في طرف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحادثة الواقعة ، والحال أنّ ابنتيهما بشّرتاهما بأمرهما بعد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه عهد معهود مرضي من ربّ العزّة؟!!

وكيف يكونا في الطرف المقابل لابنتيهما ولم تقوما بإفشاء السرّ إلّا بما هو بشارة لهما؟! وبطبيعة الحال إنّ مثل هذا السرّ لم تكن حفصة وعائشة لتخبر إحداهما الأخرى به دون أن تطلعا أبويهما عليه ؛ كما هو مقتضى جبلّة الطبع ، فإنّهما إذا كانتا متحابّتين فإنّ تحابّهما مع أبويهما أشدّ ، وإذا كان هذا الخبر بشارة لهما فإنّ استبشارهما سيكون

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٢ ـ ٢٤٣.

بسبب النفع العائد لوالديهما ، فكيف لا تخبرانهما بذلك؟! وما الذي بنى عليه الأربعة وأطلق القرآن عليه : «تظاهر منهما» على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!

والأظرف ذكر هذه النبوءة لعمر : «قلّما تكلّمت وأحمد الله بكلام إلّا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقوله ...» .. وإن كانت الموارد التي نزل الوحي فيها مطابقا لكلامه جميعها تحتاج إلى بحث مبسوط ؛ كي يتبيّن النسيج المحبوك لهذه الموضوعات. وروى ابن كثير في تفسيره ، عن مجاهد : إنّ «صالح المؤمنين» هو الإمام عليّ عليه‌السلام ، ورواه أيضا بطريق آخر (١). وروى في الدرّ المنثور روايات متعدّدة في «صالح المؤمنين» : فتارة أنّه : أبو بكر وعمر ، وأخرى : عمر ، وثالثة : قال :

وأخرج ابن عساكر عن مقاتل بن سليمان (رض) في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : أبو بكر وعمر وعليّ (رض) ، ورابعة : أنّه : الأنبياء ، وخامسة : قال : «وأخرج ابن أبي حاتم ... قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : هو عليّ بن أبي طالب. وأخرج ابن مردويه عن أسماء بنت عميس : سمعت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يقول : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : عليّ بن أبي طالب ، وأخرج ابن مردويه وابن عساكر ، عن ابن عبّاس في قوله : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) ، قال : هو عليّ بن أبي طالب (٢).

وقال القرطبي ـ بعد ما نقل الأقوال في «صالح المؤمنين» أنّه : أبو بكر أو عمر ـ :

وقيل : هو عليّ ؛ عن أسماء بنت عميس ، قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) : عليّ بن أبي طالب (٣).

وروى مثل ذلك الثعلبي في تفسيره (٤). وحكى ابن الجوزي في زاد المسير أنّه :

__________________

(١). تفسير ابن كثير ٤ / ٤١٥.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤.

(٣). الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٢.

(٤). تفسير الثعلبي ٩ / ٣٤٨.

عليّ عليه‌السلام ، حكاه الماوردي ؛ قاله الفرّاء (١).

وفي كون «صالح المؤمنين» عليّا عليه‌السلام بالغ المعنى ؛ فإنّ أبا بكر وعمر ـ كما مرّ ـ هما من الطرف الآخر في الحادثة ، لأنّهما ممّن أفشي لهما الخبر الذي نجم عنه التظاهر والتواطؤ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ففي الآية مقابلة بين تلك المجموعة المتواطئة على دين الله ونبيّه وبين معسكر الدين والتوحيد بقيادة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ «صالح المؤمنين» وليّه وحاميه بعد الله تعالى وجبرئيل ، وهي لا تخلو من دلالة على التخالف والتقابل بين الولايتين ، بين ولاية أبي بكر وعمر ـ التي كانت السرّ الذي أفشي وتسبّب منه حصول المظاهرة والمواطئة الأمنية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وبين ولاية «صالح المؤمنين» المنشعبة ولايته من ولاية الله ورسوله.

قال الزمخشري في ذيل الآية الكريمة : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) :

مثّل الله عزوجل حال الكفّار ـ في أنّهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم ، من غير إبقاء ولا محاباة ، ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر ؛ لأنّ عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبتّ الوصل وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد ، وإن كان المؤمن الذي يتّصل به الكافر نبيّا من أنبياء الله ـ بحال امرأة نوح وامرأة لوط ، لمّا نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما بحقّ ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج إغناء ما من عذاب الله ، (وَقِيلَ) لهما عند موتهما أو يوم القيامة: (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ) سائر (الدَّاخِلِينَ) الّذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ...

__________________

(١). زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ ٨ / ٥٢.

إلى أن قال : ـ وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أوّل السورة ، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بما كرهه ، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه ؛ لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه في التغليظ قوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ، وإشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين ـ أي : آسية ومريم ـ وأن لا تتّكلا على أنّهما زوجا رسول الله ؛ فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح ؛ لأنّ امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله ، وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّ أيدقّ عن تفطّن العالم ، ويزلّ عن تبصّره ...

إلى أن قال : ـ فإن قلت : ما كانت خيانتهما؟ قلت : نفاقهما وإبطانهما الكفر ، وتظاهرهما على الرسولين ؛ فامرأة نوح قالت لقومه : إنّه مجنون ، وامرأة لوط دلّت على ضيافته ، ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور ؛ لأنّه سمج في الطباع ، نقيصة عند كلّ أحد ، بخلاف الكفر ، فإنّ الكفّار لا يستسمجونه بل يستحسنونه ويسمّونه حقّا ، وعن ابن عبّاس (رض) : ما بغت امرأة نبيّ قط (١).

وقد ذكر الفخر الرازي هذا التساؤل بعينه ، وقرّر أنّ الخيانة هي : النفاق وإخفاء الكفر ، والتظاهر على الرسولين. وروى السيوطي في الدرّ ، قال :

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج (رض) في قوله : (فَخانَتاهُما) ، قال : كانتا كافرتين مخالفتين ، ولا ينبغي لامرأة نبيّ أن تفجر (٢).

ولا يخفى على الناظر في ذيل السورة مقدار شدّة اللحن من التمثيل بزوجتي

__________________

(١). الكشّاف ٤ / ٥٧١ ـ ٥٧٢.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٥.

النبيّين ، ممّا يتّحد مع الممثّل له والمعرّض به ، وكون جهة التمثيل والتعريض هي : العداوة الدينية والنفاق وإبطان الكفر ، ومن ثمّ التظاهر على الرسولين ؛ فأين يجد الباحث هذه الصفات في الحادثة الواقعة في أوّل السورة؟! هل هي في مجرّد الغيرة الزوجية؟! أم أنّها في السرّ المفشى من أمر أبي بكر وعمر بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما استعقبه من التدبير المبطن على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ، فما هي ملابسات الحادثة التي انطبقت عليها الخيانة الدينية العظمى؟!

كما لا يخفى أنّ ذيل السورة قد اشتمل أيضا على مقابلة بين معسكر النفاق والكفر المبطن ، وبين معسكر الصلاح والاصطفاء. روى السيوطي في الدرّ ـ في ذيل السورة ـ قال:

وأخرج أحمد ، والطبراني ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن عبّاس (رض) ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، مع ما قصّ الله علينا من خبرهما في القرآن ، (قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) (١) (٢).

وروى الزمخشري في الكشّاف :

وعن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلّا أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد (٣).

__________________

(١). التحريم / ١١.

(٢). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٦.

(٣). الكشّاف ٤ / ٥٧٣ ؛ وذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الكافي الشاف في تخريج أحاديث الكشّاف : أخرجه الثعلبي من طريق عمرو بن مرزوق ، عن شعبة ، عن عمرو بن مرّة ، سمع مرّة عن أبي موسى بهذا.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عمرو بن مرّة من هذا الوجه ؛ قال : حدّثنا سليمان بن أحمد ، حدّثنا ـ

وروى القرطبي في تفسيره ، قال :

وروي من طرق صحيحة أنّه عليه‌السلام قال : ... وذكر الحديث ، ثمّ ذكر طريقا آخر بألفاظ أخرى ، وثالث بغيرها (١).

وروى قتادة ، عن أنس ، عن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، قال : حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وآسية امرأة فرعون بنت مزاحم (٢).

وروى عبد الرزّاق الصنعاني بسنده عن أنس بن مالك ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله(٣). ورواه الطبري في تفسيره عن أنس أيضا ، وعن أبي موسى الأشعري (٤). وبذلك تتبلور صورة المواجهة وأطرافها بشكل أوضح نساء ورجالا. وقال القرطبي في ذيل السورة :

(فَخانَتاهُما) : قال عكرمة والضحّاك : بالكفر ، وقال سليمان بن رقية ، عن ابن عبّاس : كانت امرأة نوح تقول للناس : إنّه مجنون ، وكانت امرأة لوط تخبر بأضيافه ، وعنه : ما بغت امرأة نبيّ قط. وهذا إجماع من المفسّرين. فى ما ذكر القشيري : إنّما كانت خيانتاهما في الدين وكانتا مشركتين. وقيل : كانتا منافقتين ، وقيل : خيانتهما النميمة ؛ إذ أوحى الله إليهما شيئا أفشتاه إلى المشركين ؛ قاله الضحّاك ....

__________________

ـ يوسف القاضي ، حدّثنا عمرو بن مرزوق بهذا.

وهو في البخاري من رواية مرّة عن أبي موسى دون ذكر خديجة وفاطمة رضي الله عنهما!!!

وفي ابن حبّان والحاكم من حديث ابن عبّاس (رض) رفعه : «أفضل نساء العالمين أربع ...» ، فذكره.

(١). الجامع لأحكام القرآن ٤ / ٨٣ ، ومثله في تفسير ابن كثير ١ / ٣٧٠ ، و ٤ / ٤٢٠ ـ ٤٢١.

(٢). الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠٤.

(٣). تفسير القرآن ـ للصنعاني ـ ١ / ١٢١.

(٤). جامع البيان ٣ / ٣٥٨.

وقال : قال يحيى بن سلام : قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : مثل ضربه الله يحذّر به عائشة وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ثمّ ضرب لهما مثلا بامرأة فرعون ومريم بنت عمران ؛ ترغيبا في التمسّك بالطاعة والثبات على الدين (١).

وقال الشوكاني في قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) :

واخرج ابن جرير ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس في قوله : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) ، قال : زاغت وأثمت (٢). وأخرج البزّار والطبراني ـ قال السيوطي : بسند صحيح ـ عن ابن عبّاس ، قال : قلت لعمر بن الخطّاب : من المرأتان اللتان تظاهرتا؟ قال : عائشة وحفصة (٣).

وصغو القلب : ميله إلى الإثم ، وزيغه عن سبيل الاستقامة ، وعدوله عن الصواب إلى ما يوجب الإثم (٤). وحكى الطبرسي عن مقاتل ـ في ذيل السورة ـ أنّه قال :

يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية ، وكونا بمنزلة امرأة فرعون ومريم (٥).

وروى الطبري عن الضحّاك في تفسير قوله تعالى : (فَخانَتاهُما).

قال : «في الدين فخانتاهما» ، وقال : «وقوله : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) ، يقول : فلم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما من الله ـ لمّا عاقبهما على خيانتهما أزواجهما ـ شيئا ، ولم ينفعهما أن كان أزواجهما أنبياء» ، وروى مثل ذلك

__________________

(١). الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠٢ ، وروى ذلك ابن الجوزي في زاد المسير ٨ / ٥٦.

(٢). فتح القدير ـ للشوكاني ـ ٥ / ٢٥٣.

(٣). فتح القدير ٥ / ٢٥١ ، وفي صحيح البخاري ٦ / ١٩٥ ـ ١٩٧.

(٤). مجمع البيان ـ للطبرسي ـ المجلّد ٥ / ٣١٦.

(٥). مجمع البيان ـ المجلّد ٥ / ٣١٩.

عن قتادة (١).

وحكى ابن الجوزي في زاد المسير عن ابن السائب تفسير الخيانة بالنفاق ، وقال في قوله عزوجل : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ) :

قال المفسّرون منهم : مقال هذا المثل يتضمّن تخويف عائشة وحفصة أنّهما إن عصيا ربّهما لم يغن رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عنهما شيئا (٢).

وقال في قوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا) :

وقرأ ابن مسعود ، وأبو عبد الرحمن ، ومجاهد ، والأعمش : تظاهرا ، بتخفيف الظاء ؛ أي : تعاونا على النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم بالإيذاء ، (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) ، أي : وليّه في العون والنصرة ، (وَجِبْرِيلُ) وليّه (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وحكى أيضا عن الزجّاج في قوله تعالى : (صَغَتْ قُلُوبُكُما) : «عدلت وزاغت عن الحقّ» (٤). وقال ابن القيّم في الأمثال في القرآن ، في ذيل السورة :

فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال : مثل للكافر ومثلين للمؤمنين : فتضمّن مثل الكفّار أنّ الكافر يعاتب على كفره وعداوته لله تعالى ورسوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وأوليائه ، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب أو وصلة صهر أو سبب من أسباب الاتّصال ؛ فإنّ الأسباب كلّها تنقطع يوم القيامة إلّا ما كان منها متّصلا بالله وحده على أيدي رسله عليهم الصلاة والسلام ، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة والنكاح مع عدم الإيمان لنفعت الصلة التي كانت بين نوح ولوط عليهما الصلاة والسلام وامرأتيهما (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ).

__________________

(١). جامع البيان ٢٨ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢). زاد المسير ـ لابن الجوزي ـ ٨ / ٥٥.

(٣). زاد المسير ٨ / ٥٢.

(٤). زاد المسير ٨ / ٥٢.

إلى أن قال : ـ فذكر ثلاثة أصناف للنساء : المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح ، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر ، والمرأة العزبة التي لا وصلة بينها وبين أحد ، فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها ، والثانية لا تضرّها وصلتها وسببها ، والثالثة لا يضرّها عدم الصلة شيئا.

ثمّ في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة ؛ فإنّها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم والتحذير من تظاهرهنّ عليه ، وأنّهن إن لم يطعن الله ورسوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ويردن الدار الآخرة لم ينفعهن اتّصالهن برسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتّصالهما بهما ، ولهذا ضرب لهما في هذه السورة مثل اتّصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سلام : ضرب الله المثل الأوّل يحذّر عائشة وحفصة ، ثمّ ضرب لهما المثل الثاني يحرّضهما على التمسّك بالطاعة (١).

وقال : في التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ـ أي عائشة ـ ولحفصة ممّا اعتمدتاه في حقّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، فتضمّنت هذه الأمثال التحذير لهنّ والتخويف والتحريض لهنّ على الطاعة والتوحيد ... وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه ، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلّا العالمون (٢).

وقال ابن كثير في ذيل السورة :

ثمّ قال تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، أي : في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم ، إنّ ذلك لا يجدي عنهم شيئا ، ولا ينفعهم عند الله إن لم يكن

__________________

(١). الأمثال في القرآن ـ لابن قيّم الجوزية ـ ٥٤ ـ ٥٧.

(٢). الأمثال في القرآن : ٥٨.

الإيمان حاصلا في قلوبهم.

ثمّ ذكر المثل فقال : (امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ) ، أي : نبيّين رسولين عندهما في صحبتهما ليلا ونهارا ، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشر انهما أشدّ العشرة والاختلاط ، (فَخانَتاهُما) أي : في الإيمان ، لم توافقاهما على الإيمان ولا صدّقتاهما في الرسالة ، فلم يجد ذلك كلّه شيئا ، ولا دفع عنهما محذورا ، ولهذا قال : (فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي : لكفرهما ، وقيل للمرأتين : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) ، وليس المراد بقوله : (فَخانَتاهُما) في فاحشة بل في الدين (١).

وقال الشوكاني ـ بعد ما حكى قول يحيى بن سلام ، المتقدّم في حكاية القرطبي ـ :

وما أحسن من قال : فإنّ ذكر امرأتي النبيّين بعد ذكر قصّتهما ـ أي عائشة وحفصة ـ ومظاهرتهما على رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يرشد أتمّ إرشاد ويلوّح أبلغ تلويح إلى أنّ المراد تخويفهما مع سائر أمّهات المؤمنين ، وبيان أنّهما وإن كانتا تحت عصمة خير خلق الله وخاتم رسله ، فإنّ ذلك لا يغني عنهما من الله شيئا (٢).

ثمّ ذكر حديث أنّ أفضل نساء أهل الجنّة : خديجة ، وفاطمة ، ومريم ، وآسية. وحكى في مجمع البيان عن مقاتل ، في ذيل السورة :

يقول الله سبحانه لعائشة وحفصة : لا تكونا بمنزلة امرأة نوح وامرأة لوط في المعصية(٣).

وغير ذلك من كلمات المفسّرين التي توضّح شدّة لحن الخطاب القرآني في هذه السورة الموجّه لحفصة وعائشة ، وأنّ غائلة تظاهرهما هي خيانة دينية ، ونفاق معادي

__________________

(١). تفسير ابن كثير ٤ / ٤١٩.

(٢). فتح القدير ـ للشوكاني ـ ٥ / ٢٥٦.

(٣). مجمع البيان ـ المجلّد ٥ / ٣١٩.

خطير ، ومكيدة عظيمة ، استدعت هذا التصعيد الشامل في النفير والتعبئة الإلهية في صدر السورة ، والتعريض بأقصى الحدّة في ذيل السورة.

ثمّ إنّ لفظ (ظَهِيرٌ) بمعنى العون والحماية يعطي أنّ المكيدة متّصلة بمسألة تتعلّق بالحياة الأمنية لوجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبضميمة كون سبب المكيدة هي أمر الخلافة بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمر أبي بكر وعمر الذي أفشته حفصة أو عائشة إلى الأخرى ـ كما مرّ ـ ومن ثمّ إلى أبويهما ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك ـ.

وبلحاظ كون الحماية الإلهية المستنفرة بالغة القوّة يقتضي أنّ المكيدة لم يكن المتورّط فيها هاتين المرأتين بمفردهما بمجرّد حولهما وقوّتهما ، بل كان ذلك على اتّصال وارتباط بأطراف القضية ، ومن يعنيه شأن الحدث ، ومن له علاقة ماسّة بالخبر المفشى ؛ والذي قد تقدّم أنّ صدر السورة يعطي كون الخبر والحديث يحمل في طيّاته إنذارا وتحذيرا ، لا بشارة واستهلالا ، وإلّا لما اقتضت طبيعة الخبر تولّد المكيدة الخطيرة والتسبّب لذلك.

ولعظم الخطب في هذه الحادثة نرى الآيات الأخرى المتوسّطة في هذه السورة ، قد حملت الشدّة نفسها في الخطاب والتعريض ، ولم يحاول المفسّرون من أهل سنّة الجماعة الإلفات إليه ، وتغاضوا عن مدلوله ، وهي قوله تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) ، فإنّ ذكر هذه الصفات تعريض بفقدها فيهما.

قيل : المراد ب (مُسْلِماتٍ) : مطيعات ومنقادات لأمر الله تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقيل : مخلصات ؛ والمراد ب (مُؤْمِناتٍ) : أي : المعتقدات بحقيقة الإيمان ؛ والتعريض بهذا الوصف يماثل التعريض بما في ذيل السورة : (فَخانَتاهُما) بمعنى نافقتاهما وحاددتاهما في الدين.

وب (قانِتاتٍ) : المطيعات الخاضعات المتذلّلات لأمر الله تعالى ورسوله ؛ إذ القنوت هو لزوم الطاعة مع الخضوع ، وقد ذكر هذا في ذيل السورة في توصيف مريم بنت عمران ،

وهو تأكيد للتعريض بالصفة المقابلة فيهما.

وب (تائِباتٍ) : نادمات ، وهو تعريض بعنادهما وإصرارهما.

وب (عابِداتٍ) : الطاعة في العبادة ، وهو التعريض بطغيان الطرف المقابل.

وب (سائِحاتٍ) : قيل : الصيام ، وقيل : الهجرة ؛ وعلى الثاني يكون التعريض بهجرة جماعة النفاق والعداء لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وب (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) : فقد أكثر المفسّرون من الروايات في ذيلها أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعد بالزواج من آسية وهي الثيّب ، ومريم وهي البكر في الآخرة ، وكذلك رووا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى خديجة عليها‌السلام عند موتها بالتسليم على أظآرها آسية ومريم وكلثم ، فأجابت: بالرفاه والبنين ، وفي ذلك تعريض بأنّهما ليستا زوجتاه في الآخرة.

والحال نفسه في الآيات اللاحقة ؛ إذ التهديد بالنار المتوقّدة والملائكة الغلاظ الشداد ، ثمّ قوله تعالى : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (١) ترغيب في الانتهاء عن الكيد والمواطأة على الدين والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الشوكاني في ذيل الآية :

وأخرج الحاكم والبيهقي في البعث ، عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ... الآية ، قال : ليس أحد من الموحّدين إلّا يعطى نورا يوم القيامة ، فأمّا المنافق فيطفأ نوره ، والمؤمن مشفق ممّا رأى من إطفاء نور المنافق ، فهو يقول : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) (٢).

وفي الدرّ المنثور عن مجاهد :

قال : قول المؤمنين حين يطفأ نور المنافقين (٣).

__________________

(١). التحريم / ٨.

(٢). فتح القدير ٥ / ٢٥٥.

(٣). الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٥.

وأعظم بها من سورة قد اشتملت على العديد من الدلالات والتلويحات ؛ تعريضا بأطراف الحادثة ، وبالسنن الإلهية في مثل هذا النمط من الفتن ، التي تحاك كيدا من الوسط الداخلي في المسلمين.

وقد أفصح بذلك الزمخشري في ما مرّ من مقاله :

... وأسرار التنزيل ورموزه في كلّ باب بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدقّ عن تفطّن العالم ويزلّ عن تبصّره.

ومثله قال الرازي :

وأمّا ضرب المثل بامرأة نوح المسمّاة بواعلة ، وامرأة لوط المسمّاة بواهلة ، فمشتمل على فوائد متعدّدة لا يعرفها بتمامها إلّا الله تعالى. إلى أن قال : ـ ومنها التنبيه على أنّ التضرّع بالصدق في حضرة الله تعالى وسيلة إلى الخلاص من العقاب (١).

وكذلك مقولة ابن القيّم التي تقدّمت ، قال ـ بعد أن ذكر التعريض بهما وتحذيرهما وتخويفهما ـ :

وأسرار التنزيل فوق هذا وأجلّ منه ، ولا سيّما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلّا العالمون.

وها قد حان أن ننقل أسرار التنزيل ولطائفه ورموزه ، وأسرار الأمثال في هذه السورة عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلوات الله عليهم. فقد روى علي بن إبراهيم القمّي في تفسيره ، بسند صحيح عن الصادق عليه‌السلام في ذيل الآية الأولى في سبب نزولها :

كان سبب نزولها ـ وذكر قصّة حلفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يطأ مارية ، ثمّ إخباره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفصة باستيلاء أبيها على الأمر من بعد استيلاء أبي بكر عليه بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها : «فإن أنت أخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس

__________________

(١). التفسير الكبير ٣ / ٥١.

أجمعين» ، وأنّها قالت : من أخبرك بهذا؟ قال : الله أخبرني ـ فأخبرت حفصة عائشة من يومها بذلك ، وأخبرت عائشة أبا بكر ، فجاء أبو بكر إلى عمر فقال له : إنّ عائشة أخبرتني عن حفصة كذا ، ولا أثق بقولها ، فسل أنت حفصة. فجاء عمر إلى حفصة فقال لها : ما هذا الذي أخبرت عنك عائشة؟ فأنكرت ذلك وقالت : ما قلت لها من ذلك شيئا. فقال لها عمر : إن كان هذا حقّا؟ فأخبرينا حتّى نتقدّم فيه. فقالت : نعم ، قد قال ذلك رسول الله.

فاجتمع أربعة على أن يسمّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنزل جبرئيل بهذه السورة : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ ... تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، يعني قد أباح الله لك أن تكفّر عن يمينك ، (وَاللهُ مَوْلاكُمْ ... فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) أي أخبرت به ، (وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) يعني : أظهر الله نبيّه على ما أخبرت به وما همّوا به من قتله ، (عَرَّفَ بَعْضَهُ) أي : أخبرها وقال : «ولم أخبرت بما أخبرتك» به؟ (١).

صالح المؤمنين وأطراف المواجهة

روى محمّد بن العبّاس ، بسنده عن الصادق عليه‌السلام :

قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرّف أصحابه أمير المؤمنين عليه‌السلام مرّتين ، وذلك أنّه قال لهم : أتدرون من وليّكم من بعدي؟ ، قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : فإنّ الله تبارك وتعالى قد قال : (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو وليّكم بعدي. والمرّة الثانية يوم غدير خمّ ، قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه (٢).

وقد تقدّم أنّ مقتضى الحادثة وتنازع الأطراف فيها يقتض هذا التوزيع في طرفي المواجهة ، وقد مرّ جملة من روايات أهل سنّة الجماعة في كون «صالح المؤمنين» هو

__________________

(١). تفسير القمّي ٢ / ٣٦٠.

(٢). تأويل الآيات ٢ / ٦٦٩ ح ٣.

عليّ عليه‌السلام. ولا يخفى سرّ التعبير بالمفرد المضاف إلى الجمع ؛ إذ أنّه يختلف عمّا لو كان : «صالح من المؤمنين» ، أو : «صالحو المؤمنين» ، فإنّه يقتضي التساوي في الصلاح والإيمان ، فإفراده من بين مجموع المؤمنين وإدراجه في سلك انتظام جبرئيل الروح الأمين والملائكة قاض بعلوّ درجته.

وروى في الدرّ المنثور ، قال :

وأخرج الطبراني ، وابن مردويه ، بسند ضعيف عن ابن عبّاس ، عن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، قال : «السّبق ثلاثة : فالسابق إلى موسى يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى صاحب يس ، والسابق إلى محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عليّ بن أبي طالب».

وأخرج ابن عساكر من طريق صدقة القرشي ، عن رجل ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : أبو بكر الصديق خير أهل الأرض إلّا أن يكون نبيّ ، وإلّا مؤمن آل ياسين ، وإلّا مؤمن آل فرعون. أي أنّه دون الثلاثة.

وأخرج ابن عدي ، وابن عساكر : «ثلاثة ما كفروا بالله قط : مؤمن آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب ، وآسية امرأة فرعون».

وأخرج البخاري في تاريخه عن ابن عبّاس ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : «الصدّيقون ثلاثة : حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار صاحب آل ياسين ، وعليّ بن أبي طالب».

وأخرج داود ، وأبو نعيم ، وابن عساكر ، والديلمي ، عن ابن أبي ليلى ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : «الصديقون ثلاثة : حبيب النجّار مؤمن آل ياسين ، الذي قال : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) (١) ، وحزقيل مؤمن آل فرعون ، الذي قال : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (٢) ، وعليّ بن

__________________

(١). يس / ٢٠.

(٢). غافر / ٢٨.

أبي طالب وهو أفضلهم» (١).

ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بعدّة طرق (٢). ورواه أحمد في فضائل عليّعليه‌السلام من فضائل الصحابة (٣). وروى ابن كثير في تفسيره :

قال ابن أبي نجيح : عن مجاهد ، عن ابن عبّاس : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) (٤) ، قال : يوشع بن نون سبق إلى موسى ، ومؤمن آل يس سبق إلى عيسى ، وعليّ بن أبي طالب سبق إلى محمّد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم (٥).

وروى مثله السيوطي في الدرّ المنثور ، قال :

وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عبّاس : ... وذكر مثله.

وقال : «وأخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس في قوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) ، قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون ، وحبيب النجّار الذي ذكر في يس ، وعليّ بن أبي طالب ، وكلّ رجل منهم سبق أمّته ، وعليّ أفضلهم سبقا» (٦).

وهذه الروايات (٧) من طرقهم قاضية بأنّ : «صالح المؤمنين» هو عليّ عليه‌السلام وهو

__________________

(١). الدرّ المنثور ٥ / ٢٦٢.

(٢). شواهد التنزيل ٢ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥.

(٣). فضائل الصحابة ٢ / ٦٢٨ و ٦٥٦. ورواه ابن المغازلي في مناقبه : ٢٤٥ ، والروض النضير ٥ / ٣٦٨ عن ابن النجّار ، وأبي نعيم في المعرفة ، والسلفي في المشيخة البغدادية الورقة ٩ ب و ١٠ ب ، والدار قطني في عنوان «خربيل» من كتاب المؤتلف والمختلف ٢ / ٧٧٠. ورواه السيوطي في الجامع الصغير ٢ / ٥٠ ورمز له بالحسن ، وبطريق آخر ضعيف ، ورواه أيضا المناوي في فيض القدير ٤ / ٢٣٨ ؛ وقال : ورواه ابن مردويه والديلمي.

(٤). الواقعة / ١٠.

(٥). تفسير ابن كثير ٤ / ٣٠٤.

(٦). الدرّ المنثور ٦ / ١٥٤.

(٧). وممّن روى أنّ «صالح المؤمنين» هو عليّ عليه‌السلام : الآلوسي في روح المعاني ٢٨ / ١٣٥ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٣٨٩ ، والسيوطي في الدرّ المنثور ٦ / ٢٤٤ ، والشوكاني في فتح القدير ٥ / ٢٤٦ ، وابن بطريق ـ

صدّيق هذه الأمّة الأكبر ، وفاروقها الأعظم بين الحقّ والباطل ، ويقتضيه ما روي مستفيضا عند الفريقين أنّه : «قسيم الجنّة والنار».

كما أنّ الأشخاص المعنيين بالخبر المفشى تقتضي السورة والآيات بتقابلهم وتباينهم مع موقع الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدين وصالح المؤمنين ، وأنّ «صالح المؤمنين» مولى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووليّه يلي أمره في الدين ، ومن ثمّ كانت هذه الآيات في السورة معلنة لولاية «صالح المؤمنين» ، وأنّه وليّهم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبال موقع الطرف الآخر صاحب المكيدة والتدبير على الدين والرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الملحمة القرآنية والإسرار النبوي

الحديث الذي أسرّ به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حفصة ـ كما تشير إليه سورة التحريم ـ قد سبق وأن أنبأ به القرآن الكريم في سورة البقرة وفي سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأولى من أوائل السور المدينة نزولا ، والثانية متقدّمة نزولا على سورة التحريم أيضا ..

ففي الأولى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ* وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (١).

الملفت للانتباه أنّ في هذه الآيات جرى التقابل بين طرفين وموقعين في مجرى

__________________

ـ في العمدة عن تفسير الثعلبي : ١٥٢ ، والكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ٥٣ ، والقرطبي في جامع الأحكام ١٨ / ١٨٩ ، والأندلسي في البحر المحيط ٨ / ٢٩١ ، وابن الجوزي في التذكرة : ٢٦٧ ، وابن همام في حبيب السير ٢ / ١٢ ، والحسكاني الحنفي في شواهد التنزيل ٢ / ٢٥٩ ، وذكر محمّد بن العبّاس في تأويل الآيات ٢ / ٦٩٨ اثنين وخمسين حديثا من طرق الخاصّة والعامّة.

(١). البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٧.

الأحداث في مسار الأمّة ، وهاهنا الطرف الثاني الذي تتعرّض له الآيات بالمديح والثناء ، وبيان أنّه المؤهّل لولاية الأمر من قبله تعالى ؛ بقرينة تقريع الآيات للطرف الأوّل ، الذي تتوقّع استيلاءه على مقاليد الأمور ، وتذكر له العديد من الصفات ، مثل : حلاوة المقال مع عداوة القلب ، وخصامه الكثير ولجاجه ، وقساوته عند تولّيه الأمور بتغريب النتاج المدني البشري ، والإبادة للطبيعة البشرية.

وهاهنا الآيات لم تصف النسل البشري بصفة خاصّة ، ممّا يعطي أنّ التقريع للإبادة موردها الطبيعة البشرية من حيث هي محترمة كخلق لله تعالى ، بغضّ النظر عن الحرمة من جهة الإيمان أو الإسلام ، وهذا مؤشّر على موارد وقوع هذه الصفة المتنبأ بها في الآيات ، وقد مرّت الإشارة إلى هذا البحث في سابق.

والحاصل إنّ الطرف الثاني الذي تمدحه الآيات هو في مقابل الطرف الأوّل المذموم لتولّي الأمر. والممدوح هاهنا كما هو معروف من الروايات ولدى المفسّرين هو عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ إذ فدّى نفسه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلة المبيت على فراشه.

وفي السورة الثانية قال تعالى : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ* طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) (١).

هذه الآيات تشير إلى وقوع استيلاء على مقاليد الأمور من قبل فئة من المسلمين ، وهم : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، وهذا العنوان قد أشار القرآن الكريم إلى وجوده بين صفوف المسلمين منذ بداية نشأة الإسلام ، كما في سورة «المدّثر» ، رابع سورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في أوائل البعثة.

وهذا التقارن بين سورة المدّثر وسورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دالّ على أنّ هدف هذه الفئة

__________________

(١). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠ ـ ٢٣.

من الدخول في الإسلام منذ أوائل عهده هو الوصول إلى مسند القدرة وزمام الأمور بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو طمع وهدف أعلن على لسان كثير من القبائل التي كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعوها للدخول في الإسلام ؛ فقد كانت مشارطتهم للدخول في الدين استخلافهم على زمام الأمور بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرفض هذا الشرط ، ويجيب بأنّ ذلك ليس له ، بل لله عزوجل ربّ العالمين.

ومع انضمام سورة التحريم إلى السور السابقة يتّضح جليّا مفاد الإشارة في السور القرآنية ، وتتبيّن أوصاف من تعرّض به الملحمة القرآنية. وقد وقع نظير هذه الأنباء من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول مجريات الاستيلاء على السلطة بعده. فقد روى البخاري ، عن عمر بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد :

قال : أخبرني جدّي ، قال : كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ومعنا مروان ، قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدّق يقول : هلكة أمّتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان بني فلان لفعلت.

فكنت أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام ، فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا : عسى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا : أنت أعلم (١).

قال ابن حجر في شرحه :

قال ابن بطّال : جاء المراد بالهلاك مبيّنا في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد ، وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة ، رفعه : أعوذ بالله من إمارة الصبيان. قالوا وما إمارة الصبيان؟ قال : إن أطعتموهم هلكتم ـ أي في دينكم ـ وإن عصيتموهم أهلكوكم ، إن في دنياكم بإزهاق النفس ، أو بإذهاب المال ، أو بهما.

__________________

(١). صحيح البخاري : كتاب الفتن ب ٣ ـ فتح الباري ١٣ / ٩.

وفي رواية ابن أبي شيبة : (إنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللهمّ لا تدركني سنة ستّين ولا إمارة الصبيان) ، وفي هذا إشارة إلى أنّ أوّل الأغيلمة كان في سنة ستّين ، وهو كذلك ؛ فإنّ يزيد بن معاوية استخلف فيها.

إلى أن قال : ـ تنبيه : يتعجّب من لعن مروان الظلمة المذكورين مع أنّ الظاهر أنّهم من ولده ، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون. وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد ، أخرجها الطبراني وغيره ، غالبها فيه مقال ، وبعضها جيّد (١).

وكذا ما رواه البخاري في الباب الثاني من كتاب الفتن ـ وعنونه : باب قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سترون بعدي أمورا تنكرونها» ـ : «وقال عبد الله بن زيد ، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اصبروا حتّى تلقوني على الحوض»!!

ثمّ روى البخاري أحاديث في الباب تدعو إلى السكوت عن سلاطين الجور والإطاعة لهم ، وهي أشبه بنصوص السلطة من النصوص النبوية. قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢). وقال تعالى : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) (٣).

وقال تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) (٤).

وبمثل هذه الملحمة القرآنية والإسرار النبوي ما رواه البخاري أيضا في كتاب الفتن : الباب الأوّل والرابع من اقتراب الفتن بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإحداث أصحابه بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكلّ ذلك خارج مخرج التحذير والإنذار .. (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) (٥).

__________________

(١). فتح الباري ١٣ / ١٠ ـ ١١.

(٢). التوبة (البراءة) / ٧١.

(٣). التوبة (البراءة) / ٦٧.

(٤). هود / ١١٣.

(٥). القمر / ٥.

٩

آفاق الوحدة

إنّ مسألة الفتوحات طرحت تارة تمهيدا لعدالة الصحابة ودليلا لها كوجه تاريخي ـ وقد مرّ البحث عنه مبسوطا ـ وأخرى تمهيدا للوحدة الإسلامية بين المذاهب والفرق. وهنا نشرع ـ بعون الله الملك العلّام ـ في هذا البحث المهم وهو :

إنّ كثيرا من الضلالات ناشئة من العمى في البصيرة ، قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (١) وقال : (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (٢). والعمى في البصيرة ينشأ من أسباب مختلفة ، تارة من ضحالة في العلم والفقه ، وأخرى من اتّباع الهوى والمصالح الدنيوية القصيرة المدى ، وإذا اجتمع السببان فالطامّة الدهياء بين العمى والازدواجية.

قال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٣).

هذه الآية الكريمة كما تعيّن مدار وحدة المسلمين فهي تنبّأ بملحمة خطيرة ، هي :

__________________

(١). الحجّ / ٤٦.

(٢). سورة الأنعام / ١٠٤.

(٣). آل عمران / ١٠٣ ـ ١٠٤.

أنّ الوحدة الإسلامية لم ولن تتمّ ولا تتحقّق في هذه الأمّة وتنال تلك السعادة في ظلّ الألفة الأخوية إلّا بالاعتصام ب «حبل الله» ، أي التمسّك بحبل الله ، فيكون هذا الحبل عاصما عن الفرقة ، وعن السقوط في الهاوية ، وعن الضياع في المتاهات ؛ فما هو «حبل الله» ، وما هو سرّ التعبير ب «الحبل»؟!

ل «حبل الله» ـ كما لكلّ حبل ـ طرفان ، طرف تستمسك به الأمّة ، وطرف آخر عند الله تعالى ، أي أنّ هذا الحبل شيء رابط بين البشرية والغيب ، وسبب متّصل بين الأرض والسماء ، فلا بدّ أن يكون قطب الوحدة ومركز الاتّحاد سبب موصل مطّلع على الغيب ؛ وهذا يعطي أنّ سفينة الوحدة والاتّحاد يجب أن ترسو على ما هو حقّ وحقيقة ، لا التوافق على الهوى والهوس.

وسياق الآية الثانية المتّصلة يصرّح بأنّ الوحدة يجب أن تكون على الخير والمعروف والاجتناب عن المنكر ، بحسب الواقع والحقيقة ، فلو حصلت وحدة على المنكر واجتناب المعروف ، لكانت هذه فرقة في منطق القرآن الكريم ؛ لأنّ الناس افترقوا وابتعدوا عن الحقّ.

وهذا يدلّ على أنّ الحقّ والمعروف له وجود وحقيقة في نفس الأمر ، اتّفقت كلمة الأمّة عليه أم لم تتّفق ، وليس الحقّ ناتجا ومتولّدا من اتّفاق الأمّة كي يقال : «كلّ ما اتّفقت الأمّة عليه فهو حقّ ، وكلّ ما لم تتّفق عليه فهو باطل».

ومن ثمّ كان الحسن والقبح في الأفعال ، والصفات ، والاعتقادات ذاتي ، تكويني ، عقلي ، حقيقي ؛ إذ ليس حسن الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على مدحه ، ولا قبح الشيء بسبب رأي الأكثرية أو توافق الكلّ على ذمّه ، بل الحسن والمدح والثناء ذاتي ؛ للكمال ، والقبح والذمّ والهجاء ذاتي ؛ للنقص ، ومن ذلك يعلم أنّ الثابت الديني ليس وليد الوفاق بل هو مرهون بالأدلّة والبراهين.

فإذا كان الحقّ ثابت في نفسه فيجب إقامة الوحدة على أساسه ، لا أن تقام الوحدة على أساس الباطل أو الحقّ الممزوج بالباطل ، فنقيم الاتّحاد ولو على النهج السقيفي أو

الأموي أو العبّاسي ، بل هذا اتّحاد على الغواية وتعاون على الإثم والعدوان ، ومن ثمّ لم يبال سيّد الشهداء عليه‌السلام أن يشقّ عصا المسلمين المتآلفين على النهج اليزيدي ، وقال :

إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.

فالاصلاح والنصيحة للمسلمين ليس بإقرارهم على ما هم عليه من الفساد والغواية ، بل هو بأمرهم بالمعروف والحقيقة ونهيهم عن المنكر والباطل ، ودعوتهم للتعاون على السير على نهج الحقّ والصراط المستقيم.

وخذ مثالا لذلك : لو شاهدت مدمنا على المخدّرات وأردت أن تنصحه ، فإنّ نصيحته ليست بمدحه على فعله وتحسينه له ؛ فهو غشّ ودغل واحتيال ، بل نصيحته بتعليمه بسوء ما هو عليه وقبحه ، وإرشاده إلى الطريق السوي ..

وكما قام سيّد الشهداء بتفرقة الجماعة المتجمّعة على الباطل ، قام جدّه النبيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتفرقة المجتمع المكّي القرشي ، الذي كان متّحدا على عبادة الأوثان ، وأرشدهم بالأسلوب التدريجي ، وبالحكمة والموعظة ، وبالتي هي أحسن ، والمداراة ، إلى طريق الصواب والهداية ، ولم تكن مداراته بمعنى ذوبانه في أرجاس الجاهلية ومداهنته لزيغهم وغيّهم ، نعم لا يكون العلاج إلّا تدريجيا وبتعقّل وتروّي وتؤدة.

ولك أن تعتبر بسيرة سيّد الشهداء عليه‌السلام ، فإنّه لمّا رأى العالم الإسلامي ساكت على تولّي يزيد بن معاوية للأمور وفاقا سكوتيا أخذ في توعية الناس في المدينة المنوّرة ، ثمّ في مكّة عدّة أشهر ، يلتقي بوفود المسلمين في العمرة وموسم الحجّ ويخطب فيهم ، إلى أن أثمرت جهوده عليه‌السلام وبانت في مخالفة أهل العراق للسلطة الأموية ، فخالفوا وحدة الصفّ التي كانت في جانب يزيد ، وأخذ في توسيع القاعدة الشعبية المخالفة كي تصبح أكثرية ، ثمّ توجّه صوب العراق لإنجاز الإصلاح في الأمّة ، فلمّا رأى عودة أهل العراق عن مخالفة الصفّ اليزيدي واتّحادهم مع الوفاق الأموي ، لم يستسلم للوحدة على الباطل والغي حتّى استشهد إحياء لفريضة الإصلاح والأمر بالوحدة على المعروف والانتهاء عن المنكر.

فترى أنّ سيّد الشهداء عليه‌السلام لم يقم وزنا للوحدة والاتّحاد على الخطأ والباطل ، وأشاد بالوحدة على طريق الحقّ والهداية ، وهذا هو معنى أنّ الحسن والقبح للأشياء ذاتيا واقعيا ، وليس اعتباريا خاضعا لرأي الأكثرية والمجموع وتوافقهم.

روى الصدوق في معاني الأخبار عن ابن حميد رفعه ، قال :

جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : أخبرني عن السنّة والبدعة ، وعن الجماعة وعن الفرقة؟ فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : السنّة : ما سنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والبدعة : ما أحدث من بعده ، والجماعة : أهل الحقّ وإن كانوا قليلا ، والفرقة : أهل الباطل وإن كانوا كثيرا (١).

وروى النعماني بسنده في كتاب الغيبة عن ابن نباتة ، قال :

سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام على منبر الكوفة يقول : أيّها الناس! أنا أنف الهدى وعيناه ، أيّها الناس! لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة من يسلكه ، إنّ الناس اجتمعوا على مائدة قليل شبعها كثير جوعها (٢).

وفي رواية هشام المعروفة عن موسى بن جعفر عليه‌السلام :

يا هشام! ثمّ ذمّ الله الكثرة فقال : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٣) ، وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٤) ، وقال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥)

__________________

(١). معاني الأخبار : ١٥٤ ـ ١٥٥ ح ٣ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦٦ ح ٢٣.

(٢). انظر : الغيبة ـ للشيخ النعماني ـ ١٧٠ ، الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ ١ / ٢٧٦ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦٦ ح ٢٧ ، نهج البلاغة ـ لمحمّد عبده ـ ٢ / ٢٠٧ رقم ١٩٦.

(٣). الأنعام / ١١٦.

(٤). لقمان / ٢٥.

(٥). العنكبوت / ٦٣.

يا هشام! ثمّ مدح القلّة فقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) (١) ، وقال : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (٢) ، وقال : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) (٣) ، وقال : (وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤) ، وقال : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥) ، وقال : (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٦) ، وقال : (أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) (٧) .. الحديث (٨).

ولا يخفى أنّ الروايات في صدد بيان ضوابط وموازين البصيرة الحقّة وتمييزها عن الباطل ، لا في مقام ترك المسئولية تجاه الأكثرية والقيام بواجب هدايتهم وإرشادهم ، والعناية بأمورهم بالإصلاح وتقويم العوج وإزالة الفساد ، بل هي في مقام بيان أنّ الاعتداد بشأن موازين منطق التفكير التي هي موازين العلم والعقل والفطرة والسنّة غير المحرّفة لا يكون بالمنطق الأكثري بل بالقيم والمبادئ التي تتضمّن هذه الموازين.

روى في مستطرفات السرائر بسنده عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام ، قال :

قال لي : أبلغ خيرا وقل خيرا ولا تكوننّ إمّعة. قلت : وما الإمّعة؟ قال : لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس ؛ إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يا أيّها الناس! إنّما هما نجدا : نجد الخير ، ونجد الشرّ ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير (٩).

والإمّعة : الذي لا رأي له ، فهو يتابع كلّ أحد على رأيه ، والذي يقول لكلّ أحد : أنا

__________________

(١). سبأ / ١٣.

(٢). ص / ٢٤.

(٣). غافر / ٢٨.

(٤). هود / ٤٠.

(٥). الأنعام / ٣٧ ؛ وتكرّرت هذه الآية في سور عديدة أخرى.

(٦). المائدة / ١٠٣.

(٧). يونس / ٦٠ ، سورة النمل / ٧٣.

(٨). الكافي ١ / ١٢ ضمن ح ١٢.

(٩). مستطرفات السرائر (ضمن السرائر) ٣ / ٥٩٥ ، الاختصاص : ٣٤٣ ، الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ ٢١٠ ح ٤٧ ، بحار الأنوار ٢١ / ٦٢.

معك ، أنا مع الناس.

وروى الصدوق بسنده عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لرجل من أصحابه :

لا تكون إمّعة ، تقول : أنا مع الناس ، وأنا كواحد من الناس (١).

وهذه الأحاديث أيضا في مقام تخطئة التأثّر من رأي الأكثرية بسبب الأكثرية ، والحثّ على التمسّك بما هو مقتضى البديهة الفطرية والضرورة الدينية ، وهناك توصيات عديدة في القرآن والسنّة على طريقة التفكير والاعتقاد كمنهج منطقي ديني لا يسع المقام ذكرها.

ثمّ إنّ آية الاعتصام بحبل الله تعالى تتضمّن نبوءة بملحمة قرآنية مهمّة ، وهي : أنّ وحدة الأمّة الإسلامية لا ولن تتمّ إلّا بالتمسّك جميعا بحبل الله ، فلا تأمل هذه الأمّة يوما ما في الخلاص من ذلّ الفرقة والتشتّت والضعف أمام الأعداء بدون التمسّك بحبل الله.

والرغبة في الوحدة بأن تكون على محور الاعتصام بحبل الله كي لا يقعوا في الفرقة ؛ فحبل الله هو العاصم من الفرقة ، وبدونه سوف تكون الرغبة في الوحدة حلما وشعارا أجوف ومجرّد تشدّق باللسان.

وحبل الله الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو : الثقلان ؛ لأنّه حبل طرف منه عند الناس وطرف آخر عند الله ، وهذا القرآن الكريم قد تضمّنت عدّة سور قرآنية منه التشديد على أنّ للقرآن قرينا وملازما لا يفترق عنه ، هو ثلّة مطهّرة من هذه الأمّة ، لديها علم الكتاب ؛ فقد قال تعالى في سورة الواقعة : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ* إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ* وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (٢).

__________________

(١). معاني الأخبار : ٢٢٦ ح ١ ، بحار الأنوار ٢ / ٢٦.

(٢). الواقعة / ٧٥ ـ ٨٢.

فذكر تعالى أنّ للقرآن وجودا علويا غيبيا غير ما تنزّل منه ، لا يصل إلى حقيقته وحقائق ذلك الوجود غير المطهّرين ـ بصيغة الجمع ـ من هذه الأمّة ، وهم الموصوفون بالطهارة في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(١).

وكذلك قال تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)(٢).

وقد اعترف الفخر الرازي ـ وإن لم تكن أهمّية لاعترافه فأهمّية القرآن ذاتية ـ أنّ الآية دالّة على وجود شخص في زمن لا يزل ولا يخطأ يكون شاهدا على أمّة كلّ قرن (٣) ، وإلّا فكيف يكون شاهدا وهو مشهود عليه بالذنب أو الضلالة ؛ كما تبيّن الآية من سورة العنكبوت : (بَلْ هُوَ) ـ أي الكتاب أو القرآن ـ (آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) (٤) ومثله قوله تعالى في سورة الرعد : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (٥) وغيرها من آيات الثقلين وأنّهما مقترنان معا لا يفترقان.

والحاصل أنّ آية الاعتصام تنبّأ بملحمة مهمّة ، وهي : أنّ ضعف وذلّ هذه الأمّة لفرقتها لا يزول بغير الاعتصام بحبل الله ، وهما الثقلان : الكتاب والعترة ، وبذلك تتحقّق الوحدة. وقد أشارت الصدّيقة الزهراء عليها‌السلام بنت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الملحمة القرآنية في خطبتها :

فجعل الإيمان تطهيرا لكم من الشرك ... وطاعتنا نظاما للملّة وإمامتنا أمانا

__________________

(١). الأحزاب / ٣٣.

(٢). النحل / ٨٩.

(٣). انظر : التفسير الكبير ـ ذيل الآية ٨٩ من سورة النحل.

(٤). العنكبوت / ٤٩.

(٥). الرعد / ٤٣.

من الفرقة (١).

والمرتضى عليه‌السلام وصيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطبته القاصعة ـ وهي من أعظم خطبه صلوات الله عليه ؛ إذ يصف فيها ولاية أهل البيت عليهم‌السلام أنّها توحيد لله تعالى في الطاعة ـ يقول :

فانظروا إلى مواقع نعم الله عليهم حين بعث إليهم رسولا ؛ فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفتهم ، كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها ، وأسالت لهم جداول نعيمها ...

وتعطفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت ، فهم حكّام على العالمين وملوك في أطراف الأرضين ، يملكون الأمور على من يملكها عليهم ، ويمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم ...

ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم بأحكام الجاهلية ، فإنّ الله سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة في ما عقد بينهم من حبل هذه الألفة التي ينتقلون في ظلّها ، ويأوون إلى كنفها ، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة ؛ لأنّها أرجح من كلّ ثمن ، وأجلّ من كلّ خطر.

واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا ، وبعد الموالاة أحزابا ، ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمه ، ولا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه ، تقولون : النار ولا العار! كأنّكم تريدون أن تكفئوا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه ، ونقضا لميثاقه الذي وضعه الله لكم ، حرما في أرضه ، وأمنا بين خلقه ، وإنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر ، ثمّ لا جبرائيل ولا ميكائيل ولا مهاجرون ولا أنصار ينصرونكم إلّا المقارعة بالسيف حتّى يحكم الله

__________________

(١). الاحتجاج ـ للطبرسي ـ ١ / ٢٥٨ ضمن ح ٤٩ ، كشف الغمّة ـ للإربلي ـ ١ / ٤٨٣.

بينكم (١).

فقوله عليه‌السلام : «فعقد بملّته طاعتهم ، وجمع على دعوته ألفتهم ... قد نفضتم أيديكم من حبل الطاعة ، وثلمتم حصن الله المضروب عليكم ...» إنّ منّة الله على جماعة ووحدة الأمّة هو بتوسّط ذلك الحبل ، حبل الطاعة ، وهو حبل الألفة ، وإنّ في مقابل الموالاة الأحزاب ، أيّ التفرّق والفرقة ؛ فلا نصرة لهم من الله تعالى وملائكته والمؤمنين ، كما أنّهعليه‌السلام أخبر الأمّة بملحمة مستقبلية ، هي الملحمة القرآنية في آية الاعتصام ، أنّهم سيتفرّقون ويضعفون أمام الكفر وتكالب الأعداء وكثرة الحروب حتّى يقدّر الله تعالى النهاية ، ولعلّه إشارة إلى عصر الظهور.

ولا يخفى الاقتباس في تعبيره عليه‌السلام بالحبل وإنّه الطاعة ؛ إذ تضمّن الإشارة إلى آية الاعتصام من الفرقة بحبل الله ، وأنّه طاعتهم وولايتهم. فلا يأمل ولا يحلم المسلمون بتحقّق الألفة والوحدة والقدرة لهم على أعدائهم من دون التمسّك بحبل الله ، المتمثّل بولاية وطاعة أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ إنشاد الوحدة من دون ذلك ممتنع.

وهذا الإخبار من القرآن ومن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام إخبار إعجاز وتحدّ للمسلمين ؛ يعضد ذلك العقل والمشاهدة العيانية الاستقرائية لأوضاع المسلمين ...

أمّا العقل : فإنّ المسلمين إن لم يرجعوا في عقائدهم ، ومن ثمّ في أحكامهم وقوانينهم إلى مصدر واحد ، فكيف يتمّ لهم الاتّفاق في نظامهم السياسي والاجتماعي والمذهبي؟!

وأمّا المشاهدة العيانية الاستقرائية : فهي حاصلة بأنّ مذاهب العامّة لا تكاد تنحصر في عدد معيّن ، وحصرها في أربعة ما هو إلّا من فعل الخلافة العبّاسية في القرن الرابع الهجري ، وإلّا فمذاهب فقهائهم كثيرة كاثرة ، وهي لا تزال في تشعّب مذهبي ـ أي في أصول القواعد ـ وفقهي واعتقادي ، ولم يبق من الأربعة إلّا العدد فقط ، فهناك ـ الآن ـ

__________________

(١). نهج البلاغة : خطبة ١٩٢ ـ القاصعة.

مذاهب الوهّابيّة والظاهرية والأباضية والتكفير والهجرة ، وهلمّ جرّا ؛ فكيف يرجى خلاص الأمّة وهم يتّبعون مذاهب فقهية واعتقادية هي في الأصل من وضع الأمويّين والعبّاسيّين ، أي فقه السلاطين واعتقاداتهم؟!

ففقهاؤهم قاطبة ـ إلّا ما شذّ وندر ـ يحرّمون الخروج على سلطان الجور ، بلغ ما بلغ غيّه وفساده وجوره ، ما لم يكن كفرا بواحا ، وإن كان وصوله إلى السلطة بالتغلّب والقهر والسيف ؛ فهل ترى للأمّة الإسلامية من خلاص ونصرة على عدوّها والحال أنّ على رقاب ورءوس المسلمين حكّاما خونة؟!

قال المزّي :

وقال أبو العبّاس ابن عقدة ـ وذكر المزّي السند إلى حسن بن زياد ، يقول : سمعت أبا حنيفة وسأله : من أفقه من رأيت؟ فقال : ما رأيت أحدا أفقه من جعفر بن محمّد. لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ فقال : يا أبا حنيفة! إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمّد ، فهيّئ له من مسائلك الصعاب. قال : فهيأت له أربعين مسألة.

ثمّ بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة ، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر. فسلّمت ، وأذن لي ، فجلست. ثمّ التفت إلى جعفر فقال : يا أبا عبد الله! تعرف هذا؟ قال : نعم ، هذا أبو حنيفة. ثمّ أتبعها : قد أتانا (١). ثمّ قال : يا أبا حنيفة! هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله.

وابتدأت أسأله ، وكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا ونحن نقول كذا وكذا ، فربّما تابعنا ، وربّما تابع أهل المدينة ، وربّما خالفنا جميعا ، حتّى أتيت على أربعين مسألة ما أحزم منها

__________________

(١). الظاهر أنّ المراد : تتلمذ عندنا ، كما ذكر ذلك المزّي أيضا في تهذيب الكمال : أنّ أبا حنيفة تتلمذ عندهعليه‌السلام.

مسألة. ثمّ قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(١).

فها أنّك ترى أنّ أبا حنيفة يستخدمه الخليفة العبّاسي آلة طيّعة ليقابل تنامي نفوذ الإمام الصادق عليه‌السلام في المسلمين ، ومثله الحال في بقية فقهائهم. قال الحافظ ابن عبد البرّ : إنّ محمّد بن سعد قال : سمعت مالك ابن أنس يقول : لمّا حجّ أبو جعفر المنصور دعاني ، فدخلت عليه فحادثته ، وسألني فأجبته ، فقال : إنّي عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعت (يعني الموطّأ) فتنسخ نسخا ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من أمصار المسلمين منها نسخة ، وآمرهم أن يعملوا بما فيها ولا يتعدّوها إلى غيرها! فإنّي رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم (٢).

وقد ذكر هذه الحادثة ابن قتيبة الدينوري ، وذكر دخول أكثر فقهاء العامّة على المنصور ، كسفيان الثوري ، وابن ابي ذؤيب ، وابن سمعان ، وأنّ المنصور خطب فيهم ثمّ قسّم عليهم أموالا ، وأنّ بعضهم أخذها ، ومنهم مالك ، وأنّ المهدي العبّاسي أمر لمالك بأربعة آلاف دينار مكافأة على كتابه الموطّأ ، ولابنه بألف دينار ، وأنّ هارون بالغ في الحفاوة به أيضا (٣).

فبدون ولاية وطاعة المعصوم لا سبيل للنجاة من الفرقة ؛ إذ الأهواء المتّبعة مدعاة للفرقة ، والجهل والجهالات المتفشّية هي الأخرى موجبة لاختلاف القول والرأي ، وبالتالي اختلاف الكلمة.

وتوحيد الكلمة الذي هو مظهر التوحيد الإلهي لا يتحقّق إلّا بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام ؛ وذلك لأنّ توحيد الله تعالى على مقامات ومواطن ، فمنه توحيد الذات والصفات والأفعال ، والتوحيد في العبادة بالإخلاص ، والتوحيد في التشريع وهو النبوّة ، و

__________________

(١). تهذيب الكمال ٥ / ٧٩.

(٢). كتاب الانتقاء : ٤١.

(٣). انظر : الإمامة والسياسة : ١٩٣ ، ١٩٥ ، ٢٠٣ ، ٢٠٨.

التوحيد في الغاية وهي المعاد ، والتوحيد في الطاعة والولاية وهي الإمامة ؛ إذ أنّ الأئمّة المعصومين هم أوعية مشيئة وإرادة الله تعالى ، فقيادتهم هي حاكمية لمشيئة الله تعالى وإرادته.

ولن يستكمل التوحيد حتّى يعمّ قوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) (١) كلّ المواطن ، وإلّا فعزل الباري عن مسرح الحياة البشرية وقصر التوحيد على الذات والصفات ـ كما يصنع العلمانيون ـ ليس إلّا توحيد أجوف صوري ، كما أنّ التوحيد في التشريع ـ النبوّة ـ دون التوحيد في التطبيق هو الآخر توحيد نظري بدون تطبيق ، كما قال الإمام عليّ عليه‌السلام : «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة» (٢) ، أي ثمرة النبوّة وهي الولاية لأهل البيت عليهم‌السلام ، فولايتهم وإمامتهم نهاية معاقل التوحيد وزبدة مواطنه ، وهو الامتحان الذي فشل فيه إبليس الرجيم ؛ إذ لم يكفر بتوحيد الذات ولا الصفات بحسب الظاهر ولا بالمعاد ، بل كفر بولاية آدم وخلافته ، أي بالتوحيد في مقام الطاعة والولاية ، فنجم عن ذلك كفره وحبط عمله ، وإلى ذلك يشير أمير المؤمنين عليه‌السلام في خطبته القاصعة الطويلة ، وسنشير إلى مقطعين منها.

الأوّل : «الحمد لله الذي ليس العزّ والكبرياء ، واختارهما لنفسه دون خلقه ، وجعلهما حمى وحرما على غيره ، واصطفاهما لجلاله ، وجعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده.

ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين ؛ فقال سبحانه وهو العالم بمضمرات القلوب ومحجوبات الغيوب : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ* فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ* فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ* إِلَّا إِبْلِيسَ) (٣) اعترضته الحمية فافتخر على آدم بخلقه ، وتعصّب عليه لأصله ، فعدوّ الله

__________________

(١). الأنعام / ٥٧ ، يوسف / ٤٠ و ٦٧.

(٢). نهج البلاغة / الخطبة القاصعة.

(٣). ص / ٧١ ـ ٧٤.

إمام المتعصّبين ، وسلف المتكبّرين ، الذي وضع أساس العصبية ، ونازع الله رداء الجبرية ، وادّرع لباس التعزّز ، وخلع قناع التذلّل.

ألا ترون كيف صغّره الله بتكبيره ، ووضعه بترفّعه ، فجعله في الدنيا مدحورا ، وأعدّ له في الآخرة سعيرا ، فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس ؛ إذ أحبط عمله الطويل وجهده الجهيد ـ وكان قد عبد الله ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة ـ عن كبر ساعة واحدة ، فمن ذا بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته ...».

الثاني : «فاحذروا عباد الله! أن يعديكم بدائه ، وأن يستفزّكم بندائه ... ألا وقد أمعنتم في البغي ، وأفسدتم في الأرض ، مصارحة لله بالمناصبة ، ومبارزة للمؤمنين بالمحاربة ، فالله الله في كبر الحمية ، وفخر الجاهلية ... ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم!الّذين تكبّروا عن حسبهم ، وترفّعوا فوق نسبهم ، وألقوا الهجينة على ربّهم ـ أي قبحوا فعل ربّهم ـ وجاحدوا الله على ما صنع بهم ؛ مكابرة لقضائه ، ومغالبة لآلائه ، فإنّهم قواعد أساس العصبية ، ودعائم أركان الفتنة ، وسيوف عنزاء الجاهلية ، فاتقوا الله ...

ولا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم ، وخلطتم بصحّتكم مرضهم ، وأدخلتم في حقّكم باطلهم ، وهم أساس الفسوق ، وأحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال وجندا بهم يصول على الناس ، وتراجمة ينطق على ألسنتهم ، استراقا لعقولكم ، ودخولا في عيونكم ، ونفثا في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، وموطئ قدمه ، ومأخذ يده».

ثمّ بيّن عليه‌السلام في آخر الخطبة خصائصه الموجبة لوصايته بعد النبوّة. فبيّن عليه‌السلام أنّ الخضوع لآدم وطاعته وولايته بأمر من الله تعالى هي تواضع لله ، ونفي للكبر ، أي نفي المخلوق استقلاليّته أمام استقلالية الذات الأزلية ؛ فولاية خليفة الله توحيد لله تعالى في آخر المعاقل التي يطرد منها الكفر ويقام فيها التوحيد ، وذلك المعقل هو ذات الإنسان

نفسه ، فهدم كبر الأنانية وإقامة فقر العبد لله بتولّي الإمام المنصوب من قبل الله ، إقامة للتوحيد في صقع الذات الإنسانية ، وإن إبليس قد فشل في هذا الامتحان للتوحيد ، فلم تنفعه دعواه التوحيد في سائر المقامات ، هذا في المقطع الأوّل.

وأمّا المقطع الثاني فهو عليه‌السلام يبيّن فيه أنّ من تقحّموا الخلافة من قبله قد ردّوا على الله تعالى أمره ، وقبّحوا نصبه تعالى وجعله عليّا عليه‌السلام خليفة ووصيّا ؛ فنهجوا نهج إبليس في الاستكبار ، وأنّهم قواعد أساس العصبية ودعائم أركان الفتنة ، وهذا الحكم منه عليه‌السلام أشدّ ممّا ورد في الخطبة الشقشقية وأصرح في بيان حالهم ..

ثمّ إنّه عليه‌السلام بيّن أنّ الإفساد في الأرض هو لكون الناس أحزابا متفرّقين غير مجتمعين على وحدة الطاعة والولاية لخليفة الله في الأرض ، وهذا التفرّق عن الطاعة والولاية يعني مناصبة العداء لله تعالى ، وبالتالي فلا يقبل تعالى على البشر بالبركات والنعم ، مضافا إلى تأدية الخلاف إلى الخراب بدل الإعمار ؛ لتخالف الهوى والمصلحة ، فتصبح البشرية في حرمان من البركات الإلهية المقدّرة لها.

وتتّضح جليّا الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (١) ؛ فلازم كونها أمّة واحدة توحيدية بتمام التوحيد هو الربوبية لله وحده من دون وجود طاغوت استكباري على أوامره تعالى ، وإلّا فالأمّة الإسلامية ستكون أمما كثيرة ، كلّ مجموعة تتّبع هوى ما ، وطاغوتا ما ؛ إذ الأمّة في اللغة والاشتقاق من : أمّ يؤمّ ، أي : قصد واتّبع ، فإذا كانت المقاصد والمناهج الأصلية مختلفة فسيكون المجموع أمما لا أمّة واحدة.

والإشارة إلى ذلك أيضا في قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٢).

__________________

(١). الأنبياء / ٩٢.

(٢). آل عمران / ٦٤.

فإن توحّد الربوبية لله تعالى يقضي بتوحيد المنهاج والشريعة والطاعة والولاية ، نعم من أبجديات فقه أهل البيت عليهم‌السلام أنّ أهل الكتاب في ظلّ الحكم الشرعي لهم حقّ التعايش السلمي بضريبة الجزية ، بدلا عن ضريبة الزكاة والخمس الموضوعة على المسلمين ، وأنّ من خصوصيات عقيدة الإمامة أنّ الحاكم الأوّل في النظام الاجتماعي السياسي هو الله تعالى ، سواء في السلطة التنفيذية أو القضائية أو التشريعية ، وسواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو المالي أو التقنيني ، وهذه الحقيقة تتحقّق لكون الإمام وعاء مشيئة الله وإرادته ، كما هو الحال في حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي يستعرض سيرتها القرآن الكريم في السور المدنية ..

فإنّ المشاهد في الآيات أنّه عند المنعطفات الحادّة الصعبة سياسيا ، أو عسكريا من الحرب أو السلم ، أو قضائيا أو ماليا يكون التدبير الجزئي والحكم صادر منه تعالى ، فالحاكم السياسي الأوّل في حكومة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الله تعالى ، وحاكميّته تعالى لا تقتصر على التشريعات الكلية فحسب ، كما هو المزعوم في معتقد المذاهب الإسلامية الأخرى ، وكما هو الحال في الديانة المسيحية واليهودية : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (١) ، بل تشمل جميع نواحي الحياة ..

ولن تجد ـ إذا فتّشت ـ عقيدة تتبنّى حاكمية الله تعالى السياسية والعسكرية و ... وباقي نواحي الحياة فضلا عن حاكميّته في مجال التشريع غير عقيدة الإمامة الإلهية ؛ وهذا معنى أنّ الإمامة والولاية باب من أبواب التوحيد ومن أبواب ربوبية الله تعالى وحده في النظام الاجتماعي السياسي.

__________________

(١). المائدة / ٦٤.

النبيّ هارون عليه‌السلام ونموذج الوحدة

وقوله تعالى حكاية عن هارون بعد عبادة بني إسرائيل العجل : (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (١) ملحمة قرآنية يسطرها لنا القرآن الكريم تبيانا لموقف هارون وصيّ موسى عليه‌السلام بعد ما ضلّ كثير من بني إسرائيل عن الهدى إلى عبادة العجل واتّباع السامري. ففي الوقت الذي راعى فيه هارون وحدة بني إسرائيل وحافظ عليها ، إلّا أنّه لم يتّبع ضلال أكثرية بني إسرائيل والسامري في عبادة العجل لتحقيق الوحدة ، بل قال لهم : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٢) ؛ فقام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وكان الأسلوب الذي اتّخذه لا بنحو يؤدّي إلى فرقة بني إسرائيل ولا بنحو ذوبانه هو في الانحراف وترك طريق الإصلاح ، لا سيّما وأنّه لم تكن لديه القدرة على الالتجاء إلى القوّة في الإصلاح ، كما قال : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي) (٣) وهو يدلّ على مدى رفض هارون عليه‌السلام للانحراف الحاصل لدى بني إسرائيل ومقاومته السلمية الثابتة لهم بلا مهادنة حتّى كادوا أن يقتلوه.

والذي قام به هارون عليه‌السلام هو الذي أوصاه به موسى عليه‌السلام : (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٤) ، فأمره بالإصلاح ونهاه عن اتّباع سبيل المفسدين ، ومن ثمّ لمّا رجع موسى إلى قومه وقال : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا* أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي* قالَ يَا بْنَ أُمَّ ...) (٥).

وكانت مساءلة موسى عليه‌السلام عن عدم اتّباع هارون عليه‌السلام له ، أي عن عدم مفارقة هارون لبني إسرائيل ولحوقه بموسى كي يحلّ عليهم العذاب ، أو عن عدم مقاتلته لتيّار الانحراف

__________________

(١). طه / ٩٤.

(٢). طه / ٩٠.

(٣). الأعراف / ١٥٠.

(٤). الأعراف / ١٤٢.

(٥). طه / ٩٢ ـ ٩٤.

والضلال في بني إسرائيل ، فأجابه بتحرّيه طريق الإصلاح من الاهتمام بمصير بني إسرائيل ، وإرشادهم إلى الصواب ، ونهيهم عن الضلال ، ومقاطعته وتبرّيه عن سبيل المفسدين ، ورضى موسى عليه‌السلام بفعله.

وفي الحقيقة إنّ مساءلة النبيّ موسى عليه‌السلام لوصيّه النبيّ هارون عليه‌السلام عن دوره في هذا الحدث الداهية الفظيع ، وكذلك أخذه برأسه ولحيته ، ليس لإدانة أخيه ووصيّه ، أو شكّه في استقامته ، بل هي لأجل بيان مدى فظاعة الانحراف والضلال الذي ارتكب ، كما قال موسى : (بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي) (١) ، (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٢) ، وكذلك لدفع تهمة تخاذل هارون عن الحقّ.

وهي أيضا نظير مساءلة الله تعالى للنبيّ عيسى يوم المعاد : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (٣) ؛ إذ هي لبيان العظيمة التي ارتكبها النصارى من الشرك ، لا لأجل عتاب النبيّ عيسى عليه‌السلام ؛ كيف وهو تعالى عالم ببراءة ساحته عن انحراف النصارى؟!

وكذلك لكون مساءلة ومحاسبة النبيّ عيسى عليه‌السلام تدلّ على عظم الخطب في الحدث ، الذي يستدعي مساءلة كلّ أطراف الحدث عنه ، حتّى مثل النبيّ ؛ ولتبرئة عيسى عليه‌السلام عن ضلال النصارى ، وهذا الأسلوب من فنون الكلام والبيان ، فكذلك الحال في مساءلة النبيّ موسى عليه‌السلام لوصيّه هارون عليه‌السلام.

وكذلك في مساءلة الصدّيقة الزهراء لوصيّ المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اشتملت مشيمة

__________________

(١). الأعراف / ١٥٠.

(٢). طه / ٨٥.

