سورة الدّخان

مكية وآياتها تسع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة تكتب هكذا حم وتقرأ هكذا حاميم.

(وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي القرآن المظهر للحلال والحرام في الأقوال والأعمال والاعتقادات.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) : أي فى ليلة القدر من رمضان.

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) : أي يفصل كل أمر محكم من الآجال والأرزاق وسائر الأحداث.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا) : أي فيها فى ليلة القدر يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا أى أمرنا بذلك أمرا من عندنا.

(إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي إنّا كنا مرسلين الرسل محمدا ومن قبله رحمة من ربك بالمرسل إليهم من الأمم والشعوب.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : أي السميع لأصوات مخلوقاته العليم بحاجاتهم.

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) : أي بأنه رب السموات والأرض فآمنوا برسوله واعبدوه وحده.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) : أي فليسوا بموقنين بل هم فى شك من ربوبية الله تعالى لخلقه وإلا لعبدوه وأطاعوه بل هم فى شك يلعبون بالأقوال والأفعال لا يقين لهم في ربوبية الله تعالى وإنما هم مقلدون لآبائهم فى ذلك.

معنى الآيات :

قوله تعالى (حم) (١) هذا أحد الحروف المقطعة وهو من المتشابه الذى يفوض فهم معناه الى منزله فيقول : المؤمن : الله أعلم بمراده به ، وقد ذكرنا له فائدتين جليلتين تقدمتا غير مامرة الأولى : أنه لما كان المشركون يمنعون سماع القرآن خشية التأثر به جاءت هذه الفواتح بصيغة لم تعهدها العرب فى لغتها فكان إذا قرأ القارىء رافعا صوته مادّا به هذه الحروف يستوقف السامع ويضطره إلى أن يسمع فإذا سمع تأثر واهتدى غالبا وأعظم بهذه الفائدة من فائدة والثانية : أنه لما ادعى العرب أن القرآن ليس وحيا إلهيا وإنما هو شعر أو سحر أو قول الكهان أو اساطير تحداهم الله تعالى بالإتيان بمثله فعجزوا فتحداهم بعشر سور فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا فأعلمهم ان هذا المعجز انما هو مؤلف من مثل هذه الحروف حم طسم آلم فألفوا نظيره فعجزوا فقامت عليهم الحجة لعجزهم وتقرر أن القرآن الكريم كلام الله ووحيه أوحاه إلى رسوله ويؤكد هذه الفائدة أنه غالبا إذا ذكرت هذه الحروف فى فواتح السور يذكر القرآن بعدها نحو طس تلك آيات القرآن ، حم والكتاب المبين ، آلم تلك آيات الكتاب الحكيم.

قوله تعالى (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) هذا قسم أقسم الله تعالى بالقرآن تنويها بشأنه ولله أن يقسم بما يشاء فلا حجر عليه وإنما الحجر على الإنسان أن يحلف بغير ربه عزوجل ، والمراد من الكتاب المبين المقسم

__________________

(١) ورد في فضل هذه السورة عدة أحاديث ضعيفة ولكثرتها قد ترتفع إلى درجة الحسن منها : عن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة بنى الله له بيتا في الجنة.

به القرآن العظيم ، وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أى القرآن (فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) أي كثيرة البركة والخير وهى ليلة القدر (١) والتى هى خير من الف شهر. وقوله (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ، ولذلك أرسلنا الرسول وأنزلنا القرآن لننذر الناس عذاب يوم القيامة حيث لا ينجى منه إلا الإيمان والعمل الصالح ، ولا يعرفان إلا بالوحى فكان لا بد من الرسول الذى يوحى إليه ولا بد من الوحى الحامل لبيان الإيمان وأنواع العمل الصالح. وقوله (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) أى فى تلك الليلة المباركة يفصل كل أمر محكم مما قضى الله أن يتم فى تلك السنة من أحداث في الكون يؤخذ ذلك من كتاب المقادير فيفصل عنه وينفذ خلال السنة من الموت والحياة والغنى والفقر والصحة والمرض والتولية والعزل فكل أحداث تلك السنة تفصل من اللوح المحفوظ ليتم احداثها فى تلك السنة حتى إن الرجل ليتزوج ويولد له وهو فى عداد من يموت فلا تنتهى السنة إلا وقد مات وقوله : (أَمْراً مِنْ (٢) عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أي كان ذلك أمرا من عندنا أمرنا به.

وقوله : (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) أى الرسل محمدا فمن قبله من الرسل رحمة من ربك بالناس المرسل إليهم إنه هو السميع لأقوالهم وأصواتهم العليم بحاجاتهم ، فكان ارسال الرسل (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أيها الرسول فاحمده واشكره فإنه أهل الحمد والثناه وقوله : (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي خالق ومالك السموات والأرض وما بينهما (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) ، أي بأنه رب السموات والأرض وما بينهما فاعبدوه وحده فانه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ.) وقوله تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) دال على أن إقرارهم بأن الله رب السموات ورب الخلق عند ما يسألون لم يكن عن يقين إذ لو كان على يقين لما أنكروا توحيد الله وكفروا به إذا فهم فى شك يلعبون بالأقوال فقط كما يلعبون بالأفعال ، لا يقين لهم فى ربوبيته تعالى وانما هم مقلدون لآبائهم فى ذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل ليلة القدر (٣) وأنها فى رمضان.

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن حيث ابتدأ نزوله في غار حراء في شهر رمضان وجائز أن يكون نزل كله في ليلة القدر من أم الكتاب إلى بيت العزة في سماء الدنيا ثم نزل منجما فتم نزوله خلال ثلاث وعشرين سنة.

(٢) نصب أمرا من عندنا على الحال ، والأمر الحكيم المشتمل على الحكمة ورحمة مفعول لأجله من (إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).

(٣) رويت آثار وأحاديث يزعم أصحابها أن الليلة المباركة هي ليلة النصف من شعبان وردها أهل العلم قال ابن العربي : ومن قال إنها ليلة النصف من شعبان هو باطل لأن الله تعالى قال في كتابه الصادق القاطع : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن فنص على أن ميقات نزوله في رمضان ثم عين زمانه من الليل هاهنا بقوله في ليلة مباركة فمن زعم أنه في غيره فقد أعظم الفرية على الله. وليس في ليلة النصف من شعبان حديث واحد يعول عليه لا في فضلها ولا في نسخ الآجال فيها فلا تلتفتوا إليها.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر وإثبات اللوح المحفوظ.

٣ ـ ارسال الرسل رحمة من الله بعباده ، فلم يكن زمن الفترة وأهلها أفضل من زمن الوحى.

٤ ـ لم يكن إفراد المشركين بربوبية الله تعالى لخلقه عن علم يقينى بل هم مقلدون فيه فلذا لم يحملهم على توحيد الله فى عبادته ، وهذا شأن كل علم أو معتقد ضعيف.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(فَارْتَقِبْ) : أي انتظر.

(بِدُخانٍ مُبِينٍ) : أي هو ما كان يراه الرجل من قريش لشدة الجوع بين السماء والأرض من دخان.

(يَغْشَى النَّاسَ) : أي يغشى أبصارهم من شدة الجهد الناتج عن الجوع الشديد.

(رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) : أي يا ربنا إن كشفت عنا العذاب آمنا بك وبرسولك.

(أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) : أي من أى وجه يكون لهم التذكر والحال أنه قد جاءهم رسول مبين فتولوا عنه وقالوا معلم مجنون.

(مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) : أي أنه يعلمه القرآن بشر مجنون أي مختلط عليه أمره غير مدرك لما يقول.

(إِنَّكُمْ عائِدُونَ) : أي إلى الكفر والجحود.

(الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) : أي الأخذة القوية التى أخذناهم بها يوم بدر حيث قتلوا وأسروا.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ) (١) الآية نزلت بعد أن دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قريش يوم كثر استهزاؤهم به وسخريتهم منه وبما جاء به من الدين الحق فقال اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف اي

__________________

(١) (فَارْتَقِبْ) معناه انتظر يا رسولنا يوم تأتي السماء الخ. وقيل ارتقب معناه احفظ لأن الرقيب يطلق على الحافظ.

سبع سنين من القحط والجدب فأمره ربه أن ينتظر ذلك فقال له فارتقب يوم تأتى السماء بدخان مبين يغشى الناس هذا عذاب آليم ، واستجاب تعالى لرسوله وأصاب قريشا بقحط وجدب ماتت فيه مواشيهم وأصابهم جوع أكلوا فيه العهن (١) وشربوا فيه الدم ، وكان الرجل يرفع رأسه إلى السماء فلا يرى إلا دخانا (٢) يغشى بصره من شدة الجوع ، حتى ضرعوا إلى الله وبعثوا الى الرسول يطلبون منه أن يدعو الله تعالى أن يرفع عنهم هذا العذاب وهو معنى قوله تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي برسولك وبما جاء به من الهدى والدين الحق.

وقوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ) (٣) (الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي ومن أين يأتيهم التذكر فينيبوا إلى ربهم ويسلموا له ، والحال أنه قد جاء رسول مبين للحق مظهر له فعرفوه أنه رسول حق وصدق (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أى أعرضوا عنه وعما جاء به (وَقالُوا مُعَلَّمٌ) أي (٤) هو رجل يعلمه غيره الذى يقوله ولم يكن رسولا وقالوا مجنون فلذا تذكرهم وتوبتهم مستبعدة جدا. وقوله تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ) وفعلا كشف الله عنهم عذاب المخمصة ونزل الغيث بديارهم وسعدت بلادهم بعد شقاء دام سبع سنوات ، وعادوا إلى الشرك وحرب الإسلام والمسلمين.

وقوله تعالى : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) (٥) أى وارتقب يا رسولنا (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) ، وكان ذلك ببدر حيث انتقم الله منهم فقتل رجالهم بل صناديدهم وأسر من أسر منهم ، وكانت بطشة لم تعرفها قريش قط.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ صدق وعد الله لرسوله واستجابة دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ الإيمان عند معاينة العذاب لا يجدي ولا ينفع.

__________________

(١) العهن الصوف يصبغ بالدم ويشوى ويؤكل لشدة الجوع الذي أصابهم.

(٢) لا منافاة بين هذا الدخان الثابت بالقرآن والسنة ، وبين الدخان الذي هو من أشراط الساعة والثابت بالسنة الصحيحة في حديث مسلم وهو أنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر ـ الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم.

(٣) (أَنَّى) اسم استفهام الأصل أنه يستفهم به عن المكان ويتوسع فيه فيستفهم به عن الحال كما هي هنا والاستفهام هنا إنكاري أي كيف يتذكرون وهم في شك يلعبون وجملة وقد جاءهم رسول حالية فهي في محل نصب.

(٤) أي لم يكتفوا بالإعراض بل زادوا عليه الافتراء والسب إذ قالوا معلم مجنون.

(٥) يقال انتقم منه أي عاقبه والنقمة بالكسر والفتح والجمع نقم كعنب ونقمات ككلمات والظرف (يَوْمَ) متعلق بجملة (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي منتقمون يوم البطش.

٣ ـ بيان ما قابلت به قريش دعوة الإسلام من جحود وكفران.

٤ ـ إخبار القرآن بالغيب وصدقه فى ذلك آية أنه وحى الله وكلامه تعالى.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) : أي ولقد اختبرنا قبلهم أي قبل كفار قريش قوم فرعون من الأقباط.

(وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) : أي موسى بن عمران صلوات الله عليه وسلامه.

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) : أي ادفعوا إلي عباد الله بنى إسرائيل وارسلوهم معى.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) : أي انى رسول الله اليكم أمين على وحيه ورسالته.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) : أي وبأن لا تطغوا على الله فتكفروا به وتعصوه.

(إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة واضحة تدل على صدقى فى رسالتى وما اطالبكم به.

(وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ) أى وانى قد اعتصمت بربى وربكم واستجرت به ان ترجمونى

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) : أي إن لم تصدقونى فيما جئتكم به فخلوا سبيلي واتركوني.

(فَدَعا رَبَّهُ) : أي فلما كذبه فرعون وقومه وهموا بقتله نادى ربه يا رب.

(أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) : أي إن هؤلاء قوم مجرمون بالكفر والظلم.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) : أي فأجابه ربه بأن قال له فأسر بعبادى أي بنى إسرائيل ليلا إن

فرعون وجنده متبعوكم ليردوكم.

(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) : أي وإذا اجتزت أنت وقومك البحر فاتركه رهوا ساكنا كما هو حين دخلته مع بنى إسرائيل.

(إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) : أي إن فرعون وقومه جند والله مغرقهم في البحر.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا) (١) هذا شروع فى قصة موسى مع فرعون لوجود تشابه بين أكابر مجرمى قريش وبين فرعون فى ظلمه وعلّوه ، والقصد تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتخفيف ألمه النفسى من جرّاء ما يلاقى من أكابر مجرمى قريش فى مكة فقال تعالى : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ) أي قبل كفار قريش قوم فرعون من القبط وجاءهم رسول كريم أى على ربه وعلى قومه من بنى إسرائيل هو موسى بن عمران عليه‌السلام ، (أَنْ أَدُّوا) أي بأن أدوا أى ادفعوا إلى عباد الله بنى إسرائيل وأرسلوهم معى (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على رسالتى صادق فى قولي ، وبأن لا تعلوا على الله أي بأن لا تطغوا على الله فتكفروا به وتعصوه فيما يأمركم به وينهاكم عنه. (إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة بينة واضحة على صحة ما أطالبكم به. (وَإِنِّي عُذْتُ (٢) بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أى استجرت وتحصنت (أَنْ تَرْجُمُونِ) بأقوالكم (٣) أو أعمالكم ، (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أى لم تصدقوا بما جئتكم به (فَاعْتَزِلُونِ) ولما أبوا إلا أذاه وأرادوا قتله (فَدَعا رَبَّهُ) قائلا رب (أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) كفرة ظلمة يعنى فرعون وملأه فأوحى إليه ربه تعالى (فَأَسْرِ (٤) بِعِبادِي) أي بنى إسرائيل إذ هم المؤمنون وغيرهم من القبط كافرون ليلا في آخر الليل وأعلمه أن فرعون وجنوده متبعون لهم ليردوهم وينكلوا بهم. وقوله تعالى : (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ (٥) رَهْواً إِنَّهُمْ (٦)جُنْدٌ مُغْرَقُونَ). إنه لما ضرب موسى البحر بعصاه فانفلق فلقتين ودخل بنو إسرائيل البحر فاجتازوه أراد موسى أن يضرب البحر ليلتئم كما كان حتى لا يدخله فرعون وجنده فيدركوهم فقال له ربه تعالى أترك البحر رهوا أى ساكنا كما كان حين دخلتموه حتى إذا دخل فرعون وجنوده اطبقناه عليهم إنهم جند مغرقون وهذا الذى حصل فنجى (٧) الله موسى وبنى إسرائيل وأغرق فرعون وجنوده أجمعين.

__________________

(١) (فَتَنَّا) بمعنى أبتلينا وهو الأمر بالإيمان والطاعة أي عاملتهم معاملة المختبر لهم وذلك ببعث موسى وأخيه هارون عليهما‌السلام.

(٢) كأنهم هددوه بالقتل فلذا استجار بالله تعالى.

(٣) الرجم بالقول الكذب على الشخص والافتراء عليه كذبا والرجم بالأعمال معناه القتل بالحجارة.

(٤) قرأ نافع وغيره بهمزة وصل وقرأ حفص وغيره بهمزة قطع لأن الفعل ثلاثيا نحو سرى يسري سريا وأسرى يسري إسراء.

(٥) المراد بالبحر هنا بحر القلزم المعروف اليوم بالبحر الأحمر ورهوا منصوب على الحال والرهوة الفجوة الواسعة مأخوذ من (رها) إذا فتح بين رجليه ومعناه : أترك البحر مفتوحا ساكنا حتى يدخل فرعون وجنده فيهلكون.

(٦) جملة إنهم جند مغرقون تعليلية ومغرقون مقضيا ومحكوم بإغراقهم.

(٧) وكانت هذه النجاة يوم عاشوراء وهو عاشر شهر المحرم لحديث صيام اليهود فيه لأن الله أنجا فيه موسى وبني إسرائيل فصامه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بصيامه وقال نحن أولى بموسى منهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجود تشابه كبير بين فرعون وكفار قريش فى العلو والصلف والكفر والظلم.

٢ ـ مشروعية الاعتبار بما سلف من أحداث فى الكون والائتساء بالصالحين.

٣ ـ وجوب الاستعاذة بالله تعالى والاستجارة به إذ لا مجير على الحقيقة إلا هو ولا واقي سواه.

٤ ـ مشروعية دعاء الله تعالى على الظالمين وسؤاله النصر عليهم والنجاة منهم.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

شرح الكلمات :

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ) : أي بساتين وحدائق غناء.

(وَمَقامٍ كَرِيمٍ) : أي مجلس حسن ومحافل مزينة ومنازل حسنة.

(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) : أي نضرة عيش ولذاذته كانوا فيها ناعمين.

(وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) : أي بنى إسرائيل.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) : أي لهوانهم على الله بسبب كفرهم وظلمهم.

(وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) : أي ممهلين حتى يتوبوا.

(مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) : أي قتل ابنائهم واستخدام نسائهم.

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) : أي اخترناهم على علم منا على عالمى زمانهم من الإنس والجن. وذلك لكثرة الأنبياء منهم وفيهم.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) : أعطيناهم من النعم ما فيه بلاء مبين أى واضح كانفلاق البحر والمنّ والسلوى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى قصة موسى عليه‌السلام مع عدو الله فرعون عليه لعائن الرحمن قال تعالى : (كَمْ تَرَكُوا) (١) (مِنْ جَنَّاتٍ) أي كم ترك فرعون وجنوده الذين هلكوا معه في البحر أي تركوا كثيرا من الجنات اى البساتين والعيون الجارية فيها سقي الزروع ، (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أي منازل حسنة ومحافل مزينة بأنواع الزينة والمحفل مكان الاحتفال ، (وَنَعْمَةٍ) (٢) أي متعة عظيمة (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي ناعمين مترفين وقوله تعالى : (كَذلِكَ) (٣) هكذا كانت نعمتهم فسلبناهما منهم لكفرهم بنا وتعاليهم على شرائعنا وأوليائنا ، (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) (٤) هم بنو إسرائيل إذ رجعوا إلى مصر بعد هلاك فرعون. وقوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، لأنهم كانوا كافرين لم يعملوا على الأرض خيرا ولم يعرج إلى السماء من عملهم خير فلم يبكون إنما يبكى المسلم تبكيه الأرض التى كان يسجد عليها ويعبد الله تعالى فوقها وتبكيه السماء التى كان كل يوم وليلة يصعد إليها عمله الصالح ، وقوله (وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) أي ممهلين بل عاجلهم الرب بالعقوية ، ولم يمهلهم علهم يتوبون لعلم الله تعالى بطبع قلوبهم وكم واعدوا موسى إن رفع عنهم العذاب يؤمنون ، وما آمنوا. وقوله تعالى (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) هذه بعض أياديه على بنى إسرائيل وهى أنه نجاهم من العذاب المهين الذى كان فرعون وقومه يصبونه عليهم إذ كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم للخدمة والامتهان وأى عذاب مهين أكبر من هذا؟ (مِنْ فِرْعَوْنَ) أي من عذاب فرعون الذى كان ينزله بهم (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) أي كان فرعون جبارا طاغيا من المسرفين فى الكفر والظلم. وقوله تعالى (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي بنى إسرائيل على علم أي منا على العالمين أى عالمى زمانهم من الثقلين الإنس والجن ، وقوله تعالى : (وَآتَيْناهُمْ) أي اعطيناهم من الآيات (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) (٥) أي اختبار عظيم ومن تلك الآيات انفلاق البحر ،

__________________

(١) (كَمْ) للتكثير كرب للتقليل غالبا.

(٢) النعمة بفتح النون التنعيم يقال نعمه فتنعم. والنعمة بالكسر اليد والصنيعة والمنّة وما أنعم به على المرء ومثلها النعماء والنعمى.

(٣) كذلك قيل الأمر كذلك فيوقف على كذلك وقيل كذلك أفعل بمن عصاني أو كذلك كان أمرهم.

(٤) يرى بعضهم أن المراد بقوم آخرين أنهم غير بني اسرائيل وإنما هم من الأقباط أهل مصر أنفسهم لأن بني إسرائيل لم يعودوا إلى مصر بعد أن خرجوا منها مستدلا بأن الله تعالى قال (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) ولم يقل (ولقد نجيناهم) فيعود الضمير على بني اسرائيل لكن في آية الشعراء قال تعالى (كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) فهذا نص صريح وطريق الجمع أن يقال ان بني إسرائيل بعد موت موسى وانتصارهم على الكنعانيين والعمالقة وإقامة دولة في فلسطين دخلوا مصر وحكموها أما على عهد سليمان فإنهم حكموا غالب المعمورة وهذا وجه الجمع والله أعلم.

(٥) في هذا البلاء المبين أربعة أوجه ذكرها القرطبي وهي نعمة ظاهرة ـ عذابه شديد ـ اختبار يتميز به الكافر من المؤمن ـ ابتلاء بالشدة والرخاء.

وتظليل الغمام لهم والمن والسلوى فى التيه الى غير ذلك مما هو اختبار عظيم لهم أيشكرون أم يكفرون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله فى سلب النعم وإنزال النقم بمن كفر نعم الله ولم يشكرها فعصى ربه وأطاع هواه ونفسه فترك الصلاة واتبع الشهوات وترك القرآن واشتغل بالأغانى ، وأعرض عن ذكر الله واقبل على ذكر الدنيا ومفاتنها.

٢ ـ بيان هوان أهل الكفر والفسق على الله وعلى الكون كله ، وكرامة أهل الإيمان والتقوى على الله وعلى الكون كله حتى ان السماء والأرض تبكيهم إذا ماتوا.

٣ ـ ذم العلو فى الأرض وهو التكبّر والإسراف فى كل شىء.

٤ ـ بيان أن الله يبتلى أي يختبر عباده بالخير والشر.

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢))

شرح الكلمات :

(إِنَّ هؤُلاءِ) : أي المشركين من قريش.

(إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) : أي لا حياة بعدها ولا موت وهذا تكذيب بالبعث الآخر.

(وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) : أي بمبعوثين أحياء من قبورنا بعد موتنا.

(فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي فأت يا محمد بآبائنا الذين ماتوا إن كنت صادقا فى أننا بعد موتنا وبلانا نبعث أحياء من قبورنا.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي هؤلاء المشركون خير في القوة والمناعة أم قوم تبع والذين من قبلهم كعاد.

(أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) : أي انزلنا بهم عقوبتنا فأهلكناهم إنهم كانوا قوما مجرمين.

(لاعِبِينَ) : أي عابثين بخلقهما لا لغرض صالح.

(ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) : أي إلا لأمر اقتضى خلقهما وهو أن أذكر فيهما وأشكر.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) : أي إن يوم القيامة الذى يفصل فيه بين الخلائق ويحكم ميعادهم أجمعين حيث يجمعهم الله فيه.

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) : أي يوم لا يكفى قريب قريبه بدفع شيء من العذاب عنه.

(وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : أي لا ينصر بعضهم بعضا.

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) : أي لكن من رحمه‌الله فإنه يدفع عنه العذاب وينصر.

(إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) : أي الغالب المنتقم من أعدائه الرحيم بأوليائه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى طلب هداية قوم النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما ذكر قصص موسى وفرعون إلا تنبيها وتذكيرا لعلهم يتذكرون فقال تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ) الأدنون الهابطين بعقولهم إلى أسوا المستويات ما يستحون ولا يخجلون فيقولون (إِنْ هِيَ (١) إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) منكرين للبعث والجزاء ليواصلوا كفرهم وفسقهم ، فلذا قالوا (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) أي بمبعوثين أحياء من قبورنا كما تعدنا يا محمد ، وان أصررتم على قولكم بالحياة الثانية (فَأْتُوا بِآبائِنا) الذين ماتوا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢) فى ذلك وقولهم فأتوا وإن كنتم ليس من باب تعظيم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانما شعور منهم أنه ليس وحده فى هذه الدعوة بل وراءه من هو دافع له على ذلك. (٣)

__________________

(١) (إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) مبتدأ وخبر نحو إن هي إلا حياتنا الدنيا فإن نافية بمعنى ما والضمير مبتدأ وما بعد إلا الخبر.

(٢) قيل في هذا القائل أنه أبو جهل قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا محمد إن كنت صادقا في قولك فابعث لنا رجلين من آبائنا أحدهما قصي بن كلاب فإنه كان رجلا صادقا لنسأله عما كان بعد الموت.

(٣) جائز أن يكون الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجائز أن يكون مع المؤمنين وهذا هو الظاهر لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معه أصحابه يدعون بدعوته وعلى رأسهم أبو بكر الصديق ومن آمن معه من أعيان مكة وأشرافها كعثمان وعلي وعمر رضي الله عنهم أجمعين.

وقوله تعالى : (أَهُمْ (١) خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ (٢) وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ)؟ انهم ليسوا بخير منهم بأي حال لا فى المال ولا فى الرجال فكما أهلكناهم نهلك هؤلاء ، وأهلكنا الأولين لأنهم كانوا مجرمين أي على أنفسهم بالشرك والمعاصى ، وهؤلاء مجرمون أيضا فهم مستوجبون للهلاك وسوف يهلكون إن لم يتوبوا فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا الله ورسوله.

وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) هذا دليل على البعث والجزاء إذ ليس من الحكمة ان يخلق الله الكون لا لشىء ثم يعدمه ولا شىء وراء ذلك هذا من اللعب والعبث الذى ينتزه عنه العقلاء فكيف بواهب العقول جل وعز إنه ما خلق الكون إلا ليذكر فيه ويشكر فمن ذكره فيه وشكره أكرمه وجزاه بأحسن الجزاء ، ومن تركه وكفره أهانه وجزاه بأسوء الجزاء وذلك يتم بعد نهاية هذه الحياة ووجود الحياة الثانية وهو يوم القيامة.

ولذا قال تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي إنّ يوم القيامة لفصل القضاء والحكم بين الناس فيما اختلفوا من التوحيد والشرك ، والبرور والفجور هو ميعادهم الذى يحضرون فيه اجمعين (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) أي يوم لا يكفى أحد قريب كابن العم عن أحد بدفع شيء من العذاب عنه ، ولا بنصر بعضهم بعضا كما كانوا فى الدنيا ، وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ) أي لكن من رحم الله فى الدنيا بالإيمان والتوحيد فإنه يرحمه فى الآخرة فيشفع فيه وليا من أوليائه انه تعالى (هُوَ الْعَزِيزُ) أي الانتقام من أعدائه (الرَّحِيمُ) بأوليائه. والناس بين ولي لله وعدو فأولياؤه هم المؤمنون المتقون وأعداؤه هم الكافرون الفاجرون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ الإجرام هو سبب الهلاك والدمار كيفما كان فاعله.

٣ ـ تبع الحميرى كان عبدا (٣) صالحا ملكا حاكما وكان قومه كافرين فأهلكهم الله وأنجاه ومن معه

__________________

(١) الاستفهام إنكاري أي ليسوا خيرا من قوم تبع والذين من قبلهم كعاد وثمود وقد أهلكهم الله والمراد من قوم تبع أقوام ملوك التبابعة إذ تبع لقب لمن يملك بلاد اليمن كلها ككسرى للفرس وقيصر للروم.

(٢) في مسند أحمد رحمه‌الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» ولذا ذكر تعالى هلاك قومه ولم يذكره معهم ويقال له أسعد ويكنى أبا كرب وكان قيل البعثة المحمدية بألف سنة أو ما يقارب ذلك وقصة حياته مشهورة في كتب السيرة وفي كتابنا هذا الحبيب بيان ذلك.

(٣) إنه غزا المدينة بعد عودته من غزو العراق وأراد خرابها ثم ترك لما علم من قبل اليهود أنها مهاجر نبي اسمه أحمد فقال شعرا تركه عند أهلها فتوارثوه كابرا عن كابر إلى أن هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدوه إليه ومر بالكعبة فكساها وهذا شعره :

شهدت على أحمد أنه

رسول من الله باري النّسم

فلو مد عمري إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

من المؤمنين الصالحين ففى هذا الملك الصالح عبرة لمن يعتبر.

٤ ـ تنزه الرب تعالى عن اللعب والعبث فيما يخلق ويهب ، ويأخذ ويعطى ويمنع.

٥ ـ يوم القيامة وهو يوم الفصل ميعاد الخليقة كلها حيث تجمع لفصل القضاء.

٦ ـ لا تنفع قرابة ولا خلة ولا صداقة يوم القيامة ، ولكن الإيمان والعمل الصالح.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) : أي الشجرة التى تثمر الزقوم وهى من اخبث الشجر ثمرا مرارة وقبحا.

(طَعامُ الْأَثِيمِ) : أي ثمرها طعام الأثيم أبى جهل وأصحابه من ذوى الأثام الكبيرة.

(كَالْمُهْلِ) : أي كدردىّ الزيت الأسود.

(يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) : أي الماء الشديد الحرارة.

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) : أي يقال للزبانية خذوه فاعتلوه أي جروه بغلظة وشدة.

(إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) : أي إلى وسطها.

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) : أي ذق العذاب إنك كنت تقول ما بين جبلي مكة أعز وأكرم منى.

(ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) : أي إنّ هذا العذاب الذى كنتم تمترون به أى تشكون فيه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر النار وما فيها من ضروب العذاب فقال تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ) كأبي جهل وأضرابه من ذوى الآثام ، وشجرة الزقوم تنبت فى أصل الجحيم طلعها كأنه رؤوس الشياطين فى القبح وثمرها الذى هو الزقوم مر أشد المرارة جعلها الله تعالى

طعام الأثيم أبي جهل وذوى الآثام الكبيرة. وقوله تعالى فى الاخبار عنها (كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي (١) الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) أي كدردي الزيت يغلى فى بطون الآثمين كغلي الحميم أي الماء الحار الشديد الحرارة. وقوله تعالى : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى (٢) سَواءِ الْجَحِيمِ ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي يقال للزبانية وهم الملائكة الموكلون بالنار وعذابها خذوه فاعتلوه أي ادفعوه واجذبوه بعنف إلى وسط الجحيم ، (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) أي صبوا فوق رأسه الماء الحار الشديد الحرارة ويقال له : تهكما به (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ) (٣) (الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي كما كنت تقول في الدنيا إذ كان أبو جهل يقول : ما بين جبلى مكة أعز وأكرم منى ، وكان يجمع أولاده ويضع بين أيديهم الزبدة وتمر العجوة ويقول لهم تزقموا هذا هو الزقوم الذى يهددنا به محمد اللهم صلى وسلم على نبينا محمد وقوله تعالى : (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) أي يقال لهم إن هذا أي العذاب الذى كنتم تشكون فى أنه كائن يوم القيامة ، وذلك لتكذيبهم بالبعث والجزاء يوم القيامة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ عظم عذاب النار وفظاعة ما يلاقيه ذوو الآثام الكبيرة فيها.

٣ ـ يوجد شجرة بأريحا من الغور لها ثمر كالتمر حلو عفيص ، لنواه دهن عظيم المنافع عجيب الفعل فى تحليل الرياح الباردة وأمراض البلغم وأوجاع المفاصل والنقرس وعرق النسا والريح اللاحجة فى حق الورك ، يشرب منه زنة سبعة دراهم ثلاثة أيام ، وربما أقام الزمنى ، والمقعدين. ذكر هذا صاحب حاشية الجمل على الجلاليين عند تفسير هذه الآية. ولو أمكن أخذ هذا الثمر واستخراج زيته والتداوى به لكان خيرا.

٤ ـ من أشد أنواع العذاب فى النار العذاب النفسى بالتهكم والسخرية من المعذبين وهو العذاب المهين الذى يهين المعذبين ويدوس كرامتهم.

__________________

(١) قرأ نافع تغلي بالتاء وقرأ حفص بالياء على رجوع الضمير إلى الطعام لا إلى المهل.

(٢) العتل القود بعنف وشدة. وقرأ نافع فاعتلوه بضم التاء وقرأ حفص (فَاعْتِلُوهُ) بجر التاء.

(٣) هذا مقول قول محذوف تقديره : قولوا ذق .. والذوق مستعار للإحساس وصيغة الأمر هنا مستعملة في الإهانة وجملة. إنك أنت العزيز الكريم جملة تعليلية للأمر قبله ذق انك. والمراد بها التهكم والازدراء إذ المراد أنك أنت الذليل المهان.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ) : أي إن الذين اتقوا ربهم فى الدنيا فآمنوا وعملوا الصالحات بعد اجتناب الشرك والمعاصى فى مجلس آمين لا يلحقهم فيه خوف بحال.

(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) : هذا هو المقام الأمين.

(مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) : أي مارق من الديباج ، وما غلظ منه.

(مُتَقابِلِينَ) : أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لأن الأسرة تدور بهم.

(كَذلِكَ ، وَزَوَّجْناهُمْ) : أي الأمر كذلك وزوجناهم.

(بِحُورٍ عِينٍ) : أي بنساء بيض واسعات الأعين.

(يَدْعُونَ فِيها) : أي يطلبون الخدم فيها أن يأتوهم بكل فاكهة.

(آمِنِينَ) : أي من انقطاعها ومن مضراتها ومن كل مخوف.

(لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) : أي لكن الموتة الأولى فقد ذاقوها.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) : أي سهلنا القرآن بلغتك.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أي يتعظون فيؤمنون ويوحدون لكنهم لا يؤمنون.

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) : أي فانتظر هلاكهم فإنهم منتظرون هلاكك.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى حال أهل النار عقب عليه بذكر حال أهل الجنة وهذا هو أسلوب الترغيب والترهيب الذى تميز به القرآن الكريم لأنه كتاب دعوة وهداية زيادة على أنه كتاب تشريع وأحكام فقال عز من قائل : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي) (١) (مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) فأخبر تعالى أن الذين اتقوه فى الدنيا فآمنوا به وأطاعوه فى أمره ونهيه ولم يشركوا به هؤلاء (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) أي فى مجلس آمن لا يلحقهم فيه خوف ، وبين ذلك المقام الآمن بقوله (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين وعيون. (يَلْبَسُونَ) أي ثيابهم (مِنْ (٢) سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) ، والسندس مارق من الحرير والاستبرق ما غلظ منه ، وقوله (مُتَقابِلِينَ) أي لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض لأن الأسرة التى هم عليها تدور. وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك أي كما وصفنا (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ (٣) عِينٍ) ، الحوراء من النساء البيضاء ومن فى عينيها حور وهو كبر بياض العين على سوادها والعين جمع عيناء وهى واسعة العينين. وقوله (يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ) أي يطلبون الخدمة أن يوافوهم بكل فاكهة حال كونهم آمنين من انقطاعها ومن ضررها ومن كل مخوف يلحق بسببها أو بسبب غيرها.

وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (٤) أي لا يذوقون فى الجنة الموت بعد الموتة الأولى التى ذاقوها فى الدنيا فإن أهلها لا يمرضون ولا يهرمون ولا يموتون وقوله تعالى : (وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ،) وهذا دال على أن غير المتقين من الموحدين قد يذوقون عذاب الجحيم قبل دخولهم الجنة بخلاف المتقين فإنهم لا يدخلون النار البتة وقوله تعالى : (فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أى كان ذلك الإنعام والتكريم فضلا من ربك إذ لم يستوجبوه لمجرد تقواهم وقد قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حديث مسلم «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم الجنة عمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله قال «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل». وقوله ذلك هو الفوز العظيم. أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم وهو كما فى قوله من سورة آل عمران : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ).

وقوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٥) أي فإنما سهلنا القرآن بلغتك العربية

__________________

(١) المقام بضم الميم مكان الإقامة ، والمقام بالفتح مكان القيام ويتناول السكن وما يتبعه. وقرأه نافع بضم الميم وقرأه حفص بفتح الميم.

(٢) من سندس من لبيان الجنس والمبين محذوف دل عليه يلبسون أي ثيابا.

(٣) عن ابن مسعود أن المرأة من الحور العين ليرى مخ ساقها من وراء اللحم والعظم. وقال مجاهد إنما سميت الحور حورا لأنهن يحار الطرف في حسنهن وبياضهن وصفاء لونهن ولا منافاة بين هذه الصفات. وروى أن إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين في أثرين أحدهما عن أنس ونصه كنس المساجد مهور الحور العين.

(٤) الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا.

(٥) الباء سببية أي يسرناه للحفظ والفهم بسبب لغتك العربية إذ المراد باللسان اللغة لا الجارحة المعروفة.

لعلهم يتذكرون فيتعظون فيؤمنون ويتقون. لكن أكثرهم لم يتعظ (فَارْتَقِبْ) ما يحل بهم فإنهم منتظرون ما يكون لك من نجاح أو إخفاق.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل التقوى وكرامة أهلها والتقوى هى خشية من الله تحمل على طاعة الله بفعل محابه وترك مكارهه.

٢ ـ بيان شيء من نعيم أهل الجنة ترغيبا في العمل لها.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٤ ـ بيان الحكمة من تسهيل فهم القرآن الكريم وهو الاتعاظ المقتضى للتقوى.

سورة الجاثية

مكية وآياتها سبع وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف الهجائية يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حاميم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي القرآن.

(مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : أي من عند الله العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم فى تدبيره.

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي إن فى خلق السموات والأرض.

(لَآياتٍ) : أي لدلالات واضحات على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات الربوبية والألوهية له وحده دون سواه.

(لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي لأنهم بالإيمان أحياء يبصرون ويسمعون فيرون الآيات.

(وَفِي خَلْقِكُمْ) : أي وفى خلقكم أيها الناس وتركيب أعضائكم وسلامة بنيانكم.

وما بث من دابة : أي وما خلق ونشر من أنواع الدواب من بهائم وغيرها.

(آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : أي علامات على قدرة الله تعالى على البعث الآخر إذ الخالق لهذه العوالم قادر على إعادتها بعد موتها ، ولكن هذه الآيات لا يراها إلا القوم الموقنون فى ايمانهم بربوبية الله والوهيته وصفات الجلال والكمال له.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي بمجىء هذا وذهاب ذاك وطول هذا وقصر ذاك على مدى الحياة.

(وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) : أي من مطر ، وسمي المطر رزقا لأنه يسببه.

(فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أحيا بالمطر الأرض بعد موت نباتها بالجدب.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) : أي من صبا إلى دبور ، ومن شمال إلى جنوب ، ومن سموم إلى باردة ومن نسيم إلى عاصفة.

(آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : أي فى اختلاف الليل والنهار وانزال المطر واحياء الأرض وتصريف الرياح دلالات واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته واقتضاء ذلك ربوبية الله والوهيته ، لقوم يعقلون أي يستعملون عقولهم فى إدراك الأشياء واستنتاج النتائج من مقدماتها.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (حم) : الله أعلم بمراده به إذ هو من المتشابه الذى أمرنا أن نؤمن به ونفوض أمر معناه إلى من انزله سبحانه وتعالى. وقد ذكرنا مرات فائدتين لهذه الحروف المقطعة فلتراجع فى أكثر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كحم الدخان السورة التى قبل هذه السورة. وقوله

تعالى (تَنْزِيلُ (١) الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي تنزيل القرآن كان من عند الله العزيز أي الانتقام من أعدائه الحكيم فى تدبير أمور خلقه وقوله تعالى : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي في خلقهما وإيجادهما وما فيها من عجائب الصنعة لآيات للمؤمنين (٢) تدلهم على استحقاق ربهم للعبادة دون سواه من سائر خلقه ، وخصّ المؤمنون بهذه الآيات لأنهم أحياء يسمعون ويبصرون ويعقلون فهم إذا نظروا فى السموات والأرض تجلت لهم حقائق أن الخالق لهذه العوالم لن يكون إلا قادرا عليما حكيما عزيزا ومن ثم وجب أن لا يعبد إلا هو ، وكل عبادة لغيره باطلة.

وقوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) أيها الناس أي فى أطوار خلقكم من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى بشر سوى الخلقة معتدل المزاج والتركيب له سمع وبصر ونطق وفكر.

(وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) أي وما يخلق وما يفرق وينشر فى الأرض من أنواع الدواب والبهائم والحيوانات على اختلافها من برية وبحرية (آياتٌ لِقَوْمٍ (٣) يُوقِنُونَ) أي يوقنون فى إيمانهم بالله تعالى وآياته ، كما يوقنون بحقائق الأشياء ، الثابتة لها فالواحد مع الواحد اثنان والموجود ضد المعدوم ، والأبيض خلاف الأسود ، والابن لا بد له من أب ، والعذب خلاف المر فأصحاب هذا اليقين يرون فى خلق الانسان والحيوان آيات دالة على وجود الله وعلمه وعزته وحكمته وقدرته على البعث والجزاء الذى أنكره عادمو العقول من المشركين والكافرين. وقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي بتعاقبهما بمجئ الليل وذهاب النهار ، والعكس كذلك وبطول أحدهما وقصر الآخر تارة والعكس كذلك (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) أى من مطر هو سبب الرزق (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بيبس النبات وموته عليها ، (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) من صبا الى دبور ، ومن شمال الى جنوب ومن رخاء لينة إلى عاصفة ذات برد أو سموم إن فى المذكورات آيات حججا ودلائل دالة على وجود عبادة الله وتوحيده فى ذلك ، ولكن (لِقَوْمٍ (٤) يَعْقِلُونَ) أي لذوى العقول النيرة السليمة. أما الذين لا عقول لهم فلا يرون ولا فى غيرها آية فضلا عن آيات.

__________________

(١) (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) مبتدأ خبره (مِنَ اللهِ) وإيثار وصفي (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) من بين أسماء الله وصفاته الإيماء إلى أن هذا الكتاب ذو نبأ عظيم فهو عزيز بعزة منزله لا يقدر على مثله وذو حكم لا يخلو منها.

(٢) كون الآيات للمؤمنين دون الكافرين باعتبار أنهم هم المنتفعون بها لأنهم يسمعون ويبصرون ويعقلون والكافرون فاقدون لذلك فلم تكن الأيات لهم لعدم انتفاعهم بها.

(٣) اليقين لا يكون إلا بعد الإيمان فالإيمان يثمر اليقين فالمؤمن يرى في خلق السموات والأرض أي في إيجادهما على ما هما عليه آيات على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته فيرتفع إيمانهم إلى مرتبة اليقين فيرون في أدق الأشياء كالأجنة في الأرحام وما هو أخفى يرون فيه آيات تزيد في يقينهم وتحملهم على حبهم لله وطاعتهم له والتقرب إليه.

(٤) والعقل مرتبة ثالثة بعد الإيمان واليقين في باب الاهتداء فالذي يرى اختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وما ينجم عنها من نباتات وزروع ولم يهتد إلى الإيمان فيؤمن فهو غير عاقل ولا يصح نسبته إلى العقلاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ عظم شأن القرآن الكريم لأنه تنزيل الله العزيز الحكيم.

٢ ـ الإيمان أعم من اليقين ومقدم عليه فى الترتيب واليقين أعلى فى الرتبة.

٣ ـ فضل العقل (١) السليم إن استخدم فى الخير وما ينفع.

٤ ـ تقرير ألوهية الله تعالى بتقرير ربوبيته فى الخلق والتدبير والعلم والحكمة.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

شرح الكلمات :

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) : أي تلك الآيات المذكورة آيات الله أى حججه الدالة على وحدانيته.

(نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ) : أي نخبرك عنها بالحق لا بالباطل كما يخبر المشركون عن آلهتهم أنها تقربهم إلى الله زلفى كذبا وباطلا.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) : أي فبأي حديث أيها المشركون بعد حديث الله هذا الذى يتلوه عليكم وبعد حججه هذه.

تؤمنون : أي تصدقون والجواب أنكم لا تؤمنون.

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) : أي عذاب الويل لكل كذاب ذى آثام كبيرة وكثيرة.

__________________

(١) من شروط التكليف العقل بلا خلاف بين أئمة الإسلام والكافر غير مكلف بفروع الشريعة أيضا لأنه لو عقل لآمن ولو آمن لكلف فالكافر لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل فكيف يكلف؟

(يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ) : أي يسمع آيات القرآن كتاب الله تقرأ عليه.

(ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) : أي ثم يصر على الكفر حال كونه مستكبرا عن الإيمان والتوحيد كأن لم يسمعها.

(وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً) : أي إذا بلغه شيء من القرآن وعلم أنه من القرآن.

(اتَّخَذَها هُزُواً) : أي اتخذ تلك الآية أو الآيات مهزوا بها متهكما ساخرا منها.

(لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) : أي ذو اهانة لهم يهانون به وتكسر أنوفهم.

(مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) : أي أمامهم جهنم وذلك يوم القيامة ، والوراء يطلق على الأمام كذلك.

(وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) : أي لا يكفى عنهم ما كسبوه من المال والأفعال التى كانوا يعتزون بها شيئا من الإغناء.

(وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) : أي ولا يغنى عنهم كذلك ما اتخذوه من أصنام آلهة عبدوها دون الله تعالى

(هذا هُدىً) : أي هذا القرآن الذى أنزله الله تعالى على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدى أى كله حجج وبراهين ودلالات هادية.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) : أي والذين كفروا بالقرآن فلم يهتدوا به وبقوا على ضلالهم من الشرك والمعاصى.

(لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) : أي لهم عذاب موجع من نوع الرجز وهو أشد أنواع العذاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى طلب هداية قريش فبعد أن بيّن تعالى آياته فى الآفاق وفى الأنفس قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أى تلك الآيات المذكورة أي آيات الله أي حججه الدالة على وجوده وعلمه وقدرته وموجبة لربوبيته على خلقه وألوهيته فهو الإله الحق الذى لا إله إلا هو حق سواه. وقوله (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) أي إن لم يؤمن هؤلاء المشركون بالله ربا وإلها لا رب غيره ولا إله سواه ، وبآياته القرآنية الحاملة للهدى والخير والنور فبأى شيء يؤمنون أي يصدقون لا شيء يؤمنون لأن الاستفهام إنكارى والإنكار كالنفى فى معناه.

وقوله (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) هذا

__________________

(١) أشار إليها بلام البعد للدلالة على علو شأنها وعزة مرامها ولو لا هذا لقال هذه آيات الله لقرب ذكرها.

(٢) صاحب هاتين الصفتين كثرة الإفك وكثرة الإثم هو في خبث نفسه كالشياطين سواء بسواء إذ مثله هو الذي تنزل عليه الشياطين ويتحد معها على الخبث والكفر والشر والإفساد.

وعيد من الله تعالى شديد لكل كذاب يقلب الكذب فيصف الطاهر بالخبيث والخبيث بالطيب والكاذب بالصادق ، والصادق بالكاذب أثيم منغمس فى كبائر الإثم والفواحش. يسمع هذا الأفاك الاثيم آيات الله تتلى عليه وهى القرآن الكريم ، ثم يصر على الكفر مستكبرا عن الإيمان به وبما يدعو إليه من التوحيد ، كأن لم يسمع تلك الآيات. قال تعالى لرسوله (فَبَشِّرْهُ (١) بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وقوله تعالى (وَإِذا عَلِمَ) أي ذلك الأفاك الأثيم (مِنْ آياتِنا شَيْئاً) كأن تبلغه الآية أو الآيات من القرآن (اتَّخَذَها هُزُواً) أي أخذ يهزأ بها ويسخر منها ، ويواصل ذلك فيجعلها هزوا بها ، قال تعالى : (أُولئِكَ) أي الأفاكون الآثمون وما أكثرهم (لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي فيه إهانة زائده تنكسر منها أنوفهم التى كانت تأنف الحق وتستكبر عنه. وقوله تعالى : (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ) هذا وعيد لهم تابع للأول إذ أخبر تعالى أن من ورائهم جهنم وذلك يوم القيامة ولفظ الوراء يطلق ويراد به الأمام فهو من الألفاظ المشتركة فى معنيين فأكثر وقوله (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا (٢) شَيْئاً) أي ولا يكفى عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا جاههم ولا كل ما كسبوا فى هذه الدنيا أي لا يدفع ذلك عنهم شيئا من العذاب ، وكذلك لا تغنى عنهم آلهتهم التى عبدوها من دون الله شيئا من دفع العذاب. (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) لا يقادر قدره ، وكيف والعظيم جل جلاله وصفه بأنه عظيم.

وقوله تعالى : (هذا هُدىً) (٣) أي هذا القرآن هدى أي يخرج من الضلالة الى الهدى ، ومن الكفر إلى الإيمان ومن الشرك إلى التوحيد لما فيه من الهدى والنور ، ولما يدعو إليه من الحق والعدل والخير والذين كفروا به وأعرضوا عنه وهو آيات الله وحججه على خلقه هؤلاء لهم عذاب من رجز أليم أي عذاب هو من أشد أنواع العذاب لأنهم بالكفر بالآيات لم يزكوا أنفسهم ولم يطهروها فماتوا على أخبث النفوس وشرها فلا جزاء لهم إلا رجز العذاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ القرآن نور وأعظم نور فمن لم يهتد عليه لا يرجى له الهداية أبدا.

٢ ـ الوعيد الشديد لأهل الإفك والآثام ، والإفك الكذب المقلوب.

٣ ـ شر الناس من إذا سمع آيات الله استهزأ وسخر منها أو ممن يتلوها.

__________________

(١) البشارة تكون بالخبر السار الذي تتهلّل به البشرة بالبشر والطلاق والتبشير بالعذاب يورث اسوداد الوجه وكلوحه فالبشارة هنا من باب التهكم به أو لكون البشرة تتغير للخبر فصح إطلاق البشارة عليه.

(٢) في الآية إشارة إلى أن اصحاب هذه الصفات يكونون من أرباب الأموال لأنهم يكتسبونها بكل وسيلة ولو ببيع عقولهم وضمائرهم وأموالهم والمحافظة عليها من عوامل ردهم لدعوة الإسلام ومحاربتها كما هو مشاهد.

(٣) هذا هدى أي هذا القرآن هدى في ذاته وما يدعو إليه ومن كفر به فحرم الهداية فلم يهتد فلا جزاء له إلا جزاء العذاب الأليم.

٤ ـ لم يغن عمن مات على الكفر شيء من كسب فى هذه الحياة الدنيا من مال وولد وجاه وسلطان.

٥ ـ لم يغن عن المشرك ما كان يعبد من دون الله أو مع الله من أصنام وأوثان وملائكة أو أنبياء أو أولياء.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

شرح الكلمات :

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ) : أي الله المعبود بحق لا الآلهة الباطلة سخر لكم أي لأجلكم البحر بأن جعله أملس تطفو فوقه الأخشاب ونحوها.

(لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ) : أي جعله كذلك لتجرى السفن فيه بإذن الله تعالى.

(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) : أي لتسافروا إلى طلب الرزق من إقليم إلى إقليم.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) : أي رجاء أن تشكروا نعم الله عليكم.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) : أي من شمس وقمر ونجوم ورياح وماء أمطار.

(وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) : أي وما فى الأرض من جبال وأنهار وأشجار ومعادن منه تعالى.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي علامات ودلائل وحجج على وجود الله والوهيته

(لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) : أي لقوم يستخدمون عقولهم فيتفكرون فى وجود هذه المخلوقات ومن أوجدها ولماذا أوجدها فتتجلى لهم حقائق وجود الله وعلمه وقدرته ورحمته فيؤمنوا ويوحدوا.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا) : أي قل يا رسولنا للمؤمنين من عبادنا يغفروا أي يتجاوزوا

ولا يؤخذوا.

(لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) : أي لا يتوقعون أيام الله أي بالإدالة منهم للمؤمنين فيذلهم الله وينصر المؤمنين عليهم وهم الرسول وأصحابه وهذا قبل الأمر بجهادهم.

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي ليجزى تعالى يوم القيامة قوما منهم وهم الذين علم تعالى أنهم لا يؤمنون بما كسبوه من أذى الرسول والمؤمنين.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) : أي فهو الذى يرحم ويسعد به.

(وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) : أي ومن عمل سوءا فالعقوبة تحل به لا بغيره.

(ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) : أي يعد الموت ويحكم بينكم فيما كان بينكم من خلاف وأذى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى هداية قوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ) (١) تذكير لأولئك المعرضين بالحجج والآيات الدالة على وجوب الإيمان بالله وتوحيده وطاعته فهو تعالى يعرفهم أن ما بهم من نعم هى من الله لا من غيره من تلك الآلهة الباطلة. الله لا غيره هو الذى سخر لكم أي ذلل ويسر وسهل (ما فِي السَّماواتِ) من شمس وقمر ونجوم وسحب وأمطار ورياح لمنافعكم ، وسخر لكم (ما فِي الْأَرْضِ) من جبال وأشجار وأنهار وبحار ومعادن وحيوانات على اختلافها كل ذلك منه (٢) وهو وهبه لكم ، إن فى ذلك المذكور من إنعام الله عليكم بكل ما سخر لكم (لَآياتٍ لِقَوْمٍ (٣) يَتَفَكَّرُونَ) فيهديهم تفكيرهم إلى وجوب حمد الله تعالى وشكره بعد أن آمنوا به ووحدوه فى ربوبيته وألوهيته. وقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا (٤) يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ (٥) لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ). يأمر تعالى رسوله أن يقول لصحابته أيام الخوف فى مكة قبل الهجرة إصفحوا وتجاوزوا عمن يؤذيكم من كفار قريش ، ولا تردوا الأذى بأذى مثله بل اغفروا لهم ذلك وتجاوزوا عنه ، وقد نسخ هذا بالأمر بالجهاد.

وقوله تعالى (لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) تعليل للأمر بالصفح والتجاوز أي ليؤخر لهم

__________________

(١) ذكر تعالى في هذه الآيات كمال قدرته وتمام نعمته على عباده وبين أنه خلق ما خلق لمنافعهم.

(٢) منه من ابتدائيه أي جميع ذلك المذكور المسخر من عند الله تعالى ليسر لغيره فيه أدنى شركة وموقع (منه) موقع الحال أي سخر لكم ما سخر حال كونه منه.

(٣) التفكر هو منبع الإيمان واليقين والعقل إذ من فكر عقل ومن عقل آمن ومن آمن أيقن ومن أيقن طلب النجاة من النار والفوز بالجنان بالإيمان وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي.

(٤) (يَغْفِرُوا) مجزوم لأنه في جواب الأمر (قُلْ) وجائز أن يكون مجزوما بتقدير لام الأمر محذوفة أي ليغفروا.

(٥) جائز أن يراد بأيام الله ثوابه وعقابه أو نصره لأوليائه وإيقاعه بأعدائه. أو البعث الآخر ولقائه.

ذلك الى يوم القيامة ويجزيهم به أسوأ الجزاء لأنه كسب من شر المكاسب إنه أذية النبى والمؤمنين أولياء الله ، وفى تنكير قوما يدل على أن بعضهم سيؤمن ولا يعذب يوم القيامة فلا يعذب إلا من مات على الكفر والشرك منهم.

وقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (١) أي من عمل صالحا فى هذه الحياة الدنيا من إيمان وطاعة لله ورسوله فى أوامرهما ونواهيهما فزكت بذلك نفسه وتأهل لدخول الجنة فإن الله يدخله الجنة ويكون عمله الصالح قد عاد عليه ولم يعد على غيره إن الله غني عن عمل عباده ، وغير العامل لا تطهر نفسه ولا تزكو بعمل لم يباشره بنفسه ، وقوله ومن أساء أي في حياته فلم يؤمن ولم يعمل صالحا يزكي به نفسه ، فجزاء كسبه السيء من الشرك والمعاصى عائد على نفسه عذابا فى النار وخلودا فيها. (٢)

وقوله تعالى : (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أي إنكم أيها الناس بعد هذه الحياة وما عملتم فيها من صالح وسيء ترجعون إلى الله يوم القيامة ويجزيكم كلا بحسب عمله الخير بالخير والشر بمثله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد والبعث (٣) والجزاء والنبوة.

٢ ـ بيان علة الإنعام الإلهى على العبد وهى أن يشكر الله تعالى بحمده والثناء عليه وصرف تلك النعم فى مرضاته تعالى لا فى معاصيه الموجبة لسخطه.

٣ ـ مشروعية التسامح مع الكفار والتجاوز عن أذاهم فى حال ضعف المسلمين.

٤ ـ تقرير قاعدة أن المرء لا يؤخذ بجريرة غيره.

٥ ـ تقرير أن الكسب يؤثر فى النفس ويكون صفة لها وبه يتم الجزاء فى الدار الآخرة من خير وغيره قال تعالى سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم (الأنعام).

__________________

(١) العمل الصالح شرطه الإيمان ولذا ما ذكر العمل الصالح في القرآن إلا والإيمان مقرونا به إلا ما ندر كهذه الآية.

(٢) الخلود في النار خاص بالمشركين والكافرين أما أهل الإيمان والتوحيد فلا يخلدون في النار لحسنة الإيمان والتوحيد.

(٣) هذه الأصول الثلاثة عليها مدار استقامة العبد وجل السور المكية تعالجها فلا تكاد توجد سورة تخلو من تحقيقها والدعوة إليها.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(الْكِتابَ) : أي التوراة لأنها الحاوية للأحكام الشرعية بخلاف الزبور والإنجيل.

(وَالْحُكْمَ) : أي الفصل في القضايا بين المتنازعين على الوجه الذي يحقق العدل.

(وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) : أي جعلنا فيهم النبوة كنبوة موسى وهارون وداود وسليمان ، ورزقهم من الطيبات كالمنّ والسلوى وغيرهما.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) : أي على عالمى زمانهم من الأمم المعاصرة لهم.

(إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) : أي لم يختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم ببعثة النبى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغيا بينهم أي حسدا للعرب أولاد إسماعيل أن تكون النبوة فيهم.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ (١) مِنَ الْأَمْرِ) : أي ثم جعلناك يا رسولنا على شريعة من أمر الدين الحق الذى ارتضاه الله لعباده.

__________________

(١) الشريعة لغة المذهب والملة ويقال لمشرعة الماء أي مورد الشاربة شريعة ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد فالشريعة ما شرع الله لعباده من الدين والجمع شرائع.

(فَاتَّبِعْها) : أي الزم الأخذ بها والسير على طريقها فأنها تفضي بك إلى سعادة الدارين.

(وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) : من مشركى العرب ومن ضلال أهل الكتاب.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي إن أنت تركت ما شرع لك واتبعت ما يقترحون عليك أن تفعله مما يوافق أهواءهم إنك إن اتبعتهم لن يدفعوا عنك من العذاب الدنيوي والآخروى شيئا.

(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) : أي ينصر بعضهم بعضا فى الدنيا أما فى الآخرة فإنهم لا ينصرون.

(وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) : أي متوليهم فى أمورهم كلها وناصرهم على أعدائهم.

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) : أي هذا القرآن أي أنوار هداية يهتدون به إلى ما يكملهم ويسعدهم ، وهدى ورحمة ، ولكن لأهل اليقين فى إيمانهم فهم الذين يهتدون به ويرحمون عليه أما غير الموقنين فلا يرون هداه ولا يجدون رحمته لأن شكهم وعدم إيقانهم يتعذر معهما أن يعملوا به فى جد وصدق وإخلاص.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى طلب هداية قوم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعرض عليهم حالا شبيهة بحالهم لعلهم يجدون فيها ما يذكرهم ويعظهم فيؤمنوا ويوحدوا قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي (١) إِسْرائِيلَ) أي اعطينا بنى إسرائيل وهم أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل وهو ابن اسحق بن إبراهيم خليل الرحمن آتيناهم (الْكِتابَ) التوراة (وَالْحُكْمَ) وهو الفقه بأحكام الشرع والإصابة في العمل والحق فيها ثمرة إيمانهم وتقواهم (وَالنُّبُوَّةَ) فجعلنا منهم أنبياء ورسلا كموسى وهارون ويوسف وداود وسليمان وعيسى ، (وَفَضَّلْناهُمْ (٢) عَلَى الْعالَمِينَ) أي على فرعون وقومه من الأقباط ، وعلى من جاور بلادهم من الناس ، وذلك أيام إيمانهم واستقامتهم ، (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ (٣) مِنَ الْأَمْرِ) أمر الدين تحملها التوراة والانجيل (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) الإلهى يحمله القرآن ونبيه فاختلفوا فيما كان عندهم من الأنباء عن نبي آخر الزمان ونعوته وما سيورثه الله وأمته من الكمال الدنيوى والآخروى فحملهم بغى حدث

__________________

(١) ذكر تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أعطى بنى إسرائيل من إفضالات ثم ذكر ما أعطاه هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكون ذلك جاريا على سنته في إكرام من يشاء من عباده فلا يكون ذلك داعيا إلى إنكار المشركين ولا أهل الكتاب نبوة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كانوا يعقلون.

(٢) بأن جمع الله لهم بين استقامة الدين والخلق وبين حكم أنفسهم بأنفسهم وبين أصول العدل فيهم مع حسن العيش وشمول الأمن والرخاء لهم.

(٣) أي علمناهم حججا وعلوما في أمر دينهم ونظام حياتهم بحيث يكونون على بصيرة في تدبير مجتمعهم وعلى سلامته من الشرور والمفاسد.

بينهم وهو الحسد على الكفر فكفروا به وكذبوه فهذه الآية نظيرها آية البقرة : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ). وكقوله فى سورة البينة (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) هذه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة ، ومن جهة أخرى إعلام منه تعالى بأنه سيحكم بينهم ويفصل ويؤدى كل واحد ثمرة كسبه من خير وشرفى هذه الحياة وذلك يوم القيامة.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ (١) مِنَ الْأَمْرِ) أي من أمر ديننا الإسلام الذي هو دين الأنبياء من قبلك فلم تختلف شريعتك فى أصولها على شرائعهم ، وعليه فاتبعها ولا تحد عنها متبعا أهواء الذين لا يعلمون من زعماء قريش الذين يقدمون لك اقتراحاتهم من الوقت إلى الوقت ولا أهواء ضلال أهل الكتابين من اليهود والنصارى إنهم جهال لا يعلمون هدى الله ، ولا ما هو سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة فى الآخرة ، ولا هو سبيل العزة والكرامة والدولة والقوة فى الدنيا.

وقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي إنّك إن اتبعت أهواءهم واستوجبت العذاب لن يدفعوا عنك ولن يكفوك شيئا منه ، وقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي فى الدنيا فيتعاونون على الباطل والشر أما فى الآخرة فلا ينصر بعضهم بعضا ولا هم ينصرون من قبل أحد (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) ، أما المتقون فالله وليهم في الدنيا والآخرة ، فعليك بولاية الله ، ودع ولاية أعدائه ، فإنها لن تغني عنك شيئا.

وقوله تعالى : (هذا بَصائِرُ (٢) لِلنَّاسِ) يريد القرآن الكريم إنه عيون القلوب بها تبصر النافع من الضار والحق من الباطل فمن آمن به وعمل بما فيه اهتدى إلى سعادته وكماله ومن لم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ضل وشقى. وقوله (وَهُدىً وَ (٣) رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي أن القرآن الكريم كتاب هداية ورحمة عليه يهتدى المهتدون ، ويرحم المرحومون وهم الذين ايقنوا بهدايته ورحمته فعملوا به عقائد وعبادات وأحكاما وآدابا وأخلاقا فحصل لهم ذلك كما حصل للسلف الصالح من هذه الأمة ، وما زال القرآن كتاب هداية ورحمة لكل من آمن به وأيقن فعمل وطبق بجد وصدق أحكامه وشرائعه وآدابه واخلاقه التى جاء بها وقد كان خلق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن لقول عائشة رضى الله عنها فى الصحيح كان خلقه القرآن.

__________________

(١) (عَلى) للاستعلاء أي التمكّن والثبات والشريعة الدين والملة المتبعة والأمر الشأن العظيم والأمر هو أمر الله تعالى الذي أراده لك ولأمتك من الدين المنجي المسعد في الدارين.

(٢) البصائر جمع بصيرة وهي إدراك العقل الأمور على حقيقتها شبهت ببصر العين.

(٣) القرآن هدى ورحمة لكل من يهتدي بهداه ويتعرض لرحمته العمل به وخص به لذلك أهل اليقين لأنهم القادرون على الأخذ بهدايته والتعرض لرحمته والعمل به.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن كفر أهل الكتاب كان حسدا للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقومه من العرب.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على بنى إسرائيل حيث أعطاهم الكتاب والحكم والنبوة.

ومع هذا اختلفوا فى الحق حسدا وطمعا فى الرئاسة وإقامة مملكة بنى إسرائيل من النيل الى الفرات.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء والنبوة والتوحيد.

٤ ـ وجوب لزوم تطبيق الشريعة الإسلامية وعدم التنازل عن شىء منها.

٥ ـ تقرير ولاية الله تعالى لأهل الإيمان به وتقواه بفعل محابه وترك مساخطه.

٦ ـ بيان أن القرآن كتاب هداية وإصلاح ، ولا يتم شىء من هداية الناس وإصلاحهم إلا عليه.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) : أي اكتسبوا بجوارحهم الشرك والمعاصى.

(سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ) : أي محياهم ومماتهم سواء ، لا لا المؤمنون فى الجنة والمشركون فى النار.

(ساءَ ما يَحْكُمُونَ) : أي ساء حكما حكمهم بالتساوى مع المؤمنين.

(وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) : أي وليجزى الله كل نفس ما كسبت من خير وشر.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : أي أخبرنى عمن اتخذ اي جعل إلهه أي معبوده هواه.

(وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) : أي على علم من الله تعالى بأنه أهل للإضلال وعدم الهداية.

(وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) : أي ظلمة على عينيه فلا يبصر الآيات والدلائل.

(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) : أي أفلا تتذكرون أيها الناس فتتعظون.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى فى الآيات قبل هذه الظالمين والمتقين وجزاء كل منهم وأنه كان مختلفا باختلاف نفوس الظالمين والمتقين خبثا وطهرا ذكر هنا ما يقرر ذلك الحكم وهو اختلاف جزاء الظالمين والمتقين فقال : (أَمْ حَسِبَ (١) الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) أي اكتسبوها بجوارحهم ، والمراد بها الشرك والمعاصي (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا) بالله ربا وإلها وبكل ما أمر تعالى بالإيمان به ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من إقام الصلاة وآيتاه الزكاة وصيام رمضان والجهاد والحج والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وما إلى ذلك من الصالحات. (سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٢) أي ساء حكما حكمهم هذا ومعنى هذا أن الله تعالى أنكر على من يحسب هذا الحسبان ويظن هذا الظن الفاسد وهو أن يعيش الكافر والمؤمن فى هذه الحياة الكافر يعيش على المعاصى والذنوب والمؤمن على الطاعة والحسنات ثم يموتون ولا يجزى الكافر على كفره والمؤمن على إيمانه ، وأسوأ من هذا الظن ظن آخر كان ليعضهم وهو أنهم إذا ماتوا يكرمون وينعم عليهم بخير ما يكرم به المؤمنون وينعم به عليهم. وهذا غرور عجيب ، فأنكر تعالى عليهم هذا الظن الباطل وحكم انه لا يسوى بين بر وفاجر ، ولا بين مؤمن وكافر لأن ذلك مناف للعدل والحق (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ، وأنزل الشرائع وأرسل الرسل ليعمل الناس فى هذه الحياة الدنيا فمن آمن وعمل صالحا كانت الحسنى له جزاء ، ومن كفر وعمل سوءا كانت جهنم جزاءه ، وهو معنى قوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٣) أي من خير وشر ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لأن العدالة الإلهية هى التى تسود يوم القيامة وتحكم.

وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ (٤) مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أي جعل معبوده ما تهواه نفسه فما هويت قولا إلا قاله ، ولا عملا إلا عمله ولا اعتقادا إلا اعتقده ضاربا بالعقل والشرع عرض الحائط فلا يلتفت

__________________

(١) (أَمْ) للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعد أم استفهام إنكاري أي لا يحسب الذين اجترحوا السيئات أنهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات. والآية نزلت كما قال البغوي في نفر من المشركين في مكة قالوا للمؤمنين إن كان ما تقولون حقا لنفضلنّ عليكم في الآخرة كما فضلنا عليكم في الدنيا.

(٢) (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) هذه الجملة تذييل لما قبلها من إنكار حسبانهم وما اتصل به من المعاني ، والحياة والممات مصدران ميميان من الحياة والموت.

(٣) الباء للتعويض لأن ما كسبته النفس لا تجزى به وإنما تجزى بمثله وما يناسبه من خير أو شر.

(٤) الاستفهام للتعجب من حال هذا الذي اتخذ إلهه هواه والمخاطب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكل ذي أهلية لأن يفهم عن الله تعالى من المؤمنين.

إليهما ولا يستمع الى ندائهما. وقوله تعالى (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (١) أي منه تعالى حيث سبق فى علمه أن هذا الإنسان لا يهتدي ولو جاءته كل آية فكتب ذلك عليه فهو كائن لا محالة ، وقوله (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) أي وختم تعالى على سمعه حسب سنته فى ذلك فأصبح لا يسمع الهدى ولا الحق كأنه أصم لا يسمع ، وأصبح لا يعقل معانى ما يسمع وما يقال له كأنه لا قلب له ، وأصبح لما على بصره من ظلمة لا يرى الادلة ولا العلامات الهادية الى الحق والى الطريق المستقيم المفضي بسالكه إلى النجاة من النار ودخول الجنة. وقوله تعالى : (فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) وقد أضله الله تعالى والجواب لا أحد. كقوله تعالى من سورة النحل (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) أي من أضله الله تعالى حسب سنته فى الإضلال وهي أن يدعى العبد الى الحق والمعروف والخير فيتكبر ويسخر ويحارب فترة يصبح بعدها غير قابل لهداية فهذا لا يهديه أحد بعد أن أضله الله تعالى.

وقوله تعالى : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢) أي أفلا تذكرون فتتعظون أيها الناس فتؤمنوا وتوحدوا وتعملوا الصالحات فتكملوا وتسعدوا فى الدنيا وتنجو من النار وتدخلوا الجنة فى الآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بطلان اعتقاد الكافرين فى أن الناس يحيون ويموتون بلا جزاء على الكسب صالحه وفاسده.

٢ ـ تقرير البعث والجزاء.

٣ ـ موعظة كبيرة فى هذه الآية أم حسب الذين اجترحوا السيئات إلى آخرها حتى إن أحد رجال السلف الصالح قام يتهجد من الليل فقرأ حتى انتهى الى هذه الآية فأخذ يرددها ويبكى حتى طلع الفجر.

٤ ـ التنديد بالهوى والتحذير (٣) من اتباعه فقد يفضي بالعبد الى ترك متابعة الهدى إلى مطاوعة الهوى فيصبح معبوده هواه لا الرب تعالى مولاه.

٥ ـ التحذير من ارتكاب سنن الضلال المفضي بالعبد إلى الضلال الذى لا هداية معه.

__________________

(١) (عَلى عِلْمٍ) أي أضله الله مع ما عنده من العلم الذي لو خلع عن نفسه الكبر والعناد والميل إلى الهوى لاهتدى ونجا وسعد ولكن أو على علم من الله تعالى بأنه ليس أهلا للهداية كما في التفسير.

(٢) قرأ نافع تذكرون بتشديد الذال وقرأه حفص بتخفيفها الأولى على إدغام إحدى التائين في الذال فشددت والثانية على حذف إحدى التائين فخففت.

(٣) من الكلمات المأثورة في هذا قولهم ثلاث من المهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.

(وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦))

شرح الكلمات :

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) : أي قال منكر والبعث ما الحياة إلا هذه الحياة ، وليس وراءها حياة أخرى.

(نَمُوتُ وَنَحْيا) : أي يموت بعضنا ويحيا بعضنا بأن يولدوا فيحيوا ويموتوا.

(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) : أي وما يميتنا إلّا مرور الزمان علينا.

(وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ) : أي وليس لهم أدنى علم على قولهم لا من وحى وكتاب إلهى ولا من عقل صحيح.

(إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) : أي ما هم إلا يظنون فقط والظن لا قيمة له ولا يبنى عليه حكم

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي وإذا قرئت عليهم الآيات الدالة على البعث والجزاء الأخرى بوضوح.

(ما كانَ حُجَّتَهُمْ) : أي لم تكن لهم من حجة إلا قولهم.

(إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا) : إلا قولهم احيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأتوا بهم إلينا.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : إن كنتم صادقين فيما تخبروننا به من البعث والجزاء.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) : أي قل لهم يا رسولنا الله الذى يحييكم حين كنتم نطفا ميته ، ثم يميتكم.

(ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي ثم بعد الموت يجمعكم الى يوم القيامة للحساب والجزاء.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : أي يوم القيامة الذى لا ريب ولا شك فى مجيئه فى وقته المحدد له.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) : أي لا يعلمون لعدم تلقيهم العلم عن الوحى الإلهي لكفرهم بالرسل والكتب.

معنى الآيات :

تقدم فى الآيات بيان اعتقاد بعض المشركين فى استواء حال المؤمنين والكافرين يوم القيامة وأن الله تعالى أبطل ذلك الاعتقاد منكرا له عليهم ، وهنا حكى قول منكرى البعث بالكلية ليرد عليهم وفى ذلك دعوة لعامة الناس إلى الإيمان والعمل الصالح للإسعاد والكمال فى الحياتين ولله الحمد والمنة فقال عزوجل : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا (١) حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (٢) أي وقال منكرو البعث والجزاء يوم القيامة ما هناك إلا حياتنا هذه التى نحياها وليس وراءها حياة أخرى ، إننا نموت ونحيا أي نموت نحن الأحياء ويحيا أبناؤنا من بعدنا وهكذا تستمر الحياة أبدا يموت الكبار ويحيا الصغار ، (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) أي وما يميتنا ويفنينا إلا مرور الزمان وطول الأعمار وهو إلحاد كامل وإنكار للخالق عزوجل وهو تناقض منهم لأنهم إذا سئلوا من خلقهم يقولون الله فينسبون إليه الخلق وهو أصعب ولا ينسبوا إليه الإماته وهى أهون من الخلق فرد تعالى عليهم مذهبهم «الدهرى» بقوله : (وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) أي ليس (٣) لهم على معتقدهم هذا أدنى علم نقليا كان ولا عقليا أي لم يتلقوه عن وحى أوحاه الله الى من شاء من عباده ولا عن عقل سليم راجح لا ينقض حكمه كالواحد مع الواحد اثنان والأبيض خلاف الأسود وما إلى ذلك من القضايا العقلية التى لا ترد فهؤلاء الدهريون ليس لهم شيء من ذلك ما لهم إلا الظن والخرص وقضايا العقيدة لا تكون بالظن. والظن أكذب الحديث.

وقوله تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) أي وإذا قرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات القرآن الدالة على البعث والجزاء تدعوهم إلى الإيمان به واعتقاده (ما كانَ حُجَّتَهُمْ) (٤) أي لم تكن لهم من حجة يردّون بها ما دعوا إليه إلا قولهم (٥) : (ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي أحيوا لنا آباءنا الذين ماتوا وأحضروهم عندنا ان كنتم صادقين فيما تخبروننا من البعث والجزاء. فقال تعالى فى رد هذه الشبهة وبيان للحق فى المسألة (قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ، ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ (٦) فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء الدهريين المنكرين للبعث الله يحييكم إذ كنتم نطفا ميته

__________________

(١) هي ضمير القصة والشأن وجملة نموت ونحيا مبينة لجملة ما هي إلا حياتنا الدنيا أي ليس بعد هذا العالم عالم آخر فالحياة هي هذه لا غير.

(٢) روي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (كان أهل الجاهلية يقولون ما يهلكنا إلا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فيسبون الدهر). قال الله تعالى (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار).

(٣) قال القرطبي كان المشركون أصنافا منهم هؤلاء ومنهم من كان يثبت الصانع وينكر البعث ومنهم من يشك في البعث ولا يقطع بإنكاره.

(٤) فإن قيل لم سمى قولهم حجة وليس هو بحجة؟ قيل لأنهم أدلوا به كما يدلي المحتج بحجته وساقوه مساقها فسميت حجة على سبيل التهكم.

(٥) أي أحيوا لنا الموتى نسألهم عن صدق ما تقولون.

(٦) جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) حال من (يَوْمِ الْقِيامَةِ) أي لا ريب في وجوده وكونه لا ريب فيه لأنه علة الحياة كلها فلولاه ما كانت هذه الحياة فمن هنا لا معنى للشك فيه بالكلية.

فأحياكم ، ثم يميتكم بدون اختياركم فالقادر على الإحياء والإماته وفعلا هو يحيى ويميت لا يحيل العقل أن يحيى من أحياهم ثم أماتهم وإنما لم يحيهم اليوم كما طلبتم لأنه لا فائدة من إحيائهم بعد أن أحياهم ثم أماتهم هذا أولا وثانيا إحياؤهم لكم اليوم يتنافى مع الحكمة العالية فى خلق هذه الحياة الدنيا والآخرة إذ خلقوا ليعملوا ، ثم يجازوا بأعمالهم خيرها وشرها. ولهذا قال ثم يجمعكم أي أحياء فى يوم القيامة للحساب والجزاء وقوله لا ريب فيه أي لا شك فى وقوعه ومجيئه إذ مجيئه حتمى لقيام الحياة الدنيا كلها عليه. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا لأمرين الأول أنهم لا يفكرون ولا يتعقلون والثانى أنهم لتكذيبهم بالوحى الإلهى سدوا فى وجوههم طريق العلم الصحيح فهم لا يعلمون ، ولا يعلمون حتى يؤمنوا بالوحى ويسمعوه ويتفهموه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء.

٢ ـ الرد على الدهريين وهم الذين ينسبون الحياة والموت للدهر وينفون وجود الخالق عزوجل.

٣ ـ بيان أن الكفار لا دليل لهم عقلى ولا نقليّ على صحة الكفر عقيدة كان أو عملا.

٤ ـ عدم إحياء الله تعالى للمطالبين بحياة من مات حتى يؤمنوا لم يكن عن عجز بل لأنه يتنافى مع الحكمة التى دار عليها الكون كله.

٥ ـ بيان أن أكثر الناس لا يعلمون وذلك لأنهم كذبوا بالوحى الإلهى فى الكتاب والسنة.

٦ ـ بيان انه لا علم صحيح إلّا من طريق الوحى الإلهى.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً

مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

(يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) : أي ويوم تقوم الساعة التى أنكرها الكافرون يخسر أصحاب الباطل بصيرورتهم إلى النار.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً) : أي كل أمة ذات دين جاثية على ركبها تنتظر حكم الله فيها.

(تُدْعى إِلى كِتابِهَا) : أي إلى كتاب أعمالها فهو الحكم فيها إن كان خيرا فخير وان كان شرا فشر.

(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي يقال لهم اليوم تجزون ما كنتم تعملون فى الدنيا من خير وشر.

(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) : أي ديوان الحفظة الذى دونوه من أعمال العقلاء من الناس شاهد عليكم بالحق.

(إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : أي نأمر بنسخ ما كنتم تعملون.

(فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ) : أي فيدخلهم فى جنته.

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) : أي الفوز البيّن الظاهر وهو النجاة من النار ودخول الجنة.

(أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) : أي يقال لهم ألم تأتكم رسلى فلم تكن آياتى تتلى عليكم.

(فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ) : أي عن آيات الله فلم تؤمنوا بها وكنتم بذلك قوما كافرين.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : أي بالبعث والجزاء العادل يوم القيامة حق ثابت.

(إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) : أي ما كنا مستيقنين بالبعث وإنما كنا نظنه لا غير ولا نجزم به.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم فى تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وايجادا وملكا وتصرفا ومن كان هذا وصفه من القدرة والعلم والحكمة لا ينكر عليه بعث العباد بعد موتهم وجمعهم للحساب والجزاء. وقوله (وَيَوْمَ (١) تَقُومُ السَّاعَةُ) التى ينكرها المنكرون (يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) يخسرون كل شيء حتى أنفسهم يخسرون منازلهم في الجنة يرثها عنهم المؤمنون ويرثون هم المؤمنين منازلهم فى النار ذلك هو الخسران المبين وقوله تعالى :

__________________

(١) (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) : هو ظرف متعلق بيخسر قدم عليه للاهتمام به ويومئذ توكيد ليوم تقوم الساعة.

(وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ (١) جاثِيَةً) أي وترى أيها الرسول يوم القيامة كل أهل دين وملة وقد جثوا على ركبهم خوفا وذلا مستوفزين للعمل بما يؤمرون به. وقوله (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي الذي أنزل على نبيها لتعمل بما جاء فيه من عقائد وشرائع ويقال لهم (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من خير وشر. فإذا حاولوا الإنكار قيل لهم : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) ، وهو كتاب الأعمال الذى دونته الحفظة وقوله (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي نأمر ملائكتنا بنسخ أعمالهم أي باثباتها وحفظها وهاهى ذى بين أيديكم ناطقة صارخة بما كنتم تعملون.

قال تعالى مفصلا للحكم الناتج عن شهادة الكتاب (فَأَمَّا الَّذِينَ (٢) آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي وتركوا الشرك والمعاصى (فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ) جزاء لهم (فِي رَحْمَتِهِ) وهي الجنة دار المتقين (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي إدخالها الجنة بعد إنجائهم من النار هو الفوز المبين إذا الفوز معناه ، النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. هذا جزاء أهل الإيمان والتقوى (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أهل الشرك والمعاصى فيقال لهم : (أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) أي ألم تأتكم رسلي فلم تكن آياتى تتلى عليكم؟ بل كانت تتلى عليكم (فَاسْتَكْبَرْتُمْ) عنها فلم تتعرفوا إلى ما فيها والى ما تدعوا إليه ، (وَكُنْتُمْ) باستكباركم عنها (قَوْماً مُجْرِمِينَ) (٣) على أنفسكم إذا أفسدتموها بالشرك والمعاصى.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي وعده تعالى بالبعث والجزاء حق لا بد واقع والساعة آتية (لا رَيْبَ فِيها) أي جائية لا محالة ولا ريب فى وقوعها بحال من الأحوال (قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ) متجاهلين لها متعجبين من وقوعها. وقلتم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا) مجرد ظن فقط (وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) (٤) بمجيئها ، وهذا بالنسبة إلى بعض الناس ، وإلا فقد تقدم أن بعضهم كان ينكر البعث بالكلية وهذا ظاهر فى كثير من الناس الذين يؤمنون بالله وبلقائه وهم لا يفترون من المعاصى ولا يقصرون عن فعل الشر والفساد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يقع يوم القيامة.

٢ ـ تقرير عقيدة كتابة أعمال العباد وتقديمها لهم يوم القيامة فى كتاب خاص.

__________________

(١) الأمة الجماعة العظيمة أمرها واحد يجمعهم دين والجثو البروك على الركب في استنفار وهي هيئة الخضوع.

(٢) (فَأَمَّا.). الخ هذه الفاء عاطفة لمفصّل من الكلام على مجمل منه وهو قوله تعالى وترى كل أمة جاثية والبدأ بتفصيل حال المؤمنين تعجيلا للمسرة لهم وتنويها بشأن الإيمان والعمل الصالح.

(٣) إقحام لفظ (قَوْماً) للدلالة على أن الإجرام صار خلقا لهم مخالطا لنفوسهم حتى صار مما يمقتون به ولو لا هذا لقال بل كنتم مجرمين ، دون ذكر (قوم) والاستفهام في قوله أفلم تكن آياتي للتقرير والتوبيخ.

(٤) هذه الجملة تأكيد لجملة إن نظن إلا ظنا ، والسين والتاء في بمستيقنين للمبالغة في عدم حصول الفعل.

٣ ـ تقرير أن الإيمان والعمل الصالح سبب الفوز ، وأن الشرك والمعاصى سبب الخسران المبين.

٤ ـ الظن فى العقائد كالكفر بها ، والعياذ بالله تعالى.

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

شرح الكلمات :

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) : أي ظهر لم فى يوم القيامة جزاء سيئات ما عملوه في الدنيا من الشرك والمعاصى.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : أي نزل وأحاط بهم العذاب الذى كانوا يستهزئون به إذا ذكروا به وخوفوا منه في الدنيا.

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ) : أي وقال الله تعالى لهم اليوم ننساكم أي نترككم فى النار.

(كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) : أي مثل ما نسيتم يومكم هذا فلم تعملوا له بما ينجى فيه وهو الإيمان والعمل الصالح ، وترك الشرك والمعاصى.

(وَمَأْواكُمُ النَّارُ) : أي ومحل إقامتكم النار.

(وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) : أي من ناصرين ينصرونكم بإخراجكم من النار.

(ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ) : أي ذلكم العذاب كان لكم بسبب كفركم واتخاذكم آيات الله هزوا

(هُزُواً) : أي شيئا مهزؤا به.

(وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) : أي طول العمر والتمتع بالشهوات والمستلذات.

(وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) : أي لا يؤذن لهم فى الاستعتاب ليعتبوا فيتوبوا.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ) : أي فلله وحده الوصف بالجميل لإنجاز وعيده لأعدائه.

(وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي العظمة والحكم النافذ الناجز على من شاء.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي وهو العزيز فى انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبير خلقه.

معنى الآيات :

ما زال السياق فى عرض مشاهد القيامة وبعض ما يتم فيها من عظائم الأمور لعل السامعين لها يتعظون بها فقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ (١) يَسْتَهْزِؤُنَ) أي وظهر للمشركين المكذبين بالبعث والجزاء ظهر لهم وشاهدوا العذاب الذى كانوا إذا ذكروا به أو خوفوا منه استهزأوا به وسخروا منه. وقد حل بهم ونزل بساحتهم وأحاط بهم وقال لهم الرب تعالى (الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي نترككم فى عذاب النار كما تركتم العمل المنجى من هذا العذاب وهو الإيمان والعمل الصالح بعد التخلى عن الشرك والمعاصى. (وَمَأْواكُمُ (٢) النَّارُ) أي هى مأواكم ودار إقامتكم (وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) أي وليس لكم من ينصركم فيخلصكم من النار ، وعلة هذا الحكم عليهم بيّنها تعالى بقوله (ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً) (٣) (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) أي حكم عليكم بالعذاب والخذلان بسبب اتخاذكم آيات الله الحاملة للحجج والبراهين الدالة على وجود الله ووجوب توحيده وطاعته هزوا أي شيئا مهزوا به ، (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بزخرفها وزينتها ، وطول اعماركم فيها فلم تؤمنوا ولم تعملوا صالحا ينجيكم من هذا العذاب الذى حاق بكم اليوم. قال تعالى (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) وترك مخاطبتهم إشعارا لهم بأنهم لا كرامة لله لهم اليوم فلم يقل فاليوم لا تخرجون منها ، بل عدل عنها إلى قوله (فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) أي لم يطلب منهم أن يعتبوا ربهم بالتوبة إليه ، إذ لا توبة بعد الموت والرجوع إلى الدنيا غير ممكن في حكم الله وقضائه. وهنا تعظم حسرتهم ويشتد العذاب عليهم ويعظم كربهم.

وقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِ (٤) السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي رب كل شىء ومليكه حمد نفسه ، وقصر الحمد عليه بعد أن أنجز ما أوعد به الكافرين ، وذكر موجب الحمد وهو سلطانه القاهر فى السموات وفى الأرض ، وقوله (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ) (٥) أي العظمة والسلطان (فِي

__________________

(١) من أنواع الاستهزاء ما روي أن العاص بن وائل قال لخباب بن الأرت وقد طالبه بدين له عليه لئن بعثت كما تقول لأوتين مالا وولدا في الآخرة فاقض منه دينك.

(٢) التعبير بالمأوى إشارة إلى تأييد الخلود فيها إذ المأوى مكان الإيواء والاستقرار ولا مكان غيره.

(٣) الهزء مصدر كالخلق أطلق أريد به اسم المفعول أي مهزؤا به.

(٤) الفاء للتفريع فهذه الجملة (الحمد لله) والثناء عليه متفرع عما ورد في هذه السورة من مظاهر ربوبيته تعالى وألطافه وإحسانه بإحقاق الحق وإبطال الباطل وعدله في قضائه بين عباده.

(٥) تقديم الجار والمجرور في قوله فلله الحمد ، وقوله وله الكبرياء مؤذن بالحصر والاختصاص والكبرياء هي الكبر الحق العظيم وهما الكمال في الذات والكمال في الصفات والوجود.

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذى لا يمانع ولا يغالب ، الشديد الانتقام ، الحكيم الذى يضع كل شىء فى موضعه الحكيم فى تدبير خلقه ويتجلى ذلك فى إكرام أوليائه برحمتهم ، وإهانة أعدائهم بتعذيبهم فى دار العذاب النار وبئس المصير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الاستهزاء بآيات الله وشرائعه كفر موجب للعذاب.

٢ ـ تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل ، وكما يدين الفتى يدان.

٣ ـ مشروعية الحمد عند الفراغ من أي عمل صالح أو مباح.

الجزء السادس والعشرون

سورة الأحقاف (١)

مكية

وآياتها خمس وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦))

شرح الكلمات :

(حم) : هذا أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا : حم ويقرأ هكذا : حاميم.

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) : أي تنزيل القرآن.

(مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) : أي من لدن الله العزيز في ملكه الحكيم في صنعه.

(إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) : أي ما خلقنا السموات والأرض إلا خلقا متلبسا بالحق وبأجل مسمى لفنائهما.

__________________

(١) وجه تسميتها بالأحقاف لذكر لفظ الأحقاف فيها ولم يكن لها اسم غيره والأحقاف جمع حقف بكسر الحاء وسكون القاف الرمل المستطيل الكبير.

(عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) : أي عن ما خوفوا به من العذاب معرضون عنه غير ملتفتين إليه.

(ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من الأصنام والأوثان.

(أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) : أي أشيروا إلى شيء خلقوه من الأرض.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) : أي أم لهم شركة.

(ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا) : أي منزل من قبل القرآن.

(أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) : أي بقية من علم يؤثر عن الأولين بصحة دعواكم في عبادة الأصنام.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي في دعواكم أن عبادة الأصنام والأوثان تقربكم من الله تعالى.

(مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي لا أحد أضل ممن يدعو من لا يستجيب له في شيء يطلبه منه أبدا.

(وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ) : أي وهم الأصنام أي عن دعاء المشركين إياهم غافلون لا يعرفون عنهم شيئا.

(وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً) : أي في يوم القيامة كانت الأصنام أعداء لعابديها.

(وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) : أي وكانت الأصنام بعبادة المشركين لها جاحدة غير معترفة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (حم) الله أعلم بمراده به إذ هذه من المتشابه الذي يجب الإيمان به وتفويض أمر معناه إلى الله منزله. وقوله (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي تنزيل القرآن الكريم من لدن الله العزيز الحكيم العزيز في ملكه الحكيم في صنعه وتدبيره. وقوله تعالى (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من العوالم والمخلوقات (إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلّا لحكم عالية وليس من باب العبث واللعب ، وإلّا بأجل مسمى عنده وهو وقت إفنائهما وانهاء وجودهما لاستكمال الحكمة من وجودهما. وقوله تعالى (وَالَّذِينَ (١) كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) (٢) يخبر تعالى بأن الذين كفروا بتوحيد الله ولقائه وآياته ورسوله عما خوفوا به من عذاب الله المترتب على كفرهم وشركهم معرضون غير مبالين به ، وذلك لظلمة نفوسهم ، وقساوة قلوبهم. وقوله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ (٣) ما

__________________

(١) هذه الجملة حالية فهي في موضع نصب حال من الضمير المقدر في متعلق الجار والمجرور في قوله : (بالحق) والمقصود من الإخبار هو التعجيب من إعراض الكافرين عن دعوة الحق التي يدعون إليها وهي : الإيمان والعمل الصالح بعد ترك الشرك ، والمعاصي لنجاتهم وسعادتهم.

(٢) (عَمَّا أُنْذِرُوا) جائز أن تكون (ما) موصولة ، والعائد محذوف أي : أنذروه وجائز أن تكون مصدرية أي : عن إنذارهم معرضون.

(٣) (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : الاستفهام تقريري هو بمعنى : أخبروني ، وفعل أروني للتعجيز لإبطال دعوى الشرك بالله تعالى ، والعاجز عن خلق شيء كيف يستحق العبادة ، والتأليه ، و (ما ذا خَلَقُوا) هو بمعنى ماذا الذي خلقوا أي : أي شيء خلقوه.

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي من الأصنام والأوثان (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي من شيء (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) ولو أدنى شرك وأقله ، وقوله (ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أي بقية من علم تشهد (١) بصحة عبادة ودعاء آلهة لم تخلق شيئا من الأرض وليس لها أدنى شرك في السموات (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم أنها آلهة تستحق أن تعبد. وقوله تعالى (وَمَنْ (٢) أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ينفي تعالى على علم تام أنه لا أضل من أحد يدعو من غير الله تعالى معبودا لا يستجيب له في قضاء حاجة أو قضاء وطر مهما كان صغيرا أبدا وحقا لا أحد أضل ممن يقف أمام جماد لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق يدعوه ويسأله حاجته وقوله (وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ (٣) غافِلُونَ) أي وأولئك الأصنام المدعوون غافلون تماما عن داعيهم لا يعلمون عنه شيئا لعدم الحياة فيهم ، ولو كانوا يوم القيامة ينطقهم الله ويتبرءون ممن عبدوهم ويخبرون أنهم ما عبدوهم ولكن عبدوا الشيطان الذي زين لهم عبادتهم ، وهو ما دل عليه قوله تعالى (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) أي ليوم القيامة كانوا لهم (٤) أعداء وخصوما وكانوا بعبادتهم من دعاء وذبح ونذر وغيره كافرين أي جاحدين غير معترفين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات النبوة المحمدية بتقرير أن القرآن تنزيل الله على رسوله المنزل عليه وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢ ـ انتفاء العبث عن الله تعالى في خلقه السموات والأرض وما بينهما وفي كل أفعاله وأقواله.

٣ ـ تقرير حقيقة علمية وهي من لا يخلق لا يعبد.

٤ ـ بيان أنه لا أضل في الحياة من أحد يدعو من لا يستجيب له أبدا كمن يدعون الأصنام والقبور والأشجار بعنوان التوسل والاستشفاع والتبرك.

__________________

(١) (مِنْ عِلْمٍ) أي : من أهل العلم السابقين غير مكتوبة في الكتب ، وهذا التوسيع عليهم في أنواع الحجج ليكون عجزهم بعد ذلك أقطع لحجتهم وإبطال دعواهم في الشرك. ذكر القرطبي عند تفسير : (أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ) أن بعضهم فسر الأثارة : بالخط ، وإن نبيا كان يخط ، والمراد التعرف إلى علم الغيب ، وختم القول بكلمة لابن العربي أنهى بها الموضوع ، إذ قال : إن الله تعالى لم يبق في الأسباب الدالة على الغيب إلا الرؤيا إذ هي جزء من النبوة ، والفأل الحسن لا غير وأنشد لبعضهم :

الفال والزجر والكهان كلهم

مضللون ودون الغيب أقفال

(٢) الاستفهام للإنكار والتعجب معا ، والمعنى : لا أحد أشد ضلالا وأعجب حالا ممن يدعون .. الخ.

(٣) الجملة حالية ، وجملة : (وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ) معطوفة عليها.

(٤) فالعابدون كالمعبودين سواء في التبرؤ من بعضهم بعضا يوم القيامة وإعلان العداء لبعضهم بعضا.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩))

شرح الكلمات :

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي أهل مكة من كفار قريش ، والآيات آيات القرآن والبينات الواضحات.

(قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) : أي من كفار قريش للحق أي القرآن لما قرأه عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) : أي قالوا في القرآن سحر مبين أي ظاهر لما رأوا من تأثيره على النفوس.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) : أي بل أيقولون افتراه أي اختلقه من نفسه.

(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) : أي قل لهم يا نبينا إن اختلقته من نفسي.

(فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي فأنتم لا تملكون لي من الله شيئا إن أراد أن يعذبني.

(هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ) : أي هو تعالى أعلم بما تخوضون فيه من القدح والطعن فيّ وفي القرآن.

(كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) : أي كفى به تعالى شهيدا بيني وبينكم.

(ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) : أي لم أكن أول رسول فأكون بدعا من الرسل بل سبقني رسل كثيرون.

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) : أي في هذه الحياة هل أخرج من بلدي ، أو أقتل ، وهل

ترجمون بالحجارة أو يخسف بكم.

(إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) : أي ما أتبع إلا ما يوحيه إليّ ربي فأقول وأفعل ما يأمرني به.

(وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي وما أنا إلا نذير لكم بين الانذار.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في دعوة العرب عامة وقريش خاصة إلى الإيمان والتوحيد فإذا قرأ عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن دعوة لهم إلى الإيمان والتوحيد قالوا ردّا عليه ما أخبر به تعالى في قوله (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) أي على كفار قريش (آياتُنا بَيِّناتٍ) أي ظاهرات الدلالة واضحات المعاني (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وبرسوله ولقائه وتوحيده قالوا (لِلْحَقِ) (١) وهو القرآن (لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) بل قالوا ما هو أشنع في الكذب وأبشع في النظر إذ قالوا ما أخبر به تعالى عنهم في قوله (أَمْ يَقُولُونَ (٢) افْتَراهُ) أي بل أيقولون افتاره أي اختلقه وتخرصه من نفسه وليس هو بكلام الله ووحيه إليه. وقوله تعالى (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللهِ شَيْئاً) أي على فرض أنني افتريته على الله وقلت أوحي إليّ ولم يوح إليّ وأراد الانتقام مني بتعذيبي ، فهل أنتم أو غيركم يستطيع دفع العذاب عني ، وعليه فكيف أعرّض نفسي للعذاب بالافتراء على الله تعالى ، فهذا لن يكون مني أبدا. وقوله تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ (٣) فِيهِ) أي الله جل جلاله هو أعلم من كل أحد بما تخوضون فيه مندفعين في الكلام تطعنون فيّ وفي القرآن فتقولون فيّ ساحر وفي القرآن سحر مبين وتقولون فيّ مفتر وفي القرآن افتراء إلى غير ذلك من المطاعن والنقائص. (كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ (٤) بَيْنَكُمْ) أي كفى بالله شهيدا عليّ وعليكم فيما أقول وفيما تقولون وسيجزي كلا بما عمل (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥) لمن تاب فتوبوا إليه يغفر كفركم وخوضكم في الباطل ويرحمكم فإنه تعالى غفور لمن تاب رحيما بمن آمن وأناب. وقوله تعالى في الآية (٩) (قُلْ ما كُنْتُ (٦) بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) يأمر تعالى رسوله أن

__________________

(١) (لِلْحَقِ) اللام تعليلية. وليست للتعدية ، أي : قال الكافرون بعضهم لبعض لأجل رد الحق وإبطاله ، هذا سحر مبين ، والحق : القرآن ، يصفونه بالسحر حتى لا يؤمنوا به.

(٢) (أَمْ) هي المنقطعة المقدرة ببل ، والاستفهام أي : أيقولون افتراه والاستفهام وبل للإضراب الانتقالي من نوع إلى آخر من أنواع ضلالهم ، والاستفهام للنفي والإنكار معا.

(٣) (تُفِيضُونَ فِيهِ) أي : من قول الباطل والخوض في تكذيب الحق ، إذ الإفاضة في الشيء : الخوض فيه والاندفاع ، ومنه : أفاضوا في الحديث : إذا اندفعوا يقولون ، وأفاض الناس من عرفات إلى مزدلفة ، أي : اندفعوا.

(٤) إذ هو يعلم صدقي ويعلم أنكم مبطلون.

(٥) الغفور لمن تاب من عباده الرحيم بالمؤمنين.

(٦) البدع : الأول : والبديع كالبدع بكسر الباء مثل : نصف ونصيف ، وأبدع في كذا أتى بالبدع فيه أي بما لم يأت به غيره ، والبديع : صفة مشبّهة ، وهو من أسماء الله تعالى ، ومعناه : خالق الأشياء ومخترعها.

يقول لأولئك المشركين المفيضين في الطعن في القرآن والرسول في أغلب أوقاتهم وأكثر مجالسهم (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) أي ما أنا بأول عبد نبى وأرسل فأكون بدعا في هذا الشأن فينكر عليّ أو يستغرب مني بل سبقتني رسل كثيرة. وقوله (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ (١) بِي وَلا بِكُمْ) أي وقل لهم أيضا أني لا أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي مستقبلا فهل أخرج من هذه البلاد أو أقتل أو تقبل دعوتي وأنصر ولا ما يفعل بكم من تعذيبكم بحجر أو مسخ أو هدايتكم ونجاتكم. وقوله (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما اتبع إلّا الذي أوحى إليّ ربيّ باعتقاده أو قوله أو عمله ، فلا أحدث ولا أبتدع شيئا لم يوح الله به ابدا (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي ما أنا بالذي يملك شيئا لنفسه أو لغيره من خير أو ضير وإنما أنا نذير من عواقب الكفر والتكذيب والشرك والمعاصي فمن قبل إنذاري فكف عما يسبب العذاب نجا ، ومن رفض إنذاري فأمره إلى ربيّ إن شاء عذبه وإن شاء تاب عليه وهداه ورحمه.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤))

__________________

(١) هذا ردّ على المتعنتين من المشركين الذين يطالبون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لم يكن في وسعه من أمور الغيب ، وليس معناه كما قيل : إنه لا يدري هل يكون بعد موته في الجنة أو في النار ، ولا يدري هل يكون المشركون في النار أو الجنة ، إذ هذا قول باطل. وأما حديث عثمان بن مظعون في البخاري (فإنه لما قالت المرأة رحمة الله عليك يا أبا السائب إن الله أكرمك فقال لها : وما يدريك أن الله أكرمه فإني وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي) فإن المراد منه عدم الجزم بمصير من مات من المسلمين ووجوب تفويض الأمر إلى الله تعالى.

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني ماذا تكون حالكم.

(إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : أي إن كان القرآن من عند الله.

(وَكَفَرْتُمْ بِهِ) : أي وكذبتم به أي بالقرآن.

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي وشهد عبد الله بن سلام.

(عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ) : أي عليه إنه من عند الله فآمن.

(وَاسْتَكْبَرْتُمْ) : أي واستكبرتم أنتم فلم تؤمنوا ألستم ظالمين.

(لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) : أي لو كان ما جاء به محمد من القرآن والدين خيرا ما سبقنا إليه المؤمنون.

(وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ) : أي بالقرآن العظيم.

(فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) : أي هذا القرآن إفك قديم أي هو من كذب الأولين.

(وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) : أي القرآن مصدق للكتب التي سبقته.

(لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي حال كونه بلسان عربي لينذر به الظالمين المشركين.

(وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ) : وهو أي القرآن بشرى لأهل الإحسان في عقائدهم وأقوالهم وأعمالهم.

(ثُمَّ اسْتَقامُوا) : أي فلم يرتدوا واستمروا على فعل الواجبات وترك المحرمات.

(فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) : أي في الدنيا وفي البرزخ وفي عرصات القيامة.

(بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي جزاهم الله بما جزاهم به بنفي الخوف والحزن عليهم بأعمالهم الصالحة وتركهم الأعمال الفاسدة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في طلب هداية قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش الذين ردوا الدعوة وقالوا في كتابها سحر مبين وفي صاحبها مفتر فقال تعالى لرسوله قل يا محمد لأولئك المشركين الذين قالوا في القرآن سحر مبين (أَرَأَيْتُمْ) (١) أي أخبروني ما ذا تكون حالكم إن كان القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) وهو عبد الله بن سلام على (٢) مثله أي على التوراة أنها نزلت من

__________________

(١) الاستفهام تقريري للتوبيخ ، ومفعولا (رَأَيْتُمْ) محذوفان تقديرهما : أنفسكم ظالمين.

(٢) المثل : المماثل أي : المشابه في فعل أو صفة ، وضمير مثله : عائد على القرآن ، وجائز أن يكون المراد بالمثل : التوراة ، والشاهد هو موسى عليه‌السلام أو عبد الله بن سلام كما في التفسير ، وجائز أن يكون لفظ (مثل) مقحما زائدا نحو : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي : ليس مثله شيء ، ويكون المعنى. وشهد شاهد ـ وهو عبد الله بن سلام ـ على صدق القرآن وكونه وحي الله أوحاه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

عند الله وهي مثل القرآن فلا يستنكر أن يكون القرآن نزل من عند الله لا سيّما والكتابان التوراة والقرآن يصدق بعضهما بعضا ، بدلالتهما معا على أصول الدين كالتوحيد والبعث والجزاء بالثواب والعقاب ومكارم الأخلاق والعدل والوفاء بالعهد. (فَآمَنَ) هذا الشاهد (١) (وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أي وكفرتم أنتم مستكبرين عن الإيمان بالحق ألم تكونوا شر الناس وأظلمهم وتحرمون الهداية (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ (٢) الظَّالِمِينَ) أي الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي فحرموها الهداية الإلهية وقوله تعالى في الآية (١١) (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) هذا القول جائز أن يقوله يهود المدينة للمؤمنين بها ، وجائز أن يقوله المشركون في مكة وفي غيرها من العرب إذ المقصود هو الاعتذار عن عدم قبول الإسلام بحجة انه لا فائدة منه تعود عليهم في دنياهم ولا خير يرجونه منه إن دخلوا فيه إذ لو كان فيه ما يرجون من الفوائد المادية لاعتنقوه ودخلوا فيه ولم يسبقهم إليه الفقراء والمساكين. وهو معنى ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ (٣) آمَنُوا) أي في شأن الذين قالوا لو كان الإسلام خيرا ما (٤) سبقونا إليه فآمنوا وكفرنا. وقوله تعالى (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) أي وإن ظهر عنادهم وعظم عتوهم واستكبارهم فعموا فلم يهتدوا بالقرآن فسيقولون (٥) (هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) وقد قالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ومعنى إفك قديم كذب أفكه غير محمد وعثر عليه فهو يقول به ما أفسد هذا القول وما أقبحه وأقبح قائله.

وقوله تعالى (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) أي ومن قبل القرآن الذي أنكر المشركون نزوله كتاب موسى التوراة وقد أنزلناه عليه إماما يؤتم به فيقود المؤتمين به العاملين بهدايته إلى السعادة والكمال وأنزلنا اليوم القرآن هدى ورحمة وبشرى للمحسنين. وهو ما دل عليه قوله (وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ) لما قبله من الكتب (لِساناً عَرَبِيًّا) أي أنزلناه لسانا (٦) عربيا لينذر به رسولنا المنزل عليه

__________________

(١) لا حاجة إلى أن نقول الشاهد هو موسى عليه‌السلام بحجة أن السورة مكية ، وعبد الله بن سلام أسلم بعد الهجرة ، إذ من الجائز أن تكون السورة مكية والآيات مدنية ، وهو الحق في هذه والله أعلم.

(٢) الجملة تعليلية لما هو محذوف في الكلام وهو : ضللتم ضلالا لا يرجى لكم هداية بعده ، لأن الله لا يهدي القوم الظالمين.

(٣) اللام تعليلية أي : قالوا ما قالوه لأجل الذين آمنوا حتى يردوا دعوتهم ولا يقبلوا الإسلام.

(٤) ضمير (سَبَقُونا) عائد إلى غير مذكور وأرادوا به المستضعفين مثل بلال وعمار ووالده وسميّة وزنيرة على وزن شرّيرة ، وسكيرة : أمة رومية كانت من السابقات إلى الإسلام.

(٥) المضارع هنا مراد به سيديمون قولهم هذا كلما أرادوا رد القرآن : قالوا هذا إفك قديم.

(٦) كلمة (لِساناً) فيها إيماء إلى أنه عربي اللغة لا الأخلاق والعادات العربية والأحكام القبلية لأنها فسدت بالشرك وانقطاع الوحي وموت العلماء قرونا عديدة.

وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لِيُنْذِرَ) (١) به (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بالشرك والمعاصي عذاب الله المترتب على تدسية النفوس بأوضار الشرك والمعاصي وهو بشرى للمحسنين من المؤمنين الذين احسنوا النية والعمل بالفوز العظيم يوم القيامة وهو النجاة من النار ودخول الجنة وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَ (٢) اسْتَقامُوا) بعد أن ذكر تعالى المبطلين وباطلهم عقّب على ذلك بذكر المحسنين وأعمالهم على نهج الترهيب والترغيب فأخبر تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ) أي آمنوا وصرحوا بإيمانهم وجاهروا به (ثُمَّ اسْتَقامُوا) على منهج لا إله إلا الله فعبدوا الله بما شرع وتركوا عبادة غيره حتى ماتوا على ذلك هؤلاء يخبر تعالى عنهم أنهم (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة فهم آمنون في الحيوات الثلاث ، وبشرهم بالجنة فأخبر أنهم أصحابها الخالدون فيها ، وأشار إلى أن ذلك الفوز والبشرى كانا نتيجة أعمالهم في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح الذين دل عليها قوله (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ اعتبار الشهادة وانها أداة يتوصل بها إلى احقاق الحق وابطال الباطل فلذا يشترط عدالة صاحبها والعدالة هي اجتناب الكبائر واتقاء الصغائر غالبا.

٢ ـ تقرير قاعدة من جهل شيئا عاداه ، إذ المشركون لما لم يهتدوا بالقرآن قالوا هذا إفك قديم.

٣ ـ بيان تآخي وتلاقي الكتابين التوراة والقران فشهادة أحدهما للآخر أثبتت صحته.

٤ ـ وجوب تعلم العربية لمن أراد أن يحمل رسالة الدعوة المحمدية فينذر ويبشر.

٥ ـ فضل الاستقامة (٣) حتى قيل انها خير من ألف كرامة ، والاستقامة هي التمسك بالإيمان والعبادة كما جاء بذلك القرآن وبينت السنة.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ

__________________

(١) قرأ نافع لتنذر بالتاء الفوقية خطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقرأ حفص (لِيُنْذِرَ) بالياء أي : القرآن.

(٢) ثم للتراخي الرتبي ، إذ الإيمان يحصل بالنظر والتأمل دفعة واحدة وأما الاستقامة فتحتاج إلى مراقبة النفس وذكر الوعد والوعيد في كل طاعة من فعل أو ترك.

(٣) روى مسلم والترمذي وغيرهما عن عبد الله الثقفي قال : قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قل آمنت بالله ثم استقم).

أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) : أي أمرناه أمرا مؤكدا بالإيصاء.

(إِحْساناً) (١) : أي أن يحسن بهما إحسانا وهو المعاملة بالحسنى.

(حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) : أي حملته أثناء حمله في بطنها على مشقة وولدته كذلك على مشقة.

(وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) : أي مدة حمله في بطنها وفطامه من الرضاع ثلاثون شهرا.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : أي اكتمال قوته البدنيّة والعقلية وهي من الثلاث والثلاثين فما فوق.

(رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) : أي ألهمني ووفقني أن أشكر نعمتك بصرفها فيما تحب.

(وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) : أي وبأن أعمل صالحا ترضاه مني أي تتقبله عني.

(وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) : أي فلا نؤاخذهم بها بل نغفرها.

(فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ) : أي في جملة أصحاب الجنة وعدادهم.

(وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) : أي في مثل قوله تعالى وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار الآية.

معنى الآيات :

إن الفرد كالجماعة فقد أوصى تعالى الإنسان بالإحسان بوالديه وببرهما في جميع كتبه وعلى ألسنة كافة رسله ، والإنسان بعد ذلك قد يحسن ويبرّ وقد يسيء ويعقّ ، فكذلك الجماعة والأمة من الناس يرسل إليهم الرسول فمنهم من يؤمن ومنهم من يكذب ، ومنهم من يتابع ومنهم من يخالف فلما ذكر تعالى اختلاف قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الإيمان بما جاء به ، والكفر به ذكر أن هذه حال

__________________

(١) قرأ نافع حسنا وكرها بفتح الكاف ، وقرأ حفص (إِحْساناً) و (كُرْهاً) بضم الكاف.

الإنسان فقال تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) (١) أي جنس الإنسان أي أمرناه بما هو آكد من الأمر وهو الوصيّة بوالديه أي أمه وأبيه إحسانا بهما وذلك بكف الأذى عنهما وإيصال الخير بهما وطاعتهما في المعروف وببرهما أيضا بعد موتهما. فمن الناس من ينفذ هذه الوصية ومنهم من يهملها ولا ينفذها وقوله ، (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً) بيان لوجوب الإحسان بهما وبرهما إذ معاناة الأم وتحملها مشقة الحمل تسعة أشهر ومشقة الوضع وهي مشقة لا يعرفها إلا من قاسى آلامها كالأمهات. وقوله (وَحَمْلُهُ (٢) وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) بيان لمدة تحمل المشقة إنها ثلاثون شهرا بعضها للحمل وبعضها للإرضاع والتربية وقوله تعالى (حَتَّى إِذا بَلَغَ) أي عاش حتى إذا بلغ أشده أي اكتمال قواه البدنية والعقلية وذلك من ثلاث وثلاثين سنة إلى الأربعين (وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ (٣) سَنَةً) قال أي الإنسان البار بوالديه المنفذ للوصية الإلهية كأبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ بلغ الأربعين من عمره بعد البعثة المحمدية بسنتين. (قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) (٤) وهي نعمة الإيمان والتوحيد والإسلام عليّ (وَعَلى والِدَيَ) إذ آمن وآمن أبواه أبو قحافة عثمان بن عامر التيمي وآمنت أمه أم الخير سلمى ، وأولاده عامة من بنين وبنات ولم يحصل لأحد من الصحابه أن سأل ربه أن يدفعه دفعا إلهاميا وتوفيقا ربانيا لأن يشكر نعمة الله عليه وعلي والديه بالإسلام ، وأن يدفعه كذلك إلى العمل الصالح الذي يرضاه الله ويتقبله عن صاحبه ، وقد استجاب له ربه فأعتق تسعة أعبد مؤمنين من استرقاق الكافرين لهم منهم بلال رضي الله عنه ، وقوله (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي) أي اجعل الصلاح ساريا في ذريتي حتى يشملهم جميعا وقد استجاب الله تعالى له فآمن أولاده أجمعون ذكورا وإناثا ، وقوله (إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) هذا توسل منه رضي الله عنه لقبول دعائه فقد توسل إلى ربّه بالتوبة من الشرك والكفر إلى الإيمان والتوحيد ، وبالإسلام إلى الله وهو الخضوع لله والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ (٥) ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) فلا يؤاخذهم بها بعد توبتهم منها في جملة أصحاب الجنة إذ لا يدخل الجنة أحد إلا بعد مغفرة ذنبه ، وقوله (وَعْدَ الصِّدْقِ) (٦)

__________________

(١) روي من عدة طرق أن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه

(٢) وحمله وفصاله ثلاثون شهرا هذه الآية الكريمة مع قوله تعالى من سورة البقرة : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) دلّتا على أن أقل مدة الحمل : ستة أشهر ، فلا يثبت الحمل بأقل من ستة أشهر ويثبت بالستة والسبعة والثمانية والتسعة ، فمن بنى بامرأة وولدت قبل ستة أشهر من البناء بها فالولد لا يلحق الزوج.

(٣) لم خص الدعاء للوالدين في هذا الوقت بالذات؟ لأنه وقت يصبح فيه الولد مشغولا بزوجة وأولاد وتكاليف فهو في هذه الحال أحوج ما يكون إلى عون الله تعالى على بر والديه.

(٤) من بركة صلاح الذرية أن يدعو الولد لوالده بعد موته ففي صحيح الحديث : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له).

(٥) قرأ نافع : يتقبل ويتجاوز بالبناء للمفعول ، وأحسن مرفوع نائب فاعل ، وقرأ حفص بنون المتكلم فيهما ونصب (أَحْسَنَ) على أنه مفعول به.

(٦) الوعد : مصدر بمعنى المفعول كالرد بمعنى المردود.

أي أنجز لهم هذا لأنه وعد صدق وعدهم فأنجزه لهم ، وقوله (الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي في الكتاب مثل قوله تعالى (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) الآية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب البر بالوالدين بطاعتهما في المعروف والإحسان بهما بعد كف الأذى عنهما.

٢ ـ الإشارة إلى أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر فأكثر ، وأن الرضاع قد يكون حولين فأقل.

٣ ـ جواز التوسل بالتوبة إلى الله والانقياد له بالطاعة.

٤ ـ فضيلة آل أبي بكر الصديق على غيرهم من سائر الصحابة ما عدا آل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٥ ـ بشارة الصديق وأسرته بالجنة ، إذ آمنوا كلهم وأسلموا أجمعين وماتوا على ذلك.

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ) : الذي اسم موصول استعمل استعمال الجنس فدل على متعدد بدليل الخبر عنه وهو أولئك الذين حق عليهم القول.

(أُفٍّ لَكُما) : أي نتنا وقبحا لكما.

(أَنْ أُخْرَجَ) : أي من القبر حيا بعد موتي.

(وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ) : أي مضت الأمم قبلي ولم يخرج منها أحد من قبره.

(وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللهَ) : أي يطلبان الغوث برجوع ولدهما إلى الإيمان بعد الإلحاد والكفر.

(وَيْلَكَ آمِنْ) : أي يقولان له إن لم ترجع ويلك أي هلاكك أي هلكت آمن بالبعث.

(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : وقد وعد العباد بالرجوع إليه ومحاسبتهم على أعمالهم ومجازاتهم بها.

(فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي ما القول بوجود بعث للناس أحياء بعد الموت إلا أكاذيب الأولين.

(أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : أي وجب عليهم القول بالعذاب يوم القيامة.

(فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي في جملة أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس.

(وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) : أي ولكل من المؤمنين البارين ، والكافرين الفاجرين درجات مما عملوا درجات المؤمنين في الجنة ودرجات الكفار في النار.

(أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) : أي يقال لهم أذهبتم طيباتكم باشتغالكم بملذاتكم في الدنيا.

(وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها) : أي تمتعتم بها في الحياة الدنيا.

(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) : أي جزاؤكم عذاب الهوان.

(بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي تتكبرون في الأرض.

(بِغَيْرِ الْحَقِ) : أي إذ لا حق لكم في الكبر والكبرياء لله ، ولم يأذن لكم فيه.

(وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) : أي تخرجون عن طاعة الله ورسوله.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى الرجل المؤمن وأعماله الصالحة ومواقفه المشرفة ذكر هنا الرجل الكافر وأعماله الباطلة ومواقفه السيئة وذلك من باب الدعوة إليه تعالى بالترغيب والترهيب فقال تعالى (وَالَّذِي (١)

__________________

(١) قيل : إن هذه الآية نزلت في أحد ابني أبي بكر الصديق عبد الرحمن أو عبد الله وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك ، ومن قال به رد اسم الإشارة (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ.). إلى من طالب الولد بإحيائهم ممن ماتوا على الشرك لأن كلا من عبد الله وعبد الرحمن قد أسلم وحسن إسلامه استجابة الله دعوة أبي بكر.

قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي (١) أَنْ أُخْرَجَ (٢) وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي) يخبر تعالى عن أخبث إنسان هو ذاك الملحد العاق لوالديه المنكر للبعث والجزاء إذ قال لوالديه أمه وأبيه أف لكما أي نتنا وقبحا لكما أتعدانني بأن أخرج من قبري حيا بعد ما مت ، وقد مضت أمم وشعوب قبلي ، وما خرج منها أحد من قبره فكيف تعدانني أنتما ذلك إن هذا لتخلف عقلي وتأخر حضاري وقوله تعالى (وَهُما (٣) يَسْتَغِيثانِ اللهَ) أي ووالداه يستغيثان الله ويستصرخانه طلبا إغاثتهما بهداية ولدهما الملحد الشيوعي ، ويقولان للولد ويلك أي هلاكك حضر يا ولد هلكت آمن بالبعث والجزاء وصلّ وصم واترك الزنا والخمر ويلك إن وعد الله حق أي إن ما وعد الله به عباده من إحيائهم للحشر والحساب والجزاء حق فلا يتخلف أبدا فيرد عليهما الولد الملحد الدّهريّ بما أخبر تعالى به عنه في قوله فيقول (ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٤) أي أكاذيبهم التي كانوا يعيشون عليها ويقصونها في مجالسهم ، وبما أن الذي قال لوالديه لفظه مفرد ولكنه دال على جنس كان الخبر جمعا فقال تعالى في الإخبار عنهم (أُولئِكَ الَّذِينَ (٥) حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي القول بالعذاب الدال عليه قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، وفي قوله (فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) أي في جملة أمم سبقتهم في الإلحاد والكفر من العالمين عالم الجن وعالم الإنس وقوله (إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ) (٦) وأي خسران أعظم من عبد يخسر نفسه وأهله ويعش في جهنم خالدا فيها أبدا. وقوله تعالى (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ (٧) مِمَّا عَمِلُوا) أي ولكل من المؤمنين البارين والكافرين العاقين درجات مما عملوا من خير أو شر إلا أن درجات المؤمنين في الجنة تذهب في علو متزايد ودرجات الكافرين في النار تذهب في سفل متزايد إلى أسفل سافلين. وقوله تعالى (وَلِيُوَفِّيَهُمْ (٨) أَعْمالَهُمْ) كاملة غير منقوصة الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها وهم لا يظلمون بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة. وقوله تعالى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين يوم يعرضون على النار ويقال لهم في توبيخ وتقريع (أَذْهَبْتُمْ

__________________

(١) (أَتَعِدانِنِي) الاستفهام للإنكار والتعجب.

(٢) (أَنْ أُخْرَجَ) أي : من قبري حيا بعد موتي وفنائي ، إنكارا منه للبعث الآخر.

(٣) وقد أجاب الله دعاء أبي بكر وزوجه أم رمان حيث أسلم ابنهما رضي الله عنهم أجمعين.

(٤) (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له.

(٥) الإشارة هنا إلى أولئك الذين ذكرهم ابن أبي بكر كعبد الله بن جدعان وعثمان بن عمرو ومشايخ قريش فقال أين فلان وأين فلان إنكارا منه للحياة بعد الموت.

(٦) خسروا أعمالهم حيث ضاع سعيهم في الحياة الدنيا وخسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.

(٧) (وَلِكُلٍ) التنوين عوض أي : لكل من الفريقين المؤمنين والكافرين الأبرار والفجار درجات مما عملوا ، وهي مراتبهم التي لهم في الجنة أو في النار.

(٨) قرأ الجمهور ولنوفيهم بالنون وقرأ حفص (وَلِيُوَفِّيَهُمْ) بالياء.

طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا) أي باقبالكم على الشهوات والملآذ ناسين الدار الآخرة فاستمتعتم بكل الطيبات ولم تبقوا للآخرة شيئا (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ) أي الهوان (بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) إذ لا حق لكم في الكبر لضعفكم وعجزكم إنما الكبرياء لله الملك الحق أما أنتم فقد ظلمتم باستكباركم عن الإيمان بربكم ولقائه وعن طاعته (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) أي وبفسقكم عن طاعة ربكم وطاعة رسوله. إذا فادخلوا جهنم داخرين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة عقوق الوالدين وأنها من الكبائر.

٢ ـ بيان حنان الوالدين وحبهما لولدهما وبذل كل ما يقدران عليه من أجل إسعاده وهدايته.

٣ ـ التحذير من الانغماس في الملاذ والشهوات والاستمتاع.

٤ ـ التحذير من الكبر والفسق وأن الكبر من أعمال القلوب والفسق من أعمال الجوارح.

٥ ـ مدى فهم السلف الصالح لهذه الآية (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها).

١) قرأ يزيد حتى بلغ (وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) ثم قال تعلمون والله إن أقواما يسترطون حسناتهم استبقى رجل طيباته إن استطاع ولا قوة إلا بالله.

٢) روي أن عمر بن الخطاب كان يقول لو شئت لكنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ، ولكن استبقي طيباتي.

وذكر أنه لمّا قدم الشام صنع له طعام لم ير قبله مثله ، قال هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير؟ فقال له خالد بن الوليد لهم الجنة ، فاغرورقت عينا عمر رضي الله عنه وقال لئن كان حظنا الحطام وذهبوا بالجنة لقد باينونا بونا بعيدا.

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)

فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

شرح الكلمات :

(وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) : أي نبي الله هودا عليه‌السلام.

(إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) : أي خوف قومه عذاب الله بوادي الأحقاف.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) : أي مضت الرسل.

(مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) : أي من قبله ومن بعده إلى أممهم.

(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) : أي أنذروهم بأن لا يعبدوا إلا الله.

(إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) : أي إن عبدتم غير الله.

(عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) : أي هائل بسبب شرككم بالله وكفركم برسالتي.

(أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا) : أي لتصرفنا عن عبادتها.

(فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) : أي من العذاب على عبادتها.

(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : أي في انه يأتينا قطعا كما تقول.

(قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم مجيء العذاب ليس لي وإنما هو لله وحده.

وأبلغكم ما أرسلت به إليكم : أي وإنما أنا رسول أبلغكم ما أرسلني به ربي إليكم.

(وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) : أي حظوظ أنفسكم وما ينبغي لها من الإسعاد والكمال وإلّا كيف تستعجلون العذاب مطالبين به.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً) : أي رأوا العذاب سحابا يعرض في الأفق.

(مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) : أي متجها نحو أوديتهم التي فيها مزارعهم.

(قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) : أي قالوا مشيرين إلى السّحاب هذا عارض ممطرنا.

(بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) : أي ليس هو بالعارض الممطر بل العذاب الذي استعجلتموه.

ريح تدمر كل شيء : أي ريح عاتية تهلك كل شيء تمر به.

(بِأَمْرِ رَبِّها) : أي بإذن ربها تعالى.

(فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) : أي أهلكتهم عن آخرهم فلم يبق إلا مساكنهم.

(كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) : أي كذلك الجزاء الذي جازينا به عادا قوم هود وهو الهلاك الشامل نجزي المجرمين من سائر الأمم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قوم النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (وَاذْكُرْ) أي لقومك للعبرة والاتعاظ (أَخا عادٍ) وهو هود عليه‌السلام والأخوة هنا أخوة نسب لا دين. اذكره (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) إذ خوفهم عذاب الله إن لم يتوبوا إلى الله ويوحدوه ، والآحقاف وادي القوم (١) الذي به مزارعهم ومنازلهم وهو ما بين حضرموت ومهرة وعمان جنوب الجزيرة العربية. وقوله (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ (٢) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده في أممهم. أي لم يكن هود أول نذير ، ولا أمته أول أمة انذرت العذاب وقوله (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) أي كل رسول أنذر أمته عاقبة الشرك فأمرهم أن لا يعبدوا إلا الله ، وهو معنى لا إله إلا الله التي دعا إليها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته فهي أمر بعبادة الله وترك الشرك فيها ، وقوله (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم هائل عظيم وهو يوم القيامة ، فكان رد القوم ما أخبر تعالى به في قوله (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) (٣) أي تصرفنا عن عبادة آلهتنا. (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) أي من العذاب (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما (٤) توعدنا به وتهددنا ، فأجابهم هود عليه‌السلام بما أخبر تعالى به عنه بقوله (قالَ) أي هود (إِنَّمَا (٥) الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) أي علم مجيء العذاب وتحديد وقته هذا ليس لي وإنما هو لله منزله ، فمهمتي أن أنذركم العذاب قبل حلوله بكم وابلغكم ما أرسلت به إليكم من الأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك والمعاصي ، (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً (٦) تَجْهَلُونَ) أي بما يضركم وما ينفعكم في الدنيا والآخرة وإلا كيف تستعجلون العذاب وتطالبون به إذ المفروض أن تطلبوا الرحمة والسعادة لا العذاب والشقاء قوله تعالى (٧) (فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) أي فلما رأى قوم هود العذاب متجها

__________________

(١) الأحقاف : جمع حقف بكسر وسكون : الرمل العظيم المستطيل.

(٢) وجائز أن تكون (النُّذُرُ) جمع نذارة ، وكونها الرسل هو الذي عليه المفسرون.

(٣) الاستفهام إنكاري والإفك ، بفتح الهمزة الصرف ، وبالكسر الكذب أو أسوأه.

(٤) جواب الشرط محذوف دل عليه ما تقدمه وهو : (فأتنا بما تعدنا) ولفظ الصادقين ، أبلغ في الوصف مما لو قالوا ، إن كنت صادقا.

(٥) (ال) في (الْعِلْمُ) للاستغراق العرفي أي : علم كل شيء ، ومنه علم وقت مجيء العذاب.

(٦) أي : تجهلون صفات الله تعالى وحكمة إرسال الرسل ، وتجهلون حتى ما ينفعكم وما يضركم وإلا فكيف تطالبون بالعذاب ، كما في التفسير.

(٧) الفاء هنا : للتفريع فما ذكر بعدها متفرع عما تقدمها من قصة هود مع قومه.

نحو أوديتهم التي بها مزارعهم ومنازلهم (قالُوا هذا عارِضٌ (١) مُمْطِرُنا) أي هذا سحاب يعرض في السماء ذاهبا صوب وادينا ليسقينا ، وهو معنى قوله (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي ممطر أراضينا المصابة بالجفاف الشديد. قال تعالى (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) أي ليس بالسحاب الممطر بل هو العذاب الذي طالبتم به لجهلكم وخفة أحلامكم ، وبيّنه بقوله (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) أي تحمل في ثناياها العذاب الموجع ، (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) تمر به فتهلكه (بِأَمْرِ رَبِّها) أي بإذنه وقد أتت عليهم عن آخرهم ولم ينج إلا هود والذين آمنوا معه برحمة من الله خاصة ، (فَأَصْبَحُوا لا (٢) يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي لا يرى الرائي إذا نظر إليهم إلّا مساكنهم خالية ما بها أحد. قال تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) (٣) أي كهذا الجزاء بالدمار والهلاك نجزي المجرمين أي المفسدين أنفسهم بالشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله في الأمم في إرسال الرسل إليهم

٢ ـ وبيان مهمة الرسل وهي النذارة والبلاغ.

٣ ـ بيان سفه وجهل الأمم التي تطالب بالعذاب وتستعجل به.

٤ ـ بيان أن عادا أهلكت بالريح الدّبور ، وأن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصر بريح الصبا كما في الحديث الصحيح.

٥ ـ بيان سنة الله تعالى في إهلاك المجرمين وهم الذين يصرون على الشرك والمعاصي.

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ

__________________

(١) العارض : السحاب الذي يعترض جو السماء ، والاستقبال التوجه نحو الشيء ليكون قبالته.

(٢) قرأ الجمهور ومنهم نافع : لا ترى بالتاء المفتوحة ، وقرأ حفص وغيره (لا يُرى) بالياء والبناء للمجهول ، والمراد بالمساكن : آثارها وبعض الجدران الشاخصة منها.

(٣) في الآية دليل على إفساد الإجرام وأنه سبب كل هلاك ، وحقيقته : أنه إفساد الروح بالشرك والمعاصي فعلا وتركا.

أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) : أي ولقد مكنا قوم عاد من القوة التي لم نمكنكم أنتم من مثلها.

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً) : وجعلنا لهم أسماعا وأبصارا.

(فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي من الإغناء.

(إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) : أي لعلة هي أنهم كانوا يجحدون بآيات الله وهي حججه البيّنة.

(وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : أي نزل بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) : أي من أهل القرى كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين.

(وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) : أي كررنا الحجج وضربنا الأمثال ونوعنا الأساليب لعلهم يرجعون إلى الحق فيؤمنون ويوحدون.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) : أي فهلا نصرهم بدفع العذاب عنهم الذين اتخذوهم من دون الله آلهة يتقربون بهم إلى الله في زعمهم.

(بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) : أي غابوا عنهم عند نزول العذاب.

(وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) : أي خذلان آلهتهم لهم وعدم نصرتهم لهم بل غيابهم عنهم هو إفكهم وافتراؤهم الذي كانوا يفترونه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في مطلب هداية قريش انه لما قص تعالى عليهم قصة عاد وتجلت فيها عظات كثيرة وعبرة كبيرة قال لهم (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) (١) أي قوم عاد مكناهم في الأرض فأعطيناهم من مظاهر

__________________

(١) الجملة في محل نصب على الحال من واو الجماعة في قوله : (قالُوا أَجِئْتَنا) والكلام مستعمل في التعجيب من عدم انتفاعهم بمواهب عقولهم.

القوة المادية (فِيما إِنْ (١) مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (٢) أنتم يا معشر كفار قريش (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي قلوبا (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ) أي أسماعهم (وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ) من الإغناء (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) أي بحججه وبيّناته الدالة على وجوب توحيده وحاق أي نزل بهم العذاب الذي كانوا إذا خوفوا به وأنذروا استهزأوا وسخروا وقوله تعالى (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وقوله (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) أي وكررنا الحجج وضربنا الأمثال ونوعنا العظات والعبر (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى الحق الذي انصرفوا عنه وهو التوحيد والاستقامة فأبوا إلّا الإصرار على الشرك والباطل فأهلكناهم. (٣) (فَلَوْ لا) أي فهلا (نَصَرَهُمُ الَّذِينَ (٤) اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) يتقربون بها إلى الله في زعمهم والجواب ما نصروهم (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي غابوا فلم يعثروا عليهم بالكلية. قال تعالى (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ (٥) وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي ذلك الذي تم لهم من الخذلان والعذاب هو إفكهم أي كذبهم وافتراؤهم الذي كانوا يعيشون عليه قبل هلاكهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الإعراض عن دين الله والإصرار على الفسق عن أمر الله ، والاستمرار على الخروج على طاعته إذا استوجب صاحبه العذاب ونزل به لم يغن عنه ذكاؤه ولا دهاؤه ولا علمه وحضارته ولا علوه وتطاوله.

٢ ـ بيان أن الآيات والحجج وضرب الأمثال وسوق العبر والعظات لا تنفع في هداية العبد ، إذا لم يرد الله هدايته (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) ويحيق به العذاب ويهلكه جزاء تكذيبه وكفره وإعراضه وفسقه.

__________________

(١) (فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) (ما) موصولة و (إن) نافية عدولا عن النفي بما حتى لا تجتمع ميمان ، الموصولة والنافية ارتقاء في الأسلوب.

(٢) التمكين : إعطاء المكنة : بفتح الميم وكسر الكاف وهي : القدرة والقوة ، يقال : مكن من كذا وتمكن إذا قدر عليه ، ومكنه أقدره عليه.

(٣) أصل لو لا إذا دخلت على الجملة الفعلية كانت للتحضيض على تحصيل ذلك الفعل فإذا كان الفاعل غير المخاطب بالكلام كانت للتوبيخ ، إذ لا طائل في تحضيض المخاطب على فعل غيره ، والإتيان بالموصول لما في الصلة من التنبيه على الخطأ والغلط في عبادة الأصنام التي لم تغن عنهم شيئا كقول الشاعر :

إن الذين ترونهم إخوانكم

يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا

(٤) الكلام تضمن التوبيخ للأمم الهالكة على شركهم وعنادهم لرسلهم تعريضا بقريش المصرة على الخطأ نفسه الذي هلكت به الأمم المجاورة لها لعلهم يتذكرون فيتوبون.

(٥) (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ) هذه فذلكة قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا) الخ والإشارة إلى ما تضمنه قوله : اتخذوا من دون الله قربانا آلهة والافتراء نوع من الكذب كابتكار الأخبار الكاذبة ، ويرادف الاختلاق.

٣ ـ بيان غياب الشركاء من الأنداد التي كانت تعبد عن عابديها فضلا عن نصرتها لهم وذلك الخذلان هو جزاء كذبهم وافترائهم في الحياة الدنيا.

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) : أي واذكر إذ أملنا إليك نفرا من الجن جن نصيبين أو نينوي.

(فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) : أي حضروا سماع القرآن قالوا أي بعضهم لبعض أصغوا لاستماع القرآن.

(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) : أي فرغ من قراءته رجعوا إلى قومهم مخوفين لهم من العذاب.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) : أي من الكتب السابقة كالتوراة والانجيل والزبور وغيرها.

(يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) : أي من العقائد في الشرائع والاسلام.

(وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) : أي ويحفظكم هو عذاب يوم القيامة.

(فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) : أي فليس بمعجز الله هربا منه فيفوته.

(أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي الذين لم يجيبوا داعي الله وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإيمان.

: أي في ضلال عن طريق الإسعاد والكمال ظاهر بيّن.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه بعد أن ذكرهم بعاد وما أصابها من دمار وهلاك نتيجة شركها وكفرها وإصرارها على ذلك فقال تعالى (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) إلى آخر الآيات ذكرهم هنا بما هو تقريع لهم وتوبيخ إذ أراهم أن الجن خير منهم لسرعة استجابتهم للدعوة والقيام بتبليغها فقال تعالى (وَإِذْ) (١) (صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) (٢) أي اذكر لقومك من كفار مكة وغيرها إذ صرفنا إليك نفرا من الجن وهم عدد ما بين السبعة إلى التسعة من جن نصيبين وكانوا من أشراف الجن وسادتهم صرفناهم إليك أي أملناهم إليك وأنت تقرأ في صلاة الصبح ببطن نخلة بين مكة والطائف صرفناهم إليك (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا) (٣) أي أصغوا واستمعوا ولا تشوشوا ، قاله بعضهم لبعض ، (فَلَمَّا قُضِيَ) أي القرآن فرغ منه ، (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ) أي رجعوا إلى قومهم من الجن بنصيبين ونينوي منذرين إياهم أي مخوفينهم من عذاب الله إذا استمروا على الشرك والمعاصي فماذا قالوا لهم قالوا ما أخبر تعالى به عنهم (قالُوا يا قَوْمَنا) (٤) (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) (٥) وهو القرآن (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي من الكتب الإلهية التي سبق نزولها كصحف ابراهيم والتوراة والزبور والإنجيل ، ووصفوا القرآن بما يلي يهدي إلى الحق والصواب في كل شيء اختلف فيه الناس من العقائد والديانات والأحكام ، ويهدي إلى صراط مستقيم أي طريق قاصد غير جور ألا وهو الإسلام دين الأنبياء عامة.

وقالوا مبلغين منذرين (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) (٦) وهو محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَآمِنُوا بِهِ) أجيبوه إلى ما يدعو إليه من توحيد الله وطاعته وآمنوا بعموم رسالته وبكل ما جاء به من الهدى ودين الحق ويكون جزاؤكم على ذلك أن (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يغفر لكم الذنوب التي بينكم وبين الله تعالى بسترها عليكم ولا يؤاخذكم بها ، وأما الذنوب التي بينكم وبين بعضكم بعضا فإنها لا تغفر إلا من قبل المظلوم نفسه باستسماحه أو ردّ الحق إليه ، وقوله

__________________

(١) الجملة معطوفة على قوله (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) وإن طلبت المناسبة بين هذه الآيات وما تقدمها في السورة فهي قوله تعالى (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ).