(٣). المائدة / ١١٦ ـ ١١٧.

الجنين ، وقعدت حجرة الظنين ، نقضت قادمة الأجدل ، فخانك ريش الأعزل؟!» (١) ؛ فهي لم تكن ـ كما يوهمه عمى البصيرة ـ جزعا منها عليها‌السلام أو عتابا لأمير المؤمنين ، وإنّما هيعليها‌السلام في صدد بيان انحراف القوم وشدّة ضلال ما ارتكبوه ، ولكي يتبيّن أنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن سكوته عن مقاتلتهم تخاذلا منه أو جبنا أو نكصا عن الحقّ ، بل لأنّ صدامه المسلّح معهم يوجب تزلزل عقيدة الناس بالدين ، والنزاع على السلطة في نظر وذهنية عامّة الناس من أكبر أمثلة التنازع على الدنيا وأعظمها ، وبالتالي سيسري شكّهم في دواعي الوصيّ عليه‌السلام إلى دواعي ابن عمّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ كلّ ما جرى هو تغالب على الملك ، كما قال ذلك يزيد بن معاوية :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل (٢)

وقال أبي سفيان عند فتح مكّة للعبّاس : «إنّ ملك ابن اخيك لعظيم» فأجابه العبّاس : «إنّها النبوّة» (٣). فالناس ليس لديهم الوعي والبصيرة الكافية في كون خطورة هذا الانحراف هو شبيه الانحراف الذي حصل في الديانة اليهودية والمسيحية ، وليس هو محض مسند القدرة في النظام الاجتماعي السياسي.

ثمّ إنّ من سيرة هارون عليه‌السلام تستخلص العبر ؛ إذ المحافظة على وحدة بني إسرائيل أوجبت عدم المصادمة المسلّحة بين فريقي الحقّ والباطل ، لكن الوحدة لم توجب ذوبان فريق الحقّ في فريق الباطل ، ولا تركهم للنصيحة والوعظ بأسلوب المداراة ، والوحدة التكتيكية لم توجب إيقاف الإصلاح والأمر بالحقّ والنهي عن الباطل بأسلوب الحكمة وطريق الموعظة الحسنة ، فضلا عن التنكر والريب في ثوابت الحقّ ، ولا استحسان الباطل وموادّته ، ولا كراهة الحقّ والازدراء به.

__________________

(١). الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ ٦٨٣ ح ١٤٥٥ ، المناقب ـ لابن شهرآشوب ـ ٢ / ٥٠.

(٢). تذكرة الخواصّ : ٢٣٥ ، البداية والنهاية ٨ / ١٥٤ ، الإتحاف بحبّ الأشراف : ٥٧.

(٣). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٢ / ١٣٥ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ٧ / ٧٦.

الوحدة وعناوين مختلطة

ثمّ إنّه في بحث الوحدة هناك محور آخر يثار دائما ويحصل الخلط المتعمّد فيه. عناوين: السبّ ، اللعن ، التولّي ، التبرّي ، المداراة ، الموادّة ، الاحترام ، التعظيم ، الخلق الحسن ، المحبّة ، الأدب ، تحرّي وكشف الحقيقة في الأحداث التاريخية للمسلمين ، الطعن على الآخرين ، وغيرها من العناوين التي تتداول ، هي موضوعات وأفعال مختلفة ، لكن يتوسّل بمفردات ألفاظ بعضها لإرادة بعضها الآخر تمويها ، ولكلّ منها حكم شرعي وعقلي وأخلاقي يختلف عن الآخر ، فترى بعضهم يدافع ـ بذريعة قبح السبّ ـ حتّى عمّن انحرف عن منهاج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويتولّاه ، ويعظّمه ، ويتوادده عند ذكره ، ويجعل منه قدوة تحتذى.

فاللازم تحرير معاني هذه العناوين ، ثمّ بيان أحكامها :

أمّا السبّ فهو ـ لغة ـ الشتم وذكر الشخص بعار ونقيصة ، وهو ـ عرفا ـ ذكر الشخص بالألفاظ المستقبحة والشنيعة والمستهجنة والقذرة.

وأمّا اللعن فهو : الطرد عن الرحمة ؛ وقد سمّى الله تعالى ابليس بذلك لأنّه أبلس من رحمة الله ، أي يئس وطرد من رحمته.

وأمّا التبرّي فهو : النفرة ، والقطيعة ، والتباعد ، والتجافي.

وأمّا المداراة فهي : المجاملة ، وإظهار حسن العشرة واللين ، ونحو ذلك على صعيد التعامل. ونحوه الخلق الحسن في العريكة والمعشر. وكذلك الأدب في المعاملة والمخالطة.

وأمّا المحبّة فهي : ميل قلبي وانعطاف نفساني تجاه المحبوب ، والموادّة : بروز المحبّة أو اشتدادها.

والاحترام والتعظيم : إبداء حرمة وعظمة الشيء ـ أو الشخص ـ ووضعه في مكانة ومنزلة مرموقة.

أمّا كشف الحقائق فإنّه ضروري لتكوين رؤية واقعية صادقة ، ولاستخلاص العبر والمنهاج وإلّا كانت البصيرة زائفة ، وفي هذا المجال لا معنى لطمس ورقة من الحقيقة بذريعة تحاشي الطعن على الآخرين.

أمّا الطعن على الآخرين : فهو إمّا أن يكون كاذبا غير مطابق للواقع ، أو مطابقا إلّا أنّه غير هادف وناشئ عن دواعي متدنّية.

إذا اتّضحت مفاهيم جملة من العناوين المتداولة في البحث فاللازم بيان حكم كلّ منها.

الوحدة والتولّي والتبرّي

أمّا فريضة التبرّي من أهل الباطل والضلال من ذوي العناد فيدلّ عليه قوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (١).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (٢).

وقوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ ... لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٣).

__________________

(١). المجادلة / ٢٢.

(٢). الممتحنة / ١.

(٣). الممتحنة / ٤ ـ ٦.

وفي هذه الآيات يلاحظ الحثّ على إبراز وإظهار البراءة القلبية والنفسية على مستوى العلاقة الخارجية ، نعم في الآية اللاحقة : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (١) ، وهذا ليس تفصيل في المودّة بل في تجويز البرّ والمعاملة الحسنة مع غير المعادين منهم ، وإلّا فالموادّة لا استثناء فيها ، بخلاف المعادين منهم فاللازم إظهار الشدّة معهم : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ)(٢).

وقال تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ* وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٣).

وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٤) ، والولجة ـ بالتحريك ـ هي المكان الذي يستتر فيه المار عن المطر وغيره ، والولوج هو دخول شيء في شيء باستتار الأوّل في الثاني ، فالوليجة هي : الجماعة التي يحتمي بها الشخص وينضمّ إليها ويتحالف معها.

ولا يخفى تعدّد ألسن البراءة والتبرّي : الأوّل : تحريم الموادّة ، والثاني : تحريم وليجة غير المؤمنين مطلقا ، والثالث : وجوب التبرّي من الأعداء في الدين ، والرابع : حرمة الاستغفار لهم وهو نحو من طلب الرحمة الإلهية لهم.

وقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ* إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ

__________________

(١). الممتحنة / ٨.

(٢). الفتح / ٢٩.

(٣). التوبة (البراءة) / ١١٤.

(٤). التوبة (البراءة) / ١٦.

أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (١).

ويلاحظ في هذه الآيات تقنين المحبّة ـ التولّي والبراءة ـ بتحريم محبّة الأنداد ، والندّ : كلّ من يدعى لغير طاعة الله تعالى ، كما جاء في الروايات ، ويطابق المعنى اللغوي بقرينة السياق ، وأنّ التبرّي من أهل العصيان والطغيان فريضة ، وأنّ هذا العصيان في التولّي والتبرّي يوجب الخلود في النار ؛ وفي ذلك تعظيم لفريضة التولّي والتبرّي ، وأنّها بمثابة الأصول الاعتقادية الموجبة للنجاة مع الطاعة ، وللخلود في النار مع المعصية.

وهذا لسان خامس في هذه الفريضة ؛ قال تعالى : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) (٢) ، وكان طالوت إماما لبني إسرائيل وجعل متابعته وعدمها مرتبطة بالتولّي والتبرّي.

وكذا قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٣) ؛ إذ جعلت المودّة التي هي عماد التولّي لأهل البيت في مصاف أصول الدين بمقتضى تعادل الأجر مع العمل في ماهية المؤاجرة والمعاوضة ، والعمل هو تبليغ الدين ، وهذه الآية جعلت مدار التولّي في الدين والإسلام والإيمان هو موالاة أهل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وهو ممّا يقتضي عصمتهم.

وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ* وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ

__________________

(١). البقرة / ١٦٥ ـ ١٦٧.

(٢). البقرة / ٢٤٩.

(٣). الشورى / ٢٣.

مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ... إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (١).

وهذه الآيات كآية مودّة القربى حاصرة للتولّي في الدين بالله والرسول والأئمّة أوصياء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد اتّفق الفريقان على نزولها في عليّ عليه‌السلام وتصدّقه وهو راكع في الصلاة ، كما تدلّ هذه الآيات على كون التولّي لأئمة الهدى من أهل البيت والتبرّي من الأعداء هو من أصول الإيمان ..

وتدلّ على أنّ فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ـ وهي الفئة التي نشأت في صفوف المسلمين في أوائل البعثة النبوية في مكّة ، كما تشير إلى ذلك سورة المدّثر ، رابع سورة نزلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ تتولّى أهل الكتاب والكفّار لخوفهم من انقلاب الكفّة لصالحهم على المسلمين ..

كما أنّ الآية تدلّ على أنّ النصرة لهذا الدين ووليّه منحصرة بعليّ عليه‌السلام وولدهعليهم‌السلام بتولّيهم ، وأنّهم حزب الله الغالبون ، وأنّ من يرتدّ عن الدين بترك فريضة التولّي لهم عليهم‌السلام والتبرّي من الكفّار وبقية أعدائهم فسوف يأتي الله بقوم يقومون بفريضة التولّي والتبرّي.

وقد روت العامّة بطرق مستفيضة حديثا بمضمون الآية نفسه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ الإسلام لا يزال عزيزا ما مضى فيهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٢). وفي رواية مسلم : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا ... كلّهم من قريش» (٣) ، وفي لفظ آخر في صحيح مسلم : «لا يزال هذا الدين عزيزا متبعا إلى اثني

__________________

(١). المائدة / ٥١ ـ ٥٧.

(٢). جامع الأصول ٤ / ٤٤٠.

(٣). صحيح مسلم ٣ / ١٤٥٢ ح ٦.

عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (١). وفي رواية أبي داود السجستاني : «لا يزال هذا الدين قائما حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ... كلّهم من قريش» (٢). وفي أخرى : «لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، قال : فكبّر الناس وضجّوا ... كلّهم من قريش»(٣) ، وفي بعضها : «لا يزال أمر أمّتي صالحا حتّى يمضي اثنا عشر خليفة ... كلّهم من قريش» ؛ رواه الطبراني في الأوسط (٤) والكبير ، والبزّار (٥) ، ورجال الطبراني رجال الصحيح ..

وفي الكبير : «لا يزال الإسلام ظاهرا حتّى يكون اثنا عشر أميرا أو خليفة ، كلّهم من قريش» (٦). وفي لفظ آخر : «لا يزال أمر هذه الأمّة هاديا على من ناواها حتّى يكون عليكم اثني عشر أميرا ... كلّهم من قريش» (٧). وفي رواية أخرى : «لا يزال أمر هذه الأمّة ظاهرا ...» (٨). وفي لفظ آخر : «لا يضرّ هذا الدين من ناواه حتّى يقوم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٩). وفي لفظ : «لا تزال أمّتي على الحقّ ظاهرين حتّى يكون عليهم اثني عشر أميرا ، كلّهم من قريش» (١٠). وفي لفظ : «لا تبرحون بخير ما قام عليكم اثني عشر أميرا ... كلّهم من قريش» (١١). وفي لفظ : «لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر ...». وفي لفظ : «لن يزال هذا الدين عزيزا منيعا على من

__________________

(١). صحيح مسلم ٣ / ١٤٥٣ ، ح ٩.

(٢). سنن أبي داود ٤ / ١٠٦ ح ٤٢٧٩.

(٣). سنن أبي داود ٤ / ١٠٦ ح ٤٢٨٠ ، مفتاح المسند عن المسند ٥ / ٨٦ ، ٨٧ ، ١٠٧ ، و ٧ / ٣٩٩ ، و ٥ / ٣٣ ـ طبعة مصر القديمة ، وقد ذكر لها اثنا عشر سندا ؛ نقلا عن شرح إحقاق الحقّ ـ للسيّد المرعشي ـ ٢ / ٣٥٤ ، ولاحظ : ١٣ / ٤٦ فإنّه نقل مصادر أخرى عن فتح الباري وإرشاد الساري.

(٤). المعجم الأوسط ٦ / ٢٨٤ ح ٦٢١١.

(٥). المعجم الكبير ٢٢ / ١٢٠ ح ٣٠٨ ؛ ومسند البزّار ج ٥ ح ١٥٨٤ نقلا عنه.

(٦). المعجم الكبير ٢ / ٢٠٦ ح ١٨٤١.

(٧). المعجم الكبير ٢ / ١٩٧ ح ١٨٠٠.

(٨). المعجم الكبير ٢ / ١٩٦ ح ١٧٩٧.

(٩). المعجم الكبير ٢ / ٢٠٨ ح ١٨٥٢.

(١٠). المعجم الكبير ٢ / ٢٥٣ ح ٢٠٦١.

(١١). المعجم الكبير ٢ / ٢٥٣ ح ٢٠٦٠.

ناوأه ، لا يضرّه من فارقه أو خالفه حتّى يملك اثنا عشر ، كلّهم من قريش» (١). وفي بعضها: «كلّهم من بني هاشم» (٢). وفي لفظ : «لا يزال الدين قائما حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٣). وفي لفظ : «لا يزال هذا الأمر صالحا ...» (٤). و : «لا يزال هذه الأمّة مستقيما أمرها ، ظاهرة على عدوّها ، حتّى يمضي منهم اثني عشر خليفة ، كلّهم من قريش» (٥). و : «لا يزال هذا الدين قائما ...» (٦). ولاحظ بقية الألفاظ في إحقاق الحقّ (٧).

فتبيّن من آيات سورة المائدة والأحاديث النبوية أنّ عزّة الدين والإسلام وقوامه بالأئمّة من أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما أنّ صلاح أمر الأمّة الإسلامية ومضيّه واستقامته هو بالاثني عشر عليهم‌السلام ، وأنّ هدي أمر الأمّة بيدهم عليهم‌السلام.

كما أن غلبة الأمّة على أعدائها وعزّها وبقاءها على الحقّ هو ببركة الذي يقوم به أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، سواء الدور البارز على السطح أو الدور الخفي الذي يتّخذ أشكالا وصورا مختلفة ، وسواء العلمي أو الاجتماعي أو السياسي أو الأمني أو العسكري أو الاقتصادي أو الأخلاقي المعنوي أو باقي المجالات الأخرى ..

وسيأتي أنّ بهم عليهم‌السلام حصل انتشار الإسلام وبأعدائهم حصل توقّف انتشاره ، وبهمعليهم‌السلام تفتّقت بنية الاعتقادات والمعارف الحقّة وبأعدائهم تولّد الزيغ والضلال ، وبهم عليهم‌السلام شيّد للدين منهاجه الأخلاقي والقانوني وبأعدائهم دبّت الأهواء والميول

__________________

(١). المعجم الكبير ٢ / ١٩٦ ح ١٧٩٥ وح ١٧٩٦.

(٢). ينابيع المودّة ـ للقندوزي ـ ٢ / ٣١٥ ح ٩٠٨ و ٣ / ٢٩٠ ح ٤.

(٣). المعجم الكبير ٢ / ١٩٩ ح ١٨٠٩.

(٤). المعجم الأوسط ٤ / ٣٦٦ ح ٣٩٣٨.

(٥). المعجم الكبير ٢ / ٢٥٣ ح ٢٠٥٩ ، المعجم الأوسط ٦ / ٣٤٥ ح ٦٣٨٢.

(٦). المعجم الكبير ٢ / ١٩٩ ح ١٨٠٨ ، ٢٠٧ ح ١٨٤٩.

(٧). إحقاق الحقّ ١٣ / ١١ ـ ٤٩.

وحصلت الفوضى ، وذلك بيّن واضح لمن أمعن قراءة التاريخ الاجتماعي طوال الأربعة عشر قرنا.

ومن الآيات الدالّة على التولّي والتبرّي قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ* وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ* لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١).

وهذه الآيات تقابل بين المودّة والعداوة ، والمودّة مقرّرة بين المؤمنين والعداوة مع الأعداء ، والولاء مع أهل الحقّ والقطيعة مع أهل الباطل ، وقد تكون الوظيفة حيثية أو نسبية بقدر ما عند الطرف الآخر من اتّباع للحقّ أو اتّباع للباطل.

ومثل هذه الآيات طائفة أخرى دالّة على اتّخاذ العداوة مع الأعداء :

قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٢).

وقال تعالى على لسان إبراهيم : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) (٣).

وقال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٤).

وقال تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٥).

__________________

(١). المائدة / ٨٠ ـ ٨٢.

(٢). البقرة / ٩٨.

(٣). الشعراء / ٧٥ ـ ٧٧.

(٤). المنافقون / ٤.

(٥). فاطر / ٦.

وقد مرّ قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ).

هذا مضافا إلى آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (١).

وقوله تعالى : (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (٢).

وقال تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) (٣).

ولا ريب في أنّ النهي عن منكر تبرّي منه ، والواجب في النهي عن المنكر أن يكون بنكرانه في القلب أوّلا وبالسعي في إزالته ثانيا ، كما أنّ الواجب في الأمر بالمعروف برضاه وحبّه في القلب أوّلا وبالسعي لإقامته ثانيا ، ومن أحبّ عمل قوم أشرك معهم ؛ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه ، ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده» (٤).

فالتولّي للمعروف بالقلب والعمل فريضة ركنية ، والتبرّي من المنكر بالقلب والعمل فريضة ركنية ، ومن أعظم المعروف معرفة الحقّ ، ومن أعظم المنكر جحود الحقّ والإقرار بالباطل ؛ فظهر أنّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على التولّي والتبرّي ..

ولا يخفى أنّ لتولّي المعروف والحقّ والأمر به ، وللتبرّي من الباطل والمنكر والنهي عنه ، درجات وأساليب ومقامات مشروحة في محالّها ، فليس النهي عن المنكر والتبرّي

__________________

(١). آل عمران / ١٠٤.

(٢). التوبة (براءة) / ٧١.

(٣). المائدة / ٧٨ ـ ٧٩.

(٤). وسائل الشيعة : أبواب الأمر والنهي ب ٢ ح ٥.

من الباطل يعني أسلوب الحدّة والشدّة بل قد يكون اللين والموعظة الحسنة أنفع وأنجع في إزالة الباطل والمنكر ، إلّا أنّ الخلط والتشويش يقع بين كيفية أسلوب اللين وبين استحسان المنكر واستنكار المعروف ، أو بين المداراة وبين الرضا بالباطل ، وكذلك بين مقام التعامل مع الطوائف الأخرى وبين مقام الحقيقة الدينية الواقعية وفي ما هو داخل الطائفة. وبعبارة أدقّ : الخلط في الموازنة بين المحافظة على حقائق الدين وبين تجنّب الفرقة في زمن الهدنة.

وقد مرّ موقف هارون عليه‌السلام من ضلال بني إسرائيل وتبرّيه من زيغهم في حين عدم تفريطه بوحدتهم وأنّ ردعه عن منكرهم اقتصر فيه على ذلك لعدم قدرته على ما هو أشدّ درجة ، كذلك مرّ موقف سيّد الشهداء عليه‌السلام من الانحراف في حين كان عليه‌السلام يجعل مصير الأمّة والمسلمين من مسئوليّته ، وكذلك موقف سيّد الوصيّين في حروب الجمل وصفّين والنهروان ؛ فهو لم يعر أهمّية لما اقترح عليه جملة ممّن زعم الحرص على وحدة المسلمين من عدم قتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، إذ أنّه عليه‌السلام ـ برواية الفريقين ـ مأمور من النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقاتل الفئات الثلاث ، وأنّه يقاتل على التأويل في الشريعة والقرآن كما قاتل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تنزيله ، وأنّ القتال الثاني عين القتال الأوّل في الأهمّية والضرورة لبناء صرح الدين ، بل نشاهد عليّا عليه‌السلام لم يقبل البيعة لنفسه ـ بعد قتل عمر ـ عند ما اشترط فيها الأخذ بسنّة الشيخين ، كما أنّه لم يشارك في حروبهم رغم أنّ بسيفه فتح الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبه قام الإسلام في ربوعه أمّة وملّة ودولة.

كذلك موقف الصدّيقة البتول التي شهد القرآن بطهارتها وعصمتها ، ثالثة أصحاب الكساء ، التي احتجّ الله تعالى بشهادتها لصدق النبوّة على أهل الكتاب في واقعة المباهلة ، وروى الفريقان أنّها سيّدة نساء أهل الجنّة ؛ إذ قامت بالمعارضة الشديدة حتّى استنهضت الأنصار للانقلاب على حكم السقيفة ، مع أنّ الأوضاع بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت مضطربة حسب زعم أهل السقيفة ، وقد أعلن عليّ عليه‌السلام بطلان مشروعية الحكم بامتناعه عن بيعتهم ، كما روى ذلك البخاري.

وفي قتل عثمان لم يمانع عليه‌السلام وقوعه ، وإنّما كان ينكر على الثوّار هذا الأسلوب من جهة أنّه يعطي الذريعة لمعاوية وبني أمية وغيرهم لزعم مظلومية عثمان ، بخلاف حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم من سبّب الفتنة ممّن كان في جهته ، فإنّ ذلك كان قد ارتضاهعليه‌السلام ، وهو مفاد الوساطة التي قام عليه‌السلام بها في المرّة الأولى ، إلّا أنّ عثمان اتّهمه بأنّه السبب في كلّ ذلك فاعتزل عليه‌السلام.

وقد منع السيّد المرتضى في الشافي (١) والشيخ في تلخيصه (٢) ثبوت إرسال أمير المؤمنين الحسن عليه‌السلام للذبّ عن عثمان من طرقنا ؛ ولو سلّم فليس للذبّ عنه بل للوساطة درءا عن تشعّب الفوضى ، وإلى ذلك يشير ما رواه الشريف المرتضى (٣) عن الواقدي ، عن الحكم بن الصلت ، عن محمّد بن عمّار بن ياسر ، عن أبيه ، قال :

رأيت عليّا على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قتل عثمان وهو يقول : ما أحببت قتله ولا كرهته ، ولا أمرت به ولا نهيت عنه.

وروى البلاذري عنه عليه‌السلام أنّه قال :

والله الذي لا إله إلّا هو ما قتلته ولا مالأت على قتله ولا ساءني (٤).

وروي بطرق كثيرة عنه عليه‌السلام أنّه قال : «من يسائلي عن دم عثمان فإنّ الله قتله وأنا معه» (٥) ، وفسّر بأنّ حكم الله هو قتله وأنّه عليه‌السلام راض بحكم الله تعالى.

وفي خطبه له جوابا لاعتراض الأشعث بن قيس قال عليه‌السلام :

ولو أنّ عثمان لمّا قال له الناس : اخلعها ونكفّ عنك ، خلعها ، لم يقتلوه ، ولكنّه قال : لا أخلعها ، فقالوا : فإنّا قاتلوك فكفّ يده عنهم حتّى قتلوه ،

__________________

(١). الشافي ٤ / ٢٤٢.

(٢). تلخيص الشافي ٣ / ١٠٠.

(٣). الشافي ٤ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨ ؛ ورواه البلاذري في الأنساب ٥ / ١٠١.

(٤). الأنساب ٥ / ٩٨.

(٥). الغدير ـ للأميني ـ / ٦٩ ـ ٧٧ ـ ٣١٥ ـ ٣٧٥ ، والشافي ٤ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

ولعمري لخلعه إيّاها كان خيرا له ؛ لأنّه أخذها بغير حقّ ، ولم يكن له فيها نصيب ، وادّعى ما ليس له ، وتناول حقّ غيره.

ويلك يا ابن قيس! إنّ عثمان لا يعدوا أن يكون أحد رجلين : إمّا أن دعا الناس إلى نصرته فلم ينصرونه ، وإمّا أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم عن نصرته ؛ فلم يكن يحلّ له أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماما هاديا مهتديا ، لم يحدث حدثا ولم يؤو محدثا ، وبئس ما صنع حين نهاهم ، وبئس ما صنعوا حين أطاعوه ، فإمّا أن يكونوا لم يروه أهلا لنصرته ؛ لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنّة ... (١)

وهكذا مواقف حواريّيه عليه‌السلام تجاه عثمان ، مثل أبي ذرّ وما جرى بينهما ، وموقف عمّار مع عثمان ، بل إنّ مصادر القوم تنسب تدبير خلع عثمان في الدرجة الأولى إلى عمّار ومحمّد بن أبي بكر.

وغير ذلك من مواقفهم عليهم‌السلام ومواقف أصحابهم ـ رضي الله عنهم ـ التي قد يتخيّل أنّ فيها مصادمة مع الوحدة ، ولم يجدوا في الوحدة معنى يطغى على الأمر بالحقّ والمعروف والنهي عن الباطل والمنكر ، أي على تولّي الحقّ والتبرّي من الباطل.

معنى وقوام الوحدة

ويشير عليه‌السلام إلى الوحدة المعنية التي هي محلّ أهمّية في قوله عليه‌السلام :

وأيم الله لو لا مخافة الفرقة من المسلمين أن يعودوا إلى الكفر ويعود [يبور] الدين لكنّا قد غيّرنا ذلك ما استطعنا (٢).

__________________

(١). كتاب سليم بن قيس الكوفي ٢ / ٦٦٦ ضمن ح ١٢ ، بحار الأنوار ٢٩ / ٤٦٩ ضمن ح ٥٥ ، ولها مصادر كثيرة أخرى ؛ لاحظ : هامش هذه الخطبة في بحار الأنوار.

(٢). الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ ١٥٤ ـ ١٥٦ ح ٦.

فهو عليه‌السلام يفسّر الفرقة بمعنى اختلاف المسلمين عن الدين باختيار جملة منهم الخروج عن الإسلام واعتناق الكفر أو ديانة أخرى ..

وبيانه عليه‌السلام هذا يفسّر قول هارون عليه‌السلام : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (١) ، أنّه بمعنى تفرّق بني إسرائيل عن دين النبيّ موسى عليه‌السلام لو اصطدم هارون معهم بالسلاح أو قاطعهم بمفارقتهم والخروج عنهم ، وهذا يوجب شدّة تعصّبهم وارتدادهم عن دين موسى عليه‌السلام ؛ إذ أنّ عبادتهم للعجل بتسويل السامري كانت بخداعه أنّ ذلك من شرع موسى عليه‌السلام : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٢).

أمّا السبّ ، فقد تقدّم افتراقه عن اللعن ؛ إذ هو الفحش من القول القذر الذي يمارسه حثالى وأسافل الناس ، قال تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٣) ، وهو يفترق عن ذكر حقائق الأمور والأحداث الواقعة في تاريخ المسلمين ، فالسبّ لا يرتبط بها ، وخلط العناوين مثار مغالطة.

قال عليّ عليه‌السلام ـ وقد سمع قوما من أصحابه يسبّون أهل الشام أيام حربهم بصفّين ـ :

إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين ، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم ، وذكرتم حالهم ، كان أصوب في القول ، وأبلغ في العذر ، وقلتم مكان سبّكم : اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ من جهله ، ويرعوي عن الغي من لهج به (٤).

فتراه عليه‌السلام في الوقت الذي ينهى عن السبّ ، يحثّ على وصف أعمالهم وذكر حالهم ، أي استعراض حقائق الأمور وما عليه أهل الباطل من رداءة العمل ورذيلة الحال ، وبيّنعليه‌السلام الغاية من ذلك : «حتّى يعرف الحقّ من جهله» أي : ليتبيّن طريق الحقّ وأهله و

__________________

(١). طه / ٩٤.

(٢). طه / ٨٨.

(٣). الأنعام / ١٠٨.

(٤). نهج البلاغة : خطبة ٢٠٦.

طريق الباطل وأهله ، وتفيق الأجيال من رقدتها وسباتها ، وتبصر الحقّ والهدى ، ولا يصيبها العمى والهذيان ، «ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به» أي : ينقطع المسلمون السالكون طريق الغي والعدوان ، ولئلّا يدعون إلى ذلك الطريق الضال.

قال ابن أبي الحديد ـ في ذيل الخطبة في شرح النهج البلاغة ـ :

الذي كرهه عليه‌السلام منهم أنّهم كانوا يشتمون أهل الشام ، ولم يكن يكره منهم لعنهم إيّاهم (١).

كما أنّه عليه‌السلام يبيّن قواعد وضوابط الوحدة الإسلامية ، بقوله عليه‌السلام :

اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم ، وأصلح ذات بيننا وبينهم ، واهدهم من ضلالتهم ، حتّى يعرف الحقّ ...

فالقاعدة الأولى هي : حقن الدماء وسيادة الأمن بين طوائف المسلمين.

والقاعدة الثانية : إنّ إصلاح ذات البين بين طوائف المسلمين يجب أن يكون على مسير الهداية والحقيقة والابتعاد عن الضلال ، ولغاية معرفة الحقّ ورجوع صاحب الغي عن غيّه ورجوع صاحب العدوان عن اعتدائه وصاحب الدعوة الضالّة عن ترويجه للضلال.

وكلامه عليه‌السلام طبق هدى الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٢).

فقد دلّت الآية على أنّ إصلاح ذات البين ورفع اختلاف المسلمين ووحدتهم يجب أن يرسو على العدل والقسط والحقّ والهدى ، لا على الظلم وإغماط الحقّ ، وأنّ الإصلاح والوحدة يجب أن تكون على أساس الفيء والرجوع إلى أمر الله تعالى ، لا إلى الأهواء والميول والضلالات.

ثمّ إنّ في الآية الناهية عن سبّ الّذين يدعون من دون الله نكتة ظريفة ، وهي : أنّ علّة

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢١ / ١١.

(٢). الحجرات / ٩.

النهي هي تمادي أهل الضلال في ضلالهم وغيّهم وابتعادهم عن سبيل الله ، ولم يعلل النهي بترك مباغضة المؤمنين لأهل الضلال والتبرّي من غيّهم ، ولو على مستوى القلب أو على مستوى السلوك الداخلي في ما بين المؤمنين ، كما أنّ مورد آية النهي عن السبّ هو صعيد التعامل مع أهل الضلال ، وصعيد دعوتهم للهداية.

وحيث اتّضح الفرق بين السبّ واللعن موضوعا ، فالمناسب الإشارة إلى حكم اللعن للظالمين والمعتدين ، فإنّه خلق إلهي ، استعرضه القرآن الكريم في ما يزيد على الثلاثين موردا في السور القرآنية (١) ، وكذلك هو خلق الأنبياء ، كما في قوله تعالى في آية المباهلة : (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (٢) ، وقوله تعالى : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) (٣).

بل في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٤) دعوة وندب إلى التبرّي من الكاتمين لحقائق الدين والشرائع ولهداية السماء بتوسّط اللعن هذا ، فضلا عن عشرات الموارد التي لعن فيها سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشخاصا بأسمائهم ، مثل لعنه أصحاب العقبة وأبي سفيان في سبعة مواطن (٥) ، ولعن رسول الله قاتل الحسين عليه‌السلام ، كما رواه الفريقان (٦).

__________________

(١). البقرة / ٨٩ ، النساء / ٤٦ و ٤٧ و ٩٣ و ١١٨ ، المائدة / ١٣ و ٦٠ ، الأحزاب / ٦٤ ، وغيرها ؛ فلاحظ مادّة «ل ع ن» في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

(٢). آل عمران / ٦١.

(٣). المائدة / ٧٨.

(٤). البقرة / ١٥٩.

(٥). الخصال : ٣٩٧ ـ ٣٩٨ ح ١٠٥.

(٦). تاريخ بغداد ٣ / ٢٩٠ ، أسد الغاية ٢ / ٢٢ ؛ ولاحظ ما رواه في الدرّ المنثور ٤ / ١٩١ من الروايات في ذيل الآية : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) ، وما رواه الخوارزمي في مقتل الحسين ١ / ١٧٦ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٤ / ٣٣٩ ، وابن حجر في لسان الميزان ٥ / ٣٧٧ ، والسيوطي في ذيل اللآلئ : ٧٦.

وقد قال : سعد التفتازاني في شرح العقائد النسفية :

وإنّما اختلفوا في يزيد بن معاوية ؛ حتّى ذكر في الخلاصة وغيرها : أنّه لا ينبغي اللعن عليه ولا على الحجّاج ؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم نهى عن لعن المصلّين ومن كان من أهل القبلة ، وما نقل عن لعن النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لبعض من أهل القبلة فلما أنّه يعلم من أحوال الناس ما لا يعلمه غيره. وبعضهم أطلق اللعن عليه لما أنّه كفر حين أمر بقتل الحسين رضي الله عنه ، واتّفقوا على جواز اللعن على من قتله ، وأمر به ، وأجازه ، ورضي به.

والحقّ أنّ رضا يزيد بقتل الحسين رضي الله عنه ، واستبشاره بذلك ، وإهانته أهل بيت النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، ممّا تواتر معناه ، وإن كان تفاصيله آحادا ، فنحن لا نتوقّف في شأنه بل في إيمانه ، لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه (١).

ولا يخفى أنّ المناط والضابطة التي ذكرها التفتازاني تنطبق على كثير ممّن عادى أهل بيت النبوّة.

وقال الغزّالي :

الصفات المقتضية للّعن ثلاثة : الكفر والبدعة والفسق (٢).

وقد ألّف أبو الفرج ابن الجوزي كتابا في لعن يزيد سمّاه : الردّ على المتعصّب العنيد المانع من ذمّ يزيد ، ونسب فيه اللعن إلى العلماء الورعين (٣) ، كما حكى القاضي أبو يعلى الفرّاء في كتاب المعتمد عن أحمد بن حنبل ـ وكذا الشبراوي (٤) في الإتحاف ـ أنّه جوّز

__________________

(١). شرح العقائد النسفية ـ بتحقيق محمّد عدنان درويش ـ ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

(٢). إحياء علوم الدين ٣ / ١٠٦.

(٣). الردّ على المتعصّب العنيد : ١٣.

(٤). الإتحاف بحبّ الأشراف : ٦٤.

لعن يزيد (١) ، واستدلّ بقوله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) (٢) وحكى الدميري (٣) ذلك عن أبي حنيفة ومالك وأحمد ومثله ابن كثير (٤) ، والطبري (٥) ، والآلوسي (٦). وحكي كذلك عن الحنفية (٧).

وقد وقع أهل السنّة في حيص وبيص من لعن النبيّ جماعة بأسمائهم ، فأخذوا في توجيه ذلك بما يضحك الثكلى (٨) مع أنّهم رووا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان يلعنهم في صلاته ويقنت عليهم (٩). وروى الحاكم عن عائشة أنّه قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

ستّة لعنتهم ، لعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذّب بقدر الله تعالى ، والمتسلّط بالجبروت ؛ فيعزّ بذلك من أذلّ الله ويذلّ من أعزّ الله ، والمستحلّ لحرم الله ، والمستحلّ من عترتي ما حرّم الله ، والتارك لسنّتي (١٠).

وقال المحقّق الكركي في نفحات اللاهوت :

لا ريب أنّ اللعن هو الطرد والإبعاد من الرحمة ، وإنزال العقوبة بالمكلّف ، وكلّ فعل أو قول اقتضى نزول العقوبة بالمكلّف من فسق أو كفر فهو مقتضي لجواز اللعن (١١).

نعم هذا حكم اللعن للظالمين والمعتدين في نفسه أو في الوسط الداخلي ، وأمّا أسلوب دعوة الآخرين وإرشادهم فلا ريب أن يتحرّى فيه ما لا يثير عصبية الطرف

__________________

(١). الردّ على المتعصّب العنيد : ١٦ ـ ١٧.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٢.

(٣). حياة الحيوان ٢ / ١٧٥.

(٤). البداية والنهاية ٨ / ١٥٤ و ١٦٣ و ١٧٩.

(٥). تاريخ الطبري ٤ / ٥٣٧.

(٦). روح المعاني ٢٦ / ٧٣.

(٧). الدرّ المنتقى ١ / ٦٩٢ ، فيض القدير ١ / ٢٠٥.

(٨). لاحظ : الانتصار ـ للعاملي ـ ٣ / ١١٠ ـ ١١٢.

(٩). صحيح البخاري ٥ / ٣٥ باب : ليس لك من الأمر شيء.

(١٠). المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ١ / ٩١ ح ١٠٢.

(١١). نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت : ٤٤ ـ ٤٥.

الآخر ، كما ينبغي الالتفات إلى فلسفة اللعن في نفسه أو في الوسط الداخلي ؛ إذ أنّه مصداق لطبيعة التولّي والتبرّي ، التي مرّ أنّها فريضة قرآنية اعتقادية ، كما أنّه مصداق لطبيعة إنكار المنكر ـ ولو بالقلب واللسان ـ وكراهة الباطل ، وبالتالي فإنّه أسلوب تربوي للنفوس يقيمها على الحقّ ويبعدها عن استحسان الباطل ، فإنّه من أكبر الأدواء في المجتمعات استنكار الحقّ واستحسان الباطل والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.

وقال عليه‌السلام في خطبة له :

وإنّي لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ولكنّي لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي (١).

وهذا أصل بالغ الأهمّية لطريقة إصلاح الآخرين : أن لا تكون على حساب فساد المصلح نفسه ؛ فقد يداري المصلح الطرف الآخر لدرجة يضيّع فيها على نفسه وطائفته موقف الثبات على الحقّ ، ويؤدّي إلى ذوبانه في الباطل والانحراف باسم المداراة للإصلاح ، وبادّعاء أنّ الإصلاح قد يستلزم تخلّي الطائفة المحقّة عن بعض مبادئها وضرورياتها لتربية الطائفة نفسها.

إنّ لمعرفة الأهمّية البالغة للأمر بالمعروف والحقّ والنهي عن المنكر والباطل دور كبير في ثبات هوية المجتمع الديني ، ونظامه الاجتماعي ، وحصانته أمام الغزو الثقافي والعقائدي الأجنبي الدخيل ، الموجب للتحلّل الخلقي ولعدم التزام أفراد المجتمع تجاه مقدّسات الملّة والأمّة والمسئوليات الملقاة على عاتقهم.

الوحدة وشعائر المذهب

وهذه الوظيفة التي تؤدّيها فريضة التولّي والتبرّي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ من إيجاد الغيرة الدينية وحسّ المسئولية الاجتماعية الدينية ـ تتأدّى بآليات

__________________

(١). نهج البلاغة : خطبة ٦٩.

عديدة ، عمدتها الشعائر الدينية ، ومن هنا يتفطّن لأهميّة الشعائر وعدم التفريط بها ، ولا سيّما الشعائر الإيمانية المذهبية ؛ فإنّ التفريط بها يوجب التفريط بكيان المذهب وذوبانه أمام هوية المذاهب الإسلامية الأخرى ، القائمة على فقه واعتقادات السلاطين ، المصنوعة من سياسات السلطات الحاكمة ، كالجبرية ، والقدرية ، والمجسّمة ، واجتهاد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالظنّ وإلقاء الشيطان في أمنيّته ، وأنّ يد الله ـ والعياذ بالله ـ مقطوعة عن الأرض ، ومشروعية ولاية الحاكم المتغلّب بالقوّة ، وإطلاق الاجتهاد بالرأي ، والتأوّل ، والقياس ، والاستحسان ، وغيرها من الأصول ، ويؤكّد علماء الاجتماع كذلك على أهميّة الشعائر ـ الطقوس ـ الدينية وفلسفتها.

ونظير الخلط السابق بين العناوين ، الخلط في الموازنة بين إقامة الشعائر الإيمانية وبين عنوان التقية ، مع أنّ موضوع التقية «الخوفية» حيث لا سلطة قائمة للمؤمنين ، وكونهم أقلّية قليلة ونحو ذلك ، أو الخلط بين التقية «المداراتية» وبين إقامة المعرفة الحقّة في نفوس أبناء الطائفة ؛ فإنّ التقية إنّما شرّعت لحفظ الحقّ وأهله لا لطمسهما في المجتمع.

الوحدة وطوائف الشيعة

وإنّ التساؤل الجادّ المطروح في مشروع سياسة الوحدة هو عن الاهتمام ببقيّة طوائف ومذاهب الشيعة غير الإمامية ـ كالإسماعيلية والزيدية ومذهب العلويّين ـ نظير الاهتمام بالطوائف السنّية ، مع أنّ الملاحظ قلّة العناية بهم ، بل اللازم أولوية الاهتمام بهم لعدّة أسباب :

الأوّل : إنّ تحالفهم السياسي مع الطائفة مضمون ؛ نظرا لقرب أصولهم الاعتقادية لنا.

الثاني : قوّة وأقربيّة احتمال هدايتهم بالمقارنة مع الطوائف السنّية.

الثالث : كبر حجمهم العددي والخطورة الاستراتيجية لأماكن تواجدهم.

فالعلويّون ـ مثلا ـ يصل تعدادهم في جنوب تركيا إلى ١٣ مليون نسمة حسب الإحصائيات الرسمية ، ولكن بعض التقارير المحلية تصل بعددهم إلى ٢٢ مليون نسمة ، فضلا عن تواجدهم في سوريا ولبنان وشمال العراق.

ومثلهم الإسماعيلية ، فهم منتشرون في لبنان وسوريا والعراق وأفغانستان وپاكستان والهند واليمن ، وفي جنوب السعودية يشكّلون الأكثرية في المحافظات الجنوبية ، والغريب أنّه في مؤتمرات الوحدة لم توجّه إلى الآن ـ حسب ما قيل ـ أي دعوة لعلماء الإسماعيلية في سوريا أو في المناطق الأخرى ، والظاهر أنّ الحال كذلك بالنسبة إلى العلويّين ؛ إذ لم توجّه لهم دعوة.

وأمّا الزيدية فهم الأكثرية في اليمن. وكذلك الحال بالنسبة إلى الأشراف السادة من نسل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإنّ انتشارهم في الأصقاع كوثر كاثر ، ولهم نقابات في أكثر البلدان ، وهم على محبّة وولاء قلبي لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام أشدّ من غيرهم ، ففي بلاد المغرب العربي والجزائر وتونس ما يقرب من ٥ ملايين حسني ، فضلا عن مصر وليبيا ، وكذلك في المدينة المنوّرة ومكّة المكرّمة وأندونسيا.

والحاصل قلّما يخلو بلد من البلدان الإسلامية من هذا النسل الطيّب ، وهم أولى بإقامة الجسور معهم من أتباع بني أمية ومروان ، بل إنّ صوفية السنّة وفرقهم أولى بإقامة العلاقة معهم من بقية طوائف السنّة ؛ إذ أنّ غالبيّتهم يعتقدون باطنا بإمامة الاثني عشرعليهم‌السلام ، ولذلك تتخوّف الطوائف السنّية الظاهرية الرسمية منهم.

والحاصل : إنّ سياسة الوحدة لم تبن على بصيرة منهجية ، آخذة في عين الاعتبار درجات وأقسام الطوائف الإسلامية الموجودة ، وإرساء منهج يستند على أولويات مدروسة.

وكم فرق بين من يبطن المحبّة لك وبين من يبطن العداوة والبغضاء ؛ قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ* ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ

وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ ...) (١). وقال تعالى : (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ ...) (٢).

ولا يخفى أنّ الآيات المزبورة ليست في صدد تخشين العلاقة الخلقية مع الآخرين المتّصفين بذلك كي يتوهّم معارضتها بنظير قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) (٣) ، وقوله تعالى : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) (٤) ، بل هي في صدد بيان سياسة الانفتاح وبناء العلاقات الأساسية المعتمدة لبناء خطوات المستقبل من التحالفات في المجالات المختلفة.

الوحدة وحديث الفرقة الناجية

إنّ الحديث المتواتر بين الفريقين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أمّتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة منها ناجية واثنتان وسبعون في النار» (٥) يلزم الباحث المسلم الطالب للنجاة الأخروية الفحص عن خصوص تلك الفرقة الناجية ، والتمسّك بها دون بقية فرق المسلمين ؛ لأنّ مؤدّى الحديث النبوي أنّ الاختلاف الواقع ليس في دائرة الظنون والاجتهاد المشروع ، بل هو في دائرة الأصول والأركان من الأمور القطعية واليقينية ، أي ممّا قام الدليل القطعي واليقيني عليها ، وإن لم تكن ضرورية في زمن أو أزمان معيّنة نتيجة التشويش أو التعتيم الذي تقوم به الفرق الأخرى.

والحديث ـ مضافا إلى كونه ملحمة نبوية ـ يحدّد معالم الوحدة التي يجب أن تقيمها الأمّة الإسلامية بأن تكون على منهاج الحقّ والهدى الذي تسير عليه الفرقة الناجية ، وإنّ الأمّة وإن اشتركت في الإقرار بالشهادتين والانتماء إلى الملّة الواحدة إلّا أنّ

__________________

(١). آل عمران / ١١٨ ـ ١١٩.

(٢). التوبة / ٨.

(٣). البقرة / ٨٣.

(٤). المؤمنون / ٩٦.

(٥). بحار الأنوار ٢٨ / ٢ ـ ٣٦.

ذلك لا يعدو الأحكام بحسب ظاهر الإسلام في النشأة الدنيوية ، إلّا أنّها مفترقة بحسب واقع الإسلام والإيمان الذي به النجاة الأخروية ؛ فهناك ديانة بحسب إقرار اللسان تترتّب عليها أحكام المواطنة في النظام الاجتماعي السياسي ، وهناك ديانة بحسب القلب والأعمال تترتّب عليها أحكام الآخرة من النجاة من النار وإعطاء الثواب.

وهذه الأمور المستفادة من الحديث الشريف المتواتر إنّما هي بلحاظ الإنسان البالغ العاقل المكلّف ، الذي قد اجتمعت فيه شرائط التكليف ، أمّا الصبي والمجنون والجاهل القاصر أو المعتوه أو الأبله وحديث العهد بالإسلام ونحوهم ممّن لم تقم عليه الحجّة وتتمّ شرائط التكليف لديه ، فهم معذورون ، وعاقبة المعذور ـ كما سيأتي ـ موقوفة على المشيئة الإلهية الأخروية ، التي فسّرت في الروايات بإقامة امتحان إلهي له يوم القيامة إن أطاع فيه نجا وإن عصى هلك.

وقد أطلق على أفراد المعذور في الكتاب والسنّة عدّة تسميات ، ك (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) (١) ، و (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) (٢) ، و (أَصْحابُ الْأَعْرافِ) (٣) ، والّذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٤) ، و (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) (٥) ، وأطلق عليهم أيضا : «الضّلال» ، بمعنى : الضالّ «القاصر» ؛ إذ هذا أحد معانيه ، وإلّا فهو يطلق على «المقصّر» المخلّد في النار أيضا ..

لذلك لا مفرّ لهذا الإنسان ـ المكلّف المختار ـ ولا مخلص ولا نجاة له إلّا بالفحص عن الفرقة الناجية من فرق المسلمين ، وليس له أن يتعامى عن عمد ويسلك طريق الضلال والغواية ويرجو مع ذلك النجاة ، كما أنّ البحث الجادّ بين فرق المسلمين في إطار الوحدة لا بدّ أن يتحرّى فيه ـ بمقتضى الحديث الشريف والتوصية النبوية ـ عن الحقّ الذي

__________________

(١). النساء / ٩٨.

(٢). التوبة / ١٠٦.

(٣). الأعراف / ٤٨.

(٤). التوبة / ١٠٢.

(٥). التوبة / ٦٠.

تسلكه الفرقة الناجية لكي تتّبعها بقيّة الفرق ، فإنّ منهاج الهدى لا يرسم بضلال القاصر المستضعف.

ولكي تتمّ الفائدة من هذا الحديث المتواتر ـ حديث الفرقة الناجية ـ الذي أقرّت بمضمونه جلّ فرق المسلمين ، نذكر بعض النقاط التالية :

الأولى

إنّ الكلام في النجاة في الحديث الشريف هو بحسب الاستحقاق والامتثال ، لا بحسب الشفاعة والشفقة الإلهية والرحمة الواسعة ، أي بحسب ما يلزمه حكم العقل باتّباع الأدلّة والبراهين الشرعية والعقلية الأولية ، فإنّ العقل يوجب التجنّب عن التعرّض للسخط الإلهي واحتمال العقوبة الأخروية ، وإن لم يكن بين استحقاق العقوبة ووقوعها تلازم ؛ لاحتمال الشفاعة ونحوها ، فإنّ التعرّض لمثل العقوبة الأخروية التي أشفقت منها السماوات والأرض يعدّ من الإلقاء في الهلكة ، هذا فضلا عن الأصناف الأخرى لحكم العقل من وجوب شكر المنعم وقبح التمرّد والطغيان على المولى ، وغيرها من أنماط حكم العقل والفطرة.

الثانية

إنّ المقصود من النجاة في الحديث الشريف هو النجاة من الدخول في النار ومن ذوق حريق العذاب ، لا في النجاة من الخلود فيها ومن دوام العذاب ؛ فإنّ آراء المتكلّمين تكاد تتّفق أنّ الخلود للجاحدين وأهل العناد ، سواء كان الجحود في توحيد الذات أو الصفات ، أو في التشريع والرسالة ، أو في الولاية والإمامة ، أو في الغاية والمعاد ، ونحوها من أصول الاعتقاد.

وبعبارة أخرى : إنّ مفاد الحديث في دخول الجنّة عند الحساب والميزان ، لا في دخول الجنّة بعد أحقاب من العذاب في النار.

الثالثة

إنّ معذورية أفراد المعذور ـ كما يأتي ـ لا يعني تنجّز نجاته بل هي مرهونة

بالمشيئة الإلهية ، والتي فسّرت في عدّة من الأخبار بالامتحان ، كما لا يعني أنّ مسار هؤلاء هو طريق هدى بل مفروض العذرية تخبّط المعذور في الضلال والغواية ، فلا تلازم بين العذرية والأمان ولا بينها وبين ضمان النجاة ، ولا بينها وبين اتّخاذ خطأ وضلال المعذور منهاجا يتبجّح به. وسيأتي أنّ في الروايات ما يدلّ على أنّه يبيّن الحقّ لأفراد المعذور في امتحان يوم القيامة.

الرابعة

إنّ هناك جملة من الأحاديث النبوية المستفيضة والمتواترة الأخرى الدالّة على مفاد حديث الفرقة الناجية نفسه ، لكن بألفاظ مختلفة ودلالات متعدّدة التزامية ومطابقية ، منها : «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (١) ؛ وفي بعض الطرق : «وليس في عنقه بيعه لإمام زمانه» (٢) ، ونحو ذلك. ومنها : «مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ومن تركها هلك» (٣). ومنها : ذيل حديث الثقلين ؛ ومفهومه : «ما إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا أبدا» وغيرها من الأحاديث النبوية الواردة في عليّ عليه‌السلام وأهل بيته.

الخامسة

قد وردت جملة من الروايات المستفيضة في امتحان أقسام المعذور يوم القيامة ، منها : صحيحة هشام ؛ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «سئل عمّن مات في الفترة ـ أي في زمان انقطاع الرسل وغياب الحجّة ـ وعمّن لم يدرك الحنث ـ أي البلوغ ـ والمعتوه ، فقال : «يحتجّ الله عليهم يرفع لهم نارا فيقول لهم : ادخلوها ، فمن دخلها كانت عليه بردا

__________________

(١). دعائم الإسلام ١ / ٢٧ ، قرب الإسناد : ٣٥١ ضمن ح ١٢٦٠ ، المحاسن ١ / ٢٥١ ـ ٢٥٢ ح ٤٧٤ وح ٤٧٦.

(٢). صحيح مسلم ٣ / ١٤٧٨ ح ١٨٥١ ، المعجم الكبير ١٩ / ٣٣٤ ح ٧٦٩ ، سنن البيهقي ٨ / ١٥٦.

(٣). المناقب ـ للكوفي ـ ١ / ٢٩٦ ح ٢٢٠ و ٢ / ١٤٦ ح ٦٢٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ / ٢٧ ح ١٠ ، المسترشد : ٢٦٠ ذيل ح ٧٣ و ٥٧٨ ح ٢٥٠ ، مسند البزّار ٩ / ٣٤٣ ح ٣٩٠٠.

وسلاما ، ومن أبى قال : ها أنتم قد أمرتكم فعصيتموني» (١).

وفي صحيحة أخرى قال عليه‌السلام : «ثلاثة يحتجّ عليهم : الأبكم ، والطفل ، ومن مات في الفترة ، فيرفع لهم نار فيقال لهم : ادخلوها ، فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن أبى قال تبارك وتعالى : هذا قد أمرتكم فعصيتموني» (٢). وفي بعض الروايات : «إنّ أولاد المشركين خدم أهل الجنّة» (٣).

ومنها : صحيح زرارة ؛ قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : «هل سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأطفال؟ فقال : «قد سئل فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين». ثمّ قال : «يا زرارة! هل تدري ما قوله الله أعلم بما كانوا عاملين؟!» قلت : لا. قال : «لله عزوجل فيهم المشيئة ؛ إنّه إذا كان يوم القيامة أتي بالأطفال ، والشيخ الكبير الذي قد أدرك السن [النبيّ] ولم يعقل من الكبر والخرف ، والذي مات في الفترة بين النبيّين ، والمجنون ، والأبله الذي لا يعقل ، فكلّ واحد يحتجّ على الله عزوجل ، فيبعث الله تعالى إليهم ملكا من الملائكة ويؤجّج نارا فيقول : إنّ ربّكم يأمركم أن تثبوا فيها. فمن وثب فيها كانت عليه بردا وسلاما ، ومن عصاه سبق إلى النار» (٤).

وهناك جملة عديدة من الروايات ، فلاحظها في محالّها (٥) ، كما أنّ هناك جملة أخرى من الروايات دالّة على دخول أطفال المشركين مع آبائهم في النار ، لكنّها محمولة على عصيانهم في الامتحان.

وفي رواية لزرارة ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام ـ وأنا أكلّمه في المستضعفين ـ : «أين

__________________

(١). الكافي ٣ / ٢٤٩ ح ٦ ، بحار الأنوار ٥ / ٢٩٢ ح ١٤.

(٢). الكافي ٣ / ٢٤٩ ح ٧ ، بحار الأنوار ٥ / ٢٩٣ ح ١٥.

(٣). المعجم الكبير ٧ / ٢٩٥ ح ٦٩٩٣ ، حلية الأولياء ٦ / ٣٠٨ ، بحار الأنوار ٥ / ٢٩١ ح ٥.

(٤). الكافي ٣ / ٢٤٨ ح ١ ، معاني الأخبار : ٤٠٧ ح ٨٦ ، بحار الأنوار ٥ / ٢٩٠ ح ٣.

(٥). الكافي ٣ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩ ح ١ ـ ح ٧ ، بحار الأنوار ٥ / ٢٨٨ ـ ٢٩٧ ح ١ ـ ح ٢٢.

(أَصْحابُ الْأَعْرافِ)؟! أين المرجون لأمر الله؟! أين الّذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)؟! أين (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ)؟! أين أهل تبيان الله؟! أين (الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)؟! (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (١)» (٢).

وتعبيره عليه‌السلام عن أفراد المعذورين ب «أهل تبيان الله» لعلّ المراد به أنّه يبيّن تعالى لهم الهدى من الضلال في الامتحان المقام لهم عند الحساب.

السادسة

هناك جملة أخرى من الروايات يظهر منها دخول أفراد المعذور إلى الجنّة ، ولكنّها محمولة ومقيّدة بامتحانهم وطاعتهم فيه ، ومن ثمّ نجاتهم ، كما تقدّم حمل جملة من الروايات الواردة في دخول أطفال المشركين النار على عصيانهم في الامتحان ؛ بمقتضى العديد من الروايات المستفيضة المفصّلة المقيّدة لدخول الجنّة أو النار بالامتحان عند الحساب.

منها : صحيح زرارة ؛ قال : «دخلت أنا وحمران ـ أو : أنا وبكير ـ على أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّا نمدّ المطمار؟ قال : «وما المطمار؟!» قلت : التتر ، فمن وافقنا من علوي أو غيره تولّيناه ، ومن خالفنا من علوي أو غيره برئنا منه ..

فقال : «يا زرارة! قول الله أصدق من قولك ؛ فأين الّذين قال الله عزوجل : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ ...)؟! أين المرجون لأمر الله؟! أين الّذين (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)؟! أين (أَصْحابُ الْأَعْرافِ)؟! أين (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ...»

وزاد فيه جميل ، عن زرارة : فلمّا كثر بيني وبينه الكلام قال : «يا زرارة! حقّا على

__________________

(١). النساء / ٩٩.

(٢). تفسير العيّاشي ١ / ٢٦٩ ح ٢٤٦ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦٤ ح ٢٣.

الله أن [لا] يدخل الضّلال الجنّة» (١) ؛ بناء على نسخة بدون «لا» النافية. وفي رواية العيّاشي : «يا زرارة! حقّا على الله أن يدخلك الجنّة» (٢).

وصدر الرواية قد روي بطرق متعدّدة ، وموردها في الأصل أنّه عليه‌السلام سأل زرارة :

«متأهّل أنت؟!» ، فقال : لا. ثمّ ذكر زرارة أنّه لا يستحلّ نكاح هؤلاء فذكرعليه‌السلام أنّ المستضعفين لا زالوا على الولاء ، لا ولاء الإيمان بل ولاء ظاهر الإسلام من المناكحة وحلّية ذبيحتهم و ... ففي رواية لحمران عنه عليه‌السلام : «هم من أهل الولاية ... أما إنّها ليست بولاية في الدين ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّار ، وهم المرجون لأمر الله عزوجل» (٣).

والحاصل أنّ هذه الرواية ومثيلاتها محمولة على النجاة ـ ومقيّدة لها ـ بالطاعة عند الامتحان في الحساب مع تبيان الحقّ لهم واختيارهم له ؛ لما مرّ من روايات مستفيضة دالّة على ذلك مضافا إلى كون مثل هذه الروايات متعرّضة إلى أحكام الحياة الاجتماعية مع هؤلاء.

ومثل هذا التقييد في صحيح ضريس الكناسي : عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : قلت له:

«جعلت فداك ، ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين المذنبين ، الّذين يموتون وليس لهم إمام ولا يعرفون ولايتكم؟

فقال : «أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها ، فمن كان له عمل صالح ولم يظهر منه عداوة فإنّه يخدّ له خدّا إلى الجنّة التي خلقها الله بالمغرب ـ أي البرزخية لا الأخروية ـ فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته وسيئاته ، فإمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار ، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله». قال عليه‌السلام :

__________________

(١). الكافي ٢ / ٢٨٢ ح ٣ ، كتاب الإيمان والكفر : باب أصناف الناس.

(٢). تفسير العيّاشي ٢ / ٩٣ ح ٧٤ ، بحار الأنوار ٧٢ : ١٦٤ ـ ١٦٥ ح ٢٦.

(٣). تفسير العيّاشي ١ / ٢٦٩ ح ٢٤٩ ، معاني الأخبار : ٢٠٢ ح ٨ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦٠ ح ١٣.

«وكذلك يفعل بالمستضعفين ، والبله ، والأطفال ، وأولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم». الحديث (١).

وذيل الرواية صريح في كون حالهم موقوفا على المشيئة الإلهية ، التي قد فسرت في روايات عديدة بالامتحان ، وحاشا لعدله تعالى أن يدخل النار بغير موجب.

ومثلها رواية الأعمش ، عن الصادق عليه‌السلام : «أصحاب الحدود فسّاق ، لا مؤمنون ولا كافرون ، ولا يخلدون في النار ويخرجون منها يوما ما ، والشفاعة لهم جائزة ، وللمستضعفين إذا ارتضى الله دينهم» (٢). وذيل هذه الرواية دالّ على التمييز بين «أصحاب الحدود» وبين «المستضعفين» في كون «المستضعفين» لا تجوز لهم الشفاعة حتّى يرتضي الله تعالى دينهم ، أي حتّى يدينوا بالعقائد الحقّة فحينئذ يكونوا على حدّ فسّاق المؤمنين من صلاح العقيدة لكنّهم أساءوا العمل ؛ فهي تدلّ على إقامة الامتحان للمستضعفين ، وأنّه بالدرجة الأولى في تبيان العقائد والإيمان الحقّ ، كما مرّ في بعض الروايات أنّهم من : «أهل تبيان الله».

ومن جملة هذا النمط من الروايات : رواية الصباح بن سيابة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ الرجل ليحبّكم وما يدري ما تقولون فيدخله الله الجنّة ، وإنّ الرجل ليبغضكم وما يدري ما تقولون فيدخله النار» (٣). وهذه الرواية تبيّن مدى أهمّية تولّي أولياء الله ، والهلاك في ترك ولايتهم ، وإنّ التولّي والتبرّي منشأه من الأصول الاعتقادية.

وفي بعض الروايات التقييد بمن أحبّ الشيعة لحبّهم سيّدة نساء العالمين الزهراء

__________________

(١). الكافي ٣ / ٢٤٧ ضمن ح ١ ، تفسير القمّي ٢ / ٢٦٠ ، بحار الأنوار ٦ / ٢٨٦ ح ٧ و ٢٩٠ ضمن ح ١٤ و ٧٢ / ١٥٨ ح ٣.

(٢). الخصال : ٦٠٨ ضمن ح ٩ ، عيون الأخبار ٢ / ١٢٥ ضمن ح ١ ، بحار الأنوار ٨ / ٤٠ ح ٢٢ و ٧٢ / ١٥٩ ح ٦.

(٣). معاني الأخبار : ٣٩٢ ح ٤٠ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٥٩ ح ٧.

فاطمة عليها‌السلام (١). وفي بعض الروايات الأخرى أنّ ذلك بعد شفاعة المؤمنين في من أحبّهم(٢).

وعلى أي تقدير ؛ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٣) ، كما في الآية الكريمة ، ورضاه بارتضاء دينه ، كما مرّ في رواية الأعمش ، وفسّر بذلك في روايات الشفاعة ، فيدلّ على أنّ الامتحان الذي يقام للمستضعفين ونحوهم من أفراد الضّلال القاصرين هو في الديانة واعتناق الإيمان الحقّ.

أمّا كون الشفاعة موردها من ارتضى دينه فيدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً) (٤).

وفي آية أخرى : (إِنَّ اللهَ ... وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (٥) ، وهو شامل للكفر ؛ لأنّه ضرب من الشرك. وقد أطلق الكفر على جحود ولاية خليفة الله في أرضه ، كما في إبليس لعنه الله ، فيعمّ ولاية عليّ عليه‌السلام وولده عليهم‌السلام ، كما وردت بذلك روايات عديدة في ذيل الآيتين في تفسيري البرهان ونور الثقلين ، فلاحظها.

وقوله تعالى : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) (٦).

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٧) ، أي : معتقده. وكذا قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٨) ، فالآية قيّدت المغفرة بالهداية إضافة إلى الإيمان والعمل الصالح.

__________________

(١). تفسير فرات الكوفي : ٢٩٨ ح ٤٠٣ ، بحار الأنوار ٨ / ٥٢ ضمن ح ٥٩.

(٢). تفسير القمّي ٢ / ٢٠٢ ، الخصال : ٤٠٨ ح ٦ ، ثواب الأعمال : ٢٠٦ ح ١ ، بحار الأنوار ٨ / ٣٨ ح ١٦ و ٣٩ / ١٩ و ٤١ / ٢٦.

(٣). الأنبياء / ٢٨.

(٤). النساء / ٤٨.

(٥). النساء / ١١٦.

(٦). مريم / ٨٧.

(٧). طه / ١٠٩.

(٨). طه / ٨٢.

فالهداية هي للولاية ؛ كما عرّفت في آيات عديدة أنّ الهداية الصراطية للإيصال إلى المطلوب هي الولاية والإمامة ، كما في : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١) ، و : (جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) (٢) ، و : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ* صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ...) ، و : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣).

وقد وردت روايات مستفيضة في ذيل الآية في بيان ذلك براهينا ، فلاحظ تفسير البرهان (٤) ونور الثقلين (٥) ؛ فمقتضى الآية كون الامتحان والتبيان لأهل الأعذار من الضّلال مستعقب لهدايتهم بالطاعة.

ويدلّ عليه رواية الحسين بن خالد ، عن الرضا ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين عليهم‌السلام ، قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من لم يؤمن بحوضي فلا أورده الله حوضي ، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي» ، ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل».

قال الحسين بن خالد : فقلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله! فما معنى قول اللهعزوجل : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٦)؟ قال : لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه(٧).

__________________

(١). الرعد / ٧.

(٢). الأنبياء / ٧٣.

(٣). يونس / ٣٥.

(٤). تفسير البرهان ٣ / ٢٨ ـ ٣٠ ح ٤٨٨٥ ـ ح ٤٨٩٤.

(٥). تفسير نور الثقلين ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٤ ح ٥٧ ـ ح ٦٣.

(٦). الأنبياء / ٢٨.

(٧). عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ١٣٦ ح ٣٥ ، الأمالي ـ للشيخ الصدوق ـ ٥٦ ح ١١ ، بحار الأنوار ٨ / ١٩ ح ٥ و ٣٤ ح ٤.

وعمدة الباب ما في صحيحة ابن أبي عمير ؛ قال : سمعت موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول :

لا يخلد الله في النار إلّا أهل الكفر والجحود ، وأهل الضلال والشرك ، ومن اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر» ، ـ ثمّ ذكر عليه‌السلام أنّ الشفاعة لأهل الكبائر من المؤمنين ـ قال ابن أبي عمير : فقلت له : يا بن رسول الله! فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) ، ومن يركب الكبائر لا يكون مرتضى؟! فقال : «يا أبا أحمد! ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك وندم عليه ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفى بالندم توبة. وقال : من سرّته حسنة وساءته سيّئة فهو مؤمن ؛ فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ، ولم تجب له الشفاعة ، وكان ظالما ، والله تعالى يقول : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١).

فقلت له : يا بن رسول الله! وكيف لا يكون مؤمنا من لم يندم على ذنب يرتكبه؟! فقال : يا أبا أحمد! ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنّه سيعاقب عليها إلّا ندم على ما ارتكب ، ومتى ندم كان تائبا مستحقّا للشفاعة ، ومتى لم يندم عليها كان مصرّا ، والمصرّ لا يغفر له ؛ لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ، ولو كان مؤمنا بالعقوبة لندم ، وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار ..

وأمّا قول الله : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، فإنّهم لا يشفعون إلّا لمن ارتضى الله دينه ، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيّئات ، ومن ارتضى الله دينه ندم على ما يرتكبه من الذنوب ؛ لمعرفته بعاقبته في القيامة (٢)

فإنّه استدلال عقلي لتقييد الشفاعة بمن ارتضى الله دينه وهو المؤمن ، وأنّ الضالّ

__________________

(١). غافر / ١٨.

(٢). التوحيد : ٤٠٧ ح ٦ ، بحار الأنوار ٨ / ٣٥١ ح ١.

القاصر لا تناله الشفاعة إلّا بعد التبيان والامتحان وتعرّفه على حقائق الإيمان فينخرط في زمرة المؤمنين.

ونظير الروايات المتقدّمة : ما رواه الصدوق بسنده عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ عليهم‌السلام ، قال : «إنّ للجنّة ثمانية أبواب ... وباب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله ولم يكن في قلبه مقدار ذرّة من بغضنا أهل البيت» (١). فإنّ غاية دلالتها : على عدم خلودهم في النار ، ولا تنافي ما دلّ على امتحانهم وتوقّف دخولهم الجنّة على إطاعتهم بالإيمان ، كما لا تنافي ما دلّ على دخولهم النار حقبة لتطهيرهم ثمّ دخولهم الجنّة ؛ فهناك فرق بين الخلود في النار وبين الدخول فيها ولو لحقبة منقطعة الأمد ، وكذلك بين الدخول في الجنّة ابتداء وبين الدخول فيها لاحقا ، فحساب الأكثرية والأقلية من الناجين يختلف بحسب المقامين ، وقد ورد عنهم عليهم‌السلام : «الناجون من النار قليل ؛ لغلبة الهوى والضلال» (٢) ، والرواية ناظرة للنجاة من النار لا النجاة من الخلود فيها ، وقد تقدّم في حديث الكاظم عليه‌السلام أنّ طوائف المخلّدين أربع وما عداهم لا يخلد.

السابعة قد دلّت الآيات والروايات المتواترة على أنّ قبول الأعمال مشروط ، وصحّتها كذلك مشروطة بعدّة شرائط ، لا يثاب العامل على عمله إلّا بها ، وإلّا يكون مردودا بالنسبة إلى الثواب الأخروي ، لا سيّما مثل الدخول في الجنّة ، بل الأدلّة دالّة على أنّ صحّة الاعتقادات مشروطة بالولاية ، نظير قوله تعالى المتقدّم : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) ، فقد قيّد الإيمان والعمل الصالح بالهداية ؛ فإنّ المغفرة ـ وهي النجاة من العقوبة ـ إذا كانت مقيّدة فكيف بالمثوبة؟!

وقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٣) ، والغاية في تعبير الآية : أنّه قد قيّد

__________________

(١). الخصال : ٤٠٧ ح ٦ ، بحار الأنوار ٨ / ٣٩ ح ١٩.

(٢). غرر الحكم ـ للآمدي ـ ١ / ٨٥ ح ١٧٤٩ ، مستدرك الوسائل ١٢ / ١١٣ ضمن ح ١٣.

(٣). المائدة / ٢٧.

القبول ليس بوصف العمل بالتقوى بل بوصف العامل بذلك ، والصفة لا تصدق إلّا مع تحقّقها في مجمل الأعمال وأركانها ، وهي العقائد الحقّة.

وكذا قوله تعالى : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (١) ، فجعل تعالى أعمال إبليس كلّها هباء منثورا باستكباره على وليّ الله وعدم إطاعته لخليفة الله بتولّيه ، بل الملاحظ في واقعة إبليس ـ التي يستعرضها القرآن الكريم في سبع سور ـ أنّ كفره لم يكن شركا بالذات الإلهية ولا بالصفات ولا بالمعاد ولا بالنبوّة ، بل هو جحود لإمامة وخلافة آدم عليه‌السلام ، فلم يقبل الله تعالى اعتقاد إبليس ، كما لم يقبل أعماله ، وأطلق عليه الكفر بدل التوحيد.

والسرّ في ذلك أنّ ذروة التوحيد وسنامه ومفتاحه وبابه هو التوحيد في الولاية ؛ فإنّ اليهود قائلون بالتوحيد في الذات والمعاد وهو توحيد الغاية ، وبالتوحيد في التشريع وهو النبوّة ، إلّا أنّهم كافرون بالتوحيد في الولاية ؛ إذ قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (٢) ، فإنّهم حجبوا الذات الإلهية عن التصرّف في النظام البشري ، وقالوا بأنّ البشر مختارين في نظامهم الاجتماعي السياسي ، وأنّ الحاكمية السياسية ليست لله تعالى.

وإنّك وإن أجهدت وأتعبت نفسك فلن تجد دينا ومذهبا يعتقد بحاكمية الله تعالى السياسية والتنفيذية كحاكميته تعالى في التشريع والقانون ، كما كان حال حكومة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرته السياسية ، التي يستعرضها القرآن الكريم ؛ فإنّ الحاكم السياسي الأوّل في حكومته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان هو الباري تعالى في المهمّات والمنعطفات في التدبير السياسي والعسكري والقضائي ، وقد اختفت حاكمية الله تعالى هذه في عهد الخلفاء الثلاثة ثمّ عاودت الظهور في عهد الأمير عليه‌السلام ، فإنّ أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام محالّ مشيئة الله تعالى وإرادته ، فتصرّفاتهم منوطة بإرادته المتنزّلة عليهم.

__________________

(١). البقرة / ٣٤.

(٢). المائدة / ٦٤.

فهذه الحاكمية التوحيدية لا تجد لها أثرا في مذاهب المسلمين ، فضلا عن الأديان الأخرى المحرّفة ، سوى مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فمن ثمّ كانت الإمامة والولاية هي مظهر ومجلى التوحيد في الولاية ، وكان الاعتقاد بها هو كمال التوحيد وذروته وسنامه ؛ إذ أنّ تمجيد التوحيد في الذات أو في الصفات أو في التشريع أو في المعاد ـ إنّ إليه الرجعى والمنتهى ـ تعطيل له ، ولا تظهر ثمرته إلّا بظهوره في الولاية والحاكمية في مسيرة البشر.

ويمكن ملاحظة اشتراط الولاية في صحّة الاعتقاد ، فضلا عن الأعمال ، في جلّ الآيات الواردة في ولاية أهل البيت عليهم‌السلام ، وكذلك في كثير من الروايات.

* أمّا الآيات

فنظير قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) (١). فإنّه تعالى قد نفى تبليغ الرسالة ـ من الأساس ـ مع عدم إبلاغ ولاية عليّ عليه‌السلام للناس ، وهو يقتضي عدم الاعتداد بتوحيد الناس للذات الإلهية وبإقرارهم بالمعاد والنبوّة من دون ولاية عليّعليه‌السلام ، أي أنّ التوحيد في جميع أبوابه وأركانه وحدة واحدة : توحيد الذات ، وتوحيد الغاية والخلوص ، وتوحيد التشريع ، وتوحيد الولاية.

ولازم الكفر والإشراك في مقام من مقامات التوحيد هو الكفر والإشراك الخفي المبطّن في بقية المقامات ، وذيل الآية صريح في ترتّب الكفر على ذلك في مقابل الإيمان ، لا ما يقابل ظاهر الإسلام ؛ إذ الظاهر مترتّب على الإقرار بالشهادتين لسانا.

ونظير قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٢). فإنّ الإكمال يستعمل في تحوّل الشيء في الأطوار النوعية من نوع إلى نوع ، والإتمام يستعمل في انضمام الأجزاء الخارجية بعضها إلى بعض ، ففي التعبير عناية فائقة في كون الدين لم يكتمل طوره النوعي التام إلّا بالولاية ، وأمّا النعمة الدنيوية فلا تتمّ أجزاءها إلّا بها أيضا ، وإن كان للأجزاء قوام مستقلّ ، كمن امتنع عن المحرّمات والفواحش فإنّه يتنعّم بالوقاية من مفاسدها الدنيوية ، وهذا ممّا يبيّن الاختلاف الماهوي بين الإسلام في ظاهر اللسان وبين الإيمان في مكنون القلب ومقام العمل وهو الإسلام بوجوده الحقيقي.

ثمّ إنّ في الآية تقييد رضا الربّ بكون الإسلام دينا بالولاية ، فالإسلام من توحيد الذات والتشريع (النبوّة) والمعاد وتوحيد الغاية معلّق رضا الربّ به بشرطية الولاية ،

__________________

(١). المائدة / ٦٧.

(٢). المائدة / ٣.

فضلا عن العمل بفرائض الفروع.

ونظير ذلك : ما في سورة الحمد (الفاتحة). فالمصلّي عند ما يقرّ لربّه في النصف الأوّل من السورة بالتوحيد في الذات (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، والصفات (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، وفي الغاية والمعاد (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ، وفي التشريع (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) في جميع الأمور في الحياة الفردية والاجتماعية ؛ فإنّه يعود في النصف الثاني من السورة ليطلب الهداية إلى الصراط المستقيم (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

فإنّ كلّ ما تقدّم من إقراره وتسليمه بالعقائد الحقّة لم يكفه حتّى يثمر ذلك في طيّه صراط التوحيد المستقيم ، وهو صراط ثلّة في هذه الأمّة ومجموعة موصوفة بثلاث صفات : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي منعم عليهم بنعمة خاصّة لهم دون سائر الأمّة وهي نعمة الاصطفاء والاجتباء ، كما في الاستعمال القرآني لاصطفاء الأنبياء والأوصياء.

وفي هذه الأمّة قد أنعم الباري تعالى على أهل البيت عليهم‌السلام قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتطهير الخاص بهم ، وأنّهم الّذين يمسّون ويصلون إلى الوجود الغيبي العلوي للقرآن في الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ.

والصفة الثانية : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، وهي العصمة العملية ، فلا يغضبون ربّهم قطّ. والصفة الثالثة : (وَلَا الضَّالِّينَ) ، وهي العصمة العلمية. فجعل الولاية لهؤلاء ثمرة لإقرار المصلّي بالتوحيد في المواطن الأربعة في النصف الأوّل من السورة.

ونظير ذلك قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى). فإنّه جعل مودّة واتّباع وتولّي قربى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل كلّ الرسالة المتضمّنة لتوحيد الذات والصفات والتشريع والغاية لبيان أنّ توحيد الولاية هو ثمرة التوحيد في سائر المقامات ، وهو الذروة والسنام ، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصفه للمسلمين بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم : «أخذوا بالشجرة وضيّعوا الثمرة» (١). وكذلك سائر الآيات الواردة في

__________________

(١). نهج البلاغة : الخطبة القاصعة.

ولايتهم عليهم‌السلام تبيّن هذه الحقيقة الدينية.

* وأمّا الروايات

فقد روى الفريقان مستفيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «لو أنّ عبدا عبد بين الركن والمقام ألف عام ثمّ ألف عام ولم يحبّنا أهل البيت أكبّه الله على منخريه في النار» (١).

وأخرج الطبراني في الأوسط ، أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الزموا مودّتنا أهل البيت ، فإنّه من لقى الله عزوجل وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا ، والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله إلّا بمعرفة حقّنا» (٢). وفي كثير من طرق العامّة : «وكان مبغضا لعليّ بن أبي طالب وأهل البيت [أو : آل محمّد] أكبّه ...» (٣) ؛ نعم ، في غالب الطرق الوارد فيها : «مبغضا» جعل الجزاء دخول النار ، وفي الطرق الوارد فيها : «عدم محبّتهم» ، أو : «عدم معرفتهم» ، أو : «عدم ولايتهم» جعل الجزاء عدم قبول عمله وصيرورته هباء منثورا.

وهكذا في طرقنا ؛ ففي صحيح محمّد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول: «كلّ من دان الله عزوجل بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول ، وهو ضالّ متحيّر ، والله شانئ لأعماله ... وإن مات على هذه الحال مات ميتة كفر ونفاق. واعلم يا محمّد! إنّ أئمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلّوا وأضلّوا ، فأعمالهم التي يعملونها (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى

__________________

(١). شرح إحقاق الحقّ ٩ / ٤٩١.

(٢). المعجم الأوسط ٣ / ٢٦ ح ٢٢٥١ ؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٧٢ ، وابن حجر في الصواعق ، والنبهاني في الشرف المؤبّد : ٩٦ ، والحضرمي في رشفة الصادي : ٤٣.

(٣). لاحظ : شرح إحقاق الحقّ ٩ / ٤٩٢ ـ ٤٩٤ ، و ١٥ / ٥٧٩ ، و ١٨ / ٤٤٨ ، و ٢٠ / ٢٩٠ ـ ٣١٥ ، المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٤٩ ، الغدير ٢ / ٣٠١ ، و ٩ / ٢٦٨. وأخرجه الطبراني والسيوطي والثعلبي والنبهاني ، وابن حجر في الصواعق : ١٧٢. وغيرهم.

شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (١)» (٢).

وفي رواية عبد الحميد بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : «والله لو أنّ إبليس سجد لله بعد المعصية والتكبّر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ، ولا قبله الله عزوجل ؛ ما لم يسجد لآدم كما أمره الله عزوجل أن يسجد له ، وكذلك هذه الأمّة العاصية ، المفتونة بعد نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم ، فلن يقبل الله لهم عملا ، ولن يرفع لهم حسنة ، حتّى يأتوا الله من حيث أمرهم ، ويتولّوا الإمام الذي أمروا بولايته ، ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله ورسوله لهم».

وفي رواية ميسر : «ثمّ لقى الله بغير ولايتنا لكان حقيقا على الله عزوجل أن يكبّه على منخريه في نار جهنّم» (٣). وفي رواية أخرى : «ولم يعرف حقّنا وحرمتنا أهل البيت لم يقبل الله منه شيئا أبدا» (٤) ، ومثلها رواية المفضّل (٥).

وفي صحيح آخر لمحمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليه‌السلام ، قال : «قلت : إنّا لنرى الرجل له عبادة واجتهاد وخشوع ولا يقول بالحقّ ، فهل ينفعه ذلك شيئا؟!

فقال : يا أبا محمّد! إنّما مثل أهل البيت مثل أهل بيت كانوا في بني إسرائيل ، كان لا يجتهد أحد منهم أربعين ليلة إلّا دعا فأجيب ، وإنّ رجلا منهم اجتهد أربعين ليلة ثمّ دعا فلم يستجب له ، فأتى عيسى بن مريم عليه‌السلام يشكو إليه ما هو فيه ويسأله الدعاء ، قال : فتطهّر عيسى وصلّى ثمّ دعا الله عزوجل ، فأوحى الله عزوجل إليه : يا عيسى بن مريم! إنّ عبدي أتاني من غير الباب الذي أوتى منه ، إنّه دعاني وفي قلبه شكّ منك ، فلو دعاني حتّى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له. قال : فالتفت إليه عيسى عليه‌السلام فقال : تدعو ربّك و

__________________

(١). إبراهيم / ١٨.

(٢). الكافي ١ / ١٤٠ ح ٨ ، الوسائل ١ / ١١٨ ح ٢٩٧.

(٣). عقاب الأعمال : ٢٥٠ ذيل ح ١٦ ، الوسائل ١ / ١٢٣ ذيل ح ٣١٢.

(٤). علل الشرائع : ٢٥٠ ح ٧ ، الوسائل ١ / ١٢٣ ذيل ح ٣١٠.

(٥). عقاب الأعمال : ٢٤٤ ذيل ح ٣ ، الوسائل ١ / ١٢٤ ح ٣١٤.

أنت في شكّ من نبيّه؟! فقال : يا روح الله وكلمته! قد كان والله ما قلت ، فادع الله لي أن يذهب به عنّي. قال : فدعا له عيسى عليه‌السلام فتاب الله عليه وقبل منه وصار في حدّ أهل البيت» (١).

وقد جعل تعالى مودّة ذوي القربى سبيلا إليه فقال : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢) ، وقد قال تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (٣) ، فلم يكن التعبير : «فابتغوه» بل : «ابتغوا الوسيلة إليه» ، وقال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٤) ، فجعل الأسماء أبوابا لدعوته ، والاسم آية للمسمّى وليس عينه.

الثامنة

في تحديد معنى المستضعف وذوي العذر من الضّلال القصّر ؛ فقد وردت عدّة آيات في تحديده :

في قوله تعالى : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً* فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٥) ، فالآية تعدّد عدم قدرتهم على الوسيلة ، وعدم دركهم السبيل إلى الحقّ.

وقوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٦) وقوله تعالى : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٧).

فالآية الأولى من البراءة تحدّده بالاعتراف بالذنوب ، وهذا نوع ونمط من التوبة والإيمان بالحقّ والإعراض عن الضلال. ووردت أيضا روايات عديدة في تحديده :

__________________

(١). الكافي ٢ / ٢٩٤ ح ٩.

(٢). الفرقان / ٥٧.

(٣). المائدة / ٣٥.

(٤). الأعراف / ١٨٠.

(٥). النساء / ٩٨ ـ ٩٩.

(٦). التوبة (براءة) / ١٠٢.

(٧). التوبة (براءة) / ١٠٦.

في رواية ابن الطيّار عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن المستضعف ، فقال : «هو الذي لا يستطيع حيلة الكفر فيكفر ، ولا يهتدي سبيلا إلى الإيمان فيؤمن ، لا يستطيع أن يؤمن ولا يستطيع أن يكفر ، فهم الصبيان ، ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان ، ومن رفع عنه القلم» (١).

وروى أيضا ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «المرجون لأمر الله قوم كانوا مشركين قتلوا حمزة وجعفر وأشباههما من المؤمنين ثمّ دخلوا بعده في الإسلام ، فوحّدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فتجب لهم النار ، فهم على تلك الحالة مرجون لأمر الله إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم» (٢).

وظاهر الرواية الثانية أنّ «المرجأ» هو الذي أسلم ولم يؤمن ، نظير قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٣).

وروى الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «الناس على ستّ فرق : مستضعف ، ومؤلّف ، ومرجى ، ومعترف بذنبه ، وناصب ، ومؤمن» (٤).

وروى عبد الغفّار الجازي عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «إنّ المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا ، ومن لم يكن من أهل القبلة ناصبا فهو مستضعف» (٥).

وهذه الرواية تبيّن أنّ القصور على درجات عديدة ، شدّة وضعفا ، وهو هكذا عقلا ، والضابطة فيه : أن لا يكون ناصبا ، وهي تشير إلى اشتراط انتفاء درجات نصب العداء التي

__________________

(١). تفسير القمّي ١ / ١٤٩ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٥٧ ح ١.

(٢). تفسير القمّي ١ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٥٧.

(٣). الحجرات / ١٤.

(٤). الخصال : ٣٣٣ ح ٣٤ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٥٨ ح ٤.

(٥). معاني الأخبار : ٢٠٠ ح ١ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٥٩ ح ٨.

قد فسّرت في روايات عديدة بأنّ منها : معاداة الشيعة لكونهم أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، ومنها : تولّي أصحاب السقيفة والائتمام بهم ، ومنها : بغض أهل البيت قلبا وإن لم يكن لسانا ، ومنها : إنكار وجحد فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، وستأتي الروايات في ذلك.

وفي رواية سفيان بن السمط ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : «ما تقول في المستضعفين؟ فقال لي شبها بالمفزع : «وتركتم أحدا يكون مستضعفا؟! وأين المستضعفون؟! فو الله لقد مشى بأمركم هذا العواتق إلى العواتق في خدورهنّ ، وتحدّث به السقايات بطرق المدينة» (١).

وروى عمرو بن إسحاق ، قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما حدّ المستضعف الذي ذكره الله عزوجل؟ قال : من لا يحسن سورة من القرآن وقد خلقه الله عزوجل خلقة ما ينبغي له أن لا يحسن» (٢) ؛ والحدّ في هذه الرواية من هو متخلّف عقليا.

وفي رواية حمران ، قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ)؟ قال : «هم أهل الولاية» ، قلت : وأي ولاية؟! فقال : «أما إنّها ليست بولاية في الدين ولكنّها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفّار ، وهم المرجون لأمر الله عزوجل» (٣).

وروى سليمان بن خالد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) الآية؟ قال : «يا سليمان! في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك ، المستضعفون قوم يصومون ويصدّون ، تعفّ بطونهم وفروجهم ، لا يرون أنّ الحقّ في غيرنا [غيرها] آخذين بأغصان الشجرة ، (فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ) ؛ إذ كانوا آخذين بالأغصان وإن لم يعرفوا أولئك ، فإن عفى عنهم

__________________

(١). معاني الأخبار : ٢٠١ ح ٦ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦٠ ح ١١.

(٢). معاني الأخبار : ٢٠٢ ح ٧ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦٠ ح ١٢.

(٣). مرّت تخريجات الحديث في ص ١٠٦.

فبرحمته ، وإن عذّبهم فبضلالتهم عمّا عرّفهم» (١).

وعلى نسخة : «غيرها» ؛ يكون المعنى : لا يرون أنّ الحقّ في غير الأعمال الصالحة ، كالصوم والصلاة والعفّة ، ولا يعرفون حقائق الإيمان والولاية ، فعسى أن يعفو الله تعالى عنهم بأخذهم بتلك الأعمال وبعد امتحانهم ـ كما تقدّم في مستفيض الروايات ـ وإن لم يعرفوا أولئك أصحاب السقيفة بالباطل ، فإن عفى عنهم بعد الامتحان فبرحمته ، وإن عذّبهم فبضلالتهم عن حقيقة الإيمان التي عرّفها لهم ، ومن هو أثخن رقبة منك ، أي الساذج البله ..

وعلى نسخة : «غيرنا» ؛ أي : لا يرون أنّ الحقّ في غيرنا ، ولكنّهم لم يعرفوا أصحاب السقيفة بالباطل ، فلديهم تولّي ولكن ليس لديهم تبرّي.

وفي موثّق سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن المستضعفين؟ فقال : «البلهاء في خدرها والخادم تقول لها : صلّ فتصلّي لا تدري إلّا ما قلت لها ، والجليب المجلوب ، وهو الخادم الذي لا يدري إلّا ما قلت له ، والكبير الفاني ، والصبي الصغير ، هؤلاء المستضعفين ، فأمّا رجل شديد العنق ، جدل خصم ، يتولّى الشراء والبيع ، لا تستطيع أن تغبنه في شيء تقول : هذا مستضعف؟! لا ولا كرامة» (٢).

وروى الصدوق عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «من عرف الاختلاف فليس بمستضعف» (٣) ، وفي رواية أبي بصير : «من عرف اختلاف الناس ...» (٤).

وفي رواية سليم بن قيس في جواب أمير المؤمنين عليه‌السلام للأشعث بن قيس ؛ قال الأشعث ـ رأس الفتنة ـ : «والله لئن كان الأمر كما تقول لقد هلكت الأمّة غيرك وغير

__________________

(١). تفسير العيّاشي ١ / ٢٧٠ ح ٢٥٠ ، معاني الأخبار : ٢٠٢ ح ٩ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦١ ح ١٤.

(٢). تفسير العيّاشي ١ / ٢٧٠ ح ٢٥١ ، معاني الأخبار : ٢٠٣ ح ١٠ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦١ ح ١٥.

(٣). معاني الأخبار : ٢٠٠ ح ٢ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦٢ ح ١٧.

(٤). معاني الأخبار : ٢٠١ ح ٣ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٦٢ ح ١٨.

شيعتك؟! قال : فإنّ الحقّ والله معي يا ابن قيس كما أقول ، وما هلك من الأمّة إلّا الناصبين والمكابرين والجاحدين والمعاندين ، فأمّا من تمسّك بالتوحيد والإقرار بمحمّد والإسلام ، ولم يخرج من الملّة ، ولم يظاهر علينا الظلمة ولم ينصب لنا العداوة ، وشكّ في الخلافة ولم يعرف أهلها وولاتها ، ولم يعرف لنا ولاية ولم ينصب لنا عداوة ، فإنّ ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله ويتخوّف عليه ذنوبه» (١).

فذكر عليه‌السلام للمستضعف تسعة قيود لفظا قد ترجع خمسة منها إلى أن لا يتوالى أعداء أهل البيت ، والغاصبين للخلافة ، ويكون شاكّا ، ولا يظاهر عليهم النصّاب.

وروى في مستطرفات السرائر مسائل محمّد بن على بن عيسى مكاتبة لمولانا أبي الحسن الهادي عليه‌السلام ، قال : «كتبت إليه أسأله عن الناصب ، هل أحتاج في امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاده بإمامتهما؟! فرجع الجواب : «من كان على هذا فهو ناصب» (٢).

وروى في العلل ، بسنده إلى عبد الله بن سنان ، عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ؛ لأنّك لا تجد رجلا يقول : أنا أبغض محمّدا وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّونا وأنّكم من شيعتنا» (٣).

وروى المعلّى بن الخنيس ، قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت ، لأنّك لا تجد أحدا يقول : أنا أبغض محمّدا وآل محمّد ، ولكنّ الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنّكم تتولّونا وتتبرءون من أعدائنا» (٤).

وروي في الأمالي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قال : «من سرّه أن يعلم أمحبّ لنا أم مبغض؟! فليمتحن قلبه ، فإن كان يحبّ وليّا لنا فليس بمبغض لنا ، وإن كان يبغض وليّا لنا

__________________

(١). كتاب سليم بن قيس الكوفي ٢ / ٦٧٠ ضمن ح ١٢ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٧٠ ح ٣٦.

(٢). مستطرفات السرائر ٣ / ٥٨٣.

(٣). علل الشرائع : ٦٠١ ح ٦٠ ، طبعة النجف الأشرف.

(٤). معاني الأخبار : ٣٦٥ ح ١.

فليس بمحبّ لنا» (١).

وروي في تفسير العسكري عن السجّاد ـ عليهما‌السلام ـ قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من عبد ولا أمة زال عن ولايتنا ، وخالف طريقتنا ، وسمّى غيرنا بأسمائنا وأسماء خيار أهلنا ، الذي اختاره الله للقيام بدينه ودنياه ، ولقّبه بألقابنا ، وهو كذلك يلقّبه معتقدا ، لا يحمله على ذلك تقيّة خوف ، ولا تدبير مصلحة دين ، إلّا بعثه الله يوم القيامة ومن كان قد اتّخذه من دون الله وليّا وحشر إليه الشياطين الّذين كانوا يغوونه فقال له : يا عبدي! أربّا معي هؤلاء كنت تعبد؟! وإيّاهم كنت تطلب؟! فمنهم فاطلب ثواب ما كنت تعمل ، لك معهم عقاب أجرامك» (٢).

فيتحصّل أنّ الناصب على أقسام والمستضعف على درجات ، كلّها خارجة عن التقصير ، ولا يندرج فيه الموالي لأئمّة الضلال ، ومن ثمّ روي عنهم عليهم‌السلام : «الناجون من النار قليل ؛ لغلبة الهوى والضلال» (٣) ، ومفاده : في النجاة من النار ، لا النجاة من الخلود ، وبينهما بون كما مرّ.

التاسعة

إنّ شرطية النجاة بالولاية لا تعني التواكل في العمل ، وإنّما تعني أهميّة الولاية وأهمّية هذا المقام التوحيدي ، فإنّ روح العمل وقوامه بالنيّة ؛ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما الأعمال بالنيّات» (٤) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نيّة المؤمن خير من عمله» (٥).

وقد روى العسكري عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال لبعض

__________________

(١). الأمالي ـ للمفيد ـ ٣٣٤ ح ٤ ، الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ ١١٣ ح ١٧٢ ، بحار الأنوار ٢٧ / ٥٣ ح ٦.

(٢). تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٥٧٩ ح ٣٤١.

(٣). مرّت تخريجات الحديث.

(٤). دعائم الإسلام ١ / ١٥٦ ، الهداية ـ للشيخ الصدوق ـ ٦٢ ، الأمالي ـ للشيخ الطوسي ـ ٦١٨ ضمن ح ١٢٧٤.

(٥). الكافي ٢ / ٦٩ ح ٢ ، علل الشرائع : ٥٢٤ ح ١.

أصحابه ذات يوم : «يا أبا عبد الله! أحبّ في الله وأبغض في الله ، ووال في الله وعاد في الله؛ فإنّه لا تنال ولاية الله إلّا بذلك ، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتّى يكون كذلك ، وقد صارت مؤاخاة الناس يومكم هذا أكثرها في الدنيا ، عليها يتوادّون وعليها يتباغضون ، وذلك لا يغني عنهم من الله شيئا» (١).

فكما أنّ أهمّية الولاية لا تعني التفريط في العمل والتهاون فيه ، فكذلك صلاح العمل في صورته وقالبه لا يعني التفريط بالولاية والإيمان ، إذ أنّ الولاية لهم عليهم‌السلام هي توحيد الولاية له تعالى وإخلاص له في التولّي.

ومن ثمّ أكّدت عدّة آيات وروايات على خواء العمل بدونها ، وإنّه هباء منثورا ؛ قال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) (٢). وقال : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٣). وقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) (٤). وقال : (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٥). وقال : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٦).

العاشرة

إنّ مفاد الحديث النبوي المعروف بين الفريقين ب «حديث الفرقة الناجية» هو الدعوة لتمييزها ومعرفتها كي تتّبع ، والنهي عن اتّباع غيرها ، وعن التوقّف والتبلبل

__________________

(١). تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام : ٤٩ ضمن ح ٢٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ٢٩١ ح ٤١ ، علل الشرائع ١٤٠ ح ١ الأمالي ـ للشيخ الصدوق ـ ٦١ ح ٢١ ، معاني الأخبار : ٣٧ ضمن ح ٩ و ٣٩٩ ح ٥٨ ، بحار الأنوار ٢٧ / ٥٤ ح ٨.

(٢). إبراهيم / ١٨.

(٣). الفرقان / ٢٣.

(٤). النور / ٣٩.

(٥). الكهف / ١٠٤.

(٦). المجادلة / ١٨.

والحيرة والاضطراب.

روى الشيخ المفيد بسنده عن سلمان رضي الله عنه ، يقول : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تفترق أمّتي ثلاث فرق : فرقة على الحقّ لا ينقص الباطل منه شيئا ، يحبّونني ويحبّون أهل بيتي ، مثلهم كمثل الذهب الجيّد كلّما أدخلته النار فأوقدت عليه لم يزده إلّا جودة ، وفرقة على الباطل لا ينقص الحقّ منه شيئا ، يبغضونني ويبغضون أهل بيتي ، مثلهم مثل الحديد كلّما أدخلته النار فأوقدت عليه لم يزده إلّا شرّا ، وفرقة مدهدهة ، على ملّة السامري ، لا يقولون : لا مساس ، لكنّهم يقولون : لا قتال ، إمامهم عبد الله بن قيس الأشعري» (١).

ويشير صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اضطراب الفرقة الثالثة ، وأنّ شعارهم : «لا قتال» ، أي : لا فيصلة بين الحقّ عن الباطل ، ويمزجون المذاهب والمسارات ، مدهدهة البصيرة (٢).

وروي ذلك عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، إلّا أنّه وصف الفرقة المذبذبة بأنّها شرّ الفرق ؛ فقال : «إنّ هذه الأمّة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة واحدة منها في الجنّة واثنتان وسبعون في النار ، وشرّها فأبغضها إلى الله وأبعدها منه السامرة ، الّذين يقولون : «لا قتال» وكذبوا ، وقد أمر الله عزوجل بقتال هؤلاء الباغين في كتابه وسنّة نبيّه ، وكذلك المارقة» (٣).

وروى في كشف الغمّة أنّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام قال : «قد انتحلت طوائف من هذه الأمّة ـ بعد مفارقتها أئمّة الدين والشجرة النبوية ـ إخلاص الديانة وأخذوا أنفسهم في ضحائل الرهبانية و ... حتّى إذا طال عليهم الأمد وبعدت عليهم الشقّة وامتحنوا بمحن الصادقين رجعوا على أعقابهم ناكصين ...

__________________

(١). الأمالي ـ للشيخ المفيد ـ ٢٩ ح ٣.

(٢). مناقب عليّ بن أبي طالب ـ لابن مردويه ـ ١٢٤ ح ١٥٧ ، بحار الأنوار ٢٨ / ٩ ـ ١٠ ح ١٢ و ١٦.

(٣). كتاب سليم بن قيس الكوفي ٢ / ٦٦٣ ضمن ح ١٢.

وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجّوا بمتشابه القرآن ، فتأوّلوا بآرائهم ، واتّهموا مأثور الخبر ممّا استحسنوا ، يقتحمون في أغمار الشبهات ودياجير الظلمات بغير قبس نور من الكتاب ، ولا أثرة علم من مظانّ العلم ، بتحذير مثبطين زعموا أنّهم على الرشد من غيّهم ..

وإلى من يفزع خلف هذه الأمّة ، وقد درست أعلام الملّة ، ودانت الأمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضا ، والله تعالى يقول : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) (١)؟! فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكمة ، إلّا أهل الكتاب وأبناء أئمّة الهدى ومصابيح الدجى؟! ...» (٢).

الحادية عشرة

إنّ جملة من أتباع الشيخين قد ذهبوا إلى وجود النصّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما.

قال التفتازاني :

المبحث الرابع : الجمهور على انّه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) لم ينصّ على إمام، وقيل : نصّ على أبي بكر (رض) نصّا خفيّا ، وقيل : جليّا. وقالت الشيعة :

على عليّ (كرّم الله وجهه) خفيّا ، والإمامية منهم : جليّا أيضا (٣). انتهى.

وقال في شرح كلامه السابق :

ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة والخوارج إلى أنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لم ينصّ على إمام بعده ، وقيل : نصّ على أبي بكر ؛ فقال الحسن البصري : نصّا خفيّا ، وهو تقديمه إيّاه في الصلاة ، وقال بعض أصحاب الحديث : نصّا جليّا» (٤).

__________________

(١). آل عمران / ١٠٥.

(٢). كشف الغمّة ٢ / ٩٨ ـ ٩٩ ، بحار الأنوار ٢٧ / ١٩٣ ح ٥٢.

(٣). شرح المقاصد ٥ / ٢٥٨.

(٤). شرح المقاصد ٥ / ٢٥٩.

ثمّ إنّ التفتازاني يناقص نفسه ؛ فمع إنكاره للقول بالنصّ يستدلّ على إمامة أبي بكر بالنصّ!! قال :

المبحث الخامس : الإمام بعد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أبو بكر ، وقالت الشيعة : عليّ. لنا إجماع أهل الحلّ والعقد ... وقد يتمسّك بقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ ...) (١) الآية ، فالداعي المفترض الطاعة أبو بكر عند المفسّرين!! وعمر عند البعض!! وفيه المطلوب ، وبقوله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اقتدوا باللّذين من بعدي : أبي بكر وعمر ... ثمّ قال : يأبى الله والمسلمون إلّا أبا بكر ... وبأنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم استخلفه في الصلاة ولم يعزله ... وهذه ظنّيات ربّما تفيد باجتماعها القطع ، مع أنّ المسألة فرعية يكفي فيها الظنّ (٢).

واستدلّ في موضع آخر بعدّة نصوص رووها في فضائل أبي بكر وعمر (٣).

ثمّ إنّ التفتازاني ـ ككثير من متكلّمي ومحدّثي أهل سنّة الجماعة ـ عقد بحثا آخر مستقلّا في ذيل الإمامة ، وهو البحث عن الأفضلية في هذه الأمّة لمن؟! وترتيبها وأدلّتها ، قال :

المبحث السادس : الأفضلية عندنا بترتيب الخلافة ، مع تردّد فيما بين عثمان وعليّ (رضي الله عنه) ، وعند الشيعة وجمهور المعتزلة الأفضل عليّ. لنا إجمالا (٤).

وكذلك لاحظ الإيجي في المواقف ، والشريف الجرجانى في شرحها في المرصد الرابع ، فإنّهما مع نفيهما للنصّ قالا في جواب النصوص على إمامة عليّ عليه‌السلام :

هذه النصوص معارضة بالنصوص الدالّة على إمامة أبي بكر ، وهي من وجوه :

__________________

(١). الفتح / ١٦.

(٢). شرح المقاصد ٥ / ٢٦٣ ـ ٢٦٤.

(٣). فلاحظ : شرح المقاصد ٥ / ٢٩٢ ـ ٢٩٤.

(٤). شرح المقاصد ٥ / ٢٩٠.

الأوّل : قوله تعالى : ...

ثمّ استدلّ بعدّة آيات قرآنية ونصوص روائية (١) ، كما أنّه في المقصد الخامس من المرصد الرابع عقد البحث في الأفضلية.

هذا ، والإمعان في كلماتهم في عدالة الصحابة وفضائلهم ، وبالخصوص أصحاب السقيفة ، وبالأخصّ الشيخين ، يدلّ بوضوح على أنّهم يستدلّون بها بنحو يوازي الاستدلال بالعصمة وامتناع ارتكاب الباطل ، إلّا أنّهم يغلّفوها بعبارات وعناوين عائمة غائمة تغطية للمعنى المستدلّ به بألفاظ أخرى كي تتم المغالطة وتنطوي.

وهذا النمط من الاستدلال من أوسع أنواع صناعة المغالطة مضافا إلى اضطراب حدود المعاني بتوسّط هذا النمط من الاستدلال ، كما أنّهم إذا ضاق بهم الخناق في الاستدلال والجواب عن دلائل إمامة عليّ عليه‌السلام تراهم يتأمّلون في كون عصمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلقة ، لاحظ مثلا : ما ذكر الإيجي في المواقف عن الاستدلال ب : «فاطمة بضعة منّي»(٢).

وهذه هي عاقبة الأمر ، وقد رووا : إنّ عمر محدّث هذه الأمّة!! و : لو كان نبيّا بعدي لكان عمر!!!

الثانية عشرة

هناك طوائف عديدة من الروايات بألفاظ مختلفة تنهى عن الذوبان في المخالفين والتسيّب في مخالطتهم ، وتأمر بالتحفّظ في كيفية التعايش معهم ، وهذه الطوائف متوافقة مع الطوائف الأخرى الآمرة بالمداراة لهم والتعامل معهم بالحسن والتجمّل ؛ لأنّ الأولى تحدّد هذا التعامل بكونه سطحيّا لا في العمق ، والثانية إنّما تحثّ على حسن التعامل على صعيد السطح.

منها : صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّه أتاه قوم من أهل خراسان من ما وراء النهر فقال لهم : تصافحون أهل بلادكم وتناكحونهم ، أما إنّهم إذا صافحتموهم

__________________

(١). شرح المواقف ٨ / ٣٦٣.

(٢). المواقف ٣ / ٦٠٧ ـ ٦١٠.

انقطعت عروة من عرى الإسلام وإذا ناكحتموهم انتهك الحجاب فيما بينكم وبين الله عزوجل» (١).

وفي موثّق زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : «كانت تحته امرأة من ثقيف وله منها ابن يقال له : إبراهيم ، فدخلت عليها مولاة لثقيف فقالت لها : من زوجك هذا؟ قالت : محمّد بن علي. قالت : فإنّ لذلك أصحابا بالكوفة قوم يشتمون السلف ويقولون. قال : فخلّى سبيلها ، فرأيته بعد ذلك قد استبان عليه وتضعضع من جسمه شيء». الحديث(٢).

وفي صحيح عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ : «ولا يتزوج المستضعف المؤمنة» (٣).

وفي موثّق زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تزوّجوا في الشكّاك ولا تزوّجوهم ؛ فإنّ المرأة تأخذ أدب زوجها ويقهرها على دينه» (٤) ؛ ورواها الصدوق بطريق صحيح (٥).

وهذه الروايات في مورد النكاح وإن اختلفت أقوال الفقهاء في المنع أو الكراهة أو التفصيل ، إلّا أنّ مفادها إجمالا يسوس باتّجاه التحفّظ عن الذوبان فيهم ، وإبقاء عازل في ضمن نظام التعايش معهم.

__________________

(١). الكافي ٥ / ٣٥٢ ح ١٧.

(٢). الكافي ٥ / ٣٥١ ح ١٣.

(٣). الكافي ٥ / ٣٥١ ح ٨.

(٤). الكافي ٥ / ٣٥١ ح ٥.

(٥). من لا يحضره الفقيه ٣ / ٤٠٨ ح ٤٤٢٦.

١٠

محطّة الفتوحات

إنّ من الأمور التي تسترعي اهتمام كلّ مؤمن ومسلم هو حال الدين الإسلامي من حيث الانتشار في بلاد الأرض من جهة ، وحاله من حيث إقامة أحكامه ومعالمه في البلدان الإسلامية نفسها من جهة أخرى ، فلما ذا لم ينتشر في كلّ أو سائر أرجاء الكرة الأرضية؟! ولما ذا لا يقام الحكم العادل القويم للدين الإسلامي بتمام أركانه وأصوله وسائر جوانبه؟! إذ لم يقم حكم العدل منذ عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الآن ، سوى خمس سنين ، هي مدّة حكومة أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام ، مع مواجهته للعديد من الموانع التي خلّفتها السنن الجائرة التي شيّدها من سبقه في الخلافة.

فهذان السؤالان يتحرّى كلّ طالب للحقيقة ، وكلّ ذي وجدان وضمير ديني الجواب عنهما ، فلما ذا لا تنعم البشرية جمعا بربيع الإسلام؟! ولما ذا لا ينعم المسلمون بجميع ثمار الدين؟! وتقف بنت المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما ـ مجيبة الأجيال عن السبب في ذلك ، وترسم لنا موطن العجز الذي أصاب المسلمين وبسببه لم يتمكّنوا من نيل هذه المنى.

هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الدين قد بدأ وتولّد في المشيئة الإلهية برعاية سيّد النبيّين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهود عليّ عليه‌السلام ، وببركتهما ترعرع وبني صرح نظام المسلمين ، ملّة ومجتمعا ودولة ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «إنّي وأنت أبوا هذه الأمّة ، فمن عقّنا فلعنه الله عليه ، ألا وإنّي وأنت موليا هذه الأمّة ، فعلى من أبق عنّا لعنة الله ، ألا وإنّي وأنت أجيرا هذه

الأمّة ، فمن ظلمنا أجرتنا فلعنة الله عليه» (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وعليّ أبوا هذه الأمّة ، ولحقّنا عليهم أعظم من حقّ أبوي ولادتهم ؛ فإنّا ننقذهم إن أطاعونا من النار إلى دار القرار ، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار» (٢).

وقالت فاطمة عليها‌السلام : «أبوا هذه الأمّة : محمّد وعليّ ، يقيمان أودهم وينقذانهم من العذاب الدائم إن اطاعوهما ، ويبيعانهم النعيم الدائم إن وافقوهما» (٣).

كما يؤخذ بعين الاعتبار أيضا الوعد الإلهي : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٤).

وقوله تعالى : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٥). وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ* وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) (٦).

هذا الوعد الإلهي الذي روى الفريقان متواترا أنّه سينجزه الباري تعالى على يد المهدي من ولد فاطمة عليها‌السلام ، وهو من أهل البيت عليهم‌السلام ، فالدين قد بدأ بهم ، وآخره مآلا يطبق على الأرجاء بهم أيضا ، إلّا أنّ السؤالين المتقدّمين يطرحان بشأن الحقب المتوسطة بين البداية والنهاية.

ونكاد نلمس الإجابة في قول فاطمة عليها‌السلام في خطبتها على رءوس المسلمين أيام السقيفة : «وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة الشارب ... فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمّد ، بعد اللتيا واللتي ، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب ، (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) (٧) ، أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرة

__________________

(١). بحار الأنوار ٤٠ / ٤٥ ، عن روضة الكافي والفضائل ـ لابن شاذان ـ

(٢). بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥٩ ح ٢٣.

(٣). بحار الأنوار ٢٣ / ٢٥٩ ح ٢٣.

(٤). الصفّ / ٩.

(٥). النمل / ٦٢.

(٦). القصص / ٦.

(٧). المائدة / ٦٤.

من المشركين ، قذف أخاه في لهواتها ، فلا ينكفئ حتّى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدودا في ذات الله ، مجتهدا في أمر الله ، قريبا من رسول الله ، سيّدا في أولياء الله، مشمّرا ، ناصحا ، مجدّا ، كادحا ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، وأنتم في رفاهية من العيش ، وادعون فاكهون آمنون ، تتربّصون بنا الدوائر ، وتتوكّفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.

فلمّا اختار الله لنبيّه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلّين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر ... هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة؟! (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (١) ...

حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيام ، وخضعت نعرة الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم بعد البيان؟! وأسررتم بعد الإعلان؟! وأشركتم بعد الإيمان؟! بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ...

ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ... ألا وقد قلت ما قلت على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ...» (٢).

وقالت في خطبتها الأخرى : «ويحهم! أنّى زعزعوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوّة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطبين بأمور الدنيا والدين؟! (أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (٣).

__________________

(١). التوبة / ٤٩.

(٢). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٤ / ٧٨ ـ ٩٤.

(٣). الزمر / ١٥.

وما الذي نقموا من أبي الحسن؟! نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ، وتالله لو مالوا عن المحجّة اللائحة ، وزالوا عن قبول الحجّة الواضحة ، لردّهم إليها ، ولحملهم عليها ، ولسار بهم سيرا سجحا ، لا يكلم خشاشه ، ولا يكلّ سائره ، ولا يملّ راكبه ، ولأوردهم منهلا نميرا صافيا رويّا فضفاضا ، تطفح ضفتاه ولا يترنّق جانباه ، ولأصدرهم بطانا ، ونصح لهم سرّا وإعلانا ، ولم يكن يحكي من الغنى بطائل ـ أي : لا يجمع لنفسه الثروة ـ ولا يحظى من الدنيا بنائل ، غير ريّ الناهل ، وشبعة الكافل ، ولبان لهم ـ أي : لظهر لهم ـ الزاهد من الراغب ، والصادق من الكاذب ، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) ...

استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل ... وويحهم! (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٢) ...»

وبعد أن أوضحت تصوير حال الفتنة بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذت سلام الله عليها في تصوير المستقبل المتوقّع للأمّة الإسلامية بسبب هذا الانحراف الذي قامت به بعض رجالاتها ، فقالت :

«أما لعمري لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج ، ثمّ احتلبوا ملء القعب دما عبيطا ، وذعافا مبيدا ، هنا لك يخسر المبطلون ، ويعرف التالون غبّ ما أسّس الأوّلون ، ثمّ طيبوا عن دنياكم نفسا ، واطمئنوا للفتنة جأشا ، وأبشروا بسيف صارم ، وسطوة معتلّ غاشم ، وبهرج شامل دائم ، واستبداد من الظالمين يدع فيأكم زهيدا ، وجمعكم حصيدا ، فيا حسرة لكم وأنّى بكم وقد عمّيت عليكم (أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ) (٣)» (٤).

__________________

(١). الأعراف / ٩٦.

(٢). يونس / ٣٥.

(٣). هود / ٢٨.

(٤). راجع : شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٦ / ٢٢٣.

أي : لقد بدء تولّد انحراف الدين والنظام الإسلامي عن مسيره ، وسينتج ذلك تفشّي الظلم والفساد في الأمّة وهرج في مسيرها. وهو ما حصل ؛ فإنّ الخليفة الأوّل عيّن يزيد بن أبي سفيان واليا على الشام ، كما جعل الولاة وأمراء الجيش غالبهم من الحزب القرشي من مسلمة الفتح والطلقاء ، الّذين لم يفتئوا يكيدوا للإسلام عداء ، وبالتالي فهو أوّل من وطّأ وأعدّ لمجيء بني أمية إلى رأس السلطة ، والتسلّط على رقاب المسلمين والتحكّم بمصير الأمّة.

وكذلك فعل الخليفة الثاني ؛ إذ عيّن معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام ، وعثمان ـ من البطن الأموي ـ خليفة له من بعده ؛ بتوسّط معادلة شورى الستّة الّذين عيّنهم ، والتي كانت واضحة الرجحان لصالح عثمان.

هذا مضافا إلى ما قام به كلّ من الأوّل والثاني من السنن الجائرة الحائدة عن سنن الله ورسوله ، فلم يبقيا من الإسلام إلّا اسمه ومن القرآن إلّا رسمه ، كما ستأتي الإشارة إلى جملة منها. وقد طفقت ثروات الحزب القرشي ـ حزب السقيفة ـ في عهد الأوّلين ، فضلا عن الثالث ، تزيد من غنائم الفتوحات حتّى بلغت أرقاما خيالية ، كما سنوا فيك بقائمة ببعضها ، وساد التمييز الطبقي والعرقي مجتمع المسلمين ؛ فقتل الخليفة الثاني بيد أحد الموالي ، بعد أن مات الأوّل في ظروف مريبة ، بسبب الاختلاف الذي جرى بين عصابة أصحاب السقيفة ، حتّى قام أهل بلاد الفتوح ـ وهم أهل مصر والعراق ـ إضافة إلى أهل المدينة بقتل الثالث ، بسبب وصول فساد وضع المسلمين الداخلي إلى درجة المناداة بتقويم أو خلع الخليفة.

روى الطبري من طريق عبد الرحمن بن يسار أنّه قال : لمّا رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى من بالآفاق ، وكانوا قد تفرّقوا في الثغور : «إنّكم إنّما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عزوجل تطلبون دين محمّد ٩ ، فإنّ دين

محمّد قد أفسده من خلفكم وترك ، فهلمّوا فأقيموا دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

ورواه ابن الأثير أيضا ، إلّا أنّه بهذا اللفظ : «فإنّ دين محمّد قد أفسده خليفتكم فأقيموه» (٢). ورواه ابن أبي الحديد بلفظ : «فاخلعوه» (٣).

وهذه الصحوة التي حصلت للمسلمين في قتل عثمان لم تكن نافعة تماما لتستأصل الداء ؛ وذلك لأنّ أسس الانحراف في الأمّة وبنيان الفساد قد تمّ على طول عهد الثلاثة ، ولم تكن تلك البنى لتزول بسهولة ، كما سنشير إليها ، كما لم يكن الحال الموصوف في كلام الناس مختصّا بعهد عثمان من أنّ دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أفسده الخليفة ، فإلى م يدعو المسلمون الآخرين في الجهاد في سبيل الله عزوجل؟! وهل هو جهاد في سبيل الله أم في سبيل الخلافة الفاسدة؟! وإلى ما ذا يدعى الآخرين؟ إلى الدين الذي قد أفسده الخلفاء؟!

ويشير الإمام الصادق عليه‌السلام إلى هذه الحالة التي نخرت في داخل المسلمين والنظام الديني في صحيح أبي بكر الحضرمي : قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أهل الشام شرّ أم أهل الروم؟ فقال : إنّ الروم كفروا ولم يعادونا وإنّ أهل الشام كفروا وعادونا» (٤).

يشير عليه‌السلام إلى كفر إبليس لعنه الله ؛ فكفره كان جحود خليفة الله آدم عليه‌السلام ، ولم يكن كفره بجحود الذات الإلهية ، ولا بجحود المعاد ، ولا بجحود شريعة الله تعالى ، فقد كان يتعبّد.

وكذلك في موثّق سليمان بن خالد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : «أهل الشام شرّ من أهل الروم ، وأهل المدينة شرّ من أهل مكّة ، وأهل مكّة يكفرون بالله جهرة» (٥).

قال في مرآة العقول :

__________________

(١). تاريخ الطبري ٥ / ١١٥.

(٢). الكامل في التاريخ ٥ / ٧٠.

(٣). شرح نهج البلاغة ١ / ١٦٥ وج ٤ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤). الكافي ٢ / كتاب : الإيمان والكفر ـ باب : صنوف أهل الخلاف ح ٥.

(٥). الكافي ٢ / كتاب : الإيمان والكفر ـ باب : صنوف أهل الخلاف ح ٣.

ويحتمل أن يكون هذا الكلام في زمن بني أميّة ، وأهل الشام ، من بني أميّة وأتباعهم ، كانوا منافقين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، والمنافقون شرّ من الكفّار وهم في الدرك الأسفل من النار ، وهم كانوا يسبّون أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو الكفر بالله العظيم ، والنصارى لم يكونوا يفعلون ذلك.

ويحتمل أن يكون هذا مبنيا على أنّ المخالفين غير المستضعفين مطلقا شرّ من سائر الكفّار ، كما يظهر من كثير الأخبار ، والتفاوت بين أهل تلك البلدان باعتبار اختلاف رسوخهم في مذهبهم الباطل ، أو على أنّ أكثر المخالفين في تلك الأزمنة كانوا نواصب منحرفين عن أهل البيت عليهم‌السلام ، لا سيّما أهل البلدان الثلاثة ، واختلافهم في الشقاوة باعتبار اختلافهم في شدّة النصب وضعفه. ولا ريب في أنّ النواصب أخبث الكفّار ، وكفر أهل مكّة جهرة هو إظهارهم عداوة أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد بقي بينهم إلى الآن ، ويعدّون يوم عاشوراء عيدا لهم ، بل من أعظم أعيادهم (١).

أقول : وهذه السنن التي يجازون بها نبيّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا زالت منتشرة في بلدان الشام ويسمّونه : «عيد الظفر» ، وكذلك في بعض بلدان المغرب العربي. ومن ثمّ كان النظام الديني القائم في البلاد الإسلامية عند أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام وفقه الإمامية ليس يشكّل دار الإيمان وإنّما هو دار الإسلام صورة ، ويفرّق في الأحكام الاجتماعية والسياسية والمالية والحقوقية وغيرها بين الدارين.

ففي رواية محمّد بن سابق بن طلحة الأنصاري قال : «كان ممّا قال هارون ـ العبّاسي ـ لأبي الحسن حين أدخل عليه : ما هذه الدار؟ فقال : هذه دار الفاسقين ، قال: (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) (٢).

__________________

(١). مرآة العقول ١١ / ٢١٩.

(٢). الأعراف / ١٤٦.

فقال له هارون : فدار من هي؟ قال : هي لشيعتنا فترة ، ولغيرهم فتنة. قال : فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال : أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلّا معمورة. قال : فأين شيعتك؟ فقرأ أبو الحسن عليه‌السلام : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١). قال : فقال له : فنحن الكفّار؟! قال : لا ، ولكن كما قال الله : (الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (٢). فغضب عند ذلك وغلط عليه» (٣).

وروى ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث ـ قال : «أما تسمع لقول الله: (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (٤)؟! يخرجهم من ظلمات الذنوب إلى نور التوبة والمغفرة لولايتهم كلّ إمام عادل من الله. قال الله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) (٥).

قال : قلت : أليس الله عنى بها الكفّار حين قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا)؟! قال : فقال : وأيّ نور للكافر وهو كافر فأخرج منه إلى الظلمات؟! إنّما عنى الله بهذا أنّهم كانوا على نور الإسلام فلمّا أن تولّوا كلّ إمام جائر ليس من الله خرجوا بولايتهم إيّاهم من نور الإسلام إلى ظلمات الكفر ، فأوجب لهم النار مع الكفّار فقال : (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٦)» (٧).

وروي في طرقهم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أخاف على أمّتي الأئمّة المضلّين ، فاذا وضع السيف في أمّتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ... ولا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين ، لا يضرّهم من خالفهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك» (٨). وروي أيضا في

__________________

(١). البينة / ١.

(٢). إبراهيم / ٢٨.

(٣). الاختصاص ـ للشيخ المفيد ـ ٢٦٢ ، تفسير العيّاشي : ٢ / ٢٩ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٣٦.

(٤). البقرة / ٢٥٧.

(٥). البقرة / ٢٥٧.

(٦). البقرة / ٢٥٧.

(٧). تفسير العيّاشي ١ / ١٣٨ ، بحار الأنوار ٧٢ / ١٣٥.

(٨). جامع الأصول ١٢ / ١٦٢ و ١٠ / ٤١٠.

مشكاة المصابيح (١).

وقد أدرك المسلمون الحال المتردّي الذي وصلوا إليه ، وإنّ إقامة دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإبعاد الزيغ والانحراف عنه في داخل البلاد الإسلامية أوّلا مقدّم على فتح البلدان غير الإسلامية ، وإنّ خلع الخليفة الفاسد ونصب الخليفة العادل هو قطب الرحى الذي يدور عليه نظام الدين ونظام المسلمين ، كما قالت بنت المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وطاعتنا نظاما للملّة».

هذه الحقيقة التي أدركها المسلمون في قتل عثمان هي التي أوجبت اشتعال حروب عليّ عليه‌السلام الداخلية ـ حرب الجمل وصفّين والنهروان ـ بدل من فتح البلدان ، وكذلك سيرة الحسنين عليهما‌السلام ؛ فإنّ إصلاح أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقدّم على دعوة الكفّار إلى الإسلام.

وأي إسلام يدعى الكفّار إليه؟! أهو الإسلام الذي لبني أميّة فيه النصيب الأوفر؟! أم الإسلام الذي ينصّب معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان ولاة على الشام؟! أم الإسلام الذي يفرّق بين القرشي وغير القرشي ، والعربي وغير العربي؟! أم الإسلام الطبقي البرجوازي ، وإسلام الإقطاع وتكدّس الثروات؟! أم الإسلام الذي يحرّم الخروج على الخليفة الجائر؟! أم الإسلام الذي يرى مشروعية الخليفة المتغلّب بالقوّة على رقاب المسلمين؟! أم الإسلام الذي يسوّغ كلّ مخالفة للأحكام والأصول تحت ذريعة : «اجتهد فأخطأ» ، و : «تأوّل فيعذر»؟! أم الإسلام الذي يمنع تدوين وحفظ أحاديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطمس معالم الدين؟!

فالحقيقة التي يصل إليها الباحث في التاريخ والعلوم الإسلامية هي : إنّ قريش وجملة من قبائل العرب لمّا شاهدوا بزوغ الدين الجديد وأنّه ستكون له القدرة والسلطة على كلّ الجزيرة العربية وغيرها من البلدان ، أخذوا بتنظيم عملية اختراق لصفوف

__________________

(١). مشكاة المصابيح : ٤٦٥.

المسلمين منذ السنوات الأولى لبعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ففي الوقت الذي كان رؤساء قريش وغيرها قد اعتمدوا المواجهة المعلنة والمصادمة الشديدة لهذا الدين ، لأنّ مصالحهم ومواقعهم القبلية مهدّدة بالخطر ، اعتمدوا ـ في الوقت نفسه ـ سياسة الاختراق هذه ، التي هي طريق طبيعي مألوف ، في كلّ عصور البشر ، بين أيّ قوّتين متدافعتين.

فأبو سفيان ـ وغيره من الحزب القرشي في مكّة ـ كان يقيم علاقة في أوائل الهجرة مع عبد الله بن أبي سلول في المدينة ، الذي أسلم في الظاهر وكان من رءوس النفاق ، ولم يقم مثل هذه العلاقة مع من أسلم في مكّة في الأيام الأولى ؛ لاختراق صفوف ونظام الإسلام والمسلمين ، واعتمادا على هذه السياسة ، تحسّبا لنتائج المستقبل من أنّ القوّة والسلطة في الجزيرة قد تقع في يد صاحب هذا الدين الجديد.

لقد كانت القبائل النائية عن مكّة تتطلّع إلى ذلك ، فكيف لا تتطلّع قريش إليه ؛ يقول الطبري : «وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض نفسه في الموسم إذا كان على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنّه نبيّ مرسل ، ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتّى يبيّن عن الله ما بعثه به ..

حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا سلمة ، قال : قال محمّد بن إسحاق : وحدّثني محمّد بن مسلم بن شهاب الزهري : «أنّه أتى بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه ، فقال رجل منهم يقال له : بيحرة بن فراس : والله لو أنّي أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب.

ثمّ قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟! قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال : فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا؟! لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه» (١).

فإذا كانت القبائل المتوسّطة والصغيرة تتطلّع إلى تولّي الحكم بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١). تاريخ الطبري ٢ / ٨٣ ـ ٨٤.

فكيف لا تعتمد قريش سياسة وتدبير من أوائل أيام البعثة كي تكون هي الظافرة بملك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا سيّما وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد كان ينبئ ويخبر بما سيكون عليه مستقبل دين الإسلام وأنّه سيسود البلدان؟!

فقد روى الطبري وغيره : «أنّ ناسا من قريش اجتمعوا ، فيهم أبو جهل بن هشام ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، في نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبي طالب فنكلّمه فيه فلينصفنا منه ، فيأمره فليكفّ عن شتم آلهتنا ...».

إلى أن قال : «قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أي عمّ! أو لا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها؟!

قال : وإلى ما تدعوهم؟ قال : ادعوهم إلى أن يتكلّموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم» (١).

والمتتبّع في كتب التاريخ والسير يجد الكثير من هذه النماذج التي تشير إلى تحسّب القبائل وطمعها في الدعوة الجديدة ومستقبلها ، والسلطة الجديدة الآخذة في الانتشار. ونظيره ما كانت تتنبّأ به الكهنة والمنجّمين ، وكانت قريش تعتمد عليهم كثيرا ، وقد ذكر إخبارهم بمستقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتب السير والتاريخ ، بل كانت اليهود والنصارى كثيرا ما تتوعّد المشركين بالظفر عليهم عند بعثة خاتم النبيّين من مكّة ، ولذلك هاجروا من بلاد الشام واستوطنوا الحجاز انتظارا لبعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٢) ، بل قد ذكرت كتب السير والتاريخ أنّ اليهود ـ مع ذلك ـ كانت تترصّد اغتيال أجداد وآباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فمن كلّ ذلك يتبيّن أنّ خبر المستقبل كان متفشّيا منتشرا في أرجاء مكّة

__________________

(١). تاريخ الطبري ٢ / ٦٥.

(٢). البقرة / ٨٩.

والحجاز ، فكيف لا تطمع قريش في نصيب المستقبل لو قدّر وقوعه؟! فكانت سياستها على نمطين : المواجهة المعلنة ، والاختراق لصفوف المسلمين ؛ لكي يعضد كلّ نمط النمط الآخر.

والقرآن الكريم يشير إلى حصول الاختراق في صفوف المسلمين منذ أوائل البعثة النبوية، نجد ذلك في رابع سورة نزلت على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهي سورة المدّثر : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(١).

فهذا التقسيم القرآني فاضح لوجود فئة : (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في أوساط المسلمين المؤمنين ، وهم ليسوا من الكفّار في العلن بل في باطنهم مرض ، وقد لاحق القرآن الكريم هذه الفئة وميّزها عن فئة المنافقين ؛ إذ أنّ أهل النفاق لم يكونوا قد احترفوا الخفاء والسرية التامّة والدهاء الذي كانت تعتمده فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) في اختراق صفوف المسلمين ونظام الدين الجديد.

لاحق القرآن هذه الفئة إلى آخر حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأشار إلى شبكة اتّصالاتهم مع الأطراف الأخرى من الحزب القرشي والقبائل الأخرى واليهود والنصارى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ ... فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) (٢).

وفي بدر : (إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) (٣).

وفي الخندق والأحزاب : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (٤).

__________________

(١). المدّثر / ٣١.

(٢). المائدة / ٥١ ـ ٥٢.

(٣). الأنفال / ٤٩.

(٤). الأحزاب / ١٢.

وأنّهم كانوا على خلطة قريبة من أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (١).

وأنّهم كانوا أهل جبن في الحروب : (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) (٢).

وقد فسّر القرآن المرض الذي في قلوب هذه الفئة بأنّه : الضغينة وعداوة الحسد ؛ ففي تتمّة الآية السابقة : (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ* فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ* أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ* أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها* إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ* فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ* ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ* وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣).

فهذه الآيات تفصح عن علاقة هذه الفئة بالكفّار ، وأنّها سوف تتقلّد الأمور وتتسلّط على رءوس المسلمين ، وأنّ سيرتها الإفساد في الأرض ، نظير ما تنبّأت به الآيات في سورة البقرة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ* وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ* وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٤).

وتجد في سورة البقرة ٢ : ١٠ ، والتوبة ٩ : ١٢٥ ، والحجّ ٢٢ : ٥٣ ، والنور ٢٤ : ٥٠ بقية الأدوار التي قاموا بها ، وفي : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

__________________

(١). الأحزاب / ٣٢.

(٢). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٠.

(٣). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢١ ـ ٣٠.

(٤). البقرة / ٢٠٤ ـ ٢٠٦.

وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) (١) دورهم في إعاقة سياسات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسيرته.

ويشير إلى ذلك ما روي في شرح نهج البلاغة : «قال له قائل : يا أمير المؤمنين! أرأيت لو كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك ولدا ذكرا قد بلغ الحلم وآنس منه الرشد ، أكانت العرب تسلم إليه أمرها؟

قال : لا ، بل كانت تقتله إن لم يفعل ما فعلت. إنّ العرب كرهت أمر محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحسدته على ما آتاه الله من فضله ، واستطالت أيّامه حتّى قذفت زوجته ، ونفّرت به ناقته ، مع عظيم إحسانه إليها ، وجسيم مننه عندها ، وأجمعت مذ كان حيّا على صرف الأمر عن أهل بيته بعد موته ، ولو لا أنّ قريشا جعلت اسمه ذريعة إلى الرئاسة ، وسلّما إلى العزّ والإمرة ، لما عبدت الله بعد موته يوما واحدا ، ولارتدّت في حافرتها وعاد تارحها جذعا ، وبازلها بكرا.

ثمّ فتح الله عليها الفتوح فأثرت بعد الفاقة ، وتموّلت بعد الجهد والمخمصة ، فحسن في عيونها من الإسلام ما كان سمجا ، وثبت في قلوب كثير منها من الدين ما كان مضطربا ، وقالت : لو لا أنّه حقّ لما كان كذا.

ثمّ نسبت تلك الفتوح إلى آراء ولاتها ، وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنّا نحن ممّن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته حتّى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممّن يعرف ونشأ كثير ممّن لا يعرف ، وما عسى أن يكون الولد لو كان؟!

إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقرّبني بما تعلمونه من القرب للنسب واللحمة ، بل للجهاد والنصيحة ، أفتراه لو كان له ولد هل كان يفعل ما فعلت؟! وكذلك لم يكن يقرب ما قربت ، ثمّ لم يكن عند قريش والعرب سببا للحظوة والمنزلة ، بل للحرمان والجفوة.

__________________

(١). الأحزاب / ٦٠.

اللهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد الإمرة ولا علوّ الملك والرئاسة ، وإنّما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها ، والمضي على منهاج نبيّك ، وإرشاد الضالّ إلى أنوار هدايتك» (١).

فهو عليه‌السلام يشير إلى أنّ ما دعا قريش إلى البقاء على ظاهر الإسلام بعد موت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو : أنّها لم تكن لتسود العرب ، فضلا عن العجم ، إلّا باسم نبوّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودينه المبعوث به ، وإلّا لأبت باقي القبائل عليها ذلك ، كما هو حال توزّع القدرة بين القبائل في الجاهلية ، وإلّا فقريش لم تكن تذعن بقلبها لبعثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما فضّله به الله تعالى من كرامة له عليها ، كالذي حصل لجميع الأنبياء من قبله مع قومهم ، أو نظير ما حصل لعيسى عليه‌السلام مع قومه بني إسرائيل ؛ قال تعالى : (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) (٢) ، و : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) (٣).

ثمّ إنّه عليه‌السلام بيّن عاملا ثانيا لانشداد قريش لدين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو : غنائم الفتوح وما جلبته من ثراء ، وهو يبيّن نوايا أصحاب فتوح البلدان ، كما أنّه عليه‌السلام يبيّن أنّ خطط فتوح البلدان كانت من تدبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوامره وبشاراته في عدّة مواطن ، وتدبيره ورأيه هوعليه‌السلام.

وأنّ أسباب الفتح ترجع إلى عوامل عدّة لا صلة لها بالخلفاء الثلاثة ، كيف والثلاثة لا عهد لهم بالحروب وإدارتها وتدبيرها؟! إذ لم يسبق لهم خوض يذكر في القتال إلّا ما في غزوة خيبر ؛ فقد ذكر المؤرّخون أنّ الأوّل والثاني انتدبهما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفتح الحصن ، كلّ منهما مع سرية ، فرجع كلّ منهما مع سريّته يجبّن الناس والناس يجبّنونه (٤).

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩ الحكم المنسوبة رقم ٤١٤.

(٢). المائدة / ١١٠.

(٣). آل عمران / ٤٩ ـ ٥٢.

(٤). المستدرك على الصحيحين ٣ / ٧٣ ؛ وفي كنز العمّال ١٣ / ١٢٢ رقم ٣٦٣٨٨ : عن ابن أبي ليلى ، بعد سؤاله ـ

وحظّهم من الفرار في غزوة أحد والخندق وحنين وغيرها هو الحظّ الأوفر في مواطن عديدة (١).

__________________

ـ عليّا عليه‌السلام عن لبسه ثياب الشتاء في الصيف وثياب الصيف في الشتاء ، قال له عليه‌السلام : «ما كنت معنا يا أبا ليلى بخيبر؟! قلت : بلى والله كنت معكم.

قال : فإن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ بعث أبا بكر فسار بالناس ، فانهزم حتّى رجع ، وبعث عمر فانهزم بالناس حتّى انتهى إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لأعطينّ الراية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، يفتح الله له ، ليس بفرّار. ـ وهذا تعريض منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشيخين في كلا الوصفين ـ

قال : فأرسل إليّ فدعاني ، فأتيته وأنا أرمد لا أبصر شيئا ، فدفع إليّ الراية ، فقلت : يا رسول الله! كيف وأنا أرمد لا أبصر شيئا؟! قال : فتفل في عيني ثمّ قال : اللهمّ اكفه الحرّ والبرد. قال : فما اذاني بعد حرّ ولا برد». ونقله عن ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبزّار ، وابن جرير وصحّحه ، والطبراني في الأوسط ، والحاكم ، والبيهقي في الدلائل ، والضياء المقدسي.

(١). منها : يوم أحد ، كما حكاه تعالى ، قال : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) ـ آل عمران / ١٥٣.

قال الطبري وابن الأثير : «وانتهت الهزيمة بجماعة المسلمين وفيهم عثمان بن عفّان وغيره إلى الأعوص ، فأقاموا بها ثلاثا ثمّ أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة».

تاريخ الطبري ٢ / ٢٠٣ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١١٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ٢٢٧ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٨ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٥.

وذكر الطبري وابن الأثير : إنّ أنس بن النضر ـ وهو عمّ أنس بن مالك ـ انتهى إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يحبسكم؟! قالوا : قتل النبيّ.

قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟! موتوا على ما مات عليه النبيّ. ثمّ استقبل القوم فقاتل حتّى قتل.

(قالوا :) وسمع أنس بن النضر نفرا من المسلمين ـ الّذين فيهم عمر وطلحة ـ يقولون لمّا سمعوا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل : ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي سلول ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان قبل أن يقتلونا.

فقال لهم أنس : يا قوم! إن كان محمّد قد قتل فإنّ رب محمّد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمّد ، ـ

__________________

ـ اللهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء. ثمّ قاتل حتّى استشهد رضوان الله وبركاته عليه.

شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٤ / ٢٧٦ وج ١٥ / ٢٠ ـ ٢٥ ، لباب الآداب : ١٧٩ ، حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لهيكل ـ ٢٦٥ ، تفسير الرازي ٩ / ٦٧ ، الدرّ المنثور ٢ / ٨٠ ـ ٨٨ ، كنز العمّال ٢ / ٢٤٢ ، حياة الصحابة ٣ / ٤٩٧ ، المغازي ـ للواقدي ـ ٢ / ٦٠٩ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٠٨.

وفرار أبي بكر يوم أحد ؛ عن عائشة : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى.

شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٥ / ٢٣ ـ ٢٤ ، الطبقات ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٥٥ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٨ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٣١ ، البداية والنهاية ٤ / ٢٩ ، كنز العمّال ١٠ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩ ، حياة الصحابة ١ / ٢٧٢ ، المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ٣ / ٢٧ ، مجمع الزوائد ٦ / ١١٢ ، لباب الآداب : ١٧٩ ، حياة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لهيكل ـ ٢٦٥ ، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ٤ / ٢٤٤.

ومنها : فرار الثلاثة في يوم حنين.

السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ ٤ / ٨٥ ، صحيح البخاري : كتاب التفسير ـ باب قوله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١٣ / ٢٩٣ ، الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم ٣ / ٢٨٢.

ومنها : غزوة السلسلة بوادي الرمل ، وهي كخيبر ؛ إذ بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّلا أبا بكر فرجع منهزما ، ثمّ عمر فرجع كذلك ، فبعث عليّا عليه‌السلام ففتح الله عليه.

الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ ٦٠ ـ ٦١.

ومنها : غزوة ذات السلاسل في ٧ ه‍ ؛ وكانت إمرة الجيش لعمرو بن العاص ، وفي الجيش أبو بكر وعمر وأبو عبيدة ، وكان بين عمر بن الخطّاب وعمرو بن العاص هنّات ..

ذكر الحاكم في مستدركه كتاب المغازي ٣ / ٤٣ ، بالإسناد إلى عبد الله بن بريدة ، عن أبيه ، قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل ، وفيهم أبو بكر وعمر ، فلمّا انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو أن لا ينوروا نارا ، فغضب عمر بن الخطّاب وهمّ أن ينال منه ، فنهاه أبو بكر وأخبره أنّه لم يستعمله رسول الله عليك إلّا لعلمه بالحرب ، فهدأ عنه عمر!!!

وقد روى فرار عمر في غزوة حنين البخاري في صحيحه باب قول الله تعالى : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ...) (١) (٢). وذكر الفخر الرازي أنّ من المنهزمين : عمر وعثمان (٣). وذكر مصحّح كتاب المغازي أنّ صاحب شرح نهج البلاغة ذكر عنه : أنّ من الفارّين ممّن ولى : عمر وعثمان ، وأبدلت النسخة ب : فلان (٤). وذكر فرارهما الآلوسي(٥). وفي الدرّ المنثور روى عن عمر بن الخطّاب قوله : فلقد رأيتني أنزو كأنّني أروى (٦). والطبري(٧).

وفي غزوة خيبر روي : «أنّه بعث رسول الله أبا بكر فرجع منهزما ومن معه ، فلمّا كان من الغد بعث عمر فرجع منهزما يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه» (٨). وقد عيّر وأعاب سعيد بن العاص ـ أخ خالد بن سعيد بن العاص ـ عمر بن الخطّاب خوفه وجبنه عن قتال الروم. وكان عمر يقول ـ إذا ذكر الروم ـ : «والله لوددت أنّ الدرب جمرة بيننا وبينهم ، لنا ما دونه وللروم ما وراءه» ؛ لما كان يكره قتالهم (٩).

وفي معركة بدر كان موقف أبو بكر وعمر معروفا من تثبيط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حرب قريش ؛ إذ قالا : «إنّها والله قريش وعزّها ، والله ما ذلّت منذ عزّت ، والله ما آمنت

__________________

قال الحاكم ـ بعد إخراجه ـ هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه.

وقد أورده الذهبي في التخليص مصرّحا بصحّته أيضا.

وذكر فرار أبي بكر في أحد في : الطبقات ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٥٥ ، السيرة النبوية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٥٨ ، كنز العمّال ١٠ / ٢٦٨ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٣١ ، حياة الصحابة ١ / ٢٧٢ ، والبداية والنهاية ٤ / ٢٩.

(١). التوبة / ٢٥.

(٢). صحيح البخاري ٣ / ٦٧.

(٣). مفاتيح الغيب ٩ / ٥٢.

(٤). المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ١٨.

(٥). روح المعاني ٤ / ٩٩.

(٦). الدرّ المنثور ٢ / ٨٨.

(٧). تاريخ الطبري ٤ / ٩٥ ـ ٩٦.

(٨). مجمع الزوائد ٩ / ١٢٤ ، المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ٣ / ٣٧.

(٩). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٣ وص ١٥٥.

منذ كفرت ، والله لا تسلّم عزّها أبدا ولتقتلنّك ، فاتّهب لذلك أهبته ، وأعدّ لذلك عدّته»(١).