(٢) النفر : العدد دون العشرين.

(٣) (أَنْصِتُوا) أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماما به لئلا يفوت منه شيء وفي الحديث : (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر جابرا في حجة الوداع فقال له : استنصت الناس) قبل أن يبدأ خطبته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) جملة : (قالُوا يا قَوْمَنا) الخ مبينة لقوله تعالى : (مُنْذِرِينَ).

(٥) ظاهر الآية أنهم كانوا يهودا مؤمنين بموسى ولم يكونوا على دين عيسى عليه‌السلام.

(٦) قال ابن عباس رضي الله عنهما : استجاب لهم سبعون رجلا من قومهم فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوافقوه بالبطحاء «مكة» فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم.

ويجركم (١) من عذاب أليم أي ويحفظكم منقذا لكم من عذاب أليم أي ذي ألم موجع وهو عذاب النار ، ثم قالوا : (وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ) أي لم يستجب لنداء محمد فيؤمن به ويوحد الله تعالى فليس بمعجز في الأرض أي لله بل الله غالب على أمره ومهما حاول الهرب فإن الله مدركه لا محالة (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) يتولون أمره ولا أنصار ينصرونه. قال تعالى (أُولئِكَ) أي المذكورون في هذا السياق ممن لم يجيبوا داعي الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي في عمى وغواية بين أمرهم واضح لا يستره شيء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إثبات عالم الجن وتقريره في هذا السياق ولذا كان إنكار الجن كإنكار الملائكة كفرا.

٢ ـ وجوب التأدب عند تلاوة القرآن بالإصغاء التام.

٣ ـ وجوب البلاغ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي الحديث بلغوا عني ولو آية.

٤ ـ الإعراض عن دين الله يوجب الخذلان والحرمان.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

__________________

(١) اختلف في : هل مؤمنو الجن يدخلون الجنة أو لا؟ فذهب أبو حنيفة والحسن البصري قبله إلى أن ثوابهم أن ينجوا من النار فقط ثم يكونون ترابا كسائر الحيوان ، وذهب مالك والشافعي وغيرهما إلى أنهم يدخلون الجنة ، وحجة المانعين من دخولهم الجنة هذه الآية (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ودليل من قال بدخولهم الجنة قوله تعالى في هذه السورة (لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا).

شرح الكلمات :

(وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) : أي لم يتعب ولم ينصب لخلق السموات والأرض.

(بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى) : أي انه قادر على إحياء الموتى وإخراجهم أحياء من قبورهم للحشر.

(وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) : أي ليعذبوا فيها.

(أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) : أي يقال لهم تقريعا : أليس هذا أي العذاب بحق؟.

(قالُوا بَلى وَرَبِّنا) : أي انه لحق وربنا حلفوا بالله تأكيدا لخبرهم.

(فَاصْبِرْ) : أي يا رسولنا محمد على أذى قومك.

(أُولُوا الْعَزْمِ) : أي أصحاب الحزم والصبر والعزم وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلّى الله عليهم أجمعين وسلم. وهم أصحاب الشرائع.

(وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) : أي ولا تستعجل نزول العذاب لأجلهم.

كأنهم يوم يرون العذاب : أي في الآخرة.

(لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً) : أي لم يقيموا في الدنيا إلا ساعة من نهار وذلك لطول العذاب.

(بَلاغٌ) : أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ لهم.

(فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) : أي ما يهلك إلا القوم التاركون لأمر الله المعرضون عنه الخارجون عن طاعته.

معنى الآيات :

ما زال السياق في مطلب هداية قريش الكافرة بالتوحيد المكذبة بالبعث والنبوة فقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أعملوا (أَوَلَمْ (١) يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إنشاءا وإبداعا من غير مثال سابق (وَلَمْ يَعْيَ) (٢) أي ينصب ويتعب (بِخَلْقِهِنَ) أي السموات والأرض بقادر على أن يحيى الموتى لحشرهم إليه ومحاسبتهم ومجازاتهم بحسب أعمالهم في الدنيا الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقوله تعالى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ (٣) الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) لما أثبت البعث وقرره ذكر بعض ما يكون فيه فقال ويوم يعرض الذين كفروا على النار أي تعرضهم الزبانية على النار فيقولون لهم

__________________

(١) الاستفهام إنكاري ، وجوابه قوله تعالى : (بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

(٢) عيي كرضي ويعي كيرضى وهو : العجز في الحيلة والرأي وأما الإعياء بمعنى التعب ففعله : أعيا يعيى إعياء إذا تعب ، وجائز أن يكون عيي بمعنى نصب وتعب.

(٣) أظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى علة الحكم وهي : الكفر تحذيرا منه.

تقريعا وتوبيخا (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ)؟ (١) أي أليس هذا التعذيب بحق؟ فيقولون مقسمين على ثبوته بما أخبر تعالى عنهم في قوله : (قالُوا بَلى وَرَبِّنا) فلما اعترفوا قيل لهم (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي بسبب كفركم أي جحودكم لتوحيد الله ولقائه. ثم أمر تعالى رسوله أن يتدرّع بالصبر وأن يتمثل صبر أولي (٢) العزم ليكون أقوى منهم صبرا كما هو أعلى منهم درجة فقال له فاصبر يا رسولنا على ما تلاقي من أذى قومك من تكذيب وأذى فاثبت لذلك كما ثبت أولوا العزم من قبلك ، والظاهر انهم المذكورون في قوله تعالى من سورة الأحزاب (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، ومن الجائز أن يكون عدد أولي العزم أكثر مما ذكر وقوله تعالى (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) لما أمره بالصبر نهاه عن استعجال العذاب لقومه فقال فاصبر ولا تستعجل العذاب لهم. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) (٣) تعليل لعدم استعجال العذاب لأنه قريب جدا حتى إنهم يوم ينزل بهم ويرونه كأنهم لم يلبثوا في الدنيا على طول الحياة فيها إلا ساعة من نهار وقوله تعالى (بَلاغٌ) أي هذا القرآن وما حواه من تعليم وبيان للهدى تبليغ للناس وقوله (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٤) ينفي تعالى هلاك غير الفاسقين عن أوامره الخارجين عن طاعته وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ الكفر هو الموجب للنار والكفر هو تكذيب بوجود الله تعالى وهو الإلحاد أو تكذيب بلقائه تعالى أو بآياته أو رسله ، أو شرائعه بعضا أو كلّا.

٣ ـ وجوب الصبر على الطاعات فعلا ، وعن المعاصي تركا ، وعلى البلاء بعدم التّضجّرو السّخط.

٤ ـ اطلاق الفسق على الكفر باعتباره خروجا عن طاعة الله فيما يأمر به من العقائد والعبادات وينهى عنه من الشرك والمعاصي.

__________________

(١) الاستفهام تقريري وتنديم على ما كانوا يزعمونه من الباطل ، وإقسامهم بقولهم : (وَرَبِّنا) من باب التحنن والتخضع تلمسا العفو وعدم المؤاخذة.

(٢) (الْعَزْمِ) : نية محققة على عمل أو قول دون تردد ، والمحمود منه ما كان في امتثال أوامر الله ورسوله واجتناب نواهيهما ، ودونه ما كان فيما يجلب خيرا ويدفع شرا.

(٣) (مِنْ نَهارٍ) وصف لساعة ، وكونها من نهار إشارة إلى قلتها وعدم طولها بخلاف ساعة الليل فإنها ترى طويلة. و (بَلاغٌ) خبر ، والمبتدأ محذوف تقديره : هذا بلاغ.

(٤) (فَهَلْ يُهْلَكُ) الاستفهام للنفي ولذا صح الاستثناء منه ، و (ال) في (الْقَوْمُ) للجنس ليشمل كل من فسق ، والفسق : الخروج عن طاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإصرار على الشرك والكفر.

سورة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)

أو القتال

مدنية

وآياتها ثمان وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

شرح الكلمات :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي كفروا بتوحيد الله ولقائه وبآياته ورسوله وصدوا غيرهم عن الدخول في الإسلام.

(أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : أي أحبط أعمالهم الخيرية كإطعام الطعام وصلة الأرحام فلا يرى لها أثر يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي آمنوا بالله وآياته ورسوله ولقائه وأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.

(وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) : أي بالقرآن الكريم.

(كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : أي محا عنهم ذنوبهم وغفرها لهم.

(وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) : أي شأنهم وحالهم فهم لا يعصون الله تعالى.

(ذلِكَ) : أي اضلال أعمال الكافرين وتكفير سيئات المؤمنين.

__________________

(١) تسميتها بسورة محمد أكثر وأشهر في كتب التفسير والحديث معا.

(بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) : أي الشيطان في كل ما يمليه عليهم ويزينه لهم من الكفر. والشرك والمعاصي.

(وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) : أي التوحيد والعمل الصالح.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) : أي كما بيّن تعالى حال الكافرين ، وحال المؤمنين في هذه الآية يبين للناس أمثالهم ليعتبروا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الَّذِينَ (١) كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٢) هذه جملة خبريّة أخبر تعالى فيها عن حال من كفر بالله ورسوله وصد عن سبيل الله أي الإسلام غيره من الناس أضل الله عمله (٣) فأحبطه فلم يحصل له ثواب في الآخرة ، ولازمه انه هالك في النار ، وتكون هذه الجملة كأنها جواب لسؤال نشأ عن قوله تعالى في خاتمة سورة الأحقاف قبل هذه السورة وهي فهل يهلك إلّا القوم الفاسقون أي ما يهلك إلّا القوم الفاسقون فقال قائل من هم القوم الفاسقون؟ فكان الجواب الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وهو وجه ارتباط بين السورتين حسن. هذا وقوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي (٤) بالله ورسوله وآياته ولقائه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت الحرام ووصلوا الأرحام وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، ولو بالاستعداد للقيام بذلك إذ بعض هذه الصالحات لم يشرع بعد و (آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو القرآن الكريم والسنة الصحيحة لأنها وحي إلهي يتلقاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي صحيح الحديث [ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه] وقوله تعالى (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) : أي القرآن لأنه ناسخ للكتب قبله ولا ينسخ بكتاب بعده. فهو الحق الثابت الباقي إلى نهاية الحياة. وقوله (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : أي محا عنهم ذنوبهم (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) (٥) أي شأنهم وحالهم فلم يفسدوا بعد بشرك ولا كفر

__________________

(١) الكفر الإشراك بالله والصد عن سبيل الله ، هو صرف الناس عن اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والدخول في الإسلام ، ويدخل فيه الصد عن المسجد الحرام للاعتمار والحج.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في المطعمين ببدر وهم اثنا عشر رجلا : أبو جهل والحارث بن هشام وذكرهم ، وهم الذين أطعموا الناس يوم بدر ليثبتوا على القتال ولا يفروا ، أبطل أعمالهم لعلة شركهم وكفرهم والآية عامة في كل كافر وما بعدها في كل مؤمن.

(٣) أصل الإضلال : الخطأ عن الطريق ، ولما كان المطعمون عملوا عملا ظنوا أنه خير لهم ونافع فلما أبطله الله تعالى عليهم فلم ينتفعوا به كانوا كمن ضل طريقه فشقى وهلك.

(٤) هذه فئة المؤمنين المقابلة لفئة الكافرين ذكر لها ثلاث صفات كما تلك ثلاث صفات وهي : الإيمان المقابل للكفر ، والإيمان بما نزل على محمد المقابلة للصد عن سبيل الله ، وعمل الصالحات المقابلة لما فعله المطعمون من الطعام.

(٥) البال : يطلق على القلب وعلى العقل ، وعلى ما يخطر للمرء من التفكير وهو أكثر إطلاقه ولعله حقيقة فيه ، ومجاز في غيره ، ويطلق أيضا على الحال والشأن ، والقدر لحديث (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر).

هذا جزاؤهم على إيمانهم وصالح أعمالهم. وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (١) اتَّبَعُوا الْباطِلَ) : وهو الشيطان وما يزينه من أعمال الشرك والشر والفساد ، (وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) : وهو القرآن وما جاء به ودعا إليه من العقائد الصحيحة والعبادات المزكية للنفس المهذبة للأرواح. أي ذلك الجزاء للذين كفروا والذين آمنوا بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. وقوله تعالى (كَذلِكَ يَضْرِبُ (٢) اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) : أي مثل هذا التبيين لحال الكافرين وحال المؤمنين في هذه الآيات يبيّن الله للناس أمثالهم أي أحوالهم بالخسران والنجاح ليعتبروا فيسلكوا سبيل النجاح ، ويتجنبوا سبيل الخسران ، فضلا منه تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان طريقي الفلاح والخسران فطريق الفلاح الإيمان والعمل الصالح وطريق الخسران الشرك والمعاصي.

٢ ـ بيان أن أعمال البر مع الكفر والشرك لا تنفع صاحبها يوم القيامة ولا تشفع له وقد يثاب عليها في الدنيا فيبارك له في ماله وولده.

٣ ـ بيان الحكمة في ضرب الأمثال وهي هداية الناس إلى ما يفلحون به ، فينجون من النار ويدخلون الجنة.

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) هذا تبيين للسبب الأصلي في إضلال أعمال الكافرين وإصلاح بال المؤمنين والباء : بأن : سببية ، واسم الإشارة مبتدأ والخبر : قوله (بِأَنَّ الَّذِينَ ..) الخ والإشارة إلى ما تقدم من الخبرين (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) و (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ).

(٢) هذه الجملة تذييل لما سبق من بيان حال كل من الكافرين والمؤمنين و (يَضْرِبُ) بمعنى يلقي مبيّنا ، والأمثال : جمع مثل وهو : الحال التي تمثل صاحبها أي : تشهره للناس وتعرفهم به فلا يلتبس بنظائره.

فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

شرح الكلمات :

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي إذا كان الأمر كما ذكر فإذا لقيتم الذين كفروا في ساحة المعركة فاضربوا رقابهم ضربا شديدا تفصلون فيه الرقاب عن الأبدان.

(حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) : أي أكثرتم فيهم القتل ولم يصبح لهم أمل في الانتصار عليكم.

(فَشُدُّوا الْوَثاقَ) : أي فأسروهم بدل قتلهم وشدوا الوثاق أي ما يوثق به الأسير من إسار قدّا كان أو حبلا حتى لا يتفلتوا ويهربوا.

(فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) (١) : أي بعد أسركم لهم وشد وثاقهم فإما أن تمنوا منّا أي تفكوهم من الأسر مجانا ، وإما تفادونهم بمال أو أسير مسلم ، وهذا بعد نهاية المعركة.

(حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) : أي واصلوا القتال والأخذ والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها وهي آلاتها وذلك عند إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم فهذه غاية انتهاء الحرب حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

(ذلِكَ) : أي الأمر ذلك الذي علمتم من استمرار القتال إلى غاية إسلام الكفار أو دخولهم في عهدكم وذمتكم.

(وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) : أي بغير قتال منكم كأن يخسف بهم الأرض أو يصيبهم بوباء ونحوه.

(وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) : ولكن أمركم بالقتال وشرعه لكم لحكمة هي أن يبلو بعضكم ببعض أي يختبركم من يقاتل منكم ومن لا يقاتل ، والمؤمن يقتل فيدخل الجنة والكافر يقتل فيدخل النار.

(وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) (٢) : أي قتلهم العدو ، وقرىء قاتلوا في سبيل الله.

__________________

(١) (مَنًّا) و (فِداءً) : منصوبان على المفعولية المطلقة أي : تمنون منأ وإما تفدون فداء.

(٢) قرأ نافع قاتلوا بالبناء للفاعل ، وقرأ حفص : (قُوتِلُوا) بالبناء للمفعول.

(فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) : أي لا يحبطها ولا يبطلها.

(سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) : أي سيوفقهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم ويصلح شأنهم.

(وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ) : أي ويدخلهم يوم القيامة الجنة بينها لهم فعرفوها بما وصفها لهم في كتابه وعلى لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) : أي في دينه ورسوله وعباده المؤمنين.

(يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) : أي على عدوكم ويثبت أقدامكم في المعارك.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) : أي تعسوا تعسا أي هلاكا وخيبة لهم.

(وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) : أي احبطها وأبطلها فلم يحصلوا بها على طائل.

(ذلِكَ) : أي الضلال والتعس.

(بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) : أي من القرآن المشتمل على أنواع الهدايات والاصلاحات.

(فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) : أي أبطلها وأضلها فلا ينتفعون بها لا في الدنيا ولا في الآخرة.

معنى الآيات :

لقد تقدم أن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله قد أضل أعمالهم وذلك لكفرهم وصدهم عن سبيل الله إذا كان الأمر كذلك فليقاتلوا لانهاء كل من المفسدتين كفرهم وصدهم غيرهم عن الإسلام وهذا ما دل عليه قوله تعالى (فَإِذا لَقِيتُمُ (١) الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) أي (٢) فاضربوا رقابهم ضربا يفصل الرأس عن الجسد وواصلوا قتالهم (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أي أكثرتم فيهم القتل ، (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي (٣) احكموا ربط الأسرى بوضع الوثاق وهو الحبل في أيديهم وأرجلهم حتى لا يتمكنوا من قتلكم ولا الهرب منكم وبعد ذلك أنتم وما يراه إمامكم من المصلحة العليا فإن رأى المن فمنوا عليهم مجانا بلا مقابل ، وإما تفادونهم فداء بمال ، أو برجال ، وستظل تلك حالكم قتل وأخذ وأسر ثم من وعفو مجاني ، أو فداء بعوض ومقابل إلى أن تضع الحرب أوزارها أي اثقالها من عدد وعتاد حربي ، وذلك لوصولكم إلى الغاية من الحرب وهي أن يسلم الكافر ، أو يدخل في ذمة المسلمين ، وهو معنى قوله تعالى في سورة البقرة (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ

__________________

(١) الفاء للتفريع أي : تفريع هذا الكلام على ما قبله ، والمقصود تهوين شأن الكافرين في قلوب المسلمين ، وإغراء المسلمين بقطع دابر الكافرين و (فَإِذا) : ظرفية شرطية ، وجوابها : (فَضَرْبَ الرِّقابِ) واللقاء معناه المقابلة في ساحة الحرب.

(٢) (فَضَرْبَ) : نصب ضرب على المفعولية المطلقة أي : فاضربوا الرقاب ضربا ، والجملة كناية عن قتل المشركين في ساحة المعركة سواء كان الضرب بالسيف أو الرمح أو السهام ، فصارت هذه الجملة لما تحمله من معاني الأخذ بالشدة كأنها مثل سائر.

(٣) (الْوَثاقَ) بفتح الواو ، ويجوز كسرها الشيء الذي يوثق به وهو كناية عن الأسر إذ الأسر يستلزم وضع الإسار في يد الأسير ليقاد به.

وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ). : وقوله تعالى (ذلِكَ) : أي الأمر الذي علمتم من استمرار القتل والأسر إلى أن تضع الحرب أوزارها (١) بالدخول في (٢) الإسلام أو في ذمة المسلمين وقوله ولو شاء الله لا نتصر منهم أي بدون قتال منكم ولكن بخسف أو وباء أو صواعق من السماء ولكن لم يفعل ذلك من أجل أن يبلو بعضكم ببعض أي ليختبركم بهم. فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ، ويبلوهم بكم فيعاقب من شاء منهم بأيديكم ، ويتوب على من يشاء منهم كذلك ، إذ انتصاركم عليهم ووقوعهم تحت سلطانكم يساعدهم على التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق فيسلموا فيفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : وفي قراءة (٣) والذين قتلوا في سبيل الله وهذه عامة في شهداء أحد وغيرهم وإن نزلت الآية فيهم فإن الله تعالى يخبر عن إنعامه عليهم بقوله (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ) في الدنيا ويوفقهم إلى كل خير ويصلح شأنهم ، ويدخلهم في الآخرة الجنة عرفها لهم أي بينها لهم في كتابه ولسان رسوله وطيّبها لهم أيضا ، (٤) وفي الآخرة يهديهم إلى منازلهم في الجنة كما قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا] «البخاري» ، وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا إن تنصروا الله بنصر دينه ونبيّه وأوليائه بقتال أعدائه ينصركم الله ويجعل الغلبة لكم ، ويثبت أقدامكم في كل معترك لقيتم فيه المشركين والكافرين. وهذا وعد من الله تعالى كم أنجزه لعباده المؤمنين في تاريخ الجهاد في سبيل الله ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً (٥) لَهُمْ) أي تعسوا تعسا (٦) وهلكوا هلاكا وخابوا وخسروا ، (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) فلم يعثروا عليها ولم يروا لها أدنى فائدة ذلك الجزاء وتلك العقوبة بأنهم أي بسبب (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) أي من القرآن من آيات التوحيد والشرائع والأحكام فأحبط أي لذلك أعمالهم فخسروا في الحياتين.

__________________

(١) الأوزار : جمع وزر كحمل وأحمال ، والمراد بها الأثقال من العتاد الحربي وهي كناية عن انتهاء الحرب بنصر الإسلام والمسلمين.

(٢) اختلف في : هل هذه الآية منسوخة أو محكمة والصحيح أنها محكمة وأن الإمام مخير بين القتل والأسر والفداء والمن ولكن لا بد من النظر في مصلحة الإسلام والمسلمين فنظر الحاكم يكون محققا للمصلحة العامة.

(٣) قاتلوا قراءة نافع و (قُتِلُوا) قراءة حفص كما تقدم في النهر قريبا.

(٤) قال ابن عباس (عَرَّفَها لَهُمْ) أي طيّبها لهم بأنواع الملاذ مأخوذ من العرف بفتح العين : الرائحة الطيبة.

(٥) التعس : الشقاء ، ويطلق على الهلاك والخيبة والسقوط والانحطاط.

(٦) (فَتَعْساً) : منصوب على المفعولية المطلقة كما في التفسير ويجوز أن يكون مستعملا في الدعاء عليهم لقصد التحقير والتفضيع لشأنهم وهو مثل سقيا ورعيا له وتبا له وويحا له ، وإن كان هذا فإنه يتعين تقدير قول محذوف أي : فقال الله : تعسا لهم. كقول أم مسطح : تعس مسطح دعاء عليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الجهاد على أمة الإسلام ومواصلته كما بيّن تعالى في هذه الآيات إلى أن لا يبقى كافر يحارب بأن يدخلوا في الإسلام أو يعاهدوا ويدخلوا في ذمة المسلمين ويقبلوا على إصلاح أنفسهم وإعدادها للخير والفلاح.

٢ ـ إمام المسلمين مخير في الأسرى بين المنّ والفداء ، والقتل أيضا لأدلة من السنة.

٣ ـ بشرى المجاهدين في سبيل الله بإكرام الله لهم وإنعامه عليهم في الدنيا والآخرة.

٤ ـ يظفر بالنصر الحقيقي من نصر الله تعالى في دينه وأوليائه.

٥ ـ إنذار الكافرين بالتعاسة والشقاء في الدنيا والآخرة.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤))

شرح الكلمات :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) : أي أغفل هؤلاء المشركون فلم يسيروا في البلاد.

(فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي كيف كانت نهاية الذين من قبلهم كعاد وثمود.

(دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) : أي دمر عليهم مساكنهم فأهلكهم وأولادهم وأموالهم وللكافرين أمثال تلك العاقبة السيئة.

(وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) : أي لا ناصر لهم.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ) : أي بمتع الدنيا من مطاعم ومشارب وملابس ويأكلون.

(كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) : أي كأكل الأنعام بنهم وازدراد والنار مأواهم.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً) : أي وكثير من أهل قرية هي أشد قوة.

(مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) : أي مكة إذ أخرج أهلها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي على حجة وبرهان من أمر دينه فهو يعبد الله على علم.

(كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) : أي كمن زين الشيطان له سوء عمله.

(وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : أي واتبعوا أهواءهم في عبادة الأصنام والجواب ليسوا سواء ولا مماثلة بينهما أبدا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (١) يوبخ تعالى المشركين المصرين على الشرك والكفر على إصرارهم على الشرك والعناد فيقول أغفلوا (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) كعاد وثمود وقوم لوط إذ دمر تعالى عليهم بلادهم فأهلكهم وأولادهم وأموالهم فيعتبروا بذلك ، وقوله تعالى (وَلِلْكافِرِينَ) أمثال تلك العاقبة المدمّرة ، وعيد لكفار مكة بأن ينزل عليهم عقوبة كعقوبة الأولين إن لم يتوبوا من شركهم وإصرارهم عليه ، وعنادهم فيه. وقوله (ذلِكَ) (٢) أي نصر المؤمنين وقهر الكافرين بسبب (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي وليهم ومتولي أمرهم وناصرهم. (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) لأن الله تعالى خاذلهم ومن يخذله الله فلا ناصر له. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ (٣) يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) هذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بأن يدخلهم يوم القيامة جنات أي بساتين تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار وقوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) في الدنيا بملاذها وشهواتها ، (وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) إذ ليس لهم همّ إلا بطونهم وفروجهم ، ولذا هم لا

__________________

(١) الفاء للتفريع ، تفريع هذه الجملة الكلامية على الجملة السابقة وهي : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) والاستفهام للتقرير التوبيخي.

(٢) جائز أن يكون اسم الإشارة منصرفا إلى مضمون قوله تعالى (وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) فيفيد أن ما أصاب المشركين من الدمار والخزي والعار بسبب أن الله ناصر الذين آمنوا وما في التفسير في غاية الوضوح.

(٣) كلام مستأنف استئنافا بيانيا ، إذ هو بمثابة جواب لمن سأل عن حال المؤمنين في الآخرة وحال الكافرين في الدنيا ، أما في الآخرة فالأمر معلوم وهو أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون إذ بيّن تعالى حال المؤمنين في الآخرة ، وحال الكافرين في الدنيا.

يلتفتون إلى الآخرة. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (١) أي مقام ومنزل ومصير ، وهذا وعيد شديد للكافرين. وهذا هو الترغيب والترهيب الذي هو سمة بارزة في أسلوب القرآن في الهداية البشرية وقوله تعالى (وَكَأَيِّنْ (٢) مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) (٣) (أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) هذه الآية نزلت ساعة خروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيته إلى غار ثور مهاجرا فقد التفت إلى مكة وقال أنت أحب البلاد إلى الله وأحب بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك. ومعنى الآية الكريمة وكثير من القرى أهلها أشد قوة من أهل قريتك «مكة» التي أخرجك أهلها حيث حكموا بإعدامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهلكناهم أي أهل تلك القرى فلا ناصر وجد لهم عند إهلاكنا لهم. فكانت هذه الآية تحمل تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأي تسلية!! وقوله تعالى (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على علم وبرهان من صحة معتقده وعبادته لله تعالى راجيا ثوابه خائفا من عقابه وهؤلاء هم المؤمنون ، (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ) أي قبيح عمله من الشرك والكفر فهو يعيد الأصنام ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) هم في ذلك فلم يتبعوا وحيا إلهيا ولا عقلا إنسانيا فهل حالهم كحال من ذكروا قبلهم والجواب لا يتماثلان إذ بينهما من الفوارق كما بين الحياة والموت ، والجنة والنار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير قاعدة : العاقل من اعتبر بغيره.

٢ ـ تقرير ولاية الله لأهل الإيمان والتقوى.

٣ ـ بيان الفرق بين الماديين وأهل الإيمان والاستقامة على منهج الإسلام.

٤ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تخفيفا من آلامه التي يعانيها من إعراض المشركين وصدوفهم عن الإسلام.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ

__________________

(١) المثوى : مكان الثواء ، الذي هو الاستقرار ، وشاهده قول الشاعر :

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يملّ منه الثواء

(٢) (كَأَيِّنْ) تدل بوضعها على كثرة العدد مثل كم والمراد بالقرية أهلها بدليل أهلكناهم إذ لم يقل : أهلكناها ، والمراد بالقرية هنا : مكة أمّ القرى وأضيفت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشريفا لها زيادة على شرفها إذ هي بلد الله الأمين.

(٣) أطلق الإخراج على ما عامل به المشركون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الجفاء والأذى ومحاربة نشر الدعوة فكان ذلك سبب خروجه منها ، فأطلق الإخراج على مسبباته ، وإلا فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج باختياره ولم يكرهه المشركون على الخروج بل كانوا يحاولون منعه من الخروج.

يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥))

شرح الكلمات :

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) : أي صفة الجنة دار السّلام التي وعد الله بها عباده المتقين له.

(مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) : أي غير متغيّر الريح والطعم لطول مكثه.

(وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) : أي من الشمع وفضلات النحل.

(وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) : أي حارا شديد الحرارة.

(فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) : أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي) (١) (وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) هذه الآية الكريم تضمنت شرحا وافيا لآنهار الجنة ، وشراب أهل النار ، كما اشتملت على مقارنة بين حال أهل الإيمان والتقوى وما وعدوا به من مغفرة ذنوبهم وإدخالهم الجنة ، وبين حال أهل النار وهم خالدون فيها وما وعدوا فيها من ألوان العذاب الشديد فقوله تعالى (مَثَلُ الْجَنَّةِ) أي صفتها الممثلة لها الشارحة لحالها التي وعد المتقون أي التي وعد الله تعالى بها عباده المتقين له وهم أولياؤه الذين عبدوه ووحدوه فأطاعوه في الأمر والنهي فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي. (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) (٢) أي غير متغير الطعم ولا الريح بطول المكث (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) أي بحموضة ولم يصر قارصا ولذلك لم يتغير ريحه أيضا وأنهار من خمرة لذة للشاربين (٣) أي وفيها (أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ) هي لذة لمن يشربها وسبب لذاذتها أنها غير كدرة ولا مسكرة ولا ريح غير طيبة لها ، (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي وفيها أنهار من عسل مصفى أي من الشمع وفضلات النحل وقوله (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من سائر أنواع

__________________

(١) هذه الآية مستأنفة استئنافا بيانيا إذ فيها بيان لما قد يسأل عنه السائل. و (مَثَلُ الْجَنَّةِ) مبتدأ والخبر محذوف يقدّر ، بمثل مما سيوصف لكم أو ما سيتلى عليكم أو مما يتلى عليكم مثل الجنة وجملة : (فِيها أَنْهارٌ) بدل مفصل من مجمل.

(٢) أسن الماء : كضرب يأسن ، وكنصر وفرح أيضا فهو آسن : إذا تغير لونه.

(٣) اللذة : وصف وليست اسما وهي تأنيث اللذ أي اللذيذ قال الشاعر :

ذكرت شبابي اللذ غير قريب

ومجلس لهو طاب بين شروب

واللذاذة انفعال نفساني.

الثمار من فواكه وغيرها. ومع ذلك (مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) لسائر ذنوبهم فهل يستوى من هذه حالهم بحال من هو خالد في النار لا يخرج منها وسقوا ماء حميما حارا شديد الحرارة فلما سقوه وشربوه قطع أمعاءهم (١) أي مصارينهم فخرجت من أدبارهم والعياذ بالله من النار وحال أهل النار اللهم أجرنا من النار اللهم اجرنا من النار اللهم أجرنا من النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التقوى هي السبب المورث للجنة هكذا جعلها الله عزوجل ، والتقوى هي بعد الإيمان فعل المأمورات وترك المنهيات من سائر أنواع الشرك والمعاصي.

٢ ـ بيان بعض نعيم الجنة من الشراب والفواكه.

٣ ـ بيان بعض عذاب النار وهو الخلود فيها وشرب الحميم.

٤ ـ تقرير البعث والجزاء ، وأن لا مماثلة بين أهل السعادة وأهل الشقاء.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩))

شرح الكلمات :

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) : أي ومن الكفار المنافقين من يستمع إليك في خطبة الجمعة.

(ما ذا قالَ آنِفاً) : أي الساعة أي استهزاء منهم وسخرية يعنون انه شيء لا يرجع إليه ولا يعتد به لعدم فائدته.

__________________

(١) الأمعاء : جمع معى بكسر الميم وقد تفتح وهو ما ينتقل إليه الطعام بعد نزوله من المعدة ، ويسمى عفج بوزن كتف.

(طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي بالكفر فلذا هم لا يعون.

(وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) : أي في الكفر والنفاق.

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) : أي المؤمنون.

(زادَهُمْ هُدىً) : أي زادهم الله هدى.

(وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) : أي ألهمهم ما يتقون به عذاب الله تعالى.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ) : أي ما ينتظر أهل مكة إلّا الساعة.

(أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) : أي فجأة.

(فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها) : أي علاماتها كبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر والدخان.

(فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) : أي أنى لهم إذا جاءتهم التذكر الذي ينفعهم إذ قد أغلق باب التوبة.

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) : أي فبناء على ما تقدم لك يا نبيّنا فاعلم أنه لا يستحق العبودية إلا الله فاعبده وتوكل عليه.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) : أي قل استغفر الله أو اللهم اغفر لي.

(وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : أي واستغفر للمؤمنين والمؤمنات.

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) : أي متصرفكم في النهار وأنتم تتصرفون في أمور دنياكم.

(وَمَثْواكُمْ) : أي مكان ثواكم وإقامتكم ونومكم بالليل.

معنى الآيات :

قوله تعالى ومنهم من يستمع إلى هذه الآية (١٦) والآية التي بعدها مدنيّتان لا شك لأنهما نزلت في شأن المنافقين قال تعالى مخبرا رسوله عن بعض المنافقين (وَمِنْهُمْ) أي ومن بعض المنافقين (مَنْ يَسْتَمِعُ (١) إِلَيْكَ) أي إلى حديثك يوم الجمعة وأنت تخطب الناس على المنبر (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) أي من المسجد (قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٢) من أصحابك كعبد الله بن مسعود (ما ذا قالَ آنِفاً) (٣) ، وقولهم هذا ظاهر عليه الخبث إذا لو كانوا مؤمنين محبين لقالوا

__________________

(١) روي عن مقاتل أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سلول ورفاعة بن التابوت والحارث بن عمرو وزيد بن الصلت ، ومالك بن الدخشم من المنافقين بالمدينة إلا أن مالك بن الدخشم قد أسلم وحسن إسلامه والاستماع السماع ولكن بعناية واهتمام يتظاهرون بذلك نفاقا لا غير.

(٢) هم نفر من أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم عبد الله بن مسعود ، وأبو الدرداء وابن عباس وإن كان يومها صغيرا فإنه لا مانع أن يسأل ويجيب لما هو مؤهل له من طلب العلم والكمال فيه.

(٣) (آنِفاً) : أي الآن وهو أقرب الأوقات ، وسؤالهم هذا سؤال استهزاء ، وآنفا لم يسمع إلا ظرفا هكذا ، وقيل هو مشتق من الأنف لأنه أول ما يظهر من البعير فأطلق على أقرب الوقت. ومنه أمر أنف ، ورقة أنف لم ترع بعد قال الشاعر :

ويحرم سر جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

ماذا قال رسول الله آنفا ، ولكن قالوا ماذا قال آنفا ، وهم يعنون أن ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بشيء مفيد يرجع إليه. قال تعالى (أُولئِكَ) أي البعداء في الشر والنفاق (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي بالكفر والنفاق وذلك لكثرة تلوثهم بأوضار الكفر والنفاق حتى ران على قلوبهم ذلك فكان ختما وطابعا على قلوبهم ، (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) فهما علتان الأولى الطبع المانع من طلب الهداية والثانية اتباع الهوى وهو يعمي ويصم ، فلذا هم لا يهتدون ، وقوله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) إلى الإيمان الصحيح والعمل الصالح زادهم الله هدى حسب سنته في نماء الأشياء وزكاتها وزيادتها ، (وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١) أي ألهمهم ما يتقون وأعانهم على ذلك فهم يتقون مساخط الله تعالى ومن أعظمها الشرك والمعاصي. وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (١٨) (فَهَلْ يَنْظُرُونَ) أي كفار قريش (٢) من زعماء الكفر في مكة إلا الساعة أي ما ينتظرون إلا الساعة أي القيامة (أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة إن كانوا ما ينظرون بإيمانهم إلا الساعة فالساعة قد جاء أشراطها وأول أشراطها بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثانيها الدخان ، وثالثها انشقاق القمر. وقوله تعالى (فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ) (٣) أي أنى لهم التذكر الذي ينفعهم إذا جاءت الساعة بل شروطها أي بظهور علاماتها الكبرى (٤) لا تقبل التوبة من أحد لم يكن مؤمنا لقوله تعالى من سورة الأنعام (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً). على كل حال فالآية تستبطئ إيمان كفار مكة وتنكر عليهم تأخر إيمانهم الذي لا داعي له مع ظهور أدلة العقل والنقل ووضوح الحجج والبراهين الدالة على توحيد الله ووجوب عبادته وحده دون من سواه ولذا قال تعالى (فَاعْلَمْ (٥) أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ (٦) وَالْمُؤْمِناتِ) أي فاعلم يا محمد أنه لا معبود تنبغي له العبادة وتصلح له إلا الله الذي هو خالق كل شيء ومالكه واستغفر أي اطلب من ربك المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات ، وهذا الكلام وإن وجه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد منه على الحقيقة أو بالأصالة غيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنما قال تعالى يا عباد الله أيها الناس والرسول على

__________________

(١) مما ذكر في هذه الزيادة أنه آتاهم ثواب تقواهم في الآخرة وأنه بيّن لهم ما يتقون وأنه وفقهم للأخذ بالعزائم وترك الرخص وما في التفسير أشمل وأوضح.

(٢) يبدو أنه ما هناك حاجة إلى تخصيص كفار قريش بهذا الخطاب وإن كانوا داخلين فيه لأنّ السورة مدنية.

(٣) أي : من أين لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة.

(٤) في صحيح مسلم عن حذيفة والبراء قالا : كنا نتذاكر الساعة إذا أشرف علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (بما تتذاكرون؟ قلنا نتذاكر الساعة. قال : إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات ، : الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب ، والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونارا تخرج من عدن).

(٥) هذه الآية من أدلة وجوب العلم قبل القول والعمل ، وهو ما بوّب به البخاري رحمه‌الله تعالى.

(٦) لا ذنب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعصمته ، وإنما هو من باب قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إنه ليغان على قلبي وإني استغفر الله في اليوم مائة مرة). ومعنى يغان : يغام ويغشى ، وقيل إنه غين أنوار لا غين أغيار.

رأسكم اعلموا انه لا إله إلا الله واستغفروا لذنوبكم مؤمنين ومؤمنات (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) أي تصرفكم في النهار في مصالح معاشكم ومعادكم ويعلم مثواكم (١) في فرشكم نائمين فهو يعلمكم على ما أنتم عليه في كل ساعة من ليل أو نهار فاخشوه واتقوه حتى تفوزوا برضاه في جنات النعيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ من الجائز أن تكون السورة مكية وبها آية أو أكثر مدنيّة.

٢ ـ التحذير من اتباع الهوى فإنه يعمي ويصم والعياذ بالله.

٣ ـ بيان أن لقيام الساعة أشراطا أي (٢) علامات تظهر قبلها فتدل على قربها.

٤ ـ وجوب العلم بأنه لا إله إلا الله ، وذلك يتم على الطريقة التالية :

الاعتراف بأن الإنسان مخلوق كسائر المخلوقات حوله ، وكل مخلوق لا بد له من خالق فمن خالق الإنسان والكون إذا؟ والجواب قطعا : الله. فما دام الله هو الخالق فمن عداه مخلوق مفتقر إلى الله خالقه في حفظ حياته ، ومن يؤله ويعبد إذا الخالق أم المخلوق؟ والجواب : الخالق. إذا تعيّن انه لا معبود إلا الله وهو معنى لا إله إلا الله ولما كانت العبادة لا تعرف إلا بالوحي وجب الإيمان برسول الله فكان لا بد من زيادة محمد رسول الله فنقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣))

__________________

(١) المثوى : المآل والمرجع.

(٢) روى مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (بعثت أنا والساعة كهاتين وضم السبابة والوسطى).

شرح الكلمات :

(لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) : أي هلّا نزلت سورة يقول هذا المؤمنون طلبا للجهاد.

(سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) : أي لم ينسخ منها شيء من أوامرها ونواهيها.

(وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) : أي طلب القتال بالدعوة إليه والترغيب فيه.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي شك وهم المنافقون.

(نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) : أي خوفا من القتال وكراهية له فتراهم ينظرون إلى الرسول مثل نظر المغشي عليه من سكرات الموت.

(فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) : أي فأجدر بهم طاعة لرسول الله وقول معروف حسن له.

(فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) : أي فرض القتال وجد أمر الخروج إليه.

(فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) : أي وفواله ما تعهدوا به من أنهم يقاتلون.

(لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) : أي الوفاء بما تعهدوا به خيرا في دنياهم وآخرتهم.

(فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي أعرضتم عن الإيمان الصوري الذي أنتم عليه وأعلنتم عن كفركم.

(أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) : أي تفسدوا في الأرض بالشرك والمعاصي ولا تصلوا أرحامكم.

(فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) : أي فعل تعالى ذلك بهم فلذا هم لا يسمعون الحق ولا يبصرون الخير والمعروف.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر السورة ظاهره انه مدني وليس بمكي وهو كذلك فأغلب أي السورة مدني إذا ، ولا حرج : لأن القتال لم يفرض إلا بعد الهجرة النبوية والنفاق لم يظهر إلا بعد الهجرة كذلك والسياق الآن في علاج النفاق وأمور الجهاد قال تعالى ويقول الذين آمنوا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متمنين الجهاد (لَوْ لا نُزِّلَتْ) (١) (سُورَةٌ) أي هلا أنزل الله سورة قرآنية تأمر بالجهاد قال تعالى فإذا انزلت سورة محكمة ليس فيها نسخ (وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ) أي الأمر به والترغيب فيه. رأيت يا محمد الذين (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي مرض الشك والنفاق (يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) يا (٢) رسولنا نظر أي مثل (نَظَرَ الْمَغْشِيِ) أي المغمي عليه من الموت أي من سياقات الموت وسكراته. قال تعالى

__________________

(١) شوقا إلى الجهاد وما أعد الله من ثواب لأهله ، كما هو اشتياق للوحي ونزوله.

(٢) نظر مغمومين مغتاظين بتحديد وتحديق كمن يشخص بصره عند الموت.

(فَأَوْلى لَهُمْ) هذا اللفظ صالح لأن يكون دعاء عليهم بالهلاك (١) أي هلاك لهم لجبنهم ونفاقهم وصالح أن يكون بمعنى الأجدر بمثلهم (طاعَةٌ) لله ورسوله (وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) أي حسن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى (فَإِذا عَزَمَ) أي جد الأمر للجهاد (فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ) ما عاهدوا عليه من أنهم يقاتلون مع رسوله (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة. ثم قال لهم مخاطبا إياهم توبيخا وتقريعا (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) بكسر السين (٢) وفتحها قراءتان (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي عن الإيمان الصوري إلى الكفر الظاهر فأعلنتم عن ردتكم (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بفعل الشرك وارتكاب المعاصي (وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ) بإعلان الحرب على أقربائكم المؤمنين الصادقين. هذا إذ كان التولى بمعنى الرجوع إلى الكفر العلني وإن كان بمعنى الحكم فالأمر كذلك إذا حكموا ليفعلون ما هو أعظم من الشرك والفساد في الأرض وتقطيع الأرحام ، وأخيرا سجلت الآية (٢٣) لعنة الله فقال تعالى أولئك أي البعداء في الخسة والحطة (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) فأبعدهم من رحمته (فَأَصَمَّهُمْ) عن سماع الحق (وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) عن رؤية الهدى والطريق المستقيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز تمنى الخير والأولى أن يسأل الله تعالى ولا يتمنى بلفظ ليت كذا.

٢ ـ في القرآن محكم ومنسوخ من الآيات وكله كلام الله يتلى ويتقرب به إلى الله تعالى ويعمل بالمحكم دون المنسوخ وهو قليل جدا.

٣ ـ ذم الجبن والخور والهزيمة الروحية.

٤ ـ شر الخلق من إذا تولى أفسد في الأرض بالشرك والمعاصي.

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ

__________________

(١) (فَأَوْلى) : قال الأصمعي معناه قاربه ما يهلكه.

(٢) قرأ نافع وحده بكسر السين وفتحها ما عداه حفص وغيره.

(٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨))

شرح الكلمات :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) : أي يتفكرون فيه فيعرفون الحق من الباطل.

(أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) : أي بل على قلوب لهم أقفالها فهم لا يفهمون إن تدبروا.

(إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) : أي رجعوا كافرين بنفاقهم.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) : أو من بعد ما تبين لهم صدق الرسول وصحة دينه بالحجج والبراهين.

(الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) : أي زيّن لهم الشيطان نفاقهم وأملى لهم أي واعدهم بطول العمر ومنّاهم.

ذلك بأنهم قالوا الذين كرهوا ما أنزل الله : أي ذلك الإضلال بسبب قولهم للذين كرهوا ما أنزل الله وهم المشركون.

(سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) : أي بأن نتعاون معكم على عداوة الرسول وبتثبيط المؤمنين عن الجهاد وكان ذلك سرا منهم لا جهرة فأظهره الله لرسوله.

(يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) : أي بمقامع من حديد يضربون وجوههم وظهورهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) : أي التوفّي على الحالة المذكورة من الضرب على الوجوه والظهور بسبب اتباعهم ما أسخط الله من الشرك والمعاصي.

(وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) : أي ما يرضيه تعالى من التوحيد والعمل الصالح.

(فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) : أي ابطلها فلم يحصلوا منها على ثواب حسن.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تأديب المنافقين بعيبهم والإنكار عليهم وتهديدهم لعلهم يرجعون إذ حالهم كحال المشركين في مكة فقال تعالى (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ (١) الْقُرْآنَ) أي مالهم؟ أغفلوا فلم يتدبروا

__________________

(١) الاستفهام للتعجيب من سوء عملهم بالقرآن وإعراضهم عن سماعه و (بل) للإضراب الانتقالي أي : بل على قلوبهم أقفال ، والتدبر : التفهم مشتق من دبر الشيء أي : خلفه.

القرآن أي يتفكروا فيه فيعرفوا الحق من الباطل والهدى (١) من الضلال لأن القرآن نزل لبيان ذلك. (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) أي بل على قلوب (٢) لهم أقفالها أي اقفل الله على قلوبهم فلا يعقلون ما أنزل الله في كتابه من المواعظ والعبر والحجج والأدلة والبراهين حتى يكون الله هو الذي يفتح تلك الأقفال ، والله تعالى يقفل ويفتح حسب سنن له في ذلك وقد ذكرنا هذا المعنى مرات في بيان الهداية والإضلال ، وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ (٣) ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ) أي رجعوا إلى الكفر بقلوبهم دون ألسنتهم وهم المنافقون (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) أي صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحة دينه الإسلام هؤلاء المرتدون (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) أي زين لهم ذلك الارتداد (وَأَمْلى لَهُمْ) أي واعدهم ممنّيا لهم بطول العمر والبقاء الطويل في الحياة والعيش الطيب الواسع فيها وقوله تعالى (ذلِكَ) أي الإضلال الذي حصل لهم بسبب (بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا) ما أنزل الله من القرآن والشرائع وإبطال الشرك والشر والفساد وهم المشركون قالوا لهم سرا وخفية (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) ، وذلك كعدم قتالكم وتثبيط الناس عن القتال إلى غير ذلك مما أسروه لإخوانهم المشركين. وقوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) (٤) يخبر تعالى انهم لما كانوا يسرّون كلمات الكفر للمشركين كان تعالى مطلعا عليهم فهو يعلم إسرارهم وأسرارهم وها هو ذا قد أطلع عليهم رسوله والمؤمنين. وقوله تعالى (فَكَيْفَ) أي حالهم (إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ) ملك الموت وأعوانه من ملائكة العذاب وهم (يَضْرِبُونَ) بمقامع من حديد (وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ) أي ظهورهم. وقوله تعالى (ذلِكَ) أي العذاب النازل بهم بسبب (بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) من الكفر به وبرسوله. (وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) أي ما يرضيه عنهم وهو الجهاد في سبيله (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي أبطلها فلم يثبهم عليها لأنهم مشركون كافرون وعمل المشرك والكافر باطل وهو خاسر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب تدبر القرآن الكريم عند تلاوته أو سماعه وهو تفهم معانيه في حدود قدرة المسلم على الفهم.

__________________

(١) ويعرفوا كذلك ما أعد الله للذين لم يتولوا عن الإسلام من عزة ونصر في الدنيا ، ومن نعيم مقيم في الآخرة.

(٢) لم يقل على قلوبهم فنكر القلوب وقال : (عَلى قُلُوبٍ) لتدخل قلوب غيرهم فلا يكون خاصا بهم ، والقفل : حديدة يغلق بها الباب.

(٣) اختلف في هؤلاء المرتدين فقال قتادة هم كفار أهل الكتاب وقال ابن عباس وغيره : هم المنافقون ، وكونهم المنافقين أعم إذ من اليهود منافقون.

(٤) قرأ نافع والجمهور أسرارهم بفتح الهمزة ، وقرأ حفص (إِسْرارَهُمْ) بكسرها فالإسرار بالكسر : مصدر أسرّ إسرارا وبالفتح جمع سرّ.

٢ ـ الارتداد عن الإسلام كالرجوع عن الطاعة إلى المعصية سببهما تزيين الشيطان للعبد ذلك وإملاؤه له بالتمنّي والوعد الكاذب.

٣ ـ من الردة التعاون مع الكافرين على المؤمنين بأي شكل من أشكال التعاون ضد الإسلام والمسلمين.

٤ ـ تقرير عقيدة عذاب القبر وأنه حق ثابت أعاذنا الله منه آمين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢))

شرح الكلمات :

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي مرض النفاق.

(أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) : أي أن لن يظهر أحقادهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

(وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) : أي لعرّفناك بهم فلعرفتهم.

(بِسِيماهُمْ) : أي بعلاماتهم.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) : أي إذا تكلموا عندك في لحن القول أي معناه وذلك بأن يعرّضوا فيه بتهجين أمر المسلمين أي تقبيح أمرهم.

(وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) : أي أيها المؤمنون إن الله يعلم أعمالكم وسيجزيكم بها خيرا.

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) : ولنختبرنّكم بالجهاد وغيره من التكاليف.

(حَتَّى نَعْلَمَ) : أي نعلم علم ظهور لكم ولغيركم إذ الله يعلم ذلك قبل ظهوره لما حواه كتاب المقادير.

(الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) : أي الذين جاهدوا وصبروا من غيرهم.

(وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) : أي ونظهر أخباركم للناس من طاعة وعصيان في الجهاد وفي غيره.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي بالله ولقائه ورسوله وما جاء به من الدين الحق.

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الإسلام.

(وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) : أي خالفوه وعادوه وحاربوه.

(مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) : أي عرفوا أن الرسول حق والإسلام حق كاليهود وغيرهم.

(لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) : أي من الضرر لأنه متعال أن يناله خلقه بضرر.

(وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) : أي يبطلها فلا تثمر لهم ما يرجونه منها في الدنيا والآخرة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين بكشف عوارهم وإزاحة الستار عما في قلوبهم من الشك والنفاق فقال تعالى (أَمْ) (١) أي (حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) وهم المنافقون والمرض هو مرض النفاق الناجم عن الشك في الإسلام وشرائعه (أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) (٢) أي أحقادهم فيظهرها لرسوله والمؤمنين فحسبانهم هذا باطل وقوله تعالى لرسوله (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامات النفاق فيهم وقوله (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٣) أي وعزتي وجلالي لتعرفنهم في لحن القول أي في معاني كلامهم إذا تكلموا عندك وبين يديك فإن كلامهم لا يخلو من التعريض بالمؤمنين بانتقاصهم والقدح في أعمالهم ، كما قيل «من أضمر سريرة ألبسه الله رداءها» وقوله تعالى في خطابه المؤمنين (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) ولازمه أنه سيجزيكم بها فاصبروا على الإيمان والتقوى. (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) (٤) أي ولنختبرنكم بالجهاد والإنفاق والتكاليف (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) أي حتى نظهر ذلك لكم فتعرفوا المجاهد من القاعد والصابر من الضاجر منكم وبينكم ، (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أي ما تخبرون به عن أنفسكم وتتحدثون به فنظهر الصدق من خلافه فيه ، ولذا كان الفضيل بن عياض رحمه‌الله تعالى إذا قرأ هذه الآية بكى وقال اللهم لا تبتلنا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا ، وقوله جل ذكره (إِنَ

__________________

(١) (أَمْ) هي المنقطعة المقدرة ببل وهمزة الاستفهام : فبل : للاضراب الانتقالي ، والاستفهام إنكاري.

(٢) الأضغان : جمع ضغن كحمل وأحمال ، وهو الحقد والعداوة ومحلها القلب : قال الشاعر :

الضاربين بكل أبيض مخذم

والطاعنين مجامع الأضغان

(٣) (لَحْنِ الْقَوْلِ) هو ما يفهم من الكلام بالتعريض والإشارة لا بصريح القول.

(٤) بلا يبلوا بلوا المرء اختبره ، فالبلو : الاختبار والتعرف على حال الشيء ، ويكون في الشرع بالأمر والنهي.

الَّذِينَ كَفَرُوا) (١) أي كذبوا الله ورسوله (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الإسلام فصرفوا الناس عنه بأي سبب من الأسباب ، (وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أي خالفوه وعادوه وحاربوه (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى) أي ظهر لهم الحق وأن الرسول حق والإسلام حق بالحجج والبراهين هؤلاء الكفرة لن يضروا الله شيئا من الضرر لتنزهه عن صفات المحدثين من خلقه ولامتناعه تعالى وعزته ، (وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) أي يبطلها عليهم فلا ينالون بها ما يؤملون في الدنيا بذهاب كيدهم وخيبة أملهم إذ ينصر الله رسوله ويعلي كلمته ، وفي الآخرة لأن أعمال المشرك والكافر باطلة حابطة لا ثواب عليها سوى ثواب الجزاء المهين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة وهى من أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها فكشفه للناس.

٢ ـ ومن أحب شيئا ظهر على وجهه وفلتات لسانه.

٣ ـ تقرير قاعدة وهي أنه لا بد من الابتلاء لمن دخل في الإسلام ليكون الإيمان على حقيقته لا إيمانا صوريا أدنى فتنة تصيب صاحبه يرتد بها عن الإسلام.

٤ ـ أعمال المشرك والكافر باطلة لا ثواب خير عليها لأن الشرك محبط للأعمال الصالحة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ

__________________

(١) يدخل في هذا اللفظ كفّار قريش وكفار اليهود والمنافقون.

لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

شرح الكلمات :

(وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) : أي بالرياء والشرك والمعاصي

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي عن الإسلام.

(فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) : أي لأنهم ماتوا على الكفر والكفر محبط للعمل.

(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) : أي فلا تضعفوا وتدعوا إلى الصلح مع الكفار.

(وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) : أي الغالبون القاهرون.

(وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) : أي ولن ينقصكم أجر أعمالكم وثوابها.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : أي الاشتغال بالدنيا والتفرغ لها ما هو إلا لهو ولعب لعدم الفائدة منه.

(وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) : أي ولا يكلفكم بإنفاق أموالكم كلها بل بالزكاة فقط.

(فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) : أي بالمبالغة في طلبكم المال تبخلوا.

(وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) : أي أحقادكم وبغضكم لدين الإسلام.

(فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) : أي عائد ذلك على نفسه لا على غيره فهو الذي يحرم الثواب.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) : أي عن طاعة الله وطاعة رسوله يأت بآخرين غيركم.

(ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) : أي في الطاعة أي يكونوا أطوع منكم لله ورسوله.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى الكفار ومشاقتهم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى المؤمنين (١) وأمرهم بطاعته وطاعة رسوله فقال يا أيها الذين آمنوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا اطيعوا الله وأطيعوا الرسول أي فيما يأمرانكم به وينهيانكم عنه من المعتقدات والأقوال والأعمال ولا (٢) تبطلوا أعمالكم أي وينهاهم أن

__________________

(١) بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وجملة النداء معترضة بين جملة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) الخ وبين (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ).

(٢) إبطال العمل : جعله باطلا أي : لا فائدة منه ولا ثواب ، فالإبطال تتصف به الأشياء الموجودة ، وكان الحسن البصري يقول : لا تبطلوا أعمالكم بالمعاصي ، وما يبطل العمل على الحقيقة هو أمور ثلاثة : الشرك والرياء ، وأداء العمل على غير الوجه المشروع عليه.

يبطلوا أعمالهم بالشرك والرياء والمعاصي والمراد من إبطال الأعمال أي حرمانهم من ثوابها. ثم أعلمهم مذكرا واعظا لهم فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالله ورسوله (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي عن الإسلام بأي سبب من الأسباب (ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) قبل أن يتوبوا. فهؤلاء (فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ويعذبهم العذاب المعد لأمثالهم وقوله تعالى (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا (١) إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ (٢) الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ينهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يضعفوا عن قتال أعدائهم من الكافرين ويدعوا الكافرين إلى الصلح والمهادنة وهم أقوياء قادرون وهو معنى قوله وأنتم الأعلون أي الغالبون القاهرون. ولن (٣) يتركم أعمالكم أي لا ينقصكم أجر أعمالكم بل يجزيكم بها ويزيدكم من فضله وقوله (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) هذه حقيقة وهي أن الحياة الدنيا إن أقبل عليها العبد ناسيا الدار الآخرة مقبلا على الدنيا لن تكون في حقه إلا لهوا ولعبا باعتبار أنه لم يظفر منها على طائل ولم تعد عليه بعائد خير وإسعاد كاللاعب اللاهي بشيء يلعب ويلهو فترة ثم لا يعود عليه ذلك اللعب بشيء كلعب الصبيان ولهوهم فإنهم يلهون ويلعبون بجد ثم يعودون إلى والديهم يطلبون الطعام والشراب. وقوله (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) أي الإيمان الصحيح (وَتَتَّقُوا) ما يغضب ربكم ويسخطه عليكم من الشرك والمعاصي (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) المترتبة على الإيمان والتقوى. وقوله (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أي ولا يطلب منكم أموالكم كلها أي كراهة إحفائكم بذلك (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها) (٤) (فَيُحْفِكُمْ) أي بكثرة الإلحاح عليكم (تَبْخَلُوا) إذ هذا معروف من طباع البشر أن الإنسان إذا ألح وألحف عليه في الطلب يبخل بالمال ولم يعطه وقد يترك الإسلام لذلك ، وقوله (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أي أحقادكم وبغضكم للدين وكراهيتكم له ولذا لم يسألكم أموالكم وقوله تعالى : (٥) (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ (٦) لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي جزءا من أموالكم في الزكاة أو الجهاد لا كل أموالكم لما يعلم تعالى من شح النفس بالمال وقوله (فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أي يمنع ومن يبخل فإنما يبخل (٧) عن نفسه إذ هي التي حرمها أجر النفقة في سبيل الله ذات الأجر العظيم وقوله (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ

__________________

(١) الفاء للتفريع.

(٢) و (الْأَعْلَوْنَ) معناه الغالبون المنتصرون.

(٣) أي : لا ينقصكم ، ومنه الموتور : الذي قتل له قتيل ، وفي الحديث الصحيح : (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله).

(٤) يقال : أحفى في المسألة وألح بمعنى واحد.

(٥) (ها) : حرف تنبيه ، وفي إعراب الجملة وجهان الأول : وهو أن يكون (أَنْتُمْ) مبتدأ ، و (هؤُلاءِ) منادي معترض ، و (تُدْعَوْنَ) الخبر ، والثاني : أن يكون (أَنْتُمْ) مبتدأ و (هؤُلاءِ) خبره ، وجملة : (تُدْعَوْنَ) مستأنفة مؤكدة ومقررة لما سبق.

(٦) أي : في الحال وجائز أن يدعو في المستقبل ، إذ الجهاد مستمر والحاجة إلى الإنفاق لا تنقطع ، سبيل الله : المراد بها الجهاد وهي كل ما يوصل إلى مرضاة الله تعالى.

(٧) يجوز في (يَبْخَلُ) أن يعدى بعن وبعلى يقال : بخل عليه بكذا أو بخل عنه بكذا أو يضمّن معنى أمسك ، وحينئذ فتعديته بعلى نحو : أمسك عليك لسانك.

الْفُقَراءُ) إلى الله تعالى فهو غني عنكم لا يحضكم على النفقة لحاجته إليها ولكن لحاجتكم أنتم إليها إذ بها تزكوا نفوسكم وتقوم أموركم وتنتصروا على عدوكم وقوله (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي ترجعوا عن الإسلام إلى الكفر والعياذ بالله (يَسْتَبْدِلْ) الله بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) أي يذهبكم ويأت بآخرين (ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) بل يكونون أطوع لله تعالى منكم وأسرع امتثالا لما يطلب منهم. وحاشاهم أن يتولوا وما تولوا ولا استبدل الله تعالى بهم غيرهم. وإنما هذا من باب حثهم على معالى الأمور والأخذ بعزائمها نظرا لمكانتهم من هذه الأمة فهم أشرفها وأكملها وأطوعها لله وأحبها له ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب طاعة الله وطاعة رسوله.

٢ ـ وجوب اتمام العمل الصالح من صلاة وغيرها بالشروع فيه.

٣ ـ بطلان العمل الصالح بالرياء أو بإفساده عند أدائه أو بالردة عن الإسلام.

٤ ـ حرمة الركون إلى مصالحة الأعداء مع القدرة على قتالهم والتمكن من دفع شرهم.

٥ ـ التنفير من الإقبال على الدنيا والإعراض عن الآخرة.

٦ ـ حرمة البخل مع الجدة والسعة.

سورة الفتح (١)

مدنية

وآياتها تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)

__________________

(١) نزلت ليلا بعد صلح الحديبية بين مكة والمدينة قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس). البخاري.

وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

شرح الكلمات :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) : أي قضينا لك بفتح مكة وغيرها عنوة بجهادك فتحا ظاهرا بيّنا.

(لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) : أي بسبب شكرك له وجهادك في سبيله.

(ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) : أي ما تقدم الفتح وما تأخر عنه.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) : أي بنصرك على أعدائك وإظهار دينك ورفع ذكرك.

(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : ويرشدك طريقا من الدين لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى رضوان ربك.

(وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) : أي وينصرك الله على أعدائك ومن ناوأك نصرا عزيزا لا يغلبه غالب ، ولا يدفعه دافع.

(أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي الطمأنينة بعد ما أصابهم من الاضطراب والقلق من جراء الصلح.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً) : أي عليما بخلقه حكيما في تدبيره لأوليائه.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : أي قضى بالفتح ليشكروه ويجاهدوا في سبيله ليدخلهم جنات.

(وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) : أي وكان ذاك الإدخال والتكفير للسيئات فوزا عظيما.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ) : والمشركين والمشركات أي يعذبهم بالهم والحزن لما يرون من نصرة الإسلام وعزة أهله.

(الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) : أي أن الله لا ينصر محمدا وأصحابه.

(عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) : أي بالذل والعذاب والهوان.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : أي كان وما زال تعالى غالبا لا يغلب حكيما في الانتقام من أعدائه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآيات هذه فاتحة سورة الفتح التي قال فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لقد أنزلت عليّ سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ، ثم قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً (١) مُبِيناً)] وذلك بعد صلح الحديبية سنة ست من الهجرة وفي منصرفه منه وهو في طريقه عائد مع أصحابه إلى المدينة النبويّة. وقد خالط أصحابه حزن وكآبة حيث صدوا عن المسجد الحرام فعادوا ولم يؤدوا مناسك العمرة التي خرجوا لها ، وتمت أحداث جسام تحمل فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لا يقدر عليه من أولى العزم غيره فجزاه الله وأصحابه وكافأهم على صبرهم وجهادهم بما تضمنته هذه الآيات إلى قوله (وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) فقوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) يا رسولنا (فَتْحاً مُبِيناً) أي قضينا لك بفتح مكة وخيبر وغيرهما ثمرة من ثمرات جهادك وصبرك وهو أمر واقع لا محالة وهذا الصلح بداية الفتح فاحمد ربك واشكره (لِيَغْفِرَ لَكَ) بذلك وبجهادك وصبرك (ما تَقَدَّمَ مِنْ (٢) ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بنصرك على أعدائك وعلى كل من ناوأك ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويرشدك إلى طريق لا اعوجاج فيه يفضي بك وبكل من يسلكه إلى الفوز في الدنيا والآخرة وهو الإسلام دين الله الذي لا يقبل دينا سواه. (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) أي وينصرك ربك على أعدائك وخصوم دعوتك نصرا عزيزا إي ذا عزّ لا ذل معه هذه أربع عطايا

__________________

(١) الماضي هنا بمعنى المستقبل إذ فتح مكة المومى إليه كان سنة ثمان وأطلق الماضي مع إرادة المضارع لتحقق الوقوع وتأكده نحو : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) واللام في (لَكَ) : لام الأجل أي : فتحنا لأجلك.

(٢) اضطرب المفسرون في تعليق لام (لِيَغْفِرَ لَكَ) فالسيوطي علّقه بكلمة (بجهادك) زادها بعد جملة ليغفر لك أي : بجهادك يوم فتحك مكة ، وفي التفسير قدرنا جملتي : فاحمده على الفتح واشكره عليه ليغفر لك. وأما الذنب مع إجماعهم أنه لا ذنب كبير لعصمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن أحسن ما قيل فيه هو ما يلي : أما الذنب المتقدم فهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بدر : (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض أبدا فأوحى إليه : من أين تعلم هذا؟ فكان هذا الذنب المتقدم ، والثاني : أنه لما انهزم المسلمون : يوم حنين قال لعمّه ناولني كفا من حصباء فناوله فرمى به المشركين فانهزموا فقال لأصحابه : (لو لا أني رميتهم ما انهزموا) فهذا الذنب المتأخر. والحقيقة أن هذا لو عدّ ذنبا لكان من باب : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

كانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففرح بها وهي مغفرة الذنب السابق واللاحق ، الفتح للبلاد ، الهداية إلى أقوم طريق يفضي إلى سعادة الدارين ، والنصر المؤزر العزيز ، فلذا قال أنزلت علّ آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعا. وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي (١) قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي هو الله المنعم عليك بما ذكر لك الذي أنزل السكينة أي الطمأنينة على قلوب المؤمنين من أصحابك وكان عددهم ألفا وأربعمائة صاحب أنزل السكنية عليهم بعد اضطراب شديد أصاب نفوسهم دل عليه قول عمر رضي الله عنه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألست نبيّ الله حقا؟ قال : بلى ، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت فلم نعطى الدنيّة في ديننا إذا؟ قال إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري. قلت أو لست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال فأتيت أبا بكر فقلت يا أبا بكر أليس هذا نبيء الله حقا؟ قال بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال بلى ، قلت : فلم نعطى الدنيّة في ديننا؟ قال أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه أي سر على نهجه ولا تخالفه. فو الله إنه لعلى الحق ، قلت أليس كان يحدثنا انه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال بلى. قال فهل أخبرك انه العام؟ قلت : لا قال فإنك تأتيه وتطوف به. وقوله (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي بشرائع الإسلام كلما نزل حكم آمنوا به وعملوا به ومن ذلك الجهاد وبذلك يكون إيمانهم في ازدياد. وقوله تعالى (وَلِلَّهِ جُنُودُ (٢) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ملائكة السماء وملائكة الأرض وكل ذي شوكة وقوة من الكائنات هو لله كغيره ويسخره كما شاء ومتى شاء فقد يسلط جيشا كافرا على جيش كافر نصرة لجيش مؤمن والمراد من هذا انه تعالى قادر على نصرة نبيّه ودينه بغيركم أيها المؤمنون (وَكانَ اللهُ) وما زال أزلا وأبدا (عَلِيماً) بخلقه (حَكِيماً) في تدبير أمور خلقه. وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ) أي الإدخال للجنة وتكفير السيئات (فَوْزاً عَظِيماً) أي فتح على رسوله والمؤمنين ليشكروا بالطاعة والجهاد والصبر أي تم كل ذلك ليدخل المؤمنين والمؤمنات الآية .. وقوله (وَيُعَذِّبَ (٤) الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ

__________________

(١) (السَّكِينَةَ) السكون والطمأنينة ، قال ابن عباس : كل سكينة في القرآن فهي بمعنى الطمأنينة إلا في البقرة. يريد قوله تعالى : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

(٢) هذه الجملة تذييلية مذيل بها الكلام السابق ، والجنود : جمع جند ، والجند : اسم للجماعة المقاتلين لا واحد له من لفظه وجمع باعتبار الجماعات التي يتكون منها وهي المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقة.

(٣) اللّام : لام التعليل متعلقة بفعل. (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) وذكر المؤمنات مع المؤمنين هنا لدفع ما يتوهم أن هذا الوعد خاص بالمؤمنين دون المؤمنات في حين أن موقف أم المؤمنين أم سلمة كان عظيما إذ استشارها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أبى أصحابه أن يتحللوا فأشارت عليه بما جعلهم يتحللون.

(٤) هذا معطوف على قوله تعالى : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ) وهذا التعذيب المذكور في الآية تعذيب خاص زائدا على عذاب الكفر والنفاق وفي قوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) إشارة إلى ذلك.

وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) أي فتح على رسوله والمؤمنين ونصرهم ووهبهم ما وهبهم من الكمال ليكون ذلك غما وهما وحزنا يعذب الله به المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات في الدنيا والآخرة وقوله (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) (١) هذا وصف للمنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات حيث إنهم كانوا ظانّين أن (٢) الله لا ينصر رسوله والمؤمنين ولا يعلي كلمته ولا يظهر دينه وقوله تعالى (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) اخبارا منه عزوجل بأن دائرة السوء تكون على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات كما أخبر عنهم بأنه غضب عليهم ولعنهم (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) ومعنى أعدّ هيأ وأحضر لهم ، وساءت جهنم مصيرا يصير إليه الإنسان والجان. بعد نهاية الحياة الدنيا ، وقوله تعالى (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ينصر بها من يشاء ويهزم بها من يشاء (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي غالبا لا يمانع في مراده (حَكِيماً) في تدبيره وصنعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الذنب الذي غفر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المعلوم بالضرورة انه ليس من الكبائر في شيء وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.

٢ ـ إنعام الله على العبد يوجب الشكر والشكر يوجب المغفرة وزيادة الإنعام.

٣ ـ بيان مكافأة الله لرسوله والمؤمنين على صبرهم وجهادهم.

٤ ـ بيان أن الكافرين يحزنون ويغمّون لنصر المؤمنين وعزهم فيكون ذلك عذابا لهم في الدنيا.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ

__________________

(١) (ظَنَّ السَّوْءِ) بفتح السين : قراءة العشرة في قوله : (ظَنَّ السَّوْءِ) وفي (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) الجمهور على الفتح ، وقرأ بعض بضم السين. وهما لغتان كالكره والكره ، والضّعف والضّعف بالفتح والضم.

(٢) ومعنى ظنهم بالله ظن السوء : أن الله ما وعد الرسول بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولم ينصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

شرح الكلمات :

(شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) : أي شاهدا على أمتك أمة الدعوة يوم القيامة ومبشرا من آمن منهم وعمل صالحا بالجنة ونذيرا من كفر أو عصى وفسق بالنار.

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي هذا علة للإرسال.

(وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) : أي ينصروه ويعظموه وهذا لله وللرسول.

(وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : أي الله تعالى بالصلاة والذكر والتسبيح.

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) : أي بيعة الرضوان بالحديبية.

(إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) : لأن طاعة الرسول طاعة لله تعالى.

(يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) : أي لأنهم كانوا يبايعون الله إذ هو الذي يجاهدون من أجله ويتلقون الجزاء من عنده.

(فَمَنْ نَكَثَ) : أي نقض عهده فلم يقاتل مع الرسول والمؤمنين.

(فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) : أي وبال نقضه عهده عائد عليه إذ هو الذي يجزي به.

(فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) : أي الجنة إذ هي الأجر العظيم الذي لا أعظم منه إلا رضوان الله عزوجل.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان ما أنعم الله تعالى به على رسوله فقال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) (١) لله تعالى بالوحدانية والكمال المطلق له عزوجل وشاهدا على هذه الأمة التي أرسلت فيها وإليها عربها وعجمها (وَمُبَشِّراً) لأهل الإيمان والتقوى بالجنة (وَنَذِيراً) لأهل الكفر والمعاصي أي مخوفا لهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي أرسلناه كذلك لتؤمنوا بالله ورسوله (وَتُعَزِّرُوهُ) بمعنى تنصروه (وَتُوَقِّرُوهُ) بمعنى تجلوه وتعظموه وهذه واجبة لله ولرسوله الإيمان والتعزير والتوقير ، وأما التسبيح والتقديس فهو لله تعالى وحده ويكون بكلمة سبحان الله وبالصلاة وبالذكر لا إله إلا الله ، وبدعاء الله وحده

__________________

(١) بيان لحكمة الإرسال وما يترتب عليه و (شاهِداً) إنه بالنظر إلى شهادته يوم القيامة فهي حال مقدرة ، وبالنظر إلى شهادته في الدنيا مع تبشيره ونذارته فهي حال مقارنة. و (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) الخ .. كلا مستأنف ابتدائي.

وقوله (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (١) أي تسبحون الله (بُكْرَةً) أي صباحا (وَأَصِيلاً) أي عشية وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يخبر تعالى رسوله بأن الذين يبايعونه على قتال أهل مكة وأن لا يفروا عند اللقاء (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) (٢) إذ هو تعالى الذي أمرهم بالجهاد وواعدهم الأجر فالعقد وإن كانت صورته مع رسول الله فإنه في الحقيقة مع الله عزوجل ، ولذا قال (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقوله تعالى (فَمَنْ نَكَثَ) أي نقض عهده فلم يقاتل (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى) بمعنى وفّى (بِما عاهَدَ عَلَيْهُ (٣) اللهَ) من نصرة الرسول والقتال تحت رايته حتى النصر (فَسَيُؤْتِيهِ) الله (أَجْراً عَظِيماً) الذي هو الجنة دار السّلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإعلان عن شرفه وعلو مقامه.

٢ ـ وجوب الإيمان بالله ورسوله ووجوب نصرة الرسول وتعظيمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ وجوب تسبيح الله وهو تنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله مع الصلاة ليلا ونهارا.

٤ ـ وجوب الوفاء بالعهد ، وحرمة نقض العهد ونكثه.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى

__________________

(١) لبكرة : أوّل النهار ، والأصيل : آخره أي : غدوة وعشيا. قال الشاعر :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأجلس في أفيائه بالأصائل

جمع أصيل : العشي.

(٢) هذه هي البيعة التي بايعها المسلمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية تحت الشجرة (السّمرة) وكانوا ألفا وأربعمائة ، وأول من بايع لنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة : أبو سنان الأسدى ، وتسمى بيعة الرضوان لقوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

(٣) قرأ نافع وورش عليه بكسر هاء الضمير ، وقرأ حفص بضمّها (عَلَيْهُ اللهَ) فمن كسر رقّق اسم الجلالة ، ومن ضمّ فخّمه.

أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

شرح الكلمات :

(الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أي الذين حول المدينة وقد خلّفهم الله عن صحبتك لما طلبتهم ليخرجوا معك إلى مكة خوفا من تعرض قريش لك عام الحديبية وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع.

(شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) : أي عن الخروج معك.

(فَاسْتَغْفِرْ لَنا) : أي الله من ترك الخروج معك.

(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ) : أي كل ما قالوه هو من ألسنتهم وليس في قلوبهم منه شيء.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي لا أحد لأن الاستفهام هنا للنفي.

(إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) : وبّخهم على تركهم صحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوفا من قريش.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ) : أي حسبتم أن قريشا تقتل الرسول والمؤمنين فلم يرجع منهم أحد إلى المدينة.

(وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) : هو هذا الظن الذي زينه الشيطان في قلوبهم.

(وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) : أي هالكين عند الله بهذا الظن السيء ، وواحد بور بائر.

هالك.

(فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) : أي نارا شديدة الاستعار والالتهاب.

(يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) : يغفر لمن يشاء وهو عبد تاب وطلب المغفرة بنفسه ، ويعذب من يشاء وهو عبد ظن السوء وقال غير ما يعتقد وأصر على ذلك الكفر والنفاق.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) : كان وما زال متصفا بالمغفرة والرحمة فمن تاب غفر الله له ورحمه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين في الحضر والبادية وذلك بتأنيبهم وتوبيخهم وذكر معايبهم إرادة إصلاحهم فقال تعالى لرسوله (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) وهم غفار ومزينة وجهينة وأشجع (١) وكانوا أهل بادية وأعرابا حول المدينة استنفرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليخرجوا معه إلى مكة للعمرة تحسبا لما قد تقدم عليه قريش من قتاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا أن هؤلاء المخلفين من الأعراب أصابهم خوف وجبن من ملاقاة قريش وزين لهم الشيطان فكرة أن الرسول والمؤمنين لن يعودوا إلى المدينة فإن قريشا ستقضي عليهم وتنهي وجودهم فلذلك خلفهم الله وحرمهم صحبة نبيّه والمؤمنين فحرموا من مكرمة بيعة الرضوان وأخبر رسوله عنهم وهو عائد من الحديبية بما يلي (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) معتذرين لك عن تخلفهم (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا) فتخلفنا لأجل إصلاحها ، (وَأَهْلُونا) كذلك (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) أي اطلب لنا من الله المغفرة. ولم يكن هذا منهم حقا وصدقا بل كان باطلا وكذبا فقال تعالى فاضحا لهم (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) فهم إذا كاذبون. وهنا أمر رسوله أن يقول لهم أخبروني إن أنتم عصيتم الله ورسوله وتركتم الخروج مع المؤمنين جبنا وخوفا من القتل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أي شرا لكم أو أراد بكم نفعا أي خيرا لكم؟ والجواب قطعا لا أحد إذا فإنكم كنتم مخطئين في تخلفكم وظنكم معا ، وقوله (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) اضرب تعالى عن كذبهم واعتذارهم ليهددهم على ذلك بقوله (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) وسيجزيكم به وما كان عملهم إلا الباطل والسوء ، ثم أضرب عن هذا أيضا إلى آخر فقال (بَلْ ظَنَنْتُمْ) (٢) (أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) إذ تقتلهم قريش فتستأصلهم بالكلية. (وَزُيِّنَ ذلِكَ) الشيطان (فِي قُلُوبِكُمْ) فرأيتموه واقعا ، (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) وهو أن الرسول والمؤمنين لن ينجوا من قتال قريش لهم ، (وَكُنْتُمْ) أي بذلك الظن (قَوْماً بُوراً) لا خير فيكم هلكى لا وجود لكم. وقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) وهو إخبار أريد به تخويفهم لعلهم يرجعون من باطلهم في اعتقادهم وأعمالهم إلى الحق قولا وعملا ، ومعنى أعتدنا أي هيأنا وأحضرنا وسعيرا بمعنى نار مستعرة شديدة الالتهاب وقوله في الآية الأخيرة من هذا السياق (١٤) (وَلِلَّهِ مُلْكُ (٣)

__________________

(١) والديل كذلك ، وخرج من أسلم مائة رجل من بينهم مرداس بن مالك الأسلمي والد عباس الشاعر ، وعبد الله بن أبي أوفي وزاهر بن الأسود ، وأهبان بن أوس وسلمة بن الأكوع الأسلمي ، ومن غفار : خفاف بن أيماء ومن مزينة : عائذ بن عمرو ، وتخلف عن الخروج أكثرهم.

(٢) هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) و (إن) مخففة من الثقيلة ، واسمها : ضمير الشأن و (لن) لإفادة استمرار النفي ، وأكد أيضا ب (أبدا) لأن ظنهم كان قويا.

(٣) هذا الكلام معطوف على قوله تعالى : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وهو انتقال من التخويف الشديد إلى الإطماع في المغفرة والرحمة ليكون سببا في هدايتهم ، وتقديم الرحمة على العذاب مشعر بذلك.

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي بيده كل شيء (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) من عباده ويعذب من يشاء فاللائق بهم التوبة والإنابة إليه لا الإصرار على الكفر والنفاق فإنه غير مجد لهم ولا نافع بحال وقد تاب بهذا اكثرهم وصاروا من خيرة الناس ، وكان الله غفورا رحيما فغفر لكل من تاب منهم ورحمه. ولله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك دال على أنه كلام الله أوحاه إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ لا يملك النفع ولا الضر على الحقيقة إلا الله ولذا وجب أن لا يطمع إلا فيه ، ولا يرهب إلا منه.

٣ ـ حرمة ظن السوء في الله عزوجل ، ووجوب حسن الظن به تعالى.

٤ ـ الكفر موجب لعذاب النار ، ومن تاب تاب الله عليه ، ومن طلب المغفرة في صدق غفر له.

٥ ـ ذم التخلف عن المسابقة في الخيرات والمنافسة في الصالحات.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

شرح الكلمات :

(الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أي المذكورون في الآيات قبل هذه وهم غفار وجهينة ومزينة وأشجع.

(إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) : أي مغانم خيبر إذ وعدهم الله بها عند رجوعهم من الحديبية.

(ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) : أي دعونا نخرج معكم لنصيب من الغنائم.

(يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) : أي أنهم بطلبهم الخروج إلى خيبر لأخذ الغنائم يريدون أن يغيروا وعد الله لأهل الحديبية خاصة بغنائم خيبر.

(كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) : أي قاله تعالى لنا قبل عودتنا إلى المدينة فلن تتبعونا ولن تخرجوا معنا.

(فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) : أي فسيقولون بل تحسدوننا وفعلا فقد قالوا ذلك وزعموا انه ليس امرا من الله هذا المنع ، وإنما هو من الرسول والمؤمنين حسدا لهم ، وهذا دال على نفاقهم وكفرهم والعياذ بالله.

(بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) : أي لا يفهمون فهم الحاذق الماهر إلا قليلا وفي أمور الدنيا لا غير.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الحضر والبادية وذلك بالحديث عنهم وكشف عوارهم ودعوتهم إلى التوبة والرجوع إلى الحق عند ظهور انحرافهم وسوء أحوالهم فقال تعالى لرسوله. (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) الذين تقدم الحديث عنهم وأنهم تخلفوا عن الحديبية من الأعراب الذين هم مزينة وجهينة وغفار وأشجع. أي سيقولون لكم (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ (١) لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) ، وذلك أن الله تعالى بعد صلح الحديبية وما نال أهلها من آلام نفسيّة أكرمهم بنعم كثيرة منها انه واعدهم بغنائم خيبر بأن يتم لهم فتحها ويغنمهم أموالها وكانت أموالا عظيمة ، فلما عادوا إلى المدينة وأعلن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الخروج إلى خيبر جاء هؤلاء المخلفون يطالبون بالسير (٢) معهم لأجل الغنيمة لا غير ، قال تعالى (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) (٣) وهو وعده لأهل الحديبية بأن يغنمهم غنائم خيبر ، ولذا أمر رسوله أن يقول لهم (لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي فقد أخبرنا تعالى بحالكم ومقالكم هذا قبل أن تقولوه وتكونوا عليه. وقوله (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) هذا من جملة ما أخبر تعالى به رسوله والمؤمنين قبل قولهم له وقد قالوه أي ما منعتمونا من الخروج إلى خيبر إلا حسدا لنا أن ننال من الغنائم أي لم يكن الله أمركم بمنعنا ولكن الحسد هو الذي أمركم وقوله تعالى (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي وصمهم بوصمة الجهل وجعلها هي علة تخبطهم وحيرتهم وضلالهم ، انهم قليلو الفهم والإدراك فليسوا على مستوى الرجل الحاذق الماهر البصير الذي يحسن القول والعمل.

__________________

(١) هي مغانم خيبر لأنّ الله تعالى وعد أهل الحديبية فتح خيبر وأنها لهم خاصة من غاب منهم ومن حضر سواء ، ولم يغب منهم عنها إلا جابر بن عبد الله فقسم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسهم من حضر.

(٢) روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : (إن خرجتم لم أمنعكم إلا أنه لا سهم لكم) وقالوا هذا حسد.

(٣) (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي : يريدون أن يغيّروه يعني يريدون أن يغيروا وعد الله الذي وعد به أهل الحديبية ، وذلك أن الله تعالى جعل لهم غنائم خيبر عوضا عن فتح مكة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وعد الله رسوله والمؤمنين بغنائم خيبر وهم في طريقهم من الحديبية إلى المدينة وانجازه لهم دال على وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته وكلها موجبة للإيمان والتوحيد وحب الله والرغبة إليه والرهبة منه.

٢ ـ بيان حيرة الكافر واضطراب نفسه وتخبط قوله وعمله.

٣ ـ ذم الجهل وتقبيحه إنه بئس الوصف يوصف به المرء ، ولذا لا يرضاه حتى الجاهل لنفسه فلو قلت لجاهل يا جاهل لا تفعل كذا أو لا تقل كذا لغضب عليك.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

شرح الكلمات :

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) : أي الذين تخلفوا عن الحديبية وطالبوا بالخروج إلى خيبر لأجل الغنائم اختبارا لهم.

(سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) : أي ستدعون في يوم ما من الأيام إلى قتال قوم أولى بأس وشدة في الحرب.

(تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) : أي تقاتلونهم. أو هم يسلمون فلا حاجة إلى قتالهم.

(فَإِنْ تُطِيعُوا) : أي أمر الداعي لكم إلى قتال القوم أصحاب البأس الشديد.

(يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) : أي عودة اعتباركم مؤمنين صالحين في الدنيا والجنة في الآخرة.

(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) : أي تعرضوا عن الجهاد كما توليتم من قبل حيث لم تخرجوا للحديبية.

(يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) : في الدنيا بالقتل والاذلال وفي الآخرة بعذاب النار.

(حَرَجٌ) : أي إثم.

(وَمَنْ يَتَوَلَ) : أي يعرض عن طاعة الله ورسوله.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية المنافقين من الأعراب إذ قال تعالى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ) الذين أصبح وصف التخلف شعارا لهم يعرفون به وفي ذلك من الذم واللوم والعتاب ما فيه قل لهم مختبرا إياهم (سَتُدْعَوْنَ) في يوم من الأيام إلى قتال (قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) في الحروب (تُقاتِلُونَهُمْ ، أَوْ يُسْلِمُونَ) (١) فلا تقاتلوهم وذلك بأن يرضوا بدفع الجزية وهؤلاء لا يكونون إلّا نصارى أو مجوسا فهم إما فارس وإما الروم وقد اختلف في تحديدهم (٢) (فَإِنْ تُطِيعُوا) الأمر لكم بالخروج الداعي للجهاد فتخرجوا وتجاهدوا (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) غنائم في الدنيا وحسن الصيت والأحدوثة والجنة فوق ذلك ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن طاعة من يدعوكم ولا تخرجوا معه (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) حيث لم تخرجوا مع رسول الله إلى مكة للعمرة خوفا من قريش ورجاء أن يهلك الرسول والمؤمنون ويخلو لكم الجوّ (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي في الدنيا بأن يسلط عليكم من يعذبكم وفي الآخرة بعذاب النار وقوله تعالى (لَيْسَ) (٣) (عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) الآية إنه لما نزلت آية المنافقين (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) وكان ختامها وإن تولوا عن الجهاد (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) خاف أصحاب الاعذار من مرض وغيره وبكوا فأنزل الله تعالى قوله (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) أي إثم إذا لم يخرج للجهاد (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ) (٤) (حَرَجٌ) وهو الذي به عرج في رجليه لا يقدر على المشي والجري والكر والفر (وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وهو المريض بالطحال أو الكبد أو السعال من الأمراض

__________________

(١) في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر إذ هو الذي دعا إلى قتال أصحاب مسليمة الكذاب ، إذ هم الذين لا تقبل منهم الجزية وإنما الإسلام أو القتل ، لقوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أما فارس أو الروم فهم مجوس ونصارى قد تؤخذ منهم الجزية.

(٢) وقيل : إنهم أصحاب مسيلمة الكذاب ، وقال رافع بن خديج. والله لقد كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) فلا نعلم من هم حتى دعانا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فقلنا : إنهم هم.

(٣) قال ابن عباس لما نزلت : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) قال أهل الزمانة : كيف بنا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ) أي : لا إثم عليهم في التخلف عن الجهاد.

(٤) العرج : آفة تعرض لرجل واحدة ، قال مقاتل : هم أهل الزمانة الذين تخلفوا عن الحديبية ، وقد عذرهم. وفي هذه الآية بيان من يجوز لهم التخلف عن الجهاد ، ولا إثم عليهم وهم العميان والمرضى والعرج.

المزمنة التي لا يقدر صاحبها على القتال وكان يعتمد على الفر والكر ولا بد كذلك من سلامة البدن وقدرته على القتال.

وقوله (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي في أوامرهما ونواهيهما (يُدْخِلْهُ (١) جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهذا وعد صادق من رب كريم رحيم ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) عن طاعة الله ورسوله (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) وهذا وعيد شديد قوي عزيز ألا فليتق الله امرؤ فإن الله شديد العقاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الاختبار والامتحان لمعرفة القدرات والمؤهلات.

٢ ـ بيان أن غزو الإسلام ينتهي إلى أحد أمرين إسلام الأمة المغزوّة أو دخولها في الذمة بإعطائها الجزية بالحكم الإسلامي وسياسته.

٣ ـ دفع الإثم والحرج في التخلف عن الجهاد لعذر العمى أو العرج أو المرض.

٤ ـ بيان وعد الله ووعيده لمن أطاعه ولمن عصاه ، الوعد بالجنة. والوعيد بالنار.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي الراسخين في الإيمان الأقوياء فيه وهم أهل بيعة الرضوان من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِذْ يُبايِعُونَكَ) : أي بالحديبية أيها الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(تَحْتَ الشَّجَرَةِ) : أي سمرة وهم ألف وأربعمائة بايعوا على أن يقاتلوا قريشا ولا يفروا.

__________________

(١) قرأ نافع ندخله ونعذبه بالنون ، وقرأ حفص : (يُدْخِلْهُ يُعَذِّبْهُ) بالياء.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) : أي علم الله ما في قلوبهم من الصدق والوفاء فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه.

(وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) : أي هو فتح خيبر بعد انصرافهم من الحديبية في ذي الحجة. وفي آخر المحرم من سنة سبع غزوا خيبر ففتحها الله تعالى عليهم.

(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) : أي من خيبر.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) : أي كان وما زال تعالى عزيزا غالبا حكيما في تصريفه شؤون عباده.

معنى الآيتين :

قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ (١) اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) هذا إخبار منه تعالى برضاه عن المؤمنين الكاملين في إيمانهم وهم ألف وأربعمائة الذين بايعوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت شجرة سمرة إلّا الجد بن قيس الأنصاري فإنه لم يبايع حيث كان لاصقا بإبط ناقته مختبئا عن أعين الأصحاب وكان منافقا ومات على ذلك لا قرت له عين. وسبب هذه البيعة كما ذكره غير واحد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا خراش بن أمية الخزاعي فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على جمل له يقال له الثعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له «وهو الاعتمار» وذلك حين نزل الحديبية. فعقروا به جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرادوا قتله فمنعته الأحابيش «فرق من شتى القبائل يقال لهم الأحابيش واحدهم أحبوش يقال لهم اليوم : اللفيف الأجنبي عبارة عن جيش أفراده من شتى البلاد والدول. فخلوا سبيله حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهنا دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى مكة فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له فقال يا رسول الله إني أخاف قريشا على نفسي وليس بمكة من بني عدي بن كعب أحد يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظتي عليهم ، ولكني أدلك على رجل هو أعز بها مني عثمان بن عفان فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان فبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظّما لحرمته فراح عثمان إلى مكة فلقيه أبان بن سعيد بن العاص حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فنزل عن دابته فحمله بين يديه ثم ردفه وأجاره

__________________

(١) هذا رجوع إلى تفصيل ما جزى به الله تعالى أهل بيعة الرضوان الذي تقدم إجماله في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) الآية.

(٢) في قوله تعالى عن المؤمنين (إِذْ يُبايِعُونَكَ) إعلام بأن من لم يبايع ممن خرج مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالجد بن قيس لم يفز برضى الله تعالى وأنه غير مؤمن.

حتى بلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرسله به فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن شئت أن تطوف بالبيت فطف به قال ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله والمسلمين أن عثمان قتل. فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندئذ لا نبرح حتى نناجز القوم ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، هذا معنى قوله تعالى (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ (١) تَحْتَ الشَّجَرَةِ (٢) فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) أي من الصدق والوفاء (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي الطمأنينة والثبات عليهم (وَأَثابَهُمْ) أي جزاهم على صدقهم ووفائهم (فَتْحاً قَرِيباً) هو صلح الحديبية وفتح خيبر ، (وَ (٣) مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) وهي غنائم خيبر ، (وَكانَ اللهُ (٤) عَزِيزاً) أي غالبا على أمره ، (حَكِيماً) في تدبيره لأوليائه.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان فضل أهل بيعة الرضوان وكرامة الله لهم برضاه عنهم.

٢ ـ ذكاء عمر وقوة فراسته إذ أمر بقطع الشجرة خشية أن تعبد ، وكم عبدت من أشجار في أمة الإسلام في غيبة العلماء وأهل القرآن.

٣ ـ مكافأة الله تعالى للصادقين الصابرين المجاهدين من عباده المؤمنين بخير الدنيا والآخرة.

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها

__________________

(١) (إِذْ يُبايِعُونَكَ) ظرف متعلق ب (رَضِيَ) والمضارع بمعنى الماضي وإنما جيء بالمضارع لاستحضار حالة المبايعة الجليلة وصورتها العظيمة. وكون الرضى حصل قبل انتهاء البيعة إيذان بفضلها وفضل أهلها.

(٢) (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) التعريف للشجرة للعهد الذي عرفه أهلها حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في ظلها فبايع أصحابه كلهم إلا الجد بن قيس وكان منافقا غير مؤمن فلم يبايع كما في التفسير ، حيث كان لا صقا بإبط ناقته.

(٣) المغانم الكثيرة : هي مغانم بلاد خيبر من أرض وأنعام ومتاع وحوايط وبساتين ، ووصف الغنائم بجملة يأخذونها دال على تحقيق حصول فائدة هذا الوعد لجميع أهل البيعة وبشارة لهم بأنه لم يهلك منهم أحدا قبل حصولهم على هذه الغنائم وكذلك كان والحمد لله.

(٤) هذه الجملة معترضة ذيل بها قوله تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) لأن ما حصل لهم من نصر وخير كان من مظاهر عزة الله وعظيم حكمته.

وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤))

شرح الكلمات :

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) : أي من الفتوحات الإسلامية التي وصلت الأندلس غربا.

(فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) : أي غنيمة خيبر.

(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) : أي أيدي اليهود حيث هموا بالغارة على بيوت الصحابة وفيها أزواجهم وأولادهم وأموالهم فصرفهم الله عنهم.

(وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) : أي تلك الصرفة التي صرف اليهود المتآمرين عن الاعتداء على عيال الصحابة وهم غيّب في الحديبية أو خيبر آية يستدلون بها على كلاءة الله وحمايته لهم في حضورهم ومغيبهم.

(وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) : أي طريقا في التوكل على الله والتفويس إليه في الحضور والغيبة لا اعوجاج فيه.

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) : أي ومغانم أخرى لم تقدروا عليها وهي غنائم فارس والروم.

قد أحاط بها : أي فهي محروسة لكم إلى حين تغزون فارس والروم فتأخذونها.

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي المشركون في الحديبية.

(لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) : أي لا نهزموا أمامكم واعطوكم أدبارهم تضربونها.

(سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) : أي هزيمة الكافرين ونصر المؤمنين الصابرين سنة ماضية في كل زمان ومكان.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) : حيث جاء ثمانون من المشركين يريدون رسول الله والمؤمنين ليصيبوهم بسوء.

(وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ) : فأخذهم أصحاب رسول الله أسرى وأتوا بهم إلى رسول الله فعفا عنهم.

(مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) : وذلك بالحديبية التي هي بطن مكة.

معنى الآيات :

ما زال السياق في ذكر إفضال الله تعالى وإنعامه على المؤمنين المبايعين الله ورسوله على مناجزة المشركين وقتالهم وأن لا يفروا فقد ذكر أنه أنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ومغانم خيبر الكثيرة فعطف على السابق خبرا عظيما آخر فقال (وَعَدَكُمُ (١) اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) أي غنيمة خيبر ، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ) (٢) (عَنْكُمْ) وذلك أن يهود المدينة تمالأوا مع يهود خيبر وبعض العرب على أن يغيروا على دور الأنصار والمهاجرين بالمدينة ليقتلوا من بها وينهبوا ما فيها فكف تعالى أيديهم وصرفهم عما هموا به كرامة للمؤمنين ، وقوله (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣) أي تلك الصرفة التي صرف فيها قلوب من هموا بالغارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة وهم غيّب بالحديبية آية تهديهم إلى زيادة التوكل على الله والتفويض إليه والاعتماد عليه. وقوله (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي ويسددكم طريقا واضحا لا اعوجاج فيه وهو أن تثقوا في أموركم كلها بربكم فتتوكلوا عليه في جميعها فيكفيكم كل ما يهمكم ، ويدفع عنكم ما يضركم في مغيبكم وحضوركم. وقوله تعالى (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) أي وغنائم أخرى لم تقدروا وهي غنائم الروم وفارس. وقد أحاط الله بها فلم يفلت منها شيء حتى تغزوا تلك البلاد وتأخذوها كاملة ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ومن مظاهر قدرته أن يغنمكم وأنتم أقل عددا وعددا غنائم أكبر دولتين في عالم ذلك الوقت فارس والروم. وقوله (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) أي ومن جملة انعامه عليكم أنه لو قاتلكم أهل مكة وأنتم ببطنها لنصركم الله عليهم ولا نهزموا أمامكم مولينكم ظهورهم ولا يجدون وليّا يتولاهم بالدفاع عنهم ولا ناصرا ينصرهم لأنا سلطناكم عليهم. وقوله تعالى (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) أي في الأمم السابقة وهي لأنّ الله ينصر أولياءه على أعدائه لا بد فكان هذا كالسنن الكونية التي

__________________

(١) هذه الجملة مستأنفة بيانيا إذ قوله تعالى : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يثير في نفس أحدهم سؤالا وهو :

هل بعد هذا الفتح والغنائم من غنائم أخرى فكان الجواب : (وعدكم الله مغانم ..) الخ فقولي في التفسير فعطف ليس هو من باب العطف النحوي وإنما هو من باب الإرداف والإلحاق.

(٢) هذه منة أخرى عظيمة حيث صرف عنهم قتال قريش لهم وإلا لكانوا يتعرضون لأتعاب قد تحول بينهم وبين ما أوتوه من فتح خيبر والفوز بغنائمها.

(٣) (وَلِتَكُونَ) هذه الجملة علة لأخرى مقدرة وهي ولتشكروه (وَلِتَكُونَ آيَةً) الخ أي : كف أيدي الناس عنكم لتشكروه ولتكون آية.

لا تتبدل ، وهو معنى قوله (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ، وقوله تعالى في الآية الأخيرة من هذا السياق (٢٤) (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ (١) عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) هذه منّة أخرى وكرامة عظيمة وهي أن قريشا بعثت بثمانين شابا إلى معسكر رسول الله في الحديبية لعلهم يصيبون غرة من الرسول وأصحابه فينالونهم بسوء فأوقعهم تعالى أسرى في أيدي المسلمين فمّن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم بالعفو فكان ذلك سبب صلح الحديبية. وقوله (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) أي مطلعا عالما بكل ما يجري بينكم فهو معكم لولايته لكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ صدق وعد الله لأصحاب رسوله فى الغنائم التي وعدوا بها فتحققت كلماته بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي غنائم فارس والروم.

٢ ـ كرامة الله للمؤمنين إذ حمى ظهورهم من خلفهم مرتين الأولى ما همّ به اليهود من غارة على عائلات وأسر الصحابة بالمدينة النبويّة ، والثانية ما همّ به رجال من المشركين للفتك بالمؤمنين ليلا بالحديبية إذ مكّن الله منهم رسوله والمؤمنين ، ثم عفا عنهم رسول الله واطلق سراحهم فكان ذلك مساعدا قويا على تحقيق صلح الحديبية.

٣ ـ بيان سنة الله في أنه ما تقاتل أولياء الله مع أعدائه في معركة إلا نصر الله أولياءه على أعدائه.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا

__________________

(١) روي عن أنس أنه قال : إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جبل التنعيم متسلحين يريدون غرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فأخذناهم سلما فاستحييناهم فأنزل الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ) الآية.

فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

شرح الكلمات :

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) : أي بالله ورسوله ومنعوكم من الوصول إلى المسجد الحرام.

(وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ (١) مَحِلَّهُ) (٢) : أي ومنعوا الهدي محبوسا حال بلوغ محله من الحرم.

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) : أي موجودون في مكة.

(لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) : أي لم تعرفوهم مؤمنين ومؤمنات.

(أَنْ تَطَؤُهُمْ) : أي قتلا لهم عند قتالكم المشركين بمكة.

(فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي إثم وديات قتل الخطأ وعتق أو صيام لأذن لكم الله تعالى في دخول مكة.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) : أي لم يؤذن لكم في دخول مكة فاتحين ليدخل الله في الإسلام من يشاء.

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) : أي لو تميزوا فكان المؤمنون على حدة والكافرون على حدة لأذنا لكم في الفتح وعذبنا الذين كفروا بأيديكم عذابا أليما وذلك بضربهم وقتلهم.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) : أي لعذبناهم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية وهي الأنفة المانعة من قبول الحق ولذا منعوا الرسول وأصحابه من دخول مكة وقالوا كيف يقتلون أبناءنا ويدخلون بلادنا واللات والعزى ما دخلوها.

__________________

(١) جائز أن يكون : (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) بدل اشتمال من الهدي ، وجائز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو (عن) أي عن أن يبلغ محله.

(٢) المحل : بكسر الحاء : محلّ الحلّ مشتق من فعل حلّ ضد حرم أي المكان الذي يحل فيه نحر الهدي ، وذلك بمكة عند المروة بالنسبة للعمرة ، ومنى بالنسبة للحج.

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : أي فهمّ الصحابة أن يخالفوا أمر رسول الله بالصلح فأنزل الله سكينته عليهم فرضوا ووافقوا فتم الصلح.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : أي ألزمهم كلمة لا إله إلا الله إذ هي الواقية من الشرك.

(وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) : أي أجدر بكلمة التوحيد وأهلا للتقوى.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) : أي من أمور عباده وغيرها ومن ذلك علمه بأهلية المؤمنين وأحقيتهم بكلمة التقوى «لا إله إلا الله».

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن صلح الحديبية فقال تعالى في المشركين ذاما لهم عائبا عليهم صنيعهم (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالله ورسوله (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أن تدخلوه وأنتم محرمون (وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً) أي وصدوا الهدى (١) والحال أنه محبوس ينتظر به دخول مكة لينحر وقوله تعالى (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ) (٢) (مُؤْمِناتٌ) بمكة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) لأنهم كانوا يخفون إسلامهم غالبا ، كراهة (أَنْ تَطَؤُهُمْ) أثناء قتالكم المشركين (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) (٣) منكم بهم والمعرة العيب والمراد به هنا التبعة وما يلزم من قتل المسلم خطأ من الكفارة والدية لو لا هذا لأذن لكم في دخول مكة غازين فاتحين لها وقوله تعالى (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) أي لم يأذن لكم في القتال ورضي لكم بالصلح ليدخل في رحمته من يشاء فالمؤمنون نالتهم رحمة الله إذ لم يؤذوا بدخولكم مكة فاتحين والمشركون قد يكون تأخر الفتح سببا في إسلام من شاء الله تعالى له الإسلام لا سيما عند ما رأوا رحمة الإسلام تتجلى في ترك القتال رحمة بالمؤمنين والمؤمنات حتى لا يتعرضوا للأذى فدين يراعي هذه الأخوة دين لا يحرم منه عاقل. وقوله تعالى (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي (٤) لو تميّز المؤمنون والمؤمنات عن المشركين بوجودهم في مكان خاص بهم لأذنا لكم في دخول مكة وقتال المشركين وعذّبناهم بأيديكم عذابا أليما وقوله (إِذْ جَعَلَ (٥) الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) (الْهَدْيَ) ، والهدي بكسر الدال وتشديد الياء ، لغتان ، والواحدة هدية.

(٢) كسلمة بن هشام وعباس بن أبي ربيعة وأبي جندل بن سهيل. وأشباههم ، وجواب لو لا محذوف تقديره : لأذن الله لكم في دخول مكة ولسلطانكم عليهم.

(٣) (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فيه تفضيل للصحابة وإخبار عن كمالهم في الخلق والدين ، وهذا كقول النملة في سليمان وجنوده : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

(٤) (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي : تميزوا وتفرقوا. و (لَوْ) حرف امتناع لامتناع امتنع الشرط وهو التفرق ، فامتنع التسلط ، والقتل بالإذن للمسلمين بقتالهم وقتلهم. وفي هذا دليل على أنه لا يجوز إغراق باخرة للكافرين فيها مسلمون ، ولا ضرب حصن بالقذائف داخله مسلمون وهو ما رآه مالك.

(٥) يجوز أن يكون الظرف ، (إِذْ) متعلقا بقوله تعالى : (لَعَذَّبْنَا) وجائز أن يعلق بمحذوف تقديره : واذكروا إذ جعل الخ.

الْحَمِيَّةَ (١) حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) هذا تعليل للإذن بقتال المشركين في مكة وتعذيبهم العذاب الأليم لو لا وجود مؤمنين ومؤمنات بها يؤذيهم ذلك والمراد من الحمية الأنفة والتعاظم وما يمنع من قبول الحق والتسليم به وهذه من صفات أهل الجاهلية فقد قالوا ، كيف نسمح لهم بدخول بلادنا وقد قتلوا أبناءنا واللات والعزى ما دخلوا علينا أبدا ، وقوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وذلك لما همّ المؤمنون بعدم قبول الصلح لما فيه من التنازل الكبير للمشركين وهم على الباطل والمؤمنون على الحق فلما حصل هذا في نفوس المؤمنين أنزل الله سكينة عليهم وهي الطمأنينة والوقار والحلم فرضوا بالمصالحة وتمت وكان فيها خير كثير حتى قيل فيها إنها فتح أوّلي أو فاتحة فتوحات لا حدّ لها. وقوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) (٢) (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) أي وشرف الله وأكرم المؤمنين بإلزامهم التشريعي بكلمة لا إله إلّا الله. إذ هي كلمة التقوى أي الواقية من الشرك والعذاب في الدارين وجعلهم أحق بها وأهلها. أي أجدر من غيرهم بكلمة التوحيد وأكثر أهلية للتقوى (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ومن ذلك علمه بأهلية أصحاب رسول الله بما جعلهم أهلا له من الإيمان والتقوى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم المحصر وهو من منع من دخول المسجد الحرام وهو محرم بحج أو بعمرة فإنه يتحلل بذبح هدي ويعود إلى بلاده ، ويذبح الهدى حيث أحصر ، وليس واجبا إدخاله إلى الحرم.

٢ ـ الأخذ بالحيطة في معاملة المسلمين حتى لا يؤذى مؤمن أو مؤمنة بغير علم.

٣ ـ بيان أن كلمة التقوى هي لا إله إلّا الله.

٤ ـ الإشارة إلى ما أصاب المسلمين من ألم نفسي من جراء الشروط القاسية التي اشترطها ممثل قريش ووثيقة الصلح. وهذا نص الوثيقة وما تحمله من شروط لم يقدر عليها إلّا رسول الله بما آتاه الله من العلم والحكمة والحلم والصبر والوقار ، ولمّا أنزل الله ذلك على المؤمنين من السكينة فحملوها وارتاحت نفوسهم لها نص الوثيقة : «ورد أن قريشا لما نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحديبية بعثت إليه ثلاثة

__________________

(١) قال الزهري ، حميتهم أنفتهم من الإقرار للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرسالة والاستفتاح بسم الله الرحمن الرحيم ومنعهم من دخول مكة.

(٢) ورد في (كَلِمَةَ التَّقْوى) آثار منها : أنها لا إله إلا الله ، ومنها أنها لا إله إلا الله محمد رسول الله ، ومنها أنها : لا إله إلا الله والله أكبر ومنها أنها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، والكل حق لا باطل فيه.

رجال هم سهيل بن عمرو القرشي ، وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص على أن يعرضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك على أن يخلي له قريش مكة من العام المقبل ثلاثة أيام فقبل ذلك وكتبوا بينهم كتابا فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي بن أبي طالب اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا : ما نعرف هذا اكتب باسمك اللهم ، فكتب ثم قال اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل مكة فقالوا لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اكتب ما يريدون فهمّ المؤمنون أن يأبوا ذلك ويبطشوا بهم فأنزل الله السكينة عليهم فتوقّروا وحلموا وتم الصلح على ثلاثة أشياء هي :

١ ـ أنّ من أتاهم من المشركين مسلما ردوه إليهم.

٢ ـ أنّ من أتاهم من المسلمين لم يردوه إليهم.

٣ ـ أن يدخل الرسول والمؤمنون مكة من عام قابل ويقيمون بها ثلاثة أيام لا غير ولا يدخلها بسلاح.

فلما فرع من الكتاب قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه قوموا فانحروا ثم احلقوا.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨))

شرح الكلمات :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) : أي جعل الله رؤيا رسوله التي رآها في النوم عام الحديبية حقا. بالحق

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) : هذا مضمون الرؤيا أي لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين.

(مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) : أي حالقين جميع شعوركم أو مقصرينها.

(لا تَخافُونَ) : أي أبدا حال الإحرام وبعده.

(فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) : أي في الصلح الذي تمّ ، أي لم تعلموا من ذلك المعرة التي كانت تلحق المسلمين بقتالهم إخوانهم المؤمنين وهم لا يشعرون.

(فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) : هو فتح خيبر وتحققت الرؤيا في العام القابل.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) : فلذا لا يخلفه رؤياه بل يصدقه فيها.

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) : أي ليعليه على سائر الأديان بنسخ الحق فيها ، وإبطال الباطل فيها ، أو بتسليط المسلمين على أهلها فيحكمونهم.

(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) : أي انك مرسل بما ذكر أي بالهدى ودين الحق.

معنى الآيات :

ما زال السياق في صلح الحديبية وما تم فيه من أحداث فقال تعالى (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الرُّؤْيا بِالْحَقِ) (١) أي (٢) الرؤيا التي رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبر بها أصحابه عند خروجهم من المدينة إلى مكة فقد أخبر بها أصحابه فسروا بذلك وفرحوا ولما تم الصلح بعد جهاد سياسي وعسكري مرير ، وأمرهم الرسول أن ينحروا ويحلقوا اندهشوا لذلك وقال بعضهم أين الرؤيا التي رأيت؟ ونزلت سورة الفتح عند منصرفهم من الحديبية وفيها قوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ (٣) اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ (٤) رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) ، وقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق فلما جاء العام القابل وفي نفس الأيام من شهر القعدة خرج رسول الله والمسلمون محرمين يلبون وأخلت لهم قريش المسجد الحرام فطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة وتحللوا من عمرتهم فمنهم المحلق ومنهم المقصر.

__________________

(١) روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال : إن المنام لم يكن موقتا بوقت أي : فقد تتأخر الرؤيا سنوات أو شهورا أو أياما فكان ما بين رؤيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وظهور مصداقها في الواقع سنة كاملة.

(٢) (بِالْحَقِ) الباء للملابسة ، وهو ظرف مستقر وقع صفة لمصدر محذوف تقديره أي : صدقا ملابسا للحق.

(٣) (إِنْ شاءَ اللهُ) هل هذا الاستثناء من جملة ما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه فأعاده كما سمعه في الرؤيا ويكون هذا تعليما من الله عزوجل للمؤمنين أن يقولوا مثله في كل ما هو مستقبل من الأقوال والأعمال أو قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عملا بقول الله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

(٤) (آمِنِينَ) و (مُحَلِّقِينَ) و (مُقَصِّرِينَ) : منصوبة على الحال ، وجملة (لا تَخافُونَ) في موضع الحال أيضا مؤكدة ل (آمِنِينَ) الحال.

وقوله تعالى (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) فأثبت الصلح وقرره لأنه لو كان قتال ولم يكن صلح لهلك المؤمنون بمكة والمؤمنات بالحرب وتحصل بذلك معرة كبرى للمسلمين الذين قتلوا اخوانهم في الإسلام هذا من بعض الأمور التي اقتضت الصلح وترك القتال وقوله (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) الصلح (١) فتح ، وفتح خيبر فتح ، وفتح مكة فتح ، وكلها من الفتح القريب. وقوله (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي محمد (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) أي الإسلام فكيف إذا لا يصدقه رؤياه كما ظن البعض (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أنك يا محمد مرسل بما ذكر تعالى من الهدى والدين الحق وإظهاره على الدين كله بنسخ الحق الذي فيه وابطال الباطل الذي ألصق به. أو بتسليط المسلمين على قهر وحكم أهل تلك الأديان الباطلة وقد حصل من هذا شىء كبير.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ تقرير أن رؤيا الأنبياء حق.

٢ ـ تعبير الرؤيا قد يتأخر سنة أو أكثر.

٣ ـ مشروعية الحلق والتقصير للتحلل من الحج أو العمرة وإن الحلق أفضل لتقدمه.

٤ ـ مشروعية قول إن شاء الله في كل قول أو عمل يراد به المستقبل.

٥ ـ الإسلام هو الدين الحق وما عداه فباطل.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

__________________

(١) ومن أنواع الفتح القريب ما تم بالهدنة من دخول الناس في الإسلام إذ أصبح الناس آمنين فيتصلون بالمؤمنين ويتعرفون إلى الإسلام ويدخلون فيه ، فدخل في الإسلام أعداد هائلة في هذه الهدنة.

شرح الكلمات :

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) : أي أصحابه رضوان الله عليهم.

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) : أي غلاظ لا يرحمونهم.

(رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) : أي متعاطفون متوادون كالوالد مع الولد.

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) : أي تبصرهم ركعا سجدا أي راكعين ساجدين.

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : أي يطلبون بالركوع والسجود ثوابا من ربهم هو الجنة ورضوانا هو رضاه عزوجل.

(سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) : أي نور وبياض يعرفون به يوم القيامة انهم سجدوا في الدنيا.

(ذلِكَ) : أي الوصف المذكور.

(مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) : أي صفتهم في التوراة كتاب موسى عليه‌السلام.

(أَخْرَجَ شَطْأَهُ) : أي فراخه.

(فَآزَرَهُ) : أي قواه وأعانه.

(فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى) : أي غلظ واستوى أي قوي.

(عَلى سُوقِهِ) : جمع ساق أي على أصوله.

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) : أي زارعيه لحسنه.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) : هذا تعليل أي قواهم وكثرهم ليغيظ بهم الكفار.

معنى الآيات :

لما أخبر تعالى انه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله شهادة منه بذلك أخبر أيضا عنه بما يؤكد تلك الشهادة فقال تعالى (مُحَمَّدٌ (١) رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) من أصحابه (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) أي غلاظ قساة عليهم ، وذلك لأمرين الأول انهم كفروا بالله وعادوه ولم يؤمنوا به ولم يجيبوه ، والله يبغضهم لذلك فهم إذا غلاظ عليهم لذلك والثاني أن الغلظة والشدة قد تكون سببا في هدايتهم لأنهم يتألمون بها ، ويرون خلافها مع المسلمين فيسلمون فيرحمون ويفوزون. وقوله تعالى (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أي فيما بينهم يتعاطفون يتراحمون فترى أحدهم يكره أن يمس جسمه أو ثوبه جسم الكافر أو ثوبه ، وتراه مع المسلم إذا رآه صافحه وعانقه ولاطفه

__________________

(١) جائز الوقف على (رَسُولُ اللهِ) مبتدأ وخبر ، ويبدأ الكلام : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ.). الخ وهو الأشبه ، وجائز أن يكون : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) عطف على (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) والخبر : (أَشِدَّاءُ.). الخ.

وأعانه وأظهر له الحب والود. وقوله تعالى (تَراهُمْ) أي تبصرهم أيها المخاطب (رُكَّعاً سُجَّداً) (١) أي راكعين ساجدين في صلواتهم (يَبْتَغُونَ) أي يطلبون بصلاتهم بعد إيمانهم وتعاونهم وتحاببهم وتعاطفهم مع بعضهم ، يطلبون بذلك (فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي الجنة ورضا الله. وهذا أسمى ما يطلب المؤمن أن يدخله الله الجنة بعد أن ينقذه من النار ويرضى عنه. وقوله (٢) (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي علامات إيمانهم وصفائهم في وجوههم من أثر السجود إذ يبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) وفي الدنيا عليهم سيما التقوى والصلاح والتواضع واللين والرحمة. وقوله تعالى (ذلِكَ) أي المذكور (مَثَلُهُمْ فِي (٣) التَّوْراةِ) (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ (٤) شَطْأَهُ) أي فراخه (فَآزَرَهُ) أي قواه وأعانه (فَاسْتَغْلَظَ) أي غلظ (فَاسْتَوى) أي قوي (عَلى سُوقِهِ) جمع ساق ما يحمل السنبلة من أصل لها (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي الزارعين له وذلك لحسنه وسلامة ثمرته وقوله تعالى (لِيَغِيظَ (٥) بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي قواهم وكثرهم من أجل أن يغيظ بهم الكفار ولذا ورد عن مالك بن أنس رحمه‌الله تعالى أن من يغيظه أصحاب رسول الله فهو كافر وقوله (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) أي لذنوبهم (وَأَجْراً عَظِيماً) هو الجنة. هذا وعد خاص بأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رضوان الله عليهم وهناك وعد عام لسائر المؤمنين والمؤمنات وذلك في آيات أخرى مثل آية المائدة (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ).

هداية الآية الكريمة :

من هداية الآية الكريمة :

١ ـ تقرير نبوة رسول الله وتأكيد رسالته.

٢ ـ بيان ما كان عليه رسول الله وأصحابه من الشدة والغلظة على الكفار والعطف والرحمة على أهل الإيمان وهذا مما يجب الأتساء بهم فيه والاقتداء.

٣ ـ بيان فضل الصلاة ذات الركوع والسجود والطمأنينة والخشوع.

__________________

(١) إخبار بكثرة ركوعهم وسجودهم وهو كذلك ، إذ لم تر الدنيا أكثر من المسلمين ركوعا وسجودا من سائر الأمم التي دانت لله بالإسلام.

(٢) السيما : (العلامة ولها ثلاثة مظاهر ، الأول : هو يبوسة في الجبهة ولا يتعمدونها ولكنها تحدث من كثرة السجود على الأرض ، والثاني : الأثر النفسي من التواضع والخشوع ونور الصلاح. والثالث : نور يوم القيامة يعلو وجوههم ويشهد له قوله تعالى (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) الآية.

(٣) موجود في التوراة قبل تحريفها إذ فيها نعوت هذه الأمة ونعوت نبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي إلى الآن واليهود يتأولونها هروبا من الحق حتى لا يلزموا به.

(٤) فراخ الزرع فروع الحبة منه.

(٥) الجملة تعليلية لما سبقها من صفات أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : وهبهم ذلك الكمال ليغيظ بهم الكفار.

٤ ـ صفة أصحاب رسول الله في كل من التوراة والإنجيل ترفع من درجتهم وتعلي من شأنهم.

٥ ـ بيان أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدأوا قليلين ثم أخذوا يكثرون حتى كثروا كثرة أغاظت الكفار.

٦ ـ بغض أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتنافى مع الإيمان منافاة كاملة لا سيما خيارهم وكبارهم كالخلفاء الراشدين الأربعة والمبشرين بالجنة العشرة وأصحاب بيعة الرضوان ، وأهل بدر قبلهم.

ولذا روي عن مالك رحمه‌الله تعالى : أن من (١) يغيظه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو كافر.

سورة الحجرات

وآياتها ثماني عشرة آية

وهي بداية المفصل (٢)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

__________________

(١) الرواية كما رواها القرطبي هي : روى أبو عروة الزبيري من ولد الزبير قال كنا عند مالك بن أنس فذكروا رجلا ينتقص أصحاب رسوله الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأ مالك هذه الآية : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ ..). حتى بلغ : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) فقال مالك من أصبح من الناس في قلبه غيظ على أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أصابته هذه الآية. يريد ألزمته بالكفر.

(٢) أشهر الأقوال أن أوّل المفصل (الحجرات) وأول وسط المفصل (عبس) وأول قصار المفصل : (والضحى) هذا أشهر أقوال المالكية ، وطلب هذا لأجل الصلاة المفروضة ففي الصبح يستحب القراءة بطوال المفصل وفي الظهر والعشاء بمتوسطه وفي المغرب بقصاره.

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا) : أي لا تتقدّموا بقول ولا فعل إذ هو من قدم بمعنى تقدم.

(بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : كمن ذبح يوم العيد قبل أن يذبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكإرادة أحد الشيخين تأمير رجل على قوم قبل استشارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) : أي خافوا الله انه سميع لأقوالكم عليم بأعمالكم.

(لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) : أي إذا نطقتم فوق صوت النبيّ إذا نطق.

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) : أي إذا ناجيتموه فلا تجهروا في محادثتكم معه كما تجهرون فيما بينكم إجلالا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتوقيرا وتقديرا.

(أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) : أي كراهة أن تبطل أعمالكم فلا تثابون عليها.

(وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) : بحبوطها وبطلانها. إذ قد يصحب ذلك استخفاف بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا سيما إذا صاحب ذلك إهانة وعدم مبالاة فهو الكفر والعياذ بالله.

(يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) : أي يخفضونها حتى لكأنهم يسارونه ومنهم أبو بكر رضي الله عنه.

(امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) : أي شرحها ووسعها لتتحمل تقوى الله. مأخوذ من محن الأديم إذا وسعه.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) : أي مغفرة لذنوبهم وأجر عظيم وهو الجنة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (١) لو بحثنا عن المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها لتجلت لنا واضحة إذا رجعنا بالذاكرة إلى موقف عمر رضي الله عنه وهو يريد أن لا يتم صلح بين المؤمنين والمشركين ، وإلى موقف الصحابة كافة من عدم التحلل من إحرامهم ونحر هداياهم والرسول يأمروهم لا يستجيبون حتى تقدمهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحر هديه ثم نحروا بعده وتحللوا ، إذ تلك المواقف التي أشرنا إليها فيها معنى تقديم الرأي والقول بين يدي الله ورسوله وفي ذلك مضرة لا يعلم مداها إلّا الله ، ولما انتهت تلك الحال وذلك الظرف الصعب أنزل الله تعالى قوله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)

__________________

(١) ذكر لسبب نزول هذه السورة عدة روايات منها ما ذكره الواحدي ورواه البخاري وهو أن ركبا من بني تميم قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر أمّر القعقاع بن معبد ، وقال عمر : أمر الأقرع بن حابس فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي فقال عمر ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت في ذلك (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ..). الخ.

أي بالله ربا وإلها وبالإسلام شرعة ودينا وبمحمد نبيّا ورسولا ناداهم بعنوان الإيمان ليقول لهم ناهيا (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ) (١) (يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي قولا ولا عملا ولا رأيا ولا فكرا أي لا تقولوا ولا تعملوا إلا تبعا لما قال الله ورسوله ، وشرع الله ورسوله (وَاتَّقُوا اللهَ) في ذلك فإن التقدم بالشيء قبل أن يشرع الله ورسوله فيه معنى أنكم أعلم وأحكم من الله ورسوله وهذه زلّة كبرى وعاقبتها سوأى. ولذا قال (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) أي لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأعمالكم وأحوالكم. ومن هنا فواجب المسلم أن لا يقول ولا (٢) يعمل ولا يقضي ولا يفتي برأيه إلا إذا علم قول الله ورسوله وحكمهما وبعد أن يكون قد علم أكثر أقوال الله والرسول وأحكامهما ، فإذا لم يجد من ذلك شيئا اجتهد (٣) فقال أو عمل بما يراه أقرب إلى رضا الله تعالى فإذا لاح له بعد ذلك نص من كتاب أو سنة عدل عن رأيه وقال بالكتاب والسنة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١) أما الآية الثانية (٢) وهي قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٤) فإنها تطالب المسلم بالتأدب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأولا نهاهم رضي الله عنهم عن رفع أصواتهم فوق صوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا هم تحدثوا معه وأوجب عليهم إجلال النبي وتعظيمه وتوقيره بحيث يكون صوت أحدهم إذا تكلم مع رسول الله أخفض من صوت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا كلّم رسول الله يساره الكلام مسارة وثانيا نهاهم إذا هم ناجوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض بل يجب عليهم توقيره وتعظيمه. وأعلمهم أنه يخشى عليهم إذا هم لم يوقروا رسول الله ولم يجلوه أن تحبط أعمالهم كما تحبط بالشرك والكفروهم لا يشعرون. إذ رفع الصوت للرسول ونداؤه بأعلى الصوت يا محمد يا محمد أو يا نبيّ الله ويا رسول الله وبأعلى الأصوات إذا صاحبه استخفاف أو إهانة وعدم مبالاة صار كفرا محبطا للعمل قطعا. وفي الآية الثاثة (٣) يثني الله تعالى على أقوام (يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ) أي يخفضونها (عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي في حضرته وبين يديه كأبي بكر وعمر رضي الله عنهما هؤلاء يخبر تعالى أنه (امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي وسعها وشرحها

__________________

(١) هذه السورة نزلت في الأمر بمكارم الأخلاق ورعاية الآداب زيادة على ما تضمنت من الأحكام الشرعية والهدايات القرآنية.

(٢) ومن هنا قال العلماء : لا يحل لامرىء مسلم أن يقدم على أمر حتى يعلم حكم الله فيه.

(٣) شاهده حديث معاذ رضي الله عنه حيث قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بعثه إلى اليمن (بم تحكم؟ قال بكتاب الله تعالى قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن لم تجد؟ قال بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن لم تجد؟ قال رضي الله عنه : أجتهد رأيي ، فضرب في صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم).

(٤) روى البخاري (أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فقال رجل يا رسول الله أنا أعلم لك علمه فأتاه فوجده في بيته منكسا رأسه فقال له : ما شأنك؟ فقال شر ، كان : يرفع صوته فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار فأتى الرجل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا ، فقال : إذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة.

لتحمل تقوى الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول التقوى (١) ها هنا ويشير إلى صدره ثلاثا ، ويذكر لهم بشرى نعم البشرى وهي أن لهم منه تعالى مغفرة لذنوبهم ، واجرا عظيما يوم يلقونه وهو الجنة دار المتقين جعلنا الله منهم بفضله ورحمته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لا يجوز للمسلم أن يقدم رأيه أو اجتهاده على الكتاب والسنة فلا رأي ولا اجتهاد إلّا عند عدم وجود نص من كتاب أو سنة وعليه إذا اجتهد أن يكون ما اجتهد فيه أقرب إلى مراد الله ورسوله ، أي الصق بالشرع ، وإن ظهر له بعد الاجتهاد نص من كتاب أو سنة عاد إلى الكتاب والسنة وترك رأيه أو اجتهاده فورا وبلا تردد.

٢ ـ بما أن الله تعالى قد قبض إليه نبيّه ولم يبق بيننا رسول الله نتكلم معه أو نناجيه فنخفض أصواتنا عند ذلك فإن علينا إذا ذكر رسول الله بيننا أو ذكر حديثه أن نتأدب عند ذلك فلا نضحك ولا نرفع الصوت ، ولا نظهر أي استخفاف أو عدم مبالاة وإلا يخشى علينا أن تحبط أعمالنا ونحن لا نشعر.

٣ ـ على الذين يغشون مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن لا يرفعوا أصواتهم فيه إلا لضرورة درس أو خطبة أو أذان أو إقامة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ

__________________

(١) هذا بعض حديث صحيح أخرجه غير واحد من أصحاب السنن.

الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) : أي حجرات نسائه والذين نادوه وفد من أعراب بني تميم منهم الزّبرقان بن بدر والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن.

(أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) : أي فيما فعلوه بمحلك الرفيع ومقامك السامي الشريف.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) : أي ولو أنهم انتظروك حتى تخرج بعد قيامك من قيلولتك.

(لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) : أي من ذلك النداء بأعلى أصواتهم من كل أبواب الحجرات.

(وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي غفور لمن تاب منهم رحيم بهم إذ أساءوا مرتين الأولى برفع أصواتهم والثانية كانوا ينادونه ويقولون أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمنا شين.

(فاسِقٌ بِنَبَإٍ) : أي ذو فسق وهو المرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب والنبأ الخير ذو الشأن.

(فَتَبَيَّنُوا) : أي تثبتوا قبل أن تقولوا أو تفعلوا أو تحكموا.

(أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) : أي خشية إصابة قوم بجهالة منكم.

(فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) : أي فتصيروا على فعلكم الخاطئ نادمين.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) : أي فاحذروا أن تكذبوا أو تقولوا الباطل فإن الوحي ينزل وتفضحون بكذبكم وباطلكم.

(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) : أي لوقعتم في المشقة الشديدة والإثم أحيانا.

(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) : أي بغض إلى قلوبكم الكفر والفسوق كالكذب والعصيان بترك واجب أو فعل محرم.

(أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) : أي الذين فعل بهم ما فعل من تحبيب الإيمان وتكريه الكفر وما ذكر معه هم الراشدون أي السالكون سبيل الرشاد.

(فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) : أي أفضل بذلك عليهم فضلا وأنعم إنعاما ونعمة.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) : أي عليم بخلقه وما يعملون حكيم في تدبيره لعباده هذا بعامة وبخاصة عليم بأولئك الراشدين حكيم في إنعامه عليهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تأديب المؤمنين إزاء نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد عاب تعالى أقواما معهم جفاء وغلظة قيل انهم وفد من أعراب بني تميم منهم الزبرقان بن بدر ، والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءوا والرسول قائل وقت القيلولة ووقفوا على أبواب الحجرات (١) ينادون بأعلى أصواتهم يا محمد يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية الكريمة تأديبا لهم (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) حجرات نساء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانت أبواب الحجرات إلى المسجد. (أَكْثَرُهُمْ لا (٢) يَعْقِلُونَ) أي فيما فعلوه بمقام الرسول الشريف ومكانته الرفيعة. (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) بعد هبوبك من قيلولتك (لَكانَ (٣) خَيْراً) أي من ذلك النداء بتعالي الأصوات من وراء الحجرات وقوله تعالى (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي غفور لمن تاب منهم رحيم بهم إذ لم يعجل لهم العقوبة وفتح لهم باب التوبة وأدبهم ولم يعنف ولم يغلظ ، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا السياق (٦) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ (٤) بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا) (٥) قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) هذه الآية وإن كان لها سبب في نزولها وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط إلى بني المصطلق ليأتي بزكاة أموالهم ، وكان بينهم وبين أسرة الوليد عداء في الجاهلية فذكره الوليد وهاب أن يدخل عليهم دارهم وهذا من وسواس الشيطان فرجع وستر على نفسه الخوف الذي أصابه فذكر انهم منعوه الزكاة وهموا بقتله فهرب منهم فغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهمّ بغزوهم. وما زال كذلك حتى أتى وفد منهم يسترضي رسول الله ويستعتب عنده خوفا من أن يكون قد بلغه عنهم سوء فأخبروه بأنهم على العهد وأن الوليد رجع من الطريق ولم يصل إليهم وبعث الرسول خالد بن الوليد من جهة فوصل

__________________

(١) الحجرات : جمع حجرة وهي تسع تدخل ضمن البيت النبوي.

(٢) هذا الاحتراس دال على أن من الوفد من كان متأدبا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يناد نداءهم بصوت عال وألفاظ نابية لا تليق بمقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) أي : لو انتظروا خروجك لكان أصلح لهم في دينهم ودنياهم وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتجب عن الناس إلا في أوقات يشتغل فيها بمهمات نفسه فكان إزعاجه في تلك الحالة من سوء الأدب.

(٤) فسر الفاسق. بالكاذب وبالمعلن بالذنب ، وبالذي لا يستحي من الله وهو قابل لكل ما ذكر.

(٥) (أَنْ تُصِيبُوا) : أي : لئلا تصيبوا.

إليهم قبل المغرب فإذا بهم يؤذنون ويصلون المغرب والعشاء فعلم أنهم لم يرتدوا وأنهم على خير والحمد لله. وجاء بالزكوات وأنزل الله تعالى هذه الأية قلت إن هذه الآية وإن نزلت في سبب معين فإنها عامة وقاعدة أساسية هامة فعلى الفرد والجماعة والدولة أن لا يقبلوا من الأخبار التي تنقل إليهم ولا يعملوا بمقتضاها إلا بعد التثبت والتبين الصحيح كراهية أن يصيبوا فردا أو جماعة بسوء بدون موجب لذلك ولا مقتض الاقالة سوء وفرية قد يريد بها صاحبها منفعة لنفسه بجلب مصلحة أو دفع مضرة عنه. فالأخذ بمبدأ التثبت والتبين عند سماع خبر من شخص لم يعرف بالتقوى والاستقامة الكاملة والعدالة التامة واجب صونا لكرامة الأفراد وحماية لأرواحهم وأموالهم. والحمد لله على شرع عادل رحيم كهذا. فقوله (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ) المراد بالفاسق من يرتكب كبيرة من كبائر الذنوب كالكذب مثلا ، والنبأ الخبر ذو الشأن والتبيّن التثبت وقوله (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ) أن تصيبوهم في أبدانهم وأموالهم بعدم علم منكم وهي الجهالة وقوله (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) أي من جرّاء ما اتخذتم من إجراء خاطئ ، وقوله تعالى في الآية (٧) (وَاعْلَمُوا) يلفت الربّ تعالى نظر المسلمين إلى حقيقة هم غافلون عنها وهو وجود الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّا بينهم ينزل عليه الوحي فإن هذه حال تتطلب منهم التزام الصدق في القول والعمل وإلّا يفضحهم الوحي فورا إن هم كذبوا في قول أو عمل كما فضح الوليد لما أخبر بغير الحق. هذا أولا وثانيا لو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطيعهم في كل ما يرونه ويقترحونه لوقعوا في مشاكل تعرّضهم لمشاق لا تطاق ، بل وفي آثام عظام. هذا معنى قوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ) (١) (فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) وقوله (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ (٢) إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) فوقاكم كثيرا من أن تكذبوا على رسولكم أو تقترحوا عليه أو تفرضوا آراءكم. وقوله (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (٣) أي أولئك أصحاب رسول الله هم السالكون سبيل الرشاد فلا يتهوكون ولا يضلون وقوله (فَضْلاً (٤) مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً) أي هدايتهم كانت فضلا من الله ونعمة ، والله عليم بهم وبنياتهم وبواعث نفوسهم حكيم (٥) في تدبيره فأهّل أصحاب رسول الله

__________________

(١) (لَوْ) : حرف امتناع لامتناع ، امتنعت طاعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهم فامتنع عنتهم الذي هو : الوقوع في المشقة والشدة.

(٢) (لكِنَ) هذه الاستدراكية العاطفة ، وهذا الاستدراك ناشيء عن كون بعضهم يحب أن يطيعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعلموا أن الله حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وجعلهم من الراشدين ، فكفاهم خواطر السوء ، ورغبات الباطل ، فلم يبق مجال للاقتراحات التي تسيء إليهم وإلى جناب نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٣) الرشاد ، والرشد : ما كان خلاف الغيّ ، والباطل والسيء.

(٤) نصب : (فضلا ونعمة) على المفعولية المطلقة.

(٥) جملة : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) تذييلية لما تقدم من قوله : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) إلى قوله : (وَنِعْمَةً).

للخير وأضفاه عليهم فهم أفضل هذه الأمة على الاطلاق ولا مطمع لأحد أتى بعدهم أن يفوقهم في الفضل والكمال في الدنيا ولا في الآخرة فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين وعنا معهم آمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سمو المقام المحمدي وشرف منزلته صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ وجوب التثبت في الأخبار ذات الشأن التي قد يترتب عليها أذى أو ضرر بمن قيلت فيه ، وحرمة التسرع المفضي بالأخذ بالظنة فيندم الفاعل بعد ذلك في الدنيا والآخرة.

٣ ـ من أكبر النعم على المؤمن تحبيب الله تعالى الإيمان إليه وتزيينه في قلبه ، وتكريه الكفر إليه والفسوق والعصيان وبذلك أصبح المؤمن أرشد الخلق بعد أصحاب رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ

وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣))

شرح الكلمات :

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : أي جماعاتان قلّ أفرادهما أو كثروا من المسلمين.

(اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) : أي هموا بالاقتتال أو باشروه فعلا فأصلحوا ما فسد بينهما.

(فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى) : أي تعدت بعد المصالحة بأن رفضت ذلك ولم ترض بحكم الله.

(فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) : أي قاتلوا أيها المؤمنون مجتمعين الطائفة التي بغت حتى ترجع إلى الحق.

(فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ) : أي رجعت إلى الحق بعد مقاتلتها فأصلحوا بينهما بالعدل أي بالحق.

(وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) : أي وأعدلوا في حكمكم إن الله يحب أهل العدل.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) : أي في الدين الإسلامي.

(فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) : أي إذا تنازعا شيئا وتخاصما فيه.

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) : أي خافوا عقابه رجاء أن ترحموا إن أنتم اتقيتموه.

(لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) : أي لا يزدر قوم منكم قوما آخرين ويحتقرونهم.

(عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ) : أي عند الله تعالى والعبرة بما عند الله لا ما عند الناس.

(وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) : أي لا تعيبوا بعضكم بعضا فإنكم كفرد واحد.

(وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) : أي لا يدعو بعضكم بعضا بلقب يكرهه نحو يا فاسق يا جاهل.

(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) : أي قبح اسم الفسوق يكون للمرء بعد إيمانه وإسلامه.

(وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) : أي من لمز ونبز المؤمنين فأولئك البعداء هم الظالمون.

(اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) : أي التهم التي ليس لها ما يوجبها من الأسباب والقرائن.

(إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) : أي كظن السوء بأهل الخير من المؤمنين.

(وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) : أي لا تتبعوا عورات المسلمين وما بهم بالبحث عنها.

(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) : أي لا يحسن به حب أكل لحم أخيه ميتا ولا حيا معا.

(فَكَرِهْتُمُوهُ) : أي وقد عرض عليكم الأول فكرهتموه فاكرهوا أي كما كرهتم أكل لحمه ميتا فاكرهوه حيا وهو الغيبة.

(وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) : أي جمع شعب والقبيلة دون الشعب.

(لِتَعارَفُوا) : أي ليعرف بعضكم بعضا فتعارفوا لا للتفاخر بعلو الأنساب.

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) : أي أشدكم تقوى لله بفعل أوامره وترك نواهيه هو أكرم عند الله.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) : أي عليم بكم وبأحوالكم خبير بما تكونون عليه من كمال ونقص لا يخفى عليه شيء من أشياء العباد.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (١) الآيات ما زال السياق الكريم في طلب تأديب المسلمين وتربيتهم واعدادهم للكمال الدنيوي والأخروي ففي الآيتين (٩) و (١٠) من هذا السياق يرشد الله تعالى المسلمين إلى كيفية علاج مشكلة النزاع المسلح بين المسلمين الذي قد يحدث في المجتمع الإسلامي بحكم الضعف الإنساني من الوقت إلى الوقت وهو مما يكاد يكون من ضروريات الحياة البشرية وعوامله كثيرة لا حاجة إلى ذكرها فقال تعالى (وَإِنْ طائِفَتانِ) أي جماعتان (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) ولو كان ذلك بين اثنين فقط (فَأَصْلِحُوا) أيها المسلمون (بَيْنَهُما) (٢) بالقضاء على أسباب الخلاف وترضية الطرفين بما هو حق وخير وليس هذا

__________________

(١) قال مجاهد : نزلت هذه الآية في الأوس والخزرج حيث تقاتل حيّان من الأنصار بالعصي والنعال.

(٢) قال القرطبي : بالدعاء إلى كتاب الله لهما أو عليهما وقضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك كما قال معاذ : أحكم بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

بصعب مع وجود قلوب مؤمنة وهداية ربانية وقوله (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما) أي اعتدت إحدى الطائفتين بعد الصلح (عَلَى الْأُخْرى) بأن رفضت حكم الله الذي قامت المصالحة بموجبه (فَقاتِلُوا) (١) مجتمعين (الَّتِي تَبْغِي) أي تعتدي (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) أي إلى الحق (فَإِنْ فاءَتْ) أي أذعنت للحق ورضيت به (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) في حكمكم دائما وأبدا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). (٢) وقوله تعالى في الآية (١٠) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (٣) (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) يقرر تعالى الأخوة الإسلامية ويقصر المؤمنين عليها قصرا فليس المؤمنون إلا إخوة لبعضهم بعضا ولذا وجب رأب كلّ صدع وإصلاح كل فساد يظهر بين أفرادهم وعدم التساهل في ذلك (وَاتَّقُوا اللهَ) في ذلك فلا تتوانوا أو تتساهلوا حتى تسفك الدماء المؤمنة ويتصدع بنيان الإيمان والإسلام في دياره وقوله (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) فلا يتصدع بنيانكم ولا تتشتت أمتكم وتصبح جماعات وطوائف متعادية يقتل بعضها بعضا. ولما لم يتق المؤمنون الله في الإصلاح الفوري بين الطوائف الإسلامية المتنازعة حصل من الفساد والشر ما الله به عليم في الغرب الإسلامي والشرق. وقوله في الآية (١١) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ) إذ من عوامل النزاع والتقاتل وأسبابهما سخرية المؤمن بأخيه واحتقاره لضعف حاله ورثاثة ثيابه وقلة ذات يده فحرم تعالى بهذه الآية على المسلم أن يحتقر أخاه المسلم ويزدريه منبها إلى أن من احتقر وازدرى به وسخر منه قد يكون غالبا خيرا عند الله من المحتقر له والعبرة بما عند الله لا بما عند الناس والرجال في هذا والنساء سواء فلا يحل لمؤمنة أن تزدري وتحتقر أختها المؤمنة عسى أن تكون عند الله خيرا منها منزلة والعبرة بالمنزلة عند الله لا عند الناس وكما حرم السخرية بالمؤمنين والمؤمنات لإفضائها إلى العداوة والشحناء ثم التقاتل حرم كذلك اللمز والتنابز بالألقاب فقال تعالى (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) ومعنى لا تلمزوا أنفسكم أي لا يعب (٤) بعضكم بعضا بأي عيب من العيوب فإنكم كشخص واحد فمن عاب

__________________

(١) هذه الآية نص صريح في وجوب قتال أهل البغي ، وهم الذين يخرجون عن إمام المسلمين ظلما وعدوانا بعد دعوتهم إلى الطاعة لله ورسوله وإمام المسلمين ، ولا التفات إلى من يرى غير هذا ، ومن أحكام قتال أهل البغي أنه لا يقتل أسيرهم ولا يذفف على جريحهم أي لا يجهز عليه قتلا ولا تسبى ذراريهم ولا نساؤهم ولا أموالهم.

(٢) روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال (المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور عن يمين العرش : الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا).

(٣) الآية دليل على أن اسم الإيمان لا يزول بالبغي فإن الله تعالى قال (بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فأثبت أخوة الإيمان ولم يسقطها بالبغي. روى أن عليا سئل عن قتال أهل البغي من أهل الجمل ، وصفين ، أمشركون هم؟ قال : لا ، من الشرك فرّوا فقيل : ألمنافقون؟ قال لا لأن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا ، فقيل له فما حالهم؟ قال : إخواننا بغوا علينا.

(٤) قال عبد الله بن مسعود : البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوّل كلبا.

أخاه المسلم كأنما عاب نفسه كما أن المعاب قد يرد العيب بعيب من عابه وهذا معنى ولا تلمزوا أنفسكم وقوله ولا تنابزوا بالألقاب أي لا يلقب المسلم أخاه بلقب يكرهه فإن ذلك يفضي إلى العداوة والمقاتلة وقوله (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) أي قبح أشدّ القبح أن يلقب المسلم بلقب الفسق بعد أن اصبح مؤمنا عدلا كاملا في أخلاقه وآدابه فلا يحل لمؤمن أن يقول لأخيه يا فاسق أو يا كافر أو يا عاهر أو يا فاسد ، إذ بئس الاسم اسم الفسوق كما أن الملقب للمسلم بألقاب السوء يعد فاسقا وبئس الاسم له أن يكون فاسقا بعد إيمانه بالله ولقائه والرسول وما جاء به ، وقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) أي من احتقار المسلمين وازدرائهم وتلقيبهم بألقاب يكرهونها (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) المتعرضون لغضب الله وعقابه. وقوله في الآية (١٢) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ينادي الله تعالى المسلمين بعنوان الإيمان إذ به أصبحوا أحياء يسمعون ويبصرون ويقدرون على الفعل والترك إذ الإيمان بمثابة الروح إذا احلت الجسم تحرك فأبصرت العين وسمعت الأذن ونطق اللسان وفهم القلب.

فيقول (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ) (١) وهو كل ظن ليس له ما يوجبه من القرائن والأحوال والملابسات المقتضية له ، ويعلل هذا النهي المقتضى للتحريم فيقول (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وذلك كظن السوء بأهل الخير والصلاح في الأمة فإن ظن السوء فيهم قد يترتب عليه قول باطل أو فعل سوء أو تعطيل معروف ، فيكون إثما كبيرا ، وقوله (وَلا تَجَسَّسُوا) أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم بالبحث عنها والاطلاع عليها لما في ذلك من الضرر الكبير ، وقوله (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ (٢) بَعْضاً) أي لا يذكر أحدكم أخاه في غيبته بما يكره وهنا يروى في الصحيح من الأحاديث ما معناه أن رجلا سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الغيبة فقال له ذكرك أخاك يما يكره فقال الرجل فإن كان فيه ما يكره قال فإن كان فيه ما يكره فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما يكره فقد بهته والبهتان أسوأ الغيبة. وقوله أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا؟ والجواب لا قطعا إذا فكما عرض عليكم لحم أخيكم ميتا فكرهتموه فاكرهوا إذا أكل لحمه حيّا وهو (٣) عرضه والعرض أعز

__________________

(١) قالت العلماء : الظن هنا هو التهمة بدون قرينة حال تدل عليها أو تدعو إليها وقد صح الحديث بتحريم الظن السيء بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية الصحيح (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا).

(٢) الغيبة عامة في الدين والخلق والحسب والنسب ولا وجه لتخصيصها بواحد مما ذكر ، وكيف وقد فسرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (ذكرك أخاك بما يكره).

(٣) قال قتادة كما يمتنع أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا كذلك يجب أن يمتنع من غيبته حيا ، واستعمل أكل اللحم مكان الغيبة لأن عادة العرب جارية بذلك قال الشاعر :

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم

وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وأغلى من الجسم وقوله (وَاتَّقُوا اللهَ) في غيبة بعضكم بعضا فإن الغيبة من عوامل الدمار والفساد بين المسلمين ، وقوله (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) جملة تعليلية للأمر بالتوبة فأخبر تعالى انه يقبل توبة التائبين وأنه رحيم بالمؤمنين ومن مظاهر ذلك انه حرم الغيبة للمؤمن لما يحصل له بها من ضرر وأذى. وقوله تعالى في الآية (١٣) (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا) هذا نداء هو آخر نداءات الله تعالى عباده في هذه السورة وهو أعم من النداء بعنوان الإيمان فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) من آدم وحواء باعتبار الأصل كما أن كل آدمي مخلوق من أبوين أحدهما ذكر والآخر أنثى (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) وبطونا وأفخاذا وفصائل كل هذا لحكمة التعارف فلم يجعلكم كجنس الحيوان لا يعرف الحيوان الآخر ولكن جعلكم شعوبا وقبائل وعائلات وأسر لحكمة التعارف المقتضي للتعاون إذ التعاون بين الأفراد ضروري لقيام مجتمع صالح سعيد فتعارفوا وتعاونوا ولا تتفرقوا لأجل التفاخر بالأنساب فإنه لا قيمة للحسب ولا للنسب إذا كان المرء هابطا في نفسه وخلقه وفاسدا في سلوكه إن أكرمكم عند الله أتقاكم (١). إن الشرف والكمال فيما عليه الإنسان من زكاة روحه وسلامة خلقه وإصابة رأيه وكثرة معارفه وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) جملة تعليلية يبين فيها تعالى أنه عليم بالناس عليم بظواهرهم وبواطنهم وبما يكملهم ويسعدهم خبير بكل شيء في حياتهم فليسلم له التشريع بالتحليل والتحريم والأمر والنهي فإنه على علم بالحال والمآل وبما يسعد الإنسان وبما يشقيه فآمنوا به وأطيعوه تكملوا وتسعدوا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب مبادرة المسلمين إلى إصلاح ذات البين بينهم كلما حصل فساد أو خلل فيها.

٢ ـ وجوب تعاون المسلمين على تأديب أية جماعة تبغي وتعتدي حتى تفيئ إلى الحق.

٣ ـ وجوب الحكم بالعدل في أية قضية من قضايا المسلمين وغيرهم.

٤ ـ تقرير الأخوة الإسلامية ووجوب تحقيقها بالقول والعمل.

٥ ـ حرمة السخرية واللمز والتنابز بين المسلمين.

٦ ـ وجوب اجتناب كل ظن لا قرينة ولا حال قوية تدعو إلى ذلك.

٧ ـ حرمة التجسس أي تتبع عورات المسلمين وكشفها وإطلاع الناس عليها.

__________________

(١) روى الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (خطب بمكة فقال : يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان : يرّتقي كريم على الله ، وفاجر شقي هين على الله).

٨ ـ حرمة الغيبة والنميمة. والنميمة هي نقل الحديث على وجه الإفساد ولذا يجوز ذكر الشخص وهو غائب في مواطن هي التظلم بأن يذكر المسلم من ظلمه لا زالة ظلمه ، الاستعانة على تغيير المنكر بذكر صاحب المنكر. الاستفتاء نحو قول المستفتي ظلمني فلان بكذا فهل يجوز له ذلك ، تحذير المسلمين من الشر بذكر فاعله قصد أن يحذروه ، المجاهر بالفسق لا غيبة له ، التعريف بلقب لا يعرف الرجل إلا به.

٩ ـ حرمة التفاخر بالأنساب ووجوب التعارف للتعاون.

١٠ ـ لا شرف ولا كرم إلا بشرف التقوى وكرامتها (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) وفي الحديث [لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى] رواه الطبراني.

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

شرح الكلمات :

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) : هم نفر من بني أسد قدموا على الرسول وقالوا له آمنا وهم غير مؤمنين.

(قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) : أي قل لهم إنكم ما آمنتم بعد ولكن قولوا أسلمنا أي استسلمنا وانقدنا.

(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) : أي ولما يدخل الإيمان بعد في قلوبكم ولكنه يتوقع له الدخول.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي في الإيمان والقيام بالفرائض واجتناب المحارم.

(لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً) : أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا.

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي غفور للمؤمنين رحيم بهم إن هم صدقوا في إيمانهم.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) : أي حقا وصدقا لا ادعاء ونطقاهم.

(الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي بالله ربا وإلها وبالرسول محمد نبيا ورسولا.

(ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) : أي لم يشكوا فيما آمنوا به.

(وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي جاهدوا مع رسول الله أعداء الله وهم الكافرون بأموالهم وأنفسهم.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) : أي في إيمانهم لا الذين قالوا آمنا بألسنتهم واستسلموا ظاهرا ولم يسلموا باطنا.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) : أي قل لهم يا رسولنا أي لهؤلاء الأعراب أتشعرون الله بدينكم.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) : أي كونهم أسلموا بدون قتال وغيرهم أسلم بعد قتال.

(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) : أي لا حق لكم في ذلك بل الحق لله الذي هداكم للإيمان إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم مؤمنون.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ان الله يعلم ما غاب في السموات وما غاب في الأرض فلا يخفى عليه أمر من صدق في إيمانه وأمر من كذب ، ومن أسلم رغبة ومن أسلم رهبة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) (١) هؤلاء جماعة من أعراب بني أسد وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) هذه الآية نزلت في أعراب بني أسد ، وليست عامة في كل الأعراب لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كبعض أعراب أسلم وغفار وجهينة ومزينة.

بالمدينة بأولادهم ونسائهم في سنة مجدبة فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في نفوسهم ، فكانوا يغدون على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويروحون ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال والذرارى ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله وهم يريدون الصدقة ويقولون أعطنا فأنزل الله تعالى هذه الآية تربية لهم وتعليما إتماما لما اشتملت عليه سورة الحجرات من أنواع الهداية والتربية الإسلامية فقال تعالى (قالَتِ الْأَعْرابُ) أعراب بني أسد آمنا أي صدّقنا بتوحيد الله وبنبوتك. قل لهم ردا عليهم لم تؤمنوا بعد ، ولكن الصواب أن تقولوا أسلمنا أي أذعنا للإسلام وانقدنا لقبوله وهو الإسلام الظاهري ، (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) بعد وسيدخل إن شاء الله. (وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أيها الأعراب في الإيمان الحق وفي غيره من سائر التكاليف (لا يَلِتْكُمْ) (١) أي لا ينقصكم الله تعالى من أجور أعمالكم الصالحة التي تعملونها طاعة لله ورسوله شيئا وإن قل. وقوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذه الجملة ترغيب لهم في الإيمان الصادق والإسلام الصحيح فأعلمهم أن الله تعالى غفور للتائبين رحيم بهم وبالمؤمنين فتوبوا إليه واصدقوه يغفر لكم ويرحمكم وقوله تعالى في الآية (١٥) إنما المؤمنون الآية يعرفهم تعالى بالإيمان الصحيح دعوة منه لهم لعلهم يؤمنون فقال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) (٢) أي حقا وصدقا الذين آمنوا بالله ربّا وإلها ورسوله نبيا مطاعا ، (ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا) ، أي لم يشكوا ابدا في صحة ما آمنوا به ، وجاهدوا أي أنفسهم فألزموها الاستعداد للنهوض بالتكاليف الشرعية في المنشط والمكره ، كما (جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أعداء الإسلام من المشركين والكافرين وذلك الجهاد بالنفس والمال لا هدف له إلا طلب رضا الله سبحانه وتعالى أي لم يكن لأي غرض مادي دنيوي وإنما لرضا الله ولإعلاء كلمة الله هؤلاء (هُمُ الصَّادِقُونَ) في دعوى الإيمان وقوله تعالى في الآية (١٦) (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي قل يا رسولنا لأولئك الأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم أتعلّمون الله بدينكم أي بإيمانكم وطاعتكم وتشعرونه بهما والحال أن الله (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) إنه لا معنى لتعليمكم الله بدينكم وهو يعلم ما في السموات وما في الأرض وهو بكل شيء عليم إنه مظهر من مظاهر جهلكم بالله تعالى ، إذ لو علمتم انه يعلم ما في السموات وما في الأرض من دقيق

__________________

(١) (لا يَلِتْكُمْ) أي لا ينقصكم يقال : لاته يليته ، ويلوته إذا نقصه وقرأ أبو عمرو لا يألتكم مهموزا من ألت يألت ألتا نحو قوله تعالى : (وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) وشاهد الأول :

وليلة ذات ندى سريت

ولم يلتني عن سراها ليت

(٢) لما نزلت هذه الآية : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) حلف الأعراب أنهم مؤمنون في السر والعلانية فأكذبهم الله تعالى في دعواهم الكاذبة فأنزل عزوجل (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) أي : الذي أنتم عليه؟

وجليل لما فهتم بما فهتم به من إشعاركم الله بإيمانكم وطاعتكم له. وقوله تعالى في الآية (١٧) (١) (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) (٢) أي يمّن أولئك الأعراب عليك يا رسولنا إيمانهم إذ قالوا آمنا بك ولم نقاتلك كما فعل غيرنا قل لهم (لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) واضرب عن هذا وقل لهم (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم الإيمان ، فالمنة لله عليكم لا أن تمنوا أنتم على رسوله. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ (٣) السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما غاب في السموات وما غاب في الأرض من سانح في السماء وسابح في الماء وسارح في الغبراء فليس في حاجة أن تعلموه بدينكم وتمنونه على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) من عمل قلّ أو كثر خفيّ أو ظهر فاعلموا هذا وتأدبوا مع الله وأحسنوا الظن فيه تنجو من هلاك لازم لمن أساء الظن بالله وأساء الأدب مع رسول الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان طبيعة أهل البادية وهي الغلظة والجفاء والبعد عن الكياسة والأدب.

٢ ـ بيان الفرق بين الإيمان والإسلام إذا اجتمعا فالإيمان من أعمال القلوب والإسلام من أعمال الجوارح. وإذا افترقا فالإيمان هو الإسلام ، والإسلام هو الإيمان والحقيقة هي أنه لا يوجد إيمان صحيح بدون إسلام صحيح ، ولا إسلام صحيح بدون إيمان صحيح ، ولكن يوجد اسلام صوري بدون إيمان ، وتوجد دعوى إيمان كاذبة غير صادقة.

٣ ـ بيان المؤمنين حقا وهم الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم.

٤ ـ بيان حكم المنّ وأنه مذموم من الإنسان ومحمود من الرحمن عزوجل وحقيقة المن هي عد النعمة وذكرها للمنعم عليه وتعدادها المرة بعد المرة.

٥ ـ بيان إحاطة علم الله بسائر المخلوقات ، وأنه لا يخفى عليه من أعمال العباد شيء.

__________________

(١) (يَمُنُّونَ) إشارة إلى قولهم جئناك بالأثقال والعيال كما تقدم في التفسير.

(٢) (أَنْ أَسْلَمُوا) حرف الجر محذوف الأصل ، بأن أسلموا أي : إسلامهم.

(٣) ذيل الكلام بهذه الجملة (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ) الخ ليعلموا أن الله لا يكتم وأنه لا يكذب عليه لعلمه بالغيوب كلها ، وفي هذا تقويم لأخلاقهم وتربية وتأديب لهم.

سورة ق (١)

مكية

وآياتها خمس وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤))

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥))

شرح الكلمات :

(ق) : هذا أحد الحروف المقطعة التي تكتب هكذا ق وتقرأ هكذا قاف.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) : أي والقرآن المجيد أي الكريم قسمي لقد أرسلنا محمدا مبلغا عنا.

(بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) : أي بل عجب أهل مكة من مجيء منذر أي رسول منهم ينذرهم عذاب الله يوم القيامة.

(فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) : أي فقال المكذبون بالبعث هذا أي البعث بعد الموت والبلى شيء عجيب.

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) : أئذا متنا وصرنا ترابا أي رفاة وعظاما نخرة نرجع أحياء.

(ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) : أي بعيد الإمكان في غاية البعد.

(قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) : أي قد أحاط علمنا بكل شيء فعلمنا ما تنقص الأرض من

__________________

(١) صح في الموطأ وفي مسلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بهذه السورة في صلاة الصبح وفي عيدي الأضحى والفطر أيضا مع سورة القمر.

أجساد الموتى وما تأكل من لحومهم وعظامهم فكيف يستبعد منا إحياؤهم بعد موتهم.

(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) : أي كتاب المقادير الذي قد كتب فيه كل شيء ومن بين ذلك أعداد الموتى وأسماؤهم وصورهم وأجسامهم ويوم إعادتهم.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) : بل كذب المشركون بما هو أقبح من تكذيبهم بالبعث وهو تكذيبهم بالنبوة المحمدية وبالقرآن ومن نزل عليه.

(فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) : أي مختلط عليهم فهم فيه مضطربون لا يثبتون على شيء إذ قالوا مرة سحر ومرة قالوا شعر ومرة كهانة وأخرى أساطير.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ق) الله أعلم بمراده به إذ هو من الحروف المقطعة الآحادية نحو ص. ون وقوله تعالى (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (١) أي الكريم فالقرآن مجيد كريم لما فيه من الخير والبركة إذ قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات. وقوله والقرآن المجيد قسم والجواب محذوف تقديره إن محمدا لرسول أمين. وقوله تعالى (بَلْ عَجِبُوا (٢) أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) أي إنهم لم يستنكروا أصل الإرسال إليهم وإنما أنكروا كون المرسل بشرا مثلهم ينذرهم عذاب يوم القيامة وهم لا يؤمنون بالبعث الآخر فلذا قالوا ما أخبر تعالى به عنهم وقوله (فَقالَ الْكافِرُونَ) أي بالبعث (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ)

أي أمر يدعو إلى التعجب إذ من مات وصار ترابا لا يعقل أن يبعث مرة أخرى فيسأل ويحاسب ويجزي وقد أفصحوا عن معتقدهم بقولهم (أَإِذا (٣) مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) ذلك الرجوع إلى الحياة رجوع بعيد التحقيق. قال تعالى (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ (٤) الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ (٥) حَفِيظٌ) هذه برهنة واضحة على إبطال دعواهم وتحقيق عقيدة البعث أي قد علمنا ما تنقص الأرض منهم بعد الموت من لحم وعظم ، (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) قد حوى كل شيء وحفظه مادة وكميّة وكيفية بمقتضاه يعود

__________________

(١) (الْمَجِيدِ) : المتصف بقوة المجد ، والمجد والمجادة : الشرف الكامل ، وكرم النوع ولذا فالقرآن يفوق في مجده كلّ كلام على الاطلاق حتى الكلام الموحى به إلى رسل الله عليهم‌السلام.

(٢) (بَلْ) للاضراب الانتقالي ، وهو انتقال من تقرير النبوة المحمدية التي أثبتها بالقسم إلى تقرير عقيدة البعث والجزاء إذ أورد قول الكافرين المنكرين لها ثم أثبتها بالأدلة القاطعة من عدة آيات كأنما قال : دع ذا واسمع ما أقول. و (أَنْ جاءَهُمْ) مجرور بمن محذوفة أي من أن جاء وبعد السبك من مجيئهم.

(٣) الاستفهام للإبطال والتعجيب والمتعجب منه محذوف تقديره أنرجع إلى الحياة بعد انعدامنا بالموت وصيرورتنا ترابا؟

(٤) قوله (ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ) إشارة إلى أن هناك أجسادا لا تبيد كلها بل يبقى أبعاضها ، وإلى أن عجب الذنب لا يفنى ولا يبيد بل يبقى كما هو ليعاد الخلق به يوم القيامة.

(٥) التنكير في (كِتابٌ) للتعظيم ويدل عليه قوله (حَفِيظٌ).

الخلق كما بدأ لا ينقص منه شيء وقوله ، (بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) أي إن هناك ما هو أشنع من إنكارهم وأقبح عقلا وهو تكذيبهم بالقرآن ومن أنزل عليه وهو الحق من الله فلذا هم فيه في أمر مريج أي مختلط فمرة قالوا في الرسول إنه ساحر وقالوا شاعر وقالوا مفتر كذاب وقالوا في القرآن أساطير الأولين فهم حقا (فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) مختلط عليهم لا يدرون ما يقولون ويثبتون عليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شرف القرآن ومجده وكرمه.

٢ ـ تقرير البعث والوحي الإلهي.

٣ ـ البرهنة الصحيحة الواضحة على صحة البعث والجزاء وإمكانهما.

٤ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر بتقرير كتاب المقادير.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

شرح الكلمات :

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) : أي أعموا فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى السماء كائنة فوقهم فيعلموا أن استبعادهم للبعث غير صحيح.

(كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها) : أي كيف بنيناها بلا عمد. وزيناها بالكواكب.

(وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) : أي وليس لها من شقوق تعيبها.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) (١) : أي بسطناها

__________________

(١) (الْأَرْضَ) منصوب على الاشتغال أي : مددنا الأرض مددناها.

(وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) : أي جبالا رواسي ثوابت لا تسير ولا تتحرك مثبتة للأرض كي لا تميد بأهلها.

(وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (١) : أي وأنبتنا في الأرض من كل صنف من أنواع النباتات حسن.

(تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) : أي جعلنا ذلك تبصرة وذكرى منا لكل عبد منيب إلى طاعتنا رجاع إلينا.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) : أي ماء المطر كثير البركة.

(فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) : أي أنبتنا بماء السماء بساتين وحب الحصيد أي المحصود من البر والشعير.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) (٢) : أي وأنبتنا بالماء النخيل الطوال العاليات.

(لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) : أي لها طلع منضد متراكب بعضه فوق بعض.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) : أي أنبتنا ما أنبتنا من الجنات والحب الحصيد والنخل الباسقات قوتا للعباد ورزقا لهم مؤمنهم وكافرهم.

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) : وأحيينا بذلك الماء الذي أنزلناه بلدة ميتا لا نبات فيها من الجدب الذي أصابها والقحط.

(كَذلِكَ الْخُرُوجُ) : أي كما أخرجنا النبات من الأرض الميتة بالماء نخرجكم أحياء من قبوركم يوم القيامة بماء ننزله من السماء على الأرض فتنبتون كما ينبت البقل.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث وهي العقيدة التي بني عليها كل إصلاح يراد للإنسان بعد عقيدة الإيمان بالله تعالى ربّا وإلها قال تعالى (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا (٣) إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ (٤) بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي أعمي أولئك المنكرون للبعث المكذبون بلقاء ربهم يوم القيامة فلم ينظروا بعيونهم معتبرين بعقولهم إلى حجم السماء الواسع العالي الرفيع الكائن فوقهم وقد رفع بلا عمد ولا سند. وقد زيّنه خالقه بكواكب نيّرة وأقمار منيرة وشموس مضيئة ولم ير في السماء

__________________

(١) (مِنْ) ليست للتبعيض بل هي للتأكيد إلا أن زيادتها مع الإثبات نادرة كما هي هنا.

(٢) لا يقال للطويل : باسق إلا إذا كان طوله في علو وارتفاع أما ما يكون طوله في امتداد وانبساط فلا يقال له باسق.

(٣) الاستفهام للإنكار عليهم عدم النظر لتقرر به عقيدة البعث والجزاء ، والفاء تفريعية على إنكارهم السابق للبعث الآخر.

(٤) (فَوْقَهُمْ) ظرف في محلّ الحال ، وأطلق البناء على خلق العلويات بجامع الارتفاع والاستمساك وعدم السقوط والانهيار.

من تصدع ولا شقوق (١) ولا تفطر الحياة كلها أليس القادر على خلق السماء قادر على إحياء موتى خلقهم وأماتهم بقدرته أليس القادر على الخلق ابتداء وعلى الإماتة ثانية بقادر على إحياء من خلق وأمات (٢)؟ وقوله (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي مالهم لا ينظرون إلى الأرض أي بسطها وألقى فيها الجبال لتثبيتها حتى لا تميد بهم ، وقوله (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) أي صنف من النباتات والزروع بهيج المنظر حسنه ، وقوله (تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) وقوله (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ) (٣) أي أليس الذي أنزل من السماء ماء مباركا لما يكثر به من الخيرات والبركات من النبات والحيوان فأنبت به جنّات أي بساتين من أشجار ونخيل وأعناب ، وأنبت به حب الحصيد وهو كل حب يحصد عند طيبه من قمح وشعير وذرة وغيرها وأنبت به النخل الباسقات العاليات المرتفعات في السماء لها طلعها النضيد المتراكب بعضه فوق بعض ليتحول إلى رطب شهي يأكله الإنسان وقوله رزقا للعباد أي قوتا لهم يقتاتون به مؤمنين وكافرين إلّا أن المؤمن إذا أكل شكر والكافر إذا أكل كفر ، وقوله (وَأَحْيَيْنا بِهِ) أي بالماء الذي أنزلناه من السماء مباركا بلدة ميتا لا نبات بها ولا عشب ولا كلأ فأصبحت تهتز رابية كذلك الخروج أي هكذا يكون خروجكم من قبوركم أيها المنكرون للبعث ينزل الله من السماء ماء فتنبتون وتخرجون من قبوركم كما يخرج الشجر والزرع من الأرض بواسطة الماء المبارك فبأي عقل تنكرون البعث أيها المنكرون. إنها كما قال تعالى (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث بمظاهر القدرة الإلهية في الكون.

٢ ـ مشروعية النظر والاعتبار فيما يحيط بالإنسان من مظاهر الكون والحياة للعبرة طلبا لزيادة الإيمان والوصول به إلى مستوى اليقين.

٣ ـ فضل العبد المنيب وفضيلة الإنابة إلى الله تعالى والمنيب هو الذي يرجع إلى ربه في كل ما يهمه والإنابة التوبة إلى الله والرجوع إلى طاعته بعد معصيته.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ

__________________

(١) من آيات القدرة والعلم الإلهيين : كون السماء على شكل قبة مرفوعة في قالب لا تشقق فيها ولا تصدع مزينة بأنواع النجوم والكواكب.

(٢) بلى إنه لقادر بلا مرية ولا شك.

(٣) (رِزْقاً) منصوب على أنه مفعول لأجله.

لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) : أي قبل قومك يا رسولنا بالبعث والتوحيد والنبوة قوم نوح.

(وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ) : أي وكذب أصحاب الرس وهي بئر كانوا مقيمين حولها يعبدون الأصنام وثمود وهم أصحاب الحجر قوم صالح.

(وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) : وكذبت عاد قوم هود ، وكذب فرعون موسى عليه‌السلام.

(وَإِخْوانُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : أي وكذب قوم لوط أخاهم لوطا ، وكذب أصحاب الأيكة شعيبا.

(وَقَوْمُ تُبَّعٍ) : أي وكذب قوم تبع الحميري اليمني.

كل قد كذب الرسل : أي كل من ذكر قد كذب الرسل فلست وحدك المكذّب يا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فَحَقَّ وَعِيدِ) : أي فوجب وعيدي لهم بنزول العذاب عليهم فنزل فهلكوا.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) (١) : أي أفعيينا بخلق الناس أولا والجواب لا إذا فكيف نعيى بخلقهم ثانية وإعادتهم كما كانوا؟.

(بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي هم غير منكرين لقدرة الله عن الخلق الأول بل هم في خلط وشك من خلق جديد لما فيه من مخالفة العادة وهي أن كل من مات منهم يرونه يفنى ولا يعود حيّا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء وإثبات النبوة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (كَذَّبَتْ) (٢) (قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش المكذبين بالبعث والجزاء وبالنبوة المحمدية كذبت قبلهم (قَوْمُ نُوحٍ) وهي أول أمة كذبت وعاش نوح نبيها ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوها إلى الله فلم يؤمن منهم أكثر من نيف وثمانين نسمة ، (وَأَصْحابُ الرَّسِ) أيضا قد أخذوا نبيهم ورسوه في بئر فقتلوه فأهلكهم الله

__________________

(١) أي : (أَفَعَيِينا) به فنعي بالبعث وهو توبيخ لمنكري البعث وجواب على قولهم ذلك رجع بعيد يقال : عييت بالأمر : إذا لم تعرف وجهه هذا في المعاني أما في الذوات فعيي بمعنى عجز ولم يقدر عليه.

(٢) هذا استئناف ابتدائي الغرض منه تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلامه أن أمما كثيرة قد كذبت رسلها قبل تكذيب قومه له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

تعالى في بئر كانوا يقيمون على أصنام حولها يعبدونها فأهلكهم في تلك البئر وأهلك ثمودا وهم قوم صالح ، وعادا وهم قود هود وفرعون موسى وقوم لوط (١) ، (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) أي الشجر الملتف إذ كانوا يعبدون أشجار تلك الأيكة ، (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) وهو تبع الحميري اليمني. وقوله تعالى (كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي كل تلك الأمم التي ذكرنا كذبوا الرسل ولم يؤمنوا بهم ولا بما جاءوهم به من التوحيد والشرع (فَحَقَّ وَعِيدِ) (٢) أي فوجب لذلك عذابهم الذي واعدتهم به على ألسنة رسلي إن لم يؤمنوا فأهلكناهم أجمعين وقومك يا محمد هم موعودون أيضا بالعذاب إن لم يبادروا بالإيمان والطاعة. وقوله تعالى (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ (٣) الْأَوَّلِ) والجواب لا إذ الاستفهام للنفي أي لم يعي الله تعالى بخلق كل ما خلق من الملائكة والإنس والجن فكيف إذا يعيى بالإعادة وهي أهون من البدء والبداية ، وقوله تعالى (بَلْ هُمْ) (٤) (فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي انهم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول بل هم في لبس أي خلط وشك من خلق جديد لما فيه من مخالفة العادة حيث هم يرون الناس يموتون ولا يحيون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تعزية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته بإعلامه بأن قومه ليسوا أول من كذب الرسل.

٢ ـ تهديد المصرين على التكذيب من كفار قريش بالعذاب إذ ليسوا بأفضل من غيرهم وقد أهلكوا لما كذبوا.

٣ ـ تقرير البعث والجزاء وإثبات عقيدتهما بالأدلة العقلية كبدء الخلق.

٤ ـ ضعف إدراك المنكرين للبعث لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ

__________________

(١) قوله تعالى : (وَإِخْوانُ لُوطٍ) عبر بالإخوان دون القوم تنويع للأسلوب والمراد بهم قوم لوط ، والأخوة هنا أخوة تلازم ومواطنة وما هي بأخوة دين ولا نسب وأصحاب الأيكة : هم قوم شعيب عليه‌السلام.

(٢) أي : صدق وعده فيهم ووجب وقوعه عليهم.

(٣) الاستفهام للإنكار والتغليظ إذ لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله تعالى الذي خلق كل شيء في الأرض والسماء ومن جملة ذلك خلقهم هم المنكرون للبعث فكيف يعجز عن إعادة خلقهم مرة أخرى للجزاء والحساب.

(٤) (بَلْ) للإضراب الإبطالي أي : ما عيينا بالخلق الأول.

(١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : أي خلقناه بقدرتنا وعلمنا لحكمة (١) اقتضت خلقه فلم نخلقه عبثا.

(وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) : أي ونعلم ما تحدث به نفسه أي نعلم ما في نفسه من خواطر وإرادات.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) : أي نحن بقدرتنا على الأخذ منه والعطاء والعلم بما يسر ويظهر أقرب إليه من حبل الوريد الذي هو في حلقه.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) : أي نحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عمله فيكتبانه.

(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (٢) : أي أحدهما عن يمينه قعيد والثاني عن شماله قعيد أيضا.

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) : أي ما يقول من قول.

(إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) : أي إلا عنده ملك رقيب حافظ عتيد حاضر معد للكتابة.

(وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) : أي غمرة الموت وشدته بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر لها عيانا.

(ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) : أي ذلك الموت الذي كنت تهرب منه وتفزع.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) : أي ونفخ إسرافيل في الصور الذي هو القرن ذلك يوم الوعيد للكفار بالعذاب.

(مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) : أي معها سائق يسوقها إلى المحشر وشهيد يشهد عليها.

__________________

(١) هذه الحكمة هي ذكره تعالى وشكره بأنواع العبادات لقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وسائر المخلوقات هي لأجل الناس فعاد الأمر إلى أن المخلوقات كلها مخلوقة لعلة العبادة.

(٢) القعيد بمعنى المقاعد كالجليس بمعنى المجالس.

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) : أي من هذا العذاب النازل بك الآن.

(فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) : أي أزلنا عنك غفلتك بما تشاهده اليوم.

(فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) : أي حاد تدرك به ما كنت تنكره في الدنيا من البعث والجزاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) حسب سنتنا في الخلق خلقناه بقدرتنا وعلمنا لحكمة (١) اقتضت خلقه منا ولم نخلقه عبثا ونحن (نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي ما تتحدث به نفسه من إرادات أو خواطر ، ونحن أي ربّ العزة والجلال (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٢) فلو أردنا أن نأخذ منه أو نعطيه أو نسمع منه أو نعلم به لكنا على ذلك قادرين وقربنا في ذلك منه أقرب من حبل عنقه إلى نفسه وذلك في الوقت الذي يتلقى فيه الملكان (الْمُتَلَقِّيانِ) سائر أقواله وأعماله يثبتانها ويحفظانها وقوله (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي أحد الملكين وهما المتلقيان عن يمينه قاعد والثاني عن شماله قاعد هذا يكتب الحسنات وذاك يكتب السيئات.

ولفظ قعيد معناه قاعد كجليس بمعنى مجالس أو جالس ، وقوله تعالى (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي ما يقول الإنسان (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) أي إلا عنده ملك رقيب حافظ ، وعتيد حاضر لا يفارقانه مدى الحياة إلا أنهما يتناوبان ملكان بالنهار وملكان بالليل ويجتمعون في صلاتي الصبح والعصر وقوله تعالى (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ (٣) بِالْحَقِ) أي وإن طال العمر فلا بد من الموت وها هي ذي قد جاءت سكرة الموت أي غمرته وشدته بالحق من أمر الآخرة حتى يراه المنكر للبعث والدار الآخرة المكذب به يراه عيانا. (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي يقال له هذا الموت الذي كنت منه تحيد أي تهرب وتفزع. وقوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي نفخ اسرافيل في الصور أي القرن الذي قد التقمه وجعله في فيه من يوم بعث النبي الخاتم نبيّ آخر الزمان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو ينتظر متى يؤمر فينفخ نفخة الفناء ذلك أي يوم ينفخ في الصور هو (يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٤) بالعذاب للكافرين ، وفعلا نفخ في الصور نفخة البعث بعد نفخة الفناء (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي ملك يسوقها إلى

__________________

(١) تقدم بيان الحكمة للخلق تحت رقم واحد من هذا السياق في شرح الكلمات.

(٢) الوريد : واحد الشرايين ، وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدميهما متصلان بالوتين يردان من الرأس إليه ، والحبل : العرق والجمع عروق ويختلف أسمه باختلاف موضعه من الجسم.

(٣) السكرة : اسم لما يعتري الإنسان من ألم واختلال في المزاج يحد من إدراك العقل فيختل الإدراك ويعتري العقل غيبوية وهو مشتق من السكر وهو الغلق لأنه يغلق العقل ، ومنه جاء وصف السكران.

(٤) يوم وعيد للكافرين ويوم وعد صادق للمؤمنين ، ولما كان السياق في دعوة الكافرين إلى الإيمان ذكر الوعيد دون الوعد.

المحشر وملك شاهد يشهد عليها. ويقال لذلك الذي جاء به سائق يسوقه وشاهد يشهد عليه (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) أي كنت في الدنيا في غفلة عن الآخرة وما فيها وغفلتك من شهواتك ولذّاتك وغرورك بالحياة الدنيا من هذا العذاب النازل بك الآن (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) أي أزلنا عنك غفلتك بما تشاهده اليوم عيانا بيانا من ألوان العذاب (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) أي حاد تدرك به وتبصر ما كنت تكفر به في الدنيا وتنكره.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قدرة الله وعلمه وأنه أقرب إلى الإنسان من حبل وريده ألا فليتق الله امرؤ.

٢ ـ تقرير عقيدة أن لكل إنسان مكلف ملكين يكتبان حسناته وسيئاته.

٣ ـ بيان أن للموت سكرات قطعا اللهم هون علينا سكرات الموت.

٤ ـ ساعة الاحتضار يؤمن كل إنسان بالدار الآخرة إذ يرى ما كان ينكره يراه بعينه.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض بعض أحوال وأهوال الآخرة.

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) (١) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠))

شرح الكلمات :

(وَقالَ قَرِينُهُ) : أي الملك الموكل به.

(هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) : أي هذا عمله حاضر لديّ.

__________________

(١) قرأ نافع : يوم يقول بالياء ، وقرأ حفص (نَقُولُ) بالنون.

(كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) : أي كثير الكفر والجحود لتوحيد الله وللقائه ولرسوله معاند كثير العناد.

(مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) : أي مناع للحقوق والواجبات من المال وغيره.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : أي أشرك بالله فجعل معه آلهة أخرى يعبدها.

(رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ) : أي يقول قرينه من الشياطين يا ربنا ما أطغيته أي ما حملته على الطغيان.

(وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) : أي ولكن الرجل كان في ضلال بعيد عن كل هدى متوغلا في الشرك والشر.

(وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) : أي قدمت إليكم وعيدي بالعذاب في كتبي وعلى لسان رسلي.

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) : أي ما يغير القول عندي وهو قوله لأملأن جهنم منكم أجمعين.

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ) : أي وما الله بظلام للعبيد يوم يقول لجهنم هل امتلأت.

(وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) : أي لم أمتليء هل من زيادة فيضع الجبار عليها قدمه فتقول قط قط.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مشاهد القيامة وأحوال الناس فيها فقال تعالى (وَقالَ قَرِينُهُ) (١) أي قال قرين (٢) ذلك الكافر الذي جيئ به إلى ساحة فصل القضاء ومعه سائق يسوقه وشهيد يشهد عليه. قال قرينه وهو الملك الموكل به (هذا ما لَدَيَ) أي من أعمال هذا الرجل الذي وكلت بحفظ أعماله وكتابتها (عَتِيدٌ) أي حاضر. وهنا يقال لمن استحق النار (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) وهو خطاب لمن (٣) جاءا به وهما السائق والشهيد (كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ) فهذه خمس صفات قد اجتمعت في شخص واحد فأوبقته الأولى (كَفَّارٍ) أي كثير الكفر الذي هو الجحود لما يجب الإيمان به والتصديق من سائر أركان الإيمان الستة ، والثانية عنيد والعنيد التارك لكل ما وجب عليه المعاند في الحق المعاكس في المعروف وهي شر صفة ، الثالثة مناع للخير أي كثير المنع للخير مالا كان أو غيره لا يبذل معروفا قط ، الرابعة معتد أي على حدود

__________________

(١) الواو واو الحال ، والجملة حالية ، وصاحب الحال تاء الخطاب في قوله تعالى (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) والقرين ، بمعنى مقرون وهو مأخوذ من القرن بفتح القاف والراء وهو الحبل إذ كانوا يقرنون البعير بمثله بحبل سموه القرن.

(٢) اختلف في تحديد القرين على ثلاثة أقوال وما ذكر في التفسير هو أرجحها.

(٣) وجائز أن يكون خطابا لواحد بصيغة التثنية على حد قول الشاعر : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.

الشرع معتد على الناس ظالم لهم بأكل حقوقهم وأذيتهم في أعراضهم وأموالهم وأبدانهم الخامسة مريب أي شاك لا يعرف التصديق بشيء من أمور الدين فهو جامع لكل أنواع الكفر وقوله (الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً) وهذا وصف سادس وهو أسوأ تلك الصفات وهو اتخاذه إلها آخر يعبده دون الله تعالى وقوله تعالى (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) هذا أمر آخر أكد به الأمر الأول وهو ألقيا في جهنم كل كفار عنيد. وقوله تعالى (قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) قال هذا القول القرين لما قال المشرك معتذرا ربّ إن قريني من الشياطين أطغاني فرد عليه القرين بما أخبر تعالى به عنه في قوله قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد فقال الرب تعالى (لا تَخْتَصِمُوا (١) لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) فرد الله حجة كل من الكافر والقرين من الشياطين وأعلمهما أنه قد قدم إليهما بالوعيد في كتبه وعلى ألسن رسله من كفر بالله وأشرك به وعصى رسله فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا. وقوله تعالى (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أخبر (٢) تعالى أن حكمه نافذ فيمن كفر به وعصى رسله إذ سبق قوله لإبليس عند ما أخرج آدم من الجنة بوسواسه وهو لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين. فهذا القول الإلهي لا يبدل ولا يقدر أحد على تبديله وتغييره وقوله (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) نفى تعالى الظلم عن نفسه والظلم هو أن يعذب مطيعا ، أو يدخل الجنة كافرا عاصيا. وقوله تعالى (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي اذكر يا نبينا لقومك المنهمكين في الشرك والمعاصي ما ينتظر أمثالهم من عذاب جهنم اذكر لهم يوم نقول لجهنم هل امتلأت فتقول هل من مزيد بعدما يدخل فيها كل كافر وكافرة من الإنس والجن وتقول طالبة الزيادة هل من مزيد؟ ولما لم يبق أحد يستحق عذاب النار يضع الجبار فيها قدمه فينزوي بعضها في بعض وتقول قط قط والحديث معناه في الصحيحين وغيرهما.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ التحذير من الصفات الست التي جاءت في الآية وهي الكفر والعناد ومنع الخير والاعتداء

__________________

(١) النهي عن المخاصمة دال على أن النفوس الكافرة ادعت أن قرناءها أطغوها ، وأن القرناء تنصلوا من ذلك ، وأن النفوس أعادت القول فكانت بذلك خصومة فأسكتهم الحق عزوجل بقوله : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ).

(٢) المبالغة في وصف (بِظَلَّامٍ) راجعة إلى تأكيد النفي المطلق إذ المراد لا أظلم شيئا من الظلم ، وليس المعنى ما أنا بكثير الظلم أو شديده إذ الأمر في أمثلة المبالغة أن يقصد بها المبالغة في النفي. قال طرفة :

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

إذ لم يرد نفي كثرة حلوله التلاع وإنما أراد كثرة النفي إذ هو لم يحل في تلعة بالمرة جبنا وخوفا.

والشك والشرك.

٣ ـ بيان خصومة أهل النار من إنسان وشيطان.

٤ ـ نفي الظلم عن الله تعالى وهو كذلك فلا يظلم الله أحدا من خلقه.

٥ ـ إثبات (١) صفة القدم للربّ تعالى كما يليق هذا الوصف بذاته التي لا تشبه الذوات سبحانه وتعالى عن صفات المحدثين من خلقه.

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

شرح الكلمات :

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) : أي قرّبت الجنة للمتقين الذين اتقوا الشرك والمعاصي.

(غَيْرَ بَعِيدٍ) (٢) : أي مكانا غير بعيد منهم بحيث يرونها.

(لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) : أي رجاع إلى طاعة الله كلما ترك طاعة عاد إليها حافظ لحدود الله.

(مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) : أي خاف الله تعالى فلم يعصه وإن عصاه تاب إليه وهو لم يره.

(وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) : أي مقبل على طاعته تعالى.

(ادْخُلُوها بِسَلامٍ) : أي ويقال لهم وهم المتقون أدخلوها أي الجنة بسلام أي مع سلام وحال كونكم سالمين من كل مخوف.

(وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) : أي مزيد من الانعام والتكريم في الجنة وهو النظر إلى وجه الله الكريم.

__________________

(١) أخرج مسلم في صحيحه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض ، وتقول قط قط بعزتك وكرمك ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشء الله لها خلقا فيسكنهم فضل الجنة) نزع هنا بعض أهل العلم كالقرطبي إلى تأويل القدم ففسرها بما يقدم للنار من أقوام وأولوا كذلك لفظ الرجل في حديث (حتى يضع الله عليها رجله) وقالوا الرجل بمعنى العدد الكثير من الناس كالرجل من الجراد ، ولا داعي لهذا التأويل الذي لم يؤوله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يحدث به أصحابه فالأسلم للمؤمن أن يؤمن بصفات الله ويمرها كما جاءت فالقدم ، والرجل كاليد والعين صفات ذات لله يؤمن العبد بها وهو يعتقد أنها لا تشبه صفات العباد وهي كذلك والحمد لله.

(٢) (غَيْرَ بَعِيدٍ) نعت لمحذوف تقديره مكانا غير بعيد من المتقين والإزلاف التقريب.

معنى الآيات :

ما زال السياق في تقرير البعث والجزاء بذكر بعض مظاهره قال تعالى بعد ما ذكر ما لأهل النار من عذاب (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي (١) أدنيت وقربت (لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) وهم الذين اتقوا الله تعالى بترك الشرك والمعاصي فلا تركوا فريضة ولا غشوا كبيرة. (٢) وقوله تعالى (هذا ما تُوعَدُونَ) أي يقال لهم هذا ما توعدون أي من النعيم المقيم ، (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أي رجاع إلى طاعة الله تعالى حفيظ أي حافظ لحدود الله. حفيظ أيضا لذنوبه لا ينساها كلما ذكرها استغفر الله تعالى منها. وقوله (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) هذا بيان للأواب الحفيظ وهو من خاف الرحمن تعالى بالغيب أي وهو غائب عنه لا يراه ولم يعصه بترك واجب ولا بفعل حرام ، وقوله (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) (٣) أي إلى ربه أي مقبل على طاعته بذكر الله فلا ينساه ويطيعه فلا يعصيه ، وقوله تعالى (ادْخُلُوها) أي يقال لهم أي للمتقين ادخلوها أي الجنة (٤) (بِسَلامٍ) أي مسلما عليكم وسالمين من كل مخوف كالموت والمرض والألم والحزن و (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) أي في الجنة وفي النار فأهل الجنة خالدون فيها وأهل النار خالدون (٥) فيها وقوله (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) أي لأهل الجنة ما يشاءون أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذه أعينهم وقوله (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) أي وعندنا لكم مزيد من النعيم وهو النظر إلى وجهه الكريم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل التقوى وكرامة المتقين على ربّ العالمين.

٢ ـ فضل الأواب الحفيظ وهو الذي كلما ذكر ذنبه استغفر ربّه.

٣ ـ بيان أكبر نعيم في الجنة وهو رضا الله والنظر إلى وجهه الكريم.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ

__________________

(١) عطف على (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ).

(٢) أو تركوا وغشوا ولكن تابوا وصحت توبتهم فقبلت منهم فهم كمن لم يترك فريضة ولم يغش كبيرة إذ التوبة تجب ما قبلها ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

(٣) أي : حضر يوم القيامة مصاحبا قلبه المنيب إلى الله ، وفي الحديث : (من مات على شيء بعث عليه) فهذا العبد عاش ومات على قلب منيب فبعثه به شاهد عليه بالإنابة إلى ربه.

(٤) هذا كقوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).

(٥) هذا المطلق من الأخبار مقيد قطعا بمن مات على الشرك والكفر أما من مات على الإيمان والتوحيد فإنه لا يخلد في النار بل يخرج منها إلى الجنة ومن ينكر هذا كالخوارج فقد كذب الله ورسوله ومن كذب الله ورسوله عامدا فقد كفر.

لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

شرح الكلمات :

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) : أي كثيرا من أهل القرون قبل كفار قريش أهلكناهم.

(هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) : أي أهل القرون الذين أهلكناهم قبل كفار قريش هم أشد قوة وأعظم أخذا من كفار قريش ومع هذا أهلكناهم.

(فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) : أي بحثوا وفتشوا في البلاد علّهم يجدون مهربا من الهلاك فلم يجدوا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى) : أي إن في المذكور من إهلاك الأمم القوية موعظة.

(لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) : أي الموعظة تحصل للذي له قلب حيّ وألقى سمعه يستمع.

(وَهُوَ شَهِيدٌ) : وهو شهيد أي حاضر أثناء استماعه حاضر القلب والحواس.

(وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) : أي من نصب ولا تعب.

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) : أي فاصبر يا رسولنا على ما يقوله اليهود وغيرهم من التشبيه لله والتكذيب بصفاته.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) : أي صل حامدا لربك قبل طلوع الشمس وهي صلاة الصبح.

(وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) : أي صل صلاة الظهر والعصر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) : أي صل صلاتي المغرب والعشاء.

(وَأَدْبارَ السُّجُودِ) : أي بعد أداء الفرائض فسبح بألفاظ الذكر والتسبيح.

(وَاسْتَمِعْ) : أي أيها المخاطب إلى ما أقول لك.

(يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) : أي يوم ينادي إسرافيل من مكان قريب من السماء وهو صخرة بيت المقدس فيقول أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) : أي نفخة إسرافيل الثانية وهي نفخة البعث يعلمون عاقبة تكذيبهم.

(ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) : أي من القبور.

(يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) : أي يخرجون من قبورهم مسرعين بعد تشقق القبور عنهم.

(ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) : أي ذلك حشر للناس وجمع لهم في موقف الحساب يسير سهل علينا.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) : أي من الكفر والباطل فلا تيأس لذلك سننتقم منهم.

(وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) : أي بحيث تجبرهم على الإيمان والتقوى.

(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) : أي عظ مرغبا مرهبا بالقرآن فاقرأه على المؤمنين فهم الذين يخافون وعيد الله تعالى ويطمعون في وعده.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض العظيم لأحوال القيامة وأهوالها على كفار قريش المكذبين بالتوحيد والنبوة والبعث ولم يؤمنوا فكانوا بذلك متعرضين للعذاب فأخبر تعالى رسوله أن هلاكهم يسير فكم (١) أهلك تعالى (قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي قوة وأخذا ولما جاءهم العذاب فروا يبحثون

__________________

(١) قوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) هذا تعريض بالتهديد للمشركين وتسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. و (كم) خبرية.

عن مكان يحيصون إليه أي يلجأون فلم يجدوا وهو معنى قوله تعالى (فَنَقَّبُوا فِي) (١) (الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) (٢)؟ وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) (٣) أي الذي ذكرنا من قوله وكم أهلكنا قبلهم من قرن (لَذِكْرى) أي موعظة يتعظ بها عبد (كانَ لَهُ قَلْبٌ) حيّ وألقى سمعه يستمع (وَهُوَ شَهِيدٌ) أي حاضر بكل مشاعره وأحاسيسه. وقوله تعالى (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أولها الأحد وآخرها الجمعة (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي نصب أو تعب ، هذا الخبر ردّ الله تعالى به على اليهود الذين قالوا أتم الله خلق السموات والأرض في يوم الجمعة واستراح يوم السبت فلذا هم يسبتون أي يستريحون يوم السبت فرد تعالى عليهم بقوله (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) أي تعب ، إذ التعب يلحق العامل من الممارسة والمباشرة لما يقوم بعمله والله تعالى يخلق بكلمة التكوين فلذا لا معنى لأن يصيبه تعب أو نصب أو لغوب وقوله تعالى (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ) أي فاصبر يا رسولنا على ما يقوله يهود وغيرهم من الكفر والباطل واستعن على ذلك أي على الصبر وهو صعب بالصلاة والتسبيح (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) (٤) (وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ، (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) وأدبار النجوم فشمل هذا الإرشاد والتعليم الإلهي الصلوات الخمس (٥) ، إذ قبل طلوع الشمس فيه صلاة الصبح وقبل الغروب فيه صلاة الظهر والعصر ومن الليل فيه صلاة المغرب والعشاء ، ولنعم العون على الصبر الصلاة ، ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وقوله (وَأَدْبارَ السُّجُودِ) (٦) أي بعد الصلوات الخمس سبح ربك متلبسا بحمده. نحو سبحان الله والحمد لله والله أكبر. وقوله (وَاسْتَمِعْ (٧) يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي واستمع أيها الخاطب يوم ينادي اسرافيل من مكان

__________________

(١) (النقب) الثقب فالتنقيب مأخوذ منه ، ومعنى الآية أي : ذللوا وأخضعوا وتصرفوا في الأرض بالحفر والغرس والبناء ونحت الجبال وإقامة السدود والحصون وما إلى ذلك من مظاهر القوة في الأرض ولم يغن ذلك عنهم من الله شيئا وجاءهم الموت من حيث لا مهرب منه ولا محيص.

(٢) المحيص : مصدر ميمي من : حاص : إذا عدل عن الطريق وهرب فالمحيص : المهرب ، والاستفهام إنكاري وهو بمعنى النفي.

(٣) الإشارة إلى كل ما ذكر من الاستدلال والتهديد في الآيات السابقة والذكرى : التذكرة العقلية لمن توفر له ثلاثة شروط : القلب الحيّ وإلقاء السمع للإصغاء وحضور البال.

(٤) في الصحيح عن جرير بن عبد الله البجلي قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ جرير (وسبح بحمد ربك ..)

(٥) وجائز أن يراد بها نوافل الصلاة فيكون الذي قبل طلوع الشمس ركعتا الفجر ولكن ما في التفسير أولى وأصح وأنها الصلوات الخمس إذ السورة مكية ونزلت بعد فرض الصلوات الخمس.

(٦) قرأ نافع : وإدبار بكسر الهمزة ، وقرأ حفص (وَأَدْبارَ) بفتحها.

(٧) التعبير بالاستماع فيه معنى التشويق لما يسمع ، والمعنى ، أقم الصلاة وهي زادك إلى الدار الآخرة وانتظر موعد الجزاء فإنه كائن يوم ينادي المنادي للقيام للجزاء على الصبر والصلاة كما هو على الشرك والعصيان ، والآية تحمل التسلية وتدعو إلى الصبر والصلاة.

قريب وهو صخرة بيت المقدس وهو مكان قريب من السماء فيقول المنادي وهو اسرافيل أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء وقوله (يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِ) وهي نفخة إسرافيل الثانية نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) من القبور ويوم يرى المكذبون عاقبة تكذيبهم. وقوله (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ) (١) (عَنْهُمْ سِراعاً) أي يخرجون مسرعين ذلك المذكور من تشقق الأرض وخروجهم مسرعين حشر علينا لهم يسير أي سهل لا صعوبة فيه ، وقوله (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ) فيه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه تهديد لكفار قريش. وقوله (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) أي بذي قوة وقدرة فائقة تجبرهم بها على الإيمان والاستقامة وعليه فمهمتك ليست الإجبار وأنت عاجز عنه وإنما هي التذكير (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ) إذا (مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وهم المؤمنون الصادقون والمسلمون الصالحون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية تخويف العصاة والمكذبين بالعذاب الإلهي وقربه وعدم بعده.

٢ ـ للانتفاع بالمواعظ شروط أن يكون السامع ذا قلب حي واع وأن يلقى بسمعه كاملا وأن يكون حاضر الحواس شهيدها.

٣ ـ وجوب الصبر والاستعانة على تحقيقه بالصلاة.

٤ ـ مشروعية الذكر والدعاء بعد الصلاة فرادى لا جماعات.

٥ ـ تقرير البعث وتفصيل مبادئه.

٦ ـ المواعظ ينتفع بها أهل القلوب الحية.

__________________

(١) قرأ نافع تشقق بفتح التاء وتشديد الشين وأصلها تتشقق بتائين فأدغمت التاء الثانية في الشين بعد قلبها شينا ، وقرأ حفص بتخفيف الشين على حذف إحدى التائين.

سورة الذّاريات

مكية

وآياتها ستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (١) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (٢) فَالْجارِياتِ يُسْراً (٣) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (٤) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (٥) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (٦) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (٧) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (٨) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (٩) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً) : أي الرياح تذروا التراب وغيره ذروا.

(فَالْحامِلاتِ وِقْراً) : أي السحب تحمل الماء.

(فَالْجارِياتِ يُسْراً) : أي السفن تجري على سطح الماء بسهولة.

(فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) : أي الملائكة تقسم بأمر ربها الأرزاق والأمطار وغيرها بين العباد.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) : أي إن ما وعدكم به ربكم لصادق سواء كان خيرا أو شرا.

(وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) : أي وأن الجزاء بعد الحساب لواقع لا محالة.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) : أي ذات الطرق كالطرق التي تكون على الرمل والحبك جمع حبيكة.

(إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) : أي يا أهل مكة لفي قول مختلف أي في شأن القرآن والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمنهم من يقول القرآن سحر وشعر وكهانة ومنهم من يقول النبي كاذب أو ساحر أو شاعر.

(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) : أي يصرف عن النبي والقرآن من صرف.

(قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) : أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب.

(الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) : أي في غمرة جهل تغمرهم ساهون أي غافلون عن أمر الآخرة.

(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) : أي يسألون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سؤال استهزاء متى يوم القيامة؟ وجوابهم يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون فيها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالذَّارِياتِ) (١) هذا شروع في قسم ضخم أقسم الله تعالى به وهو (الذَّارِياتِ ذَرْواً) أي الرياح تذروا التراب وغيره من الأشياء الخفيفة (فَالْحامِلاتِ (٢) وِقْراً) أي السحب تحمل الماء (فَالْجارِياتِ (٣) يُسْراً) أي السفن تجري على سطح الماء (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) أي الملائكة تقسم الأرزاق والأمطار وغيرها بأمر ربها كل هذا قسم أقسم الله به وجوابه (إِنَّما تُوعَدُونَ) أيها الناس من البعث والجزاء بالنعيم المقيم أو بعذاب الجحيم لصادق (وَإِنَّ الدِّينَ) أي الجزاء العادل (لَواقِعٌ) أي كائن لا محالة. وقوله (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) (٤) هذا قسم آخر أي ذات الطرق كالتي على الرمل جمع حبيكة بمعنى طريقة (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) هذا جواب القسم فمنكم من يقول محمد ساحر ومنكم من يقول كاذب أو كاهن. ومنكم من يقول في القرآن سحر وشعر كهانة وقوله تعالى (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أي يصرف عن القرآن ومن نزل عليه من أفك أي صرف بقضاء الله وقدره. وقوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أي لعن الكذابون الذين يقولون بالخرص والكذب والظن (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ) جهل تغمرهم (ساهُونَ) أي غافلون عن أمر الآخرة وما لهم فيه من عذاب لو شاهدوه ما ذاقوا طعاما ولا شرابا لذيذا.

__________________

(١) هنا ذكر القرطبي موعظة عجبا وهي أن رجلا يقال له : صبيغ بلغ عمر عنه أنه يسأل عن تفسير مشكل القرآن فقال : اللهم أمكني منه فدخل الرجل على عمر يوما وهو لابس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن فلما فرغ قام إليه الرجل وقال : يا أمير المؤمنين ما الذاريات ذروا؟ فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده ثم قال : ألبسوه ثيابه واجعلوه على قتب وأبلغوا به أهله ثم ليقم خطيبا فليقل : إن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وأخرى وهو أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين ما (الذَّارِياتِ) قال : ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا.

(٢) (فَالْحامِلاتِ وِقْراً) السحب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر : أي الحمل الثقيل.

(٣) جائز أن يراد ب (فَالْجارِياتِ) السفن ، وأن يراد بها الرياح تجري بالسحب بعد تراكمها ، واليسر : اللين والهون ، أي الجاريات جريانا لينا هينا شأن السير بالشيء الثقيل كما قال الأعشى.

كأن مشيتها من بيت جارتها

مشي السحابة لا ريث ولا عجل

(٤) (الْحُبُكِ) بفتح فسكون : إجادة النسج وإتقان الصنع ، وجائز أن يكون المراد بالحبك حبك السماء أي : نجومها لأنها تشبه الطرائق الموشاة في الثوب. وعن الحسن أنها طرائق المجرة أو طرائق السحاب ، والكل جائز.

وقوله تعالى (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) أي متى قيام الساعة ومجيئها وهم في هذا مستهزئون ساخرون وجوابهم في قوله تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) أي يعذبون ويقال لهم (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) أي عذابكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) أي تطالبون به رسولنا بتعجيله لكم استخفافا وتكذيبا منكم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء حيث أقسم تعالى على ذلك.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر في قوله يؤفك عنه من أفك.

٣ ـ لعن الله الخراصين الذين يقولون بالخرص والكذب ويسألون استهزاء وسخرية لا طلبا للعلم والمعرفة للعمل.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (٢٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) : أي إن الذين (١) اتقوا ربهم في بساتين وعيون تجري خلال تلك البساتين والقصور التي فيها كقوله تجري من تحتها الأنهار.

(آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) : أي آخذين ما أعطاهم ربهم من الثواب.

__________________

(١) لما ذكر تعالى مآل الكافرين وهو أنهم على النار يفتنون أي : يعذبون كما قال الشاعر :

كل امرىء من عباد الله مضطهد

ببطن مكة مقهور ومفتون

ذكر مآل المؤمنين المتقين فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) فذكر ما هم فيه من النعيم المقيم.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) : أي كانوا قبل دخولهم الجنة محسنين في الدنيا أي في عبادة ربهم وإلى عباده.

(كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) : أي كانوا في الدنيا يحيون الليل ولا ينامون فيه إلا قليلا.

(وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) : أي وفي وقت السحور وهو السدس الأخير من الليل يستغفرون يقولون ربنا اغفر لنا.

(وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : أي للذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لتعففه وهذا الحق أوجبوه على أنفسهم زيادة على الزكاة الواجبة.

(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) : أي من الجبال والأنهار والأشجار والبحار والإنسان والحيوان دلالات على قدرة الله مقتضية للبعث والموجبة للتوحيد للموقنين أما غير المؤمنين فلا يرون شيئا.

(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) : أي آيات من الخلق والتركيب والاسماع والابصار والتعقل والتحرك أفلا تبصرون ذلك فتستدلون به على وجود الله وعلمه وقدرته.

(وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) : أي من الأمطار التي بها الزرع والنبات وسائر الأقوات وما توعدون من ثواب وعقاب إن كل ذلك عند الله في السماء مكتوب في اللوح المحفوظ.

(فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ) : إنه لحق أي ما توعدون لحق ثابت.

(مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) : أي إن البعث لحق مثل نطقكم فهل يشك أحد في نطقه إذا نطق والجواب لا يشك فكذلك ما توعدون من ثواب وعقاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون في مكة فقال تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي إن الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك الواجبات ولا بفعل المحرمات هؤلاء يوم القيامة في بساتين وعيون تجري في تلك البساتين وقوله (آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي ما أعطاهم ربهم من ثواب هو نعيم مقيم في دار السّلام. ثم ذكر تعالى مقتضيات هذا العطاء العظيم والثواب الجزيل فقال (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ) دخولهم الجنة (مُحْسِنِينَ) في الدنيا فأحسنوا نياتهم وأعمالهم اخلصوها لله ربهم وأتوا بها وفق ما ارتضاه وشرعه لعباده بلا زيادة ولا نقصان كما أحسنوا إلى عباده ولم يسيئوا إليهم بقول ولا عمل هذا موجب وآخر أنهم (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما

يَهْجَعُونَ) (١) أي لا ينامون من الليل إلا قليلا إذ أكثر الليل يقضونه في الصلاة وهو التهجد وقيام الليل (وَبِالْأَسْحارِ) أي وفي السدس الأخير من الليل (هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي يقولون ربنا اغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار وثالث (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) أي وزيادة على الزكاة المفروضة في كل مال بلغ النصاب فإنهم أوجبوا على أنفسهم في أموالهم حقا يبذلونه للسائل الذي يسأل والمحروم الذي لا يسأل لحيائه وعفته. هذه موجبات العطاء الكريم الذي أعطاهم ربهم من النعيم المقيم في جنات وعيون. وقوله تعالى (وَفِي الْأَرْضِ (٢) آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) أي وفي ما خلق في الأرض من مخلوقات من جبال وأنهار وزروع وضروع وأنواع الثمار ، وإنسان وحيوان آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وكلها موجبة له التوحيد ومقررة لقدرته على البعث الآخر والجزاء وكون هذه الآيات للموقنين مبني على أن الموقنين ذووا بصائر وإدراك لما يشاهدون في الكون فكلما نظروا إلى آية في الكون ازداد إيمانهم وقوى فبلغوا اليقين فيه فأصبحوا أكثر من غيرهم في الاهتداء والانتفاع بكل ما يسمعون ويشاهدون. وقوله تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) أي وفي أنفسكم (٣) أيها الناس من الدلائل والبراهين المتمثلة في خلق الإنسان واطواره التي يمر بها من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى طفل إلى شاب فكهل وفي إدراكه وسمعه وبصره ونطقه إنها آيات أخرى دالة على وجود الله وتوحيده وقدرته على البعث والجزاء وقوله (أَفَلا تُبْصِرُونَ) توبيخ لأهل الغفلة والاعراض عن التفكر والنظر إذ لو نظروا بأبصارهم متفكرين ببصائرهم لاهتدوا إلى الإيمان والتوحيد والبعث والجزاء. وقوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) أي (٤) يخبر تعالى عباده أن رزقهم في السماء يريد تدبير الأمر في السماء والأمطار التي هي سبب كل الثمار والحبوب وسائر الخضر والفواكه التي هي غذاء الإنسان في السماء وقوله وما توعدون من خير وشر من رحمة وعذاب الكل في السماء إذ الأمر لله وهو يحكم بالرحمة والعذاب على من يشاء وكتاب المقادير الذي كتب فيه كل شيء هو في السماء.

وقوله تعالى (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)

__________________

(١) الهجوع : النوم ليلا ، والتهجاع : النومة الخفيفة قال الشاعر :

قد حصت البيضة رأسي فما

أطعم نوما غير تهجاع

والفعل هجع يهجع هجوعا ، و (ما) زائدة لتقوية الكلام أي : كانوا ينامون قليلا من الليل ، والجملة : (كانُوا قَلِيلاً) الخ بدل من جملة : (كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) بدل بعض من كل.

(٢) هذا متصل بالقسم في قوله : (وَالذَّارِياتِ) إنه بعد أن حقق عقيدة البعث بالإقسام عليها عطف شواهد من الأدلة على ذلك.

(٣) مما هو آية في النفس أن المرء يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط فتلك الآية فى النفس.

(٤) يروى أن الحسن رحمه‌الله تعالى كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم.

إِنَّهُ لَحَقٌ (١) مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢) هذا قسم منه تعالى أقسم فيه بنفسه على أن البعث والجزاء يوم القيامة حق ثابت واجب الوقوع كائن لا محالة إذا كنا لا نشك في نطقنا إذا نطقنا أن ما نقوله ونسمعه لا يمكن أن يكون غير ما نطقنا به وسمعناه فكذلك البعث الآخر واقع لا محالة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما للمتقين من نعيم مقيم في الدار الآخرة.

٢ ـ بيان صفات المتقين من التهجد بالليل والاستغفار في آخره والانفاق في سبيل الله.

٣ ـ بيان أن في الأرض كما في الأنفس آيات أي دلائل وعلامات على قدرة الله على البعث والجزاء.

٤ ـ بيان أن في السماء رزق العباد (٣) فلا يطلب إلا من الله تعالى وأن ما نوعده من خير وشر أمره في السماء ومنها ينزل بأمره تعالى فليكن طلبنا الخير من الله دائما وتعوذنا من الشر بالله وحده.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠))

__________________

(١) (ما) في (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) مزيدة للتوكيد ، والمضارع (تَنْطِقُونَ) جيء به بدلا عن المصدر نطقكم لإفادته التشبيه بنطقهم المتجدد المحسوس لهم وتقدير الكلام أن ما توعدونه من البعث والجزاء لحق مثل نطقكم الذي لا تنكرونه إذ لا يوجد من ينكر نطقه أبدا.

(ما) في (مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) مزيدة للتوكيد ، والمضارع (تَنْطِقُونَ) جيء به بدلا عن المصدر نطقكم الذي لا تنكرونه إذ لا يوجد من ينكر نطقه أبدا.

(٢) قيل : خص النطق من بين سائر الحواس : لأن ما سواه من الحواس يدخله التشبيه ، والنطق سليم من ذلك.

(٣) ذكر القرطبي عند تفسير هذه الآية قصة مأثورة عن الأصمعي خلاصتها : أن أعرابيا قال له : اقرأ عليّ من كلام الرحمن شيئا فقرأ عليه : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) ففهمها الأعرابي على حقيقتها فكسر قوسه ونحر بعيره فتصدق به وتاب إلى ربه ولقيه بعد سنة فطلب منه أن يسمعه من كلام الرحمن فقرأ عليه (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ.). الآية فأخذ الأعرابي رداءه وهو يقول : من يغضب الرحمن. وما زال يرددها حتى مات.

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ) : أي قد أتاك يا نبيّنا حديث أي كلام.

(ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) : أي جبريل وميكائيل وإسرافيل أكرمهم إبراهيم الخليل.

(فَقالُوا سَلاماً) : أي نسلم عليك سلاما.

(قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : أي عليكم سلام أنتم قوم منكرون أي غير معروفين.

(فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ) : أي عدل ومال إلى أهله فجاء بعجل سمين حنيذ.

فقال ألا تأكلون : أي فأمسكوا عن الأكل فقال لهم ألا تأكلون.

(فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) : أي فأضمر في نفسه خوفا منهم.

(بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : أي بولد يكون ذا علم كبير غزير.

(فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) : أي في رنّة وصيحة.

(فَصَكَّتْ وَجْهَها) : أي لطمت وجهها أي ضربت بأصابعها جبينها متعجبة.

(وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ) : أي كبيرة السن وعقيم لم يولد لها قط.

(قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ) : أي قالت الملائكة لها كالذي قلنا لك قال ربك.

(إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) : أي انه هو الحكيم في تدبيره وتصريف شؤون عباده. العليم بما يصلح للعبد وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ (١) ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ) (٢) هذا الحديث يشتمل على موجز قصة قد ذكرت في سورة هود والحجر والمقصود منه تقرير نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن مثل هذا القصص لا يتم لأميّ لا يقرأ ولا يكتب إلا من طريق الوحي كما أنه يحمل في نهايته التهديد بالوعيد لمشركي قريش المصرين على الكفر والتكذيب والإجرام الكبير إذ في نهاية القصة يسأل ابراهيم الملائكة قائلا فما خطبكم أيها المرسلون فيجيبون قائلين إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين أي لتدميرهم وإهلاكهم من أجل إجرامهم ، وقريش في هذا الوقت مجرمة مستحقة للعذاب كما استحقه إخوان لوط. فقوله تعالى في خطاب رسوله هل أتاك حديث ضيف إبراهيم

__________________

(١) هذا الكلام مستأنف ابتدائي سيق لتسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقرير نبوته وإنذار قومه المكذبين المصرين على الشرك والظلم ، ولفظ الضيف ، يطلق على الواحد وأكثر وافتتاح الكلام بهل للتفخيم للحدث الذي يخبر عنه والتهويل من شأنه.

(٢) قال فيهم المكرمين : لخدمة إبراهيم إياهم وإكرامه لهم بتقديم العجل الحنيذ ، وقيل هم مكرمون من قبل الله تعالى.

الخليل وهم ملائكة في صورة رجال من بينهم (١) جبريل وميكائيل وإسرافيل (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) أي على ابراهيم وهو في منزله فسلموا عليه (٢) فرد السّلام ثم قال أنتم (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) أي لا نعرفكم بمعنى أنكم غرباء لستم من أهل هذا البلد فلذا سارع في إكرامهم (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) أي عدل ومال إلى أهله فعمد إلى عجل سمين من أبقاره وكان ماله يومئذ البقر فشواه بعد ذبحه وسلخه وتنظيفه. (فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ) وكأنهم أمسكوا عن تناوله فعرض عليهم الأكل عرضا بقوله (أَلا تَأْكُلُونَ) فقالوا إنا لا نأكل طعاما إلا بحقه. فقال إذا كلوه بحقه ، فقالوا وما حقه؟ قال أن تذكروا اسم الله في أوله وتحمدوا الله في آخره أي تقولون بسم الله في البدء والحمد لله في الختم فالتفت جبريل إلى ميكائيل وقال له حقّ للرجل أن يتخذه ربه خليلا ولما لم يأكلوا (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) أي خوفا أي شعر بالخوف في نفسه منهم لعدم أكلهم لأن العادة البشرية وهي مستمرة إلى اليوم إذا أراد المرء بأخيه سوءا لا يسلم عليه ولا يرد عليه‌السلام ، ولا يأكل طعامه هذا حكم غالبي وليس عاما. (قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ) وأعلموه أنهم مرسلون من ربه إلى قوم لوط لإهلاكهم من أجل اجرامهم وبشروه بغلام يولد له ويكبر ويولد له فالأول اسحق والثاني يعقوب كما جاء في سورة هود فبشرناه باسحاق ومن وراء اسحق يعقوب وقوله (فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ) (٣) أخذت في رنّة لما سمعت البشرى (فَصَكَّتْ) أي لطمت (وَجْهَها) بأصابع يدها متعجبة وهي تقول أألد وأنا عجوز و (٤) هذا بعلي شيخا إنّ هذا لشيء عجيب إذ كان عمرها تجاوز التسعين وعمر ابراهيم تجاوز المئة وكانت عقيما لا تلد قط فلذا قالت (عَجُوزٌ (٥) عَقِيمٌ) كيف ألد يا للعجب؟ فأجابها الملائكة قائلين كذلك أي هكذا (قالَ رَبُّكِ) فاقبلي البشرى واحمديه واشكريه. إنه تعالى هو الحكيم في تصرفاته في شؤون عباده العليم بما يصلح لهم وما لا يصلح فليفوض الأمر إليه ولا يعترض عليه.

__________________

(١) قيل إنهم كانوا تسعة وسمى منهم غير الثلاثة رفائيل عليه‌السلام.

(٢) في الآية مشروعية السّلام إلقاء وردا إلا أن الإلقاء سنة والرد واجب لآية النساء : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

(٣) الصرة : الصيحة والضجة ، والصرة ، الجماعة ، والصرة : الشدة من كرب وغيره قال الشاعر :

فألحقه بالهاديات ودونه

جواحرها في صرة لم تزيل

الهاديات : أوائل بقر الوحش وجواحرها : متخلفاتها ولم تزيل لم تنفرق والشاهد في الصرة هنا فإنها بمعنى الضجة والجماعة والشدة. وهو يمدح فرسه الذي ألحقه بأوائل بقر الوحش الذي يصيد.

(٤) نص آية هود : (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ).

(٥) أي : كيف ألد وأنا عجوز عقيم ف (عَجُوزٌ) خبر ، و (عَقِيمٌ) بدل منه والمبتدا محذوف أي : أنا والعجوز يشترك فيه المذكر والمؤنث يقال رجل عجوز وامرأة عجوز فهو فعول بمعنى فاعل مشتق من العجز والعقيم كذلك يستوي فيه المذكر والمؤنث وهو فعيل بمعنى مفعول مأخوذ من عقمها الله : إذا خلقها لم تحمل بجنين ، وكانت سارة لم تحمل قط.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٢ ـ فضيلة ابراهيم أبي الأنبياء وإمام الموحدين.

٣ ـ وجوب إكرام الضيف.

٤ ـ الخوف الفطري عند وجود أسبابه لا يقدح في العقيدة ولا يعد شركا.

الجزء السابع والعشرون

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) : أي ما شأنكم أيها المرسلون.

(إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) : أي إلى قوم كافرين فاعلين لأكبر الجرائم وهي إتيان الفاحشة.

(حِجارَةً مِنْ طِينٍ) : أي مطبوخ بالنار.

(مُسَوَّمَةً) : أي معلمة على كل حجر اسم من يرمى به.

(لِلْمُسْرِفِينَ) : أي المبالغين في الكفر والعصيان كإتيان الذكران.

(غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) : وهو بيت لوط وابنتيه ومن معهم من المؤمنين.

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) : أي بعد إهلاكهم تركنا فيها علامة على إهلاكهم وهى ماء أسود منتن.

(لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) : أي عذاب الآخرة فلا يفعلون فعلهم الشنيع.

معنى الآيات :

ما زال السياق في قصة إبراهيم مع ضيفه من الملائكة إنه لاحظ بعد أن عرف أنهم سادات الملائكة أن مهمتهم لم تكن مقصورة على بشارته فقط بل هي أعظم فلذا سألهم قائلا : فما (١) خطبكم أيها المرسلون؟ فأجابوه قائلين : (إِنَّا أُرْسِلْنا) أي أرسلنا ربّنا عزوجل (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) (٢) أي

__________________

(١) الفاء : هي الفاء الفصيحة إذ أفصحت أي : دلت على كلام محذوف تقديره : لما كنتم مرسلين من قبل الله تعالى فما خطبكم أي ما شأنكم وما مهمتكم العظيمة التي جئتم لها؟.

(٢) هم أهل سدوم وعمورية.

على أنفسهم بالكفر ، وفعل الفاحشة ، والعلّة من إرسالنا إليهم هي (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) (١) مطبوخ بالنار ، وتلك الحجارة (مُسَوَّمَةً) أي معلمة (عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قد كتب على كل حجر اسم من يرمى به ، وذلك في السماء قبل أن تنزل إلى الأرض. وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا) أي من تلك القرية وهي سدوم (مَنْ كانَ فِيها مِنَ (٢) الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) وهو بيت لوط عليه‌السلام وما به سوى لوط وابنتيه ومن الجائز أن يكون معهم بعض المؤمنين إذ قيل كانوا ثلاثة عشر نسمة وقوله تعالى : (وَتَرَكْنا فِيها آيَةً) (٣) أي علامة على إهلاكهم وهي ماء أسود منتن كالبحيرة وتعرف الآن بالبحر الميت. وقوله (لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) وهم المؤمنون الذين يخافون عذاب الآخرة حتى لا يفعلوا فعل قوم لوط من الكفر وإيتان الفاحشة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ جواز تشكل الملائكة بصورة رجال من البشر.

٢ ـ التنديد بالإجرام وفاعليه.

٣ ـ جواز الإهلاك بالعذاب الخاص الذى لم يعرف له نظير.

٤ ـ تقرير حقيقة علمية وهي أن كل مؤمن صادق الإيمان مسلم ، وليس كل مسلم مؤمنا حتى يحسن اسلامه بانبنائه على أركان الإيمان الستة. (٤)

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ

__________________

(١) (مِنْ طِينٍ) فيه احتراس من أن تكون من البرد الذي ينزل مع المطر من السماء ، وجائز أن تكون من بركان قذفته الأرض فارتفع بقوة الضغط فسقط عليهم فدمّرهم بأمر الله تعالى وتدبيره فيهم.

(٢) قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : إشارة إلى أنّ سبب نجاتهم هو إيمانهم وفي قوله : (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) كذلك أي : سبب النجاة الإسلام كما هو التنويه بشأن كل من الإيمان والإسلام إذ الدعوة النبوية تدور عليهما.

(٣) الضمير : (فِيها) عائد إلى القرية التي أصبحت خربة تدل على قدرة الله تعالى ونقمته من أعدائه.

(٤) هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، والقدر خيره وشره. كما في آية البقرة ، (لَيْسَ الْبِرَّ) وفي حديث جبريل عند مسلم.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ) : أي فكذبه وكفر ، فأغرقناه ومن معه آية كآية سدوم.

(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : أي بحجة ظاهرة قوية وهي اليد والعصا.

(فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) : أي أعرض عن الإيمان مع رجال قومه.

(وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : أي وقال فرعون فى شأن موسى ساحر أو مجنون.

(فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) : أي طرحناهم في البحر فغرقوا أجمعين.

(وَهُوَ مُلِيمٌ) : أي آت بما يلام عليه إذ هو الذى عرض جيشا كاملا للهلاك زيادة على ادعائه الربوبية وتكذيبه لموسى وهرون وهما رسولان.

(وَفِي عادٍ) : أي وفي إهلاك عاد آية أي علامة على قدرتنا وتدبيرنا.

(الرِّيحَ الْعَقِيمَ) : أي التى لا خير فيها لأنها لا تحمل المطر ولا تلقح الشجر وهى الدبور ، لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرت بالصبا وهى الريح الشرقية وأهلكت عاد بالدبور وهى الريح الغربية في الحجاز.

(ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) : من نفس أو مال.

(إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) : أي البالى المتفتت.

(وَفِي ثَمُودَ) : أي وفي إهلاك ثمود آية دالة على قدرة الله وكرهه تعالى للكفر والإجرام.

(إِذْ قِيلَ لَهُمْ) : أي بعد عقر الناقة تمتعوا إلى انقضاء آجالكم بعد ثلاثة أيام.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) : أي بعد ثلاثة أيام من عقر الناقة.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) : أي ما قدروا على النهوض عند نزول العذب بهم.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) : أي وفي إهلاك قوم نوح بالطوفان آية وأعظم آية.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (وَفِي مُوسى) (١) الآية إنه تعالى لما ذكر إهلاك قوم لوط وجعل في ذلك آية دالة على قدرته وعلامة تدل العاقل على نقمه تعالى ممن كفر به وعصاه ذكر هنا في هذه الآيات التسع من هذا السياق أربع آيات أخرى ، يهتدى بها أهل الإيمان الذين يخافون يوم الحساب فقال عز من قائل : وفي موسى بن عمران نبى بنى إسرائيل (إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ) ملك القبط بمصر (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بحجة قوية ظاهرة قوة السلطان وظهوره وهى العصا (٢) فلم يستجب لدعوة الحق (فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ) أي (٣) بجنده الذي يركن إليه ويعتمد عليه ، وقال في موسى رسول الله إليه : هو (ساحِرٌ أَوْ (٤) مَجْنُونٌ) فانتقمنا منه بعد الإصرار على الكفر والظلم (فَنَبَذْناهُمْ) أي طرحناهم في اليم البحر فهلكوا بالغرق. في هذا الصنيع الذي صنعناه بفرعون لما كذب آية من أظهر الآيات. وقوله تعالى : (وَفِي عادٍ) (٥) حيث أرسلنا إليهم أخاهم هودا فدعاهم الى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه فكذبوه (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) التي لا تحمل مطرا ولا تلقح شجرا (٦) (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ) أي مرت به من أنفس أو أموال (إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) (٧) البالى المتفتت في هذه الإهلاك آية من أعظم الآيات الدالة على قدرة الله الموجبة لربوبيته وعبادته والمستلزمة لقدرته تعالى على البعث والجزاء يوم القيامة.

وقوله تعالى (وَفِي ثَمُودَ) (٨) إذ أرسلنا إليهم أخاهم صالحا فدعاهم إلى عبادة الله وحده وترك الشرك فكذبوه وطالبوه بآية تدل على صدقه فأعطاهم الله الناقة آية فعقروها استخفافا منهم وتكذيبا (إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ) أي إلى إنقضاء الأجل الذي حدد لهلاكهم. فبدل أن يؤمنوا ويسلموا

__________________

(١) (وَفِي مُوسى) أي : وتركنا أيضا في قصة موسى آية ، والعطف على قوله : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ).

(٢) وجائز أن يكون غير العصا من الآيات التسع.

(٣) وجائز أن يكون بقوته كما قال عنترة :

فما أوهى مراس الحرب ركني

ولكن ما تقادم من زماني

أراد بركنه : قوته ، وركن الشيء : جانبه الأقوى.

(٤) (أَوْ) بمعنى الواو أي : قال مرّة في موسى ساحر وقال مرة أخرى مجنون وشاهده قول الشاعر :

أثعلبة الفوارس أو رياحا

عدلت بهم طهيّة والخشابا

أي : ورياحا فأو بمعنى الواو العاطفة لا غير وطهية كسميّة : حي من تميم والخشاب : بطون من تميم أيضا.

(٥) (وَفِي عادٍ) أي : وتركنا في عاد آية كالتي في موسى.

(٦) ولا خير فيها ولا بركة ولا منفعة البتة مأخوذة من : امرأة عقيم لا تحمل ولا تلد ، وهي الدبور لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح (نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور).

(٧) (كَالرَّمِيمِ) الشيء الهالك البالي. قاله مجاهد ، ومنه قول الشاعر :

تركتني حين كف الدهر من بصري

وإذ بقيت كعظم الرّمة البالي

مأخوذ من رمّ العظم : إذا بلى يقال : رم العظم يرم بالكسر رمة فهو رميم.

(٨) (وَفِي ثَمُودَ) أي : وتركنا في ثمود آية للموقنين دالة على قدرة الله وعلمه وحكمته وهي موجبات ألوهيته.

فيعبدوا الله ويوحدوه عتوا عن أمر ربهم وترفعوا متكبرين (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) صاعقة العذاب (وَهُمْ يَنْظُرُونَ) بأعينهم الموت يتخطفهم (فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ) من مجالسهم وهم جاثمون على الركب (وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) فى إهلاك ثمود أصحاب الحجر آية للذين يخافون العذاب الأليم فلا يفعلوا فعلهم حتى لا يهلكوا هلاكهم.

وقوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) (١) (مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي وفي إرسالنا نوحا إلى قومه وتكذيبهم إياه وإصرارهم على الشرك والكفر والتكذيب ثم إهلاكنا لهم بالطوفان وانجائنا المؤمنين آية من أعظم الآيات الدالة على وجود الله تعالى وربوبيته وألوهيته للعالمين ، والمستلزمة لقدرته على البعث والجزاء الذي يصر الملاحدة على إنكاره ليواصلوا فسقهم وفجورهم بلا تأنيب ضمير ولا حياء ولا خوف أو وجل.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير كل من التوحيد والنبوة والبعث لما في الآيات من دلائل على ذلك.

٢ ـ قوة الله تعالى فوق كل قوة إذ كل قوة في الأرض هو الذي خلقها ووهبها.

٣ ـ اتهام المبطلين لأهل الحق دفعا للحق وعدم قبول له يكاد يكون سنة بشرية في كل زمان ومكان.

٤ ـ من عوامل الهلاك العتو عن أمر الله أي عدم الإذعان لقبوله ، والفسق عن طاعته وطاعة رسله.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

__________________

(١) قرأ حمزة والكسائي وقوم بالكسر أي : وفي قوم نوح آية ، وقرأ الجمهور بالنصب أي : وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود ومدين.

شرح الكلمات :

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) : أي وبنينا السماء بقوة ظاهرة في رفع السماء وإحكام البناء.

(وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) : أي لقادرون على البناء والتوسعة.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) : أي مهّدناها فجعلناها كالمهاد أي الفراش الذي يوضع على المهد.

(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) : أي نحن أثنى الله تعالى على نفسه بفعله الخيريّ الحسن الكبير.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) : أي وخلقنا من كل شيء صنفين أي ذكرا وأنثى ، خيرا وشرا ، علوّا وسفلا.

(لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) : أي تذكرون أن خالق الأزواج كلها هو إله فرد فلا يعبد معه غيره.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) : أي إلى التوبة بطاعته وعدم معصيته.

(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي إني وأنا رسول الله إليكم منه تعالى نذير مبين بين النذارة أي أخوفكم عذابه.

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : أي لا تعبدوا مع الله إلها أي معبودا آخر إذ لا معبود بحق إلا هو.

(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : إني لكم منه تعالى نذير بين النذارة أخوفكم عذابه إن عبدتم معه غيره.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض مظاهر القدرة الإلهية الموجبة له تعالى الربوبية لكل شيء والألوهية على كل عباده. فقال تعالى : (وَالسَّماءَ (١) بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) فهذا أكبر مظهر من مظاهر القدرة الإلهية إنه بناء السماء وإحكام ذلك البناء وارتفاعه وما تعلق به من كواكب ونجوم وشمس وقمر تمّ هذا الخلق بقوة الله التى لا توازيها قوة. وقوله (وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي لقادرون على توسعته أكثر مما هو عليه ، وذلك لسعة قدرتنا.

__________________

(١) هذا عرض آخر لمظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته الدالة على قدرته على البعث الآخر (وَالسَّماءَ) : منصوب على الاشتغال ، والأيد جمع يد وكثر إطلاقه على القوة نحو : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) أي : القوة ، والموسع : القادر على توسعة ما يريد توسعته من رزق وغيره.

ومظهر ثان هو فى قوله : (وَالْأَرْضَ (١) فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) والأرض فرشها بساطا ومهدها مهادا فنعم الماهدون نحن نعم الماهد الله تعالى لها إذ غيره لا يقدر على ذلك ولا يتأتى له ، وثالث مظاهر القدرة في قوله : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ (٢) خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فهذا لفظ عام يعم سائر المخلوقات وأنها كلها أزواج وليس فيها فرد قط. والذوات كالصفات فالسماء يقابلها الأرض ، والحر يقابله البرد ، والذكر يقابله الأنثى ، والبر يقابله البحر ، والخير يقابله الشر ، والمعروف يقابله المنكر ، فهي أزواج بمعنى أصناف كما أن سائر الحيوانات هي أزواج من ذكر وأنثى. وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي خلقنا من كل شيء زوجين رجاء أن تذكروا فتعلموا أن خالق هذه الأزواج هو الله الفرد الصمد الواحد الأحد لا إله غيره ولا رب سواه فتعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه من سائر خلقه.

وقوله تعالى (فَفِرُّوا إِلَى (٣) اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي بعد أن تبين لكم أيها الناس أنه لا إله غير الله ففروا إليه تعالى أي بالإيمان به وبطاعته وبفعل فرائضه وترك نواهيه اهربوا إلى الله يا عباد الله بالإسلام إليه والانقياد لطاعته إنى لكم منه تعالى نذير من عقاب شديد ، ونذارتي بينة لا شك فيها وأنصح لكم أن (لا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي معبودا غيره تعالى تعبدونه إن الشرك به يحبط أعمالكم ويحرم عليكم الجنة فلا تدخلوها أبدا واعلموا (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ) عزوجل (نَذِيرٌ مُبِينٌ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد والبعث بمظاهر القدرة الإلهية التى لا يعجزها شيء ومظاهر العلم والحكمة المتجلية في كل شيء.

٢ ـ ظاهرة الزوجية في الكون في الذرة انبهر لها العقل الإنساني وهي مما سبق إليه القرآن الكريم وقرره في غير موضع منه : سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن

__________________

(١) نصب الأرض على الاشتغال ، والفرش : البسط يقال : فرش البساط : إذا نشره وقوله : (فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أثنى تعالى على نفسه بهذه المنة على خلقه وهي : بسط الأرض وتمهيدها للحياة عليها وفي هذا تعليم للعباد أن يحمدوا الله ويشكروه : فله الحمد تعالى وله المنة.

(٢) في خلق الله تعالى للذكر والأنثى والتناسل منهما دليل ظاهر على البعث الذي ينكره الكافرون فمن فكر في إيجاد الحياة من جماد كالنطفة سهل عليه الإيمان بالحياة الثانية بعد انتهاء هذه ولذا عقب على ذلك بجملة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وهي جملة تعليلية.

(٣) الفاء للتفريع إنه بعد أن بيّن للمشركين ضلالهم وخطأهم في الشرك والكفر وإنكار البعث بما ساق من الأدلة وأبرز عن البراهين القطعية قال لرسوله : قل لهم أيها الناس ففروا إلى الله أي : اهربوا إليه لينجيكم من الخسران فإنه ليس لكم إلا هو فآمنوا به واعبدوه ووحدوه وعلل ذلك بقوله لهم (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ).

أنفسهم ومما لا يعلمون. فدل هذا قطعا أن القرآن وحي الله وأن من أوحى به إليه وهو محمد بن عبد الله لن يكون إلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ التحذير من الشرك فإنه ذنب عظيم لا يغفر إلا بالتوبة الصحيحة النصوح.

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

شرح الكلمات :

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ) : أي الأمر كذلك ما أتى الذين من قبل قومك يا محمد من رسول.

(إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) : أي هو ساحر أو مجنون.

(أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) : أي اتواصت الأمم كل أمة توصى التي بعدها بقولهم للرسول هو ساحر أو مجنون ، والجواب ، لا أي لم يتواصوا بل هم قوم طاغون يجمعهم على قولهم هذا الطغيان.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) : أي اعرض عنهم يا رسولنا فما أنت بملوم لأنك بلغتهم فأبرأت ذمتك.

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي عظ بالقرآن يا رسولنا فإن الذكرى بمعنى التذكير ينفع المؤمنين أي من علم الله أنه يؤمن.

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ) : أي خلقتهم لأجل أن يعبدوني فمن عبدني أكرمته ومن ترك عبادتي أهنته.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) : أي لا لي ولا لأنفسهم ولا لغيرهم.

(وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) : أي لا أريد منهم ما يريد أرباب العبيد من عبيدهم هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام ، فالله هو الذي يرزقهم.

(ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) : أي صاحب القوة المتين الشديد الذي لا يعجزه شيء.

(ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) : أي نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم الذين ماتوا على الكفر.

(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) : أي فلا يطالبوني بالعذاب فإن له موعدا لا يخلفونه.

(مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) : أي يوم القيامة.

معنى الآيات :

بعد عرض تلك الأدلة المقررة للتوحيد والبعث والمستلزمة للرسالة المحمدية والمشركون ما زالوا في إصرارهم على الكفر والتكذيب قال تعالى مسليا رسوله مخففا عنه ما يجده من إعراض وتكذيب : (كَذلِكَ) أي الأمر والشأن كذلك وهو أنه (ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل قومك من رسول (إِلَّا قالُوا) فيه هو (ساحِرٌ (١) أَوْ مَجْنُونٌ) كما قال قومك لك اليوم. ثم قال تعالى : (أَتَواصَوْا (٢) بِهِ) أي بهذا القول كل أمة توصى التي بعدها بأن تقول لرسولها : ساحر أو مجنون. (بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي لم يتواصوا به وإنما جمعهم على هذا القول الطغيان الذي هو وصف عام لهم فإن الطاغي من شأنه ان ينكر ويكذب ويتهم بأبعد أنواع التهم والحامل له على ذلك طغيانه. وما دام الأمر هكذا (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يا رسولنا أي أعرض عنهم ولا تلتفت إلى أقوالهم وأعمالهم (فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) في هذا القول لأنك قد بلغت رسالتك وأديت أمانتك ولا يمنعك هذا التولى عنهم أن تذكر أي عظ بالقرآن بل عظ (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذين علم الله تعالى أنهم يؤمنون ممن هم غير مؤمنين الآن كما تنفع المؤمنين حاليا بزيادة إيمانهم وصبرهم على طاعة الله ربهم. وقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٣) أي لم يخلقهما للهو ولا للعب ولا

__________________

(١) (أَوْ) : بمعنى الواو إذ هم مرّة يقولون ساحر ومرّة يقولون مجنون وليس معنى ساحر أو مجنون أن يكون إما ساحرا أو مجنونا فتكون أو لأحد الشيئين.

(٢) الاستفهام للتعجب ، و (بَلْ) للاضراب الإبطالي ، أي لم يتواصوا بهذا القول الفاسد ، وإنما جمعهم الطغيان فقالوا ما قالوا ولم يتخلف قوم منهم في ذلك.

(٣) قوله : (وَما خَلَقْتُ ..). الخ فيه تعريض بالمشركين والكافرين التاركين لعبادته تعالى ، والإنس ، واحده إنسي ، والاستثناء مفرّغ من علل لم تذكر ، والإرادة هنا ؛ هي الإرادة الشرعية التكليفية ليست الإرادة الكونية التي لا تتخلف ، ولذا فلا معنى لمن قال : المراد بالناس هنا المؤمنون فقط ، أو هو على تقدير لأمرهم وأنهاهم أو أنّ المراد من العبادة : ظهور قدرة الله تعالى فيهم من الخلق والإحياء والإماتة.

لشيء وإنهما خلقهما ليعبدوه بالإذعان له والتسليم لأمره ونهيه. وقوله تعالى (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي إن شأني معهم ليس كشأن السادة مالكي العبيد الذين يتعبدونهم بالقيام بحاجاتهم. هذا يجمع المال وهذا يعد الطعام بل خلقتهم ليعبدوني أي يوحدوني في عبادتي ، إذ عبادتهم لي مع عبادة غيري لا أقبلها منهم ولا أثيبهم عليها بل أعذبهم على الطاعة حيث عبدوا من لا يستحق أن يعبد من سائر المخلوقات.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (١) قرر به غناه عن خلقه ، وأعلم أنه ليس فى حاجة الى أحد وذلك لغناه المطلق ، وقدرته التى لا يعجزها فى الأرض ولا فى السماء شيء.

وقوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا (٢) ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي إذا عرفت حال من تقدم من قوم عاد وثمود وغيرهم فإن لهؤلاء المشركين ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم أي نصيبا من العذاب وعبر بالذنوب التي هي الدلو الملأى بالماء عن العذاب لأن العذاب يصب عليهم كما يصب الماء من الدلو ولأن الدلاء تأتى واحدا بعد واحد فكذلك. الهلاك يتم لأمة بعد أمة حتى يسقوا كلهم مرّ العذاب ، وقوله (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي ما هناك حاجة بهم الى استعجال العذاب فإنه آت في إبّانه ووقته المحدد له لا محالة. وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالله ولقائه والنبي وما جاء به ويل لهم من يومهم الذي يوعدون أي العذاب الشديد لهم من يومهم الذي أوعدهم الله تعالى به وهو يوم القيامة والويل واد في جهنم يسيل بصديد أهل النار والعياذ بالله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة بشرية وهي التكذيب والاتهام بالباطل وقلب الحقائق لكل من جاءهم يدعوهم إلى خلاف مألوفيهم وما اعتادوه من باطل وشر فيدفعون بالقول فإذا أعياهم ذلك دفعوا بالفعل وهى الحرب والقتال.

٢ ـ بيان أن طغيان النفس يتولد عنه كل شر والعياذ بالله.

٣ ـ مشروعية التذكير ، وانه ينتفع به من أراد الله إيمانه ممن لم يؤمن ، ويزداد به إيمان المؤمنين الحاليين.

٤ ـ بيان علة خلق الإنس والجن وهي عبادة الله وحده.

__________________

(١) الجملة تعليلية لما سبقها من قوله : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) و (الرَّزَّاقُ) : كثير الإرزاق و (ذُو الْقُوَّةِ) : صاحبها ومن خصائص (ذو) أنها لا تضاف إلا إلى أمر مهم ، و (الْمَتِينُ) : الكامل في قوته الذي لا يعارض ولا يدانى.

(٢) في قوله تعالى (ذَنُوباً) إشارة إلى ما حصل لصناديد قريش إذ بعد قتلهم ألقوا في قليب ببدر فكان ذلك مصداق قوله (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً) وهي الدلو الملأى فعجبا لهذا القرآن العظيم.

٥ ـ بيان غنى الله تعالى عن خلقه ، وعدم احتياجه اليهم بحال من الأحوال.

٦ ـ توعد الرب تبارك وتعالى الكافرين وأن نصيبهم من العذاب نازل بهم لا محالة.

سورة الطّور

مكية

وآياتها تسع واربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَالطُّورِ) : أي والجبل الذي كلم الله عزوجل عليه موسى عليه‌السلام.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) : أي وقرآن مكتوب.

(فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) : أي في جلد رقيق أو ورق منشور.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) : أي بالملائكة يدخله كل يوم سبعون الف ملك لا يعودون ابدا

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) : أي السماء التي هي كالسقف المرفوع للأرض.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) : أي المملوء المجموع ماؤه بعضه فى بعض.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) : أي تتحرك وتدور.

(فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) : أي في باطل يلعبون اي يتشاغلون بكفرهم.

(يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) : أي يدفعون بعنف دفعا

(أَفَسِحْرٌ هذا) : أي العذاب الذي ترون كما كنتم تقولون في القرآن.

(أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) : أي أم عدمتم الأبصار فأنتم لا تبصرون.

(اصْلَوْها) : أي اصطلوا بحرها.

(فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) : أي صبركم وعدمه عليكم سواء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) هذه خمسة أشياء عظام أقسم الله تعالى بها ، وبالتتبع لما يقسم الله تعالى به يرى أنه إذا أقسم بشيء إنما يقسم به إما لكونه مظهرا من مظاهر القدرة الإلهية ، كالسماء مثلا ، وإما لكونه معظما نحو لعمرك إذ هو إقسام بحياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإما لكونه ذا فائدة للإنسان ونفع خاص به كالتين والزيتون وقوله تعالى (وَالطُّورِ) وهو جيل الطور الذي كلم تعالى عليه موسى وهو مكان مقدس ، وقوله (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٢) أي منشور في ورق أو جلد رقيق وهو التوراة أو القرآن والإقسام به لما فيه من حرمة وقدسية عند الله تعالى ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٣) وهو بيت في السماء تغشاه الملائكة كل يوم وتعمره بالعبادة وهو بحيال الكعبة بحيث لو وقع لوقع فوقها (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) وهو السماء وهي كالسقف للأرض وهي مظهر من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه ومثلها (الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٤) أي المملوء بكميات المياه الهائلة فإنه مظهر من مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية هذا القسم الضخم جوابه أو المقسم عليه هو قوله (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ) يا رسولنا (لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ (٥) دافِعٍ) ليس له من دافع يدفعه ابدا ، وإن له وقتا محددا يقع فيه ، وعلامات تدل عليه وهي

__________________

(١) (الطُّورِ) : الجبل باللغة السريانية ونقل إلى العربية بهذا اللفظ بمعنى الجبل وأصبح علما بالغلبة على جبل طور سيناء الذي ناجى الله تعالى فيه نبيّه موسى عليه‌السلام.

(٢) الرّق : بفتح الراء ، ما رق من الجلد ليكتب فيه ، والمنشور : المبسوط وجائز أن يكون المراد به التوراة أو القرآن ، إذ القرآن يقرؤه المؤمنون من المصاحف وتقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ والرّق بكسر الراء الملك.

(٣) جائز أن يكون المراد بالبيت المعمور الكعبة المشرفة بمكة المكرمة ، وجائز أن يكون بيتا في السماء كما في التفسير ، ويقال له : الضراح بضم الضاد وفي الطبري : أن عليا سئل عن البيت المعمور فقال : بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا.

(٤) جائز أن يكون المراد بالبحر : البحر الأحمر ، (القلزم) الذي أغرق الله تعالى فيه فرعون وملأه. لمناسبة ذكر الطور ، وجائز أن يكون المحيط ووصف بالمسجور وهو المملوء : حتى لا يدخل فيه الأنهار التي تملأ بالأمطار والأودية والسيول.

(٥) زيدت (من) في قوله تعالى (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) لتأكيد النفي.

قوله تعالى (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ (١) مَوْراً) أي تتحرك بشدة وتدور (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) فتكون كالهباء المنبث هنا وهناك (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) والويل واد فى جهنم مملوء بقيح وصديد أهل النار ، والمكذبون هم الكافرون بالله وبما جاءت به رسله عنه من أركان الإيمان وقواعد الإسلام وقوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي في باطلهم وكفرهم يتشاغلون به عن الإيمان الحق والعمل الصالح المزكى للنفس المطهر لها. وقوله (يَوْمَ (٢) يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون بشدة وعنف الى جهنم ويقال لهم توبيخا وتقريعا لهم (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ). أخبرونا : (أَفَسِحْرٌ (٣) هذا) أي العذاب الذي أنتم فيه الآن تعذبون (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) فلا تعاينونه. ويقال لهم ايضا تبكيتا وتقريعا (فَاصْبِرُوا) على عذاب النار (أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ) اي صبركم وعدمه عليكم سواء. (إِنَّما تُجْزَوْنَ (٤) ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي في الدنيا من الشرك والمعاصى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء.

٢ ـ لله تعالى ان يقسم بما يشاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير الله تعالى.

٣ ـ عرض سريع لأهوال القيامة وأحوال المكذبين فيها.

٤ ـ تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) : أي الذين اتقوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم فأدوا الفرائض واجتنبوا النواهي.

__________________

(١) المور : التحرك باضطراب ، ومور السماء : اضطراب أجسامها من الكواكب ، واختلال نظامها عند نهاية الحياة.

(٢) (يَوْمَ يُدَعُّونَ) بدل اشتمال من (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً).

(٣) (أَمْ) هي المنقطعة التي تقدر ببل والاستفهام ، والاستفهام هنا للتهكم والتوبيخ والتقدير : بل أنتم لا تبصرون أي المرئيات.

(٤) (إِنَّما تُجْزَوْنَ) : جملة تعليلية وإن حرف توكيد وما الموصولة بها هي الكافة وإنما المركبة من إن المشددة وما : الكافة لها عن العمل أفادت التعليل.

(فاكِهِينَ) : أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة التى آتاهم ربهم.

ووقاهم عذاب الجحيم : أي وحفظهم من عذاب الجحيم عذاب النار.

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) : أي قرناهم بنساء عظام الأعين حسانها.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى حال أهل النار ذكر حال أهل الجنة وهذا أسلوب الترغيب والترهيب الذي أمتاز به القرآن الكريم فقال تعالى مخبرا عن حال أهل الجنة : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين اتقوا في الدنيا الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين (وَنَعِيمٍ) مقيم يحوى كل ما لذّ وطاب مما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين. (فاكِهِينَ (١) بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) أي متلذذين بأكل الفواكه الكثيرة الموصوفة بقول الله تعالى : لا مقطوعة ولا ممنوعة. (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي حفظهم من عذاب النار. ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا (٢) هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بسبب ما كنتم تعملونه من أعمال البر والإصلاح بعد الفرائض واجتناب الشرك والمعاصي. وقوله (مُتَّكِئِينَ) أي حال كونهم وهم في نعيمهم (مُتَّكِئِينَ عَلى (٣) سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) قد صف بعضها الى جنب بعض. وقوله تعالى (وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي قرناهم بزوجات من الحور العين والحور جمع حوراء وهي التي يغلب بياض عينها على سوادها والعين جمع عيناء وهى الواسعة العينين. جعلنا الله ممن يزوجّون بهن إنه كريم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل التقوى وكرامة أهلها.

٢ ـ بيان منة الله وفضله على أهل الإيمان والتقوى وهم أولياء الله تعالى.

٣ ـ مشروعية الدعاء بكلمة هنيئا لمن أكل أو شرب ائتساء بأهل الجنة.

٤ ـ الإيمان والأعمال الصالحة سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لأن الجنة أغلى من عمل

__________________

(١) (فاكِهِينَ) : أي : ذوي فاكهة كثيرة ، يقال : رجل فاكه : أي ذو فاكهة كما يقال : لابن وتامر أي : ذو لبن وتمر ، قال الشاعر :

وغررتني وزعمت أنّك لابن بالصيف تامر

وفعله فكه كفرح فهو فاكه وفكه ، وقرأ الجمهور بالأول وقرأ أبو جعفر بالثاني ، والفاكه : من طابت نفسه وسرت بما به من النعيم.

(٢) الهنيىء : ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر يقال لهم : ليهنأكم ما صرتم إليه (هَنِيئاً).

(٣) (سُرُرٍ) : جمع سرير ، وفي الكلام حذف تقديره : متكئين على نمارق سرر. قال ابن عباس رضي الله عنهما : سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، والسرير كما بين مكة وأيلة.

الانسان ، وانما العمل الصالح يزكى النفس فيؤهل صاحبها لدخول الجنة فالباء في قوله (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سببية وليست للعوض كما في قولك بعتك الدار بألف مثلا.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

شرح الكلمات :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي حق الإيمان المستلزم للإسلام والإحسان.

(وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) : أي كامل مستوف لشرائطه ومنها الإسلام.

(أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) : أي وإن لم يعملوا عملهم بل قصروا في ذلك.

(وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) : أي وما نقصناهم من أجور أعمالهم شيئا.

(كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) : أي كل إنسان مرهون أي محبوس بكسبه الباطل.

(يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) : أي يتعاطون بينهم فيها أي في الجنة كأسا من خمر.

(لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) : أي لا يقع لهم بسبب شربها لغو وهو كل كلام لا خير فيه ولا إثم.

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ) : أي ويدور بهم خدم لهم.

(كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) : أي مصون.

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي يسأل بعضهم بعضا عما كانوا عليه في الدنيا وما وصلوا إليه في الآخرة.

(قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) : أي قالوا مشيرين الى علة سعادتهم إنا كنا قبل أي في الدنيا.

(فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) : أي بين أهلنا وأولادنا مشفقين أي خائفين من عذاب الله تعالى.

(فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) : أي بالمغفرة.

(وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) : أي وحفظنا من عذاب النار التي يدخل حرها في مسام الجسم.

إنا كنا ندعوه : أي في الدنيا نعبده موحدين له.

(إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) : أي المحسن الصادق في وعده الرحيم العظيم الرحمة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر افضال الله تعالى وإنعامه على أوليائه في الجنة إذ قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي حق الإيمان الذي هو عقد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان (وَاتَّبَعَتْهُمْ (١) ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ) كامل صحيح إلا أنهم لم يبلغوا من الأعمال الصالحة ما بلغه آباؤهم (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) لتقر بذلك أعينهم وتعظم مسرتهم وتكمل سعادتهم باجتماعهم مع ذريتهم. وقوله تعالى : (وَما أَلَتْناهُمْ (٢) مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) أي وما نقصنا الآباء من عملهم الصالح من شيء بل وفيناهموه كاملا غير منقوص ورفعنا إليهم ابناءهم بفضل منا ورحمة. وقوله تعالى : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ (٣) رَهِينٌ) إخبار منه تعالى أن كل نفس عنده يوم القيامة مرتهنة بعملها تجزى به إلا أنه تعالى تفضل على أولئك الآباء فرفع الى درجاتهم أبناءهم تفضلا واحسانا. وقوله عزوجل : (وَأَمْدَدْناهُمْ) أي الآباء والأبناء من سكان الجنة (بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من اللحمان. هذا طعامهم أما الشراب فإنهم (٤) (يَتَنازَعُونَ) أي يتعاطون في الجنة كأسا من خمر (لا لَغْوٌ فِيها). أي لا تسبب هذيانا من الكلام إذ اللغو الكلام الذي لا فائدة منه. وقوله : (وَلا تَأْثِيمٌ) (٥) أي وليس في شربها إثم وقوله تعالى : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ) أي خدم (لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) في جمالهم وحسن منظرهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) في أصدافه.

__________________

(١) قرأ الجمهور (وَاتَّبَعَتْهُمْ) وقرأ أبو عمرو وحده (وأتبعناهم) وقرأ الجمهور (ذُرِّيَّتُهُمْ) بالإفراد ، وقرأ ابن عامر بالجمع :

(ذرياتهم) مفعول لأتبعناهم ، وقرأ نافع (ذرياتهم) الأخيرة بالجمع وقرأها حفص بالإفراد (ذُرِّيَّتُهُمْ) كالأولى.

(٢) (وَما أَلَتْناهُمْ) قرأ الجمهور بفتح اللام ، وقرأه ابن كثير بكسر اللام ، والواو للحال ، فالجملة حالية ، والمعنى : أنّ الله تعالى ألحق بهم ذرياتهم في الدرجة من دون أن ينقص من حسناتهم شيئا.

(٣) الجملة معترضة بين جملة : (وَما أَلَتْناهُمْ) وجملة (وَأَمْدَدْناهُمْ) والجملة تقرير لعدالة الرّب تعالى في الحكم بين عباده فيجزي كل نفس بما كسبت ، وله أن يتفضل ويرفع من يشاء درجات.

(٤) أطلق التنازع على التداول والتعاطي والمعنى : أن بعضهم يصب للبعض ويناوله إيثارا له وكرامة.

(٥) اللغو : سقط الكلام وهذيانه الصادر عن خلل في العقل. والتأثيم : ما يؤثم به فاعله من ضرب أو شتم أو تمزيق ثوب.

وقوله تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) أي عما كان لهم في الدنيا ، وما انتهوا إليه في الآخرة من هذا النعيم المقيم. و (قالُوا) مشيرين الى سبب نعيمهم في الآخرة (إِنَّا كُنَّا) أي في الدنيا (فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ) أي خائفين من عذاب ربنا فترتب على ذلك أن (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بدخول الجنة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) الذي هو عذاب النار الذي ينفذ الى المسام والعياذ بالله تعالى. (إِنَّا (١) كُنَّا مِنْ قَبْلُ) أي في الدنيا قبل الآخرة (نَدْعُوهُ) ونتضرع إليه أن يجيرنا من النار ويدخلنا الجنة (إِنَّهُ هُوَ) تعالى (الْبَرُّ) بأوليائه (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وصف كامل لأهل الجنة وهو تقرير في نفس الوقت للبعث والجزاء بذكر ما يكون فيه.

٢ ـ فضل الإيمان وكرامة أهله عند الله بإلحاق الابناء قليل العمل الصالح بآبائهم الكثيري العمل الصالح.

٣ ـ تقرير قاعدة أن المرء يوم القيامة يكون رهين كسبه لا يفكه الا الله عزوجل فمن استطاع أن يفك رقبته فليفعل وذلك بالإيمان والإسلام والإحسان.

٤ ـ فضيلة الإشفاق في الدنيا من عذاب الآخرة.

٥ ـ فضل الدعاء والتضرع الى الله تعالى.

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤))

__________________

(١) قرأ نافع بفتح همزة أنه على تقدير حرف جرّ لأنه للتعليل ، وقرأ حفص بالكسر. والجملة تعليلية.

شرح الكلمات :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) : أي فذكر بالقرآن وعظ من أرسلت إليهم من قومك وغيرهم فلست بنعمة ربك عليك بالعقل وكمال الخلق والوحى إليك.

(بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) : أي بمتعاط للكهانة فتخبر عن الغيب بواسطة رئي من الجن ولا أنت بمجنون.

(نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) : أي تنظر به حوادث الدهر من موت وغيره.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) : أي أتأمرهم احلامهم أي عقولهم بهذا وهو قولهم إنك كاهن ومجنون لم تأمرهم عقولهم به.

(أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) : أي بل هم قوم طاغون متجاوزون لكل حد تقف عنده العقول.

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ؟) : أي اختلق القرآن وكذبه من تلقاء نفسه.

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) : أي فليأتوا بقرآن مثله يختلقونه بأنفسهم.

(إِنْ كانُوا صادِقِينَ) : أي في أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم اختلق القرآن.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض لأحوال أهل النار وأهل الجنة فلم يبق الا التذكير يا رسولنا (فَذَكِّرْ) أي قومك ومن تصل اليهم كلمتك من سائر الناس بالقرآن وما يحمل من وعد ووعيد ؛ وما يدعو إليه من هدى وطريق مستقيم ، (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي بما أولاك ربك من رجاحة العقل وكمال الخلق وكرم الفعال وشرف النبوة (بِكاهِنٍ) تقول الغيب بواسطة رئيّ من الجن ، (وَلا مَجْنُونٍ) تخلط القول وتقول بما لا يفهم عنك ولا يعقل.

وقوله تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ (١) نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (٢) أي بل يقولون هو شاعر كالنابغة وزهير نتربص به حوادث الدهر حتى يهلك كما هلك من قبله من الشعراء ولا ندخل معه في خصومة وجدل قد يغلبنا. وقوله تعالى (قُلْ تَرَبَّصُوا) (٣) أي ما دمتم قد رأيتم التربص بي فتربصوا (فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) ، وقوله تعالى : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) والاستفهام للنفي والتوبيخ والجواب لم تأمرهم عقولهم بهذا بل (هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي إن طغيانهم هو الذي يأمرهم بما يقولون

__________________

(١) (أَمْ) : هي المنقطعة المفسرة ببل والاستفهام قيل للإضراب الانتقالي من قول إلى آخر والاستفهام إنكاري.

(٢) روى الطبراني عن قتادة : أنهم كانوا يقولون : تربصوا بمحمد الموت يكفيكموه كما كفاكم شاعر بني فلان وشاعر بني فلان ، و (الْمَنُونِ) من أسماء الموت ، والريب : أحداث الدهر. والمعنى : ينتظرون به أحداث الدهر المفضية به إلى الموت.

(٣) أمر الله رسوله أن يقول لهم (تَرَبَّصُوا) بي ريب المنون فإني متربص بكم ما سيحدث لكم من أحداث تهلكون فيها وفي هذا : معنى المفاصلة وإنهاء الجدال والمخاصمة.

ويفعلون من الباطل والشر والفساد وقوله (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) والجواب وإن قالوا تقوله فإن قولهم لم ينبع من عقولهم ولم يصدر من أحلامهم بل عن كفرهم وتكذيبهم (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) ، والدليل على صحة ذلك تحدى الله تعالى لهم بالإتيان بحديث مثله وعجزهم عن ذلك فلذا هم لا يعتقدون ولا يرون أن الرسول تقول القرآن من عنده ، وإنما لما لم يؤمنوا به لا بد أن يقولوا كلمة يدفعون بها عن أنفسهم فقالوا تقوله فقال تعالى (بَلْ لا (١) يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي مثل القرآن (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في قولهم إن الرسول تقوله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التذكير والوعظ والارشاد على أهل العلم بالكتاب والسنة لأنهم خلفاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمته.

٢ ـ ذم الكهانة بل حرمتها لأنها من أعمال الشياطين ، والكاهن من يقول بالغيب.

٣ ـ ذم الطغيان فانه منبع كل شر ومصدر كل فتنة وضلال.

٤ ـ حرمة الكذب مطلقا وعلى الله ورسوله بخاصة لما ينشأ عنه من فساد الدين والدنيا.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

__________________

(١) (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) أي : علة لقولهم (تَقَوَّلَهُ) إذ هم يعرفون تمام المعرفة أنه ليس من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما مما يوحى إليه من الله تعالى وإنما قالوا : تقوّله لعدم إيمانهم ، ثم تحداهم الحق تعالى بقوله (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) في دعواهم أنه تقوّله أي : فليتقوّلوا مثله!!

شرح الكلمات :

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟) : أي من غير خالق خلقهم وهذا باطل.

(أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟) : أي لأنفسهم وهذا محال إذ الشيء لا يسبق وجوده.

(أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟) : أي لم يخلقوهما لأن العجز عن خلق أنفسهم دال على عجزهم عن خلق غيرهم.

(بَلْ لا يُوقِنُونَ) : أي أن الله خلقهم وخلق السموات والأرض كما يقولون إذ لو كانوا موقنين لما عبدوا غير الله ولآمنوا برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) : أي من الرزق والنبوة وغيرهما فيخصوا من شاءوا بذلك من الناس.

(أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) : أي المتسلطون الغالبون فيتصرفون كيف شاءوا.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) : أي ألهم مرقى الى السماء يرقون فيه فيسمعون كلام الملائكة فيأتون به ويعارضون الرسول في كلامه.

فليأتوا بسلطان مبين : أي بحجة بينة تدل على صدقه وليس لهم في ذلك كله شيء.

(أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ)؟ : أي أله تعالى البنات ولكم البنون إن أقوالكم كلها من هذا النوع لا واقع لها أبدا إنها افتراءات.

أم تسئلهم أيها الرسول أجرا : أي على إبلاغ دعوتك.

(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) : أي فهم من فداحة الغرم مغتمون ومتعبون فكرهوا ما تقول لذلك.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : أي علم الغيب فهم يكتبون منه لينازعوك ويجادلوك به.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) : أي مكرا وخديعة بك وبالدين.

(فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ) : أي فالكافرون هم المكيدون المغلوبون.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) : أي ألهم معبود غير الله والجواب : لا.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تنزه الله عما يشركون به من أصنام وأوثان.

معنى الآيات :

بعد أن أمر تعالى رسوله بالتذكير وأنه أهل لذلك لما أفاض عليه من الكمالات وما وهبه من المؤهلات. أخذ تعالى يلقن رسوله الحجج فيذكر له باطلهم موبخا إياهم به ثم يدمغه بالحق في أسلوب قرآني عجيب لا يقدر عليه الا الله سبحانه وتعالى. ومنه قوله : (أَمْ خُلِقُوا (١) مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي أخلقوا من غير خالق (أَمْ هُمُ (٢) الْخالِقُونَ) والجواب لم يخلقوا من غير خالق ، ولا هم خلقوا أنفسهم إذ الأول باطل فما هناك شيء موجود وجد بغير موجد؟! والثاني محال ؛ إن المخلوق لا يوجد قبل أن يخلق فكيف يخلقون أنفسهم وهم لم يخلقوا بعد؟! ويدل على جهلهم وعمي قلوبهم ما رواه البخاري عن جبير بن مطعم أنه ذكر أنه لما قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد وقعة بدر في شأن فداء الأسرى سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور قال فلما بلغ في القراءة عند هذه الآية (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) كاد قلبي يطير. سمعها وهو مشرك فكانت سببا في إسلامه فلو فتح القوم قلوبهم للقرآن لأنارها واسلموا في أقصر مدة.

وقوله تعالى : (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ (٣) وَالْأَرْضَ) والجواب : لا ، إذ العاجز عن خلق ذبابة فما دون عن خلق السموات والأرض وما فيهما أعجز. وقوله تعالى (بَلْ لا يُوقِنُونَ) أن الله هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض فقولهم عند سؤال من خلقهم : الله ، وعن خلق السموات والأرض : الله لم يكن عن يقين إذ لو كان عن يقين منهم لما عبدوا الأصنام ولما أنكروا البعث ولما كذبوا بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله تعالى (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) أي من الأرزاق والخيرات والفواضل والفضائل فيخصوا من شاءوا منها ويحرموا من شاءوا والجواب ليس لهم ذلك فلم إذا ينكرون على الله ما أتى رسوله من الكمال والإفضال؟ (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي الغالبون القاهرون المتسلطون فيتصرفون كيف شاءوا في الملك؟ والجواب : لا ، إذا فلم هذا التحكم الفاسد. وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ (٤) فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي ألهم مرقى

__________________

(١) هذا إضراب انتقالي إلى ابطال نوع آخر من شبهتهم في إنكار البعث إذ السورة مكية ، والغالب على هذه السورة معالجة عقيدة البعث الآخر والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) تقريري.

(٢) الاستفهام المقدر هنا إنكاري.

(٣) الاستفهام تقريري ، وبل المقدرة قبل الاستفهام للانتقال وهكذا يورد. قولهم مقررا لهم ثم يكر عليه فيبطله في جميع هذه الجمل المبدوءة ب أم المنقطعة.

(٤) السلم : المصعد ، وجمعه سلالم قال الشاعر :

ومن هاب أسباب المنية يلقها

ولو رام أسباب السماء بسلّم

وقال آخر :

لا تحرز المرء أحجاء البلاد ولا

يبنى له في السموات السلاليم

أحجاء البلاد : أرجاؤها ونواحيها.

يرقون فيه إلى السماء فيستمعون الى الملائكة فيسمعون منهم ما يمكنهم ان ينازعوا فيه رسولنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فليأت مستمعهم بحجة واضحة ظاهرة على دعواه ومن أين له ذلك وقد حجبت الشياطين والجن عن ذلك فكيف بغير الجن والشياطين.

وقوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) أي لله تعالى البنات ولكم البنون إن جميع ما تقولونه من هذا النوع هو كذب ساقط بارد ، وافتراء ممقوت ممجوج إن نسبتهم البنات لله كافية في رد كل ما يقولون ومبطلة لكل ما يدعون فإنهم كذبة مفترون لا يتورعون عن قول ما تحيله العقول ، وتتنزه عنه الفهوم. وقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي أتسألهم يا رسولنا عما تبلغهم عنا أجرا فهم لذلك مغتمون ومتعبون فلا يستطيعون الإيمان بك ولا يقدرون على الأخذ عنك.

وقوله : (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ (١) يَكْتُبُونَ) أي أعندهم علم الغيب فهم منهمكون في كتابته لينازعوك فيما عندك ويحاجوك بما عندهم ، والجواب من أين لهم ذلك ، وقوله : (أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) أي أيريدون بك وبدينك كيدا ؛ ليقتلوك ويبطلوا دينك (فَالَّذِينَ كَفَرُوا (٢) هُمُ الْمَكِيدُونَ) ولست أنت ولا دينك. ولم يمض عن نزول هذه الآيات طويل زمن حتى هلك أولئك الكائدون ونصر الله رسوله وأعز دينه والحمد لله رب العالمين.

وقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) أي ألهم (٣) إله أي معبود غير الله يعبدونه والحال أنه لا إله إلا الله (سُبْحانَ) (٤) (اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تنزه الله وتقدس عما يشركونه به من أصنام وأوثان لا تسمع ولا تبصر فضلا عن أن تضر أو تنفع.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد بذكر دلائله.

٢ ـ تقرير النبوة المحمديّة.

٣ ـ تسفيه أحلام المشركين.

٤ ـ عدم مشروعية أخذ أجر على إبلاغ الدعوة.

٥ ـ لا يعلم الغيب إلا الله.

__________________

(١) حاصل معنى هذا : أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه من البعث والوعيد والنبوة ولا بإثبات ما أثبتوه من الشرك وما وصفوا به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفات مستحيلة الوقوع.

(٢) لم يمض يسير زمن حتى هلك رؤساء الشرك في بدر مصداق قوله تعالى : (هُمُ الْمَكِيدُونَ) كقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

(٣) الاستفهام إنكاري.

(٤) نزّه تعالى نفسه أن يكون له شريك كما زعم المشركون وادعوا باطلا فأبطل بذلك كل دعاويهم في تأليه غيره تعالى من الأصنام والشياطين.

٦ ـ صدق القرآن في أخباره آية أنه وحي الله وكلامه صدقا وحقا إنه لم يمض إلا قليل من الوقت أي خمسة عشر عاما حتى ظهر مصداق قول الله تعالى فالذين كفروا هم المكيدون.

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

شرح الكلمات :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) : أي وإن ير هؤلاء المشركون قطعة من السماء تسقط عليهم.

(يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) : أي يقولوا في القطعة سحاب متراكم يمطرنا ولا يؤمنوا.

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) : أي فاتركهم إذا يجاحدون ويعاندون حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون وهو يوم موتهم.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) : أي اتركهم الى ما ينتظرهم من العذاب ما داموا مصرين على الكفر وذلك يوم لا يغنى عنهم مكرهم بك شيئا من الإغناء.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ) : أي وإن لهؤلاء المشركين الظلمة عذابا في الدنيا دون

عذاب يوم القيامة وهو عذاب القحط سبع سنين وعذاب القتل في بدر.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : أي أن العذاب نازل بهم في الدنيا قبل يوم القيامة.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : أي بإمهالهم ولا يضق صدرك بكفرهم وعنادهم وعدم تعجيل العذاب لهم.

(فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) : أي بمرأى منا نراك ونحفظك من كيدهم لك ومكرهم بك.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) : أي واستعن على الصبر بالتسبيح الذي هو الصلوات الخمس والذكر بعدها والضراعة والدعاء صباح مساء.

معنى الآيات :

يذكر تعالى من عناد المشركين أنهم لو رأوا العذاب نازلا من السماء في صورة قطعة كبيرة من السماء ككوكب مثلا لما أذعنوا ولا آمنوا بل قالوا في ذلك العذاب (سَحابٌ مَرْكُومٌ) الآن يسقى ديارنا فنرتوي وترتوي أراضينا وبهائمنا. إذا فلما كان الأمر هكذا (فَذَرْهُمْ) (١) يا رسولنا في عنادهم وكفرهم (حَتَّى يُلاقُوا) وجها لوجه (يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) أي يموتون (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ (٢) شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، فيذهب كيدهم ولا يجدون له أي أثر بحيث لا يغنى عنهم أدنى إغناء من العذاب النازل بهم ولا يجدون من ينصرهم ، وذلك يوم القيامة.

وقوله تعالى : (وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أنفسهم أي بالكفر والتكذيب والشرك والمعاصى (عَذاباً دُونَ) (٣) (ذلِكَ) المذكور من عذاب يوم القيامة وهو ما أصابهم به من سني القحط والمجاعة وما أنزله بهم من هزيمة في بدر حيث قتل صناديدهم وذلوا وأهينوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ، ولو علموا لما أصروا على العناد والكفر.

وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) وقضائه بتأخير العذاب عن هؤلاء المشركين ، ولا تخف ولا تحزن (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي بمرأى منا نراك ونحفظك ، وجمع لفظ العين على أعين مراعاة لنون العظمة وهو المضاف إليه «بأعيننا».

وقوله (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده (حِينَ تَقُومُ) (٤) من نومك ومن مجلسك

__________________

(١) يقال في مثل هذا : هو منسوخ بآية السيف.

(٢) هو ما كانوا يكيدون للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يمكرون به.

(٣) جائز أن يكون عذاب القبر.

(٤) شاهده ما رواه الترمذي بإسناد حسن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذاك).

(وَمِنَ اللَّيْلِ) ايضا (فَسَبِّحْهُ) بصلاة المغرب والعشاء والتهجد وكذا (إِدْبارَ النُّجُومِ) أي بعد طلوع الفجر فسبح بصلاة الصبح وغيرها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عناد كفار قريش ومكابرتهم فى الحق ومجاحدتهم فيه.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهى للدعاة بعده أيضا.

٣ ـ تقرير وخامة عاقبة الظلم في الدنيا قبل الآخرة.

٤ ـ وجوب الصبر على قضاء الرب وعدم الجزع.

٥ ـ مشروعية التسبيح عند القيام (١) من النوم بنحو : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير والحمد لله الذى أحيانى بعدما أماتنى وإليه النشور.

سورة النجم

مكية

وآياتها ثنتان وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ

__________________

(١) يرى ابن مسعود رضي الله عنه أن قوله : (حِينَ تَقُومُ) شامل لكل قيام يقومه من أي مكان.

نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

شرح الكلمات :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) : أي والثريا إذا غابت بعد طلوعها.

(ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) : أي ما ضل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طريق الهدى.

(وَما غَوى) : أي وما لابس الغى وهو جهل من اعتقاد فاسد.

(وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) : أي عن هوى نفسه أي ما يقوله عن الله تعالى لم يصدر فيه عن هوى نفسه.

(إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) : أي ما هو إلا وحى إلهى يوحى إليه.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) : أي علمه ملك شديد القوى وهو جبريل عليه‌السلام.

(ذُو مِرَّةٍ) : أي لسلامة فى جسمه وعقله فكان بذلك ذا قوة شديدة.

(فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) : أي استقر وهو بأفق الشمس عند مطلعها على صورته التى خلقه الله عليها فرآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان بجياد قدسد الأفق الى المغرب وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي طلب من جبريل أن يريه نفسه فى صورته التي خلقه الله عليها.

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) : أي وقرب منه فتدلى أى زاد فى القرب.

(فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) : أي فكان فى القرب قاب قوسين أي مقدار قوسين.

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) : أي فأوحى الله تعالى إلى عبده جبريل ما أوحاه جبريل الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) : أي ما كذب فؤاد النبي ما رأى ببصره من صورة جبريل عليه‌السلام.

(أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) : أي أفاتجادلونه أيها المشركون على ما يرى من صورة جبريل.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) : أي على صورته مرة أخرى وذلك فى السماء ليلة أسرى به.

(عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) : وهي شجرة نبق عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة.

(عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) : أي تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء والمتقين أولياء الله.

(إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) : أي من نور الله تعالى ما يغشى.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) : أي ما مال بصر محمد يمينا ولا شمالا ، ولا ارتفع عن الحد الذي حدد له.

(لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) : أي رأى جبريل في صورته ورأى رفرفا أخضر سد أفق السماء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالنَّجْمِ) (١) إلى قوله (مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) يقرر به تعالى نبوة محمد عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أقسم بالنجم إذا هوى وهو نجم الثريا إذا غاب في الأفق على أنه ما ضل محمد صاحب قريش الذي صاحبته منذ ولادته ولم يغب عنها ولم تغب عنه مدة تزيد على الأربعين سنة فهى صحبة كاملة (ما ضَلَ) عن طريق الهدى وهم يعرفون هذا ، (وَما غَوى) (٢) أيضا أية غواية وما لابسه جهل في قول ولا عمل فغوى به. (وَما يَنْطِقُ) بالقرآن وغيره مما يقوله ويدعو إليه عن هوى (٣) نفسه كما قد يقع من غيره من البشر (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) أي ما هو أي الذي ينطق به ويدعو إليه ويعمله إلا وحى يوحى إليه. (عَلَّمَهُ) إياه ملك (شَدِيدُ الْقُوى (٤) ذُو مِرَّةٍ) أي سلامة عقل وبدن فكان بذلك قويا روحيا وعقليا وذاتيا وهو جبريل عليه‌السلام وقوله : (فَاسْتَوى) أي جبريل (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ومعنى استوى استقر (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) أي تدلى فدنا أي قرب شيئا فشيئا حتى كان من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قابَ قَوْسَيْنِ) أي قدر قوسين والقوس معروف آلة للرمي (أَوْ أَدْنى) أي من قاب قوسين (٥).

__________________

(١) أصل النجم : الطلوع والظهور يقال : نجم السّن : إذا طلع ، ونجم السر إذا ظهر وأطلق النجم بالغلبة على الثريا. الهوي : السقوط يقال : هوى يهوي هويا كمضى يمضي مضيا. وهوى يهوي هويا : إذا خسر للسجود ، ومن الحب يقال : هوى يهوى هوى كرضي يرضى رضا : إذا أحب.

(٢) الغيّ : ضد الرشد ، والغواية مثله : وهو فساد الرأي وتعاطي الإنسان الباطل من الأقوال والأفعال مما لا خير فيه البتة.

(٣) الهوى : ميل النفس إلى ما تحبّه أو تحبّ أن تفعله دون اقتضاء العقل السليم الحكيم له وفعله : هوى يهوى كرضي يرضى هوى.

(٤) (شَدِيدُ الْقُوى) صفة لموصوف محذوف أي : علّمه ملك شديد القوى هو جبريل اجماعا ، والمرة : تطلق على قوة الذات وعلى متانة العقل معا ، وعليهما كان جبريل عليه‌السلام.

(٥) أي : مقدار قوسين.