وروى مسلم : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثمّ تكلّم عمر فأعرض عنه ، فقام سعد بن عبادة ...» (٢). ثمّ قال المقداد بن عمرو : «يا رسول الله! امض لأمر الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها ... ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ... وقال سعد : لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك. وأخذ عمر في الهجر أمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٣).

وسنبيّن عدّة عوامل أخرى لاحقا هي الدخيلة في تحقّق فتح البلدان ، ك : مبادئ وشعارات الإسلام ، من : العدالة ، ونفي الطبقية ، والحرية للأفراد أمام السلطة الحاكمة. وسيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقا وزهدا وهديا. ورزح شعوب البلدان المجاورة لبلاد المسلمين تحت نير الملوكيات المستبدّة الغاشمة طوال قرون ، وتطلّعهم إلى متنفّس للحرية ، ولتبديل نظامهم السياسي والاجتماعي.

مضافا إلى تيقّن المسلمين من صدق بشارات الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، التي هي تدبير وبرمجة منه لوظائف الدولة الآتية بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، مضافا إلى تدبير عليّ عليه‌السلام في الموارد الحرجة التي وقع المسلمون فيها ؛ وإلّا فممارسات الحزب الحاكم كانت تفتّ في عضد الأمّة ، وهي التي سبّبت وقوف انتشار الإسلام في ما بعد.

ويشير إلى السياسة التي مارسها الحزب القرشي لاختراق صفوف المسلمين ما تعاقدت عليه : فئة الّذين في قلوبهم مرض ، والطلقاء من قريش ، والمنافقين من الأنصار ، ومن كان في قلبه الارتداد من العرب في المدينة وما حولها ؛ من تنفير ناقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١). المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٤٨.

(٢). صحيح مسلم ٣ / ١٤٠٤ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٣٢١.

(٣). دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٣ / ١٠٧ ، المغازي ـ للواقدي ـ ١ / ٤٨.

لاغتياله ، ثمّ لم يتمّ لهم ذلك ، فكرّروا المحاولة مرّة أخرى ، ولمّا لم يفلحوا تعاقدوا في صحيفة كتبوها على إزواء الأمر بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، واستودعوها أحدهم ، وجعلوه «الأمين» عليها ، وشهدها جماعة آخرون ، وكاتبها هو سعيد بن العاص الأموي.

وكان المتعاقدون : أصحاب العقبة (الجماعة الّذين أرادوا تنفير ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتياله) وهم أربعة عشر رجلا ، وعشرون رجلا آخر ، فكان مجموعهم أربعة وثلاثين رجلا. وكانوا هؤلاء رؤساء القبائل وأشرافها ، وما من رجل من هؤلاء إلّا ومعه خلق عظيم من الناس يسمعون له ويطيعون ، وقد اتّفق هواهم على عدم وصول الإمارة لعليّعليه‌السلام ، ولا تجتمع النبوّة والخلافة في بني هاشم ، فاتّفقت كلمتهم على تقاسم القدرة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتولية أبو بكر الخلافة كواجهة ، وتوزيع المناصب الأخرى في ما بينهم (١).

__________________

(١). قد ذكرت مصادر عديدة مقاطع متعدّدة من هذه الأحداث ، وأوردت أسماء الجماعة المتعاقدة بالتفصيل ، منها : إرشاد القلوب ـ للديلمي ـ ٢ / ١١٢ ـ ١٣٥ ، المسترشد ـ لابن جرير الإمامي ـ ، كشف اليقين ـ للعلّامة الحلّي ـ : ١٣٧ ؛ نقلا عن حجّة التفضيل ـ لابن الأثير ـ بسنده عن ربيعة السعدي ، عن حذيفة.

وكتاب اليقين ، وكتاب الإقبال ـ لابن طاوس ـ : ٤٥٤ ـ ٤٥٩ عن كتاب النشر والطي.

وقد روى ابن أبي الحديد ، عن أبيّ بن كعب : «ما زالت هذه الأمّة مكبوبة على وجهها منذ فقد نبيّهم». وفي المصدر نفسه عن أبيّ أيضا : «ألا هلك أهل العقدة ، والله ما آسى عليهم ، إنّما آسى على من يضلّون من الناس» ؛ وأهل العقدة : أي أصحاب الصحيفة الّذين تعاقدوا. شرح نهج البلاغة ٤ / ٤٥٤ وص ٤٥٩. وروى ذلك ابن سعد في طبقاته ٣ / ٦١ ق ٣ ، عن جندب بن عبد الله البجلي ، وذكر قصّة مقالة أبيّ بن كعب ، وفي ذيلها قوله : «اللهمّ إنّي أعاهدك لئن أبقيتني إلى يوم الجمعة لأتكلّمنّ بما سمعت من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا أخاف فيه لومة لائم».

وفي موضع آخر ـ الطبقات ٣ / ٦١ ق ٢ ـ : «لأقولنّ قولا لا أبالي استحييتموني عليه أو قتلتموني» ..

__________________

قال الراوي : «لمّا قال ذلك وانصرفت عنه وجعلت انتظر الجمعة ، فلمّا كان يوم الخميس خرجت لبعض حاجتي فإذا السكك غاصّة من الناس لا أجد سكّة إلّا يلقاني الناس ، قال : قلت : ما شأن الناس؟! قالوا : مات سيّد المسلمين أبي بن كعب».

وروى ذلك الحاكم في مستدركه ٢ / ٢٢٦ ـ ٢٢٧ وج ٣ / ٣٠٤ ، وفي سنن النسائي في كتاب الإمامة ٢ / ٨٨ رقم ٧٧٩٢٣ ، وفي مشكاة المصابيح : ٩٩ ، بسنده عن قيس بن عبادة ، وفيه : «ثمّ استقبل القبلة فقال : هلك أهل العقدة وربّ الكعبة ـ ثلاثا ـ ثمّ قال : «والله ما اسى عليهم ولكن على من أضلّوا».

وفي النهاية ـ لابن الأثير ـ : «ومنه حديث أبيّ : هلك أهل العقدة وربّ الكعبة. يعني : بيعة الولاة» ، والولاة لا بيعة لهم وإنّما هي للخلفاء وقال بعضهم : إنّ موت أبيّ بن كعب يوم الخميس ، قبل يوم الجمعة الموعود ، لعلّه خنقته الجنّ ، كما قتل سعد بن عبادة بسهم الجنّ!!!

ورواه عنه مثله في حلية الأولياء ١ / ٢٥٢. ورواه أحمد في مسنده (مسند الأنصار ٢٠٣١٠) ؛ وفيه : «ثمّ حدّث فما رأيت الرجال متحت ـ ذللت ـ أعناقها إلى شيء متوجّها إليه. قال : فسمعته يقول : هلك أهل العقدة وربّ الكعبة ، ألا لا عليهم اسى ولكن اسى على من يهلكون من المسلمين».

وروى حادثة الاغتيال في العقبة السيوطي في الدرّ المنثور ٣ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠ ، وعبّر عنهم بأنّهم : «ناس من أصحابه» ، وروى السيوطي في ذيله : أنّ حذيفة قال : «يا رسول الله! فنضرب أعناقهم؟! قال : أكره أن يتحدّث الناس ويقولوا : إنّ محمّدا وضع يده في أصحابه». ومثله في دلائل النبوّة ـ للبيهقي ـ ٥ / ٢٥٦ ـ ٢٦٧.

وذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب ـ في ذيل الإصابة ـ ٢ / ٣٧٢ ، في ترجمة أبي موسى الأشعري : «أنّ حذيفة قال فيه كلام كرهت أن أذكره» ، ولكنّ ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١٣ / ٣١٤ ـ ٣١٥ قال : «أنّه كان من أصحاب العقبة» ، كما عن حذيفة وعمّار. ولاحظ : كنز العمّال ١٤ / ٨٦.

وروى ذلك عن حذيفة ـ أنّ أبا موسى الأشعري من المنافقين ، أي الّذين اختصّ حذيفة بمعرفتهم ، وهم أصحاب العقبة ـ الذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ / ٩٣ وج ٣ / ٨٢ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٣٢ / ٩٣ ، والمزّي في تهذيب الكمال ٤ / ٢٤٤ ؛ وروى الصدوق أسمائهم في الخصال ٦ / ٤٩٩.

وفي شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٢ / ١٠٣ : «أنّهم كانوا اثني عشر رجلا ، منهم : أبو سفيان».

وهناك شواهد تاريخية عديدة على وجود العلاقة بين فئة الّذين في قلوبهم مرض ، وهم المجموعة التي اخترقت صفوف المسلمين في الأيام الأولى من البعثة النبوية ، وبين كفّار قريش ، الّذين تحلّوا في ما بعد إلى الطلقاء.

منها : ما رواه الواقدي ، قال : «حدّثني ابن أبي سبرة ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم ، واسم أبي جهم : عبيد ، قال : كان خالد بن الوليد يحدّث وهو بالشام ، يقول : الحمد لله الذي هداني للإسلام! لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطّاب حين جالوا وانهزموا يوم أحد وما معه أحد ، وإنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري ، فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له ، فنظرت إليه موجّها ـ أي فارّا ـ إلى الشعب» (١) ؛ فيا ترى لما ذا لا يريد خالد يوم أحد قتل عمر بن الخطّاب ، ويخشى على حياته!!! مع أنّ خالد يريد قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّا وحمزة؟!!!

__________________

وفي المحلّى ـ لابن حزم ـ ١١ / ٢٢٥ : «أنّه روي عن حذيفة : إنّ أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقّاص من أصحاب العقبة».

وروي : «إنّ عمر سأل حذيفة : يا حذيفة! أنشدك الله أمن القوم أنا؟! قلت : اللهمّ لا ، ولن أبرّئ أحدا بعدك.

قال : فرأيت عيني عمر جاءتا ـ أي : هلع ذعرا ـ» ..

رواه ابن عساكر في مختصر تاريخ دمشق ٦ / ٢٥٣ ، والذهبي في سير أعلام النبلاء ٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، وابن العديم في بغية الطلب في تاريخ حلب ٦ / ٢١٧٦.

وروى ابن عساكر ، قال : «دخل عبد الرحمن على أمّ سلمة ، فقالت : سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ من أصحابي لمن لا يراني بعد أن أموت أبدا.

فخرج عبد الرحمن من عندها مذعورا حتّى دخل على عمر ، فقال له : اسمع ما تقول أمّك. فقام عمر حتّى دخل عليها فسألها ، ثمّ قال : فأنشدك الله أمنهم أنا؟!

قالت : لا ولن أبرّئ بعدك أحدا». مختصر تاريخ دمشق ١٩ / ٣٣٤.

والذعر الذي أصابهما من قول أمّ سلمة خوف أن ينتشر ذلك بين المسلمين.

(١). المغازي ١ / ٢٣٧.

ومنها : ما رواه المفيد في الإرشاد عن أبي بكر الهذلي ، عن الزهري ، عن صالح بن كيسان : «إنّ العاص بن سعيد بن أمية عرض له عمر يوم بدر ولم يقتله ، وكان عمر ينفي عن نفسه قتل العاص ويقول : إنّ قاتله عليّ عليه‌السلام» (١).

ومنها : ما رواه الواقدي وغيره في غزوة الخندق ، قال : «وحمل ضرار بن الخطّاب على عمر بن الخطّاب بالرمح ، حتّى إذا وجد عمر مسّ الرمح رفعه عنه وقال : نعمة مشكورة فاحفظها يا بن الخطّاب!» (٢).

وفي السيرة الحلبية : «ثمّ حمل ضرار بن الخطّاب وهبيرة بن أبي وهب على عليّ كرّم الله وجهه ، فأقبل عليّ عليهما ، فأمّا ضرار فولّى هاربا ، وأمّا هبيرة ... فكرّ ضرار راجعا وحمل على عمر بالرمح ليطعنه ، ثمّ أمسك وقال : هذه نعمة مشكورة أثبتها عليك ، ويد لي عندك ـ أي : نعمة أخرى سابقة ـ غير مجزى بها ، فاحفظها. أي : ووقع له مع عمر مثل ذلك في أحد ؛ فإنّه التقى معه ، فضرب عمر بالقناة ، ثمّ رفعها عنه وقال له : ما كنت لأقتلك يا بن الخطّاب» (٣)!!!!

ومنها : رثاء عمر وأبي بكر قتلى كفّار قريش في بدر :

وكأيّن بالقليب قليب بدر

من الفتيان والعرب الكرام

أيوعدني ابن كبشة أن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام؟!

إلى آخر الأشعار التي قالاها بعد شربهما الخمر ، لا سيّما وأنّ السكر يخرج خبايا النفس والضمير (٤).

ومنها : الرسائل المتبادلة بين أصحاب السقيفة وقريش في مكّة ، كالتي جرت بين

__________________

(١). الإرشاد ١ / ٧٦.

(٢). المغازي ١ / ٤٧١ ، البداية والنهاية ٣ / ١٠٧ ، طبقات الشعراء ـ لابن سلام ـ : ٦٣.

(٣). السيرة الحلبية ٢ / ٣٢١.

(٤). فلاحظ : جامع البيان ـ للطبري ـ ٢ / ٢٠٣ وص ٢١١ ، والمستطرف ٢ / ٢٦٠.

عبد الرحمن بن عوف وأمية بن خلف (١).

ومنها : ما تقدّم في اشتراك قريش الطلقاء وأصحاب السقيفة لاغتيال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

سبب الردّة وحقيقتها

روى أبان بن تغلب (٢) قال : قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام : «جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنكر على أبي بكر وجلوسه مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! فقال : «نعم ، كان الذي أنكر على أبو بكر اثني عشر رجلا ، من المهاجرين : خالد بن سعيد بن العاص ، وكان من بني أمية ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذرّ الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمّار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي ، ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، وأبيّ بن كعب ، وأبو أيّوب الأنصاري.

ـ إلى أن قال عليه‌السلام : ـ إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لهم : فانطلقوا بأجمعكم إلى الرجل فعرّفوه ما سمعتم من قول رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ ليكون ذلك أوكد للحجّة وأبلغ للعذر ، وأبعد لهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا وردوا عليه. فسار القوم حتّى أحدقوا بمنبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يوم الجمعة ...

ـ إلى إن قال عليه‌السلام : إنّ القوم المعترضين تكلّم واحد تلو الآخر منهم ـ فأوّل من تكلّم به خالد بن سعيد بن العاص ، وذكّرهم بحديث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا إنّ عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أميركم بعدي وخليفتي فيكم ، بذلك أوصاني ربّي ، ألا وإنّكم إن لم تحفظوا فيه

__________________

(١). مختصر تاريخ دمشق ـ لابن عساكر ـ ٤ / ٧٦ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٣ / ٣٥٠ و ٤ / ٧٧.

(٢). الاحتجاج ـ للطبرسي ـ : ٤٧ ـ ٥٠ ، وذكر اعتراض هؤلاء على بيعة أبي بكر في عدّة مصادر أخرى ؛ فقد ذكر ذلك : ابن الأثير في أسد الغابة : ترجمة خالد بن سعيد ابن العاص ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢ / ١٧ ، وأبي الفداء في المختصر في أخبار البشر ، واليعقوبي في تاريخه ٢ / ١١٤.

وصيّتي وتؤازروه وتنصروه اختلفتم في أحكامكم ، واضطرب عليكم أمر دينكم ، ووليكم شراركم ...

فقال له عمر بن الخطّاب : اسكت يا خالد! فلست من أهل المشورة (١) ولا ممّن يقتدى برأيه. فقال خالد : اسكت يا ابن الخطّاب! فإنّك تنطق عن لسان غيرك وأيم الله لقد علمت قريش أنّك من ألأمها حسبا ، وأدناها منصبا ، وأخسّها قدرا ، وأخملها ذكرا ، وأقلّهم غناء عن الله ورسوله ، وأنّك لجبان في الحروب ، بخيل بالمال ، لئيم العنصر ، ما لك في قريش من فخر ، ولا في الحروب من ذكر ...

وقال سلمان الفارسي : ... يا أبا بكر! إلى من تسند أمرك إذا نزل بك ما لا تعرفه؟! وإلى من تفزع إذا سئلت عمّا لا تعلمه؟! وقام أبو ذرّ فقال : يا معشر قريش! أصبتم قباحة ، وتركتم قرابة ، والله لترتدّن جماعة من العرب ، ولتشكّن في هذا الدين ، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم ما اختلف عليكم سيفان ، والله لقد صارت لمن غلب ، ولتطمعنّ إليها عين من ليس من أهلها ، وليسفكنّ في طلبها دماء كثيرة. فكان كما قال أبو ذرّ.

وقال المقداد بن الأسود : ... ولا تغررك قريش وغيرها ... وقال : أبيّ بن كعب : ... ولا تكن أوّل من عصى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وصيّه وصفيّه وصدف عن أمره ، اردد الحقّ إلى أهله تسلم ... وقام عثمان بن حنيف فقال : فلا تكن يا أبا بكر (أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ)(٢) و (لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣) ...»

وما تخوّف منه هؤلاء الاثنا عشر من المهاجرين والأنصار من تمرّد القبائل العربية مسلمة الوفود بسبب تمرّد قريش نفسها وأصحاب السقيفة على وصيّة النبيّ وأمر الله ورسوله ، قد تحقّق ؛ فإنّ عصيانهم في الوصاية وارتدادهم عن عهد الله ورسوله في خلافة

__________________

(١). ذكر ابن الأثير في أسد الغابة أنّ خالد بن سعيد من السابقين إلى الإسلام ثالثا أو رابعا ، أي أسلم قبل أبي بكر وعمر.

(٢). البقرة / ٤١.

(٣). الأنفال / ٢٧.

عليّ عليه‌السلام فتح الباب لسائر القبائل للارتداد عن أداء الزكاة.

بل إنّ نصوص كتب التواريخ ـ كما سيأتي استعراضها ـ تنصّ على أنّ تمرّد القبائل في الجزيرة العربية كان بسبب إبائها خلافة أبي بكر ، واستهجانها مكانته ولآمة حسبه ونسبه، وأنّهم قالوا : كما خانت قريش نبيّها في وصيّه فلم نطيع قريش وأبا بكر في بغيهم؟!

فالزلزلة التي أصابت الإسلام بسبب خلافة أبي بكر هي أكبر شؤم على الإسلام ، وقد سبّبت هلاك الحرث والنسل ، كما تنبّأ القرآن الكريم بذلك ، وأشارت إليه سورة المدّثر المكّية ، رابع سورة نزولا ؛ فقد قال تعالى في فئة الّذين في قلوبهم مرض ، وهي الفئة التي اندسّت في صفوف المسلمين في أوائل البعثة ، والتي كانت على ارتباط مع قريش الطلقاء في الخفاء : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) (١) ، في سياق آيات (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ). وكذلك قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ؛ فقد خفرت كثير من الذمم والعهود.

قال ابن أعثم ـ عند ذكر ارتداد أهل حضرموت من كندة ـ : «فلمّا فرغ أبو بكر من حرب أهل البحرين ـ وسيأتي أنّ عصيانهم هو لأبي بكر وخلافته ـ عزم على محاربة أهل حضرموت من كندة ، وذلك أنّ عاملهم زياد بن لبيد الأنصاري كان ولّاه عليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان مقيما بحضرموت يصلّي بهم ويأخذ منهم ما يجب عليهم من زكاة أموالهم ، فلم يزل كذلك إلى أن مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسبيله وصار الأمر إلى أبي بكر ، فقال له الأشعث بن قيس : يا هذا! إنّا قد سمعنا كلامك ودعاءك إلى هذا الرجل فإذا اجتمع الناس إليه اجتمعنا. قال له زياد بن لبيد : يا هذا! إنّه قد اجتمع المهاجرون والأنصار.

فقال له الأشعث : إنّك لا تدري كيف يكون الأمر بعد ذلك. قال : فسكت زياد بن

__________________

(١). محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم / ٢٢.

(٢). البقرة / ٢٠٥.

لبيد ولم يقل شيئا ، ثمّ قام إلى الأشعث بن قيس ابن عمّ له يقال له : امرؤ القيس بن عابس من كندة ، فقال له : يا أشعث! انشدك بالله وبإيمانك وبقدومك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن نكصت أو رجعت عن دين الإسلام ، فإنّك إن تقدّمت تقدّم الناس معك ، وإنّ هذا الأمر لا بدّ له من قائم يقوم به فيقتل من خالف عليه ، فاتّق الله في نفسك ؛ فقد علمت ما نزل بمن خالف أبا بكر ومنعه الزكاة» (١).

ويظهر من هذا النصّ التاريخي أنّ أصحاب السقيفة قد حكموا بالكفر والردّة على مجرّد مخالفة تنصيب أبا بكر وعدم تمكينه من الزكاة ، وهذا التكفير والحكم بالردّة هو بنفسه وبدوره سببا لتطوّر مخالفة خلافة أبي بكر إلى التشكيك في الدين والرجوع حقيقة عنه.

ومن تناقضات أصحاب السقيفة وتلاعبهم في الدين ، أنّهم كفّروا مخالفي استخلاف أبي بكر ومانعيه من التسلّط على رقاب المسلمين وعلى الأموال العامّة ـ كالزكاة ـ وحكموا بإسلام عائشة وطلحة والزبير وأصحاب الجمل ، الّذين نكثوا بيعة عليّ عليه‌السلام وقاموا بمحاربته ، وقالوا : بأنّهم تأوّلوا واجتهدوا وأخطئوا.

وكذلك حكموا بإسلام معاوية وأهل الشام القاسطين في محاربتهم أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وقالوا : بأنّهم اجتهدوا وتأوّلوا وأخطئوا. وكذلك حكموا بإسلام خالد بن الوليد مع استحلاله لقتل مالك بن نويرة وقومه ـ كما سيأتي بيانه ـ مع بقاء مالك وقومه على إسلامهم وإيمانهم ، واستباحة خالد التزويج بزوجة مالك. فلما ذا لا يحكم بكفر وردّة أبي بكر وأصحاب السقيفة ، الّذين أنكروا النصّ على خلافة عليّ عليه‌السلام ، وخالفوا عهد الله ورسوله في الوصية؟!

حكى ابن أبي الحديد عن السيّد المرتضى في الشافي قول الجاحظ : «وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلّة

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٤٥.

المنتصف ، وحدب الوامق ومقة المحقّ» (١).

وقال ابن أعثم : «ثمّ تكلّم الأشعث بن قيس فقال : يا معشر كندة! إن كنتم على ما أرى فلتكن كلمتكم واحدة ، والزموا بلادكم وحوّطوا حريمكم وامنعوا زكاة أموالكم ؛ فإنّي أعلم أنّ العرب لا تقرّ بطاعة بني تميم بن مرّة وتدع سادات البطحاء من بني هاشم إلى غيره ، فإنّها لنا أجود ، ونحن لها أجرى وأصلح من غيرنا ؛ لأنّا ملوك من قبل أن يكون على وجه الأرض قريشي ولا أبطحي» (٢).

ويرى الباحث صدق ما أخبر به أبو ذرّ وبقية المهاجرين والأنصار الاثني عشر من تسبّب خيانة أبي بكر وأصحاب السقيفة ، وضعة مكانة أبي بكر في تمرّد القبائل وطمعها في الخلافة ، واسترابتها في الدين.

ثمّ قال ابن أعثم : «جاء لزياد بن لبيد الأنصاري العامل على كندة رجل يقال له : الحارث بن معاوية ، فقال لزياد : إنّك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد. فقال له زياد بن لبيد : يا هذا! صدقت ، فإنّه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد ، ولكنّا اخترناه لهذا الأمر.

فقال له الحارث : أخبرني لم نحّيتم عنها أهل بيته وهم أحقّ الناس بها ؛ لأنّ الله عزوجل يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) (٣)؟!

فقال له زياد بن لبيد : إنّ المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك. فقال له الحارث بن معاوية : لا والله ، ما أزلتموها عن أهلها إلّا حسدا منكم لهم ، وما يستقرّ في قلبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علما يتّبعونه ، فارحل عنّا أيّها الرجل ؛ فإنّك تدعو إلى غير الرضا. ثمّ أنشأ الحارث بن معاوية يقول :

كان الرسول هو المطاع فقد مضى

صلّى عليه الله لم يستخلف

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢٦٤.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٤٧.

(٣). الأنفال / ٧٥.

قال : فوثب عرفجة بن عبد الله الذهلي فقال : صدق والله الحارث بن معاوية ، أخرجوا هذا الرجل عنكم فما صاحبه بأهل للخلافة ولا يستحقّها بوجه من الوجوه ، وما المهاجرون والأنصار بأنظر لهذه الأمّة من نبيّها محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : ثمّ وثب رجل من كندة يقال له : عدي بن عوف ، فقال : يا قوم! لا تسمعوا قول عرفجة بن عبد الله ولا تطيعوا أمره ؛ فإنّه يدعوكم إلى الكفر ويصدّكم عن الحقّ ، اقبلوا من زياد بن لبيد ما يدعوكم إليه وارضوا بما رضى المهاجرون والأنصار ؛ فإنّهم أنظر لأنفسكم منكم» (١).

فيظهر من هذا النصّ التاريخي أنّ منطق أصحاب السقيفة هو : الحكم بالكفر والردّة على المعترضين على أبي بكر وأصحابه بخيانة عهد الله ورسوله في وصيّه ، وإنّ حروب الردّة هي ضدّ تلك القبائل التي تمرّدت على استخلاف أبي بكر عدا تلك التي ظهر فيها الكذّابين المدّعين للنبوّة ، كمسيلمة الكذّاب وسجاح ، وإنّ الردّة شعار رفعه أصحاب السقيفة ضدّ تلك القبائل لتبرير قتالهم ، وإخمادا للمعارضة على تنصيب أبي بكر ، وساعد هذا التمويه والإغراء والخداع تقارن هذه المعارضة مع دعاوى الكذّابين الدجّالين للنبوّة ، كمسيلمة وسجاح وطليحة بن خويلد ، فحصل اختلاط في الأوراق وهرج في تصفية الحسابات ومعادلة المواجهات.

وفي نصّ آخر ذكره ابن أعثم : «عند ما وصل كتاب أبي بكر للأشعث ابن قيس وفيه : وأنهاكم أن لا تنقضوا عهده ، وأن لا ترجعوا عن دينه إلى غيره فلا تتّبعوا الهوى فيضلّكم عن سبيل الله ... فأقبل الأشعث على الرسول فقال : إنّ صاحبك أبا بكر هذا يلزمنا الكفر بمخالفتنا له ولا يلزم صاحبه ـ أي : زياد بن لبيد ـ الكفر بقتله قومي وبني عمّي! فقال له الرسول : نعم يا أشعث! يلزمك الكفر ؛ لأنّ الله تبارك وتعالى قد أوجب عليك الكفر بمخالفتك لجماعة المسلمين» (٢).

وهذا النصّ يوضّح أنّ مبنى أصحاب السقيفة أنّ الدين يتمثّل في جماعتهم ، وأنّهم

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٤٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٥٤.

جماعة المسلمين وما عداهم من المهاجرين والأنصار وبني هاشم وسعد بن عبادة وسائر القبائل ليسوا بجماعة المسلمين ، وأنّ خيانة الله ورسوله في عهد الوصاية والإمامة وإنكار ما جاء به الرسول في ذلك ليس يوجب الكفر ، فهم قد جعلوا جماعة السقيفة عدل القرآن وبديل النبوّة ، وهذا ممّا يكشف أوراق حروب الردّة ويفضح دجليّة شعارها.

وقال ابن أعثم : إنّ أبا بكر لمّا وصله خبر كندة وعصيانها له وضعف الجيش الذي أرسله عن مقاومة كندة استشار جماعته «ثمّ انصرف أبو بكر إلى منزله وأرسل إلى عمر بن الخطّاب فدعاه ، وقال : إنّي عزمت على أن أوجّه إلى هؤلاء القوم عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه عدل رضا عند أكثر الناس ؛ لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ورفقه بما يحاول من الأمور.

قال : فقال له عمر بن الخطّاب : صدقت يا خليفة رسول الله! إنّ عليّا كما ذكرت وفوق ما وصفت ، ولكنّي أخاف عليك خصلة منه واحدة. قال له أبو بكر : وما هذه الخصلة التي تخاف عليّ منها منه؟ فقال عمر : أخاف أن يأبى القتال فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك فلن تجد أحدا يسير إليهم إلّا على المكروه منه ، ولكن ذر عليّا يكون عندك بالمدينة ؛ فإنّك لا تستغني عنه وعن مشورته ، واكتب إلى عكرمة بن أبي جهل» (١).

ويظهر من هذا النصّ التاريخي أنّ عمر يتخوّف من إباء عليّ عليه‌السلام قتال كندة ، ممّا يدلّل على عدم تكفير عليّ عليه‌السلام لكندة وعدم قوله عليه‌السلام بردّتهم ، ويظهر القول بإسلام كندة أيضا من أبي أيوب الأنصاري عند ما استشاره أبي بكر في كندة ؛ قال : «لو صرفت عنهم الخيل في عامك هذا وصفحت عن أموالهم لرجوت أن ينيبوا إلى الحقّ وأن يحملوا الزكاة إليك بعد هذا العام طائعين غير مكرهين ، فذاك أحبّ إليّ من محاربتك إيّاهم» (٢) ، ولكنّ أبا بكر أبى ذلك ، ولعلّه فطن إلى أنّ أبا أيوب الأنصاري من أنصار عليّ عليه‌السلام.

بل إنّ عمر اعترف بإسلام أهل «دبا» ، الّذين ناصروا كندة في تمرّدهم ؛ إذ همّ أبو

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٥٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٥٦.

بكر بقتل المقاتلة وقسمة النساء والذرّيّة ، فقال له عمر ابن الخطّاب : «يا خليفة رسول الله! إنّ القوم على دين الإسلام ، وذلك أنّي أراهم يحلفون بالله مجتهدين : ما كنّا رجعنا عن الإسلام. ولكن شحّوا على أموالهم» (١) ، والحقيقة أنّهم أبوا إمارة أبي بكر.

وتظهر هذه الحقيقة التاريخية أيضا من بكر بن وائل في البحرين ؛ إذ أنّ سبب تمرّدهم وردّتهم في قولهم لكسرى : «إنّه قد مضى ذلك الرجل الذي كانت قريش وسائر مضر يعتزّون به ـ يعنون بذلك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وقد قام من بعده خليفة له ، ضعيف البدن ضعيف الرأي» (٢).

ويظهر أنّ سبب تمرّد وردّة بني أسد وغطفان وفزارة ، ومناصرتهم لطليحة بن خويلد الكذّاب هو ضعة أبي بكر ، وقولهم بعدم أهليّته للخلافة ؛ إذ نادوا : «لا نبايع أبا الفصيل ـ يعنون أبا بكر ـ» (٣) ، وهذه التكنية تحقيرا لأبي بكر ، وإشارة إلى عمله في الجاهلية ، وهو الدلالة في بيع وشراء الإبل.

هذه لمحة خاطفة تدلّل على أنّ تدبير الفتوحات وخططها لا تعزى إلى الثلاثة!! كيف ولا مراس لهم بالحروب وإدارتها وأمور الجيوش؟! وقد ولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أسامة بن زيد في جيش المسلمين لمحاربة الروم في آخر أيّام حياته ، وأنّ خطط الفتوح وتدبيرها راجعة إلى أسباب وعوامل أخرى.

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٥٩.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٣٤.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ١٤.

تدبير الإمام عليّ عليه‌السلام

في ظفر المسلمين في الفتوحات

هناك نصوص تاريخية عديدة تبيّن تدبير عليّ عليه‌السلام في المنعطفات الخطيرة التي عصفت بالمسلمين ودولتهم وجيوشهم ، وكاد نظام المسلمين أن يتقوّض لو لا حنكته وبصيرته في تدبير الأمور العامّة ، وإعزاز الإسلام ، ونصر الدين ، ورتقه ، ولو لا ذلك أيضا لتشتّت أوضاع المسلمين ؛ بسبب استخلاف أبي بكر ونبذ أصحاب السقيفة عهد الله ورسوله في الإمامة ، ممّا دعا سائر القبائل للتمرّد والريبة في الدين ، واضطرار أبي بكر وعمر وعثمان وبقية الصحابة لاستشارته عند اضطراب الأمر عليهم في تدبير الأحوال الخطيرة.

ثمّ إنّ عمدة ما حصل من الفتوحات ، وطرد الروم والقضاء على ملك كسرى كان ببركة إشرافه وتسديده ومشورته ، بل في بعض الموارد صدرت منه المعجزات لإنقاذ الموقف ؛ لحكمة إلهية ، وزيادة في الامتحان لهذه الأمّة ، مع ما مر من ضعف الثلاثة في مراس التدبير ، لا سيّما وأنّ الدولة الإسلامية تعيش حالة استنفار عسكري ، أي ما يصطلح عليه حاليا : «دولة حرب» ، وهم أبعد ما يكونون وزنا عن التأثير في معادلة القوى في الحروب ، كما مرّ.

ومن ثمّ قال عليه‌السلام ـ في ما مرّ من رواية ابن أبي الحديد ـ : «... ثمّ نسبت ـ أي قريش ـ تلك الفتوح إلى آراء ولاتها وحسن تدبير الأمراء القائمين بها ، فتأكّد عند الناس نباهة قوم وخمول آخرين ، فكنّا نحن ممّن خمل ذكره ، وخبت ناره ، وانقطع صوته وصيته حتّى أكل الدهر علينا وشرب ، ومضت السنون والأحقاب بما فيها ، ومات كثير ممّن يعرف ـ أي فضائله ومناقبه وركنيته بعد الرسول في بنيان الدين وانتظام الإسلام ـ ونشأ

كثير ممّن لا يعرف ...» (١).

وقد جاءت عدّة نصوص تاريخية في ذلك :

منها : ما قاله أبو بكر لعمر عند ما فشل الجيش الذي بعثه أبو بكر لقتال كندة ، ولم يفلح المدد أيضا ، فاضطرب لذلك أبو بكر وقال : «إنّي عزمت على أن أوجّه إلى هؤلاء عليّ بن أبي طالب ؛ فإنّه عدل رضا عند أكثر الناس لفضله وشجاعته وقرابته وعلمه وفهمه ، ورفقه بما يحاول من الأمور ...».

فهذا النصّ سواء في فقرة كلام أبي بكر أو كلام عمر يكشف النقاب عن دور عليّعليه‌السلام ومكانته في نفسية المسلمين وسائر القبائل المتمرّدة على استخلاف أبي بكر كما فيه إقرار واعتراف من أبي بكر بالإحكام في تدبير عليّ عليه‌السلام للأمور ، لا سيّما هذا الأمر الذي استعصى حلّه على أبي بكر ، وجزع من شدّة الورطة فلم يجد بدّا من الكتابة إلى الأشعث بن قيس بالرضا (٢).

كما أنّ في كلام عمر ؛ إذ قال : «أخاف أن يأبى القتال فلا يقاتلهم ، فإن أبى ذلك فلن تجد أحدا يسير إليهم إلّا على المكروه منه ، ولكن ذر عليّا يكون عندك بالمدينة فإنّك لا تستغني عنه وعن مشورته» إقرار بما ذكره صاحبه وزيادة : إنّ عليّا عليه‌السلام إذا أبدى قوله في عدم قتال كندة فإنّ البقية سيتأثّروا به ويمتنعوا عن مقاتلة كندة إلّا بالإكراه ، وإنّ دولة السقيفة لم تستطع إدارة الأمور بدون مشورة عليّ عليه‌السلام. وسيأتي في بقية النصوص الكثير ممّا يعضد ذلك.

ومنها : «وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من الأصحاب ، فقدّموا وأخّروا ، فاستشار عليّ بن أبي طالب ، فأشار أن يفعل ، فقال : إن فعلت ظفرت. فقال : بشّرت بخير! فقام أبو بكر في الناس خطيبا ، وأمرهم أن يتجهّزوا إلى الروم» (٣).

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٩٨ رقم ٤١٤.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٥٣.

(٣). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٢ ـ ١٣٣.

وفي فتوح ابن أعثم : «فسأل أبو بكر : ومن أين علمت ذلك؟! فقال عليه‌السلام : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...» (١) ، وفي مكان آخر : «تسامع هرقل بأنّ نبيّ الإسلام أخبرهم بالنصر» (٢). ويظهر من هذا النصّ ، ومن الذي قبله ، وممّا يأتي من نصوص متعدّدة طمع السلطة في فراسة عليّ عليه‌السلام الغيبية ، وإخباره بالملاحم وعلم المنايا والبلايا ، وهي من العلوم اللدنية للأوصياء ، وما عنده عليه‌السلام من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمصير الأمور وأحوال البلدان ، فإنّه نقل ذلك عنه بكثرة في كتب السير والتواريخ ، واستخبار أبي بكر وعمر عليّا عليه‌السلام ، واستخفاؤهما إيّاه أحوال الأوضاع ، وفي الفتوح : تهديد وفد المسلمين جبلة ـ حليف هرقل بالشام ـ ببشارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنصر (٣) ؛ كلّ ذلك يصبّ في النهاية في رفعة اسميهما عند عامّة الناس ، ونسبة الفتوح إليهما ، كما قال عليه‌السلام في ما مرّ من الرواية.

اعتراض وإجابة

وقد يرد اعتراض في ذهن بعض من لا بصيرة له بأوصياء الأنبياء : لما ذا يسدّد عليّعليه‌السلام خلفاء الجور إلى أبواب الظفر والنصر ، فيعلو كعبهم واسمهم ، وتزداد فتنة الناس بضلالتهم ، وببدعهم في الدين ، وبمتاركتهم لصراط الهداية من أهل بيت النبوّة عليهم‌السلام؟! ، كما أنّ بعض آخر ـ ممّن لا يستمسك بالبيّنات والبراهين ـ يموّه إرشاد علي عليه‌السلام لهما في تدبير الأمور على أنّه رضى منه بحالهما!!

وهؤلاء إذ تاركوا عيش اليقين نكسوا قلوبهم في الريب ؛ استحبابا منهم لذلك ، بدلا من نور الحقيقة ؛ فإنّ الوصيّ عليه‌السلام ليس غارقا في بحر الهوى ، كما قال عليه‌السلام في ذيل الرواية المزبورة : «اللهمّ إنّك تعلم أنّي لم أرد الإمرة ، ولا علوّ الملك والرئاسة ، وإنّما أردت القيام بحدودك ، والأداء لشرعك ، ووضع الأمور في مواضعها ، وتوفير الحقوق على أهلها ، والمضي

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٨٠.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٨٣.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ١٠٣.

على منهاج نبيّك ، وإرشاد الضالّ إلى أنوار هدايتك» (١).

فإنّه عليه‌السلام ممّن طهّره الله من الرجس والهوى ، فلا يعيش إلّا همّ إقامة الدين ونشره وانتشاره بقدر ما يتيسّر من ذلك ، وإن مانع الطامعون في الرئاسة والملك ، والحريصون على الإمارة والعلوّ في الأرض ، والحزب القرشي والطلقاء ، عن إقامة الحقّ في جليل من الأبواب ؛ فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه ، والميسور لا يسقط بالمعسور ..

نظير ما قصّه الله تعالى من دور النبيّ يوسف عليه‌السلام في ملك عزيز مصر : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٢) ؛ فإنّ التدبير الحسن منه كان ليوسف وإن كان ينسب لملك مصر ، ولو لا يوسف لتشتّت الأمر على ملك مصر عند ما عصفت السنين بهم.

وفي هذه الحقبة والفترة تجلّى خلوص عليّ عليه‌السلام في تشييد الدين ؛ فأين تجد من غصب حقّه ، وزحزح عن مقامه ، وتقمّص مكانه من ليس بأهل له ، ومع ذلك يقوم بحفظ الدين ونشره ، مع علمه بأنّ هذا الدور أيضا هو الآخر سوف يبتزّه الغاصبون وينسبونه لأنفسهم؟!

وممّا يشير إلى تدبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفتوحات ما ذكره ابن أعثم (٣) في الفتوح ؛ إذ أورد رسالة عمر إلى معاوية ، التي تضمّنت عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين بتفاصيل برامج فتوح البلدان ، حتّى أسماء المدن ، والمهمّ منها في حصول الظفر والنصر.

دوره عليه‌السلام في وقعة الجسر

في وقعة «الجسر» ـ وهي أوّل وقعة للمسلمين مع جيوش كسرى ـ اضطرب تدبير الحرب والمسلمين بشدّة حتّى كاد يفلت الأمر ، فأغاث عليّ عليه‌السلام عمر بالمشورة

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ٢٠ / ٢٩٩ رقم ٤١٤.

(٢). يوسف / ٢١.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ٢٦٢.

المفصّلة ، وأمره بأن لا يصير إلى العدو : «فإنّك إن صرت إلى العراق وكان مع القوم حرب واختلط الناس لم تأمن أن يكون عدوّ من الأعداء يرفع صوته ويقول : قتل أمير المؤمنين! فيضطرب أمر الناس ويفشلوا ... ولكن أقم بالمدينة ووجّه برجل يكفيك أمر العدوّ ، وليكن من المهاجرين والأنصار البدريّين. فقال عمر : ومن تشير عليّ أن أوجّه به يا أبا الحسن؟! فأشار عليه بسعد بن أبي وقّاص. وانتهت الواقعة بنصر المسلمين (١).

ومن ذلك يظهر أنّ التدبير في المفاصل الخطيرة من الفتوح كان منه عليه‌السلام».

وفي هذه الواقعة ذكر ابن أعثم تهديد المسلمين يزدجرد ملك الفرس ببشارة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح فارس (٢).

ومن تدابير عليّ عليه‌السلام البالغة الأهمّية أيضا بثّه الخلّص الأبدال من أصحابه في جيوش الفتوح ، وكان لهم الأثر البالغ في الفتوح ، كحذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر في فتوح فارس ، ومالك الأشتر في فتوح الروم ، ولا سيّما في يوم اليرموك ؛ إذ بارز وزير هرقل هامان فهزمه(٣) ، وهاشم بن عتبة بن أبي وقّاص في فتوح الشام وفارس أيضا ، وكذلك عبادة بن الصامت الأنصاري ، وحجر بن عدي الكندي ، والجميع كانوا أمراء سرايا وفصائل في الكتائب ، وخالد بن سعيد بن العاص وأخوه ، وعدي بن حاتم الطائي ، وعبد الله بن خليفة ، وسلمان الفارسي ، وغيرهم ممّا يجده المتتبّع لتواريخ الفتوح ، ذكرنا جملة منهم لا على سبيل الاستقصاء والحصر ، هذا مع أنّ أقلام التاريخ غالبا سقيفية أو أموية أو عبّاسية ، لا ترصد ولا تحبّ أن تكتب لأصحاب عليّ عليه‌السلام أدوارا خطيرة في الفتوح ، بل وتركّز الضوء على غيرهم لترفع ذكرهم دون تيار عليّ عليه‌السلام.

وذكر ابن أعثم : أنّ أبا عبيدة أرسل كتابا إلى عمر يخبره فيه أنّ أهل «إيليا» بعد ما حوصروا في الشامات اشترطوا الصلح مع الخليفة كي يثقوا بالأمان ، فاستشار عمر وجوه

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ١٣٦ ـ ١٣٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ١٥٧.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ٢٠٨.

المهاجرين والأنصار في الخروج إلى الشام ، فأشار عليه عثمان بعدم الخروج. فقال عمر : هل عند أحد منكم غير هذا الرأي؟!

فقال عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : نعم ، عندي من الرأي : إنّ القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذلّ والصغار ، ونزولهم على حكمك عزّ لك وفتح للمسلمين ... فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح إن شاء الله.

وأخرى فإنّي لست آمن الروم إن هم آيسوا من قبولك الصلح وقدومك عليهم أن يتمسّكوا بحصنهم ويلتئم إليهم إخوانهم من أهل دينهم فتشتدّ شوكتهم ويدخل على المسلمين من ذلك البلاء ، ويطول أمرهم وحربهم ، ويصيبهم الجهد والجوع ، ولعلّ المسلمين إن اقتربوا من الحصن فيرشقونهم بالنشاب أو يقذفونهم بالحجارة ، فإن أصيب بعض المسلمين تمنّيت أن تكون قد افتديت قتل رجل مسلم من المسلمين بكلّ مشرك إلى منقطع التراب. فهذا ما عندي ، والسلام.

فقال عمر : أمّا أنت يا أبا عمرو ـ أي عثمان ـ فقد أحسنت النظر في مكيدة العدو ، وأمّا أنت يا أبا الحسن! فقد أحسنت النظر لأهل الإسلام ، وأنا سائر إلى الشام(١).

وعند فتح المسلمين لمدينة السوس ـ بلدة بخوزستان (٢) جنوب إيران ـ وجدوا جثمان النبيّ دانيال ولم يكونوا يعرفوه ورأوا أهل السوس يتبرّكون ويستسقون به ، وجسده لم يبلى ، فكتب أبو موسى إلى عمر بذلك ، فسأل عمر أكابر الصحابة عن ذلك فلم يجد عندهم فيه خبرا ، وأنّى لهم بالخبر؟! وهل يوجد الخبر إلّا عند من عنده ودائع النبوّة ، وهو السبب المتّصل بين الأرض والسماء ، ومن عنده علم الكتاب؟!

فقال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : «بلى هذا دانيال الحكيم ، وهو نبيّ غير مرسل ، غير أنّه في قديم الزمان مع بختنصر ومن كان بعده من الملوك ... قال : وجعل عليّ يحدّث عمر بقصّة دانيال من أوّلها إلى آخرها إلى وقت وفاته ، ثمّ قال عليّ : اكتب إلى

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٢٤٤.

(٢). هي مدينة «الشوش» حاليا.

صاحبك أن يصلّي عليه ويدفنه في موضع لا يقدر أهل السوس على قبره ، قال : فكتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعري بذلك (١)».

دوره عليه‌السلام في معركة نهاوند

وذكر أهل التواريخ ـ والنصّ لابن أعثم ـ : «إنّ المسلمين لمّا فتحوا خوزستان تحرّكت الفرس بأرض نهاوند ، وكتب بعضهم إلى بعض أن يكون اجتماعهم بها ، فاجتمعوا من مدن شتّى فكانوا خمسون ألفا ومائة ألفا مع نيف وسبعين فيلا تهويلا على خيول المسلمين ، وقالوا : إنّ ملك العرب الذي جاءهم بهذا الكتاب وأقام لهم هذا الدين قد هلك ـ يعنون بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ .. فتعالوا بنا حتّى ننفي من بقربنا من جيوش العرب ، ثمّ إنّا نسير إليهم في ديارهم فنستأصلهم عن جديد الأرض ...

فبلغ الخبر المسلمين فكتبوا بذلك إلى عمر ، وأنّ الفرس قد قصدوهم ثمّ يأتون بعدها إلى المدينة ، وهم جمع عتيد ، وبأس شديد ، ودوابّ فره ، وسلاح شاك ، وقد هالهم ذلك وما أتاهم من أمرهم وخبرهم.

قال ـ الراوي الذي يروي عنه ابن أعثم ـ : فلمّا ورد الكتاب على عمر بن الخطّاب وقرأه وفهم ما فيه وقعت عليه الرعدة والنفضة حتّى سمع المسلمون أطيط أضراسه ، ثمّ قام عن موضعه حتّى دخل المسجد وجعل ينادي : أين المهاجرون والأنصار؟ ألا فاجتمعوا رحمكم الله ، وأعينوني أعانكم الله.

قال : فأقبل إليه الناس من كلّ جانب حتّى إذا علم أنّ الناس قد اجتمعوا وتكاملوا في المسجد وثب إلى منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستوى عليه قائما وإنّه ليرعد من شدّة غضبه على الفرس ، فحمد الله عزوجل وأثنى عليه ، وصلّى على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قال : أيّها الناس! هذا يوم غمّ وحزن ، فاستمعوا ما ورد إليّ من العراق ـ ثمّ قرأ عليهم ما

__________________

(١). كتاب الفتوح ٢ / ٢٧٤.

وصله من الكتاب ـ وقال : وليست لهم ـ أي الفرس ـ همّة إلّا المدائن والكوفة ، ولئن وصلوا إلى ذلك فإنّها بليّة على الإسلام وثلمة لا تسدّ أبدا ، وهذا يوم له ما بعده من الأيام ، فالله الله يا معشر المسلمين! أشيروا عليّ رحمكم الله ...

فقام طلحة والزبير وأشاروا عليه أن يعمل برأيه وما يراه ، وقام عبد الرحمن بن عوف وأشار عليه بأن يخرج بنفسه ويخرجوا معه ، وقام عثمان بن عفّان وأشار عليه بما أشار ابن عوف ، وأن يأتيه أهل الشام من شامهم ، وأهل اليمن من يمنهم ، وأهل الحرمين ، وأهل المصرين : البصرة والكوفة ، فقال عمر : هذا أيضا رأي يأخذ بالقلب ، أريد غير هذا الرأي. قال : فسكت الناس ، والتفت عمر إلى عليّ عليه‌السلام فقال : يا أبا الحسن! لم لا تشير بشيء كما أشار غيرك؟!

قال : فقال عليّ : يا أمير المؤمنين! إنّك قد علمت أنّ الله تبارك وتعالى بعث نبيّه محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس معه ثان ، ولا له في الأرض من ناصر ، ولا له من عدوه مانع ، ثمّ لطف تبارك وتعالى بحوله وقوّته وطوله فجعل له أعوانا أعزّ بهم دينه ، وشدّ بهم أمره ، وقصم بهم كلّ جبّار عنيد ، وشيطان مريد ، وأرى مؤازريه وناصريه من الفتوح والظهور على الأعداء ما دام به سرورهم ، وقرّت به أعينهم ، وقد تكفّل الله تبارك وتعالى لأهل هذا الدين بالنصر والظفر والإعزاز ، والذي نصرهم مع نبيّهم وهم قليلون هو الذي ينصرهم اليوم إذ هم كثيرون ، وبعد .. فأبشر بنصر الله عزوجل الذي وعدك ، وكن على ثقة من ربّك ؛ فإنّه لا يخلف الميعاد ، وبعد .. فقد رأيت قوما أشاروا عليك بمشورة بعد مشورة فلم تقبل ذلك منهم ، ولم يأخذ بقلبك شيء ممّا أشاروا به عليك ، لأنّ كلّ مشير إنّما يشير بما يدركه عقله.

وأعلمك يا أمير المؤمنين إن كتبت إلى الشام أن يقبلوا إليك من شامهم لم تأمن من أن يأتي هرقل في جميع النصرانية فيغير على بلادهم ، ويهدم مساجدهم ، ويقتل رجالهم ، ويأخذ أموالهم ، ويسبي نساءهم وذرّيّتهم. وإن كتبت إلى أهل اليمن أن يقبلوا من يمنهم أغارت الحبشة أيضا على ديارهم ونسائهم وأموالهم وأولادهم ..

وإن سرت بنفسك مع أهل مكّة والمدينة إلى أهل البصرة والكوفة ثمّ قصدت بهم عدوّك انتقضت عليك الأرض من أقطارها وأطرافها ، حتّى أنّك تريد بأن يكون من خلّفته وراءك أهمّ إليك ممّا تريد أن تقصده ولا يكون للمسلمين كانفة تكنفهم ، ولا كهف يلجئون إليه ، وليس بعدك مرجع ولا موئل ؛ إذ كنت أنت الغاية والمفزع والملجأ ، فأقم بالمدينة ولا تبرحها ؛ فإنّه أهيب لك في عدوّك وأرعب لقلوبهم ، فإنّك متى غزوت الأعاجم يقول بعضهم لبعض : إن ملك العرب قد غزانا بنفسه لقلّة أتباعه وأنصاره. فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وعلى المسلمين ، فأقم بمكانك الذي أنت فيه وابعث من يكفيك هذا الأمر ، والسلام.

قال : فقال عمر : يا أبا الحسن! فما الحيلة في ذلك وقد اجتمعت الأعاجم عن بكرة أبيها بنهاوند في خمسين ومائة ألف ، يريدون استئصال المسلمين؟!

قال : فقال له عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام : الحيلة أن تبعث إليهم رجلا مجرّبا ، قد عرفته بالبأس والشدّة ؛ فإنّك أبصر بجندك وأعرف برجالك ، واستعن بالله وتوكّل عليه واستنصره للمسلمين ، فإن استنصاره لهم خير من فئة عظيمة تمدّهم بها ، فإن أظفر الله المسلمين فذلك الذي تحبّ وتريد ، وإن يكن الأخرى وأعوذ بالله من ذلك أن تكون ردءا للمسلمين ، وكهفا لهم يلجئون إليه ، وفئة ينحازون إليها.

قال : فقال له عمر : نعم ما قلت يا أبا الحسن! ولكنّي أحببت أن يكون أهل البصرة وأهل الكوفة هم الّذين يتولّون هؤلاء الأعاجم ؛ فإنّهم ذاقوا حربهم وجرّبوهم ومارسوهم في غير موطن.

قال : فقال له عليّ عليه‌السلام : إن أحببت ذلك فاكتب إلى أهل البصرة أن يفترقوا على ثلاث فرق : فرقة تقيم في ديارهم يكونوا حرسا لهم يدفعون عن حريمهم ، والفرقة الثانية في المساجد يعمرونها بالأذان والصلاة ؛ لكي لا تعطّل الصلاة ، ويأخذون الجزية من أهل العهد؛ لكي لا ينتقضوا عليك ، والفرقة الثالثة يسيرون إلى إخوانهم من أهل الكوفة ، ويصنع أهل الكوفة كصنع أهل البصرة ، ثمّ يجتمعون ويسيرون إلى عدوّهم فإنّ الله عزّ

وجلّ ناصرهم عليهم ومظفرهم بهم ، فثق بالله ولا تيأس من روح الله ، (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (١).

قال : فلمّا سمع عمر مقالة عليّ كرّم الله وجهه ومشورته أقبل على الناس وقال : ويحكم! أعجزتم كلّكم عن آخركم أن تقولوا كما قال أبو الحسن ، والله! لقد كان رأيه رأيي الذي رأيته في نفسي!!! ثمّ أقبل عليه عمر فقال : يا أبا الحسن! فأشر عليّ الآن برجل ترتضيه ويرتضيه المسلمون أجعله أمير وأستكفيه من هؤلاء الفرس. فقال عليّ عليه‌السلام : قد أصبته. قال عمر : ومن هو؟ قال : النعمان بن مقرن المزني. فقال عمر وجميع المسلمين : أصبت يا أبا الحسن! وما لها من سواه» (٢).

ومعركة نهاوند تعدّ المعركة المصيرية في مواجهة المسلمين مع دولة كسرى ؛ ففي فتوح البلدان للبلاذري : «إنّ ذلك الفتح هو فتح الفتوح» (٣). وفي المصادر التاريخية الأخرى : إنّ بعد نهاوند لم تقم لدولة الفرس قائمة بعدها ، وتتالت الفتوح للمدن الأخرى بكلّ سهولة.

فالباحث يرى مدى خطورة هذه المواجهة على كلّ من دولة كسرى ودولة المسلمين ؛ إذ لو قدّر النصر في هذه المعركة للأكاسرة لربّما قضوا على المسلمين حتّى ألجئوهم إلى المدينة ، كما ذكر ذلك كتاب أهل الكوفة إلى عمر.

وكذلك يرى الباحث مدى خوف وذعر واضطراب الخليفة عمر في تدبير الأمر ، حتّى أنّ أسنانه أخذت تصطكّ فسمع المسلمون أطيط أضراسه وأخذته الرعدة والنفضة!! فبالله عليك هل يصلح لقيادة المسلمين رجل بهذه الأوصاف ، معروف بالفرار إذا اشتدّ البأس في الحروب ، تختلط عليه الأمور إذا حمى الوطيس؟!

وهذه اللقطة التاريخية العظيمة كافية لوقوف الباحث على كون عليّ عليه‌السلام قطب

__________________

(١). يوسف / ٨٧.

(٢). كتاب الفتوح ٢ / ٢٩٥.

(٣). فتوح البلدان ٢ / ٣٧٤.

الرحى في تدبير أمور المسلمين والفتوح التي تتالت عليهم ، وتالله لو لا رأيه الثاقب في الأمور، المسدّد بالعصمة ، لانتقض نظام المسلمين ولأكلتهم الدول المحيطة بهم. ونظير هذه الحادثة حوادث أخرى ، استعرضنا في ما سبق بعضها.

وقفة مع أصحاب كتب التاريخ

إنّ الباحث في تاريخ المسلمين يلاحظ مدى التعتيم والتضليل لحقائق الأحداث الذي مارسه كثير من مؤرّخيهم ، مثل ابن جرير الطبري (ت ٣١٠ ه‍) في تاريخه ، والبلاذري (ت ٢٧٩ ه‍) في فتوح البلدان ، وابن الأثير (ت ٦٣٠ ه‍) في الكامل في التاريخ ، وأمثالهم ، عند ما يقارن ما أرّخوه بأقلامهم بما كتبه ابن أعثم الكوفي (ت ٣١٤ ه‍) في الفتوح ، وإن كانت هناك قصاصات كثيرة متناثرة تسرّبت في ما كتبوه رغم ما مارسوه من حذف وتعتيم ..

ففي وقعة نهاوند ـ مثلا ـ ترى الطبري يحذف مقدّمة أحداث المعركة بجملتها ، واقتصر على خصوص إجمال المعركة من دون تفصيل هولها وشدّة العناء الذي لاقاه المسلمون ، حتّى كادوا أن ينهزموا في كلّ وقعات المعركة حتّى جاء الظفر ، وما عرض على الخليفة عمر من أحوال وغير ذلك ممّا مرّ ، كما لم يذكر اسم من أشار عليه بالمكث ، كما هي عادته في موارد عديدة يتابعها الباحث ، ومشورة عليّ عليه‌السلام على أبي بكر وعمر ؛ فإنّه لا يأتي بالاسم ولا ينوّه بالقائل ، بل قد لا يتعرّض لحصول المشورة ويسند الرأي إلى أبي بكر وعمر ، كما أنّه لم يذكر ما جرى من مقالات بين أبي بكر ورؤساء القبائل المتمرّدة على استخلافه ، كلّ ذلك لتغطية الحقائق وحقيقة الأمور في الأحداث.

وأمّا البلاذري فقد ذكر مسلسل الأحداث في ما يخص معركة نهاوند موجزا (١) ، ناسبا ذلك كلّه إلى عمر دون أن يفصح بالمشير على عمر ولا حال اضطراب عمر ، مع أنّه

__________________

(١). فتوح البلدان ٢ / ٣٧١.

يصرّح بوجود الروايات المفصّلة للأحداث (١) ، ولكنّه لم يأت بمتنها بل بشيء من ألفاظ صدرها وذيلها باقتضاب شديد ، مع أنّه روى أنّ الفتح فيها هو : فتح الفتوح ، ورغم ذلك فهو يوجز الحديث عنها ويعرض عن ذكر ما ورد من روايات بشأنها ..

ولكن من بعض قصاصات فتوح البلدان للبلاذري ، وأخرى من كتاب أخبار أصبهان(٢) للحافظ الأصبهاني (ت ٤٣٠ ه‍) ، وثالثة من كتاب الكامل (٣) لابن الأثير ، وغيرها من المصادر ، ومن مجموع كلّ تلك القصاصات يقف الباحث على صدق الحقيقة عند ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح ، وأنّ كلّ ما ذكره له جذور في ما كتبوه ، واعترفوا ببعض خيوط الحدث.

فعلى الأمّة الإسلامية السلام إن كان باحثوها ينساقون وراء ظاهر ما كتبه هؤلاء المؤرّخون ممّن كانت له نزعات أموية أو عبّاسية أو سقيفية ؛ إذ لا تجري على لسانه ولا على قلمه أي حقيقة تاريخية تتّصل بعليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، ولا يقرّ بحقيقة ما كان عليه الشيخان من تشتّت الأمر في التدبير ، إلّا ما تداركه عليّ عليه‌السلام بالمشورة عليهما ، واشتداد الفتن بسبب استخلاف أبي بكر ، ونشوب الظواهر المنتكسة عن هدي الدين الحنيف ، التي زرعت في المسلمين ثمّ تورّمت وانفجرت في عهد عثمان ، فجاء عليّ عليه‌السلام إلى سدّة الحكم والقيح والقروح منتشرة في جسم الأمّة.

الملاحم التي أنبأ عليه‌السلام بها ودورها في الفتوح

وذكر ابن أعثم في الفتوح : إنّ أبا موسى أراد التقدّم إلى بلاد خراسان بعد فتح المسلمين بلدان فارس وكرمان ، فنهاه عمر عن ذلك وقال : ما لنا ولخراسان وما لخراسان ولنا ، ولوددت أنّ بيننا وبين خراسان جبالا من حديد وبحارا وألف سدّ ، كلّ سدّ مثل

__________________

(١). فتوح البلدان ٢ / ٣٧٣.

(٢). أخبار أصبهان ١ / ١٩ ـ ٢٠.

(٣). الكامل في التاريخ ـ لابن الأثير ـ ٣ / ٨.

سدّ يأجوج ومأجوج.

قال : فقال له عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه : ولم ذلك يا أمير المؤمنين؟! فقال عمر : لأنّها أرض بعدت عنّا جدّا ، ولا حاجة لنا بها (١). قال : فقال عليّ كرّم الله وجهه : فإن كنت قد بعدك عنك خراسان فإنّ لله عزوجل مدينة بخراسان يقال لها : مرو ، أسّسها ذو القرنين ، وصلّى بها عزير ... ثمّ ذكر عليه‌السلام أسماء عدّة مدن ، والملاحم التي تقع في كلّ مدينة منها ، فذكر مدن : خوارزم ، بخارا ، سمرقند ، الشاش ، فرغانة ، أبيجاب ، بلخ ، طالقان ـ وذكر أنّ لله عزوجل فيها كنوز لا من ذهب ولا من فضّة ، يكونون أنصارا للمهدي عليه‌السلام في آخر الزمان ـ الترمذ ، واشجردة ، سرخس ، سجستان ، ياسوج ، نيسابور ، جرجان ، قومس ، الدامغان ، سمنان ، الري ، والديلم. ثمّ سكت عليه‌السلام ولم ينطق بشيء.

فقال عمر : يا أبا الحسن! لقد رغّبتني في فتح خراسان. قال عليّ عليه‌السلام : قد ذكرت لك ما علمت منها ممّا لا شكّ فيه ، فاله عنها وعليك بغيرها ؛ فإنّ أوّل فتحها لبني أمية وآخر أمرها لبني هاشم ، وما لم أذكر منها لك هو أكثر ممّا ذكرته ، والسلام (٢). ولم يقدم عمر على فتحها.

وهذا النصّ التاريخي وأمثاله ممّا تقدّم وممّا هو منتشر في كتب السير والتواريخ دالّ بوضوح على أنّ مخطّط الفتوح في تفاصيله المهمّة المحورية عهد معهود من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّ عليه‌السلام ، فضلا عن الخطوط العامّة الكلّية التي أخبر عامّة أصحابه والمسلمين بها.

وقد وقعت وصدقت جملة ممّا أخبر به عليه‌السلام من الملاحم بعده ، بل وبعض منها بعد عصر مؤلّف كتاب الفتوح ، أي ما بعد القرن الرابع ، وبعضها يقارب ظهور المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام. وقد رصدت كثير من الكتب الملاحم التي أخبر بها عليّ عليه‌السلام ، ككتاب شرح

__________________

(١). لاحظ : تاريخ الطبري ٤ / ٢٦٤ ، الكامل في التاريخ ٢ / ١٩٩ ، البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٧ / ١٤٣.

(٢). كتاب الفتوح ٢ / ٣١٩ ـ ٣٢١.

نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي ، والفتوح لابن أعثم الكوفي ، وغيرها من الكتب.

دوره عليه‌السلام في النظام الاقتصادي للفتوح

وقد شاور عمر أصحاب رسول الله في سواد الكوفة فقال له بعضهم : تقسمها بيننا.

فشاور عليّا فقال : إنّ قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعدنا شيء ، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها فتكون لنا ولمن بعدنا. فقال : وفّقك الله! هذا الرأي (١).

وأنت ترى هذه السنّة من عليّ عليه‌السلام ، لولاها لضاع نظام التوزيع والتقسيم في الفيء والأراضي.

أخلاقيات الفتوحات وانتشار الدين

ومع كلّ ما تقدّم من كون الفتوح الإسلامية عهد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيّه حملها المسلمون ، وأنّ تفاصيلها الخطيرة المؤثّرة في الظفر والنصر كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أودعها عليّا عليه‌السلام بتوسّط العلوم اللدنية التي ورّثها إيّاه : «علّمني رسول الله ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب» ..

ومع كون أصل الفتوح انتشارا لصورة الدين في أرجاء المعمورة إلى الحدود الجغرافية التي انتهت إليها الفتوح ، إلّا أنّ الممارسات التي اعتمدتها خلافة الشيخين ـ فضلا عن العيث والعبث والخضم الذي مارسه الثالث ، وفضلا عمّا فعله بني أمية وبني العبّاس ـ في كيفية فتوح البلدان ، وما تلاها من كيفية إقامة نظام الحكم فيها ، حالت دون مواصلة انتشار الإسلام إلى غيرها من البلدان ، وإلى باقي أرجاء المعمورة.

وكان هذان البعدان وهاتان السياستان حائلا أمام وصول الإسلام لشعوب الأرض كافّة وتحقّق الوعد الإلهي : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ، وسدّا كثيفا مانعا من نفوذ شعاع

__________________

(١). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢.

نوره إلى نفوس البشرية ، فكانت الكيفيّتان سدودا اقترنت بالفتوحات. فهنا محطّات لا بدّ من الوقوف عندها ؛ كي يستوفى الإمعان والتدبّر في تحليل هذه الحقبة وما عليه المسلمون حاليا من أوضاع.

المحطّة الأولى

أسباب وعوامل الظفر في الفتوحات

فإنّ جمهرة من محقّقي الأديان والتاريخ قد عزوها إلى أمور :

الأوّل : انجذاب أهل البلدان إلى مبادئ الدين الإسلامي العالية

فالعدل والقسط الذي نادى به القرآن الكريم والنبيّ العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمساواة بين البشر ، وكرامة الإنسان ، والكمالات الروحية والنفسية من المعرفة والعلم ، التي يسعى الدين لإيصال الإنسان إليها ، وتأمين الحياة الأخروية الخالدة ؛ ممّا يستحسنه الإنسان ويميل إليه بفطرته.

لا سيّما وأنّ أهداف الجهاد قد حدّدها الخالق جلّ وعلا ، بقوله تعالى : (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً* الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (١).

فأهداف الجهاد والقتال من أجلها هي رسالات الله تعالى وما تسعى لتحقيقه ، من إقامة العدل في الأرض ، ورفع الظلم عن الناس ، واستتباب الأمن بإقامة حكم الله تعالى ، لا القتال من أجل السيطرة الاستعلائية لتلبية الغرائز الشهوية للحاكم من العلوّ

__________________

(١). النساء / ٧٥ ـ ٧٦.

والاستكبار ، أو الإفساد بالقوة الفاشية من الحكّام بتوسّط القتال.

فالغاية من الجهاد هي إقامة حكم الله في الأرض ، والحقّ والعدل ، وهدم الباطل والظلم ، لا أن يستبدل باطل بلون آخر من الباطل ، والظلم بنمط آخر من الظلم ؛ بأن يخرج المستضعفين في العقيدة أو المستضعفين في الحقوق المدنية والسياسية من كفر إلى قسم آخر من الكفر ، أو من الاضطهاد الحقوقي المدني والسياسي إلى اضطهاد من شكل آخر ؛ إذ للكفر أبواب وأقسام ، كما أنّ للظلم أنواع وألوان ، بل يتحرّر الضعيف في المعرفة إلى قوي في الإيمان والبصيرة ، والضعيف في المعيشة إلى قوي في أسباب المعاش ..

فالخطاب للمؤمنين بأن يقوموا بمسئولية النصرة والتولّي للضعفاء ؛ لتحلّيهم بالقوّة والإيمان والعدالة ، فالقتال والجهاد ليس هويته في الدين هو العنف والبطش الغاشم ، بل هو العنف الهادم للظلم والاستبداد ؛ محبّة ورحمة بالضعفاء ، لا ما يعود إلى الوازع الشخصي للمقاتل ، والنوازع الشهوية والغضبية والطغيان لبناء طواغيت بشرية جديدة ، أو لإقامة شريعة محرّفة وسنن باطلة وأهواء ضالّة ، بل الخلوص من كلّ الدواعي الضيّقة إلى الداعي الوسيع ، وهو سبيل الله ، الذي يعمّ خيره الجميع ؛ فلا بدّ في حال القتال والجهاد في سبيل الله من تحديد : ما هو المطلوب إقامته بعد هدم أركان الباطل؟!

ففي صحيحة يونس بن عبد الرحمن ، قال : «سأل أبا الحسن عليه‌السلام رجل ـ وأنا حاضر ـ فقال له : جعلت فداك! إنّ رجلا من مواليك بلغه أنّ رجلا يعطي سيفا وفرسا في سبيل الله ، فأتاه فأخذهما منه [وهو جاهل بوجه السبيل] ، ثمّ لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع هؤلاء ـ أي بني العبّاس ـ لا يجوز ، وأمروه بردّهما؟!

قال : فليفعل. قال : قد طلب الرجل فلم يجده ، وقيل له : قد قضى [مضى] الرجل.

قال : فليرابط ولا يقاتل. قلت : في مثل قزوين وعسقلان والديلم ، وما أشبه هذه الثغور؟! فقال : نعم. قال : فإن جاء العدوّ إلى الموضع الذي هو فيه مرابط ، كيف يصنع؟ قال : يقاتل عن بيضة الإسلام [لا عن هؤلاء]. قال : يجاهد؟ قال : لا ، إلّا أن يخاف على دار المسلمين. قلت : أرأيتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ [يسع] لهم أن

يمنعوهم؟ قال : يرابط ولا يقاتل ، فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل لنفسه لا للسلطان ؛ لأنّ في دروس الإسلام دروس ذكر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» (١).

وفي رواية طلحة بن زيد ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «سألته عن رجل دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الّذين دخل عليهم قوم آخرون؟ قال : على المسلم أن يمنع نفسه ويقاتل عن حكم الله وحكم رسوله ، وأمّا أن يقاتل الكفّار على الجور وسنّتهم فلا يحلّ له ذلك» (٢).

وفي رواية الحسن بن محبوب ، عن بعض أصحابه ، قال : «كتب أبو جعفر عليه‌السلام في رسالته إلى بعض خلفاء بني أميّة : ومن ذلك : ما ضيّع الجهاد الذي فضّله الله عزوجل على الأعمال ... اشترط عليهم فيه حفظ الحدود ، وأوّل ذلك : الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد ، وإلى عبادة الله من عبادة العباد ، وإلى ولاية الله من ولاية العباد ... وليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة عبد مثله» الحديث (٣).

وفي رواية الفضل بن شاذان عن الرضا عليه‌السلام في كتابه إلى المأمون ، قال : «والجهاد واجب مع الإمام العادل [العدل]» (٤).

وفي صحيح علي بن مهزيار ، قال : «كتب رجل من بني هاشم إلى أبي جعفر الثانيعليه‌السلام : إنّي كنت نذرت نذرا منذ سنين أن أخرج إلى ساحل من سواحل البحر إلى ناحيتنا ممّا يرابط فيه المتطوّعة ، نحو مرابطتهم بجدّة وغيرها من سواحل البحر ؛ أفترى جعلت فداك! أنّه يلزمني الوفاء به أو لا يلزمني ، أو أفتدي الخروج إلى ذلك بشيء من أبواب البرّ لأصير إليه إن شاء الله؟

__________________

(١). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٦ ح ٢ ، التهذيب ٦ / ١٢٥ ح ٢١٩.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٦ ح ٣.

(٣). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٨.

(٤). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١ ح ٢٤.

فكتب إليه بخطّه وقرأته : إن كان سمع منك نذرك أحد من المخالفين فالوفاء به إن كنت تخاف شنعته ، وإلّا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البرّ ، وفّقنا الله وإيّاك لما يحبّ ويرضى» (١).

وفي رواية أبي عمرو الزبيري ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «قلت له : أخبرني عن الدعاء إلى الله والجهاد في سبيله ، أهو لقوم لا يحلّ إلّا لهم ، ولا يقوم به إلّا من كان منهم ، أم هو مباح لكلّ من وحّد الله عزوجل وآمن برسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ومن كان كذا فله أن يدعو إلى الله عزوجل وإلى طاعته ، وأن يجاهد في سبيل الله؟

فقال : ذلك لقوم لا يحلّ إلّا لهم ، ولا يقوم به إلّا من كان منهم. فقلت : من أولئك؟ فقال : من قام بشرائط الله عزوجل في القتال والجهاد على المجاهدين فهو المأذون له في الدعاء إلى الله عزوجل ، ومن لم يكن قائما بشرائط الله عزوجل في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد والدعاء إلى الله حتّى يحكم في نفسه بما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد.

قلت : بيّن لي يرحمك الله. فقال : إنّ الله عزوجل أخبر في كتابه الدعاء إليه ، ووصف الدعاة إليه ، فجعل ذلك لهم درجات يعرّف بعضها بعضا ، ويستدلّ ببعضها على بعض ؛ فأخبر أنّه تبارك وتعالى أوّل من دعا إلى نفسه ودعا إلى طاعته واتّباع أمره ، فبدأ بنفسه ؛ فقال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

ثمّ ثنّى برسوله ؛ فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٣) ـ يعني : القرآن ـ ولم يكن داعيا إلى الله عزوجل من خالف أمر الله ويدعو إليه بغير ما أمر في كتابه الذي أمر أن لا يدعى إلّا به ، وقال في نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي

__________________

(١). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٧ ح ١.

(٢). يونس / ٢٥.

(٣). النحل / ١٢٥.

إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ـ يقول : تدعو ـ

ثمّ ثلّث بالدعاء إليه بكتابه أيضا ؛ فقال تبارك وتعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) ـ أي : يدعو ـ (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

ثمّ ذكر من أذن له في الدعاء إليه بعده وبعد رسوله في كتابه ، فقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(٣).

ثمّ أخبر عن هذه الأمّة وممّن هي ، وأنّها من ذرّيّة إبراهيم عليه‌السلام وذرّيّة إسماعيلعليه‌السلام من سكّان الحرم ، ممّن لم يعبدوا غير الله قطّ ، الّذين وجبت لهم الدعوة ـ دعوة إبراهيم وإسماعيل ـ من أهل المسجد ، الّذين أخبر عنهم في كتابه أنّه أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، الّذين وصفناهم قبل هذه في صفة أمّة إبراهيم ، الّذين عناهم الله تبارك وتعالى في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (٤).

يعني : أوّل من اتّبعه على الإيمان به والتصديق له بما جاء من عند الله عزوجل من الأمّة التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ، ممّن لم يشرك بالله قط ولم يلبس إيمانه بظلم ، وهو الشرك.

ثمّ ذكر أتباع نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتباع هذه الأمّة التي وصفها في كتابه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وجعلها داعية إليه ، وأذن له في الدعاء إليه ، فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥).

ثمّ وصف أتباع نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين ؛ فقال عزوجل : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) (٦). الآية. وقال : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ

__________________

(١). الشورى / ٥٢.

(٢). الإسراء / ٩.

(٣). آل عمران / ١٠٤.

(٤). يوسف / ١٠٨.

(٥). الأنفال / ٦٤.

(٦). الفتح / ٢٩.

النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) (١) ـ يعني : أولئك المؤمنين ـ وقال: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) ، ثمّ حلّاهم ووصفهم كيلا يطمع في اللحاق بهم إلّا من كان منهم ؛ فقال ـ في ما حلّاهم به ووصفهم ـ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ* ... أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ* الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٢).

وقال في صفتهم وحليتهم أيضا : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) (٣) ـ وذكر الآيتين ـ ، ثمّ أخبر أنّه اشترى من هؤلاء المؤمنين ومن كان على مثل صفتهم (أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ؛ قام رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أرأيتك يا نبيّ الله! الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتّى يقتل إلّا أنّه يقترف من هذه المحارم ، أشهيد هو؟

فأنزل الله عزوجل على رسوله : (التَّائِبُونَ) ـ من الذنوب ـ (الْعابِدُونَ) ـ الّذين لا يعبدون إلّا الله ولا يشركون به شيئا ـ (الْحامِدُونَ) ـ الّذين يحمدون الله على كلّ حال في الشدّة والرخاء ـ (السَّائِحُونَ) ـ وهم الصائمون ـ (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) ـ وهم الّذين يواظبون على الصلوات الخمس والحافظون لها والمحافظون عليها في ركوعها وسجودها وفي الخشوع فيها وفي أوقاتها ـ (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) ـ بعد ذلك والعاملون به ـ (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ـ والمنتهون عنه ـ (٤).

قال : فبشّر من قتل وهو قائم بهذه الشروط بالشهادة والجنّة. ثمّ أخبر تبارك وتعالى أنّه لم يأمر بالقتال إلّا أصحاب هذه الشروط ؛ فقال عزوجل : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ ...) (٥) ، وإنّما أذن للمؤمنين الّذين قاموا بشرائط الإيمان التي وصفناها ، وذلك أنّه لا يكون مأذونا في القتال حتّى يكون مظلوما ، ولا يكون مظلوما حتّى يكون مؤمنا ، ولا يكون مؤمنا حتّى يكون قائما بشرائط الإيمان

__________________

(١). التحريم / ٨.

(٢). المؤمنون / ١ ـ ١١.

(٣). الفرقان / ٦٨.

(٤). التوبة / ١١٢.

(٥). الحجّ / ٣٩.

التي اشترط الله عزوجل على المؤمنين والمجاهدين.

فإذا تكاملت شرائط الله عزوجل كان مؤمنا ، وإذا كان مؤمنا كان مظلوما ، وإذا كان مظلوما كان مأذونا له في الجهاد ؛ لقول الله عزوجل : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ). وإن لم يكن مستكملا لشرائط الإيمان فهو ظالم ممّن ينبغي ويجب جهاده حتّى يتوب ، وليس مثله مأذونا له في الجهاد والدعاء إلى الله عزوجل ؛ لأنّه ليس من المؤمنين المظلومين الّذين أذن لهم في القرآن في القتال ... ومن كان على خلاف ذلك فهو ظالم ...

ولا يكون مجاهدا من قد أمر المؤمنون بجهاده وحظر الجهاد عليه ومنعه منه ، ولا يكون داعيا إلى الله عزوجل من أمر بدعائه مثله إلى التوبة والحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به ، ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه ...

ولسنا نقول لمن أراد الجهاد وهو على خلاف ما وصفنا من شرائط الله عزوجل على المؤمنين والمجاهدين : لا تجاهدوا. ولكن نقول : قد علّمناكم ما شرط الله عزوجل على أهل الجهاد ... فليصلح امرؤ ما علم من نفسه من تقصير عن ذلك ، وليعرضها على شرائط اللهعزوجل ...» (١).

وفي صحيح عبد الكريم بن عتبة الهاشمي ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام : «... أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلّف» (٢).

وفي موثّق سماعة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «لقى عبّاد البصري عليّ بن الحسين عليه‌السلام في طريق مكّة فقال له : يا عليّ بن الحسين! تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت

__________________

(١). انظر : وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٩ ح ١.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٩ ح ٢.

على الحجّ ولينه ، إنّ الله عزوجل يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (١). الآية. فقال عليّ بن الحسين صلوات الله عليه : أتمّ الآية. فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...). الآية. فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ» (٢).

وفي رواية أخرى : إنّ السائل قرأ الآية إلى : (وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ). قال : فقال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : «إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئا» (٣).

وفي رواية أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفّذ في الفيء أمر الله عزوجل ، فإنّه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا ، والإشاطة بدمائنا ، وميتته ميتة جاهلية» (٤).

وروى الطوسي والمفيد بسند إلى عليّ عليه‌السلام ، أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له : «يا عليّ! إنّ الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم جهاد المشركين معي. فقلت : يا رسول الله! وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟

قال : فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله وهم مخالفون لسنّتي ، وطاعنون في ديني. فقلت : فعلام نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله؟ فقال : على إحداثهم في دينهم ، وفراقهم لأمري ، واستحلالهم دماء عترتي». الحديث (٥).

وفي رواية الهيثم الرمّاني عن الرضا عليه‌السلام : إنّ عليّا عليه‌السلام ترك جهاد أعدائه خمسا

__________________

(١). التوبة / ١١١.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١٢ ح ٣.

(٣). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ١٢ ح ٦.

(٤). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٦ ح ٨.

(٥). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٢٦ ح ٧.

وعشرين سنة لقلّة أعوانه عليهم ، مقتديا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ إذ ترك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهاد المشركين ثلاث عشرة سنة في مكّة ، وتسعة عشر شهرا في المدينة لقلّة أعوانه عليهم (١).

ومن كلّ ذلك يتبيّن أنّ تحديد القيادة التي تقود وتحكم أمر مصيري في البديل الذي يراد بناؤه ، وبالتالي الأهداف المراد إقامتها ، فليس الجهاد من أجل جمع الثروات والأموال وتوسيع السلطة ، بل هو لإقامة العدل والفضيلة والإيمان ، وهذا يتوقّف على القائد والوليّ المتّصف بذلك كي تتحقّق هذه الأهداف.

ومن ثمّ أطلق على النظام البديل الذي حلّ في البلدان المفتوحة : دار الإسلام ، لا دار الإيمان ، في روايات وفقه أهل البيت عليهم‌السلام ، وقد مرّت بعض تلك الروايات ، وبعضها يتضمّن تسميتها ب : دار الفاسقين ؛ إذ أنّ الإسلام يجتمع مع الفسق ، والتسمية تتبع نظام الحكم وصفة الحاكم. ويطلق عليها أيضا : دار التقية ، كما في رواية الفضل عن الرضا عليه‌السلام (٢) ، ودار الهدنة ، كما في صحيح محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «إنّ القائم ـ عجّل الله تعالى فرجه الشريف ـ إذا قام يبطل ما كان في الهدنة ممّا كان في أيدي الناس ، ويستقبل بهم العدل» (٣).

والوجه في ذلك كلّه أنّ دين الإسلام ليس شعارا أجوف خال ولقلقة لسان ، بل هو نظام متكامل مجموعي موحّد.

الثاني ـ من أسباب الظفر ـ

انجذاب البلدان المجاورة إلى سيرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المباركة

__________________

(١). انظر : وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٣٠ ح ١.

(٢). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٢٦ ح ٩.

(٣). وسائل الشيعة ـ أبواب جهاد العدوّ ب ٢٥ ح ٢.

فإنّه تسامع بها الأطراف والنواحي المختلفة من البلدان ، وطار صيتها كنموذج للحاكم المثالي هديا وزهدا وخلقا ، وأخذت القلوب تخفق لمثل هذا الحلم الذي لم تعهده البشرية من قبل ، وفي هذا المجال هناك ملف كبير جدّا من الموارد التي يقف عليها المتتبّع.

الثالث : معاناة الشعوب

مكابدة الشعوب البشرية في البلاد عبر التاريخ لأنواع الظلم والاستعباد ، وتطلّعها إلى النجاة والتحرّر من تسلّط الملوك الغاشمين ، ولتبديل نظامهم الاجتماعي والسياسي المبني على فرض الكثير من القيود والأغلال. وقد أعانوا جيوش المسلمين في اكتشاف مواقع الضعف والاختراق في جيوش كسرى وقيصر ، وهناك مسلسل للشواهد على ذلك في كتب الفتوح للبلدان.

الرابع : بشائر القرآن والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالفتوحات

هذه البشائر كانت عهد عهد به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كوظيفة ومسئولية على المسلمين ، ممّا كان يبعث الأمل عند المسلمين ، ويرفع من هممهم.

الخامس : تدبير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام

وذلك بعهده تفاصيل خطط الفتوح في المواضع الشريانية إلى عليّ عليه‌السلام ، مضافا إلى تدبير عليّ عليه‌السلام بما يشير به على الثلاثة كلّما اضطرب عليهم الأمر وتشتّت لديهم الأمور واستعصت ، كما مرّ استعراض مقتطفات من ذلك.

السادس : قوّة البناء الاجتماعي الديني

الذي بناه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنقاض المجتمع الجاهلي ، والذي حمل الكثير من عناصر

الإعجاز الحضاري ، مثل : روح التضحية والفداء والشهادة ، والتشكيلة الجديدة للعلائق الاجتماعية ـ وإن كان هذا البناء هو في طوره الأوّل في النمو ، وقد اعتوره آثار وبقايا الجاهلية السابقة ، المتمثّلة بتدبير السقيفة وتغيير رأس نظام المسلمين ـ لا سيّما وأنّ المسلمين شاهدوا أيّام الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحقّق الوعد الإلهي بنصر الروم ، بل العرب ، على الفرس وكسرى ؛ فقد كانت قبائل العرب ـ وفيها الكثير ممّن أسلم ـ ترفع شعار : «يا محمّد يا محمّد» في معركة ذي قار فهزموا عدوهم ، وقال عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل معركة انتصف فيها العرب من العجم ، وبي نصروا» (١).

مضافا إلى ناموس العدالة والمساواة والسوية بين آحاد المسلمين ، الذي أصبح أصلا اجتماعيا عظيما يهدّد كلّ أمير أو خليفة يحاول أن يعتمد الإقطاع القبلي الجاهلي أساسا في سياسته وحكمه للمسلمين ، وإلى درجة يهابها ويحسب لها ألف حساب.

وهذه الظاهرة هي التي حاكمت الخليفة الثالث وقضت عليه ، وهي التي خنقت وحاصرت حزب السقيفة والحزب القرشي عن التلاعب في كلّ مقدرات المسلمين إلى حدّ ما نسبيا ، لكن هذه الظاهرة النيرة سرعان ما تضاءلت عند وصول الأمويّين إلى سدة الحكم ، وذلك لأنّ النور لا بدّ له من مدد ، وقد ضيّع المسلمون المدد ، وهو رأس السلطة الهادي إلى الحقّ ، الإمام المعصوم.

المحطّة الثانية

الممارسات المرتكبة في البلدان المفتوحة

نتعرّض ـ في هذه المحطّة ـ إلى مقتطفات من ملف هذه الممارسات ، وما ارتكب منها في أثناء الفتح وما بعده ، والتي عادت بانتكاس الخطّ البياني لانتشار الإسلام. فنذكر

__________________

(١). الأغاني ٢٠ / ١٣٢ ـ ١٣٨ ، الطبقات ـ لابن سعد ـ ٧ / ٧٧ ، الطبقات ـ لخليفة ـ : ٨٧ ، مسند أحمد : ١٢٩ ، تاريخ الخميس ١ / ٤٠٦ ، معجم القبائل ـ لكحالة ـ ١ / ٩٧.

نتفا من ذلك :

الأوّل : إدخال الطلقاء من قريش في سدّة الأمور

وهؤلاء حديثو عهد بالإسلام وأحكامه ، لم يسلموا طوعا ورغبة ، بل رهبة منهم على نوازع الجاهلية وأخلاقها ، فصبغت سلوكياتهم الأحداث. فقد ذكر اليعقوبي : أنّ أبا بكر لمّا أراد غزو الروم أشار عليه الصحابة بأن لا يفعل ، وأشار عليه عليّ عليه‌السلام بأن يفعل وبوقوع الظفر ، فأمر الناس بالتجهّز إلى الروم والخروج ، وجعل أميرهم خالد بن سعيد ، وكان خالد من عمّال رسول الله باليمن ، فقدم وقد توفّي رسول الله فامتنع عن البيعة ومال إلى بني هاشم ، فلمّا عهد أبو بكر لخالد قال له عمر : أتولّي خالدا وقد حبس عنك بيعته وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو الله ما أرى أن توجّهه. فحلّ لواءه ، ودعا يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجرّاح وشرحبيل بن حسنة وعمرو بن العاص ، فعقد لهم (١). وهذه سياسة اتّبعتها سلطة السقيفة لإبعاد المهاجرين والأنصار وتقريب الطلقاء.

ونظيره عند ما استعصى الأمر على أبي بكر في مواجهة قبائل كندة والأشعث بن قيس ، فعزم على الاستعانة بعليّ عليه‌السلام في المواجهة ، فمنعه عمر من ذلك ؛ تخوّفا من موقف عليّ عليه‌السلام بعدم حكمه بردّتهم ، وأمره بتأمير عكرمة بن أبي جهل (٢).

ولمّا استتمّت فتوح فارس وكان لعمّار بن ياسر الدور الكبير في تجهيز الجيوش فيها ، كتب أهل الكوفة إلى عمر يشكونه من عمّار ويسألونه أن يعزله عنهم ، فقال عمر : أيّها الناس! ما تقولون في رجل ضعيف غير أنّه مسلم تقي ، وآخر فاجر قويّ ، أيّهما أصلح للإمارة؟! فأشار عليه المغيرة بن شعبة بأنّ : القوي الفاجر فجوره على نفسه وقوّته لك وللمسلمين. فقال عمر : صدقت يا مغيرة! اذهب فقد ولّيتك الكوفة (٣).

__________________

(١). لاحظ : تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٣.

(٢). كتاب الفتوح ـ لابن أعثم ـ ١ / ٥٧.

(٣). كتاب الفتوح ٢ / ٣٢١.

وهذا النصّ يظهر لنا منطق سلطة السقيفة في تنصيب أمراء الجيوش والولاة بأنّ الفجور غير ضارّ ، وهو مع قوّة بطش الأمير والوالي أصلح من التقي والمتورّع عن المحارم ، وإلّا فكيف يكون عمّار بن ياسر ضعيفا في ولايته على الكوفة مع أنّه هو الذي عبّأ أهل الكوفة مرّات وكرّات لحرب دولة الأكاسرة ، ويكون المغيرة بن شعبة أصلح لولاية الكوفة مع فجوره واشتهاره بالزنا في البصرة؟!

وقد اعترض على عمر في سياسته هذه ؛ وتعرّض للمساءلة عن سبب استعماله سعيد بن العاص ومعاوية وفلانا وفلانا من المؤلّفة قلوبهم ومن الطلقاء ، وتركه استعمال المهاجرين والأنصار (١). واعترض حذيفة على عمر : إنّك تستعين بالرجل الفاجر. فقال عمر : إنّي لأستعمله لأستعين بقوّته ، ثمّ أكون على قفائه (٢).

وقد دافع البيهقي عن فعل عمر بأنّ : «ذلك في المنافقين الّذين لم يعرفوا بالتخذيل والإرجاف. والله أعلم» (٣). رغم أنّ عمر روى عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «من استعمل فاجرا وهو يعلم أنّه فاجر فهو مثله» (٤) ، وقال عمر : «نستعين بقوّة المنافق وإثمه عليه» (٥).

والمتتبّع لأمراء الجيوش والولاة في عهد الثلاثة يرى الكثير منهم من المؤلّفة قلوبهم والطلقاء من قريش ، أو مسلمة قبيل الفتح ، كخالد بن الوليد وأمثاله ، والسبب الحقيقي وراء ذلك هو أنّ جماعة السقيفة إنّما أتوا إلى السلطة بفضل قوّة الإرهاب القبلي الذي مارسه حزب قريش وبنو أمية على المسلمين في المدينة أيام السقيفة ـ كما ترصده الأحداث آنذاك ـ وتعاقد الصحيفة التي مرّت الإشارة إليها ، فمصدر قوّة

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٩ / ٢٨ ـ ٣٠.

(٢). كنز العمّال ٥ / ٧٧١ ، السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٩ / ٣٦.

(٣). السنن الكبرى ـ للبيهقي ـ ٩ / ٣٦.

(٤). كنز العمّال ٥ / ٧٦١.

(٥). كنز العمّال ٤ / ٦١٤.

الخلفاء لم يكن من المهاجرين والأنصار بل من الحماية القبلية من قريش الطلقاء وحلفائها.

روى ابن أعثم رسالة عمر إلى يزيد بن أبي سفيان : «اعلم أنّه بعد أن مات كلّ من الأمراء أبو عبيدة بن الجرّاح ومعاذ بن جبل وخالد بن الوليد فإنّ زمام أمور جيش المسلمين قد سلّمت لك ، فنفّذ ما جاء في هذه الرسالة كما هو معهود بك من شهامة كاملة وحصافة في الرأي!!!!» (١).

وحينما مات يزيد بن أبي سفيان والي عمر على الشام اغتمّ أبو سفيان فقال له عمر: سأرسل ولدك الآخر معاوية. فسر أبو سفيان بذلك وقال : ... لقد وصلت الرحم ... وقالت هند : ... ولتكن إمارة الشام مباركة على معاوية» (٢).

وهذه نبذة ممّا يجده المتتبّع في كتب السير والتواريخ.

الثاني : التكالب على الأموال والثروات والشهوات

وهذا الملف أيضا حافل ، نقتصر منه على نتف ؛ فقد ذكر أنّه دخل عبد الرحمن بن عوف على أبي بكر في مرضه الذي توفّي فيه فقال : «كيف أصبحت يا خليفة رسول الله؟! فقال : أصبحت مولّيا ، وقد زدتموني على ما بي أن رأيتموني استعملت رجلا منكم فكلّكم قد أصبح وارم أنفه ، وكلّ يطلبها لنفسه» (٣). وذيل كلامه وإن كان يبيّن التكالب على الخلافة نفسها فيما بين أصحاب السقيفة أنفسهم ، إلّا أنّ صدره عامّ لمطلق إمارة الجيش والسرايا والولاة.

وروى إبراهيم بن عبد الرحمن ـ بن عوف ـ أنّ رجلا قال لأبيه : «قد جئت لأمر وقد رأيت أعجب منه ؛ هل جاءكم إلّا ما جاءنا؟! أم هل علمتم إلّا ما علمنا؟! قال عبد الرحمن:

__________________

(١). كتاب الفتوح ١ / ٢٤٤.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٢٦٢.

(٣). تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٣٧.

لم يأتنا إلّا ما قد جاءكم ، ولم نعلم إلّا ما علمتم. قال : فما لنا نزهد في الدنيا وترغبون فيها، ونخفّ في الجهاد وتتشاغلون عنه ، وأنتم سلفنا وخيارنا وأصحاب نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! قال عبد الرحمن : لم يأتنا إلّا ما جاءكم ، ولم نعلم إلّا ما قد علمتم ، ولكنّا بلينا بالضرّاء فصبرنا وبلينا بالسرّاء فلم نصبر» (١).

وهذا النصّ التاريخي يبيّن مدى إقبال وحرص أصحاب السقيفة على الدنيا ، ممّا سبّب الريبة في الدين لدى عامّة الناس ؛ إذ يرون جملة من الصحابة التي كانت تحيط بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم رءوس للأطماع الدنيوية ، ومن ثمّ كان أحد الأسباب الكبرى لتمرّد أو ردّة القبائل العربية هو مشاهدتهم خيانة صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعهد الله ورسوله في الإمارة لعليّعليه‌السلام.

وكتب عمر إلى عياض بن غنم بأنّه : قد بلغه أنّ يزيد بن أبي سفيان أرسل إليه مددا بقيادة بسر بن أرطاة إلّا أنّه رفض المدد. فأجابه عياض : أنّ بسر بن أرطاة قد طالبه بجزء من غنائم مدينتي الرقّة والرها ، فقال له : لا حقّ لك بالغنائم ؛ لأنّهما فتحتا قبل وصوله ، ووعده بالشركة في غنائم الفتوح اللاحقة. فرفض بسر بن أرطاة ولم يرض ، وخشي عياض أن يحصل شيء من التمرّد واختلاف قلوب العساكر ، فأمره بالعودة (٢).

ولمّا فتح المسلمون بعض مدن فارس ، كالسوس وتستر ، اختصم أهل البصرة وأهل الكوفة حتّى كاد أن يقع بينهم شيء من المكروه (٣).

وقد نازع رجل من عنز ، يقال له : ضبّة بن محصن العنزي ، أبا موسى الأشعري في الغنائم ، فأرسله إلى عمر بن الخطّاب ، وعنّفه عمر قبل أن يسأله عن سبب المنازعة ، فغضب العنزي وأراد الانصراف ، ثمّ سأله عن السبب؟ فقال : لأنّه ـ أي أبو موسى الأشعري ـ اختار ستّين غلاما من أبناء الدهاقين فاتّخذهم لنفسه ، وله جارية يقال لها : عقيلة ،

__________________

(١). البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٤ / ٧٧.

(٢). كتاب الفتوح ١ / ٢٥٥.

(٣). كتاب الفتوح ١ / ٢٨٦.

يغذّيها بجفنة ملآنة عراقا ـ المفطام من الغنم إذا كان عليه شيء من اللحم ـ ويعشّيها بمثل ذلك ، وليس منّا من يقدر على ذلك ، وله خاتمان يختم بهما ، وله قفيزان يكتال بأحدهما لنفسه ويكيل بالآخر لغيره ، وأنّه يمنع من غنيمة رامهرمز خصوص أهل الكوفة ـ بدعوى إعطائهم الأمان مدّة ـ دون أهل البصرة.

وقد تكرّرت هذه الدعوى ضدّ أبي موسى الأشعري في عدّة مدن ، فأحضر عمر أبا موسى وساءله عن ذلك ، إلّا أنّه لم يتعدّ المشادّة فقط ، ومع ذلك أبقاه عمر في عمله ، وأخذ عقيلة منه بثمنها ، وكانت عند عمر إلى أن قتل عنها ، كما جاء نصّ ذلك باللفظ عند ابن أعثم (١) ، والظريف تخصيص عمر الجارية لنفسه كمعالجة للحيف والجور الحاصل.

وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة : أنّ أبا بكرة وزيادا ونافعا وشبل بن معبد كانوا في غرفة والمغيرة في أسفل الدار ، فهبّت ريح فرأوا المغيرة بين رجلي امرأة ـ أمّ جميل ـ يزني بها ، فقال له أبو بكرة : إنّه قد كان من أمرك ما قد علمت فاعتزلنا. قال : وذهب ليصلّي بالناس الظهر فمنعه أبو بكرة ، وقال له : والله لا تصلّي بنا وقد فعلت ما فعلت. فقال الناس : دعوه فليصلّ فإنّه الأمير ، واكتبوا إلى عمر. فلمّا شهدوا عليه عنده وبقي زياد قال عمر : ما يثني زياد عن الشهادة. مع أنّ ما قاله زياد يلازم تحقّق الزنا (٢).

وذكرت عدّة من المصادر عن المأمون العبّاسي إفصاحه عن هذه الظاهرة في المناظرة التي جرت بينه وبين فقهاء العامّة ؛ فقد روى صاحب كتاب البرهان بسنده المتّصل عن أبي إسماعيل (٣) ، وابن عبد ربّه في العقد الفريد ، والصدوق في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام (٤) ، عن أبي إسماعيل بن إسحاق بن حمّاد ، واللفظ له ، قال : بعث إليّ وإلى عدّة من المشايخ يحيى

__________________

(١). كتاب الفتوح ٢ / ٢٨٨ ـ ٢٨٩.

(٢). الأغاني ـ لأبي الفرج ـ ٤ / ١٤٦ ـ ١٤٧ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ١٦٢ ، سنن البيهقي ٨ / ٢٣٥ ، تاريخ الطبري ٤ / ٢٠٧.

(٣). بحار الأنوار ٧٢ / ١٤٧.

(٤). عيون أخبار الرضا ٢ / ٨٤.

ابن أكثم القاضي ، فأحضرنا وقال : ...

ثمّ قال المأمون : يا إسحاق! أو ما علمت أنّ جماعة من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أشاد بذكر عليّ وبفضله ، وطوّق أعناقهم ولايته وإمامته ، وبيّن لهم أنّه خيرهم من بعده ، وأنّه لا يتمّ لهم طاعة الله إلّا بطاعته ، وكان في جميع ما فضّله به نصّ على أنّه وليّ الأمر بعده ، قالوا : إنّما ينطق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن هواه ، وقد أضلّه حبّه ابن عمّه وأغواه. وأطنبوا في القول سرّا ؛ فأنزل الله المطّلع على السرائر : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١)؟!

ثمّ قال : يا إسحاق! إنّ الناس لا يريدون الدين إنّما أرادوا الرئاسة ، وطلب ذلك أقوام فلم يقدروا عليه بالدنيا فطلبوا ذلك بالدين ، ولا حرص لهم عليه ، ولا رغبة لهم فيه ؛ أما تروي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يذاد قوم من أصحابي عن الحوض فأقول : يا ربّ أصحابي أصحابي. فيقال لي : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ورجعوا القهقرى؟!

الحديث الذي ذكره المأمون العبّاسي قد رواه البخاري ومسلم في صحيحهما في كتاب الفتن ، إضافة إلى العديد من الروايات الأخرى عن إحداث الصحابة في الدين وتبديلهم ، والحيلولة بينهم وبين الحوض.

وروى البخاري أيضا حول الفتوح حديثا بسنده عن هند بنت الحارث الرواسية ، قالت : «إنّ أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت : استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة فزعا يقول: سبحان الله! ما ذا أنزل الله من الخزائن؟! وما ذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلّين؟ ربّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» (٢).

وقال ابن حجر : «قال ابن بطال : في هذا الحديث : في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه فيقع القتال بسببه ، أو أن يبخل به فيمنع الحقّ ، أو يبطر صاحبه

__________________

(١). النجم / ١ ـ ٤.

(٢). صحيح البخاري : كتاب الفتن ـ ب ٥ : باب ظهور الفتن.

فيسرف ، فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحذير أزواجه من ذلك كلّه ، وكذا غيرهنّ ممّن بلغه ذلك» (١). ولا يخفى أنّ ذيل الحديث دالّ على سوء عاقبة بعض الأزواج ؛ فإنّ التعبير ب : «كاسية في الدنيا» للدلالة على الشرف بالزواج منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و : «العارية في الآخرة» كناية عن سوء المنقلب في الآخرة.

وأمّا نزو خالد بن الوليد على الدماء والنساء فقد ذكرت كتب التواريخ أنّ في حروب الردّة مع كندة أو هم مجاعة الحنفي ابن الوليد في حرب اليمامة ـ التي تزعّمها مسيلمة الكذّاب ، وقتل فيها أعداد كبيرة من المسلمين وقرّاء القرآن وحفّاظه ـ على الصلح لصالح قومه ، ثمّ خطب خالد ابنة مجاعة فزوّجه إيّاها مباشرة بعد الحرب ولمّا تجفّ دماء المسلمين ومن دون مراعاة للروح المعنوية والنفسية للمسلمين ، وقال حسّان في ذلك :

أترضى بأنّا لا تجفّ دماؤنا

وهذا عروس باليمامة خالد (٢)

إلّا أنّ أبا بكر لم يعزله وأبقاه (٣).

وقصّة خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة مشهورة معروفة ، وأنّه عرف إسلامه وصحبته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ خالدا رأى امرأته فأعجبه جمالها فقتل مالك وجماعة من قومه وتزوّج امرأته ، فاستنكر أبو قتادة على أبي بكر ذلك وحلف ألّا يسير تحت لواء خالد ؛ لأنّه قتل مالكا مسلما وغدر به وفجر بامرأته (٤). وكذلك شأن خالد لمّا قتل ضرار بن الأزور فتزوّج امرأته وهي في عدّتها (٥).

__________________

(١). فتح الباري ١٣ / ٢٣.

(٢). لاحظ بقية الأبيات في : مجموعة الوثائق السياسية : ٣٥١ ، نقلا عن كتاب الردّة ـ للواقدي ـ : ٩٨ ـ ١٠٠.

(٣). الفتوح ١ / ٣٦ ، تاريخ اليعقوبي ١ / ١٣١.

(٤). تاريخ اليعقوبي ١ / ١٣٢ ، الغدير ـ للأميني ـ ٧ / ١٦٣ وج ١٠ / ٣٤١.

(٥). حياة الصحابة ٢ / ٤١٣ ، كتاب عمر بن الخطّاب ـ لعبد الكريم الخطيب ـ ١٧٧ ـ ١٧٨.

وقد عقد الشيخ الأميني قدس‌سره في الغدير فصلا عن الكنوز المكتنزة لدى أكابر الصحابة ، ك : طلحة بن عبيد الله التيمي ، عبد الرحمن بن عوف الزهري ، زيد بن ثابت ، سعد بن أبي وقّاص قائد جيوش الفتوح ، والزبير ابن العوّام ، وغيرهم ك : يعلى بن أمية ، أبي سفيان، مروان ، ومن شاكلهم من بقية الطلقاء (١).

فقد كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار ، وكان غلّته كلّ يوم ألف واف ، والوافي وزن الدينار ، وأنّه ترك ألفي ألف درهم ـ أي ميليوني درهم ـ ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وذكرت أرقام كبيرة جدّا لكلّ واحد منهم ؛ فلاحظ ما نقله الأميني عن مصادر السير والتواريخ العديدة من هذه الأرقام الدالّة على ثراء فاحش جدّا (٢).

وقد تقدّم الاعتراض على عمر في استعماله سعيد بن العاص ومعاوية وغيرهم من الطلقاء ، مع أنّ سعيد هذا يقول بأنّ : هذا السواد ـ العراق ـ بستان لأغيلمة من قريش. واعترض شبل بن خالد عليهم : ما لكم يا معشر قريش؟! أما فيكم صغير تريدون أن ينبل ، أو فقير تريدون غناه ، أو خامل تريدون التنويه باسمه؟! علام أقطعتم هذا الأشعري ـ يعني أبا موسى ـ العراق يأكلها هضما.

وهذه النصوص تدلّ على مدى تحكّم الحزب القرشي الطليق في مقاليد الحكم أيام حكومة الشيخين فضلا عن الثالث ، وأنّ الثلاثة ما كانوا إلّا واجهة لتحكّم الحزب في مقاليد الأمور ، وأنّ هذا الحزب هو الذي جاء بالثلاثة ضمن مخطّط أعدّ بإتقان منذ أوائل البعثة النبوية.

إنّ نظرة سريعة إلى الثروات المتكدّسة من الفتوحات توضّح معالم الأغراض وراءها ، والأسلوب الممارس فيها ، المباين للنهج المرسوم في الكتاب والسنّة النبويّة ، سيرة وأقوالا.

__________________

(١). الغدير ٨ / ٢٨٢.

(٢). لاحظ : الغدير ٨ / ٢٤٢ ـ ٢٩١.

قال العلّامة الأميني (١) في جرده لثروات عدّة من الأسماء :

منهم : سعد بن أبي وقّاص ؛ قال ابن سعد : ترك سعد يوم مات مائتي ألف وخمسين ألف درهم ، ومات في قصره بالعقيق ؛ وقال المسعودي : بنى داره بالعقيق فرفع سمكها ووسع فضائها ، وجعل أعلاها شرفات (٢).

ومنهم : زيد بن ثابت. قال المسعودي : خلف من الذهب والفضّة ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة مائة ألف دينار (٣).

ومنهم : عبد الرحمن بن عوف الزهري ؛ قال ابن سعد : ترك عبد الرحمن ألف بعير وثلاثة آلاف شاة ومائة فرس ترعى بالبقيع ، وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضحا ، وقال: وكان في ما خلّفه ذهب قطّع بالفئوس حتّى مجلت أيدي الرجال منه ، وترك أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة ثمانون ألفا. وقال المسعودي : ابتنى داره ووسّعها ، وكان على مربطه مائة فرس ، وله ألف بعير ، وعشرة آلاف من الغنم ، وبلغ بعد وفاته ثمن ماله أربعة وثمانين ألفا(٤).

ومنهم : يعلى بن أميّة ؛ خلّف خمسمائة ألف دينار وديونا على الناس وعقارات وغير ذلك من التركة ما قيمته مائة ألف دينار (٥).

ومنهم : طلحة بن عبيد الله التيمي ؛ ابتنى دارا بالكوفة تعرف بالكناس بدار الطلحتين ، وكانت غلّته من العراق كلّ يوم ألف دينار ، وقيل أكثر من ذلك ، وله

__________________

(١). الغدير ٨ / ٢٨٢ ـ ٢٨٨.

(٢). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٠٥ ، مروج الذهب ١ / ٤٣٤.

(٣). مروج الذهب ١ / ٤٣٤.

(٤). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٩٦ ، مروج الذهب ١ / ٤٣٤ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٤٦ ، صفة الصفوة ـ لابن الجوزي ـ ١ / ١٣٨ ، الرياض النضرة ـ لمحبّ الدين الطبري ـ ٢ / ٢٩١.

(٥). مروج الذهب ١ / ٤٣٤.

بناحية سراة أكثر ممّا ذكر ، وشيّد دارا بالمدينة وبناها بالآجر والجصّ والساج ، وعن محمّد بن إبراهيم ، قال : كان طلحة يغلّ بالعراق ما بين أربعمائة ألف إلى خمسمائة ألف ، ويغلّ بالسراة عشرة آلاف دينار أو أكثر أو أقلّ. وقال سفيان بن عيينة : كان غلّته كلّ يوم ألف وافيا. والوافي وزنه وزن الدينار. وعن موسى بن طلحة : إنّه ترك ألفي ألف درهم ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار ، وكان ماله قد اغتيل. وعن إبراهيم بن محمّد بن طلحة : كان قيمة ما ترك طلحة من العقار والأموال وما ترك من النافي ثلاثين ألف ألف درهم ، ترك من العين ألفي ألف ومائتي ألف درهم ومائتي ألف دينار والباقي عروض. وعن عمرو بن العاص : إنّ طلحة ترك مائة بهار في كلّ بهار ثلاثة قناطير ذهب ، وسمعت أنّ البهار : جلد ثور ، وفي لفظ ابن عبد ربّه من حديث الخشني : وجدوا في تركته ثلاثمائة بهار من ذهب وفضّة. وقال ابن الجوزي : خلّف طلحة ثلاثمائة جمل ذهبا. وأخرج البلاذري من طريق موسى بن طلحة ، قال : أعطى عثمان طلحة في خلافته مائتي ألف دينار ، وقال عثمان : ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهارا ذهبا وهو يروم دمي يحرّض على نفسي (١).

ومنهم : الزبير بن العوّام ؛ خلّف ـ كما في صحيح البخاري ـ إحدى عشرة دارا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر ، وكان له أربع نسوة فأصاب كلّ امرأة بعد رفع الثلث ألف ألف ومائتا ألف ، قال البخاري : فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف ، وقال ابن الهائم : بل الصواب أنّ جميع ماله حسبما فرض : تسعة وخمسون ألف ألف وثمانمائة ألف (٢).

__________________

(١). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ١٥٨ ، أنساب الأشراف ٥ / ٧ ، مروج الذهب ١ / ٤٣٤ ، العقد الفريد ٢ / ٢٧٩ ، الرياض النضرة ٢ / ٣٥٨ ، دول الإسلام ـ للذهبي ـ ١ / ١٨ ، الخلاصة ـ للخزرجي ـ ١٥٢.

(٢). صحيح البخاري ـ كتاب الجهاد / باب بركة الغازي في ماله ٥ / ٢١ ، ذكره شرّاح الصحيح : فتح الباري، ـ

ومنهم : عثمان بن عفّان ؛ قال محمّد بن ربيعة : رأيت على عثمان مطرف خزّ ثمنه مائة دينار ، فقال : هذا لنائلة كسوتها إيّاه ، فأنا ألبسه أسرّها به ، وقال أبو عامر سليم : رأيت على عثمان بردا ثمنه مائة دينار. قال البلاذري : كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حليّ وجواهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك وكلّموه فيه بكلام شديد .. وجاء إليه أبو موسى بكيلة ذهب وفضّة فقسّمها بين نسائه وبناته ، وأنفق أكثر بيت المال في عمارة ضياعه ودوره.

وقال ابن سعد : كان لعثمان عند خازنه يوم قتل ثلاثون ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، فانتهبت وذهبت .. وترك ألف بعير بالربذة وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى قيمة مائتي ألف دينار. وقال المسعودي : بنى في المدينة دارا وشيّدها بالجعر والكلس وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة. وذكر عبد الله بن عتبة : إنّ عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم ، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار ، وخلّف خيلا كثيرا وإبلا. وقال الذهبي : كان قد صار له أموال عظيمة ، وله ألف مملوك (١).

وأمّا أعطيات عثمان إبّان حكمه فقد جردها العلّامة الأميني في غديره عن المصادر المزبورة ، فقد أعطى :

١. مروان ، خمسمائة ألف دينار.

٢. ابن أبي سرح ، مائة ألف دينار.

__________________

ـ إرشاد الساري ، عمدة القاري ؛ شذرات الذهب ١ / ٤٣ ، وفي تاريخ ابن كثير ٧ / ٢٤٩ قيّدها بالدرهم. ولاحظ : الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٧٧ ، ومروج الذهب ١ / ٤٣٤.

(١). الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ ٣ / ٤٠ وص ٥٣ ، أنساب الأشراف ٣ / ٤ ، الاستيعاب ـ في ترجمة عثمان ـ ٢ / ٤٧٦ ، الصواعق المحرقة : ٦٨ ، السيرة الحلبية ٢ / ٨٧ ، مروج الذهب ١ / ٤٣٣ ، دول الإسلام ١ / ١٢.

٣. طلحة ، مائتا ألف دينار.

٤. عبد الرحمن بن عوف ، ألفا ألف وخمسمائة وستّين ألف دينار.

٥. يعلى بن أميّة ، خمسمائة ألف دينار.

٦. زيد بن ثابت ، مائة ألف دينار.

٧. ما اقتصّه لنفسه في بعض الموارد ، مائة وخمسون ألف دينار.

٨. ما اقتصّه لنفسه في بعض آخر من الموارد ، مائتا ألف دينار.

ويبلغ المجموع أربعة ملايين وثلاثمائة وعشرة آلاف دينار.

وفي مجموعة أخرى من الأعطيات :

٩. الحكم ، ثلاثمائة درهم.

١٠. آل الحكم ، ألفا ألف وعشرون درهم.

١١. الحارث ، ثلاثمائة درهم.

١٢. سعيد ، مائة ألف درهم.

١٣. عبد الله ، ثلاثمائة ألف درهم.

١٤. الوليد بن عقبة ، مائة ألف درهم.

١٥. عبد الله ، مرّة أخرى ، ستّمائة ألف درهم.

١٦. أبو سفيان ، مائتا ألف درهم.

١٧. مروان ، مرّة أخرى ، مائة ألف درهم.

١٨. طلحة ، مرّة أخرى ، ألفا ألف ومائتا ألف درهم.

١٩. طلحة ، مرّة ثالثة ، ثلاثون ألف ألف درهم.

٢٠. الزبير ، خمسة وتسعون ألف ألف وثمانمائة ألف درهم.

٢١. سعد بن أبي وقّاص ، مائتان وخمسون ألف درهم.

٢٢. ما اقتصّه لنفسه مرّة ثالثة ، ثلاثون ألف ألف وخمسمائة ألف درهم.

ويبلغ مجموع المجموعة الثانية مائة وستّة وعشرون مليونا وسبعمائة وسبعون

ألف درهم. انتهى ملخّصا.

فلاحظ تلك المصادر والمراجع وغيرها لاستقصاء الأعطيات والقطائع!

وقال الوليد بن عقبة يخاطب بني هاشم في أبيات له :

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه

كما غدرت يوما بكسرى مرازبه

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلّب بأبيات طويلة منها :

وشبّهته كسرى وقد كان مثله

شبيها بكسرى هديه وضرائبه

وكان المنصور إذا أنشد هذا البيت يقول : لعن الله الوليد ، هو الذي فرّق بين بني عبد مناف بهذا الشعر (١).

وروى البلاذري : لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه ، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم ، وأعطى زيد ابن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم ، جعل أبو ذرّ يقول : بشّر الكانزين بعذاب أليم ، ويتلو قول الله عزوجل : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٢). فرفع ذلك مروان ابن الحكم إلى عثمان ، فأرسل إلى أبي ذرّ ناتلا مولاه : أن انته عمّا يبلغني عنك ، فقال : أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله ، وعيب من ترك أمر الله؟! فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه.

وكان أبو ذرّ ينكر على معاوية أشياء يفعلها .. بعث إليه معاوية حبيب ابن مسلمة الفهري بمائتي دينار ، فقال : أما وجدت أهون عليك منّي حين تبعث إليّ بمال؟! وردّها ، وبنى معاوية «الخضراء» بدمشق ، فقال : يا معاوية! إن كانت هذه الدار من مال الله ، فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك ، فهذا الإسراف. وكان أبو ذرّ يقول : والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّه ، والله إنّي لأرى حقّا يطفأ وباطلا يحيا

__________________

(١). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٩٠.

(٢). التوبة / ٣٤.

، وصادقا يكذب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه ، فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إنّ أبا ذرّ مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة. فكتب معاوية إلى عثمان فيه ، فكتب عثمان إلى معاوية : أمّا بعد ، فاحمل جندبا إليّ على أغلظ مركب وأوعره! فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار ، فلمّا قدم أبو ذرّ المدينة جعل يقول : تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء ، ثمّ إنّ عثمان نفاه إلى «الربذة» ، فلم يزل بها حتّى مات. والمقام يطول بذكر كلّ ما جرى من إنكار أبي ذرّ على عثمان ومعاوية ؛ فلاحظ المصادر.

وأخرج البخاري في صحيحه من حديث زيد بن وهب ، قال : مررت بالربذة فقلت لأبي ذرّ : ما أنزلك هذا؟! قال : كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) فقال : أنزلت في أهل الكتاب ، فقلت : فينا وفيهم. فكتب يشكوني إلى عثمان ، فكتب عثمان : أقدم المدينة. فقدمت فكثر الناس عليّ كأنّهم لم يروني قبل ذلك ، فذكر ذلك لعثمان فقال : إن شئت تنحّيت فكنت قريبا ؛ فذلك الذي أنزلني هذا المنزل ، قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث : وفي رواية الطبري أنّهم كثروا عليه يسألونه عن سبب خروجه من الشام ، فخشي عثمان على أهل المدينة ما خشيه معاوية على أهل الشام. وهكذا الحال في ما جرى من إنكار عمّار وبعض أخلّائه على عثمان ؛ فلاحظ المصادر.

وفي تاريخ الطبري :

إنّ أبا بكر لمّا استخلف قال أبو سفيان : ما لنا ولأبي فصيل ، إنّما هي بنو عبد مناف. فقيل له : إنّه قد ولى ابنك. قال : وصلته رحم (١).

ومنهم : خالد بن الوليد. قال في الإصابة : وكان سبب عزل عمر خالدا ما ذكره الزبير بن بكّار ، قال : كان خالد إذا صار إليه المال قسمه في أهل الغنائم ، ولم يرفع إلى أبي بكر

__________________

(١). تاريخ الطبري ٣ / ٢٠٢.

حسابا ؛ أقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته ، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمّم بن نويرة ، وأمر خالد بطلاق امرأة مالك ، ولم ير أن يعزله ، وفي تاريخ أبي الفداء : فقال عمر لأبي بكر : إنّ سيف خالد فيه رهق ، وأكثر عليه في ذلك ، فقال : يا عمر! تأوّل فأخطأ ، فارفع لسانك عن خالد.

وفي لفظ الطبري : فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطّاب ـ أي قتل مالك ابن نويرة وقومه ـ تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر ، وقال : عدوّ الله ، عدا على امرئ مسلم فقتله ثمّ نزا على امرأته. وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتّى دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ الحديد ، معتجرا بعمامة له ، قد غرز في عمامته أسهما ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ، ثمّ قال : أرئاء؟! قتلت امرأ مسلما ثمّ نزوت على امرأته ... ثمّ ذكر أنّ أبا بكر عذره ، وروى ثابت في الدلائل : إنّ خالدا رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال ، فقال مالك بعد ذلك لامرأته : قتلتيني.

وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفداء والزبيدي : إنّ مالك بن نويرة رضى الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن الوليد : أقتلتني؟! وكانت جميلة حسناء تزوّجها خالد بعد قتله ، فأنكر ذلك عبد الله بن عمر ، وقيل فيه :

أفي الحقّ أنّا لم تجفّ دماؤنا

وهذا عروسا باليمامة خالد؟! (١)

وفي تاريخ ابن شحنة (٢) : أمر خالد ضرارا بضرب عنق مالك ، فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد : هذه التي قتلتني. وكانت في غاية الجمال ؛ فقال خالد : بل قتلك رجوعك عن الإسلام ؛ فقال مالك : أنا مسلم ؛ فقال خالد : يا ضرار! اضرب عنقه! فضرب

__________________

(١). ولاحظ لمزيد من التفاصيل : تاريخ الطبري ٣ / ٢٤١ ، الكامل في التاريخ ٣ / ١٤٩ ، أسد الغابة ٤ / ٢٩٥ ، تاريخ دمشق ٥ / ١٠٥ ، خزانة الأدب ١ / ٢٣٧ ، تاريخ ابن كثير ٦ / ٣٢١ ، تاريخ الخميس ٢ / ٢٣٣ ، الإصابة ١ / ٤١٤ و ٣ / ٣٥٧ ، الفائق ٢ / ١٥٤ ، النهاية ٣ / ٢٥٧ ، تاريخ أبي الفداء ١ / ١٥٨ ، وتاج العروس ٨ / ٧٥

(٢). في هامش الكامل ـ لابن الأثير ـ ٧ / ١٦٥.

عنقه ، وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي :

ألا قل لحيّ أوطئوا بالسنابك

تطاول هذا الليل من بعد مالك

قضى خالد بغيا عليه بعرسه

وكان له فيها هوى قبل ذلك

فأمضى هواه خالد غير عاطف

عنان الهوى عنها ولا متمالك

وأصبح ذا أهل وأصبح مالك

إلى غير أهل هالكا في الهوالك

فلمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر : إنّ خالدا قد زنى فاجلده. قال أبو بكر : لا ؛ لأنّه تأوّل فأخطأ. قال : فإنّه قتل مسلما فاقتله. قال : لا ، إنّه تأوّل فأخطأ. ثمّ قال : يا عمر! ما كنت لأغمد سيفا سلّه الله عليهم. ورثى مالكا أخوه متمّم بقصائد عديدة(١).

وفي تاريخ الخميس : اشتدّ في ذلك عمر وقال لأبي بكر : ارجم خالدا ، فإنّه قد استحلّ ذلك ؛ فقال أبو بكر : والله لا أفعل ، إن كان خالد تأوّل أمرا فأخطأ (٢). وفي شرح المواقف : فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصا. فقال أبو بكر : لا أغمد سيفا شهره الله على الكفّار. وقال عمر لخالد : لئن وليت الأمر لأقيدنّك به (٣) ؛ وفي تاريخ دمشق : قال عمر : إنّي ما عتبت على خالد إلّا في تقدّمه وما كان يصنع في المال ، وكان خالدا إذا صار إليه شيئا قسمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر حسابه ، وكان فيه تقدّم على أبي بكر ، يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر ، وأقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته ، وصالح أهل اليمامة ، ونكح ابنة مجاعة بن مرارة ، فكره ذلك أبو بكر ولم ير أن يعزله(٤).

هذا ، وقد كان مالك من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستعمله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه ، وهو من أشراف الجاهلية والإسلام. ثمّ إنّ ضرار بن الأزور زميل خالد بن الوليد في قتل

__________________

(١). لاحظ : تاريخ أبو الفداء ١ / ١٥٨.

(٢). تاريخ الخميس ٢ / ٢٣٣.

(٣). المواقف : ٤٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤). تاريخ دمشق ٥ / ١١٢.

مالك قد شنّ الغارة على حيّ من بني أسد فأخذ امرأة جميلة فوطئها بهبة من أصحابه ، ثمّ ذكر ذلك لخالد ، فقال : قد طيّبتها لك ؛ فكتب إلى عمر فأجاب برضخه بالحجارة (١). وبعد فتح الشام أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر ، عن محارب بن دثار : إنّ أناسا من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شربوا الخمر بالشام وقالوا : شربنا لقول الله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) (٢) .. الآية (٣). وفي كتاب من أبي بكر له : لعمري يا بن أمّ خالد! إنّك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد كتبه إليه لمّا قال خالد لمجاعة : زوّجني ابنتك. فقال له مجاعة : مهلا ، إنّك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك. قال : أيّها الرجل! زوّجني. فزوّجه ، فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه الكتاب ، فلمّا نظر خالد في الكتاب جعل يقول : هذا عمل الأعيسر. يعني عمر بن الخطّاب (٤). هذا ، وقد كان خالد بن الوليد من نجوم قيادات الفتوح. وفي الإصابة ـ في ترجمة خالد بن الوليد ـ : قال عمر لأبي بكر : اكتب إلى خالد لا يعطي شيئا إلّا بأمرك فكتب إليه بذلك ، فأجابه خالد : إمّا أن تدعني وعملي وإلّا فشأنك بعملك. فأشار عليه عمر بعزله ، فقال أبو بكر : فمن يجزي عنّي جزاء خالد. قال عمر : أنا. فتجهّز عمر ... إلى أن قال ـ بعد ثني أبي بكر لعمر عن الخروج ـ : فلمّا قبل عمر كتب إلى خالد : أن لا تعطي شاة ولا بعيرا إلّا بأمري. فكتب إليه خالد بمثل ما كتب إلى أبي بكر ، فقال عمر : ما صدقت الله إن كنت أشرت على أبي بكر بأمر فلم أنفّذه. فعزله ، ثمّ كان يدعوه إلى أن يعمل فيأبى إلّا أن يخلّيه يفعل ما شاء فيأبى عمر ، قال مالك : وكان عمر يشبه خالدا (٥).

وعن عبد الرحمن بن عوف ، قال : إنّه دخل على أبي بكر في مرضه الذي توفّي فيه

__________________

(١). لاحظ : تاريخ دمشق ٧ / ٣١ ، خزانة الأدب ٢ / ٨ ، الإصابة ٢ / ٢٠٩.

(٢). المائدة / ٩٣.

(٣). لاحظ : الدرّ المنثور ٢ / ٣٢١.

(٤). لاحظ : تاريخ الخميس ٣ / ٣٤٣ ، وتاريخ الطبري ٣ / ٢٥٤.

(٥). الإصابة ١ / ٤١٥.

فأصابه مهتمّا ... فقال أبو بكر : إنّي ولّيت أمركم خيركم في نفسي ، فكلّكم ورم أنفه من ذلك ، يريد أن يكون الأمر له دونه ، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولمّا تقبل وهي مقبلة حتّى تتّخذوا ستور الحرير ، ونضائد الديباج ، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك السعدان ، والله لأن يقدّم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا ، وأنتم أوّل ضالّ بالناس غدا فتصدّونهم عن الطريق يمينا وشمالا ، يا هادي الطريق! إنّما هو الفجر أو البحر (١).

وروى البخاري في صحيحه ، عن هند بنت الحارث : إنّ أمّ سلمة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت :

استيقظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة فزعا يقول : سبحان الله! ما ذا أنزل الله من الخزائن؟! وما ذا أنزل من الفتن؟! من يوقظ صواحب الحجرات ـ يريد أزواجه ـ لكي يصلّين؟! ربّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة (٢)

قال ابن حجر في فتح الباري في شرح الحديث : وفي رواية سفيان : ما ذا أنزل الليلة من الفتن؟! وما ذا فتح من الخزائن؟! قال ابن بطال في هذا الحديث : إنّ الفتوح في الخزائن تنشأ عنه فتنة المال بأن يتنافس فيه القتال بسببه ، وأن يبخل به فيمنع الحقّ أو يبطر صاحبه فيسرف ، فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحذير أزواجه من ذلك كلّه ، وكذا غيرهنّ ممّن بلغه ذلك. وقال ابن حجر في شرح «ربّ كاسية ...» : واللفظة وإن وردت في أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنّ العبرة بعموم اللفظ ؛ كاسية للشرف في الدنيا لكونها أهل التشريف وعارية يوم القيامة ؛ كما قد أشير فى أحاديث نبويّه اخرى إلى هذه الأوضاع ، نظير ما رواه البخارى ومسلم فى كتاب الفتن عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١). لاحظ : الأموال : ١٣١ ، تاريخ الطبري ٤ / ٥٢ ، الإمامة والسياسة ١ / ١٨ ، مروج الذهب ١ / ٤١٤ ، العقد الفريد ٢ / ٢٥٤.

(٢). صحيح البخاري ٩ / ٨٨ ح ١٨ كتاب الفتن ب ٦.

إنّكم سترون بعدى أثره وأمورا تنكرونها. (١)

إنّ الأجواء السائدة لدى المسلمين في عهود الفتوحات الأولى ، وما كان لديهم من حماس ديني ملتهب ، ومن قوّة نظر وإشراف في مراقبة الحكم والحاكم ، بجانب عوامل أخرى ـ نتعرّض لها كلّها ـ من إعداد وصنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كانت سبب النصر والظفر والفتوحات.

وبعبارة أخرى : الخطّة المرسومة من القرآن الكريم والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين ولوظيفة الحكم من بعده ، سواء على صعيد التقنين ، أو على صعيد البناء الروحي للمسلمين ، أو على صعيد البناء العسكري والقوّة الضاربة ، أو على صعيد الوحدة الاجتماعية المترابطة ، أو على صعيد بناء الدولة وأجهزة الحكم ؛ كانت تملي القيام بالجهاد وفتح البلدان. هذا كلّه بالإضافة إلى البريق النيّر الذي أوجده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الدين الإسلامي في أسماع الملل والأقوام المختلفة ، من العدالة وكرائم الخلق في القانون والتنفيذ ، ونشدة الحقّ والنصفة ..

فإنّ نظرة تحليلية في الأصول الاجتماعية والسياسية والقانونية التي كانت العرب تعيشها قبل البعثة النبويّة الشريفة مقارنة بالنظام الاجتماعي والسياسي والروحي والقانوني الذي بناه وأسّسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هذه النظرة والمقارنة كفيلة لفهم أنّ القيادة في الفتوحات بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن تلعب ذلك الدور الخطير المؤثّر في الوصول إلى نتائج الفتوحات ، سواء القيادة السياسية ، أو القيادة العسكرية.

ويستطيع القارئ أن يلمس ذلك من بعض النصوص التاريخية أو الروائية التي ذكرناها آنفا ، فضلا عمّا لو تتبّع واستقصى ذلك بنفسه من خلال كتب السير والتاريخ والحديث ؛ فإنّ سرّ الفوز بتلك النتائج يكمن في عظمة النظام الذي بنى صرحه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأصعدة المختلفة. وقد أشار إلى ذلك عدّة من الباحثين في حقل العلوم

__________________

(١). صحيح البخارى ٩ / ٨٤ ح ٤ كتاب الفتن ب ٢.

الإسلاميّة أو العلوم الإنسانية ، ولنضرب الأمثلة لنماذج تلك العوامل المزبورة :

* فأمّا رقابة المسلمين الشديدة على الحكم والحاكم ، التي ربّاهم عليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومحاسبتهم لكلّ صغيرة وكبيرة ، وأنّ الظروف المحيطة بالحاكم والحكم ما كانت تسمح له بتغيير كلّ معالم النظام السياسي والاجتماعي والمعنوي الذي شيّده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فمن أمثلة ذلك :

قول عمر بن الخطّاب لابن عبّاس : لو وليها عثمان لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ، ولو فعلها لقتلوه (١). وفي نقل آخر عنه : لو ولّيتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس ، والله لو فعلت لفعل ، ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتّى يجزّوا رأسه (٢) وهذا ما حدث ؛ إذ ثار المسلمون على عثمان وقتلوه ، بسبب الإثرة في السلطة وفي المال وفي مقدّرات المسلمين التي خصّصها بذويه وعشيرته وبني أميّة. وهذه القوّة لرقابة الناس التي يصوّرها عمر في العقد الثالث الهجري فكيف هي في العقد الثاني ، وفي أوائل العهد الذي تلا العهد النبوي؟!

وقول عليّ عليه‌السلام لعثمان ؛ وقد كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك ، وكلّموه فيه بكلام شديد حتّى أغضبوه فقال : هذا مال الله ، أعطيه من شئت وأمنعه من شئت ، فأرغم الله أنف من رغم وفي لفظ آخر : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء وإن رغمت أنوف أقوام ؛ فقال له عليّ عليه‌السلام : إذا تمنع من ذلك ويحال بينك وبينه (٣). وقد صعد عمر المنبر يوما وقال : لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم؟ فأجابه عليّ عليه‌السلام : إذا كنّا نستتيبك ، فإن تبت قبلناك. فقال : وإن لم؟ قال : نضرب عنقك الذي فيه عيناك. فقال عمر : الحمد لله

__________________

(١). أنساب الأشراف ٥ / ١٦.

(٢). ذكره القاضي أبو يوسف في الآثار : ٢١٧.

(٣). أنساب الأشراف ٦ / ١٦١.

الذي جعل في هذه الأمّة من إذا اعوججنا أقام أودنا (١).

والحاصل : إنّ أمثلة هذا العامل كثيرة جدّا يجدها الباحث بمجرّد رجوعه إلى ذاكرته في أحداث العقود الهجرية الأولى التي تلت العهد النبوي الأوّل. نعم ، ليس المراد من وجود هذا العامل أنّه لم تكن للتكتّلات السياسية في صفوف الصحابة ـ من المهاجرين والأنصار ، وائتلاف السقيفة ، والبيت الهاشمي وأنصاره ـ أيّ دور ، إمّا في تغيير وتبديل الخطّة المرسومة من قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإمّا في المحافظة على بقائها ؛ إذ الأمور نسبية ، وإنّما الغرض بيان الجانب الغالب.

* وأمّا تعيين وظيفة المسلمين والدولة من قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن الفتوحات ؛ فقد كان إخبار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفتح المسلمين لفارس والروم وسقوط ملك كسرى وقيصر على أيديهم ، إخبارا ملأ آذان المسلمين في مواقع عديدة أنبأ فيها بذلك ، كما في حفر الخندق في غزوة الأحزاب (٢) وغيره ، وقد كان وعدا قطعيا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك للمسلمين ، وهذا الوعد الصادق استيقن به المسلمون ، كما رأوا صدق الوعود منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل ، وكان هذا باعثا للأمل ولقوّة الروح فيهم التي لا تستجيب لليأس أو الخوف.

كما إنّ تعيين القرآن الكريم والنبيّ الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الوظيفة للمسلمين كان بيانا لمشروعية الجهاد في نفسه لدى العديد ممّن لم ير مشروعية لما نتج عن بيعة السقيفة. ولقد كان في أمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في أيّامه الأخيرة ـ بتجهيز جيش أسامة ، وحثّه على إنفاذه ، ولعنه من تخلّف عنه ، دلالة على مدى العناية الشديدة التي كان يوليها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمر الجهاد.

* وأمّا روح الفداء وطلب الشهادة والتضحية ، والتعطّش لدرجات الآخرة والرضوان ؛ فقد كانت ما تزال ملتهبة بفضل أنوار النبوّة وقرب العهد من الوحي ، ومشاهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحيّة في أذهانهم ، ووقائع الغزوات الكبرى في الإسلام ، التي

__________________

(١). مناقب الإمام عليّ عليه‌السلام ـ للخوارزمي ـ : ٩٨ ح ١٠٠.

(٢). انظر : تاريخ الطبري ٢ / ٩٢.

خلّدت أسماء نجوم الشهادة ، فلم تكن هناك تعبئة من القيادة السياسية أو العسكرية للجهاد بقدر ما كانت محاولة تدبير للحالة الاندفاعية الموجودة والحماس الملتهب.

سبب إخفاق الفتوح عن الوصول إلى الوعود الإلهيّة

إنّ المحاولة في التدبير هي التي أضفت لونا على الجهاد والفتوح ، وغيّرت من خلق وغايات هذا الباب ، وساهمت في تقليل حيوية عوامله ومعدّاته ، على نحو تدريجي ، بسبب الممارسات التي ارتكبت ، سواء بالإضافة إلى البلدان المفتوحة وأهاليها ، أو بالإضافة إلى الرموز الخاصّة من القيادات العسكرية وغيرها ، ممّن كانت تربطه بالسلطة علائق معينة ، وسواء على صعيد المال أو الأعراض أو النفوس ..

مضافا إلى إنّ الانفتاح على الأقوام الأخرى كان يتطلّب كفالة شرعية من مختلف الجوانب الروحية والعلمية والتربوية والقانونية والسياسية ، وغيرها من الجوانب التي لم تكن القيادة المركزية مؤهّلة لتلك المهمّة في ظلّ التحديد والحصار لدور الإمام عليّ عليه‌السلام ، حامل علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والقيّم الثاني المبيّن للدين ، والوزير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تأسيس الدعوة وتشييدها حتّى آخر لحظات حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ..

بسبب كلّ هذا لم يكتب للوعد الإلهي في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (١) ، الذي تكرّر في ثلاث سور ـ وغيره من الوعود الإلهيّة ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢) ، ووعده تعالى في قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) (٣) ، وقوله سبحانه : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) (٤) ـ التحقّق في العاجل.

__________________

(١). التوبة / ٣٢ ، والفتح / ٢٨ ، والصفّ / ٩.

(٢). الأنبياء / ١٠٥.

(٣). القصص / ٥.

(٤). النمل / ٦٢.

ثمّ انّ الاهتداء الداخلي الذي بدأ عدّه العكسي وأخذ يدبّ في جسد الأمّة ووحدة المسلمين ؛ وقد حذّر منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طوائف من الحديث ، نظير قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما أشرف على أطم من آطام المدينة :

هل ترون ما أرى؟!». قالوا : لا. قال : «فإنّي لأرى الفتن تقع خلال بيوتكم كوقع القطر (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما استيقظ من النوم محمرّا وجهه :

لا إله إلّا الله ، ويل للعرب من شرّ قد اقترب (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

هلكة أمّتي على يدي غلمة من قريش.

فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة ؛ رواه البخاري ، عن ابن سعيد ، عن جدّه ، وقال : فكنت أخرج مع جدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام فإذا رآهم غلمانا أحداثا قال لنا : عسى أن يكونوا منهم (٣).

وقال ابن حجر في فتح الباري ـ بعد نقل الحديث ؛ إذ ذكر البخاري تتمّة له من لعن مروان لأولئك الغلمة ـ :

تنبيه : يتعجّب من لعن مروان الغلمة المذكورين مع إنّ الظاهر أنّهم من ولده ، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون ، وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد ، أخرجها الطبراني (٤)

__________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ٨٦ ح ١١ كتاب الفتن ب ٤ ، ورواه مسلم أيضا في صحيحه ٨ / ١٦٨.

(٢). صحيح البخاري ٩ / ٨٦ ح ١٠ كتاب الفتن ب ٤.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ٨٥ ح ٩ كتاب الفتن ب ٣.

(٤). فتح الباري ١٣ / ١٣ ذ ح ٧٠٥٨.

وقد رواه مسلم في صحيحه ، عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

يهلك أمّتي هذا الحيّ من قريش. قالوا : فما ذا تأمرنا؟ قال : لو أنّ الناس اعتزلوهم(١).

قال النووي ـ في شرحه بعد مطابقته بين الروايتين ـ :

إنّ المراد برواية مسلم طائفة من قريش ، وهذا الحديث من المعجزات ، وقد وقع ما أخبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقد تقدّم أنّ أبا بكر ابتدأ بتولية ابن أبي سفيان ، وقد أمن بذلك من مواجهة أبي سفيان لتنصيبه في السقيفة.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أنا فرطكم على الحوض ، ليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني ، فأقول : أيّ ربّ أصحابي ، فيقول : لا تدري ما أحدثوا بعدك (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أنا فرطكم على الحوض ، من ورده شرب منه ، ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبدا ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ، ثمّ يحال بيني وبينهم ، أقول :

إنّهم منّي ، فيقال : إنّك لا تدري ما بدّلوا بعدك ، فأقول : سحقا سحقا لمن بدّل بعدي (٤).

قال ابن حجر في فتح الباري :

إن كانوا ممّن لم يرتدّ لكن أحدث معصية كبيرة من أعمال البدن أو بدعة من

__________________

(١). صحيح مسلم ٨ / ١٨٦ كتاب الفتن.

(٢). صحيح مسلم بشرح النووي ١٨ / ٣٥ ح ٢٩١٧.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ٨٣ ح ٢ كتاب الفتن ب ١.

(٤). صحيح البخاري ٩ / ٨٣ ح ٣ كتاب الفتن ب ١.

اعتقاد القلب ؛ فقد أجاب بعضهم بأنّه يحتمل أن يكون أعرض عنهم ولم يشفع لهم اتّباعا لأمر الله فيهم حتّى يعاقبهم على جنايتهم ، ولا مانع من دخولهم في عموم شفاعته لأهل الكبائر من أمّته فيخرجون عند إخراج الموحّدين من النار ، والله أعلم (١).

وقد تواصل هذا الاهتداء في نظام الحكم إلى أن وصل إلى الحالة التي أشرنا إليها في عهد عثمان ، فقد أعطى عبد الله بن سعد بن أبي سرح ـ أخاه من الرضاعة ـ الخمس من غنائم إفريقية في غزوها الأوّل (٢).

قال البلاذري في الأنساب :

لمّا قدم الوليد ـ ابن عقبة بن أبي معيط ابن أبي عمر وبن أميّة ، الذي نزلت فيه آية : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) (٣) ـ الكوفة ألفى ابن مسعود على بيت المال ، فاستقرضه مالا ، وقد كانت الولاة تفعل ذلك ثمّ تردّ ما تأخذ ، فأقرضه عبد الله ما سأله ، ثمّ إنّه اقتضاه إيّاه ، فكتب الوليد في ذلك إلى عثمان ، فكتب عثمان إلى عبد الله بن مسعود : إنّما أنت خازن لنا ، فلا تعرض للوليد في ما أخذ من المال ، فطرح ابن مسعود المفاتيح وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذ كنت خازنا لكم فلا حاجة لي في ذلك. وأقام بالكوفة بعد إلقائه مفاتيح بيت المال (٤).

حتّى آل الأمر إلى ليالي بني أميّة وبني العبّاس ونظام حكمهم ، وعن

__________________

(١). فتح الباري ١٣ / ٥ ذ ح ٧٠٥٠ و ٧٠٥١.

(٢). تاريخ ابن كثير ٧ / ١٥٢ ، أنساب الأشراف ٥ / ٢٦ ، شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٦٧.

(٣). الحجرات / ٦.

(٤). أنساب الأشراف ٥ / ٣٠ ، ولاحظ : العقد الفريد ٢ / ٢٧٢ ؛ وغيرها من الأرقام التي سطّرتها الكتب والسير من هذا القبيل.

عائشة :

إنّ الخلافة سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر (١).

وروى البخاري ، عن أيّوب ، عن نافع ، قال :

لمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إنّي سمعت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ينصب لكلّ غادر لواء يوم القيامة ، وإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله ، وإنّي لا أعلم غدرا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثمّ ينصب له القتال ، وإنّي لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا بايع في هذا الأمر إلّا كانت الفيصل بيني وبينه(٢).