وقوله تعالى (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١) أي فأوحى الله تعالى إلى جبريل ما أوحى إلى نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) أي ما كذب فؤاد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآه محمد ببصره وهو جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها ذات الستمائة جناح طول الجناح ما بين المشرق والمغرب. وقوله تعالى : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) هذا خطاب للمشركين المنكرين لرؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينكر تعالى ذلك عليهم بقوله (أَفَتُمارُونَهُ) أي تجادلونه وتغالبونه أيها المشركون على ما يرى ببصره. (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (٢) أي مرة أخرى (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) (٣) وذلك ليلة أسرى به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووصفت هذه السدرة (٤) وهي شجرة النبق بأن أوراقها كآذان الفيلة وأن ثمرها كغلال هجر قال فلما غشيها من أمر الله تعالى ما غشيها تغيّرت فما أحد من خلق الله تعالى يقدر أن ينعتها من حسنها ، وسميت سدرة المنتهى لانتهاء علم كل عالم من الخلق إليها أو لكونها عن يمين العرش لا يتجاوزها أحد من الملائكة. وقوله (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي الجنة التى تأوى إليها الملائكة وأرواح الشهداء ، والمتقين أولياء الله تعالى.

وقوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) (٥) أي من نور الله تعالى ، والملائكة من حب الله مثل الغربان حين تقفز على الشجر كذا روى ابن جرير الطبرى. وقوله (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) أي ما مال بصر محمد يمينا ولا شمالا ولا ارتفع فوق الحد الذي حدد له. (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ (٦) رَبِّهِ الْكُبْرى) أي رأى جبريل في خلقه الذي يكون فيه في السماء ورأى رفرفا أخضر قد سد الأفق ورأى من عجائب خلق الله ومظاهر قدرته وعلمه ما لا سبيل إلى إدراكه والحديث عنه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة لمحمد وإثباتها بمالا مجال للشك والجدال فيه.

٢ ـ تنزيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القول بالهوى أو صدور شيء من أفعاله أو أقواله من اتباع الهوى.

٣ ـ وصف جبريل عليه‌السلام.

٤ ـ إثبات رؤية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لجبريل وعلى صورته التي يكون في السماء عليها مرتين.

٥ ـ تقرير حادثة الإسراء والمعراج وإثباتها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ بيان حقيقة سدرة المنتهى.

__________________

(١) (ما أَوْحى) إبهام من أجل التفخيم أي : أوحى إليه شيئا عظيما.

(٢) (نَزْلَةً) على وزن فعلة من النزول دال على المرة أي : رآه إذ نزل إليه مرة أخرى.

(٣) السدر شجر معروف صحراوي فيه ثلاث ميزات : ظل ظليل وثمر لذيذ ورائحة ذكية.

(٤) هذا الوصف رواه مسلم في صحيحه.

(٥) في قوله (ما يَغْشى) من التفخيم ما فيه.

(٦) جملة : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ) تذييل أي : رأى آيات أخرى غير سدرة المنتهى وجنة المأوى وما غشي السدرة من البهجة والجلال والآيات : دلائل عظمة الله تعالى.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦))

شرح الكلمات :

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) : أي أخبروني عن أصنامكم التى اشتققتم لها أسماء من أسماء الله وأنثتموها.

(وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (١) : وجعلتموها بنات لله ، افتراء على الله وكذبا عليه.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) : أي أتزعمون أن لكم الذكر الذي ترضونه لأنفسكم ولله الأنثى التي لا ترضونها لأنفسكم.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) : أي قسمتكم هذه إذا قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة ناقصة غير تامة.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها) : أي ما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إلا أسماء لا حقيقة لها.

(أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) : أي سميتموها بها أنتم وآباؤكم.

(ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) : أي لم ينزل الله تعالى وحيا يأذن في عبادتها.

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) : أي ما يتبع المشركون في عبادة أصنامهم إلا الظن والخرص والكذب.

__________________

(١) هدمها خالد بن الوليد بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما شرع في هدمها قال لها :

يا عزّ كفرانك لا سبحانك

إني رأيت الله قد أهانك

(وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) : أي وما يتبعون الا ما تهواه نفوسهم وما تميل إليه شهواتهم.

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) : أي بل اللإنسان ما تمنّى والجواب لا ليس له كل ما يتمنى.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) : أي إن الآخرة والأولى كلاهما لله يهب منهما ما يشاء لمن يشاء.

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) : أي وكثير من الملائكة في السموات.

(لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) : أي لو أرادوا أن يشفعوا لأحد حتى يكون الله قد أذن لهم ورضى للمسموح له بالشفاعة.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى مظاهر قدرته وعظمته وعلمه وحكمته في الملكوت الأعلى جبريل وسدرة المنتهى وما غشاها من نور الله وما أرى رسوله من الآيات الكبرى ، خاطب المشركين بقوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ) (١) (وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أي أعميتم فرأيتم هذه الأصنام أهلا لأن تسوّى بمن له ملكوت السموات والأرض وعبدتموها معه على حقارتها ودناءتها ، وأزددتم عمى فاشتقتتم لها من أسماء الله تعالى أسماء فمن العزيز اشتققتم العزى ومن الله اشتققتم اللات ، وجعلتموها بنات لله افتراء على الله بزعمكم أنها تشفع لكم عند الله. أخبرونى (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) (٢) لأنكم تحبون الذكران وترضون بهم لأنفسكم ، (وَلَهُ الْأُنْثى) لأنكم تكرهونها ولا ترضون بها لأنفسكم ، إذا كان الأمر على ما رأيتم فإنها (قِسْمَةٌ ضِيزى) (٣) أي جائرة غير عادلة وناقصة غير تامة فكيف ترضونها لمن عبدتم الأصنام من أجل التوسل بها إليه ليقضى حوائجكم؟ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ). إن أصنامكم أيها المشركون لا تعدو كونها أسماء لآلهة لا وجود لها ولا حقيقة في عالم الواقع إذ لا إله إلا الله ، أما اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى فلم تكن آلهة تحيى وتميت وتعطى وتمنع وتضر وتنفع. إن هي أي ما هي إلا (أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ

__________________

(١) انتقل الكلام من تقرير النبوة المحمدية إلى تقرير الإلهية الربانية ، واللات أصله : لات فأدخلوا عليه ال فصار اللات ، وهي صنم لثقيف كانت قريش والعرب يعبدونه ، وقيل : هو وصف لرجل كان يلت السوق للحجاج ثم صنع له صنم تمثالا وألهته ثقيف وقريش وجمهور العرب والعزى اسم مشتق من العز وهي فعلى ككبرى : صنم عليه بناء كان بوادي نخلة فوق (ذات عرق) ميقات أهل العراق قريبا من الطائف ومناة : صنم كان لخزاعة كان بالمشلل حذو قديد بين مكة والمدينة وكان الأوس والخزرج يهلون منه ويطوفون به كالسعي بين الصفا والمروة.

(٢) تقديم الجار والمجرور في (أَلَكُمُ الذَّكَرُ) للاهتمام بالاختصاص.

(٣) (ضِيزى) اسم كدفلي وشعرى ، وهو مشتق من ضاز يضيز ضيزا : إذا ظلم وتعدى وبخس وانتقص. قال الشاعر :

ضازت بنو أسد بحكمهم

إذ يجعلون الرأس كالذنب

سُلْطانٍ) أي لم ينزل بها وحيا يأذن بعبادتها. وهنا التفت الجبار جل جلاله في الخطاب عنهم وقال (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) أي إن هؤلاء المشركين ما يتبعون في عبادة هذه الأصنام إلّا الظن ، فلا يقين لهم في صحة عبادتها. كما يتبعون في عبادتها (وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) أي هوى أنفسهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) فبيّن لهم الصراط السوى فأعرضوا عنه وهو الحق من ربهم. وتعلقوا بالأمانى الكاذبة وأن أصنامهم تشفع لهم ، (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) (١) والجواب ليس له ما تمنى ، إذ (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) يعطى منها ما يشاء ويمنع ما يشاءوكم (٢) (مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) لا يعدون كثرة (لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء ولو قلّ (إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ) أن يشفع من الملائكة وغيرهم ، (وَيَرْضى) عن المشفوع له ، وإلّا فلا شافع ولا شفاعة تنفع عند الله الملك الحق المبين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالشرك والمشركين وتسفيه أحلامهم لعبادتهم اسماء لا مسميات لها فى الخارج إذ تسمية حجرا إلها لن تجعله إلها.

٢ ـ بيان أن المشركين في كل زمان ومكان ما يتبعون في عبادة غير الله إلا أهواءهم.

٣ ـ بيان أن الانسان لا يعطى بأمانيه ، ولكن بعمله وصدقه وجده فيه.

٤ ـ بيان أن الدنيا كالآخرة لله فلا ينبغي أن يطلب شيء منها إلا من الله مالكها.

٥ ـ كل شفاعة ترجى فهى لا تحقق شيئا الا بتوفر شرطين الأول أن يأذن الله للشافع فى الشفاعة والثانى أن يكون الله قد رضي للمشفوع له بالشفاعة والخلاصة هى : الإذن للشافع والرضا عن المشفوع.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

__________________

(١) الاستفهام المقدر بعد أم إنكاري المقصود منه إبطال حصول الإنسان على ما يتمناه.

(٢) هذه الجملة تأكيد لإبطال حصول الإنسان على ما يتمناه وإبطال لاعتقاد المشركين في أن آلهتهم تشفع لهم عند الله عزوجل.

شرح الكلمات

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) : أي إن الذين لا يؤمنون بالبعث والحياة الآخرة.

(لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) : أي ليطلقون على الملائكة أسماء الإناث إذ قالوا بنات الله.

(وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) : أي وليس لهم بذلك علم من كتاب ولا هدى من نبي ولا عقل سوى

(إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) (١) : أي في تسميتهم الملائكة إناثا إلا مجرد الظن ، والظن لا تقوم به حجة ولا يعطى به حق.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) : أي القرآن وعبادتنا.

(وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) : ولم يرد من قوله ولا عمله إلا ما يحقق رغائبه من الدنيا.

(ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) : أي ذلك الطلب للدنيا نهاية علمهم إذ آثروا الدنيا على الآخرة.

معنى الآيات :

لما ندد تعالى بالمشركين الذين جعلوا من الأصنام والأوهام والأمانى آلهة وجادلوا دونها وجالدوا ذكر ما هو علة ذلك التخبط والضلال فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) دار السعادة الحقة أو الشقاء (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) فلو آمنوا بالآخرة لما سموا الملائكة بنات الله لأن المؤمن بالآخرة يحاسب نفسه على كل قول وعمل له تبعة يخشى أن يؤخذ بها بخلاف الذي لا يؤمن بالآخرة فإنه يقول ويفعل ما يشاء لعدم شعوره بالمسئولية والتبعة التى قد يؤخذ بها فيهلك ويخشى كل شيء وهو تعليل سليم حكيم.

وقوله تعالى : (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ (٢) عِلْمٍ) أي ليس لهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله أي علم يعتد به (إِنْ يَتَّبِعُونَ) فيه (إِلَّا الظَّنَ) والظن أكذب الحديث ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وبناء على هذا أمر الله تعالى رسوله أن يعرض عمن تولى منهم عن الحق بعد معرفته وعن الهدى بعد مشاهدته فقال تعالى (فَأَعْرِضْ (٣) عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) أي القرآن والإيمان والتوحيد والطاعة ، (وَلَمْ يُرِدْ) بقوله وعمله واعتقاده (إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) إذ هو لا يؤمن بالآخرة فلذا هو قد كيّف حياته بحسب

__________________

(١) حذّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القول بالظن وكذا العمل به ففي الصحيح قال (إيّاكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)!!

(٢) نفي العلم عنهم حجة قاطعة على ادعائهم لأنّ ما لا يثبت بالعلم النقلي أو العقلي لا تقوم به حجة ولا يثبت به شيء وقد وبّخهم تعالى في قوله : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ)؟

(٣) قيل نزلت هذه الآية فى النضر بن الحارث ، والوليد بن المغيرة ، والآية نزلت قبل الأمر بالجهاد.

الدنيا فكل تفكيره في الدنيا ، وكل عمله لها فيصبح بذلك أشبه بالآلة منه بالحيوان. وتصبح الحياة معه عقيمة الفائدة فلذا يجب الإعراض عنه وتركه إلى أن يأذن الله فيه بشيء.

وقوله تعالى (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ (١) مِنَ الْعِلْمِ) أي هذا الطلب للدنيا هو ما انتهى إليه علمهم فلذا هم آثروها عن الآخرة التي لم يعلموا عنها شيئا.

وقوله تعالى في خطاب رسوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَ (٢) عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) أي إن ربك أيها الرسول هو أعلم منك ومن غيرك بمن ضل عن سبيله قدرا وأزلا فضل في الحياة الدنيا أيضا ، وهو أعلم بمن اهتدى ، قضاء وقدرا وواقعا في الحياة الدنيا وسيجزى كلا بما عمل من خير أو شر فلا تأس يا رسولنا ولا تحزن وفوّض الأمر إلينا فإنا عالمون ومجازون كل عامل بما عمل في دار الجزاء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أكثر الأمراض مردها إلى قلب لا يؤمن بالآخرة.

٢ ـ أكثر الفساد في الأرض هو نتيجة الجهل وعدم العلم اليقيني.

٣ ـ التحذير من الماديين فإنهم شر وخطر وواجب الإعراض عنهم لأنهم شر الخليقة.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢))

__________________

(١) قال الفراء : صغّرهم وازدرى بهم أي : ذلك قدر عقولهم ونهاية علمهم أن آثروا الدنيا على الآخرة.

(٢) هذه الجملة تعليل لجملة : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى) والجملة متضمنة زيادة على التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوعد والوعيد فالوعد للمهتدين من الرسول والمؤمنين والوعيد للمشركين الضالين عن سبيل الهدى فإن جزاءهم الشقاء في دار الشقاء.

شرح الكلمات :

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا وتصرفا.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) : ليعاقب الذين أساءوا بما عملوا من الشرك والمعاصي.

(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) : ويثيب الذين أحسنوا في إيمانهم وعملهم الصالح بالجنة.

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) : أي يتجنبون كبائر الذنوب وهو كل ذنب وضع له حد أو لعن فاعله أو توعد عليه بالعذاب في الآخرة.

(وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) : أي الذنوب القبيحة كالزنا واللواط وقذف المحصنات والبخل واللمم صغائر الذنوب التى تكفر باجتناب كبائرها.

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) : أي خلق أباكم آدم من تراب الأرض.

(وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) : أي وأنتم في أرحام أمهاتكم لم تولدوا بعد.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) : أي فلا تمدحوها على سبيل الفخر والإعجاب.

(هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) : أي منكم بمن اتقى منكم وبمن فجر فلا حاجة الى ذكر ذلك منكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير ربوبيته تعالى المطلقة لكل شيء إذ تقدم في السياق قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) وهنا قال عز من قائل (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرفا وتدبيرا فهو يهدى من يشاء ويضل من يشاء هداية تابعة لحكمة وإضلال كذلك يدل عليه قوله تعالى (لِيَجْزِيَ (١) الَّذِينَ أَساؤُا) أي إلى أنفسهم (بِما عَمِلُوا) من الشرك والمعاصى يجزيهم بالسوء وهي جهنم (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) إلى أنفسهم فزكوها وطهروها بالإيمان والعمل الصالح يجزيهم (بِالْحُسْنَى) (٢) التى هي الجنة وقوله (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ (٣) وَالْفَواحِشَ) بيّن فيه وجه إحسان المحسنين إلى أنفسهم حين طهروها بالإيمان وصالح الأعمال ولم يلوثوها بأوضار كبائر الإثم من كل ما توعد فاعله بالنار أو بلعن أو إقامة حد ، أو غضب الرب.

__________________

(١) هذه اللام هي لام التعليل إذ أوجد الله تعالى العوالم العلوية والسفلية من أجل الإنسان ، وأوجد الإنسان للذكر والشكر فمن ذكر وشكر وهو المحسن فله الجنة ومن نسي وكفر فله السوأى وهي النار.

(٢) أي : بالمثوبة الحسنى وهي الجنة ، والحسنى صفة لموصوف محذوف وهي المثوبة.

(٣) (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ) الخ صفة للذين أحسنوا أي : أحسنوا بفعل الواجبات واجتنبوا كبائر الذنوب والسيئات حتى لا تتلوث أرواحهم بعد تطهرها بالأعمال الصالحة.

والفواحش من زنا ولواط وبخل وقوله (إِلَّا اللَّمَمَ (١) إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ) أي لكن اللمم يتجاوز عنه وهو ما ألم به المرء وتاب منه أو فعله في الجاهلية ثم أسلم ، وما كان من صغائر الذنوب كالنظرة والكلمة والتمرة. وقد فسر بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدركه ذلك لا محالة فزنا العينين النظر وزنا اللسان المنطق والنفس تتمنى وتشتهى ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه. فمغفرة الله واسعة تشمل كل ذنب تاب منه فاعله كما تشمل كل ذنب من الصغائر.

وقوله تعالى (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) أعلم بضعفنا وغرائزنا وحاجاتنا وعجزنا منّا نحن بأنفسنا ولذا تجاوز لنا عن اللمم الذى نلمّ به بحكم العجز والضعف ، فله الحمد والمنة. وقوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) ينهى الرب تعالى عباده المؤمنين عن تزكية المرء نفسه بإدعاء الكمال والطهر الأمر الذي يكون فخرا وإعجابا والإعجاب بالنفس محبط للعمل كالرياء والشرك فقوله (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) أي لا تشهدوا عليها بأنها زكية بريئة من الذنوب والمعاصى وقوله (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) أي ان الله أعلم بمن اتقى منكم ربه فخاف عقابه فأدى الفرائض واجتنب المحرمات منا ومن المتقى نفسه فلذا لا تمدحوا أنفسكم له فإنه أعلم بكم من أنفسكم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى لكل شيء وهي مستلزمة لإلوهيته.

٢ ـ تقرير حرية إرادة الله يهدى من يشاء ويضل ويعذب من شاء ويرحم إلا أن ذلك تابع لحكم عالية.

٣ ـ تقرير قاعدة الجزاء من جنس العمل.

٤ ـ تقرير قاعدة أن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر.

٥ ـ حرمة تزكية النفس وهى مدحها والشهادة عليها بالخير والفضل والكمال والتفوق.

__________________

(١) عن ابن عباس : هو الرجل يلمّ بالذنب ثم ينزع عنه ، واستشهد قائلا :

إن تغفر اللهم تغفر جما

وأي عبد لك ما ألما

(٢) في الآية دليل على كراهة تزكية العبد نفسه أو تزكية غيره ففي الحديث الصحيح : (أنه لم يرض لهم تسمية برّة وقرأ : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) الآية : وقال سمّوها زينب) وفي الصحيح (أنه سمع رجلا يمدح آخر فقال له : ويلك قطعت عنق صاحبك ـ مرارا ـ إذا كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة فليقل : أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك) روى مسلم (أن رجلا أتى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، فجعل المقداد بن الأسود يحثو التراب في وجهه ويقول : أمرنا رسول الله أن نحثو التراب في وجوه المداحين).

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤))

شرح الكلمات :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) : أي عن الإسلام بعد ما قارب أن يدخل فيه.

(أَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) : أي أعطى من زعم أنه يتحمل عنه عذاب الآخرة أعطاه ما وعده من المال ثم منع.

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) : أي يعلم أن غيره يتحمل عنه العذاب والجواب لا.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) : أي أم بل لم يخبر بما ورد فى الصحف المذكورة وهي التوراة وعشر صحف كانت لابراهيم عليه‌السلام.

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : أي أنه لا تحمل نفس مذنبة ذنب غيرها.

(وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) : أي من خير وشر ، وليس له ولا عليه من سعي غيره شيء.

(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) : أي يبصر يوم القيامة ويراه بنفسه.

(ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) : أي الأكمل التام الذي لا نقص فيه.

(أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) : أي المرجع والمصير إليه ينتهى أمر عباده بعد الموت ويجازيهم.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) : أي أفرح من شاء فأضحكه ، وأحزن من شاء فأبكاه.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) : أمات في الدنيا وأحيا في الآخرة.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) : أي الصنفين الذكر والأنثى.

(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) : أي من منى إذا تمنى تصبّ فى الرحم.

(وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) : أي الخلقة الثانية للبعث والجزاء.

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) : أي وأنه هو وحده أغنى بعض الناس بالكفاية ، واقنى بعض الناس بالمال المقتنى المدخر للقنية.

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) : أي خالقها ومالكها وهى كوكب خلف الجوزاء عبده المشركون.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) : أي قوم هود عليه‌السلام.

(وَثَمُودَ فَما أَبْقى) : أي أهلكها أيضا فلم يبق منهم أحدا وهم قوم صالح.

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) : أي وأهلك قوم نوح من قبل عاد وثمود وقوم لوط.

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) : أي وقرى قوم لوط اسقطها بعد رفعها الى السماء مقلوبة إلى الأرض إذ الائتفاك الانقلاب.

(فَغَشَّاها ما غَشَّى) : أي بالعذاب ما غشى حيث جعل عاليها سافلها وأمطر عليها حجارة من سجيل.

معنى الآيات :

إن هذه الآيات ترسم صورة لقرشي جاهل هو الوليد بن المغيرة إذ قدر له أن استمع الى قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهش لها ودعاه الرسول فأسلم أو أوشك أن يسلم فعلم به أحد المشركين من شياطينهم فجاءه فعيره بإسلامه وترك دين آبائه فاعتذر له الوليد بأنه يخاف عذاب الله فقال له الشيطان القرشي وكان فقيرا والوليد غنيا أعطنى كذا من المال شهريا أو اسبوعيا أو سنويا وأنا اتحمل عنك العذاب الذي تخافه وعد إلى دينك واثبت عليه فوافق الولد على العرض وأخذ

يعطيه المال. ثم أكدى (١) أي قطع عنه ما كان يعطيه ومنعه. فأنزل الله تعالى فيه هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعليما وتحذيرا لكل من تبلغه ويقرأها أو تقرأ عليه فقال تعالى في أسلوب حمل فيه السامع على التعجب : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي عن الإسلام بعد أن قارب الوصول إليه والدخول فيه ، (وَأَعْطى قَلِيلاً) أي من المال للشيطان المشرك الذي اتفق معه على أن يتحمل عليه العذاب مقابل مال يعطيه إياه أقساطا ، (وَأَكْدى) أي قطع ومنع لأن الذي يحفر بئرا في أرض أحيانا تصادفه كدية من الأرض الصلبة يعجز عن الحفر فينقطع عن الحفر ويمتنع كذلك الوليد اعطى ثم امتنع وهو معنى اكدى أي انتهى الى كدية من الأرض الصلبة.

وقوله تعالى : (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) (٢) أي أن المرء في امكانه أن يتحمل عذاب غيره يوم القيامة والجواب لا علم غيب عنده لا من كتاب ولا من سنة ، (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) وهي التوراة (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) لربه في كل ما عهد به إليه من ذبح ولده حيث تله للجبين ليذبحه ، ومن بناء البيت والهجرة والختان بالقدوم إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة. أي ألم ينبأ أي يخبر هذا الرجل الجاهل بما في صحف موسى بن عمران نبي بنى إسرائيل وإبراهيم أبو الأنبياء ثم بين تعالى ما تضمنته تلك الصحف من علم فقال :

* (أَلَّا تَزِرُ (٣) وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) أن لا تحمل نفس مذنبة ذنب نفس أخرى.

* (وَأَنْ لَيْسَ (٤) لِلْإِنْسانِ) من ثواب يوم القيامة (إِلَّا ما سَعى) في تحصيله بنفسه وهذا لا يتعارض مع قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم ينتفع به إذ هذه الثلاثة أمور من عمل الإنسان وسعيه الولد انجبه ورباه والصدقة الجارية أوقفها بنفسه والعلم تعلمه وبثّه فى الناس وعلمه فالجميع من سعيه وكسبه.

* (وَأَنَّ سَعْيَهُ) أى عمله في الدنيا من خير وشر (سَوْفَ يُرى) علانية ويجزى به خيرا كان أو شرا والجزاء الأوفى أي الأكمل الأتم.

__________________

(١) يقال : أكدى الحافر وأجبل إذا بلغ في حفره كدية أو جبلا فلا يمكنه أن يحفر ، ثم استعمل فيمن أعطى ولم يتمم ، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. قال الحطيئة :

أعطى قليلا ثم أكدى عطاءه

ومن يبذل المعروف في الناس يحمد

(٢) الاستفهام إنكاري أي : ينكر عليه ما ادعاه من تحمل العذاب عن غيره ، وفيه معنى التعجب فيما ادعاه كأنه يعلم الغيب ويشاهده ، وليس له ذلك.

(٣) (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ) أن : هي المخففة من الثقيلة ، وموضعها جائز أن يكون حرفا بدلا من (ما) في قوله (بِما فِي صُحُفِ) وجائز أن يكون في موضع رفع على إضمار : هو ، وهو ما يفهم من التفسير.

(٤) يظهر أن هذا العام خصصته السنة فقد أجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحج والعمرة عن الغير كما أجاز الصدقة كذلك وقد يقال إن الذي يحج أو يتصدق عن غيره) هو بمثابة متوسل إلى الله تعالى طالب منه المغفرة والرحمة فإذا استجاب الله تعالى له غفر للميت ورحمه وهذا جزاء كل عمل صالح.

* (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) أي إليه تصير أمور عباده بعد الموت ويحكم فيها ويجزيهم بها.

* (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ (١) وَأَبْكى) أي أفرح من شاء وأحزن فضحك الفرح وبكى الحزن. أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار. زيادة على من أفرح في الدنيا ومن أحزن.

* (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أمات عند نهاية أجل العبد وأحياه في قبره ويوم نشره وحشره وأحيا بالإيمان وأمات بالكفر وأمات بالقحط وأحيا بالمطر.

* (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) أي الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) من سائر الحيوانات

(مِنْ نُطْفَةٍ) أي قطرة المنى (إِذا تُمْنى) (٢) أى تصب في الأرحام.

* (وَأَنَّ عَلَيْهِ) تعالى (النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي هو الذي يقوم بها فيحيي الخلائق بعد موتهم يوم القيامة.

* (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) أي أغنى بعض الناس فسد حاجتهم وكفاهم مؤونتهم ، وأقنى آخرين أعطاهم مالا كثيرا فاقتنوه قنية.

* (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) (٣) ذلك الكوكب الذي يطلع خلف الجوزاء فالله خالقه ومالكه ومسخره وقد عبده الجاهلون واتخذوه ربا وإلها وهو مربوب مألوه.

* (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ (٤) عاداً الْأُولى) قوم هود أرسل عليهم ريحا صرصرا ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم ، عاد تلك الأمة القائلة من أشد منا قوة دمر الله عليهم فأهلكهم أجمعين.

* (وَثَمُودَ فَما (٥) أَبْقى) أي وأهلك ثمود قوم صالح بالحجر فما أبقى منهم أحدا.

* (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) عاد وثمود أهلكهم (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ) من غيرهم (وَأَطْغى).

* (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) أي (٦) قرى قوم لوط سدوم وعموره أهلكهم فرفع تلك القرى الى عنان السماء ثم أهوى بها الى الأرض وأرسل عليهم حجارة من طين من سجيل فغشى تلك المدن من العذاب الأليم (ما غَشَّى) (٧) عذاب يعجز الوصف عنه هذا هو الله رب العالمين الذي اتخذ الجهال له أندادا فعبدوها معه.

__________________

(١) قيل : لا يوجد في المخلوقات من يضحك ويبكي إلا الإنسان وقيل إن القرد يضحك ولا يبكي ، وإن البعير يبكي ولا يضحك. والله أعلم.

(٢) قيل : سميت منى : منى لأنها تمنى فيها الدماء أيام التشريق وهو كذلك.

(٣) قال القرطبي : اختلف فيمن كان يعبد كوكب الشعرى فقيل : كانت تعبده حمير وخزاعة وقيل : إن أول من عبده أبو كبشة أحد أجداد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قبل أمهاته ، ولذا كان المشركون يسمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أبي كبشة لما خالفهم ودعا إلى التوحيد.

(٤) قرأ الجمهور (عاداً) بإظهار تنوين عاد ، وقرأ ورش (عادا الأولى) بحذف همزة الأولى بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة وادغام نون التنوين من عاد في لام (لولى).

(٥) قرأ الجمهور وثمودا بالتنوين وقرأ حفص (وَثَمُودَ) وقرأ حفص وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة.

(٦) نصب المؤتفكة ، على الاشتغال وأهوى. أي جعلها هاوية والإهواء : الإسقاط وجيئ بصلتها من مادة وصيغة الفعل الذي أسند إليها لأجل التهويل ، والذي غشاها : هو مطر من الحجارة المحماة.

(٧) (ما) موصول فاعل (غشاها).

هذا هو الله الإله الحق الذي اتخذ الناس من دونه آلهة لا تعلم ولا تحكم ولا تقدر.

هذا هو الله العزيز المنتقم لأوليائه من أعدائه يشقي عبدا عاداه ويسعد آخر والاه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى وإثبات ألوهيته بالبراهين والحجج التى لا ترد بحال.

٢ ـ تقرير عدالة الله تعالى في حكمه وقضائه.

٣ ـ مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته.

٤ ـ تقرير حقيقة علمية وهي أن العمل الذي يزكى النفس أو يدنسها هو ذاك الذي يباشره المرء بنفسه وباختياره وقصده ونيته.

٥ ـ تحذير الظلمة والطغاة من أهل الكفر والشرك من أن يصيبهم ما أصاب غيرهم من الدّمار الخسران.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

شرح الكلمات :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ) : أي فبأيّ أنعم ربك عليك وعلى غيرك أيها الإنسان.

(تَتَمارى) : أي تتشكك أو تكذب.

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) : أي هذا النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النذر الأولى أي رسول مثل الرسل الأولى الذين ارسلوا الى أقوامهم.

(أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) : أي قربت القيامة ووصفت بالقرب لقربها فعلا.

(لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) : أي ليس لها أي للقيامة من دون الله نفس كاشفة لها مظهرة لوقتها ، إذ لا يجليها لوقتها الا الله سبحانه وتعالى.

(أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) : أي القرآن.

(تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ) : أي تعجبون تكذيبا به ، وتضحكون سخرية منه كذلك.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) : أي لاهون مشتغلون بالباطل من القول كالغناء والعمل كعبادة الأصنام والأوثان.

(فَاسْجُدُوا لِلَّهِ) : أي الذي خلقكم ورزقكم وكلأكم ولا تسجدوا للأصنام.

(وَاعْبُدُوا) : أي وذلوا لله واخضعوا له تعظيما ومحبة ورهبة فإنه إلهكم الحق الذي لا إله لكم غيره.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض العظيم لمظاهر القدرة والعلم والحكمة وكلها مقتضية للربوبية والألوهية لله سبحانه وتعالى خاطب الله تعالى الإنسان فقال (فَبِأَيِّ آلاءِ (١) رَبِّكَ) أي بعد الذي عرضنا عليك في هذه السورة من مظاهر النعم والنقم وكلها في الباطن نعم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ (٢) تَتَمارى) أي تتشكك أو تكذب ، وكلها ثابتة أمامك لا تقدر على إنكارها واخفائها بحال من الأحوال.

ثم قال تعالى : (هذا نَذِيرٌ (٣) مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) يشير الى أحد أمرين إمّا إلى ما في هذه السورة والقرآن كله من نذر أو إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلا الأمرين حق القرآن نذير ومحمد نذير من النذر الأولى التى سبقته وهم الرسل ، أو ما خوّفت به الرسل أقوامها من عذاب الله تعالى العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة. ألا فاحذروا أيها الناس عاقبة إعراضكم.

وقوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) يخبر تعالى أن القيامة قد آن أوانها وحضرت ساعتها إنها لقريبة جدا. (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ) نفس (كاشِفَةٌ) تكشف الستار عنها وتظهرها بل تبقى مستورة لحكمة إلهية حتى تفاجأ بها البشرية وويل يومئذ للمكذبين.

وقوله تعالى توبيخا للمشركين والمكذبين : (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ) أي غفلتم كل هذه الغفلة فتعجبون من هذا الحديث الإلهي والكلام الرباني وهو القرآن. (وَتَضْحَكُونَ) كأن قلوبكم أصابها الموات ، (وَلا تَبْكُونَ) على أنفسكم وقد بعتموها للشيطان ليقدمها إلى نار جهنم حطبا ،

__________________

(١) فبأي نعم ربك تشك أيها الإنسان المكذّب ، والآلاء : النعم ، واحدها إلىّ وألىّ وإلي وألو كدلو.

(٢) التماري : التشكك ، وهو تفاعل من المرية ، ولا يصح أن يكون المراد بالمخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشك أبدا ، وإن قاله بعضهم ، ورده إمام المفسرين ابن جرير الطبري.

(٣) حقيقة النذير : أنه المخبر عن حدث مضر بالمخبر ، وجمعه : نذر ويطلق النذير على الإنذار فهو إذا اسم مصدر ، ومنه : (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي : إنذاري لكم.

(وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) (١) ساهون لاهون تغنون وتلعبون. ويلكم أنقذوا أنفسكم (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) ، (٢) فإنه لا نجاة لكم من العذاب الأليم إلا بالاطراح بين يديه اسلاما له وخضوعا. تعبدونه بتوحيده في عبادته ، وتسلمون له قلوبكم ووجوهكم فلا يكون لكم غير الله مألوها ومعبودا تعظمونه وتحبونه وتتقربون إليه بفعل محابه وترك مكاره.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان قرب الساعة وخفاء ساعتها عن كل خلق الله حتى تأتى بغتة.

٢ ـ ذمّ الضحك مع الانغماس في الشهوات.

٣ ـ الترغيب في البكاء من خشية الله.

٤ ـ كراهية الغناء واللهو واللعب.

٥ ـ مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية لمن يتلوها ولمن يستمع لها ، وهي من عزائم السجدات في القرآن الكريم ، ومن خصائص هذه السجدة أن المشركين سجدوها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حول الكعبة كما في الصحيح.

سورة القمر

مكية

وآياتها خمس وخمسون آية

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ

__________________

(١) السمود : الغناء بلغة حمير والمعنى : فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة اكتراثكم بما تسمعون من القرآن ، وفعله : سمد يسمد والأمر : اسمدلنا أي غن لنا.

(٢) جائز أن يراد بالسجود : الصلاة والعبادة والتوحيد إذ كانت الصلاة يومئذ قد فرضت ، وجائز أن يكون المراد بالسجود الخضوع لله والإذعان له بالإيمان والتوحيد بعد ترك الشرك والكفر ، وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه السورة سجد فسجد المشركون بسجوده متأثرين بما أسمعهم الشيطان من مدح آلهتهم بقوله : تلك الغرانيق العلا .. وإن شفاعتهن لترتجى.

(٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨))

شرح الكلمات :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) : أي قربت القيامة ، وانفلق القمر فلقتين على جبل أبي قبيس.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) : أي وإن ير كفار قريش آية أي معجزة يعرضوا عنها ولا يلتفتوا إليها.

(وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) : أي هذا سحر مستمر أي قوى من المرّة أو دائم غير منقطع.

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) : أي وكل من الخير أو الشر مستقر باهله في الجنة أو في النار.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) : أي من أنباء الأمم السالفة مما قصه القرآن.

(ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) : أي جاءهم من الأخبار ما فيه ما يزجرهم عن التكذيب والكفر.

(حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) : أي الذي جاءهم من الأنباء هو حكمة بالغة أي تامة.

(فَما تُغْنِ النُّذُرُ) : أي عن قوم كذبوا واتبعوا أهواءهم لا تغن شيئا.

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) : أي لذلك فأعرض عنهم.

(يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ) : أي يدع الداع إلى موقف القيامة.

(يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي من القبور.

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) : أي مسرعين إلى نداء الداع.

(هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) : أي صعب شديد.

معنى الآيات :

قوله تعالى (اقْتَرَبَتِ (١) السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) يخبر تعالى أن ساعة نهاية الدنيا وفنائها وقيام القيامة قد اقتربت ، وأن القمر قد انشق معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم علامة من علامات الساعة ، وانشقاق القمر كان بمكة حيث طالبت قريش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزة تدل على نبوته فسأل الله تعالى انشقاق القمر فانشق فلقتين على جبل أبى قبيس فلقة فوق الجبل وفلقة وراءه فشاهدته قريش ولم تؤمن وهو معنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ (٢) مُسْتَمِرٌّ) أي هذا سحر قوى شديد. قال تعالى (وَكَذَّبُوا) أي رسولنا وما جاءهم به من التوحيد والوحى (وَاتَّبَعُوا) في هذا التكذيب (أَهْواءَهُمْ) لا عقولهم ولا ما جاء به رسولهم. وقوله تعالى (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (٣) أي وكل أمر من خير أو شر مستقر بصاحبه إما في الجنة أو النار. وقوله تعالى (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ) أي من أخبار الأمم السابقة وكيف أهلكها الله بتكذيبها رسلها وإصرارها على الشرك والكفر ، وذلك في القرآن الكريم (ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) (٤) أي جاء من الأخبار الواعظة المذكرة من قصص الأنبياء مع أممهم ما فيه زاجر عن التكذيب والمعاصى هو (٥) (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ) تامة ، والحكمة القول الذي يمنع صاحبه من التردى والهلاك بصرفه عن أسباب ذلك.

وقوله تعالى (فَما تُغْنِ (٦) النُّذُرُ) أي عن قوم كذبوا بالحق لما جاءهم واتبعوا أهواءهم ولم يتبعوا هدى ربهم ولا عقولهم. إذا (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) يا رسولنا واتركهم إلى حكم الله فيهم. وقوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ) (٧) (نُكُرٍ) أي اذكر يا رسولنا يوم يدعو الداع إلى شيء نكر وهو موقف القيامة (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ) وكل أجسامهم وانما ذكرت الأبصار لأنها أدل على الخشوع من سائر الاعضاء (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور جمع جدث وهو القبر (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) في كثرتهم وتفرقهم وانتشارهم (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين الى داع الله الى ساحة الموقف وفصل

__________________

(١) إنها بالنسبة لما مضى من أيام الدنيا لقريبة جدا إذ أكثر عمر الدنيا قد انقضى ، خطب يوما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى) وما نرى من الشمس إلا يسيرا.

(٢) (مُسْتَمِرٌّ) : يكون بمعنى ذاهب من قولهم مرّ الشيء واستمر : إذا ذهب ويكون بمعنى محكم قوي شديد مأخوذ من المرة وهي القوة ، وكونه مستمرا نافذا أولى بالمعنى.

(٣) وجائز أن يكون (مُسْتَقِرٌّ) في أم الكتاب : كائن لا محالة أو أن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى استقرار بانتصاره على الباطل وأهله فيكون في الخبر بشرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) أصل : (مُزْدَجَرٌ) مزتجر من زجرته فانزجر فقلبت التاء دالا لتقارب مخرجي التاء والدال ، أي : جاءهم من الأخبار الواعظة ما يزجرهم عن الكفر ، لو قبلوه واتعظوا به.

(٥) أي : جاءهم من مواعظ القرآن وزواجره ما هو حكمة بالغة إلى المقصود مفيدة لصاحبها.

(٦) جائز أن تكون (فَما) نافية أي : لا تغني النذر شيئا عمن تلك حاله ، وجائز أن تكون استفهامية أي : أي شيء تغني النذر مع الإصرار على الكفر والتوغل في الباطل ، والاستفهام للنفي أيضا.

(٧) (نُكُرٍ) ما تنكره النفوس وتكرهه ، ونكر : وزنه نادر نحو أنف : بمعنى جديد.

القضاء. يومئذ (يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ) وهو كذلك عسير شديد العسر ولكن على المؤمنين يسير غير عسير. كما قال تعالى فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير مفهومه أنه على المؤمنين يسير.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ ذكر بعض علامات الساعة. كبعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانشقاق القمر معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ التنديد باتباع الهوى ، والتحذير منه فإنه مهلك.

٤ ـ عدم جدوى النذر لمن يتنكر لعقلة ويتبع هواه.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧))

شرح الكلمات :

(فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ) : أي كذبوا نوحا عبد الله ورسوله وقالوا هو مجنون.

(وَازْدُجِرَ) : أي انتهروه وزجروه بالسب والشتم.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) : أي فسأل ربه قائلا رب إني مغلوب فانتصر أي لي.

(بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) : أي منصب انصبابا شديدا.

(وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) : أي تنبع نبعا.

(فَالْتَقَى الْماءُ) : أي ماء السماء وماء الأرض.

(عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) : أي في الأزل ليغرقوا به فيهلكوا.

(وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) : أي حملنا نوحا على سفينة ذات ألواح ودسر وهو ما يدسر به الألواح من مسامير وغيرها. واحد الدسر دسار ككتاب.

(تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) : أي بمرأىّ منا أي محفوظة بحفظنا لها.

(جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) : أي أغرقناهم انتصارا لمن كان كفر وهو نوح كفروا نبوته وكماله

(وَلَقَدْ تَرَكْناها) : أي إغراقنا لهم على الصورة التى تمت عليها.

(آيَةً) : أي لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر الى اليوم.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : أي معتبر ومتعظ بها.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) : أي ألم يكن واقعا موقعه.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي سهلناه للحفظ ، وهيأناه للتذكير.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : أي فهل من متعظ به حافظ له متذكر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) يخبر تعالى مسليا رسوله مخوفا قومه فيقول (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي قبل قريش قوم نوح وهو أول رسول أرسل الى قوم مشركين (فَكَذَّبُوا (١) عَبْدَنا) رسولنا نوحا كذبوه في دعوة التوحيد كذبوه في دعوة الرسالة ، ولم يكتفوا بتكذيبه فقالوا (٢) مجنون أي هو مجنون (وَازْدُجِرَ) أي انتهروه وزجروه ببذيء القول وسيّئ الفعل (فَدَعا) أي نوح (رَبَّهُ) قائلا (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) لي يا ربي ، فاستجاب الله تعالى له ففتح أبواب السماء بماء منهمر (٣) أي منصب انصبابا شديدا ، (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) نابعة من الأرض (فَالْتَقَى (٤) الْماءُ) النازل من السماء والنابع من الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي قدره الله في الأزل وقضى بأن يهلكهم بماء الطوفان وقوله تعالى (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) والدسر جمع واحده دسار ككتاب وكتب وهو ما تدسر به الألواح من مسامير وغيرها وقوله تعالى (تَجْرِي) وهي حاملة لعوالم شتى (بِأَعْيُنِنا) أي بمرأىّ منّا محفوظة بحفظنا لها وقوله (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) أي أغرقناهم انتصارا لعبدنا نوح وجزاء له على صبره مع

__________________

(١) أخبر تعالى أن قوم نوح كذبوا الرسل. وكان في الكلام اجمال ففصّله بقوله : (فَكَذَّبُوا عَبْدَنا) أي : نوحا ، وقالوا مجنون ، وفيه إشارة إلى أن المكذب برسول يعتبر مكذبا بكل الرسل.

(٢) (مَجْنُونٌ) خبر لمبتدأ محذوف أي : هو مجنون. والجملة مقولة القول.

(٣) (مُنْهَمِرٍ) أي : كثير والهمر : الصب ، وكان انهمار الماء بدون سحاب وقيل اسمر أربعين يوما.

(٤) التقى الماءان النازل من السماء والنابع من الأرض (عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) أي : على مقدار معيّن لم يزد أحدهما على الآخر.

طول الزمن لقد أقام فيهم ألف سنة الا خمسين عاما. وقوله (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً) أي تلك الفعلة التي فعلنا بهم وهي إغراقنا لهم تركناها آية للاعتبار لمن يعتبر بها حيث شاع خبرها واستمر إلى اليوم.

وقوله تعالى (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (١) أي معتبر ومتعظ بها. وقوله (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٢) ألم يكن واقعا موقعه؟ بلى. وقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكر. (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ؛ أي فهل من متعظ به حافظ له والاستفهام للأمر أي فاتعظوا به واحفظوه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تحذير قريش من الاستمرار في الكفر والمعاندة.

٣ ـ تقرير حادثة الطوفان والتي لا ينكرها الا سفيه لم يحترم عقله.

٤ ـ فضل الله على هذه الأمة بتسهيل القرآن للحفظ والتذكر.

(كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ عادٌ) : أي نبيها هودا عليه‌السلام فلم تؤمن به ولا بما جاء به.

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) (٣) : أي فكيف كان عذابي الذي أنزلته بهم وإنذارى لهم كان أشد ما يكون.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) : أي ريحا عاتية ذات صوت شديد.

__________________

(١) أصل مدّكر متذكر أبدلت التاء ذالا كما أبدلت الذال دالا وأدغمت الدالان الأولى في الثانية فصارت مدكر أي معتبر متعظ.

(٢) ونذر : تقدم أنه اسم مصدر كالإنذار.

(٣) قال القرطبي : وقعت نذر في هذه السورة في ستة أماكن محذوفة الياء في جميع المصاحف ، وقرأها يعقوب مثبتة في الحالين أي : في الوصل والوقف ، وقرأها ورش في الوصل لا غير. وحذفها الباقون ولا خلاف في حذف النون في قوله : (فَما تُغْنِ النُّذُرُ) والواو في قوله : (يدع) وأما الياء من (الداع) أثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل وحذفها الباقون.

(فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) : أي في يوم نحس أي شؤم مستمر دائم الشؤم قويّة حتى هلكوا.

(تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) (١) : أي تقتلعهم من الحفر التى اندسوا فيها وتصرعهم فتدق رقابهم.

(نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) : منفصلة أجسامهم كأنهم والحال كذلك أعجاز أي أصول نخل منقلع.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي سهلنا القرآن للحفظ والتذكير والتذكر به.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) : أي تذكروا يا عباد الله بالقرآن فإن منزله سهّله للتذكير.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ عادٌ) هذا القصص الثاني في هذه السورة يذكر بإيجاز تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديدا لقومه المكذبين وذكرى للمؤمنين فقال تعالى كذبت عاد أي قوم هود كذبوا رسول الله هودا عليه‌السلام وكفروا بما جاءهم به من التوحيد والشرع وقالوا ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين فأرسل تعالى (عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) ذات صوت شديد (فِي يَوْمِ نَحْسٍ) (٢) وكان مساء الاربعاء لثمان خلون من شهر شوال (مُسْتَمِرٍّ) بشدة وقوة وشؤم عليهم مدة سبع ليال وثمانية أيام تنزع تلك الريح الناس وقد دخلوا حفرا تحصنوا بها فتنزعهم منها نزعا وتخرجهم فتصرعهم فتدق رقابهم فتنفصل عن أجسادهم فيصيرون والحال هذه لطول أجسامهم (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) (٣) أي منقلع ساقط على الأرض. وقوله تعالى (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ؟) هذا الاستفهام للتهويل أي إنه كان كأشد ما يكون العذاب والإنذار. وقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي سهلناه وهيأناه بفضل منا ورحمة للحفظ ولو لا هذا التسهيل ما حفظه أحد ، وهيئناه للتذكر به. فهل من مذكر أي من متذكر والاستفهام للأمر كأنما قال : فاحفظوه وتذكروا به.

__________________

(١) جملة : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ) في موضع نصب على الحال من الناس.

(٢) النحس : سوء الحال ، وقد انجرّ إلى المسلمين بواسطة عقائد المجوس التشاؤم بيوم الأربعاء من آخر الشهر ، ولا تشاؤم في الإسلام والنحس كان على الكافرين الذين أهلكهم الله تعالى فلا ينسحب النحس على الناس طوال الحياة.

(٣) (مُنْقَعِرٍ) قال القرطبي : سئل المبرّد عن ألف مسألة من جملتها قيل له : ما الفرق بين قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) و (جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ) وقوله : (أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) و (أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ)؟ فقال : كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شئت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا. أ. ه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عقوبة المكذبين لرسل الله وما نزل بهم من العذاب في الدنيا قبل الآخرة.

٢ ـ بيان أن قوة الانسان مهما كانت أمام قوة الله تعالى هي لا شيء ولا ترد عذاب الله بحال.

٣ ـ بيان تسهيل الله تعالى كتابه للناس ليحفظوه ويذكروا به ، ويعملوا بما جاء فيه ليكملوا ويسعدوا في الحياتين.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) : أي كذبت قبيلة ثمود وهم قوم صالح بالحجر من الحجاز بالرسل لأن النذر جمع نذير وهو الرسول كما هو هنا.

(فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) : أي كيف نتبع بشرا واحدا منا إنكارا منهم للايمان بصالح عليه‌السلام.

(إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) : أي إنا إذا اتبعناه فيما جاء به لفي ذهاب عن الصواب وجنون.

أألقى عليه الذكر من بيننا : أي لم يوح إليه من بيننا أبدا وإنما هو كذاب أشر.

(بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) : أي فيما ادّعى أنه ألقى إليه من الوحي أشرّ بمعنى متكبر.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً) : أي في الآخرة.

(مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) : وهو هم المعذبون يوم القيامة بكفرهم وتكذيبهم.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) : أي إنا مخرجو الناقة من الصخر ومرسلوها لهم محنة.

(فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) : أي انتظر وراقب ماذا يصنعون وما يصنع بهم ، واصبر على أذاهم.

(وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) : أي ماء بئرهم مقسوم بينهم وبين الناقة فيوم لها ويوم لهم.

(كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) : أي كل نصيب من الماء يحضره قومه المختصون به الناقة أو ثمود.

(فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) : أي فملوا ذلك الشرب وسئموا منه فنادوا صاحبهم وهو قدار بن سالف ليقتلها فتعاطى السيف وتناوله فعقر الناقة أي قتلها.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) : هي صيحة جبريل صباح السبت فهلكوا.

(فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) : أي صاروا بعد هلاكهم وتمزق أجسادهم كهشيم المحتظر وهو الرجل يجعل في حظيرة غنمه العشب اليابس والعيدان الرقيقة يحظر بها لغنمه يحفظها من البرد والذئاب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) هذا القصص الموجز الثالث وهو قصص ثمود قوم صالح فقال تعالى في بيانه (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) أي التى أنذرها نبيها صالح وهي ألوان العذاب كما كذبته فيما جاء به من الرسالة (فَقالُوا) في تكذيبهم له عليه‌السلام : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) (١) أي كيف يتم ذلك منا ويقع؟ عجب هذا (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إنا إذا اتبعناه وهو واحد لا غير ومنا أيضا فهو كغيره من أفراد القبيلة لفى بعد عن الصواب وذهاب عن كل رشد ، وسعر (٢) أي وجنون أيضا ،

__________________

(١) أي : أنتبع فردا ونترك جماعة؟ قرأ الجمهور : (بَشَراً) منصوبا على الاشتغال ، ورفعه بعضهم على الابتداء ، وواحد : نعت يتبع المنعوت في النصب والرفع.

(٢) السعر : الجنون ، والمسعور : المجنون قال الشاعر :

تخال بها سعرا إذا السّفر هزها

ذميل وايقاع من السير متعب

يصف ناقته بالسعر لشدة نشاطها.

وقالوا مستنكرين متعجبين (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) أي متكبر.

قال تعالى ردا عليهم (سَيَعْلَمُونَ غَداً) يوم ينزل بهم العذاب ويوم القيامة أيضا (مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) أصالح أم هم ، لن يكونوا إلا هم فهم الذين أخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.

وقوله تعالى : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) أي كما طلبوا إذ قالوا لصالح إن كنت رسول الله حقا فسله يخرج لنا من هذه الصخرة في هذا الجبل ناقة فقام يصلى ويدعو وما زال يصلى ويدعو حتى تمخض (١) الجبل وخرجت منه ناقة عشراء آية في القوة والجمال ، وقال لهم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم أليم. ومعنى فتنة لهم أي امتحانا واختبارا لهم هل يؤمنون أو يكفرون ، ولذا قال تعالى لصالح (فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ) (٢) أي انظر إليهم وراقبهم من بعد واصطبر على أذاهم. (وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم بأمرنا (أَنَّ الْماءَ) ماء بئرهم الذي يشربون منه (قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) (٣) أي مقسوم بينهم للناقة يوم وللقبيلة يوم ، وقوله (كُلُّ شِرْبٍ (٤) مُحْتَضَرٌ) أي كل نصيب خاص بصاحبه يحضره دون غيره. وما تشربه الناقة من الماء نحيله إلى لبن خالص وتقف عند كل باب من أبواب المدينة ليحلبوا من لبنها وطالت المدة وملوا اللبن والسعادة (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) غدار بن سالف عاقر الناقة (فَتَعاطى) (٥) السيف وتناوله وعقرها بضرب رجليها بالسيف ثم ذبحها. وقوله تعالى (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي) الذي أنزلته بهم بعد عقر الناقة كيف كان إنذارى لهم أما العذاب فقد كان أليما وأما الإنذار فقد كان صادقا ، والويل للمكذبين. وهذا بيانه قال تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) هي صيحة جبريل عليه‌السلام فانخلعت لها قلوبهم فاصبحوا في ديارهم جاثمين (كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) (٦) أي ممزقين محطمين مبعثرين هنا وهنا كحطب وخشب وعشب الحظائر التي تجعل للأغنام.

__________________

(١) قال القرطبي : روي أن صالحا صلى ركعتين ودعا فانصدعت الصخرة التي عيّنوها عن سنامها ، فخرجت ناقة عشراء وبراء.

(٢) (وَاصْطَبِرْ) أصل الكلمة واصتبر قلبت التاء طاء موافقة للصاد في الإطباق.

(٣) روي عن جابر قال : لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تبوك قال : (أيها الناس لا تسألوا في هذه الآيات هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث الله لهم ناقة فبعث الله عزوجل إليهم الناقة فكانت ترد من ذلك الفج فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون يوم غبها).

(٤) الشرب بكسر الشين : الحظ من الماء ، ومعنى محتضر : أي يحضره من هو له دون غيره إذ هو من الحضور خلاف الغياب.

(٥) (فَتَعاطى) مضارع عاطاه معاطاة وهو مشتق من عطا يعطو : إذا تناول ما يطلبه من شيء كأنهم كانوا مترددين في عقرها كل واحد يريد إعطاء غيره آلة العقر حتى أخذها غدار وعقرها.

(٦) المحتظر : اسم فاعل : الرجل الذي يتخذ الحظائر لغنمه من الحطب والعيدان وأغصان الشجر.

وقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يدعو الله تعالى هذه الأمة الى كتابه قراءة وحفظا وتذكرا فإنه مصدر كمالهم وسعادتهم لا سيما وقد سهله وهيأه لذلك. ولا يهلك على الله الا هالك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله في إهلاك المكذبين.

٢ ـ بيان أن الآيات لا تستلزم الإيمان والا فآية صالح من أعظم الآيات ولم تؤمن بها قوم ثمود.

٣ ـ أشقى أمة الإسلام عقبة بن أبي معيط الذي وضع سلى الجزور على ظهر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلى حول الكعبة ، وعاقر ناقة صالح غدار بن سالف كما جاء في الحديث.

٤ ـ دعوة الله الى حفظ القرآن والتذكير به فإنه مصدر الإلهام والكمال والإسعاد.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢))

شرح الكلمات :

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) : كذبت قوم لوط بالنذر التى أنذرهم بها وخوفهم منها لوط عليه‌السلام.

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) : أي ريحا ترميهم بالحصباء وهي الحجارة الصغيرة فهلكوا.

(إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) : أي بنتاه وهو معهم نجاهم الله تعالى من العذاب حيث غادروا البلاد قبل نزول العذاب بها.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) : أي إنعاما منا عليهم ورحمة منا بهم.

(كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) : أي مثل هذا الجزاء بالنجاة من الهلاك نجزى من شكرنا بالإيمان والطاعة.

(وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) : أنذرهم لوط أي خوفهم أخذتنا إياهم بالعذاب.

(فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ) : أي فتجادلوا وكذبوا بالنذر التي أنذرهم بها وخوفهم منها.

(وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) (١) : أي أن يخلى بينهم وبين ضيفه وهم ملائكة ليخبثوا بهم.

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) : أي ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فكانت كباقى وجوههم.

(وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) : أي نزل بهم بكرة صباحا عذاب مستقر لا يفارقهم أبدا هلكوا به في الدنيا ويصحبهم في البرزخ ويلازمهم في الآخرة.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) : أي سهلناه للحفظ والتذكر به والعمل بما فيه.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) : أي من متذكر فيعمل بما فيه فينجو من النار ويسعد في الجنة.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) : أي قوم فرعون الإنذارات على لسان موسى وهرون عليهما‌السلام.

(كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها) : أي فلم يؤمنوا بل كذبوا بآياتنا التسع التى آتيناها موسى.

(فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) : أي فأخذناهم بالعذاب وهو الغرق أخذ قوى مقتدر على كل شيء لا يعجزه شيء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر موجز لقصص عدد من الأمم السابقة تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) ليخبثوا بهم ، أي : بإتيانهم الفاحشة ، في القاموس : الخبث : الزنا ، وخبث ككرم : إذا زنى وخبثت المرأة : إذا زنت فهي خبيثة ، والزاني : خبيث.

وتهديدا للمشركين المصرين على الشرك بالله والتكذيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وانذارا لأهل الشرك والمعاصى في كل زمان ومكان فقال تعالى (كَذَّبَتْ) (١) (قَوْمُ لُوطٍ) وهم أهل قرى سدوم (٢) وعمورة كذبوا رسولهم لوطا بن أخى إبراهيم عليه‌السلام هاران. كذبوا (بِالنُّذُرِ) وهى الآيات التى أنذرهم لوط بها وخوفهم من عواقبها.

وقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) (٣) أي لما كذبوا بالنذر وأصروا على الكفر وإتيان الفاحشة ارسلنا عليهم حاصبا ريحا تحمل الحصباء الحجارة الصغيرة فأهلكناهم بعد قلب البلاد بجعل عاليها سافلها. وقوله تعالى (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) (٤) والمراد من آل لوط لوط ومن آمن معه من ابنتيه وغيرهما نجاهم الله تعالى بسحر وهو آخر الليل. وقوله (نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي كان انجاؤهم إنعاما منا عليهم ورحمة منا بهم. وقوله تعالى (كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) أي كهذا الإنجاء أي من العذاب الدنيوي نجزى من شكرنا فآمن بنا وعمل صالحا طاعة لنا وتقربا إلينا وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ (٥) بَطْشَتَنا) أي إننا لم نأخذهم بظلم منا ولا بدون سابق إنذار منا لا ، لا بل أخذناهم بظلمهم ، وبعد تكرر إنذارهم ، فكانوا إذا أنذروا تماروا بما أنذروا فجادلوا فيه مستهزئين مكذبين ، ومن أعظم ظلمهم أنهم راودوا لوطا عن ضيفه من الملائكة وهم في صورة بشر ، فلما راودوه عنهم ليفعلوا الفاحشة ضربهم جبريل بجناحه فطمس أعينهم فأصبحت كسائر وجوههم لا حاجب ولا مقلة ولا مكان للعين بالكلية وقولنا لهم فذوقوا عذابي ونذري أي لأولئك الذين راودوا لوطا عن ضيفه ، أما باقى الأمة فهلاكهم كان كما أخبر تعالى عنه بقوله : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أي صباحا (عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) أي دائم لهم ملازم لا يفارقهم ذاقوه في الدنيا موتا وصاحبهم بزرخا ويلازمهم في جهنم لا يفارقهم.

وقلنا لهم (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) حيث كنتم تمارون وتستهزئون وقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا) (٦) (الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) أي القرآن للحفظ وسهلناه للفهم والاتعاظ به والتذكر فهل من مدّكر أي فهل من متذكر متعظ معتبر فيقبل على طاعة الله متجنبا معاصيه فينجو ويسعد وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ

__________________

(١) عرّف قوم لوط بالاضافة إليه عليه‌السلام لأنه لم يكن لتلك الأمة اسم عند العرب يعرفون به.

(٢) بعضهم يرويها بالذال المعجمة وبعضهم بالدال المهملة ، وعمورة بعضهم يرويها بلفظ عمورية.

(٣) (إِنَّا أَرْسَلْنا) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن من سمع بتكذيبهم تساءل عما فعل الله بهم.

(٤) لوط داخل في آله بفحوى الخطاب فلا يقال : لم لم يذكر لوط وذكر آله دونه.

(٥) البطشة المرة : أي الأخذة بشدة وعنف وقوة.

(٦) هذه المرة الثالثة ينوه فيها القرآن الكريم ولم يذكر هنا ما ذكر في المرتين قبل من قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) اكتفاء بما سبق ذكره بعدا عن التكرار غير المجدي.

آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) (١) أي قوم فرعون من القبط وجنده منهم كذلك جاءتهم النذر على لسان موسى وأخيه هارون فكذبوا وأصروا على الكفر والظلم ، وكذبوا بآيات الله كلها و (٢) هى تسع آيات آتاها. الله تعالى موسى أولها العصا وآخرها انفلاق البحر فبسبب ذلك (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) غالب لا يمانع في مراده مقتدر لا يعجزه شيء فأغرقناهم أجمعين.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته بالالتزام وتقرير التوحيد وإثبات النبوة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. إذ أفعال الله العظيمة من إرسال الرسل والأخذ للظلمة الكافرين بأشد أنواع العقوبات من أجل أن الناس لم يعبدوا ولم يطيعوا دال على ربوبيته وألوهيته ، وقص هذا القصص من أميّ لم يقرأ ولم يكتب دال على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ بيان جزاء الشاكرين لله تعالى بالإيمان به وطاعته وطاعة رسله.

٣ ـ مشروعية الضيافة وإكرام الضيف ، وفي الحديث : من كان يؤمن (٣) بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه.

٤ ـ تيسير القرآن وتسهيله للحفظ والاتعاظ والاعتبار.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦))

شرح الكلمات :

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) : أي أكفاركم يا قريش خير من أولئكم الكفار المذكورين من قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وملائه؟ فلذا هم

__________________

(١) هذا آخر قصة تضمنتها سورة القمر تذكيرا وإنذارا لكفار قريش لعلهم يؤمنون ويوحدون ، والمراد من آل فرعون : أتباعه من رجال دولته وجنوده وقومه الأقباط ، والشاهد من القصة أنهم كذبوا فأخذوا ، فليعلم هذا المصرون على التكذيب من كفار قريش.

(٢) خمس منها في آية الأعراف : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ ، وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ). والأربع الأخرى هي انقلاب العصا حية ، وخروج يده من جيبه بيضاء كفلقة القمر وسنو القحط والطمس على الأموال وانفلاق البحر ، فهذه التسع آيات التي كذبوا بها كلها.

(٣) في الصحيح.

لا يعذبون.

(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) : أم لكم يا كفار قريش براءة من العذاب في الزبر أي الكتب الإلهية.

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) : أم يقولون أي كفار قريش نحن جميع (١) أي جمع منتصر على محمد وأصحابه.

(سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) : أي سيهزم جمعهم ويولون الدبر هاربين منهزمين وكذلك كان في بدر.

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) : أي الساعة موعدهم بالعذاب والمراد من الساعة يوم القيامة.

(وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) : أي وعذاب الساعة وأهوالها أي هي أي أعظم بلية وأمر أي أشد مرارة من عذاب الدنيا قطعا.

معنى الآيات :

يقول تعالى مبكتا مشركي قريش مؤنبا إياهم وهم الذين إن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم يقول الله تعالى لهم : (أَكُفَّارُكُمْ) (٢) يا قريش خير من كفار الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فلذا هم آمنون من العذاب الذي نزل بكفار الآخرين ، (أَمْ لَكُمْ (٣) بَراءَةٌ) من العذاب جاءت في الكتب مسطورة اللهم لا ذا ولا ذاك ما كفاركم بخير من أولئكم ، وليس لكم براءة (فِي الزُّبُرِ) ، وإنما أنتم ممهلون فإما أن تتوبوا وأما أن تؤخذوا.

وقوله تعالى عنهم (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ (٤) جَمِيعٌ) أي جمع منتصر على كل من يحاربنا ويريد أن يفرق جمعنا نعم قالوا هذا ، ولكن (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، وقد تم هذا في (٥) بدر بعد سنيات ثلاث أو أربع وهزم جمعهم في بدر وولوا الأدبار هاربين الى مكة.

وقوله تعالى (بَلِ السَّاعَةُ (٦) مَوْعِدُهُمْ) أي الساعة التى ينكرونها ويكذبون بها هي موعد عذابهم

__________________

(١) (جَمِيعٌ) : اسم للجماعة كأنهم قالوا : نحن جماعة منتصرة على من يريد حربنا وذكرت الصفة (مُنْتَصِرٌ) مراعاة للفظ الجميع لا لدلالته على متعدد.

(٢) جائز أن يكون الاستفهام على بابه حيث يطلب منهم أن يفصحوا عن الحقيقة فإن قالوا كفارنا خير قيل لهم ما وجه الخيرية ، وإن قالوا : الكل سواء قيل إذا فسوف تؤخذون بالعذاب كما أخذ الأولون.

(٣) (أَمْ) : للإضراب الانتقالي وما يقدر بعدها من استفهام هو للإنكار أي : بل ما لكم براءة في الزبر من العذاب حتى تكونوا آمنين مع تكذيبكم وكفركم.

(٤) (أَمْ) هي المنقطعة المفسرة ببل للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعدها للتوبيخ.

(٥) فكانت هذه آية على أن القرآن كلام الله وأن محمدا رسول الله لتحقق الغيب الذي أخبر به.

(٦) الساعة في القرآن : علم بالغلبة على يوم القيامة والحساب والجزاء.

الحق أما عذاب الدنيا فهو ليس شيء إذا قيس بعذاب الآخرة. (وَالسَّاعَةُ أَدْهى) أي أعظم بلية وأكبر داهية تصيب الإنسان وعذابها ، (وَأَمَرُّ) أي وعذابها أمر من عذاب الدنيا كله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حقيقة يغفل عنها الناس وهي أن الكفر كله واحد ومورد للهلاك.

٢ ـ لا قيمة أبدا لقوة الإنسان إزاء قوة الله تعالى.

٣ ـ صدق القرآن في إخباره بغيب لما يقع ووقع كما أخبر وهو آية انه وحي الله وكلامه.

٤ ـ القيامة موعد لقاء البشرية كافة بحيث لا يتخلف عنه أحد.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي في ضلال في الدنيا ونار مستعرة في الآخرة.

(ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) : أي يوم يسحبون في النار على وجوههم يقال لهم ذوقوا مس سقر جهنم.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) : أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض فهو يقع كما كتب كمية وصورة وزمانا ومكانا لا يتخلف في شيء من ذلك.

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) : أي وما أمرنا إذا أردنا خلق شيء إلا أمرة واحدة فيتم وجوده.

(كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) : الشيء بسرعة كلمح البصر وهو النظر بعجلة.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) : أي ولقد أهلكنا أمثالكم أيها المشركون من الأمم السابقة.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟) : أي فاذكروا واتعظوا بهذا حيرا لكم من هذا الإعراض.

(وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) : أي وكل ما فعله العباد هو مسجل في كتب الحفظة من الملائكة.

(وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) : أي وكل صغير وكبير من سائر الأعمال والأحداث في اللوح المحفوظ مستطر مكتوب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) : ان الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره في جنات يشربون من أنهار الماء واللبن والخمر والعسل المصفى.

(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) : أي في مجلس حق لا لغو به ولا تأثيم.

(عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) : عند مليك أي ذي ملك وسلطان مقتدر على ما يشاء وهو الله جل جلاله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) يخبر تعالى عن حال المجرمين وهم الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك وغشيان الذنوب يخبر تحذيرا وإنذارا بأن المجرمين في ضلال في حياتهم الدنيا ، وسعر ونار مستعرة متأججة يوم القيامة (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) يقال لهم (ذُوقُوا) تهكما بهم (مَسَّ سَقَرَ) (١) تذوقوا العذاب ، وسقر طبق من أطباق جهنم وباب من أبوابها وقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢) إعلام منه تعالى عن نظام الكون الذي خلقه

__________________

(١) (سَقَرَ) قال عطاء : سقر : الطبق السادس من جهنم ، ومسها : هو ما يجدون من الألم عند الوقوع فيها ، وسقر : اسم من أسماء جهنم لا ينصرف لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك جهنم ولظى.

(٢) روى الترمذي وحسنه وصححه عن أبي هريرة قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القدر فنزلت : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). وروى مسلم عن طاووس قال : أدركت ناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون : كل شيء بقدر : قال : وسمعت عبد الله بن عمر يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس).

تعالى وهو أن كل حادث يحدث في هذا العالم قد سبق به علم الله وتقديره له فحدّد ذاته وصفاته وأعماله ومآله إلى جنة أو إلى نار ، إن كان انسانا أو جانا وليس هناك شيء يحدث بدون تقدير سابق له وعلم تام به قبل حدوثه.

وقوله تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (١) يخبر تعالى عن قدرته كما أخبر عن علمه بأنه تعالى إذا أراد إيجاد شيء في الوجود لم يزد على أمر واحد وهو كن فإذا بالمطلوب يكون كما أراد تعالى أزلا أن يكون ، وبسرعة كسرعة لمح البصر الذي هو نظرة سريعة.

وقوله تعالى وهو يخاطب مشركي قريش (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أمثالكم في الكفر والعصيان أي من الأمم السابقة (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أي متذكر متعظ معتبر قبل فوات الوقت وحصول المكروه من العذاب في الدنيا وفي الآخرة.

وقوله تعالى (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ) أي أولئك المشركون هو (فِي الزُّبُرِ) أي في كتب الحفظة من الملائكة الكرام الكاتبين ، (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من أعمالهم وأعمال غيرهم بل كل حادثة في الأكوان هي مسطرة في اللوح المحفوظ كتاب المقادير.

وقوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ (٢) وَنَهَرٍ) هذا الإخبار يقابل الإخبار الأول أن المجرمين في ضلال وسعر فالأول إعلام وتحذير وترهيب وهذا إخبار وبشرى وترغيب حيث أخبر أن المتقين الذين اتقوا ربهم فلم يشركوا به ولم يفسقوا عن أمره إنهم في جنات بساتين ذات قصور وحور ، وأنهار وأشجار هم جالسون (فِي مَقْعَدِ (٣) صِدْقٍ) في مجلس حق لا لغو يسمع فيه ولا تأثيم يلحق جالسه (عِنْدَ (٤) مَلِيكٍ) أي ذي ملك وسلطان (مُقْتَدِرٍ) على فعل كل ما يريده سبحانه لا إله إلا هو ولا رب سواه.

__________________

(١) (إِلَّا واحِدَةٌ) أي : مرة واحدة (كَلَمْحِ الْبَصَرِ) أي : قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر ، واللمح ، النظر بعجلة ، يقال لمحه وألمحه : إذا أبصره بنظر خفيف.

(٢) قرىء في غير السبع ونهر بضم النون والهاء جمع نهار أي لا ليل لهم كسحاب وسحب قال الفراء : أنشدني بعض العرب :

إن تك ليليا فإني نهر

متى أرى الصبح فلا أنتظر

وقال آخر :

لو لا الثريدان هلكنا بالضحى

ثريد ليل وثريد بالنهر

(٣) (مَقْعَدِ صِدْقٍ) قال القرطبي : أي : مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم وهو الجنة ، والعندية هنا عندية القربى والزلفى والمكانة والرتبة العالية والمنزلة الشريفة في جوار أرحم الراحمين ورب العالمين.

(٤) (مَلِيكٍ) أبلغ من ملك وهو بمعنى : مالك ، و (مُقْتَدِرٍ) أبلغ من قادر ، والتنكير في مليك ، ومقتدر : للتعظيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مصير المجرمين وضمنه تخويف وتحذير من الإجرام الموبق للإنسان.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٣ ـ تقرير أن اعمال العباد مدونة في كتب الكرام الكاتبين لا يترك منها شيء.

٤ ـ تقرير أن كل صغيرة وكبيرة من أحداث الكون هي في كتاب المقادير اللوح المحفوظ.

٥ ـ بيان مصير المتقين مع الترغيب في التقوى إذ هي ملاك الأمر وجماع الخير.

٦ ـ ذكر الجوار الكريم وهو مجاورة الله رب العالمين في الملكوت الأعلى في دار السّلام.

سورة الرّحمن (١)

مكية

وآياتها ثمان وسبعون آية

(بسم الله الرّحمن الرحيم)

(الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣))

__________________

(١) روى البيهقي في شعب الإيمان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن) وذكره صاحب الإتقان كذلك.

شرح الكلمات :

(الرَّحْمنُ) : اسم من أسماء الله تعالى.

(عَلَّمَ الْقُرْآنَ) : أي علم من شاء من عباده القرآن.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) : آدم كما خلق ذريته أيضا.

(عَلَّمَهُ الْبَيانَ) : أي علم آدم البيان الذي هو النطق والإعراب عما في النفس بلغة من اللغات كل هذا تعليم الله عزوجل ولو لا الله ما نطق إنسان.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) : أي يجريان بحساب معلوم مقدر في بروجهما ومنازلهما.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) : النجم ما لا ساق له من النبات ، والشجر ما له ساق يسجدان يخضعان لله تعالى بما يريد منهما في طواعية كالسجود من المكلفين.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها) : أي فوق الأرض وأعلاها.

(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) : أي أثبت العدل بين العباد أمر به وألهم صنع آلته.

(أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ) : أي لأجل أن لا تجوروا في الميزان وهو ما يوزن به من آلات.

(وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) : أي بالعدل.

(وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) : أي لا تنقصوا الموزون الذي تزنونه بل وفوه.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) : أي أثبتها وخفضها كما رفع السماء وأعلاها للأنام لحياة الأنام عليها وهم الإنس والجن والحيوان وكل ذي روح.

(فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) : أي في الأرض فاكهة وهي كل ما يتفكه به الإنسان من أنواع الفواكه الكثيرة ، والنخل ذات الأكمام وهي أوعية طلعها.

(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ) : أي وفي الأرض الحب من برّ وشعير وعصفه تبنه.

(وَالرَّيْحانُ) : نبت معروف ، والمراد به أنواع الرياحين المشمومة ذات الريح الطيّب.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) : أي فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تكذبان وهي كثيرة لا تعد ولا تحصى. والجواب لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ) (٢) يخبر تعالى أنه هو الرحمن الذي علم نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن لا كما يقول المبطلون إنما يعلمه بشر. الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء وهي متجلية ظاهرة فيما يعدد من آلاء ونعم. منها خلقه الإنسان آدم وذريته ، وتعليمهم البيان وهو النطق والإبانة عما في نفوسهم. (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) (٣) يجريان لإفادة الناس في معرفة أوقات عباداتهم ، وآجال ديونهم وهي مظاهر الرحمة ، (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) والنجم غذاء بهائمكم والشجر فيه فاكهتكم وبعض غذائكم (يَسْجُدانِ) خضوعا لله بما أراد منهما لا يعصيان كما يعصي الثقلان. (وَالسَّماءَ رَفَعَها) عن الأرض ولم يلصقها بالأرض إنعاما منه على الثقلين في رفعها وتزيينها بكواكبها وشمسها وقمرها ، (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٤) أي العدل حيث أمر به وألهم وضع آلته وغرز في النفوس حبه والرغبة فيه ، من أجل ألا تجوروا في الميزان ، (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) بالعدل ، (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي لا تنقصوه إذا وزنتم بل وفوه كل هذا إنعام وألوان من رحمات الرحمن. (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أي أثبتها وخفضها ودحاها لحياة الأنام. وهم الإنس والجان والحيوان ، (فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) أي أوعية الطلع ، (وَالْحَبُ) البر والشعير (ذُو الْعَصْفِ) (٥) أي التبن (وَالرَّيْحانُ) هذه أنواع الطعام للإنسان والحيوان طعام وفاكهة وريحان كل هذه مظاهر الرحمة التي أفاضها الرحمن. (فَبِأَيِّ آلاءِ (٦) رَبِّكُما) يا معشر الجن والإنس (تُكَذِّبانِ). لا بشيء من نعمك ربّنا نكذب فلك الحمد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الرحمن مثل اسم الله لا يصح أن يطلق على غير الرب تبارك وتعالى ، فيقال فلان عزيز أو رحيم أو عليم أو حكيم ، ولكن لا يقال رحمان ، كما لا يقال إله أو الإله أو الله.

__________________

(١) اختير اسم الرحمن دون سائر الأسماء الإلهية لأمور منها : أنه الاسم الذي كان المشركون ينكرونه ، ومنها الرد على الزاعمين أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلمه بشر فأخبر تعالى أن الرحمن هو الذي علّم القرآن ، ومنها : أن يكون في هذا الخبر براعة استهلال إذ السورة تعدد عشرات النعم ، ومصدرها الرحمن عزوجل.

(٢) (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) هذا الخبر عن الرحمن ، و (خَلَقَ الْإِنْسانَ) خبر ثان و (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) خبر ثالث ، و (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) خبر رابع ، والرابط تقديره بحسبانه ، فالضمير عائد على الرحمن سبحانه وتعالى.

(٣) الحسبان : مصدر حسب بمعنى : عد كالغفران : مصدر غفر والباء للملابسة.

(٤) أصل الميزان : اسم آلة الوزن ، والوزن : تقدير تعادل الأشياء ، وضبط مقادير ثقلها ، و (وَضَعَ) بمعنى : جعل ومنه الحديث : (فضعها حيث أراك الله) أي : اجعلها.

(٥) سمي التبن عصفا : لأن الريح تعصف به لخفته.

(٦) الفاء للتفريع على ما تقدم من ضروب النعم العظيمة.

٢ ـ ورد في الصحيح في فضل تعلم القرآن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيركم من تعلم القرآن وعلمه.

٣ ـ وجوب إقامة العدل والتواصي به ، ومراقبة الموازين لدى التجار وإصلاح فاسدها.

٤ ـ وجوب شكر الله على آلائه.

٥ ـ استحباب قول لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد عند سماع قراءة فبأي آلاء ربكما تكذبان.

٦ ـ مشروعية تعلم علم الفلك لمعرفة القبلة ومواقيت الصلاة والصيام والحج.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣)) (وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥))

(١)

شرح الكلمات :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) : أي خلق آدم من طين يابس يسمع له صلصلة كالفخار وهو ما طبخ من الطين.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) : أي أبا الجن من لهب النار الخالص من الدخان وهو مختلط احمر وازرق واصفر.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) : أي مشرق الشتاء ، مشرق الصيف أي مطلع طلوع الشمس فيهما. وكذا المغربين في الصيف والشتاء.

__________________

(١) اختلف في تحديد كل من اللؤلؤ والمرجان ، فمن قائل : اللؤلؤ كباره والمرجان صغاره ، وقيل : المرجان : الخرز الأحمر ، وقيل : المرجان : عظام اللؤلؤ وكباره.

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) : أي أرسل البحرين العذب والملح يلتقيان في رأي العين.

(بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) : أي بينهما حاجز لا يبغى أحدهما على الآخر فيختلط به.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) : أي يخرج من مجموعها الصادق بأحدهما وهو الملح اللؤلؤ والمرجان وهو خرز أحمر ، وهو صغار اللؤلؤ.

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) : أي السفن المحدثات في البحر كالأعلام أي كالجبال عظما وارتفاعا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر ما أفاض الرحمن جل جلاله من رحمته التي وسعت كل شيء من آلاء ونعم لا تحصى ولا تعد ولا تحصر فقال تعالى (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي الرحمن الذي تجاهله المبطلون وقالوا : وما الرحمن؟ الرحمن الذي خلق الإنسان آدم أول إنسان خلقه ومن أي شيء خلقه (مِنْ صَلْصالٍ) أي من طين ذي (١) صلصلة وصوت (كَالْفَخَّارِ) خلق الإنسان ، (وَخَلَقَ الْجَانَ) وهو عالم كعالم الإنسان خلق أصله (مِنْ مارِجٍ) وهو ما مرج واختلط من لهب النار. فبأي يا معشر الجن والإنس (آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إنها نعم تفوق عد الإنسان من (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) من خلقهما من ملكهما من سخرهما لفائدة الإنسان؟ إنه الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢)؟) لا بشء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد. الرحمن (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) (٣) الملح والعذب أرسلهما على بعضهما فمرجا. كأنهما اختلطا إذ جعل بينهما برزخا حاجزا فهما (لا يَبْغِيانِ) فلا يختلط أحدهما بالثاني ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ يَخْرُجُ (٤) مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) من خلق في مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان وهما خرز أبيض وأحمر وأخضر ولفائدة من خلقهما الرحمن؟ انها لفائدة الإنسان إذا هما نعمة ورحمة من رحمات الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (وَلَهُ الْجَوارِ) أي (٥) للرحمن (الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ) المصنوعات (فِي الْبَحْرِ) في أحواض السفن (كَالْأَعْلامِ) علوا وارتفاعا تظهر في البحر كما تظهر الجبال في البر لمصلحة من خلقها الرحمن لمصلحة الإنسان فهي إذا رحمة

__________________

(١) الصلصال : الطين اليابس ، والفخار : الطين المطبوخ ، ويسمى الخزف وجائز أن يكون كالفخار في محل نصب حال من الإنسان أي : خلقه من صلصال فصار الإنسان كالفخار في لونه وصلابته.

(٢) الاستفهام هنا : للتوبيخ على ترك الشكر.

(٣) المرج : الإرسال كقولهم : مرج الدابة : أرسلها ترعى في المرج. والمعنى : أرسل البحرين بحيث لا يحبس ماؤهما عن الجري ولا عن الالتقاء ببعضهما البعض ، ومع هذا فقد جعل بينهما برزخا ، وهو الفاصل الذي يفصل الماء الملح الأجاج عن العذب الفرات. هذه مظاهر القدرة والعلم الموجبة للتوحيد والشكر بالطاعة.

(٤) جائز أن تكون من في منهما : للسببية نحو : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وجائز أن تكون للابتداء وهو الأظهر.

(٥) الجوار : صفة لموصوف محذوف وهو السفن أي : وله السفن الجوار في البحر ، وجمع الجوار جارية.

الرحمن ونعمته على الإنسان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) يا معشر الإنس والجن (تُكَذِّبانِ؟) اقروا واعترفوا واشكروا الرحمن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أصل خلق الإنسان والجان فالأول من طين لازب ذي صلصال كالفخار والثاني من مارج من نار وأخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن خلق الملائكة كان من نور. (١)

٢ ـ معرفة مطالع الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف وهما مطلعان ومغربان.

٣ ـ معرفة صناعة اللؤلؤ والمرجان ، والسفن التى هى في البحر كالجبال علوا وظهورا.

٤ ـ وجوب شكر الرحمن على إنعامه على الإنس والجان.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦))

شرح الكلمات :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) : أي كل من على الأرض من إنسان وحيوان وجان فان أي هالك.

__________________

(١) الحديث في صحيح مسلم.

(وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) : أي ذاته ووجه سبحانه وتعالى.

(ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) : أي العظمة والإنعام على عباده عامة والمؤمنين بخاصة.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي يسألونه حاجاتهم التى تتوقف عليها حياتهم من الرزق والقوة على العبادة. والمغفرة للذنب ، والعزة من الرب.

(كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) : أي كل وقت هو في شأن : شؤون يبديها وفق تقديره لها يرفع أقواما ويضع آخرين.

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) (١) : أي لحسابكم ومجازاتكم بعد انتهاء هذه الحياة الدنيا ونجزى كلا بما عمل.

(إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) : أي إن قدرتم على أن تخرجوا.

(مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي من نواحى السموات والأرض.

(فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) : أي فاخرجوا. لا تنفذون إلا بقوة ولا قوة لكم وهذا تعجيز لهم.

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ) : أي من لهب النار الخالص الذى لا دخان فيه.

(وَنُحاسٌ :) أي دخان لا لهب فيه ، ولا يبعد أن يكون نحاسا مذابا.

(فَلا تَنْتَصِرانِ) : أي لا تمتنعان من السوق الى المحشر.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر أيادى الرحمن الرحيم قال عز من قائل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها (٢) فانٍ) كل من على الأرض من إنسان وجان وذي روح وحيوان فان : هالك ، لا تبقى له روح ولا ذات ، (وَيَبْقى (٣) وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) حىّ لا يموت والإنس والجن يموتون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما) (٤) (تُكَذِّبانِ) أبنعمة إيجادكما وإمدادكما بالأرزاق والخيرات طوال الحياة أم بنعمة انهاء أتعابكما وتكاليفكما أم بإهلاك أعدائكما ، وإدنائكما من النعيم المقيم في جنات النعيم ، قولوا خيرا لكم لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد. وقوله (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٥)

__________________

(١) قيل في الإنس والجن : الثقلان لأنهما أثقلا وأتعبا بالتكاليف.

(٢) الضمير عائد إلى الأرض وإن لم يجر لها ذكر نحو (توارت بالحجاب). لأن المقام دال عليها.

(٣) أطلق لفظ الوجه وأريد به ذات الرب تعالى جريا على عرف العرب في كلامهم إذ يطلقون الوجه على الذات والوجه معا ، ومعنى (فان) أي : صائر إلى الفناء.

(٤) جائز أن يكون في الفناء نعمة لا تدرك فلذا صح إيراد جملة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وأي نعمة أعظم من انتهاء هذه الحياة بكل ما فيها للانتقال إلى الحياة الدائمة حيث الخلد والبقاء فهي لأهل السعادة نعمة توجب أعظم الشكر.

(٥) السؤال : الدعاء فالملائكة يسألونه تعالى أن يغفر للذين آمنوا وهو قولهم (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ ، رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ).

أي يطلبونه بلسان القال أو الحال ما هم فى حاجة إليه مما يحفظ وجودهم ويغفر ذنوبهم وقوله تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) أي لا يفرغ الدهر كلّه يدبر أمر السماء والأرض يرفع أقواما ويضع آخرين.

وقول الرحمن (١) (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) من الإنس والجن فنحاسبكما ونجزيكما محسنكما بالإحسان وسيئكما بالسوء والخسران ، وهذا يوم تقومان للرحمن ، حفاة عراة وتقفان بين يديه للحكم فيكما والقضاء بينكما (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبالعدل في الحكم بينكما أم بإسعاد صالحيكما واشقاء مجرميكما.

وقول الرحمن (يا (٢) مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) أي تخرجوا (مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من جوانبهما وأطرافهما (فَانْفُذُوا) أي اخرجوا هاربين من قضائى وحكمى لكما وعليكما (لا تَنْفُذُونَ) إلا بقوة قاهرة غالبة ولا قوة لكم ولا سلطان هكذا يتحداهما الرحمن وهم يساقون الى ساحة فصل القضاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أبنعمة احيائكما بعد موتكما أم بنعمة إكرام صلحائكما وإهانة فاسديكما وهي العدالة التي لا رحمة ولا نعمة في الحياة الدنيا تساويهما. وقوله تعالى (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ) أي لهب النار الخالص من الدخان ، ونحاس وهو دخان خالص (فَلا تَنْتَصِرانِ) هذا إن أردتما الفرار من عدالتي وعدم الإذعان لقضائي وحكمي فيكما. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أبعظمة ربكم وقوة سلطانه أم برحمة مولاكم ولطفه بكم اللهم لا شيء من آلائك نكذب ربنا ولك الحمد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان جلال الله وعظمته وقوة سلطانه.

٣ ـ بيان عجز الخلائق امام خالقها عزوجل.

٤ ـ وجوب حمد الله تعالى وشكره على السراء والضراء.

__________________

(١) التفرغ للأمر : كناية عن الاشتغال به والعناية به دون غيره و (الثَّقَلانِ) تثنية ثقل ، وهل سمي الإنسان ثقلا لأنه محمول على الأرض والصحيح أن الإنسان والجن سميا بالثقلين لإثقالهما بالتكاليف من باب تسمية الشيء بعمله كتسمية العصفور طائر لأنه يطير.

(٢) المعشر : اسم للجمع الكثير الذي يعد عشرة عشرة دون آحاد.

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥))

شرح الكلمات :

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) : أي انفتحت أبوابا لنزول الملائكة الى الأرض لتسوق الخلائق الى المحشر.

(فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) : أي السماء محمرة احمرار الأديم أو الفرس الأحمر وذابت فكانت كالدهان في صفائها وذوبانها.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) : أي يوم يخرجون من قبورهم لا يسألون عن ذنوبهم لما لهم من علامات كاسوداد الوجوه وبياضها ، ويسألون عند الحساب.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) : أي سواد الوجوه وزرقة العيون.

(فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) : أي تضم ناصية المجرم الى قدميه ويؤخذ فيلقى في جهنم.

(هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا) : أي يقال لهم توبيخا وتبكيتا هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون في الدنيا.

(الْمُجْرِمُونَ) : أي الذين أجرموا على أنفسهم بالشرك والمعاصي.

(يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) : أي يسعون مترددين بينها وبين ماء حار قد انتهت حرارته إلى حد لا مزيد عليه وهو الحميم الآن يسقونه إذا عطشوا واستغاثوا يطلبون الماء لإرواء غلتهم العطشة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض أحوال القيامة وأهوال الموقف فقال جل جلاله وعظم سلطانه : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) أي تفتحت لنزول الملائكة (فَكانَتْ) أبوابا بعد أن احمرت وتغيرت زرقتها لحمرة كحمرة الأديم الاحمر أو الفرس الأحمر أو الوردة الحمراء كل ذلك صالح لتشبيه لونها به وذابت فكانت (كَالدِّهانِ) كما جاء وصفها في سورة المعارج يوم تكون السماء كالمهل. وهو درديّ الزيت وعكره. (فَيَوْمَئِذٍ) أي (١) يوم إذ يقع هذا يعظم الكرب ويشتد البلاء ويخرج الناس من قبورهم (لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي انسى ولا جنى (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) وقوله تعالى (يُعْرَفُ (٢) الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ) أي باسوداد وجوههم وزرقة أعينهم (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) أي فيجمع الملك المكلف الإنس أو الجن المجرم بين ناصيته وقدميه ويأخذه فيرمي به في نار جهنم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبنعمة العدالة أم بنعمة إكرام المتقين الصالحين. قولوا لا بشيء من آلائك ربنا نكذب فلك الحمد.

وقوله تعالى (هذِهِ جَهَنَّمُ) أي يقال لهم توبيخا وتبكيتا هذه جهنم (الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) على أنفسهم بالشرك والمعاصى في الحياة الدنيا قال تعالى (يَطُوفُونَ) أي (٣) يسعون مترددين (بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ (٤) آنٍ) أي ماء حار اشتدت حرارته فبلغت حدا لا مزيد عليه يسقونه إذا استغاثوا من العطش. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) إن خزي المجرمين وتعذيبهم نعمة تقربها الفطرة البشرية ولا يقدرها الا من ذاق طعم الخوف والعذاب الذي ينزله المجرمون بالمتقين فلذا كان تعذيبهم يوم القيامة نعمة ، كما أن هذا العرض لأحوال يوم القيامة وأهوالها نعمة إذ عليه آمن المؤمنون واتقى المتقون ، فلذا قال تعالى بعد وصف حال أهل النار فبأي آلاء ربكما تكذبان؟ (٥)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الانقلاب الكوني وخراب العالم للقيامة.

٢ ـ يبعث الناس من قبورهم ولهم علامات تميزهم فيعرف السعيد والشقي.

٣ ـ التنديد بالإجرام وهو الشرك والظلم والمعاصي.

__________________

(١) جملة : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) جواب الشرط (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ.). الخ وجملة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) معترضة بين الشرط والجواب.

(٢) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) والسيما : العلامة.

(٣) المعنى : أنهم يتنقلون بين مكان النار وبين الماء الحار فإذا أصابهم حر النار طلبوا التبرد فلاح لهم الماء فأتوه فأصابهم حره فانصرفوا إلى النار وهكذا حالهم تطواف بين النار والحميم.

(٤) (آنٍ) اسم فاعل من أنى يأني فهو آن : إذا اشتدت حرارته وبلغت منتهاها في الحر.

(٥) وجائز أن يكون تكريرا للتقرير والتوبيخ كنظائره.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١))

شرح الكلمات :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) : أي ولمن خاف الوقوف بين يدي الله في عرصات القيامة فآمن واتقى جنتان.

(ذَواتا أَفْنانٍ) : أي أغصان من شأنها أن تورق وتثمر وتمد الظل.

(فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) : أي من كل ما يتفكه به من أنواع الفواكه صنفان.

(بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) : أي بطائن الفرش من استبرق وهو ما غلظ من الديباج والظهائر من السندس وهو مارقّ من الديباج الذي هو الحرير

(وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) : أي وما يجنى من ثمار الجنة دان قريب التناول يناله القائم والقاعد.

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) : أي قاصرات النظر بأعينهن على أزواجهن فقط.

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) : أي لم يفتضهن قبل أزواجهن إنس ولا جان.

(كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) : أي كأنهن في جمالهن الياقوت في صفائه والمرجان اللؤلؤ الأبيض.

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) : أي ما جزاء الإحسان بالطاعة إلا الإحسان بالنعيم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تعداد النعم وذكر أنواعها فقال تعالى (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) (١) أي الوقوف بين يديه في ساحة فصل القضاء يوم القيامة فأطاعه بأداء الفرائض واجتناب المحرمات (جَنَّتانِ) (٢) أي بستانان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبإثابة أحدكم الذي إذا هم بالمعصية ذكر قيامه بين يدي ربه فتركها فأثابه الله بجنتين. وقوله (ذَواتا أَفْنانٍ) هذا وصف للجنتين وصفهما بأنهما ذواتا أفنان جمع فنن لون أفنان ألوان (٣) ولأشجارها أغصان من شأنها تورق وتثمر وتمد الظلال (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبهذا النعيم والإثابة للمتقين تكذبان.

وقوله (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) أي في الجنتين ذواتي الأفنان عينان تجريان بالماء العذب الزلال الصافي خلال تلك القصور والأشجار (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما (٤) تُكَذِّبانِ) يا معشر الجن والإنسان أبمثل هذا العطاء والإفضال تكذبان؟ وقول الرحمن (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي في تينك الجنتين من كل فاكهة من الفواكه صنفان فلا يكتفى بصنف واحد إتماما للنعيم والتنعّم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبمثل هذا الإنعام والإكرام لأهل التقوى تكذبان؟ وقوله ما أوسع رحمته وهو الرحمن (مُتَّكِئِينَ) (٥) أي حال تنعمهم (عَلى فُرُشٍ) على الأرائك بطائن (٦) تلك الفرش من استبرق وهو الغليظ من الديباج أما الظواهر فهى السندس وهو مارق من الديباج. وقوله (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) أي وثمارها التي تجنى من أشجارها دانية أي قريبة التناول يتناولها المتقى وهو مضطجع أو قاعد أو قائم ، لا شوك فيها ولا بعد لها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبمثل هذا الإنعام والإكرام

__________________

(١) (من) من ألفاظ العموم كالجنس.

(٢) جنتان تحفان بقصره أو واحدة عن يمين القصر وأخرى عن شماله ولا يعرف مدى سعتهما إلا الله تعالى ، وذلك لما ثبت أن أحدهم يعطى مثل الدنيا عشر مرات واللام في (لِمَنْ خافَ) لام الملك.

(٣) يطلق الفنن على اللون وعلى الغصن فأفنان الفاكهة : ألوانها المختلفة ، وأفنان الشجر أغصانه ، قال النابغة :

بكاء حمامة تدعو هديلا

مفجعة على فنن تغني

(٤) الاستفهام في قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) تكرر بتكرار النعم ، وهو للتقرير والتوبيخ والحث على الشكر بالعبادة والتوحيد فيها.

(٥) (مُتَّكِئِينَ) حال من (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ).

(٦) البطائن : جمع بطانة بكسر الباء مشتقة من البطن خلاف الظهر وضد البطانة الظهارة ، فالبطانة : أسفل الثوب والظهارة : ظهره.

تكذبان. قول الرحمن : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ) (١) أي وفي تينك الجنتين نساء من الحور العين (قاصِراتُ الطَّرْفِ) أي العين على أزواجهن فلا ترى إلا زوجها أي فلا تنظر إلا إلى زوجها وتقول له وعزة ربي وجلاله وجماله ما أرى فى الجنة شيئا أحسن منك فالحمد لله الذي جعلك زوجي وجعلني زوجك.

وقوله (لَمْ يَطْمِثْهُنَ) أي لم يجامعهن فيفتضهن قبل أزواجهن (إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أي لم يجامع الإنسية قبل زوجها الإنسي إنسي ولم يجامع الجنية قبل زوجها الجني جان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبمثل هذا الإنعام تكذبان؟

وقوله (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ) أي في صفائهن (وَالْمَرْجانُ) في بياضهن إذ الحوراء منهن يرى مخّ ساقها تحت ثيابها كما يرى الخيط أو السلك في داخل الياقوته لصفائها (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أبمثل هذا العطاء والإنعام تكذبان.

وقوله عظم فضله وجل عطاؤه وهو الرحمن (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ) أي في الإيمان والطاعات من العبادات (إِلَّا الْإِحْسانُ) (٢) إليه بمثل هذا النعيم العظيم الذي ذكر في هذه الآيات. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) يا معشر الإنس والجان فقولا : لا بشيء من آلاء ربنا نكذب فلك الحمد.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الخوف من الله تعالى وذلك كأن تعرض للعبد المعصية فيتركها خوفا من الله تعالى.

٢ ـ فضل نساء أهل الجنة في حبهن لأزواجهن بحيث لا ينظرن إلا إليهم.

٣ ـ بيان أن أفضل النساء في الدينا تلك التي تقصر نظرها على زوجها فتحبه ولا تحب غيره من الرجال.

٤ ـ بيان أن الجن المتقين يدخلون الجنة ولهم أزواج كما للإنس سواء بسواء.

٥ ـ الإشادة بالإحسان وبيان جزائه والإحسان هو إخلاص العبادة لله والإتيان بها على الوجه الذي شرع أداؤها عليه ، مع الإحسان إلى الخلق بكف الأذى عنهم وبذل الفضل لمن احتاجه منهم.

__________________

(١) هؤلاء نسوة الجنة لا أزواج المؤمنين اللائي كن لهم في الدنيا إذ مسّهن أزواجهن والزوجة المؤمنة تكون لآخر من تزوجها في الدنيا

(٢) جملة : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) تذييل لما قبلها من الجمل المتضمنة إيمان المؤمنين وعملهم الصالح وإحسانهم فيه ، والاستفهام للنفي.

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

شرح الكلمات :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) : أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه.

(مُدْهامَّتانِ) : أي مسودتان من شدة خضرتهما.

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) : أي فوارتان دائما وأبدا تفوران بالماء العذب الزلال.

(فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) : أي في الجنات الأربع نساء خيرات الأخلاق حسان الوجوه.

(حُورٌ) : أي أولئك الخيرات حور أي بيض والواحدة حوراء أي بيضاء.

(مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) : أي مستورات محبوسات على أزواجهن في الخيام والخيمة من در مجوف مضافة الى القصور ، وطول الخيمة الواحدة ستون ميلا.

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) : أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن قبل أزواجهن في الجنة أحد.

(عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) : أي على وسائد أو بسط الواحدة رفرفة خضر جمع أخضر.

(وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) : أي طنافس جمع طنفسة بساط له خمل رقيق اي بسط حسان.

(تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) : أي تقدس وكثرت بركة اسم ربك الرحمن.

(ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) : أي ذي العظمة والإكرام لأوليائه والإحسان إلى عباده.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر إنعام الله تعالى وإفضاله على عباده فقال (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي ومن دون تينيك الجنتين جنتان أخريان لمن خاف مقام ربه من السابقين وهاتان لمن خاف مقام ربه من أصحاب اليمين وقد يكون العكس كذلك والله أعلم بأي الجنتين أفضل ، اللهم ارزقنا ما شئت منهما فإنا بعطائك راضون ولك حامدون شاكرون (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بأي إنعام وإفضال تكذبان؟ وقوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) (١) مخضرتان الى حد الاسوداد فإن الأخضر من الأشياء إذا اشتدت خضرته ضربت إلى السواد ويقال فيها مدهامة (٢) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي بأي إنعام تكذبان يا معشر الجن والإنس (فِيهِما) في الجنتين (عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) أي فوّارتان بالماء دائما وأبدا ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بأي إفضال وإحسان تكذبان وقول الرحمن (فِيهِما) أي فى الجنتين (فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ (٣) وَرُمَّانٌ) لفظ الفاكهة قد يعم النخل والرمان ويصبح ذكر النخل والرمان لمزيد فضيلة كذكر الصلاة الوسطى بعد ذكر الصلوات الخمس في قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد. وقوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) (٤) أي في الجنتين نساءهن خيرات جمع خيرة خيرات الأخلاق حسان الوجوه. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) أبمثل هذا الإنعام والإكرام على أولياء الرحمن تكذبان؟ (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي (٥) الْخِيامِ) إن أولئك الخيرات حور جمع حوراء وهي البيضاء ، والحوراء كذلك من يغلب بياض عينيها سوادهما وهو من جمال النساء محبوسات في الخيام لا ينظرن الى غير أزواجهن ، والخيمة من درة مجوفة طولها ستون ميلا مضافة الى قصورهم.

__________________

(١) (مُدْهامَّتانِ) وصف مشتق من الدهمة ، بضم الدال وهو لون السواد الناتج عن شدة الخضرة.

(٢) الاستفهام كسابقه للتقرير والتوبيخ.

(٣) عطف النخل والرمان على (فاكِهَةٌ) من باب عطف الجزء على الكل أو الخاص على العام كقوله تعالى : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ).

(٤) (خَيْراتٌ) بسكون الياء جمع خيرة وهو وصف لموصوف محذوف أي : نساء خيرات ، والأصل : خيرّات بتشديد الياء المكسورة جمع خيرة مؤنث خير وهو المختص بوصف الخير ضد الشر وخفف في الآية طلبا للخفة مع السلامة من اللبس.

(٥) المقصورات : صفة لموصوف أي : نساء مقصورات والقصور على الخيمة بعدم الخروج منها : وصف للترف والنعيم بحيث لا تخرج من الخيمة والقصر لغناها بخلاف من تخرج للعمل لحاجتها إلى العمل في البستان أو غيره.

وقوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) أي لم يجامعهن فيفتض بكارتهن إنس ولا جان من قبل أزواجهن في الجنة (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟) والجواب : لا بشيء من آلاء ربنا نكذب ربنا فلك الحمد.

وقوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ (١) خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) أي متكئين على رفرف خضر والرفرف جمع رفرفة أي على وسائد أو بسط خضر ، (٢) وعبقريّ حسان أي على طنافس (٣) ذات خمل دقيق. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) بنعم الدنيا أم بنعم البرزخ أم بنعم الآخرة لا بشيء من آلاء ربنا نكذب.

وقوله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي تبارك اسم ربك أي تقدس وكثرت بركات اسم ربك الرحمن ذي الجلال أي العظمة والإكرام لأوليائه وصالحى عباده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن نعيم الآخرة أعظم وأجل من نعم الدنيا.

٢ ـ فضيلة التمر والرمان فلنبحث منافعهما فإن الحقيقة بنت البحث.

٣ ـ فضل المرأة المقصورة في بيتها وذم الولاجة الخراجة كما قال ابن عباس رضى الله عنهما.

٤ ـ بيان أن الجن يدخلون الجنة ويسعدون فيها.

٥ ـ البركة تنال ببسم الله الرحمن الرحيم.

سورة الواقعة

مكية

وآياتها ست وتسعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢))

__________________

(١) الرفرف : اسم جمع رفرفة ، وهي ما يبسط على الفراش للنوم عليه ، ويغلب عليها اللون الأخضر ، ولذلك شبه ذو الرمة الرياض بالبسط العبقرية في قوله :

حتى كأن رياض القف ألبسها

من وشي عبقر تجليل وتنجيد

وكانت الثياب الخضر. عزيزة إذ هي لباس الملوك والكبراء. قال النابعة :

يصون أجسادا قديما نعيمها

بخالصة الأردان خضر المناكب

(٢) العبقري : وصف لكل ما كان فائقا في صفته عزيز الوجود وهو نسبة إلى عبقر اسم بلاد الجن في معتقد العرب فنسبوا إليه كل ما تجاوز العادة في الإتقان والحسن ، ومنه قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رؤياه لعمر : (فلم أر عبقريا يفري فريه).

(٣) جمع طنفسة وهي البساط ذو الخمل ، و (حِسانٍ) جمع حسناء ، وهو وصف لعبقري لأنه اسم جمع.

شرح الكلمات :

(إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) : أي قامت القيامة وقيل فيها الواقعة لأنها واقعة لا محالة.

(لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) : أي نفس تكذب بها بأن تنفيها كما نفتها في الدنيا.

(خافِضَةٌ رافِعَةٌ) : أي مظهرة لخفض أقوام بدخولهم النار ، ولرفع آخرين بدخولهم الجنة.

(إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) : أي حركت حركة شديدة.

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) : أي فتتت تفتيتا

(فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) : أي غبارا منتشرا.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) : أي في القيامة أصنافا ثلاثة.

(فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم.

(ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : أي تعظيم لشأنهم بدخولهم الجنة.

(وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) : أي الشمال الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم.

(ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) : أي تحقير لشأنهم بدخولهم النار.

(وَالسَّابِقُونَ) : أي إلى الخير وهم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة في أول الدعوة.

(السَّابِقُونَ) : تعظيم لشأنهم.

(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) : أي هم المقربون الذين يقربهم الله منه يوم القيامة إذا أدخلهم الجنة.

(فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) : في بساتين النعيم الدائم.

معنى الآيات :

قوله تعالى في تقرير البعث والجزاء الذي كذب به المشركون وأنكروه في إصرار وعناد (إِذا) (١) (وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي إذا قامت القيامة (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي نفس تكذب بها إذ يؤمن بها الجميع ، (خافِضَةٌ) لأقوام أي مظهرة لحالهم بأنهم أهل النار ، (رافِعَةٌ) لآخرين مظهرة لحالهم بأنهم من أهل الجنة. وقوله : (إِذا رُجَّتِ (٢) الْأَرْضُ رَجًّا) أي حرّكت حركة شديدة ، (وَبُسَّتِ الْجِبالُ (٣) بَسًّا) ، أي إذا بست الجبال أي فتتت تفتيتا (فَكانَتْ (٤) هَباءً مُنْبَثًّا) أي غبارا منتشرا.

وقوله تعالى (وَكُنْتُمْ) أي أيها الناس (أَزْواجاً) أي أنواعا (ثَلاثَةً) : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والمقربون (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم (ما أَصْحابُ (٥) الْمَيْمَنَةِ) أي أن شأنهم عظيم وذلك بدخولهم الجنة دار النعيم. (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) وهم أصحاب الشمال أي اليساريون الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم أي بمياسرهم (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) أي شأنهم حقير وذلك بدخولهم النار. (وَالسَّابِقُونَ) إلى الإيمان والطاعة في أول ظهور الدعوة (٦) (السَّابِقُونَ) هذا تعظيم لشأنهم واعلان عن فوزهم وكرامتهم (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وهي بساتين ذات نعيم دائم جعلنا الله منهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء في الآخرة.

٢ ـ الإيمان والتقوى يرفعان والشرك والمعاصي يضعان ويخفضان.

٣ ـ السابقون الى الطاعات لهم فضل الاسبقية في كل زمان ومكان.

٤ ـ اليساريون هم اشقياء الدنيا والآخرة. لأنهم عند ما أخذ غيرهم ذات اليمين طالبين الإيمان والاستقامة أخذوا هم ذات الشمال طالبين الكفر والفسوق.

__________________

(١) (الْواقِعَةُ) علم بالغلبة على القيامة ، وأصل الواقعة : الحادثة ، ومن ذلك قولهم واقعة أحد أو بدر مثلا ، وإذا ظرف ضمن معنى الشرط متعلق بالكون المقدر في قوله : (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) و (لَيْسَ لِوَقْعَتِها) مستأنفة بيانية.

(٢) (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ) بدل من (إِذا) الأولى ، وجواب الشرط (إِذا) الأولى والمبدلة منها هو قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ.). الخ.

(٣) البسّ : بمعنى التفتت للأجزاء المجموعة ، ومنه : البسيسة : للسويق ويطلق البسّ على السوق للماشية ، وفي الحديث :

(فيأتي قوم فيبسون بأموالهم وأهليهم ـ أي : يسوقونهم ـ والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون).

(٤) الهباء : ما يلوح في خيوط شعاع الشمس من دقيق الغبار.

(٥) (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : (ما) مبتدأ والخبر : أصحاب الميمنة ، والجملة خبر فأصحاب الميمنة وكذا (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ).

(٦) يجوز أن يكون (السَّابِقُونَ) : خبر عن الأول ، وجملة : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) مستأنفة ، ويجوز أن يكون (السَّابِقُونَ) الثاني : ويجوز أن تكون تأكيدا للأول ، والخبر : جملة (أُولئِكَ).

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

شرح الكلمات :

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) : أي جماعة من الأمم الماضية.

(وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : أي من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. هؤلاء هم السابقون

(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) : أي منسوجة مشبكة بالذهب والجواهر.

(وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) : أي على شكل الأولاد لا يهرمون فيخدمونهم أبدا.

(بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ) : يطوف عليهم الولدان الخدم بأكواب وهي أقداح لا عرا لها ، وأباريق لها عرا وخراطيم.

(وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) : أي وإناء لشرب الخمر ومعين بمعنى جارية من نهر لا ينقطع أبدا.

(لا يُصَدَّعُونَ) : أي لا يحصل لهم من شربها صداع.

(وَلا يُنْزِفُونَ) : أي ولا تذهب عقولهم يقال نزف الشارب وأنزف إذا ذهب عقله بالسكر.

(وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) : أي يختارون منها ما يروق لهم ويعجبهم وإن كانت كلها معجبة.

(وَحُورٌ عِينٌ) : أي ولهم نساء بيض عين أي واسعة الأعين وشديدات سواد العيون وبياضها.

(كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) : أي أولئك الحور العين هن في جمالهن وصفائهن كأمثال اللؤلؤ المصون.

(لَغْواً وَلا تَأْثِيماً) : أي لا يسمعون في الجنة لغوا أي فاحش الكلام وما لا خير فيه ولا ما يوقع في الإثم.

(إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) : إلا قولا سلاما سلاما أي لا يسمعون الا السّلام من الملائكة ومن بعضهم بعضا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في بيان أحوال الناس إذا قامت القيامة فذكر أنهم يصيرون أصنافا ثلاثة أصحاب يمين وأصحاب شمال وسابقين. وهنا يقول في السابقين إنهم (ثُلَّةٌ) أي جماعة (مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي (١) من الأمم الماضية الذين أسلموا وسبقوا إلى الإسلام مع أنبيائهم ، (وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) (٢) أي من هذه الأمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم الذين سبقوا الى الإيمان والهجرة والجهاد يذكر نعيمهم فيقول وقوله الحق : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي إنهم على سرر موضونة أي منسوجة ومشبكة بالذهب والجواهر ، حال كونهم (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ) لا ينظر أحدهم إلى قفا الآخر بل إلى وحهه ، (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي للخدمة (وِلْدانٌ) غلمان (مُخَلَّدُونَ) (٣) لا يكبرون فيهرمون ولا يتغيرون بل يبقون كذلك أبدا يطوفون عليهم (بِأَكْوابٍ) جمع كوب وهو قدح لا عروة له ، (وَأَبارِيقَ) جمع ابريق وهو إناء له عروة وخرطوم ، (وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) والكأس هنا إناء شرب الخمر والمعين ما كان جاريا لا ينضب والمراد بكأس من نهر الخمر.

وقوله تعالى (لا يُصَدَّعُونَ (٤) عَنْها) أي لا يصيبهم صداع من شربها ، (وَلا يُنْزِفُونَ) (٥) أي لا تذهب عقولهم بشربها بخلاف خمر الدنيا فإنها تصيب شاربها بالصداع وذهاب العقل غالبا وقوله تعالى (وَفاكِهَةٍ) ويطوف عليهم الغلمان بفاكهة وهو ما يتفكه به وليس بغذاء رئيسي ومن سائر الفواكه ، (مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) أي يختارون. (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) أي مما تشتهيه أنفسهم.

وقوله (وَحُورٌ عِينٌ) أي ولهم في الجنة حور عين يستمتعون بهن ، واحدة الحور حوراء. وهي البيضاء وواحدة العين العيناء وهو واسعة العينين والحور في العين أن يكون بياضها أكثر من

__________________

(١) قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) اعتراض بين جملة (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) وجملة : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) وثلة : خبر لمبتدأ محذوف أي هم : ثلة الخ.

(٢) من الأولى والثانية تبعيضية.

(٣) قيل : إنهم على سن واحدة ، وروي عن علي رضى الله عنه أنه قال : الولدان هم أولاد المسلمين الذين يموتون صغارا. وقال سلمان : هم أولاد المشركين الذين يموتون صغارا. والله أعلم.

(٤) التصديع : الإصابة بالصداع ، وهو وجع الرأس من الخمار الناشيء عن السكر أي لا تصيبهم الخمر بصداع ، وعنها بمعنى : لا يصيبهم صداع ناشيء عنها.

(٥) قرأ نافع ينزفون بفتح الزاي من : أنزفه وقرأها حفص (يُنْزِفُونَ) بكسر الزاي من أنزف القاصر ، إذا سكر وذهل عقله.

سوادها وهو ضرب من الجمال ، وقوله (كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) أي المصون في كنّه أو صدفه. يريد أنهن جميلات مصونات غير مبتذلات وقد تقدم في الرحمن أنهن مقصورات في الخيام. وقوله تعالى (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي جزاهم ربهم جزاء بما كانوا يعملونه من الصالحات بعد الإيمان والتوحيد وترك المعاصي.

وقوله تعالى وهو من إتمام النعيم أنهم (لا يَسْمَعُونَ) في جنات النعيم ما يكدر صفو نعيمهم أو ينغص لذة حياتهم من قول بذيء سيّئ فلا يسمعون فيها أي في الجنة (لَغْواً) أي (١) كلاما فاحشا (وَلا تَأْثِيماً) وهو ما يؤثم قائله وسامعه. (إِلَّا قِيلاً) أي قولا (سَلاماً سَلاماً) أي إلا ما كان من سلام الرب تعالى عليهم وهو أكبر نعيمهم وسلام الملائكة عليهم وسلام بعضهم على بعض اللهم اجعلنا منهم قل آمين أيها القاريء واطمع فإن ربنا غفور رحيم سميع الدعاء قريب مجيب.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء بذكر أحوال الدار الآخرة.

٢ ـ بيان شيء من نعيم أهل الجنة وخاصة السابقين منهم.

٣ ـ بيان ان السابقين يكونون من سائر الأمم المسلمة.

٤ ـ بيان فضل خمر الجنة على خمر الدنيا المحرمة.

٥ ـ تقرير قاعدة أن الجزاء من جنس العمل.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠))

__________________

(١) اللغو من الكلام في الدنيا هو : ما لا يحصل حسنة للمعاد ولا درهما للمعاش وفي الآخرة هو ما لا يسر من كل قول إذ الحياة : حياة سعادة وسرور وحبور.

شرح الكلمات :

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) : هذا شروع في ذكر الزوج الثاني من الأزواج الثلاثة فذكر السابقين وما أعد لهم وهذا ذكر لأصحاب اليمين وما أعد لهم من نعيم مقيم.

(فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) : في شجر السدر وثمره النبق ومخضود لا شوك فيه.

(وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) : أي شجر موز منضود الحمل من أعلاه إلى أسفله فليس له ساق بارزة.

(وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) : أي دائم إذ لا شمس تنسخه وإن ظل شجرة في الجنة يسير الراكب فيه مائة سنة لا يقطعه.

(وَماءٍ مَسْكُوبٍ) : أي مصبوب لا يحتاج المتنعم بأن يصبه بيده بل هو سائل في غير أخدود أو أنبوب.

(لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) : أي غير مقطوعة في زمن ، ولا ممنوعة بثمن.

(وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) : أي على السرر العالية الرفيعة.

(إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) : أي الحور العين اللائي تقدم ذكرهن في قوله وحور عين. إذ كانت الواحدة منهن في الدنيا عجوزا شمطاء عمشاء رمصاء فأنشأها ربها إنشاء جديدا بكرا تتغنج وتتعشق عرباء تتودد لزوجها وتتحبب.

(فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) : الواحدة بكر وهي التي لم تفتض بكارتها بعد وتسمى العذراء.

(عُرُباً) : الواحدة عروب وهي المتحببة الى زوجها الحسنة التبعل.

(أَتْراباً) : أي مستويات في السن الواحدة يقال لها ترب والجمع أتراب.

(لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) : وهم الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين وهم أهل الإيمان في الدنيا والعمل الصالح فيها.

(ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) : أي من الأمم السابقة.

(وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) : أي من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في عرض أحوال الآخرة وذكر ما لكل صنف من أصناف الناس الثلاثة من سابقين وأصحاب يمين وأصحاب شمال فقال تعالى (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ) (١) وهم الذين إذا وقفوا في عرصات القيامة أخذ بهم ذات اليمين وهم أهل الإيمان والتقوى في الدنيا وقوله تعالى : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) (٢) تفخيم لشأنهم وإعلان عن كرامتهم ثم بيّن ذلك بقوله : (فِي سِدْرٍ (٣) مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ) (٤) (وَلا مَمْنُوعَةٍ ، وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) إنهم في هذا النعيم الدائم المقيم إنهم يتفكهون بالنبق الذي هو أحلى من العسل وأنعم من الزبد شجره مخضود الشوك لا شوك به ، ويتفكهون بالطلح أي ثمره وهو الموز ، والماء المصبوب الجارى ، والفاكهة الكثيرة التي لا تقطع بالفصول الزمانية كما هي الحال في فاكهة الدنيا يوجد منها في الصيف ما لا يوجد في الشتاء مثلا ولا ممنوعة بثمن غال ولا رخيص وفي فرش مرفوعة عالية علو الدرجات التي هي فيها وقوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) (٥) يعني الحور العين اللائي سبق في الآيات ذكرهن منهن من أنشأهن الله إنشاء لم يسبق لهن خلق ووجود ، ومنهن نساء الدنيا فقد كانت فيهن السوداء والعمشاء والرمصاء والعجوز فيعيد تعالى إنشاءهن فيجعلهن من بين الحور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون ، وقوله (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) عذارى لم يمسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان (عُرُباً أَتْراباً) العروب (٦) هي المتحببة الى زوجها العاشقة له المتغنجة والأتراب المتساويات في السن ، وترب (٧) الإنسان من ولد معه في وقت واحد فمس جلده التراب مع مس التراب جلدك وقوله (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) أي أنشأ هؤلاء الحور العين لأجل أصحاب اليمين ليستمتعوا بهن. وقوله (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) أي من الأمم الماضية (وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) أي من هذه الأمة المسلمة اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وادخلنا الجنة معهم.

__________________

(١) هذا شروع في تفصيل ما أجمل عند التقسيم من شؤونهم الفاضلة على إثر تفصيل شؤون السابقين.

(٢) الإخبار ب (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ) : فيه من التفخيم ما فيه!!

(٣) خبر محذوف المبتدأ تقديره : هم في سدر.

(٤) لا مقطوعة ولا ممنوعة : هذا وصف للفاكهة ، والنفي هنا أثبت من الإثبات لأنه بمنزلة وصف وتوكيد.

(٥) لما ذكر الفرش قد يخطر بالبال هل هناك نساء يكن بصحبة أهلها؟ فأجيب بقوله : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَ) أي : الحور العين (إنشاء) فكانت الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، وضمير المؤنث (أَنْشَأْناهُنَ) عائد إلى غير مذكور في الكلام لكنه ملحوظ في الأفهام.

(٦) العرب : جمع عروب ، ويقال : عربة ويجمع على عربات ، وهذا اسم خاص بالمرأة المتحببة إلى زوجها كما في التفسير.

(٧) الأتراب : جمع ترب وهي المرأة التي تساوى سنها سن من تضاف إليه من النساء ، وقيل : إن الترب خاص بالمرأة ، وأما المساواة في السن من الرجال فيقال له قرن ، ولدة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله وإنعامه على المؤمنين المتقين.

٢ ـ بيان أن العجوز في الدنيا إذا دخلت الجنة تصير شابة حسناء حوراء عروبا.

٣ ـ تقرير أن ثمن الجنة الإيمان والتقوى فلا دخل للحسب ولا للنسب والأول كالآخر على حد سواء فيها.

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

شرح الكلمات :

(وَأَصْحابُ الشِّمالِ) : أي هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال في الموقف يوم القيامة وهم أهل الشرك والمعاصي في الدنيا.

(فِي سَمُومٍ) : أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسد.

(وَحَمِيمٍ) : أي ماء حار شديد الحرارة.

(وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) : أي دخان شديد السواد.

(لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) : أي لا بارد كغيره من الظلال ولا كريم حسن المنظر.

(كانُوا قَبْلَ ذلِكَ) : أي في الدنيا.

(مُتْرَفِينَ) : أي منعمين لا ينهضون بالتكاليف الشرعية ولا يتعبون في طاعة الله ورسوله.

(يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) : أي الذنب العظيم وهو الشرك.

(وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا) : أي وكانوا ينكرون البعث الآخر.

(لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) : أي لوقت يوم معلوم وهو يوم القيامة.

(أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) : أي الضالون عن طريق الهدى المكذبون بالبعث والجزاء.

(مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) : أي من أخبث الشجر المرّ في غاية الكراهة والبشاعة طعما ولونا.

(فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) : أي شاربون شرب الإبل العطاش ، إذ الهيمان العطشان والهيمى العطشى.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) : أي هذا ما أعد لهم من قرى يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان أحوال الأصناف الثلاثة التي انقسمت البشرية إليها عند خروجها من قبورها فذكر حال السابقين وحال أصحاب اليمين وذكر هنا حال أصحاب المشأمة وهم أصحاب الشمال فقال تعالى : (وَأَصْحابُ) (١) (الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) تنديد بحالهم وإعلان عن سوء عاقبتهم وما هم فيه من عذاب إنهم (فِي سَمُومٍ) (٢) أي ريح حارة تنفذ في مسام الجسم (وَحَمِيمٍ) وهو ماء حار شديد الحرارة هذا شرابهم ، (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) إنه دخان أسود شديد السواد (لا بارِدٍ) كغيره من الظلال (وَلا كَرِيمٍ) أي وليس بذي حسن في منظره. وقوله تعالى (إِنَّهُمْ (٤) كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) (٥) هذه علة جزائهم بالعذاب الأليم

__________________

(١) هذا شروع في تفصيل أحوالهم التي أشير عند التوزيع إلى هولها وفظاعتها بعد تفصيل حسن حال أصحاب اليمين.

(٢) (السموم) : الريح الشديدة الحرارة التي لا بلل معها كأنها مأخوذة من السم.

(٣) اليحموم : الدخان الأسود مشتق من الحمم على وزن صرد اسم للفحم والحممة : الفحمة. وفي قوله تعالى : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) تهكم ظاهر.

(٤) الجملة تعليلية إذ هي علة لما أصاب أصحاب الشمال من الهون والدون والعذاب الأليم.

(٥) ظاهر اللفظ أنّ الترف هو سبب كفرهم وإصرارهم على ذلك وجائز أن يكون الترف بعض السبب لا كله ، والعبرة بالواقع والإشارة في قوله : (قَبْلَ ذلِكَ) عائدة إلى السموم واليحموم والظل من اليحموم.

إنهم كانوا في الدنيا منعمين لا يصلون ولا يصومون ولا يجاهدون ولا يرابطون ، (وَكانُوا يُصِرُّونَ (١) عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) أي على الإثم العظيم أي الشرك وكبائر الإثم والفواحش.

(وَكانُوا يَقُولُونَ) منكرين للبعث والجزاء جاحدين باليوم الآخر ـ (أَإِذا) (٢) (مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي أحياء كما كنا في الدنيا (أَوَآباؤُنَا) أيضا مبعوثون كذلك والاستفهام في الموضعين للاستبعاد والإنكار. وهنا أمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرد عليهم بقوله (قُلْ) أي قل لهم : (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ) أي أنتم وآباؤكم من عهد آدم والآخرين منكم ومن ذريتكم الى نهاية حياة الإنسان (لَمَجْمُوعُونَ (٣) إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) أي لوقت يوم معلوم عند الله محدد باليوم والساعة والدقيقة (ثُمَ (٤) إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) عن سبيل الهدى المعرضون عن الحق المكذبون بالبعث لداخلون جهنم ماكثون فيها أبدا وإنكم (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ) وهو شر ثمر وأخبث ما يؤكل مرارة (فَمالِؤُنَ مِنْهَا) بطونكم لما يصيبكم من الجوع الشديد ، (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ ، فَشارِبُونَ شُرْبَ (٦) الْهِيمِ) أي الماء الحار الشديد الحرارة مكثرين منه كما تكثر الإبل الهيم (٥) التى أصابها العطش واشتد بها داء الهيام الذي أصابها. قوله تعالى (هذا نُزُلُهُمْ (٧) يَوْمَ الدِّينِ) أي هذا الذي ذكرنا من طعام الضالين المكذبين وشرابهم هو نزلهم الذي نزلهم يوم الدين وأصل النزل ما يعد للضيف النازل من قرى : طعام وشراب وفراش.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ أصحاب الشمال يدخل فيهم كل كافر وجد على وجه الأرض فإنهم في التقسيم ثلث الناس وفي الواقع هم أضعاف السابقين واصحاب اليمين لأن أكثر الناس لا يؤمنون.

٢ ـ التنديد بالترف والتنعم في هذه الحياة الدنيا فإنه يقود الى ترك التكاليف الشرعية فيهلك

__________________

(١) صيغة المضارع (يُصِرُّونَ) دالة على تجدد الإصرار منهم.

(٢) قرأ الجمهور ومنهم حفص بإثبات الاستفهام الأول والثاني ، وقرأ نافع بالاستفهام في (أَإِذا مِتْنا) والإخبار في (إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ).

(٣) (لَمَجْمُوعُونَ) : أي : مبعوثون دفعة واحدة جميعا دفعا لما قد يتوهم أنهم يبعثون على فترات كما كان وجودهم وموتهم في الدنيا على فترات مختلفة.

(٤) هذا من جملة أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقوله لهم.

(٥) الهيم : جمع أهيم وهو البعير الذي أصابه الهيام بضم الهاء وهو داء يصيب الإبل يورثها حمى في الأمعاء فلا تزال تشرب ولا تروى والمؤنث هيمى إذ المذكر أهيم.

(٦) قرأ نافع وحفص : (شُرْبَ) بضم الشين ، وقرأ بعض شرب بفتح الشين مصدر شرب يشرب شربا.

(٧) النزل : بضم النون والزاي : ما يعد للضيف ويقدم له من طعام وشراب وهو هنا تشبيه تهكمي كالاستعارة كما في قول الشاعر :

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا

جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

صاحبه لذلك لا لكون طعامه وافرا وشرابه لذيذا.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بما لا مزيد عليه من العرض والوصف لحال الناس.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

شرح الكلمات :

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) : أي أوجدناكم من العدم.

(فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) : أي فهلا تصدقون بالبعث إذ القادر على الإنشاء قادر على الإعادة بعد الفناء والبلى.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) : أي الذي تصبونه من المنى بالجماع في أرحام نسائكم.

(أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) : أي بشرا أم نحن الخالقون له بشرا.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) : أي قضينا به عليكم وكتبناه عليكم وجعلنا لكل واحد أجلا معينا لا يتعداه ولا يتأخر منه بحال من الأحوال.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) : أي بعاجزين.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) : أي ما أنتم عليه من الخلق والصور.

(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) : أي ونوجدكم في صور لا تعلمونها وهذا تهديد لهم بمسخهم وتحويلهم إلى أبشع حيوان وأقبحه.

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) : أي ولقد علمتم خلقنا لكم كيف تم وكيف كان.

أفلا تذكرون : فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على إعادة خلقكم مرة أخرى بعد موتكم وفنائكم.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) : أي من إثارة الأرض بالمحراث وإلقاء البذر فيها.

(أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ) : أي تنبتونه.

(أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) : أي نحن المنبتون له يقال زرعه الله أي أنبته.

(لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً) : أي لو نشاء لجعلنا الزرع حطاما يابسا بعد أن أصبح سنبلا وقارب أن يفرك فتحرمون منه.

(فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) : أي تتعجبون في مجالسكم من الجائحة التي أصابت زرعكم.

(إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) : أي قائلين إنا لمغرمون أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون به.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) : أي لسنا بمعذبين به وانما نحن محرومون من زرعنا وما بذلناه فيه ليس لنا من حظ ولا جد أي غير محظوظين ولا مجدودين.

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) : أي أخبرونا عن الماء الذي تشربونه وحياتكم متوقفة عليه.

(أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) : أي من السحاب في السماء الى الأرض.

(أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) : أي له إلى الأرض.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) : أي ملحا مرا لا يمكن شربه.

(فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) : أي فهلا تشكرون أي الله بالإيمان والطاعة.

(أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) : أي أخبرونا عن النار التي تخرجون من الشجر.

(أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) : أي خلقتم شجرتها كالمرخ والعفار والكلخ.

(أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) : أي نحن المنشئون لتلك الأشجار.

(نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) : أي جعلنا تلك النار تذكرة اي تذكر بنار جهنم.

(وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (١) : أي بلغة للمسافرين يتبلغون بها في سفرهم.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : أي نزه اسم ربك عما لا يليق به كذكره بغير احترام ولا تعظيم او الاسم صلة والتقدير نزه ربك عن الشريك ومن ذلك قولك سبحان ربي العظيم.

معنى الآيات :

السياق هنا في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي أنكرها المشركون وذلك بذكر الأدلة العقلية الموجبة للعلم واليقين في المعلوم المطلوب تحصيله قال تعالى (نَحْنُ (٢) خَلَقْناكُمْ) وأنتم معترفون بذلك إذ لمّا نسألكم من خلقكم تقولون الله. إذا (فَلَوْ لا) (٣) (تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون بالبعث والحياة الثانية إذ القادر على الخلق الأول قادر على الإعادة. وهذه أدلة قدرتنا تأملوها أولا (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي أخبرونا عما تمنون أي تصبونه في أرحام نسائكم بالجماع (أَأَنْتُمْ (٤) تَخْلُقُونَهُ) ولدا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) والجواب نحن الخالقون إذا القادر على خلقكم بواسطة هذا الإمناء والتكوين في الأرحام قادر على خلقكم بطريق آخر وثانيا (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) وقضينا به عليكم فلا يستطيع أحد منكم أن يمنعنا من إماتته وفي الوقت المحدد له. بحيث لو طلب التقديم أو التأخير لما قدر على ذلك أليس القادر على خلقكم وإماتتكم قادر على بعثكم

__________________

(١) المقوى : من نزل القوى والقواء والقي أيضا : أي الأرض القفر التي لا شيء فيها ولا أنيس بها يقال : أقوت الدار وقويت أيضا أي : خلت من سكانها ، قال النابغة :

يا دار ميّة بالعلياء فالسند

أقوت وطال عليها سالف الأمد

وقال عنترة :

حييت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

(٢) موقع هذه الجملة : الاستدلال والتعليل لما تضمنته جملة (إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) من عقيدة البعث والجزاء وتقريرها.

(٣) الفاء للتفريع فالجملة متفرعة عن قوله تعالى (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) وهي متضمنة للتحضيض على التصديق بالبعث الآخر إذ لو لا هنا للتحضيض على ذلك.

(٤) الاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا الإقرار بأن خالق الجنين من النطفة هو الله.

بلى وثالثا (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) (١) بحيث نخلقكم في صور وأشكال غير ما أنتم عليه فنخلقكم خلقا ذميما وقبيحا كالقردة والخنازير ، وما نحن بعاجزين عن ذلك فهل نعجز إذا عن بعثكم بعد موتكم أحياء لنحاسبكم ونجزيكم (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) كيف تمت لكم بما لا تنكرونه.

إذا (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أن الذي خلقكم أول مرة قادر على خلقكم ثانية مع العلم أن الإعادة ليست بأصعب من الإنشاء من عدم لا من وجود. ورابعا (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) (٢) من إثارة الأرض وإلقاء البذر فيها أخبرونا أأنتم تنبتون الزرع (أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) له أي المنبتون والجواب معروف وهو أننا نحن الزارعون لا أنتم. إذا فالقادر على إنبات الزرع قادر على إنباتكم في قبوركم على نحو إنبات الزرع وعجب الذنب هو النواة التي تنبتون منها وخامسا هو أن ذلك الزرع الذي أنبتناه (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) بعد نضرته وقرب حصاده (حُطاماً) يابسا لا تنتفعون منه بشيء (٣) (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) متعجبين من حرمانكم من زرعكم تقولون (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي ما أنفقناه على حرثه ورعايته معذبون (٤) به ثم تضربون عن قولكم ذلك إلى قول آخر وهو قولكم (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ما لنا من حظ ولا جد فيه أي لسنا محظوظين ولا مجدودين. إن إنبات الزرع ثم حرمانكم منه بعد طمعكم في الانتفاع به مظهر من مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وتدبيره وكلها دالة على قدرته على بعثكم لمحاسبتكم ومجازاتكم على عملكم في هذه الحياة الدنيا. وسادسا (الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) وحياتكم متوقفة عليه أخبروني (أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ) من السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) والجواب نحن المنزلون لا أنتم هذا أولا وثانيا (لَوْ نَشاءُ) لجعلنا الماء ملحا مرّا لا تنتفعون منه بشيء وإنا لقادرون فهلا تشكرون هذا الإحسان منا إليكم بالإيمان بنا والطاعة لنا. وسابعا (النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) وتشعلونها أخبروني (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) والجواب نحن لا أنتم فالذي يوجد النار في الشجر قادر على أن يبعثكم أحياء من قبوركم ليحاسبكم على

__________________

(١) السبق : كناية عن الغلبة والتعجيز ، لأن السبق يستلزم أن السابق غالب للمسبوق فمعنى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي.

غير مغلوبين. قال الشاعر :

كأنك لم تسبق من الدهر مرة

إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب

(٢) الشبه قوي بين تحويل النطفة إلى جنين ، والحبة إلى نبات فهي مناسبة عجيبة بين الدليلين.

(٣) أصل (فَظَلْتُمْ) فظللتم فحذفت إحدى اللامين تخفيفا كما حذفت إحدى التاءين من (تَفَكَّهُونَ) إذ الأصل (تتفكهون).

(٤) هذا بناء على أنّ الغرام : هو العذاب كقوله تعالى : (إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أو هو من الغرامة التي هي ذهاب مال المرء وأخذه منه بغير عوض.

سلوككم ويجزيكم به. وقوله تعالى (نَحْنُ جَعَلْناها) أي النار (تَذْكِرَةً) لكم تذكركم بنار الآخرة فالذي أوجد هذه النار قادر على إيجاد نار أخرى لو كنتم تذكرون وجعلناها أيضا (مَتاعاً) أي بلغة (لِلْمُقْوِينَ) (١) المسافرين يتبلغون بها في سفرهم حتى يعودوا إلى ديارهم. فالقادر على الخلق والإيجاد والتدبير لمصالح عباده قادر على إيجاد حياة أخرى يجزي فيها المحسنين اليوم والمسيئين إذ الحكمة تقتضي هذا وتأمر به.

وقوله تعالى (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٢) (الْعَظِيمِ) بعد إقامة الحجة على منكرى البعث بالادلة العقلية امر تعالى رسوله أن يسبح ربه أي ينزهه عن اللعب والعبث اللازم لخلق الحياة الدنيا على هذا النظام الدقيق ثم إفنائها ولا شيء وراء ذلك. إذ البعث والحياة الآخرة هي الغاية من هذه الحياة الدنيا فالناس يعملون ليحاسبوا ويجزوا فلا بد من حياة أكمل وأتم من هذه الحياة يتم فيها الجزاء وقد بينها تعالى وفصلها في كتبه وعلى ألسنة رسله ، وضرب لها الأمثال فلا ينكرها الا سفيه هالك.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ إقامة الأدلة والبراهين العديدة على صحة البعث وإمكانه عقلا.

٣ ـ بيان منن الله تعالى على عباده فى طعامهم وشرابهم.

٤ ـ وجوب شكر الله تعالى على إفضاله وإنعامه.

٥ ـ في النار التى توقدها عبرة ، وعظة للمتقين.

٦ ـ وجوب تسبيح (٣) الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله وكماله من العبث والشريك.

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦)

__________________

(١) المقوى : الداخل في القواء وهو القفر ، فالمقوون ، الداخلون في القواء الذي هو القفر والقفار وهذه حال المسافر ، والمقوى أيضا : الجائع القفر البطن الخاوي من الطعام ، فالنار يتمتع بها المسافرون للاستضاءة والاستدفاء وطبخ الطعام.

(٢) الباء في باسم : زائدة لتوكيد اللصوق أي : اتصال الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب والتعقيب ، واسم الرب هو الله الدال على ذاته سبحانه وتعالى ، والتسبيح. التنزيه عما لا يليق ولفظه سبحان الله أي : ننزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد والعجز عن البعث.

(٣) في الصحيح : (لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم) قال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اجعلوها في ركوعكم) فكان المصلي إذا ركع قال : سبحان ربي العظيم ثلاثا أو أكثر امتثالا لأمر الله ورسوله).

إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢))

شرح الكلمات :

(فَلا أُقْسِمُ) : أي فأقسم ولا صلة لتقوية الكلام وتأكيد القسم.

(بِمَواقِعِ النُّجُومِ) : أي بمساقطها لغروبها وبمنازلها أيضا ومطالعها كذلك.

(وَإِنَّهُ) : أي القسم بها.

(لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) : أي لو كنتم من أهل العلم لعلمتم عظم هذا القسم.

(إِنَّهُ) : أي المتلو عليكم لقرآن كريم وهو الذي كذب به المشركون.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) : أي مصون وهو المصحف.

(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) : أي من الملائكة والأنبياء وكل طاهر غير محدث حدثا أكبر وأصغر

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي منزل من رب العالمين وهو الله جل جلاله.

(أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) : أي القرآن.

(أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) : أي تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر.

(وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) : أي شكر الله على رزقكم.

(أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) : أي تكذيبكم بسقيا الله وتقولون مطرنا بنوء كذا وكذا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (١) أي أقسم بمواقع النجوم وهي مطالعها ومغاربها (وَإِنَّهُ) أي قسمي هذا (لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ) أي لو كنتم من أهل العلم (عَظِيمٌ). لأن النجوم ومنازلها ومطالعها ومساقطها ومغاربها التي تغرب فيها أمور عظيمة في خلقها وتدبير الله فيها انه لقسم بشيء عظيم.