وقد قتل يزيد في العام الأوّل من خلافته سبط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي العام الثاني استباح المدينة المنوّرة وأهلها ونساءها وفي العام الثالث رجم الكعبة ، بل إنّه أمر بأخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم بما شاء ؛ مع إنّ البخاري روى في صحيحه ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال :

السمع والطاعة على المرء المسلم في ما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ... (٣).

من كلّ ما سبق يتّضح جليّا سرّ تركيز عليّ عليه‌السلام في عهده الذي تسلّم فيه مقاليد الأمور على إصلاح الداخل والبناء الذاتي ؛ إذ كيف يدعو الآخرين من الملل الأخرى إلى الدين ، وأبناء الدين الإسلامي أنفسهم لا يعملون به؟! وعطّلوه ومحوا رسومه التي كانت على عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنطق القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ*

__________________

(١). الدرّ المنثور ٦ / ١٩.

(٢). صحيح البخاري ٩ / ١٠٣ ح ٥٥ كتاب الفتن ب ٢١.

(٣). صحيح البخاري ٩ / ١١٣ ح ٨ كتاب الأحكام / باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية / باب ٤.

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (١) و (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢) وقال تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ* وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ* وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (٣).

وذكر ابن حجر في فتح الباري في شرح كتاب الفتن ، الذي صدّره البخاري بالآية ، قال : أخرج الطبري من طريق الحسن البصري ، قال : قال الزبير : لقد خوّفنا بهذه الآية ونحن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما ظننّا أنّا خصصنا بها ، وقال : عند الطبري من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عبّاس ، قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم ؛ فيعمّهم العذاب.

ولهذا الأثر شاهد من حديث عديّ بن عميرة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

إنّ الله عزوجل لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصّة والعامّة (٤).

فإذا لم يحكم العدل في ما بين المسلمين فكيف يطالب غيرهم به؟! وقد روي ـ ما مضمونه ـ :

إنّ قائلا قال للإمام السجّاد عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام : أتركت الجهاد في الثغور وخشونته وأقبلت على الحجّ ونعومته؟! وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ

__________________

(١). الصفّ / ٢ و ٣.

(٢). البقرة / ٤٤.

(٣). الأنفال / ٢٥ ـ ٢٨.

(٤). فتح الباري ١٣ / ٤ ح ٧٠٤٨.

فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١) الآية. فقال له زين العابدينعليه‌السلام : أكمل الآية. فقال : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) فقال له زين العابدين عليه‌السلام : إذا وجدت من هم بهذا الوصف فنحن نجاهد معهم (٣)

ويا له من شرط صعب! الحفظ لحدود الله!

ولقد خطب الإمام عليّ عليه‌السلام في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة ، فقال :

ألا إنّ كلّ قطيعة أقطعها عثمان ، وكلّ مال أعطاه من مال الله ، فهو مردود في بيت المال ؛ فإنّ الحقّ القديم لا يبطله شيء ، ولو وجدته قد تزوّج به النساء ، وفرّق في البلدان ، لرددته إلى حاله ، فإنّ في العدل سعة ، ومن ضاق عنه الحقّ فالجور عنه أضيق (٤).

فسيف عليّ عليه‌السلام الذي أقيم به صرح الإسلام ، وشيّد به دعائم الدولة الإسلاميّة ، عاد مرّة أخرى لإزالة الأود والعوج الذي حصل في نظام المسلمين السياسي والاجتماعي ، وبناء النموذج الداخلي المثالي للدعوة إلى الإسلام ؛ بل إنّ عليّا عليه‌السلام أقام ـ قبل تسلّمه مقاليد الأمور ـ مرابطا في الخندق العلمي لوجه الدين الإسلامي ، أمام تحدّيات المسائل الحرجة التي ابتليت بها الأمّة ولم يكن لها من يطّلع على حكم الشريعة فيها ، وقد ذكرت المصادر التاريخية الكثير من الموارد لذلك ، وكذا أمام تحدّي الملل والنحل الأخرى (٥).

__________________

(١). التوبة / ١١١.

(٢). التوبة / ١١٢.

(٣). وسائل الشيعة كتاب الجهاد أبواب جهاد العدو ب ١٢ / ح ٦.

(٤). شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ١ / ٩٠ ، السيرة الحلبية ٢ / ٨٧.

(٥). لاحظ : ما أخرجه الحافظ العاصمي في كتابه : زين الفتى في شرح سورة (هَلْ أَتى) ، في وفد النصارى ـ

وننتهي في الفتوحات إلى هذه النقطة : وهي أنّ عقدة الملل الأخرى ـ لا سيّما الغربيّين ـ النفسية والذهنية تجاه الدين الإسلامي ، وعدم إقبالهم عليه ، وعدم البحث عن حلّ لمشاكلهم من منظار ديننا ـ وإن كان له أسباب متعدّدة صاغها أعداء الإسلام والمسلمين ـ مضافا إلى النفسية العدوانية ، والعقلية الاستعلائية التي تصعّر بخدّهم ؛ إلّا إنّ شطرا مهمّا من تلك الأسباب هي ممارسات المسلمين أنفسهم ، وبالخصوص والتحديد هي رواسب الممارسات التي وقعت في فتوحات البلدان ..

فإنّ سلبيّات كيفية الأداء في هذه الفتوحات وما رافقها من تجاوز للموازين الدينية المقرّرة ، التي تحافظ على روح خلق الشريعة ، فإنّ الحفظ لحدود الله تعالى في باب الجهاد وغيره هو الكفيل الأمثل لدخول الناس أفواجا في دين الله تعالى ، والموجب لتحقّق الوعد الإلهي ـ الذي تأخّر إلى هذا اليوم ـ بإظهار الإسلام في كافّة أرجاء المعمورة.

سياسات الخلفاء في بلدان الفتوح

أمّا الثالث فلا نجد حاجة للإشارة إلى عبثه ولعبه (١). وأمّا الثاني فقد كان جملة من ولاته من هم من الطلقاء ، كما تقدّم ، ومن ولاته أيضا : عتبة بن أبي سفيان على الطائف ، وأبو هريرة على البحرين ، وعمرو بن العاص على مصر ، ومعاوية بن أبي سفيان على الشام. وكان من جملة ولاته أيضا من هم من أصحاب السقيفة ، كسعد بن أبي وقّاص على الكوفة ، وأبو موسى الأشعري على البصرة ، وأبو عبيدة بن الجرّاح على موضع من الشام ، وخالد بن الوليد على موضع آخر لفترة.

ولمّا رأى عمر استثراء ولاته قام بمشاطرة أموالهم ، فأخذ منهم النصف وأبقى لهم النصف ، فاعترض عليه أبو بكرة ـ وكان أحد ولاته ـ قال له : والله لإن كان هذا المال لله

__________________

ـ وأسئلتهم لأبي بكر ، وغير ذلك من الوقائع.

(١). لاحظ : الغدير ٨ / ٩٧ ـ ٣٠٠.

فما يحلّ لك أن تأخذ بعضا وتترك بعضا ، وإن كان لنا فما لك أخذه. فقال له عمر : إمّا أن تكون مؤمنا لا تغلّ ، أو منافقا أفك. فقال له : بل مؤمن لا أغلّ (١). وقد تقدّم دفع عمر الحدّ عن المغيرة بن شعبة لمّا زنى بأمّ جميل.

وقام الشيخان بمنع تدوين الأحاديث النبوية وإحراق الكتب التي جمعت فيها ، والمعاقبة على ذلك بشدّة ، والمنع من نشر وانتشار أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصحابة إلى سائر الأمصار والتابعين (٢) ؛ كما أحرق عمرو بن العاص أكبر مكتبة في الاسكندرية بأمر عمر ؛ ذكر ذلك جرجي زيدان ، واستشهد بقول عبد اللطيف البغدادي والمقريزي والحاج خليفة (٣).

ولقد صدق قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكعب بن عجزة : «أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء. قال : وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال : أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي ، ولا يستنّون بسنّتي ، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي ولست منهم». الحديث (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه سيكون بعدي أمراء ، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس منّي ولست منه وليس بوارد حوضي» (٥).

وقد روى الشافعي من طريق وهب بن كيسان ، عن ابن الزبير ، قوله : «كلّ سنن

__________________

(١). شيخ المضيرة : ٨٦ ، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٥٧ ، سير أعلام النبلاء ٢ / ٢١٨ ، الطبقات ٣ / ٢٢١ ، تاريخ الخلفاء : ٢٤١.

(٢). تاريخ المدينة المنوّرة ٣ / ٨٠٠ ، كنز العمّال ٢ / ٢٨٥ ، تذكرة الحفّاظ ١ / ٧ ، سنن ابن ماجة ١ / ١٢ ، شرح نهج البلاغة ٣ / ١٢٠ ، المستدرك على الصحيحين ١ / ١٠٢ ، الطبقات ٦ / ٢ وج ٥ / ١٨١.

(٣). تاريخ التمدّن الإسلامي : ٤٦ ، نقلا عن كتاب مختصر الدول ـ لأبي الفرج الملطي ـ : ١٨ ـ ط بوك أكسفورد.

(٤). المستدرك على الصحيحين ـ للحاكم ـ ٤ / ٤٢٢.

(٥). تاريخ بغداد ٢ / ١٠٧ وج ٥ / ٣٦٢ ، مسند أحمد ٤ / ٢٦٧.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد غيّرت ، حتّى الصلاة» (١).

وقد اعترض الصحابة على عمر فعله وسنّته بتقديم بعض الناس على بعض في الأموال بمزية ، كتقديم : زوجات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمّهات المؤمنين على غيرهنّ ، والبدري على من سواه ، والمهاجرين على الأنصار ، والعرب على الموالي (٢). وقد كانت سياسة وسنّة عمر بن الخطّاب في الحكم مبنية على التفريق بين العرب والعجم في عدّة أحكام ،

منها : ما تقدّم في العطاء من بيت المال.

ومنها : ما رواه مالك بسنده : أبى عمر بن الخطّاب أن يورّث أحدا من الأعاجم إلّا أحدا ولد في العرب (٣). وهذه العصبية تجلّت في غير هذين الموردين أيضا. وقد ذكر في تقسيم غنائم الفتوح أنّه كان يعطي للهجين سهما وللعربي سهمين ، مع أنّهم أبلوا بلاء حسنا كالعرب (٤).

ومنها : منعه الموالي من دخول المدينة ، ولم يكن دخول أبي لؤلؤة مولى المغيرة بن شعبة إلّا بالتماس من المغيرة ، وكذا آحاد من الموالي.

أخلاقيات السقيفة في الفتوح والحكم

علامات أوقفت انتشار الإسلام

الأولى : ما تقدّم مفصّلا من ريبة القبائل العربية في الجزيرة في الدين بسبب استخلاف أبي بكر وإزواء الخلافة عن أهل بيت النبوة عليهم‌السلام ، وتمرّدهم على أبي بكر ، ووصول الأمر إلى ردّة بعضهم.

__________________

(١). كتاب الأمّ ١ / ٢٠٨.

(٢). الأموال ـ لأبي عبيدة ـ : ٢٢٤ ـ ٢٢٧ ، سنن البيهقي ٦ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، تاريخ عمر بن الخطّاب ـ لابن الجوزي ـ : ٧٩ ـ ٨٣.

(٣). الموطّأ ٢ / ١٢.

(٤). كتاب الفتوح ـ لابن أعثم ـ ١ / ٢١٠ ـ غنائم اليرموك.

الثانية : عصيان أهل البلاد المفتوحة ؛ وتجلّى ذلك في قيام الموالي بقتل الخليفة الثاني بعد أن رأوا أنّهم قد خدعوا بأمل المساواة والعدالة في ظلّ دين الإسلام ؛ إذ وجدوا أنّ نظام السقيفة يستحقرهم ويعدّهم مواطنون في الدين من الدرجات الدانية ، ومن ثمّ بدأت تظهر الحركات والمسارات الشعوبية منادية بإحياء النزعة القومية والعرف العرقي مقابل العرق العربي، فكأنّهم انطبع لديهم أنّ الدين الإسلامي وسيلة اتّخذها العرب للسيادة على الشعوب والقوميات الأخرى ، وهذا الملف الشعوبي طويل الذيل لا يكاد يخلو منه كتاب تاريخ أو كتاب تراجم رجال.

وهكذا الحال بالنسبة لأهل مصر والعراق ؛ إذ ثاروا على الخليفة الثالث فقتلوه عند ما شاهدوا استئثار عشيرته بالمال ، وعيثهم بمقدّسات الدين. بينما نرى أنّ من اغتال عليّعليه‌السلام ليس من أهل البلاد المفتوحة ، بل هو من أصحاب الانحراف الفكري الشذوذي من المسلمين ، وهم الخوارج ، أي أصحاب نظرية فكرية ممسوخة عن ثوابت الدين الحنيف. أمّا الأوّل فذكر أنّه سمّ ، وقيل : لعلّه لتقاطع المصالح بين جماعة السقيفة بين بعضهم البعض ، ولا مجال لذكر مؤشّرات ذلك في المقام.

الثالثة : دخول الروم وأوربا عموما في الدين المسيحي بعد أن كانوا وثنيّين في القرن الثاني الهجري ، كما تذكر المصادر التاريخية وهذه حادثة مرّة على كلّ مسلم ومؤمن.

فأين ذهب نور الدين القويم ، وأين ذهبت جاذبية مباديه العالية؟! وأين هو نور جاذبية سيرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! وأين هي ظاهرة : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (١)؟! وأين هو الوعد الإلهي : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٢)؟!

والغريب أنّ الجانب والعامل المؤثّر لدخول البلدان الأوروبية في الديانة

__________________

(١). النصر / ٢.

(٢). الصفّ / ٩.

المسيحية هو شعار الرحمة والعطف واللين والسماحة ، الذي رفعه القساوسة والأساقفة من رجال المسيحية ، بينما تسامع أهل الروم ومن والاهم من جيوش الفتوح سواء داخل الجزيرة أو في بلاد العراق وفارس ومصر والشام عن سياسات نظام السقيفة في تلك البلدان ، إلى أن بلغت ذروتها في عهد الأمويّين ، التي مرّ علينا بعضا منها في كيفية الممارسات في كلا البعدين في خصوص عهد الشيخين.

والغريب ممّن يبصر الفساد والانحراف في النظام السياسي والديني في عصر الأمويّين والعبّاسيّين ويتعامى عن جذوره في نظام السقيفة!!

الرابعة : بقاء الصورة المظلمة في أذهان كثير من شعوب دول العالم عن دين الإسلام نتيجة الممارسات القديمة على الصعيدين الداخلي والخارجي ، وكذلك الممارسات الحديثة الداخلية في البلدان الإسلامية ؛ فإنّ الملاحظ أنّ عوامل ضعف المسلمين وتضعضعهم واستشراء الفساد في النظام الاجتماعي ترجع بالأساس إلى نوعية الطبقة السياسية الحاكمة ، وهي وليدة عوامل عدّة تتناهى إلى عامل أخير ، هو : المذاهب الدينية المبرّرة لمشروعية الحاكم مهما كانت أوصافه وأحواله ما لم يظهر منه كفرا بواحا ؛ كما روى ذلك البخاري في صحيحه في كتاب الفتن : «والخارج على جماعة المسلمين ونظامهم مهما بلغ في الفساد مهدور الدم» ، إلى غير ذلك من ثوابت مذاهب السقيفة.

بین عصمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدالة الصحابة

هناك جملة من الموارد قد شاقق فيها الثاني النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وخالفه ، ويدور الاعتراض والخلاف بين كونه قدحاً; لأنّه ردّ على الله ورسوله ، وبين كونه إنكاراً لعصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ للمحافظة على دفع الطعن على الثاني تحت شعار عدالة الصحابة ، فترتقي العدالة إلى مدافعة عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فهي إذاً عصمة باسم العدالة ، بل جعلت تلك الموارد مقاماً وفضيلة للثاني ، وأنّه قد نزل الوحي الإلهي بذلك ـ والعياذ بالله تعالى ـ.

وهذا الزعم ينطوي على تصوّرات ومعتقدات ومزاعم أُخرى :

الأوّل : إنكار عصمة النبيّ (ص) في التدبير التشريعي والسياسي للأُمّة ، وأنّه يتكلّف الرأي!!

الثاني : إنّ للأُمّة الردّ والمخالفة لأحكامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجال التدبير، بعد رفع شعار الفتنة : "إنّها اجتهادات وظنون" ، وأنّ للآخرين الاجتهاد فيها ، وبالتالي فهم قد يصلون إلى ظنون أقوى أو أصوب!!

الثالث : إنّ للمجتهد التمسّك باجتهاداته في الأُصول التشريعية في كتاب الله ، والاقتصار عليها ، ونبذ الأحكام التشريعية النبوية ; ما دامت محتملة لكونها اجتهادات ، ومعرضاً للظنون ، لا الوحي الإلهي!! وهذه الموارد ، مع الطعن عليها بالوضع ; لكذب مواقيت الأحداث المستعرضَة في رواياتها ، وتناقضها مع مسلّمات السيرة ، ومفاد الآيات ، كما سيأتي بيان نبذة من ذلك ; تنطوي وتبتني ـ كما أسلفنا ـ على مذاهب اعتقادية في عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وحجّية قول وفعل الأوّل والثاني في عرض حجّية قول وفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في دائرة التشريع وسنن الأحكام.

فالحريّ بالبحث هو التعرّض لزيغ تلك المتبنّيات أوّلاً ، ثمّ بيان زيف رسم تلك الوقائع المزعومة ..

إحداث سُنّة جماعة الخلافة لمقولة اجتهاده :

لقد عنون الجصّاص (ت ٣٧٠ ه‍ ـ) في كتابه الفصول باباً ب‍ ـ : "القول في أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هل كان يسنّ من طريق الاجتهاد؟ " ، وهذا العنوان بنفسه يحمل في مضمونه باب جواز الردّ والمخالفة لسنن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد إنكار هداية الوحي فيها ..

قال : اختلف الناس في ذلك ; فقال قائلون : لم يكن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يحكم في شيء من أمر الدين إلاّ من طريق الوحي; لقوله تعالى : (وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) (١)

وقال آخرون : جائز أن يكون النبيّ (عليه‌السلام) قد جُعل له أن يقول من طريق الاجتهاد في ما لا نصّ فيه.

وقال آخرون : جائز أن يكون بعض سُنّته وحياً ، وبعضها إلهاماً ، وشيء يُلقى في روعه ، كما قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إن ّ الروح الأمين نفث في روعي : أنّ نفساً لن تموت حتّى تستوفي رزقها ، فاتّقوا الله وأجملوا في الطلب)).

ويجوز أن يكون بعض ما يقوله نظراً واستدلالا ، وتردّ الحوادث التي لا نصّ فيها إلى نظائرها من النصوص باجتهاد الرأي ..

وهذا هو الصحيح عندنا.

والدليل على أنّه قد كان جُعل له أن يقول من طريق الاجتهاد : قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (٢) ، عمومه يقتضي جواز الاستنباط‍ من جماعة المردود إليهم ، وفيهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ويدلّ عليه أيضاً : قوله تعالى :(فَاعْتَبِرُوا يٰا أُولِي الْأَبْصٰارِ) (٣) والنبيّ من أجلّهم.

ويدلّ عليه : ما حكى الله تعالى من قصّة داود وسليمان (عليهما السلام ، ثمّ قال : (فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً) (٤) ، وظاهره يدلّ على أنّ حكمهما كان

__________________

(١) سورة النجم ٣ : ٥٣ ، ٤.

(٢) سورة النساء ٨٣ : ٤.

(٣) سورة الحشر ٢ : ٥٩.

(٤) سورة الأنبياء ٧٩ : ٢١.

من طريق الاجتهاد ; لأنّهما لو حكما من طريق النصّ لَما خصّ سليمان بالفهم فيها دون داود (عليهما السلام).

ويدلّ عليه أيضاً : أنّ درجة المستنبطين أفضل درجات العلوم ، ألاّ ترى أنّ المستنبِط‍ أعلى درجة من الحافظ‍ غير المستنبِط‍؟! فلم يكن الله ليحرم نبيّه (ع) أفضل درجات العلم ، التي هي درجة الاستنباط‍ (١).

ثمّ استدلّ أيضاً بقوله تعالى : (وَشٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (٢) وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شاور أصحابه في كثير من الأُمور التي تتعلّق بالدين ، من أمر الحروب وغيرها ;ك‍ ـ : مشورته في النزول في بدر ، ومشورته أبا بكر وعمر في أُسارى بدر ، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى أن يعطي المشركين في الخندق نصف ثمار المدينة ، فكتب الكتاب ، فلمّا أراد أن يشهد فيه وحضر الأنصار قالوا : يا رسول الله! أرأي رأيته أم وحي؟ فقال : بل رأيي. فقالوا : فإنّا لا نعطيهم شيئاً ، وكانوا لا يطمعون فيها في الجاهلية أن يأخذوا منها ثمرة إلاّ قِرىً أو مشرىً ، فكيف وقد أعزّنا الله بالإسلام؟!.

ولمّا أخبره عبد الله بن زيد بما رأى من أمر الأذان أمَر بلالاً فأذّن به من غير انتظار الوحي عليها السلام وقال : ((ولا فرق بين الاجتهاد في أمر الحروب وبينه في حوادث الأحكام)).

وبقوله تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٤) (وعَبَسَ وَتَوَلّٰى * أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ) (٥) وغير ذلك من الآي التي نبّه الله تعالى نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه على موضع إغفاله وعاتبه عليه.

وكذلك قصّة تبليغ (سورة براءة) مع أبي بكر ; فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : أنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك. فدفعها إلى عليّ (ع).

__________________

(١) الفصول في الأصول للجصاص ٩٣/٢.

(٢) سورة آل عمران ١٥٩ : ٣.

(٣) رواه أبو داود في سُننه : كتاب الصلاة ، باب : كيف الأذان ، ١٣٥/١ ح ٤٩٩ ؛ وابن ماجة في سُننه ١/ ٢٣٢ ح ٧٠٦.

(٤) سورة التوبة (براءة) ٤٣ : ٩.

(٥) سورة عبس ١ : ٨٠ و ٢.

ولمّا رجع من الخندق ووضع السلاح ، فجاء جبرئيل فقال له : إنّ الملائكة لم تضع أسلحتها بعد. وأمره بالمضي إلى بني قريظة.

وقد قيل : إنّ خطأ آدم (عليه‌السلام) في أكل الشجرة كان من طريق الاجتهاد.

ثمّ قال : فإن قال قائل : لو جاز أن يقول النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من طريق الاجتهاد لكان لغيره من الصحابة مخالفته ; لأنّ ما كان طريقه الاجتهاد فكلّ مَن أدّاه اجتهاده إلى شيء لزمه القول به ، وجاز له مخالفة غيره فيه ، وفي اتّفاق جميع المسلمين على وجوب التسليم له في ما قاله وفعله دلالةً على أنّه لا يقول إلاّ وحياً وتنزيلاً؟!

قيل له : الجواب عن ذلك من وجهين :

أحدهما : إنّا قد علمنا أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إذا قال قولاً من طريق الاجتهاد فأغفل موضع الصواب ، نبّهه الله عليه بوحي من عنده ، وغير جائز أن يخلّيه موضع إغفاله ، كما قال تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وكقوله : (عَبَسَ وَتَوَلّٰى) فإذا كان هذا سبيله فغير جائز لأحد مخالفته.

والوجه الثاني : إنّ هذا القائل يوافقنا على أنّ الإجماع قد يكون من طريق الاجتهاد ، وقد يثبت عندنا ذلك أيضاً بالدلائل الصحيحة ، ثمّ إذا انعقد إجماع أهل العصر من طريق الاجتهاد لم يجز لمَن بعدهم أن يخالفهم ، والنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول من طريق الاجتهاد ويكون لاجتهاده مزية لا يحقّ من أجلها لغيره أن يخالفه.

فأمّا قوله تعالى : (وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) فإنّ فيه جوابين:

أحدهما : إنّه أراد القرآن نفسه ; لأنّه قال تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ) (١) قيل في التفسير : معناه : القرآن إذا نزل.

والوجه الثاني : إنّ الاجتهاد لمّا كان مصدره عن الوحي ـ لأنّ الله قد أمر به ، فدلّ عليه ـ جاز أن يقال : إنّ ما أدّاه إليه اجتهاد فهو عن وحي ؛ لأنّه قد أُوحي إليه باستعمال الاجتهاد.

__________________

(١) سورة النجم ١ : ٥٣.

فإن قيل : لو جاز له الاجتهاد لَما توقّف في كثير ممّا يسأل عنه ينتظر الوحي.

قيل له : هذا لا يدلّ على ما ذكرت ; لأنّه جائز أن يكون توقّفه وانتظاره للوحي من جهة أنّه لم يتوجّه له فيه رأي ، ولا غلبة ظنّ في شيء بعينه ، فتوقّف فيه ينتظر الوحي.

ويجوز أن يكون قد كان يقوى طمعه في مثله : أن ينزل عليه فيه وحي فلم يعجل بالحكم فيه.

ويجوز أيضاً أن يكون قد كان أُوحي إليه في ذلك شيء بعينه بأن لا يستعمل الاجتهاد إذا سئل وينتظر الوحي (١).

وقال في باب : القول في الاجتهاد بحضرة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، بأنّه : جائز في حالين ، وهما : عندما يبتدئهم بالمشاورة ، أو أن يجتهدوا بحضرته ، فيعرضوا عليه رأيهم وما يؤدّيهم إليه اجتهادهم مبتدئين ، فإن رضيه صحّ ، وإن ردّه بطل.

وغير جائز في حال إرادة الاستبداد بالاجتهاد لإمضاء حكم من غير أمر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; لأنّه لم يكن يأمن أن يكون هناك نصّ قد نزل ويمكن معرفته في الحال فيكون في إمضائه الحكم بالاجتهاد تقدّم بين يدي الله ورسوله (٢).

وحكى الآمدي اختلاف أهل سُنّة الخلافة أيضاً في اجتهاد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في ما لا نصّ فيه ; فقال :

فقال أحمد بن حنبل ، والقاضي أبو يوسف : إنّه كان متعبّداً به.

وقال أبو علي الجبّائي ، وابنه أبو هاشم : إنّه لم يكن متعبّداً به.

وجوّز الشافعي في رسالته ذلك من غير قطع.

وبه قال بعض أصحاب الشافعي ، والقاضي عبد الجبّار ، وأبو الحسين البصري.

ومن الناس مَن قال : إنّه كان له الاجتهاد في أُمور الحروب ، دون الأحكام الشرعية.

__________________

(١) الفصول في الأصول للجصاص ٢/ ٩٤ ٩٣.

(٢) الفصول في الأصول للجصاص ٢/ ٣٧٦ ٣٧٥.

والمختار : جواز ذلك عقلا ، ووقوعه سمعاً.

ثمّ ذكر الإمكان العقلي ، حسب زعمه.

ثمّ تمسّك بشمول أدلّة الاجتهاد للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والعياذ بالله تعالى.

وأنّ قوله تعالى (إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ) (١) وما أراه يعمّ : الحكم بالنصّ ، والاستنباط‍ من النصوص.

وأنّ آية : (وَشٰاوِرْهُمْ) إنّما في ما يحكم بالاجتهاد لا بالوحي.

وأنّ قوله تعالى في أُسارى بدر : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (٢) عتابٌ للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)!! وأنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : ((لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب ما نجا منه إلاّ عمر))!! لأنّه كان قد أشار بقتلهم ، ممّا يدلّ على أنّه كان بالاجتهاد لا بالوحي.

وكذا قوله تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)!!

وكذا غيره من الأنبياء : كقوله تعالى : (وَدٰاوُدَ وَسُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي الْحَرْثِ (٣) ، وقوله تعالى : فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً).

وما يذكر بالتفهيم إنّما يكون بالاجتهاد لا بطريق الوحي.

وما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال في مكّة : ((لا يُختلا خلاها ، ولا يُعضد شجرها)). فقال العبّاس : إلاّ الأذْخِر. فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إلاّ الأذْخِر)) ; ومعلوم أنّ الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ، فكان الاستثناء بالاجتهاد.

وما روي أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : ((العلماء ورثة الأنبياء)) ؛ ولو لم يكن الاجتهاد لديه لَما كان العلماء ورثوا عنه.

وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في القضاء : ((إنّكم لتختصمون إليّ ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض (٤).

__________________

(١) سورة النساء ١٠٥ : ٤.

(٢) سورة الانفال ٦٧ : ٨.

(٣) سورة الأنبياء ٧٨ : ٢١.

(٤) الإحكام في أُصول الأحكام للآمدي ٤٠٠/٤ ٣٩٨.

وقال الآمدي أيضاً ضمن عنوان : المسألة الحادية عشرة :

القائلون بجواز الاجتهاد للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اختلفوا في جواز الخطأ عليه في اجتهاده ; فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك.

وذهب أكثر أصحابنا ، والحنابلة ، وأصحاب الحديث ، والجبّائي ، وجماعة المعتزلة ، إلى جوازه ، لكن بشرط‍ أن لا يقرّ عليه.

وهو المختار ; ودليله المنقول والمعقول ـ ثمّ استدلّ بقوله تعالى : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ ...) ، وقوله تعالى :(مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ ...).

وقوله تعالى : (إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١) أثبت المماثلة بينه وبين غيره ، وقد جاز الخطأ على غيره فكان جائزاً عليه ; لأنّ ما جاز على أحد المثلين يكون جائزاً على الآخر.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إنّما أحكم بالظاهر ، وإنّكم لتختصمون إليّ ، ولعلّ أحدكم ألْحن بحجّته من بعض ; فمَن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعة من النار)) ، وذلك يدلّ على أنّه يقضي بما لا يكون حقّاً في نفس الأمر.

وقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إنّما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني))(٢).

وبما اشتهر عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من نسيانه في الصلاة وتحلّله عن ركعتين في الرباعية في قصّة ذي اليدين ، وقول ذي اليدين : أقَصُرَت الصلاة أم سهوتَ؟ فقال النبيّ (عليه‌السلام) : ((أحقّ ما يقول ذو اليدين؟!)) فقالوا : نعم (٣).

وقال : إنّ المقصود من البعثة إنّما هو تبليغه عن الله تعالى أوامره ونواهيه ، والمقصود من إظهار المعجزات إظهار صدقه في ما يدّعيه من الرسالة والتبليغ عن الله تعالى ، وذلك ممّا لا يُتصوّر خطؤه فيه بالإجماع.

__________________

(١) سورة الكهف ١١٠ : ١٨.

(٢) صحيح البخاري ١ / ١١١ ، صحيح مسلم ١ / ٤٠٠ ; ورواه عن ابن مسعود : أحمد في مسنده ١ / ٤٣٨ ، وابن ماجة في سننه ١ / ٣٨٢ ح ١٢١١.

(٣) صحيح البخاري ٨ / ٢٠ ، صحيح مسلم ١ / ٤٠٣.

ولا كذلك ما يحكم به عن اجتهاده ; فإنّه لا يقول فيه عن وحي ولا بطريق التبليغ ، بل حكمه فيه حكم غيره من المجتهدين ، فتطرُّق الخطأ إليه في ذلك لا يوجب الإخلال بمعنى البعثة والرسالة (١).

قبل التعرّض لتفاصيل ردود ما تشبّثوا به من التمحّلات ينبغي الإلفات إلى ما دعاهم إلى ذلك ، وأنّ تماديهم في توجيه الردّ على الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أدّى بهم إلى الالتزام بمناكير وعظائم.

فإنّ عمدة ما دعاهم إلى ذلك هو : توجيه عصيان عمر للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومخالفات أبي بكر وبقية أعضاء السقيفة لأوامر ونواهي النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ولم يقف الحدّ بهم إلى التوجيه ، بل إلى إنكار التأسّي بالنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الأُمور والشؤون بذريعة أنّه يجتهد!

وتداعى بهم ذلك الإنكار إلى إنكار حاكمية الباري تعالى في التشريع ، وأنّه ليس لله تعالى حكم في الوقائع التي يجتهد فيها المجتهدون ، أو أنّ حكمه تعالى ينطبق على كلّ اجتهاد المجتهدين بتعدادهم ، وأنّ أحكامه تعالى ليست تدور مدار الكمالات والنقائص في الأفعال والأشياء ; لأنّ القول ب‍ ـ : عصمة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) واللوح المحفوظ‍ لأحكام الشريعة ، الذي لا يوصل إليه إلاّ عبر الوحي والنصّ النبوي ، سوف يحرج مذهب الاجتهاد بالرأي والتأوّل بالهوى ، ويعزّز مذهب النصّ والاتّباع للوحي.

بل إنّ ذلك أوصلهم إلى أنّ إجماع الأُمّة ـ الذي قد يكون ناشئاً من اجتهاد الحاكم ـ معصوماً من الخطأ ، مقدّماً على حكم النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ حسب زعمهم ـ وهذه قاعدة معرفية مطردة ; فإنّ التقصير في المعرفة يلازم الغلوّ في الجانب المقابل ، والتفريط‍ من جانب يلازم الإفراط‍ في الطرف المقابل.

قال الآمدي معترضاً على نفسه في ما ذهب إليه أهل سُنّة الخلافة : ((إنّ الأُمّة إذا أجمعت على حكم مجتهد فيه ، كان إجماعهم معصوماً عن الخطأ ، كما سبق بيانه ، ولو جاز على النبيّ الخطأ في اجتهاده ، لكانت الأُمّة أعلى رتبة منه ; وذلك محال)).

__________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٤ / ٤٤٠ ـ ٤٤٢.

وإنّ المقصود من البعثة وإظهار المعجزة : اتّباع النبيّ (عليه‌السلام) في الأحكام الشرعية ; إقامةً لمصالح الخلق ، فلو جاز عليه الخطأ في حكمه ، لأوجب ذلك التردّد في قوله ، والشكّ في حكمه ، وذلك ممّا يخلّ بمقصود البعثة ; وهو محال)) (١).

ولم يكتفِ الغزالي بذلك بل استفحل تمسّكه بسُنّة الخلافة إلى القول : ((فإن قيل : فإن ساواه غيره في كونه مصيباً بكلّ حال فليجز لغيره أن يخالف قياسه باجتهاد نفسه.

قلنا : لو تعبّد بذلك لجاز ، ولكن دلّ الدليل من الإجماع على تحريم مخالفة اجتهاده ، كما دلّ على تحريم مخالفة الأُمّة كافّة ، وكما دلّ على تحريم مخالفة اجتهاد الإمام الأعظم والحاكم ; لأنّ صلاح الخلق في اتّباع رأي الإمام والحاكم وكافّة الأُمّة ، فكذلك النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ـ إلى أن قال : ـ فإن قيل : كيف يجوز ورود التعبّد بمخالفة اجتهاده ، وذلك يناقض الاتّباع ، وينفِّر عن الانقياد؟!.

قلنا : إذا عرّفهم على لسانه بأنّ حكمهم اتّباع ظنّهم وإن خالف ظنّ النبيّ ، كان اتّباعه في امتثال ما رسمه لهم)) (٢).

وقال أيضاً : ((أمّا انتظار الوحي فلعلّه كان حيث لم ينقدح له اجتهاد أو في حكم لا يدخله الاجتهاد ، أو نهي عن الاجتهاد فيه (٣).

لكنّه قال في نهاية كلامه : ((أمّا وقوعه ـ أي اجتهاد النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ فبعيد ، وإن لم يكن محالاً ، بل الظاهر أنّ ذلك كلّه كان عن وحي صريح ناصّ على التفصيل)) (٤).

ويلاحظ‍ :

أوّلاً : أنّهم يساوون غير النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) به ، بل يصل بهم التقصير في نعوت شؤون النبوّة والغلوّ في الغير إلى القول بأنّ الغير يتفوّق في إصابة الحقّ!!

__________________

(١) الإحكام في أُصول الأحكام ـ للآمدي ـ ٤ / ٤٤١.

(٢) المستصفى في علم الأُصول ٢ / ٣٥٥.

(٣) المستصفى في علم الأُصول ٢ / ٣٥٧.

(٤) المستصفى في علم الأُصول ٢ / ٣٥٧.

ثانياً : أنّ الإجماع هو وجه وجوب اتّباعه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; وهذا يقتضي فوقية حجّية الإجماع على حجّيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)!!

ثالثاً : أنّ حرمة مخالفته (صلى الله عليه وآله وسلم) هي لأجل حفظ‍ النظام الاجتماعي ، لا لأجل كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) على الهدى والحقّ!!

رابعاً : أنّه لا يمتنع أن تكون مخالفته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأمر منه (صلى الله عليه وآله وسلم)!!

ولا عجب في تماديهم إلى هذا الحدّ من الجرأة في المشاققة والمحادّة لمقام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; فلقد استنّوا في ذلك بسنن جماعة السقيفة ، وجعلوا ذلك من مناقب الثاني.

خامساً : تصل بهم عاقبة الأمر إلى إنكار علمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ والعياذ بالله تعالى عمّا يقوله الظالمون ـ لا بالأحكام في اللوح المحفوظ‍ فحسب ، بل بطرق الاجتهاد الظنّي ، وهو نظير ما قالته بنو إسرائيل في موسى (ع) ، وعيسى (ع).

سادساً : أنّه من الغريب اعتراف الغزالي بوجود مساحة من التشريع لا تدرك بالاجتهاد بل إلاّ بالوحي ، وأنّ الاجتهاد منهيّ عنه في تلك المساحة ; فمع هذا الاعتراف كيف يبررون تمرّدات الثاني وتقدّمه بين يدي الله ورسوله ، ويجعلون ذلك مناقباً له؟!

سابعاً : اعتراف الغزالي بأنّ الوحي ((ناصّ على التفصيل)) في سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ; فأيّ مجال لتبرير مخالفات جماعة السقيفة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وحملها على قاعدة الاجتهاد والتأوّل؟!

عصمة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في التدبير :

ثامناً : تمسّكهم لإنكار الوحي في أحكامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ؛ بدعوى أنّ المراد هو : الاستنباط‍ الظنّي ، المعمول به في عملية الاجتهاد.

وهذا من الأعاجيب ، أن يحمل الاستعمال القرآني على اصطلاح حادث بعد نزول القرآن!!

فمفاد الآية في الأصل يبيّن عصمة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في تدبير حكومته ، وفي الموضوعات ; إذ أنّ صدرها : (وَإِذٰا جٰاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذٰاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْ لاٰ فَضْلُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطٰانَ إِلاّٰ قَلِيلاً) (١).

ومورد الآية : : في ما يرتبط‍ بالوضع الأمني للمسلمين من التهديدات المحدقة بهم ، وما يرتبط‍ بالنظام العام ، سواء الجانب العسكري ، أو الاقتصادي ، أو السياسي.

والخطاب في الآية : إنّ تدبير الحالة الأمنية ومعالجتها إذا فُوِّض إلى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإلى أُولي الأمر لعلم الرسول وأُولو الأمر وجه التدبير الصالح لذلك.

ولم تعبّر الآية بالظنّ ، بل بالعلم ; وهذا يقضي باطّلاع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإحاطته بملابسات الظروف الخارجية والموضوعات ، ومن ثمّ يعصم نظام المسلمين عن اتّباع الشيطان بهداية وتدبير الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

فالتعليل في ذيل الآية شاهد على أنّ المراد من العلم هو معناه الحقيقي ، لا المجازي بمعنى الظنّ ، وإلاّ فالظنون تُخطئ وقد لا تصيب الواقع ; فيُتّبع سبيل الردى بدل الهدى.

مضافاً إلى أنّ من كان مصدره ومنبعه الظنّ فهو لا يحيط‍ بكلّ الأُمور ، وبكلّ واردة وشاردة ، والحال أنّ الآية عامّة لكلّ الأُمور التي تعتور وتواجه النظام العام.

ونسق التعليل في الآية مماثل لنسق التعليل الوارد في سورة الحجرات ، التي صُدّرت بالنهي عن التقدّم بين يدي الله ورسوله ، ثمّ النهي عن إصابة قوم بجهالة من دون تبيّن ، ثمّ قال تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلٰكِنَّ اللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيٰانَ أُولٰئِكَ هُمُ الرّٰاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَنِعْمَةً وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٢).

والآية هذه تتناغم وتتماثل مع الآية في سورة النساء : أنّ الهداية والرشد

__________________

(١) سورة النساء ٨٣ : ٤.

(٢) سورة الحجرات ٧ : ٤٩ و ٨.

والإيمان هو في اتّباع تدبير النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لو يوافق رأىّ الأُمّة في جملة الموارد لوقع المسلمون في العنت والمشقّة.

وهي تدلّل على أنّ مشورة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن كان معه وحوله ليس لأجل استبانة حقيقة الحال ، وإنّما لشدّهم إلى التفاعل والمساهمة في القيام بالمسؤولية ، وتربيتهم على الأخذ بنهج المشورة ونبذ الاستبداد بالرأي في ممارساتهم ، وهو نهج علمي بنّاء ..

وهي تدلّ أيضاً على أنّ سيرة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في كلّ جوانبها إيمان ورشد ، ولا تخطئ الواقع أو الكمال في الفضل والنعمة.

والاستنباط‍ في أصل الوضع اللغوي من : ((النبط‍)) ، وهو : الماء الذي ينبط‍ من قعر البئر إذا حُفرت. وأنبطنا الماء : أي استنبطناه وانتهينا إليه ، واستنبطه واستنبط‍ منه علماً وخبراً ومالاً : استخرجه ، والاستنباط‍ : الاستخراج ، ويستنبطونه : يستخرجونه (١) ؛ فالأصل فيه : استخراج حقيقة وعين الشيء والماء ، وهو لا ينطبق إلاّ على من يصل إلى حقيقة الأُمور والأشياء ، لا مَن تنكشف له ظواهر الأشياء بنحو محتمل لكلّ من الصواب والخطأ ، أي بإدراك ظنّي.

وأمّا ((أُولو الأمر)) : فليس المراد من هذا العنوان كلّ حاكم يلي أُمور المسلمين من الولاة ، بل المراد منهم هو المراد من قوله تعالى في سورة النساء أيضاً ، في الآيات السابقة لهذه الآية : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٢).

والمراد من ((الأمر)) : هو الذي أُشير إليه في سور : القدر ، والدُخان ، والنحل ، ويس ، وغيرها من السور ، وهو : الأمر الإلهي الذي يتنزّل بتقدير كلّ الأُمور في ليلة القدر من كلّ سنة ..

فأُولو الأمر : أي أصحاب ذلك الأمر ، الّذين تتنزّل عليهم برامج لوح القضاء والقدر الإلهي لكلّ الأُمور ، في الليلة التي يُفرق فيها كلّ أمر حكيم ، وتتنزّل فيها

__________________

(١) راجع : لسان العرب : مادّة (نبط‍).

(٢) سورة النساء ٥٩ : ٤.

الملائكة والروح بإذن ربّهم من كلّ أمر ، من الأرزاق ، والآجال ، والرخاء ، وكلّ حادث في السنة ، حتّى ليلة القدر التالية من العام التالي ..

وهؤلاء ـ أصحاب وولاة الأمر في ليلة القدر ـ تتنزّل عليهم الخطط‍ والبرامج والمشاريع الإلهية ، وهي لا تخطئ الحوادث والوقائع ; فإذا كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأُولي الأمر بهذا المقام من إطلاع الله تعالى لهم بكلّ تقادير الأُمور ، فكيف يُفرض تشبّث النبيّ وأُولي الأمر بالطرق الظنّية ، التي هي وسائل للمحجوب عن العلم بالحقائق ، الناظر من وراء ستار عدم العلم؟!

هذا ، مضافاً إلى أنّ أُولي الأمر قد أمر الله تعالى بطاعتهم ، والردّ إليهم ; فلو كانوا غير معصومين عن الزلل والضلال ، فكيف يأمر الله تعالى بطاعتهم واتّباعهم ، والردّ إليهم؟!

وهذا يناقض قاعدة : ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ونفي الطاعة للمخلوق ، المحتمل وقوعه في المعصية ، يقضي بنفي ولايته بالأصالة ; أي : لا يكون وليّاً للأمر بعد الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا تقرن طاعته بطاعة الله ورسوله.

فجَعْل طاعة وليّ الأمر بمثابة طاعة الله ورسوله بنحو الإطلاق والإرسال يقضي عند العقل بكون ولاة الأمر المذكورين في الآيتين هم المعصومين أهل آية التطهير من الرجس ، وهم أهل البيت "عليهم السلام ".

قصور القوم عن معرفة الوحي والكتاب :

والأعجب من الاستدلال بآية الردّ والاستنباط‍ على ما ادّعوه من عدم وحيانية سيرة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، قولُ الجصّاص المتقدّم : إنّ الاستنباط‍ الظنّي لدى المجتهد والفقيه هو أفضل درجات العلوم ، وإنّ المستنبِط‍ أعلى درجة من الحافظ‍ غير المستنبِط‍; فلم يكن الله ليحرم نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ذلك.

ولا عجب إذا تقاصرت معرفة هؤلاء عن معرفة العلوم اللدنّيّة والحضورية ، وعدّهم الوحي الإلهي من سنخ ونمط‍ الإخبار الحسّي السمعي للرواة ; فتكون النبوّة كالرواية للخبر الحسّي ، ممّا يجعل النبيّ كالحافظ‍ لألفاظ‍ القرآن ، أو لمتن لفظي معين ، كالرواة المحدّثين الحفّاظ‍ ، الّذين يحفظون ألفاظ‍ الأحاديث ولا دراية لهم

بمعانيها ; فهذا حدّ معرفتهم بحقائق الدين والإسلام ..

وعلى ذلك يكون الأنبياء من قبيل الرواة للأخبار ، ومصداق : ((رُبّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) (١)!!

ولم يدرِ هؤلاء أنّ الاستنباط‍ الظنّي والتفكير الذهني وإجالة الفكر في المسائل إنّما هو طريق العاجز ، الجاهل بحقائق الأشياء ، كما هو الحال في الطبيعة البشرية لغير المعصومين ، ولذلك ترى الفرد البشري لا يفكّر في البديهيات ـ كالأُمور المحسوسة ـ والوجدانيات ; لأنّها أُمور حاضرة لديه ، ليست غائبة عنه ، كي يجيل الفكر في طلبها واستحصالها ..

فلا يمكن المقارنة بين حافظ‍ الألفاظ‍ وبين مَن تكون الأشياء حاضرة لديه ، كما لا يمكن المقارنة بين العالم بالأشياء والحقائق حضوراً وبين من يطلب بفكره الوصول إلى صورة معانيها ، التي قد تطابق حقائقها وقد تخطئها.

وكيف يتخيّل هذا القائل أنّ الوحي الإلهي عبارة عن مجرّد سماع أصوات ، وقد قال تعالى (وَمٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ إِلاّٰ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٢)؟!

فما من اختلاف يقع في هذه الأُمّة إلاّ وبيان حكمه لدى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنزول الوحياني لحقائق الكتاب عليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نظير : قوله تعالى : (فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣).

وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (٤).

وتضاحل علم هؤلاء وحسبوا الكتاب الذي أُوحي إلى الرسول هو مجرّد ألفاظ‍ ظاهر التنزيل ، ولم يهتدوا إلى قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ * لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) (٥).

__________________

(١) مسند أحمد ٣ / ٢٢٥ وج ٤ / ٨٠ ، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ ١٧ / ٤٩.

(٢) سورة النحل ٦٤ : ١٦.

(٣) سورة النساء ٥٩ : ٤.

(٤) سورة النحل ٤٤ : ١٦.

(٥) سورة الواقعة ٧٧ : ٥٦ ـ ٧٩.

وقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ‍) (١).

وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنٰا عَلَيْكَ الْكِتٰابَ تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِين) (٢).

ومن الواضح أنّ المصحف الشريف وظاهر التنزيل ليس بحسب ظاهره تبيان كلّ شيء; إذ هو منعوت بالمُحْكم والمتشابه ، في الآية السابعة من سورة آل عمران ، بل المنعوت بتبيان كلّ شيء ، وأنّه مبين كلّه ، هو الكتاب المكنون ، وفي اللوح المحفوظ‍ ، الذي : (لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ) ، وهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومون (عليهم السلام) ، الّذين شهد القرآن بطهارتهم من قبل الباري تعالى ، لا كلّ متطهّر بالوضوء والغسل ; وكم فرق بين مَن طهّره الله تعالى ، فهو مُطَهَّرْ ، وبين مَن يتطهّر في بدنه بالوضوء والغسل ، فهو مُتَطَّهِرْ لا مُطَهَّرْ؟!

والكتاب المبين قد نُعت في قوله تعالى : (وَمٰا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقٰالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاٰ فِي السَّمٰاءِ وَلاٰ أَصْغَرَ مِنْ ذٰلِكَ وَلاٰ أَكْبَرَ إِلاّٰ فِي كِتٰابٍ مُبِينٍ) (٣).

وكذا قوله تعالى (مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ) (٤)

وقال تعالى : (يَمْحُوا اللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتٰابِ) (٥).

فكلّ لوح القضاء والقدر مثبت في الكتاب المبين ، وهو الذي ينزل منه تقدير كلّ شيء في الليلة المباركة ، ليلة القدر ; إذ قال تعالى : (حم * وَالْكِتٰابِ الْمُبِينِ * إِنّٰا جَعَلْنٰاهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتٰابِ لَدَيْنٰا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٦).

فكلّ هذه من مراتب الكتاب وحقائقه ، وما في المصحف الشريف ليس إلاّ

__________________

(١) سورة البروج ٢١ : ٨٥ و ٢٢.

(٢) سورة النحل ٨٩ : ١٦.

(٣) سورة يونس ٦١ : ١٠ ، وكذلك : سورة سبأ ٣ : ٣٤.

(٤) سورة الأنعام ٣١ : ٦.

(٥) سورة الرعد ٣٩ : ١٣.

(٦) سورة الدُخَان ١ : ٤٤ ـ ٤.

ظاهر تنزيله ، وظنّ هؤلاء أنّ الوحي النبوي بتأويل الكتاب وحقائقه هو عبر حجاب الدلالة واللفظ‍.

ثمّ إنّ إحاطة العلم النبوي بجميع الألفاظ‍ والتراكيب وطرق دلالتها يختلف عن درك الفقهاء والمجتهدين ; فإنّ درك الفقهاء والمتجهدين خاضع لحافظتهم ونباهتهم في استقصاء الآيات ، والتنبّه لمناسباتها مع المطلوب ، ثمّ التناسب بين دلالتها ، وكلّ ذلك خاضع إلى قدرة محدودة وفراسة محددة ، فمن ثمّ تكون النتائج ظنّية ، ويأتي اللاحق ويكشف خطأ السابق.

ونظير ذلك : ما في علم الرياضيات ; فبما أنّ قدرة المختصّ الخبير بمعادلات ونظريات وقواعد ذلك العلم تظلّ محدودة ، فإنّ قدراتهم على حلّ المجهولات تبقى محدودة أيضاً ، وكم من مجهول لم يتمكّنوا من الوصول إليه بسبب عدم انبساط‍ قدرتهم في استقصاء القواعد ، واستحضارها بمناسباتها وتناسباتها ، وترتيب ائتلافها للوصول للنتيجة؟!

وهذا بخلاف العلم الوحياني ; فإنّه يحيط‍ بكلّ ذلك ، وبكلّ تناسبات التراكيب ، ومعادلات الصياغات للدلالات ، وإلى ما لا يحصيه إلاّ الباري تعالى من الوجوه والفروض ، فيطلعه بالتسديد والإلهام الوحياني إلى نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأوصيائه الوارثين لدنّياً علمه.

تعدّد الحُكم عند أصحاب الوحي :

تاسعاً : ما استدلّوا به من قصّة داود وسليمان (عليهما السلام) ; إذ قال تعالى : (فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً) ؛ فاستظهروا أُن حكمهما كان من طريق الاجتهاد ، ولأنّ حكمهما لو كان بالنصّ لَما اختصّ سليمان بالفهم!!

ولا غرابة في استظهارهم هذا المعنى من الآية ; بعد متاركتهم للثقل الثاني : عترة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، الّذين أُمروا بالتمسّك به مع الثقل الأوّل : القرآن الكريم ، وبما أنّهما لا يفترقان وهما معاً ، فمتاركة أحدهما متاركة للآخر ..

فمفاد الآية أجنبي عمّا راموه ; قال تعالى : (وَدٰاوُدَ وَسُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّٰا لِحُكْمِهِمْ شٰاهِدِينَ * فَفَهَّمْنٰاهٰا سُلَيْمٰانَ وَكُلاًّ آتَيْنٰا حُكْماً وَعِلْماً).

فقد أشير في روايات أهل البيت (عليهم السلام) إلى أن التعبير القرآني هو بهذه الصورة إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي الْحَرْثِ بنحو فعل المضارع لا بالماضي ، أي : لم يقع ويتحقّق حُكمين منهما فيقال : إذ حكما ، بل كانا يتناظران ويتفاوضان في مقدّمات القضاء والحكم ، فلم يصدر منهما حكم مختلف ; إذ لا اختلاف في حكم السماء.

كما أنّ التعبير في ذيل الآية هو وَكُنّٰا لِحُكْمِهِمْ شٰاهِدِينَ بصورة ضمير الجمع لا بضمير التثنية ، ممّا يدلّل على أنّ في مجلس القضاء كان هناك أُناس آخرون قد حكموا بخلاف حكم سليمان.

فمسرح الحدث في ما تستعرضه الآية في ظاهرها متوافق مع ما ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) من الإشارة إلى ألفاظ‍ الآية من أنّ : الحكم في الحرث الذي نفشت فيه الغنم عند الأنبياء ـ في ما أُوحى إليهم ـ قبل داود هو أن يُقضى لصاحب الحرث برقاب الغنم ، إلاّ أنّ هذا الحكم كان قد قدّر الله تعالى نسخه ، وقدّر أن يُظهر لعلماء بني إسرائيل في ذلك المجلس أنّ وصيّ داود (ع) هو سليمان (ع) ، فأوحى الله تعالى لداود أن : اجمع ولدك ، فمَن قضى بهذه القضية فأصاب فهو وصيّك من بعدك. وكان تعالى قد أطلع داود بالنسخ ، كما أنّه تعالى أوحى إلى سليمان بالحكم الناسخ ، وهو : أنّ لصاحب الحرث ما خرج من بطون الغنم ، وهو خلاف الحكم المنسوخ الذي حكم به علماء بني إسرائيل في ذلك المجلس.

ففي الرواية عن الباقر والصادق (عليهما السلام) : ((إنّ داود قال لسليمان : فكيف لم تقضِ برقاب الغنم ، وقد قوّم ذلك علماء بني إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم؟!

فقال سليمان : إنّ الكرم لم يُجتثّ من أصله وإنّما أُكِل حمله ، وهو عائد في قابل))(١).

وقد جرت السنّة بعد سليمان بحكمه.

ويشير قوله تعالى : (وَلَمّٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنٰاهُ حُكْماً وَعِلْماً) إلى كلّ من : الحكم المنسوخ

__________________

(١) لاحظ‍ : تفسير البرهان ، ونور الثقلين ، في ذيل الآية ٧٩ من سورة الأنبياء ; في ما أخرجاه من أُصول الكافي ، وغيره من الأحاديث.

لدى داود (عليه‌السلام) من قبل ، والحكم الناسخ لدى سليمان ، والذي أطلعه تعالى داود أيضاً.

ورغم هذا كلّه ; فإنّ الله تعالى قد وصف ـ في الآية اللاحقة ـ كلاًّ من الحُكمين والعِلمين لداود وسليمان أنّهما : إيتائي ، لا كسبي بجَوَلان الفكر ، والتعبير ب‍ ـ : ((فهّمْناها)) أيضاً أسند الفاعلية إليه تعالى ، لا إلى سليمان نفسه.

المشورة من صاحب الوحي :

عاشراً : ما استدلّوا به من أمره تعالى : وَشٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ، وأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) شاور أصحابه في كثير من الأُمور التي تتعلّق بالدين ، من أمر الحروب وغيرها. وأن ذلك في ما كان الحكم بغير الوحي.

ووهنه بادي بأدنى تدبّر ; إذ أنّ تمام الآية : (فَبِمٰا رَحْمَةٍ مِنَ اللّٰهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ‍ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ..

وهي في سياق الآيات الواردة في معركة أُحد ، التي عصى فيها بعض المسلمين أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في لزوم الجبل ، وهم الرماة ، كما عصى جلّهم حرمة الفرار من المعركة ، وجماعة انقلبوا على أعقابهم إلى دين الجاهلية لمّا سمعوا ما قد أشاعه كفّار قريش من قتل النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وتشير إلى كلّ ذلك الآيات السابقة : (وَمٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ) (١).

وقوله تعالى : (حَتّٰى إِذٰا فَشِلْتُمْ وَتَنٰازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مٰا أَرٰاكُمْ مٰا تُحِبُّونَ...) (٢).

و : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاٰ تَلْوُونَ عَلىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرٰاكُمْ فَأَثٰابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاٰ تَحْزَنُوا ...) (٣).

__________________

(١) سورة آل عمران ١٤٤ : ٣.

(٢) سورة آل عمران ١٥٢ : ٣.

(٣) سورة آل عمران ١٥٣ : ٣.

وهناك تصرّف رابع سُجّل على طائفة منهم : وَ (طٰائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّٰهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجٰاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنٰا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّٰهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مٰا لاٰ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كٰانَ لَنٰا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ مٰا قُتِلْنٰا هٰاهُنٰا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلىٰ مَضٰاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّٰهُ مٰا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مٰا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّٰهُ عَلِيمٌ بِذٰاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعٰانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطٰانُ بِبَعْضِ مٰا كَسَبُوا) (١).

ثمّ تتّصل الآية : وَشٰاوِرْهُمْ عقب ذلك ..

فسياق الآيات وألفاظ‍ هذه الآية كلّ ذلك في جوّ عصيان وتمرّد على أوامر الله ورسوله ، بل في الآيات اللاحقة تتضمّن اتّهام بعضهم النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما يشير قوله تعالى : (وَمٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ) (٢).

ولا تفتر الآيات في تقريع جماعات عديدة من المسلمين من أهل أُحد : (أَوَلَمّٰا أَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهٰا قُلْتُمْ أَنّٰى هٰذٰا ... وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نٰافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعٰالَوْا قٰاتِلُوا ... الَّذِينَ قٰالُوا لِإِخْوٰانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطٰاعُونٰا مٰا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ) (٣).

و : (مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(٤).

فمن ثمّ صُدّرت هذه الآية بمدح الله تعالى لنبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على اللين معهم ، ثمّ الأمر بالعفو والتجاوز عن أخطائهم وعصيانهم وتمرّدهم ، والاستغفار لهم ، ثمّ يأتي الأمر : وَشٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ في سياق ذلك ، أي : في سياق تربية النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للمسلمين ، وتزكيته لهم ، وأنّ مشاورته لهم تصبّ ضمن برنامج التربية والتزكية والتعليم ; ولذلك عقّب تعالى بُعيد هذه الآية بقوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللّٰهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كٰانُوا

__________________

(١) سورة آل عمران ١٥٤ : ٣ و ١٥٥.

(٢) سورة آل عمران ١٦١ : ٣.

(٣) سورة آل عمران ١٦٥ : ٣ ـ ١٦٨.

(٤) سورة آل عمران ١٧٩ : ٣.

مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ) (١).

فمشاورته لهم تندرج في تزكيته وتعليمه لهم ; إذ أنّ المشورة تعني : الفحص عن المعلومات ، وملابسات الأشياء ، ووجوه الأُمور ، وهي عبارة عن التوصية بجمع المعلومات ، وتحريّ الوصول إلى الحقيقة والواقع من الجهات العديدة ، نظير : ((أعْلَم الناس مَن جمع علوم الناس إلى علمه)) (٢) و : أعْقَل الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله ..

أي : الاستشارة الخبروية ، لا تحكيم رأي الأكثرية بصفة الكثرة ، بل المدار : الصواب ، ولو كان عند واحد ذي خبرة عالية.

فهو (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يربّي المسلمين على سُنّة الاستشارة وتمحيص الرأي في أُمورهم وتدبيرهم ، مضافاً إلى ما في ذلك من جلب تفاعلهم مع الأحداث ، والقيام بالمسؤولية ، ولتمييز الناصح من الخاذل المتخاذل في العلن وأمام الناس ، ولتنكشف النوايا والخبايا ، ولتتكوّن بصيرة لدى القاعدة من عموم الناس.

كما في استشارته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أصحابه قبل واقعة بدر ، عندما أفلتت عير قريش ، فقام الأوّل وأظهر الخوف من قتال قريش ، فأجلسه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ قام الثاني فقال مثل صاحبه ، فأجلسه النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ثمّ قام المقداد وأظهر العزم على النصرة لقتال قريش ، فشكره النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ثمّ طلب المشورة أيضاً ليرى مدى همّة الأنصار ، فقام سعد بن معاذ فقال : كأنّك تريدنا؟! أي : الأنصار ; لأنّهم أكثر المسلمين حينئذ ، فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : نعم. فأظهر سعد العزم على النصرة ، فحثّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) حينها الناس على قتال قريش؟!

فيظهر من هذه المشورة من النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لمن كان معه أنّها لجملة من الأغراض التربوية التي تقدّم شرحها ، لا لأجل فحصه عن ما هو الصواب! كيف وقد أوحى الله تعالى إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنّ الظفر مقدّر له وللمسلمين في الحرب مع قريش؟!

__________________

(١) سورة آل عمران ١٦٤ : ٣.

(٢) المحاسن ١ / ٣٦٠ ح ٧٧٣ ، الأمالي ـ للشيخ الصدوق ـ : ٧٣ ضمن ح ٤١ ، معاني الأخبار : ١٩٥ ضمن ح ١.

ولا لأجل حاجة منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لحلومهم وعقولهم وخبراتهم! كيف وهو قد أُوحي إليه الكتاب المبين ، الذي لا يغادر مثقال ذرّة في السماوات والأرض ، ولا أصغر ولا أكبر من ذلك إلاّ فيه ، وهو المورّث لأهل بيته هذا الكتاب المكنون وفي اللوح المحفوظ؟!

وقد شكّك الطبري أنّه : كيف يؤمر النبيّ باتّباع الشورى مع أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) غنيّ عن المسلمين بالوحي(١)؟!

وذكر فوائد الشورى من : اقتداء الأُمّة به (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وتأليف قلوبهم ; ونقل ذلك عن : قتادة ، وابن إسحاق ، والربيع ، والضحّاك ، والحسن البصري.

وذكر الزمخشري في ذيل الآية أنّه : لئلاّ يثقل على العرب استبداده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرأي دونهم (٢).

وقد رووا عن النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنّه قال بعد نزول الآية : ((أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكن جعلها الله رحمة لأُمّتي ، مَن استشار منهم لم يُعدم رشداً ، ومَن تركها لم يُعدم غيّاً)) (٣).

ومفاد الحديث جامع في المعنى ، وما تقدّم كالشرح له.

وأمّا استشهادهم بما أراده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة عندما أراد أن يوقّع الصلح مع عيينة بن حصن والحارث بن عوف ، على أن يرجعا بمَن معهما عنه وعن أصحابه في معركة الأحزاب ـ الخندق ـ وأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعث إلى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فذكر لهما ذلك واستشارهما ، فقالا : يا رسول الله! أمراً نحبّه فنصنعه ، أم شيئاً أمرك الله به لا بُدّ لنا من العمل به ، أم شيئاً تصنعه لنا؟

قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلاّ لأنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كلّ جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.

__________________

(١) جامع البيان ـ الطبري ـ سورة آل عمران ج ٤ / ١٠١.

(٢) الكشّاف ٢٤٢/١.

(٣) الشورى بين النظرية والتطبيق : ٢٧ ـ ٣٠.

فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله! قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلاّ قرىً أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له ، وأعزّنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلاّ السيف ، حتّى يحكم الله بيننا وبينهم.

قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : فأنت وذلك.

فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ، ثمّ قال : يجهزوا علينا(١).

ففيه : إنّ كلامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صريح في كون ما أراده من الصلح هو لأجل التخفيف عن أهل المدينة ، وإزالة الحصار عن الأوس والخزرج ، وأراد امتحان عزيمة الأنصار ، ولذلك أطلع السعدين بذلك ، فلمّا رأى ثبات عزيمتهم ورباطة جأشهم استوثق من صبرهم ومجالدتهم ، فأوقف عملية التعاقد على الصلح.

ومن أجل أنّ مشاورته (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم تربيةً منه لهم ، قال تعالى في آخر الآية : فإذا عزمْتَ فتوكّلْ على الله ، فأسند تعالى العزم إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصّة دونهم ، ثمّ رتّب توكّله على الله تعريضاً بعدم اكتراثه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمخالفتهم ; إذ يرى (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بإراءة الله تعالى له الصواب في خلاف مرادهم.

ويشير إلى ذلك أيضاً : قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلٰكِنَّ اللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيٰانَ أُولٰئِكَ هُمُ الرّٰاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَنِعْمَةً وَاللّٰهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ؛ فها هو قوله تعالى ينبئ بأنّ رأيهم يوقعهم في العنت والمشقّة ، وأنّ شأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأمر بمقام وبوصف حمله لرسالة الله تعالى مُسدّد من قبَلِه تعالى.

القصور في معرفة الرسول قصور في معرفة حاكمية الله تعالى :

ولا استغراب في تقصيرهم في معرفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فإنّها راجعة إلى

__________________

(١) السيرة النبوّية لابن هاشم ٢٢٣/٢.

تقصيرهم في معرفة حاكمية الله تعالى ; فهم يقصرون حاكميّته على التشريع والتشريعات الكلّيّة ، دون أن يتصوّروا أنّ لله تعالى حاكميّة سياسية ، وتدبيرية ، وقضائية ، وعسكرية ، بل يصوّرون الخالق تعالى ناظراً غير متصرّف في النظام السياسي الاجتماعي ، وغاية ما في الباب أنّ الحاكم يكون بتشريع منه تعالى ، لكن لا دخالة له على نحو التفصيل.

وهذا بخلاف مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ; فإنّ معتقدهم : أنّ الحاكم السياسي في الرتبة الأُولى هو الباري عزّ اسمه ، حتّى في حكومة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما يستعرض سيرتها لنا القرآن الكريم ..

فإنّ موارد التشريع القضائي ، والعسكري ، والمالي ، والسياسي ، في آيات القرآن الكريم ليست أسباباً للنزول فقط‍ ، كما يقرأها مفسّرو أهل سُنّة الخلافة ، بل هي موارد تنفيذية قد حصل فيها إنفاذ حاكمية الله تعالى ووقع إجراء تطبيقي إلهي ، وتصرّف حكومي سياسي ، أو قضائي ، أو عسكري ، أو مالي ، أو غيرها في تلك الموارد ، أي أنّ حاكمية الله تعالى امتدّت من التشريع ، ولم تقتصر عليه إلى الحكم التنفيذي والقضائي والسياسي التطبيقي الإجرائي.

فأسباب النزول لآيات القرآن المتضمّنة للتشريع يجب أن لا تُقرأ كموارد مبيّنة للتشريع العام النازل في الآية فقط‍ ، بل يجب أن تُقرأ وتُفهم بمعنىً آخر أيضاً ، على أنّها موارد برز وتنزّل ونفّذ فيها حاكمية تطبيقية تفصيلية منه تعالى.

ففي حكومة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، في موارد المنعطفات الخطيرة ، يكون الحاكم الأوّل في شتّى مجالات الحكم التنفيذي هو الباري عزّ اسمه ، والحاكم الثاني هو الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وهذا هو الحال في حاكمية الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; فإنّها بأقسام وأنماط‍ متعدّدة مختلفة من الوحي الإلهامي ، أو التسديدي ، أو النفث في الروع أو التكليم ، أو التوسّم ، وغيرها ممّا سيأتي بعض الإشارة إليه ، وغاية ما في الباب أنّ بين أقسام الوحي تعدّد وتنوّع ، نظير : الفرق بين الوحي بالقرآن وبين الوحي بالحديث القدسي ، مع أنّ كلاهما وحي وكلام الله تعالى ، فكذلك هناك فرق بين الفريضة والسنّة في التشريع ، مع كون كلاًّ منهما من أقسام الوحي بالمعنى العام ، الشامل

للتسديد اللدنّي ونحوه.

وهكذا الحال في حكومة أمير المؤمنين (ع) ; فإنّ حاكمية سيّد الأوصياء بعد حاكمية الله ورسوله التنفيذية ، بتوسّط‍ ما يطلع (عليه‌السلام) عليه من إرادات الله تعالى ومشيئاته ، وإرادت الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من بعد ذلك.

فقصرهم عصمة الرسول في التبليغ للأحكام الشرعية ناشئ من قصرهم حاكمية الباري تعالى في التشريع دون التنفيذ ، وإلاّ لكان عليهم الإقرار بعصمته في التدبير السياسي ، وفي كلّ شؤون سيرته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ويكفيك شاهداً ـ إجمالاً ـ على ذلك ما مرّت الإشارة من أنّ أسباب النزول كما هي موارد شرح للتشريع الكلّي النازل في القرآن الكريم ، كذلك هي موارد لتدخّل الباري تعالى تفصيلاً وتنفيذاً ; فالتصرّف فيها كان بوحي من السماء ، كما هو الحال في غزوة بدر ، وصلح الحديبية ، وغيرها ممّا سيأتي الإشارة إليه.

الحادي عشر : استدلالهم بموارد من الآي التي فيها عتاب منه تعالى لنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنّه اعتراض منه عليه ، ممّا يقضي بأنّ الفعل في تلك الموارد لم يصدر بوحي ، بل استشهدوا أيضاً بموارد أُخرى من الآي تضمّنت العتاب لبقية الأنبياء (عليهم السلام) ..

منها : (عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).

و (عَبَسَ وَتَوَلّٰى * أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ).

و : (ومٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (١).

و : (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مٰا أَحَلَّ اللّٰهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضٰاتَ أَزْوٰاجِكَ وَاللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

و : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّٰهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّٰاسَ وَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ) (٣).

و : (وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدىٰ) (٤).

__________________

(١) سورة الأنفال ٦٧ : ٨.

(٢) سورة التحريم ١ : ٦٦.

(٣) سورة الأحزاب ٣٧ : ٣٣.

(٤) سورة الضحى ٧ : ٩٣.

و : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمٰا تَأَخَّرَ) (١).

و : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخٰاسِرِينَ) (٢).

و :(وَلَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٣).

و : (لَقَدْ تٰابَ اللّٰهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهٰاجِرِينَ وَالْأَنْصٰارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سٰاعَةِ الْعُسْرَةِ)(٤).

مع أنّ الآية الأخيرة في قراءة أهل البيت (عليهم السلام) : ((لقد تاب الله بالنبيّ على المهاجرين والأنصار ....)).

وغيرها من الموارد التي ربّما يموّهون بها ، مع وصف الباري تعالى لنبيّه : (مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَمٰا غَوىٰ * وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ * إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) ، فنفى عنه مطلق الضلال ، وهو يقتضي العصمة في العلم ، كما يقتضي العصمة في مقام العمل من المخالفة السهوية والخطأ ، كما أنّ نفي مطلق الغواية عنه يقتضي العصمة في مقام العمل عن المخالفة العمدية ; فهذان وصفان أوّلان ، ثمّ تلاهما تعالى بوصفين آخرين ، أحدهما : (مٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ) والآخر : (إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) ..