__________________

(١) (فَلا) صلة في قول أكثر المفسرين أي : فأقسم بمواقع النجوم وقيل : هي نفي أي ليس الأمر كما تقولون ثم استأنف فقال : فأقسم كقول الرجل : لا والله ما كان كذا وكذا ، ولا يريد به نفي اليمين بل يريد به نفي كلام سابق وقيل : لا بمعنى ألا أداة تنبيه وشاهده قول الشاعر :

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي

وهل ينعمن من كان في العصر الخالي

والمقسم عليه هو قوله (إِنَّهُ) أي المكذب به (لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (١) ، لا كما قال المبطلون شعر وسحر وكذب واختلاق (فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) أي مصون (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) سواء ما كان في اللوح المحفوظ أو في مصاحفنا فلا ينبغي أن يمسه إلّا المطهرون من الأحداث الصغرى (٢) والكبرى (تَنْزِيلٌ مِنْ (٣) رَبِّ الْعالَمِينَ) أي منزل منه سبحانه وتعالى ولذا وجب تقديسه وتعظيمه فلا يمسه إلّا طاهر من الشرك والكفر وسائر الأحداث.

وقوله تعالى (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ) أي القرآن أنتم مدهنون تلينون القول للمكذبين به ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) (٤) أي وتجعلون شكر الله تعالى على رزقه لكم (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) أي تكذيبكم بسقيا الله لكم بالأمطار وتقولون مطرنا ينوء كذا ونوء كذا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته ، وان العبد لا يقسم إلا بربه تعالى.

٢ ـ تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية ، وأن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.

٣ ـ وجوب صيانة القرآن الكريم ، وحرمة مسه على غير طهارة.

٤ ـ حرمة المداهنة في دين الله تعالى وهي أن يتنازل عن شيء من الدين ليحفظ شيئا من دنياه والمداراة جائزة وهي أن يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئا من دينه

(فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ

__________________

(١) (كَرِيمٌ) لما فيه من كريم الأخلاق ، ومعالي الأمور ولأنه يكرم حافظه ويعظم قارئه ويسعد وينجو العامل به.

(٢) قال القرطبي : اختلف في مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور على المنع لحديث عمرو بن حزم ، وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي وأحمد.

(٣) (تَنْزِيلٌ) بمعنى : منزّل من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالرد بمعنى المردود

(٤) صلح وضع لفظ الرزق موضع الشكر لأن شكر الرزق يسبب الزيادة في الرزق فأطلق السبب وأريد المسبب.

الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

شرح الكلمات :

(فَلَوْ لا) : أي فهلّا وهي للحض على العمل والحث عليه.

(إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) : أي مجرى الطعام وذلك وقت النزع.

وأنتم تنظرون : أي وأنتم أيها الممرضون والعواد تنظرون إليه.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) : أي ورسلنا ملك الموت وأعوانه أقرب إلى المحتضر منكم.

(وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) : أي الملائكة.

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) : أي فهلا إن كنتم غير مدينين أي محاسبين بعد الموت.

(تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي ترجعون الروح الى الجسم بعد وشوك مفارقتها له إن كنتم صادقين في انكم لا تبعثون ولا تحاسبون.

(فَأَمَّا إِنْ كانَ) : أي الميت.

(مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : أي من السابقين وهو الصنف الأول من الأصناف الثلاثة التي تقدمت في أول السورة.

(فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) : أي استراحة وريحان أي رزق حسن وجنّة نعيم.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) : أي من الصنف الثاني فسلام لك يا صاحب اليمين من أصحاب اليمين. أي من اخوانك يسلمون عليك فإنهم في جنات النعيم.

(فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) : أي فله نزل من ماء حار شديد الحرارة.

(وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ) : أي احتراق بها.

(إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) : أي إن هذا الذي قصصناه عليك في هذه السورة لهو حق اليقين.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) : أي نزه وقدس اسم ربك العظيم.

معنى الآيات :

بعد تقرير النبوة المحمدية وأن القرآن كلام الله وتنزيله عاد السياق الكريم الى تقرير البعث والجزاء فقال تعالى (١) (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ) أي الروح (٢) (الْحُلْقُومَ) وهو مجرى الطعام (وَأَنْتُمْ) في (٣) ذلك الوقت (تَنْظُرُونَ) مريضكم وهو يعانى من سكرات الموت ، (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) أي رسلنا أقرب إليه منكم (وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) إذ لا قدرة لكم على رؤية الملائكة ما لم يتشكلوا في صورة إنسان. وقوله (فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) أي محاسبين بعد الموت ومجزيين بأعمالكم (تَرْجِعُونَها) الروح بعد ما بلغت الحلقوم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى أنكم غير مدينين لله بأعمالكم ، أى فلا يحاسبكم عليها ولا يجزيكم بها.

وقوله تعالى (فَأَمَّا (٤) إِنْ كانَ) أي المحتضر (مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وهم السابقون (فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) (٥) أي فإن له الاستراحة التامة من عناء تعب الدنيا وتكاليفها وريحان وهو الرزق الحسن (وَجَنَّةُ نَعِيمٍ). (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) الذين يؤخذ بهم في عرصات القيامة ذات اليمين (فَسَلامٌ لَكَ) يا صاحب اليمين من اخوانك أصحاب اليمين الذين سبقوك الى دار السّلام.

(وَأَمَّا إِنْ كانَ) المحتضر (مِنَ الْمُكَذِّبِينَ) لله ورسوله المنكرين للبعث الآخر (الضَّالِّينَ) عن الهدى ودين الحق (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ) أي ضيافة على الماء الحار هذه ضيافته (وَتَصْلِيَةُ (٦) جَحِيمٍ) أي واحتراق بالجحيم.

وقوله تعالى (إِنَ) (٧) (هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) (٨) أي هذا الذي حدثناك به عن المحتضرين الثلاثة وما لهم وما نالهم لحق اليقين. وقوله (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) يأمر تعالى رسوله بالتسبيح باسم

__________________

(١) لم يجر للروح ذكر إلا أن المقام دال عليها كما قال حاتم.

أما وي ما يغني الثراء عن الفتى

إذا حشجرت يوما وضاق بها الصدر

(٢) (فَلَوْ لا) حرف تحضيض مستعمل هنا في التعجيز ، لأن المحضوض إذا لم يفعل ما حض عليه كان عاجزاو (إِذا بَلَغَتِ) ظرف متعلق ب (تَرْجِعُونَها) مقدم عليه لتهويله والتشويق إلى الفعل المحضوض عليه.

(٣) (وَأَنْتُمْ) الجملة حالية وكذا جملة (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) حالية أيضا.

(٤) الفاء للتفريع إذ ما بعدها من بيان حال من مات من سعادة أو شقاء متفرع عن الموت وانتهاء الحياة.

(٥) الروح : الراحة أي : هو في راحة ونعيم ، وعلى قراءة روح بضم الراء فالمعنى : أن روح المؤمن معها الريحان وهو الطيب والريحان شجر لورقه وقضبانه رائحة ذكية طيبة.

(٦) التصلية : مصدر صلّاه المشدد : إذا أحرقه وشواه يقال : صلى اللحم تصلية : إذا شواه والجحيم : النار المؤججة ، وهو علم على جهنم دار العذاب.

(٧) هذه الجملة تذييل لجميع ما تقدم في هذه السورة من وعد ووعيد واستدلال على تقرير النبوة والبعث والتوحيد ويدخل فيه دخولا أوليا الأقرب ذكرا وهو ما ذكر في التفسير.

(٨) اشتملت جملة : (إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ) على أربع مؤكدات وهي : إن ، ولام الابتداء ، وضمير الفصل ، وإضافة شبه المترادفين وهما : الحق واليقين ، وخامس وهو الجملة الاسمية لإفادتها الدوام والثبوت.

ربه العظيم صح أنه لما نزلت هذه الآية قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم ، والتسبيح التقديس والتنزيه لله تعالى عما لا يليق بجلاله وكماله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان عجز كل الناس أمام قدرة الله تعالى.

٣ ـ ان في عجز الإنسان على رد روح المحتضر ليعيش بعد ذلك ولو ساعة دليلا على أنه لا إله إلا الله

٤ ـ بيان فضل السابقين عن أصحاب اليمين.

٥ ـ القرآن الكريم أحكامه كلها عدل وأخباره كلها صدق.

٦ ـ مشروعية قول العبد سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وهما من الكلم الطيب وكذا سبحان ربي العظيم حال الركوع.

سورة الحديد

مدنية

وآياتها تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ

بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

شرح الكلمات :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضِ) : أي نزه الله تعالى جميع ما في السموات والأرض بلسان الحال والقال (٢).

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي في ملكه ، الحكيم في صنعه وتدبيره.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي يملك جميع ما في السموات والأرض يتصرف كيف يشاء.

(يُحْيِي وَيُمِيتُ) : يحييى بعد العدم ويميت بعد الإيجاد والإحياء.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : وهو على فعل كل ما يشاء قدير لا يعجزه شيء.

(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) : أي ليس قبله شيء وهو الآخر الذي ليس بعده شيء. (٣)

(وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) : أي الظاهر الذي ليس فوقه شيء والباطن الذي ليس دونه شيء.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) : أي لا يغيب عن علمه شيء ولو كان مثقال ذرة في السموات والأرض.

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : أي من أيام الدنيا مقدرة بها أولها الأحد وآخرها الجمعة.

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (٤) : أي ارتفع عليه وعلا.

__________________

(١) (اللهُ) الإله المنفرد بالإلهية ومعنى : سبح نزه وورد لفظ التسبيح بالمصدر في (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وبالماضي في الحشر والحديد والصف ، والمضارع في الجمعة والتغابن ، والأمر في الأعلى فسبح تعالى بكل ألفاظ التسبيح.

(٢) ردّ أهل العلم القول بأن تسبيح غير العالمين هو تسبيح دلالة لا تسبيح قالة ، إذ لو كان تسبيح دلالة وظهور لما قال : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) إذ تسبيح الدلالة مفهوم معلوم.

(٣) روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء أقض عنا الدين وأغننا من الفقر).

(٤) قال القرطبي : قد جمع تعالى بين الاستواء على العرش وبين (وَهُوَ مَعَكُمْ) والأخذ بالظاهر تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض. وأقول : إن كان يعني بالتأويل قول السلف : معنا بعلمه وقدرته فهذا صحيح ومع هذا فإنه لا تناقض أبدا إذ هو تعالى على عرشه بائن من خلقه ، والخلق كله بين يديه كحبة خردل يتصرف فيه كما يشاء لا يغيب عن علمه ذرة في الأرض ولا في السماء ، ولا يعجزه شيء فيهما ولذا قال بعضهم : إن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عزوجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) : أي ما يدخل في الأرض من كل ما يدخل فيها من مطر وأموات.

(وَما يَخْرُجُ مِنْها) : أي من نبات ومعادن.

(وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ) : أي من رحمة وعذاب.

(وَما يَعْرُجُ فِيها) : أي يصعد فيها من الأعمال الصالحة والسيئة.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) : أي بعلمه بكم وقدرته عليكم أينما كنتم.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) : أي لا يخفي عليه من أعمال عباده الظاهرة والباطنة شيء.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (١) : أي مرد كل شيء الى الله خالقه ومدبره يحكم فيه بما يشاء.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) : أي يدخل جزءا من الليل في النهار وذلك في الصيف.

(وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) : ويدخل جزءا من النهار في الليل وذلك في الشتاء كما يدخل كامل أحدهما في الآخر فلا يبقى الا ليل أو نهار إذ احدهما دخل في ثانيهما.

(وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي ما في الصدور من المعتقدات والأسرار والنيات.

معنى الآيات :

يخبر تعالى في هذه الآيات الخمس عن وجوده وعظمته من قدرة وعلم وحكمة ورحمة وتدبيره وملكه ومرد الأمور إليه وكلها مظاهر الربوبية الموجبة للألوهية فأولا تسبيح كل شيء في السموات والأرض أي تنزيهه عن كل نقص كالزوجة والولد والشريك والوزير المعين والعجز والجهل ، ثانيا إنه تعالى العزيز ذو العزة التي لا ترام العظيم الانتقام الحكيم في تدبير ملكه فلا شيء في خلقه هو عبث أو لهو أو باطل. ثالثا (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا حقيقيا يتصرف كيف يشاء يهب من شاء ويمنع من شاء. رابعا يحيى من العدم ويميت الحىّ الموجود ، خامسا (هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يعجزه شيء ولا يعجز عن شيء متى أراد الشيء وقال له كن فهو يكون ولا يتخلف.

__________________

(١) قرأ الجمهور ونافع وحفص وغيرهما (تُرْجَعُ) بالبناء للمفعول وقرأ بعض ترجع بالبناء للفاعل ، رجوع الأمر معناه : مرد كل شيء إلى الله تعالى إذ هو خالقه ومدبره والحاكم فيه إذ هو رب العالمين وإله الأولين والآخرين.

سادسا : (هُوَ الْأَوَّلُ) الذي ليس قبله شيء (وَالْآخِرُ) الذي ليس بعده شيء إذ له ميراث السموات والأرض. سابعا : علمه محيط بكل شيء. ثامنا : خلقه السموات والأرض في ستة أيام الدنيا ابتداء من الأحد وانتهاء بالجمعة وما مسه من لغوب ولا تعب ولا نصب ثم استوى على العرش يدبر ملكوت خلقه بالحكمة ومظاهر العدل والرحمة. تاسعا : مع علوه وبعده من خلقه فالخلق كله بين يديه يعلم ما يلج في الأرض أي يدخل فيها من أمطار وأموات وما ينزل من السماء من مطر ورحمة وعذاب وملك وغيره ، (وَما يَعْرُجُ) أي يصعد فيها من ملك ومن عمل صالح ودعاء وخاصة دعوة المظلوم فإنها لا تحجب عن الله أبدا. وعاشرا : معية الله تعالى الخاصة والعامة فالخاصة معيّته بنصره لأوليائه ، والعامة علمه بكل عباده وسائر خلقه ، وقدرته عليهم وعلمه بهم. الحادي عشر : بصره تعالى بكل أعمال عباده فلا يخفى عليه شىء منها ليحاسبهم بها ويجزيهم عليها. الثاني عشر : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما في السموات وما في الأرض من سائر الخلق هو ملك لله تعالى وحده لا شريك له فيه ولا في غيره. الثالث عشر : رد كل الأمور إليه فلا يقضى فيها غيره ولا يحكم فيها سواه والظاهر منها كالباطن. الرابع عشر : إيلاجه الليل في النهار والنهار في الليل لمصلحة عباده وفائدتهم إذ لو لا هذا التدبير الحكيم لما صلح أمر الحياة ولا استقام هذا الوجود.

وأخيرا علمه (١) الذي أحاط بكل شيء وتغلغل في كل خفي حتى ذات الصدور من خاطر ووسواس وهمّ وعزم ونية وإرادة فسبحانه من إله لا إله غيره ولا ربّ سواه ، بهذه المظاهر من الكمالات استحق العبادات فلا تصح العبادة لغيره ، ولا تنبغى الطاعة لسواه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل التسبيح وأفضله سبحان الله وبحمده (٢) سبحان الله العظيم.

٢ ـ مظاهر القدرة والعلم والحكمة في هذه الآيات الخمس هي موجبات ربوبية الله تعالى وألوهيته وهي مقتضية للبعث الآخر والجزاء فيه.

٣ ـ في خلقه تعالى السموات والأرض في ستة أيام وهو القادر على خلقهما بكلمة التكوين تعليم لعباده التأني في الأمور وعدم العجلة فيها لتخرج متقنة صالحة نافعة.

__________________

(١) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن اسم الله الأعظم هو في ست آيات : من أول سورة الحديد كأنه يعني مجموع هذه الأسماء والصفات الخمسة عشر.

(٢) في الصحيح : (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم).

٤ ـ بطلان دعاء غير الله تعالى ورجاء غيره إذ له ملك السموات والأرض وليس لغيره شيء من ذلك.

٥ ـ وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه وتقواه وذلك لعلمه بظواهرنا وبواطننا وقدرته على مجازاتنا عاجلا وآجلا.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١))

شرح الكلمات :

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي صدقوا بالله ورسوله يا من لم تؤمنوا بعد واثبتوا على إيمانكم يا من آمنتم قبل.

(وَأَنْفِقُوا) : أي وتصدقوا في سبيل الله.

(مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) : أي من المال الذي استخلفكم الله فيه إذ هو مال من قبلكم وسيكون لمن بعدكم.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا) : أى صدقوا بالله ورسوله وتصدقوا بأموالهم المستخلفين فيها.

(لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) : أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة.

(وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ؟) : أي أي شيء يمنعكم من الإيمان.

(وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) : أي والحال أن الرسول بنفسه يدعوكم لتؤمنوا بربكم.

(وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ) : أي على الإيمان به وأنتم في عالم الذر حيث أشهدكم فشهدتم.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) : أي مريدين الإيمان فلا تترددوا وآمنوا وأسلموا تنجوا وتسعدوا.

(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ) : أي هو الله ربّكم الذي يدعوكم رسوله لتؤمنوا به ينزل على عبده محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(آياتٍ بَيِّناتٍ) : هي آيات القرآن الكريم الواضحات المعاني البينات الدلالة.

(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : أي ليخرجكم من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم.

(وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) : ويدلكم على ذلك إرسال رسوله إليكم وإنزال كتابه ليخرجكم من الظلمات إلى النور.

(وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي أي شيء لكم في عدم الإنفاق في سبيل الله.

(وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ومن ذلك المال الذي بين أيديكم فهو عائد إلى الله فأنفقوه في سبيله يؤجركم عليه. وإلا فسيعود إليه بدون أجر لكم.

(مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) : أي لا يستوى مع من أنفق وقاتل بعد صلح الحديبية حيث عز الإسلام وكثر مال المسلمين.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) : أي الجنة ، والجنة درجات.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) : أي بإنفاقه ماله في سبيل الله الذي هو الجهاد.

(قَرْضاً حَسَناً) : أي قرضا لا يريد به غير وجه الله تعالى.

(فَيُضاعِفَهُ لَهُ) : أي الدرهم بسبعمائة درهم.

(وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) : أي يوم القيامة وهو الجنة دار النعيم المقيم.

معنى الآيات

بعد ذكر الأدلة والبراهين على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها وتقرير البعث والجزاء يوم لقائه رحمة منه ورأفة بعباده أمرهم جميعا مؤمنيهم وكافريهم بالإيمان به وبرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمؤمنون مأمورون بزيادة الإيمان والثبات عليه والكافرون مأمورون بالإيمان والمبادرة إليه. وبما أن الآيات نزلت بالمدينة بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية فإن هذه الأوامر والتوجيهات الإلهية تشمل المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين في إيمانهم تشمل الراغبين في الإيمان في مكة وغيرها وهم يترددون في ذلك فوجه الخطاب إلى الجميع لهدايتهم ودخولهم في رحمة الله الإسلام بسرعة ودون تباطئ فقال تعالى (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي صدقوا بوحدانية الله ورسالة رسول الله وأنفقوا مما جعلكم (١) مستخلفين فيه من الأموال ، ووجه الاستخلاف أن العبد يرث المال عمن سبقه ويموت ويتركه لمن بعده فلا يدفن معه في قبره. وقوله تعالى (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) أي ثواب عظيم عند الله وهو الجنة والرضوان فيها. وهذا الإخبار يفيد تنشيط الهمم الفاترة والعزائم المترددة. وقوله : (وَما لَكُمْ لا (٢) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ (٣) يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٤) أي أي شيء يجعلكم لا تؤمنون وفرص الإيمان كلها متاحة لكم فإيمانكم الفطرى صارخ في نفوسكم إذ كل من سألكم : من خلقكم؟ من خلق العالم حولكم؟ سماء وأرضا تقولون الله. وأنتم في حرمه وحمى بيته والرسول الكريم بين أيديكم يدعوكم صباح مساء إلى الإيمان بربكم وقد أخذ الله ميثاقكم عليكم بأن تؤمنوا به وذلك يوم أخرجكم في صورة الذر من صلب آدم أبيكم وأشهدكم على أنفسكم فشهدتم. إذا ما هذا التردد إن كنتم تريدون الإيمان فآمنوا قبل فوات الأوان.

وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي إنكم تدعون إلى الإيمان بالله الذي ينزل على عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات واضحات المعاني بينات الدلائل كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم ، فما لكم لا تؤمنون إذا ما هذا التردد والتلكؤ يا عباد الله في الإيمان بالله وبرسول الله ، (وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فاعرفوا هذا وآمنوا به ويدلكم على ذلك إنزاله الكتاب وإرساله الرسول وتوضيح الأدلة

__________________

(١) قوله : (مُسْتَخْلَفِينَ) دال على أن أصل الملك لله تعالى وما العبد إلا مستخلف فيه فتعين أن يتصرف فيه بإذن المالك الحق فلا ينفق إلا حيث يأذن ويرضى سبحانه وتعالى.

(٢) (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ) الاستفهام للتوبيخ أي : أيّ عذر لكم في ألا تؤمنوا وكل دواعي الإيمان وأسبابه متوفرة لكم.

(٣) جملة : (وَالرَّسُولُ) : حالية.

(٤) (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي : إن كنتم مريدي الإيمان فهذه دواعيه قد كملت وأسبابه قد حضرت أخذ عليكم الميثاق فيه والرسول يدعوكم إليه. فبادروا ولا تباطأوا.

وإقامة الحجج والبراهين.

وقوله : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا (١) فِي سَبِيلِ اللهِ) التي هي سبيل إسعادكم وإكمالكم بعد نجاتكم من العذاب في الحياتين مع العلم أن لله ميراث السموات والأرض إذ ما بأيديكم هو لله هو واهبه لكم ومسترده منكم فلم لا تنفقون منه.

وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ (٢) وَقاتَلَ) (٣) أي صلح الحديبية لقول الله تعالى (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) والمراد به صلح الحديبية. أي لا يستوون في (٤) الأجر والمثوبة مع من قاتل وأنفق بعد الفتح. قال تعالى (أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا) من الفريقين (وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) أي الجنة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) لا يخفى عليه إنفاقكم وقتالكم وعدمهما كما لا يخفى عليه نياتكم وما تخفون في نفوسكم فاحذروه وراقبوه خيرا لكم.

وقوله تعالى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي مخلصا فيه لله طيبة به نفسه (فَيُضاعِفَهُ لَهُ) ربه في الدرهم سبعمائة درهم ، (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) ألا وهو الجنة دار السّلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الإيمان بالله ورسوله وتقويته.

٢ ـ وجوب الإنفاق في سبيل الله من زكاة ونفقة جهاد وصدقة على الفقراء والمساكين.

٣ ـ بيان لطف الله ورأفته ورحمته بعباده مما يستلزم محبته وطاعته وشكره.

٤ ـ الإنفاق في المجاعات والشدائد والحروب أفضل منه فى اليسر والعافية.

٥ ـ الترغيب في الإنفاق في سبيل الله بمضاعفة الأجر حتى يكون الدينار بألف دينار عند الله تعالى وما عند الله خير وأبقى ، وللآخرة خير من الأولى.

__________________

(١) الاستفهام للتوبيخ واللوم والعتاب وهذا مخاطب به المؤمنون.

(٢) جائز أن يكون المراد بالفتح : فتح مكة ، وكونه صلح الحديبية أولى وأرجح.

(٣) في الكلام حذف دل عليه المذكور وهو : (من أنفق بعد الفتح وقاتل) وقد ذكرته في التفسير بدون الإشارة إلى الحذف.

(٤) روى أشهب عن مالك أنه قال : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم وقد قال تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ). ولهذا قدّم أبو بكر على سائر الصحابة لأنه أوّل من آمن وأوّل من أنفق وأوّل من قاتل قدمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة ، وقدمه المؤمنون في الخلافة ، وقال فيه علي رضي الله عنه : سبق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثنى أبو بكر وثلث عمر فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة) ومما يشهد لقول مالك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا) وفي بعض الروايات : (ويعرف لعالمنا حقه).

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

شرح الكلمات :

(يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ (١) وَبِأَيْمانِهِمْ) : أي يتقدمهم نورهم الذي اكتسبوه بالإيمان والعمل الصالح بمسافات بعيدة يضيء لهم الصراط الذي يجتازونه إلى الجنة.

(بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي تقول لهم الملائكة الذين أعدوا لاستقبالهم بشراكم ..

(ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أي النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم الذي لا أعظم منه.

(الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) : أي الذين كانوا يخفون الكفر فى نفوسهم ويظهرون

__________________

(١) (يَسْعى نُورُهُمْ) عندما يسعون هم إذ هو منهم يتقدمهم فلا ينفصل عنهم بحيث إذا وقفوا وقف وإذا مشوا تقدمهم بين أيديهم.

الإيمان والإسلام بألسنتهم.

(نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) : أي أنظروا إلينا بوجوهكم نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق.

(قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) : أي يقال لهم استهزاء بهم ارجعوا وراءكم إلى الدنيا حيث يطلب النور هناك بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي فيرجعون وراءهم فلم يجدوا شيئا.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ) : أي فضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال له باب باطنه الذي هو من جهة المؤمنين الرحمة.

(وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) : أي الذي من جهة المنافقين في عرصات القيامة العذاب.

(يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) : أي ينادي المنافقون المؤمنين قائلين ألم نكن معكم في الدنيا على الطاعات أي فنصلى كما تصلون ونجاهد كما تجاهدون وننفق كما تنفقون.

(قالُوا بَلى) : أي كنتم معنا على الطاعات.

(وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) : أي بالنفاق وهو كفر الباطن وبغض الإسلام والمسلمين.

(وَتَرَبَّصْتُمْ) : أي الدوائر بالمسلمين أي كنتم تنتظرون متي يهزم المؤمنون فتعلنون عن كفركم وتعودون إلى شرككم.

(وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) : أي وغركم بالإيمان بالله ورسوله حيث زين لكم الكفر وكره إليكم الإيمان الشيطان.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) : أي مال تفدون به أنفسكم إذ لا مال يومئذ ينفع ولا ولد.

(وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي ولا فدية تقبل من الذين كفروا.

(مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) : أي مستقركم ومكان إيوائكم النار وهي أولى بكم لخبث نفوسكم.

(وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) : أي مصيركم الذي صرتم إليه وهو النار.

معنى الآيات

قوله تعالى (يَوْمَ تَرَى (١) الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) هذا الظرف متعلق بقوله (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) في آخر الآية السابقة

__________________

(١) الخطاب في قوله : ؛ (تَرَى) لغير معين إذ هو صالح لكل ذي أهلية للخطاب والرؤية.

أي لهم أجر كريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات (١) في عرصات القيامة نورهم الذي اكتسبوه بإيمانهم وصالح أعمالهم في دار الدنيا ذلك النور يمشى أمامهم يهديهم إلى طريق الجنة ، وقد أعطوا كتبهم بأيمانهم. وتقول لهم الملائكة الذين أعدوا لتلقيهم واستقبالهم (بُشْراكُمُ) (٢) (الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي تجري الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل من خلال الأشجار والقصور (خالِدِينَ (٣) فِيها) ماكثين أبدا لا يموتون ولا يخرجون. قال تعالى (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إذ هو نجاة من النار ودخول الجنان في جوار الرحمن. وقوله تعالى (يَوْمَ (٤) يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) بدل من من قوله (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، والمنافقون والمنافقات وهم الذين كانوا في الحياة الدنيا يخفون الكفر في أنفسهم ويظهرون الإيمان بألسنتهم والإسلام بجوارحهم يقولون للذين آمنوا انظرونا أي اقبلوا علينا بوجوهكم ذات الأنوار نقتبس (٥) من نوركم أي نأخذ من نوركم ما يضيء لنا الطريق مثلكم قيل فيقال لهم استهزاء بهم (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) إشارة إلى أن هذا النور يطلب في الدنيا بالإيمان وصالح الأعمال فيرجعون إلى الوراء وفورا يضرب بينهم وبين المؤمنين بسور عال (لَهُ بابٌ باطِنُهُ) وهو يلي المؤمنين فيه الرحمة (وَظاهِرُهُ) وهو يلي المنافقين (مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) فيأخذون في ندائهم (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) على الطاعات أيها المؤمنون فقد كنا نصلى معكم ونجاهد معكم وننفق كما تنفقون فيقول لهم المؤمنون بلى أي كنتم معنا في الدنيا على الطاعات في الظاهر (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بالنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) بنا الدوائر لتعلنوا عن كفركم وتعودوا إلى شرككم ، (وَارْتَبْتُمْ) أي شككتم في صحة الإسلام وفي عقائده ومن ذلك البعث الآخر (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ) الكاذبة والأطماع في أن محمدا لن ينتصر وأن دينه لن يظهر ، (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) بنصر رسوله وإظهار دينه (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي بالإيمان بالله أي بعد معاجلته لكم بالعذاب والستر عليكم وعدم كشف الستار عنكم وإظهاركم على ما أنتم عليه من الكفر الغرور أي الشيطان إذ هو الذي زين لكم الكفر وذكركم بعفو الله وعدم مؤاخذته لكم.

قال تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) أي فداء مهما كان (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كذلك

__________________

(١) وجه عطف المؤمنات على المؤمنين هنا وفي نظائره من القرآن إشارة بل التنبيه إلى أنّ حظوظ النساء في الإسلام مساوية لحظوظ الرجال إلا فيما خصصن فيه من أحكام قليلة مبينة في الكتاب والسنة.

(٢) التقدير : فقال لهم بشراكم.

(٣) (خالِدِينَ) حال مقدرة أي : حالة كونهم مقدرين الخلود فيها إذ لم يدخلوها بعد.

(٤) هذا بدل من اليوم الأول.

(٥) قال الكلبي : يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون نورا خاصا بهم فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين فذلك قوله تعالى : (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) يقوله المؤمنون خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) هذا أحسن توجيه للآية الكريمة.

(مَأْواكُمُ النَّارُ) أي محل إيوائكم وإقامتكم الدائمة النار (هِيَ مَوْلاكُمْ) (١) أي من يتولاكم ويضمكم في أحضانه وهي أولى بكم لخبث نفوسكم وعفن أرواحكم من جراء النفاق والكفر ، (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي صرتم إليه إنه النار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث يذكر أحداثه وما يجرى فيه.

٢ ـ تقرير أن الفوز ليس ربح الشاة والبعير ولا الدار ولا البستان في الدنيا وإنما هو الزحزحة عن النار ودخول الجنان يوم القيامة هذا هو الفوز العظيم.

٣ ـ من بشائر السعادة لأهل الإيمان قبل دخول الجنة تلقّي الملائكة لهم وإعطاؤهم كتبهم بأيمانهم ووجود نور عال يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يتقدمهم على الصراط إلى الجنة.

٤ ـ نور يوم القيامة في وجوه المؤمنين أخذوه من الدنيا وفي الحديث : «بشّر المشّائين في الظّلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة» (٢).

٥ ـ بيان صفات المنافقين في الدنيا وهي إبطان الكفر في نفوسهم والتربص بالمؤمنين للانقضاض عليهم متى ضعفوا أو هزموا وأمانيهم في عدم نصرة الإسلام. وشكهم الملازم لهم حتى انهم لم يخرجوا منه إلى أن ماتوا شاكين في صحة الإسلام وما جاء به وأخبر عنه من وعد ووعيد.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا

__________________

(١) المولى : من يتولى غيره ، وما دامت النار هي التي تولتهم لتذيقهم ألوان عذابها صح إطلاق المولى عليها مع أن النار تتكلم وتتغيظ فلذا كانت تتولى أهلها فتسقيهم مر العذاب.

(٢) الحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما والظلم : جمع ظلمة.

اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) : أي ألم يحن الوقت للذين أكثروا من المزاح.

(أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ) : أي تلين وتسكن وتخضع وتطمئن لذكر الله ووعده ووعيده.

(وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) : أي القرآن وما يحويه من وعد ووعيد.

(وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) : أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى في الإعراض والغفلة.

(فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) : أي الزمن بينهم وبين أنبيائهم.

(فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي لعدم وجود من يذكرهم ويرشدهم فقست لذلك قلوبهم فلم تلن لذكر الله.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) : أي نتيجة لقساوة القلوب المترتبة على ترك التذكير والإرشاد ففسق أكثرهم فخرج عن دين الله ورفض تعاليمه.

(اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) : أي بالغيث ينزل بها وكذلك يحيى القلوب بالذكر والتذكير فتلين وتخشع لذكر الله ووعده ووعيده.

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) : أي بينا لكم الآيات الدالة على قدرتنا وعلمنا ولطفنا ورحمتنا رجاء أن تعقلوا فتحفظوا أنفسكم مما يرديها ويوبقها.

(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) : أي المتصدقين بفضول أموالهم والمتصدقات كذلك.

(وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : أي وكانت صدقاتهم كالقرض الحسن الذي لا منة معه والنفس طيبة به وراجية من ربها جزاءه.

(يُضاعَفُ لَهُمْ) : أي القرض الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة الى ألف ألف.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) : أي صدقوا بالله ربا وإلها وبرسله هداة ودعاة صادقين.

(أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) : أي الذين كتبوا عند الله صديقين وهي مرتبة شرف عالية.

(وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) : أي وشهداء المعارك في سبيل الله عند ربهم أي في الجنة لهم أجرهم العظيم ونورهم التام يوم القيامة.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) : أي كفروا بالله وتوحيده وكذبوا بالقرآن وبما حواه من الشرائع والأحكام.

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) : أي أولئك البعداء هم أهل النار الذين لا يفارقونها أبدا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا) (١) أي بالله ربّا وإلها وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيا ورسولا وبوعد الله ووعيده صدقا وحقا ألم يحن (٢) الوقت لهم (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ) فتلين وتطمئن إلى ذكر الله وتخشع كذلك (وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ) في الكتاب الكريم فيعرفون المعروف ويأمرون به ويعرفون المنكر وينهون عنه إنها لموعظة إلهية عظيمة وزادها عظمة أن تنزل في أصحاب رسول الله تستبطئ قلوبهم. فكيف بمن بعدهم.

وقوله : (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) أي من قبل البعثة المحمدية وهم اليهود والنصارى (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) وهو الزمان الطويل بينهم وبين أنبيائهم فلم يذكروا ولم يرشدوا (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) من أجل ذلك وأصبح أكثرهم فاسقين (٣) عن دين الله خارجين عن شرائعه لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا.

وقوله تعالى (اعْلَمُوا) أي أيها المؤمنون المصابون ببعض الغفلة فكثر مزاحهم وضحكهم (أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يحييها بالغيث فتنبت وتزدهر فكذلك القلوب (٤) تموت بترك التذكير والتوجيه والإرشاد وتحيا على التذكير والإرشاد.

وقوله تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) أي وضحناها لكم في هذا الكتاب الكريم (لَعَلَّكُمْ

__________________

(١) روى مسلم عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله تعالى بهذه الآية : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ.). إلا أربع سنين قال الخليل : العتاب خطاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة.

(٢) هنا فعلان : أنى يأني مشتق من الإنى وهو اسم جامد بمعنى الوقت وآن يئين مشتق من الأين الذي هو الحين قال الشاعر :

ألما يئن لي أن تحلّى عمايتي

وأقصر عن ليلي بلى قد أنى ليا

فجمع بين اللغتين أي : بين أنى يأني وبين آن يئين.

(٣) عن مالك قال : بلغني أن عيسى عليه‌السلام قال لقومه : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسوا قلوبكم ، فإن القلب القاسي يبعد من الله ولكنكم لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان : معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية.

(٤) وكذلك القلوب تقسوا فتليينها بعد قساوتها يكون بذكر الله والدار الآخرة والتذكير بهما.

تَعْقِلُونَ) أي لنعدّكم بذلك لتعقلوا عنّاما نخاطبكم به وننصح لكم فيه فاذكروا هذا ولا تنسوه. وراجعوا قلوبكم وتعهدوها بذكر الله والدار الآخرة. وقوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ) أي المتصدقين بفضول أموالهم في سبيل الله (وَالْمُصَّدِّقاتِ) أي والمتصدقات كذلك (وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بما أنفقوه في الجهاد طيبة به نفوسهم لا منة فيه ولا رياء ولا سمعة هؤلاء (يُضاعَفُ لَهُمْ) أي ثواب صدقاتهم وإقراضهم ربهم إلى عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف (وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) وهو الجنة (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فصدقوا بالله ربا وإلها وبرسل الله المصطفين هداة إلى الله ودعاة إليه هؤلاء هم الصديقون (١) ففازوا بمرتبة الصديقية والشهداء الذين (٢) استشهدوا في معارك الجهاد هم الآن (عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة. هؤلاء الأصناف الثلاثة مثلهم مثل السابقين وأصحاب اليمين. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالله ورسله (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) أي بآيات ربهم الحاوية لشرائعه وعبادته فلم يعبدوه بها هؤلاء الأدنون هم (أَصْحابُ الْجَحِيمِ) الذين يلازمونها وتلازمهم أبدا نعوذ بالله من حالهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من الغفلة ونسيان ذكر الله وما عنده من نعيم وما لديه من نكال وعذاب.

٢ ـ وجوب التذكير للمؤمنين والوعظ والإرشاد والتعليم خشية أن تقسو قلوبهم فيفسقوا كما فسق أهل الكتاب ويكفروا كما كفروا.

٣ ـ تقرير حقيقة وهي أن الأرض تحيا بالغيث والقلوب تحيا بالعلم والمواعظ والتذكير بالله.

٤ ـ بيان أصناف المؤمنين ورتبهم وهم المتصدقون والمقرضون في سبيل الله أموالهم والمؤمنون بالله ورسله حق الإيمان والصديقون وشهداء الجهاد في سبيل الله جعلنا الله منهم.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ

__________________

(١) الصديق : هو من آمن بالله ورسله ولم يكذب طرفة عين ، وممن ذكروا بالفوز بها ، أبو بكر الصديق ومؤمن آل فرعون وصاحب يس ، وفي الحديث : (ولا يزال المرء يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا) فهذا مطلب سهل اللهم حققه لنا.

(٢) اختلف في هل (الشُّهَداءُ) موصول بما قبله أو مقطوع فإن كان موصولا فالصدّيقون والشهداء : هم المؤمنون بالله ورسله ، وللجميع أجرهم ونورهم ويكون المدح والثناء وعظم الجزاء. للجميع وهي بشرى لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كان مقطوعا فقد فاز الشهداء بمزية لم تكن لغيرهم ، وهذا ما ذهبت إليه في التفسير ، وهو ما اختاره ابن جرير.

وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١))

شرح الكلمات :

(أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : أي ان الحياة الدنيا أشبه بالأمور الخيالية قليلة النفع سريعة الزوال.

(وَزِينَةٌ) : أي ما يتزين به المرء من أنواع الزينة والزينة سريعة التغير والزوال.

(وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) : أي أنها لا تخرج عن كونها لهوا ولعبا وزينة وتفاخرا وتكاثرا في الأموال والأولاد.

(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) : أي مثلها في سرعة زوالها وحرمان صاحبها من الدار الآخرة ونعيمها كمثل مطر أعجب الكفار أي الزراع أعجبهم نباته أي ما نبت به من الزرع.

(ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) : أي يبس فتراه مصفرا آن أوان حصاده.

(ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) : ثم يتحول بسرعة إلى حطام يابس يتفتت.

(إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) : أي وما الحياة الدنيا في التمتع بها إذ الحياة نفسها غرور لا حقيقة لها.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) : أي سارعوا بالتوبة مسابقين غيركم لتغفر لكم ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : أي الموعود به من المغفرة والجنة.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) : أي فلا يبعد تفضله بذلك الموعود به وإن كان عظيما.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يزيد في كمالهم وسعادتهم في الحياتين فخاطبهم قائلا : (اعْلَمُوا) أيها (١) المؤمنون الذين استبطانا قلوبهم أي خشوعها إذ الإقبال على الدنيا هو سبب الغفلة عن الآخرة ومتطلباتها من الذكر والعمل الصالح (أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ (٢) وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ) هذه حقيقتها وهي أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال. فلا تغتروا بها ولا تقبلوا بكلكم عليها أنصح لكم بذلك. فاللهو كاللعب لا يخلفان منفعة تعود على اللاهي اللاعب ، والزينة سرعان ما تتحول وتتغير وتزول والتفاخر بين المتفاخرين مجرد كلام ما وراءه طائل أبدا والتكاثر لا ينتهي الى حد ولا يجمع الا بالشقاء والنصب والتعب ثم يذهب أو يذهب عنه فلا بقاء له ولا دوام وله تبعات لا ينجو منها صاحبها إلا برحمة من الله وإليكم مثل الحياة الدنيا إنها (كَمَثَلِ (٣) غَيْثٍ) أي مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ) أي الفلاحين الذين كفروا بذرة بالتربة (نَباتُهُ) الذي نبت به أي المطر (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ) بعد أيام (مُصْفَرًّا) (٤) ثم يهيج أي ييبس (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) يتفتت هذه هي الدنيا من بدايتها الى نهايتها المؤلمة أما الآخرة ففيها عذاب شديد لأهل الشرك والمعاصي لا بدلهم منه يفارقونه ، (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) لأهل التوحيد وصالح الأعمال (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا) وقد عرضنا عليكم مثالها فما هي (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) أي إنها لا حقيقة لها وكل ما فيها من المتع التي يتمتع بها إلا غرور باطل. وعليه فأنصح لكم (٥) (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) أي سارعوا بالتوبة مسابقين بعضكم بعضا لتغفر ذنوبكم وتدخلوا جنة ربكم التي (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي هيئت وأحضرت. فهى معدة مهيأة. (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ) أي المغفرة ودخول الجنة (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ومن سارع الى التوبة فآمن وعمل صالحا وتخلى عن الشرك والآثام فهو ممن شاء له فضله ولذلك وفقه للإيمان وصالح الأعمال. (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ

__________________

(١) في هذه الآية الكريمة تنبيه عظيم إلى علة كل معوّق عن الكمال والإسعاد من أمراض الشح والحرص والغفلة وإيثار الملاذ والجري وراءها ألا وإنها حب الدنيا العاجلة ، وفي الأثر : حب العاجلة رأس كل خطيئة.

(٢) اللهو واللعب : كل ما شغل عن ذكر الله تعالى ، والإكثار منهما دليل على خسة العقل وضعفه ، وصورتهما ترى من لعب الأطفال وتلهيهم بما يلعبون به من أنواع اللعب ، والزينة : ما يتزيّن به من لباس وأثاث ونحوهما والتفاخر والتكاثر تحمل عليهما النفس الضعيفة ويولدهما الغرور وهما من صفات المفتونين بحب الحياة الدنيا.

(٣) جائز أن يكون (كَمَثَلِ) في موضع خبر ، والمبتدأ محذوف تقديره : هي أي الحياة الدنيا (كَمَثَلِ غَيْثٍ).

(٤) الإصفرار بعد الهيجان واليبوسة بعد الإصفرار أما الهيجان فهو عبارة عن سرعة بلوغ النبات مستواه كبلوغ الإنسان أشده ثم يأخذ في الإصفرار فيصفر فلذا عبر ب ثم الدالة على التراخي ، وبعد الإصفرار اليبوسة وهي الإفناء والتلاشي.

(٥) بعد أن كشف لهم عن حال الدنيا وأنها سريعة الزوال حثهم على المسابقة بتصحيح الإيمان وتقويته بالعمل الصالح للفور بالجنة فلله الحمد وله المنة.

الْعَظِيمِ) فلا يستبعد منه ذلك المطلوب المرغوب من النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا.

٢ ـ الدعوة إلى المسابقة في طلب مغفرة الذنب ودخول الجنة.

٣ ـ بيان الجنة وبيان ما يكسبها وهو الإيمان بالله ورسله ومستلزماته من التوحيد والعمل الصالح.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

شرح الكلمات :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ) : أي بالجدب وذهاب المال.

(وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) : أي بالمرض وفقد الولد.

(إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) : أي في اللوح المحفوظ قبل أن نخلقها.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي سهل ليس بالصعب.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) : أي لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي مما تحبون من الخير.

(وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) : أي بما أعطاكم فرح البطر أما فرح الشكر فهو مشروع.

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) : أي مختال بتكبره بما أعطى ، فخور أي به على الناس.

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) : أي بما وجب عليهم أن يبذلوه.

(وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) : أي بمنع ما وجب عليهم عطاؤه.

(وَمَنْ يَتَوَلَ) : أي عن الإيمان والطاعة وقبول مواعظ ربهم.

فإن الله غني : أي غني عن سائر خلقه لأن غناه ذاتى له لا يستمده من غيره.

حميد : أي محمود بجلاله وجماله وآلائه ونعمه على عباده.

(بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج والبراهين القاطعة على صدق دعوتهم.

(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) : أي وأنزل عليهم الكتب الحاوية للشرائع والأحكام.

(وَالْمِيزانَ) : أي العدل الذي نزلت الكتب بالأمر به وتقريره.

(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) : أي لتقوم حياتهم فيما بينهم على أساس العدل.

(فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) : أي في الحديد بأس شديد والمراد آلات القتال من سيف وغيره.

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) : أي ينتفع به الناس إذ ما من صنعة الا والحديد آلتها.

(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) : أي وأنزلنا الحديد وجعلنا فيه بأسا شديدا ليعلم الله من ينصره في دينه وأوليائه وينصر رسله المبلغين عنه.

(بِالْغَيْبِ) : أي وهم لا يشاهدونه بأبصارهم في الدنيا.

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) : أي لا حاجة إلى نصرة أحد وإنما طلبها يتعبد بها عباده.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في إرشاد المؤمنين وتوجيههم إلى ما يكملهم ويسعدهم فقال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ) أي ما أصابكم أيها المؤمنون من مصيبة في الأرض بالجدب والقحط أو الطوفان أو الجوائح تصيب الزرع (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) بالمرض وفقد الولد إلّا وهي في كتاب أي في كتاب المقادير ، اللوح المحفوظ مكتوبة بكميتها وكيفيتها وزمانها ومكانها (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) أي وذلك قبل خلق الله تعالى لها

وإيجادها. وقوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي علمه بها وكتابته لها قبل خلقها وإيجادها في وقتها سهل على الله يسير.

وقوله (لِكَيْلا تَأْسَوْا) أي أعلمناكم بذلك بعد قضائنا وحكمنا به أزلا من أجل ألا تحزنوا على ما فاتكم مما تحبون في دنياكم من الخير ، (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (١) فرح الأشر والبطر فإنه مضر أما فرح الشكر فلا بأس به فقد ينعم الله على العبد ليشكره.

وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَ (٢) مُخْتالٍ فَخُورٍ) يحذر أولياءه من خصلتين ذميمتين لا تنبغيان للمؤمن وهما الاختيال أي التكبر والفخر على الناس بما أعطاه الله وحرمهم. وقوله (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) هذا بيان لمن لا يحبهم الله وهم أهل الكبر والفخر بذكر صفتين قبيحتين لهم وهما البخل الذي هو منع الواجب والأمر بالبخل والدعوة إليه فهم لم يكتفوا ببخلهم فأمروا غيرهم بالبخل الذي هو منع الواجب وعدم بذله والعياذ بالله من هذه القبائح الأربع. وقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي (٣) عن الإيمان والطاعة وعدم قبول وعظ الله وإرشاده (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن سائر خلقه لأن غناه ذاتي له لا يستمده من غيره (الْحَمِيدُ) أي محمود بجلاله وجماله وإنعامه على سائر عباده.

وقوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا (٤) رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج القواطع وأنزلنا معهم الكتاب الحاوي للشرائع والأحكام التي يكمل عليها الناس ويسعدون وأنزلنا الميزان وذلك ليقوم الناس بالعدل أي لتقوم حياتهم على أساس العدالة والحق.

وقوله تعالى (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي وكما أنزلنا الكتاب للدين والعدل للدنيا أنزلنا الحديد لهما معا للدين والدنيا فيما فيه من البأس الشديد في الحروب فهو لإقامة الدين بالجهاد (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) إذ سائر الصناعات متوقفة عليه فهو للدنيا.

__________________

(١) إنه لما يبين تعالى لأوليائه المؤمنين علّة الإفساد والشر وهي حب العاجلة أعلمهم تشجيعا لهم على الزهد فيها والإعراض عنها أنّ ما يصيب أحدهم من فقر ، أو مرض أو خوف قد يفضي إلى الموت هو مما كتبه الله تعالى عليهم أزلا وأنه واقع بهم لا محالة فلذا لا داعي إلى الحزن كما أنّ ما يحصل للعبد مما هو خلاف ذلك من المال والولد لا ينبغي أن يفرح به وبذلك يتغلب على الدنيا ويفوز بالآخرة.

(٢) وفي إعلام الله تعالى أولياءه بعدم حبّ المختال الفخور دفع لهم إلى الأمام حيث التنزه عن حب العاجلة التي هي المعوق لهم عن الكمال والإسعاد الأخروي.

(٣) في الآية تحذير من الجزع وقلة الصبر في السير إلى الله تعالى بالتخلي عن حب العاجلة.

فقد ذكرهم بأن التولي أي الرجوع بعد الضرب في طريق الآخرة حيث الجوار الكريم مما يسبب تخلي الرب عن العبد ، فإنه تعالى غني حميد لا حاجة به إلى طاعة العباد ولا إلى حمدهم.

(٤) كلام مستأنف المراد به أنّ ما كلف به عباده من طاعته بذكره وشكره إنما هو لمجرد الابتلاء وليس لحاجة إليه لأنه الغني الحميد فإنه أرسل الرسل وأنزل الكتب وأوجد أسباب القوة المادية لمجرد الابتلاء ، ذلك الابتلاء المترتب عليه الإسعاد والإشقاء فإنه تعالى يسعد بطاعته ويشقى بمعصيته وهذا هو العدل الكريم البر بعباده المؤمنين الرحيم.

وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ) (١) (اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) أي من الحكمة في إنزال الحديد أن يعلم الله من ينصره أي ينصر دينه ورسله بالجهاد معهم والوقوف إلى جانبهم وهم يبلغون دعوة ربهم بالغيب أي وهم لا يشاهدون الله تعالى بأعينهم وإن عرفوه بقلوبهم.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) إعلام بأنه لا حاجة به إلى نصرة أحد من خلقه وذلك لقوته الذاتية وعزته التى لا ترام ، وإنما كلف عباده بنصرة دينه ورسله وأوليائه تشريفا لهم وتكريما وليرفعهم بذلك الى مقام الشهداء.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٢ ـ بيان الحكمة في معرفة القضاء والقدر والإيمان بهما.

٣ ـ حرمة الاختيال والفخر والبخل والأمر بالبخل.

٤ ـ بيان إفضال الله وإنعامه على الناس بإرسال الرسل وإنزال الكتب والميزان وإنزال الحديد بما فيه من منافع للناس وبأس شديد.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧))

__________________

(١) هذا العلم : علم ظهور وكشف عما هو معلوم لله تعالى مستور عن عباده لا أنه علم يستجد لله تعالى فإنه قد كتب ذلك في كتاب المقادير وعلمه قبل وجوده ، وإنما يظهره في وقته كما كتبه فيعلمه بعد كشفه وإظهاره لتقوم الحجة به على عباده.

شرح الكلمات :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) : أي وتالله لقد أرسلنا نوحا هو الأب الثاني للبشر وإبراهيم هو أبو الأنبياء.

(وَالْكِتابَ) : أي التوراة والزبور والإنجيل والفرقان.

(فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ) : أي من أولئك الذرية أي سالك سبيل الحق والرشاد.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) : أي عن طاعة الله ورسله ضال في طريقه.

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) : أي أرسلنا رسولا بعد رسول حتى انتهينا الى عيسى.

(وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) : أي أتبعناهم بعيسى بن مريم لتأخره عنهم في الزمان.

(وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) : أي على دينه وهم الحواريون وأتباعهم.

(رَأْفَةً وَرَحْمَةً) : أي لينا وشفقة.

(وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) : أي وابتدعوا رهبانية لم يكتبها الله عليهم. وهي اعتزال النساء والانقطاع في الأديرة والصوامع للتعبد.

(إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) : أي إلا طلبا لرضوان الله عزوجل.

(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) : أي لم يلتزموا بما نذروه على أنفسهم من الطاعات.

(فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) : أي فأعطينا الذين ثبتوا على إيمانهم وتقواهم أجرهم.

(وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) : لا أجر لهم ولا ثواب إلا العقاب.

معنى الآيات :

يخبر تعالى أنه كما أرسل رسله وأنزل معهم الكتاب والميزان ارسل كذلك نوحا وإبراهيم فنوح هو أبو البشر الثاني (١) وإبراهيم هو أبو الأنبياء من بعده ذكرهما لمزيد شرفهما ، ولما لهما من آثار طيبة فقال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ) أي في أولادهما النبوة والكتاب فهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط من ذرية نوح وإسماعيل وإسحاق وباقي الأنبياء من ذرية ابراهيم وقوله (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢) أي فمن أولئك الذرية المهدى وأكثرهم فاسقون وقوله (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ (٣) بِرُسُلِنا) أي رسولا بعد رسول إلى عيسى بن مريم ، (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي أتبعاتهم بعيسى

__________________

(١) هذا كلام معطوف على سابقه المراد منه تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ.). الخ وهو من باب عطف الخاص على العام.

(٢) كأكثر قوم هود وقوم صالح وقوم شعيب ، وقوم تبّع وغيرهم والمراد بالفسق هنا : الخروج عن جادة الإيمان والتوحيد ، والوقوع في مضلات الشرك والكفر.

(٣) التقفيه : اتباع الرسول على أثر الآخر مشتق لفظها من القفا.

بن مريم كل ذلك لهداية العباد إلى ما يكملهم ويسعدهم وقوله (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) أي آتينا عيسى بن مريم الإنجيل (وَجَعَلْنا فِي) (١) (قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) والرأفة اللين وأشد الرحمة. وقوله (وَرَهْبانِيَّةً) (٢) (ابْتَدَعُوها) أي ابتدعها الذين اتبعوا عيسى (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) (٣) أي لم يكتبها الله تعالى عليهم لما فيها من التشديد ولكن ما ابتدعوها الا طلبا لرضوان الله ومرضاته (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) حيث لم يوفوا بما التزموا به من ترك الدنيا والإقبال على الآخرة حيث تركوا النساء ولبسوا الخشن من الثياب وأكلوا الخشن من الطعام ونزلوا الصوامع والأديرة.

ولهذه الرهبانية سبب مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما نذكره باختصار للفظه ومعناه قال كان بعد عيسى ملوك بدلوا التوراة وحرفوا الإنجيل وألزموا العامة بذلك ، وكان بينهم جماعة رفضوا ذلك التحريف للدين ولم يقبلوه ففروا بدينهم ، والتحقوا بالجبال وانقطعوا عن الناس مخافة قتلهم أو تعذيبهم لمخالفتهم دين ملوكهم المحدث الجديد فهذا الانقطاع بداية الرهبانية ، وعاش أولئك المؤمنون وماتوا وجاء جيل من أبناء الدين المحرف فذكروا سيرة الصالحين الأولين فأرادوا أن يفعلوا فعلهم فانقطعوا الى الصوامع والأديرة ، ولكنهم جهال وعلى دين محرف مبدّل فاسد فما انتفعوا بالرهبانية المبتدعة وفسق أكثرهم عن طاعة الله ورسوله. وهو مادل عليه قول الله تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) وهم الأولون المؤمنون الذين فروا من الكفر والتعذيب وعبدوا الله تعالى بما شرع ، وقوله (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) وهم الذين أتوا من بعدهم إلى يومنا هذا إذ هم يعبدون الله بدين محرف باطل ولم يلتزموا بالرهبنة الصادقة بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان منة الله على عباده بإرسال الرسل.

٢ ـ بيان سنة الله في الناس وهي أنه إذا أرسل الرسل لهداية الناس يهتدى بعض ويضل بعض فيفسق.

__________________

(١) وذلك لأنّ عيسى عليه‌السلام بعث لتهذيب نفوس بني اسرائيل واقتلاع جذور القسوة من قلوبهم تلك القسوة التى أثمرها حب الدنيا والإقبال على الشهوات والملاذ الفانية.

(٢) الرهبانية : نسبة إلى الراهب وهو الخائف من الله تعالى ، والأصل أن يقال الراهبية ، فزيدت فيها النون كما زيدت في شعراني ولحياني ورباني وكذا نصراني على غير قياس.

(٣) جملة : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) مبينة لجملة (ابْتَدَعُوها).

٣ ـ ثناء الله على عيسى بن مريم واتباعه بحق من الحواريين وغيرهم إلى أن غيرت الملوك دين المسيح وضل الناس وأصبحوا فاسقين عن دين الله تعالى.

٤ ـ تحريم البدع والابتداع ولا رهبانية في الإسلام ولكن يعبد الله بما شرع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : أي بعيسى بن مريم وموسى من قبله.

(اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) : أي خافوا عقاب الله وآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعوه.

(يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ) : يعطكم الله نصيبين من الأجر مقابل إيمانكم بنبيكم وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) : أي في الدنيا إذ تعيشون على هداية الله وفي الآخرة تمشون به على الصراط.

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) : أي لكى يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله. واللام في لئلا مزيدة لتقوية الكلام.

معنى الآيتين :

هذا نداء الله لأهل الكتاب بعد أن ذكر نبذة عن رسلهم وأتباعهم نادى الموجودين منهم بعنوان الإيمان (١) أي يا من آمنتم بالرسل السابقين حسب ادعائكم (اتَّقُوا اللهَ) فلا تفرقوا بين رسل الله وآمنوا

__________________

(١) استعمل الإيمان هنا استعمالا لقبيا إذ المراد بالذين آمنوا : اليهود والنصارى إذ هم يؤمنون بالله ولقائه وكتبه ورسله في الجملة.

برسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْتِكُمْ) أي يعطكم (كِفْلَيْنِ) أي حظين ونصيبين (مِنْ رَحْمَتِهِ) ومثوبته (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) في الدنيا وهو الهداية الإسلامية إذ الإسلام صراط مستقيم صاحبه لا يضل ولا يشقى وتمشون به في الآخرة على الصراط إلى دار السّلام الجنة ، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم الماضية والحاضرة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (١) وذلك ليعلم (أَهْلُ الْكِتابِ) من اليهود والنصارى الذين رفضوا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والدخول في الإسلام أنهم (أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي لا يقدرون على الحصول على شيء (٢) من فضل الله ، (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ أعظم نصيحة تقدم لأهل الكتاب لو أخذوا بها تضمنها نداء الله لهم وما وعدهم به في هذه الآية الكريمة.

٢ ـ فضل الإيمان والتقوى إذ هما سبيل الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة.

٣ ـ إبطال مزاعم أهل الكتاب في احتكار الجنة لهم ، وإعلامهم بأنهم محرمون منها ما لم يؤمنوا برسول الله ويتقوا الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه.

__________________

(١) هذا بناء على أن (لا) زائدة في قوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) إذ الأصل لأن يعلم فزيدت اللام لتوكيد الكلام فصارت (لِئَلَّا يَعْلَمَ) أي : لأن يعلم.

(٢) أي : إلا باذن الله إذ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء. والظاهر أن المراد من الفضل هنا خصوص النبوة والرسالة وأن أهل الكتاب من اليهود يريدون حصر النبوة والرسالة في شعب اسرائيل فلذا جحدوا نبوة ورسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفروا بهما فناداهم تعالى بعنوان الإيمان الذي يدعونه وأمرهم بتقواه بترك الكذب والاحيتال وأمرهم بالإيمان برسوله وواعدهم مضاعفة الأجر إن هم آمنوا ، وكان هذا إعلاما منه تعالى أن أهل الكتاب لا يقدرون على حصر الفضل فيهم ومنعه عن غيرهم فقد نبأ وأرسل من بني عمهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم كارهون منكرون مكذبون ، وهم بين خيار بين إما الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والفوز بالجنة والنجاة من النار وإما الإصرار على إنكار رسالته والكفر به مع الخسران في الحياتين ولا يهلك على الله إلا هالك.

الجزء الثامن والعشرون

سورة المجادلة

مدنية وآياتها ثنتان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤))

شرح الكلمات :

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) : أي تراجعك أيها النبي في شأن زوجها أوس بن الصامت.

(وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) : أي وحدتها وفاقتها وصبية صغارا إن ضمتهم إليه ضاعوا وإن ضمهم إليها جاعوا.

(وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) : أي تراجعكما أنت أيها الرسول والمحاورة لك وهي خولة بنت ثعلبة.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) : أي لأقوالكما بصير بأحوالكما.

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) : أي يحرمون نساءهم بقول أنت عليّ كظهر أمي.

(ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ) : أي ليس هن بأمهاتهم.

(إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) : ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، أو أرضعنهم.

(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) : أي وإنهم بالظهار ليقولون منكرا من القول وزورا أي كذبا.

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) : أي على عباده أي ذو صفح عليهم غفور لذنوبهم إن تابوا منها.

(وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) (١) : أي بأن يقول لها أنت عليّ كظهر أمي أو أختي ونحوها من المحارم.

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) : أي يعزمون على العودة للتي ظاهروا منها ، إذ كان الظهار في الجاهلية طلاقا.

(فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) : أي فالواجب عليه تحرير رقبة مؤمنة قبل أن يجامعها.

(ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ) : أي تؤمرون به فافعلوه على سبيل الوجوب.

(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) : أي فمن لم يجد الرقبة لانعدامها أو غلاء ثمنها فالواجب صيام شهرين متتابعين.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) : أي من قبل الوطء لها.

(فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) : أي الصيام لمرض أو كبر سن.

(فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) : أي فعليه قبل الوطء ، أن يطعم ستين مسكينا يعطى لكل مسكين مدا من (٢) بر أو مدين من غير البر كالتمر والشعير ونحوهما من غالب قوت أهل البلد.

(ذلِكَ) : أي ما تقدم من بيان حكم الظهار الذي شرع لكم

(لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي لأن الطاعة إيمان والمعصية من الكفران.

__________________

(١) قرأ نافع يظهّرون أصلها (يتظهرون) فأدغمت التاء في الظاء فصارت يظّهرون بتشديد الظاء والهاء وقرأ حفص (يَظْهَرُونَ).

(٢) وردت روايات متعددة في كمية الإطعام الإجماع على أنها إطعام ستين مسكينا ، وإنما الخلاف في المقدار ، فأظهرها وأصحها حديث البخاري وفيه : (فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا. فتصدق بها على ستين مسكينا فهذا ظاهر في أنها ستون مدّا لكل مسكين مدّ لأن الخمسة عشر صاعا بستين مدّا إذ الصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي أحكام شرعه.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) : أي وللكافرين بها الجاحدين لها عذاب أليم أي ذو ألم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قَدْ سَمِعَ اللهُ) هذه الآية الكريمة نزلت في خولة بنت ثعلبة الأنصارية وفي زوجها أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين كان قد ظاهر منها زوجها أوس ، فقال لها في غضب غير مغلق أنت عليّ كظهر أمي ، وكان الظهار يومئذ طلاقا ، وكانت المرأة ذات أطفال صغار وتقدم بها وبزوجها السن فجاءت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تشكو إليه ما قال زوجها فذكرت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعفها (١) وضعف زوجها وضعف أطفالها الصغار ، وما زالت تراجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتحاوره في شأنها وشأن زوجها حتى نزلت هذه الآيات الأربع من فاتحة سورة المجادلة التي سميت بها السورة فقيل سورة المجادلة بكسر الدال ، ويصح فتحها فقال تعالى مخاطبا رسوله (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أي قد سمع الله قول المرأة التي تجادلك أي تراجعك في شأن زوجها الذي ظاهر منها ، (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) بعد أن قلت لها : والله ما أمرت في شأنك بشيء ، تشكو إلى الله ضعف حالها. (وَاللهُ يَسْمَعُ) (٢) (تَحاوُرَكُما) أي مراجعتكما لبعضكما بعضا الحديث وأجابكما (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي سميع لأقوال عباده عليم بأحوالهم وهذا حكم الظهار فافهموه واعملوا به.

أولا : أن الظهار الذي هو قول الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أمي لا يجعل المظاهر منها أمّا له إذ أمه هي التي ولدته وخرج من بطنها ، والزوجة لا تكون أمّا بحال من الأحوال.

ثانيا : هذا القول كذب وزور ومنكر من القول وقائله آثم فليتب إلى الله ويستغفره.

ثالثا : لو لا عفو الله وصفحه على عباده المؤمنين ومغفرته للتائبين لعاقبهم على هذا القول الكذب الباطل.

رابعا : على (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) أي يعزمون على وطئها بعد الظهار منها فالواجب عليهم قبل الوطء لها (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ذكرا كانت أو أنثى صغيرة أو كبيرة لكن مؤمنة لا كافرة ، فمن لم يجد الرقبة لانعدامها ، أو غلاء ثمنها فيجزئه (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ) فإن لم يستطع لعلة قامت به فالواجب إطعام ستين مسكينا يعطى كل مسكين مدّا من برّ أو نصف صاع من

__________________

(١) من جملة ما روي أنها قالت : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما أوحى إليّ في هذا شيء فقالت : يا رسول الله أوحي إليك في كل شيء وطوي عنك هذا؟ فقال : هو ما قلت لك فقالت : إلى الله أشكو لا إلى رسوله فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللهُ.). الخ.

(٢) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله عزوجل : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها).

غير البر كالشعير والتمر ونحوهما كل ذلك من قبل أن يتماسّا من باب حمل المطلق على المقيد إذ قيد الأول بقبل المسيس (١) فيحمل هذا الأخير عليه.

وقوله (ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي ذلك الذي تقدم من بيان حكم الظهار (٢) شرعه لكم لتؤمنوا بالله ورسوله إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل ، فطاعة الله ورسوله إيمان ومعصيتهما من الكفران. وقوله تعالى (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي لا تعتدوها بل قفوا عندها (وَلِلْكافِرِينَ) بها المتعدين لها (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي ذو ألم موجع جزاء تعديهم حدود الله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ إجابة الله لأوليائه بتفريج كروبهم وقضاء حوائجهم فله الحمد وله الشكر.

٢ ـ حرمة الظهار باعتباره منكرا وكذبا وزورا فيجب التوبة منه.

٣ ـ بيان حكم المظاهر وهو أن عليه عتق رقبة قبل أن يجامع امرأته المظاهر منها. فإن لم يجد الرقبة المؤمنة صام شهرين متتابعين من الهلال إلى الهلال وإذا انقطع التتابع لمرض بنى على ما صامه. فإن لم يستطع لمرض ونحوه أطعم ستين مسكينا فأعطى لكل مسكين على حدة مدّا من بر أو مدين من غير البر كالشعير والتمر.

٤ ـ لو جامع المظاهر قبل إخراج الكفارة أثم فليستغفر ربّه وليخرج كفارته. ولا شيء عليه لحديث الترميذي الصحيح.

٥ ـ طاعة الله ورسوله إيمان ، ومعصية الله ورسوله من الكفران.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ

__________________

(١) من مس امرأته قبل الكفارة فليكف عنها مرة أخرى حتى يكفر لحديث النسائي : (أن رجلا ظاهر من امرأته ولم يكفّر حتى وطئها فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمره ألا يقربها حتى يكفّر).

(٢) هل على المرأة إذا ظاهرت من زوجها شيء؟ الجمهور : أنه لا شيء عليها وإن كفرت كفارة يمين فذلك اللائق بها.

مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يخالفون الله ورسوله ويعادونهما.

(كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي ذلّوا وأهينوا كما ذل وأهين من قبلهم لمخالفتهم رسولهم.

(وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي والحال أنا قد أنزلنا آيات واضحات دالة على صدق الرسول

(عَذابٌ مُهِينٌ) : أي يوقعهم في الذل والهوان.

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) : أي يوم القيامة.

(أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) : أي جمعه وعدّه ونسوه هم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) : أي لا يغيب عنه شيء من الأشياء.

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى) : أي من متناجين.

(ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) : إلا هو تعالى رابعهم بعلمه بهم ، وقدرته عليهم.

(وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) : أي أقل من الثلاثة وهما الاثنان.

(إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) : أي في أيّ مكان من الأرض أو السماء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) هذه الآية تحمل بشرى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعلامه بهزيمة قريش وهي تحزب الأحزاب لحربه في غزوة الخندق فقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ (١) وَرَسُولَهُ) أي يخالفون الله ورسوله ويعادونهما (٢) (كُبِتُوا) أي ذلوا وأهينوا (كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الذين كذبوا رسلهم فأكبتهم الله أي أذلهم وأهانهم.

وقوله تعالى : (وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ) كلها دالة على صدق رسولنا فيما جاءهم به ودعاهم

__________________

(١) المحادة والمشاقة والمعاداة متقاربة المعنى فالمحاد الواقف في حد وخصمه في آخر ، وكذا المشاقّ : هو في شق والآخر في شق مقابل ، وكذا المعادي هو في عدوة والآخر في أخرى مقابلة له ، والعدوة : هي عدوة الوادي أحد جانبيه.

(٢) الكبت : الخزي والإذلال ، وعبر في الآية بالماضي (كُبِتُوا) لتحقق وقوعه كقوله تعالى : (أَتى أَمْرُ اللهِ).

إليه ، ومع هذا عادوه وحاربوه فلهذا يكبتهم الله ويذلهم في الدنيا (وَلِلْكافِرِينَ) (١) أمثالهم (عَذابٌ مُهِينٌ) يوم القيامة (يَوْمَ (٢) يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) لا يتخلف منهم أحد (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) من الشر والفساد. (أَحْصاهُ اللهُ) إذ كتبته ملائكته وكتب قبل فعلهم له في كتاب المقادير اللوح المحفوظ ونسوه لعمى قلوبهم وكفرهم بربهم ولقائه فلا يذكرون لهم ذنبا حتى يتوبوا منه ويستغفروا. وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي زيادة على أن أعمالهم كتبها في اللوح المحفوظ وأن الملائكة من الكرام الكاتبين قد كتبوها فإن الله تعالى شهيد على كل شيء فلا يقع شيء إلا تحت بصره وعلمه.

وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ) تقرير لما سبق من إحاطة علم الله بكل شيء وأن أعمال أولئك المخالفين المحادين محصية معلومة وسيجزيهم بها. أي ألم تعلم يا رسولنا أن الله تعالى يعلم ما في السموات وما في الأرض من دقيق الأشياء وجليلها ورد أن جماعة من المنافقين تخلفوا يتناجون بينهم إغاظة للمؤمنين فنزلت هذه الآية تعرض بهم وتكشف الستار عن نياتهم. (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى) (٣) أي من ذوي نجوى أو من متناجين (ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) ، أي إلا والله تعالى رابعهم بعلمه بهم وقدرته عليهم وهذه فائدة المعية العلم والقدرة على الأخذ والعطاء ، (وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ) كالأثنين ، (وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) بعلمه وقدرته وإحاطته أينما كانوا تحت الأرض أو فوقها في السماء أو دونها ، (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ) أي يخبرهم ويعلمهم (بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ) ليجزيهم به (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تقرير لما سبق من علمه بالمحادين له وبالمنافقين المناوئين للمؤمنين وسيجزى الكل بعدله وهو العزيز الحكيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وعيد الله الشديد بالإكبات والذل والهوان لكل من يحاد الله ورسوله.

٢ ـ إحاطة علم الله بكل شيء وشهوده لكل شيء وإحصاه لكل أعمال العباد حال توجب مراقبة الله تعالى والخشية منه والحياء منه أشد الحياء.

٣ ـ الإرشاد إلى أن التناجى للمشاورة في الخير ينبغي أن يكون عدد المتناجين ثلاثة أو خمسة

__________________

(١) الجملة معطوفة على جملة (كُبِتُوا) و (ال) في الكافرين : للجنس ليعم الوعيد كل كافر.

(٢) يجوز أن يكون (يَوْمَ) متعلقا بالكون المقدر الذي تعلق به (لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) أي للكافرين عذاب مهين (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ) وجائز أن يكون منصوبا على تقدير فعل اذكر كما هو شائع في أمثاله.

(٣) النجوى اسم مصدر فعله : ناجاه يناجيه مناجاة واسم المصدر نجوى فهو بمعنى التناجي أي : ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم وكل سرار نجوى.

أو سبعة ليكون الواحد عدلا مرجحا للخلاف قاضيا فيه إذ اختلف اثنان لا بد من واحد يرجح جانب الخلاف وإذا اختلف اربعة لا بد من خامس يرجح جانب الخلاف.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) : أي المسارة الكلامية والمنهيون هم اليهود والمنافقون.

(ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا) : أي من التناجى تعمدا لأذية المؤمنين بالمدينة.

(وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : أي بما هو إثم في نفسه ، وعداوة الرسول والمؤمنين.

(وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) : أي يتناجون فيوصى بعضهم بعضا بمعصية الرسول وعدم طاعته.

(وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ) : أي جاءوك أيها النبي حيوك بقولهم السام عليك.

(بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) : أي حيوك بلفظ السام عليك ، وهذا لم يحيى الله به رسوله بل حياه بلفظ السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.

(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) : أي سرا فيما بينهم.

(لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) : أي هلا يعذبنا الله بما نقول له ، فلو كان نبيا لعاجلنا الله بالعقوبة.

(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) : أي يكفيهم عذاب جهنم يصلونها فبئس المصير لهم.

(فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) : أي فلا يناج بعضكم بما هو إثم ولا بما هو عدوان وظلم ولا بما هو معصية للرسول.

(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) : أي وتناجوا إن أردتم ذلك بالبر أي الخير والتقوى وهي طاعة الله والرسول.

(إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) : أي إنما النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان أي بتغريره.

(لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي ليوهمهم انها بسبب شيء وقع مما يؤذيهم.

(وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : ألا وليس التناجى بضار المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله تعالى.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) : أي وعلى الله لا على غيره يجب أن يتوكل المؤمنون.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ) الآية .. هذه نزلت في يهود المدينة والمنافقين فيها. إذ كانوا يتناجون أي يتحدثون سرّا على مرأى من المؤمنين ، والوقت وقت حرب فيوهمون المؤمنين إن عدوا قد عزم على غزوهم ، أو أن سرية هزمت أو أن مؤامرة تحاك ضدهم فنهاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن التناجى ، وقال لا يتناج اثنان دون (١) ثالث وأبوا إلا أن يتناجوا فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب رسوله منهم ويوعدهم بعد فضحهم وكشف الستار عن كيدهم للمؤمنين ومكرهم بهم فقال تعالى لرسوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ (٢) نُهُوا عَنِ النَّجْوى) وهي التناجى المحادثة السرية أمام الناس ، (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) عصيانا وتمردا عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَيَتَناجَوْنَ) لا بالبر والتقوى ، ولكن (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ (٣) الرَّسُولِ) أي بما هو إثم في نفسه كالغيبة والبذاء في القول ، وبالعدوان وهو الاعتداء على المؤمنين وظلمهم ، وبمعصية الرسول فيوصى بعضهم بعضا بعصيان الرسول وعدم طاعته في أمره ونهيه. هذا وشرّ منه أنهم إذا جاءوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيّوه بما لم يحيه به الله فلم يقولوا السّلام عليكم ولكن

__________________

(١) الحديث ثابت في الصحيح وفي الموطأ قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد) وفي الحديث دليل على التحريم ونظيره : أن يتكلم اثنان بلغة غير لغة الثالث فإنه كنجوى اثنين دون ثالث.

(٢) الاستفهام للتعجيب والمراد به توبيخ اليهود الذين نزلت الآية فيهم مع إخوانهم المنافقين.

(٣) كتبت (مَعْصِيَةِ) بالتاء المفتوحة دون المربوطة التي يوقف عليها بالهاء في موضعين من هذه السورة ، ويوقف عليها بالهاء ويجوز بالتاء وأما في الوصل فلا بد من التاء.

يقولون السام عليكم والسام الموت يلوون بها ألسنتهم ، ويأتون الرسول واحدا واحدا ليحيوه بهذه التحية الخبيثة ليدعوا عليه بالموت لعنة الله عليهم ما أكثر أذاهم وما أشد مكرهم وما أنتن خبثهم ويقولون في أنفسهم أي فيما بينهم لو كان محمد نبيا لآخذنا الله بما نقول له من الدعاء عليه بالموت وهذا معنى قوله تعالى عنهم : (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) أي هلّا عذبنا الله بما نقول لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو كان نبيا. (١) قال تعالى (حَسْبُهُمْ) (٢) عذابا (جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها) يحترقون بحرها ولظاها يوم القيامة (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي يصيرون إليه في الدار الآخرة جهنم وزقومها وحميمها وضريعها وغسلينها ويحمومها وفوق ذلك غضب الله ولعنته عليهم.

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ) هذه الآية والتي بعدها نزلت في تربية المؤمنين روحيا وتهذيبهم أخلاقيا فقال تعالى يا أيها الذين آمنوا أي صدقوا الله ورسوله إذا تناجيتم لأمر استدعى ذلك منكم (فَلا تَتَناجَوْا) (٣) (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) فتكون حالكم كحال اليهود والمنافقين ولكن (تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) أي بما هو خير في نفسه لا إثم فيه وبطاعة الله ورسوله إذ هما التقوى ، (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يوم القيامة لمحاسبتكم ومجازاتكم فاتقوه بطاعته وطاعة رسوله.

وقوله تعالى : (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) أي هو الدافع إليها والحامل عليها وذلك لعلة وهي أن يوقع المؤمنين في غم وحزن ، وليس التناجى ولا الشيطان بضار المؤمنين شيئا إلا بإرادة الله تعالى لحكم عالية يعلمها الله ، ولذا فلا تحزنوا ولا تغتموا لما ترون من تناجى أعدائكم من اليهود والمنافقين ، وتوكلوا على الله في أموركم كلها. (وَعَلَى اللهِ) تعالى لا على غيره (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) في كل زمان ومكان. فإن الله تعالى كاف من يتوكل عليه كافيه كل ما يهمه والله على ذلك قدير.

__________________

(١) قال ابن العربي : جهل هؤلاء اليهود أن الله تعالى حليم لا يعاجل بالعقوبة من سبه فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا أحد أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم).

(٢) روى الترمذي وصححه عن أنس (أن يهوديا أتى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى أصحابه فقال : السام عليكم. فردّ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال أتدرون ما قال هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال كذا ردوه عليّ فردوه فقال : قلت السام عليكم؟ قال : نعم فقال النبي عند ذلك إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليك ما قلت ، فأنزل الله تعالى (وَإِذا جاؤُكَ) الآية.

(٣) الجمهور أن حرمة تناجي الاثنين دون الثالث والثلاثة دون الرابع وهكذا هو باق على تحريمه وليس مخصوصا بحالة الحرب كما في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن الفاظ الحديث عامة. منها حديث الصحيح عن ابن عمر : (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الواحد). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مكر اليهود والمنافقين وكيدهم للمؤمنين في كل زمان ومكان.

٢ ـ إذا حيا الكافر المؤمن ورد عليه المؤمن رد عليه بقوله وعليكم لما صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليه ناس من اليهود فقالوا السام عليك يا أبا القاسم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعليكم. فقالت عائشة رضى الله عنها عليكم السام ولعنكم (١) الله وغضب عليكم. فقال لها عليه الصلاة والسّلام يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش فقالت ألا تسمعهم يقولون السام؟ فقال لها أو ما سمعت ما أقول : وعليكم. فأنزل الله هذه الآية رواه الشيخان.

٣ ـ إذا سلم الذميّ وكان سلامه بلفظ السّلام عليكم لا بأس أن يرد عليه بلفظه.

٤ ـ حرمة التناجى بغير البر والتقوى لقوله تعالى إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس الآية من سورة النساء. (٢)

٥ ـ لا يجوز أن يتناجى اثنان دون الثالث لما يوقع ذلك في نفس الثالث من حزن لا سيما إن كان ذلك في سفر أو في حرب وما إلى ذلك.

٦ ـ وجوب التوكل على الله وترك الأوهام والوساوس فإنها من الشيطان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ

__________________

(١) اختلف في جواز ومنع السّلام على أهل الكتاب والذي عليه الجمهور جوازه للسنة الصحيحة في ذلك ويرى بعضهم وجوب الرد لعموم الآية : (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها).

(٢) هي قوله تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).

(١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣))

شرح الكلمات :

(تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) : أي توسعوا في المجالس التي هي مجالس علم وذكر.

(فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ) : أي في الجنة وفي الرزق والقبر.

(انْشُزُوا فَانْشُزُوا) : أي قوموا للصلاة أو لغيرها من أعمال البر.

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) : أي بالنصر وحسن الذكر في الدنيا وفي غرفات الجنان في الآخرة.

(وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) : أي ويرفع الذين اوتوا العلم درجات عالية لجمعهم بين العلم والعمل.

(إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ) : أي أردتم مناجاته.

(فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) : أي قبل المناجاة تصدقوا بصدقة ثم ناجوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) : أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لما فيه من نفع الفقراء وأطهر لذنوبكم.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) : أي فإن لم تجدوا ما تتصدقون به.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي غفور لمناجاتكم رحيم بكم فليس عليكم في المناجاة بدون صدقة إثم.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟) : أي أخفتم الفقر ان قدمتم بين يدي نجواكم صدقات.

(فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) : أي تقديم الصدقات ، وتاب الله عليكم بأن رخص لكم في تركها.

(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) : أي على الوجه المطلوب من إقامتها وأخرجوا الزكاة.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي وداوموا على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله.

(وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) : أي من أعمال البر والإحسان وسيثيبكم على ذلك بالجنة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تربية المؤمنين وتهذيبهم ليكملوا ويسعدوا فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا الله ورسوله (إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) أي إذا قال لكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو غيره توسعوا (١) في المجلس ليجد غيركم مكانا بينكم فتوسعوا ولا تضنوا بالقرب من الرسول أو من العالم الذي يعلمكم أو المذكر الذي يذكركم وإن أنتم تفسحتم أي فإن الله تعالى يكافئكم فيوسع عليكم في الدنيا بسعة الرزق وفي البرزخ في القبر وفي الآخرة في غرفات الجنان.

وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا) (٢) أي قوموا من المجلس لعلة أو للصلاة أو للقتال أو لفعل بر وخير فانشزوا أي خفوا وقوموا يئبكم الله فيرفع الله الذين آمنوا منكم (٣) درجات بالنصر والذكر الحسن في الدنيا وفي غرف الجنة في الآخرة (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) أي ويرفع الذين أوتوا العلم منكم أيها المؤمنون درجات عالية لجمعهم بين الإيمان والعلم والعمل.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يذكرهم تعالى بعلمه بهم في جميع أحوالهم ليراقبوه ويكثروا من طاعته ويحافظوا علي تقواه.

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) أمرهم تعالى إذا أراد أحدهم أن يناجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكلمه وحده أن يقدم صدقة أولا ثم يطلب المناجاة وكان هذا لمصلحة الفقراء أولا ثم للتخفيف (٤) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كل مؤمن يود أن يخلو برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقرب منه ويكلمه والرسول بشر لا يتسع لكل أحد فشرع الله هذه الصدقة فأعلمهم أنه يريد التخفيف عن رسوله. فلما علموا ذلك وتحرجوا من بذل صدقة وأكثرهم فقراء

__________________

(١) قال قتادة : كانوا يتنافسون في مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض ، وروي عن ابن عباس أن هذا في صفوف القتال إذ كانوا يتشاحون على الصف الأول فأمروا بالفسح لبعضهم حتى يتمكنوا من الوقوف في الصف الأول مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واللفظ عام يشمل هذا وذاك. قال القرطبي : والصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر سواء كان مجلس حرب أو علم أو ذكر أو مجلس صلاة كيوم الجمعة وفي الحديث الصحيح : (نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقام الرجل من مجلسه ويجلس فيه آخر ولكن تفسحوا وتوسعوا).

(٢) قال قتادة : المعنى : أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بمعروف ، والنشز : الارتفاع مأخوذ من نشز الأرض وهو ارتفاعها ، ومنه قيل للمرأة التي تترفّع على زوجها ناشز.

(٣) في الآية مدح لأهل العلم : قاله ابن مسعود وفي الحديث : (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب). وقيل لعمر رضي الله عنه في مولى استخلفه فقال : إنه قارىء لكتاب الله وإنه عالم بالفرائض أما إن نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال : (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع آخرين) وعن ابن عباس : خيّر سليمان بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه.

(٤) قال ابن عباس : نزلت بسبب أن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شقوا عليه فأراد الله أن يخفف عن رسوله فأنزل هذه الآية فلما نزلت كفّ الناس.

لا يجدها نسخ تعالى ذلك ولم تدم مدة الوجوب أكثر من ليالى ونسخها الله تعالى بقوله الآتي أأشفقتم. الآية.

وقوله تعالى (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) (١) أي تقديم الصدقة بين يدي المناجاة خير لكم حيث تعود الصدقة على الفقراء إخوانكم وأطهر أي لنفوسكم لأن النفس تطهر بالعمل الصالح وقوله تعالى (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا) أي ما تقدمونه صدقة قبل المناجاة فناجوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا حرج عليكم لعدم وجدكم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) لكم (رَحِيمٌ) بكم. وقوله تعالى (أَأَشْفَقْتُمْ) (٢) أي أخفتم الفاقة والفقر إن أنتم ألزمتم بالصدقة بين يدي كل مناجاة وعليه فإن (لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) برفع هذا الواجب ونسخه فرجع بكم إلى عهد ما قبل وجوب الصدقة (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) بأدائها في أوقاتها في جماعة المؤمنين مراعين شرائطها وأركانها وسننها وآدابها (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة في أموالكم. (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) في أمرهما ونهيهما يكفكم ذلك عوضا عن الصدقة التي نسخت تخفيفا عليكم ورحمة بكم.

وقوله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣) أي فراقبوه في طاعته وطاعة رسوله تفلحوا فتنجوا من النار وتدخلوا الجنة دار الأبرار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الندب إلى فضيلة التوسع في مجالس العلم والتذكير.

٢ ـ الندب والترغيب في القيام بالمعروف وأداء الواجبات إذا دعى المؤمن إلى ذلك.

٣ ـ فضيلة الإيمان وفضل العلم والعمل به.

٤ ـ مشروعية النسخ في الشريعة قبل العمل بالمنسوخ وبعده إذ هذه الصدقة نسخت قبل أن يعمل بها اللهم إلا ما كان من عليّ (٤) رضي الله عنه فإنه أخبر أنه تصدق بدينار وناجى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم نسخت هذه الصدقة فكان يقول في القرآن آية لم يعمل بها أحد غيري وهى فضيلة له رضى الله عنه.

__________________

(١) قال ابن العربي : في الآية دليل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح فإن الله تعالى قال (ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) ثم نسخ ذلك مع كونه خيرا وأطهر. ولكن قد يقال إنّ ما نسخ من أجله قد يكون أكثر منفعة للمسلمين في دينهم ودنياهم ، وإن كان خافيا عن المسلمين لا يعلمونه.

(٢) الاستفهام المراد به لوم الأصحاب على تأخرهم عن المناجاة لما فرضت عليها الصدقة. قيل كان ما بين الآيتين الناسخة والمنسوخة عشرة أيّام.

(٣) الجملة تذييل لجملة : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وهي كناية عن التحذير من التفريط في طاعة الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٤) روي أن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : لقد كانت لعليّ رضي الله عنه ثلاث لو كانت لي واحدة منهن كانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.

٥ ـ في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله في الواجبات والمحرمات عوض عما يفوت المؤمن من النوافل.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا) : أي ألم تنظر إلى المنافقين الذين تولوا.

(قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : أي اليهود.

(ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) : أي ما هم منكم أيها المؤمنون ولا منهم أي من اليهود بل هم مذبذبون.

(وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) : أي يحلفون لكم أنهم مؤمنون وهم يعلمون أنهم غير مؤمنين.

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي قبح أشد القبح عملهم وهو النفاق والمعاصى.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) : أي سترا على أنفسهم وأموالهم فادعوا الإيمان كذبا وحلفوا أنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين.

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي فصدوا بتلك الأيمان المؤمنين عن سبيل الله التي هي جهادهم وقتالهم.

(فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) : أي يوم يبعثهم من قبورهم يوم القيامة يحلفون لله أنهم كانوا مؤمنين كما يحلفون اليوم لكم أنهم مؤمنون.

(وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) : أي يظنون في أيمانهم الكاذبة أنهم على شيء من الحق.

(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) : أي غلب عليهم الشيطان.

(فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) : فلم يذكروه بألسنتهم إلا تقية ولا يذكرون وعده ولا وعيده.

(أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) : أي أولئك البعداء أتباع الشيطان وجنده.

(أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي إن أتباع الشيطان وجنده هم المغبونون الخاسرون في صفقة حياتهم.

معنى الآيات :

في هذه الأيام التي نزلت فيها هذه السورة كان النفاق بالمدينة بالغا أشده ، وكان اليهود كذلك كثيرين ومتحزبين ضد الإسلام والمسلمين وذلك قبل اجلائهم من المدينة ففي هذه الآية يحذر الله تعالى رسوله والمؤمنين من العدوين معا ويكشف الستار عنهم ليظهرهم على حقيقتهم ليحذرهم المؤمنون فيقول تعالى (أَلَمْ تَرَ) (١) أي تنظر يا رسولنا (إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ) (٢) (اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود تولاهم المنافقون ولاية نصرة وتحزب ضد الرسول والمؤمنين. يقول تعالى هؤلاء المنافقون (ما هُمْ مِنْكُمْ) أيها المؤمنون (وَلا مِنْهُمْ) من اليهود بل هم مذبذبون حيارى يترددون بينكم وبين اليهود معكم في الظاهر ومع اليهود في الباطن.

وقوله تعالى : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣) أي أنهم كاذبون إذ كانوا يأتون رسول الله ويحلفون له أنهم مؤمنون به وبما جاء به وهم يعلمون أنهم كاذبون إذ هم غير مؤمنين به ولا مصدقين. فتوعدهم الله عزوجل بقوله : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) أي هيأ لهم وأحضره وذلك يوم القيامة ، وندد بصنيعهم وقبح سلوكهم بقوله (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ولذا أعد لهم العذاب

__________________

(١) الاستفهام تعجيبي ووجه التعجب من حالهم أنهم تولوا قوما من غير جنسهم وليسوا على دينهم وإنما حملهم الاشتراك في عداوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

(٢) عرف اليهود في القرآن بأنهم المغضوب عليهم وتكرر ذلك في القرآن الكريم.

(٣) روي عن عكرمة وابن عباس في سبب نزول هذه الآية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان جالسا في ظل شجرة قد كاد الظل يتقلص عنه إذ قال يجيئكم الساعة رجل أزرق ينظر إليكم نظر شيطان فنحن على ذلك إذ أقبل رجل أزرق قد عاينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال. علام تشتمني أنت وأصحابك؟ قال دعني أجيئك بهم فمر فجاء بهم فحلفوا جميعا أنه ما كان من ذلك شيء فأنزل الله تعالى : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً).

الشديد لسوء سلوكهم وقبح أعمالهم.

وقوله تعالى : (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ (١) جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم التي يحلفونها لكم بأنهم مؤمنون وما هم بمؤمنين اتخذوها ستارة ووقاية يقون بها أنفسهم من القتل وأموالهم من الأخذ فصدوا بتلك الأيمان الكاذبة المؤمنين عن سبيل الله التي هي قتالهم لأنهم كفار مشركون يجب قتالهم حتى يدخلوا في دين الله أو يهلكوا لأنهم ليسوا أهل كتاب فتقبل منهم الجزية.

وقوله تعالى (فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) أي يوم القيامة يهانون ويذلون به.

وقوله تعالى (لَنْ تُغْنِيَ (٢) عَنْهُمْ) أي يوم القيامة أموالهم التي يجمعونها ويتمتعون بها اليوم كما لا تغنى عنهم أولادهم الذين يعتزون بهم (مِنَ اللهِ شَيْئاً) من الإغناء فلا تقبل منهم فدية فيفتدون بأموالهم ولا يطلبون من أولادهم نصرة فينصرونهم. (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا يخرجون منها ولا يموتون فيها ولا يحيون.

وقوله تعالى (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) إي اذكر يا رسولنا يوم يبعثهم الله جميعا في عرصات القيامة (فَيَحْلِفُونَ (٣) لَهُ) أنهم كانوا مؤمنين (كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ) اليوم أنهم مؤمنون. (وَيَحْسَبُونَ) اليوم أي يظنون أنهم على شيء من الصواب والحق (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (اسْتَحْوَذَ (٤) عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) أي غلب عليهم (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) فلا يذكرونه إلا قليلا كما أنساهم ذكر وعده ووعيده فلذا هم لا يرغبون فيما عنده ولا يرهبون مما لديه. (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) أي أتباعه وجنده. (أَلا إِنَّ حِزْبَ (٥) الشَّيْطانِ) أي أتباعه وجنده (هُمُ الْخاسِرُونَ) أي المغبونون في صفقتهم في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) الجملة مستأنفة استثنافا بيانيا لأن سائلا قد يسأل : ما الذي حملهم على الحلف الكاذب؟ فالجواب اتخاذهم أيمانهم جنة والجنة الوقاية من جن إذا استتر أي : وقاية من شعور المسلمين ليتمكنوا من الصد عن الإسلام تحت شعاره.

(٢) في الآية إشارة إلى أن كبار المنافقين كانوا ذوي ثروة ومال وهذا من الأسباب الحاملة لهم على البقاء على الكفر حفاظا على أموالهم ومراكزهم في المجتمع في نظرهم ، فأخبر تعالى أنّ مالهم الذي يحافظون عليه أولادهم الذين يعتزون بهم إذا نزل بهم عذاب الله لن يغني ذلك عنهم من الله شيئا.

(٣) صح الحديث بأن من مات على شيء يبعث عليه ، ولما مات المنافقون على النفاق بعثوا عليه ، فلذا يحلفون لله تعالى أنهم كانوا مؤمنين كما هم يحلفون في الدنيا بأنهم مؤمنون وهم كاذبون ، وهذا كقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ). وهذا في عرصات القيامة.

(٤) مجرد استحوذ : حاذ الشيء : إذا أحاطه وصرفه كيف يريد ، يقال : حاذ العير : إذا جمعها وساقها غالبا لها فاشتقّوا منه استفعل : للاستيلاء ، والتدبير والمعالجة ولا يقال استحوذ إلا لمن كان عاقلا يحسن التدبير والتصريف.

(٥) جيء بحرف التنبيه والاستفتاح (أَلا) تنبيها على أهمية ما دخلت عليه وأنه مما يحق أن ينتبه له. وضمير الفصل (هو) لإفادة القصر ، وهو قصر إدعائى للمبالغة في مقدار خسرانهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة موالاة اليهود.

٢ ـ حرمة الحلف على الكذب وهي اليمين الغموس.

٣ ـ من علامات استحواذ الشيطان على الإنسان تركه لذكر الله بقلبه ولسانه ولوعده ووعيده بأعماله وأقواله.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يخالفون الله ورسوله فيما يأمران به وينهيان عنه.

(أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) : أي المغلوبين المقهورين.

(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) : أي كتب في اللوح المحفوظ أو قضى وحكم بأن يغلب بالحجة أو السيف.

(يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) : أي يصادقون من يخالف الله ورسوله بمحبتهم ونصرتهم.

(وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) : أي يقصدونهم بالسوء ويقاتلونهم على الإيمان كما وقع للصحابة.

(أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) : أي أثبت الإيمان في قلوبهم.

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) : أي برهان ونور وهدى.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) : أي رضى الله عنهم بطاعتهم إياه في الدنيا ورضوا عنه في الآخرة بإدخاله إياهم في الجنة.

(أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : أي ألا إن جند الله وأولياءه هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.

معنى الآيات :

يخبر تعالى موجها المؤمنين مرشدا لهم إلى أقوم طريق وأكمل الأحوال فيقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي يخالفونهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من الدين الحق (أُولئِكَ) أي المخالفون في زمرة (الْأَذَلِّينَ) (١) في الدنيا والآخرة. وقوله تعالى (كَتَبَ (٢) اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) أي كتب في اللوح المحفوظ وقضى بأن يغلب رسوله أعداءه بالحجة والسيف (٣). (إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي ذو قوة لا تقهر وعزة لا ترام فلذا قضى بنصرة رسوله على أعدائه مهما كانت قوتهم.

وقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ (٤) بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول تعالى لرسوله لا تجد أناسا يؤمنون بالله إيمانا صادقا بالله ربا وإلها وباليوم الآخر (يُوادُّونَ) بالمحبة والنصرة (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) بمخالفتهما في أمرهما ونهيهما وما يدعوان إليه من توحيد الله وطاعته وطاعة رسوله (وَلَوْ كانُوا) أقرب قريب إليهم من أب أو إبن أو أخ أو عشيرة. وقوله تعالى (أُولئِكَ كَتَبَ) أي الله تعالى (فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) أي أثبته وقرره فيها فهو لا يبرح ينير لهم طريق الهدى حتى ينتهوا إلى جوار ربهم.

__________________

(١) (الْأَذَلِّينَ) جمع الأذل وهو : الأكثر ذلا من كل ذليل والذل المهانة والصغار والاحتقار.

(٢) روي أن مقاتلا قال : قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على فارس والروم فقال عبد الله بن أبي بن سلول أتظنون أن الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها ، والله إنهم لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك فأنزل الله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَ) أي : قضى الله ذلك.

(٣) من بعث منهم بالحجة فإنه غالب بالحجة ومن بعثه بالسيف فهو غالب بالسيف بإذنه تعالى.

(٤) ذكر لنزول هذه الآية عدة أسباب وهي وإن لم تنزل في كلها فإنها منطبقة عليها فقيل : إنها نزلت في عبد الله بن عبد الله ابن أبي بن سلول فقد جاء لوالده بفضلة ماء من شراب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعل الله يطهر قلبه من النفاق فسأله ما هذا فأخبره فقال عليه لعائن الله : فهلا جئتني ببول أمّك فإنه أطهر منها فغضب وجاء يستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قتله فلم يأذن له ، وقيل نزلت في أبي بكر الصديق لما ضرب والده بشدّة لما سبّ له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : نزلت في الذين بارزوا أقرباءهم يوم بدر.

(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ (١) مِنْهُ) أي ببرهان ونور منه سبحانه وتعالى هذا في الدنيا وأما فى الآخرة فيدخلهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي بساتين غناء تجرى الأنهار المختلفة من خلال الأشجار والقصور خالدين فيها لا يخرجون منها أبدا ، وفوق ذلك (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) بطاعتهم إياه (وَرَضُوا عَنْهُ) في الآخرة بإدخاله إياهم الجنة دار المتقين.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ) أي أولئك العالون في كمالاتهم الروحية حزب الله أي جنده وأولياؤه ، ثم أعلن تعالى عن فوزهم ونجاحهم فقال : (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢) أي الفائزون يوم القيامة بالنجاة من النار ودخول الجنة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ كتب الله الذل والصغار على من حاده وحاد رسوله بمخالفتهما فيما يحبان ويكرهان.

٢ ـ قضى الله تعالى بنصرة رسوله فنصره إنه قوي عزيز.

٣ ـ (٣) حرمة موالاة الكافر بالنصرة والمحبة ولو كان أقرب قريب ، وقد قاتل أصحاب رسول الله آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم في بدر. وفيهم نزلت هذه الآية تبشرهم برضوان الله تعالى لهم ، وإنعامه عليهم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.

سورة الحشر (٤)

مدنية وآياتها أربع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ

__________________

(١) قيل : هو جبريل ، وقيل : بنصر منه ، وقال الربيع بن أنس : بالقرآن وحججه.

(٢) استدل مالك بهذه الآية (لا تَجِدُ قَوْماً.). الخ على معاداة القدرية وترك مجالستهم. إذا كان هذا في القدرية فكيف بالرافضة؟!

(٣) روي أن داود عليه‌السلام قال : إلهي : أمن حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه : يا داود : الغاضة أبصارهم النقية قلوبهم السليمة أكفهم. أولئك حزبي وحول عرشي.

(٤) وسمّاها ابن عباس سورة بني النضير لذكر قصة بني النضير فيها وسمّاها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سورة الحشر) في حديث الترمذي عن معقل بن يسار أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر (هو الله) الخ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ، ومن قرأها حين يمسي كذلك). وقال فيه : حسن غريب.

لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

شرح الكلمات :

(سَبَّحَ (١) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي نزّه الله تعالى وقدّسه بلسان الحال والقال ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي العزيز في انتقامه من أعدائه الحكيم في تدبيره لأوليائه.

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) : أي أخرج يهود بنى النضير من ديارهم بالمدينة.

(لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) : أي لأول حشر كان وثانى حشر كان من خيبر إلى الشام.

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) : أي ما ظننتم أيها المؤمنون أن بني النضير يخرجون من ديارهم.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ) : أي وظن يهود بنى النضير أن حصونهم تمنعهم مما قضى الله به عليهم من إجلائهم من المدينة.

__________________

(١) في قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ) الخ تذكير للمؤمنين بتسبيح الله تعالى وأنه من الذكر الذي هو علة الوجود ، وتركه مهلكة كالتي حلّت ببني النضير لتركهم ذلك.

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) : أي فجاءهم الله من حيث لم يظنوا أنهم يؤتون منه.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) : أي وقذف الله تعالى الخوف الشديد من محمد وأصحابه.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) : أي يخربون بيوتهم حتى لا ينتفع بها المؤمنون وليأخذوا بعض أبوابها وأخشابها المستحسنة معهم.

(وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) : إذ كانوا يهدمون عليهم الحصون ليتمكنوا من قتالهم.

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) : أي فاتعظوا بحالهم يا أصحاب العقول ولا تغتروا ولا تعتمدوا إلا على الله سبحانه وتعالى.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ) : أي ولو لا أن كتب الله عليهم الخروج من المدينة.

(لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) : أي بالقتل والسبيّ كما عذب بنى قريظة إخوانهم بذلك.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) : جزاهم بما جزاهم به من عذاب الدنيا والآخرة بسبب مخالفتهم لله ورسوله ومعاداتهم لهما.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها) : أي ما قطعتم أيها المؤمنون من نخلة لينة أو تركتموها بلا قطع.

(فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) : أي فقطع ما قطعتم وترك ما تركتم كان بإرادة الله وكان ليجزى الله الفاسقين يهود بنى النضير.

معنى الآيات :

يخبر تعالى عن جلاله وعظمته بأنه سبحه أي نزهه عن كل النقائص من الشريك والصاحبة والولد والعجز والنقص مطلقا بلسان القال ولسان الحال جميع (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) من الملائكة والإنس والجن والحيوان والشجر والحجر والمدر ، وأنه هو العزيز الانتقام الحكيم في تدبير حياة الأنام. (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من ديارهم يهود بنى النضير (١) أجلاهم من ديارهم بالمدينة (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) (٢) إلى أذرعات بالشام ومنهم من نزل بخيبر وسيكون لهم حشر آخر حيث حشرهم عمر وأجلاهم من خيبر إلى الشام.

وقوله تعالى فى خطاب المؤمنين : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي من ديارهم (وَظَنُّوا) هم أنهم (مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ). فخاب ظنهم إذ أتاهم أمر الله من حيث لم يظنوا وذلك بأن (قَذَفَ فِي

__________________

(١) بنو النضير : رهط من اليهود من ذرية هارون عليه‌السلام نزلوا المدينة في فتن بني اسرائيل انتظارا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من أمرهم ما قص تعالى في هذه السورة.

(٢) الحشر : الجمع أي : جمع الناس في مكان واحد ، والمراد هنا : حشر يهود جزيرة العرب إلى أرض غيرها أي : جمعهم للخروج ، ولذا هو يرادف الجلاء إذا كان الجلاء لجماعة عظيمة تجمع من الديار المتفرقة ، واللام في قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) هي لام التوقيت التي تدخل على أوّل الوقت نحو (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : لأول عدتهن وهو الطهر الذي لم تمس فيه.

قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) والخوف الشديد من الرسول وأصحابه حتى أصبحوا (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ). المؤمنون يخربونها من الظاهر لفتح البلاد وهم يخربونها من الباطن وذلك أن الصلح الذي تم بينهم وبين الرسول والمؤمنين أنهم يحملون أموالهم إلا الحلقة أي السلاح ويجلون عن البلاد إلى الشام وهو أول حشر لهم فكانوا إذا أعجبهم الباب أو الخشبة نزعوها من محلها فيخرب البيت لذلك. وقوله تعالى (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي البصائر والنهي أي اتعظوا بحال بنى النضير الأقوياء كيف قذف الله الرعب في قلوبهم وأجلوا عن ديارهم فاعتبروا يا أولى البصائر فلا تغتروا بقواكم ولكن اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ (١) الْجَلاءَ) أزلا في اللوح المحفوظ (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) بالسبي والقتل كما عذب بنى قريظة بعدهم. (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) ، ثم علل تعالى لهذا العذاب الذي أنزله وينزله بهم بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي خالفوهما وعادوهما ، ومن يشاق الله يعاقبه بأشد العقوبات فإن الله شديد العقاب.

وقوله تعالى (ما قَطَعْتُمْ (٢) مِنْ لِينَةٍ) أي من نخلة لينة (أَوْ تَرَكْتُمُوها) بلا قطع (قائِمَةً عَلى أُصُولِها) فقد كان ذلك بإذن الله فلا إثم عليكم فيه فقد أسرّ به المؤمنين وأخزى به الفاسقين اليهود.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان جلال الله وعظمته مع عزه وحكمته في تسبيحه من كل المخلوقات العلوية والسفلية وفي إجلاء بنى النضير من ديارهم وهو أول حشر وإجلاءتم لهم وسيعقبه حشر ثان وثالث. (٣)

٢ ـ بيان أكبر عبرة في خروج بنى النضير ، وذلك لما كان لهم من قوة ولما عليه المؤمنون من ضعف ومع هذا فقد انهزموا شر هزيمة وتركوا البلاد والاموال ورحلوا إلى غير رجعة. فعلى مثل هذا يتعظ المتعظون فإنه لا قوة تنفع مع قوة الله ، فلا يغتر العقلاء بقواهم المادية بل عليهم أن يعتمدوا على الله أولا وآخرا.

٣ ـ علة هزيمة بنى النضير ليست إلا محادتهم لله والرسول ومخالفتهم لهما وهذه سنته تعالى في

__________________

(١) الفرق بين الجلاء والإخراج أن الجلاء يكون بالأهل والأولاد وأمّا الإخراج قد يكون بدون ذلك وكلاهما مفارقة المرء وطنه ويقال : جلا المرء بنفسه وأجلاه غيره.

(٢) كان هذا من باب إلجاء العدو إلى ترك المقاومة والاستسلام. واللينة : بمعنى : النخلة ، واختير لفظ اللينة دون النخلة : لخفته وهو اللون دون العجوة والبرني.

(٣) الحشر : أي الجمع الأول هو إجلاؤهم من المدينة ، والثاني : هو إجلاؤهم عن الديار الحجازية على يد عمر رضي الله عنه لوصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في قوله (لا يجتمع دينان في الجزيرة) والثالث : هو إجلاؤهم من فلسطين بعد تجمعهم فيها وإقام دولتهم. جاء بهذا حديث مسلم : (لتقاتلن اليهود ...) الحديث فسوف يتم إجلاؤهم حتى لا يجتمعوا مرة أخرى إلى قيام الساعة.

كل من يحاده ويحاد رسوله فإنه ينزل به أشد أنواع العقوبات.

٤ ـ عفو الله تعالى على المجتهد إذا أخطأ وعدم مؤاخذته ، فقد اجتهد المؤمنون في قطع نخل بني النضير من أجل إغاظتهم حتى ينزلوا من حصونهم. وأخطأوا في ذلك إذ قطع النخل المثمر فساد ، ولكن الله تعالى لم يؤاخذهم لأنهم مجتهدون.

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧))

شرح الكلمات :

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ) : أي وما رد الله ليد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مال بنى النضير.

(١) (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) : أي أسرعتم في طلبه والحصول عليه خيلا ولا إبلا أي لم تعانوا فيه مشقة.

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) : أي وقد سلط رسول الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بنى النضير ففتح بلادهم صلحا.

(ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) : أي وما رد الله على رسوله من أموال أهل القرى التى لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

(فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ) : أي لله جزء وللرسول جزء ولقرابة الرسول جزء ولليتامى جزء وللمساكين جزء ولابن السبيل جزء تقسم على المذكورين

__________________

(١) (فَما أَوْجَفْتُمْ) هذه الفاء واقعة في جواب الذي ، إذ الموصول فيه معنى الشرط فقوله : (وما أفاء) أي : والذي أفاءه الله على رسوله منهم فما أوجفتم ...) الخ.

(السَّبِيلِ) بالسوية.

(كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) : أي كيلا يكون المال متداولا بين الأغنياء الأقوياء ولا يناله الضعفاء والفقراء.

(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) : أي وما أعطاكم الرسول وأذن لكم فيه أو أمركم به فخذوه وما نهاكم عنه وحظره عليكم ولم يأذن لكم فيه فانتهوا عنه.

(وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) : أي واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله وأحذروا عقوبة الله على معصيته ومعصية رسوله فإن الله شديد العقاب.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في غزوة بنى النضير إنه بعد الصلح الذي تم بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تركوا حوائطهم أي بساتينهم فيئا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورغب المسلمون في تلك البساتين ورأى بعضهم أنها ستقسم عليهم كما تقسم الغنائم فأبى الله تعالى ذلك عليهم وقال : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) أي وما رد الله تعالى على رسوله من مال بنى النضير. وكلمة ردّ تفسير لكلمة أفاء لأن الفئ الظل يتقلص ثم يرجع أي يردّ وأموال بنى النضير الأصل فيها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن بنى النضير عاهدوا رسول الله وبمقتضى المعاهدة أبقى عليهم أموالهم فإذا نقضوا العهد وخانوا لم يستحقوا من المال شيئا لا سيما وأنهم تآمروا على قتله وكادوا ينفذون جريمتهم التى تحملوا تبعتها ولو لم ينفذوها. وبداية القضية كالتالي :

أن المعاهدة التى تمت بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين بنى النضير من جملة بنودها أن يؤدوا مع الرسول ما يتحمل من ديات. وبعد وقعة أحد بنصف سنة حدث أن عمرو بن أمية الضمري قتل خطأ رجلين من بنى كلب أو بنى كلاب فجاء ذووهم يطالبون بديتهم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو المسئول عن المسلمين فخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى النضير في قريتهم (١) التي تبعد عن المدينة بميلين يطالب بالإسهام في دية الرجلين الكلابيين بحكم المعاهدة فلما انتهى إليهم أنزلوه هو وأصحابه بأحسن مجلس وقالوا ما تطلبه هو لك يا أبا القاسم ثم خلوا بأنفسهم وقالوا ان الفرصة سانحة للتخلص من الرجل فجاءوا برحى «مطحنة» من صخرة وطلعوا بها إلى سطح المنزل وهموا أن يسقطوها على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في ظل الجدار مع أصحابه ، وقبل أن يسقطوا الرحى أوحى الله إلى رسوله أن قم من مكانك فإن اليهود أرادوا إسقاط حجر عليك ليقتلوك فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الفور

__________________

(١) وكانت تسمى الزهرة وكان لها خمسة حصون.

وتبعه أصحابه وسقط في أيدي اليهود. وما إن رجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أعلن الخروج إلى بنى النضير فإنهم نقضوا عهدهم ووجب قتالهم فنزل بساحتهم وحاصرهم وجرت سفارة وانتهت بصلح يقضى بأن يجلو بنو النضير عن المدينة يحملون أموالهم على إبلهم دون السلاح ويلتحقوا بأذرعات بالشام فكان هذا أول حشر لهم إلى أرض المعاد والمحشر إلا أسرتين نزلتا بخيبر أسرة بنى الحقيق الذين منهم حيي ابن اخطب والد صفية زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهذه الغزوة بقية ستأتي عند قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآيات.

من هنا علمنا أن مال بنى النضير هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفاءه الله عليه فقال وما أفاء الله على رسوله منهم أي من بنى النضير. ولما طمع المؤمنون فيه قال تعالى ردا عليهم (فَما أَوْجَفْتُمْ (١) عَلَيْهِ) أى على أموال بنى النضير أي ما ركبتم إليه خيلا ولا إبلا ولا أسرعتم عدوا إليهم لأنهم في طرف المدينة فلم تتحملوا سفرا ولا تعبا ولا قتالا موتا وجراحات فلذا لا حق لكم فيها فإنها فيء وليست بغنائم. (وَلكِنَّ اللهَ (٢) يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بدون حروب ولا قتال فيفيء عليهم بمال الكفرة الذي هو مال الله فيرده على رسله ، وقد سلط الله حسب سنته في رسله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه بنى النضير فحاز المال بدون قتال ولا سفر فهو له دون غيره ينفقه كما يشاء ومع هذا فقد أنفقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يبق منه إلا قوت سنة لأزواجه رضى الله عنهن وأرضاهن. وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يمتنع منه قوى ، ولا يتعزز عليه شريف سرى.

وقوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ (٣) عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) أي من أموال أهل القرى التى ما فتحت عنوة ولكن صلحا فتلك الأموال تقسم فيئا على ما بيّن تعالى (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) أي قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم بنو هاشم وبنو المطلب. (وَالْيَتامى) الذين لا عائل لهم ، (وَالْمَساكِينِ) الذين مسكنتهم الحاجة (وَابْنِ السَّبِيلِ) وهو المسافر المنقطع عن بلاده وداره وماله. وعلة ذلك بينها تعالى بقوله : (كَيْ لا يَكُونَ) أي المال (دُولَةً) (٤) أي متداولا (بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ، ولا يناله الضعفاء والفقراء فمن الرحمة والعدل أن يقسم الفيء على هؤلاء الأصناف المذكورين وما لله فهو ينفق في المصالح العامة وكذلك ما للرسول بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والباقى للمذكورين ، وكذا خمس الغنائم فإنه يوزع على المذكورين في هذه الآية أما الأربعة أخماس فعلى المجاهدين.

__________________

(١) الإيجاف : ضرب من سير الخيل وهو سير سريع والمراد : الركض للإغارة و (الركاب) اسم جمع للإبل التي تركب.

(٢) في الكلام حذف اقتضاه الإيجاز إذ التقدير : ولكن الله سلط عليهم رسوله ، والله يسلط رسله على من يشاء.

(٣) هذه الآية بداية كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا فالأولى كانت بخاصة قسمة أموال بني النضير ، وأما هذه فهي في بيان حكم الفيء في الإسلام.

(٤) (دُولَةً) : ما يتداوله المتداولون ، والتداول : التعاقب في التصرف في شيء وأصبحت خاصة بتداول الأموال.

وقوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ) من مال وغيره (فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) أي من مال وغيره (فَانْتَهُوا) عنه واتقوا الله فلا تعصوه ولا تعصوا رسوله وأحذورا عقابه فإن الله شديد العقاب أي معاقبته قاسية شديدة لا تطاق فيا ويل من تعرض لها بالكفر والفجور والظلم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن مال بنى النضير كان فيئا خاصا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ أن الفئ وهو ما حصل عليه المسلون بدون قتال (١) وإنما بفرار العدو وتركه أو بصلح يتم بينه وبين المسلمين هذا الفئ يقسم على ما ذكر تعالى في هذه الآية إذ قال وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله ، وللرسول ، ولذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل. وأما الغنائم وهى ما أخذت عنوة بالقوة وسافر إليها المسلمون فإنها تخمّس خمس لله وللرسول ولذى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل يوزع بينهم بالسوية ، والاربعة الأخماس الباقية تقسم على المجاهدين الذين شاركوا في المعارك وخاضوها للراجل قسم وللفارس قسمان.

٣ ـ وجوب طاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتطبيق أحكامه والاستننان بسننه المؤكدة وحرمة مخالفته فيما نهى عنه أمته روى الشيخان ان ابن مسعود رضي الله عنه قال لعن الله الواشمات (٢) والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب كانت تقرأ القرآن فقالت بلغنى انك لعنت كيت وكيت. فقال : مالى لا ألعن من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله عزوجل؟ فقالت لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ، قال إن كنت قرأته فقد وجدته. أما قرأت قوله تعالى (وَما آتاكُمُ (٣) الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) قالت : بلى. قال : فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نهى عنه. أي الوشم الخ.

(لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ

__________________

(١) هذه المسألة خلافية بين الفقهاء وما في التفسير هو الذي عليه الأكثرون منهم وهو الراجح والله أعلم.

(٢) الوشم معروف ، ملعونة فاعلته والمفعول لها ، والتنمص نتف الشعر من الوجه والتفلج توسعة ما بين الأسنان بمنشار وغيره للتجمل بذلك.

(٣) الإيتاء : مستعار لتبليغ الأمر إليهم إذ جعل تشريعه وتبليغه كإيتاء شيء بأيديهم كقوله تعالى : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) إذ يريد التشريع الذي شرعه لهم في التوراة.

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

شرح الكلمات :

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) : أي هاجروا حال كونهم طالبين من الله رزقا يكفيهم ورضا منه تعالى.

(أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) : أي في إيمانهم حيث تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا ينصرون الله ورسوله.

(وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) : أي والأنصار الذين نزلوا المدينة وألفوا الإيمان بعد ما اختاروه على الكفر.

(مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل المهاجرين.

(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) : أي حسدا ولا غيظا.

(مِمَّا أُوتُوا) : أي مما أوتى إخوانهم المهاجرون من فيئ بنى النضير.

(وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) : أي في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتان فيطلق أحداهما ليزوجها مهاجرا.

(وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) : أي حاجة شديدة وخلّة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) : أي ومن يقه الله تعالى حرص نفسه على المال والبخل به.

(وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) : أي من بعد المهاجرين والأنصار من التابعين الى يومنا هذا فما بعد.

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) : أي حقدا أي انطواء على العداوة والبغضاء.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن فيء بنى النضير وتوزيع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فقال تعالى (لِلْفُقَراءِ) أي أعجبوا (١) أن يعطى فيء بنى النضير (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ) أي حال كونهم في خروجهم يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) أي رزقا يكف وجوههم عن المسآلة (وَرِضْواناً) من ربهم أي رضا عنهم لا يعقبه سخط. إذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعطى فيء بنى النضير للمهاجرين ولم يعط للأنصار إلا ما كان من أبى دجانة وسهل بن حنيف فقد ذكرا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاجة فأعطاهما. فتكلم المنافقون للفتنة وعابوا صنيع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية يعجب منهم الرسول والمؤمنين في إنكارهم على عطاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين دون الأنصار ، وهو قوله تعالى (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا) (٢) (مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي في إيمانهم إذ صدقوا القول بالعمل ، وما كان معتقدا باطنا أصبح عملا ظاهرا بهذه الأوصاف التى ذكر تعالى للمهاجرين أعطاهم الرسول من فيء بنى النضير. وأما الأنصار الذين لم يعطهم المال الزائل وهم في غير حاجة إليه فقد أعطاهم ما هو خير من المال. واسمع ثناءه تعالى عليهم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) (٣) أي المدينة النبوية (وَالْإِيمانَ) أي بوأوه قلوبهم وأحبوه وألفوه. (مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل نزول المهاجرين (٤) إلى المدينة (يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) من سائر المؤمنين الذين يأتون فرارا بدينهم ، (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً) أي حسدا ولا غيظا (مِمَّا أُوتُوا) أي مما أعطى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرين. (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) (٥) غيرهم من المهاجرين (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) أي حاجة شديدة وخلة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به ، وفي السيرة من عجيب إيثارهم العجب العجاب في أن الرجل يكون تحته امرأتان فيطلق إحداهما فإذا انتهت عدتها زوجها أخاه المهاجر فهل بعد هذا الإيثار من إيثار؟.

__________________

(١) وقيل : إنّ (لِلْفُقَراءِ) بيان لقوله : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ويكون : (لِلْفُقَراءِ) : قيدا لذي القربى بحيث لا يعطى منهم إلا الفقراء ، وهذا مردود ردّه الشافعي على أبي حنيفة ردا عنيفا.

(٢) (أُخْرِجُوا) : أي : أحوجهم المشركون إلى الخروج وكانوا مائة رجل كذا قال القرطبي.

(٣) (تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) لما كان التبوء يكون في الأماكن كان لا بد من تقدير لكملة الإيمان نحو : تبوءوا الدار والتزموا الإيمان أو ألفوا الإيمان على حد قولهم : علفتها تبنا وماء باردا. أي : وسقيتها ماء.

(٤) في العبارة تجوز أي : من قبل نزول أكثر المهاجرين أو من قبل نزول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة وهو سيد المهاجرين وسيد جميع العالمين.

(٥) أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة (أن رجلا بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته : نومي الصبيان وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك) فنزلت هذه الآية : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

وقوله تعالى (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) (١) أي من يقيه الله تعالى مرض الشح وهو البخل بالمال والحرص على جمعه ومنعه فهو في عداد المفلحين وقد وقى الأنصار هذا الخطر فهم مفلحون فهذا أيضا ثناء عليهم وبشرى لهم.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي من بعد المهاجرين الأولين والأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان (يَقُولُونَ) في دعائهم الدائم لهم (رَبَّنَا) أي يا ربنا (اغْفِرْ لَنا) أي ذنوبنا واغفر (وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) وهم المهاجرون والأنصار ، (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) بك وبرسولك (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي ذو رأفة بعبادك ورحمة بالمؤمنين بك فاستجب دعاءنا فاغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا لهم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان فضل المهاجرين والأنصار ، وأن حبهم إيمان وبغضهم كفران.

٢ ـ فضيلة الإيثار على النفس.

٣ ـ فضيلة إيواء المهاجرين ومساعدتهم على العيش في دار الهجرة المهاجرين الذين هاجروا في سبيل الله تعالى فرارا بدينهم ونصرة لإخوانهم المجاهدين والمرابطين.

٤ ـ خطر الشح وهو البخل بما وجب إخراجه من المال والحرص على جمعه من الحلال والحرام.

٥ ـ بيان طبقات المسلمين ودرجاتهم وهى ثلاثة بالإجمال :

١ ـ المهاجرون الأولون.

٢ ـ الأنصار الذين تبوءوا الدار «المدينة» وألفوا الإيمان.

٣ ـ من جاء بعدهم من التابعين وتابعي التابعين إلى قيام الساعة من أهل الإيمان والتقوى.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ

__________________

(١) ومما ورد في ذم الشح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم).

أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ) : أي ألم تنظر.

(نافَقُوا) : أي أظهروا الإيمان وأخفوا في نفوسهم الكفر.

(لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : أي يهود بني النضير.

(لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) : أي من دياركم بالمدينة.

(لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ) : أي نخرج معكم ولا نبقى بعدكم في المدينة.

(وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) : أي قاتلكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه.

(لَنَنْصُرَنَّكُمْ) : أي بالرجال والسلاح.

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) : أي فيما وعدوا به إخوانهم من بني النضير.

(وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) : أي وعلى فرض أنهم نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون المنافقون كاليهود سواء.

(لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ) : أي تالله لأنتم أشد خوفا في صدورهم.

(مِنَ اللهِ) : لأن الله تعالى يؤخر عذابهم وأنتم تعجلونه لهم.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ) : أي المنافقين.

(قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) : لظلمة كفرهم وعدم استعدادهم للفهم عن الله ورسوله.

(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) : أي لا يقاتلكم يهود بني النضير مجتمعين.

(إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) : أي بالأسوار العالية.

(أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) : أي من وراء المباني والجدران أما المواجهة فلا يقدرون عليها.

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) : أي العداوة بينهم شديدة والبغضاء أشد.

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) : أي مجتمعين.

(وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) : أي متفرقة خلاف ما تحسبهم عليه.

(بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) : إذ لو كانوا يعقلون لاجتمعوا على الحق ولا ما كفروا به وتفرقوا فيه فهذا دليل عدم عقلهم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن غزوة بني النضير فيقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَلَمْ تَرَ) أي تنظر (١) يا رسولنا إلى الذين نافقوا وهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة ومالك ابنا نوفل وسويد وداعس إذ بعثوا إلى بني النضير حين نزل بساحتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحربهم بعثوا إليهم أن اثبتوا وتمنعوا وإن قوتلتم قاتلنا معكم وإن أخرجتم خرجنا معكم غير أنهم لم يفوا لهم ولم يأتهم منهم أحد وقذف الله الرعب في قلوبهم فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة «السلاح» هذا معنى قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) (٢) (نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ) في الكفر من أهل الكتاب «يهود بني النضير» (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ) أي في نصرتكم والوقوف إلى جنبكم أحدا كائنا من كان (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ) أي قاتلكم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورجاله (لَنَنْصُرَنَّكُمْ. وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما قالوا لهم وفعلا لم يقاتلوا معهم ولم يخرجوا معهم كما خرجوا من ديارهم. وهو قوله تعالى (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا) (٣) (يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ) وعلى فرض أنهم نصروهم (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) هاربين من المعركة ، (ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) اليهود كالمنافقين سواء. وقوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين بأنهم أشد رهبة أي خوفا في صدور المنافقين من الله

__________________

(١) بعد ذكر ما حل ببني النضير من خزي وعذاب حيث اجلوا عن ديارهم تاركينها وراءهم وذكر ما أفاء الله على رسوله من أموالهم شرع تعالى في تعجيب رسوله والمؤمنين من حال المنافقين وما لحقهم من عار وشنار فقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ألم تر إلى الذين ...) الخ.

(٢) الاستفهام للتعجب والأخوة هي أخوة التلاقي في الكفر وفي بغض الإسلام ورسوله وأهله. فما هي بأخوة نسب ولا دين.

(٣) جملة (لَئِنْ أُخْرِجُوا.). الخ بيان لجمة : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

تعالى لأنهم يرون أن الله تعالى يؤجل عذابهم ، وأما المؤمنون فإنهم يأخذونهم بسرعة للقاعدة (من بدل دينه فاقتلوه) فإذا أعلنوا عن كفرهم وجب قتلهم وقتالهم.

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) (١) هذا بيان لجبنهم وخوفهم الشديد من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. إذ لو كانوا يفقهون لما خافوا العبد ولم يخافوا المعبود.

وقوله تعالى : (لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً) (٢) أي اليهود والمنافقون (إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بأسوار وحصون (أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ) أي في المباني ووراء الجدران. وقوله تعالى (بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) أي العداوة بينهم قوية والبغضاء شديدة (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً) في الظاهر وأنهم مجتمعون ولكن (وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) أي (٣) متفرقة لا تجتمع على غير عداوة الإسلام وأهله ، وذلك لكثرة أطماعهم وأغراضهم وأنانيتهم وأمراضهم النفسية والقلبية.

وقوله تعالى (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (٤) إذ لو كانوا يعقلون لما حاربوا الحق وكفروا به وهم يعملون فعرضوا أنفسهم لغضب الله ولعنته وعذابه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير حقيقة وهي أن الكفر ملة واحدة وأن الكافرين إخوان.

٢ ـ خلف الوعد آية النفاق وعلاماته البارزة.

٣ ـ الجبن والخوف صفة من صفات اليهود اللازمة لهم ولا تنفك عنهم.

٤ ـ عامة الكفار يبدون متحدين ضد الإسلام وهم كذلك ولكنهم فيما بينهم تمزقهم العداوات وتقطعهم الأطماع وسوء الأغراض والنيات.

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)

__________________

(١) الفقه : إدراك المعاني الدقيقة والأسرار الخفية في كلام أهل الحكمة وذوي البصيرة.

(٢) الجملة بدل اشتمال من جملة : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) أي : لا يقاتلكم اليهود مع المنافقين مجتمعين في جيش واحد وفي الآية تهديد ليهود بني قريظة أمّا بنو النضير فقد انتهى أمرهم.

(٣) (شَتَّى) : جمع شتيت : بمعنى مفارق كقتيل وقتلى.

(٤) (ذلِكَ) الإشارة إلى ما ذكر من عدم اتفاقهم وتفرّق قلوبهم ، والباء سببية ونفي العقل عنهم نفي للازمه وهو ما يقود إليه من النجاة والسعادة.

فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠))

شرح الكلمات :

(كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً) : أي مثل يهود بني النضير في ترك الإيمان ومحاربة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كمثل إخوانهم بني قينقاع والمشركين في بدر.

(ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : أي ذاقوا عاقبة كفرهم وحربهم لرسول الله ولهم عذاب أليم في الآخرة.

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ) : أي ومثلهم أيضا في سماعهم من المنافقين وخذلانهم لهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان.

(اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) : أي قال له الشيطان بعد أن كفره إنى برىء منك.

(وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) : أي خلودهما في النار أي الغاوي والمغوى ذلك جزاءهما وجزاء الظالمين.

(وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ) : أي لينظر كل أحد ما قدم ليوم القيامة من خير وشر.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ) : أي ولا تكونوا أيها المؤمنون كالذين نسوا الله فتركوا طاعته.

(فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) : أي فعاقبهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا خيرا قط.

(لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ) : أي لأن أصحاب الجنة فائزون بالسلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. وأصحاب النار خاسرون في جهنم خالدون ، فكيف يستويان؟

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) (١) هذه الآية (١٥) واللتان بعدها (١٦) و (١٧) في بقية الحديث عن بني النضير إذ قال تعالى مثل بني النضير في هزيمتهم بعد نقضهم العهد كمثل الذين من قبلهم في الزمان والمكان وهم بنو قينقاع إذ نقضوا عهدهم فأخرجهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أي عاقبة نقضهم وكفرهم في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) أي موجع شديد وقوله تعالى (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ) (٢) بوسائله الخاصة (فَلَمَّا كَفَرَ) الإنسان تبرأ منه الشيطان و (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) كذلك حال بني النضير مع المنافقين حيث حرضوهم على الحرب والقتال وواعدوهم أن يكونوا معهم ثم خذلوهم وتركوهم وحدهم.

وقوله تعالى : (فَكانَ عاقِبَتَهُما) أي عاقبة أمرهما (أَنَّهُما) أي الإنسان والشيطان أنهما (فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها ، وَذلِكَ) أي خلودهما في النار (جَزاءُ الظَّالِمِينَ) أي المشركين والفاسقين عن طاعة الله عزوجل.

وبعد نهاية قصة بني النضير نادى تعالى المؤمنين ليوجههم وينصح لهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي صدقوا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نبيّا ورسولا (اتَّقُوا اللهَ) بفعل أوامره ، واجتناب نواهيه ، (وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) (٣) (لِغَدٍ) أي ولينظر أحدكم في خاصة نفسه ماذا قدم لغد أي يوم القيامة. (وَاتَّقُوا اللهَ) ، أعاد الأمر بالتقوى لأن التقوى هى ملاك الأمر ومفتاح دار السّلام والسعادة ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يشجعهم على مراقبة الله تعالى والصبر عليها. وقوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) أي لا تكونوا كأناس تركوا العمل بطاعة الله وطاعة رسوله فعاقبهم ربهم بأن أنساهم أنفسهم فلم يعملوا لها خيرا وأصبحوا بذلك فاسقين عن أمر الله تعالى خارجين عن طاعته. وقوله تعالى (لا يَسْتَوِي (٤) أَصْحابُ النَّارِ

__________________

(١) هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم ، وحذف حرف العطف لأن الكلام معطوف على سابقه وهو (كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) الخ لأن حذف حرف العطف شائع تقول : أنت عاقل أنت كريم أنت كذا بلا حرف عطف.

(٢) هنا روى غير واحد من السلف حديثا يتضمن قصة تشرح هذه الآية الكريمة كمثل الشيطان إذ قال للإنسان .. الخ وهي أن راهبا تركت عنده أمرأه أصابها لمم ليدعو لها فزّين له الشيطان فوطئها فحملت ثم قتلها خوفا أن يفتضح فدل الشيطان قومها على موضعها فجاءوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه فجاءه الشييطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم فسجد له فتبرأ منه فأسلمه لقاتليه وتركه ، واسم هذا الراهب ، برصيصا.

(٣) أطلق لفظ الغد وأريد به يوم القيامة جريا على عادة العرب فإنهم يطلقون لفظ الغد كناية عن المستقبل ، وقيل إطلاق لفظ الغد هنا إشارة إلى قرب الساعة كما قال الشاعر :

فإن يك صدر هذا اليوم ولى

فإن غدا لناظره قريب

(٤) هذه الجملة : (لا يَسْتَوِي.). الخ تذييل لما سبقها وهي كالفذلكة لما تقدم من الأمر بتقوى الله عزوجل وبيان حال المتقين الذاكرين والناسين الفاسقين.

وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) ، أصحاب النار في الدركات السفلى ، وأصحاب الجنة في الفراديس العلا فكيف يستويان ، إذ أصحاب الجنة فائزون ، وأصحاب النار خاسرون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ضرب مثل لحال الكافرين في عدم الاتعاظ بحال غيرهم.

٢ ـ التحذير من سبل الشيطان وهي الإغراء بالمعاصي وتزيينها فاذا وقع العبد في الهلكة تبرأ الشيطان منه وتركه في محنته وعذابه.

٣ ـ وجوب التقوى بفعل الأوامر وترك النواهى.

٤ ـ وجوب مراقبة الله تعالى والنظر يوميا فيما قدم الإنسان للآخرة وما أخر.

٥ ـ التحذير من نسيان الله تعالى المقتضى لعصيانه فإن عقوبته خطيرة وهي أن ينسى الله العبد نفسه فلا يقدم لها خيرا قط فيهلك ويخسر خسرانا مبينا.

٦ ـ عدم التساوى بين أهل النار وأهل الجنة ، إذ أصحاب النار لم ينجو من المرهوب وهو النار ، ولم يظفروا بمرغوب وهو الجنة ، وأصحاب الجنة على العكس سلموا من المرهوب ، وظفروا بالمرغوب نجوا من النار ودخلوا الجنان.

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢) هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤))

شرح الكلمات :

(لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ) : أي وجعلنا فيه تميزا وعقلا وإدراكا.

(لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً) : أي لرأيت ذلك الجبل متشققا متطامنا ذليلا.

(مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) : أي من خوف الله خشية أن يكون ما أدى حقه من التعظيم.

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) (١) : أي مثل هذا المثل نضرب الأمثال للناس.

(لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) : أي يتذكرون فيؤمنون ويوحدون ويطيعون.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق الا هو عزوجل.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي عالم السر والعلانية.

(هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) : أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق الا هو لأنه الخالق الرازق المدبر وليس لغيره ذلك.

(الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) : أي الذي يملك كل شيء ويحكم كل شيء القدوس الطاهر المنزه عما لا يليق به.

(السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) : أي ذو السلامة من كل نقص الذي لا يطرأ عليه النقص المصدق رسله بالمعجزات. المهيمن : الرقيب الشهيد على عباده بأعمالهم.

(الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) : العزيز في انتقامه الجبار لغيره على مراده ، المتكبر على خلقه.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) : أي تنزيها لله تعالى عما يشركون من الآلهة الباطلة.

(هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) : أي هو الإله الحق لا غيره الخالق لكل المخلوقات المنشئ لها من العدم.

(الْمُصَوِّرُ) : أي مصور المخلوقات ومركبها على هيئات مختلفة.

(لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) : أي تسعة وتسعون اسما كلها حسنى في غاية الحسن.

(يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ينزهه ويسبحه بلسان القال والحال جميع ما في السموات والأرض.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في جميع تدبيره.

__________________

(١) هذه الجملة في الآيات تذييل لأنّ ما قبلها سيق مساق المثل فذيل بأن الأمثال التي يضربها الله تعالى في كلامه المراد منها أن يتفكر فيها الناس ليهتدوا إلى ما ينجيهم ويسعدهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ ..) (١) لما أمر تعالى في الآيات السابقة ونهى ووعظ وذكر بما لا مزيد عليه أخبر أنه لو أنزل هذا القرآن العظيم (عَلى جَبَلٍ) بعد أن خلق فيه إدراكا وتمييزا كما خلق ذلك في الإنسان لرؤى ذلك الجبل (خاشِعاً) ذليلا (مُتَصَدِّعاً) متشققا (مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) أي من الخوف من الله لعله قصّر في حق الله وحق كتابه ما أداهما على الوجه المطلوب ، وفي هذا موعظة للمؤمنين ليتدبروا القرآن ويخشعوا عند تلاوته وسماعه. ثم أخبر تعالى أنّ ما ضرب من أمثال في القرآن ومنها هذا المثل المضروب بالجبل. يقول نجعلها للناس رجاء أن يتفكروا فيؤمنوا ويهتدوا إلى طريق كمالهم وسعادتهم ثم أخبر تعالى عن جلاله وكماله بذكر أسمائه وصفاته فقال (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي لا معبود بحق إلا هو ، (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي السر والعلن والموجود والمعدوم والظاهر والباطن. (هُوَ الرَّحْمنُ) الذي وسعت رحمته كل شيء (الرَّحِيمُ) بعباده المؤمنين ، الملك الذي له ملك السموات والأرض والمدبر للأمر في الأرض والسماء ، (الْقُدُّوسُ) (٢) الطاهر المنزه عن كل نقص وعيب عن الشريك والصاحبة والولد. (السَّلامُ) ذو السلامة (٣) من كل نقص مفيض السّلام على من شاء من عباده. (الْمُؤْمِنُ) المصدق رسله بما آتاهم من المعجزات المصدق عباده المؤمنين فيما يشكون إليه مما أصابهم ، ويطلبونه ما هم في حاجة إليه من رغائبهم وحاجاتهم ، (الْمُهَيْمِنُ) على خلقه الرقيب عليهم المتحكم فيهم لا يخرج شيء من أعمالهم وتصرفاتهم عن إرادته وإذنه ، (الْعَزِيزُ) الغالب على أمره الذي لا يمانع فيما يريده. (الْجَبَّارُ) للكل (٤) على مراده وما يريده ، (الْمُتَكَبِّرُ) على كل خلقه وله الكبرياء في السموات والأرض والجلال والكمال والعظمة.

وقوله تعالى (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) نزه تعالى نفسه عما يشرك به المشركون من عبدة الأصنام والأوثان وغيرها من كل ما عبد من دونه سبحانه وتعالى (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) :

__________________

(١) (لَوْ) هذه حرف امتناع لامتناع أي : امتنع إنزال القرآن على جبل فامتنعت رؤيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، ولو حصل الأول لحصل الثاني.

(٢) لفظ القدوس : مشتق من القدس بلغة الحجاز وهو : السطل لأنه يتطهر به ، ومنه القادوس لواحد الأواني التي يستخرج بها الماء للتطهر وغيره قال ثعلب اللغوي : كل اسم على وزن فعول فهو مفتوح الأول نحو سعود ، وكلوب ، وتنور إلا السبوح والقدوس فإن الضم فيها أكثر من الفتح.

(٣) لاسم السّلام ثلاث معان صادقة : منها ذو السلامة كما في التفسير ومنها ذو السّلام : أي المسلم على عباده في الجنة :

ومنها الذي سلم من كل عيب وبرىء من كل نقص.

(٤) (الْجَبَّارُ) : قال ابن عباس : هو العظيم وجبروت الله : عظمته وهو على هذا القول صفة ذات من قولهم : نخلة جبارة. قال الشاعر :

سوامق جبّار أثيث فروعه

وعالين قنوانا من البسر أحمرا

السوامق : مرتفعات ، وأثيث : الملتف : والقنوان : العذق.

المقدر للخلق الباريء له (الْمُصَوِّرُ) له في الصورة التى أراد أن يوجده عليها. (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) وهي مائة اسم الا اسما واحدا كما أخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صحيح البخارى وأسماؤه متضمنة صفاته وكل أسمائه حسنى وكل صفاته عليا منزه عن صفات المحدثين (يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من مخلوقات وكائنات أي ينزهه ويقدسه عما لا يليق به ويدعوه ويرغب إليه في بقائه وكمال حياته. (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الغالب على أمره الحكيم في تدبير ملكه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما حواه القرآن من العظات والعبر ، والأمر والنهى والوعد والوعيد الأمر الذي لو أن جبلا ركب فيه الإدراك والتمييز كالإنسان ونزل عليه القرآن لخشع وتصدع من خشية الله.

٢ ـ استحسان ضرب الأمثال للتنبيه والتعليم والإرشاد.

٣ ـ تقرير التوحيد ، وأنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

٤ ـ إثبات أسماء الله تعالى ، وأنها كلها حسنى ، وأنها متضمنة صفات عليا.

٥ ـ ذكر أسمائه تعالى تعليم لعباده بها ليدعوه بها ويتوسلوا بها إليه.

سورة الممتحنة (١)

مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١) إِنْ

__________________

(١) قال القرطبي : المشهور في اسم هذه السورة أنه الممتحنة بكسر الحاء اسم فاعل ، وهو الذي جزم به السّهيلي ، والمراد من الممتحنة الآية التي في هذه السورة إذ بها تمتحن المرأة التي تجيء مهاجرة من بلادها وتترك زوجها. والآية هي قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ) الخ ورجح الحافظ ابن حجر فتح الحاء باسم المفعول أي : المرأة الممتحنة.

يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣))

شرح الكلمات :

(لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) : أي الكفار والمشركين.

(أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) : أي لا تتخذوهم أنصارا توادونهم.

(وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) : أي الإسلام عقيدة وشريعة.

(يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) : أي بالتضييق عليكم حتى خرجتم فارين بدينكم.

أن تؤمنوا بربكم : أي لأجل أن آمنتم بربكم.

(إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) : فلا تتخذوهم أولياء ولا تبادلوهم المودة.

(تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) : أي توصلون إليهم خبر خروج الرسول لغزوهم بطريقة سرية.

(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) : أي ومن يوادهم فينقل إليهم أسرار النبي في حروبه وغيرها.

(فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) : أي أخطأ طريق الحق الجادة الموصلة إلى الإسعاد.

(إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) : أي أن يظفروا بكم متمكنين منكم في مكان ما.

(يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً) : أي لا يعترفون لكم بمودة.

(وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) : أي بالضرب والقتل.

(وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) : أي بالسب والشتم.

(وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) : أي وأحبوا لو تكفرون بدينكم ونبيكم وتعودون إلى الشرك معهم.

(لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) : أي إن توادوهم وتسروا إليهم بالأخبار الحربية تقربا إليهم من أجل أن يراعوا لكم أقرباءكم وأولادكم المشركين بينهم فاعلموا أنكم لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة.

(يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) : أي فتكونون في الجنة ويكون المشركون من أولاد وأقرباء وغيرهم في النار.

معنى الآيات :

فاتحة هذه السورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي (١) وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ..). الآيات. نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة وكان من المهاجرين الذين شهدوا بدرا روى مسلم في صحيحه عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد فقال ائتوا روضة خاخ «موضع بينه وبين المدينة اثنا عشر ميلا» فإن بها ظعينة «امرأة مسافرة» (٢) معها كتاب فخذوه منها فانطلقنا نهادى خيلنا أي نسرعها فإذا نحن بامرأة فقلنا أخرجي الكتاب ، فقالت ما معي كتاب. فقلنا لتخرجن الكتاب ، أو لتلقنّ الثياب (٣) «أي من عليك» فأخرجته من عقاصها أي من ظفائر شعر رأسها فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا به من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا حاطب ما هذا؟ فقال لا تعجل عليّ يا رسول الله إنى كنت امرءا ملصقا في قريش «أي كان حليفا لقريش ولم يكن قرشيا» وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام وقد علمت أن الله ينزل بهم بأسه وإن كتابي لا يغنى عنهم من الله شيئا ، وأن الله ناصرك عليهم. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صدق. فقال عمر رضي الله عنه دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فأنزل الله عزوجل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من صدقتم الله ورسوله (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) من الكفار والمشركين (أَوْلِياءَ) أي أنصارا (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ (٤) بِالْمَوَدَّةِ) أي أسرار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الحربية ذات الخطر والشأن. والحال أنهم (قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ) الذي هو دين الإسلام بعقائده وشرائعه وكتابه ورسوله. (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ) من (٥) دياركم بالمضايقة لكم حتى هاجرتم فارين بدينكم ، (أَنْ تُؤْمِنُوا (٦) بِاللهِ رَبِّكُمْ) أي من أجل أن آمنتم بربكم ، أمثل هؤلاء الكفرة الظلمة تتخذونهم أولياء تدلون إليهم بالمودة .. إنه لخطأ جسيم

__________________

(١) العدو : ذو العداوة وهو فعول بمعنى فاعل من عدا يعدو وأصله مصدر على وزن فعول مثل قبول ، ولما كان على وزن المصادر عومل معاملة المصدر فاستوى في الوصف به المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث.

(٢) تسمى سارة مولاة لأبي عمرو بن صيغر بن هاشم بن عبد مناف وهي يومئذ مشركة.

(٣) في رواية ، أو لتلقين الثياب أي : لنجردنك من ثيابك.

(٤) جائز أن تكون جملة : (تُلْقُونَ) في محل نصب على الحال من ضمير (لا تَتَّخِذُوا) والإلقاء حقيقته : رمي ما في اليد على الأرض ، واستعير لإلقاء الشيء بدون تدبر في موقعه أي : تصرفون إليهم مودتكم بدون تأمل في آثارها الضارة.

(٥) الجملة : حال من الضمير في كفروا وحكيت بالمضارع لاستحضار الصورة البشعة في الذهن.

(٦) أي : لأن تؤمنوا بالله ربكم علة وسبب إخراجهم إياكم من دياركم أي : هو اعتداء حملهم عليه أنكم آمنتم بالله ربكم.

ممن فعل هذا.

وقوله تعالى : (إِنْ (١) كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) أي إن كنتم خرجتم من دياركم مجاهدين في سبيلي أي لنصرة ديني ورسولي وأوليائي المؤمنين وطلبا لرضاي فلا تتخذوا الكافرين أولياء من دوني تلقون إليهم بالمودة.

وقوله تعالى (تُسِرُّونَ (٢) إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أي تخفون المودة إليهم بنقل أخبار الرسول السرية والحال أني (أَعْلَمُ) منكم ومن غيركم (بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ). وها قد أطلعت رسولي على رسالتكم المرفوعة إلى مشركي مكة والتى تتضمن فضح سر رسولي في عزمه على غزوهم مفاجأة لهم حتى يتمكن من فتح مكة بدون كثير إراقة دم وإزهاق أنفس.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي الولاء والمودة للمشركين (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي اخطأ وسط الطريق المأمون من الانحراف يريد جانب الإسلام الصحيح.

وقوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) أي أنهم أعداؤكم حقا إن يثقفوكم أي يظفروا بكم متمكنين منكم يكونوا لكم أعداء ولا يبالون بمودتكم إياهم ، ويبسطوا إليكم أيدهم بالضرب والقتل وألسنتهم بالسب والشتم وتمنوا كفركم لتعودوا إلى الشرك مثلهم.

وقوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) (٣) الذين واددتم الكفار من أجلهم من عذاب الله في الآخرة إذ حاطب كتب الكتاب من أجل قرابته وأولاده فبين تعالى خطأ حاطب في ذلك.

وقوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) بأن تكونوا في الجنة أيها المؤمنون ويكون أقرباؤكم وأولادكم المشركون في النار. فما الفائدة إذا من المعصية من أجلهم؟! (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فراقبوه واحذروه فلا تخرجوا عن طاعته وطاعة رسوله.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة موالاة الكافرين بالنصرة والتأييد والمودة دون المسلمين.

__________________

(١) هذه الجملة شرطية ذيّل بها النهي : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي) والغرض هو تأكيد الكلام السابق.

(٢) الجملة بيانية لسابقتها ، وجملة : (وَأَنَا أَعْلَمُ) حالية فيها معنى التعجب بضميمة التي قبلها.

(٣) (لَنْ تَنْفَعَكُمْ.). الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا إذ الذي يسمع جملة : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) بتطلع إلى ما يترتب على الكفر فيجاب بجملة : لن تنفعهم أرحامهم ولا أولادهم ولو في قوله : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) مصدرية أي : ودوا كفركم.

٢ ـ الذي ينقل أسرار المسلمين الحربية الى الكافرين على خطر عظيم وإن صام وصلى.

٣ ـ بيان أن الكافرين لا يرحمون المؤمنين متى تمكنوا منهم لأن قلوبهم عمياء لا يعرفون معروفا ولا منكرا بظلمة الكفر في نفوسهم وعدم مراقبة الله عزوجل لأنهم لا يعرفونه ولا يؤمنون بما عنده من نعيم وجحيم يوم القيامة.

٤ ـ فضل أهل بدر وكرامتهم على الله عزوجل.

٥ ـ قبول عذر الصادقين الصالحين ذوى السبق في الإسلام إذا عثر أحدهم اجتهادا منه.

٦ ـ عدم انتفاع المرء بقرابته يوم القيامة إذا كان مسلما وهم كافرون.

(قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦))

شرح الكلمات :

قد كان لكم : أي أيها المؤمنون.

(أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : أي قدوة صالحة.

(فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) : من المؤمنين فأتسوا بهم.

(إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ) : أي المشركين.

(إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : أي نحن متبرئون منكم ، ومن أوثانكم التي تعبدونها.

(كَفَرْنا بِكُمْ) : أي جحدنا بكم فلم نعترف لكم بقرابة ولا ولاء.

(وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) : أي ظهر ذلك واضحا جليا لا لبس فيه ولا خفاء.

(حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) : أي ستستمر عداوتنا لكم وبغضنا إلى غاية إيمانكم بالله وحده.

(وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) : أي رجعنا في أمورنا كلها.

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : أي بأن تظهرهم علينا فيفتنوننا في ديننا ويفتتنون بنا يرون أنهم على حق لما يغلبوننا.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : أي لقد كان لكم أيها المؤمنون في إبراهيم والذين معه أسوة حسنة.

(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) : أي هي أسوة حسنة لمن كان يؤمن بالله ويرجو ما عنده يوم القيامة.

(وَمَنْ يَتَوَلَ) : أي لم يقبل ما أرشدناه إليه من الإيمان والصبر فيعود إلى الكفر.

فإن الله غني حميد : أي فإن الله ليس في حاجة إلى إيمانه وصبره فإنه غنى بذاته لا يفتقر إلى غيره ، حميد أي محمود بآلائه وإنعامه على عباده.

معنى الآيات :

لما حرم تعالى على المؤمنين موالاة الكافرين مع وجود حاجة قد تدعو إلى موالاتهم كما جاء ذلك في اعتذار حاطب بن أبي بلتعة أراد تعالى أن يشجعهم على معاداة الكافرين وعدم موالاتهم بحال من الأحوال لما في ذلك من الضرر والخطر على العقيدة والصلة بالله وهي أعز ما يملك المؤمنون أعلمهم بأنه يوجد لهم (١) أسوة أي قدوة حسنة في إبراهيم خليله والمؤمنين معه (٢) فإنهم على قلتهم وكثرة عدوهم وعلى ضعفهم وقوة خصومهم تبرأوا من أعداء الله وتنكروا لأية صلة تربطهم بهم فقالوا ما قص الله تعالى عنهم في قوله (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) «من أصنام وأوثان» (كَفَرْنا بِكُمْ) فلم نعترف لكم بوجود يقتضى مودتنا ونصرتنا لكم ، (وَبَدا) أي ظهر (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ) (٣) (الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ) بصورة مكشوفة لا ستار عليها لأننا موحدون وأنتم مشركون ،

__________________

(١) قرأ نافع إسوة بكسر الهمزة ، وقرأها حفص بالرفع وهي القدوة الصالحة.

(٢) هم : سارة زوجه ولوط ابن أخيه فهم المعنيون بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ مَعَهُ).

(٣) العداوة : هي المعاملة بالسوء والاعتداء والبغضاء نفرة النفس والكراهية للمبغض.

لأننا مؤمنون وأنتم كافرون ، وسوف تستمر هذه المعاداة وهذه البغضاء بيننا وبينكم (حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ربا وإلها لا ربّ غيره ولا إله سواه إذا فأتسوا أيها المسلمون بإمام الموحدين إبراهيم اللهم إلا ما كان من استغفار ابراهيم لأبيه فلا تأتسوا به ولا تستغفروا لموتاكم المشركين فإن ابراهيم قد ترك ذلك لما علم أن أباه لا يؤمن وأنه يموت كافرا وأنه في النار فقال تعالى (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ (١) لِأَبِيهِ) «آزر» (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي غير الاستغفار. وكان هذا عن وعد قطعه له ساعة المفارقة له إذ قال في سورة مريم : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) وجاء في سورة التوبة قوله تعالى (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وقوله تعالى (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي رجعنا من الكفر إلى الإيمان بك وتوحيدك في عبادتك ، (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). أي مصير كل شيء يعود إليك وينتهى عندك فتقضى وتحكم بما تشاء. (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً (٢) لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي لا تظهرهم علينا فيفتنونا في ديننا ويردونا إلى الكفر ، ويفتنون بنا فيرون أنهم لما غلبونا أنهم على حق ونحن على باطل فيزدادون كفرا ولا يؤمنون.

(وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا) أي ذنوبنا السالفة واللاحقة فلا تؤاخذنا بها (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الغالب المنتقم ممن عصاك (الْحَكِيمُ) في تدبيرك لأوليائك فدبر لنا ما ينفعنا ويرضيك عنا. هذا الابتهال والضراعة من قوله تعالى (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) إلى (الْحَكِيمُ) من الجائز أن يكون هذا مما قاله إبراهيم والمؤمنون معه وأن يكون إرشادا من الله للمؤمنين أن يقولوه تقوية لإيمانهم وتثبيتا لهم عليه كما فعل ذلك إبراهيم ومن معه. وقوله تعالى (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ (٣) أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) تأكيد لما سبق وتقرير له وتحريك للهمم لتأخذ به. وقوله (لِمَنْ (٤) كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) إذ هم الذين ينتفعون بالعبر ويأخذون بالنصائح لحياة قلوبهم بالإيمان.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي عن الأخذ بهذه الأسوة فيوالى الكافرين فإن الله غني عن إيمانه وولايته له التي استبدلها بولاية أعدائه حميد أي محمود بآلائه وإنعامه على خلقه.

__________________

(١) الاستثناء منقطع إذ هذا القول ليس من جنس قولهم : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) إذ قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك هو رفق بأبيه وهو مغاير للتبرؤ.

(٢) الفتنة : اضطراب الحال وفساده ، ومعنى الآية : سؤال الله تعالى أن لا يجعلهم فتنة للذين كفروا أي : أن لا يسلط عليهم الذين كفروا حتى لا يفتنوهم في دينهم ويجوز أن يكون فتنة : اسم فاعل أي : لا تجعلنا بضعفنا فاتنين لهم صارفين لهم عن الإسلام كما هو في التفسير وهو واضح غاية الوضوح.

(٣) (فِيهِمْ) : أي في ابراهيم والمؤمنين معه ، والأسوة الحسنة : القدوة الصالحة أي : اقتدوا بهم في البراءة من الشرك والمشركين.

(٤) هذه الجملة بدل من جملة : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.) ..

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الاقتداء بالصالحين في الإيتساء بهم في الصالحات.

٢ ـ حرمة موالاة الكافرين ووجوب معاداتهم ولو كانوا أقرب قريب.

٣ ـ كل عداوة وبغضاء تنتهى برجوع العبد إلى الإيمان والتوحيد بعد الكفر والشرك.

٤ ـ لا يجوز الاقتداء في غير الحق والمعروف فإذا أخطأ العبد الصالح فلا يتابع على الخطأ.

٥ ـ وجوب تقوية المؤمنين بكل أسباب القوة لأمرين الأول خشية أن يغلبهم الكافرون فيفتنوهم في دينهم ويردوهم إلى الكفر والثاني حتى لا يظن الكافرون الغالبون أنهم على حق بسبب ظهورهم على المسلمين فيزدادوا كفرا فيكون المسلمون سببا في ذلك فيأثمون للسببية في ذلك.

(عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧) لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩))

شرح الكلمات :

(عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) : أي من كفار قريش بمكة طاعة لله واستجابة لأمره.

(مَوَدَّةً) : أي محبة وولاء وذلك بأن يوفقهم للإيمان والإسلام فيؤمنوا ويسلموا ويصبحوا أولياءكم.

(وَاللهُ قَدِيرٌ) : أي على ذلك وقد فعل فأسلم بعد الفتح أهل مكة إلا قليلا منهم.

(لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) : أي من أجل الدين.

(أَنْ تَبَرُّوهُمْ) : أي تحسنوا إليهم.

(وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) : أي تعدلوا فيهم فتنصفوهم

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) : أي المنصفين العادلين في أحكامهم ومن ولوا.

(وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ) : أي عاونوا وناصروا العدو على إخراجكم من دياركم.

(أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) : أي تتولهم بالنصرة والمحبة.

(فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) : لأنهم وضعوا الولاية في غير موضعها ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في بيان حكم الموالاة للكافرين فإنه لما حرم تعالى ذلك ، وكان للمؤمنين قرابات كافرة وبحكم إيمانهم واستجابتهم لنداء ربهم قاطعوهم فبشّرهم تعالى في هذه الآية الكريمة بأنه عزوجل قادر على أن يجعل بينهم وبين أقربائهم مودة فقال عز من قائل (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي من المشركين (مَوَدَّةً) (١). وذلك بأن يوفقهم للإسلام ، وهو على ذلك قدير وقد فعل وله الحمد والمنة فقد فتح على رسوله مكة وبذلك آمن أهلها إلا قليلا فكانت المودة وكان الولاء والإيخاء مصداقا لقوله عزوجل عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة (وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقد تاب عليهم بعد أن هداهم وغفر لهم ما كان منهم من ذنوب ورحمهم.

وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ (٢) الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) بمضايقتكم أن تبروهم أي بالإحسان إليهم بطعام (٣) أو كسوة أو إركاب وتقسطوا أي تعدلوا فيهم بأن تنصفوهم وهذا عام في كل الظروف الزمانية والمكانية وفي كل الكفار. ولكن بالشروط التى ذكر تعالى. وهي :

أولا : أنهم لم يقاتلونا من أجل ديننا.

__________________

(١) هذا بعد أن يسلم الكافرون ويوحد المشركون وفعلا فقد أسلم قوم منهم بعد فتح مكة ووالاهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام ومن مظاهر هذه المودة تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأم حبيبة بنت أبي سفيان وبذلك لانت عريكة أبي سفيان واسترخت شكيمته في العداوة حتى إنه لما بلغه تزوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها قال : ذلك الفحل لا يقدح أنفه أي : لا يضرب أنفه ، وهي كلمة مدح.

(٢) اختلف في هل هذه الآية محكمة أو منسوخة بقتال المشركين؟ والذي عليه أكثر أهل العلم سلفا وخلفا أنها محكمة بما ذكر فيها من شروط وأن العمل بها باق ببقاء الإسلام كما هو في التفسير.

(٣) روى البخاري ومسلم وأبو داود أن قتيلة أم أسماء بنت أبي بكر الصديق قدمت عليها أمها في فترة الهدنة بين الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين وأهدتها قرطا وأشياء فكرهت أن تقبل ذلك فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له ذلك فأذن لها في قبول هدية أمها واستأذنته في صلتها؟ فقال لها صلي أمك.

وثانيا : لم يخرجونا من ديارنا بمضايقتنا وإلجائنا إلى الهجرة.

وثالثا : أن لا يعاونوا عدوا من أعدائنا بأي معونة ولو بالمشورة والرأي فضلا عن الكراع والسلاح.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ترغيب لهم في العدل والانصاف حتى مع الكافر وقوله تعالى (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) عن موالاة الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا أي أعانوا (عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) أي ينهاكم عن موالاتهم. (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) منكم معرضا عن هذا الإرشاد الإلهي والأمر الرباني (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي لأنفسهم المتعرضون لعذاب الله ونقمته لوضعهم الموالاة في غير موضعها بعد ما عرفوا ذلك وفهموه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم الموالاة الممنوعة والمباحة في الإسلام.

٢ ـ الترغيب في العدل والإنصاف بعد وجوبهما للمساعدة على القيام بهما.

٣ ـ تقرير ما قال أهل العلم : أن عسى من الله تفيد وقوع ما يرجى بها ووجوده لا محالة. بخلافها من غير الله فهي للترجى والتوقع وقد يقع ما يترجى بها وقد لا يقع.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١))

شرح الكلمات :

(إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) : أي المؤمنات بألسنتهن مهاجرات من الكفار.

(فَامْتَحِنُوهُنَ) : أي اختبروهن بالحلف أنهن ما خرجن الا رغبة في الإسلام لا بغضا لأزواجهن ، ولا عشقا لرجال من المسلمين.

(فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) : أي صادقات في إيمانهن بحسب حلفهن.

(فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) : أي لا تردوهن إلى الكفار بمكة.

(لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) : لا المؤمنات يحللن لأزواجهن الكافرين ، ولا الكافرون يحلون لأزواجهم المؤمنات.

(وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) : أي وأعطوا الكفار أزواج المؤمنات المهاجرات المهور التى أعطوها لأزواجهم.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : أي مهورهن ، وإن لم يتم طلاق من أزواجهن لانفساخ العقد بالإسلام. وبعد انقضاء العدة في المدخول بها وباقى شروط النكاح.

(وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) : أي زوجاتكم ، لقطع إسلامكم للعصمة الزوجية. وكذا من ارتدت ولحقت بدار الكفر. إلا أن ترجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدتها فلا يفسخ نكاحها وتبقى العصمة إن كان مدخولا بها.

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) : أي أطلبوا ما أنفقتم عليهن من مهور في حال الارتداد.

(وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) : أي على المهاجرات من مهور في حال إسلامهن.

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ) : أي بأن فرت امرأة أحدكم إلى الكفار ولحقت بهم ولم يعطوكم مهرها فعاقبتم أي الكفار فغنمتم منهم غنائم.

(فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) : أي فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار مثل ما أنفقوا عليهن من مهور.

(وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) : أي وخافوا الله الذي أنتم به مؤمنون فأدوا فرائضه واجتنبوا نواهيه.

معنى الآيتين :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ) الآيتين (١٠) و (١١) نزلتا بعد صلح الحديبية إذ تضمنت وثيقة الصلح أن من جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة من الرجال رده إلى مكة ولو كان مسلما ، ومن جاء المشركين من المدينة لم يردوه إليه ولم ينص عن النساء ، وأثناء ذلك جاءت أم كلثوم بنت عقبة (١) بن أبي معيط مهاجرة من مكة إلى المدينة فلحق بها أخواها عمار (٢) والوليد ليردّاهما إلى قريش فنزلت هذه الآية الكريمة فلم يردها عليهما صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٣) أي يا من آمنتم بالله ربا وإلها وبمحمد نبيّا ورسولا والإسلام دينا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام (فَامْتَحِنُوهُنَ) (٤) (اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ ـ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَ) أي غلب على ظنكم أنهن (مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) وصورة الامتحان أن يقال لها احلفى بالله أي قولي بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت إلا رغبة في الإسلام لا بغضا لزوجي ، ولا عشقا لرجل مسلم.

وقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) لأن الإسلام فصم تلك العصمة التي كانت بين الزوج وزوجته ، إذ حرم الله نكاح المشركات ، وإنكاح المشركين ، ولذا لم يأذن الله تعالى في ردهن إلى أزواجهن الكافرين.

وقوله تعالى (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) إذا جاء زوجها المشرك يطالب بها أعطوه ما أنفق عليها من مهر والذي يعطيه هو جماعة المسلمين وإمامهم.

وقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي تتزوجهن (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي مهورهن مع باقي شروط النكاح من ولي وشاهدين وانقضاء العدة في المدخول بها.

وقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) أي إذا أسلم الرجل وبقيت امرأته مشركة انقطعت عصمة الزوجية وأصبحت لا تحل لزوجها الذي أسلم ، وكذا إذا ارتدت امرأة مسلمة

__________________

(١) وكذلك جاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي ، وجاءت أميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشمراخ ، فجاء أزواجهن مطالبين بهن فقال زوج سبيعة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تجف بعد فنزلت هذه الآية.

(٢) ذكر القرطبي أن أخوي أم كلثوم أتيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أختهما مهاجرين وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردهما على المشركين ولم يرد أختهما أم كلثوم وكانت تحت عمرو بن العاص وهو مشرك يومئذ ، وذكر ابن كثير : أن أخوي أم كلثوم وفدا يطالبان بأختهما لا مهاجرين وهذا الظاهر.

(٣) لما كانت المعاهدة لم تنص على النساء بلفظ صريح وهو لفظ أحد وهو صالح للرجال والنساء نزلت هذه الآية مخرجة للنساء من عموم لفظ (أحد) فالآية مبينة أو ناسخة والكل صالح.

(٤) اختلف في صيغة الامتحان فقال ابن عباس : كانت المحنة أن تستحلف بالله أنها ما خرجت من بغض زوجها ولا رغبة عن أرض إلى أرض ولا التماس دنيا ولا عشقا لرجل منا بل حبا لله ورسوله فإن حلفت على ذلك ، أعطى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها.

ولحقت بدار الكفر فإن العصمة قد انقطعت ، ولا يحل الإمساك بها وفائدة ذلك لو كان تحت الرجل نسوة له أن يزيد رابعة لأن التي ارتدت أو التي كانت مشركة واسلم وهي في عصمته لا تمنعه من أن يتزوج رابعة لأن الإسلام قطع العصمة لقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر والعصم جمع عصمة.

وقوله تعالى : (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) اطلبوا من المرتدة ما أنفقتم عليها من مهر يؤدى لكم (وَلْيَسْئَلُوا) هم (ما أَنْفَقُوا) وأعطوهم ايضا مهور نسائهم اللائي أسلمن وهاجرن إليكم وقوله تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه وحاجاتهم (حَكِيمٌ) في قضائه وتدبيره فليسلم له الحكم وليرض به فإنه قائم على أساس المصلحة للجميع.

وقوله تعالى (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا) (١) (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي وإن ذهب بعض نسائكم إلى الكفار مرتدات ، وطالبتم بالمهور فلم يعطوكم ، ثم غزوتم وغنمتم فأعطوا من الغنيمة قبل قسمتها الذي ذهبت زوجته إلى دار الكفر ولم يحصل على تعويض أعطوه مثل ما أنفق. وقوله : (وَاتَّقُوا (٢) اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي خافوا عقابه فأطيعوه في أمره ونهيه ولا تعصوه.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب امتحان المهاجرة فإن علم اسلامها لا يحل إرجاعها الى زوجها الكافر لأنها لا تحل له ، واعطاؤه ما أنفق عليها من مهر. ويجوز بعد ذلك نكاحها بمهر وولي وشاهدين إن كانت مدخولا بها فبعد انقضاء عدتها وإلا فلا حرج في الزواج بها فورا.

٢ ـ حرمة نكاح المشركة.

٣ ـ لا يجوز الإبقاء على عصمة الزوجة (٣) المشركة ، وللزوج المسلم الذي بقيت زوجته على الكفر ، أو ارتدت بعد إسلامها أن يطالب بما أنفق عليها من مهر وللزوج الكافر الذي أسلمت زوجته وهاجرت ان يسأل كذلك ما أنفق عليها.

٤ ـ ومن ذهبت زوجته ولم يردّ عليه شيء مما أنفق عليها ، ثم غزا المسلمون تلك البلاد وغنموا

__________________

(١) (عاقبتم) أي : غزوتم فغنمتم فأعطوا الذين ذهبت أزواجهم من المسلمين. حكى الثعلبي : عن ابن عباس أن ستا من النسوة رجعن عن الإسلام ولحقن بالمشركين وسماهن واحدة واحدة وأكرمهن : أم الحكم بنت أبي سفيان وفي هذه نزلت الآية.

(٢) الجملة تذييلية المراد منها تحريض المؤمنين على الوفاء بما أمروا به ونهوا عنه واتبع اسم الجلالة بجملة (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) إشارة إلى أن الإيمان يبعث على التقوى التي هي : امتثال واجتناب.

(٣) اختلف في الرجل يسلم وتحته كافرة أو كافرة تسلم وهي تحت زوج كافر. والذي عليه الشافعي وأحمد أن العصمة تبقى مدة العدة فإذا انقضت العدة ولم يسلم الكافر منهما يفرق بينهما ولا يحلان لبعضهما. وقال مالك : يفرق بينهما من يوم إسلام أحدهما.

فإن من ذهبت زوجته ولم يعوض عنها يعطى ما أنفقه من الغنيمة قبل قسمتها. وإن لم تكن غنيمة فجماعة المسلمين وإمامهم يساعدونه ببعض ما أنفق من باب التكافل والتعاون.

٥ ـ وجوب تقوى الله تعالى بتطبيق شرعه وانفاذ أحكامه والرضا بها.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

شرح الكلمات :

(إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) : أي يوم الفتح والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الصفا وعمر أسفل منه.

(فَبايِعْهُنَ) : أي على أن لا يشركن بالله شيئا إلى ولا يعصينك في معروف.

(أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ) : أي أي شيء من الشرك أو الشركاء.

(وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) : أي كما كان أهل الجاهلية يقتلون البنات وأدا لهن.

(وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ) : أي بكذب يكذبنه فيأتين بولد ملقوط وينسبنه الى الزوج وهو ليس بولده.

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) : أي ما عرفه الشرع صالحا حسنا فأمر به وانتدب إليه. أو ما عرفه الشرع منكرا محرما.

(فَبايِعْهُنَ) : أي اقبل بيعتهن.

(وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) : أي أطلب الله تعالى لهن المغفرة لما سلف من ذنوبهن وما قد يأتي.

(قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) : أي اليهود.

(قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) : أي من ثوابها مع إيقانهم بها ، وذلك لعنادهم النبي مع علمهم بصدقه.

(كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) : أي كيأس من سبقهم من اليهود الذين كفروا بعيسى وماتوا على ذلك فهم أيضا قد يئسوا من ثواب الآخرة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) إلى قوله (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذه آية بيعة النساء ، فقد بايع عليها رسول الله (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم نساء قريش يوم الفتح وهو جالس على الصفاء وعمر دونه أسفل منه ، وهو يبايع ، وطلب إليه أن يمد يده فقال إنّي لا أصافح النساء فبايعهن (عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ (٢) بِاللهِ شَيْئاً) أي من الشرك أو الشركاء (وَلا يَسْرِقْنَ ، وَلا يَزْنِينَ ، وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) كما كان نساء الجاهلية يئدن بناتهن (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) أي كذب (يَفْتَرِينَهُ) أي يكذبنه (بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) أي لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهن ، (وَلا يَعْصِينَكَ فِي) (٣) (مَعْرُوفٍ) بصورة عامة وفي النياحة بصورة خاصة إذ كان النساء في الجاهلية ينحن على الأموات ويشققن الثياب ويخدشن الوجوه قال تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ ، وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ ، وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ، فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ) فيما مضى من ذنوبهن وما قد يأتي (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من صدقتم الله ورسوله (لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) وهم اليهود لا تتولوهم بالنصرة والمحبة و (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ) أي من ثواب الله فيها بدخول الجنة وذلك لعنادهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكفرهم به مع علمهم أنه رسول الله ومن كفر به وكذبه أو عانده وحاربه لا يدخل الجنة فلذا هم آيسون من دخول الجنة. وقوله تعالى (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ (٤)

__________________

(١) في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : (كان المؤمنات إذا هاجرن إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمتحن بقول الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ ..). الخ الآية وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أقررن بذلك بقولهن قال لهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلقن فقد بايعتكن ولا والله ما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام).

(٢) روي أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قال : (على أن لا يشركن بالله شيئا قالت هند بنت عتبة وهي متنقبة والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ولما قال : ولا يسرقن قالت هند : إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله قوتا فقال أبو سفيان هو لك حلال فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها لأنها كانت متنكرة لما نالت من حمزة رضي الله عنه وقال : أنت هند؟ فقالت : عفا الله عما سلف. ثم قال : ولا يزنين فقالت هند : أو تزني الحرة؟

(٣) قال قتادة : لا ينحن ولا تخلو امرأة منهن إلا بذي محرم وفي صحيح مسلم عن أم عطية : لما نزلت هذه الآية قالت يا رسول الله إلا آل فلان فإنهم كانوا أسعدوني في الجاهلية فلا بد أن أسعدهم فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا آل فلان فأذن لها أن تفي بوعدها.

(٤) (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ) صالح لأن يكون معنى الكلام كما يئس الكفار من عودة أصحاب القبور إليهم. وكما يئس أصحاب القبور من العودة إلى الحياة الأولى ، وما في التفسير اختيار ابن جرير رحمه‌الله تعالى.

أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي كما يئس إخوانهم الذين ماتوا قبلهم من دخول الجنة إذ كفروا بعيسى عليه‌السلام وحاربوه ووالدته واتهموا عيسى بالسحر ووالدته بالعهر ، والعياذ بالله فيئس هؤلاء من دخول الجنة كما يئس من مات منهم ممن هم أصحاب قبور.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ مشروعية أخذ البيعة لإمام المسلمين ووجوب الوفاء بها.

٢ ـ حرمة الشرك وما ذكر معه من السرقة والزنا وقتل الأولاد والكذب والبهتان وإلحاق الولد بغير أبيه.

٣ ـ حرمة النياحة وما ذكر معها من شق الثياب وخمش الوجوه والتحدث مع الرجال الأجانب.

٤ ـ بعد الحرة كل البعد من الزنا إذ قالت هند وهي تبايع أو تزني الحرة؟ قال لا تزني الحرة.

٥ ـ حرمة مصافحة النساء لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البيعة إني لا أصافح النساء.

٦ ـ حرمة موالاة اليهود بالنصرة والمحبة.

سورة الصّف

مدنية وآياتها أربع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا

زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

شرح الكلمات :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي نزه وقدس بلسان القال والحال جميع ما في السموات وما في الأرض من كائنات.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : أي العزيز الغالب على أمره الحكيم في تدبيره وصنعه.

(لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) : أي لأي شيء تقولون قد فعلنا كذا وكذا وأنتم لم تفعلوا؟ والاستفهام هنا للتوبيخ والتأنيب.

(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ) : أي عظم مقتا والمقت : أشد البغض والمقيت والممقوت المبغوض.

(أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) : أي قولكم ما لا تفعلون يبغضه الله أشد البغض.

(صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) : أي صافين : ومرصوص ملزق بعضه ببعض لا فرجة فيه.

(لِمَ تُؤْذُونَنِي) : أي إذ قالوا أنه آدر كذبا فوبخهم على كذبهم وأذيتهم له.

(وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) : أي أتؤذونني والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم.

(فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) : أي فلما عدلوا عن الحق بإيذائهم موسى أزاغ الله قلوبهم أي أمالها عن الهدى.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) : أي الذين فسقوا وتوغلوا في الفسق فما أصبحوا أهلا للهداية.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل ، ولم يقل يا قوم كما قال موسى لأنه لم يكن منهم لأنه ولد بلا أب ، وأمه صديقة.

(مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) : أي قبلى من التوراة.

(يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) : هو محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحمد أحد أسمائه الخمسة المذكوران والماحى ، والعاقب والحاشر.

(فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : أي على صدق رسالته بالمعجزات الباهرات.

(قالُوا : هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) : أي قالوا في المعجزات إنها سحر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ (١) ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يخبر تعالى أنه قد سبحه جميع ما في السموات وما في الأرض بلسان القال والحال ، وأنه العزيز الحكيم العزيز الغالب على أمره لا يمانع في مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لملكه. بعد ما أثنى تعالى على نفسه بهذا خاطب المؤمنين بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ) (٢) (تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) لفظ النداء عام والمراد به جماعة من المؤمنين قالوا لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لفعلناه فلما علموه ضعفوا عنه ولم يعملوا فعاتبهم الله تعالى في هذه الآية ولتبقى تشريعا عاما إلى يوم القيامة فكل من يقول فعلت ولم يفعل فقد كذب وبئس الوصف الكذب ومن قال سأفعل ولم يفعل فهو مخلف للوعد وبئس الوصف خلف الوعد وهكذا يربى الله عباده على الصدق والوفاء. وقوله تعالى (كَبُرَ (٤) مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) أي قولكم نفعل ولم تفعلوا مما يمقت عليه صاحبه أشد المقت أي يبغض أشد البغض.

وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُ (٥) الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي صافين متلاصقين لا فرجة بينهم (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) بعضه فوق بعض لا خلل فيه ولا فرجة كأنه ملحم بالرصاص.

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) (٦) أي اذكر إذ قال موسى لقومه من بني اسرائيل (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) والحال أنكم تعلمون أني رسول الله إليكم حقا وصدقا ، وقد آذوه بشتى أنواع الأذى بألسنتهم السليطة وآرائهم الشاذة من ذلك قولهم إن موسى آدر ولذا هو لا يغتسل معنا ، ومعنى آدر به أدرة وهي انتفاخ الخصية.

__________________

(١) في جامع الترمذي عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه فأنزل الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.). الخ السورة. ورواه الحاكم وأحمد وغيره.

(٢) اللام حرف جر والميم حرف استفهام وهو هنا إنكاري توبيخي.

(٣) النداء بوصف الإيمان فيه التعريض بأن الإيمان من شأن صاحبه أن لا يخلف إذا وعد وأن يفي إذا نذر لأنه روح وصاحبه حيّ قادر على الفعل والترك بخلاف الكفر وأهله.

(٤) (مَقْتاً) : منصوب على التمييز وهو تمييز نسبة والتقدير : كبر ممقوتا قولكم ما لا تفعلون.

(٥) هذا جواب لقولهم : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فبيّن لهم أحب الأعمال إليه وهو أحب العاملين عنده فله الحمد وله المنة.

(٦) لعلّ وجه المناسبة بين قصة موسى هنا وعتاب المؤمنين على فرار من فر يوم أحد هو : أن قوم موسى أيضا جبنوا عن قتال عدوهم وقالوا لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ).

وقوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا) أي مالوا عن الحق بعد علمه غاية العلم فآثروا الباطل على الحق والشر على الخير والكفر على الإيمان عاقبهم الله فصرف قلوبهم عن الهدى نقمة منه تعالى عليهم ، وذلك لأنّه سنته تعالى فيمن عرض عليه الخبر فأباه بعد علمه به ، ثم دعى إليه فلم يستجب ثم رغب فيه فلم يرغب وواصل الشر مختارا له عندئذ يصبح ما اختار من الفسق أو الكفر أو الظلم أو الإجرام طبعا له وخلقا ثابتا لا يتبدل ولا يتغير. وعلى هذا يؤول مثل قوله تعالى والله لا يهدى القوم الفاسقين ، والله لا يهدي القوم الظالمين ، والله لا يهدي القوم المجرمين ، والله لا يهدي القوم الكافرين لأنه تعالى أضلهم حسب سنته في الإضلال فلا يستطيع أحد غيره تعالى أن يهدي عبدا أضله الله على علم وهذا معنى قوله تعالى من سورة النحل (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ).

وقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ (١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) أي اذكر يا رسولنا للاتعاظ والعبرة قول عيسى بن مريم لليهود : يا بني اسرائيل نسبهم إلى جدهم يعقوب الملقب باسرائيل بن اسحق بن ابراهيم الخليل عليهم‌السلام. (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) وهذا برهان على صدقي في دعوتي إذ لم أخالف فيما أدعو إليه من عبادة الله وحده ما في التوراة كتاب الله عزوجل وهو بين أيديكم فوفاقنا دال على أن مصدر تشريعنا واحد هو الله عزوجل فكما آمنتم بموسى وهرون وداود وسليمان آمنوا بي فإني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ، (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ (٢) أَحْمَدُ) ، فلهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا دعوة (٣) أبي إبراهيم وبشارة عيسى ، إذ ابراهيم لما كان يبنى البيت مع اسماعيل كانا يتقاولان ما أخبر تعالى به في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ.). الآية. وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَهُمْ) أي محمد (٤) صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج الدالة على صدق رسالته ووجوب اتباعه في العقيدة والشريعة كفروا به و (قالُوا) في القرآن (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) كما قالها فرعون مع موسى. وكما قالتها اليهود مع عيسى عليه‌السلام.

__________________

(١) وجه مناسبة قصة عيسى لما قبلها أن بني اسرائيل كما فسقوا عن أمر الله وعصوا رسوله موسى فسقوا كذلك عن أمر الله وعصوا عيسى وكفروا فكان هذا تعزية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لقيه ويلقاه من اليهود.

(٢) هل الاسم هو عين المسمى؟ خلاف كبير والصحيح : أن الاسم هو اللفظ الدال على ذات به تتميز عن سائر الذوات.

(٣) رواه ابن اسحق بسند جيد ورواه أحمد بألفاظ مختلفة.

(٤) جائز أن يكون الضمير في جاءهم عائد إلى عيسى عليه‌السلام وعلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كلاهما قيل فيه سحر أو ساحر قرأ الجمهور (سحرا) في الآيات وقرأ بعضهم : ساحر أي : محمد أو عيسى عليهما‌السلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان غنى الله تعالى عن خلقه وأنه سبح لله ما في السموات وما في الأرض وأن ما شرعه لعباده من العبادات والشرائع إنما هو لفائدتهم وصالح أنفسهم يكملوا عليه أرواحا واخلاقا ويسعدوا به في الحياتين.

٢ ـ حرمة الكذب وخلف الوعد إذ قول القائل أفعل كذا ولم يفعل كذب وخلف وعد. ولذا كان قوله من المقت الذي هو أشد البغض ، ومن مقته الله فقد أبغضه أشدّ البغض وكيف يفلح من مقته الله.

٣ ـ فضيلة الجهاد والوحدة والاتفاق وحرمة الخلاف والقتال والصفوف ممزقة حسيا أو معنويا.

٤ ـ التحذير من مواصلة الذنب بعد الذنب فإنه يؤدى إلى الطبع وحرمان الهداية.

٥ ـ بيان كفر اليهود بعيسى عليه‌السلام وازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٦ ـ بيان كفر النصارى إذ رفضوا بشارة عيسى وردوها عليه ولم يؤمنوا بالمبشر به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩))

شرح الكلمات :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) : أي لا أحد أعظم ظلما ممن يكذب على الله فينسب إليه الولد والشريك ، والقول والحكم وهو تعالى برىء من ذلك.

(وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) : أي والحال أن هذا الذي يفترى الكذب على الله يدعى إلى الإسلام الذي هو الاستسلام والانقياد لحكم الله وشرعه.

(وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) : أي من ظلم ثم ظلم وواصل الظلم يصبح الظلم طبعا له فلا يصبح قابلا للهداية فيحرمها حسب سنة الله تعالى في ذلك.

(لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) : أي يريد المشركون بكذبهم على الله وتشويه الدعوة الإسلامية ، ومحاربتهم لأهلها يريدون إطفاء نور الله القرآن وما يحويه من نور وهداية بأفواههم وهذا محال فإنّ إطفاء نور الشمس أو القمر أيسر من إطفاء نور لا يريد الله إطفاءه.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) : أي أرسل رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهدى أي بالهداية البشرية.

(وَدِينِ الْحَقِ) : أي الإسلام إذ هو الدين الحق الثابت بالوحى الصادق.

(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) : أي لينصره على سائر الأديان حتى لا يبقى إلا الإسلام دينا.

(وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) : أي ولو كره نصره وظهوره على الأديان المشركون الكافرون.

معنى الآيات :

يقول تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ (١) مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) والحال أنه (يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) الدين الحق إنه لا أظلم من هذا الإنسان أبدا ، إن ظلمه لا يقارن بظلم هذا معنى قوله تعالى في الآية الأولى (٧) (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ). أي اختلق الكذب على الله عزوجل وقال له كذا وكذا أو قال أو شرع كذا وهو لم يقل ولم يشرع. كما هى حال مشركى قريش نسبوا إليه الولد والشريك وحرموا السوائب والبحائر والحامات وقالوا في عبادة أصنامهم لو شاء الله ما عبدناهم إلى غير ذلك من الكذب والاختلاق على الله عزوجل. وقوله (وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ) إذ لو كان أيام الجاهلية حيث لا رسول ولا قرآن لهان الأمر أما أن يكذب على الله والنور غامر والوحي ينزل والرسول يدعو ويبين فالأمر أعظم والظلم أظلم.

وقوله تعالى في الآية الثانية (٨) (يُرِيدُونَ (٢) لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) (٣) أي يريد أولئك الكاذبون على الله القائلون في الرسول : ساحر وفي القرآن إنه سحر مبين إطفاء نور الله الذي هو القرآن وما حواه من عقائد الحق وشرائع الهدى وبأى شيء يريدون إطفاءه إنه بأفواههم وهل نور الله يطفأ بالأفواه كنور شمعة أو مصباح. إن نور الله متى أراد الله إتمامه إطفاء نور القمر أو الشمس أيسر من إطفائه فليعرفوا هذا وليكفوا عن محاولاتهم الفاشلة فإن الله يريد أن يتم (٤) نوره وَلَوْ كَرِهَ

__________________

(١) الاستفهام وإن كان للنفي فهو متضمن الإنكار الشديد على كل من المشركين وأهل الكتابين إذ الجميع افتروا على الله الكذب ، فالمشركون قالوا : الملائكة بنات الله ، واليهود قالوا : عزيز ابن الله ، والنصارى قالوا : عيسى ابن الله.

(٢) استئناف بياني ناشيء عن الاخبار عنهم بأنهم افتروا على الله الكذب في الوقت الذي هم يدعون إلى الإسلام فلما فضحهم القرآن راموا اطفاء نور الله الذي هو كتابه ورسوله ودينه بأفواههم بالكذب والدعاوى الباطلة بل والحروب الشرسة القاسية.

(٣) اللام في (لِيُطْفِؤُا) زائدة لتأكيد الكلام وتقويته إذ الأصل يريدون إطفاء نور الله.

(٤) (وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ) قرأ نافع بتنوين الميم من متمم ونصب نوره على المفعولية ، وقرأ حفص بدون تنوين على أن متم مضاف إلى نور ونور مضاف إلى الضمير.

المشركون إنه تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) دين الله الحق الذي هو الإسلام (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) وذلك حين نزول عيسى إذ يبطل يومها كل دين ولم يبق الا الإسلام (وَلَوْ كَرِهَ) ذلك (الْمُشْرِكُونَ) فإن الله مظهره لا محالة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عظم جرم الكذب على الله وأنه من أفظع أنواع الظلم.

٢ ـ حرمان الظلمة المتوغلين في الظلم من الهداية.

٣ ـ إيئاس المحاولين إبطال الإسلام وانهاء وجوده بأنهم لا يقدرون إذ الله تعالى أراد إظهاره فهو ظاهر منصور لا محالة.

٤ ـ تقرير نبّوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

شرح الكلمات :

(هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ) : أي أرشدكم إلى تجارة رابحة.

(تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) : أي الربح فيها هو نجاتكم من عذاب مؤلم يتوقع لكم.

(تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ) : أي تصدقون بالله ربّا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا لله تعالى.

(وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي وتبذلون أموالكم وأرواحكم جهادا في سبيل الله تعالى.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : أي الدخول في هذه الصفقة التجارية الرابحة خير لكم من تركها حرصا على بقائكم وبقاء أموالكم مع أنه لا بقاء لشىء في هذه الدار.

(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أي هذا هو الربح الصافي مقابل ذلك الثمن الذاهب الزائل الذي هو المال والنفس مع أن الكل لله تعالى واهبكم أنفسكم وأموالكم.

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أي النجاة من عذاب النار الأليم ثم دخول الجنة والظفر بما فيها من النعيم المقيم هو حقا الفوز العظيم.

(وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) : أي وعلاوة أخرى تحبونها قطعا إنها نصر من الله لكم ولدينكم وفتح قريب للأمصار والمدن ، وما يتبع ذلك من رفعة وسعادة وهناء.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : أي وبشر يا رسولنا المؤمنين الصادقين بذاك الفوز وهذه العلاوة.

(كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) : أي لتنصروا دينه ونبيه وأولياءه.

(كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) : أي فكونوا أنتم أيها المؤمنون مثل الحواريين ، والحواريون أصحاب عيسى وهم أول من آمن به وكانوا اثني عشر رجلا.

(فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي بعيسى عليه‌السلام ، وقالوا إنه عبد الله رفع إلى السماء.

(وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) : أي من بني إسرائيل فقالوا إنه ابن الله رفعه إليه.

(فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ) : فاقتتلت الطائفتان : فنصرنا وقوينا الذين آمنوا.

(فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) : أي غالبين عالين.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ (١) آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي يا من صدقتم الله ورسوله هل لنا أن ندلكم على تجارة عظيمة الربح ثمرتها النجاة من عذاب أليم في

__________________

(١) هذا جواب ما سألوا عنه وطلبوا معرفته وهو : أحب الأعمال الى الله تعالى ، والاستفهام مستعمل في العرض كما يقال :

هل لك في كذا؟ أو هل لك إلى كذا؟ على سبيل العرض والترغيب والتشويق إلى ما يذكر له.

الدنيا والآخرة. وقوله (تُؤْمِنُونَ (١) بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) هذا هو رأس المال الذي تقدمونه. إيمان بالله ورسوله حق الإيمان ، جهاد في سبيل الله بالنفس والمال وأنبه إلى أن هذه الصفقة التجارية (خَيْرٌ لَكُمْ) من عدمها (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ربحها وفائدتها. (٢) (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إنها النجاة من العذاب الدنيوي والأخروي أولا ، ثم مغفرة ذنوبكم وإدخالكم جنات تجري من تحتها الأنهار ، أي من تحت قصورها وأشجارها ، (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي إقامة دائمة. ثانيا ثم زاد الحق في ترغيبهم فقال (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) إنه النجاة من النار ، ودخول الجنة ، فلا فوز أعظم منه قط هذا ولكم علاوة على ذلك الربح العظيم وهي ما أخبر تعالى عنها بقوله : (٣) (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي وفائدة أخرى تحبونها : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) أي لكم على أعدائكم ولدينكم على سائر الأديان (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) لمكة ولباقى المدن والقرى فى الجزيرة وما وراءها. وقوله تعالى (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي وبشر (٤) يا رسولنا الذين آمنوا بنا وبرسولنا وبوعدنا ووعيدنا بحصول ما ذكرناه كاملا ، وقد تم لهم كاملا ولله الحمد والمنة. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا نداء ثان في هذا السياق الكريم ناداهم بعنوان الإيمان أيضا إذ الإيمان هو الطاقة المحركة الدافعة فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ (٥) اللهِ) أي التزموا بنصرة ربكم وإلهكم الحق في دينه ونبيه وأوليائه المؤمنين. قولوا كما قال الحواريون (٦) لما دعاهم عيسى نبيهم لنصرته قائلا من أنصارى إلى الله أي من ينصرني في حال كوني متوجها إلى الله انصر دينه وأولياءه ، فأجابوه قائلين نحن أنصار الله. فكونوا أنتم أيها المسلمون مثلهم ، وقد كانوا رضي الله عنهم كما طلب منهم.

__________________

(١) جملة : (تُؤْمِنُونَ) بيانية لأهل العرض السابق يثير سؤالا وهو : ما الذي ريد أن يدلنا عليه؟ فالجواب : الايمان والجهاد. (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ.). الخ.

(٢) (يَغْفِرْ لَكُمْ) بالجزم لأن الفعل واقع موقع جواب الطلب إذ : تؤمنون وتجاهدون لفظهما لفظ الخبر ومعناهما الإنشاء أي : آمنوا وجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم ، وجزم (وَيُدْخِلْكُمْ) أيضا على العطف على يغفر.

(٣) (وَأُخْرى) الجملة معطوفة على (يَغْفِرْ لَكُمْ). وما بعدها وجيء بالجملة اسمية للدلالة على الثبوت والتحقق ، فأخرى : مبتدأ خبره محذوف أي : وأخرى لكم أي ثابتة لكم وتحبون : صفة لأخرى.

(٤) لقد شوق الله أصحاب رسوله إلى تحقيق الإيمان بالجهاد فأيقنوا وعزموا على الجهاد فأصبح أسمى أمانيهم فأنجز الله لهم ما وعدهم فأمر رسوله أن يبشرهم بما وعدهم تعجيلا للمسرة.

(٥) الأنصار : جمع نصير وهو الناصر : القوي النصرة ، وقرأ نافع (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) بتنوين أنصارا وقرأ حفص بدون تنوين مضاف إلى اسم الجلالة.

(٦) الحواريون : جمع حواري بفتح الحاء وتخفيف الواو وهي معربة عن الحبشية (حواريا) وهو الصاحب الصفي وأطلق هذا الاسم على أصحاب عيسى الاثنى عشر رجلا ، وقد سمى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزبير بن العوام حواريه على التشبيه بأحد الحواريين فقال : (لكل نبي حواري وحواري الزبير).

وقوله تعالى (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي فاقتتلوا فأيدنا أي قوينا ونصرنا الذين آمنوا وهم الذين قالوا عيسى عبد الله ورسوله رفعه ربه تعالى إلى السماء ، (عَلى عَدُوِّهِمْ) وهم الطائفة الكافرة التى قالت عيسى ابن الله رفعه إليه تعالى الله أن يكون له ولد.

وقوله تعالى (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) (١) أي غالبين عالين إلى أن احتال اليهود على إفساد الدين الذي جاء به عيسى وهو الإسلام أي عبادة الله وحده بما شرع أن يعبد به فحينئذ لم يبق من المؤيدين إلا أنصار قليلون هنا وهناك وعلا الكفر والتثليث واستمر الوضع كذلك إلى أن بعث الله رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فانضم الى الإسلام من انضم من النصارى فأصبحوا بالإسلام ظاهرين على عدوهم من المشركين المؤلهين لعيسى والحيارى في تقويمه مرة يقولون هو الله ، ومرة يقولون : هو ابن الله ، ومرة يقولون : ثالث ثلاثة هو الله. وضللهم وتركهم في هذه المتاهات الانتفاعيون من الرؤساء والجاهلون المقلدون من المرءوسين كما فعل نظراؤهم في الإسلام فحولوه الى طوائف وشيع إلا أن الإسلام تعهد الله بحفظه الى يوم القيامة فمن أراده وجده صافيا كما نزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن لم يرده وأراد الضلالة وجدها في كل عصر ومصر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الجهاد بالمال والنفس وأنه أعظم تجارة رابحة.

٢ ـ تحقيق بشرى المؤمنين التى أمر الله رسوله أن يبشرهم بها فكان هذا برهانا على صحة الإسلام وسلامة دعوته.

٣ ـ بيان استجابة المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما طلب منهم من نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه والمؤمنين معه. وهى نصرة الله تعالى المطلوبة.

__________________

(١) (ظاهِرِينَ) أي : غالبين يقال : ظهر عليه أي غلبه وهو مشتق من الظهر الذي هو العمود الوسط من جسد الإنسان والدواب ، ومثل الظهور : التأييد مشتق من اليد وكذا عضده : إذا نصره وقواه مأخوذ من العضد.

سورة الجمعة (١)

مدنية وآياتها احدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤))

شرح الكلمات :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي ينزه الله تعالى عما لا يليق به ما في السموات وما في الأرض من سائر الكائنات بلسان القال والحال ، ولم يقل (من) بدل (ما) تغليبا لغير العاقل لكثرته علي العاقل.

(فِي الْأُمِّيِّينَ) : أي العرب لندرة من كان يقرأ منهم ويكتب.

(رَسُولاً مِنْهُمْ) : أي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي.

(وَيُزَكِّيهِمْ) : أي يطهرهم أرواحا واخلاقا.

(وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) : أي هدى الكتاب وأسرار هدايته.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي وإن كانوا من قبل بعثة الرسول في ضلال الشرك والجاهلية.

(وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) : أي وآخرين مؤمنين صالحين لما يلحقوا أي لم يحضروا حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعلّم الكتاب والحكمة ، وسيلحقون بهم وهم

__________________

(١) سورة الجمعة أي : السورة التي يذكر فيها لفظ الجمعة وهل المراد بالجمعة يوم الجمعة أو صلاة الجمعة الظاهر أن المراد بلفظ الجمعة : صلاة الجمعة ، وجائز أن يكون المراد يوم الجمعة وقد نزلت الجمعة جملة واحدة سنة ست من الهجرة.

كل من لم يحضر حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العرب والعجم.

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) : أي كون الصحابة حازوا فضل السبق هذا فضل يؤتيه من يشاء فلا اعتراض ولكن الرضا وسؤال الله من فضله فإنه ذو فضل عظيم.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يخبر تعالى عن نفسه أنه يسبحه بمعنى ينزهه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله من سائر مظاهر العجز والنقص ويقدسه كذلك وذلك بلسان الحال والقال وهذا كقوله من سورة الإسراء وان من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. ومع هذا شرع لنا ذكره وتسبيحه وتعبدنا به ، وجعله عونا لنا على تحمل المشاق واجتياز الصعاب فكم أرشد رسوله له في مثل قوله : سبح اسم ربك ، وسبحه بكرة وأصيلا ، وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا. وواعد على لسانه رسوله بالجزاء العظيم على التسبيح في مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر» ورغب فيه في مثل قوله : «كلمتان ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان حبيبتان الى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».

وقوله (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) أي المالك الحاكم المتصرف في سائر خلقه لا حكم إلا له. ومرد الأمور كلها إليه المنزه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله من سائر النقائص والحوادث.

وقوله تعالى (الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي كل خلقه ينزهه ويقدسه وهو العزيز الغالب على أمره الذي لا يحال بينه وبين مراده الحكيم في صنعه وتدبيره لأوليائه وفي ملكه وملكوته. وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي (١) بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) (٢) أي بعث في الأمة العربية الأمية رسولا منهم هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو عربي قرشي هاشمي معروف النسب الي جده الأعلى عدنان من ولد اسماعيل بن إبراهيم الخليل.

وقوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أي آيات الله التى تضمنها كتابه القرآن الكريم وذلك لهدايتهم وإصلاحهم ، وقوله (وَيُزَكِّيهِمْ) أي ويطهرهم أرواحا وأخلاقا وأجساما من كل ما يدنس الجسم

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : الأميون العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب لأنهم لم يكونوا أهل كتاب وكونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميا ومن أمة أمية هو دليل معجزته وصدق نبوته.

(٢) (رَسُولاً مِنْهُمْ) قال ابن اسحق : ما من حي من أحياء العرب إلا ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيهم قرابة وقد ولدوه إلا حي تغلب فإن الله تعالى طهّر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم لنصرانيتهم ، فلم يجعل لهم عليه ولادة.

ويدنس النفس ويفسد الخلق. وقوله (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ). أي يعلمهم الكتاب الكريم يعلمهم معانيه وما حواه من شرائع وأحكام ، ويعلمهم (١) الحكمة في كل أمورهم والإصابة والسداد في كل شؤونهم ، يفقههم في أسرار الشرع وحكمه في أحكامه. وقوله (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي والحال والشأن أنهم كانوا من قبل بعثته فيهم لفى ضلال مبين ضلال في العقائد ضلال في الآداب والاخلاق ضلال في الحكم والقضاء في السياسة ، وادارة الأمور العامة والخاصة.

وقوله تعالى : (وَآخَرِينَ (٢) مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) أي وآخرين من العرب والعجم جاءوا من بعدهم وهم التابعون وتابعوا التابعين (٣) الى يوم القيامة آمنوا وتعلموا الكتاب والحكمة التى ورثها رسول الله فيهم لما يلحقوا بهم في الفضل لأنهم فازوا بالسبق إلى الإيمان وبصحبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم و (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير التوحيد.

٢ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٣ ـ بيان فضل الصحابة على غيرهم.

٤ ـ شرف الإيمان والمتابعة للرسول وأصحابه رضي الله عنهم.

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ

__________________

(١) قال مالك بن أنس : الحكمة الفقه في الدين.

(٢) روى مسلم عن أبي هريرة قال : كنا جلوسا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة فلما قرأ (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) قال رجل : من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثا قال : وفينا سلمان الفارسي قال فوضع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يده على سلمان ثم قال : لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء نعم فقد دخلت فارس في الإسلام بعد الفتح العمري وآمن رجال فوفوا وكانوا من أفاضل الرجال وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن الحزب الوطني الذي تكون في الظلام للانتقام من الإسلام فعل العجب في إفساد أمة الإسلام ومن ذلك ضرب الأمة بالمذهب الرافضي الذي فرق المسلمين ودمرهم أيما تدمير.

(٣) من العرب وغيرهم من سائر العجم كبعض الفرس والروم والبربر والسودان والترك والمغول والأكراد والصين والهنود وغيرهم وفي هذا معجزة قرآنية إذ صدق قوله (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) وقد لحقوا فآمنوا وتعلموا وزكوا.

دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

شرح الكلمات :

(حُمِّلُوا التَّوْراةَ) : أي كلفوا بالعمل بها عقائد وعبادات وقضاء وآدابا وأخلاقا

(ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) : أي لم يعملوا بما فيها ، ومن ذلك نعته صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بالإيمان فجحدوا نعته وحرفوه ولم يؤمنوا به وحاربوه.

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) : أي المصدقة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المثل الذي ضربه الله لليهود هو كمثل الحمار يحمل أسفارا أي كتبا من العلم وهو لا يدرى ما فيها.

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) : أي اليهود المتدينون باليهودية.

(إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) : أي وأنكم أبناء الله وأحباؤه وأن الجنة خاصة بكم.

(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : أي ان كنتم صادقين في أنكم أولياء الله فتمنوا الموت مؤثرين الآخرة على الدنيا ومبدأ الآخرة الموت فتمنوه إذا.

(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) : أي بسبب ما قدموه من الكفر والتكذيب بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يتمنون.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) : أي المشركين ولازم علمه بهم أنه يجزيهم بظلمهم العذاب الأليم.

(تَفِرُّونَ مِنْهُ) : أي لأنكم لا تتمنونه أبدا وذلك عين الفرار منه.

(فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ) : أي حيثما اتجهتم فإنه ملاقيكم وجها لوجه.

(ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) : أي الى الله تعالى يوم القيامة.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) أي كلفوا بالعمل بها من اليهود والنصارى (ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها) أي ثم لم يعملوا بما فيها من أحكام وشرائع ومن ذلك جحدهم لنعوت النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر بالإيمان به واتباعه عند ظهوره. وقوله تعالى : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (١) أي كمثل حمار يحمل على ظهره أسفارا من كتب العلم النافع وهو لا يعقل ما يحمل ولا يدرى ماذا على ظهره من الخير ، وذلك لأنه لا يقرأ ولا يفهم (٢). وقوله تعالى (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) أي المصدقة للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا المثل الذي ضربه تعالى لأهل الكتاب من يهود ونصارى. وقوله (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، ولهذا ما هداهم إلى الإسلام. لتوغلهم في الظلم والكفر والشر والفساد لم يكونوا أهلا لهداية الله تعالى.

وقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا) أي قل يا رسولنا يا أيها الذين هادوا أي يا من هم يدّعون أنهم على الملة اليهودية ، (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ) حيث ادعيتم انكم أبناء الله وأحباؤه ، وأن الجنة لكم دون غيركم الى غير ذلك من دعاويكم (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ) (٣) (كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعاويكم إذ الموت طريق الدار الآخرة فتمنوه لتموتوا فتستريحوا من كروب الدنيا وأتعابها.

وقوله تعالى : (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) أخبر تعالى وهو العليم أنهم لا يتمنونه في يوم من الأيام أبدا ، وبيّن تعالى علة ذلك بقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الذنوب والآثام الموجبة للعذاب. وقوله (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي من أمثال هؤلاء اليهود وسيجزيهم بظلمهم عذاب الجحيم. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) (٤) أي قل لهم يا رسولنا إن الموت الذي تفرون منه ولا تتمنونه فرارا وخوفا

__________________

(١) قال بعض أهل العلم : أبطل الله ادعاء اليهود في ثلاث آيات من هذه السورة افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وبأنهم أهل كتاب فشبههم بالحمار يحمل أسفارا ، وبالسبت فشرع الله للمسلمين الجمعة فلم يبق لهم ما يفخرون به على المسلمين.

(٢) أنشد بعضهم عائبا بعض من يحمل رواية الحديث وهو لا يفهم المراد منها :

إن الرواة على جهل بما حملوا

مثل الجمال عليها يحمل الودع

لا الودع ينفعه حمل الجمال له

ولا الجمال بحمل الودع تنتفع

الودع والواحدة ودعة مناقيف صغار تخرج من قاع البحر.

(٣) الأمر فى قوله تعالى : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) للتعجيز فلذا لم يفعلوا ولو فعلوا لما بقيت فيهم عين تطرف ؛ لأنهم كاذبون.

(٤) جملة (الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ) صفة للموت ، وفيه إشارة إلى خطإهم في الهلع والخوف من الموت ولا تعارض بين هذه الآية وهي تدعو إلى تمني الموت ، وبين النهي عنه في الحديث الصحيح : (لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به) لأن طلب التمني من اليهود كان لتحديهم ، والنعي عن تمني الموت كان بسبب الجزع من الضر حيث يجب الصبر لما في المرض من تكفير الذنوب ، وفي الحديث :

(من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) وهذا الحديث يفسّر ما تقدم فإن العبد الصالح إذا كان في سياقات الموت يحب الموت للقاء الله تعالى ، والعبد غير الصالح يكره لقاء الله كراهية اليهود لما يعلم من ذنوبه وعظيم آثامه فهو يخاف الموت لذلك.

منه (فَإِنَّهُ (١) مُلاقِيكُمْ) لا محالة حيثما كنتم سوف يواجهكم وجها لوجه (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وهو الله تعالى الذي يعلم ما غاب في السماء والأرض ، ويعلم ما يسر عباده ، وما يعلنون وما يظهرون وما يخفون (فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويجزيكم الجزاء العادل إنه عليم حكيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ذم من يحفظ كتاب الله ولم يعمل بما فيه.

٢ ـ التنديد بالظلم والظالمين.

٣ ـ بيان كذب اليهود وتدجيلهم في أنهم أولياء الله وأن الجنة خالصة لهم.

٤ ـ بيان أن ذوى الجرائم أكثر الناس خوفا من الموت وفرارا منه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١))

شرح الكلمات :

(إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) : أي إذا أذن المؤذن لها عند جلوس الإمام على المنبر.

(مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) : أي في يوم الجمعة وذلك بعد الزوال.

(فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) : أي امضوا الى الصلاة.

(وَذَرُوا الْبَيْعَ) : أي اتركوه ، وإذا لم يكن بيع لم يكن شراء.

__________________

(١) من أحسن ما قيل في الوعظ بالموت قول طرفة :

وكفى بالموت فاعلم واعظا

لمن الموت عليه قد قدر

فاذكر الموت وحاذر تركه

إن في الموت لذي اللب عبر

كل شيء سوف يلقى حتفه

في مقام أو على ظهر سفر

والمنايا حوله ترصده

ليس ينجيه من الموت حذر

وقال زهير :

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه

ولو رام أسباب السماء بسلّم

(وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : أي اطلبوا الرزق من الله تعالى بالسعى والعمل.

(تُفْلِحُونَ) : أي تنجون من النار وتدخلون الجنة.

(انْفَضُّوا إِلَيْها) : أي إلى التجارة.

(وَتَرَكُوكَ قائِماً) : أي على المنبر تخطب يوم الجمعة.

(ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) : أي ما عند الله من الثواب في الدار الآخرة خير من اللهو ومن التجارة.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) : أي فاطلبوا الرزق منه بطاعة واتباع هداه.

معنى الآيات

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من صدقتم الله ورسوله (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ (١) الْجُمُعَةِ) (٢) أي إذا أذن المؤذن بعد زوال يوم الجمعة وجلس الإمام على المنبر (فَاسْعَوْا (٣) إِلى ذِكْرِ (٤) اللهِ) أي امضوا إلى ذكر الله الذي هو الصلاة والخطبة إذ بهما يذكر الله تعالى. وقوله (وَذَرُوا الْبَيْعَ) (٥) إذ هو الغالب من أعمال الناس ، والا فسائر الأعمال يجب إيقافها والمضيّ إلى الصلاة.

وقوله (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي ترك الأعمال من بيع وشراء وغيرها والمضيّ إلى أداء صلاة الجمعة وسماع الخطبة خير ثوابا وعاقبة.

وقوله تعالى (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ) أي أديت وفرغ منها (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) أي لكم بعد انقضاء الصلاة أن تتفرقوا حيث شئتم في أعمال الدين والدنيا. تبتغون من فضل الله ، (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي أثناء تفرقكم وانتشاركم في أعمالكم اذكروا الله ولا تنسوه واذكروه ذكرا كثيرا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي رجاء فلا حكم وفوزكم في دنياكم وآخرتكم.

__________________

(١) المراد من النداء : الأذان الذي يكون فيه الإمام على المنبر إذ كان الأذان واحدا حتى زاد عثمان رضي الله عنه ثانيا حين كثر الناس بالمدينة.

(٢) لفظ (الْجُمُعَةِ) : بضم كل من الجيم والميم ، وبتسكين الميم ، والجمع : جمع كغرفة وغرف وجمعات كغرفات وكان يومها يسمى العروبة بفتح العين وقيل أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي وقيل : الأنصار ، وأول جمعة صليت في الإسلام هي الجمعة التي جمع فيها أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير أهل المدينة وصلوها وكانوا اثنى عشر رجلا : وأول جمعة صلاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة هي جمعته في بني سالم بن عوف وهو في طريقه من قباء إلى المدينة ، وأول جمعة بعدها كانت بجواثي : قرية من قرى البحرين.

(٣) ليس المراد بالسعي الجري واشتداد العدو وإنما هو المشي والمضي لحديث الصحيح : (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن أئتوها وعليكم السكينة) ومن إطلاق السعي والمراد المضي والعمل لا غير قول الشاعر :

أسعي على جل بني مالك

كل امريء في شأنه ساعي

وفي القرآن : (مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها).

(٤) ذكر الله : الصلاة والخطبة قبلها.

(٥) لا خلاف في حرمة البيع والشراء عند الأذان الثاني.

وقوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) هذه الآية نزلت في شأن قافلة زيت كان صاحبها دحية بن خليفة الكلبى الأنصارى رضى الله عنه قدمت من الشام ، وكان عادة أهل المدينة إذا جاءت قافلة تجارية تحمل الميرة يستقبلونها بشيء من اللهو كضرب الطبول والمزامير. وصادف قدوم القافلة يوم الجمعة والناس في المسجد ، فلما انقضت الصلاة وطلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر يخطب ، وكانت الخطبة بعد الصلاة لا قبلها كما هي بعد ذلك فخرج الناس يتسللون حتى لم يبق مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الا اثنا عشر رجلا وامرأة فنزلت هذه الآية تعيب عليهم خروجهم وتركهم نبيهم يخطب. فقال تعالى في صورة عتاب شديد (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) أي خرجوا إليها (وَتَرَكُوكَ) يا رسولنا قائما على المنبر تخطب. وقوله تعالى : (قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ) أي أعلمهم يا نبينا أن ما عند الله من ثواب الآخرة خير من اللهو والتجارة التي خرجتم إليها ، (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فاطلبوا الرزق منه بطاعته وطاعة رسوله ولا يتكرر منكم مثل هذا الصنيع الشين. وإلا فقد تتعرضون لعذاب عاجل غير آجل.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب صلاة الجمعة ووجوب (١) المضى اليها عند النداء الثاني الذي يكون والامام على المنبر.

٢ ـ حرمة البيع والشراء وسائر العقود إذا شرع المؤذن يؤذن الاذان الثاني.

٣ ـ الترغيب في ذكر الله والإكثار منه والمرء يبيع ويشترى ويعمل ويصنع ولسانه ذاكر.

٤ ـ ينبغي أن لا يقل المصلون الذين تصح صلاة الجمعة بهم عن اثنى عشر رجلا أخذا من حادثة انفضاض الناس عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب الى القافلة حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا.

__________________

(١) ورد في فضل الجمعة والغسل لها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه) وقوله : (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما لم تغش الكبائر) (مسلم) وقوله : (غسل الجمعة واجب على كل محتلم) (في الصحيح).

سورة المنافقون

مدنية وآياتها إحدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤))

شرح الكلمات :

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) : أي حضر مجلسك المنافقون كعبد الله بن أبي وأصحابه.

(قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) : أي قالوا بألسنتهم ذلك وقلوبهم على خلافه.

(وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) : أي والله يعلم أن المنافقين لكاذبون أي بما أضمروه من أنك غير رسول الله.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) : أي سترة ستروا بها أموالهم وحقنوا بها دماءهم.

(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي فصدوا بها عن سبيل الله أي الجهاد فيهم.

(إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أي قبح ما كانوا يعملونه من النفاق.

(ذلِكَ) : أي سوء عملهم.

(بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) : أي آمنوا بألسنتهم ، ثم كفروا بقلوبهم أي استمروا على ذلك.

(فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي ختم عليها بالكفر.

(فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) : أي الإيمان أي لا يعرفون معناه ولا صحته.

(تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) : أي لجمالها إذ كان ابن أبي جسيما صحيحا وصبيحا ذلق اللسان.

(وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) : أي لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم.

(كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) : أي كأنهم من عظم أجسامهم وترك التفهم وعدم الفهم خشب مسندة أي أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام.

(يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) : أي يظنون كل صوت عال يسمعونه كنداء في عسكر أو إنشاد ضالة عليهم وذلك لما في قلوبهم من الرعب أن ينزل فيهم ما يبيح دماءهم.

(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) : أي العدو التام العداوة فاحذرهم أن يفشوا سرك أو يريدوك بسوء.

(قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) : أي لعنهم الله كيف يصرفون عن الإيمان وهم يشاهدون أنواره وبراهينه.

معنى الآيات

قوله تعالى (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) لنزول هذه السورة سبب هو أن زيد (١) بن أرقم رضى الله عنه قال كنت مع عمى فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمى فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل رسولا إلى ابن أبي وأصحابه فحلفوا ما قالوا فصدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبنى فأصابنى هم لم يصبنى مثله فجلست في بيتي فأنزل الله عزوجل إذا جاءك المنافقون الى قوله الأعز منها الأذل فأرسل الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال إن الله قد صدقك.

قوله (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) أي إذا حضر مجلسك المنافقون عبد الله بن أبي ورفاقه (قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) وذلك بألسنتهم دون قلوبهم. قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ (٢) إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) سواء شهد بذلك المنافقون أو لم يشهدوا. (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) في شهادتهم لعدم مطابقة قولهم لاعتقادهم. (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) أي جعلوا من أيمانهم الكاذبة جنة كجنة المقاتل يسترون

__________________

(١) رواه البخاري في صحيحه والترمذي وغيرهما كانت هذه الحادثة في غزوة بني المصطلق سنة خمس من الهجرة.

(٢) جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين وفائدة هذا الاعتراض دفع ما قد يتوهمه من يسمع جملة : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) أنه تكذيب لجملة (إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ).

بها كما يستتر المحارب بجنته فوق رأسه ، فهم بأيمانهم الكاذبة أنهم مؤمنون وقوا بها أنفسهم وأزواجهم وذرياتهم من القتل والسبي ، وبذلك (فَصَدُّوا عَنْ (١) سَبِيلِ اللهِ) أنفسهم وصدوا غيرهم ممن يقتدون بهم وصدوا المؤمنين عن جهادهم بما أظهروه من إيمان صورى كاذب. قال تعالى : (إِنَّهُمْ (٢) ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) يذم تعالى حالهم ويقبح سلوكهم ذلك وهو اتخاذ أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله وقوله تعالى الآية رقم ٣ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ (٣) عَلى قُلُوبِهِمْ) أي سوء عملهم وقبح سلوكهم ناتج عن كونهم آمنوا ثم شكوا أو ارتابوا فنافقوا وترتب على ذلك أيضا الطبع على قلوبهم (فَهُمْ) لذلك (لا يَفْقَهُونَ) معنى الايمان ولا صحته من بطلانه وهذا شأن من توغل في الكفر أن يختم على قلبه فلا يجد الإيمان طريقا الى قلب قد أقفل عليه بطابع الكفر وخاتم النفاق والشك والشرك.

وقوله تعالى في الآية (٤) (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ (٤) تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) أي وإذا رأيت يا رسولنا هؤلاء المنافقين ونظرت إليهم تعجبك أجسامهم لجمالها إذ كان ابن أبي جسيما صبيحا (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) وذلك لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم. وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) وهو تشبيه رائع : انهم لطول أجسامهم وجمالها وعدم فهمهم وقلة الخير فيهم كأنهم خشب مسندة على جدار لا تشفع ولا تنفع كما يقال.

وقوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) وذلك لخوفهم والرعب المتمكن من نفوسهم نتيجة ما يضمرون من كفر وعداء وبغض للإسلام وأهله فهم إذا سمعوا صيحة في معسكر أو صوت منشد ضاله يتوقعون أنهم معتبون بذلك شأن الخائن وأكثر ما يخافون أن ينزل القرآن بفضيحتهم وهتك أستارهم. قال تعالى (٥) (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) يا رسولنا إن قلوبهم مع أعدائك فهم يتربصون بك الدوائر.

قال تعالى : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فسجل عليهم لعنة لا تفارقهم إلى يوم القيامة كيف يصرفون عن الحق وأنواره تغمرهم القرآن ينزل والرسول يعلم ويزكى وآثار ذلك في المؤمنين

__________________

(١) الفاء للتفريع فجملة (فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) متفرعة عن جملة (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً).

(٢) الجملة تذييلية من أجل تفظيع حالهم ، والتنديد بسوء سلوكهم.

(٣) الإشارة إلى قوله : (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

(٤) هذه الجملة معطوفة على سابقتها وهي (فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) وهي واقعة موقع الاحتراس والتتميم لدفع إيهام من يغره ظاهر صورهم وأشكالهم كما في قول حسان رضي الله عنه :

لا بأس بالقوم من طول ومن غلظ

جسم البغال وأحلام العصافير

(٥) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا إذ قوله تعالى : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) يثير تساؤلات فأجيب السائل المتطلع بقوله تعالى : (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ) ونفسيتهم المريضة هي التي جعلتهم يحسبون كل صيحة عليهم كما قال المتنبي :

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدّق ما يعتاده من توهم

ظاهرة في آرائهم وأخلاقهم. ولم يشاهدوا شيئا من ذلك والعياذ بالله من عمى القلوب وانطماس البصائر.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الكذب ما خالف الاعتقاد وإن طابق الواقع.

٢ ـ التحذير من الاستمرار على المعصية فإنه يوجب الطبع على القلب ويحرم صاحبه الهداية.

٣ ـ التحذير من الاغترار بالمظاهر كحسن الهندام وفصاحة اللسان.

٤ ـ الكشف عن نفسية الخائن والظالم والمجرم وهو الخوف والتخوف من كل صوت أو كلمة خشية أن يكون ذلك بيانا لحالهم وكشفا لجرائمهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨))

شرح الكلمات :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) : أي معتذرين.

(لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) : أي رفضوا الاعتذار الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) : أي يعرضون عما دعوا إليه وهم مستكبرون.

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) : أي يا رسولنا.

(أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) :

(لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) : أي إيأس من مغفرة الله لهم.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) : أي لأن من سنة الله انه لا يهدى القوم الفاسقين المتوغلين في الفسق عن طاعة الرب تعالى وهم كذلك.

(يَقُولُونَ) : أي لأهل المدينة.

(لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) : أي من المهاجرين.

(حَتَّى يَنْفَضُّوا) : أي يتفرقوا عنه.

(لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ) : أي من غزوة كانوا فيها هى غزوة بنى المصطلق.

(لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) : يعنون بالأعز أنفسهم ، وبالأذل المؤمنين.

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) : أي الغلبة والعلو والظهور.

معنى الآيات

ما زال السياق الكريم في الحديث عن المنافقين فقوله تعالى في الآية (٥) (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ) وذلك عند ما قال ابن أبى ما قال من كلمات خبيثة منها قوله فى المهاجرين : سمن كلبك يأكلك. وقوله لصاحبه : لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله مهددا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز يعنى نفسه ورفاقه المنافقين الأذل يعنى الأنصار والمهاجرين. فلما قال هذا كله وأكثره في غزوة بنى (١) المصطلق وأخبر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء فحلف بالله ما قال شيئا من ذلك أبدا وذهب فنزلت هذه السورة الكريمة تكذبه.

ولما نزلت هذه السورة بفضيحته جاءه من قال له : يا أبا الحباب «كنية ابن أبي» إنه قد نزل فيك آى شداد فاذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لك فلوى رأسه أي عطفه إلى جهة غير جهة من يخاطبه وقال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت وأمرتمونى أن أعطى زكاة مالى فأعطيت فما بقى إلا أن أسجد لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآيات الثلاث (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا) أي معتذرين (يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) أي رفضوا العرض (وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ) عنك (وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) والمراد بهم ابن أبي عليه لعائن الله قال تعالى لرسوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) فأيأس رسوله من المغفرة لهم ، وعلل تعالى ذلك بقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٢)

__________________

(١) سبب نزول هذه السورة والآيات منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (غزا بني المصطلق على ماء يقال له (المريسيع) من ناحية قديد إلى الساحل فازدحم أجير لعمر يقال له : جهجاه مع حليف لابن أبي يقال له : سنان على ماء بالمشلل فصرخ جهجاه بالمهاجرين وصرخ سنان بالأنصار فجاء ابن أبي وقال كلماته الخبيثة التي هي في التفسير. ونزلت السورة.

(٢) وهم كل من سبق في علم الله أنه لا يتوب لما أحاط به من الذنوب.

وابن أبي من أكثر الفاسقين فسقا! إذ جمع بين الكذب والحلف الكاذب والنفاق والشقاق والعداء والكبر والكفر الباطنى وذكر تعالى قولات هذا المنافق واحدة بعد واحدة فقال (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي قال لإخوانه لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرعه رب العزة وأدبه ببيان فساد ذوقه ورأيه فقال تعالى : (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ (١) وَالْأَرْضِ) فجميع الأرزاق بيده وهو الذي يرزق من يشاء والمنافق نفسه رزقه على الله فكيف يدعى انه إذا لم ينفق على من عند رسول الله يجوعون فيتفرقون يطلبون الرزق بعيدا عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. (وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ) لعماهم وظلمة نفوسهم ومرض قلوبهم (لا يَفْقَهُونَ) هذا ولا يفهمونه ، ولذا قال رئيسهم كلمته الخبيثة. تلك كانت القولة الأولى. والثانية هي قوله (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ). قالها في غزوة بني المصطلق وهي غزوة سببها أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار وهو أبو جويريه زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى أمهات المؤمنين. فلما سمع بذلك خرج إليهم حتى لقبهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فوقع القتال فهزم الله بنى المصطلق وأمكن رسوله من أبنائهم ونسائهم وأموالهم وأفاءها على المؤمنين ، واصطفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنفسه جويرية بوصفها بنت سيد القوم إكراما لها ثم عتقها وتزوجها فرأى المؤمنون أن ما بأيديهم من السبي لا ينبغى لهم وقد أصبحوا أصهار نبيهم فعتقوا كل ما بأيديهم فقالت عائشة رضى الله عنها ما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها من جوبرية بنت الحارث فقد أعتق بتزويج رسول الله لها مائة أهل بيت من بنى المصطلق.

في هذه الغزاة قال ابن أبي قولته الخبيثة وذلك أن رجلين (٢) انصاريا ومهاجرا تلاحيا على الماء (٣) (٤) فكسع المهاجر الانصارى برجله فصاح ابن أبي قائلا عليكم صاحبكم ، ثم قال : والله ما مثلنا ومحمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل وغاب عن ذهن هذا المنافق أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين أي الغلبة والظهور والعلو لا للمنافقين والمشركين الكافرين ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك ولا غيره لعمى بصائرهم ولما

__________________

(١) (الخزائن) جمع خزانة وهي البيت الذي يخزن فيه الطعام. روى الترمذي أن عمر رضي الله عنه قال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إشفاقا عليه ورحمة به : ما كلّفك الله يا رسول الله ما لا تقدر عليه ، عند ما قال لرجل سأله عطاء ابتع علي فإذا جاء شيء قضيته فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرف في وجهه البشر وقال : بهذا أمرت).

(٢) تقدم ذكر اسميهما وهما : جهجاه ، وسنان.

(٣) تقدم أن هذا الماء كان بالمشللّ.

(٤) كسعه : ضربه في دبره.

بلغ الغزاة المدينة وقف عبد الله بن عبد الله بن أبي في عرض الطريق واستل سيفه فلما جاء أبوه يمر قال له والله لا تمر حتى تقول : محمد الأعز وأنا الأذل ، فلم يبرح حتى قالها : وكان ولده مؤمنا صادقا من خيرة الأنصار.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لا ينفع الاستغفار للكافر ولا الصلاة عليه بحال.

٢ ـ ذمّ الإعراض والاستكبار عن التوبة والاستغفار. فمن قيل له استغفر الله فليستغفر ولا يتكبر بل عليه أن يقول : استغفر الله أو اللهم اغفر لي.

٣ ـ مصادر الرزق كلها بيد الله تعالى فليطلب الرزق بطاعة الله ورسوله لا بمعصيتهما.

٤ ـ العزة الحقة لله ولرسوله وللمؤمنين ، فلذا يجب على المؤمن أن لا يذل ولا يهون لكافر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

شرح الكلمات :

(لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) : أي لا تشغلكم.

(عَنْ ذِكْرِ اللهِ) : كالصلاة والحج وقراءة القرآن وذكر الله بالقلب واللسان.

(وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي ومن ألهته أمواله وأولاده عن أداء الفرائض فترك الصلاة أو الحج وغيرهما من الفرائض فقد خسر ثواب الآخرة.

وأنفقوا مما رزقكم الله : أي النفقة الواجبة كالزكاة وفي الجهاد والمستحبة.

(لَوْ لا أَخَّرْتَنِي) : أي هلا أخرتني يطلب التأخير ولا يقبل منه.

(فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) : أي حتى أزكى وأحج وأكثر من النوافل والأعمال الصالحة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) (١) نادى تعالى المؤمنين لينصح لهم أن لا تكون حالهم كحال المنافقين الذين تقدم في السياق تأديبهم فقال لهم يا من آمنتم بالله ورسوله : (لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ (٢) وَلا أَوْلادُكُمْ) أي لا تشغلكم (عَنْ (٣) ذِكْرِ اللهِ) بأداء فرائضه واجتناب نواهيه والإكثار من طاعته والتقرب إليه بأنواع القرب. ثم خوفهم نصحا لهم بقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) أي بأن ألهته أمواله وأولاده عن عبادة الله (فَأُولئِكَ) البعداء (هُمُ الْخاسِرُونَ) يوم القيامة بحرمانهم من الجنة ونعيمها ووجودهم في دار العذاب لا أهل لهم فيها ولا ولد. وبالغ عزوجل في إرشادهم فقال : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) مبادرين الأجل فإنكم لا تدرون متى تموتون. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ) (٤) متمنيا طالبا حاثا في طلبه : (رَبِ) أي يا رب (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي إلى وقت قريب من هذا (فَأَصَّدَّقَ) (٥) بمالى ، (وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) فأحج وأتقرب إليك يا رب بما تحب من أنواع القربات والطاعات ولكن لا ينفعه التمنى ولا الطلب والدعاء ، لأن حكم الله الأزلي أنه تعالى (لَنْ يُؤَخِّرَ) (٦) نفسا أي نفس (إِذا جاءَ أَجَلُها) أي إذا حضر وقت وفاتها وقوله تعالى : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يحض المؤمنين على إصلاح أعمالهم والتزود لآخرتهم بإعلامهم بأنه مطلع على أعمالهم خبير بها.

__________________

(١) قد تكون المناسبة بين هذه الآية وما سبقها هي قول المنافقين : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) فحذر تعالى المؤمنين من التأثر بالنظرية المادية التي يحملها ابن أبي وصرخ بها ، ودعاهم إلى الإنفاق في سبيل الله قبل فوات الأوان بالموت أو الفقر وقلة ما ينفقون.

(٢) (لا) هي النافية اشربت معنى النهي فجزمت المضارع وفي الآية دليل على أن ما لا يشغل عن ذكر الله من مال وولد لا إثم فيه.

(٣) ذكر الله هنا مستعمل في الحقيقة والكناية فيشمل الذكر باللسان وهو فعل سائر الطاعات ، والذكر بالقلب : وهو التذكر الموجب للطاعة.

(٤) قال القرطبي : في الآية دليل على وجوب تعجيل أداء الزكاة ولا يجوز تأخيرها أصلا وكذلك سائر العبادات إذا تعين وقتها. وهو كما قال رحمه‌الله تعالى.

(٥) المضارع منصوب بأن المضمرة بعد فاء السببية الواقعة في جواب الطلب ، وجزم (أكن) لأنه في جواب الطلب مباشرة فلم تسبقه الفاء حتى يتعين نصبه بأن المضمرة.

(٦) (نَفْساً) نكرة في سياق النفي وهو (وَلَنْ يُؤَخِّرَ) تعم كل نفس ، والمراد من النفس الروح وقيل فيها : نفس أخذا من النفس وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة وسميت روحا أخذا من الروح بفتح الراء لأن الروح به ، والروح : الراحة.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة التشاغل بالمال والولد مع تضييع بعض الفرائض والواجبات.

٢ ـ حرمة تأخير الحج مع القدرة على أدائه تسويفا وتماطلا مع الإيمان بفرضيته.

٣ ـ وجوب الزكاة والترغيب في الصدقات الخاصة كصدقة الجهاد والعامة على الفقراء والمساكين.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

سورة التغابن

مكية الا آخرها فمدني وآياتها ثماني عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤))

شرح الكلمات :

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ) : أي ينزه الله ويقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.

(ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) : أي من سائر المخلوقات بلسان الحال والقال.

(لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) : أي له دون غيره الملك الدائم الحق وله الحمد العام.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : أي هو ذو قدرة كاملة على فعل ما أراد ويريد.

(فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) : أي فبعضكم مؤمن موقن بربه ولقائه وبعضكم كافر جاحد دهرى ، والواقع شاهد.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) : أي صوركم في الأرحام فأحسن صوركم.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) : أي المرجع يوم القيامة.

(وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي بما في الصدور من الضمائر والسرائر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي (١) السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) يخبر تعالى معلما عباده بربوبيته الموجبة لعبادته وطاعته وطاعة رسوله بأنه يسبحه جميع خلائقه في الملكوت الأعلى والأسفل وقوله (لَهُ (٢) الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ) أي أنه له الملك وهو الملك الحق وأنه له الحمد وهو الثناء الجميل (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي وأنه على فعل كل شيء قدير لا يعجزه شيء (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) أي وأنه خالق الكل فمن عباده المؤمن به ومنهم الكافر كما هو الواقع. وأنه بما يعمل عباده من خير أو شر من حسنات أو سيئات خبير أي مطلع وسيجزى الكل بأعمالهم حسنها وسيئها ، وأنه (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ (٣) بِالْحَقِ) لا للهو ولا اللعب ولا للعبث بل بالحق وهو أن يذكر ويشكر من عباده وأنه صور العباد في الأرحام فأحسن صورهم وجملها ، فهى أجمل المخلوقات الأرضية على الإطلاق ، وانه إليه لا إلى غيره المرجع يوم القيامة فيحاسب ويجزى وهو الحكم العدل العزيز الحكيم. وانه تعالى (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من سائر المخلوقات والحوادث والأحداث ، وانه يعلم ما يسر عباده من أعمال وأقوال ونيات ، وما يعلنون من ذلك. وأنه (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي ما فيها من أسرار وخواطر ونيات وارادات.

أخبر عباده بهذا (٤) ليؤمنوا به ويعبدوه دون غيره فيكملون ويسعدون بعبادته فله الحمد وله المنة وهو الرحمن الرحيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تعليم الله تعالى عباده وتعريفهم بجلاله وكماله ليؤمنوا به ويعبدوه ليكملوا ويسعدوا في

__________________

(١) اللام في قوله : (اللهُ) مزيدة لتقوية الكلام إذ فعل سبح يتعدى بنفسه يقال : سبحه : إذا نزهه وقال : (ما فِي السَّماواتِ) ولم يقل : من تغليبا لغير العاقل لكثرته.

(٢) (لَهُ الْمُلْكُ) : تقديم الخبر على المبتدأ هنا للدلالة على الاختصاص فهو تعالى مختص بكل من الملك والحمد.

(٣) الباء في (بِالْحَقِ) للملابسة أي خلقا ملتبسا بالحق بعيدا عن اللهو ، واللعب والباطل.

(٤) في الآيات تقرير البعث وإمكانه بحجج عقلية لا تردها العقول الراجحة والفطر السليمة.

الحياتين بالإيمان به وبطاعته وطاعة رسوله.

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ المؤمن مؤمن ، والكافر كافر مكتوب ذلك في كتاب المقادير ، ثم يظهره تعالى فى عالم الشهادة قائما على سننه في خلقه.

٣ ـ وجوب مراقبة الله تعالى والحياء منه لأنه عليم بذات الصدور.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) : أي ألم يأتكم يا كفار قريش خبر الذين كفروا من قبلكم.

(فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) : أي عقوبة كفرهم في الدنيا.

(وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) : أي في الآخرة.

(ذلِكَ) : أي العذاب في الدنيا والآخرة.

(بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ) : أي بسبب أنها كانت تأتيهم رسلهم.

(بِالْبَيِّناتِ) : أي بالحجج القواطع الدالة على صحة رسالاتهم.

(فَقالُوا : أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) : أي ردوا عليهم ساخرين مكذبين : أبشر يهدوننا؟

(فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) : أي فكفروا برسلهم وتولوا عنهم أي أعرضوا.

(وَاسْتَغْنَى اللهُ) : أي عن إيمانهم.

(وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) : أي غنى عن خلقه محمود بأفعاله وآلائه على خلقه.

معنى الآيتين :

بعد أن بين تعالى للناس مظاهر ربوبيته المقتضية لعلمه وقدرته وحكمته وعدله ورحمته في الآيات السابقة والموجبة لألوهيته قرر في هاتين الآيتين نبوة ورسالة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لكفار

مكة (أَلَمْ يَأْتِكُمْ (١) نَبَأُ) أي خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) (٢) كقوم عاد وثمود وأصحاب مدين ، (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) (٣) أي عقوبة كفرهم التى كانت عقوبة ثقيلة شديدة فأهلكوا فى الدنيا بعذاب إبادى استئصالى ، وفي الآخرة (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٤) وبين لهم سبب ذلك الهلاك والعذاب فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ (٥) تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين على أنهم رسل إليهم ، وأنه لا إله إلا الله فلا تصح العبادة لغير الله ، فيقابلونهم بالسخرية والإعراض والاستنكار وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (فَقالُوا أَبَشَرٌ (٦) يَهْدُونَنا) أي كيف يكون بشر مثلكم يهدوننا ، وبذلك (فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا) عن الإيمان والإسلام. (وَاسْتَغْنَى اللهُ) عن إيمانهم فأهلكهم لما كفروا به وبرسله. ولم يأسف أو يأس عليهم لعدم حاجته إليهم (وَاللهُ غَنِيٌ) عنهم وعن سائر خلقه (حَمِيدٌ) أي محمود بأفعاله الشاهدة بكماله وجلاله وجماله.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ توبيخ من يستحق التوبيخ وتأنيب من يستحق التأنيب.

٢ ـ التكذيب للرسل والكفر بتوحيد الله موجب للعقوبة في الدنيا والعذاب في الآخرة.

٣ ـ تقرير نبوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإثباتها لأن شأنه شأن الرسل من قبله.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)

__________________

(١) الاستفهام تقريري.

(٢) حذف المضاف إليه مع (قَبْلُ) ونوي معناه دون لفظه فلذا بنيت قيل على الضم والتقدير : نبأ الذين كفروا من قبلكم.

(٣) الوبال : السوء ، وما يكره ، والأمر : الشأن والحال.

(٤) أي : في الآخرة لأن العطف يقتضي المغايرة.

(٥) الإشارة عائدة إلى المذكور قبلها وهو الوبال والعذاب الأليم.

(٦) الاستفهام في (أَبَشَرٌ) استفهام إنكاري إبطالي.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

شرح الكلمات :

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) : أي قالوا كاذبين إنهم لن يبعثوا أحياء من قبورهم.

(قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَ) : قل لهم يا رسولنا بلى لتبعثن ثم تنبئون بما عملتم.

(وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : أي وبعثكم وحسابكم ومجازاتكم بأعمالكم شيء يسير على الله.

(وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) : أي وآمنوا بالقرآن الذي أنزلناه.

(لِيَوْمِ الْجَمْعِ) : أي يوم القيامة إذ هو يوم الجمع.

(ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) : أي يغبن المؤمنون الكافرين يأخذ منازل الكفار في الجنة واخذ الكفار منازل المؤمنين في النار.

(ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) : أي تكفيره تعالى عنهم سيئاتهم وإدخالهم جنات تجرى من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم.

(بِئْسَ الْمَصِيرُ) : أي قبح المصير الذي صاروا إليه وهو كونهم أهلا للجحيم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش إنه بعد أن ذكرهم بمصير الكافرين من قبلهم وفي ذلك دعوة واضحة لهم إلى الإيمان بتوحيد الله وتصديق رسوله. دعاهم هنا إلى الإيمان بأعظم أصل من أصول الهداية البشرية وهو الإيمان بالبعث والجزاء وهم ينكرون ويجاحدون ويعاندون فيه فقال في أسلوب غير المواجهة بالخطاب (زَعَمَ) (١) (الَّذِينَ كَفَرُوا) والزعم ادعاء باطل وقول إلى الكذب أقرب منه إلى الصدق. (أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أي أنهم إذا ماتوا لن يبعثوا أحياء يوم القيامة. قل لهم يا رسولنا : (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ) ولازم ذلك الجزاء العادل على كل أعمالكم وهي أعمال فاسدة غير صالحة مقتضية للعذاب والخزي في جهنم (وَذلِكَ عَلَى اللهِ (٢) يَسِيرٌ) أي وأعلمهم أن بعثهم وتنبئتهم بأعمالهم وإثابتهم عليها أمر سهل هين لا صعوبة فيه وبعد هذه

__________________

(١) هنا كلام مستأنف استئنافا ابتدائيا المخاطب فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر فيه كفر المشركين بالبعث ويرد عليهم بتقرير مانفوه وزعموا أنه غير واقع ، والزعم : القول الموسوم بمخالفة الواقع ، ويطلق على الخبر المشكوك في وقوعه.

(٢) (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : تذييل ، واسم الإشارة عائد إلى البعث المفهوم من قوله : (لَتُبْعَثُنَ).

اللفتة اللطيفة دعاهم دعوة كريمة إلى طريق سعادتهم ونجاتهم فقال عزوجل : (فَآمِنُوا بِاللهِ (١) وَرَسُولِهِ) أي صدقوا بتوحيد الله وبنبوة رسوله وبالنور الذي أنزلنا وهو القرآن الكريم ، واعملوا الصالحات وتباعدوا عن السيئات (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي وسيجزيكم بأعمالكم. وذلك (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ويجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) (٢) الحقيقي حيث يرث أهل الجنة منازل أهل النار في الجنة ويرث أهل النار منازل أهل الجنة في النار ، وهذا قائم على أساس أن الله تعالى أوجد لكل انسان منزلا في الجنة وآخر في النار ، فمن آمن وعمل صالحا دخل الجنة وحاز منزله ومنزل إنسان آخر هو في النار فحصل بذلك الغبن بينه وبين من هو في النار قد ورث منزله فيها وبعد هذا الدعاء الخاص الموجه إلى كفار قريش قال تعالى واعدا عامة الناس عربهم وعجمهم من وجد منهم ومن لم يوجد بعد : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ (٣) وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ (٤) عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) لأنه نجاة من النار ودخول الجنة هذا وعده الصادق لمن آمن وعمل صالحا. وقال : (وَالَّذِينَ (٥) كَفَرُوا) أي بالله ورسوله ولقائه وكذبوا بآياتنا أي القرآن وما فيه من شرائع وأحكام والتكذيب مانع من العمل الصالح قطعا إذا (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) النار والخلود فيها هذا وعيده تعالى المقابل لوعده السابق اللهم اجعلنا من أهل وعدك ولا تجعلنا من أهل وعيدك يا واسع الفضل يا رحمن.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء.

٢ ـ تقرير التوحيد والنبوة.

٣ ـ بيان كون القرآن نورا فلا هداية في هذه الحياة إلا به فمن طلبها في غيره ما اهتدى.

__________________

(١) (فَآمِنُوا) : الفاء هي الفصيحة إذ أفصحت عن شرط مقدر ، والتقدير : فإذا علمتم هذه الحجج وتذكرتم ما حل بأسلافكم من العقاب فآمنوا بالله ورسوله لتنجوا مما حل بالكافرين من أمثالكم.

(٢) الإتيان باسم الإشارة بدل الضمير كان لقصد الاهتمام بهذا اليوم بتمييزه مع ما يفيده اسم الإشارة من البعد والعلو نحو : (ذلِكَ الْكِتابُ) والتغابن : تفاعل صادر بين اثنين هذا مغبون وذاك غابن ، والغبن : أن يعطى البائع ثمنا دون ثمن بضاعته.

(٣) هذه الآية متضمنة تفصيلا لما أجمل في الجمل قبلها وتحمل عفوا عاما لمن آمن من الكافرين ووحد من المشركين بأن الله تعالى سيعفو عنهم ويغفر لهم ويدخلهم الجنة.

(٤) قرأ نافع : نكفر وندخل بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى المتكلم. وقرأ حفص (يكفر) و (يدخل) بياء الغيبة على مقتضى الظاهر.

(٥) أي : والذين استمروا على الكفر والتكذيب ولم يتوبوا بالإيمان وترك الشرك والمعاصي فجزاؤهم الملائم لخبث نفوسهم من جراء الشرك والمعاصى هو ما ذكر تعالى من الخلود في النار.

٤ ـ الترغيب في الإيمان والعمل الصالح وبيان أنهما مفتاح دار السلام.

٥ ـ التحذير من الكفر والتكذيب بالقرآن وشرائعه وأحكامه فان ذلك يقود الى النار.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣))

شرح الكلمات :

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) : أي ما أصابت احدا من الناس مصيبة الا بقضاء الله تعالى وتقديره ذلك عليه.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) : أي ومن يصدق بالله فيعلم أنه لا أحد تصيبه مصيبة الا بإذنه تعالى يهد قلبه للتسليم والرضاء بقضائه فيسترجع ويصبر.

(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) : أي عن طاعة الله ورسوله فلا ضرر ولا بأس على رسولنا في توليكم إذ عليه إبلاغكم لا هدايتكم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ما أَصابَ (١) مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢) في هذه الآية رد على الكافرين الذين يقولون لو كان المسلمون على حق ، وما هم عليه حقا لصانهم الله من المصائب في الدنيا ، ولما سلط عليهم كذا وكذا ... فأخبر تعالى أنه ما من أحد من الناس تصيبه مصيبة في نفس أو ولد أو مال إلا وهي بقضاء الله وتقديره ذلك عليه ، ومن يؤمن بالله ربا وإلها عليما حكيما وأن ما أصابه لم

__________________

(١) قال القرطبي : قيل سبب نزول هذه الآية أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا ورد تعالى عليهم بأن المصائب التي تصيب العبد هي بإذن الله ولها أسبابها مرتبطة معها وهي سنن لله تعالى لا تتخلف.

(٢) أنثت المصيبة لأنها بمعنى الحادثة والإذن : أصله إجازة الفعل لمن يفعله والمراد هنا أن ما يصيب العبد من خير وشر هو بتدبير الله تعالى في ربطه الأسباب بالمسببات فعاد الأمر إلى إذنه تعالى بوقوع ما أراده من خير أو غيره.

يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه (١) يهد قلبه فيصبر ويسترجع فيؤجر وتخف عنده المصيبة بخلاف الكافر بالله وقضائه وقدره.

وقوله تعالى (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فلا يخفى عليه شيء فلا يحدث حدث في الكون الا بعلمه وإذنه وهذه حال تقتضى الرضا بالقضاء والقدر والتسليم لله تعالى فيما يقضى به على عبده وفي ذلك خير كثير لا يعرفه إلا أصحاب الرضا بالقضاء والتسليم للعليم الحكيم.

وقوله تعالى (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) يأمر تعالى عباده عامة بطاعة الله وطاعة رسوله لأن كمال الإنسان وسعادته مرتبطة بهذه الطاعة التي هي عبارة عن تطبيق نظام دقيق ينتج صفاء روح وزكاة نفس يتأهل بها العبد إلى النزول بالملكوت الأعلى «الجنة دار الأبرار».

وقوله (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن هذه الدعوة فرفضتم طاعة الله ورسوله فلا ضرر على رسولنا ولا ضير إذ عليه البلاغ المبين وقد بلغ مبينا غاية التبيين ، وأما هدايتكم فلم يكلف بها إذ لا يقدر عليها ولا يكلف الله نفسا إلا طاقتها.

وقوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي أن الذي أمركم بطاعته وطاعة رسوله هو الله الذي لا إله إلا هو أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة ولا تصلح الا له لأنه الخالق لكم الرازق المدبر لحياتكم ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) (٢) (الْمُؤْمِنُونَ) فإنه يكفي المؤمن الذي يتوكل عليه يكفيه كل ما يهمه من أمر دنياه وآخرته. ولا كافى إلا هو سبحانه وتعالى.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٢ ـ وجوب الصبر عند نزول المصيبة والرضا والتسليم لله تعالى في قضائه وحكمه ، ومن تكن هذه حاله يهد الله قلبه (٣) ويرزقه الصبر وعظيم الأجر ويلطف به في مصيبته وإن هو استرجع قائلا إنا لله وإنا اليه راجعون أخلفه الله عما فقده وآجره.

٣ ـ وجوب طاعة الله وطاعة رسوله في الأمر والنهي.

٤ ـ تقرير التوحيد.

__________________

(١) (يَهْدِ قَلْبَهُ) عندما تصيبه المصيبة فيسترجع أي : يقول إنا لله وإنا إليه راجعون ويصبر ، فالإيمان هو السبب في حصول هداية القلب فإذا هدى القلب حصل الاسترجاع وحصل الصبر وخف وقع المصيبة.

(٢) الجملة معطوفة على قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ) فهي في معنى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، وتوكلوا على الله وحده لأن الطاعة تتطلب عملا وجهدا وهما يتطلبان اعتمادا على الله إذ هو المعين للعبد على الطاعة دون غيره فليكن التوكل عليه وحده.

(٣) (يَهْدِ قَلْبَهُ) فيسترجع ويصبر ، والإيمان الصحيح هو الذي ينتج هداية القلب فإذا اهتدى القلب إلى معرفة حكم الله وقضائه صبر وظفر.

٥ ـ وجوب التوكل على الله تعالى وهو فعل المأمور وترك المنهى وتفويض الامر لله بعد ذلك.

ولن يكون الا خيرا بإذن الله تعالى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) : أي من بعض أزواجكم وبعض أولادكم عدوا أي يشغلونكم عن طاعة الله أو ينازعونكم في أمر الدين أو الدنيا.

(فَاحْذَرُوهُمْ) : أي أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير كترك الهجرة أو الجهاد أو صلاة الجماعة أو التصدق على ذوي الحاجة.

(وَإِنْ تَعْفُوا) : أي عمن ثبطكم عن الخير من زوجة وولد.

(وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) : أي وتعرضوا عنهم وتغفروا لهم ما عملوه معكم من تأخيركم عن الهجرة أو الجهاد أو الإنفاق في سبيل الله.

(فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي يغفر لمن يغفر ويرحم من يرحم.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) : أي بلاء واختبار لكم فاحذروا أن يصرفوكم عن طاعة الله أو يوقعوكم في معصيته.

(وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) : أي فآثروا ما عنده تعالى على ما عندكم من مال وولد.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) : أي افعلوا ما تقدرون عليه من أوامره ، واجتنبوا نواهيه كلها.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) : أي ومن يقه الله شح نفسه فيعافيه من البخل والحرص على المال.

(يُضاعِفْهُ لَكُمْ) : أي الدرهم بسبعمائة.

(وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) : أي يجازى على الطاعة ولا يعاجل بالعقوبة.

معنى الآيات :

هذه الآيات الكريمة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الى قوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) نزلت (١) في أناس كان لهم أزواج وأولاد عاقوهم عن الهجرة والجهاد فترة من الوقت فلما تغلبوا عليهم وهاجروا ووجدوا الذين سبقوهم إلى الهجرة قد تعلموا وتفقهوا في الدين فتأسفوا عن تخلفهم فهموا بأزواجهم وأولادهم الذين عاقوهم عن الهجرة فترة طويلة أن يعاقبوهم بنوع من العقاب من تجويع أو ضرب أو تثريب وعتاب فأنزل الله تعالى هذه الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا أيها المؤمنون (إِنَّ مِنْ (٢) أَزْواجِكُمْ (٣) وَأَوْلادِكُمْ) أي من بعضهم لا كلهم إذ منهم من يساعد على طاعة الله ويكون عونا عليها (عَدُوًّا لَكُمْ) يصرفكم عن طاعة الله والتزود للدار الآخرة ، وقد ينازعونكم في دينكم ودنياكم إذا (فَاحْذَرُوهُمْ) أي كونوا منهم على حذر أن تطيعوهم في التخلف عن فعل الخير من هجرة وجهاد وغيرهما (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) أي عمن شغلوكم عن طاعة الله فعاقوكم عن الهجرة والجهاد فلم تضربوهم ولم تجوعوهم ولم تثربوا عليهم ولم تعاتبوهم بل تطلبون العذر لما قاموا به نحوكم يكافئكم الله تعالى بمثله فيعفو عنكم ويصفح ويغفر لكم كما عفوتم وصفحتم وغفرتم لأزواجكم وأولادكم الذين أخروا هجرتكم وعطلوكم عن الجهاد في سبيل الله.

__________________

(١) قال القرطبي : قال ابن عباس : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي بالمدينة النبوية شكا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جفاء أهله وولده ، وعن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة التغابن كلها جملة إلا هؤلاء الآيات (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ.). الخ.

(٢) الآية عامة في الرجال والنساء فكما يكون للرجل من امرأته وولده عدو يكون كذلك للمرأة من زوجها وولدها عدو ، ووجب الحذر على المؤمنين ، ويكون الحذر بوجهين : إما لضرر في البدن وإما لضرر في الدين ، وضرر البدن يتعلق بالدنيا وضرر الدين يتعلق بالآخرة فحذر الله تعالى العبد من ذلك وأنذره به.

(٣) (مِنْ) للتبعيض إذ ما كل من له زوجة وولد كانوا له عدوا.

وقوله تعالى (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ (١) وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) أي إنما أموالكم وأولادكم أي كل أموالكم وأولادكم فتنة واختبار من الله لكم هل تحسنون التصرف فيهم فلا تعصوا الله لأجلهم لا بترك واجب ولا بفعل ممنوع ، أو تسيئون التصرف فيحملكم حبهم على التفريط في طاعة الله أو التقصير في بعضها بترك واجب أو فعل حرام والله عنده أجر عظيم فآثروا ما عند الله على ما عندكم من مال وولد ، إن ما عند الله باق ، وما عندكم فإن ، فآثروا الباقى على الفانى.

وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) هذا من إحسان الله تعالى الى عباده المؤمنين إنه لما علمهم أن أموالهم وأولادهم فتنة وحذرهم أن يؤثروهم على طاعة الله ورسوله علم أن بعض المؤمنين سوف يزهدون فى المال والولد ، وأن بعضا سوف يعانون أتعابا ومشقة شديدة في التوفيق بين خدمة المصلحتين فأمرهم أن يتقوه في حدود ما يطيقون فقط وخير الأمور الوسط فلا يفرط في ولده وماله ، ولا يفرط في علة وجوده وسبب نجاته وسعادته وهي عبادة الله تعالى التي خلق لأجلها وعليها مدار نجاته من النار ودخوله الجنة.

وقوله تعالى (وَاسْمَعُوا) (٣) ما يدعوكم الله ورسوله إليه (وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا) في طاعة الله من أموالكم (٤) (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) من عدم الإنفاق فإنه شر لكم وليس بخير.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أعلمهم أن عدم الإنفاق ناتج عن شح النفس ، وشح النفس لا يقى منه إلا الله ، فعليكم باللجوء إلى الله تعالى ليحفظكم من شح نفوسكم فادعوه وتوسلوا إليه بالإنفاق قليلا قليلا حتى يحصل الشفاء من مرض الشح الذي هو البخل مع الحرص الشديد على جمع المال والحفاظ عليه ومن شفي من مرض الشح أفلح وأصبح في عداد المفلحين الفائزين بالجنة بعد النجاة من النار. وقوله (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ (٥) وَيَغْفِرْ لَكُمْ) هذا الترغيب عظيم من الله تعالى للمؤمنين في النفقة في سبيله

__________________

(١) (فِتْنَةٌ) أي : بلاء واختبار يحملكم على كسب المحرم ومنع حق الله تعالى فلا تطيعوهم في معصية الله تعالى ، روي عن ابن مسعود انه كان يقول : لا تقولوا : اللهم اعصمني من الفتنة فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وأهل وولد إلا وهو مشتمل على فتنة ولكن ليقل اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.

(٢) هل هذه الآية مخصصة لآية آل عمران : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) هذا هو الظاهر إذ من غير الممكن أن يتقى الله حق تقاته أي : تقواه الحقة فلو أن العبد ذاب ذوبانا من خشية الله تعالى ما اتقى الله حق تقاته.

(٣) قال القرطبي : اسمعوا ما توعظون به وأطيعوا فيما تؤمرون به وتنهون عنه ، والآية أصل في السمع والطاعة في بيعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على السمع والطاعة ولأولى الأمر.

(٤) يصح في نصبه ثلاثة أوجه الأول أن يكون الخير بمعنى المال ويكون خيرا مفعولا به ، والثاني : أن يكون (خَيْراً) نعتا لمصدر محذوف أي أنفقوا إنفاقا خيرا ، والثالث أن يكون منصوبا بفعل مضمر دل عليه أنفقوا أي ايتوا في الإنفاق خيرا لأنفسكم.

(٥) المضاعفة : هي إعطاء الضعف ، والشكور : فعول بمعنى فاعل أي : مبالغة في الشكر.

إذ سماها قرضا والقرض مردود وواعد بمضاعفتها وزيادة أخرى أن يغفر لهم بذلك ذنوبهم ، واشتراط الحسن للقرض اشتراط معقول وهو أن يكون المال الذي أقرض الله حلالا لا حراما ، وأن تكون النفس طيبة به لا كارهة له ، وهذا من باب النصح للمؤمنين ليحصلوا على الأجر مضاعفا. وقوله تعالى (وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) ترغيب ايضا لهم في الإنفاق لأن الشكور معناه يعطي القليل فيكافيء بالكثير ، والحليم الذي لا يعاجل بالعقوبة. ومثله يقرض القرض الحسن. وقوله (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ترغيب ايضا في الإنفاق إذا أعلمهم أنه لا يغيب عنه من أمورهم شيء يعلم الخفي منها والعلنى ، وما غاب عنهم فلم يروه وما ظهر لهم فشهدوه فذو العلم بهذه المثابة معاملته مضمونة لا يخاف ضياعها ولا نسيانها. وقوله (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي العزيز الانتقام من أعدائه الحكيم في إجراء أحكامه وتدبير شؤون عباده.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن من بعض الزوجات والأولاد عدوا فعلى المؤمن أن يحذر ذلك ليسلم من شرهم.

٢ ـ الترغيب في العفو والصفح والمغفرة على من أساء أو ظلم.

٣ ـ التحذير من فتنة المال والولد ووجوب التيقظ حتى لا يهلك المرء بولده وماله.

٤ ـ وجوب تقوى الله بفعل الواجبات وترك المنهيات في حدود الطاقة البشرية.

٥ ـ الترغيب في الإنفاق في سبيل الله تعالى والتحذير من الشح فإنه داء خطير.

سورة الطلاق

مدنية وآياتها ثلاث عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ

اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) : أراد الله بالنداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته بدليل ما بعده.

(إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) : أي إذا أردتم طلاقهن.

(فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) : أي لقبل عدتهن أي في طهر لم يجامعها فيه.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) : أي احفظوا مدتها حتى يمكنكم المراجعة فيها.

واتقوا ربكم : أي أطيعوه في أمره ونهيه.

(لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) : أي لا تخرجوا المطلقة من بيت زوجها الذي طلقها حتى تنقضي عدتها.

(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) : أي إلا أن يؤذين بالبذاء في القول وسوء الخلق ، أو يرتكبن فاحشة من زنا بينة ظاهر لا شك فيها.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) : أي المذكورات من الطلاق في أول الطهر وإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها حتى تنقضي عدتها.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) : أي يجعل في قلب الزوج الرغبة في مراجعتها فيراجعها إذا لم تكن الثالثة من الطلقات.

معنى الآية

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) (١) يخاطب الله تبارك وتعالى رجال أمة الإسلام في شخصية نبيها محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول : إذا طلقتم (٢) أي إذا أردتم طلاقهن لأمر اقتضى ذلك (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي لأول عدتهن وذلك في طهر لم تجامع فيه لتعد ذلك الطهر أول عدتها. وقوله تعالى :

__________________

(١) في سنن ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلق حفصة رضي الله عنها ثم راجعها بأمر الله تعالى وقيل له : راجعها فإنها قوامة صوامة رضي الله عنها وأرضاها ، وضعف الحديث ، وعلى كل حال فالآية تشريع عام لأمة الإسلام بغض الطرف عن سبب النزول.

(٢) وردت أحاديث كثيرة ضعيفة السند ومجموعها يدل على كراهية الطلاق وأنه عمل غير صالح إن كان بدون ضرورة وهي رفع الضرر عن أحد الزوجين. الجمهور أن من طلق واستثنى فله ما استثناه فلو قال : أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) أي احفظوها فاعرفوا بدايتها ونهايتها لما يترتب على ذلك من أحكام من صحة المراجعة وعدمها ، ومن النفقة ، والإسكان وعدمهما. وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) فامتثلوا أوامره وقفوا عند حدوده فلا تتعدوها ، (لا تُخْرِجُوهُنَ) أي المطلقات (مِنْ بُيُوتِهِنَ) اللاتي طلقن فيهن ، (وَلا يَخْرُجْنَ) أي ويجب أن لا يخرجن من بيوتهن (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كزنا ظاهر أو تكون سيئة بذيئة اللسان فتؤذى أهل البيت أذى لا يتحملونه فعندئذ يباح إخراجها.

وقوله تعالى : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي المذكورات من الطلاق لأول الطهر ، وإحصاء العدة ، وعدم إخراجهن من بيوتهن ، وقوله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) فيتجاوزها ولم يقف عندها (فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) وتعرض لعقوبة الله تعالى عاجلا أو آجلا.

وقوله تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) أي بأن يجعل الله تعالى في قلب الرجل رغبة في مراجعة مطلقته فيراجعها ، وفي ذلك خير كثير.

هداية الآية :

من هداية الآية :

١ ـ بيان السنة في الطلاق وهي أن يطلقها في طهر لم يمسها (١) فيه بجماع.

٢ ـ أن يكون الطلاق واحدة لا اثنتين ولا ثلاثا.

٣ ـ وجوب إحصاء العدة ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته لما يترتب على ذلك من أحكام الرجعة والنفقة والإسكان.

٤ ـ حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه إلى أن تنقضي عدتها إلا أن ترتكب فاحشة ظاهرة كزنا أو بذاءة أو سوء خلق وقبيح معاملة فعندئذ يجوز إخراجها.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ

__________________

(١) وأن يكون واحدة لا اثنتين أو ثلاثا ، وطلاق البدعة خلافه وهو : أن يطلقها وهي حائض أو في طهر جامعها فيه أو بلفظ اثنين أو ثلاث ومن أهل العلم من لا يعد الطلاق البدعي طلاقا ، ومنهم من يمضيه واحتج المانعون والمجيزون بحديث ابن عمر في الصحيح : (إذ طلق ابن عمر زوجته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : ليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر بها الله عزوجل) فمن قال : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حسبها له طلقة قال الطلاق في الحيض يمضي وهو بدعة ، ومن قال : إن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يعدها بل قال له : (إذا طهرت ليطلق أو ليمسك) قال : الطلاق في الحيض بدعة ولا يمضي.

وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣))

شرح الكلمات :

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) : أي قاربن انقضاء عدتهن.

(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي بأن تراجعوهن بمعروف من غير ضرر.

(أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) : أي أتركوهن حتى تنقضى عدتهن ولا تضاروهن بالمراجعة.

(وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) : أي اشهدوا على الطلاق وعلى الرجعة رجلين عدلين منكم أي من المسلمين فلا يشهد كافر.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) : أي لا للمشهود عليه أو له بل لله تعالى وحده.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) : إي ذلكم المذكور من أول السورة من أحكام يؤمر به وينفذه من كان يؤمن بالله واليوم الآخر.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) : أي في أمره ونهيه فلا يعصه فيهما.

(يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) : أي من كرب الدنيا والآخرة.

(وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) : أي من حيث لا يرجو ولا يؤمل.

(فَهُوَ حَسْبُهُ) : أي كافيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) : أي من الطلاق والعدة وغير ذلك حدا وأجلا وقدرا ينتهى إليه.

معنى الآيتين :

ما زال السياق الكريم في بيان العدد وأحكام الطلاق والرجعة. قال تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ) (١) أي المطلقات (أَجَلَهُنَ) أي قاربن انقضاء العدة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي راجعوهن على أساس حسن العشرة والمصاحبة الكريمة لا للإضرار بهن كأن يراجعها ثم يطلقها يطول عليها العدة فهذا لا

__________________

(١) هذا لقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ) أي : قاربن من انقضاء الأجل.

يجوز لحرمة الإضرار بالناس وفي الحديث : لا ضرر (١) ولا ضرار. وقوله (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) وذلك بأن يعطيها ما بقى لها من مهرها ويمتعها (٢) بحسب حاله غنى وفقرا. وقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أي أشهدوا على النكاح والطلاق والرجعة أما الإشهاد على النكاح فركن ولا يصح النكاح بدونه ، وأما في الطلاق والرجعة فهو مندوب ، وقد يصح الطلاق والرجعة بدونه ، ويشترط في الشهود أن يكونوا عدولا ، وأن يكونوا مسلمين لا كافرين. (٣) وقوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) أي أدوها على وجهها ولا تراعوا فيها الا وجه الله عزوجل. وقوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي ذلكم المأمور به من أول السورة كالطلاق في طهر لم يجامعها فيه وكإحصاء العدة وعدم إخراج المطلقة من بيتها والإمساك بالمعروف والفراق بالمعروف والإشهاد في النكاح والطلاق والرجعة والإقساط في الشهادة كل ذلك يوعظ به أي يؤمر به وينفذه المؤمن بالله واليوم الآخر إذ هو الذي يخاف عقوبة الله وعذابه فلا يقدم علي معصيته.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) هذه الآية نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت أمه فبم تأمرني؟ قال آمرك وإياها أن تكثروا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت المرأة نعم ما أمرك به فجعلا يكثران منها فغفل العدو عن ابنهما فاستاق غنمهم وجاء بها الى أبويه فنزلت هذه الآية ، وهي عامة في كل من يتق الله تعالى فإنه يجعل له من كل ضيق مخرجا ومن كل كرب فرجا ، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يؤمل ، ولا يخطر له على بال ، ومن يتوكل على الله تعالى في أمره فلا يفرط في أمر الله ، ولا يضيع حقوقه فإن الله تعالى يكفيه ما يهمه من أمر دينه ودنياه. وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) (٤) أي منفذ أمره في عباده لا يعجزونه أبدا ، وقد (٥) جعل لكل شيء قدرا أي مقدارا وزمانا ومكانا فلا يتقدم ولا يتأخر ، ولا يزيد ولا ينقص فمن رضى فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ، ولا يقع في ملك الله الا ما يريد الله.

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحه.

(٢) المتعة واجبة للمطلقة التي لم يفرض لها صداق ولغيرها من المطلقات سنة مستحبة.

(٣) وأن يكونا ذكرين فالنساء شهادتهن خاصة في الأموال لا غير.

(٤) قرأ نافع إن الله بالغ أمره بتنوين بالغ ونصب أمره على أنه معمول لاسم الفاعل المنون ، وقرأ حفص بإضافة بالغ إلى أمره فبالغ مرفوع بدون تنوين وأمر : مجرور بالإضافة إليه.

(٥) أي : لكل شيء من الشدة والرخاء أجل ينتهي إليه. قاله القرطبي : وما في التفسير أوضح وأشمل.

هداية الآيتين :

من هداية الآيتين :

١ ـ لا تصح الرجعة إلا في العدة فإن انقضت العدة فلا رجعة وللمطلقة ان تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها.

٢ ـ لا تحل المراجعة للإضرار ، ولكن للفضل والإحسان وطيب العشرة.

٣ ـ مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة معا.

٤ ـ يشترط في الشهود العدالة ، فإذا خفت العدالة في الناس استكثر من الشهود.

٥ ـ وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى ، والرزق من حيث لا يرجو.

٦ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٧ ـ كفاية الله لمن توكل عليه. (١)

(وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

شرح الكلمات :

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) : والنسوة اللائي يئسن من الحيض.

(إِنِ ارْتَبْتُمْ) : أي شككتم في عدتهن.

(وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) : أي لكبر سن أو صغر سن.

(وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) : أي ذوات الأحمال : النساء الحوامل.

(أَجَلُهُنَ) : أي في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن.

__________________

(١) روى القرطبي عن الربيع بن خيثم قوله : إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ومن وثق به نجاه ومن دعاه أجاب له وتصديق ذلك في كتاب الله (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ). (إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ).

(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ) : أي ذلك المذكور في العدة وتفاصيلها.

(أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) : أي لتأتمروا به وتعملوا بمقتضاه.

معنى الآيين :

ما زال السياق الكريم في بيان أحكام الطلاق والرجعة والعدة فقال تعالى : (١) (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) (٢) (مِنَ الْمَحِيضِ) أي لكبر سنهن كمن تجاوزت الخمسين من عمرها إذا طلقت بعد الدخول بها. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) (٣) أيها المؤمنون في مدة عدتهن ، (فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ. وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) أي لصغرهن كذلك ، عدتهن ثلاثة أشهر وقوله (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) أي الحوامل إن طلقن أو مات عنهن أزواجهن أجلهن في انقضاء عدتهن أن يضعن حملهن أي وضع حملهن فمتى ولدت ما في بطنها من جنين فقد انقضت عدتها ولو وضعته قبل استكمال التسعة أشهر ، إن لم تتعمد إسقاطه بالإجهاض المعروف اليوم عند الكوافر والكافرين.

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) أي منكم أيها المؤمنون في هذه الأحكام المتعلقة بالطلاق والرجعة والعدة فلا يخالف أمره في ذلك يكافئه الله تعالى من فضله فيجعل له من أمره يسرا فيسهل عليه أمره ويرزقه ما تقر به عينه ويصلح به شأنه.

وقوله تعالى : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) أي ذلك المذكور من الأحكام في هذه السورة من الطلاق والرجعة والعدة وتفاصيلها حكم الله أنزله إليكم لتأمروا وتعملوا به فاعملوا به ولا تهملوه طاعة لله وخوفا من عذابه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أوامره ونواهيه فيؤدى الواجبات ويتجنب المحرمات (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) أي يغفر له ذنوبه ويدخله الجنة.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ بيان العدة وهي كالتالي :

١ ـ متوفى عنها زوجها وهي غير حامل عدتها : أربعة أشهر وعشر ليال.

__________________

(١) روي أن عددا من الصحابة وهم : أبي بن كعب وخلاد بن النعمان ومعاذ بن جبل كل واحد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عدة الصغيرة والكبيرة ممن لا يحضن وعدة الحامل كذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ). والآية مخصصة لعموم آية البقرة (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة.

(٢) اليأس : عدم الأمل والميؤوس منه في الآية هو : الحيض وسواء كان قد وجد وانعدم أم لم يوجد بعد.

(٣) أطلق الفقهاء على التي تحيض وانقطع حيضها وهي لم تبلغ سن اليأس أطلقوا عليها : (المرتابة) وألزموها بأن تتربص تسعة أشهر وهي مدة الحمل فإن لم تحض ولم يظهر لها حمل اعتدت بثلاثة أشهر فتتم لها سنة ثم لها أن تتزوج لانقضاء عدتها.

٢ ـ متوفى عنها زوجها وهى حامل : عدتها وضع حملها. (١)

٣ ـ مطلقة لا تحيض لكبر سنها أو لصغر سنها وقد دخل بها : عدتها ثلاثة أشهر.

٤ ـ مطلقة تحيض عدتها ثلاثة قروء أي حيض تبتدىء بالحيضة التي بعد الطهر الذي طلقت فيه. أو ثلاثة اطهار (٢) كذلك الكل واسع ولفظ القرء مشترك دال على الحيض وعلى الطهر.

٥ ـ بيان أن أحكام الطلاق والرجعة والعدد مما أوحى الله به وأنزله في كتابه فوجب العمل به ولا يحل تبديله أو تغييره باجتهاد أبدا.

٦ ـ فضل التقوى وأنها باب كل يسر وخير في الحياة الدنيا والآخرة.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧))

شرح الكلمات :

(مِنْ وُجْدِكُمْ) : أي من وسعكم بحيث يسكن الرجل مطلقته في بعض سكنه.

(وَلا تُضآرُّوهُنَ) : أي لا تطلبوا ضررهن بأي حال من الأحوال سواء في السكن أو النفقة.

__________________

(١) اختلف في الحامل تسقط هل تنقضي عدتها بالإسقاط أو لا فالإجماع إن كان ما سقط منها ولد تام الخلقة فإن عدتها انتهت بذلك ، واختلف فيما إذا كان السقط مجرد علقة أو مضغة والراجع أنها تحل لأن العبرة بخلو الرحم يقينا وقد خلا بالإسقاط.

(٢) الاعتداد بالأطهار أولى لما فيه من التخفيف على المعتدة ولظاهر الآية (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) أي : لأول عدتهن وهو الطهر الذي طلقها فيه ولم يمسها.

(لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) : أي لأجل أن تضيقوا عليهن السكن فيتركنه لكم ويخرجن منه.

(وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ) : أي حوامل يحملن الأجنة في بطونهن.

(فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ) : أي أولادكم.

(فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) : فاعطوهن أجورهن على الإرضاع هذا في المطلقات.

(وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) : أي وتشاورا أو ليأمر كل منكم صاحبه بأمر ينتهى باتفاق على أجرة معقولة لا إفراط فيها ولا تفريط.

(وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ) : فإن امتنعت الأم من الإرضاع أو امتنع الأب من الأجرة.

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ) : أي لينفق على المطلقات المرضعات ذو الغنى من غناه.

(وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) : ومن ضيق عليه عيشه فلينفق بحسب حاله.

معنى الآيتين :

بعد بيان الطلاق بقسميه الرجعى والبائن وبيان العدد على اختلافها بين تعالى في هاتين الآيتين أحكام النفقات والإرضاع فقال تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ (١) مِنْ وُجْدِكُمْ) أي من وسعكم (وَلا تُضآرُّوهُنَ) (٢) بأي مضارة لا في السكن ولا في الإنفاق ولا في غيره من أجل أن تضيقوا عليهن فيتركن لكم السكن ويخرجن. وهؤلاء المطلقات طلاقا رجعيا وهن حوامل أو غير حوامل. وقوله تعالى (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) أي وان كانت المطلقة طلاق البتة أي طلقها ثلاث مرات فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن أي أسكنوهن وأنفقوا عليهن إلى أن يلدن فإن وضعت حملها فهما بالخيار إن شاءت أرضعت له ولده بأحرة يتفقان عليها وان شاء هو أرضع ولده مرضعا غير أمه وهو معنى قوله تعالى (فَإِنْ أَرْضَعْنَ (٣) لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ) وذلك يتم بتبادل الرأي الى الاتفاق على أجرة معينة ، وان تعاسرا بأن طلب كل واحد عسر الثاني أي تشاحا في الأجرة فلم يتفقا فلترضع له أي للزوج امرأة أخرى من نساء القرية.

__________________

(١) قال أشهب عن مالك : يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل للآية (أَسْكِنُوهُنَ) والصحيح أن المنزل إذا كان يتسع لهما معا هي في حجرة وهو في أخرى فلا داعي لإخلائه لها وإن كان لا يتسع إلا لواحد فنعم يجب أن يتركه لها ، وقوله تعالى : (مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) يقرر أن السكنى تكون في بيت الزوج المطلق.

(٢) المضارة : الإضرار ، والمراد بالتضييق المحرم : إحراجهن أو أذاهن بأي أذى. فقوله تعالى : (وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ) شامل للمضايقة في السكنى والنفقة وفي العدة بأن يطلقها حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها ثم يطلقها.

(٣) هل على المرأة أن ترضع ولدها؟ إن كانت عصمة الزوجية قائمة فالصحيح أنها ترضع ولدها وجوبا وإن انفصلت عروة الزوجية فلا يجب على الوالدة إرضاع إلا إذا لم يقبل غيرها وخيف عليه الموت فيتعين عليها إرضاعه بأجرة إن شاءت. وأبو حنيفة لا يرى وجوب الإرضاع على الأم مطلقا ويرى بعض العكس. والوسط ما قدمناه وهو الحق.

وقوله تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو) (١) (سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) أمر تعالى المؤمن إذا طلق أن ينفق على مطلقته التى ترضع له ولده أو التي هى في عدتها في بيته بحسب يساره وإعساره أو غناه وافتقاره ، إذ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما) أعطاها من قدرة أو غنى وطول والقاضى هو الذي يقدر النفقة عند المشاحة وتكون بحسب دخل الرجل وما يملك من مال.

وقوله تعالى : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) هذا وعد صدق أتمه لأصحاب رسوله حيث كانوا في عسر ففتح عليهم ملك كسرى والروم فأبدل عسرهم يسرا. وأما غيرهم فمشروط بالتقوى كما تقدم ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا.

هداية الآيتين

من هداية الآيتين :

١ ـ وجوب السكن والنفقة للمطلقة طلاقا رجعيا.

٢ ـ وجوب السكنى والنفقة للمطلقة الحامل حتى تضع حملها.

٣ ـ وجوب السكنى والنفقة للمتوفى عنها زوجها وهى حامل.

٤ ـ المطلقة البائن والمبتوتة لم يقض لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفقة ولا سكنى لحديث فاطمة (٢) بنت قيس أخت الضحاك ، ومن الفضل الذي ينبغي أن لا ينسى ان كانت محتاجة الى سكن أو نفقة ان يسكنها مطلقها وينفق عليها مدة عدتها. وأجره عظيم لأنه أحسن والله يحب المحسنين.

٥ ـ النفقة الواجبة تكون بحسب حال المطلق غنى وفقرا والقاضى يقدرها ان تشاحا.

٦ ـ المطلقة طلاقا بائنا إن أرضعت ولدها لها أجرة إرضاعها حسب اتفاق الطرفين الأم والأب.

٧ ـ بيان القاعدة العامة وهى أن لا تكلف نفس إلا وسعها.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩)

__________________

(١) في الآية دليل على وجوب نفقة الولد على والده وأما الأم فلا إلا لضرورة كأن يموت الوالد أو يعجز ، وكانت الأم قادرة فلتنفق وجوبا على طفلها.

(٢) وصف المالكية حديث فاطمة بالغرابة ، وأن عمر رضي الله عنه لم يقل به ، وقال : لا نترك كتاب الله لقول امرأة يعني أن الآية عامة في كل مطلقة لا فرق بين البائن وغيرها ، فالسكنى والنفقة للجميع وهو أرحم وأعظم أجرا والله أعلم.

أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

شرح الكلمات :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) : أي وكثير من قرية أي مدينة.

(عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها) : أي عصت يعنى أهلها عصوا ربهم ورسله.

(عَذاباً نُكْراً) : أي فظيعا.

(ذِكْراً رَسُولاً) : أي القرآن وأرسل إليكم رسولا هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) : أي من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد.

(قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) : أي رزق الجنة التى لا ينقطع نعيمها أبدا.

(وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) : أي سبع أرضين أرضا فوق أرض كالسموات سماء فوق سماء.

(يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) : أي الوحي بين السموات والأرض.

(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : أي أعلمكم بذلك الخلق العظيم والتنزيل العجيب لتعلموا ..