ونفي النطق عن الهوى مطلق في كلّ سلوكياته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولا يخصّ مقام التبليغ ، كما ادّعاه جملة من المفسّرين من دون شاهد ، مع كون الطبيعة في سياق النفي يفيد الإطلاق معضّداً ذلك بنفي مطلق الضلال ، ونفي مطلق الغواية ، في مطلق سلوكياته ، وسيرته ، وأفعاله ، وأقواله ، وتقريره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على صعيد الحكومة والتدبير ، وعلى صعيد تربية الأُمّة على سُنن الهدى والحقّ ، وتزكيتها بطريق الرشد والحكمة.

والوصف الرابع في سورة النجم هو : (إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) والضمير بحسب السياق مع الأوصاف الثلاثة المتقدّمة يعود إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فيكون مفاد الوصف : أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بتمامه وتمام شؤونه وحي يوحى ، نظير التعبير : ((زيد عدل)) ، وإعادة

__________________

(١) سورة الفتح ٢ : ٤٨.

(٢) سورة الزمر ٦٥ : ٣٩.

(٣) سورة الإسراء ٧٤ : ١٧.

(٤) سورة التوبة (براءة) ١١٧ : ٩.

الضمير إلى النطق من قبيل : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ) (١) لا يخدش في الظهور بعدما عرفت من عموم النطق لكلّ مقال منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، غاية الأمر : أنّ استناده إلى أنواع أقسام من الوحي ، لا خصوص الوحي التشريعي والتكليمي ; كي يقال : إنّ الوصف خاصّ بالتبليغ عن الله تعالى.

ونظير هذا ـ المفاد من إطلاق عصمته في كلّ شؤونه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ : قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٢) ؛ فإنّها شهادة من العظيم المتعال ، والخُلُق على أقسام ، كما ذكر الحكماء : أخلاق الإنسان في تدبير نفسه وصفاتها ، وأخلاق الإنسان في تدبير أُسرته، وهي الحكمة المنزلية المعاشية الخاصّة ، وأخلاق الإنسان في تدبير المجتمع البشري والنظام المدني الاجتماعي ، وهي الحكمة السياسية ، والآية في عموم الخُلُق ..

ثمّ وصفه الباري تعالى بأنّ هذا الخُلُق : عظيم ، مع أنّه تعالى وصف متاع كلّ الدنيا : (قُلْ مَتٰاعُ الدُّنْيٰا قَلِيلٌ) (٣).

وفي صحيح فضيل بن يسار ، قال : سمعت أبا عبد الله (عليه‌السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر : «إن الله عزّ وجلّ أدّب نبيّه فأحسن أدبه ، فلمّا أكمل له الأدب قال : (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ)

ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأُمّة ، ليسوس عباده ; فقال عزّ وجلّ : (وَمٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٤).

وإنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان مسدّداً موفّقاً مؤيّداً بروح القدس ، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق ، فتأدّب بآداب الله ..

ثمّ إنّ الله عزّ وجلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، عشر ركعات ، فأضاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة ، فصارت عديل الفريضة ، لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر ،

__________________

(١) سورة المائدة ٨ : ٥.

(٢) سورة القلم ٤ : ٦٨.

(٣) سورة النساء ٧٧ : ٤.

(٤) سورة الحشر ٧ : ٥٩.

فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك كلّه ، فصارت الفريضة سبع عشر ركعة ..

ثمّ سنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النوافل أربعاً وثلاثين ركعة ، مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك.

والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة ، منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعدّ بركعة مكان الوتر.

وفرض الله عزّ وجلّ في السنة صوم شهر رمضان ، وسنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صوم شعبان وثلاثة أيام في كلّ شهر ، مثلي الفريضة ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك.

وحرّم الله عزّ وجلّ الخمر بعينها ، وحرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المسكر من كلّ شراب ، فأجاز الله عزّ وجلّ له ذلك.

وعاف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أشياء وكرهها ، ولم ينه عنها نهي حرام ، إنّما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثمّ رخّص فيها ، فصار الأخذ برخصته واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه.

ولم يرخّص لهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في ما نهاهم عنه نهي حرام ، ولا في ما أمر به أمر فرض لازم ، فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام ، لم يرخّص فيه لأحد ، ولم يرخّص رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمّهما إلى فرض الله عزّ وجلّ ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلاّ للمسافر ، وليس لأحد أن يرخّص شيئاً ما لم يرخّصه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

فوافق أمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر الله عزّ وجلّ ، ونهيه نهي الله عزّ وجلّ ، ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى (١).

فبيّن (عليه‌السلام) أنّ سُنّة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في سيرته وقوله وفعله وتقريره أيضا بالوحي التسديدي والتأييدي بروح القدس ; ولأجل ذلك وصفه الباري بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : على خُلُق عظيم ، وأعطاه صلاحية التشريع بتبع التشريع الإلهي ، وأنّ الاختلاف بين

__________________

(١) أصول الكافي ٢٦٦/١.

الفريضة الإلهية والسنّة النبوية راجع إلى الاختلاف في أنماط‍ الوحي ودرجاته.

وممّا يفيد إطلاق عصمته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيٰاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتٰابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ *وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّٰا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *ذٰلِكَ فَضْلُ اللّٰهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشٰاءُ وَاللّٰهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١).

فنرى أنّه تعالى يصف بعثة الرسول وأدواره في إبلاغ الكتاب وتلاوته حقّ التلاوة ، وهي إقامته على حدوده لا مجرّد قراءته الصوتية.

وفي تزكيته للأُمّة إلى يوم القيامة وللنظام الاجتماعي للمسلمين.

وتعليمه للأُمّة الكتاب ، وهو لا يقتصر على أصوات الألفاظ‍ ; لأنّ ما وراء إبلاغ الألفاظ‍ هو تعليم تمام درجات علوم الكتاب ، وتأويله ، ولو بواسطة نصب أوصياء هداة لهذه الأُمّة من بعده يواصلون ويستمرّون في أداء دوره.

وتعليمه للأُمّة الحكمة ، وهي ما يرتبط‍ بتدبير الإنسان لنفسه وأُسرته ، وبتدبير النظام السياسي الاجتماعي ، والتزكية والتعليم للحكمة يرتبط‍ ذاتياً بالتدبير والسيرة في إدارة الأُمّة.

وقد وصف الباري تعالى ذلك كلّه ب‍ ـ : الفضل ، بل جعله : العظيم ، في مقابل الضلال الذي كانت قريش تعيش فيه.

وقد مرّت الإشارة إلى دلالة آيتي الردّ عند التنازع ، أو مجيء أمر من الأمن والخوف على عصمته في التدبير والحكم ، وغيرها من الآيات.

ثمّ إنّ خطاب العتاب في الاستعمال القرآني الموجّه للأنبياء (عليهم السلام) ، أو للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) محمول على عدّة وجوه :

* الأوّل : على قاعدة : ((حسنات الأبرار سيئات المقرّبين)) ، وأنّه ينبغي على

__________________

(١) سورة الجمعة ٢ : ٦٢ ـ ٤.

المقرّب درجات من الطاعة الفائقة العالية ، ودقائق من الإخلاص ما لا يكلّف بها المتّقون الأبرار ، وذلك لعلوّ مقامات المقرّبين ودقّة محاسبتهم على خفايا السر وترك الأوْلى ، بل إنّ بين المقرّبين والأنبياء تفاوت في كيفية المحاسبة ، بحسب درجاتهم في الفضل ، واشتداد الكمال.

ولنتأمّل لذلك مثالا : فإنّ في المدرسة التعليمية يتوقّع المدير والمعلّم من أذكياء الطلاّب ونوابغهم ما لا يتوقّع من أوساطهم ; فإنّ الذكي النابغة إذا لم يأت في الامتحان بمعدّل فوق الامتياز بدون تعليل ، فإنّه يعاتب ويسائل ، مع عدم مساءلة ومحاسبة أوساط‍ الطلاّب مع توفّرهم على معدّل متوسّط‍ يحقّق أدنى المستوى الموجب لعدم الرسوب في الامتحان.

وليست تلك المفارقة إلاّ لأنّ الكامل ينبغي له الرقي في المعالي ، ومن ثمّ ورد عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((أعظم الناس بلاء الأنبياء ، ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس)) (١).

وفي رواية أُخرى : ((ثمّ الصالحون ، ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس)). وعلى هذا ; فسيرة الأنبياء لا تتخطّى الهدى والصواب ، غاية الأمر : الهداية على درجات ; كما يشير إليه قوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللّٰهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (٢).

وقال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٣)

و : (وَصَدَقَ اللّٰهُ وَرَسُولُهُ وَمٰا زٰادَهُمْ إِلاّٰ إِيمٰاناً وَتَسْلِيماً) (٤)

و : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنىٰ وَزِيٰادَةٌ) (٥)

و :(لِيَجْزِيَهُمُ اللّٰهُ أَحْسَنَ مٰا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) (٦)

و :(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقٰانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) (٧)

__________________

(١) بحار الأنوار ١٢/ ٣٤٨.

(٢) سورة مريم ٧٦ : ١٩.

(٣) سورة طه ١١٤ : ٢٠.

(٤) سورة الأحزاب ٢٢ : ٣٣.

(٥) سورة يونس ٢٦ : ١٠.

(٦) سورة النور ٣٨ : ٢٤.

(٧)سورة الإسراء ١٠٩ : ١٧.

و : (يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَاغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ) (١)

وغيرها من الموارد ، التي يبيّن القرآن أنّ الفضائل والمحاسن ذات درجات واشتداد وزيادة ، من : الهدى ، والعلم ، والإيمان ، والتسليم ، والإحسان ، والفضل ، والخشوع ، والنور ، وغيرها.

وعلى هذا ؛ فجملة من خطاب العتاب للأنبياء (عليهم السلام) هو من هذا القبيل ، لا من الوقوع في المعصية المعهودة في باب حدود التكليف الشرعي العام ، والسرّ في ورود جملة من هذه الموارد في الكتاب هو لكي لا يقع انبهار بعصمة الرسل فيوجب الغلوّ بتأليههم.

* الثاني : إنّ المرسلين حيث أنّهم أولياء أُممهم ، فالوليّ مسؤول عن المولى عليه ، والإمام من قبله تعالى مسؤول ويساءل عن رعيّته ، وهذا أمر عقلي وجداني ، بل إن الرئيس ليسوؤه وزر رعيّته وإن لم يكن مقصّراً في أداء مهمّته ، لا بمعنى أنّه يكون موزوراً ، بل من باب ما يشير إليه قوله (عليه‌السلام) في دعاء أبي حمزة الثمالي : ((إلهي! إن أدخلتني النار ففي ذلك سرور عدوّك ، وإن أدخلتني الجنّة ففي ذلك سرور نبيّك ، وأنا والله أعلم أن سرور نبيّك أحبّ إليك من سرور عدوّك)).

ويشير إلى ذلك : قوله تعالى : (وَإِذْ قٰالَ اللّٰهُ يٰا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّٰهِ قٰالَ سُبْحٰانَكَ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مٰا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِي وَلاٰ أَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ الْغُيُوبِ * مٰا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّٰ مٰا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّٰهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبٰادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢).

ففي الآية إخبار بوقوع مساءلة النبيّ عيسى (ع) عن انحراف النصارى وهو تأليههم لعيسى وأُمّه (عليهما السلام) ، مع أنّ النبيّ عيسى (ع) من أُولي العزم من الرسل ، ولم يقصّر في إنذار أتباعه عمّا نهى الله تعالى ، وهو تعالى عالم ببراءة نبيّه عن انحراف أُمّته ، لكن باعتبار كون الأُمّة تحت مسؤولية نبيّها. كما تشير الآية : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ

__________________

(١) سورة التحريم ٨ : ٦٦.

(٢) سورة المائدة ١١٦ : ٥ ـ ١١٨.

رَسُولٌ فَإِذٰا جٰاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ‍ وَهُمْ لاٰ يُظْلَمُونَ) (١) إلى أنّ محاسبة كلّ أُمّة في المعاد إنّما تبدأ بحضور وإشراف رسول تلك الأُمّة.

ونظير ذلك : الآية الأُخرى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ) (٢).

وعلى هذا النمط‍ جملة من الخطابات الموجّهة إلى الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ممّا ظاهرها العتاب بأفعال أُمّته ، وهذا ما يراد من أنّ القرآن نزل ب‍ ـ : ((إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة)) (٣).

*الثالث : الخطأ في التأويل أو التفسير أو القراءة للآية ..

فإنّ في جملة من الموارد المدّعاة أنّها من العتاب والتأنيب هو من الاستظهار الخاطئ لمفاد الآيات ، أو التأويل للظهور بروايات موضوعة ، أو التشبّث بقراءة وترك القراءات الأُخرى الأصحّ.

وإلى جملة من ذلك يشير الإمام الرضا (ع) ، في ما روي عنه ، عندما قال له المأمون: يا ابن رسول الله! أليس من قولك :)) إنّ الأنبياء معصومون))؟! قال : ((بلى)) ، فأخذ المأمون يسأل عن جملة من الآيات المتشابهة الموهمة لخلاف ذلك ، منها : قول الله عزّ وجلّ : (فلمّا آتاهما صالحاً جعلا له شركاءَ في ما آتاهما) (٤).

فقال الرضا (ع) : ((إن حوّاء ولدت خمسمائة بطن ، في كلّ بطن ذكر وأُنثى ، وإنّ آدم وحواء عاهدا الله ودعواه قالا : (لئن آتيتنا صالحاً لنكوننّ من الشاكرين) (٥). فلمّا آتاهما صالحين من النسل ، خلْقاً سويّاً بريئاً من الزمانة والعاهة ، كان ما آتاهما صنفين : صنفاً ذكراناً ، وصنفاً إناثاً ، جعل الصنفان لله تعالى شركاء في ما آتاهما ، ولم يشكراه شكر أبويهما له عزّ وجلّ ; قال الله تعالى : (فَتَعٰالَى اللّٰهُ عَمّٰا يُشْرِكُونَ) (٦).

فقال المأمون : أشهد أنّك ابن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حقّاً ...

وقال (ع) في قوله تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوىٰ) ، يقول : ألم يجدك وحيداً فآوى إليك الناس؟

__________________

(١) سورة يونس ٤٧ : ١٠.

(٢) سورة الإسراء ٧١ : ١٧.

(٣) بحار الانوار ٩/ ٢٢٢.

(٤) سورة الأعراف ١٩٠ : ٧.

(٥) سورة الأعراف ١٨٩ : ٧.

(٦) سورة الأعراف ١٩٠ : ٧.

(وَوَجَدَكَ ضَالاًّ) يعني : عند قومك ، فَهَدىٰ أي : هداهم إلى معرفتك؟

ووجدك عائلا فأغنى ، يقول : أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً؟ و ...

وفي قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمٰا تَأَخَّرَ) ، فقال (ع) ((لم يكن أحد عند مشركي أهل مّكة أعظم ذنباً من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; لأنّهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنماً ، فلما جاءهم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم وعظم ، وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلٰهاً وٰاحِداً إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ عُجٰابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلىٰ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هٰذٰا لَشَيْ ءٌ يُرٰادُ * مٰا سَمِعْنٰا بِهٰذٰا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هٰذٰا إِلاَّ اخْتِلاٰقٌ) (١).

فلمّا فتح الله عزّ وجلّ على نبيّه مكّة قال له : يا محمّد! : (إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمٰا تَأَخَّرَ) عند مشركي أهل مكّة بدعائك إيّاهم إلى توحيد الله في ما تقدّم وما تأخّر ; لأنّ مشركي مكّة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكّة ، ومن بقي منهم لا يقدر على إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم مغفوراً بظهوره عليهم)).

فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : عَفَا اللّٰهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.

فقال الرضا (ع) ((هذا ممّا نزل ب‍ ـ : (إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة) ، خاطب الله بذلك نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأراد به أُمّته ..

وكذلك قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخٰاسِرِينَ) ..

وقوله عزّ وجلّ : (لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

قال المأمون : صدقت يا بن رسول الله! فأخبرني عن قول الله عزّ وجلّ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّٰهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّٰهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّٰاسَ وَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ).

__________________

(١) سورة ص ٥ : ٣٨ ـ ٧.

قال الرضا (ع) : ((إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي في أمر أراده ، فرأى امرأته تغتسل ، فقال لها : (سبحان الذي خلقك) ، وإنّما أراد بذلك تنزيه الله عن قول من زعم : إنّ الملائكة بنات الله ، فقال الله : (أَفَأَصْفٰاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلاٰئِكَةِ إِنٰاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) (١) ، فقال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ لمّا رآها تغتسل ـ : (سبحان الذي خلقك) أن يتّخذ ولداً يحتاج إلى هذا التطهير والاغتسال.

فلمّا عاد زيد إلى منزله أخبرته امرأته بمجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله لها : سبحان الذي خلقك ، فلم يعلم زيد ما أراد بذلك ، وظنّ أنّه قال ذلك لِما أعجبه من حسنها ، فجاء إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول الله! إنّ امرأتي في خلقها سوء ، وإنّي أُريد طلاقها.

فقال له النبيّ : أمسك عليك زوجك ، واتّقِ الله.

وقد كان الله عرّفه عدد أزواجه ، وأنّ تلك المرأة منهن ، فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد ، وخشي الناس أن يقولوا : إنّ محمّداً يقول لمولاه : إنّ امرأتك ستكون لي زوجة ، فيعيبوه بذلك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِ) ، يعني بالإسلام ، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ، يعني بالعتق ، (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّٰهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّٰهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّٰاسَ وَاللّٰهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشٰاهُ).

ثمّ إنّ زيد بن حارثة طلّقها ، واعتدّت منه ، فزوّجها الله عزّ وجلّ من نبيّه محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأنزل بذلك قرآناً ; فقال عزّ وجلّ : (فَلَمّٰا قَضىٰ زَيْدٌ مِنْهٰا وَطَراً زَوَّجْنٰاكَهٰا لِكَيْ لاٰ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوٰاجِ أَدْعِيٰائِهِمْ إِذٰا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكٰانَ أَمْرُ اللّٰهِ مَفْعُولاً)(٢).

ثمّ علم الله عزّ وجلّ أنّ المنافقين سيعيبوه ; فأنزل الله : (مٰا كٰانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمٰا فَرَضَ اللّٰهُ لَهُ) (٣).

فقال المأمون : لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله ، وأوضحت لي ما كان

__________________

(١) سورة الإسراء ٤٠ : ١٧.

(٢) سورة الأحزاب ٣٧ : ٣٣.

(٣) سورة الأحزاب ٣٨ : ٣٣.

ملتبساً ، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً (١).

ونظير ذلك : ما روي عن الصادق (ع) : ((إنّ الله بعث نبيّه ب‍ ـ : إيّاكِ أعني واسمعي يا جارة)) (٢) ، ومثّل المفسّرون لذلك بموارد عديدة ، مثل : قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ) (٣).

وقوله تعالى : (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا طَلَّقْتُمُ النِّسٰاءَ) (٤).

و : (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّٰهَ وَلاٰ تُطِعِ الْكٰافِرِينَ) (٥).

و : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ).

و : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ) في شأن عيسى (ع).

و : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوٰاءَهُمْ) (٦).

و : (لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ) (٧).

إلى غير ذلك من الوجوه ، التي يطول المقام بذكرها ، إلاّ أنّ المتعيّن هو التمسّك بالمحكم وحمل المتشابه عليه.

ومن ذلك : تمسكهم بقوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلّٰى *أَنْ جٰاءَهُ الْأَعْمىٰ).

قال الطبرسي في مجمع البيان ، والسيّد المرتضى : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدلّ على أنّ المعني به غيره ; لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع الأعداء المباينين ، فضلا عن المؤمنين المسترشدين.

ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ، ويتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة ، ويؤيّد هذا القول : قوله سبحانه في وصفه (صلى الله عليه وآله وسلم) : (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) ، وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ‍ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي ٢٢٣/٢.

(٢) بحار الانوار ٢٢٢/٩.

(٣) سورة يونس : ٩٤ : ١٠.

(٤) سورة الطلاق ١ : ٦٥.

(٥) سورة الأحزاب ١ : ٣٣.

(٦) سورة البقرة ١٢٠ : ٢ و ١٤٥ ؛ سورة الرعد ٣٧ : ١٣.

(٧) سورة الإسراء ٢٢ : ١٧.

فالظاهر أنّ قوله : (عَبَسَ وَتَوَلّٰى) المراد به غيره ، وقد روي عن الصادق (ع) : ((إنّها نزلت في رجل من بني أُمية ، كان عند النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فجاء ابن أُمّ مكتوم ، فلمّا رآه تقذّر منه وجمع نفسه ، وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه))(١).

وروي أنّ العابس هو : عثمان (٢).

ثاني عشر : تمسّكهم بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((إنّكم لتختصمون إليّ ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض ، فمَن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه ، فإنّما أقطع له قطعة من النار)) ، وذلك يدلّ على أنّه يقضي بما لا يكون حقّاً في نفس الأمر.

ولا يخفى تمويه هذا الاستدلال على الحقيقة ..

* أوّلا : فإنّ تعبيرهم : ((يقضي بما لا يكون حقّاً في نفس الأمر)) يحمل في طياته شنيع الطعن على مقام النبوة ; فإنّ ميزان الحكم بالحقّ في باب القضاء هو كون الحكم القضائي قد صدر على الموازين المقرّرة من قبل الشريعة المقدّسة ، والحكم بالباطل هو الحكم الذي يصدر عن غير الموازين المقرّرة وإن أصاب الواقع ، كما في الحديث الشريف : ((القضاة أربعة ، ثلاثة في النار وواحد في الجنّة ... ورجل قضى وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة)) (٣).

* ثانياً : إن إصابة البينة للواقع ، أو موازين القضاء ـ من كيفية صورة النزاع بين الطرفين بحيث يصيغ أحدهما زعمه بصورة المنكر والآخر بصورة المدّعي ـ وعدم إصابتها ، لا ربط‍ له بحكم الحاكم والتشريع القضائي نفسه ، أو كون الحاكم ظانّ في حكمه ، أو وصوله للحكم القضائي ; هل هو عن طريق الاجتهاد والاستنتاج الظنّي ، أم هو عن طريق الإحاطة اليقينية اللدنية بجميع منظومة التشريعات الشرعية؟!

__________________

(١) مجمع البيان ٥/ ٤٣٧.

(٢) نور الثقلين ٥٠٨/٥.

(٣) وسائل الشيعة : أبواب صفات القاضي ، باب ٤ ح ٦.

فهل يتخيل أُولئك أنّ إدراك مَن له شهود روحي ملكوتي بكلّ المعادلات القانونية الشرعية للنتيجة ، هو عن طريق حركة الفكر من المبادئ في مخزون الذاكرة إلى المجهول المطلوب كشفه؟!

فإنّ حركة الفكر هي للمحجوب ، مع أنّه من المقرّر في الحكمة : إنّ حركة الفكر ليست علّة فاعلية لإدراك النتيجة ، إنّما هي إعداد لاستعطاء الإلهام من عوالم الغيب الإلهي ، فالذي يكون على ارتباط‍ دائم بالغيب كيف يُتصوّر احتياجه كغيره لحركة ذهنية إعدادية؟!

بل هو ملتحم روحاً مع تلك الأرواح الكلّيّة ، التي هي ألواح العلم الغيبي الإلهي.

* ثالثاً : إنّ موازين القضاء في جهة إصابتها للواقع وعدم إصابتها هي في المجال الموضوعي ، لا التشريع العام.

وحكمة تقرُّر العمل بها في الشريعة ما أُشير إليه في الحديث الشريف عنهم (عليهم السلام) : إنّ داود (ع) قال : يا ربّ! أرني الحقّ كما هو عندك ، حتّى أقضي به ، فقال : إنّك لا تطيق ذلك. فألحّ على ربّه حتّى فعل ، فجاء رجل يستعدي على رجل فقال : إنّ هذا أخذ مالي ، فأوحى الله إلى داود : إنّ هذا المستعدي قتل أبا هذا وأخذ ماله ، فأمر داود بالمستعدي فقتل وأخذ ماله ، فدفع إلى المستعدى عليه ، قال : فعجب الناس ، وتحدّثوا حتّى بلغ داود (ع) ، ودخل عليه من ذلك ما كره ، فدعا ربّه أن يرفع ذلك ، ففعل ، ثمّ أوحى الله إليه : أن احْكم بينهم بالبيّنات ، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به)) (١).

فالحديث الشريف يبيّن الحكمة في ظاهر الحكم على طبق موازين الفقهاء ، من حفظ‍ الحدود والنظم في علاقات الناس في ما بينهم ، فالظنّية في الميزان لا الظنّية في تعيين الميزان الظني المقرّر في الشرع ، وقد خلطوا بين الأمرين.

ثالث عشر : تشبّثهم بالحديث الشريف : ((العلماء ورثة الأنبياء)) ، وأنّ الاجتهاد لا بُدّ أن يكون موروثاً عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كي يصحّ انطباق الحديث عليهم ، فيقضى بحكمه بالاجتهاد.

__________________

(١) وسائل الشيعة : أبواب كيفية الحكم ، باب ١ ح ٢.

والخبط‍ واقع في نقاط‍ :

* الأُولى : تفسيرهم العلماء ب‍ ـ : المجتهدين ، مع أنّ معنى اللفظة ينطبق على الأوصياء ، الّذين اصطفوا للإمامة ، ويقومون مقام الأنبياء ..

وكذلك معنى الوراثة ; فإنّه ينطبق أيضاً على ما يعمّ الوراثة اللدنّية ، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتٰابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا) (١).

* الثانية : لو فرض إرادة علماء العلم الاكتسابي ، فليس وراثتهم للأنبياء من ناحية قصور المجتهدين عن الوصول إلى اليقين ; كي يقال : إنّ قصورهم ورثوه من قصور الأنبياء ، والعياذ بالله تعالى ، بل من ناحية ما تركه الأنبياء من الأحاديث والسنن ، وأنّه مَن أخذ بها فقد أخذ بحظّ‍ وافر ..

وبعبارة أُخرى : إنّ منظومة العمومات والخصوصات وأُصول القواعد وتفريعاتها تنتظم في منظومة ذات مدارج بترابط‍ عضوي معادلي ، نظير : القواعد الرياضية والهندسية ; فإنّ قصور علماء الرياضيات والهندسة عن الإحاطة بتلك المنظومة وترامياتها واتّساع دوائرها وآفاق مداها لا يعني عدم إتقان تلك المنظومة ، المؤثّرة على كلّ سنن الطبيعة المادية ، وحلّ كلّ المجهولات ، كذلك الحال في منظومة الشريعة ; فإنّ قصور المجتهدين والفقهاء لا ينسحب على منظومة الشريعة ، التي أورثها الأنبياء (عليهم السلام).

ومن ذلك يظهر جملة فروق أُخرى بين مقام النبوّة والمجتهدين :

أوّلا : فإنّ النبوّة لا تدرك الأحكام بنحو الانتقال الفكري الذهني من قاعدة إلى أُخرى ، أو من أصل إلى تفريع ، كما يحدث لدى المجتهد ، بل النبوّة تحيط‍ بكلّ تلك المنظومة على نسق واحد

ثانياً : وعلى ضوء الفرق السابق ; لا مجال للخطأ في العلم النبوي بالأحكام ، بخلاف المجتهد ; فمَن لا يحيط‍ بالمنظومة لا يحيط‍ بكلّ ما له ارتباط‍ بحكم المسألة ، التي يسعى لاستنباط‍ الحكم فيها ، ومن ثمّ لا يستيقن بالنتيجة والاستنتاج .

__________________

(١) سورة فاطر ٣٢ : ٣٥.

ثالثاً : إنّ المجتهد إنّما يدرك الأحكام من وراء حجاب دلالة الألفاظ‍ ، وما يرافق ذلك من مراحل وعقبات ، حتّى يصل إلى الحكم والإرادة التشريعية ، وهذا بخلاف مقام الوحي النبويّ ، الذي تتنزّل عليه الإرادات الإلهية ، ومن ثمّ يسمّى : ((المجتهد)) مجتهداً ; لبذله الجهد والسعي الفكري كي يرفع حجاب الجهل عن نفسه.

قريش وسياسة الاختراق

عندما بدأ نجم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في البزوغ في أوائل البعثة ، وبدأت قريش في المواجهة والصدام مع الدعوة الجديدة ، احتملت قريش بل تشاءمت عبر الكهنة أن تكون هي الخاسرة ، وأنّه سيكون للنبيّ الهاشميّ قدرة استيلاء على قبائل العرب والبلدان ، وتدين لقدرته الأقوام ، فبدأت تخطّط‍ للتغلغل والنفوذ في القدرة الجديدة ; كما تستولي على مقدّرات الأُمور ولا تفقد سيطرتها السابقة.

فاتّخذت أُسلوب حرب جديدة خفيّة اختراقيّة تسلّليّة عبر صفوف المسلمين ، موازية للحرب العلنيّة ، وقد أنبأ تعالى نبيّه بأنّ قريشاً حقّ القول عليها أنّ أكثرهم لن يؤمن بقلبه ; قال تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ .... لِتُنْذِرَ قَوْماً مٰا أُنْذِرَ آبٰاؤُهُمْ فَهُمْ غٰافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ) (١) ، أي : بقلوبهم وإن أقرّوا بلسانهم.

في حين أنّه تعالى كشف عن وجود مخطّطهم الجديد في رابع سورة نزلت على الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهي سورة المدثّر ـ كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في أوائل حلقات هذا البحث ـ وهو قوله تعالى : (ومٰا جَعَلْنٰا أَصْحٰابَ النّٰارِ إِلاّٰ مَلاٰئِكَةً وَمٰا جَعَلْنٰا عِدَّتَهُمْ إِلاّٰ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَيَزْدٰادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمٰاناً وَلاٰ يَرْتٰابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكٰافِرُونَ مٰا ذٰا أَرٰادَ اللّٰهُ بِهٰذٰا مَثَلاً كَذٰلِكَ يُضِلُّ اللّٰهُ مَنْ يَشٰاءُ) (٢).

فذكر تعالى أنّ هناك في أوائل البعثة أربعة أصناف وطوائف : الّذين آمنوا ، والّذين أُوتوا الكتاب ، والّذين في قلوبهم مرض ، والكافرون.

وجعل الّذين في قلوبهم مرض في مصاف الكافرين ، وتعبير القرآن بأنّ في قلوبهم مرض أي يبطنون المرض ولا يظهرونه ، ومن ثمّ لم يندرجوا بحسب الظاهر

__________________

(١) سورة يس ١ : ٣٦ ـ ٧.

(٢) سورة المهدثر ٣١ : ٧٤.

في طائفة الكافرين ، كما لا يندرجون في طائفة الّذين آمنوا بقلوبهم.

وهذا الأُسلوب الجديد الذي اعتمدته قريش في الحرب والمواجهة مع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان لضمان الوصول إلى مركز القدرة ، ويشير إلى ذلك أمير المؤمنين (ع) في ما روي بسند متّصل عن ابن عبّاس ، قال : ((كنت أتتبّع غضب أمير المؤمنين (ع) إذا ذكر شيئاً أو هاجه خبر ، فلمّا كان ذات يوم كتب إليه بعض شيعته من الشام ، يذكر في كتابه : أنّ معاوية وعمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان والوليد بن عقبة ومروان ، اجتمعوا عند معاوية ، فذكروا أمير المؤمنين فعابوه ، وألقوا في أفواه الناس أنّه ينتقص أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويذكر كلّ واحد منهم ما هو أهله ...

فقلت : ما لك يا أمير المؤمنين الليلة؟.

فقال : .. ها أنا ذا ـ كما ترى ـ مذ أوّل الليل اعتراني الفكر والسهر لما تقدّم من نقض عهد أوّل هذه الأُمّة المقدّر عليها نقض عهدها ، إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر مَن أمر من أصحابه بالسلام علَيّ في حياته بإمرة المؤمنين ، فكنت أُؤكّد أن أكون كذلك بعد وفاته ...

فمضى مَن مضى قال علَيّ بضغن القلوب ، وأورثها الحقد علَيّ ، وما ذاك إلاّ من أجل طاعته في قتل الأقارب مشركين ، فامتلوا غيظاً واعتراضاً ، ولو صبروا في ذات الله لكان خيراً لهم ...

يا ابن عبّاس! ويل لمَن ظلمني ودفع حقّي وأذهب عظيم منزلتي ، أين كانوا أولئك وأنا أُصلّي مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صغيراً لم يكتب علَيّ صلاة ، وهم عبدة الأوثان ، وعصاة الرحمن ، وبهم توقد النيران.

فلمّا قرب إصعار الخدود ، وإتعاس الجدود ، أسلموا كرهاً ، وأبطنوا غير ما أظهروا ; طمعاً في أن يطفئوا نور الله ، وتربّصوا انقضاء أمر الرسول وفناء مدّته ، لمّا أطمعوا أنفسهم في قتله ، ومشورتهم في دار ندوتهم.

قال تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّٰهُ وَاللّٰهُ خَيْرُ الْمٰاكِرِينَ) (١). وقال تعالى : (يُرِيدُونَ

__________________

(١) سورة ال عمران ٣١.

أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكٰافِرُونَ) (١).

يا ابن عبّاس! ندبهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حياته بوحي من الله ، يأمرهم بموالاتي ، فحمل القوم ما حملهم ممّا حقد على أبينا آدم من حسد اللعين له ، فخرج من روح الله ورضوانه ، وألزم اللعنة لحسده لولي الله ، وما ذاك بضارّي إن شاء الله شيئاً.

يا ابن عبّاس! أراد كلّ امرئ أن يكون رأساً مطاعاً ، يميل إليه الدنيا وإلى أقاربه ، فحمله هواه ولذّة دنياه واتّباع الناس إليه أن يغصب ما جعل لي ، ولولا اتّقائي على الثقل الأصغر أن يُنبذ فينقطع ، شجرة العلم ، وزهرة الدنيا ، وحبل الله المتين ، وحصنه الأمين ، ولد رسول ربّ العالمين ، لكان طلب الموت والخروج إلى الله عزّ وجلّ ألذّ عندي من شربة ظمآن ، ونوم وسنان)) (٢).

فبيّن (ع) أنّ قريشاً لمّا قرب إصعار الخدود وإتعاس الجدود ، أي علموا بهزيمتهم في حربهم ومواجهتهم لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) طمعوا في الاختراق والنفوذ ; للاستيلاء على مقدّرات الأُمور بعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ومن ثمّ حاولوا عدّة مرّات قتل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كما في رجوعه من تبوك في العقبة وغيرها.

واتّخذت قريش أساليب متعدّدة للحرب الجديدة والأُسلوب المتطوّر مع الزيّ الحديث لبيئة الناس ، وهي المواجهة من خلال أدوات هذا الدين الجديد لضرب شخصيّة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبني هاشم ، وذلك عبر الإزراء بشخصيّة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والحطّ‍ من قدره ، والتنزيل من عظمته ، وإثارة الشكوك حول عصمته ، والنيل من حكمته ، والطعن في هديه وسيرته ، وفي المقابل أخذوا يصنعون ويبنون لأنفسهم رموزاً ينسجون لها ألبسة يتطاولون فيها على مقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، لكن عبر أُسلوب ملتو ولحن القول ، ورفع شعار الحمية للدين ، تقديماً على الله ورسوله.

واستمرّت السياسة الجديدة لقريش بهذا الأُسلوب حتّى كتبت أقلام بني أُميّة سيرة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كتابة بأقلام مأجورة ملؤها الإزراء بشخصيّة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والتسافل بشؤون الوحي الإلهي ، والعبث بشأن الرسالة السماويّة ، وكذلك الحال في

__________________

(١) سورة التوبه ٣٢ : ٩.

(٢) بحار الأنوار ٥٥٢/٢٩ ـ ٥٥٤ ; ورواه ابن طاووس في اليقين : ٣٢١ ـ ٣٢٢.

ما كتبوا من أسباب نزول الآيات من الوقائع التي صاغوها لموارد النزول للآي ، حسبما هي نظرتهم تجاه الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأهل بيته ، من الازدراء المبطن ، والتعريض به وبهم (عليهم السلام).

ولو أراد المتتبّع رصد جميع ذلك لطال به الأمر إلى مجلّدات ، بل موسوعات ، ولما أتى على كلّ ما حاكوه ونسجوه لتشويه الحقيقة وسدل الستار على النور النبويّ والضياء العلويّ.

أزمة كتب السيرة وأسباب النزول :

والغريب مع كلّ ذلك اعتماد أكثر المفسّرين ـ حتّى الخاصّة ـ على كتب السيرة هذه وأسباب النزول ، التي استقى أصحابها من رواة تربطهم المصلحة النفعيّة بالبلاط‍ الأُموي والسلطة القرشيّة في السقيفة.

واللازم على كلّ باحث ـ يتحرّى الحقيقة في الدين وطريقة المذهب ـ أن يتيقّظ‍ إلى ما رسمه الحزب القرشي من حياكة وضيعة لصورة سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وما صاغوه من موارد أسباب النزول للآيات ، بزعم أنّها حقائق التنزيل للكتاب العزيز ، وما الكتاب الذي أسماه الجاحد المفتري سلمان رشدي ب‍ ـ : (آيات شيطانيّة) ، إلاّ حصيلة ما هو موجود في صحيح البخاري وصحيح مسلم وبقيّة صحاح أهل سُنّة جماعة الخلافة ، عن كيفيّة نزول الوحي وأحوال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقصّة الغرانيق في سورة الحجّ ، كما سلّط‍ الضوء على خطورة صنائع عائشة ، بل إنّ في الصحاح من ذلك ما هو أدهى وأطمّ.

وفي قبال ذلك ، اصطنعوا صور وأحوال لشخصيّات الصحابة ، تفوق شخصية سيّد الرسل (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الصفات والفضائل ، من الغيرة والحميّة على الدين ، في قائمة يطول مسلسل تعداد الموارد فيها.

بل هم يصيغون المشاققة والمحاددة لله ولرسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على أنّها غيرة وحميّة على الدين ، والتقديم بين يدي الله ورسوله على أنّه ثائرة لنصرة الدين ، والتمرّد والعصيان لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على أنّه شدّة في ذات الله!!

وعلى هذا المنطق لا بدّ من احتساب إبليس من المتنمّرين في توحيد الله ،

والمتصلّبين في دين الله وطاعته!

وعلى هذا المعدّل والمنهج ترى كلّ الكتب أُلّفت وجُمعت ; فاللازم على الباحث مراجعة آثار العترة الطاهرة من أهل بيت النبوّة ; إذ يجد المتتبّع أنّهم (عليهم السلام) يوضّحون الخطوط‍ العامّة والبنى الأساسيّة في سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، كما يطلعون المسترشد بهم على غوامض التنزيل للآيات القرآنيّة ، والأحداث المسطورة في الكتاب العزيز ، وما جرى من تلاعب بيد تيار الحزب القرشي في تزويرها ، وكتمان وتغيير حقائقها.

وفي الحقيقة إنّ هذه المحطّة ـ وهي البحث في السيرة وأسباب النزول ـ وإن لم يوليها كثير من الباحثين في التفسير والفقه والعقيدة عناية التمحيص والفحص والتتبّع ، واستقصاء الشواهد المزيلة لستار الإخفاء الممارس على حقائق مجرياتها ، إلاّ أنّها في غاية الخطورة والأهمّية ، لا سيّما وإنّ السيرة وأسباب النزول هي من العناصر الحسّاسة في تفسير الآيات ، وبالتالي من مكوّنات دلائل العقيدة وقواعد المعرفة الدينية.

ألا ترى إلى ما سبق ـ في الحلقة السابقة ـ من استعراض جملة من كلمات أعلام أهل سُنّة الجماعة ، كيف التزموا بأنّ أحكام النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هي اجتهادات تخطئ وتصيب ، وأنّ المخالفة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع التأوّل والاجتهاد المخالف محتمل للصواب؟!

فتراهم يبنون قاعدة بالغة الخطورة إلى الدرجة القصوى في الدين والعقيدة ، على مكوّنات الكتب المزبورة للسيرة وأسباب النزول ، والتي تتناقض مع محكمات الكتاب ، وتتهافت رواياتها في ما بينها عند المتأمّل البصير.

وهذه القاعدة تفتح لهم الطريق لتسويغ وتبرير التمرّد على النصّ في الخلافة والوصيّة.

ومن تلك الموارد التي خاضوا في مزايداتها بين عصمة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعدالة الصحابة:

الصلاة على موتى المنافقين

منها : قصّة الصلاة على جنائز المنافقين ، في قوله تعالى : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَلاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَرَسُولِهِ وَمٰاتُوا وَهُمْ فٰاسِقُونَ) (١).

قال السيوطي في الدرّ المنثور : ((أخرج البخاري ، ومسلم ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عمر ، قال : لمّا توفّي عبد الله بن أُبي بن سلول ، أتى ابنه عبد الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فقام عمر بن الخطّاب فأخذ بثوبه ، فقال : يا رسول الله! أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي على المنافقين؟!

فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إنّ ربّي خيّرني وقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ) (٢) وسأزيد على السبعين.

فقال : إنّه منافق.

فصلّى عليه ، فأنزل الله تعالى : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَلاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ) فترك الصلاة عليهم)) (٣).

وأخرج أيضاً : ((عن الطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن عبّاس : أنّ عبد الله بن عبد الله بن أُبي قال له أبوه : أي بني! اطلب لي ثوباً من ثياب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فكفّنّي فيه ، ومره أن يصلّي علَيّ.

قال : فأتاه ، فقال : يا رسول الله! قد عرفت شرف عبد الله ، وهو يطلب إليك ثوباً من ثيابك تكفّنه فيه ، وتصلّي عليه.

فقال عمر : يا رسول الله! قد عرفت عبد الله ونفاقه ، أتصلّي عليه وقد نهاك الله أن تصلّي عليه؟!

__________________

(١) سورة التوبة : (براءة) ٨٤ : ٩.

(٢) سورة التوبة : (براءة) ٨٠ : ٩.

(٣) الدرّ المنثور ٢٦٦/٣.

فقال : وأين؟!

فقال : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ).

قال : فإنّي سأزيد على سبعين

فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَلاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ) .. الآية ؛ فأرسل إلى عمر فأخبره بذلك ، وأنزل الله : (سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) (١) (٢).

وأخرج رواية أُخرى : ((أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كفّنه في قميصه ; فنزلت الآية ، قال : فذكروا القميص ، قال : وما يغني عنه قميصي؟ والله إنّي لأرجو أن يسلم به ألف من بني الخزرج ; فأنزل الله : (وَلاٰ تُعْجِبْكَ أَمْوٰالُهُمْ وَأَوْلاٰدُهُمْ) (٣) ... الآية (٤))).

وأخرج السيوطي في ذيل الآيات السابقة على آية : (لاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ) في قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّٰهِ وَرَسُولِهِ وَاللّٰهُ لاٰ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفٰاسِقِينَ) : ((عن أحمد ، والبخاري ، والترمذي ، والنسائي ، وابن أبي حاتم ، والنحّاس ، وابن حبّان ، وابن مردويه ، وأبو نعيم في الحلية ، عن ابن عبّاس ، قال : سمعت عمر يقول : لمّا توفّي عبد الله بن أُبي دُعي رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للصلاة عليه ، فقام عليه ، فلمّا وقف قلت : أعلى عدوّ الله عبد الله بن أُبي القائل كذا وكذا ، والقائل كذا وكذا؟! أُعدّد أيّامه ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يبتسم ..

حتّى إذا أكثرت قال : يا عمر! أخّر عنّي ، إنّي قد خيّرت ; قد قيل لي : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) ، فلو أعلم أنّي إن زدت على السبعين غفر له لزدت عليها.

ثمّ صلّى عليه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومشى معه حتّى قام على قبره ، حتّى فرغ منه ، فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والله ورسوله أعلم.

__________________

(١) سورة المنافقون ٦ : ٦٣.

(٢) الدرّ المنثور ٢٦٦/٣ ، الطبعة القديمة.

(٣) سورة التوبة (براءة) ٨٥ : ٩.

(٤) الدرّ المنثور ٢٦٦/٣ ، الطبعة القديمة.

فوالله ما كان يسيراً حتّى نزلت هاتان الآيتان : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَلاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ) فما صلّى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على منافق بعده حتّى قبضه الله عزّ وجلّ)) (١).

وأخرج السيوطي أيضاً : ((عن ابن أبي حاتم ، عن الشعبي : أنّ عمر ابن الخطّاب قال : لقد أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قطّ‍ ، أراد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن يصلّي على عبد الله بن أُبي فأخذت بثوبه فقلت : والله ما أمرك الله بهذا ، لقد قال الله : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ).

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : قد خيّرني ربّي.

فقعد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) على شفير القبر ، فجعل الناس يقولون لابنه : يا حبّاب! افعل كذا ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الحبّاب اسم شيطان ، أنت عبد الله (٢).

وحكى السيوطي عن السدي : أنّ الآية نسخت الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم (٣).

تدافع مضامين رواياتهم :

والروايات المزبورة لا تخلو من تقاطعات داخلية في المضمون ، بغضّ النظر عن عرضها على محكمات الكتاب والسُنّة :

* الأوّل : دعوى عمر سبق النهي الإلهي عن الصلاة على المنافقين جهالةٌ ممّن تمسّك بمتشابه ; ليعترض به على ما هو برهان بيّن ومحكم مبين ; لأنّ دلالة التسوية بين الاستغفار وعدمه ـ في الآية ـ على الحرمة ، ثمّ على انطباقها على فعل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، تتوقّف على مقدّمات ، وهذه المقدّمات كلّها غير تامّة ، بل ظنّية متشابهة ..

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢٦٦/٣ ، في ذيل الآيات المذكورة.

(٢) الدرّ المنثور ٣ / ٢٦٦.

(٣) الدرّ المنثور ، في ذيل الآيات المذكورة في المتن.

١ ـ استفادة الحرمة من مجرّد التسوية محلّ نظر ومنع ; فإنّه إخبار عن اللَغويّة وعدم الثمرة ، لا ثبوت المفسدة والحزازة.

نعم ، قد جاءت في آيات أُخرى وردت في النهي عن الاستغفار للكافرين المعادين لله تعالى ، نزلت في ما بعد ذلك.

٢ ـ إنّما تتحقّق اللَغويّة وعدم الجدوائيّة من الاستغفار فيما إذا كان الاستغفار مراداً بجدّية من الكلام ، وليس إذا كان مجرّد استعمال لفظي لا يراد معناه بالإرادة الجدّية ، بل يراد منه أمراً آخر ، كما في بعض تلك الروايات المتضمّنة : ((وما يُغني عنه قميصي ، والله إنّي لأرجو أن يسلم به أكثر من ألف من بني الخزرج)) ; فهو ليس باستغفار حقيقي ، بل صوري يراد به أمراً آخر.

ومضمون هذه الرواية يناقض ويكذّب دعوى نزول النهي عن الصلاة على موتى المنافقين لنسخ ما كان يفعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; لأنّ الاستغفار الصوري ليس صلاةً عليهم.

٣ ـ إنّ إيقاع هيئة الصلاة على المنافق لا تستلزم الدعاء له والاستغفار ، بل بالإمكان تضمّنها الدعاء على المنافق ولعنه في تلك الصلاة ; فتكون متضمّنة لكلّ من : التشهّد ، الصلاة على النبيّ وآله ، الدعاء للمؤمنين ، ثمّ الدعاء على المنافق ولعنه.

أو بالإمكان الاقتصار على التشهّد ، والصلاة على النبيّ وآله ، والدعاء للمؤمنين فقط‍ ، وإنهاء الصلاة بذلك ، والدعاء للمؤمنين لا يشمل المنافق ; لعدم تحقّق الوصف ، فلا ينطبق عليه كي يكون دعاءً له واستغفاراً ..

ففقه صلاة الجنازة لا يستلزم ولا يتضمّن بالضرورة الدعاء الاستغفار للميّت إذا كان منافقاً.

وهذه الهيئة من الصلاة على المنافق لم يتركها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى آخر حياته ، كما جاء في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، وهم أدرى بما في البيت ، ممّا يعطي أنّ مفاد قوله تعالى : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَلاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ) هو النهي عن الدعاء للمنافق والاستغفار له ، لا عن إقامة الصلاة عند جنازة المنافق خاليةً من الدعاء والاستغفار له ، متضمّنةً للتشهّد ، والدعاء للنبيّ وآله بالصلاة عليه وعليهم ، والدعاء للمؤمنين ، وهو غير شامل له ، فضلاً عمّا لو ضمّ إلى ذلك : الدعاء عليه ولعنه ..

وسيأتي استعراض روايات أهل بيت الطهارة والعصمة (عليهم السلام) في حقيقة هذه الواقعة.

عضال في مسألة معرفيّة :

فمع هذا الوصف من المقدّمات والجهات اللازم العلم والإحاطة بها ، كيف تسنّى لعمر مواجهة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، لا سيّما بهذا النحو من الرعونة والجلافة؟!

والطامّة الكبرى ، تحكيمه فهمه القاصر الظنّي بمتشابهات على هدي نبي الله الوحياني.

والمصيبة العظمى أنّ هذا ليس موقف عمر وحده ، بل موقف جمهور علماء أهل سُنّة الجماعة والخلافة ; فإنّهم يقفون تجاه هذه الواقعة موقف المخطّئ لنبيّ الله تعالى ، وأنّ الآية ناسخة لما فعله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ورادعة ، وأنّ الوحي طابق موقف عمر!

فهم يسوّغون لأنفسهم التمسّك بظواهر الكتاب حسب فهمهم ; للردّ على رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، بل والإنكار عليه والجرأة على مقامه ، وهذا يجعل لاجتهاد المجتهد وفقاهة الفقيه حجّية أعظم من حجّية صاحب الرسالة ، وهو سيّد الرسل ، وهو نظير ما تبنّته اليهود في موقفها مع النبيّ موسى (ع) من الإنكار عليه.

وعلى هذا الأساس فهم يحكّمون ظواهر الآيات القرآنيّة ـ وإن لم تصل دلالتها إلى درجة القطع واليقين ـ على محكمات وقطعيّات السُنّة النبويّة ، وهو من تحكيم المتشابه على المحكم.

فالكتاب الكريم قد تضمّن : اقتران طاعة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بطاعة الله تعالى في جميع آياته.

والنهي عن التقدّم بين يدي الله ورسوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

والأمر باتّباع الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، واتخاذه أُسوة حسنة.

والأمر بالأخذ بما أتانا ، والترك لما نهانا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ونفي الضلال والغواية عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

والمدح لخُلُقه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ؛ : (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١).

وأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أُرسل رحمةً للعالمين : (وَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّرَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ) (٢).

وأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يعمل ولا ينطق إلاّ عن وحي ، إمّا تسديدي ، أو تأييدي ، أو توفيقي ، أو تكليمي ، أو إيحائي ، أو غيرها من طرق وأنواع الوحي.

وأنّ الأُمّة لا يمكنها أن تستغني عن استغفاره وشفاعته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ; فالله تعالى لا يغفر لهذه الأُمّة ذنباً إلاّ بالتوسّل بالنبيّ والالتجاء إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وإلاّ بعد شفاعته ؛ قال تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جٰاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللّٰهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّٰهَ تَوّٰاباً رَحِيماً) (٣).

فاشترط‍ سبحانه مجيئهم للنبيّ أوّلاً ، وهو توسّلهم به ، ثمّ استغفارهم ، وهو ندمهم ، وليس ذلك بمجرّده توبة ، بل لا بدّ من استغفار الرسول لهم ، وهو شفاعته (صلى الله عليه وآله وسلم) لأُمّته; كي يتوب الباري تعالى على هذه الأُمّة.

وقد تقدّم دلالة : (وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ) (٤) على أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كتلة ملؤها الوحي سيرةً وقولاً وفعلاً وتقريراً : إِنْ هُوَ : أي بتمام وجوده ، والضمير عائد إلى النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بمقتضى السياق والجمل.

وأنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سيّد الأنبياء ; إذ لم يُبعث نبيّاً منهم بالنبوّة إلاّ بعد أخذ الميثاق عليه بالإقرار بنبوّة سيّد الأنبياء ، والالتزام بنصرته ، وغلّظ‍ على الأنبياء الإصر بالوفاء بهذا الالتزام: (وَإِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ لَمٰا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتٰابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمٰا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قٰالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِي قٰالُوا أَقْرَرْنٰا قٰالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّٰاهِدِينَ) (٥) ..

وغيرها من المقامات العظيمة.

فمع كلّ هذا ; كيف تمنّيهم عقولهم وأنفسهم أن يحكّموا أفهامهم الظنّية

__________________

(١) سورة القلم ٤ : ٦٨.

(٢) سورة الأنبياء ١٠٧ : ٢١.

(٣) سورة النساء ٦٤ : ٤.

(٤) سورة النجم ٣ : ٥٣ ، ٤.

(٥) سورة آل عمران ٨١ : ٣.

القاصرة على حكم الرسول الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وهذا الذي سوّلت لهم أنفسهم به قد جرّأهم ـ في ما بعد ـ على التمرّد على النصّ النبويّ في جملة من المنعطفات الخطيرة في مسيرة إرساء قواعد الدين.

* الثاني : إذا كان الوحي الإلهي في قوله تعالى : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مخطّئاً) لفعل النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والعياذ بالله تعالى ، ومقرّراً للتمرّد والعصيان عليه ومخالفته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فكيف يقول عمر : لقد أصبت في الإسلام هفوة ما أصبت مثلها قطّ‍ ; أراد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن يصلّي ...)؟!

فإذا كان هو الراوي للواقعة والحادثة ، ويزعم نزول الآية في تقريره على ما فعله مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فكيف تكون هذه هفوة ما أصاب مثلها قطّ‍ في الإسلام؟!

وكيف يجعلونها منقبة له ، وهم يروون أنّه أخذ بثوب النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وتكلّم بتلك الكلمات التي نصبت منه شخصاً يدين مقام الوحي النبويّ ويحاكمه والعياذ بالله؟!

لكنّ هذا الحدث هل كان هو الوحيد الذي وقفه عمر مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أم هناك مواقف أُخرى؟!

بل له مواقف أُخرى عديدة ..

* منها : ما ورد في أسباب نزول أوّل سورة الحجرات :

وهو ما رووه في نزول قوله تعالى : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ‍ أَعْمٰالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) (١).

فقد جعلوا التقديم بين يدي الله ورسوله في مواطن كثيرة لعمر منقبةً وحميّة للدين ، كما جعلوا التكلّم مع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بخشونة وجفاء تقوىً عالية.

__________________

(١) سورة الحجرات ١ : ٤٩ ـ ٣.

ذكر السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل الآية : ((أخرج البخاري ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : قدم ركب من بني تميم على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقال أبو بكر : أمّر القعقاع بن معبد. وقال عمر : أمّر الأقرع بن حابس. فقال أبو بكر : ما أردت إلاّ خلافي. فقال عمر : ما أردت خلافك. فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما ، فأنزل الله تعالى : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَرَسُولِهِ) حتّى انقضت الآية)).

وهذا يعكس جانباً من المستوى الخلقي والدوافع والنوايا التي كانا يتمتّعان بها.

وقال : ((أخرج البخاري ، وابن المنذر ، والطبراني ، عن ابن أبي مليكة ، قال : كاد الخيّران أن يهلكا ، أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس ، وأشار الآخر برجل آخر ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلاّ خلافي. قال : ما أردت خلافك. فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله تعالى : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) ..... الآية.

قال ابن الزبير : فما كان عمر يُسْمِع رسول الله صلّى الله عليه (آله) وسلّم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه (١).

أقول :

أخطأ ابن الزبير في قوله هذا ; فإنّه في صلح الحديبية قد قام بأعنف من ذلك جفاءً ورعونةً مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وتشدّد في المخالفة بالكلمات الغليظة ، كما سيأتي استعراضها.

بل في آخر أيّام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المباركة ، عندما أراد أن يكتب للأُمّة كتاباً لا تضلّ بعده ، قال مقولته المرويّة عندهم : (إنّ الرجل ليهجر) ، وأثار اللغط‍ في محضر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وقال السيوطي : ((وأخرجه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة ; قال : حدّثني عبد الله بن الزبير به.

__________________

(١) الدرّ المنثور ٦ / ٨٤.

وأخرج ابن جرير والطبراني من طريق ابن مليكة ، عن عبد الله بن الزبير : أنّ الأقرع بن حابس ... وذكر قريباً من ألفاظ‍ الرواية السابقة.

وحكى عن مجاهد في قوله : (لاٰ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّٰهِ وَرَسُولِهِ) ؛ قال : لا تفتاتوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء حتّى يقضي الله على لسانه.

وحكى عنه في قوله : (وَلاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) .. الآية ، قال : لا تنادوه نداءً ، ولكن قولوا قولاً ليّناً : يا رسول الله!)) (١).

أقول :

فإذا كان رفع الصوت يحبط‍ الله تعالى به جميع أعمال الإنسان ، حتّى إيمانه الذي هو أُمّ أعماله ; لِما في رفع الصوت من غلظة وجفاء وخشونة وجلافة ، فكيف بالاعتراض والإدانة والاستنكار والعياذ بالله تعالى؟!

بل والتطاول باليد بجرّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من ثوبه؟!

ويجعلون ذلك منقبة تنزل الآية بتصديقها!!

* ومنها : ما ورد في أحداث صلح الحديبية :

فقد روى السيوطي في الدرّ المنثور ، قال : ((وأخرج عبد الرزّاق ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن المسوّر بن مخرمة ومروان بن الحكم ، قالا : خرج رسول الله صلّى الله عليه (آله) وسلّم زمن الحديبية)).

ثمّ ذكر الأحداث التي جرت في الحديبية ، وصلح الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مع قريش ..

ثمّ قال : ((فقال عمر بن الخطّاب : والله ما شككت منذ أسلمت ، إلاّ يومئذ ; فأتيت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقلت : ألست نبيّ الله؟!

قال : بلى.

__________________

(١) الدرّ المنثور ٦/ ٨٤.

فقلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟!

قال : بلى.

قلت : فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذن.

قال : إنّي رسول الله ولست أعصيه ، وهو ناصري.

قلت : أوَ ليس كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطّوف به؟!

قال : بلى ; أفأخبرتك أنّك تأتيه العام؟!

قلت : لا.

قال : فإنّك آتيه ومطّوف به.

فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر! أليس هذا نبيّ الله حقّاً؟!

قال : بلى.

قلت : ألسنا على الحقّ وعدوّنا على الباطل؟!

قال : بلى.

قلت : فلِمَ نعطي الدنية في ديننا إذن.

قال : أيّها الرجل! إنّه رسول الله وليس يعصي ربّه ، وهو ناصره ، فاستمسكْ بغرزه تفزْ حتّى تموت ، فوالله إنّه لعلى الحقّ.

قلت : أوَ ليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطّوف به؟!

قال : بلى ; أفأخبَرك أنّك تأتيه العام؟!

قلت : لا

قال : فإنّك آتيه ومطّوف به.

قال عمر : فعملت لذلك أعمالاً!!

فلمّا فرغ من قضيّة الكتاب قال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم لأصحابه : قوموا فانحروا ثمّ احلقوا. فوالله ما قام رجل منهم حتّى قال ذلك ثلاث مرّات ، فلمّا لم يقم منهم أحد قام فدخل على أُمّ سلمة ، فذكر لها ما لقي من الناس (١).

أقول :

هذه المخالفة أُخت مثيلاتها ، وإنّ ما يدركه ويفهمه من قواعد الدين حجّيته فوق حجّية نبيّ الله تعالى ، وإنّه متردّد في أنّ النبيّ على الحقّ أو لا ، وليس هذا موقفه فقط‍ ، بل هذا ما يرسمه أهل سُنّة جماعة الخلافة والسلطان لأنفسهم ، ولا يزالون يصحّحون تلك المواقف ، بل جعلوه منهجاً وقاعدة تحت ذريعة أنّ أحكام النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) اجتهادات قد لا تصيب الواقع والحقيقة.

ولم يكتف عمر بذلك ، بل عبّأ عصياناً عامّاً لدى المسلمين على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، تحت شعار : (لا نقبل الدنية في ديننا) ، وإنّ هذا الشعار هو من المحكمات التي يحكمها على نبيّ الله تعالى.

روى السيوطي ـ أيضاً ـ في سورة الفتح ، قال : ((وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري في تاريخه ، وأبو داود ، وابن جرير ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل ، عن ابن مسعود ، قال : أقبلنا من الحديبيّة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي ، وكان إذا أتاه اشتدّ عليه ، فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنّه أنزل عليه : (إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٢) ، قال : الحديبيّة)).

وقال : ((وأخرج البيهقي عن عروة ، قال : أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبيّة راجعاً ، فقال رجل من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : والله ما هذا بفتح! لقد صُددنا عن البيت ، وصُدّ هدْينا.

وعكف رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالحديبيّة ، وردّ رجلين من المسلمين خرجا ، فبلغ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قول رجال من أصحابه : (إنّ هذا ليس بفتح) ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : بئس الكلام ، هذا أعظم الفتح ; لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ،

__________________

(١) الدرّ االمنثور ٧٦/٦ ـ ٧٧.

(٢) سورة الفتح ١ : ٤٨.

ويسألوكم القضيّة ويرغبون إليكم في الإياب ، وقد كرهوا منكم ما كرهوا ، وقد أظفركم الله عليهم وردّكم سالمين غانمين مأجورين ، فهذا أعظم الفتح ..

أنسيتم يوم أُحد ، إذ تُصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أُخراكم؟!

أنسيتم يوم الأحزاب ، (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم ، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ، وتظنّون بالله الظنونا).

قال المسلمون : صدق الله ورسوله ، هو أعظم الفتوح ، والله يا نبيّ الله ، ما فكّرنا في ما فكّرت فيه ، ولأنت أعلم بالله وبالأُمور منّا.

فأنزل الله سورة الفتح (١).

أقول :

تذكير النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للصحابة المتمرّدين عليه ب‍ ـ : فرارهم في يوم أُحد ، وجُبْنهم في الأحزاب ، وظنّهم بالله الظنون السيّئة ، وطعنهم عليه وعلى حقانيّة فعله في الحديبيّة ، وجرأتهم بألْسِنتهم وأفعالهم ; يشير إلى قوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللّٰهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقٰائِلِينَ لِإِخْوٰانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنٰا وَلاٰ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاّٰ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذٰا جٰاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذٰا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ‍ اللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ وَكٰانَ ذٰلِكَ عَلَى اللّٰهِ يَسِيراً) (٢).

وذكر أيضاً رواية أُخرى ، فيها : أنّ دخول الناس في الإسلام عقب صلح الحديبيّة كان أكثر ممّا دخل فيه من قبل.

فيلاحظ‍ أنّ عمر استمرّ في إنكاره لفعل الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، الذي هو بوحي منه تعالى ، وأنكر أن يكون هذا فتحاً ، واستدلّ على ذلك بما توصّل إليه اجتهاده الظنّي ، الذي جزم به في قبال الوحي النبويّ ، بل وتسبّب في جرأة بقيّة الصحابة على

__________________

(١) الدرّ المنثور ٦/ ٦٨.

(٢) سورة الأحزاب ١٨ : ٣٣ ـ ١٩.

إنكار كون الصلح فتحاً ، وكلّ تبريرهم وعذرهم أنّهم : ((ما توصّل فكرهم إلى ما فكّر فيه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)!!

فهم ينظرون إلى الأمر بأنّهم يفكّرون ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يفكّر أيضاً ، لا أنّه تجسيد للوحي الإلهي ، فيجتهدون ويجتهد ، ولهم أن يأخذوا برأيهم ويردّون على نبيّ الله تعالى ; وفتح هذا الباب يسوّغ ويبرّر لهم المخالفة لأوامر وأفعال النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

* ومنها : التخلّف عن جيش أُسامة :

فقد ورد تخلّفه وآخرين عن هذا الجيش ، الذي أمر الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في آخر أيّام حياته المباركة بتجهيزه ، ولعَن مَن تخلّف عنه (١).

* منها : موقفه في أيام الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الأخيرة :

وهو : منعه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مرضه الذي توفّي فيه ـ في حديث الكتف والدواة ـ من كتابة الكتاب ، وقوله) إنّ الرجل ليهجر) ، وهذه الفظاظة والشقاق والجسارة والجرأة هي هي التي شوهدت منه وسُجّلت له في مواقف عديدة مع النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

فقد أخرج البخاري في صحيحه ، بسنده إلى ابن عبّاس ، قال : ((لمّا حضر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده.

فقال عمر : إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت (٢) فاختصموا ، منهم مَن يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبيّ ، قال لهم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قوموا عنّي.

قال عبيد الله بن عبد الله بن مسعود : فكان ابن عبّاس يقول : إنّ الرزيّة كلّ

__________________

(١) المواقف ٦٥٠/٣ ؛ السيرة الحلبيّة ٢٠٧/٣ ؛ الكامل في التاريخ ٢١٥/٢؛ الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ٢٣/١ ؛ شرح نهج البلاغة ـ لابن أبي الحديد ـ ٥٣/١.

(٢) أي : الرجال الّذين كانوا حاضرين في البيت.

الرزيّة ما حال بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب ، من اختلافهم ولغطهم (١).

وأخرجه مسلم (٢) ، وأحمد بن حنبل في مسنده (٣) ، وغيرهم.

واللفظة كما رواها البخاري نفسه في موضع آخر من صحيحه ، بسنده إلى ابن عبّاس ، أنّه قال : ((يوم الخميس وما يوم الخميس. ثمّ بكى حتّى خضّب دمعه الحصباء ، فقال : اشتدّ برسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وجعه يوم الخميس ، فقال : ائتوني بكتاب ، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً.

فتنازعوا ، ولا ينبغي عند نبيّ تنازع ، فقالوا : هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دعوني ، فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه)) (٤).

وأخرجه مسلم أيضاً بلفظ‍ : ((فقالوا : إنّ رسول الله يهجر)) (٥) ، وأحمد أيضاً في مسنده (٦) ، وغيرها من مصادر وكتب السير والحديث.

فما أشبه موقف عمر وموقف جماعة من الصحابة بمواقفهم في الحديبيّة ، وغيرها من المواطن؟!

ولم يفتأ هذا موقفهم مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ؛ فإذا كان رفع الصوت عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبط‍ الأعمال كلّها ، فكيف بالتطاول بهذا الطعن الهتيك لحرمة النبوّة.

إنّ هذا ليدلّ على استخفاف عظيم بمقام الرسالة ; وقد قال تعالى : (فَإِذٰا جٰاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذٰا ذَهَبَ

__________________

(١) صحيح البخاري ٩/٧ كتاب المرضى ـ باب : قول المريض : قوموا عنّي ، وأخرجه أيضاً في ١٦١/٨ كتاب الاعتصام بالكتاب والسُنّة ـ باب كراهية الخلاف.

(٢) صحيح مسلم ٧٥/٥ كتاب الوصايا.

(٣) مسند أحمد بن حنبل ٣٥٦/٤ ح ٢٩٩٢.

(٤) صحيح البخاري : كتاب الجهاد ـ باب : جوائز الوفد.

(٥) صحيح مسلم ١٦/٢ كتاب الوصيّة ـ باب : ترك الوصيّة.

(٦) مسند أحمد ٢٢٢/١ ، و ٢٨٦/٣ ح ١٩٣٥ ، و ٤٥/٥ ح ٣١١١ وح ٣٣٣٦.

الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدٰادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ‍ اللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ).

هذه صفة التسليم والطاعة لديهم ، ونعت المخبتين ، ويفسّرون ذلك بأنّه اجتهاد في مقابل اجتهاد النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والعياذ بالله تعالى.

* الثالث : إسنادهم وتوصيفهم للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ الذي نصّبه الله تعالى معلِّماً للأنبياء والرسل والأُمم ، وشاهداً عليهم ، ويعلّم الكتاب والحكمة ـ إنّه يزيد على السبعين ليغفر الله للمنافقين ; لعدم وضوح معنى الآية : (اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاٰ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ ، بينما المعنى واضح لدى عمر ، الذي قال عن نفسه ما قال من أفقهيّة المرأة منه في القصّة المعروفة) (١).

فلماذا هذا التطاول على مقام النبوّة والرسالة ، وهي أصل من أُصول الدين الحنيف ، والغلوّ في بعض الصحابة إلى ما فوق النبوّة ، تحت قناع عدالة الصحابة؟!

ما هذه النظرة والرؤية الساقطة المنحدرة في معرفة النبوّة ، والباري تعالى يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّٰهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلٰكِنَّ اللّٰهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمٰانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ) (٢) ؛ فإنّ الأُمّة لو تركها النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا تدبير فسبيلها الشقاء والعنت.

مع أنّ الذي افتروه على النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من إرادته الزيادة على السبعين في الاستغفار ، يناقضه ما رووه : ((فلو أعلم أنّي إن زدت على السبعين)) ؛ فهو يفيد العلم بعدم مغفرته تعالى للمنافقين مطلقاً ، فالراوي لهذه الصورة من الحدث وقع في تهافت ، وهذا سبيل المجانب للحقيقة ، المتّخذ للزيف نهجاً!

ثمّ إنّهم زعموا ـ في هذه الروايات ـ أنّ الآية في سورة المنافقين نزلت بعد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأزيدنّ على السبعين فنزلت : (سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللّٰهُ لَهُمْ) ، وأيّ فرق في المعنى بين الآيتين عند مَن له أدنى فهم بالكلام والمحاورة واللغة العربيّة؟!

__________________

(١) لاحظ‍ مصادرها في : الغدير ـ للأميني ـ ٩٥/٦ ـ ٩٨ ، ط‍ دار الكتب الإسلاميّة.

(٢) سورة الحجرات ٧ : ٤٩.

فيا لله ولهذا الإسفاف والجرأة على النبوّة والرسالة!

كلّ ذلك إنّما لجؤوا إليه وإن لزم الدواهي العظام ; لتبييض الهفوة الطامّة التي طالما مارسها الثاني تجاه مقام النبوّة.

* الرابع : ما أشار إليه غير واحد من أهل التدبّر والنظر : أنّ آية : وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ كانت في الآيات النازلة في سفر النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في غزوة تبوك ، وهذه الغزوة كانت في رجب سنة تسع للهجرة (١) ، وكان موت عبد الله بن أُبي في ذي القعدة من سنة تسع للهجرة (٢) ، فكيف ورد العكس في رواياتهم المزعومة ، من تقدّم صلاته (صلى الله عليه وآله وسلم) على ابن أُبي على نزول الآية؟!!

والذي يفضح ويكشف الزيف على حقيقة الأمر في ذلك أنّ جلّ تلك الروايات المحكية قد تضمّنت قول عمر : ((ألم ينهك الله أن تصلّي على المنافقين ..)) ، ممّا يدلّل على تقدّم نزول : وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً على شطّة عمر على المقام النبويّ ، إلاّ أنّه لتغطية ذلك أخذ يدّعي استظهار النهي من لغويّة الاستغفار ..

فإذا كان المنهي عنه خصوص الاستغفار ، فما بال كلّ الصلاة يُنهى عنها في زعم عمر ، وهلاّ كان المراد من النهي هو خصوص الدعاء والاستغفار للميّت دون بقيّة فقرات الصلاة؟!

وأمّا الذي في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ، وحقيقة ما كان من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفقه الآية عندهم (عليهم السلام) ، فهو :

إنّ المراد بقوله تعالى : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ مٰاتَ أَبَداً وَلاٰ تَقُمْ عَلىٰ قَبْرِهِ) ، هو : عدم الدعاء للمنافق ، وعدم الاستغفار له ، وعدم التشفّع له ، فالنهي هو عن ذلك خاصّة ; لأنّ حقيقة الصلاة على الميّت هي : الدعاء له ، والاستغفار ، والتشفّع له ، إذ ليست هي صلاة ذات ركوع وسجود.

وعلى ذلك ، فليس المنهيّ عنه هو صورة إقامة صلاة الميّت عند جنازة المنافق

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣٦٦/٢ ؛ السيرة النبويّة ـ لابن كثير ـ ٣/٤.

(٢) المنتظم ٣٧٧/٣ ; وانظر : البداية والنهاية ـ لابن كثير ـ ٤٧ /٥ ؛ الكامل في التاريخ ٢٩١/٢.

في فقرات الصلاة الأُولى ، ممّا يشتمل على التكبيرات الأُولى ، والإقرار بالشهادتين ، والصلاة على النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وآله ، والدعاء للمؤمنين; لأنّ هذه الفقرات لا صلة لها بالميّت والجنازة ، وهي فقط‍ ذكر لله تعالى وإقرار له بالربوبيّة ، وللرسول بالرسالة ، ودعاء للنبيّ وآله ، ثمّ للمؤمنين ..

بل الذي نُهي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عنه هو : الفقرة الأخيرة من الصلاة ، التي ترتبط‍ بالميّت نفسه ، وتتضمّن الشهادة له بالصلاح والخير ، والدعاء والاستغفار له ; ولهذا صار (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يكبّر على جنازة المؤمن خمس تكبيرات ، وعلى جنازة المنافق أربع تكبيرات ، إلى آخر حياته الشريفة (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ولم يقطع (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إقامة الصلاة عند جنائز المنافقين ; بل ترك التكبيرة الخامسة فقط‍; لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو للميّت في ما بين التكبيرة الرابعة والخامسة ويستغفر ويتشفّع له ، وهذا ما تركه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من صلاته على جنائز المنافقين ، مكتفياً بما بين التكبيرات الأربع ممّا لا صلة له بالميّت.

وإلى هذا المعنى تشير جملة من الروايات الواردة عن أهل بيت النبوّة (عليهم السلام) :

ففي موثّق يونس : قال : ((سألت أبا عبد الله (ع) عن الجنازة ، أُصلّي عليها على غير وضوء؟

فقال : نعم ، إنمّا هو تكبير وتسبيح وتحميد وتهليل (١).

وفي صحيح محمّد بن مسلم : عن أبي جعفر (ع) ، قال : ((تصلّي على الجنازة في كلّ ساعة ، إنّها ليست بصلاة ركوع وسجود)) (٢).

وفي معتبرة الفضل بن شاذان : عن الرضا (ع) ، قال : ((إنّما جوّزنا الصلاة على الميّت بغير وضوء ; لأنّه ليس فيها ركوع ولا سجود ، وإنّما هي دعاء ومسألة ، وقد يجوز أن تدعو الله وتسأله على أيّ حال كنت)) (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٨٩/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٧ ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ٩٠/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٨ ح ١.

(٣) وسائل الشيعة ١١١/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٢١ ح ٧.

وغيرها من الروايات التي تبيّن أنّ حقيقة صلاة الجنازة هي : الدعاء والاستغفار للميّت.

وبالتالي ، فالذي نُهي عنه في الآية هو تلك الفقرة من الصلاة عند الجنازة ، لا كلّ الفقرات.

في صحيح هشام بن سالم : عن أبي عبد الله (ع) ، قال : كان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يكبّر على قوم خمساً ، وعلى قوم آخرين أربعاً ، فإذا كبّر على رجل أربعاً اتُّهم ـ يعني بالنفاقـ))(١).

وتركه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) للتكبيرة الخامسة على المنافق هو لتركه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الدعاء والاستغفار للمنافق ، بخلاف المؤمن.

وفي رواية إبراهيم بن محمّد بن حمران ، عن أبي عبد الله (ع) ـ في حديث ـ قال : ((كان يُعرف المؤمن والمنافق بتكبير رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، يكبّر على المؤمن خمساً وعلى المنافق أربعاً (٢).

غيرها من الروايات الدالّة على أنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يترك إقامة الصلاة عند جنائز المنافقين ، وإنّما ترك الدعاء والاستغفار لهم ، وهو الذي نهى الله عنه ، وليس النهي في الآية عن الفقرات الأُولى في الصلاة ، ممّا هو ذكْر وتسبيح وتحميد ، ودعاء للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله ، وللمؤمنين.

قال المفيد في المقنعة : ((روي عن الصادقين (ع) أنّهم قالوا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي على المؤمنين ويكبّر خمساً ، ويصلّي على أهل النفاق ... فيكبّر أربعاً; فرقاً بينهم وبين أهل الإيمان ، وكانت الصحابة إذا رأته قد صلّى على ميّت فكبّر أربعاً قطعوا عليه بالنفاق)) (٣).

من ثمّ استقرّ الحكم عند علماء الإماميّة على التفصيل المزبور في الصلاة على

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧٢/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٥ ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ٧٧/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٥ ح ١٨.

(٣) المقنعة : ٣٨.

المؤمن وأنّها خمس تكبيرات ، والصلاة على غير المؤمن أنّها أربع تكبيرات ; عملاً بالروايات الواردة ..

ففي رواية الحسين بن النضر ، قال : قال الرضا (ع) ((ما العلّة في التكبير على الميّت خمس تكبيرات؟

قال : رووا أنّها اشتقّت من خمس صلوات.

فقال : هذا ظاهر الحديث ، فأمّا في وجه آخر فإنّ الله فرض على العباد خمس فرائض : الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، والولاية ، فجعل للميّت من كلّ فريضة تكبيرة واحدة ، فمَن قبِل الولاية كبّر خمساً ، ومَن لم يقبل الولاية كبّر أربعاً ، فمن أجل ذلك تكبّرون خمساً ، ومن خالفكم يكبّر أربعاً)) (١).

فالمؤمن حيث قَبِل ولاية الله ورسوله وآله يُكبّر عليه خمساً ، وغيره ممّن ينبذ الولاية يُكبّر عليه أربعاً.

ومن أجل ذلك ، يكون محصّل مفاد الآية هو : النهي عن الدعاء والاستغفار والتشفّع للميّت المنافق ، لا عن إقامة الصلاة عند جنازته بذكْر الله والدعاء للنبيّ وآله وللمؤمنين ، أي لا عن أصل صورة الصلاة ، ولذلك نهت الآية عن القيام على قبر المنافق ، أي عن الدعاء له والاستغفار ، كما هو الغرض المألوف من القيام عند قبره ، لا أنّ النهي حقيقة هو عن صورة القيام عند القبر وإن لم يدع ويستغفر له ، أو كان القيام عند قبره بالدعاء عليه واللعن له ، فإنّ هذا ممّا لا تنهى عنه الآية الكريمة.

وفي صحيح الحلبي ، عن أبي عبد الله (ع) ، قال : ((لمّا مات عبد الله ابن أُبي بن سلول ، حضر النبيّ (صلى الله عليه وآله) جنازته ، فقال عمر : يا رسول الله! ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟! فسكت ، فقال : ألم ينهك الله أن تقوم على قبره؟!

فقال له : ويلك! وما يدريك ما قلت؟! إنّي قلت : اللّهمّ احش جوفه ناراً ، واملأ قبره ناراً ، واصلِه ناراً ..

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧٧/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٥ ح ١٦.

قال أبو عبد الله (ع) فأبدى من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما كان يكره)) (١).

وفي جوابه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بيان لعدم انصياع عمر وعدم انقياده لفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناشئ من عدم إخباته لوحيانيّة سير وسلوك النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأنّه لا يضلّ ولا يغوى ولا ينطق عن الهوى ، ومن عدم فقهه لحقيقة المراد من القرآن النازل ؛ فقد قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ((وما يدريك ما قلت؟!)) ، أي أنّ الذي نهى الله تعالى عنه إنّما هو الدعاء والاستغفار للمنافق دون بقيّة فقرات الصلاة ، التي هي شعار ديني ، والذي دعا (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) به إنّما هو الدعاء على المنافق.

وفي كتاب سليم بن قيس الهلالي : قال أمير المؤمنين (ع) وهو ـ أي عمر ـ صاحب عبد الله بن أُبي بن سلول ; حين تقدّم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ليصلّي عليه ، فأخذ بثوبه من ورائه ، وقال : قد نهاك الله أن تصلّي عليه ، ولا يحلّ لك أن تصلّي عليه.

قال له رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : إنّما صلّيت عليه كرامةً لابنه ، وإنّى لأرجو أن يسلم به سبعون رجلاً من بني أبيه وأهل بيته ، وما يدريك ما قلت؟! إنّما دعوت الله عليه)) (٢).

ومن الموارد الأُخرى المزايد بها بين عصمة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعدالة الصحابة.

أُسارى بدر

قال تعالى : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا وَاللّٰهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

قال القرطبي في تفسيره : ((روى مسلم رحمهم الله من حديث عمر بن الخطّاب ... قال أبو زميل : قال ابن عبّاس : فلمّا أسروا الأُسارى ، قال رسول الله لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧١/٣ ـ أبواب صلاة الجنازة ب ٤ ح ٤.

(٢) كتاب سليم بن قيس : ١٤٣ ؛ بحار الأنوار ٣٧٦/٨١.

(٣) سورة الأنفال ٦٧ : ٨.

(٤) صحيح مسلم : كتاب الجهاد ب ١٨ : باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم.

فقال أبو بكر : يا نبيّ الله! هم بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوّة على الكفّار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ما ترى يا ابن الخطّاب؟

قلت : لا والله! يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكنّي أرى أن تمكّنّا فنضرب أعناقهم ، فتمكّن عليّاً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكّنّي من فلان (نسيباً لعمر) فأضرب عنقه ; فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها.

فهوى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فلمّا كان من الغد جئت ، فإذا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت : يا رسول الله! أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : أبكي للذي عرض عليّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض عليّ عذابهم أدنى هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبيّ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وأنزل الله عزّ وجلّ : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، إلى قوله : (فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً) (١) ، فأحلّ الله الغنيمة لهم (٢).

الرواية يرويها مسلم بإسناده عن ابن زميل ، عن عبد الله بن عبّاس ، عن عمر بن الخطّاب ; فالراوي للرواية هو عمر نفسه.

وروى مسلم أيضاً بإسناده عن ابن عمر ، قال : ((قال عمر : وافقت ربّي في ثلاث: في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أُسارى بدر)) (٣).

قال القرطبي : ((وروى يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا يحيى ، قال : حدّثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : لمّا

__________________

(١) سورة الأنفال ٦٩ : ٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ـ للقرطبي ـ ٤٦/٨.

(٣) صحيح مسلم : كتاب فضائل الصحابة ب ٢ ح ٢٥.

كان يوم بدر ، جيء بالأُسارى وفيهم العبّاس ، فقال رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: ما ترون في هؤلاء الأُسارى؟

فقال أبو بكر : يا رسول الله! قومك وأهلك ، استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم.

وقال عمر : كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك ، قدّمهم واضرب أعناقهم.

وقال عبد الله بن رواحة : انظر وادياً كثير الحطب فأضرمه عليهم.

فقال أُناس : يُأخذ بقول أبي بكر. وقال أُناس : يُأخذ بقول عمر. وقال أُناس : يُأخذ بقول عبد الله.

فخرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : ... ومثلك يا عمر! لمثل نوح (ع) ، إذ قال : (رَبِّ لاٰ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكٰافِرِينَ دَيّٰاراً) (١) ، ومثلك يا عمر! مثل موسى (ع) ، إذ قال : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلىٰ أَمْوٰالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُوا حَتّٰى يَرَوُا الْعَذٰابَ الْأَلِيمَ)(٢) ، أنتم عالة ، فلاينفلتنّ أحد إلاّ بفداء أو ضربة عنق ...

وفي رواية : فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : إن كادَ ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ، ولو نزل عذاب ما أفلت إلاّ عمر.

وروى أبو داود عن عمر ، قال : لمّا كان يوم بدر ، وأخذ ـ يعني رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ الفداء ، أنزل الله عزّ وجلّ : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) ، إلى قوله : (لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) (٣) ، ثمّ أحل الغنائم (٤).

إلى أن قال القرطبي : ((فأعلم الله سبحانه وتعالى أنّ قتل الأسرى الّذين فودوا ببدر كان أوْلى من فدائهم)) (٥).

ثمّ حكى القرطبي عن ابن عبّاس : أنّ قوله تعالى : (فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّٰا فِدٰاءً) (٦) ، نزلت لمّا كثر المسلمون واشتدّ سلطانهم ، لكنّه أشكل على ذلك ـ بعدما روى

__________________

(١) سورة نُوح ٢٦ : ٧١.

(٢) سورة يونس ٨٨ : ١.

(٣) سورة الأنفال ٨/ ٦٨.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٨/ ٤٦ ـ ٤٧.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٤٨/٨.

(٦) سورة محمد (ص) ٤ : ٤٧.

عن الطبري أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال للناس بالتخيير في الأسرى بين الفداء والقتل ، بعد نزول جبرئيل عليه بذلك ـ بقوله : إذا كان التخيير ، فكيف وقع التوبيخ بقوله : (لَمَسَّكُمْ)؟ وأجاب : أنّ التوبيخ وقع أوّلا لحرصهم على أخذ الفداء ثمّ وقع التخيير بعد ذلك(١).

أقول :

مضافاً إلى ما سيأتي من بيان التحريف في هذه الروايات في عموم الأحداث في هذه الواقعة ، كما هو ديدنهم في أسباب النزول :

أوّلاً : ما ذكره القرطبي متدافع مع ظاهر الآيات ، ومع كلامه في مواضع من تفسيرها; فإنّ ظاهر مفاد الآية : أنّ الحكم تعييني لا تخييري ، أي أنّ الحرمة لأخذ الأُسارى واستبقائهم متعيّنة ، ولسان التوبيخ لسان تهديد بِعقوبة ، كما هو مفاد قوله تعالى : (لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) ؛ كيف يجري استحقاق العقوبة مع الحرص على خصلة من التخيير؟!

ثانيا : اعترف القرطبي في بداية تفسيره للآية : أنّ قول أكثر المفسّرين عندهم ولا يصحّ غيره : أنّ هذه الآية نزلت عتاباً من الله عزّ وجلّ لأصحاب نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والمعنى : ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أسرى قبل الإثخان ، ولهم هذا الإخبار بقوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا) ـ أي أنّ الخطاب للأصحاب لا للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ والنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ، ولا أراد قطّ‍ عرض الدنيا ، وإنّما فعله جمهور مباشري الحرب ، فالتوبيخ والعتاب إنّما كان متوجّهاً بسبب مَنْ أشار على النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بأخذ الفدية (٢).

وهذا التسالم عندهم ، الذي لا يصحّ غيره ، متناقض مع مضمون تلك الروايات التي روى غالبها عمر ، من أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان هواه في الفداء ، وأنّ العذاب لو نزل لَما نجا منه إلاّ عمر ، ولشمل رسول الله والعياذ بالله تعالى من هذا القول ، وفي ذلك بيان لفوقيّة عصمة عمر على عصمة الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ثالثاً : إذا كان العتاب ـ المتسالم عليه عندهم ـ هو للصحابة الّذين حرصوا على

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٤٨/٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٤٦/٨ ٤٥.

الغنيمة والفداء ، لا النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فكيف يجعلون مورد وسبب نزول الآية من الشواهد على اجتهاد النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ونزول الكتاب بتخطئة ذلك الاجتهاد وتصويب اجتهاد بعض الصحابة ، ك‍ ـ : عمر

رابعاً : إنّ في رواياتهم المتقدّمة : أنّ عبد الله بن رواحة أيضاً أمر بقتل الأسرى ; فلماذا يخصّ النجاة من العذاب بعمر دون غيره؟!

ولماذا يكون التصويب لرأيه فقط‍ مع أنّ عبد الله بن رواحة كان ذلك رأيه أيضاً ، بل قد رووا أنّ سعد بن معاذ كان ذلك رأيه أيضاً (١).

خامساً : قول عمر لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الأُسارى : إنّ هؤلاء أئمّة الكفر وصناديدها ، أو : إنّ هؤلاء كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك ، ثمّ إشارته بقتل العبّاس وعقيل ، قول مريب الاستهداف ; فأئمّة الكفر قد قُتلوا في بدر ، وما بقي من الأُسارى ليسوا من صناديد الكفر ; كيف وهم قد رووا أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أقرّ للعبّاس بأنّه كان مسلماً في الخفاء ، وأنّه أُخرج كُرهاً ، وكذلك بقيّة مَن كان من بني هاشم(٢).

وهل أنّ ذلك البعض من بني هاشم ، والعبّاس وعقيل ، هم الّذين أخرجوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من مكّة ، أم أنّهم كانوا المدافعين عنه ; إذ كان عقيل وإخوته يتناوبون للنوم في فراش النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، في بيت أبي طالب ; لئلاّ تقتله قريش غيلة (٣)؟!

أم أنّ وراء كلام عمر استهدافاً لبني هاشم ، وقد أكرهتهم قريش على الحرب ، إلاّ أنّهم رغم ذلك لم يخوضوا المعترك الأمامي في المواجهة.

سادساً : الظاهر من كلّ ما مرّ أنّ حقيقة الحال هي : إنّ النهي الإلهي عن اتّخاذ الأسرى حتّى يُثخَن في الأرض ، هو ما دامت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها ، كما سيأتي بيانه والدلائل عليه ، إلاّ أنّ موقف عمر من التحريض على قتل بعض بني هاشم المكرَهين على الخروج للحرب قد انكشفت أهدافه ؛ إذ اتّخذ ما نزل من الآية الناهية غطاءً لذلك ، تخيّلا منه أنّه بإمكانه استغلال مفاد الآية لهذا الهدف ، وبالتالي إلحاق الإزراء ببني هاشم بذلك.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٤٨/٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٥٢/٨ ٤٩.

(٣) بحار الأنوار ١٩ / ١.

ولكن لمّا فشلت تلك المحاولة وانفضح الهدف من وراء هذا التحامل على بني هاشم استمرّ هو في تغطية هذه الواقعة وتبديلها إلى منقبة رياديّة له يتطاول بها على مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، واصطناع مقاماً له في الدين ومنازل الوحي ..

نظير الواقعة السابقة : الصلاة على المنافقين ; كيف حوّرها محاولا تغطية تجرّيه على مقام النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالتذرّع بمفاد الآية : (وَلاٰ تُصَلِّ عَلىٰ أَحَدٍ مِنْهُمْ ...) ، واستمرّ في تغطية ما جرى بتبديلها إلى منقبة دينيّة يشيد الوحي بها ، وأنّه أقرب إصابة للوحي من رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

سابعاً : إنّ أهل سُنّة الخلافة حيث تابعوا الخليفة الثاني في تغطية حقيقة ما حدث من تحامله على رهط‍ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإنّ مفاد الآية هو شامل لِما بعد الحرب ، وقعوا في تدافع فقهي وتفسيري وتاريخي في السيرة ...

فهم قد قرّروا أنّ مفاد الآية قد نسخ قبل العمل به بقوله تعالى : (فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلاٰلاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللّٰهَ).

وبعضهم ذهب إلى نسخها بقوله تعالى : (فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا ذٰلِكَ وَلَوْ يَشٰاءُ اللّٰهُ ...).

هذا وقد تكثّرت أقوالهم في النسبة بين الآيتين ; فجملة منهم جعلوا آية التخيير منسوخة ب‍ ـ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ، و (وَقٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)(٢) وبعضهم على أنّ كِلا الآيتين محكمتين ، وغيرها من أقوالهم المضطربة الكثيرة في المقام ، وهي لا ترسوا على التسليم بالمفاد الذي زعمه الخليفة للآية : ( مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ ...)

ذكر الآلوسي في ذيل قوله تعالى : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى ...) (٣).

__________________

(١) سورة التوبة ٥ : ٩.

(٢) سورة التوبة ٣٦ : ٩.

(٣) سورة الأنفال ٦٧ : ٨.

قال : ((أخرج أحمد ، والترمذي وحسّنه ، والطبري ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود ، قال : لمّا كان يوم بدرجيء بالأُسارى ، وفيهم العبّاس ، فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ماترون في هؤلاء الأُسارى؟

فقال أبوبكر ...)) ، ثمّ ذكر الرواية المتقدّمة (١) وكلام أبي بكروعمر وعبدالله بن رواحة ، وفي الذيل : ((فخرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال إنّ الله تعالى ليلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من اللبن ، وإنّ الله سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة))(٢).

أقول :

هذه الرواية شاهدة لما مرّ استنتاجه : إنّ موقف عمرفي قضية الأُسارى من المحطّات التي يجب التوقّف عندها;لمعرفة رأيه تجاه قرابة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعشيرته;لأنّ تعريضه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالموقف المتشدّد : ((إنّ الله سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّمن الحجارة)) هو تمثّل منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (٣).

وبقوله تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللّٰهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ فَهُوَ عَلىٰ نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقٰاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ)(٤).

وبقوله تعالى (وَلٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطٰانُ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ) (٥) ... وغيرها من الآيات الذامّة لقساوة القلب.

تداعيات موقف عمرو أحكام الأسير :

وممّا أوجب اضطراب مؤدّى آيتي الأسيرعند أهل سُنّة الخلافة : ماالتزموه

__________________

(١) قدُذكر مصدرها سابقاً ، وهوتفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) ٤٦/٨ ، الذي يرويها عن مسلم في صحيحه : كتاب الجهاد ب ١٨ : باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدروإباحة الغنائم.

(٢) روح المعاني ٣٤/١٠ ; وانظر : مسند أحمدبن حنبل ٣٨٣/١ ، المعجم الكبير ١٤٣/١٠.

(٣) سورة البقرة ٧٤ : ٢.

(٤) سورة الزمر : ٢٢ : ٣٩.

(٥) سورة الانعام : ٤٣ : ٦.

في ما يخصّ قصّة الأُسارى في بدربحسب روايات عمرو موقفه فيها ..

وكلماتهم تشتّتَت في نسبة مفاد قوله تعالى في سورة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): (فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا) (١) ؛ فقدذكر القرطبي أنّهم اختلفوافي تأويل هذه الآية على خمسة أقوال:

الأوّل : إنّها منسوخة ، وهي في أهل الأوثان لايجوزأن يفادَوا ولايُمنّ عليهم ، والناسخ لها عندهم : قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) ، وقوله تعالى : (فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) (٣) ، وقوله تعالى : (وَقٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً)(٤) ؛ قاله قتادة والضحّاك والسدي وابن جريج والعوفي ، عن ابن عبّاس.

وآستدلّ على هذاالقول بفعل أبي بكر.

الثاني : إنّهافي الكفّار جميعاً ، وهي منسوخة على قول جماعة من العلماءو أهل النظر ، منهم : قتادة ومجاهد; قالوا : إذاأُسر المُشرك لم يجز أن يمنّ عليه ، ولاأن يفادى به فيردّإلى المشركين ، ولايجوز أن يفادى عندهم إلاّ بالمرأة;لأنّها لاتقتل ، والناسخ لهاقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ؛ إذكانت براءة آخر مانزلت بالتوقيف ، فوجب أن يُقتل كلّ مشرك إلاّمَن قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان ومَن يؤخذ منه الجزية. وهو المشهورمن مذهب أبي حنيفة ؛ خيفة أن يعودواحرباً للمسلمين.

الثالث : إنّهاناسخة لقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ؛ قاله الضحّاك والحسن وعطاء ..

فعن عطاء : لايقتل المشرك ولكن يُمنّ عليه ويفادى. وبزعم الحسن : أن ليس للإمام قتل الأسير المشرك بعد وضع الحرب أوزارها والإثخان ، لكنّه يختار : إمّاأن يمنّ ، أويفادي ، أو يسترق.

__________________

(١) سورة محمّد (ص) ٤ : ٤٧.

(٢) سورة التوبة (البراءة) ٥ : ٩.

(٣) سورة الأنفال ٥٧ : ٨.

(٤) سورة التوبة (البراءة) ٣٦ : ٩.

الرابع : قول سعيدبن جبيرأنّها غيرناسخة ولامنسوخة ، والفداء والأسرلا يكون إلاّبعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (١) فإذاأُسر بعدذلك فيتخيّرالإمام بين القتل وغيره.

الخامس : إنّ الآية محكمة والإمام مخيّر في كلّ حال; روي ذلك عن ابن عبّاس ، وقاله ابن عمروالحسن وعطاء ، وهومذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبي عبيد وغيرهم ، ويروى ذلك عن أهل المدينة أيضاً.

واستدلّ بفعل النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لكلّ ذلك; إذقتل عقبة بن أبي معيط‍ والنضربن الحارث يوم بدر صبراً ، وفادى سائرأُسارى بدر ، ومنّ على ثمامة وهوأسير في يده(٢).

ويدفع دعاواهم :

أوّلاً : إنّه لادليل على النسخ ;إذهو متوقّف على دليل قاطع وإلاّلزم تعطيل آيات الكتاب بمجرّدالتخرّص والتظنّي ، كماإنّ النسخ يتوقّف على تعارض مابين المفادين ، والحال أن لاتنافي بين الآيات;إذآية الأُسارى كالمفصّل لماأجمل من الإطلاق في آيات قتال المشركين ، مع إنّه متوقّف على تأخّر آيات القتال المطلقة على آية الأُسارى.

ثانياً : إنّه لاقرينة على اختصاص آية الأُسارى بالمشركين كي يفرض رفع حكمها مطلقاً;فهي ـ على ظاهرها ـ شاملة لغير المشركين ، وتكون نسبة مدلولها لمدلول آيات قتال المشركين هي العموم والخصوص من وجه.

ثالثاً : إنّ آية الأُسارى صريحة في كون المنّ أوالفداءهو بعدالإثخان فيهم وهزيمتهم و (تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا) فكيف يثبت قبله؟!

ونظيرذلك قولهم بالقتل بعد الإثخان مع إنّ الآية صريحة في الانتهاء بالغاية ، وهي : الإثخان.

رابعاً : مااستدلّوا به من قتل النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعض أفرادالمشركين بعدالإثخان لا

__________________

(١) سورة الأنفال ٦٧ : ٨.

(٢) انظر : تفسير القرطبي ١٦ / ١٩٢.

ينافي ظهوروصريح الآية؛ لإنّهاموارد خاصّة ، كعقوبة متخصّصة ، نظير استباحته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) دماءنفرفي فتح مكّة ولوكانوا متعلّقين بأستار الكعبة.

وأمّافعل أبي بكرو عمرفلاحجّية فيه حسب مايقرّ أهل سُنّة الخلافة من عدم عصمتهما وعدم حجّية فعلهما ، بل إنّ الذي ورّطهم في هذاالفهم المقلوب للآيات هوفعل عمرو موقفه اعتراضاً على الساحة النبوية ، من أن إبقاءالأسير بعدانتهاء الحرب كان منهيّاً عنه.

خامساً : إنّ الذي التزموا به من النسخ المتبادل المتعاكس بين آية الأُسارى وآيات قتال المشركين لا يبرّرولا يفسّرموقف عمربالاعتراض والمطالبة بقتل الأسرى بعدالحرب يوم بدر؛ وذلك لأنّ بين قوله تعالى في شأن الأُسارى في سورة الأنفال : (مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا وَاللّٰهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، وبين قوله تعالى في سورة القتال (سورة محمّد) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : (فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا). تمام التطابق.

فإنّ آية الأنفال في الأُسارى تنفي وتنهى أن يكون لنبيّ أسرى أي شدّ وثاق قبل الإثخان وقبل إنهاك العدو وهزيمته وانتهاء الحرب والقتال في المعركة ، وشدّالوثاق عبارة وكناية عن الأسر والاسترقاق;فالآيتان في السورتين متطابقتان على تحديد القتل للأُسارى إلى غاية الإثخان ، وهو انتهاء الحرب ، وأنّ بعدالحرب لايقتل الأسير ، وهو مالا يتطابق مع إصرار عمرعلى قتل أُسارى بدربعد الحرب.

ومن وضوح دلالة الآيتين على ذلك اضطرغير واحد منهم إلى الإقرار بأنّ معنى الآية في الأنفال هو : عتاب الله عزّ وجلّ لأصحاب النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، والمعنى : ماكان ينبغي لكم أن تفعلوا هذاالفعل الذي أوجب أن يكون للنبيّ أسرى قبل الإثخان ، ولهم هذاالإخبار بقوله تعالى : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا) ، والنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أرادقط‍ عرض الدنيا وإنّما فعله جمهور مباشري الحرب(١).

__________________

(١) تفسير القرطبي ٨ / ٤٥.

فموضع العتاب الإلهي وموردقوله تعالى : (لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) (١) هو : أخذالأُسارى واستبقاؤهم وقت الحرب قبل الإثخان ;فالمؤاخذ على هذه الغنيمة هو بلحاظ‍ أنّها أُخذت من غيرحلّها ، مع الالتفات إلى أنّ الأُسارى لم يؤخذوا كلّهم وقت الحرب بل فيهم القليل ممّن أُخذ بعدالحرب ، ك‍ : العبّاس وعقيل ونوفل.

والعجيب أن تراهم مع كلّ ذلك يتمحّلون لاعتراض عمر ، والذي كان بعد الحرب ، ورأيه بقتل الأُسارى ، بأنّ النهي والعتاب في الآية طال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً; لأنّه لم ينهَ عن استبقاءالأسرى حين رآهم من العريش ، وفي المقابل فإنّ سعدبن معاذوعمربن الخطّاب وعبد الله بن رواحة كرهوا ذلك ، مع إنّ الروايات التي رووها عن عمر ـ في مازعم من فعله ـ تشيرإلى أنّه كان بعد الحرب ، فكيف يتّفق ذلك مع القول بأنّ موضع النهي في الفعل الذي حدث كان أثناء الحرب؟!

وتمحّلوا أنّ قتل الأسرى الّذين فودوا ببدركان أوْلى من فدائهم ، ويومئذ كان المسلمون قليلون فلمّا كثروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله عزّ وجلّ بعدهذا في الأسارى : فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَإِمّٰا فِدٰاءً في سورة محمّد (ص) سورة القتال ، فزعموا أنّ الآية الثانية في الأسرى ناسخة للأُولى وقد تقدّم تمام المطابقة بين الآيتين ، كماهوحكم الأُسارى من التفصيل بين أخذهم أثناء الحرب أو بعدهافي مذهب الإمامية ، كما رووه عن الصادق (ع) كان أبي يقول : إن للحرب حُكمين : إذاكانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها ولم يثخن أهلهافكلّ أسيرأخذ في تلك الحال فإنّ الإمام بالخيار إن شاءضرب عنقه وإن شاءقطع يده ورجله من خلاف بغيرحسم وتركه يتشحّط‍ في دمه حتّى يموت;وهو قول الله عزّ وجلّ : (إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) في سورة المائدة الآية ٣٣ ...

والحكم الآخر إذاوضعت الحرب أوزارها وأثخن أهلها فكلّ أسير أُخذفي تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار إن شاء منّ عليهم وإن شاء فاداهم أنفسهم

__________________

(١) سورة الأنفال ٦٨ : ٨.

وإن شاء استعبدهم فصاروا عبيداً)) (١).

وقدروي عن الكلبي في قوله تعالى : (فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ) : ((نزلت في العبّاس لمّا أُسرفي يوم بدرفقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : افد نفسك وابنيْ أخيك ـ يعني عقيلا ونوفلاو حليفك ـ يعني عتبة بن أبي جحدر ـ فإنّك ذو مال.

فقال : إنّ القوم استكرهوني ولامال عندي.

قال : فأين المال الذي وضعته بمكّة عندأُمّ الفضل حين خرجت ، ولم يكن معكماأحد ، وقلت : إن أُصبت في سفري فللفضل كذا ، ولعبد الله كذا ، ولقثم كذا؟!

قال : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً ماعلم بهذا أحدغيرها ، وإنّي لأعلم أنّك لرسول الله.

ففدّى نفسه بمائة أُوقية ، وكلّ واحد بمائة أوقية ، فنزلت : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِمَن فِي أَيْدِيكُم مِنَ الأسْرَى) (٢) ، فكان العبّاس يقول : صدق الله وصدق رسوله; فإنّه كان معي عشرون أوقية فأُخذت ، فأعطاني الله مكانها عشرين عبداً ، كلّ منهم يضرب بمال كثير ، أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم)) (٣) ..

وهذه الرواية تدلّ على كون الأسرى من بني هاشم لم يكن موقفهم معادياً لمعسكر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّماأُكرهوا على المجيء إلى بدر ، فهم كالأُسارى انتقلوامن أسرإلى آخر ، بل إنّ موقفهم متعاطف مع النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ؛ فقدرو واتجاوب العبّاس مع النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإنّه ذكر أنّه كان مُكرهاً ، وأنّه تشهّد الشهادتين.

روى القمّي في تفسيره بعدذلك أنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال لعيل : ((قد قتل الله ياأبا يزيد! ـ أباجهل بن هشام ، وعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، ومنية وبنية ابني الحجّاج ، ونوفل بن خويلد ، وسهيل بن عمرو ، والنضر بن الحارث بن كلدة ، وعقبة بن أبي معيط‍ ، وفلاناً وفلاناً.

فقال عقيل : إذاً لاتُنازَع في تهامة ، فإن كنت قدأثخنت القوم ألافاركب أكتافهم. فتبسّم رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من قوله.

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣٢.

(٢) سورة الأنفال ٧٠ : ٨.

(٣) بحار الانوار ١٨ / ١٣٠.

وكان القتلى ببدرسبعين ، والأسرى سبعين ، وقد قتل أمير المؤمنين (ع) سبعة وعشرين ولم يؤسر أحداً)) (١).

وهذا دالّ بوضوح على أنّ أُسارى بني هاشم الثلاثة كانوافي اصطفاف لنصرة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وإن أكرهتهم قريش للقتال في بدر ..

قال السيّد المرتضى (قدس سره) : ((إنّهم لمّا تباعدوا عن العريش وعن مرآه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أسروا من أسروا من المشركين بغير علمه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ولايبعد أن يكون هو عليه‌السلام لم يأسرحتّى فرّالكفار وانهزموا وتباعدوا وانتهى الأمر إلى آخره ووضعت الحرب أوزارها ، فحينئذ أُسر من أُسر ...

وأمّا الأمر بالقتل في قوله تعالى : (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنٰاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنٰانٍ)(٢) ، فالمرادبه : الكثرة لامحالة ، لاعموم ضرب أعناق الكفّار بلاخلاف ، فالقتل المدلول عليه بالآية لاينافي الأسر ، وممّا يدلّ على أنّ المرادبه : الكثرة ، هذه الآية ؛ فإنّها كالمفسّرة لتلك ..

وكذلك قوله تعالى : (فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ).

والأمر بالقتل كان مقيّداً بحال المحاربة ، كماهو المتبادر من قوله تعالى : (فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ) ؛ فإنّ الظاهر من الأمر بضرب الرقاب وقت اللقاء ، وهوحال الحرب ، ولا يسمّى مابعد الحرب وحصول الأسرى مكتوفين بأيدي الخصوم وتبدّد شملهم وزوال فئتهم عن مراكزهم : لقاءً.

وأيضاً المتبادر من مثل هذه العبارة حدثان ذلك الفعل وفواتحه ، لا أواخره ، وإن دام.

على أنّ ضرب الأطراف الذي فُسّر به ضرب البنان غير معهود من صاحب الشرع في الأسير;فإنّه يجري مجرى المثلة ، وإنّما يجوز وقت التحام الحرب وحين المسايفة)) (٣).

__________________

(١) تفسير القمّي ١/ ٢٦٩.

(٢) سورة الأنفال ١٢ : ٨.

(٣) بحار الأنوار ٣٤ / ٣٨٨.

ومن الموارد الأُخرى التي خاضوا في مزايداتها بين عصمة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدالة الصحابة :

آية الحجاب في حقّ نساء النبيّ (ص)

وهو قوله تعالى : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلىٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَلٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاٰ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ وَلاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيماً) (١).

وهي قصّة تشريع الحجاب ;فإنّها من الموارد التي جعلها أهل سُنّة الخلافة والجماعة من مناقب عمر ، المنقولة عن لسانه ، وأنّ استقامته فاقت عصمة النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقد نزل الوحي بموافقته على خلاف موقف النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ...

وفي الحقيقة هذه الحادثة هي أيضاًمن الموارد الشنيعة التي تعدّ من المواقف المحسوبة على عمر ، والتي أُريد لهاتغطية حقيقة الحدث وملابساته ، ولوكنّا نحن ومارواه أهل سُنّة الجماعة ولحن الآيات الكريمة لاستكشفنا حقيقة الأمر ـ كماسيتبيّن ـ وهي : إنّ آية الحجاب واردة انتهاراً لسلوك عدّة من الصحابة البارزين!

فقد روى أبي داود الطيالسي في مسنده بسنده عن أنس بن مالك ، قال : قال عمر: وافقت ربّي عزّ وجلّ في أربع :

قلت : يارسول الله! لوصلّيت خلف المقام ، فنزلت هذه الآية : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقٰامِ إِبْرٰاهِيمَ مُصَلًّى) (٢) ، وقلت : يارسول الله! لوضربت على نسائك الحجاب؛ فإنّه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) ... الحديث (٣).

__________________

(١) سورة الأحزاب ٥٣ : ٣٣.

(٢) سورة البقرة ١٢٥ : ٢.

(٣) مسند أبي داود الطيالسي : ٩.

والرواية كماترى يرويها عمرنفسه!

ورواه الطبراني (١) في الصغير بسنده عن عمربن الخطاب إلاّ أنّ فيه : وافقت ربّي في ثلاث ... وذكرالثالثة في قصّة أُسارى بدر ، التي مرّأنّها ورطة وقع فيها وقد حاول التخلّص من وصمتها بجعلها منقبة. ورواه في الكبير(٢) عن عبد الله بن عمر ، أنّه قال في أبيه : فضل عمر الناس بأربع : بذكره الأسارى يوم بدر ، فأمر بقتلهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : (لَوْ لاٰ كِتٰابٌ مِنَ اللّٰهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمٰا أَخَذْتُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ) وبذكره الحجاب ، فقالت زينب : وإنّك لتغار منّا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله عزّوجلّ : (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) ... الحديث.

وقال ابن جرير الطبري في تفسيره في ذيل قوله تعالى : (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) :

((قال بعضهم : نزلت بسبب قوم طعموا عندرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في وليمة زينب بنت جحش ثمّ جلسوا يتحدّثون في منزل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبرسول الله إلى أهله حاجة ، فمنعه الحياء من أمرهم بالخروج من منزله)) (٣).

وروى بإسناده عن أنس بن مالك أنّه : ((كان ابن عشرسنين مقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة ، فكنت أعلم الناس بشأن الحجاب حين أُنزل في مبتنى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بزينب بنت جحش أصبح رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بها عروساً ، فدعا القوم فأصابوا من الطعام حتّى خرجوا ، وبقي منهم رهط عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأطالوا المكث ، فقام رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وخرج ، وخرجت معه لكي يخرجوا ، فمشى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ومشيت معه ، حتّى جاء عتبة حجرة عائشة زوج النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ثمّ ظن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنّهم قد خرجوا ، فرجع ورجعت معه ، حتّى دخل على زينب فإذاهم جلوس لم يقوموا ، فرجع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ورجعت معه ، فإذاهم قدخرجوا ، فضرب بيني وبينه ستراً ، وأُنزل الحجاب)) (٤).

__________________

(١) المعجم الصغير للطبراني ٣٨/٢.

(٢) المعجم الكبير للطبراني ٩/ ١٦٧.

(٣) جامع البيان لابن جرير الطبري ٢٢ / ٤٥.

(٤) جامع البيان ـ لابن جريرالطبري ـ ٤٦/٢٢.

وروى بإسناده عن أنس بن مالك ، قال : ((قال عمر بن الخطّاب : قلت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : لوحجبت عن أُمّهات المؤمنين;فإنّه يدخل عليك البرّ والفاجر ، فنزلت آية الحجاب)) (١).

وروى بإسناده عن عبد الله ، قال : ((أمرعمر نساء النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطّاب ، إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله : (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ))) (٢).

وروى بإسناده أنّ الإطعام كان في بيت أُمّ سلمة (٣).

وذكرالطبري في تفسير الآية : ((وقوله : (إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) يقول : إنّ دخولكم بيوت النبيّ من غيرأن يؤذن لكم ، وجلوسكم فيهامستأنسين للحديث بعد فراغكم من أكل الطعام الذي دعيتم له ، كان يؤذي النبيّ ، فيستحي منكم أن يخرجكم منها إذاقعدتم فيهاللحديث بعد الفراغ من الطعام ، أو يمنعكم من الدخول إذا دخلتم بغير إذن مع كراهيّته لذلك منكم ، والله لا يستحي من الحقّ أن يتبيّن لكم ، وإن استحيى نبيّكم فلم يبين لكم كراهية ذلك ; حياءًمنكم.

(وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) يقول : وإذا سألتم أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب;يقول : من وراء ستربينكم وبينهنّ ، ولا تدخلوا عليهنّ بيوتهنّ.

(ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ). يقول تعالى ذكره : سؤالكم إيّاهنّ المتاع ، إذا سألتموهنّ ذلك من وراءحجاب ، أطهر لقلوبكم وقلوبهنّ من عوارض العين فيها ، التي تعرض في صدور الرجال من أمرالنساء وفي صدورالنساء من أمرالرجال ، وأحرى من أن لايكون للشيطان عليكم وعليهنّ سبيل.

وقدقيل : إنّ سبب أمر الله النساء بالحجاب إنّما كان من أجل أنّ رجلا كان يأكل مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكَرِه ذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)) (٤).

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٤٦/٢٢.

(٢) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٤٧/٢٢.

(٣) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٤٧/٢٢.

(٤) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٤٩/٢٢.

وروى ذلك عن مجاهد.

وقال : ((وقيل : نزلت من أجل مسألة عمررسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وروى بسنده عن عائشة ، قالت : إنّ أزواج النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) كنّ يخرجن بالليل إذا تبرّزن إلى المناصع ، وهو صعيد أفيح ، وكان عمر يقول : يارسول الله! احجب نساءك. فلم يكن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يفعل ، فخرجت سودة بنت زمعة زوج النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وكانت امرأة طويلة ، فناداها عمر بصوته الأعلى : قد عرفناك يا سودة ;حرصاًأن ينزل الحجاب. قال : فأنزل الله الحجاب)) (١).

وروى بسنده عن عائشة : ((قالت : خرجت سودة لحاجتها بعدما ضرب علينا الحجاب ، وكانت امرأة تفرع النساء طولا ، فأبصرها عمر ، فناداها : ياسودة! إنّك والله ماتخفين علينا ، فانظري كيف تخرجين ـ أو كيف تصنعين ـ؟

فانكفأت فرجعت إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإنّه ليتعشّى ، فأخبرته بما كان وماقال لهاوإنّ في يده لعِرقاً ، فأُوحي إليه ثمّ رفع عنه وإنّ العِرق لفي يده ، فقال : لقدأذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ)) (٢) ..

وقدذكر عدّة طرق لهذه الروايات ، وقدوردت في مصادرهم الحديثية الأُخرى.

وقبل أن نوردبقية أقوالهم ورواياتهم نستخلص جملة أُمور ـ ممّا سبق ـ تؤكّد أنّ هذه الواقعة لنزول الآية هي إحدى الدواهي التي أقدم عليها بعض كبار الصحابة ، ثمّ جعلت منقبة له؛ تغطيةً للحدث ، كما سيتبيّن أنّ جملة آيات الحجاب واردة ردعاً لسلوكيات عدّة من الأسماء اللامعة في الصحابة.

الأمرالأوّل : إنّ مارووه في مصادرهم الحديثية بطرق متعدّدة أنّ : ((زينب بنت جحش قالت لعمر : إنّك لتغار عليناو الوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله تعالى آية الحجاب)) شاهدعلى أنّ نزول آية الحجاب كان قبل اعتراض عمرعلى نساءالنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وذلك لأنّ نزول آية الحجاب ـ كمافي أكثر مروياتهم ـ هوعند بناءالنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بزينب وعرسه بهاوإطعامه ، وقبل ذلك لم تكن زينب في بيت

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٤٩/٢٢.

(٢) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ـ ٤٩/٢٢.

الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كي تخاطب عمربأنّ : ((الوحي ينزل في بيوتنا)) ، كما أنّ لحن قولها هومواجهته على تطاوله على أمرحجاب نساء النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

الأمرالثاني : إنّ مارووه من رواية عائشة أنّ : خروج سودة ليلاً لحاجتها بعدما ضرب عليهنّ الحجاب واعتراض عمرلها ، هو الآخريشهد بأنّ نزول آية الحجاب لم يكن على وفق مراد عمر؛ بل ظاهر ذلك هو : كون الآية نزلت رادعة لسلوك عمرمع نساء النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كماستأتي شواهدأُخرى على ذلك.

الأمرالثالث : إنّ انكفاءسودة بعدقول عمرلها ، وتشهيره بها ، ونزول الوحي بالإذن لنساء النبيّ أن يخرجن لحاجتهنّ ، شاهدعلى ردع الوحي لسلوك عمرمع نساءالنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ؛ لأنّه تشهير باسم زوج الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمام الناس ، وبأعلى صوته ، وجهاره بمعرفته لها ، وأنّها لا تخفى عليه ، فكيف يمكن توجيه ذلك؟!

وهذابحدّ ذاته شاهدعلى أنّ سلوكه لم يكن مناسباً ، وخصوصاً بعدما نزل الوحي بالإذن لهنّ في الخروج للحاجة ليلاًعلى خلاف ماقام به من اعتراض سودة في الطريق.

الأمرالرابع : من ذلك يظهر اشتباه ما ادّعوه ;تبريراًلفعل وسلوك عمر مع سودة أنّه : ((حرصاًعلى أن ينزل الحجاب ، فنزل الحجاب)) (١).

وكيف يتصوّر الحرص على العفاف والستر والغيرة على الحجاب مع ندائه بأعلى صوته باسم سودة في الطريق ، وجهاره أنّها لا تخفى عليه؟!

هل هذا إلاّ من التشهير بأُمّهات المؤمنين وهتك لخفارتهنّ؟!

بل لعلّ قوله تعالى : (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَبَنٰاتِكَ وَنِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ وَكٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٢) ، والأمر بإدناء الجلباب لكي لا يؤذين في خروجهنّ هوالوحي الذي نزل على النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد.

الأمرالخامس : إنّ مارووه في سبب نزول الآية : إنّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تأذّى ((من أجل أنّ

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي ٦ / ٢١٢.

(٢) سورة الأحزاب ٥٩ : ٣٣.

رجلاً كان يأكل معه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل، فكره ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتطابق مع الآيات السابقة الواردة في نفس المضمار من قوله تعالى : (يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاٰ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (١) ؛ فالآية تُظهر أنّ نساء النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كنّ في معرض التخاطب مع بعض الصحابة من فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

وهذه الفئة هي من أوائل الّذين اندسّوا في صفوف المسلمين في مكّة ، كماتشير إلى ذلك سورة المدّثّر(٢) ، وسورة المدّثّر رابع سورة نزلت على الرسول الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في أوائل البعثة.

وهذه الفئة من الصحابة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قدكشف القرآن عن أنّهم سيتقلّدون السلطة وزمام الأُموربعد وفاة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وأنّهم من أصحاب الصفوف الخلفية في الحروب والقتال ، كما في سورة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣) وأنّهم ممّن صفتهم ـ كمافي سورة الأحزاب ـ (٤) نعامة في الحروب ، وجبن في القتال ، وذوي ألْسِنة حدادفي السلم و ...

وهذه الفئة هي التي ينهى الله تعالى نساءالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخضوع معهم في القول والتخاطب; ممّايبيّن أنّ لهم عِشرة قريبة مع أُمّهات المؤمنين.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٢ : ٣٣.

(٢) سورة المُدّثّر ٧٤ : ٣١ (ومَاجَعَلْنَا أصْحَابَ النَّارِ إلاَّ مَلاَئِكَةً ومَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إلاَّفِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَاناً ولاَيَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ والْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَاأرَادَ اللهُ بِهذَا مَثَلاًكَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَن يَشَاءُويَهْدِي مَن يَشَاء)

(٣) سورة محمّد (ص) ٢٣ ٢٠ : ٤٧ : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلاَنُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَفِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يَنظُرُونَ إلَيْكَ نَظَرَالْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإذَاعَزَمَ الأمْرُفَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْراًلَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إن تَوَلَّيْتُمْ أن تُفْسِدُوافِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ).

(٤) سورة الأحزاب ١٢ : ٣٣ ـ ١٩ : (وَإِذْيَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّاوَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً ... أشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَالْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَة حِدَاد أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِأُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأحْبَطَ اللهُ أعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرا).

قال الطبري في تفسيره : (((وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ) ، يقول تعالى ذكره : وماينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله وما يصلح ذلك لكم.

(وَلاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) يقول : وماينبغي لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً;لأنّهن أُمّهاتكم ، ولا يحلّ للرجل أن يتزوّج أُمّه.

وذكرأنّ ذلك نزل في رجل كان يدخل قبل الحجاب ، قال : لئن مات محمّد لأتزوّجن امرأة من نسائه. سمّاها;فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ وَلاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً).

ثمّ ذكررواية مسندة في ذلك ، عن ابن زيد : قال : ربّما بلغ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ الرجل يقول : لو أنّ النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) توفّي تزوّجت فلانة من بعده. قال : فكان ذلك يؤذي النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، فنزل القرآن : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ). الآية)) (١) ...

الأمر السادس : قدكنّى الطبري عن هذا الصحابي ب‍ ـ : ((الرجل)) دون أن يصرّح باسمه ، ولكنّه وصفه ب‍ ـ : ((كان يدخل قبل الحجاب)) ، أي : ممّن يتردّد بالدخول في بيوت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وهذا الإخفاء لاسمه هو كالتكنية والإخفاء لاسم الصحابي الذي نزل فيه صدر الآية في قوله المتقدّم : ((وقد قيل : إنّ سبب أمرالله النساءبالحجاب إنّماكان من أجل أنّ رجلا كان يأكل مع رسول الله وعائشة معهما ، فأصابت يدها يد الرجل ، فكره ذلك رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ؛ فهنا أيضاًأخفوا اسم هذا الصحابي الذي هو أيضاً ممّن يدخل في بيوت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

ثمّ قال الطبري في تفسيرالآية اللاحقة (٢) :(((إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً)) ، يقول تعالى ذكره : إن تظهروا بألسنتكم شيئاً ـ أيّهاالناس! ـ من مراقبة النساء ، أوغيرذلك ممّانهاكم عنه ، أوأذىً لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقول: لأتزوّجن زوجته بعد وفاته ، (أَوْ تُخْفُوهُ) ، يقول : أو تخفوا ذلك في أنفسكم : (فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ، يقول : فإنّ الله بكلّ ذلك ، وبغيره من أُموركم وأُمور غيركم عليم لا يخفى عليه شيء ، وهو يجازيكم على جميع ذلك)) (٣).

__________________

(١) جامع البيان ـ لابن جرير الطبري ٢٢ / ٥٠.

(٢) سورة الأحزاب ٥٤ : ٣٣.

(٣) جامع البيان لابن جرير الطبري ٢٢/ ٥٠.

الأمرالسابع : وفي ذيل آيات الحجاب قوله تعالى : (إِنَّ اللّٰهَ وَمَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فِي الدُّنْيٰا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَإِثْماً مُبِيناً يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَبَنٰاتِكَ وَنِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنىٰ أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاٰ يُؤْذَيْنَ وَكٰانَ اللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنٰافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلاّٰ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللّٰهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً). (١)

وهذاالذيل يُنزل لعنة الله في الدنيا والآخرة على مَن نزلت آيات الحجاب فيهم من الصحابة الّذين آذوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في نسائه ، وأنّهم من فئة (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ..

قال النحّاس في معاني القرآن : ((وقوله عزّ وجلّ : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ وَلاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، قال قتادة : قال رجل من أصحاب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : إن مات رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تزوّجت فلانة;قال معمر : قال هذا طلحة لعائشة)) (٢).

وقال النحّاس : ((وقوله جلّ وعزّ : (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ وَبَنٰاتِكَ وَنِسٰاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ) ، قال أبومالك والحسن : كان النساء يخرجن بالليل في حاجاتهنّ فيؤذيهنّ المنافقون ويتوهّمون أنّهنّ إماء ، فأنزل الله جلّ وعزّ : (يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوٰاجِكَ) إلى آخر الآية)) (٣).

الأمر الثامن : قولهم : إنّ الأمر بإدناء الجلباب نزل لكون نساءالنبيّ والمؤمنين

__________________

(١) سورة الأحزاب ٦٢ ٥٦ : ٣٣.

(٢) معاني القرآن للنحّاس ٥ / ٣٧٣.

(٣) معاني القرآن للنحّاس ٥ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

يؤذَيْن في خروجهن ليلاًلقضاء حاجتهنّ ، وقدروت عائشة (١) أنّ عمر قد تعرّض لسودة بنت زمعة في خروجها ليلاً لقضاء حاجتها وأنّها انكفأت راجعة شاكية لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ماآذاها به عمر ، فأوحى الله تعالى لنبيّه الإذن بأن يخرجن أي بجلباب فلايؤذين.

وقال الجصّاص في أحكام القرآن : ((قوله تعالى : (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) قدتضمّن حظر رؤية أزواج النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وبيّن به أنّ ذلك : (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ؛ لأنّ نظربعضهم إلى بعض ربّما حدث عنه الميل والشهوة فقطع الله بالحجاب الذي أوجبه هذا السبب.

قوله تعالى : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ) ، يعني بما بيّن في هذه الآية من إيجاب الاستئذان وترك الإطالة للحديث عنده والحجاب بينهم وبين نسائه)) (٢).

وقال ابن الجوزي في زادالمسير ، في أسباب نزول آيات الحجاب : ((الثالث : إنّ عمر بن الخطّاب قال : قلت : يارسول الله! إنّ نساءك يدخل عليهنّ البرّ والفاجر ، فلوأمرتهنّ أن يحتجبْن. فنزلت آية الحجاب ..

أخرجه البخاري من حديث أنس ، وأخرجه مسلم من حديث ابن عمر ، كلاهماعن عمر.

والرابع : إنّ عمر أمر نساء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالحجاب ، فقالت زينب : يا بن الخطّاب! إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا. فنزلت الآية.

قاله ابن مسعود :

والخامس : إنّ عمر كان يقول لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : احجب نساءك. فلايفعل ، فخرجت سودة ليلة فقال عمر : قد عرفناك يا سودة. حرصاًعلى أن ينزل الحجاب ، فنزل الحجاب.

رواه عكرمة ، عن عائشة.

__________________

(١) جامع البيان لابن جرير الطبري ٤٩/٢٢.

(٢) أحكام القرآن للجصّاص ٤٨٣/٣.

والسادس : إنّ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)كان يطعم معه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم ، فكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وسلّم ذلك ، فنزلت آية الحجاب.

قاله مجاهد ...

قوله تعالى : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ) أي : ما كان لكم أذاه في شيءمن الأشياء. قال أبو عبيدة (كان) من حروف الزوائد. والمعنى : مالكم أن تؤذوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

(وَلاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، روى عطاء عن ابن عبّاس ، قال : كان رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : لوتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تزوّجت عائشة. فأنزل الله) تعالى) ماأنزل ..

وزعم مقاتل : إنّ ذلك الرجل : طلحة بن عبيد الله (١).

وقال الطبرسي في مجمع البيان في ذيل الآية : ((فإذا سألتم أزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلم) شيئاً تحتاجون إليه ، فاسألوهنّ من وراء الستر ..

قال مقاتل : أمرالله المؤمنين ألاّ يكلّموا نساءالنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلاّمن وراءحجاب.

وروى مجاهد ، عن عائشة ، قالت : كنت آكل مع النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيساً في قعب ، فمرّ بناعمر ، فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال : (حس! لوأطاع فيكنّ مارأتكنّ عين) فنزل الحجاب)) (٢).

الأمر التاسع : تُبيّن رواية مجاهد أنّ الصحابي الذي أصابت يده يد زوج النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فكره (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك هو : عمر ، وقد تقدّم أنّ كراهته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك كانت سبب

__________________

(١) زاد المسير لابن الجوزي ٦/ ٢١٢ ـ ٢١٣.

(٢) مجمع البيان للطبرسي ـ ١٧٧/٨.

وانظر : فتح الباري شرح صحيح البخاري ٤٠٨/٨؛ تفسيرالقرآن العظيم لابن كثير ـ ٥١٣/٣؛ مجمع الزوائد ـ للهيثمي ـ ٩٣/٧؛ السُنن الكبرى ـ للنسائي ـ ٤٣٥/٦ ح ١١٤١٩ ، المعجم الأوسط‍ ٢١٢/٣ ، المعجم الصغير ٨٤/١.

نزول آية الحجاب ، فآية الحجاب نزلت للنهي عن ماابتدر من عمر ، لاماادّعاه هولنفسه من كونه أغيرمن سيّدالأنبياء وأشرف المرسلين حبيب إله العالمين ، الذي وصفه ربّ العزّة : (وَإِنَّكَ لَعَلىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) و : (مٰا ضَلَّ صٰاحِبُكُمْ وَمٰا غَوىٰ وَمٰا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوىٰ)(٢) ، وقدقال تعالى في وسط آيات الحجاب : (إِنَّ اللّٰهَ وَمَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

فانظر هذه المحبّة الإلهية إلى خُلُق نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، ثمّ وعيد الإله تعالى بلعن وتعذيب الّذين يؤذون نبيّه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وبعدكلّ ذلك يأتي عمر مدّعياً أنّه أكثر غيرة وعفّة من سيّد الرسل؟! ، والحال أنّه الذي نزلت فيه هذه الآيات.

وقال الشيخ الطوسي في التبيان في ذيل الآية : (فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاٰ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) أي : تفرّقوا ولاتقيموا ولاتستأنسوا بطول الحديث ؛ وإنّما مُنعوا من الاستئناس من أجل طول الحديث;لأنّ الجلوس يقتضي ذلك ، والاستئناس هو ضدّالاستيحاش ، والأُنس ضدّ الوحشة. وبيّن تعالى فقال : لأنّ ذلك الاستئناس بطول الجلوس : (كٰانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) ، أي : من الحاضرين ، فيسكت على مضض ومشقّة ، (وَاللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقّ).

ثمّ قال : (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً) يعني : إذا سألتم أزواج النبيّ شيئاً تحتاجوه إليه: (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) وستر (ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) من الميل إلى الفجور.

ثمّ قال : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ) ، قال أبوعبيدة : (كان) زائدة ،

__________________

وذكره السيوطي في لباب النقول في أسباب النزول : ١٧٨ ، وفي الدرّ المنثور ٢١٣/٥;وفيه : ((وأخرج النسائي وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن عائشة ، قالت.

وأخرج ابن سعدعن ابن عبّاس ، قال : نزل حجاب رسول الله في عمر;أكل مع النبيّ طعاماًفأصاب يده بعض أيدي نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فأمر بالحجاب.

حس : كلمة يقولها الإنسان عند التوجّع ممّا آذاه ، مثل : (أوه). والحِيس : الطعام المتّخذ من التمرو الأقط‍ ـ أي : اللبن المحمض المجمّد ـ والسمن. والقعب : القدح الضخم؛ انظر : معجم مقاييس اللغة ٩/٢ ـ ١٠؛ لسان العرب ٦١/٦ مادّة (حيس) ، ونهاية ابن الأثير ٤٧٦/١.

(١) سورة القلم ٤ : ٦٨.

(٢) سورة النجم ٢ : ٥٣ ، ٣.

والمعنى : ليس لكم أن تؤذوا رسول الله بطول الجلوس عنده ومكالمة نسائه ، (ولاَ) يحلّ لكم أيضاً (أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ؛ لأنّهنّ صرن بمنزلة أُمّهاتكم في التحريم.

وقال السدي : لمّانزل الحجاب قال رجل من بني تيم : أنُحجب من بنات عمّنا؟! إن مات عرّسنابهنّ. فنزل قوله : (وَلاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ) إن فعلتموه (كٰانَ عِنْدَ اللّٰهِ عَظِيماً).

ثمّ قال لهم : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) أي : إن أظهرتموه من مواقعة النساء : (أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً) لا يخفى عليه شيءمن أعمالكم لا ظاهرة ولا باطنة (١).

وقال الطبرسي : ((ونزل قوله : (وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ) إلى آخرالآية في رجل من الصحابة قال : لئن قبض رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر ، عن ابن عباس;قال مقاتل : وهو طلحة بن عبيدالله.

وقيل : إنّ رجلين قالا : أينكح محمّد نساءنا ولاننكح نساءه؟! والله لئن مات لنكحنا نساءه. وكان أحدهما يريد عائشة والآخر يريد أُمّ سلمة ، عن أبي حمزة الثمالي (٢).

الأمر العاشر : يظهرمن مجموع الروايات الواردة عندهم أنّ سبب نزول آيات الحجاب كان بشأن ماصدر من فعل مجموعة من الصحابة البارزين ، الّذين يكثر دخولهم بيوت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكانوا يدخلون دون استئذان ، ويطيلون الحديث مع أُمّهات المؤمنين;كماذكر ذلك عدّة من مفسّري أهل سُنّة الجماعة ، ممّن تقدّم نقل كلماتهم.

وأنّ الرجل الآخر ينتمي إلى بني أُمية والعاص; لأنّ مقتضى كلامه في أُمّ سلمة ;إذكانت ذا نسب بهم.

روى الطبري بسنده عن أنس بن مالك ، قال : ((أنا أعلم الناس بهذه الآية ، آية

__________________

(١) التبيان للشيخ الطوسي ٨ / ٣٥٧ ـ ٣٥٨.

(٢) مجمع البيان للطوسي ٨ / ١٧٤.

الحجاب : لمّاأُهديت زينب إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) صنع طعاماً ودعا القوم ، فجاؤوا فدخلوا وزينب مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في البيت ، وجعلوا يتحدّثون ، وجعل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يخرج ثمّ يدخل وهم قعود. قال : فنزلت هذه الآية : (يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ... إلى : فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) قال : فقام القوم وضُرب الحجاب)) (١).

فالتعبير في هذه الرواية ب‍ ـ ((القوم)) دالّ على ((عدّة)) هي موردالخطاب لنزول الآيات : (لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ).

ومن الظاهر كونهم ممّن يكثِر الاختلاط‍ بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) والدخول في بيوته ; فهم من مبرّزي الصحابة.

وكانوا ممّن يعتاد جلوسه على الطعام في بيوت النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقد مرّفي رواية مجاهد مرور عمر بالنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي البيت عائشة ، وقدقال تعالى في الآية : (وَلٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاٰ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) ، كماأنّ قوله تعالى: (وَإِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ) ؛ ممّايدلّ على كثرة خلطتهم للنبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وبيوته ، وقدمرّ في الروايات مخاطبة عمر لزينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وعائشة.

وأنّ هذه السلوكيات من هذه الفئة من الصحابة الملتصقين كان يؤذي النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، كمافي قوله تعالى :(وَمٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللّٰهِ).

بل الآيات صعّدت لهجة النكيرمع هؤلاء الصحابة;إذ تجاسروا على ذلك وعلى القول بنكاح أزواج النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بقوله تعالى في ذيل تلك الآيات : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّٰهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فِي الدُّنْيٰا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً).

بل شدّدت النذير : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنٰافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلاّٰ قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا

__________________

(١) جامع البيان ابن جرير الطبري ٢٢/ ٤٧.

ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللّٰهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً).

وهذه الفئة والجماعة من الصحابة هم الّذين قدورد الخطاب عنهم : (يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاٰ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، وقدتقدّمت رواياتهم أنّ رجلين من هؤلاء قدتجاسروا مسقطين رداء الحياء والعِفّة والأدب معلنين إرادة نكاح أزواجه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد وفاته.

الأمر الحادي عشر : رغم كلّ هذه التوصيات القرآنية وقوله تعالى باتّحاد الحجاب في الحديث مع نساء النبيّ (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وقوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُولىٰ) (١).

رغم كلّ ذلك فكيف يفسّرخروج عائشة للحرب على إمام زمانها في صخب الجيش ومعترك الرجال وإخراج طلحة والزبير لهافي هذاالمسير.

__________________

(١) سورة الأحزاب ٣٣ : ٣٣.

الفهرس التفصيلى

فهرس العناوين الأصليّة............................................................ ٧

المقدمة.......................................................................... ٩

تبيين محور البحث / ٢١ ـ ٤٠

تحليل مفاد عدالة الصحابة....................................................... ٢٥

في أدلّة المسألة عند العامّة....................................................... ٣٣

الأحاديث النافية لعدالة الصحابة................................................. ٣٦

الوجه العقلي لعدالة الصحابة / ٤١ ـ ٤٦

الوجه النقلى لعدالة الصحابة / ٤٧ ـ ١١٤

نقاط عامّة في الجواب........................................................... ٥١

تحقيق في عنوان المهاجر والأنصاري................................................ ٥٦

مفاد الآيات القرآنية............................................................ ٦٢

الموالاة والبراءة.................................................................. ٨١

عدم إيمان بعض البدريّين........................................................ ٩٠

حال المسلمين في أحد........................................................... ٩٣

الوجه التاريخي / ١١٥ ـ ١٣٠

أغراض تشريع الجهاد الابتدائي.................................................. ١٢٢

موقف الصديقة فاطمة عليها السلام تجاه الصحبة والصحابة / ١٣١ ـ ١٤٤

موقف أمير المؤمنين عليه السلام تجاه الصحبة الصحابة / ١٤٥ ـ ١٧٦

موازين التعديل والجرح في الصحابي / ١٧٥ ـ ٢١٢

المقام الأوّل ـ فريضة المودّة...................................................... ١٧٨

مفاد آية المودّة................................................................ ١٨٧

المقام الثاني ـ ترك فريضة المودّة................................................... ١٩٢

العداوة مرض في قلوب الناصبة.................................................. ٢٠٥

العقبة والمظاهرة / ٢١٣ ـ ٢٧٢

لعقبة........................................................................ ٢١٥

معرفة امير المؤمنين عليه السلام حذيفة بالمنافقين................................... ٢٢٠

المظاهرة بالمكيدة.............................................................. ٢٤٦

صالح المؤمنين................................................................. ٢٦٦

الملحمة القرآنية............................................................... ٢٦٩

آفاق الوحدة / ٢٧٣ ـ ٣٤٢

هارون عليه‌السلام نموذج الوحدة..................................................... ٢٩٠

الوحدة وعناوين مختلطة........................................................ ٢٩٣

الوحدة والتولى. التبرى......................................................... ٢٩٤

معنى الوحدة.................................................................. ٣٠٤

الوحدة وشعائر المذهب........................................................ ٣١٠

الوحدة وطوائف الشيعة........................................................ ٣١١

حديث الفرقة الناجية.......................................................... ٣١٣

محطّة الفتوحات الإسلامية / ٣٤٣ ـ ٤٣٤

سبب الردة وحقيقتها.......................................................... ٣٦٨

تدبير امير المؤمنين عليه‌السلام فى ظفر المسلمين........................................ ٣٧٦

اخلاقيات الفتوحات.......................................................... ٣٨٩

المحطة الاولى : عوامل الظفر فى الفتوحات........................................ ٣٩٠

المحطة الثانية : الممارسات المرتكبة فى البلدان المفتوحة............................... ٤٠٠

سبب اخفاق الفتوح عن الوصول الى الوعود الالهية................................ ٤٢٢

اخلاقيات السقيفة فى الفتوح والحكم............................................ ٤٣١

الفهرست التفصيلى........................................................... ٤٣٥

الصّحابة بين العدالة والعصمة

المؤلف: الشيخ محمد السند
الصفحات: 527
  • المقدمة 9
  • تبيين محور البحث 13
  • الوجه العقلى لعدالة الصحابة 41
  • الوجه النقلى لعدالة الصحابة 47
  • لوجه التاريخى لعدالة الصحابة 115
  • موقف الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام 131
  • موقف امير المؤمنين عليه‌السلام 145
  • موازين الجرح والتعديل 175
  • العقبة والمظاهرة 213
  • آفاق الوحدة 273
  • محطة الفتوحات 343
  • الفهرست التفصيلى 435
  • فهرس العناوين الأصليّة 7
  • المقدمة 9
  • تبيين محور البحث / 21 ـ 40
  • تحليل مفاد عدالة الصحابة 25
  • في أدلّة المسألة عند العامّة 33
  • الأحاديث النافية لعدالة الصحابة 36
  • الوجه العقلي لعدالة الصحابة / 41 ـ 46
  • الوجه النقلى لعدالة الصحابة / 47 ـ 114
  • نقاط عامّة في الجواب 51
  • تحقيق في عنوان المهاجر والأنصاري 56
  • مفاد الآيات القرآنية 62
  • الموالاة والبراءة 81
  • عدم إيمان بعض البدريّين 90
  • حال المسلمين في أحد 93
  • الوجه التاريخي / 115 ـ 130
  • أغراض تشريع الجهاد الابتدائي 122
  • موقف الصديقة فاطمة عليها السلام تجاه الصحبة والصحابة / 131 ـ 144
  • موقف أمير المؤمنين عليه السلام تجاه الصحبة الصحابة / 145 ـ 176
  • موازين التعديل والجرح في الصحابي / 175 ـ 212
  • المقام الأوّل ـ فريضة المودّة 178
  • مفاد آية المودّة 187
  • المقام الثاني ـ ترك فريضة المودّة 192
  • العداوة مرض في قلوب الناصبة 205
  • العقبة والمظاهرة / 213 ـ 272
  • لعقبة 215
  • معرفة امير المؤمنين عليه السلام حذيفة بالمنافقين 220
  • المظاهرة بالمكيدة 246
  • صالح المؤمنين 266
  • الملحمة القرآنية 269
  • آفاق الوحدة / 273 ـ 342
  • هارون عليه‌السلام نموذج الوحدة 290
  • الوحدة وعناوين مختلطة 293
  • الوحدة والتولى. التبرى 294
  • معنى الوحدة 304
  • الوحدة وشعائر المذهب 310
  • الوحدة وطوائف الشيعة 311
  • حديث الفرقة الناجية 313
  • محطّة الفتوحات الإسلامية / 343 ـ 434
  • سبب الردة وحقيقتها 368
  • تدبير امير المؤمنين عليه‌السلام فى ظفر المسلمين 376
  • اخلاقيات الفتوحات 389
  • المحطة الاولى : عوامل الظفر فى الفتوحات 390
  • المحطة الثانية : الممارسات المرتكبة فى البلدان المفتوحة 400
  • سبب اخفاق الفتوح عن الوصول الى الوعود الالهية 422
  • اخلاقيات السقيفة فى الفتوح والحكم 431
  • الفهرست التفصيلى 435