معنى الآيات :

لما قرر تعالى أحكام الطلاق والرجعة والعدة والنفقات وقال ذلك أمر الله أنزله إليكم ، وأوجب

العمل به حذر في هذه الآية من إهمال تلك الأحكام وتجاهلها وعدم القيام بها فقال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ) (١) (قَرْيَةٍ) أي كثير من المدن عتا أهلها أي ترفعوا متكبرين عن أوامر الله ورسله فلم يمتثلوها وعن الحقوق فلم يؤدوها حاسبها (٢) الله تعالى في الدنيا (حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) أي (٣) فظيعا. (فَذاقَتْ) بذلك (وَبالَ أَمْرِها) أي عقوبته (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) أي خسارا وهلاكا و (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً) هو عذاب يوم القيامة وفي تكرار الوعيد تحذير من الوقوع فيه بالشرك والظلم.

وقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه فلا تهملوا أحكامه ولا تعطلوها فيحل بكم ما حل بغيركم ممن عتوا عن أمر ربهم ورسله (يا أُولِي الْأَلْبابِ) أي العقول (الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) هو القرآن (رَسُولاً) (٤) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) (٥) واضحات في نفسها لا خفاء فيها ولا غموض ، (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ) أي ظلمات الكفر والشرك (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان والتوحيد والعمل الصالح.

وقوله تعالى (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ (٦) جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ (٧) اللهُ لَهُ رِزْقاً) هذا وعد كريم من رب رحيم يعد كل من آمن به وعمل صالحا أن يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن له فيها رزقا وهو نعيم الجنة الذى لا ينفد ولا ينقطع أبدا.

وقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٨) أي سبع أرضين واحدة فوق الأخرى كالسموات سماء فوق سماء هذا هو الله المعبود بحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه.

وقوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) أي (٩)

__________________

(١) (وَكَأَيِّنْ) : اسم لعدد كثير مبهم يفسره ما يميزه بعده من اسم مجرور بمن وهو بمعنى : كم الخبرية ، والمراد بالقرية : أهلها والقرية : المدينة الكبيرة.

(٢) (حاسبناها) بمعنى : جازيناها مجازاة دقيقة دقة الحساب.

(٣) قرأ نافع نكرا بضم النون والكاف ، وقرأ حفص (نُكْراً) بضم النون وإسكان الكاف. والعذاب النكر : ما ينكره المرء من فظاعة كيفيته إنكارا شديدا.

(٤) جائز أن يكون (رَسُولاً) بدل اشتمال من (ذكر) لتوقف الذكر على الرسول ، وجائز أن يكون (رَسُولاً) معمولا لفعل محذوف تقديره وأرسل إليكم رسولا ، وهذا واضح.

(٥) قرأ نافع مبينات بفتح الياء ، وقرأ حفص (مُبَيِّناتٍ) بكسرها والمعنى واحد.

(٦) قرأ نافع ندخله بالنون وقرأ حفص (يُدْخِلْهُ) بالياء.

(٧) (أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) قوله أحسن أبلغ من أعد لأن الإحسان لا يكون إلا بعد الإعداد.

(٨) كون الأرضين سبعا يشهد له قوله تعالى ومن الأرض مثلهن أي مثل السموات السبع ويشهد له السنة الصحيحة فقد روى عن سعيد بن زيد قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين. ومثله أبي هريرة وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأخذ أحد شبرا من الأرض بغير حق إلا طوقه الله إلى سبع أرضين يوم القيامة.

(٩) المراد بالأمر هنا أمر الله تعالى وهو ما يدبر به شؤون مخلوقاته في الأرض والسماء. من موت وحياة وغيرهما وأمر ونهي وعطاء ومنع وغيرهما ، والله أعلم بمراده من كلامه وهو العليم الحكيم.

أعلمكم بخلقه العظيم من السموات والأرضين وبتنزل الأمر بينهن في كل وقت وحين لتعلموا أنه تعالى على كل شيء قدير لترغبوا فيما عنده وأنه أحاط بكل علما لترهبوه وتراقبوه ، وبذلك تتهيؤن لإنعامه ورضاه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من ترك الأحكام الشرعية وإهمالها والعبث بها.

٢ ـ بيان منة الله على هذه الأمة بإنزال القرآن عليها وإرسال الرسول إليها.

٣ ـ بيان أن الكفر ظلمة وان الإيمان نور.

٤ ـ بيان عظمة الله تعالى وسعة علمه.

سورة التحريم (١)

مدنية وآياتها اثنتا عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً

__________________

(١) وتسمى سورة النبي أيضا.

خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

شرح الكلمات :

(لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) : أي لم تحرم جاريتك مارية التي أحلها الله لك.

(تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) : أي بتحريمها.

(قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) : أي شرع لكم تحليلها بالكفارة المذكورة في سورة المائدة.

(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) : هي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

(حَدِيثاً) : هو تحريم مارية وقوله لها لا تفشيه.

(فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) : أي نبأت حفصة عائشة أي أختبرها به ظنا منها أنه لا حرج في ذلك باجتهاد.

(وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ) : أي اطلعه عليه أي على المنبأ به.

(عَرَّفَ بَعْضَهُ) : أي لحفصة.

(وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) : أي تكرما منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) : أي حفصة وعائشة رضي الله عنهما تقبل توبتكما.

(فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) : أي مالت الى تحريم مارية أي سركما ذلك.

(وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) : أي تتعاونا أي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يكرهه.

(فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ) : أي ناصره.

(وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) : أي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

(وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) : أي ظهراء وأعوان له.

(قانِتاتٍ) : أي عابدات.

(سائِحاتٍ) : أي صائمات أو مهاجرات.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَ (١) اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ

__________________

(١) روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يمكث عند زينب بنت جحش فيشرب عندها عسلا ، قالت فتواطأت أنا وحفصة إن أيتنا دخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلتقل إني أجد منك ريح مغافير : أكلت مغافير : فدخل على إحداهما فقالت له ذلك فقال بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له. فنزل لم تحرم ما أحل الله لك إلى أن تتوبا ، المغافير جمع مغفور بقلة من البقول.

رَحِيمٌ) في هذا عتاب من الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ حرم جاريته مارية ترضية (١) وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلا بها في بيت إحدى نسائه فاطلعت عليه فقالت يا رسول الله في بيتي وعلى فراشي فجعلها أي مارية عليه حراما ترضية لصاحبة الحجرة والفراش. فأنزل الله تعالى هذه الآيات مشتملة على هذه القصة فقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) يعني جاريته مارية القبطية أم إبراهيم. (تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) أي تطلب رضاهن (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) بك فلا لوم عليك بعد هذا ولا عتاب فجاريتك لا تحرم عليك وكفر عن يمينك. إذ قال لها هى على (٢) حرام وو الله لا أطؤها.

وقوله تعالى (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ (٣) تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) أي ما تتحللون به من أيمانكم إذا حلفتم وهي ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ، ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ) وقوله تعالى (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) أي متولى أمركم وناصركم. (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بأحوال عباده (الْحَكِيمُ) في قضائه وتدبيره لخلقه.

وقوله تعالى (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُ) أي أذكر إذ أسر النبي لبعض أزواجه حديثا وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما إذ قال لها لقد حرمت فلانة وو الله لا أطأها وطلب منها أن لا تفشى هذا السر. فحدثت به عائشة وكانت متصافية معها توادها.

فأطلع الله تعالى رسوله على ذلك. (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ) لحفصة (وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) تكرما منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قالت أي حفصة (مَنْ أَنْبَأَكَ هذا؟ قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ). وقوله : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) أي حفصة وعائشة (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) أي مالت إلى تحريم مارية أي سركما ذلك. وجواب الشرط تقديره تقبل توبتكما. وقوله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ) أي تتعاونا عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يكرهه ، فإن تعاونكما يا حفصة وعائشة رضي الله عنكما لن يضره شيئا (فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أبو بكر وعمر ، (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) له أي ظهراء وأعوان له عن كل من يؤذيه أو يريده بسوء.

__________________

(١) ترضية أي لبعض أزواجه أي طلبا لرضاها وهي حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.

(٢) اختلف أهل العلم فيمن حرم شيئا فإن كان غير الزوجة فالجمهور على أنه لا يحرم ولا كفارة عليه ، وبعض يقول عليه كفارة يمين : أما الزوجة فقد بلغت الأقوال فيها ثمانية عشر قولا أعدلها أن من حرم زوجته بلفظ أنت حرام أو بالحرام إن نوى طلاقها فعليه طلقة ، وإن لم ينو طلاقها فإن عليه كفارة يمين كما في صحيح مسلم عن ابن عباس قال : إذا حرم الرجل عليه امرأته فهي يمين يكفرها ، وقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة.

(٣) تحلة اليمين كفارتها أي من حلف على شيء وأراد أن يعود إليه فليكفر عن يمينه وليأت ما حلف عليه.

وقوله تعالى (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ) ، وفي هذا تخويف شديد لأمهات المؤمنين وتأديب رباني كبير لهن إذ وعد رسوله أنه لو طلقهن لأبدله خيرا منهن (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ) أي (١) صائمات أو مهاجرات ، (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) أي بعضهن ثيبات وبعضهن أبكارا إلا أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يطلقهن والله تعالى لم يبدله فهن زوجاته في الدنيا زوجاته في الآخرة هذا وأنبه إلى أن خلافا كبيرا بين أهل التفسير في الذي حرمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه وعاتبه ربه عليه. وأحله الله له هل هو شراب كان يحبه ، أو هو جاريته مارية ومن (٢) الجائز أن يكون غير ما ذكر ؛ لأن الله تعالى لم يذكر نوع ما حرم رسوله على نفسه ، وإنما قال لم تحرم ما أحل الله لك. والجمهور على أن المحرم مارية ، وفي البخاري أنه العسل والله أعلم فلذا أستغفر الله تعالى أن أكون قد قلت عليه أو على رسوله مالا يرضيهما أستغفر الله ، أستغفر الله ، أستغفر الله إن ربي غفور رحيم.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير نبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشريته الكاملة.

٢ ـ أخذ الشافعي وأحمد رحمهما‌الله تعالى من هذه الآية أن من قال لزوجته أنت حرام أو حرمتك وهو لم ينو طلاقها أن عليه كفارة يمين لا غير ، وذكر القرطبي في هذه المسألة ثمانية عشر قولا للفقهاء أشدها البتة وأرفقها أن فيها كفارة يمين كما هو مذهب الامامين الشافعي واحمد رحمهما‌الله تعالى.

٣ ـ كرامة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ربه.

٤ ـ فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا

__________________

(١) قيل سمي الصائم سائحا لأن السائح لا زاد معه فكذلك الصائم لا زاد معه.

(٢) نعم من الجائز أن يكون غير ما ذكر ولكن بتتبع لروايات وأقوال العلماء سلفا وخلفا ثبت أن الأمر يدور بين أن ما حرمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على نفسه ترضية هو جاريته مارية ، أو العسل لا غيرهما.

الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨))

شرح الكلمات :

(قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ) : أي اجعلوا لها وقاية بطاعة الله والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) : أي توقد بالكفار والأصنام التي تعبد من دون الله ، لا بالحطب ونحوه.

(لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) : أي لأنه لا ينفعكم اعتذار ، يقال لهم هذا عند دخولهم النار.

(تَوْبَةً نَصُوحاً) : أي توبة صادقة بأن لا يعاد الى الذنب ولا يراد العود إليه.

(يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) : أي بإدخالهم النار.

(يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) : أي أمامهم ومن كل جهاتهم على قدر أعمالهم.

(رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) : أي إلى الجنة ، لأن المنافقين ينطفيء نورهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ (١) وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) هذا نداء الله إلى عباده المؤمنين يعظهم وينصح لهم فيه أن يقوا أنفسهم وأهليهم (٢) من زوجة وولد ، نارا عظيمة ، وقودها

__________________

(١) قال علي رضي الله عنه ومجاهد وقتادة : قوا أنفسكم بأفعالكم ، وقوا أهليكم بوصيتكم. قال ابن العربي هذا هو الصحيح لما يعطيه العطف الذي يقتضي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في معنى الفعل كقول الشاعر :

علفتها تبنا وماء باردا ،

أي وسقيتها ماء باردا.

(٢) إن الوقاية لا تتم إلا بالإيمان وصالح الأعمال بعد اجتناب الشرك والمعاصي ، وهذا يتطلب العلم بذلك وتوطين النفس على العمل بما يعلم من ذلك فعلا لما يفعل وتركا لما يترك فليأخذ العبد نفسه وأهله بهذا نصحا له ولهم حتى يقي نفسه ويقي أهله.

أي ما توقد به الناس من المشركين والحجارة التي هي أصنامهم التي كانوا يعبدونها يقون أنفسهم بطاعة الله ورسوله تلك الطاعة التي تزكي أنفسهم وتؤهلهم لدخول الجنة بعد النجاة من النار.

وقوله تعالى (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) أي على النار قائمون عليها وهم الخزنة التسعة عشرة غلاظ القلوب (١) والطباع شداد البطش إذا بطشوا ولا يعصون الله أي لا يخالفون أمره ، وينتهون إلى ما يأمرهم به وهو معنى ويفعلون ما يؤمرون.

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) (٢) هذا يقال لأهل النار ينادون ليقال لهم : لا تعتذروا اليوم حيث لا ينفع الاعتذار. و (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الحسنة بالحسنة والسيئة بالسيئة.

وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) هذا هو النداء الثاني الذي ينادى فيه الله تعالى عباده المؤمنين يأمرهم فيه بالتوبة العاجلة النصوح التى لا يعود صاحبها الى الذنب كما لا يعود اللبن الى (٣) الضرع ، ويعدهم ويبشرهم يعدهم بتكفير سيئآتهم ، يبشرهم بالجنة دار النعيم المقيم فيقول (عَسى (٤) رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ) أي بعد ذلك (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) أي بإدخالهم الجنة. وقوله تعالى (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) أي وهم مجتازون الصراط يسألون ربهم أن يبقي (٥) لهم نورهم لا يقطعه عنهم حتى يجتازوا الصراط وينجوا من السقوط في جهنم كما يسألونه أن يغفر لهم ذنوبهم التى قد يردون بها الى النار بعد اجتياز الصراط.

وقولهم : (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هذا توسل منهم لقبول دعائهم حيث توسلوا بصفة القوة والقدرة لله تعالى فقالوا إنك على كل شيء قدير فأتمم لنا نورنا واغفر لنا.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب العناية بالزوجة والأولاد وتربيتهم وأمرهم بطاعة الله ورسوله ونهيهم عن ترك ذلك.

٢ ـ وجوب التوبة الفورية على كل من أذنب من المؤمنين والمؤمنات وهى الإقلاع من الذنب فورا

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما بين منكبي الواحد منهم مسيرة سنة ، وروى مرفوعا ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب.

(٢) لأن عذرهم لا ينفعهم. والقصد من هذا النهي هو تحقيق اليأس لهم.

(٣) قال القرطبي اختلف في تحديد التوبة النصوح على ثلاث وعشرين قولا وقدم ما في التفسير على تلك الأقوال.

(٤) عسى من الله تعالى واجبة ، ويشهد لهذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

(٥) قال ابن عباس ومجاهد : هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين.

أي تركه والتخلى عنه ، ثم العزم على أن لا يعود اليه في صدق ، ثم ملازمة الندم والاستغفار كلما ذكر ذنبه استغفر ربه وندم على فعله وان كان الذنب متعلقا بحق آدمي كأخذ ماله أو ضرب جسمه أو انتهاك عرضه وجب التحلل منه حتى يعفو ويسامح.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

شرح الكلمات :

(جاهِدِ الْكُفَّارَ) : أي بالسيف.

(وَالْمُنافِقِينَ) : أي باللسان.

(وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) : أي أشدد عليهم في الخطاب ولا تعاملهم باللين.

(فَخانَتاهُما) : أي في الدين إذ كانتا كافرتين.

(فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما) : أي نوح ولوط عن امرأتيهما.

(مِنَ اللهِ شَيْئاً) : أي من عذاب الله شيئا وإن قل.

(امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) : أي آسيا بنت مزاحم آمنت بموسى.

(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) : أي حفظته فلم يصل اليه الرجال لا بنكاح ولا زنا.

(فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) : أي نفخنا في كم درعها بواسطة جبريل الملقب بروح القدس.

(وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) : أي بولدها عيسى أنه كلمة الله وعبده ورسوله.

معنى الآيات :

في الآية الأولى (٩) يأمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدما ناداه بعنوان النبوة تشريفا وتكريما يأمره بجهاد الكفار والمنافقين فالكفار بالسيف ، وشن الغارات (١) عليهم حتى يسلموا ، والمنافقون بالقول الغليظ والعبارة البليغة المخيفة الحاملة للوعيد والتهديد. وقوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي أشدد وطأتك على الفريقين على المنافقين باللسان ، وعلى الكافرين بالسنان. ومأواهم (٢) جهنم وبئس المصير إذا ماتوا على نفاقهم وكفرهم ، أو من علم الله موتهم على ذلك. وقوله تعالى في الآية الثانية (١٠) (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) في عدم انتفاع الكافر بقرابة المؤمن مهما كانت درجة القرابة عنده. وهو (امْرَأَتَ نُوحٍ (٣) وَامْرَأَتَ لُوطٍ) إذ كانت كل واحدة منهما تحت نبي رسول (فَخانَتاهُما) (٤) في دينهما فكانتا كافرتين فامرأة نوح تفشى سر من يؤمن بزوجها وتخبر به الجبابرة من قوم نوح حتى يبطشوا به وكانت تقول لهم إن زوجها مجنون ، وامرأة لوط كانت كافرة وتدل المجرمين على ضيوف لوط إذا نزلوا عليه في بيته وذلك في الليل بواسطة النار ، وفي النهار بواسطة الدخان. فلما كانتا كافرتين لم تغن عنهما قرابتهما بالزوجية شيئا. ويوم القيامة يقال لهما : (ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) من قوم نوح وقوم لوط. هذا مثل وآخر في عدم تضرر المؤمن بقرابة الكافر ولو كانت القرابة الزوجية وما أقواها ، وهو ـ المثل ـ إمرأة فرعون الكافر الظالم آسيا بنت مزاحم كانت قد آمنت بموسى مع من آمن فلما عرف فرعون إيمانها أمر بقتلها فلما علمت بعزم الطاغية على قتلها قالت في مناجاتها لربها : (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) الذي هو الكفر والظلم حتى لا أكون كافرة بك ولا ظالمة لأحد من خلقك ، (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي من عذابهم فشدت أيديها وأرجلها لتلقى عليها صخرة عظيمة إن هى أصرت على الإيمان فرفعت بصرها إلى السماء فرأت بيتها في الجنة ففاضت روحها شوقا الى الله والى بيتها فى الجنة وقد

__________________

(١) من المعلوم أن الكفار يدعون إلى الإسلام أولا مبينا لهم ما فيه من الهدي والخير وما يجلبه لأهله من الكمال والإسعاد ، فإن أبوا فليقاتلوا.

(٢) (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) هذا عائد على الفريقين الكافرين والمنافقين معا.

(٣) قال مقاتل اسم امرأة نوح والهة واسم امرأة لوط والعة وروي مرفوعا بضعف أن اسم امرأة نوح واغلة وامرأة لوط والهة والله أعلم.

(٤) الإجماع أن خيانة المرأتين كانت في الدين ولم تكن في العرض وإنما هي في الكفر والنفاق.

رأته فوصلت الصخرة اليها بعد أن فاضت روحها فنجاها الله من عذاب القتل الذي أراده لها (١) فرعون وعصابته الظلمة الكافرون.

وقوله تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها). عطف تعالى مريم على آسيا ليكون المثل مكونا من امرأتين مؤمنتين ، كالمثل الأول كان مكونا من امرأتين كافرتين فقال عزوجل ومريم بنت عمران التي أحصنت فرجها عن الرجال في الوقت الذي عم البغاء والزنا ديار بني اسرائيل كما هي الحال اليوم في ديار اليهود وأمثالهم قد لا تسلم امرأة من الزنا بها فلم يضر ذلك مريم لما كانت عفيفة طاهرة بل أكرمها الله لما أحصنت فرجها بأن أرسل إليها روحه جبريل عليه‌السلام وأمره أن ينفخ في كم درعها فسرت النفخة بقدرة الله تعالى في جسمها فحملت بعيسى الذي كان بكلمة الله كن فكان في ساعة وصول هواء النفخة وولدته للفور كرامة الله للتى أحصنت فرجها خوفا من الله وتقربا اليه ، وما ضرها أن العهر والزنا قد انتشر حولها ما دامت هى طاهرة كما لم يضر كفر فرعون آسيا الطاهرة. وكما لم ينفع إيمان وصلاح نوح ولوط امرأتيهما الكافرتين الخائنتين.

قال ابن عباس رضي عنهما ما بغت امرأة نبي قط ، وهو كما قال فو الله ما زنت امرأة نبي قط لولاية الله تعالى لأنبيائه فكيف يخزيهم ويذلهم حاشاه تعالى أن يخزي أولياءه أو يذلهم فالمراد من الخيانة المذكورة في قوله تعالى فخانتاهما الخيانة في الدين وإفشاء الأسرار.

وقوله تعالى : وصدقت بكلمات ربها أي بشرائعه وبكتبه (٢) التي أنزلها على رسله ، وكانت من القانتين (٣) أي المطيعين لله تعالى الضارعين له المخبتين.

__________________

(١) قال يحيى بن سلام : ما ضربه الله مثلا للذين كفروا يحذر به عائشة وحفصة رضي الله عنهما من مخالفتهما حين تظاهرتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ضربه تعالى مثلا لامرأة فرعون ومريم بنت عمران ضربه ترغيبا لعائشة وحفصة في التميسك بالطاعة والثبات عليها والصحيح أنه حث لكل المؤمنين على الصبر في الشدة مهما كانت.

(٢) قرأ نافع وكتابه وجائز أن يكون الإنجيل وهو كتاب ابنها عيسى عليه‌السلام وجائز أن يكون المراد به ما كتبه الله وقدره وقرأ حفص وكتبه بالجمع أي آمنت بسائر كتب الله تعالى المنزلة وعليه فالكتاب في قراءة نافع اسم جنس صادق على جميع كتب الله تعالى المنزلة.

(٣) لم قال من القانتات؟ لأنه أراد من القوم القانتين وهم المكثرون من العبادة وفي هذا ثناء عليها وعلى قومها الصالحين وأنها نبتت طيبة في نبات طيب كقول القائل : وهل ينبت الخطي إلا وشيجه.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الجهاد في الكفار بالسيف وفي المنافقين باللسان ، وعلى حكام المسلمين القيام بذلك لأنهم خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمته.

٢ ـ تقرير مبدأ : لا تزر وازرة وزر أخرى. فالكافر لا ينتفع بالمؤمن يوم القيامة.

٣ ـ والمؤمن لا يتضرر بالكافر ولو كانت القرابة روحية نبوة أو انسانية أو ابوة أو بنوة فإبراهيم لم يضره كفر آزر ، ونوح لم يضره كفر كنعان ابنه ، كما أن آزر وكنعان لم ينفعهما إيمان وصلاح الأب والإبن.

هذا وقرابة المؤمن الصالح تنفع المؤمن دون الصالح لقوله تعالى والذين (١) آمنوا واتبعهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم.

__________________

(١) الآية في سورة الطور.

الجزء التاسع والعشرون

سورة الملك (١)

مكية وآياتها ثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

شرح الكلمات :

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك أجمع ملكا وتصرفا وتدبيرا.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : أي وهو على إيجاد كل ممكن وإعدامه قدير.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) : أي أوجد الموت والحياة فكل حي هو بالحياة التي خلق الله وكل ميت هو بالموت الذي خلق الله.

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) : أي أحياكم ليختبركم أيكم يكون أحسن عملا ثم يميتكم ويحييكم ليجزيكم.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) : أي وهو العزيز الغالب على ما يريده الغفور العظيم المغفرة للتائبين.

__________________

(١) وتسمى الواقية والمنجية وورد في فضلها أحاديث أصحها حديث السنن وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ان سورة في القرآن ثلاثين آية شفعت لصاحبها حتى غفر له : تبارك الذي بيده الملك.

(طِباقاً) : أي طبقة فوق طبقة وهي السبع الطباق ولا تماس بينها.

(ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) : أي من تباين وعدم تناسب.

(هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) : أي من شقوق أو تصدع.

(كَرَّتَيْنِ) : أي مرتين مرة بعد مرة.

(خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) : أي ذليلا مبعدا كالا تعبا منقطعا عن الرؤية إذ لا يرى خللا.

(بِمَصابِيحَ) : أي بنجوم مضيئة كالمصابيح.

(رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) : أي مراجم جمع مرجم وهو ما يرجم به أي يرمى.

(وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) : أي وهيأنا لهم عذاب النار المسعرة الشديدة الاتقاد.

معنى الآيات :

قوله (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) مجد الرب تعالى نفسه وعظمها وأثنى عليها بما هو أهله من الملك والسلطان والقدرة والعلم والحكمة فقال عزوجل (١) تبارك أي تعاظم وكثر خير الذي بيده الملك الحقيقي يحكم ويتصرف ويدير بعلمه وحكمته لا شريك له في هذا الملك والتدبير والسلطان. (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما أراد (٢) ممكنا إلا كان ، ولا أراد انعدام ممكن إلا انعدم. (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ (٣) وَالْحَياةَ) لحكمة عالية لا باطلا ولا عبثا كما يتصور الكافرون والملاحدة الدهريون بل (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ (٤) أَحْسَنُ عَمَلاً) أي خلق الحياة بكل ما فيها ، ليذكر ويشكر من عباده فمن ذكر وشكر وأحسن ذلك ، أعد له جنات ينقله إليها بعد نهاية الحياة والعمل فيها ، ومن لم يذكر ولم يشكر أو ذكر وشكر ولم يحسن ذلك بأن لم يخلص فيه لله ، ولم يؤده كما شرع الله أعد له نارا ينقله إليها بعد نهاية الحياة الدنيا حياة العمل ، إذ هذه الحياة للعمل ، وحياة الآخرة للجزاء على العمل. وقوله تعالى (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) ثناء آخر أثنى به تعالى على نفسه فأعلم أنه العزيز الغالب الذي لا يحال بينه وبين ما يريد الغفور العظيم المغفرة إذ يغفر الذنوب للتائب ولو كانت مثل الجبال وزبد البحر. وقوله (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) هذا ثناء آخر بعظيم القدرة وسعة

__________________

(١) القرطبي : تبارك قال الحسن تقدس ، وقيل دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ولا آخر لدوامه.

(٢) التعبير بالممكن وغير الممكن فيه جواب لمن قال من المبطلين إن كان الله على كل شيء قديرا فهل يقدر أن يخلق الها مثله : والجواب أن خلق إله مثل الله غير ممكن فلذا لا يخلقه سبحانه وتعالى.

(٣) قدم ذكر الموت على الحياة لأن الموت أكبر واعظ للإنسان. قال العلماء الموت ليس عدما محضا ولا فناء صرفا ، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته ، وحيلولة بينهما وتبديل حال وانتقال من دار إلى دار. والحياة عكس ذلك.

(٤) (لِيَبْلُوَكُمْ) أي ليعاملكم معاملة المختبر لكم فيرى أحسنكم عملا من أسوأه وقد رتب الجزاء على ذلك ، وأحسن العمل أخلصه وأصوبه أي أخلصه لله تعالى وأصوبه أي أداؤه كما شرعه بلا زيادة ولا نقصان.

العلم والحكمة خلق سبع سموات طباقا سماء فوق سماء مطابقة لها ولكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء وفراغ مسيرة خمسمائة عام فالمطابقة المعادلة والمساواة في الجرم لا بوضع سماء على الأخرى كغطاء القدر مثلا. وقوله (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي من اختلاف أو تضاد وتباين والسماء فوقك فإنك لا تجد إلا الاتساق والانتظام لا تصدع ولا انفطار وإن شئت (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) وانظر (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي إنك لا ترى ذلك (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) (١) فإنك لا تجد تفاوتا ولا تباينا أبدا ولو نظرت الدهر كله كل ما في الأمر أن بصرك أيها الناظر إلى السماء يرجع إليك خاسئا أي ذليلا مبعدا (٢) مما أراد ، (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي كليل تعب وقوله تعالى (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا) أي هذه الدانية من الأرض القريبة منها (بِمَصابِيحَ) (٣) هي النجوم والكواكب. (وَجَعَلْناها) أي النجوم (٤) (رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) ترجم بها الملائكة شياطين الجن الذين يريدون استراق السمع من كلام الملائكة حتى لا يفتنوا الناس في الأرض عن دين الله عزوجل. وقوله تعالى (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) (٥) أي وهيأنا للشياطين عذاب السعير يعذبون به يوم القيامة كسائر الكافرين من الإنس والجن.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير ربوبية الله تعالى بعرض دلائل القدرة والعلم والحكمة والخير والبركة وهي موجبة لألوهيته أي عبادته دون من سواه عزوجل.

٢ ـ بيان الحكمة من خلق الموت والحياة.

٣ ـ بيان الحكمة من خلق النجوم وهي في قول قتادة رحمه‌الله : أن الله جل ثناؤه إنما خلق هذه النجوم لثلاث خصال : زينة لسماء الدنيا ، ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها. (٦)

__________________

(١) (كَرَّتَيْنِ) منصوب على المصدر لأن الكرة الرجعة فكرتين بمعنى رجعتين أي مرة بعد أخرى والعامل فارجع.

(٢) يقال خسئت الكلب أي أبعدته وطردته.

(٣) سميت الكواكب مصابيح لإضائتها.

(٤) الرجوم جمع رجم وهو اسم لما يرجم به أي ما يرمى به الرامي من حجر وغيره من باب تسمية المفعول بالمصدر مثل الخلق للمخلوق والرد للمردود ، والمراد من النجوم التي يرمى بها هي الشهب التي تنفصل عن النجوم والكواكب ، وجائز أن تكون كواكب صغيرة ترمى بها الشياطين شأنها شأن الشهب لحديث : الكوكب الذي انقض البارحة.

(٥) لا يقولن قائل : الشياطين خلقوا من نار فكيف يعلبون بها؟ والجواب : السعير أقوى من مادة النار التي خلقوا منها كما أن الشياطين تحولوا عن أصل المادة التي خلقوا منها. تحول الإنسان من طين إلى لحم وعظم وعصب ودم.

(٦) تمام قوله : فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف مالا علم له به ، وتعدى وظلم.

(وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١))

شرح الكلمات :

(كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) : أي لم يؤمنوا به فلم يعبدوه.

(إِذا أُلْقُوا فِيها) : أي في جهنم ألقتهم الملائكة فيها وذلك يوم القيامة.

(سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) : أي سمعوا لجهنم صوتا منكرا مزعجا كصوت الحمار.

(وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) : أي تغلي تكاد تتقطع من الغيظ غضبا على الكفار.

(سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) : سؤال توبيخ وتقريع وتأنيب.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) : أي رسول ينذركم عذاب الله يوم القيامة؟.

(وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) : أي كذبنا الرسل وقلنا لهم ما نزل الله مما تقولون لنا من شيء.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) : أي ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير أي خطأ عقلي وتصور نفسي باطل.

(لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ) : أي وبخوا أنفسهم بأنفسهم وقالوا لو كنا في الدنيا نسمع أو نعقل لآمنا وعبدنا الله وما كنا اليوم في أصحاب السعير.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى في الآيات السابقة أنه أعد للشياطين مسترقي السمع من الملائكة في السماء عذاب السعير عطف عليه قوله (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) (١) أي جحدوا ألوهيته ولقاءه فما عبدوه ولا

__________________

(١) هذا تتميم للكلام السابق أي كما كان للشياطين عذاب السعير فللذين كفروا عذاب جهنم وبئس المصير.

آمنوا به من الإنس والجن (عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) هي أي جهنم يصيرون إليها وينتهون إلى عذابها شرابها الحميم وطعامها الضريع والزقوم ، وقوله تعالى في وصف ما يجري في النار (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) (١) إذا ألقي الكافرون في النار سمعوا لها شهيقا أي صوتا منكرا مزعجا كصوت الحمار إذا شهق أو نهق. (وَهِيَ تَفُورُ) تغلي (٢) (تَكادُ تَمَيَّزُ) (٣) أي تقرب أن تتقطع (مِنَ الْغَيْظِ) الذي هو شدة الغضب وغضبها من غضب الرب مالكها لما غضب الجبار غضبت لغضبه ، وكل مؤمن بالله عارف به يغضب لما يغضب له ربه ويرضى لما يرضى به ربه. وقوله تعالى (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) أي جماعة (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) أي الملائكة الموكلون بالنار وعذابها وهم الزبانية وعددهم تسعة عشر ملكا سألوهم سؤال توبيخ وتقريع لأنهم يعلمون ما يسألونهم عنه (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) (٤) (نَذِيرٌ) أي رسول في الدنيا يدعوكم إلى الإيمان والطاعة؟ فيجيبون قائلين (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ) ولكن كذبنا الرسل وقلنا لهم ردا على دعوتهم (ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) أي مما تقولون وتدعوننا إليه (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) (٥) أي وقلنا لهم ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال عقلي وخطأ تصوري كبير. ثم رجعوا إلى أنفسهم يوبخونها بما أخبر تعالى به عنهم في قوله (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) قال تعالى (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً) أي بعدا بعدا من رحمة الله (لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) أي سعير جهنم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري فيها من عذاب وعقاب.

٢ ـ بيان أن تكذيب الرسل كفر موجب للعذاب ، وتكذيب العلماء كتكذيب الرسل بعدهم أي في وجوب العذاب المترتب على ترك طاعة الله ورسوله.

٣ ـ بيان أن ما يقوله أهل النار في اعترافهم هو ما يقوله الملاحدة اليوم في ردهم على العلماء بأن التدين تأخر عقلي ونظر رجعي.

٤ ـ تقرير أن الكافر اليوم لا يسمع ولا يعقل أي سماعا ينفعه وعقلا يحجزه عن المهالك باعتراف أهل النار إذ قالوا (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).

__________________

(١) قال عطاء الشهيق في الصدور والزفير في الحلق.

(٢) قال حسان :

تركتم قدركم لا شيء فيها

وقدر القوم حامية تفور

أي تغلي.

(٣) أصل تميز تتميز أي تنقطع وينفصل بعضها عن بعض قيل هذا التغيظ هو من شدة الغيظ على أعداء الله ، وقيل هو من الغليان.

(٤) الاستفهام للتقريع والتوبيخ.

(٥) (إِنْ أَنْتُمْ) إن نافية بدليل الاستثناء بعدها.

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥))

شرح الكلمات :

(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) : أي يخافونه وهم غائبون عن أعين الناس فلا يعصونه.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) : أي لذنوبهم وأجر كبير هو الجنة.

(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) : أي كيف لا يعلم سركم كما يعلم جهركم وهو الخالق لكم فالخالق يعرف مخلوقه.

(وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) : أي بعباده الخبير بهم وبأعمالهم.

(ذَلُولاً) : أي سهلة للمشي والسير عليها.

(فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) : أي في جوانبها ونواحيها.

(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) : أي إليه وحده مهمة نشركم أي إحياءكم من قبوركم للحساب والجزاء.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى جزاء الكافرين وأنه عذاب السعير رغب في الإيمان والطاعة للنجاة من السعير فقال (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ (١) رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي يخافونه وهم لا يرونه ، وكذا وهم في غيبة عن الناس فيطيعونه ولا يعصونه هؤلاء (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما فرط من ذنوبهم (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) عند ربهم أي الجنة. ولما قال بعض المشركين في مكة لا تجهروا بالقول فيسمعكم إله محمد فيطلعه على قولكم قال تعالى ردا عليهم وتعليما (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) فإنه يعلم السر وما هو أخفى منه كحديث

__________________

(١) بعد ذكر جزاء أهل الكفر والشرك والشر والفساد ذكر تعالى جزاء أهل الإيمان والتوحيد والخير والصلاح فكان الأسلوب اسلوب الترهيب والترغيب الذي عرف به القرآن الكريم كتاب الهداية الإلهية.

النفس وخواطرها (إِنَّهُ (١) عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي بما هو مكنون مستور في صدور الناس (أَلا يَعْلَمُ مَنْ (٢) خَلَقَ) أي كيف لا يعلم من خلقهم (وَهُوَ اللَّطِيفُ) بهم (الْخَبِيرُ) بأحوالهم وأعمالهم. وقوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) أي (٣) سهلة (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) جوانبها ونواحيها شرقا وغربا (وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) الذي خلق لكم ، وإليه وحده نشوركم أي إحيائكم واخراجكم من قبوركم ليحاسبكم ويجزيكم على إيمانكم وطاعتكم بخير الجزاء وهو الجنة ونعيمها ، وعلى كفر من كفر منكم وعصى بشر الجزاء وهو النار وعذابها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة الإيمان بالغيب ومراقبة الله تعالى في السر والعلن.

٢ ـ مشروعية السير في الأرض لطلب الرزق من التجارة والفلاحة وغيرهما.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

(أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))

شرح الكلمات :

(أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) : أي يجعلها بحيث تغورون فيها وتصبحون في جوفها.

(فَإِذا هِيَ تَمُورُ) : أي تتحرك وتضطرب حتى يتم الخسف بكم.

(أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) : أي ريحا عاصفا نرميكم بالحصباء فتهلكون.

(كَيْفَ نَذِيرِ) : أي كان عاقبة انذاري لكم بالعذاب على ألسنة رسلي.

__________________

(١) (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) الجملة تعليل للتسوية بين السر والجهر من أقوال المشركين نحو قوله أصبروا أو لا تصبروا أي استوى عنده السر والجهر كما استوى عند أهل النار الصبر والجزع.

(٢) ألا يعلم السر من خلق السر أي أنا خلقت السر في القلب أفلا أكون عالما بما في قلوب العباد. إذ لا بد وأن يكون الخالق عالما بما خلق والاستفهام إنكاري وجملة وهو اللطيف الخبير في محل نصب حال.

(٣) (ذَلُولاً) فعول بمعنى مفعول أي مذللة مسخرة منقادة لما تريدون منها من مشي عليها وزرع وغرس وبناء وإنشاء وتعمير.

(فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) : أي إنكاري عليهم الكفر والتكذيب والجواب كان إنكارا حقا واقعا موقعه.

(صافَّاتٍ) : أي باسطات أجنحتها.

(وَيَقْبِضْنَ) : أي ويمسكن أجنحتهن.

(ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) : أي حتى لا يسقطن على الأرض حال البسط للأجنحة والقبض لها.

معنى الآيات :

يقول تعالى واعظا عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فيكملوا ويسعدوا (أَأَمِنْتُمْ (١) مَنْ فِي السَّماءِ) الذي هو العلو المطلق وهو الله عزوجل في عليائه فوق عرشه بائن من خلقه (أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ) لتهلكوا كلكم في جوفها (فَإِذا هِيَ) حال الخسف (تَمُورُ) أي تتحرك وتضطرب حتى تغور وفي بطنها والجواب لم يأمنوا ذلك فكيف إذا يصرون على الشرك والتكذيب للرسول وقوله (أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ (٢) فِي السَّماءِ) وهو الله عزوجل (أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي ريحا تحمل الحصباء والحجارة فتهلكهم (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) أي إنذاري لكم الكفر والتكذيب أي أنه حق وواقع مقتضاه وقوله تعالى (وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) كعاد وثمود وغيرهما أي كذبوا رسلي بعدما أنكروا عليهم الشرك والكفر فأهلكناهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي إنكاري لهم كان حقا وواقع المقتضى وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا (٣) إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) أي باسطات أجنحتهن ويقبضنها ما يمسكهن في حالة البسط أو القبض إلا الرحمن الذي أنكره المشركون وقالوا وما الرحمن وهم يعيشون في رحمته التي وسعت كل شيء وهي متجلية حتى في الطير تحفظه من السقوط والتحطيم أي أينكرون ألوهية الله ورحمته ولم يروا إلى الطير وهي صافات وقابضات أجنحتها ولا يمسكها أحد من الناس فمن يمسكها إذا؟ إنه الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه بما شاء من السنن والنواميس التي يحكم بها خلقه ويدبر بها ملكوته إن أمر المشركين في كفرهم بالله لعجب وقوله (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) قال ابن عباس رضي الله عنهما أأمنتم عذاب من في السماء إن عصيتموه يريد أن يصيبكم به إن أصررتم على تكذيبه وتكذيب رسوله. هكذا عقيدة السلف في إثبات صفة العلو لله تعالى ، وأما الخلف فيقولون : أأمنتم من في السماء قدرته وسلطانه وعرشه وملائكته هروبا إلى التأويل حتى لا يصفوا الله تعالى بما وصف به نفسه من العلو الذاتي فما أضل القوم والاستفهام إنكاري أي ينكر عليهم أمنهم م الخسوف بهم وهم قائمون على معاصي توجب لهم ذلك.

(٢) (أَمْ) : هي المنقطعة التي تؤول ببل والاستفهام وهو إنكاري تعجبي ينكر عليهم أمنهم من عذاب الله بإرسال حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط فتهلكهم كما أهلكتهم إذ هم متعرضون لذلك بتكذيبهم وشركهم وكفرهم وحذفت الياء من نذيري ونكيري وهي ضمير المتكلم حذفت تخفيفا.

(٣) الهمزة داخلة على محذوف أي أغفلوا ولم يروا إلى الطير فوقهم حال كونها صافات أجنحتها وتقبضها أحيانا ولم تسقط فتتجلى لهم قدرة الله ورحمته ليؤمنوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا.

بَصِيرٌ) سواء عنده السابح في الماء والسارح في الغبراء والطائر في السماء والمستكن في الأحشاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تحذير المعرضين عن الله وإنذارهم بسوء العواقب إن استمروا على إعراضهم فإن الله قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصبا من السماء وليس هناك من يؤمنهم ويجيرهم بحال من الأحوال. إلا إيمانهم وإسلامهم لله عزوجل.

٢ ـ في الهالكين الأولين عبر وعظات لمن له قلب حي وعقل يعقل به.

٣ ـ من آيات الله في الآفاق الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته الموجبة لعبادته وحده طيران الطير في السماء وهو يبسط جناحيه ويقبضهما ولا يسقط إذ المفروض أن يبقى دائما يخفق بجناحيه يدفع نفسه فيطير بمساعدة الهواء أما إذا قبض أو بسط المفروض أنه يسقط ولكن الرحمن عزوجل يمسكه فلا يسقط.

(أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧))

شرح الكلمات :

(جُنْدٌ لَكُمْ) : أي أعوان لكم.

(مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ) : أي غيره تعالى يدفع عنكم عذابه.

(إِنِ الْكافِرُونَ) : أي ما الكافرون.

(إِلَّا فِي غُرُورٍ) : غرهم الشيطان بأن لا عذاب ينزل بهم.

(إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ) : أي إن أمسك الرحمن رزقه؟ لا أحد غير الله يرسله.

(بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) : أي إنهم لم يتأثروا بذلك التبكيت بل تمادوا في التكبر والتباعد عن الحق.

(أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا) : أي واقعا على وجهه.

(أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) : أي مستقيما.

(وَالْأَفْئِدَةَ) : أي القلوب.

(قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) : أي شكركم قليل.

(ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) : أي خلقكم في الأرض وإليه تحشرون لا إلى سواه.

(مَتى هذَا الْوَعْدُ) : أي الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة.

(قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ) : أي علم مجيئه عند الله لا غير.

(فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً) : أي لما رأوا العذاب قريبا منهم في عرصات القيامة.

(سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) : أي تغيرت مسودة.

(هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) : أي هذا العذاب الذي كنتم بإنذاره تكذبون وتطالبون به تحديا منكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى مخاطبا لهم (أَمَّنْ هذَا الَّذِي (١) هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ؟) أي من هذا الذي هو جند لكم أيها المشركون بالله تعالى ينصركم من دون الرحمن إن أراد الرحمن بكم سوءا فيدفعه عنكم. وقوله تعالى (إِنِ الْكافِرُونَ (٢) إِلَّا فِي غُرُورٍ) أي ما الكافرون إلا في غرور أوقعهم الشيطان فيه زين لهم الشرك ووعدهم ومناهم

__________________

(١) (أَمَّنْ) هي (أم) المنقطعة المقدرة ببل ومن الاستفهامية أدغمت في ميم أم فصارت أمن والاستفهام للتبكيت والتأنيب والاضراب الانتقالي إذ تنقل من توبيخهم على عدم التأمل فيما يشاهدونه من أحوال الطير المنبئة عن آثار قدرة الله ورحمته إلى التبكيت بضعفهم وقلة الناصر لهم سوى الرحمن الذي يكفرون به.

(٢) الجملة معترضة مقررة لما قبلها والالتفات فيها من الخطاب إلى الغيبة لاقتضاء حالهم الإعراض عنهم والإظهار في موضع الإضمار إذ قال إن الكافرون ، ولم يقل إن هم إلا في غرور لذمهم بالكفر وتعليل غرورهم به.

أنه لا حساب ولا عقاب ، وان آلهتهم تشفع لهم وقوله تعالى (أَمَّنْ (١) هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) اي أي من هذا الذي يطعمكم ويسقيكم ويأتي بأقواتكم إن أمسك الله ربكم رزقه عنكم فلو قطع عليكم المطر ما أتاكم به أحد غير الله. وقوله تعالى (بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ) أي انهم لم يتأثروا بهذا التبكيت والتأنيب بل تمادوا في الكبر والتباعد عن الحق. وقوله تعالى (أَفَمَنْ يَمْشِي (٢) مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ) (٣) (يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) هذا مثل ضربه الله تعالى للمشرك والموحد تبيانا لحالهما وتحقيقا لواقع مذهبهما فقال أفمن يمشي مكبا أي واقعا على وجهه هذا هو المشرك الذي سيكب على وجهه في جهنم أهدى أمن يمشي سويا أي مستقيما على صراط مستقيم أي طريق مستقيم هذا هو الموحد فأيهما أهدى؟ والجواب قطعا الذي يمشي سويا على صراط مستقيم إذا النتيجة أن الموحد (٤) مهتد والمشرك ضال. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ) أي خلقكم (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) أي القلوب أي وأنتم لا تنكرون ذلك فمالكم إذا لا تشكرون المنعم عليكم بهذه النعم وذلك بالإيمان به وبرسوله وطاعته وطاعة رسوله إنكم ما تشكرون إلا قليلا وهو اعترافكم بأن الله هو المنعم لا غير. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي قل لهم يا رسولنا الله هو الذي ذرأكم في الأرض أي خلقكم لا أصنامكم التي لا تخلق ذبابا وإليه تعالى وحده تحشرون يوم القيامة إذا فكيف لا تؤمنون به وبرسوله ولا تشكرونه ولا تخافونه وإليه تحشرون فيحاسبكم ويجزيكم بأعمالكم.

وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقول الكافرون لرسول الله والمؤمنين : متى هذا الوعد الذي تعدوننا به وهو يوم القيامة أي متى يجيء؟ وهنا قال تعالى لرسوله إجابة لهم على سؤالهم : قل (إِنَّمَا الْعِلْمُ (٥) عِنْدَ اللهِ) أي علم مجيء يوم القيامة عند الله ، وليس هو من شأني وإنما أنا نذير منه مبين لا غير. وقوله تعالى (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي عذاب يوم القيامة (زُلْفَةً) أي (٦) قريبا منهم (سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أساءها الله فتغيرت بالاسوداد والكآبة

__________________

(١) (أَمَّنْ هذَا الَّذِي) : القول فيها كالقول في سابقها سواء.

(٢) (مُكِبًّا) اسم فاعل من اكب اللازم أما المتعدي فهو كبه يكبه وجواب الاستفهام الأول هو جملة أهدى وحذف جواب الاستفهام الثاني لدلالة الأول عليه.

(٣) (أَهْدى) أي أكثر هداية واستقامة والسوي هو الشديد الاستواء وهو الاعتدال والاستقامة.

(٤) جائز أن يراد بالمكب على وجهه أبو جهل ، والسوي على صراط مستقيم أبو بكر رضي الله عنه والمثل عام فى كل مشرك وموحد أو كافر ومؤمن.

(٥) كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) الآية من سورة الأعراف.

(٦) (زُلْفَةً) : اسم مصدر من أزلف إزلافا إذا أقرب ، والزلفى القربة والمنزلة. والفاء في فلما رأوه زلفة هي الفصيحة إذ أعربت من جملتين وترتيب الشرطية عليها كأنه قيل وقد أتاهم الموعود به فرأوه ، فلما رأوه زلفة سيئت أي اسودت وجوه الذين كفروا لما فيها من الخوف والحزن.

والحزن. وقيل لهم أو قالت لهم الملائكة هذا العذاب الذي كنتم به تطالبون متحدين رسولنا والمؤمنين وتقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير حقيقة ثابتة وهي أن الكافر يعيش في غرور كامل ولذا يرفض دعوة الحق.

٢ ـ تقرير حقيقة ثابتة وهي انحراف الكافر وضلاله واستقامة المؤمن وهدايته.

٣ ـ وجوب الشكر لله تعالى على نعمة السمع والبصر والقلب وذلك بالإيمان والطاعة.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠))

شرح الكلمات :

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ) : أي أخبروني.

(وَمَنْ مَعِيَ) : أي من المؤمنين.

(أَوْ رَحِمَنا) : أي لم يهلكنا.

(فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ) : أي فمن يحفظ ويقي الكافرين العذاب.

(قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ) : أي قل هو الرحمن الذي أدعوكم إلى عبادته.

(إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) : أي غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون.

(بِماءٍ مَعِينٍ) : أي تراه العيون لجريانه على الأرض.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية كفار قريش فقال تعالى لرسوله قل لهؤلاء المشركين الذين

تمنوا موتك وقالوا نتربص به ريب (١) المنون قل لهم (أَرَأَيْتُمْ) أي أخبروني (إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ) (٢) من المؤمنين ، (أَوْ رَحِمَنا) فلم يهلكنا بعذاب (فَمَنْ يُجِيرُ (٣) الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟) والجواب : لا أحد إذا فماذا تنتفعون بهلاكنا. وقوله تعالى (قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المشركين قل هو الرحمن الذي يدعوكم إلى عبادته وحده وترك عبادة غيره آمنا به وعليه توكلنا أي اعتمدنا عليه وفوضنا أمرنا إليه (فَسَتَعْلَمُونَ) في يوم ما (مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ) ممن هو على صراط مستقيم. وقوله (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) أي غائرا (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) أي قل لهؤلاء المشركين يا رسولنا تذكيرا لهم أخبروني إن أصبح ماؤكم الذي تشربون منه «بئر زمزم» وغيرها (٤) غائرا لا تناله الدلاء ولا تراه العيون. فمن يأتيكم بماء معين غير الله تعالى؟ والجواب لا أحد (٥) (٦) إذا فلم لا تؤمنون به وتوحدونه في عبادته وتتقربون إليه بالعبادات التي شرع لعباده أن يعبدوه بها؟.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان عليه المشركون من عداوة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تمنوا موته.

٢ ـ وجوب التوكل على الله عزوجل بعد الإيمان.

٣ ـ مشروعية الحجاج لإحقاق الحق وإبطال الباطل.

سورة القلم

مكية وآياتها اثنتان وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤)

__________________

(١) جاء هذا في سورة الطور. إذ قال تعالى عنهم أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون.

(٢) فتح كلا من ياءي أهلكني ومن معي. نافع وحفص سواء.

(٣) الاستفهام للنفي.

(٤) وهي بئر ميمون كانوا يشربون منها كبئر زمزم.

(٥) (مَعِينٍ) أصلها معيون كمبيع أصلها مبيوع فنقلت ضمة الياء إلى العين قبلها فالتقى ساكنان الياء والواو فحذفت الواو. ثم كسرت العين لتصبح الياء.

(٦) روى استحباب قول القارىء : الله رب العالمين إذا قرأ (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) وروي أن جاهلا ملحدا لما سمعها قال : تأتي بها الفؤوس والمعاول فذهب ماء عينيه وعمي. والعياذ بالله تعالى من الجهل والكفر والجرأة على الله.

فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧))

شرح الكلمات :

(الرَّحْمنُ) : هو أحد الحروف المقطعة يكتب هكذا ن ويقرأ هكذا نون.

(وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) : أي والقلم الذي كتب به الذكر «القدر» والذي يخطون ويكتبون.

(ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) : أي لست بما أنعم الله عليك من النبوة وما وهبك من الكمال.

(بِمَجْنُونٍ) : أي بذي جنون كما يزعم المشركون.

(غَيْرَ مَمْنُونٍ) : أي غير مقطوع بل هو دائم أبدا.

(بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) : أي بأيكم الجنون.

معنى الآيات :

قوله تعالى (ن) هذا أحد الحروف (١) المقطعة نحو ق ، وص ، وحم الله أعلم بمراده به وقوله تعالى (وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ) أي (٢) والقلم الذي كتب أول ما خلق وقال له اكتب فقال ما اكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فجرى بذلك وما يسطرون أي وما تسطره وتكتبه الملائكة نقلا من اللوح المحفوظ ، وما يكتبه الكرام الكاتبون من أعمال العباد قسمي أي أقسم تعالى بشيئين الأول القلم ، والثاني ما سطر به وكتب مما خلق من كل شيء. والمقسم (٣) عليه قوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ (٤) رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) تكذيب للمشركين الذين قالوا إن محمدا مجنون بسبب ما رأوا من الوحي والتأثير به على من هداه الله للإيمان ، وقوله تعالى (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) هذا داخل تحت القسم أي مقسم عليه وهو أن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجرا غير مقطوع أبدا بسبب ما قدمه من أعمال صالحة أعظمها ما بينه من الهدى وما سنه من طرق الخير إذ من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم الدين كما أن الجنة أجر كل عمل صالح وللرسول فيها أجر غير مقطوع بل له أعلاها وأفضلها

__________________

(١) روى عن بعض السلف أن : نون هي الدواة ، وكونه أحد الحروف المقطعة أولى لنظائره من ص. ، وق ويس ، وطس. وفي إدغام النون في واو والقلم قراءتان سبعيتان الفك والإدغام.

(٢) جائز أن يكون ما موصولة. أي والذي يسطرونه وجائز أن تكون مصدرية أي ومسطورهم.

(٣) جواب القسم وهو ثلاثة أشياء الأول نفي الجنون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثاني ثبوت الأجر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم والثالث كونه على أعظم خلق حيث تحلى بكل أدب في القرآن حتى قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن.

(٤) الباء بنعمة ربك سببية أي ما أنت بسبب ما أنعم الله عليك من الوحي مجنونا والباء في مجنون زائدة لتقوية النفي وتأكيده.

وقوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) هذا أيضا داخل في حيز المقسم عليه وهو أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلى خلق أي أدب عظيم حيث أدبه ربه فكيف لا يكون أكمل الخلق أدبا وسيرته وما خوطب به في القرآن من مثل خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. ومثل وشاورهم في الأمر ومثل ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك إلى غير ذلك من الآداب الرفيعة التي أدب الله بها رسوله مما جعله أكمل الناس أدبا وخلقا وقد سئلت عائشة عن خلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت كان خلقه القرآن وقال هو عن نفسه أدبني ربي فأحسن تأديبي وقال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وقوله تعالى (فَسَتُبْصِرُ (٢) وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي دم على ما أنت عليه من الكمال يا رسولنا واصبر على دعوتنا فستبصر بعد قليل من الزمن ويبصر قومك المتهمون لك بالجنون بأيكم (٣) المفتون أي المجنون أنت ـ وحاشاك ـ أو هم. وقوله تعالى (إِنَ (٤) رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) في هذا الخبر تعزية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسلية له ليصبر على دعوة الله وفيه تهديد ووعيد للمشركين المكذبين فكون الله أعلم من كل أحد بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين معناه أنه سيعذب حسب سنته الضال وسيرحم المهتدي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مسألة أن لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه.

٢ ـ بيان فضل القلم الذي يكتب به الهدى والخير.

٣ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر إذ كان ذلك بالقلم الذي أول ما خلق الله.

٤ ـ بيان كمال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أدبه وأخلاقه وجعله قدوة في ذلك.

__________________

(١) ورد في فضل الخلق أحاديث. اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ، وحديث ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى ليبغض الفاحش البذيء. (صحيح).

(٢) قال ابن عباس فستعلم ويعلمون يوم القيامة حين يتميز الحق من الباطل وما في التفسير وارد وحق ولعله المراد وما قاله ابن عباس حق ووارد.

(٣) (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) ، أي اسم مبهم يتعرف بما يضاف هو إليه ، وله مواقع كثيرة في الكلام فقد يشرب معنى الموصول ومعنى الشرط ومعنى الاستفهام ، ومعنى التنويه بكامل. فقوله بأيكم المفتون معناه أي رجل أو أي فريق منكم المفتون فأي هنا في محل نصب معمول فسينتصر وينتصرون أيكم المفتون إذ الياء زائدة كالباء في وامسحوا برؤوسكم.

(٤) الجملة تعليلية لما ينبيء عنه ما قبله من اهتدائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وضلالهم أو على جميع ما فصل من أول السورة ومع أنها تعليلية فإنها متضمنة التسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما فى التفسير.

(فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦))

شرح الكلمات :

(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) : أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم بأن لا تذكر آلهتهم بسوء.

(فَيُدْهِنُونَ) : فيلينون لك ولا يغلظون لك في القول.

(كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) : أي كثير الحلف بالباطل حقير.

(هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) : أي عياب مغتاب.

(مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) : أي على الناس بأذيتهم في أنفسهم وأموالهم أثيم يرتكب الجرائم والآثام.

(عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) : أي غليظ جاف. زنيم دعي في قريش وليس منهم وهو الوليد بن المغيرة.

(قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي ما روته الأولون من قصص وحكايات وليس بوحي قرآني.

(سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) : أي سنجعل على أنفه علامة يعير بها ما عاش فخطم أنفه بالسيف يوم بدر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) (١) أي بناء على أنك أيها الرسول مهتد وقومك ضالون فلا تطع

__________________

(١) التاء للتفريع فالجملة متفرعة عما سبقها من قوله تعالى إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله. وعليه (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) الخ .. نهى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن طاعة المشركين في أي شيء يريدونه منه مما هو رضاء بالشرك وسكوت عنه ممالأة لهم وسكوتا عن باطلهم مقابل ترك أذاهم له.

هؤلاء الضالين المكذبين بالله ولقائه وبك وبما جئت به من الدين الحق وقوله (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ (١) فَيُدْهِنُونَ) أي ومما يؤكد لك عدم مشروعية طاعتهم فيما يطالبون ويقترحونه عليك أنهم ودوا أي تمنوا وأحبوا لو تلين لهم فتمالئهم بسكوتك عن آلهتهم فيدهنون بالكف عن أذيتك بترك السب والشتم. وقوله تعالى (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) بعدما نهاه عن إطاعة الكافرين عامة نهاه عن طاعة أفراد شريرين لا خير فيهم البتة كالوليد بن المغيرة فقال : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ) كثير الحلف بالباطل (مَهِينٍ) (٢) أي حقير. (هَمَّازٍ) عياب (مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) أي مغتاب نمام ينقل الحديث على وجه الإفساد (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي يبخل بالمال أشد البخل (مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي ظالم للناس معتد على أموالهم وأنفسهم (أَثِيمٍ) كثير الإثم لغشيانه المحرمات وقوله (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ (٣) زَنِيمٍ) أي غليظ الطبع جاف لا أدب معه. (زَنِيمٍ) أي دعي في قريش وليس منهم. وقوله تعالى (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي لأجل أن كان ذا مال وبنين حمله الشعور بالغنى على التكذيب بآيات الله فإذا تليت عليه وسمعها قال أساطير الأولين ردا لها ووصفها بأنها أسطورة أي أكذوبة مسطرة ومكتوبة من أساطير الأولين من الأمم الماضية. قال تعالى (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) أي نجعل له سمة شر وقبح يعرف بها مدى حياته تكون بمثابة من جدع أنفه أو وسم على أنفه فكل من رآه استقبح منظره.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب ، المهانة ، الهمزة النميمة ، الغيبة ، البخل ، الاعتداء ، غشيان الذنوب ، الغلظة والجفاء ، الشهرة بالشر.

٢ ـ التحذير من كثرة المال والولد فإنها سبب الطغيان (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى).

٣ ـ التنديد بالمكذبين بآيات الله تعالى جملة أو تفصيلا. والعياذ بالله تعالى.

__________________

(١) (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ) هذا بيان لما نهى عنه من طاعتهم ، وفعل تدهن مشتق من الإدهان وهو الملاينة والمصانعة وهو مأخوذ من دهن الشيء بالدهان ليلينه ويرق ، والمداهنة محرمة والمداراة جائزة والفرق بينهما أن المداهن يتنازل من شيء من دينه ليحفظ شيئا من دنياه ، والمداري عكسه يتنازل عن شيء من دنياه ليحفظ شيئا من دينه.

(٢) المهين : الوضيع لإكثاره من القبيح ، وتفسيره بالحقير صالح وكذا الفاجر العاجز.

(٣) العتل : الجافي الشديد ، ومنه أخذ العتال. الذي يجر الناس ويدفعهم بعنف ليدخلهم في السجن ونحوه. ومنه قوله تعالى خذوه فاعتلوه.

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (١٧) وَلا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (٢٣) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (٣٠) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (٣١) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (٣٢) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّا بَلَوْناهُمْ) : أي امتحنا كفار مكة بالمال والولد والجاه والسيادة فلم يشكروا نعم الله عليهم بل كفروا بها بتكذيبهم رسولنا وإنكارهم توحيدنا فأصبناهم بالقحط والقتل لعلهم يتوبون كما امتحنا أصحاب الجنة المذكورين في هذا السياق.

(لَيَصْرِمُنَّها) (١) : أي ليجدنها أي يقطعون ثمارها صباحا.

(فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ) : أي نار فأحرقتها.

(فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) : أي كالليل الأسود الشديد الظلمة والسواد.

(عَلى حَرْثِكُمْ) : أي غلة جنتكم وقيل فيها حرث لأنهم عملوا فيها.

(وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) : أي يتشاورون بأصوات مخفوضة غير رفيعة حتى لا يسمع بهم.

__________________

(١) الصرم : الجد والقطع ، والجز أيضا بالزاي كلها بمعنى القطع والكسر.

(وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) : أي وغدوا صباحا على قصد قادرين على صرمها قبل أن يطلع عليهم المساكين.

(إِنَّا لَضَالُّونَ) : أي مخطئوا الطريق أي ما هذا طريق جنتنا ولا هي هذه.

(بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) : أي لما علموا أنها هي وقد احترقت قالوا بل نحن محرومون منها لعزمنا على حرمان المساكين منها.

(قالَ أَوْسَطُهُمْ) : خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا.

(لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) : أي تسبحون الله وتستثنون عند ما قلتم لنصرمنها مصبحين.

(يَتَلاوَمُونَ) : أي يلوم بعضهم بعضا تندما وتحسرا.

(إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) : أي طامعون.

(كَذلِكَ الْعَذابُ) : أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمرنا وعصانا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في مطلب هداية قريش قوم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال تعالى (إِنَّا بَلَوْناهُمْ) يعني كفار قريش أي امتحناهم واختبرناهم بالآلاء والنعم لعلهم يشكرون فلم يشكروا ثم بالبلاء والنقم أي بالقحط والجدب والقتل لعلهم يتوبون كما بلونا أصحاب الجنة فتابوا ثم ذكر تعالى قصة أصحاب الجنة الذين ابتلاهم فتابوا إليه ورجعوا إلى طاعته فقال (إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ) (١) (إِذْ أَقْسَمُوا) ـ حلفوا ـ (لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) (٢) أي ليقطعن ثمارها ويجدونه في الصباح الباكر قبل أن يعلم المساكين حتى لا يعطوهم شيئا. (وَلا يَسْتَثْنُونَ) أي لم يستثنوا في حلفهم لم يقولوا إلا أن يشاء الله. (فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ) يا رسولنا وهو نار أحرقتها (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) أي الليل المظلم الأسود الشديد السواد. (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ) أي نادى بعضهم بعضا وهم إخوة كثير في أول الصباح قائلين (اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ) فعلا جادين في الصرام هذا الصباح. (فَانْطَلَقُوا) مسرعين (وَهُمْ يَتَخافَتُونَ) يتشاورون في صوت خافت حتى لا

__________________

(١) قيل إن هذه الجنة «البستان» كانت على فراسخ من صنعاء اليمن وكانت بعد رفع عيسى عليه‌السلام ، كانت لرجل مؤمن يؤدي حق الله تعالى فلما مات صارت لأولاده فعزموا على منع الناس ما كان والدهم يعطيه لمن يحضر الجداد من فقراء ومساكين فعاقبهم الله فاحترقت وفي الآيات بيان ذلك.

(٢) في الآية أدب سام وهو أن من كان له من الزرع أو التمر ما يجد ، ينبغي أن لا يجده ليلا حتى لا يحرم الفقراء من الأكل منه وأن عليه أن يمنح من يحضر الجداد والقطع شيئا يسيرا من زرعه أو ثمره ، وآية سورة النساء ظاهرة في هذا وهي قوله تعالى (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى) إلى قوله (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) الآية.

يفطن لهم فقراء البلد ومساكينها وأجمعوا (١) على (أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ) كما كانوا يدخلونها ويأخذون منها أيام حياة والدهم رحمة الله عليه قال تعالى (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) أي وانطلقوا صباحا على حرد أي (٢) قصد تام قادرين على أن لا يدخلنها اليوم عليهم مسكين بل يجدونها ويحملونها إلى مخازنهم ولا يشعر بهم أحد من الفقراء والمساكين. قال تعالى (فَلَمَّا رَأَوْها) محترقة سوداء مظلمة (قالُوا) ما هذه جنتنا (إِنَّا لَضَالُّونَ) (٣) عنها بأن أخطئنا الطريق إليها ، ولما علموا أنها هي ولكن احترقت ليلا اضربوا عن قولهم الأول وقالوا (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي منها لعزمنا على منع المساكين منها وقد كان والدنا يمنحهم منها ويعطيهم شكرا لله وأداء لحقه. وهنا تكلم أوسطهم أي خيرهم تقوى وأرجحهم عقلا بما أخبر تعالى عنه في قوله (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ) (٤) (أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أي ألم يسبق لي أن قلت لكم لما قلتم لنصرمنها مصبحين ولم تستثنوا فقلت لكم هلا تستثنون واطلق لفظ التسبيح على الاستثناء لأن التسبيح تنزيه لله عن الشرك وسائر النقائص ومنها العجز والاستثناء تنزيه لله عن ذلك لأن الذي يقول أفعل ولم يستثن اعطى لنفسه قدرة كقدرة الله الذي إذا قال أفعل فعل ولا يعجز فهو هنا اشرك نفسه في صفة من صفات الله تعالى فلذا كان الاستثناء تسبيحا لله وتنزيها له عن المشارك في صفاته وأفعاله. فلما ذكرهم أخوهم العاقل الرشيد قالوا (سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) فنابوا بهذا الاعتراف قال تعالى (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) أي يلوم بعضهم بعضا على خطأهم في عزمهم على حرمان المساكين وعلى عدم الاستثناء في اليمين قالوا من جملة ما قالوا (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا احضر (إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) أي متجاوزين حدود الله التي حد لنا غفلة منا وجهلا بأنفسنا وبما يعاقب به امثالنا. وهنا بعد أن رجعوا على أنفسهم باللوم وإلى الله بالتوبة رجوا ربهم ولم ييأسوا من رحمته فقالوا (عَسى (٥) رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا (٦) خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) هكذا ابتلوا بالنعمة ثم بسلبها فتابوا

__________________

(١) في الآية دليل على أن العزم الأكيد يؤاخذ عليه العبد لأن أصحاب الجنة عزموا على أن يحرموا الفقراء فعاقبهم الله على عزمهم.

(٢) الحرد : يطلق على المنع وعلى القصد القوي وعلى السرعة والغضب أيضا وجملة وغدوا ... إلخ حالية.

(٣) لا داعي إلى تفسير لضالون بالضلال الذي هو الخروج عن طاعة الله بل المراد من الضلال هو عدم اهتدائهم إلى جنتهم بأن ضلوا طريقها.

(٤) الاستفهام تقريري ، ولو لا للتحضيض.

(٥) قيل إنهم تعاقدوا وقالوا إن أبدلنا الله خيرا منها لنصنعن كما يصنع أبونا فدعوا الله وتضرعوا فأبدلهم الله ما هو خير منها ، سئل قتادة عن أصحاب الجنة : أهم من أهل الجنة أم من أهل النار؟ فقال للسائل لقد كلفتنى تعبا!

(٦) قرأ نافع أن يبدلنا بتشديد الدال ، وقرأ حفص بالتخفيف من أبدل يبدل الرباعي.

فهل كفار قريش وقد ابتلوا بالنعمة ثم سلبوها فهل يتوبون كما تاب أصحاب الجنة؟ إنما سيقت هذه القصة تذكيرا وتعليما فهلا يتذكرون فيتوبوا؟ قال تعالى (كَذلِكَ (١) الْعَذابُ) أي مثل هذا العذاب بالحرمان العذاب لمن خالف أمر الله وعصاه (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) من عذاب الدنيا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فإن عذاب الدنيا وقته محدود وأجله معدود أما عذاب الآخرة فإنه أبدي لا يحول ولا يزول.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الابتلاء يكون بالسراء والضراء أي بالخير والشر وأسعد الناس الشاكرون عند السراء الصابرون على طاعة الله ورسوله عند الضراء.

٢ ـ مشروعية التذكير بأحوال المبتلين والمعافين ليتخذ من ذلك طريق إلى الشكر والصبر.

٣ ـ صلاح الآباء ينفع أبناء المؤمنين فقد انتفع أصحاب الجنة بصلاح أبيهم الذي كان يتصدق على المساكين من غلة بستانه وعلامة انتفاعهم توبتهم.

٤ ـ مشروعية الاستثناء في اليمين وأنه تسبيح لله تعالى ، وأن تركه يوقع في الإثم ولذا إذا حنث الحالف الذي لم يستثن تلوثت نفسه بإثم كبير لا يمحى إلا بالكفارة الشرعية التي حددها الشارع وهي إطعام أو كسوة عشرة مساكين أو عتق رقبة فإن لم يقدر على واحدة من هذه الأنواع صام ثلاثة أيام ليمحي ذلك الذنب من نفسه.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٣٤) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (٣٨) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (٣٩) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (٤٠) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٤١) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (٤٢)

__________________

(١) قيل إن هذا وعظ لأهل مكة بالرجوع إلى الله تعالى لما ابتلاهم بالجدب لدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم أي كفعلنا نفعل بمن تعدى حدودنا في الدنيا.

خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (٤٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (١) : أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به ووحدوه فاتقوا بذلك الشرك والمعاصي.

(عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) : أي لهم جنات النعيم يوم القيامة عند ربهم عزوجل.

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) : أي أنحيف في الحكم ونجور فنجعل المسلمين والمجرمين متساوين في العطاء والفضل والجواب لا ، لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة.

(أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) : أي تقرأون فعلمتم بواسطته ما تدعون.

(إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) : أي فوجدتم في الكتاب الذي تقرأون أن لكم فيه ما تختارونه.

(أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ) : أي ألكم عهود منا موثقة بالأيمان لا نخرج منها ولا نتحلل إلى يوم القيامة.

(إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) : أي أعطيناكم عهودنا الواثقة أن لكم ما تحكمون به لأنفسكم كما تشاءون.

(سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) : أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون.

(أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ) : أي أعندهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوا يكفلون لهم به ما ادعوه وحكموا به لأنفسهم وهو أنهم يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون يوم القيامة.

(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) : أي يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ويكشف الرب عن ساقه الكريم التي لا يشبهها شيء عند ما يأتي لفصل القضاء.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : أي تغشاهم ذلة يالها من ذلة.

(وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) : أي وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى الصلاة وهم سالمون من أية علة ولا يصلون حتى لا يسجدوا تكبرا وتعظما.

__________________

(١) المتقون هم الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وعبدوه وحده فأطاعوه وأطاعوا رسوله فلم يشركوا ولم يفسقوا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) (١) (٢) الآيات نزلت ردا على المشركين الذين ادعوا متبجحين أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يعطون أفضل مما يعطى المؤمنون قياسا منهم على حالهم في الدنيا حيث كانوا أغنياء والمؤمنون فقراء فقال تعالى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) يوم القيامة (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي جنات كلها نعيم لا شيء فيها غيره. ثم قال في الرد منكرا على المشركين دعواهم مقرعا مؤنبا إياهم في سبعة استفهامات إنكارية تقريعية أولها قوله تعالى (أَفَنَجْعَلُ) (٣) (الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا لله وجوههم وأطاعوه بكل جوارحهم كالمجرمين الذين أجرموا على أنفسهم بارتكاب أكبر الكبائر كالشرك وسائر الموبقات أي نحيف ونجور في حكمنا فنجعل المسلمين كالمجرمين في الفضل والعطاء يوم القيامة ، فنسوي بينهما وثانيها قوله : (ما لَكُمْ؟) أي أي شيء حصل لكم حتى ادعيتم هذه الدعوى وثالثها (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) أي كيف أصدرتم هذا الحكم ما حجتكم فيه ودليلكم عليه؟ ورابعها قوله (أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ) أي أعندكم كتاب جاءكم به رسول من عند الله تقرأون فيه هذا الحكم الذي حكمتم به لأنفسكم بأنكم تعطون يوم القيامة أفضل مما يعطى المؤمنون (إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ) أي ألكم في هذا الكتاب ما تختارون والجواب. لا. لا وخامسها قوله (أَمْ لَكُمْ) (٤) (أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ) أي أي الكم عهودنا موثقة بأيمان لا نتحلل منها إلى يوم القيامة بأن لكم ما حكمتم به لأنفسكم من أنكم تعطون أفضل مما يعطى المؤمنون وسادسها (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ (٥) بِذلِكَ زَعِيمٌ) أي سلهم يا رسولنا عن زعيمهم الذي يكفل لهم مضمون الحكم الذي يحكمون به لأنفسهم من أنهم يعطون في الآخرة أفضل مما يعطى المؤمنون سابعها قوله (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) أي ألهم شركاء موافقون لهم في هذا الذي قالوه يكفلونه لهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين في ذلك. بهذه الاستفهامات الإنكارية التقريعية السبعة نفى تعالى عنهم كل ما يمكنهم أن يتشبثوا به في

__________________

(١) (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) استئناف بياني ناشيء عن سؤال إذا كان جزاء المجرمين ما ذكر فما جزاء المتقين؟ فأجيب : إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم : واللام لام الاستحقاق ، واضافة الجنات إلى النعيم إشارة إلى أنها خالصة النعيم ما فيها ليس في جنات الدنيا من البعوض والحشرات أو ما يؤذي من شوك ونحوه.

(٢) قال ابن عباس رضي الله عنهما : قالت كفار مكة إنا نعطى في الآخرة خيرا مما تعطون فنزلت : أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟

(٣) الهمزة للاستفهام الإنكاري أي إنكار التسوية بين المسلمين والمجرمين في الجزاء مع التقريع والتوبيخ .. وكذا سائر الاستفهامات في هذه الآيات.

(٤) (أَمْ لَكُمْ) للإضراب الانتقالي من دليل إلى آخر والاستفهام إنكاري كغيره مع ما يفيد من التأنيب والتفريع.

(٥) الاستفهام هنا مستعمل للتهكم.

تصحيح دعواهم الباطلة عقلا وشرعا. وقوله تعالى (يَوْمَ (١) يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (٢) أي اذكر لهم يا رسولنا مبينا واقع الأمر يوم القيامة ، ليخجلوا من تشدقهم بدعواهم الساقطة الباردة اذكر لهم يوم يعظم الهول ويشتد الكرب ، ويأتي الرب لفصل القضاء ويكشف عن ساق فيخر كل مؤمن ومؤمنة ساجدا ويحاول المنافقون والمنافقات السجود فلا يستطيعون إذ يكون ظهر أحدهم طبقا واحدا أي عظما واحدا فلا يقدر على السجود وذلك علامة شقائه المترتب على نفاقه في الدنيا. (وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي امتحانا لهم ليعرف من كان يسجد إيمانا واحتسابا ممن كان يسجد نفاقا ورياء (فَلا يَسْتَطِيعُونَ) لأن ظهر أحدهم يصبح عظما واحدا (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) لا تطرف من شدة الخوف (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذلة عظيمة وقوله (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ) أي في الدنيا (وَهُمْ سالِمُونَ) معافون في أبدانهم ولا يسجدون تكبرا وكفرا بالله ربهم وبشرعه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير أن المجرمين لا يساوون المؤمنين يوم القيامة إذ لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة فمن زعم أنه يعطى ما يعطاه المؤمنون من جنات النعيم فهو مخطئ في تصوره كاذب في قوله.

٢ ـ بيان عظم هول يوم القيامة وأن الرب تبارك وتعالى يأتي لفصل القضاء ويكشف عن ساق فلا يبقى أحد إلا سجد وأن الكافر والمنافق لا يستطيع السجود عقوبة له وفضيحة إذ كان في الدنيا يدعى إلى السجود لله فلا يسجد أي إلى الصلاة فلا يصلي تكبرا وكفرا.

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (٤٥) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٦) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤٧) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (٤٨) لَوْ لا

__________________

(١) جائز أن يكون يوم يكشف متعلق بقوله فليأتوا بشركائهم ويكون من باب حسن التخلص من الرد على المشركين إلى ذكر أهوال يوم القيامة.

(٢) لو لا ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح : إذ يقول أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا. لقلنا في الآية أنها كناية عن أهوال يوم القيامة ولكن مع صحة الحديث فالآية دالة على أهوال يوم القيامة ومثبتة صفة ذات الرب تبارك وتعالى عن صفات المحدثين.

أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (٤٩) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٥٠) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٥٢))

شرح الكلمات :

(فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ) : أي دعني ومن يكذب أي لا يصدق.

(بِهذَا الْحَدِيثِ) : أي بالقرآن الكريم.

(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) : أي نستنزلهم درجة درجة حتى نصل بهم إلى العذاب.

(وَأُمْلِي لَهُمْ) : أي وامهلهم.

(إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) : أي شديد قوي لا يطاق.

(فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) : أي فهم مما يعطونكه مكلفون حملا ثقيلا.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) : أي اللوح المحفوظ.

(فَهُمْ يَكْتُبُونَ) : أي ينقلون منه ما يدعونه ويقولونه.

(وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) : أي يونس في الضجر والعجلة.

(وَهُوَ مَكْظُومٌ) : أي مملوء غما.

(بِالْعَراءِ) : أي الأرض الفضاء.

(وَهُوَ مَذْمُومٌ) : لكن لما تاب نبذ وهو غير مذموم.

(فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) : أي اصطفاه.

(لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ) : أي ينظرون إليك نظرا شديدا يكاد أن يصرعك.

(وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لِلْعالَمِينَ) : أي الإنس والجن فليس بمجنون كما يقول المبطلون.

معنى الآيات :

بعد ذلك التقريع الشديد للمشركين المكذبين الذي لم يؤثر في نفوسهم أدنى تأثير قال تعالى لرسوله (فَذَرْنِي) (١) أي بناء على ذلك فذرني (وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) أي دعني وإياهم ، والمراد من

__________________

(١) الفاء للتفريع والترتيب فما بعدها متفرع عما قبلها مترتب عليه.

الحديث القرآن الكريم (١) (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) أي نستنزلهم درجة درجة (مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) حتى ننتهي بهم إلى عذابهم المترتب على تكذيبهم وشركهم. وقوله تعالى (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي (٢) مَتِينٌ) أي وأمهلهم فلا أعاجلهم بالعذاب فأوسع لهم في الرزق وأصحح لهم الجسم حتى يروا أن هذا لكرامتهم عندنا وأنهم خير من المؤمنين ثم نأخذهم. وهذا من كيدي الشديد الذي لا يطاق ، وقوله تعالى (أَمْ (٣) تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي بل أتسألهم على تبيلغ الدعوة أجرا مقابل التبليغ فهم من مغرم مثقلون أي فهم يشعرون بحمل ثقيل من أجل ما يعطونك من الأجر فلذا هم لا يؤمنون بك ولا يتابعونك على دعوتك. (أَمْ عِنْدَهُمُ (٤) الْغَيْبُ) أي اللوح المحفوظ (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) (٥) منه ما هم يقولون به ويقرونه والجواب لا إذا (فَاصْبِرْ) يا رسولنا (لِحُكْمِ (٦) رَبِّكَ) فيك وفيهم وامض في دعوتك ولا يثني عزمك تكذيبهم ولا عنادهم (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) يونس بن متى أي في الضجر وعدم الصبر. (إِذْ نادى وَهُوَ (٧) مَكْظُومٌ) أي مملوء غما فقال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين وقوله (لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ) أي لو لا أن أدركته رحمة الله تعالى حيث ألهمه الله التوبة ووفقه لها لنبذ أي لطرح بالفضاء وهو مذموم لكن لما تاب الله عليه طرح على ساحل البحر وهو غير مذموم بل محمود (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ) أي اصطفاه مرة ثانية بعد الأولى (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) أي الكاملي الصلاح من الأنبياء والمرسلين ، ومعنى اجتباه مرة ثانية لأن الاجتباء الأول إذ كان رسولا في أهل نينوي وغاضبوه فتركهم ضجرا منهم فعوقب وبعد العقاب والعتاب اجتباه مرة أخرى وأرسله إلى أهل بلاده بعد ذلك الانقطاع قال تعالى من سورة اليقطين فنبذناه بالعراء وهو سقيم وأنبتنا عليه شجرة من يقطين وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين. وقوله تعالى (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي وان يكاد الذين كفروا ليصرعونك من شدة النظر إليك وكلهم غيظ وحنق عليك بأبصارهم (لَمَّا

__________________

(١) وجائز أن يكون المراد من الحديث الإخبار عن البعث والجزاء مما تضمنه قوله يوم يكشف عن ساق الخ وجائز أن يكون القرآن كما في التفسير وقيل فيه حديث لما فيه من الأخبار عن الله وعن الأمم والجنة والنار.

(٢) (وَأُمْلِي) مضارع أملى إذا أمهل وأنظر وأخر مشتق من الملا مقصورا وهو الحين والوقت ومنه الملوان الليل والنهار فأملى بمعنى طول في الزمان.

(٣) (أَمْ) بمعنى بل للإضراب الانتقالي من حجة إلى أخرى ومن دليل إلى آخر.

(٤) إضراب آخر كالأول وفي الكلام حذف تقديره أم عندهم علم الغيب كقوله تعالى (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) من سورة النجم.

(٥) الفاء للتفريع.

(٦) المراد بحكم الرب تعالى عنا أمره وهو ما حمله رسوله من حمل الرسالة وتبليغها والاضطلاع بأعباء الرسالة.

(٧) المكظوم المحبوس المسدود عليه يقال كظم الباب إذا أغلقه وكظم النهر إذا سده ومنه كظم الغيظ وهو حبسه في النفس وعدم إظهاره بقول أو فعل.

سَمِعُوا الذِّكْرَ) أي القرآن نقرأه عليهم. (وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) حسدا لك ، وصرفا للناس عنك ، (وَما هُوَ) (١) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي يذكر به الله تعالى الإنس والجن فليس هو بمجنون كما يقول المكذبون المفتونون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ رد الأمور إلى الله إذا استعصى حلها فالله كفيل بذلك.

٢ ـ لا يصح أخذ أجرة على تبليغ الدعوة.

٣ ـ وجوب الصبر على الدعوة مهما كانت الصعاب فلا تترك لأذى يصيب الداعي.

٤ ـ بيان حال المشركين مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كانوا يضمرونه له من البغض والحسد وما يرمونه به من الاتهامات الباطلة كالجنون والسحر والكذب.

سورة الحاقة

مكية وآياتها ثنتان وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

__________________

(١) جائز أن يكون الضمير وما هو عائد إلى القرآن وما القرآن إلا ذكر للعالمين الإنس والجن أي ليس هو بكلام مجنون ، وجائز أن يكون الضمير عائد إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي قالوا فيه إنه مجنون ويكون الذكر بمعنى التذكير بالله والجزاء إذ هذا من فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

شرح الكلمات :

(الْحَاقَّةُ) (١) : أي الساعة الواجبة الوقوع وهي القيامة.

(بِالْقارِعَةِ) : أم بالقيامة لأنها تقرع القلوب بالخوف والهول.

(فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) : أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم فأخذتهم صيحة طاغية أيضا.

(بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ) : أي ذات صوت لشدة عصوفها عاتية على خزانها في الهبوب.

(حُسُوماً) : أي متتابعات الهبوب بلا فاصل كتتابع الكي القاطع للداء.

(كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) : أي أصول نخل ساقطة فارغة ليس في جوفها شيء.

(وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ) : أي أهلها وهي قرى لوط بالفعلات ذات الخطأ.

(أَخْذَةً رابِيَةً) : أي زائدة في الشدة على غيرها.

(لَمَّا طَغَى الْماءُ) : أي علا فوق كل شيء من الجبال وغيرها.

(حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) : أي السفينة التي صنعها نوح ونجا بها هو ومن معه من المؤمنين.

(وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) : أي وتحفظها أذن واعية أي حافظة لما تسمع.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) (٢) أي أي شيء هي (٣)؟ (وَما أَدْراكَ (٤) مَا الْحَاقَّةُ) أي أي شيء أعلمك بها ، والمراد بها القيامة لأنها حاقة المجيى واجبته لا محالة. وقوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ (٥) بِالْقارِعَةِ) أي كذبت ثمود قوم صالح وعاد قوم هود بالقارعة أي بالقيامة. فهم ككفار قريش مكذبون بالبعث والجزاء. (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) أي بطغيانهم وعتوهم عن أمر ربهم

__________________

(١) هو اسم للسورة. روى أحمد أن عمر رضي الله عنه قال خرجت يوما بمكة أتعرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد الحرام فوقفت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن فقلت هذا والله شاعر (أي في خاطري) فقرأ (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) قلت : في خاطري كاهن. فقرأ (ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين) إلى آخر السورة فوقع في قلبي كل موقع. وسماها بعضهم (السلسلة) وبعضهم (الداعية).

(٢) الحاقة اسم فاعل من حق الشيء فهو حاق إذا ثبت وقوعه ، والظاهر أنها وصف لموصوف محذوف أي الساعة الحاقة أو الواقعة الحاقة ، وما في التفسير واضح وأولى.

(٣) ما اسم استفهام مستعمل في التهويل والتعظيم والمعنى الحاقة أمر عظيم لا يدرك كنهه والحاقة مبتدأ وما مبتدأ ثان والحاقة خبر المبتدأ الثاني والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر المبتدأ الأول وجملة وما أدراك ما الحاقة معترضة بين جملة الحاقة وكذبت ثمود.

(٤) روي عن ابن عباس وسفيان بن عيينة. كل ما ورد في القرآن بلفظ وما أدراك بصيغة الماضي فقد أدراه أي أعلمه به ، وكل ما ورد بصيغة المضارع وما يدريك فقد طوى عنه ولم يعلمه به فالأول (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) والثاني (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) ..

(٥) كذبت ثمود كلام مستأنف بين فيه من كذبوا بالحاقة وهي الفارقة وسميت بالقارعة من قولهم (قوارع الدهر) أي أهواله وشدائده فهي تقرع القلوب.

فأخذتهم صيحة طاغية (١) ، (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي ذات صوت شديد (عاتِيَةٍ) أي عتت على خزانها في الهبوب. (سَخَّرَها) الله (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ (٢) حُسُوماً) أي متتابعات بلا انقطاع حسما لوجودهم كما يحسم الدواء بالكي الحاسم للداء المتتابع. وقوله تعالى (فَتَرَى) أيها الرسول (الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي فترى القوم في تلك الليالي والأيام صرعى ساقطين على الأرض كأنهم أصول نخل ساقطة فارغة ليس في أجوافها شيء (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي من نسلهم لا شيء إذ هلكوا كلهم أجمعون ، وقوله تعالى (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) كقوم نوح وعاد وثمود (وَالْمُؤْتَفِكاتُ (٣) بِالْخاطِئَةِ) أي بالأفعال الخاطئة وهي الشرك والمعاصي وبينها تعالى بقوله (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي زائدة في الشدة على غيرها وقوله تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي ماء الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح (حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ) أي حملنا آباءكم في الجارية التي هي سفينة نوح عليه‌السلام وقوله (لِنَجْعَلَها لَكُمْ (٤) تَذْكِرَةً) أي لنجعل السفينة تذكرة لكم عظة وعبرة (وَتَعِيَها) أي وتحفظ هذه العظة (أُذُنٌ) حافظة لا تنسى ما هو حق وخير من المعاني.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان أن كلا من عاد وثمود كانوا يكذبون بالبعث وبيان ما أهلكهم الله به.

٣ ـ بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي والأخروي.

٤ ـ التذكير بحادثة الطوفان وما فيها من عظة وعبرة.

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ

__________________

(١) هي أشبه بصيحة النفخ في الصور وثمود هم قوم صالح ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز وتعرف اليوم بمدائن صالح على أميال من مدينة العلا اليوم. وأما عاد فمنازلهم كانت بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضر موت باليمن وأهلكوا بريح صرصر.

(٢) قيل بدأ من صباح يوم الأربعاء لثمان بقين من شوال وكانت في آخر الشتاء.

(٣) أي المتقلبات من ائتفك الشيء إذ قلب قراهم الخمسة منع وصعر وعمر ودوما وسدوم وهي القرية العظمى قلبها الملك فجعل عاليها سافلها.

(٤) وجائز أن يكون الضمير في ليجعلها عائد إلى العملية عملية إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين تذكرة وموعظة.

(١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨))

شرح الكلمات :

(نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) : أي النفخة الأولى.

(حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) : أي رفعت من أماكنها.

(فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) : أي ضرب بعضها ببعض فاندكت وصارت كثيبا مهيلا.

(وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) : أي قامت القيامة.

(فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) : أي مسترخية ضعيفة القوة.

(عَلى أَرْجائِها) : أي على أطرافها وحافاتها.

(ثَمانِيَةٌ) : أي من الملائكة وهم حملة العرش الأربعة وزيد عليهم أربعة.

(لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) : أي لا تخفى منكم سريرة من السرائر التي تخفونها.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن القيامة تقريرا لعقيدة البعث والجزاء التي هي الدافع إلى فعل الخير وترك الشر في الدنيا فقال تعالى (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ) (١) أي نفخ اسرافيل في الصور الذي هو البوق أو القرن النفخة الأولى وهو المراد بقوله (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) ، وقوله تعالى (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي ضرب بعضها ببعض فاندكت فصارت هباء منبثا ، (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي قامت القيامة (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ) أي انفطرت وتمزقت (فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) ضعيفة مسترخية. (وَالْمَلَكُ (٢) عَلى أَرْجائِها) أي على أطرافها وحافاتها ، (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) أي ثمانية (٣) من الملائك أربعة هم حملة العرش دائما وزيد عليهم أربعة فصاروا ثمانية قال تعالى (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ) (٤) على الله (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي سريرة مما كنتم تسرون.

__________________

(١) الفاء تفريعية لتفريع ما بعدها من تفصيل أحوال الدار الآخرة على ما تقدم من ذكر الحاقة أي القيامة والمكذبين بها وما نالهم من عذاب في الدنيا.

(٢) (الْمَلَكُ) اسم جنس المراد به أعداد هائلة من الملائكة.

(٣) قيل هم ثمانية صفوف ، وقيل ثمانية أعشار أي نحو ثمانين من عدد الملائكة. وما في التفسير هو الراجع الصحيح.

(٤) أصل العرض إمرار الشيء على من يريد التأمل فيه كعرض السلعة على المشتري وكاستعراض الجيوش اليوم والمراد بالعرض الحساب والجزاء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان كيفية الانقلاب الكوني لنهاية الحياة الأولى وبداية الحياة الثانية.

٣ ـ تقرير العرض على الله عزوجل للحساب ثم الجزاء.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤))

شرح الكلمات :

(هاؤُمُ) : أي خذوا.

(إِنِّي ظَنَنْتُ) : أي علمت.

(راضِيَةٍ) : أي يرضى بها صاحبها.

(قُطُوفُها دانِيَةٌ) : أي ما يقتطف ويجنى من الثمار.

(بِما أَسْلَفْتُمْ) : أي بما قدمتم.

(فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) : أي الماضية.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان ما يجري في يوم القيامة فقال تعالى (١) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ (٢) هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) (٣) أي إنه بعد مجيء الرب تبارك وتعالى لفصل

__________________

(١) الفاء لتفصيل ما أجمل فيما تقدمها من الكلام ، وفي الكلام إيجاز بالحذف تقديره فيؤتى كل آخذ كتاب أعماله (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ.). الخ والباء للمصاحبة في يمينه وفي إعطاء الكتاب باليمين كرامة وتبشير لصاحبه كقول الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

(٢) (هاؤُمُ) هذا اللفظ مركب من ها ممدود أو مقصور مبني على الفتح ومعناه تعالوا أو خذوا كما في الرباء ها وهاء أي خذ. يقال ها يا رجل اقرأ وللإثنين هاؤما يا رجلان وهاؤم يا رجال ، وللمرأة هاء بكسر الهمزة وهاؤما للاثنتين وهاؤمن لجمع الإناث والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف.

(٣) قيل نزلت هذه الآية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) الخ .. في أبي سلمة بن عبد الأسد المخزمي والآية التالية لها وأما من أوتي كتابه بشماله نزلت في أخيه الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، والمعنى عام في كل سعيد وشقي.

القضاء تعطى الكتب فمن آخذ كتابه بيمينه ، ومن آخذ كتابه بشماله فأما من أوتي كتابه الذي ضم حسناته بيمينه فيقول في فرح عظيم هاؤم أي خذوا كتابي فاقرأوه إنه مشرق كله ما فيه سواد السيئات ، ويعلل لسلامة كتابه (١) من السيئات فيقول (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي علمت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) لا محالة فلذا لم أقارف السيئات وإن قدر علي شيء فقارفته جهلا فإني تبت منه فورا فانمحى أثره من نفسي فلم يكتب علي قال تعالى مخبرا عن آثار نجاحه في سلامة كتابه من السيئات (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ). أي يرضاها لهناءتها وسعة خيراتها (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قُطُوفُها) (٢) أي جناها وما يقتطف منها (دانِيَةٌ) أي قريبة التناول ينالها بيده وهو متكيء على أريكته ويقال لهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا) من طعام الجنة وشرابها (هَنِيئاً) ويذكر لهم سبب فوزهم فيقول (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي قدمتم لأنفسكم (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي أيام الدنيا الماضية إذ كانوا مؤمنين صوامين قوامين بالمعروف آمرن وعن المنكر ناهين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء أي الإيمان باليوم الآخر.

٢ ـ آثار الإيمان بالبعث والجزاء ظاهرة في سلامة كتاب المؤمن من السيئات. وقد علل لذلك بقوله إني ظننت أني ملاق حسابي فلذا لم أعص ربي.

٣ ـ إثبات حقيقة هي قول العامة الدنيا مزرعة الآخرة أي من عمل في الدنيا نال ثمار عمله في الآخرة خيرا أو شرا.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤)

__________________

(١) (كِتابِيَهْ) الهاء فيه وفي الأتي بعده هي هاء السكت عند الوقف إلا أنها أبقيت في الوصل والوقف مراعاة للسجع ولعلها تحكي صوت صاحبها يوم القيامة زيادة في التقرير والتوكيد حتى لهجة أحدهم محفوظة لم تتغير.

(٢) القطوف جمع قطف بكسر القاف وسكون الكاف.

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) : أي يتمنى أنه لم يعط كتابه لما رأى فيه من السيئات.

(كانَتِ الْقاضِيَةَ) : أي الموتة في الدنيا كانت القاطعة لحياتي حتى لا أبعث.

(هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) : أي قوتي وحجتي.

(خُذُوهُ) : أي أيها الزبانية خذوا هذا الكافر.

(فَغُلُّوهُ) : أي اجعلوا يديه إلى عنقه في الغل.

(ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) : أي ثم في النار المحرقة أدخلوه وبالغوا في تصليته كالشاة المصلية.

(حَمِيمٌ) : أي من قريب ينفعه أو صديق.

(إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) : أي صديد أهل النار الخارج من بطونهم لأكلهم شجر الغسلين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجرى من أحداث وقد تقدم ذكر الذي أوتي كتابه (١) بيمينه وما له من كرامة عند ربه وفي هذه الآيات ذكر الذي أوتي كتابه بشماله وما له من مهانة وعذاب جزاء كفره فقال تعالى (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) (٢) أي في عرصات القيامة فيقول بعد النظر فيه وما يلوح له فيه من السيئات (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) يتمنى لو أنه لم يعط كتابه ولم يدر (٣) ما حسابه وأن الموتة التي ماتها في الدنيا يتمنى لو كانت القاطعة لحياته حتى لا يبعث ، ثم يواصل تحسره وتحزنه قائلا (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي مالي والهاء في ماليه وفي كتابيه وحسابيه وفي ماليه وسلطانيه يقال لها هاء السكت يوقف عليها بالسكون قراءة كافة القراء وقوله (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) أي ذهبت عني حججي (٤) فلم أجد ما احتج به لنفسي قال تعالى للزبانية

__________________

(١) تقدم أنه أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وزوجته هي أم المؤمنين تزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد موت زوجها أبي سلمة وإن الشقي هو الأسود بن عبد الأسد أخو أبي سلمة.

(٢) أي بشماله ووراء ظهره وهو كتاب سيئاته من الشرك والمعاصي كبيرها وصغيرها.

(٣) هذا من عظم ما يشاهد من شدة الحساب وشناعته هذا داخل في حيز متمنياته ، كما هو إشارة إلى أنه كان في الدنيا لا يؤمن بالحساب ولم يدر ما يجري فيه ولذا اصابته الحيرة هنا وألم به الكرب.

(٤) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(خُذُوهُ (١) فَغُلُّوهُ) أي شدوا يديه في عنقه بالغل (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) (٢) أي أدخلوه فيها وصلوه بحرها المرة بعد المرة كما يصلى الكبش المشوى المصلي ، (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ) طويلة (ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ولم يعرف مدى طول هذه الذراع إلا انه إذا كان الكافر ما بين كتفيه كما بين مكة وقديد قرابة مائة وخمسين ميلا فإن السلسلة في ذرعها السبعين ذراعا لا بد وأن تكون مناسبة لهذا الجسم (فَاسْلُكُوهُ) أي ادخلوه فيها فتدخل من فمه وتخرج من دبره كسلك الخرزة في الخيط وذكر تعالى علة هذا الحكم عليه فقال (إِنَّهُ كانَ) أي في الدنيا (لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣) فانحصرت جريمته في شيئين الكفر بالله ومنع الحقوق الواجب في المال ثم أخبر تعالى عن حال هذا الكافر الشقي في جهنم فقال (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا) أي في جهنم (حَمِيمٌ) (٤) أي صديق أو قريب ينتفع به فيدفع عنه العذاب أو يخففه (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) (٥) أي وليس له طعام يأكله إلا من طعام الغسلين الذي هو صديد أهل النار فإنهم عندما يأكلون شجر الغسلين يكون كالمسهل في بطونهم فيخرج كل ما في بطونهم وذلك هو الغسلين الذي يأكلونه ذلك الغسلين الذي (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي الذين ارتكبوا خطيئة الكفر والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحداثها.

٢ ـ المال الذي باع المفلسون فيه الأمة والملة لا يغني يوم القيامة عن صاحبه شيئا.

٣ ـ التنديد بالكفر بالله وأهله.

٤ ـ عظم جريمة منع الحقوق المالية من الزكاة وغيرها.

__________________

(١) (خُذُوهُ) مقول قول ذكر في التفسير وغلوه أمر من غله يغله إذا وضع الغل وهو القيد الذي يجعل في عنق الجاني.

(٢) صلى النار يصلاها إذا أصابه حرها أو استدفأ بها ، ويعدى بالتضعييف فيقال صلاه النار وبالهمز أيضا أصلاه يصليه نارا.

(٣) الطعام بمعنى الإطعام وضع موضعه كوضع العطاء موضع الإعطاء كما في قول الشاعر :

أكفرا بعد رد الموت عنى

وبعد عطائك المائه الرتاعا

الرتاع الإبل ترتع.

(٤) الحميم هنا الغريب الذي يرق له ويدفع عنه المكروه ، وهو مأخوذ من الماء الجار كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له.

(٥) الغسلين فعلين مأخوذ من الغسل كأنه ينغسل في أبدانهم وهو صديد أهل النار السائل من جروحهم وخروجهم قال الضحاك : الغسلين شجر وهو شر الطعام وأبشعه وهو من أطعمة أهل النار مثل الضريع والزقوم وبناء على ما ذكر ان الغسلين مجموع شجر اسمه الغسلين وما تجمع من صديد أهل النار من دم وعرق ونحوه فصدق عليه لفظ الغسلين وهذا من اعجاز القرآن البلاغي.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

شرح الكلمات :

(بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) : أي بكل مخلوق في الأرض وفي السماء.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : أي القرآن قاله تبليغا رسول كريم هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وما هو بقول كاهن : أي ليس القرآن بقول كاهن إذ ليس فيه من سجع الكهان شيء.

(لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) : أي بالقوة أو لأخذنا بيمينه لنقتله.

(ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) : أي نياط القلب الذي إذا انقطع مات الإنسان.

(حاجِزِينَ) : أي مانعين وهو خبر ما النافية العاملة عمل ليس وجمع لأن احد يدل على الجمع نحو لا نفرق بين أحد من رسله وبين لا تقع إلا بين اثنين فأكثر.

(وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) : أي التكذيب بالقرآن حسرة يوم القيامة على المكذبين به.

(وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) : أي الثابت يقينا أو اليقين الحق.

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (١) : أي نزه ربك العظيم الذي كل شيء أمام عظمته صغير حقير أي قل سبحان ربي العظيم.

__________________

(١) الباء للمصاحبة والزيادة لتقوية الكلام والتقدير سبح اسم ربك والتقدير نزه اسم ربك في أن يسمى به غيره إذ سمى المشركون العزى بدل العزيز واللات بدل الله وجائز أن يكون اسم مقحما والتقدير فسبح ربك أي نزهه عن الشريك والشبيه وعن كل نقص وهو العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ (١) بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) أي فلا (٢) الأمر كما ترون وتقولون أيها المكذبون أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون من المخلوقات في الأرض وفي السموات (إِنَّهُ) أي القرآن (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) على ربه تعالى وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي إنه تبليغه وقوله إليكم (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ). كما تقولون كذبا (قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) (٣) أي إن إيمانكم قليل ضيق الدائرة فلو كان واسعا لا تسع للإيمان بالقرآن إنه كلام الله ووحيه وليس هو من جنس الشعر لمخالفته له نظما ومعنى. وما هو (بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي وليس القرآن بقول كاهن قليلا ما تذكرون أي تذكركم قليل جدا فلو تذكرتم كثيرا لعلمتم أن القرآن ليس بكلام الكهان لملازمته للصدق والحق والهدى ولبعد قائله عن الإثم والكذب بخلاف قول الكهان فإن سداه ولحمته الكذب وقائله هو الإثم كله فأين القرآن من قول الكهان؟ وأين محمد الرسول من الكهان اخوان الشيطان إنه (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) أيها المكذبون الضالون. وأمر آخر وهو أن الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَلَوْ تَقَوَّلَ (٤) عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) ونسبها إلينا (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ) أي لبطشنا به وأخذنا بيمينه (ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) فيهلك إذ الوتين هو عرق القلب إذا قطع مات الإنسان وإذا فعلنا به هذا فمن منكم يجحزنا عنه؟ وهو معنى قوله تعالى (فَما مِنْكُمْ (٥) مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وقوله تعالى (وَإِنَّهُ) أي القرآن (لَتَذْكِرَةٌ) (٦) أي موعظة عظيمة (لِلْمُتَّقِينَ) (٧) الذين يخافون عقاب الله ويخشون نقمه وعذابه (وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ) (٨) أيها الناس (مُكَذِّبِينَ) ليس بخاف عنا أمرهم وسنجزيهم وصفهم (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ) أي يوم القيامة عند ما يرون المؤمنين به يؤخذ بهم ذات اليمين إلى دار السلام والمكذبين به يؤخذ بهم ذات الشمال إلى دار

__________________

(١) الفاء للتفريع لإثبات أن القرآن منزل من عند الله تعالى ونفي ما ادعاه المشركون.

(٢) هذا بناء على أن لا رد لكلام سابق وليست زائدة وكونها زائدة لتأكيد الكلام أولى من كونها نافية ، إذ وجدت في فاتحة سورتي القيامة والبلد وليس قبلهما ما ينفى كأنه يقول لا أقسم لأن الأمر لا يحتاج إلى قسم كالمتحرج من الإقسام.

(٣) جائز أن يكون لفظ قليلا في الموضعين مرادا به انتفاء ذلك كلية لأنه وقع بقلة ، وقليلا صفة لموصوف محذوف أي إيمانا قليلا ، وتذكرا قليلا ، وما مزيدة لتوكيد الكلام كما في قول الشاعر :

قليلا به ما يحمدنك وارث

إذا نال مما كنت تجمع مغنما

(٤) التقول نسبة قول إلى من لم يقله ، والأقاويل جمع أقوال الذي هو جمع قول.

(٥) من مزيدة لتأكيد النفي وللتنصيص على العموم وفي الآية دليل أن من يدعي أنه يوحى إليه لا يلبث طويلا حتى يأخذه الله تعالى.

(٦) التذكرة اسم مصدر بمعنى التذكير وهو التنبيه إلى مغفول عنه.

(٧) خص المتقون لأنهم هم المنتفعون به لاستعدادهم بقوة ايمانهم وصحة علمهم وكمال رغبتهم في الطاعة.

(٨) في الكلام إيجاز والتقدير إنا بعثنا إليكم الرسول بهذا القرآن ونحن نعلم أنه سيكون منكم مكذبون.

(٩) جائز أن يكون الضمير عائدا على التكذيب إذ به كانت حسرة الكافرين يوم القيامة وجائز أن يكون عائدا على القرآن لأنهم لم يؤمنوا به ويعملوا بما دعا إليه من الإيمان وصالح الأعمال.

الوار. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) (١) أي اليقين الحق. بعد هذا التقرير في إثبات الوحي والنبوة أمر تعالى رسوله الذي كذب برسالته المكذبون أمره أن يستعين على الصبر بذكر الله تعالى فقال له (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي قل سبحان ربي العظيم منزها اسمه عن تحريفه وتسمية المحدثات به معظما ربك غاية التعظيم إذ هو العلي العظيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ لله تعالى أن يحلف بما شاء من مخلوقاته لحكم عالية وليس للعبد أن يحلف بغير الرب تعالى.

٢ ـ تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.

٣ ـ وصف الرسول بالكرم وبكرامته على ربه تعالى.

٤ ـ عجز الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكذب على الله تعالى وعدم قدرته على ذلك لو أراده ولكن الذي لا يكذب على الناس لا يكذب على الله كما قال هرقل ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله ردا على أبي سفيان لما قال له لم نجرب عليه كذبا قط.

٥ ـ مشروعية التسبيح بقول سبحان ربي العظيم إن صح أنه لما نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه اجعلوها في ركوعكم فكانت سنة مؤكدة سبحان ربي العظيم ثلاثا في الركوع أو اكثر.

سورة المعارج

مكية وآياتها أربع واربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ

__________________

(١) أي القرآن الكريم بلا خلاف.

(٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨))

شرح الكلمات :

(سَأَلَ سائِلٌ) : أي دعا داع بعذاب واقع.

(لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ) : أي فهو واقع لا محالة.

(ذِي الْمَعارِجِ) : أي ذي العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) : أي تصعد الملائكة وجبريل إلى الله تعالى.

(فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) : أي تصعد الملائكة وجبريل من منتهى امره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى امره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق.

(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً) : أي العذاب الذي يطالبون به لتكذيبهم وكفرهم بالبعث.

(يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) : أي كذائب النحاس.

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) : أي كالصوف المصبوغ الوانا في الخفة والطيران بالريح.

(وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) : أي قريب قريبه لانشغال كل بحاله.

(يُبَصَّرُونَهُمْ) : أي يبصر الأحماء بعضهم بعضا ويتعارفون ولا يتكلمون.

(وَصاحِبَتِهِ) : أي زوجته.

(وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) : أي عشيرته التي تضمه إليها نسبا وتحميه من الأذى عند الشدة.

(إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) (١) : أي ان جهنم هي لظى نزاعة للشوى جمع شواة جلدة الرأس.

(أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) : أي عن طاعة الله ورسوله وتولى عن الإيمان فأنكره وتجاهله.

__________________

(١) قرأ نافع والجمهور برفع نزاعة وقرأ حفص بنصبها.

(وَجَمَعَ فَأَوْعى) : أي جمع المال وجعله في وعاء ومنع حق الله تعالى فيه فلم ينفق منه في سبيل الله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (سَأَلَ (١) سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ) هذه الآيات نزلت ردا على دعاء النضر بن الحارث ومن وافقه اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو إئتنا بعذاب أليم فأخبر تعالى عنه بقوله (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ) (٢) (واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللهِ) أي انه واقع لا محالة إذ ليس له دافع من الله (ذِي الْمَعارِجِ) أي صاحب العلو والدرجات ومصاعد الملائكة وهي السموات وقوله تعالى (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) أي (٣) تصعد الملائكة وجبريل إليه تعالى (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) أي يصعدون من منتهى أمره من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السموات السبع في يوم مقداره خمسون ألف سنة بالنسبة لصعود غير الملائكة من الخلق (فَاصْبِرْ (٤) صَبْراً جَمِيلاً) (٥) وقوله تعالى (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) يعني أن المشركين المكذبين يرون العذاب بعيدا لتكذيبهم بالبعث الآخر. ونحن نراه قريبا ويبين تعالى وقت مجيئه فقال (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) أي تذوب فتصير كذائب النحاس (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) أي الصوف المصبوغ خفة وطيرانا بالريح وهذا هو الانقلاب الكوني حيث فني كل شيء ثم يعيد الله الخلق فإذا الناس في عرصات القيامة واقفون حفاة عراة (لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) لانشغال كل بنفسه كما قال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) عن السؤال عن غيره أو عن سؤال غيره وقوله تعالى (يُبَصَّرُونَهُمْ) أي عدم سؤال بعضهم بعضا ليس ناتجا عن عدم معرفتهم لبعضهم (٦) بعضا لا بل يبصرهم ربهم بهم فيعرف كل قريب قريبه ولكن اشتغاله بنفسه يحول دون سؤال غيره ، ويشرح هذا المعنى قوله تعالى (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) أي ذو الاجرام على نفسه بالشرك والمعاصي (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ) أي أولاده الذكور ففضلا عن الإناث (وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ) بأن تضمه إلى نسبها والفصيلة العشيرة انفصلت

__________________

(١) قرأ نافع سال بدون همزة تخفيفا وقرأ حفص (سَأَلَ) بالهمزة على الأصل.

(٢) وإن كانت الباء في بعذاب بمعنى عن فيكون السائل سأل عن العذاب لمن يقع أو متى يقع كقوله تعالى فاسأل به خبيرا أي عنه خبيرا وكقول الشاعر :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

بصير بأدواء النساء طبيب

ومن بلاغة القرآن تعدية سأل بالباء ليكون صالحا للاستفهام والدعاء والاستعجال.

(٣) هذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.

(٤) الفاء للتفريع إذ سبق أن السائل بالعذاب كان مستهزئا مستخفا فلذا أمر الله رسوله بالصبر الجميل على ما يقوله المشركون.

(٥) الجملة تعليلية لكل من جملة سأل سائل بعذاب وللأمر بالصبر.

(٦) قرأ نافع (يَوْمِئِذٍ) بفتح يومئذ وقرأ الجمهور بكسرها بإضافة عذاب إليها.

من القبيلة (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ) لنتصور عذابا يود المجرم من خوفه منه أن يفتدي بكل شيء في الأرض كيف يكون؟ ومن هنا يرى القريب قريبه ولا يسأله عن حاله لانشغال نفسه عن نفس غيره. وقوله تعالى (كَلَّا) (١) أي لا قرابة يومئذ تنفع ولا فداء يقبل (إِنَّها) أي جهنم (لَظى نَزَّاعَةً لِلشَّوى) أي لجلدة الرأس ولكل عضو غير قاتل للإنسان إذا نزع منه. (تَدْعُوا) أي جهنم المسماة لظى تدعو تنادي إلي إلي يا (مَنْ أَدْبَرَ) عن طاعة الله ورسوله وتركها ظهره فلم يلتفت إليها (وَتَوَلَّى) عن الإيمان فلم يطلبه تكميلا له ليصبح إيمانا يحمله على الطاعات (وَجَمَعَ) الأموال فأوعاها في أوعية (٢) ولم يؤد منها الحقوق الواجبة فيها من زكاة وغيرها إذ في المال حق غير الزكاة. ومن دعته جهنم دفع إليها دفعا كما قال تعالى (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) نعوذ بالله من جهنم وموجباتها من الشرك والمعاصي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة سؤال العذاب فإن عذاب الله لا يطاق ولكن تسأل الرحمة والعافية.

٢ ـ وجوب الصبر على الطاعة وعلى البلاء فلا تسخط ولا تجزع.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٤ ـ عظم هول الموقف يوم القيامة وصعوبة الحال.

٥ ـ التنديد بالمعرضين عن طاعة الله ورسوله الجامعين للأموال المشتغلين بها حتى سلبتهم الإيمان والعياذ بالله فأصبحوا يشكون في الله وآياته ولقائه.

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ

__________________

(١) (كَلَّا) حرف ردع وإبطال لكلام سابق.

(٢) ومنه الحديث لا توعي فيوعى عليك أي لا تمسكي عن الإنفاق فيمسك عليك.

رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) : أي إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا أي كثير الجزع سريعه وكثير المنع حريصا عليه.

(عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) : أي لا يقطعونها أبدا ما داموا أحياء يعقلون.

(حَقٌّ مَعْلُومٌ) : أي نصيب معين عينه الشارع وهو الزكاة.

(لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) : أي الطالب الصدقة والذي لا يطلبها حياء وتعففا.

(يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) : أي يؤمنون بيوم القيامة للبعث والجزاء.

(مُشْفِقُونَ) : أي خائفون متوقعون العذاب عند المعصية.

(لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) : أي صائنون لها عن النظر إليها وعن الفاحشة.

(أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : أي من السريات من الجواري التي يملكونها.

(فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) : أي المعتدون الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.

(لِأَماناتِهِمْ) : أي ما ائتمنوا عليه من أمور الدين والدنيا.

(راعُونَ) : أي حافظون غير مفرطين.

(قائِمُونَ) : أي يقيمون شهاداتهم لا يكتمونها ولا يحرفونها.

(يُحافِظُونَ) : أي يؤدونها في أوقاتها في جماعات مع كامل الشروط والأركان والواجبات والسنن.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي هذا الآدمي المنتصب القامة الضاحك الذي سمي بالإنسان لأنسه

بنفسه ورؤية محاسنها ولنسيانه واجب شكر ربه هذا الإنسان (خُلِقَ هَلُوعاً) قابلا لوصف الهلع فيه عند بلوغه سن التمييز والهلع مرض نفسي عرضه الذي يعرف به جزعه الشديد متى مسه الشر ، ومنعه القوي للخير متى مسه وظفر به. فقد فسر تعالى الهلع بقوله ، (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً). ثم ذكر تعالى ما يعالج به هذا المرض باستثنائه من جنس الإنسان من يتصفون بالصفات الآتية وهي عبارة عن عبادات شرعية بعضها فعل وبعضها ترك من شأنها القضاء على هذا المرض الخطير المسمى بالهلع والذي لا يعالج إلا بما وصف تعالى في قوله :

١) إدامة الصلاة بالمواظبة عليها ليل نهار إذ قال تعالى (إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (١) (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢) وبشرط أن تؤدى إيمانا واحتسابا وأداء صحيحا بمراعاة شروطها وأركانها وسننها.

٢) الاعتراف بما اوجب الله في المال من حق واعطاء ذلك الحق بطيب نفس لمن سأل ولمن لم يسأل ممن هم أهل للزكاة والصدقات لقوله (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ).

٣) التصديق الكامل بيوم القيامة وهو البعث والجزاء لقوله تعالى (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ).

٤) الاشفاق والخوف من عذاب الله عند عروض خاطر المعصية بترك واجب أو فعل محرم لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي دائما وأبدا لأن (عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) الوقوع.

٥) حفظ الفرج بستره عن أعين الناس ما عدا الزوج وصيانته من فاحشة الزنا واللواط وجلد عميرة أي الاستمناء باليد والمعروف اليوم بالعادة السرية لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من السراري (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) في إتيانهم أزواجهم وجواريهم اللائي ملكوهن بالجهاد أو الشراء الشرعي وقوله تعالى (فَمَنِ ابْتَغى) أي طلب ما وراء الزوجة والسرية (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) أي الظالمون الذين تجاوزوا الحلال إلى الحرام فكانوا بذلك معتدين ظالمين.

٦) حفظ الأمانات والعهود ومن أبرز الأمانات وأقوى العهود ما التزم به العبد من عبادة الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله والوفاء بذلك حتى الموت زيادة على أمانات الناس والعهود لهم الكل واجب الحفظ والرعاية لقوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون.

__________________

(١) الاستثناء منقطع أي لكن المصلين الذين وصفهم كيت وكيت وهي ثمان صفات وهي صفات المؤمنين الصادقين.

(٢) الدوام على الشيء عدم تركه وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه.

٧ ـ إقامة الشهادة بالاعتدال فيها بحيث يؤديها ولا يكتمها ويؤديها قائمة لا اعوجاج فيها لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ) (١) (بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) (٢).

٨ ـ المحافظة على الصلوات الخمس مستوفاة الشروط والأركان من الخشوع إلى الطمأنينة في الركوع والسجود والاعتدال في القيام لقوله تعالى (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) بعد أدائها وعدم قطعها بحال من الأحوال.

فهذه الوصفة الربانية متى استعملها الإنسان المؤمن تحت إشراف عالم رباني إن وجده وإلا فتطبيقها بدون إشراف ينفع بإذن الله متى اجتهد المؤمن في حسن تطبيقها برىء من ذلك المرض الخطير وأصبح أهلا لإكرام الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى في ختام هذه الوصفة (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) (٣) أي أولئك المطبقون لهذه الوصفة الناجحون فيها (فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) في جوار ربهم اللهم اجعلنا منهم يا غفور يا رحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بين شر صفات الإنسان وانها الهلع.

٢ ـ بيان الدواء لهذا الداء داء الهلع الذي لا فلاح معه ولا نجاح.

٣ ـ انحصار العلاج في ثماني صفات أو ثماني مركبات دوائية.

٤ ـ وجوب العمل بما اشتملت عليه الوصفة من واجبات.

٥ ـ حرمة ما اشتملت عليه الوصفة من محرمات.

(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ

__________________

(١) قرأ نافع شهادتهم بالإفراد وقرأ حفص (بِشَهاداتِهِمْ) بالجمع وقراءة الإفراد بمعنى الجمع لأن شهادة اسم جنس تدل على متعدد.

(٢) القيام بالشهادة : الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى.

(٣) والإكرام : التعظيم وحسن اللقاء أي هم مع جزائهم بالجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء. في جنات خبر أولئك ومكرمون خبر ثان.

وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

شرح الكلمات :

(قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ؟) : أي نحوك مديمي النظر إليك.

(عِزِينَ) : أي جماعات حلقا حلقا يقولون في استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلها قبلهم.

(إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) : أي من مني قذر وإنما يستوجب دخول الجنة بالطاعات المزكية للنفوس.

(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) : أي إنا لقادرون على أن نهلكهم ونأتي بأناس خير منهم.

(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) : أي بعاجزين عن إيجاد ما ذكرنا من اهلاك القوم والإتيان بخير منهم.

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) : أي من القبور مسرعين إلى المحشر.

(سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ) : أي كأنهم في إسراعهم إلى المحشر إلى نصب أي شىء منصوب كراية أو علم يسرعون.

(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) : أي تغشاهم ذلة.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) : أي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَما لِ الَّذِينَ (١) كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ) يخبر تعالى مقبحا سلوك المشركين إزاء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول ما للذين كفروا من كفار مكة قبلك أي جهتك حيث كنت في المسجد الحرام مهطعين أو مسرعين مديمي النظر إليك (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) أي عن يمينك وعن شمالك عزين جمع عزة أي جماعة فهم حلق حلق يستمعون إلى قراءتك بحثا عن كلمة يمكنهم أن يشنعوا بها عليك ويجعلونها مطعنا في دعوتك أي سخرية يسخرون بها وبك ويقولون استهزاء بالمؤمنين لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم فرد تعالى عليهم منكرا طمعهم الفارغ بقوله (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ (٢)

__________________

(١) الاستفهام إنكاري تعجبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بالنار ، ومعنى الآية أي شيء ثبت للذين كفروا في حال إهطاعهم إليك.

(٢) هذه الجملة بدل اشتمال من جملة فما للذين كفروا.

مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) أي بستان إكرام وتنعم (كَلَّا) لن يتم هذا لهم ولن يكون وهم أنجاس الأرواح بالشرك والمعاصي ، ولفت النظر إلى أصل الخلقة وهي المني القذر والقذر لا يدخل دار السلام فمن أراد الجنة فليزك نفسه وليطهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدسيها من الشرك والمعاصي وهو ما تضمنه قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ (١) مِمَّا يَعْلَمُونَ) وقوله عزوجل (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) أي فلا الأمر كما يتصورون من أنهم لا يبعثون بعد موتهم أقسم برب المشارق الثلاثمائة والستين مشرقا ومغربا حيث الشمس تطلع كل يوم في مطلع وتغرب في آخر لا تعود إليه إلا بعد سنة في مثل ذلك اليوم فأقسم تعالى بنفسه ، والمقسم عليه قوله (إِنَّا لَقادِرُونَ) أي على أن نهلكهم ونأتي بخير منهم (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي عاجزين عن ذلك فكيف إذا لا نعيدهم أحياء بعد موتهم يوم القيامة (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي أمر تعالى رسوله أن يتركهم وما يخوضون فيه من اللهو واللعب والباطل في القول والعمل ، وهو تهديد خفي لهم (حَتَّى يُلاقُوا) على ما هم عليه من أدران الشرك وأوضار المعاصي يومهم الذي يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة وشرح حال اليوم فقال (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) أي القبور جمع جدث (سِراعاً) أي مسرعين (كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ) (٢) أي شيء منصوب من راية أو علم أو تذكار (يُوفِضُونَ) أي يحشرون مسرعين حال كون أبصارهم خاشعة أي ذليلة من الفزع والخوف (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) أي تغشاهم ذلة عجيبة عظيمة. وقوله تعالى (ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) أي هذا هو اليوم الذي كانوا يوعدون بالعذاب فيه وهو يوم القيامة الذي أنكروه وكذبوا به ها هو ذا قد حصل فليتجرعوا غصص الندم وألوان العذاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحال التي كان عليها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مكة بين ظهراني قريش وما كان يلاقي من أذاهم.

٢ ـ بيان أن الجنة تدخل بالطهارة الروحية من قذر الشرك والمعاصي وإلا فأصل الناس واحد المني القذر باستثناء آدم وحواء وعيسى فآدم أصله الطين وحواء خلقت من ضلع آدم ، وعيسى كان بنفخ روح القدس في كم درع مريم فكان بكلمة الله تعالى ومن عدا الثلاثة فمن ماء مهين ونطفة قذرة.

__________________

(١) في قوله تعالى (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ازدراء بهم وتهكم من حالهم إذ يجادلون ويعاندون وهم مخلوقون من نطفة مذرة.

(٢) النصب بفتح النون وسكون الصاد : الصنم قرأ نافع نصب بفتح وسكون وقرأ حفص نصب بضم كل من النون والصاد والمعنى واحد وهو الصنم قال الشاعر :

وذا النصب المنصوب لا تنسكنه

لعافية والله ربك فاعبدا

٣ ـ الاستدلال بالنشأة الأولى على إمكان الثانية.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٥ ـ بيان أن حياة أهل الكفر مهما تراءى لهم ولغيرهم أنها حياة مدنية سعيدة لم تعد كونها باطلا ولهوا ولعبا.

سورة نوح

مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤))

شرح الكلمات :

(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) : أي أهل الأرض كافة والدليل إغراقهم أجمعين.

(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) : أي بإنذار قومك.

(إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) : أي بين النذارة ظاهرها.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) : أي وحده بفعل محابه وترك مكارهه ولا تشركوا به شيئا.

(وَاتَّقُوهُ) : فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به.

(وَأَطِيعُونِ) : فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) : أي ذنوبكم التي هي الشرك والمعاصي فمن زائدة لتقوية الكلام أو هي تبعيضية لأن ما كان حقا لآدمي كمال وعرض لا يغفر إلا بالتوبة.

(وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى نهاية آجالكم المسماة لكم في كتاب المقادير فلا يعجل لكم بالعذاب.

(إِنَّ أَجَلَ اللهِ) : أي بعذابكم.

(لا يُؤَخَّرُ) : إن لم تؤمنوا.

(لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) : أي لآمنتم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) يخبر تعالى لافتا نظر منكري رسالة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مشركي قريش وكفار مكة أن محمدا رسول الله ليس بأول رسول حتى تنكر رسالته ، كما أن السورة بجملتها فيها تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يلاقي من مشركي قومه إذ نوح عليه‌السلام قد لاقى ما هو أشد وأطول مدة والآيات ناطقة بذلك وقوله تعالى (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) أي أرسلناه بإنذار قومه (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢) هو عذاب الدنيا بالاستئصال وعذاب الآخرة بالاستمرار والدوام. وقوله تعالى (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي امتثل نوح أمر ربه وقال لقومه يا قوم أني لكم نذير مبين أي مخوف من عواقب كفركم بالله وشرككم به. (أَنِ اعْبُدُوا (٣) اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ) اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا واتقوه فلا تعصوه بترك عبادته ولا بالشرك به ، وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه لأني مبلغ عن الله ربي وربكم ولا آمركم إلا بما يكملكم ويسعدكم ولا أنهاكم إلا عما يضركم ولا يسركم فإن تجيبوا لما دعوتكم إليه (يَغْفِرْ لَكُمْ) (٤) (مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إلى نهاية آجالكم فلا يعاجلكم بالعقوبة (إِنَّ أَجَلَ اللهِ) أي بعذابكم إذا جاء (لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٥) أي لو علمتم ذلك لأنبتم إلى ربكم فتبتم إليه واستغفرتموه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية إذ الذي أرسل نوحا يرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن شاء إلى من شاء.

٢ ـ تقرير التوحيد إذ نوح أرسل إلى قوم مشركين لإبطال الشرك وتحقيق التوحيد.

٣ ـ تقرير معتقد القضاء والقدر لقوله (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي في كتاب المقادير.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ

__________________

(١) نوح هو ابن لامك بن متوشلخ بن أختون وهو إدريس بن برد بن مهلايل بن أنوش ابن قينان بن شيت بن آدم عليه‌السلام.

(٢) جائز أن يكون العذاب في الدنيا وأن يكون عذاب النار يوم القيامة.

(٣) (إِنَ) مفسرة كالتي في قوله أن أنذر قومك.

(٤) جائز أن يكون (مِنْ) زائدة لتقوية الكلام وأن تكون تبعيضية إذ بعض الذنوب لا تغفر إلا بالتحلل من أصحابها وهي حقوق الآدميين.

(٥) روي أنهم كانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول : رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.

فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠))

شرح الكلمات :

(لَيْلاً وَنَهاراً) : أي دائما باستمرار.

(إِلَّا فِراراً) : أي مني ومن الحق الذي ادعوهم إليه وهو عبادة الله وحده.

(جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) : أي حتى لا يسمعوا ما أقول لهم.

(وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) : أي تغطوا بها حتى لا ينظروا إلي ولا يروني.

(وَأَصَرُّوا) : على باطلهم وما هم عليه من الشرك.

(يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً) : أي ينزل عليكم المطر متتابعا كلما دعت الحاجة إليه.

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) : أي بساتين.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) : أي لا تخافون لله عظمته وكبرياءه وهو القاهر فوق عباده.

(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) : أي حالا بعد حال فطورا نطفة وطورا علقة وطورا مضغة.

(وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) : أي مضيئة.

(أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) : أي أنشأكم من تراب الأرض.

(ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) : أي تقبرون فيها.

ويخركم منها إخراجا : أي يوم القيامة.

(سُبُلاً فِجاجاً) : أي طرقا واسعة.

معنى الآيات :

هذه الآيات تضمنت لوحة مشرقة يهتدي بضوئها الهداة الدعاة إلى الله عزوجل إذ هي تمثل عرض حال قدمه نوح لربه عزوجل هو خلاصة دعوة دامت قرابة تسعمائة وخمسين سنة ولنصغ إلى نوح عليه‌السلام وهو يشكوا إلى ربه ويعرض عليه ما قام به من دعوة إليه فقال (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) وهم أهل الأرض كلهم يومئذ (لَيْلاً وَنَهاراً) أي بالليل وبالنهار إذ بعض الناس لا يمكنه الاتصال بهم إلا ليلا (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي) (١) إياهم إلى الإيمان بك وعبادتك وحدك (إِلَّا فِراراً) مني (٢) ومما أدعوهم إليه (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بأن يستغفروك ويتوبوا إليك لتغفر لهم (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) حتى لا يسمعوا ما أقول لهم ، (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي تغطوا بها حتى لا يروني ولا ينظروا إلى وجهي كراهة لي وبغضا في (وَأَصَرُّوا) على الشرك والكفر إصرارا متزايدا عنادا (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) عجيبا. (٣)

(ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ) إلى توحيدك في عبادتك وإلى ترك الشرك فيها (جِهاراً) أي مجاهرا بذلك (ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) بحسب الجماعات والظروف أطرق كل باب بحثا عن استجابتهم للدعوة وقبولهم للهدى (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ (٤) كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ (٥) عَلَيْكُمْ مِدْراراً) أي ينزل عليكم المطر متتابعا فلا يكون قحط ولا محل (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) كما هي رغبتكم (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ) بساتين ذات نخيل وأعناب (وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (٦) تجري في تلك البساتين تسقيها. ثم التفت إليهم وقال لهم منكرا عليهم استهتارهم وعدم خوفهم (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) أي ما دهاكم أي شيء جعلكم لا ترجون لله وقارا لا تخافون عظمته وقدرته وكبرياءه (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ولفت نظرهم إلى مظاهر قدرة الله تعالى فقال لهم (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ

__________________

(١) قرأ نافع دعائي بفتح العين واسكنها حفص.

(٢) أي إلا تباعدا عن الإيمان وإعراضا عنه.

(٣) إذ قالوا له : أنؤمن لك واتبعك الأرذلون والحامل لهم على هذا القول الكبر الذي تجاوزوا الحد فيه.

(٤) إنه كان غفارا هذا منه عليه‌السلام ترغيب لهم في التوبة قال الفضيل بن عياض قول العبد أستغفر الله معناه أقلني.

(٥) يرسل السماء المراد المطر لا السماء هذا كقول الشاعر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

دعيناه وإن كانوا غضابا

(٦) يروى عن الحسن البصري أن رجلا شكا إليه الجدوبة فقال له استغفر الله ، وشكا آخر إليه الفقر فقال له استغفر الله ، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له استغفر الله وقال له آخر ادع الله أن يرزقني ولدا فقال له استغفر الله ، فقيل له فى ذلك ، فقال : ما قلت من عندي شيئا إن الله يقول في سورة نوح (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً).

خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) سماء فوق سماء مطابقة لها (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَ (١) نُوراً) ينير ما فوقه من السموات وما تحته من الأرض (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) وهاجا مضيئا يضيء بوجهه السموات وبقفاه الأرض كالقمر (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) إذ أصلكم من تراب والنطف أيضا من الغذاء المكون من التراب ثم خلقتكم تشبه النبات وهي على نظامه في الحياة والنماء. (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها) أي في الأرض بعد الموت فتدفنون فيها (وَيُخْرِجُكُمْ) منها أيضا (إِخْراجاً) يوم القيامة للحساب والجزاء (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) أي مفروشة مبسوطة صالحة للعيش فيها والحياة عليها ، (لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي طرقا واسعة وهكذا تجول بهم نوح عليه‌السلام في معارض آيات الله الكونية وكلها دالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبة للعبادة له عقلا ونفيها عما سواه كانت هذه مشكلة نوح وعرض حاله على ربه وهو أعلم به وفي هذا درس عظيم للدعاة الهداة المهديين جعلنا الله منهم آمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ رسم الطريق الصحيح للدعوة القائم على الصبر وتلوين الأسلوب.

٢ ـ بيان كره المشركين للتوحيد والموحدين انهم لبغضهم لنوح ودعوة التوحيد سدوا آذانهم حتى لا يسمعوا وغطوا وجوههم حتى لا يروه واستكبروا حتى لا يروا له فضلا.

٣ ـ استعمال الحكمة في الدعوة فإن نوحا لما رأى أن قومه يحبون الدنيا أرشدهم إلى الاستغفار ليحصل لهم المال والولد.

٤ ـ استنبط بعض الصالحين (٢) من هذه الآية أن من كانت له رغبة في مال أو ولد فليكثر من الاستغفار الليل والنهار ولا يمل يعطه الله تعالى مراده من المال والولد.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤))

__________________

(١) أي في السماء الدنيا ، إذ يقال أتاني بنو تميم وأتيت بني تميم والمراد بعضهم.

(٢) تقدم أنه الحسن البصري رحمه‌الله تعالى.

شرح الكلمات :

(عَصَوْنِي) : أي لم يطيعوني فيما دعوتهم إليه وأمرتهم به من عبادتك وحدك وترك الشرك بك.

(وَاتَّبَعُوا) : أي السفلة منهم والفقراء.

(مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) : أي الرؤساء المنعم عليهم.

(إِلَّا خَساراً) : أي طغيانا وكفرا.

(مَكْراً كُبَّاراً) : أي عظيما جدا بأن كذبوا نوحا وآذوه أذى شديدا.

(وَقالُوا) : أي الرؤساء قالوا للسفلة منهم.

(لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) : أي لا تتركن آلهتكم.

(وَلا تَذَرُنَ) : أي ولا تتركن كذلك ودا ولا سواعا ولا يغوث ولا يعوق ونسرا.

(وَقَدْ أَضَلُّوا) : أي بالأصنام كثيرا من الناس حيث أمروا بعبادتها.

معنى الآيات :

بعد ذلك العرض الكريم الذي تقدم به رسول الله نوح عليه‌السلام إلى ربه ليعذره ويكرمه تقدم بشكوى مشفوعة بالدعاء بالهلاك على الظالمين فقال (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ (١) لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً) أي طغيانا وكفرا. (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) (٢) أي عظيما جدا حيث كانوا يعرضون بنوح وقد يضربونه وهو صابر محتسب (وَقالُوا) لبعضهم البعض متواصين بالباطل (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) وسموا منها رؤساءها وهم خمسة ود وسواع (٣) ويغوث ويعوق ونسر (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) أي من عباد الله حيث ورثوا هذه الأصنام فيهم فتبعهم الناس على ذلك فضلوا ثم دعا عليهم قائلا (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) قال هذا بعد أن أيس من إيمانهم وعدم هدايتهم لطول ما مكث (٤) بينهم يدعوهم وهم لا يزدادون إلا كفرا وضلالا. (٥)

__________________

(١) يعني كبراءهم وأغنياءهم وأهل الترف فيهم الذين لم يزدهم كفرهم وأموالهم وأولادهم إلا ضلالا.

(٢) (اسْتِكْباراً) : نحو قراء وعجاب وطوال وعمال.

(٣) روى البخاري عن ابن عباس : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت.

(٤) قال ابن عباس : رجا نوح الأبناء بعد الآباء فيأتي بهم الولد بعد الولد حتى بلغوا سبع قرون ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم وعاش بعد الطوفان ستين عاما حتى كثر الناس وفشوا.

(٥) من عجيب ما يدعو إليه الشيطان أن يعوق ونسرا عبدا في القرن الرابع عشر في قرية ليوه حيث كانوا يستسقون بهما ، وان يغوث ويعوق وود وسواع ونسر كانت موزعة بين القبائل العربية وفي يعوق يقول الشاعر :

يريش الله في الدنيا ويبري

ولا يبري يعوق ولا يريش

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الشكوى إلى الله تعالى ولكن بدون صخب ولا نصب.

٢ ـ بيان أن السفلة والفقراء يتبعون الرؤساء والأغنياء وأصحاب الحظ.

٣ ـ بيان أن المكر من شأن الكافرين والظالمين.

٤ ـ بيان أن المشركين لضلالهم يطلقون لفظ الآلهة على من يعبدونهم من الأصنام والأوثان.

٥ ـ مشروعية الدعاء على الظالمين عند اليأس من هدايتهم.

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

شرح الكلمات :

(مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) : أي بسبب خطيئاتهم أغرقوا بالطوفان.

(فَأُدْخِلُوا ناراً) : أي بعد موتهم أدخلت أرواحهم النار.

(دَيَّاراً) : أي من يدور يذهب ويجيء أي لم يبق أحد.

(إِنْ تَذَرْهُمْ) : أي أحياء لم تهلكهم.

(إِلَّا تَباراً) : أي هلاكا وخسارا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) (١) يخبر تعالى عن نهاية قوم نوح بعد أن دعا عليهم نوح لما علم بالوحي الإلهي انهم لا يؤمنون فقال تعالى مما خطيئاتهم أي ومن خطيئاتهم أي بسبب خطيئاتهم التي هي الشرك والظلم والتكذيب والأذى لنوح عليه‌السلام أغرقوا بالطوفان فلم يبق منهم أحد (فَأُدْخِلُوا ناراً) أي بمجرد ما يغرق الشخص وتخرج روحه يدخل النار في البرزخ. وقوله تعالى (فَلَمْ (٢)

__________________

(١) (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ) (ما) زائدة والأصل من خطيئتهم ومن تعليلية وما الزائدة لتوكيد معنى التعليل.

(٢) الفاء تفريعية.

يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) وهو كذلك فمن ينصر من يريد هلاكه وخزيه وعذابه. ثم ذكر تعالى دعوة نوح التي كان الطوفان بها والهلاك وهي قوله (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) أي لا تترك ولا تبق على الأرض اليابسة كلها يومئذ من الكافرين بخلاف المؤمنين (دَيَّاراً) (١) أي إنسانا يدور أي يذهب ويجيء أي لا تبق من الكافرين أحدا ثم علل لطلبه الهلاك للكافرين فقال (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ (٢) يُضِلُّوا عِبادَكَ) عن صراطك الموصل إلى رضاك وذلك هو عبادتك وحدك وطاعتك وطاعة رسولك (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) (٣) أي إلا من يفجر عن دينك ويكفر بك وبرسولك قال نوح هذا لطول التجارب التي عاشها مع قومه إذ عاشرهم قرابة عشرة قرون ثم دعا الله تعالى له ولوالديه ولمن دخل مسجده ومصلاه من المؤمنين والمؤمنات ، وأن لا يزيد الظالمين إلا خسارا وهلاكا فقال (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ (٤) وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (٥).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ هلاك قوم نوح كان بخطاياهم فالخطايا إذا موجبة للهلاك.

٢ ـ تقرير عذاب القبر فقوم نوح ما إن اغرقوا حتى ادخلوا نارا.

٣ ـ مشروعية الدعاء على الظلمة والكافرين والمجرمين.

٤ ـ مشروعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.

٥ ـ يستحب البدء في الدعاء بنفس الداعي ثم يعطف من يدعو لهم.

سورة الجن

مكية وآياتها ثمان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ أُوحِيَ (٦) إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً

__________________

(١) ديار : اسم مخصوص بالوقوع في النفي يعم كل إنسان وهو مشتق من اسم الدار.

(٢) (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ) : الجملة تعليلية.

(٣) يريد عند بلوغ الولد سن التكليف لا أنه يفجر ويكفر بمجرد ما يولد وصيغة فعال للمبالغة في الموصوف بالكفر.

(٤) اسم أبيه لمك واسم أمه شمخى بنت آنوس.

(٥) التبار : الهلاك والخسران.

(٦) قرأ نافع بكسر إن في كل ما ورد في سورة الجن ما عدا أنه استمع نفر من الجن وأن المساجد لله ففتح أن وفتحها حفص إلا بعد القول وفإن له نار جهنم.

عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧))

شرح الكلمات :

(أَنَّهُ اسْتَمَعَ) : أي إلى قراءتي.

(نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) : أي عدد من الجن ما بين الثلاثة والعشرة.

(فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) : أي لبعضهم بعضا قرآنا عجبا أي يتعجب منه لفصاحته وغزارة معانيه.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) : أي الصواب في المعتقد والقول والعمل.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) : أي تنزه جلال ربنا وعظمته عما نسب إليه.

(مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) : أي لم يتخذ صاحبة ولم يكن له ولد.

(سَفِيهُنا) : أي جاهلنا.

(شَطَطاً) : أي غلوا في الكذب بوصفه الله تعالى بالصاحبة والولد.

(عَلَى اللهِ كَذِباً) : حتى تبين لنا انهم يكذبون على الله بنسبة الزوجة والولد إليه.

(يَعُوذُونَ) : أي يستعيذون.

(فَزادُوهُمْ رَهَقاً) : أي إثما وطغيانا.

(أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) : أي لن يبعث رسولا إلى خلقه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قُلْ أُوحِيَ (١) إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ (٢) مِنَ الْجِنِ) يأمر تعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول معلنا

__________________

(١) أصل أوحي ووحي فقلبت الواو همزة كما قلبت في وإذا الرسل أقتت والأصل وقتت ، وهو جائز في كل واو مضمومة نحو ورخ وأرخ.

(٢) يرى ابن إسحق أن هذا اللقاء بالجن كان عند عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الطائف ، ولا مانع من حصول الخبرين مرة عند عودته من الطائف وتكون هذه الأولى ، والثانية هي المذكورة في التفسير.

للناس مؤمنهم وكافرهم أنه قد أوحى الله تعالى إليه نبأ مفاده أن نفرا من الجن ما بين الثلاثة إلى العشرة قد استمعوا إلى قراءته القرآن وذلك ببطن نخلة والرسول يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامدا مع أصحابه إلى سوق عكاظ. وكان يومئذ قد حيل بين الشياطين وخبر السماء حيث أرسلت عليهم الشهب فراجع الشياطين بعضهم بعضا فانتهوا إلى أن شيئا حدث لا محالة فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها يتعرفون إلى هذا الحدث الجلل الذي منعت الشياطين بسببه من السماء فتوجه نفر منهم إلى تهامة فوجدوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي الصبح بأصحابه فاستمعوا إلى قراءته في (١) صلاته فرجعوا إلى قومهم من الجن فقالوا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأنزل الله تعالى هذه السورة «سورة الجن» مفتتحة بقوله (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ (٢) نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) أي أعلن للناس يا رسولنا أن الله قد أوحى إليك خبرا مفاده أن نفرا من الجن قد استمعوا إلى قراءتك فرجعوا إلى قومهم وقالوا لهم (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) أي يتعجب من فصاحته وغزارة معانيه. (يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) (٣) والصواب في العقيدة والقول والعمل (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) وفي هذا تعريض بسخف البشر الذين عاش الرسول بينهم احدى عشرة سنة يقرأ عليهم القرآن بمكة وهم مكذبون به كارهون له مصرون على الشرك والجن بمجرد أن سمعوه آمنوا به وحملوا رسالته إلى قومهم وها هم يدعون بدعاية الاسلام ويقولون (فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ (٤) رَبِّنا) أي وآمنا بأنه تعالى أمر ربنا وسلطانه (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) وحاشاه وإنما نسب إليه ذلك المفترون. (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) هذا من قول الجن واصلوا حديثهم قائلين وأنه كان يقول جاهلونا على الله شططا أي غلوا في الكذب بوصفهم الله تعالى بالصاحبة والولد تقليدا للمشركين واليهود والنصارى (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) أي وقالوا لقومهم وإنا كنا نظن أن الإنس والجن لا يكذبون على الله ولا يقولون عليه إلا الصدق وقد علمنا الآن انهم يكذبون على الله ويقولون عليه ما لم يقله وينسبون إليه ما هو منه براء. وقالوا (وَأَنَّهُ كانَ (٥) رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ

__________________

(١) ما ذكر في التفسير من شأن استماع الجن قراءة الرسول وما أوحى الله تعالى به إلى رسوله في شأن هذه الحادثة هو في مسلم والترمذي.

(٢) جملة (اسْتَمَعَ) خبر إن والاسم هو ضمير الشأن والجملة في محل نائب فاعل لأوحي.

(٣) الرشد بضم الراء وإسكان الشين والرشد بفتح الراء والشين معا هما الخير والصواب والهدى.

(٤) الجد بفتح الجيم : العظمة والجلال ومنه قول أنس كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا : أي عظم وجل وأنه تعالى : قرأ نافع بكسر الهمزة عطفا على قولهم إنا سمعنا قرآنا وقرأ حفص بفتح الهمزة على تقدير آمنا بأنه تعالى جد ربنا.

(٥) يجوز فتح أنه وكسرها فمن فتحها جعلها من كلام الجن رادا لها إلى قوله أنه استمع ومن كسرها جعلها مبتدأ في قول الله تعالى.

(يَعُوذُونَ (١) بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) يخبرون بخبر عجيب وهو أنه كان رجال من الناس من العرب وغيرهم إذا نزلوا منزلا مخوفا في واد أو شعب يستعيذون برجال من الجن كأن يقول الرجل أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه فزاد الإنس الجن بهذا اللجأ إليهم والاحتماء بهم رهقا (٢) أي إثما وطغيانا. إذ ما كانوا يطمعون أن الإنس تعظمهم هذا التعظيم حتى تستجير بهم. (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي وقالوا مخبرين قومهم وأنهم أي الإنس ظنوا كما ظننتم أنتم أيها الجن أن لن يبعث الله أحدا رسولا ينذر الناس عذاب الله ويعلمهم ما يكملهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير النبوة المحمدية وأن محمدا رسول للثقلين الإنس والجن معا.

٢ ـ بيان علو شأن القرآن وكماله حيث شهدت الجن له بأنه عجب فوق مستوى كلام الخلق.

٣ ـ تقرير التوحيد والتنديد بالشرك.

٤ ـ تقرير أن الإنس كالجن قد يكذبون على الله وما كان لهم ذلك.

٥ ـ حرمة الاستعانة بالجن والاستعاذة بهم لأن ذلك كالعبادة لهم.

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)

__________________

(١) قال مقاتل أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن من بني حنيفة ثم فشا في العرب فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.

(٢) الرهق الخطيئة والإثم وغشيان المحارم ، وباستعاذة الإنس بالجن يحصل الإثم والخطيئة.

وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥))

شرح الكلمات :

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) : أي طلبنا خبرها كما جرت بذلك عادتنا.

(حَرَساً شَدِيداً) : أي حراسا وحفظة من الملائكة يحفظونها بشدة وقوة.

(وَشُهُباً) : أي نجوما يرمى بها الشياطين أو يؤخذ منها شهاب فيرمى به.

(مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) : أي من أجل أن نسمع ما يحدث وما يكون في الكون.

(شِهاباً رَصَداً) : أي أرصد وأعد لرمي الشياطين وإبعادهم عن السمع.

(رَشَداً) : أي خيرا وصلاحا.

(كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) : أي مذاهب مختلفة إذا الطرائق جمع طريقة ، والقدد جمع قدة وهي الضروب والأجناس المختلفة.

(وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) : أي لا نفوته هاربين في الأرض أو في السماء.

(لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) : أي القرآن الداعي إلى الهدى المخالف للضلال.

(بَخْساً وَلا رَهَقاً) : أي نقصا من حسناته ولا إثما يحال عليه ويحاسب به.

(وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) : أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام.

(تَحَرَّوْا رَشَداً) : أي تعمدوا الرشد فطلبوه بعناية فحصلوا عليه.

(فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) : أي وقودا تتقد بهم يوم القيامة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ما قالته الجن بعد سماعها القرآن الكريم. وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) أي طلبناها كعادتنا (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) أي (١) ملائكة أقوياء يحرسونها وشهبا نارية يرمى بها كل مسترق للسمع منا. وقالوا : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها) أي من السماء (مَقاعِدَ) أي أماكن معينة لهم (لِلسَّمْعِ) (٢) أي لأجل الاستماع من ملائكة

__________________

(١) الشهب جمع شهاب ككتاب وكتب وهو ما يؤخذ من الكواكب النارية فيرمى به الجن. والحرس جمع حارس ولم يقل شديدين نحو قولنا السلف الصالح بدل الصالحين. وجمع الحرس احراس كسلف وأسلاف.

(٢) الذين كانوا يسترقون السمع هم مردة الجن وشياطينهم. ومما ينبغي أن يعلم هنا أن الجن هم أولاد الجان المخلوق من مارج من نار وأن الشياطين هم أولاد إبليس وأن من فسق عن أمر الله تعالى وتمرد على شرعه فخبث واشتد خبثه يصبح شيطانا ويلحق بالشياطين الذين لا خير فيهم البتة.

السماء. (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) أي أرصد له خاصة فيرمى به فيحرقه أو يخبله ، وقالوا (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) أقول عجبا لهؤلاء المؤمنين من الجن كيف تأدبوا مع الله فلم ينسبوا إليه الشر ونسبوا إليه الخير فقالوا (أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ولو أساءوا الأدب مثلنا لقالوا أشر أراده الله بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا أي خيرا وصلاحا قالوا هذا لما وجدوا السماء قد ملئت حرسا شديدا وشهبا وهو تفكير سديد ناتج عن وعي وإدراك سليم. وهذا التغير في السماء الذي وجدوه سببه أن الله تعالى لما نبأ رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخذ يوحي إليه حمى السماء حتى لا يسترق الشياطين السمع ويشوشوا على الناس فيصرفوهم عن الإيمان والدخول في الإسلام وهو الرشد الذي أراد الله لعباده وقالوا (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) أي المؤمنون المستقيمون على الإيمان والطاعة (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ضعف إيمان وقلة طاعة ، (كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً) أي مذاهب (١) واهواء مختلفة. (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) أي إن أراد بنا سوءا ومكروها (وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) إن طلبنا في الأرض أو في السماء. (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن الذي هو هدى الله يهدي به من يشاء من عباده (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً) أي نقصا من حسناته يوم القيامة (وَلا رَهَقاً) أي إثما يضاف إلى سيئآته ويعاقب به وهو لم يرتكبه في الدنيا. وقالوا (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) أي الجائرون عن قصد السبيل وهو الإسلام. (فَمَنْ أَسْلَمَ) أي انقاد لله تعالى بطاعته وخلص من الشرك به فهؤلاء تحروا الرشد (٢) وفازوا به ، (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) توقد بهم وتستعر عليهم وعلى الكافرين الجائرين أمثالهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجود تجانس بين الجن والملائكة لقرب مادتي الخلق من بعضها إذ الملائكة خلقوا من مادة النور ، والجن من مادة النار ، ولذا يرونهم ويسمعون كلامهم ويفهمونه.

٢ ـ من الجن أدباء صالحون مؤمنون مسلمون أصحاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٣ ـ ذم الطرق والأهواء والاختلافات.

٤ ـ الاشادة بالعدل وتحري الحق والخير.

__________________

(١) كان منهم اليهودي والنصراني والمجوسي ، ولما جاء الإسلام أصبح منهم المسلم وأصبح من المسلمين قدرية ومرجئة وخوارج ورافضة وشيعة لأنهم تابعون للناس في معتقداتهم وأقوالهم وأعمالهم.

(٢) تحروا رشدا أي قصدوا طريق الحق وتوخوه ، ومنه تحري القبله للصلاة. أي طلبها بعناية وقصد للحصول عليها.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤))

شرح الكلمات :

(عَلَى الطَّرِيقَةِ) : أي الإسلام.

(ماءً غَدَقاً) : أي مالا كثيرا وخيرات كبيرة.

(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) : أي نختبرهم أيشكرون أم يكفرون.

(عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) : أي القرآن وشرائعه وأحكامه.

(عَذاباً صَعَداً) : أي شاقا.

(فَلا تَدْعُوا) : أي فيها مع الله أحدا.

(عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو الله ببطن نخلة.

(عَلَيْهِ لِبَداً) : أي في ركوب بعضهم بعضا تزاحما لأجل أن يسمعوا قراءته.

(ضَرًّا وَلا رَشَداً) : أي غيا ولا خيرا.

(مُلْتَحَداً) : أي ملتجأ ألجأ إليه فأحفظ نفسي.

(إِلَّا بَلاغاً) : أي لا أملك إلا البلاغ إليكم.

(وَأَقَلُّ عَدَداً) : أي أعوانا المسلمون أم الكافرون.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) أي وأوحى إلي أن لو استقام هؤلاء المشركون من كفار قريش استقاموا على الإيمان والتوحيد والطاعة لله ولرسوله ـ وهم يشكون القحط ـ (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) (١) فتكثر أموالهم وتتسع أرزاقهم ، (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم في ذلك الخير الكثير أيشكرون أم يكفرون؟ ثم إن شكروا زادهم ، وإن كفروا سلبهم وعذبهم. وقوله تعالى (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) أي القرآن وما يدعو إليه من الإيمان وصالح الأعمال ولم يتخل عن الشرك وسوء الأفعال (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً) (٢) أي ندخله في عذاب شاق في الدنيا بالذل والمهانة والفقر والرذالة والنذالة. وفي الآخرة في جهنم حيث السموم والحميم ، والضريع والزقوم. وقوله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ (٣) لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) أي ومما أوحي إلي أن المساجد لله فإذا دخلتموها للعبادة فلا تدعو فيها مع الله أحدا إذ كيف البيت له وأنت فيه وتدعو معه غيره زيادة على أن الشرك محرم وصاحبه في النار فإنه من غير الأدب أن يكون المرء في بيت كريم ويدعو معه غيره من فقراء الخلق أو أغنيائهم وقوله (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) أي وأوحي إلي أنه لما قام عبد الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو ربه في الصلاة ببطن نخلة كاد الجن أن يكونوا عليه لبدا أي (٤) كالشيء المتلبد بعضه فوق بعض. وقوله (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) هذا إجابة لقريش عند ما قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد جئت بأمر عظيم وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا فنحن نجيرك أي نحفظك فأمر أن يقول لهم إنما أدعو ربي أي أعبده إلها واحدا ولا أشرك به أحدا. وأن يقول أيضا (إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ) يا معشر قريش الكافرين (ضَرًّا وَلا رَشَداً) أي ضلالا ولا هداية انما ذلك لله وحده يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأمر أن يقول لهم أيضا (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) إن أنا عصيته وأطعتكم ، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ) أي من غيره (مُلْتَحَداً) (٥) أي ملتجأ التجأ إليه. وقوله (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) أي لا أملك لكم ضرا ولا رشدا إلا بلاغا من الله

__________________

(١) غدقا أي واسعا كبيرا ، يقال غدقت العين تغدق فهي غدقة إذا كثر ماؤها. وهذا الوعد الإلهي المشروط هو عام في الناس أجمعين وفي كل زمان ومكان وهو كقوله. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولما استقام السلف الصالح حصل لهم هذا الموعود كاملا.

(٢) روى عن ابن عباس أن العذاب الصعد جبل في جهنم يكلفون صعوده وكلما وضعوا أيديهم عليه ذابت. وهو ضرب من أنواع العذاب في دار الشقاء.

(٣) جائز أن يكون المراد بالمساجد أعضاء السجود السبعة لحديث إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب أي أعضاء ويقوى هذا الجواز قول عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها فلا تذللها لغير خالقها. وما في التفسير أولى بالآية.

(٤) اللبد جمع لبدة بكسر اللام وسكون الباء كقربة وقرب وهي ما تلبد بعضه على بعض ومنه لبدة الأسد وهي الشعر المتراكم في رقبته.

(٥) شاهده قول الشاعر :

يا لهف نفسي ولهفي غير مجدية

عني وما من قضاء الله ملتحد

ورسالته فإني أبلغكم عنه ما أمرني به وأرشدكم إلى ما أرسلني به من الهدى والخير والفوز وقوله (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي يخبر تعالى موعدا أن من يعصي الله بالشرك به وبرسوله بتكذيبه وعدم اتباعه فيما جاء به فإن له جزاء شركه وعصيانه نار جهنم خالدين فيها أبدا. وقوله (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) أي فإن استمروا على شركهم وتكذيبهم حتى إذا رأوا ما يوعدون من عذاب يوم القيامة فسيعلمون عندئذ من أضعف ناصرا أي من ناصره ضعيف أو قوي ، ومن أقل عددا من أعوانه المؤمنون محمد وأصحابه أم هم المشركون المكذبون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الاستقامة على منهج الله تعالى القائم على الإيمان والطاعة لله ورسوله يفضي بسالكه إلى الخير الكثير والسعادة الكاملة في الدنيا والآخرة.

٢ ـ المال فتنة وقل من ينجح فيها قال عمر رضي الله عنه أينما يكون الماء يكون المال وأينما يكون المال تكون الفتنة.

٣ ـ حرمة دعاء غير الله في المساجد وفي غيرها إلا انها في المساجد أشد قبحا.

٤ ـ الخير والغير والهدى والضلال لا يملكها إلا الله فليطلب ذلك منه لا من غيره.

٥ ـ معصية الله والرسول موجبة لعذاب الدنيا والآخرة.

(قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨))

شرح الكلمات :

(قُلْ إِنْ أَدْرِي) : أي قل ما أدري.

(ما تُوعَدُونَ) : أي من العذاب.

(أَمَداً) : أي غاية وأجلا لا يعلمه إلا هو.

(فَلا يُظْهِرُ) : أي لا يطلع.

(مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) : أي فإنه يطلعه.

(رَصَداً) : أي ملائكة يحفظونه حتى يبلغه مع الوحي الذي يبلغه لكافة الناس.

(لِيَعْلَمَ) : أي الله علم ظهور أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم.

(أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) : أي أحصى عدد كل شيء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قُلْ إِنْ أَدْرِي) أمر تعالى رسوله أن يقول للمشركين المطالبين بالعذاب استخفافا وعنادا وتكذيبا أمره أن يقول لهم ما أدري أقريب ما وعدكم ربكم به من العذاب بحيث يحل بكم عاجلا (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي) (١) (أَمَداً) أي غاية وأجلا بعيدا يعلمه هو ولا يعلمه غيره. (عالِمُ الْغَيْبِ) (٢) إذ هو عالم الغيب (٣) وحده (فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ) أي لا يطلع على غيبه (أَحَداً) من عباده (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) أي رضيه أن يبلغ عنه فإنه يطلعه مع الاحتياط الكافي حتى لا يتسرب الخبر الغيب إلى الناس (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ (٤) مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) الرسول المرتضى (وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) من الملائكة ثم يطلعه ضمن الوحي الذي يوحي إليه. وذلك (لِيَعْلَمَ) الرسول (٥) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الرسل قبله قد بلغت رسالات ربها لما أحاطها تعالى به من العناية حتى انه إذا جاءه الوحي كان معه أربعة ملائكة يحمونه من الشياطين حتى لا يسمعوا خبر السماء فيبلغوه أولياءهم من الإنس ، فتكون فتنة في الناس وقوله (وَأَحاطَ)

__________________

(١) قرأ نافع ربي بفتح الياء ، وقرأ حفص (رَبِّي) بإسكان الياء ممدودة.

(٢) (عالِمُ) نعت لربي. و (الْغَيْبِ) : ما غاب عن العبادة ، ومعنى عالم الغيب أي العليم بكل ما هو غائب عن أعين الناس كالملائكة والجن وما سيحدث من أحداث في الكون.

(٣) قالت العلماء لما تمدح الله تعالى بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوئتهم وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول يطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه لحدسه وتخمينه وكذبه.

(٤) فإنه يسلك الخ يعني ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان في صورة الملك فيحفظ الوحي من استراق الشيطان والإلقاء إلى الكهنة.

(٥) معنى الآية : ليعلم أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما أبلغ هو الرسالة. وفي الكلام حذف تقديره أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حالته من التبليغ.

أي الله جل جلاله (بِما لَدَيْهِمْ) أي بما لدى الملائكة والرسل علما (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (١) أي وأحصى عدد كل شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ استئثار الله تعالى بعلم الغيب فلا يعلم الغيب إلا الله.

٢ ـ قد يطلع الله تعالى من ارتضى أن يطلعه من الرسل على غيب خاص ويتم ذلك بعد حماية كاملة من الشياطين كيلا ينقلوه إلى أوليائهم فيفتنوا به الناس.

٣ ـ بيان إحاطة علم الله بكل شيء واحصائه تعالى لكل شيء عدا.

سورة المزمل

أولها مكي وآخرها مدني (٢) وآياتها عشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) : أي المتلفف بثيابه أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قُمِ اللَّيْلَ) : أي صل.

(إِلَّا قَلِيلاً) : أي نصف الليل.

(نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) : أي انقص من النصف إلى الثلث.

(أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) : أي إلى الثلثين فأنت مخير في أيها تفعل تقبل.

__________________

(١) (عَدَداً) منصوب على الحال أو على المصدر أي أحصى وعد كل شيء عددا.

(٢) آخرها هو قوله إن ربك يعلم أنك تقوم إلى آخر آية منه.

(وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) : أي ترسل في قراءته وبينه تبيينا.

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً) : أي قرآنا.

(ثَقِيلاً) : أي محمله ثقيلا العمل به لما يحوى من التكاليف.

(إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ) : أي ساعة الليل من صلاة العشاء فما فوق كل ساعة تسمى ناشئة.

(هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) : أي هي أقوى موافقة السمع للقلب على تفهم القرآن فيها.

(وَأَقْوَمُ قِيلاً) : أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة النهار لسكون الأصوات.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) : أي دم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه من تسبيح وتهليل وتحميد.

(وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) : أي انقطع إليه في العبادة وفي طلب الحاجة وفي كل ما يهمك.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : أي لا معبود بحق سواه ولا تنبغي العبادة لغيره.

(فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) : أي فوض جميع أمورك إليه فإنه يكفيك.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) نادى الرب تبارك وتعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكرا إياه بتلك الساعة السعيدة التي فاجأه فيها الوحي لأول مرة فرجع بها ترجف بوادره فانتهى إلى خديجة وهو يقول زملوني دثروني فالمزمل (٢) هو المتزمل أي المتلفف في ثيابه ليقول له (قُمِ اللَّيْلَ (٣) إِلَّا قَلِيلاً) أي صل في الليل (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ (٤) مِنْهُ قَلِيلاً) إلى الثلث (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) أي على النصف إلى الثلثين وامتثل الرسول أمر ربه فقام مع أصحابه حتى تورمت أقدامهم. ثم خفف الله تعالى عنهم ونزل آخر هذه السورة بالرخصة في ترك القيام الواجب وبقى الندب والاستحباب وقوله تعالى (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٥) يرشده ربه إلى أحسن التلاوة وهي الترسل وعدم السرعة حتى يبين الكلمات تبيينا ويترقى القلب في معانيها. وقوله (إِنَّا (٦) سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) يخبره ربه تعالى بأنه سيلقي عليه قولا ثقيلا هو

__________________

(١) في هذا النداء بهذه الصفة معنى التلطف والتحبب كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي قم أبا تراب ولعبد الرحمن بن صخر أبا هريرة ، ولحذيفة بن اليمان يوم الخندق قم يا نومان.

(٢) المزمل اسم فاعل والمدثر كذلك من تزمل وتدثر والأصل المتزمل والمتدثر.

(٣) كان هذا القيام قبل فرض الصلوات الخمس واستمر بعد فرضها واجبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أمته.

(٤) الجمهور يقرأ أو انقص بضم الواو للتخلص من التقاء الساكنين ، وبعضهم بكسرها أو انقص.

(٥) جائز أن يكون الترتيل المأمور به في الصلاة وقيام الليل وفي غيره ذلك من تلاوة القرآن الكريم والترتيل مأخوذ من قولهم ثغر مرتل وهو المفلج الأسنان أي المفرق بينهما فالترتيل هو تفرقة الحروف وعدم جمعها بحيث يخرج كل حرف من مخرجه يفسره قول عائشة رضي الله عنها. في وصف الترتيل لو أراد السامع أن يعد الحروف لعدها لا كسردكم هذا.

(٦) هذه الجملة مستأنفة معترضة بين قوله قم الليل وبين قوله إن ناشئة الليل لما كلفه بقيام الليل وكان شاقا أعلمه بأنه هيأه لما هو أشق من قيام الليل وهو حمل الرسالة وإبلاغها.

القرآن فإنه ثقيل مهيب ذو تكاليف العمل بها ثقيل إنها فرائض وواجبات أعلمه ليوطن نفسه على العمل ويهيئها لحمل الشريعة علما وعملا ودعوة. وقوله (إِنَّ ناشِئَةَ (١) اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) يخبر تعالى معلما أن ساعات الليل من بعد صلاة العشاء إلى آخر الليل القيام فيها يجعل السمع يواطيء القلب على فهم معاني القرآن الذي يقرأه المصلي ، وقوله وأقوم قيلا أي أبين قولا وأصوب قراءة من قراءة الصلاة في النهار. وقوله (إِنَّ لَكَ (٢) فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) يخبر تعالى رسوله بأن له في النهار أعمالا تشغله عن قراءة القرآن فلذا أرشده إلى قيام الليل وترتيل القرآن لتفرغه من عمل النهار وقوله (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) أي داوم على ذكره ليلا ونهارا على أي وجه كان الذكر من تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل. وقوله (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ) أي إلى الله (تَبْتِيلاً) أي انقطع إليه في العبادة إخلاصا له وفي طلب حوائجك ، وفي كل ما يهمك من أمر دينك ودنياك وقوله (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي هو تعالى رب المشرق والمغرب أي مالك المشرقين والمغربين (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا تنبغي العبادة إلا له ولا تصح الألوهية إلا له أيضا وقوله (فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً) أي من كل ما يهمك فإنه يكفيك وهو على كل شيء قدير.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الندب إلى قيام الليل وأنه دأب الصالحين وطريق المتقربين.

٢ ـ الندب إلى ترتيل القرآن وترك العجلة في تلاوته.

٣ ـ صلاة الليل أفضل من صلاة النهار لتواطئ السمع والقلب فيها على فهم القرآن.

٤ ـ الندب إلى ذكر الله تعالى بأي وجه من صلاة وتسبيح وطلب علم ودعاء وغير ذلك.

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ

__________________

(١) الجملة تعليلية للأمر بقيام الليل وترتيل القرآن كأنه قال له قم الليل لأن ناشئته التي تنشئها بعد النوم هي أشد مواطأة أي موافقة بين السمع والقلب لتفهم القرآن وأبين للقرآن عند النطق به.

(٢) إن لك في النهار الجملة تعليلية لاختيار الليل للقيام دون النهار لأن في النهار أعمالا أخرى يقوم بها المرء وجائز أن يراد أن في النهار متسع للصلاة وتلاوة القرآن.

وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (١٧) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩))

شرح الكلمات :

(وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) : أي على ما يقوله لك كفار مكة من أذى كقولهم شاعر وساحر وكاذب.

(وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) : أي اتركهم تركا جميلا أي لا عتاب معه.

(وَذَرْنِي) : أي اتركني.

(وَالْمُكَذِّبِينَ) : أي صناديد قريش فإني أكفكهم.

(أُولِي النَّعْمَةِ) : أي أهل التنعم والترف.

(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) : أي انتظرهم قليلا من الزمن حتى يهلكوا ببدر.

(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) : أي قيودا وهي جمع نكل وهو القيد من حديد.

(وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ) : أي يغص في الحلق هو الزقوم والضريع.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ) : أي تتزلزل.

(كَثِيباً مَهِيلاً) : أي رملا مجتمعا مهيلا أي سائلا بعد اجتماعه.

(فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) : أي ثقيلا شديدا غليظا.

فكيف تتقون يوما : أي عذاب يوم يجعل الولدان لشدة هوله شيبا.

(السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) : أي ذات انفطار وانشقاق أي بسبب هول ذلك اليوم.

(كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) : أي وعده تعالى بمجيء ذلك اليوم كان مفعولا أي كائنا لا محالة.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) : أي ان هذه الآيات المخوفة تذكرة أي عظة للناس.

(اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) : أي طريقا بالإيمان والطاعة إلى النجاة من النار ودخول الجنة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تربية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامته بأنواع التربية الربانية الخاصة فقال تعالى لرسوله (وَاصْبِرْ) (١) (عَلى ما يَقُولُونَ) أي كفار قريش من كلام يؤذونك به كقولهم هو ساحر وشاعر وكاهن ومجنون وما إلى ذلك ، وقوله (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) يرشد تعالى رسوله إلى هجران كفار قريش وعدم التعرض لهم والهجر الجميل (٢) هو الذي لا عتاب معه وقوله (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) أي اتركني والمكذبين من صناديد (٣) قريش أولي النعمة أي النعم والترف (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أي انظرهم ولا تستعجل فإني كافيكهم ، ولم يمض إلا زمن يسير حتى هلكوا في بدر على أيدي المؤمنين. وقوله تعالى (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً وَطَعاماً) أي عندنا للمكذبين بك في الآخرة أنكالا قيودا من حديد وجحيما أي نارا مستعرة محرقة وعذابا أليما أي موجعا (وَطَعاماً) هو الزقوم والضريع (ذا غُصَّةٍ) أي يغص في حلق آكله ، (وَعَذاباً أَلِيماً) أي موجعا وذلك يحصل لأهله وينالهم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) ، أي تتحرك وتضطرب (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً) أي من الرمل (مَهِيلاً) سائلا بعد اجتماعه. وقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ) أي يا أهل مكة وكل من ورائها من سائر الناس والجن (رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ) بما تعملون في الدنيا لتجزوا بها في الآخرة وقوله (٤) (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) أي موسى بن عمران عليه‌السلام (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) أي غليظا شديدا. وقوله تعالى مخاطبا الكفارين المكذبين (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً) أي عذاب يوم (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) وذلك لهوله وللكرب الذي يقع وحسبه أن (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ (٥) بِهِ) أي منشقة بسبب أهواله. وذلك يوم يقول الرب تعالى لآدم يا آدم ابعث بعث النار أي خذ من كل ألف من أهل الموقف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ولم ينج من كل ألف إلا واحد هنا يشتد البلاء ويعظم الكرب. وقوله (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) أي وعده تعالى بمجيء هذا اليوم كان مفعولا أي كائنا لا محالة وقوله (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي إن هذه الآيات المشتملة على ذكر القيامة وأهوالها تذكرة وعظة وعبرة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فليتخذها وهي الإيمان والعمل الصالح بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.

__________________

(١) لما أمره بالانقطاع إليه بالعبادة أمره بالصبر على ما يقوله خصومه من كفار قريش من طعن فيه وفي أتباعه وفيما جاء به أيضا من الهدى والنور.

(٢) الهجر الجميل هو الذي يكتفى فيه بحقيقة الهجران وهي المقاطعة لا غير فليس هناك أذى معها والصبر الجميل هو الذي لا جزع فيه والجهر الجميل الذي لا عتاب معه والصفح الجميل هو الذي لا مؤاخذة معه.

(٣) قال مقاتل نزلت في المطعمين يوم بدر وهم عشرة. قالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية لم يكن (يسير) حتى وقعت وقعة بدر.

(٤) الكلام مستأنف ابتدائي والمناسبة هي التخلص من الأمر بالصبر إلى ذكر وعيد القوم وذكر فرعون بالذات لأنه أهلكه غروره وتكبره كما هي حالة أكابر مجرمي مكة ، فسوف يحل بهم ما حل بفرعون من الهلاك.

(٥) لم يقل منفطرة بالهاء لأن السماء يذكر ويؤنث أو هو كقولهم امرأة مرضع أي ذات إرضاع ، والسماء ذات انفطار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الصبر على الطاعة وعن المعصية.

٢ ـ الهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه.

٣ ـ تقرير النبوة المحمدية.

٤ ـ تقرير البعث والجزاء.

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠))

شرح الكلمات :

(أَنَّكَ تَقُومُ) : أي للتهجد.

(أَدْنى) : أي أقل.

(وَطائِفَةٌ) : أي وطائفة معك من أصحابك تقوم كذلك.

(وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) : أي يحصيها ويعلم ما يمضي من ساعات كل منهما وما يبقى.

(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) : أي الليل فلا تطيقون قيامه كله لأنه يشق عليكم.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ) : أي رجع بكم إلى التخفيف في قيام الليل إذ هو الأصل.

(فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ) : أي صلوا من الليل ما سهل عليكم ولو ركعتين.

(وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) : أي المفروضة.

(وَآتُوا الزَّكاةَ) : أي المفروضة.

(وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) : أي تصدقوا بفضول أموالكم طيبة بها نفوسكم فذلك القرض الحسن.

(وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) : أي من نوافل العبادة من صلاة وصدقة وصيام وحج وغيرها.

معنى الآيات :

يخبر تعالى رسوله بأنه يعلم ما يقومه من الليل هو وطائفة من أصحابه وأنهم يقومون أحيانا أدنى من ثلثي الليل أي أقل ويقومون أحيانا النصف والثلث ، كما في أول السورة هذا معنى قوله تعالى (إِنَ (١) رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ، وقوله (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) أي يحصي ساعاتهما فيعلم ما مضى من الليل وما بقى من ساعاته ، وقوله (عَلِمَ أَنْ لَنْ (٢) تُحْصُوهُ) أي لن تطيقوا ضبط ساعاته فيشق عليكم قيام أكثره تحريا منكم لما هو المطلوب. (فَتابَ عَلَيْكُمْ) لذلك وبهذا نسخ قيام الليل الواجب وبقى المستحب يؤدى ولو بركعتين في أي جزء من الليل وكونهما بعد صلاة العشاء أفضل وقوله تعالى (فَاقْرَؤُا (٣) ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أي صلوا من الليل ما تيسر اطلق لفظ القرآن وهو يريد الصلاة لأن القرآن هو الجزء المقصود من صلاة الليل ، وقوله (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) فذكر فيه تعالى ثلاثة أعذار لهم وهي المرض ، والضرب في الأرض (٤) للتجارة والجهاد في سبيل الله وكلها يشق معها قيام الليل فرحمة بالمؤمنين نسخ الله تعالى هذا الحكم الشاق بقوله (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) (٥) ، كرره تأكيدا لنسخ قيام الليل الذي كان واجبا وأصبح بهذه الآية مندوبا. وقوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي المفروضتين. وقوله (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) أي انفقوا في سبيل الله الذي هو الجهاد فإن الحسنة فيه بسبعمائة (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) من نوافل الصلاة والصدقات والحج وسائر العبادات تجدوه عند الله يوم القيامة (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً). وقوله (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من كل ما يفرط منكم من تقصير في جنب الله تعالى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لمن تاب وبرحمه فلا يؤاخذه بذنب قد تاب منه.

__________________

(١) هذا هو النصف الأخير من سورة المزمل الذي نزل بالمدينة أما النصف الأول فقد نزل بمكة .. افتتاح الكلام بهذه الجملة إن ربك يعلم .. الخ مشعر بالثناء عليه لوفائه بحق القيام الذي أمر به في أول السورة.

(٢) هذه الجملة هي المقصودة من الكلام السابق لها إذ كان تمهيدا لها.

(٣) أطلق القرآن وأراد الصلاة كقوله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فأطلق الصلاة وأراد القراءة وهنا أطلق القراءة وأراد الصلاة تجوزا.

(٤) قال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله.

(٥) من هذه الآية أخذ مالك وأحمد والشافعي أن أقل ما يجزء في الصلاة قراءة الفاتحة كاملة ، ولا تصح صلاة بدونها للأحاديث الواردة في ذلك وهذا بالنسبة للأمام والمنفرد. وهذا عند القدرة على قراءتها وحفظها فإن عجز سبح وركع أي قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله اكبر.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يقومونه من الليل تهجدا.

٢ ـ نسخ واجب قيام الليل وبقاء استحبابه وندبه. (١)

٣ ـ وجوب إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

٤ ـ الترغيب في التطوع من سائر العبادات.

٥ ـ وجوب الاستغفار عند الذنب وندبه واستحبابه في سائر الأوقات لما يحصل من التقصير.

سورة المدثر

مكية وآياتها ست وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(يا أَيُّهَا (٢) الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠))

شرح الكلمات :

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) : أي يا أيها المدثر أي المتلفف في ثيابه وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(قُمْ فَأَنْذِرْ) : أي خوف أهل مكة النار إن لم يؤمنوا ويوحدوا.

(وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) : أي عظم ربك من إشراك المشركين.

(وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) : أي طهر ثيابك من النجاسات.

(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) : أي أدم هجرانك للأوثان.

__________________

(١) ورد في فضل قيام الليل أحاديث صحاح كثيرة منها قول عبد الله بن عمرو قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا عبد الله لا تكن كفلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل وحديث عبد الله بن عمر وفيه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل.

(٢) في هذا النداء ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد أو يا فلان ليستشعر اللين والعطف من ربه.

(وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) : أي لا تمنن على ربك ما تقوم به من أعمال لأجله طاعة له.

(فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) : أي نفخ في الصور النفخة الثانية.

معنى الآيات :

قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (١) أي المتلفف في ثيابه والمراد به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم روى الزهري (٢) قال فتر الوحي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترة فحزن حزنا فجعل يعدو شواهق رؤوس الجبال ليتردى منها فكلما أوفى بذروة جبل تبدى له جبريل عليه‌السلام فيقول إنك نبي الله فيسكن جأشه وتسكن نفسه ، فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحدث عن ذلك فقال بينما أنا أمشي يوما إذ رأيت الملك الذي كان يأتيني بحراء على كرسي بين السماء والأرض فجئثت منه رعبا فرجعت إلى خديجة فقلت زملوني فزملناه أي فدثرناه فأنزل الله (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال الزهري فأول شيء أنزل عليه أقرا باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. وعليه فهذا النداء الإلهي كان بعد فترة الوحي الأولى ناداه ملقبا له بهذا اللقب الجميل تكريما وتلطفا معه ليقوم بأعباء الدعوة وما أشد ثقلها ، ومن يقدر عليها إنها أعباء ثقيلة اللهم لقد أعنت عليها رسولك فأعني على قدر ما أقوم به منها ، وإن كان ما أقوم به منها لا يساوي جمرة من لظى ولا قطرة من ماء السماء. (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) في ثيابه يا محمد رسولنا (قُمْ فَأَنْذِرْ) لم يبق لك مجال للنوم والراحة فأنذر قومك في مكة وكل الثقلين من وراء مكة أنذرهم عذاب النار المترتب على الكفر والشرك بالواحد القهار (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أي وربك فعظمه تعظيما يليق بجلاله وكماله فإنه الأكبر الذي لا أكبر منه والعظيم الذي لا أعظم منه فأعلن عن ذلك بلسانك قائلا الله أكبر وبحالك فلا تذل إلا له ولا ترغب إلا فيه وكبره بأعمالك فلا تأت منها إلا ما أذن لك فيه أو أمرك به (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أي طهر ثيابك من النجاسات مخالفا بذلك ما عليه قومك ؛ إذ يجرون ثيابهم ولا يتنزهون من أبوالهم (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) أي والأصنام التي يعبدها قومك فاهجرها فلا تقربها ودم على هجرانها على دعوتك أجرا ، (وَلا تَمْنُنْ) عطاء أعطيته لغيرك (تَسْتَكْثِرُ) به ما عندك إن ذاك مناف لأجمل الأخلاق وكريم السجايا وسامي الآداب. (وَلِرَبِّكَ) وحده دون سواه (فَاصْبِرْ) على كل ما تلقاه في سبيل إبلاغ رسالتك ونشر دعوتك دعوة الخير والكمال هذا الذي أدب به الله رسول الله في فاتحة دعوته. ثم نزل بعد (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) والناقور البوق الذي ينفخ فيه اسرافيل والنقر يحدث صوتا

__________________

(١) هذا يسمى بهدية الثواب وهي جائزة للأمة محرمة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الآية. ولا تمنن تستكثر.

(٢) روى أحمد عن ابن عباس في قوله تعالى (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ ، فقال : أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا.

والصوت هو صوت البوق والمراد به النفخة الثانية نفخة البعث والجزاء (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) صعب شديد لا يحتمل ولا يطاق (عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) (١) فذكر به من تدعوهم فإن التذكير به نافع إن شاء الله ، ولذا كان من أعظم أركان العقيدة التي إن تمكنت من النفس تهيأ صاحبها لحمل كل ثقيل ولإنفاق كل غال ورخيص ولفراق الأهل والدار الإيمان بالله واليوم الآخر إذ هما محور العقيدة وعليهما مدار الإصلاح والهداية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الجد طابع المسلم ، فلا كسل ولا خمول ولا لهو ولا لعب ومن فارق هذه فليتهم نفسه في إسلامه.

٢ ـ وجوب تعظيم أسمائه وصفاته وتعظيم كلامه وكتابه ، وتعظيم شعائره تعظيم ما عظم.

٣ ـ وجوب الطهارة للمؤمن بدنا وثوبا ومسجدا. أكلا وشربا وفراشا ونفسا وروحا.

٤ ـ حرمة العجب فلا يعجب المؤمن بعمله ولا يزكي به نفسه ولو صام الدهر ، وأنفق الصخرة وجاهد الدهر.

٥ ـ وجوب الصبر على الطاعات فعلا وعلى المعاصي تركا وعلى البلاء تسليما ورضا.

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠))

__________________

(١) في الآية دليل على أن حال المؤمنين في عرصات القيامة غير حال الكافرين في الشدة والبلاء.

شرح الكلمات :

(ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) : أي اتركني ومن خلقته وحيدا منفردا بلا مال ولا ولد فأنا أكفيكه.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) : أي يشهدون المحافل وتسمع شهادتهم وأغلب الوقت حاضرون ولا يغيبون.

(وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) : أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه حتى كان يلقب بريحانة قريش.

(عَنِيداً) : أي معاندا وهو الوليد بن المغيرة المخزومي.

(سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) : أي سأكلفه يوم القيامة صعود جبل من نار كلما صعد فيه هوى في النار أبدا.

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) : أي فيما يقول في القرآن الذي سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقدر في نفسه ذلك.

(ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) : أي تروى في ذلك ثم عبس أي قبض ما بين عينيه ثم بسر أي كلح وجهه.

(ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ) : أي عن الإيمان واستكبر عن اتباع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(سِحْرٌ يُؤْثَرُ) : أي ينقل من السحرة كمسيلمة وغيره.

(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) : سأدخله جهنم وسقر اسم لها يدخله فيها لإحراقه بنارها.

(لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) : أي لا تترك شيئا من اللحم ولا العصب إلا أهلكته ثم يعود كما كان لإدامة العذاب.

(لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) : أي محرقة مسودة لظاهر جلد الإنسان وهو بشرته والجمع بشر.

(عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) : أي ملكا وهم خزنتها.

معنى الآيات :

لقد تحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبء الدعوة وأمر بالصبر وشرع صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إنذار قومه وبدأت المعركة كأحر وأشد ما تكون إذ أعلم قومه وهم من هم أنه لا إله إلا الله وأنه هو رسول الله فتصدى له طاغية من أعظم الطغاة ساد الوادي مالا وولدا وجاها عريضا حتى لقب بريحانة قريش هذا هو الوليد بن المغيرة صاحب عشرة رجال من صلبه وآلاف الدنانير من الذهب فلما أرهب رسول الله وأخافه قال له ربه تبارك وتعالى (ذَرْنِي) أي دعني والذي خلقته (وَحِيداً) (١) فريدا بلا مال ولا ولد ،

__________________

(١) عن ابن عباس : كان الوليد يقول أنا الوحيد بن الوحيد ليس لي في العرب نظير ولا لأبي المغيرة نظير.

(وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) واسعا تمده به الزراعة والتجارة فصلا بعد فصل ويوما بعد يوم ، (وَبَنِينَ شُهُوداً) لا يغيبون كما يغيب الذين يطلبون العيش كما أنهم لمكانتهم يستشهدون فيشهدون فهم شهود على غيرهم. ويشهدون المحافل وغيرها. (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) (١) أي بسطت له في العيش والعمر والولد والجاه العريض في ديار قومه ، (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) أي أن أزيده من المذكور في الآيات (كَلَّا) أي لن أزيده بعد اليوم ، وعلل تعالى لمنعه الزيادة بقوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا) «القرآنية» (عَنِيداً) أي (٢) معاندا يحاول ابطالها بعد رفضه لها. (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أي سأكلفه عذابا شاقا لا قبل له به وذلك جبل (٣) من نار في جهنم يكلف صعوده كلما صعد سقط وذلك أبدا. وعلل أيضا لهذا العذاب الذي أعده له وأوعده به فقال تعالى (إِنَّهُ فَكَّرَ) أي فيما يقول في القرآن لما طلبت منه قريش أن يقول فيه ما يراه من صلاح أو فساد. (وَقَدَّرَ) في نفسه (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) أي لعن كيف قدر ذلك التقدير الذي هو قوله (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ). (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) فلعنه الله لعنتين تلازمانه واحدة في الدنيا والأخرى في الآخرة وقوله تعالى عنه (ثُمَّ نَظَرَ) أي تروى (ثُمَّ عَبَسَ) أي قطب فقبض ما بين عينيه (وَبَسَرَ) أي كلح وجهه فاسود. (فَقالَ) اللعين نتيجة تفكير وتقدير ونظر (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) أي ما هذا القرآن إلا سحر ينقل عن السحرة في اليمن ونجد والحجاز (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) أي ما هذا الذي يتلوه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) قال (٤) تعالى موعدا إياه على قولته الكافرة الفاجرة (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) أي سأدخله نار سقر يصطلي بنارها ، ثم عظم تعالى من شأن سقر فقال (٥) (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ) أي أي شيء يدريك ما هي وما شأنها فإنها عظيمة (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي لا تبقي لحما ولا تذر عصبا بل تأتي على الكل (لَوَّاحَةٌ (٦) لِلْبَشَرِ) أي تحرق الجلود وتسودها. والبشر جمع بشرة الجلدة ومن ذلك سمي الآدميون بشرا لأن بشرتهم مكشوفة ليست مستورة بوبر ولا صوف ولا شعر ولا ريش. وقوله تعالى (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) أي على سقر ملائكة يقال لهم الخزنة عدتهم تسعة عشر ملكا لقد كان لنزول هذه الآية سبب معروف وهو أن قريشا اتهمت الوليد بأنه صبا أي مال إلى دين محمد فسمع ذلك منهم فأنكر وحلف لهم فطلبوا إليه إن كان صادقا أن

__________________

(١) قال القرطبي : التمهيد عند العرب التوطئة والتهيئة : ومنه مهد الصبي.

(٢) يقال عند يعند كضرب يضرب أي خالف ورد الحق وهو يعرفه فهو عنيد وعاند.

(٣) رواه الترمذي. وقال فيه غريب.

(٤) قال السدي يعنون أنه من قول سيار عبد لبني الحضرمي كان يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك.

(٥) ما استفهامية أي أي شيء يدريك وما سقر ما استفهامية مبتدأ وسقر خبره.

(٦) البشر جمع بشرة ومعنى لواحة مغيرة للون البشر بالسواد يقال لاحه الحر أو البرد أو المرض إذا غيره قال الشاعر :

تقول ما لاحك يا مسافر

يا بنة عمي لاحنى الهواجر

يقول في القرآن كلمة يصرف بها العرب عن محمد وما يقوله ويدعو إليه فذهب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ويقرأ في صلاته فاستمع إليه ففكر وقدر كما أخبر تعالى عنه في هذه الآيات وقال قولته الفاجرة الكافرة. إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر بعد أن وصف القرآن وصفا دقيقا بقوله وو الله إن لقوله لحلاوة وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى أي عليه فقالوا والله لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه فقال دعوني حتى افكر ففكر وقال ما تقدم فنزلت هذه الآيات (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) إلى قوله (تِسْعَةَ عَشَرَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ المال والبنون والجاه من عوامل الطغيان إلا أن يسلم الله عبده من فتنتها.

٢ ـ من أكفر الناس من يعاند في آيات الله يريد صرف الناس عنها وإبطال هدايتها.

٣ ـ بيان ما ظفر به طاغية قريش الوليد بن المغيرة من لعنة وعذاب شديد.

٤ ـ تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.

٥ ـ تقرير البعث والجزاء.

(وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (٣٦) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧))

شرح الكلمات :

(أَصْحابَ النَّارِ) : أي خزنتها مالك وثمانية عشر معه.

(إِلَّا مَلائِكَةً) : أي لم نجعلهم بشرا ولا جنا حتى لا يرحموهم بحكم

الجنس.

(وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) : أي كونهم تسعة عشر.

(إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : أي ليستخفوا بهم كما قال أبو الأشدين الجمحي فيزدادوا ضلالا.

(لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) : أي ليحصل اليقين لأهل التوراة والإنجيل بموافقة القرآن لكتابيهما التوراة والإنجيل.

(وَلا يَرْتابَ) : أي ولا يشك أهل الكتاب والمؤمنون في حقيقة ذلك.

(وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي مرض النفاق.

(ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) : أي أي شيء أراد الله بهذا العدد الغريب استنكارا منهم.

(كَذلِكَ) : أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء.

(وَما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) : أي وما النار إلا ذكرى للبشر يتذكرون بها.

(إِذْ أَدْبَرَ) : أي ولى ومضى.

(إِذا أَسْفَرَ) : أي أضاء وظهر.

(إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) : أي جهنم لإحدى البلايا العظام.

(نَذِيراً لِلْبَشَرِ) : أي عذاب جهنم نذير لبني آدم.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ) : أي أيها الناس.

(أَنْ يَتَقَدَّمَ) : أي بالطاعة.

(أَوْ يَتَأَخَّرَ) : أي بالمعصية.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا) هذه الآية نزلت ردا على أبي الأشدين كلدة الجمحي الذي قال لما سمع قول الله تعالى (وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) قال لقريش ساخرا مستهزئا أنا أكفيكم سبعة عشر واكفوني أنتم اثنين ، ومرة قال أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة. فأنزل الله تعالى قوله (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) أي لم نجعلهم بشرا ولا جنا حتى لا يرحموا أهل النار بخلاف لو

كانوا بشرا قد يرحمون بني جنسهم ولو كانوا جنا فكذلك ، ولذا جعلهم من الملائكة فلا تناسب بينهم وبين الإنس والجن والمراد بأصحاب النار خزنتها وهم مالك وثمانية عشر هؤلاء رؤساء في جهنم أما من عداهم فلا تتسع لهم العبارة ولا حتى الرقم الحسابي وكيف وقد قال تعالى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ، وقوله (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ) (١) أي كونهم تسعة عشر (إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ (٢) كَفَرُوا) ليزدادوا ضلالا وكفرا وقد تم هذا فإن أبا جهل كأبي الأشدين قد فتنا بهذا العدد وازدادا ضلالا وكفرا بما قالا ، وقوله تعالى (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي أخبرنا عن عددهم وأنه تسعة عشر ليستيقن (٣) الذين أوتوا الكتاب (٤) لموافقة القرآن لما عندهم في كتابهم. (وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً) فوق إيمانهم عند ما يرون أن التوراة موافقة للقرآن الكريم كشاهد له ، وقوله (وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ) أي حتى لا يقعوا في ريب وشك في يوم من الأيام لما اكتسبوا من المناعة بتضافر الكتابين على حقيقة واحدة. وقوله (وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) أي وما جعلنا عدتهم تسعة عشر إلا ليقول الذين في قلوبهم مرض وهو النفاق والشك والكافرون الكفر الظاهر من قريش وغيرهم ماذا أراد الله بهذا مثلا أي أي شيء أراده الله بهذا الخبر الغريب غرابة الأمثال قالوا هذا استنكارا وتكذيبا. فهذه جملة علل ذكرها تعالى لإخباره عن زبانية جهنم ثم قال وقوله الحق (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي مثل اضلال منكر هذا العدد وهدى مصدقه يضل الله من يشاء إضلاله ويهدي من يشاء هدايته. وقوله تعالى (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ (٥) رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) هذا جواب أبي جهل القائل أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر استخفافا وتكذيبا فأخبر تعالى أن له جنودا لا يعلم عددها ولا قوتها إلا هو وقد ورد أن لأحدهم مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرمي بهم في النار ويرمي الجبل عليهم ، ولا عجب وأربعة ملائكة يحملون العرش الذي هو أكبر من السموات والأرضين فسبحان الخلاق العليم سبحان الله العزيز الرحيم سبحان الله ذي الجبروت والملكوت. وقوله تعالى (وَما هِيَ) (٦) أي جهنم (إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ) أي تذكرة يذكرون بها عظمة الله

__________________

(١) تقدير الكلام : ما جعلنا ذكر عدتهم لعلة وغرض إلا لغرض فتنة الذين كفروا.

(٢) روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن فتنة بمعنى ضلالة للذين كفروا يريد أبا جهل وذويه ، وقيل إلا عذابا كقوله تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ).

(٣) قوله ليستيقن الذين أوتوا الكتاب. علة ثانية لفعل وما جعلنا والاستيقان قوة اليقين والمراد من الاستيقان قوة اليقين.

(٤) أوتوا الكتاب هم اليهود. فقد روى الترمذي بسنده إلى جابر بن عبد الله قال قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب رسول الله صلى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟ قالوا : لا ندري حتى نسأل.

(٥) هذه الجملة كلمة جامعة لإبطال التخرصات التي يتخرصها المبطلون الضالون وإضافة الرب إلى ضمير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إضافة تشريف وفيها الإيماء بنصره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الجنود التي هم جنود ربه عزوجل.

(٦) جائز أن يكون الضمير (وَما هِيَ) عائد إلى عدة الملائكة التسعة عشرة وجائز أن يكون عائدا إلى الآيات القرآنية أو إلى سقر أو إلى جنود ربك وهذا من الاعجاز القرآني وأن الكلمة الواحدة تدل على ما لا يدل عليه عشرات الكلمات.

ويخافون بها عقابه. وقوله (كَلَّا (١) وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي كلا أي ليس القول كما يقول من زعم من المشركين أنه يكفي أصحابه المشركين خزنة جهنم حتى يجهضهم عنها. (وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ) ولى ذاهبا (وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) أي أضاء وأقبل (إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ) أي أقسم تعالى بالقمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر على أن جهنم (٢) لإحدى الكبر أي البلايا العظام (نَذِيراً لِلْبَشَرِ) أي بني آدم ، وقال نذيرا ولم يقل نذيرة وهي جهنم لأنها بمعنى العذاب أي عذابها نذير للبشر. وقوله (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ) في طاعة الله ورسوله حتى يبلغ الدرجات العلا ، ومن شاء أن يتأخر في معصية الله ورسوله حتى ينزل الدركات السفلى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان الحكمة من جعل عدد الزبانية تسعة عشر والإخبار عنهم بذلك.

٢ ـ موافقة التوراة والإنجيل للقرآن من شأنها أن تزيد إيمان المؤمنين من الفريقين.

٣ ـ في النار من الزبانية ما لا يعلم عددهم إلا الله تعالى خالقهم.

٤ ـ جهنم نذير للبشر أي عذابها نذير للبشر لمن شاء أن يتقدم بالطاعة أو يتأخر بالمعصية.

(كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ

__________________

(١) حرف ردع وإبطال والغالب أنها تقع بعد كلام من متكلم واحد ومتكلم وسامع فتفيد الردع عما تضمنه الكلام السابق ذهب ابن جرير إلى أنها هنا للردع وإبطال ما زعمه المشركون من القدرة على الزبانية كما في التفسير. وعليه فالوقف عليه مستحسن ومنهم من جعلها افتتاح كلام نحو ألا وعليه فالوقف لا يحسن عليها بل على القمر.

(٢) القول بأنها سقر أقرب من جهنم لتقدم ذكر سقر بلفظها والأمر واسع.

كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))

شرح الكلمات :

(كُلُّ نَفْسٍ) : أي مأمورة منهية.

(رَهِينَةٌ) : أي مرهونه مأخوذة بعملها في جهنم.

(إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) : أي المؤمنين فهم ناجون من النار وهم في جنات النعيم يتساءلون عن المجرمين.

(وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) : أي بخلا بما آتاهم الله.

(وَكُنَّا نَخُوضُ) : أي في الباطل وفيما يكره الله تعالى مع الخائضين.

(نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) : بيوم المجازاة والثواب ولا نصدق بثواب ولا عقاب.

(حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ) : أي الموت.

(عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) : أي الموعظة منصرفين لا يسمعونها ولا يقبلون عليها.

(حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ) : أي كأنهم حمر وحشية مستنفرة.

(فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) : أي هربت من أسد أشد الهرب.

(بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) : أي ليس هناك قصور في الأدلة والحجج التي قدمت لهم بل يريد كل واحد منهم.

(أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) : أي يصبح وعند رأسه كتاب من الله رب العالمين إلى فلان آمن بنبينا محمد واتبعه.

(إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) : أي عظة وعبرة.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) : أي قرأه واتعظ به.

(هُوَ أَهْلُ التَّقْوى) : أي هو أهل لأن يتقي لعظمة سلطانه وأليم عقابه.

(وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) : أي وأهل لأن يغفر للتائبين من عباده والموحدين.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقال تعالى (كُلُّ نَفْسٍ) أي يوم القيامة (رَهِينَةٌ) بمعنى مرهونة محبوسة أي كل نفس مأمورة منهية بمعنى مكلفة بخلاف نفوس غير المكلفين من أطفال ومجانين وقوله (إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ) فإنهم قد فك رهنهم وهم في جنات النعيم (يَتَساءَلُونَ) فيما بينهم عن أصحاب الجحيم وكيف حالهم ثم يتصلون بهم وهم في جنات النعيم والمجرمون في سواء الجحيم ، ويتم الاتصال برؤية الشخص وسماع كلامه وفي الصناعات الحديثة اليوم ما جعل هذا امرا معقولا فيقولون لهم (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) أي أدخلكم في سقر فأجابوهم قائلين (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ). فذكروا لهم أعظم الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والتخوض مع أهل الباطل في كل شر وفساد والتكذيب بيوم القيامة وانه لا حساب ولا جزاء أي لا ثواب ولا عقاب وأنهم مع هذه الجرائم الموجبة للسلوك في سقر لم يتوبوا منها حتى أتاهم اليقين الذي هو الموت فإن من مات دخل الدار الآخرة من عتبتها وهي القبر فلذا قالوا حتى أتانا اليقين أي الموت. وقد يقال ألم يكن هناك شفعاء من الملائكة والأنبياء والعلماء والشهداء يشفعون؟ والجواب هو في قوله تعالى (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) أي لم تكن لهم شفاعة لأنهم ملاحدة مجرمون. وقوله تعالى (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) أي فما لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث والجزاء عن التذكرة التي يذكرون بها في آيات هذه السورة وغيرها معرضين إنه أمر عجيب أي شيء يجعلهم يعرضون عنها هاربين منها فارين (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ) وحشية (مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) أي فرت هاربة أشد الهرب من أسد من أسود الصحراء الطاغية إن فرارهم من هذه الدعوة وإعراضهم عنها ليس عن قصور في أدلتها وضعف في حجتها بل يريد كل واحد منهم أن يؤتى كتابا من الله يأمره فيه بالإيمان واتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا هو العناد والمكابرة وصاحبهما غير مستعد للإيمان بحال من الأحوال. وهذه الآية كقوله تعالى : (حَتَّى (١) تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) هذا معنى قوله تعالى (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً). وقوله تعالى (كَلَّا بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس الأمر كما يقولون ويدعون بل إن علة إعراضهم الحقيقية هي عدم خوفهم من عذاب الله يوم القيامة. وقوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) أي ألا إن هذا القرآن تذكرة (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي قرأه فاتعظ به فآمن بالله

__________________

(١) الآية من سورة الإسراء وهي (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) إذ روي أن أبا جهل وجماعة من قريش قالوا يا محمد لن نؤمن بك حتى تأتي كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه من رب العالمين إلى فلان بن فلان ونؤمر فيه باتباعك.

واتقاه فإنه ينجو ويسعد في جوار مولاه ومن لم يشأ ذلك فحسبه سقر وما أدراك ما سقر. وقوله تعالى (وَما يَذْكُرُونَ (١) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي ما يذكر من يذكر إلا بمشيئة الله فلا بد من الافتقار إلى الله وطلب توفيقه في ذلك إذ لا استقلال لأحد عن الله ولا غنى بأحد عن الله بل الكل مفتقر إليه ومشيئته تابعة لمشيئته وقوله (هُوَ) (٢) (أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) لقد (٣) صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسر هذه الآية فقال قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ نكاك كل نفس مرهونة بكسبها هو الإيمان والتقوى.

٢ ـ بيان أكبر الجرائم وهي ترك الصلاة ومنع الزكاة والخوض في الباطل وعدم التصديق بالحساب والجزاء.

٣ ـ لا شفاعة يوم القيامة لمن مات وهو يشرك بالله شيئا.

٤ ـ مرد الانحراف في الإنسان إلى ضعف إيمانه بالبعث والجزاء.

٥ ـ الله جل جلاله هو ذو الأهلية الحقة لأمرين عظيمين التقوى فلا يتقى على الحقيقة إلا هو والمغفرة فلا يغفر الذنوب إلا هو اللهم اغفر ذنوبنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

سورة القيمة

مكية وآياتها أربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (٣) بَلى

__________________

(١) قرأ نافع وما تذكرون بالتاء على الالتفات ، وقرأ حفص (وَما يَذْكُرُونَ) بالياء على الغيبة.

(٢) تعريف جزيء الجملة مفيد للقصر أي الله وحده المتأهل للتقوى والمغفرة لا سواه.

(٣) الحديث رواه الترمذي وقال فيه حسن غريب ونصه : قال الله تعالى (أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل معي إلها. فأنا أهل أن أغفر له).

قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (٥) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (٦) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥))

شرح الكلمات :

(لا) : أي ليس الأمر كما يدعي المشركون من أنه لا بعث ولا جزاء.

(أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) : أي الذي كذب به المكذبون.

(وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) : أي لتبعثن ولتحاسبن ولتعاقبن أيها المكذبون الضالون.

(اللَّوَّامَةِ) : أي التي إن أحسنت لامت عن عدم الزيادة وإن أساءت لامت عن عدم التقصير.

(أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) : أي الكافر الملحد.

(أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) : أي ألا نجمع عظامه لنحييه للبعث والجزاء.

(بَلى قادِرِينَ) : أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين مع جمعها على تسوية بنانه.

(عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) : أي نجعل أصابعه كخف البعير أو حافر الفرس فلا يقدر على العمل الذي يقدر عليه الآن مع تفرقة أصابعه. كما نحن قادرون على جمع تلك العظام الدقيقة عظام البنان وردها كما كانت كما نحن قادرون على تسوية تلك الخطوط الدقيقة في الأصابع والتي تختلف بين إنسان وإنسان اختلاف الوجوه والأصوات واللهجات.

(بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ) : أي بإنكاره البعث والجزاء.

(لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) : أي ليواصل فجوره زمانه كله ولذلك أنكر البعث.

(يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) : أي يسأل سؤال استنكار واستهزاء واستخفاف.

(فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) : أي دهش وتحير لما رأى ما كان به يكذب.

(وَخَسَفَ الْقَمَرُ) : أي أظلم بذهاب ضوئه.

(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) : أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة.

(أَيْنَ الْمَفَرُّ) : أي إلى أين الفرار.

(كَلَّا) : ردع له عن طلب الفرار.

(لا وَزَرَ) : أي لا ملجأ يتحصن به.

(بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) : أي هو شاهد على نفسه حيث تنطق جوارحه بعمله.

(وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) : أي فلا بد من جزائه ولو ألقى معاذيره.

معنى الآيات :

قوله تعالى (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) أي ما الأمر كما تقولون أيها المنكرون للبعث والجزاء أقسم بيوم القيامة الذي تنكرون و (بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) التي ستحاسب وتجرى لا محالة لتبعثن (٢) ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير. وقوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) أي بعد موته وفنائه وتفرق أجزائه في الأرض ، والمراد من الإنسان هنا الكافر الملحد قطعا (بَلى قادِرِينَ عَلى (٣) أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ) أي بلى نجمعها حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه أي أصابعه بأن نجعلها كخف البعير أو حوافر الحمير ، فيصبح يتناول الطعام بفمه كالكلب والبغل والحمار. وقوله (بَلْ (٤) يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ (٥) أَمامَهُ) أي ما يجهل الإنسان قدرة خالقه على إعادة خلقه ولكنه يريد أن يواصل فجوره مستقبله كله فلا يتوب من ذنوبه ولا يؤوب من معاصيه لأن شهواته مستحكمة فيه ، وقوله تعالى (يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ؟) يخبر تعالى عن المنكر للبعث من أجل مواصلة الفجور من زنا وشرب خمور بأنه يقول أيان يوم القيامة استبعادا واستنكارا

__________________

(١) في (لا) هنا توجيهان الأول ما آثره ابن جرير وهو ما اخترناه في التفسير ، وأنها نافية لدعوى سابقة ابطالا لها والكلام بعدها مستأنف. والثاني أنها أي (لا) أنها حرف نفي أدخل على (أُقْسِمُ) لقصد المبالغة في تحقيق حرمة المقسم به بحيث يوهم السامع أن المتكلم يهم أن يقسم ثم يترك القسم مخافة الحنث بالمقسم به فيقول لا أقسم به ولا أقسم بأعز منه عندي ، والمراد تأكيد القسم ووجه ثالث وهي أنها مزيدة لتقوية الكلام.

(٢) لتبعثن هو جواب القسم.

(٣) بلى حرف إبطال للنفي أي بل نجمعها أي العظام المتفرقة حال كوننا قادرين على ذلك وعلى ما هو أعظم وهو تسوية بنانه.

(٤) بل هنا للإضراب الانتقالي من تقريره حقيقة إلى أخرى أعجب وأغرب وهي الكشف عن سر إنكار الملاحدة للبعث وهو مواصلتهم الفجور عن كل خلق ودين ومروءة وأدب لانهزامهم لشهواتهم البهيمية.

(٥) اللام في ليفجر هي اللام التي يكثر وقوعها بعد مادتي الأمر والإرادة نحو وأمرت لأعدل بينكم ويريد الله ليبين لكم ، وقول كثير :

أريد لأنسى حبها فكأنما

تمثل لي ليلي بكل مكان.

وينصب الفعل بعدها بأن مضمرة وهل هي للتعليل أو زائدة خلاف.

وتسويفا للتوبة فبين تعالى له وقت مجيئه بقوله (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ) (١) أي عند الموت بأن تحير واندهش (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) أي أظلم وذهب ضوءه ، (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) أي ذهب ضوءهما وذلك في بداية الانقلاب الكوني الذي تنتهي فيه هذه الحياة (يَقُولُ الْإِنْسانُ) الكافر (يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ؟) أي إلى أين الفرار يا ترى؟ قال تعالى (كَلَّا) أي لا فرار اليوم من قبضة الجبار أيها الإنسان الكافر (لا وَزَرَ) أي لا حصن ولا ملتجأ وإنما (إِلى رَبِّكَ) اليوم (الْمُسْتَقَرُّ) أي الانتهاء والاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار وقوله تعالى (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ) أي يوم تقوم الساعة يخبر الإنسان من قبل ربه تعالى بما قدم من أعماله في حياته الخير والشر سواء وبما أخر بعد موته من سنة حسنة سنها أو سيئة كذلك وقوله تعالى (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ) أي عند ما يتقدم الإنسان للاستنطاق فيخبر بما قدم وأخر هناك يحاول أن يتنصل من بعض ذنوبه فتنطق جوارحه ويختم على لسانه فيتخذ من جوارحه شهود عليه فتلك البصيرة (٢) ولو ألقى معاذيره (٣) واعتذر ولا يقبل منه ذلك لكونه شاهدا على نفسه بجوارحه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان إفضال الله على العبد في خلقه وتركيب أعضائه.

٣ ـ معجزة قرآنية اثبتها العلم الصناعي الحديث وهي عدم تسوية خطوط الأصابع.

٤ ـ فكما خالف تعالى بين الإنسان والإنسان وبين صوت وصوت فرق بين خطوط الأصابع فلذا استعملت في الإمضاءات وقبلت في الشهادات.

٥ ـ تقرير مبدأ أن المؤمن يثاب على ما أخر من سنة حسنة يعمل بها بعده كما يأثم بترك السنة السيئة يعمل بها كذلك بعده.

__________________

(١) قرأ نافع برق البصر بفتح الراء ومعناه لمع من شدة شخوصه فهو لا يطرف وقرأ (بَرِقَ) بكسر الراء ومعناه دهش وتحير. وهذا عند موت الإنسان.

(٢) البصيرة جائز أن يراد بها الملكان بقرينة. ولو ألقى معاذيره أي لو أرخى ستوره إذ الستر بلغة اليمن المعذار وجائز أن يكون المراد بها الإنسان نفسه أي حجة على نفسه وما في التفسير أولى بمعناها.

(٣) المعاذير اسم جمع معذرة وليس جمعا ، لأن معذرة حقه أن يجمع على معاذر كمقبرة ومقابر ، والمراد من معاذر الإنسان : ما يعتذر به كقولهم : ما جاءنا من بشير ولا نذير وقولهم (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) وقولهم (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) وقولهم والله ربنا ما كنا مشركين.

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (١٩) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (٢٣) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (٢٥))

شرح الكلمات :

(لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) : أي لا تحرك بالقرآن لسانك قبل فراغ جبريل منه.

(لِتَعْجَلَ بِهِ) : أي مخافة أن يتفلت منك.

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) : أي في صدرك

(وَقُرْآنَهُ) : أي قراءتك له بحيث نجريه على لسانك.

(فَإِذا قَرَأْناهُ) : أي قرأه جبريل عليك.

(فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) : أي استمع قراءته.

(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) : أي لك بتفهيمك ما يشكل عليك من معانيه.

(كَلَّا) : أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا جزاء.

(تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) : أي الدنيا فيعملون لها.

(وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) : أم ويتركون الآخرة فلا يعملون لها.

(ناضِرَةٌ) : أي حسنة مضيئة.

(إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : أي إلى الله تعالى ربها ناظرة بحيث لا تحجب عنه تعالى.

(باسِرَةٌ) : أي كالحة مسودة عابسة.

(تَظُنُ) : أي توقن.

(أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) : أي داهية عظيمة تكسر فقار الظهر.

معنى الآيات :

لما ندد تعالى بالمعرضين عن القرآن المكذبين به وبالبعث والجزاء ذكر في هذه الآيات المقبلين على القرآن المسارعين إلى تلقيه فكانت المناسبة بين هذه الآيات وسابقاتها المقابلة بالتضاد.

فقال تعالى مؤدبا رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُحَرِّكْ بِهِ) (١) أي بالقرآن (لِسانَكَ) قبل فراغ جبريل من قراءته عليك. إذ كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم حريصا على القرآن يخاف أن يتفلت منه شيء فأكرمه ربه بالتخفيف عليه وطمأنه أن لا بفقد منه شيئا فقال له (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) مخافة أن يتفلت منك (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ) أي في صدرك (وَقُرْآنَهُ) على لسانك حيث نسهل ذلك ونجريه على لسانك ، (فَإِذا قَرَأْناهُ) أي قرأه جبريل عليك (فَاتَّبِعْ) له ثم اقرأه كما قرأه واعمل بشرائعه وأحكامه. وقوله تعالى (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (٢) أي إنا نبين لك ما يشكل عليك من معانيه حتى تعمل بكل ما طلب منك أن تعمل به. وقوله تعالى (كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ) عاد السياق الكريم إلى تقرير عقيدة البعث والجزاء والتي عليها وعلى الإيمان بالله مدار الإصلاح والتهذيب فقال (كَلَّا) (٣) أي ليس كما تدعون من عدم إمكان البعث والجزاء لأنكم تعملون أن القادر على إيجادكم اليوم وإعدامكم غدا قادر على إيجادكم مرة أخرى ، ولكن الذي جعلكم تكذبون بالبعث والجزاء هو حبكم للحياة للعاجلة أي للدنيا وما فيها من لذات وشهوات ، وترككم للآخرة أي للحياة الآخرة لأنها تكلفكم الصلاة والصيام والجهاد ، والتخلي عن كثير من اللذات والشهوات. بعد أن كشف عن نفسيات المكذبين توبيخا لهم وتقريعا عرض على أنظارهم منظرا حيا وصورة ناطقة لما يتجاهلونه من شأن الآخرة فقال (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم إذ تقوم القيامة (ناضِرَةٌ) أي حسنة (٤) مضيئة مشرقة لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا مشرقة بنور الإيمان وصالح الأعمال (إِلى (٥) رَبِّها ناظِرَةٌ) سعيدة بلقاء ربها مكرمة بالنظر إليه وهي في جواره (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي كالحة مسودة عابسة وذلك لأن أرواح أصحابها كانت في الدنيا تعيش على ظلمة الكفر وعفن الذنوب ودخان المعاصي فانطبعت النفس على الوجه فهي باسرة حالكة عابسة (تَظُنُ) أي توقن أي الوجوه والمراد أصحابها (أَنْ يُفْعَلَ (٦) بِها فاقِرَةٌ) أي داهية عظيمة تكسر فقار

__________________

(١) روى الترمذي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه يريد ان يحفظه فأنزل الله تعالى (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) فكان يحرك شفتيه ، وحرك سفيان شفتيه. قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.

(٢) أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام وكيفيات العبادات وجائز أن يبين له الوعد والوعيد بتحقيقهما.

(٣) كلا حرف ردع إبطال وفي التفسير بيان ما أبطل بها.

(٤) وشاهد هذا الحديث : نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها.

(٥) نفى المعتزلة والخوارج وعامة الفرق الضالة نفوا رؤية الله تعالى في الدار الآخرة وردوا بذلك الكتاب والسنة فهذه الآية صريحة في جواز النظر إلى وجه الله تعالى وآية المطففين. (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) فغيرهم من أهل الإيمان وصالح الأعمال غير محجوبين ، ومن السنة حديث البخاري وغيره (إنكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) فافعلوا (متفق عليه) وأحاديث أخرى ويكفي إجماع أهل السنة والجماعة.

(٦) الفقرة بكسر الفاء وتفتح والجمع فقر وفقار وفقر وفقرات خرزات الظهر.

الظهر منها وهي القاؤه في (سَقَرَ وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ، فاذكروا هذا يا بشر!!

(كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (٢٨) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (٣٠) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (٣١) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣٩) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠))

شرح الكلمات :

(إِذا بَلَغَتِ) : أي النفس.

(التَّراقِيَ) : جمع ترقوة أي عظام الحلق.

(وَقِيلَ مَنْ راقٍ) : أي وقال من حوله من عواده أو ممرضيه هل هناك من يرقيه ليشفى؟

(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ) : أي أيقن انه الفراق للدنيا لبلوغ الروح الحلقوم.

(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) : أي التقت احدى ساقيه بالأخرى أو التفت شدة فراق الدنيا بشدة اقبال الآخرة وما فيها من أهوال.

(إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) : أي إذا بلغت الروح الحلقوم تساق إلى ربها وخالقها لتلقى جزاءها.

(فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) : أي الإنسان الذي يحسب أن لن يجمع الله عظامه ما صدق ولا صلى.

(وَلكِنْ كَذَّبَ) : أي بالقرآن.

(وَتَوَلَّى) : أي عن الإيمان.

(يَتَمَطَّى) : أي يتبختر في مشيته إعجابا بنفسه.

(أَوْلى لَكَ) : أي وليك المكروه أيها المعجب بنفسه المكذب بلقاء ربه.

(فَأَوْلى) : أي فهو أولى بك.

(ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) : أي وليك المكروه مرة ثانية فأولى فهو أولى بك أيضا.

(أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) : أي مهملا لا يكلف في الدنيا ولا يحاسب ويجزى في الآخرة.

تمنى : أي تصب في الرحم.

(فَخَلَقَ فَسَوَّى) : أي خلق الله منها الإنسان فسواه بتعديل أعضائه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء فقوله تعالى (كَلَّا) أي ليس الأمر كما تحسب أيها الإنسان أن الله لا يجمع عظامك ولا يحييك ولا يجزيك انظر إليك وانت على فراش الموت إلى أين يكون مساقك (إِذا بَلَغَتِ) روحك (التَّراقِيَ) (١) من عظام حلقك وقال عوادك وممرضوك هل (مَنْ راقٍ) يرقيك أو طبيب يداويك وأيقنت (أَنَّهُ الْفِراقُ) لدنياك وأهلك وذويك ، (وَالْتَفَّتِ) ساقك اليمني باليسرى (٢) وشدة فراقك الدنيا بشدة اقبالك على الآخرة هنا انظر إلى أين يذهب بك أما جسمك فإلى مقره في الأرض تواريك ، وأما روحك فإلى ربك ليحكم فيك. وقد كذبت بآياته وكفرت بالائه. فلا صدقت ولا صليت ، ولكن كذبت وتوليت كان هذا نصيبك من دينك ، وأما دنياك ، فقد كنت تتمطى استكبارا وتتبختر اعجابا. إذا (أَوْلى (٣) لَكَ فَأَوْلى) أي وليك الهلاك في الدنيا (ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) أي وليك العذاب في الأخرى وعودة إلى تقريعك وتوبيخك يا من كفرت ربك وتنكرت لأصلك اسمع ما يقال لك أحسبت أنك تترك سدى ، تعيش سبهللا ، لا تؤمر ولا تنهى ، لا يؤخذ منك ولا تعطي كلا ألم تك قبل كفرك وجحودك نطفة قطرة ماء من مني تمنى قل بلى أو أولى لك فأولى ، ثم كنت علقة فخلقك الله جل جلاله منها فسوى خلقك بتعديل أعضائك فجعل من نوعك الذكر والأنثى. قل لي بربك هل تنكر ذلك فإن قلت لا. قلنا أليس الله بقادر على أن يحيى الموتى؟ سبحانك اللهم بلى (٤).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الرقية إذا كانت بالقرآن أو الكلم الطيب.

٢ ـ التنويه بشأن الزكاة والصلاة فرائض ونوافل.

__________________

(١) التراقي جمع ترقوة وهي العظام المكتفة لنقرة النحر موضع الحشرجة قال دريد بن الصمة

ورب عظيمة دافعت عنهم

وقد بلغت نفوسهم التراقي

(٢) أي التفت شدة فراقك الدنيا بشدة إقبالك على الآخرة هذا أحد وجهين في تفسير الآية وفي التفسير كلا الوجهين إلا أن في هذا خفاء فأوضحته هنا.

(٣) ما هناك حاجة إلى أن يقال هذا في أبي جهل إذ هو خطاب لكل إنسان كافر مشرك ضال وسواء كان قد مضى أهو حاضر اليوم أو يأتي غدا إذ لفظ الإنسان في قوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ) لفظ عام.

(٤) لقد استمالني الأسلوب الأدبي فأخذت أخاطب الإنسان الهالك مقرعا موبخا بما تضمنته الآيات؟؟؟ فهم مدلولها للاتعاظ والاهتداء بهديها ، فإن لم يك هذا مرضيا عندك فاعف عني واغفر لي. آمين.

٣ ـ تحريم العجب والكبرياء والتبختر في المشي.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٥ ـ الإنسان لم يخلق عبثا والكون كله كذلك.

٦ ـ مشروعية قول سبحانك اللهم بلى لمن قرأ هذه الآية أو سمعها إماما كان أو مأموما وهي (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى).

سورة الإنسان

مدنية وآياتها إحدى وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢))

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتى) : أي قد أتى.

(عَلَى الْإِنْسانِ) : أي آدم عليه‌السلام.

(حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ) : أي أربعون سنة.

(لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) : أي لا نباهة ولا رفعة له لأنه طين لازب وحمأ مسنون وذلك قبل أن ينفخ الله تعالى فيه الروح.

(أَمْشاجٍ) : أي أخلاط من ماء المرأة وماء الرجل.

(نَبْتَلِيهِ) : أي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل.

(إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) : أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب.

(إِنَّا أَعْتَدْنا) : أي هيأنا.

(سَلاسِلَ) : أي يسحبون بها في نار جهنم.

(وَأَغْلالاً) : أي في أعناقهم.

(وَسَعِيراً) : أي نارا مسعرة مهيجة.

(إِنَّ الْأَبْرارَ) : أي المطيعين لله ورسوله الصادقين في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم.

(مِزاجُها) : أي ما تمزج به وتخلط.

(يُفَجِّرُونَها) : أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا.

(شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) : أي ممتدا طويلا فاشيا منتشرا.

(عَبُوساً) : أي تكلح الوجوه من طوله وشدته.

(نَضْرَةً وَسُرُوراً) : أي حسنا ووضاءة في وجوههم وفرحا في قلوبهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (هَلْ أَتى (١) عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) يخبر تعالى عن آدم أبي البشر عليه‌السلام أنه أتى عليه حين من الدهر قد يكون أربعين سنة وهو صورة من طين لا روح فيها ، فلم يكن في ذلك الوقت شيئا له نباهة أو رفعة فيذكر. هذا الإنسان الأول آدم أخبر تعالى عن بدء أمره. وقوله (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) يخبر تعالى عن الإنسان الذي هو ابن آدم أنه خلقه من نطفة وهي (٢) ما ينطف ويقطر من ماء الرجل وماء المرأة ، ومعنى أمشاج (٣)

__________________

(١) الاستفهام تقريري بمعنى قد أتى على الإنسان كذا. وجائز أن يكون المراد من الإنسان غير آدم وكونه آدم هو المراد من الآية أولى.

(٢) يقال مشج الشيء يمشجه أي خلطه فهو ممشوج ومشيج مثل مخلوط وخليط وهل أمشاج جمع مشج على وزن سبب وأسباب أو هو مفرد خلاف.

(٣) (مِنْ نُطْفَةٍ) أي من ماء يقطر وهو المني وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة كقول عبد الله بن رواحة :

مالي أراك تكرهين الجنة

هل أنت إلا نطفة في شنة

أخلاط من ماء الرجل وماء المرأة فهذا مبدأ خلق الإنسان ابن آدم. وقوله (نَبْتَلِيهِ) (١) أي نختبره بالتكاليف بالأمر والنهي وذلك عند تأهله لذلك بالبلوغ والعقل ولذلك جعله (سَمِيعاً بَصِيراً) إذ بوجود السمع والبصر معا أو بأحدهما يتم التكليف فإن انعدما فلا تكليف لعدم القدرة عليه. وقوله تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) أي بينا له طريق الهدى ببعثة الرسل وإنزال الكتب واستبان له بذلك أيضا طريق الغي والردى إذ هما النجدان إن عرف أحدهما عرف الثاني وهو في ذلك إما (٢) أن يسلك سبيل الهدى فيكون شكورا ، وإما أن يسلك سبيل الغي والردى فيكون كفورا ، والشكور المؤمن الصادق في إيمانه المطيع لربه ، والكفور المكذب بآيات الله ولقائه. وقوله تعالى (إِنَّا (٣) أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ) الآيات شروع في بيان ما أعد لكل من سالكي سبيل الرشد وسالكي سبيل الغي فقال بادئا بما أعد لسالكي سبيل الغي موجزا في بيان ما أعد لهم من عذاب بخلاف ما أعد لسالكي سبيل الرشد فإنه نعيم تفصيله محبوب والإطناب في بيانه مرغوب فقال (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً) يسحبون بها في النار ، وأغلالا تغل بها أيديهم في أعناقهم وسعيرا متأججا وجحيما مستعرا. هذا موجز ما أعد لسالكي سبيل الغي أما سالكي سبيل الرشد فقد بينه بقوله (إِنَّ الْأَبْرارَ) (٤) أي المؤمنين المطيعين في صدق لله والرسول (يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ) ملأى شرابا (مِزاجُها كافُوراً) ومزجت بالكافور لبرودته وبياض لونه وطيب رائحته (عَيْناً يَشْرَبُ (٥) بِها عِبادُ اللهِ) لعذوبة مائها وصفائه أصبحت كأنها أداة يشرب بها ولذا قال يشرب بها ولم يقل يشرب منها وقوله (يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) أي يجرونها ويسيلونها حيث شاءوا من غرفهم وقصورهم ومجالس سعاداتهم. وقوله (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قطع الحديث عن نعيمهم ليذكر بعض فضائلهم ترغيبا في فعلهم ونعيمهم ، ثم يعود إلى عرض النعيم فقال (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (٦) أي كانوا في دار الدنيا يوفون بالنذر وهو ما يلتزمونه من طاعات لربهم كالصلاة والصيام والحج والصدقات تقربا

__________________

(١) الجملة حالية من الإنسان.

(٢) إما حرف تفصيل وهو بسيط عند الجمهور وقال سيبويه هو مركب حرف إن الشرطية وما النافية ، ولما تجردت إن من الشرطية وما من النفي أصبحت إما حرف تفصيل بسيط في الواقع وليس مركبا.

(٣) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنها واقعة موقع جواب للسؤال عن حال كل من الشاكر والكفور فكان الكلام بيانا لحال كل منهما.

(٤) الأبرار جمع بر وبار ، وهو المكثر من فعل البر الذي هو الخير ولذا كان البر من أسماء الله تعالى ، قال تعالى : إنا كنا ندعوه من قبل إنه هو البر الرحيم ويجمع البر على بررة.

(٥) جائز أن تكون الباء في بها بمعنى من التبعيضية وجائز أن يكون يشرب مضمنا معنى يروى أي يروى بها عباد الله ومن شواهد هذه الباء قول الشاعر :

شربت بماء البحر ثم تدفقت

متى لجج خضر لهن نئيح

متى بمعنى في والنئيح مر سريع مع صوت والشاهد في بماء البحر.

(٦) النذر هو ما يوجبه المكلف على نفسه في الطاعة بحيث لو لم يوجبه لم يلزمه.

إلى ربهم وتزلفا إليه ليحرزوا رضاه عنهم وتلك غاية مناهم. وقوله (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) (١) أي وكانوا في حياتهم يخافون يوم الحساب يوم العقاب يوما كان شره فاشيا منتشرا ومع ذلك (يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) أي مع حبهم وشهوتهم له ورغبتهم فيه ، يطعمونه (مِسْكِيناً) فقيرا مسكنه الفقر وأذلته الحاجة ، (وَيَتِيماً) لا عائل له ولا مال عنده ، (وَأَسِيراً) سجينا بعيد الدار نائي المزار لا يعرف له أصل ولا فصل يطعمونهم ولسان حالهم أو قالهم يقول (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً) تجازوننا به في يوم ما من الأيام (وَلا شُكُوراً) ينالنا منكم. (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً) أي كالح الوجه مسودا ثقيلا طويلا لا يطاق. واستجاب الله لهم وحقق بفضله مناهم (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) العبوس القمطرير ، (وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً) في وجوههم (وَسُرُوراً) في قلوبهم (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا) على فعل الصالحات وعن ترك المحرمات (جَنَّةً وَحَرِيراً) ، وما سيذكر بعد في الآيات التاليات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان نشأة الإنسان الأب والإنسان الأبن وما تدل عليه من إفضال الله وإكرامه لعباده.

٢ ـ حاستا السمع والبصر وجودهما معا أو وجود إحداهما ضروري للتكليف مع ضميمة العقل.

٣ ـ بيان أن الإنسان أمامه طريقان فليسلك أيهما شاء وكل طريق ينتهي به إلى غاية فطريق الرشد يوصل إلى الجنة دار النعيم ، وطريق الغيء يوصل إلى دار الشقاء الجحيم.

٤ ـ وجوب الوفاء بالنذر فمن نذر شيئا لله وجب أن يفي بنذره إلا أن ينذر معصية فلا يجوز له الوفاء (٢) بنذره فيها فمن قال لله على أن أصوم يوم أو شهر كذا وجب عليه أن يصوم ومن قال لله علي أن لا أصل رحمي ، أو أن لا أصلي ركعة مثلا فلا يجوز له الوفاء بنذره وليصل رحمه وليصل صلاته ولا كفارة عليه.

٥ ـ الترغيب في إطعام الطعام للمحتاجين إليه من فقير ويتيم وأسير.

__________________

(١) يقال استطار الحريق إذا انتشر قال حسان

وهان على سراة بني لؤي

حريق بالبويرة مستطير

قال قتادة استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السموات والأرض.

(٢) ما يروى عن فاطمة وعلي رضي الله عنهما في مرض الحسنين وما نذر الله في شأنهما حديث موضوع باطل رده أهل العلم جملة وتفصيلا.

(مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (١٥) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (١٩) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (٢٢))

شرح الكلمات :

(عَلَى الْأَرائِكِ) : أي على الأسرة بالحجلة واحد الأرائك أريكة.

(وَلا زَمْهَرِيراً) : أي ولا بردا شديدا ولا قمرا إذ هي تضاء من نفسها.

(وَدانِيَةً) : أي قريبة. منهم ظلال أشجار الجنة.

(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) : أي بحيث ينالها المؤمن قائما وقاعدا ومضطجعا.

(وَأَكْوابٍ) : أي أقداح بلا عرا.

(مِنْ فِضَّةٍ) : أي يرى باطنها من ظاهرها.

(قَدَّرُوها تَقْدِيراً) : أي على قدر الشاربين بلا زيادة ولا نقص.

(وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً) (١) : أي خمرا.

(كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) : أي ما تمزج وتخلط به زنجبيلا.

(مُخَلَّدُونَ) : أي بصفة الولدان لا يشيبون.

(لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) : أي من سلكه أو من صدفه لحسنهم وجمالهم وانتشارهم في الخدمة.

__________________

(١) في عرف الأولين إطلاق الكأس على الخمر فلا يقال كأس ما لم يكن بها خمر فلذا يطلقون لفظ الكأس على الخمر والآية شاهد ذلك.

(وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) : أي في الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا واسعا لا يقدر.

(ثِيابُ سُندُسٍ) : أي حرير.

(وَإِسْتَبْرَقٌ) : أي ما غلظ من الديباج.

(وَحُلُّوا) : أي تحليهم الملائكة بها.

(شَراباً طَهُوراً) : أي فائقا على النوعين السابقين ولذا أسند سقيه إلى الله عزوجل.

(إِنَّ هذا) : أي النعيم.

(مَشْكُوراً) : أي مرضيا مقبولا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في ذكر ما أعد الله تعالى للأبرار من عباده المؤمنين المتقين فقال تعالى (١) (مُتَّكِئِينَ) في الجنة (عَلَى الْأَرائِكِ) (٢) التي هي الأسرة بالحجال (لا يَرَوْنَ فِيها) أي في الجنة (شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) إن كان المراد بالشمس الكوكب المعروف فالزمهرير القمر ، فلا شمس في الجنة ولا قمر وإن كان المراد بالشمس الحر فالزمهرير البرد وليس في الجنة حر ولا برد وكلا المعنيين مراد وواقع فلا شمس في الجنة ولا قمر لعدم الحاجة إليهما ولا حر ولا برد كذلك. (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) أي قريبة منهم أشجارها فهي تظللهم ويجدون فيها لذة التظليل وراحته ومتعته وإن لم يكن هناك شمس تستلزم الظل. (وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) أي ما يقطف من ثمار أشجارها مذلل لهم بحيث يناله القائم والقاعد والمضطجع فلا شوك به ولا بعد فيه سهل التناول لأن الدار دار نعيم وسعادة وراحة وروح وريحان (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ) أي يطوف عليهم الخدم الوصفاء بآنية من فضة ومن ذهب (وَأَكْوابٍ) أي أقداح لا عرى لها كانت بفضل الله واكرامه (قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ) يرى باطنها من ظاهرها لصفائها مادتها فضة وصفاؤها صفاء الزجاج ولذا سميت قارورة وجمعت على قوارير. (قَدَّرُوها تَقْدِيراً) أي قدرها الخدم الطائفون عليهم بحيث لا تزيد فتفيض (٣) ولا تنقص فلا يجمل منظرها. وقوله (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً) أي خمرا (كانَ مِزاجُها) أي ما تمزج به (زَنْجَبِيلاً) من عين في الجنة (تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) (٤). وقوله

__________________

(١) (مُتَّكِئِينَ) منصوب على الحال وصاحب الحال الضمير في وجزاهم.

(٢) الأريكة السرير بالحجلة والحجلة كله تنصب على السرير لتقي الحر والشمس ولا يقال في السرير أريكة ما لم يكن بالحجال كما لا يقال للسجل سجلا ما لم تكن الدنو ملأى ولا الذنوب ذنوبا ما لم يكن ملأى ، ولا يقال للكأس كأس ما لم تكن ملأى بالخمر ولا يقال مهدي للطبق ما لم تكن عليه الهدية.

(٣) التقدير لكل من أحجامها والمشروب الذي بها.

(٤) يقال شراب سلس وسلسال وسلسل وسلسبيل ما كان في غاية السلاسة.

تعالى (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي ويطوف على أولئك الأبرار في الجنة ولدان غلمان مخلدون لا يهرمون ولا يموتون حالهم دائما حال الغلمان لا تتغير (إِذا رَأَيْتَهُمْ) ونظرت إليهم (حَسِبْتَهُمْ) في جمالهم وانتشارهم في الخدمة هنا وهناك (لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً). ويقول تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَ) أي هناك في الجنة (رَأَيْتَ نَعِيماً) لا يوصف (وَمُلْكاً كَبِيراً) لا يقادر قدره (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) يخبر تعالى أن عاليهم أي فوقهم ثياب سندس أي حرير خضر واستبرق وهو ما غلظ من الديباج. وثياب من استبرق بعضها بطائن وبعضها ظهائر البطائن ما يكون تحت الظهائر وقوله تعالى (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) أي وحلاهم ربهم وهم في دار كرامته أساور من فضة ومن ذهب أيضا إذ يحذف (١) المقابل لدلالة المذكور عليه نحو سرابيل تقيكم الحر أي وأخرى تقيكم البرد وقوله (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (٢) هذا غير ما ذكر فيما تقدم هذا إكرام خاص وهو أن الله تعالى هو الذي يسقيهم وأن هذا الشراب بالغ مبلغا عظيما في الطهارة لوصفه بالطهور. ويقال لهم تكريما لهم وتشويقا لغيرهم من أهل الدنيا الذين يسمعون هذا الخطاب التكريمي (إِنَّ هذا) النعيم من جنات وعيون وأرائك وغلمان وطعام وشراب ولباس وما إلى ذلك (كانَ لَكُمْ جَزاءً) على إيمانكم وتقواكم (وَكانَ سَعْيُكُمْ) أي عملكم في الدنيا (مَشْكُوراً) أي مرضيا مقبولا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صور من الجزاء الأخروي.

٢ ـ حرمة استعمال أواني الذهب والفضة لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم «هي لهم في الدنيا ولنا في الآخرة».

٣ ـ حرمة الخمر لحديث «من شرب الخمر في الدنيا لا يشربها في الآخرة إن مات مستحلا لها».

٤ ـ مشروعية اتخاذ خدم صالحين يخدمون المرء ويحسن إليهم.

٥ ـ حرمة لبس الحرير على الرجال وإباحته للنساء ، وكالحرير الذهب أيضا.

__________________

(١) ومن سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب ، وفي سورة الحج يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا. قيل حلي الرجل الفضة وحلي النساء الذهب ، وقيل تارة يلبسون الفضة وتارة يلبسون الذهب ومن الجائز أن يجمع لهم بين الفضة والذهب ليكون لأحدهم سواران من فضة وسواران من ذهب.

(٢) قال علي رضي الله عنه في قوله تعالى وسقاهم ربهم شرابا طهورا قال : إذا توجه أهل الجنة إلى الجنة مروا بشجرة يخرج من تحت ساقها عينان فيشربون من إحداهما لتجري عليهم بنضرة النعيم فلا تتغير أبشارهم ولا تشعث أشعارهم أبدا ثم يشربون من الأخرى فيخرج ما في بطونهم من الأذى ثم تستقبلهم خزنة الجنة فيقولون سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين.

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٣١))

شرح الكلمات :

(نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) : أي شيئا فشيئا ولم ننزله جملة واحدة لحكمة بالغة.

(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) : أي عليك بحمل رسالتك وإبلاغها إلى الناس.

(وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) : الآثم هنا عتبة بن ربيعة والكفور الوليد بن المغيرة.

(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) : أي صل الصبح والظهر والعصر.

(وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) : أي صل صلاة المغرب والعشاء.

(وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) : أي تهجد بالليل نافلة لك.

(يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) : أي الدنيا.

(وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) : أي يوم القيامة.

(وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) : أي قوينا أعضاءهم ومفاصلهم.

(وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) : أي جعلنا أمثالهم في الخلقة بدلا منهم بعد أن نهلكهم.

(إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) : أي عظة للناس.

(اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) : أي طريقا إلى مرضاته وجواره بالإيمان والعمل الصالح وترك

الشرك والمعاصي.

(فِي رَحْمَتِهِ) : أي الجنة.

(أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) : أي في النار والأليم ذو الألم الموجع.

معنى الآيات :

لقد عرض المشركون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرضا مفاده أن يترك دعوة الله تعالى إلى عبادته وتوحيده ويعبد ربه وحده ويترك المشركين فيما هم فيه وله مقابل ذلك مال أو أزواج أو رئاسة وما إلى ذلك فأبى الله تعالى له ذلك وأنزل قوله (إِنَّا نَحْنُ) (١) (نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً فَاصْبِرْ (٢) لِحُكْمِ رَبِّكَ) على تحمل رسالتك وتبليغها إلى الناس (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ) أي من مشركي قريش (آثِماً) كأبي جهل وعتبة بن ربيعة (أَوْ كَفُوراً) كالوليد بن المغيرة أي لا تطعهما فيما طلبا إليك وعرضا عليك ، وواصل دعوتك واستعن بالصلاة والتسبيح والذكر والدعاء ، وفي قوله تعالى (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٣) إشارة إلى صلاة الصبح والظهر والعصر ، وفي قوله (وَمِنَ (٤) اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ) إشارة إلى صلاة المغرب والعشاء ، وقوله (وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) صريح في انه التهجد إذ الصلاة نعم العون للعبد ولذا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة وقوله تعالى (إِنَّ هؤُلاءِ (٥) يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ) أي الدنيا يعني بهم كفار قريش يحبون الدنيا وسميت بالعاجلة لأنها ذاهبة مسرعة ، (وَيَذَرُونَ (٦) وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) هو يوم القيامة فلم يؤمنوا ولم يعملوا بما يسعدهم فيه ويذكرهم تعالى بأنه خالقهم وقادر على تبديلهم بغيرهم فيقول (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ) أي أوجدناهم من العدم (وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) (٧) أي قوينا ظهورهم وأعضاءهم ومفاصلهم (وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) أي جعلنا أمثالهم في

__________________

(١) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا) : أي ما افتريته ولا جئت به من عندك ولا من تلقاء نفسك كما يقول المشركون.

(٢) الفاء هي الفصيحة إذ هي واقعة في جواب شرط مقدر أي إذا كان الأمر ما علمت وهي ردهم دعوتك ومطالبتهم بتركها والتخلي عنها مقابل عارض من الدنيا فاصبر لحكم ربك فيهم ولا تطع منهم آثما أو كفورا واستعن بالصبر والصلاة.

(٣) الأصيل جمعه الأصائل والأصل كقولك سفائن وسفن قال الشاعر :

ولا بأس منها إذا دنا الأصل

وقال آخر في الأصائل وهو جمع الجمع :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

وأقعد في أفيائه بالأصائل

(٤) (مِنَ اللَّيْلِ) : من للتبعيض أي من بعض الليل لا كله.

(٥) الجملة تحمل التوبيخ والتقريع لأهل مكة لحبهم العاجلة وتركهم الآخرة.

(٦) جائز أن يكون وراءهم بمعنى بين أيديهم ولما لم يعملوا له كانوا كالتاركين له وراءهم غير ملتفتين إليه.

(٧) الأسر : الخلق يقال شديد الأسر أي الخلق والمراد بالخلق الأوصال والمفاصل وفقار الظهر ومن ذلك الشرج فإنه إذا خرج البول أو الغائط تقبض الموضع ولو لا هذا التماسك لبقي البول سائلا والعذرة متناثرة.

الخلقة بدلا عنهم وأهلكناهم ولو شاء تعالى ذلك لكان ولكنه لم يشأ مع أنه في كل قرن يبدل جيلا بجيل هذا يميته وهذا يحييه وهو على كل شيء قدير. وفي خاتمة هذه السورة المشتملة على أنواع من الهدايات الكثيرة يقول تعالى (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أي هذه السورة موعظة (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) طريقا إلى رضاه أولا ثم مجاورته في الملكوت الأعلى ثانيا ، ولما أعطى تعالى المشيئة قيدها بأن يشاء الله ذلك المطلوب أولا ، ومن هنا وجب الافتقار إلى الله تعالى بدعائه والضراعة إليه وهو قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) بخلقه وبما يصلحهم أو يفسدهم (حَكِيماً) في تدبيره لأوليائه خاصة ولباقي البشرية عامة فله الحمد وله المنة. وقوله (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ (١) أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إنه بهذا يدعو كافة البشرية إلى الافتقار إليه ليغنيهم وإلى عبادته ليزكيهم وإلى جواره فيطهرهم ويرفعهم هؤلاء أولياؤه من أهل الإيمان والتقوى (وَالظَّالِمِينَ) أي المشركين (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي أهانهم لكفرهم به وشركهم في عبادته فأعد لهم عذابا مؤلما موجعا نعوذ بالله من عذابه وشديد عقابه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة طاعة ذوي الإثم وأهل الكفر في حال الاختيار.

٢ ـ على المؤمن أن يستعين بالصلاة والذكر والدعاء فإنها نعم العون.

٣ ـ استحباب نافلة الليل.

٤ ـ مشيئة الله عزوجل قبل فوق كل مشيئة.

٥ ـ القرآن تذكرة للمؤمنين.

سورة المرسلات

مكية وآياتها خمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ

__________________

(١) (وَالظَّالِمِينَ) مفعول لفعل محذوف تقديره ويعذب الظالمين وجملة (أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) تفسير للفعل المحذوف.

(٩) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥))

شرح الكلمات :

(وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) : المرسلات الرياح الطيبة والعرف المتتابعة.

(فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) : فالرياح الشديدة الهبوب المضرة لشدتها.

(وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) : الرياح تنشر المطر وتفرقه في السماء نشرا.

(فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) : أي فالملائكة تلقى بالوحي على الأنبياء للتذكير به.

(عُذْراً أَوْ نُذْراً) : أي للاعذار بالنسبة إلى أقوام أو إنذار بالنسبة إلى آخرين.

(إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) : أي انما توعدون أيها الناس لكائن لا محالة.

(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) : أي محى نورها وذهبت.

(وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) : أي انشقت وتصدعت.

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) : أي نسفت فإذا هي هباء منبث مفرق هنا وهناك.

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) : أي جمعت لوقت حدد لها لتحضر فيه.

(لِيَوْمِ الْفَصْلِ) : أي اليوم الذي يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١) هذا بداية قسم لله تعالى أقسم فيه بعدة أشياء من مخلوقاته ولله أن يقسم بما شاء ، والحكمة من الإقسام أن تسكن النفوس للخبر وتطمئن إلى صدق المخبر فيه وبذلك يحصل الغرض من إلقاء الخبر على السامعين والمقسم به هنا المرسلات وهي الرياح المتتابعة الطيبة العذبة والعاصفات (٢) منها وهي الشديدة الهبوب التي قد تعصف بالأشجار وتقتلعها وبالمباني وتهدمها (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) وهي الرياح المعتدلة التي تنشر السحاب وتفرقه أو تسوقه

__________________

(١) روى البخاري عن ابن عباس قال قرأت سورة والمرسلات عرفا فسمعتني أم الفضل (امرأة العباس) فبكت وقالت : بني أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ بها في صلاة المغرب.

(٢) العصف : قوة هبوب الريح ، والنشر : ضد الطي واستعمل في الإظهار والإيضاح. والعصف حالة المضرة والنشر حالة النفع جائز أن يراد بالمرسلات والعاصفات والناشرات الملائكة وكونها الرياح أظهر في التفسير وهو اختيار ابن جرير.

للإمطار وإنزال المطر والفارقات فرقا وهي آيات القرآن الكريم تفرق بين الحق والباطل والملقيات ذكرا (عُذْراً (١) أَوْ نُذْراً) وهي الملائكة تلقى بالوحي على من اصطفى الله تعالى من عباده للاعذار والانذار أي تعذر أناسا وتنذر آخرين هذا هو القسم والمقسم هو الله والمقسم عليه هو قوله جل ذكره (إِنَّما تُوعَدُونَ) أيها الناس من خير أو شر (لَواقِعٌ) أي كائن لا محالة وعليه فأصلحوا أعمالكم بعد تصحيح نياتكم فإن الجزاء واقع لا يتخلف أبدا ولا يتغير ولا يتبدل ومتى يقع هذا الموعود الكائن لا محالة والجواب يقع في يوم الفصل إذا فما هو يوم الفصل والجواب يوم يحضر الله الشهود من الملائكة والرسل ويفصل بين الناس ومتى يكون يوم الفصل والجواب (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) أي ذهب نورها ومحى (وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ) أي انشقت وتصدعت (وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ) (٢) أي فتت (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) أي حدد لها وقت معين تحضر فيه وهو يوم الفصل (وَما أَدْراكَ (٣) ما يَوْمُ الْفَصْلِ) تفخيم لشانه وإعلام بهوله وقوله تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم يقع الفصل العذاب الهائل الكبير (لِلْمُكَذِّبِينَ) بالله وبآياته ولقائه ورسوله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ لله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه وليس للعبد أن يقسم بغير خالقه عزوجل.

٣ ـ علامات القيامة وظاهرة الانقلاب الكوني العام وهي انطماس ضوء النجوم وانفراج السماء ونسف الجبال.

٤ ـ الوعيد الشديد بالويل الذي هو واد في (٤) جهنم تستغيث جهنم من حره للمكذبين بما يجب التصديق به من أركان الإيمان الستة ، والوعد والوعيد الإلهيين.

__________________

(١) قرأ نافع عذرا بإسكان الذال وبضمها في (نُذْراً) وسكن الذال فيهما معا حفص والنذر اسم مصدر بمعنى الإنذار وكذا عذرا وهما مفعولان لأجله أي لأجل الإعذار والإنذار أي الإعذار للمحقين والإنذار للمبطلين أو البشرى للمؤمنين والنذارة للكافرين.

(٢) نسف الجبال دكها وتصييرها ترابا مفرقا وتسييرها كالهباء في الهواء.

(٣) (ما أَدْراكَ) : استفهام ، وكذا ما يوم الفصل والمراد من الاستفهام الأول الاستبعاد والإنكار ومن الثاني التهويل من شأن يوم الفصل الذي هو يوم القيامة حيث تم الفصل فيه بين الخلائق ويتم بأن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير.

(٤) قيل أن هذا الوادي هو مستنقع صديد أهل الشرك والكفر ليعلم أهل العقول أنه لا شيء أقذر منه قذارة ولا أنتن منه نتنا ولا أشد مرارة ولا أشد سوادا منه وصفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه أعظم واد في جهنم.

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) : أي كقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى البعثة النبوية وذلك بتكذيبهم.

(ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) : أي إن أصروا على التكذيب ككفار مكة.

(كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) : أي مثل ذلك الهلاك نهلك المجرمين.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) : أي إذا جاء وقت الهلاك ويل فيه للمكذبين.

(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : أي المني والمهين الضعيف.

(فِي قَرارٍ مَكِينٍ) : أي حريز وهو الرحم.

(إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) : أي إلى وقت الولادة.

(فَقَدَرْنا) : أي خلقه.

(فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) : أي نحن على الخلق والتقدير.

(كِفاتاً) : أي تكفت الناس أي تضمهم أحياء فوق ظهرها وأمواتا في بطنها.

(رَواسِيَ شامِخاتٍ) : أي جبال عاليات.

(فُراتاً) : أي عذبا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) إنه لما أقسم تعالى على وقوع ما أوعد به المكذبين من عذاب يوم القيامة وذكر وقت مجيئه وعلامات ذلك وذكر أن

الرسل أقتت ليوم الفصل وهو اليوم الذي يفصل فيه تعالى بين الخلائق فيقتص من الظالم للمظلوم ، ويجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وتوعد المكذبين بذلك فقال ويل يومئذ للمكذبين دلل هنا على قدرته على إهلاك المكذبين بما سبق له أن فعله بالمكذبين فقال في استفهام تقريري لا ينكر (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ) من الأمم السابقة كعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط إلى زمن البعثة النبوية (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) فقد أهلك أكابر مجرمي قريش في بدر وقوله (كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ) (١) وهو وعيد صريح وحقا والله لقد أهلك المجرمين ولم ينج من الهلاك مجرم و (وَيْلٌ (٢) يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وقوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) (٣) (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ). هذا استدلال آخر على قدرة الله وعلمه اللذين لا يتم البعث والجزاء إلا عليهما قدرة لا يعجزها شيء وعلم لا يخفى معه شيء فقال مستفهما استفهاما تقريريا (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) أي ضعيف هو المني (فَجَعَلْناهُ) (٤) أي الماء (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) أي حريز حصين وهو الرحم (إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ) وهو زمن الولادة (فَقَدَرْنا) (٥) أي خلق الجنين على أحسن صورة أدق تركيب المسافات بين الأعضاء كما بين العينين كما بين اليدين والرجلين كما بين الأذنين كلها مقدرة تقديرا عجيبا لا تزيد ولا تنقص (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) على الخلق والتقدير معا والجواب بلى ولم إذا تكفرون وتكذبون؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وقوله (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً؟) هذا استدلال آخر على قدرة الله على البعث والجزاء والاستفهام فيه للتقرير أيضا (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) (٦) أي مكان كفاية مأخوذ من كفت الشيء إذا ضمه إلى بعضه بعضا والأرض ضامة للناس كافية لهم كافتة الأحياء (٧) على ظهرها يسكنون ويأكلون ويشربون والأموات في بطنها لا تضيق بهم أبدا كما لم تضق بالأحياء (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض (رَواسِيَ شامِخاتٍ) أي جبال عاليات

__________________

(١) لفظ الإجرام أصبح كالعلم على أهل الشرك والكفر إذ هم الذين أجرموا على أنفسهم بأعظم الذنوب وأشدها إفسادا للروح وهو الشرك والكفر وما بعد الكفر ذنب كما يقال.

(٢) هذا التكرار والتقرير والتأكيد وسيتكرر في عدة آيات في هذه السورة ومعناه قد سبق مع أول ذكره.

(٣) الاستفهام للتقرير وهو لا يخلو من معنى التوبيخ والتقريع للمشركين المكذبين بالبعث والجزاء.

(٤) فجعلنا : الفاء للتفريع والتفصيل لكيفية الخلق.

(٥) قرأ نافع فقدرنا بتشديد الدال وقرأها حفص بالتخفيف فالتخفيف بمعنى قدرنا تقديرا أي فعلناه على تقدير معين ، وقدرنا بالتخفيف أي جعلنا على مقدار مناسب ولذا معنى القراءتين واحد وشاهده من الحديث قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهلال إذا غم عليكم فاقدروا له أي قدروا له المسير والمنازل ومن الشائع قولهم قدر على فلان الموت وقدر عليه الموت بالتشديد والتخفيف.

(٦) قال القرطبي كفاتا أي ضامة تضم الأحياء على ظهرها والأموات في بطنها وهذا يدل على وجوب مواراة الميت ودفنه ، ودفن شعره وسائر ما يزيله عنه. وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصوا أظافركم وادفنوا قلاماتكم.

(٧) الكفات اسم للشيء الذي يكفت فيه أي يجمع ويضم فيه فهو اسم من كفت إذا جمع فالكفات اسم لما يكفت الوعاء اسم لما يعي والضمام اسم لما يضم.

(وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) أي عذبا وهو ماء السماء ناقعا في الأرض وجاريا في الأودية والأنهار والجواب بلى ، بلى إذا مالكم أيها المشركون كيف تكذبون؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل لهم إذا حان وقت هلاكهم أي (لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ؟)

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ الاستدلال على البعث والجزاء بالقدرة والعلم إذ هما أساس البعث والجزاء.

٣ ـ بيان انعام الله تعالى على عباده في خلقهم ورزقهم وتدبير حياتهم أحياء وأمواتا.

٤ ـ بيان أن الناس أكثرهم لا يشكرون.

٥ ـ الوعيد الشديد للمكذبين الكافرين.

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠))

شرح الكلمات :

(انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) : أي من العذاب.

(ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) : أي دخان جهنم إذا ارتفع انقسم إلى ثلاث شعب لعظمته.

(لا ظَلِيلٍ) : أي كنين ساتر يكن ويستر.

(وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) : أي ولا يرد شيئا من الحر.

(إِنَّها) : أي النار.

(بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) : أي الشررة الواحدة كالقصر في عظمته وارتفاعه.

(كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) : أي الشرر المتطاير من النار الشررة كالقصر في عظمها وارتفاعها

وكالجمل في هيئتها ولونها والجمل الأصفر الأسود الذي يميل إلى صفرة.

(هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) : أي فيه بشيء.

(وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) : أي في العذر.

(جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ) : أي من المكذبين قبلكم.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) : أي حيلة في دفع العذاب فاحتالوا لدفع العذاب عنكم.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي عليها مدار الحياة كلها قوله تعالى (انْطَلِقُوا) (١) هذا يقال للمكذبين يوم القيامة وهم في عرصاتها يقال لهم تقريعا وتبكيتا (انْطَلِقُوا إِلى (٢) ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) وهو عذاب الآخرة ويتهكم بهم ويسخرون منهم فيقولون (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) وهو دخان النار إذا ارتفع يتشعب إلى ثلاث شعب وذلك لعظمته (لا ظَلِيلٍ) أي ليس هو ظلا حقيقيا كظل لشجرة والجدار فيكن ويستر (وَلا يُغْنِي (٣) مِنَ اللهَبِ) فيدفع الحر وقال تعالى في وصفها (إِنَّها) أي النار (تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) الشررة الواحدة كالقصر في كبره وارتفاعه (كَأَنَّهُ) أي الشرر جمالة صفراء (٤) أي الشررة كالجمل الأصفر وهو الأسود المائل إلى الصفرة. ثم قال تعالى (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) يتوعد المكذبين به وبآياته ولقائه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) أي هذا يوم القيامة يوم لا ينطقون أي فيه بشيء (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ) أي في الاعتذار فهم يعتذرون لا اعتذار ولا إذن به. ولطول يوم القيامة وتجدد الأحداث فيه يخبر القرآن مرة باعتذارهم وكلامهم في موطن ، وينفيه في آخر ، إذ هو ذاك الواقع في مواطن يتكلمون بل ويحلفون كاذبين وفى مواطن يغلب عليهم الخوف والحزن فلا يتكلمون بشيء وفي مواطن يطلب منهم أن يتكلموا فيتكلموا وفي أخرى لا ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) وعيد لكل المكذبين بهذا وبغيره وقوله تعالى (هذا يَوْمُ (٥) الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ (٦) وَالْأَوَّلِينَ) أي يقال لهم يوم القيامة وهم

__________________

(١) هذا الخطاب للمكذبين في يوم الفصل وهو مقول قول محذوف دل عليه صيغة الخطاب ولذا قلت في التفسير هذا يقال للمكذبين.

(٢) وأعيد لفظ انطلقوا على طريقة التكرير قصد التوبيخ والإهانة.

(٣) الاغناء جعل الغير غنيا أي غير محتاج في ذلك الغرض وعدي الفعل بمن هنا على معنى البدلية أو لتضمينه معنى يبعد.

(٤) قرأ نافع جمالات جمع جمالة بكسر الجيم وقرأ حفص (جِمالَتٌ) بالإفراد والجمالة اسم جمع لطائفة من الجمال أي الشررة الواحدة في عظمها كأنها جمالة صفر ، والصفرة لون الشرر والصفر جمع أصفر كحمر جمع أحمر.

(٥) تكرير لتوبيخهم ، والإشارة في هذا إلى المشهد الذي يشاهدونه في يوم فصل القضاء الذي كانوا ينكرونه ويكذبون به.

(٦) هذا كقوله تعالى (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) والمخاطبون في قوله جمعناكم المشركون المكذبون بيوم الفصل.

في عرصاتها هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون جمعناكم فيه أيها المكذبون من هذه الأمة والمكذبين الأولين من قبلها ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ) أي حيلة على خلاصكم مما أنتم فيه (فَكِيدُونِ) أي احتالوا علي وخلصوا أنفسكم يقال لهم تبكيتا لهم وخزيا وهو عذاب روحي أشد ألما من العذاب الجسماني (وَيْلٌ (١) يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي ويل يوم إذ يجييء يوم الفصل للمكذبين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التهكم والسخرية والتبكيت من ألم أنواع العذاب الروحي يوم القيامة.

٢ ـ عرصات القيامة واسعة والمقام فيها طويل والبلاء فيها شديد.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر بعض ما يتم فيه.

٤ ـ التكذيب هو رأس الكفر ، وبموجبه يكون العذاب.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) : أي الذين اتقوا ربهم فآمنوا به وأطاعوه بفعل ما يحب وترك ما يكره.

(فِي ظِلالٍ) : أي في ظلال الأشجار الوارفة.

(وَعُيُونٍ) : أي من ماء ولبن وخمر وعسل.

(مِمَّا يَشْتَهُونَ) : لا مما يجدون كما هي الحال في الدنيا.

(إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : أي كما جزينا المتقين نجزي المحسنين.

(كُلُوا وَتَمَتَّعُوا) : أي في هذه الحياة الدنيا.

__________________

(١) تكرير للوعيد والتهديد وهو متصل بما قبله اتصال نظائره فيما سبق وفيما يلحق.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) : أي صلوا لا يصلون.

(بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) : أي بعد القرآن إذ الكتب غيره ليست معجزة والقرآن هو المعجز بألفاظه ومعانيه فمن لم يؤمن بالقرآن ما آمن بغيره بحال من الأحوال.

معنى الآيات :

من باب الترغيب والترهيب وهو أسلوب أمتاز به القرآن الكريم ذكر تعالى ما للمتقين من نعيم مقيم بعد ذكر ما للمكذبين الضالين من عذاب الجحيم فقال تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) وهم الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي (فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ) في ظلال أشجار الجنة وعيونها من ماء ولبن وخمر وعسل (وَفَواكِهَ) كثيرة منوعة (مِمَّا يَشْتَهُونَ) (١) على خلاف الدنيا إذ الناس يأكلون مما يجدون فلوا اشتهوا شيئا ولم يجدوه ما أكلوه وأما دار النعيم فإن المرء ما اشتهى شيئا إلا وجده وأكله وهذا هو السر في التعبير في غير موضع بكلمة مما يشتهون. ومن إتمام النعيم أن يقال لهم تطييبا لخواطرهم (كُلُوا وَاشْرَبُوا (٢) هَنِيئاً) أي متهنئين (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الصالحات وتتركون من السيئات. وقوله تعالى (إِنَّا كَذلِكَ (٣) نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي كهذا الجزاء الذي جزينا به المتقين نجزي به المحسنين. (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي بهذا الوعد الكريم. قوله تعالى (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ). هذا قول الله تعالى لمشركي قريش وكفارها يهددهم الرب تبارك وتعالى ناعيا عليهم إجرامهم حتي يحين وقتهم وقد حان حيث أعلمهم أنهم لا يتمتعون إلا قليلا وقد أهلكوا في بدر. وقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) هو توعد بالعذاب الأليم لمن يكذب بوعيد الله هذا ووعده ذاك. وقوله تعالى (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا) (٤) أي صلوا (لا يَرْكَعُونَ) أي لا يصلون ولا يخشعون ولا يتواضعون فيقبلون الحق ويؤمنون به ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) بشرائع الله وهداه التاركين للصلاة وقوله تعالى (فَبِأَيِ (٥) حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) أي فبأي كتاب يؤمن هؤلاء المكذبون إذا لم يؤمنوا بالقرآن وذلك لما فيه من الخير والهدى ولما يدعو إليه من السعادة والكمال كما أنه معجز بألفاظه ومعانيه بخلاف الكتب غيره فمن لم يؤمن به لا يرجى له أن يؤمن بغيره بحال من الأحوال.

__________________

(١) أي يتمنون إذ أكلهم للذة الأكل لا للحفاظ على الجسم كما هي الحال في الدنيا يأكل الآدمي للبقاء على حياته إذ لو ترك الغذاء هلك.

(٢) هذا مقول قول محذوف أي يقال لهم كلوا واشربوا.

(٣) إن المحسنين هم المتقون ، وإنما ذكر صفة الإحسان لأن التقوى التي هي فعل وترك متوقفة على الإحسان الذي هو مراقبة الله تعالى المنتجة إحسان النيات والأعمال الصالحات.

(٤) يذكر أن مالكا رحمه‌الله تعالى : دخل المسجد بعد صلاة العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع ، فقال له صبي يا شيخ قم فاركع فقام فركع فقيل له في ذلك قال خشيت أن أكون من الذين (إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ).

(٥) الفاء هي الفصيحة أي إن لم تؤمنوا بهذا القرآن فبأي حديث بعده تؤمنون والاستفهام إنكاري تعجبي.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه المؤمنين المتقين المحسنين.

٢ ـ بيان نعيم أهل التقوى والاحسان وفضلهما أي فضل التقوى والإحسان.

٣ ـ صدق القرآن في أخباره إذ وعيد الله لأكابر مجرمي مكة نفذ بعد أقل من خمس سنوات.

٤ ـ من دخل مسجدا وأهله يصلون فليدخل معهم في صلاتهم وإن كان قد صلى حتى لا يكون غيره راكعا لله وهو غير راكع وقد جاء في الصحيح هذا المعنى.

الجزء الثلاثون

سورة النبإ

مكية وآياتها أربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (٣) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (١٦))

شرح الكلمات :

(عَمَ) (١) : أي عن أي شيء؟

(يَتَساءَلُونَ) : أي يسأل بعض قريش بعضا.

(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) : أي ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر.

(الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) : أي ما بين مصدق ومكذب.

(سَيَعْلَمُونَ) : عاقبة تكذيبهم عند نزع أرواحهم وعند خروجهم من قبورهم.

(أَوْتاداً) : أي تثبت بها الأرض كما تثبت الخيمة بالأوتاد.

(سُباتاً) : أي راحة لأبدانكم.

__________________

(١) (عَمَ) أصلها عن ما فأدغمت النون في الميم فصارت عما وحذفت الألف تخفيفا فصارت عم فعن حرف جر وما حرف استفهام ، وقدم الاستفهام لما له من حق الصدارة وأصل التركيب يتساءلون عن أي شيء؟

(لِباساً) : أي ساترا بظلامه وسواده.

(وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) : أي وقتا للمعاش كسبا وأكلا.

(شِداداً) : أي قوية محكمة الواحدة شديدة والجمع شداد.

(سِراجاً وَهَّاجاً) : أي ضوء الشمس وهاجا وقادا.

(الْمُعْصِراتِ) : أي السحابات التي حان لها أن تمطر كالجارية المعصر التي دنا وقت حيضها.

(ثَجَّاجاً) : أي صبابا.

(وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) : أي بساتين ملتفة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) أي عن أي شيء يتساءل رجال قريش فيسأل بعضهم بعضا إنهم يتساءلون (عَنِ (١) النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) إنه ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من التوحيد والنبوة والبعث الآخر. قال تعالى ردعا لهم وتخويفا (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) (٢) عند نزع أرواحهم عاقبة تكذيبهم لرسولنا وإنكارهم لتوحيدنا ولقائنا ، (ثُمَّ كَلَّا (٣) سَيَعْلَمُونَ) يوم يبعثون من قبورهم ويحشرون إلى نار جهنم حين لا ينفعهم علم ولا يجديهم إيمان. وقوله تعالى (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) الآيات فذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والرحمة والحكمة ما يوجب الإيمان به وبتوحيده ورسوله ولقائه لو كان القوم يعقلون فقال (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ (٤) مِهاداً) أي فراشا ووطاء للحياة عليها؟ وهل يتم هذا بدون علم وقدرة (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) تثبت الأرض بها فيأمنون على حياتهم من الميدان وسقوط كل بناء (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) الخلق مظهر من مظاهر القدرة والعلم وكونهم أزواجا مظهر (٥) من مظاهر الحكمة والرحمة (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي راحة لأبدانكم. (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً) ساترا بظلامه. (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً) للعيش كسبا له وتمتعا به. (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) وهي السموات

__________________

(١) (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) متعلق بمحذوف تقديره يتساءلون عن النبأ العظيم وهو الخبر الكبير وهو البعث بعد الموت إذ العرب فيه ما بين مصدق ومكذب ، ويدل عليه السياق.

(٢) (كَلَّا) حرف ردع ومعمول سيعلمون محذوف تقديره «سيعلمون» بما فيه تكذيبهم بالبعث والنبوة والتوحيد.

(٣) (كَلَّا) هنا بمعنى حقا سيعلمون صحة ما هم به مكذبوه وله منكرون.

(٤) هذا الاستئناف المبدوء باستفهام تقريري جاء لعرض مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات إيمان به وبلقائه ونبوة رسوله وعبادته وحده دون سواه.

(٥) الزوج : هو مكرر الواحد وشاع إطلاق الزوج على كل من الذكر والأنثى فالرجل زوج لأنثاه والمرأة زوج لزوجها.

السبع الشديدة القوية البناء لا تفنى ولا تزول إلى أن يأذن هو سبحانه وتعالى بزوالها ، (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً) هو الشمس المشرقة المضيئة. (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ) أي السحابات التي حان لها أن تمطر تشبيها لها بالجارية المعصر التي قاربت الحيض (ماءً ثَجَّاجاً) صبابا وابلا ، وذلك (لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) الحب كالبر والذرة لطعامكم ، والنبات كالكلأ والعشب لحيواناتكم ، وجنات أي بساتين ملتفة الأشجار غناء بالثمار المختلف الألوان ، والطعوم كل هذه المذكورات مفتقرة إلى قدرة لا يعجزها شيء وعلم أحاط بكل شيء وحكمة لا يخلو منها شيء ورحمة تعم كل شيء والله وحده ذو القدرة والعلم والحكمة والرحمة فكيف ينكر توحيده ويكذب رسوله ، ويستبعد بعثه للناس يوم القيامة لحسابهم ومجازاتهم على أعمالهم في هذه الدار وهي مختلفة منها الصالح ومنها الفاسد هل من الحكمة في شيء أن يظلم الظالمون ويفسد المفسدون ، ويعدل العادلون ويصلح المصلحون ويموتون سواء ولا يكون هناك حياة أخرى يجزي فيها المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه اللهم لا لا إنه لا بد من حياة أخرى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة الإلهية في كل الآيات من قوله ألم نجعل الأرض مهادا إلى قوله وجنات ألفافا.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء والنبوة والتوحيد وهي التي اختلف الناس فيها ما بين مثبت وناف ، ومصدق ومكذب.

٣ ـ سيحصل العلم الكامل بهذه المختلف فيها بين الناس عند نزع الروح ساعة الموت ، ولكن لا فائدة من العلم ساعتها إذ قضي الأمر وانتهى الخلاف.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (٢٠) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (٢١) لِلطَّاغِينَ مَآباً (٢٢) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (٢٣) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (٢٤) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (٢٥) جَزاءً وِفاقاً (٢٦) إِنَّهُمْ كانُوا

لا يَرْجُونَ حِساباً (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (٣٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) : أي الفصل بين الخلائق ليجزي كل امرىء بما كسب.

(كانَ مِيقاتاً) : أي ذا وقت محدد معين لدى الله عزوجل فلا يتقدم ولا يتأخر.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) : أي يوم ينفخ اسرافيل في الصور.

(فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) : أي تأتون أيها الناس جماعات جماعات إلى ساحة فصل القضاء.

(وَفُتِحَتِ السَّماءُ) : أي لنزول الملائكة.

(وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ) : أي ذهب بها من أماكنها.

(فَكانَتْ سَراباً) : أي مثل السراب فيتراءى ماء وهو ليس بماء فكذلك الجبال.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) : أي راصدة لهم مرصدة للظالمين مرجعا يرجعون إليها.

(لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) : أي دهورا لا نهاية لها.

(لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) : أي نوما ولا شرابا مما يشرب تلذذا به إذ شرابهم الحميم.

(وَغَسَّاقاً) : أي ما يسيل من صديد أهل النار ، جوزوا به عقوبة لهم.

(جَزاءً وِفاقاً) : إذ لا ذنب أعظم من الكفر ، ولا عذاب أعظم من النار.

(كِذَّاباً) : أي تكذيبا.

(فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) : أي فوق عذابكم الذي أنتم فيه.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى آيات قدرته على البعث والجزاء الذي أنكره المشركون واختلفوا فيه ذكر في هذه الآيات عرضا وافيا للبعث الآخر وما يجري فيه ، وبدأ بذكر الأحداث للانقلاب الكوني ، ثم ذكر جزاء الطاغين تفصيلا فقال عزوجل (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي بين الخلائق (كانَ مِيقاتاً) (١) لما أعد الله للمكذبين بلقائه الكافرين بتوحيده المنكرين لرسالة نبيه فيه ، يجزيهم الجزاء الأوفى ، ثم ذكر تعالى أحداثا تسبقه فقال (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ) أي يوم ينفخ إسرافيل نفخة البعث وهي الثانية (فَتَأْتُونَ) أيها الناس (أَفْواجاً) أي جماعات. (وَفُتِحَتِ السَّماءُ) أي انشقت (فَكانَتْ أَبْواباً) لنزول الملائكة منها (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) هباء منبثا كالسراب في نظر الرائي. وقوله تعالى

__________________

(١) قال القرطبي : أي وقتا مجمعا للأولين والآخرين لما وعد الله من الجزاء وسمي بيوم الفصل لأن الله تعالى يفصل فيه بين الخلائق.

(إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً) (١) أي إنه بعد الحساب يأتي الجزاء وها هي ذي جهنم قد أرصدت واعدت فهي مرصاد ، مرصاد لمن؟ (لِلطَّاغِينَ) المتجاوزين الحد الذي حدد لهم وهو أن يؤمنوا بربهم ويعبدوه وحده ويتقربوا إليه بفعل محابه وترك مكارهه فتجاوزوا ذلك إلى الكفر بربهم والإشراك به وتكذيب رسوله وفعل مكارهه وترك محابه هؤلاء هم الطاغون الذي أرصدت لهم جهنم فكانت لهم مرصادا ومرجعا ومآبا (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (٢) أي دهورا ، (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً) (٣) أي نوما لأن النوم يسمى البرد في لغة بعض العرب ، (وَلا شَراباً) ذا لذة (إِلَّا حَمِيماً) وهو الماء الحار (وَغَسَّاقاً) وهو ما يسيل من صديد أهل النار (جَزاءً وِفاقاً) أي موافقا لذنوبهم لأنه لا أعظم من الكفر ذنبا ولا من النار عذابا ثم ذكر تعالى مقتضى هذا العذاب فقال (إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً) أي ما كانوا يؤمنون بالحساب ولا بالجزاء ولا يخافون من ذلك (وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً) أي بآياته وحججه تكذيبا زائدا. وقوله تعالى (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً) إذ كانت الملائكة تكتب أعمالهم وتحصيها عليهم فهم يتلقون جزاءهم العادل ويقال لهم توبيخا وتبكيتا وهم في أشد العذاب وأمره (فَذُوقُوا (٤) فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) فيعظم عندهم الكرب ويستحكم من نفوسهم اليأس. وهذا جزاء من تنكر لعقله فكفر بربه وآمن بالشيطان وعبد الهوى. والعياذ بالله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالطغيان وبيان جزاء الظالمين.

٢ ـ التنديد بالتكذيب بالبعث والمكذبين به.

٣ ـ أعمال العباد مؤمنهم وكافرهم كلها محصاة عليها ويجزون بها.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر آثارها.

٥ ـ أبدية العذاب في الدار الآخرة وعدم امكان نهايته.

__________________

(١) قال الحسن : إن على النار رصدا لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز عليه فمن جاء بجواز جاز ومن لم يجيء بجواز حبس والمرصاد : المكان للرصد أي الرقابة.

(٢) قال القرطبي : أي ماكثين في النار ما دامت الأحقاب وهي لا تنقطع كلما مضى حقب جاء حقب والحقب بضمتين والأحقاب الدهور والحقبة بالكسرة السنة والجمع حقب قال الشاعر :

كنا كندماني جذيمة حقبا

من الدهر حتى قيل لنا يتصدعا

فلما تفرقنا كأني ومالك

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

والحقب بالضم والسكون ثمانون سنة.

(٣) من شواهد البرد بمعنى النوم قول العرب منع البرد البرد. أي منع البرد النوم ومنه قول الشاعر :

ولو شئت حرمت النساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا

(٤) قال أبو برزة سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أشد آية في القرآن؟ فقال : قوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً).

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (٣١) حَدائِقَ وَأَعْناباً (٣٢) وَكَواعِبَ أَتْراباً (٣٣) وَكَأْساً دِهاقاً (٣٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (٣٥) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (٣٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (٣٧) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (٣٨) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (٣٩) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (٤٠))

شرح الكلمات :

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ) : أي الذين اتقوا الشرك والمعاصي خوفا من ربهم وعذابه.

(مَفازاً) : أي مكان فوز ونجاة وهو الجنة.

(حَدائِقَ وَأَعْناباً) : أي بساتين وأعنابا.

(وَكَواعِبَ) : أي شابات تكعبت ثديهن الواحدة كاعب والجمع كواعب.

(أَتْراباً) : أي في سن واحدة وأتراب جمع واحده ترب.

(وَكَأْساً دِهاقاً) : أي خمرا كأسها ملأى بها.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها) : أي في الجنة لغوا أي باطلا ولا كذبا من القول.

(عَطاءً حِساباً) : أي عطاء كثيرا كافيا يقال أعطاني فأحسبني.

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) : ملك عظيم يقوم وحده صفا والملائكة صفا وحدهم.

(مَآباً) : أي مرجعا سليما وذلك بالإيمان والتقوى إذ بهما تكون النجاة.

(ما قَدَّمَتْ يَداهُ) : أي ما أسلفه في الدنيا من خير وشر.

(يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) : أي حتى لا أعذب وذلك يوم يقول الله تعالى للبهائم كوني ترابا وذلك بعد الاقتصاص لها من بعضها بعضا.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء المستلزمة لعقيدة التوحيد والنبوة بعد أن

ذكر تعالى حال الطغاة الفجار وبين مصيرهم غاية البيان ثنى بذكر المتقين الأبرار وبين مصيرهم وأنه جنات تجري من تحتها الأنهار فقال وقوله الحق وخبره الصدق (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ (١) مَفازاً) أي مكان فوز ونجاح وبينه بقوله (حَدائِقَ) (٢) أي بساتين (وَأَعْناباً وَكَواعِبَ) جمع كاعب الفتاة ينكعب ثديها أي يستدير ويرتفع كالكعب وذلك عند بلوغها وقوله في وصفهن (أَتْراباً) جمع ترب أي في سن واحدة دون الثلاثين سنة (وَكَأْساً (٣) دِهاقاً) أي كأس خمر ملأى (لا يَسْمَعُونَ) أي في الجنة (لَغْواً وَلا كِذَّاباً) لا قولا باطلا ولا كذبا. وقوله تعالى (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) أي جزاهم ربهم بذلك فجعله عطاء كافيا و (٤) وصف الجبار نفسه تعليما وتذكيرا فأبدل من قوله من ربك : قوله (رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي مالكهما والمتصرف فيهما (الرَّحْمنِ) رحمان الدنيا والآخرة ورحيمها (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) ملك عظيم لا يقادر قدره وحده صفا (وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) هنا لا يملك أحد من الخلق من الرحمن خطابا وقوله (لا يَتَكَلَّمُونَ) بين يديه (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ (٥) الرَّحْمنُ وَقالَ) قولا (صَواباً) وفي الصحيح أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو أول من يكلم الله عزوجل في الموقف حيث يأتي تحت العرش فيخر ساجدا فلا يزال ساجدا يحمد الله تعالى بمحامد يلهمها ساعتئذ فيقول له الرب تعالى ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع وقوله تعالى (ذلِكَ (٦) الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لامرية فيه ولا شك وهو يوم الفصل وبناء عليه (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) أي مرجعا إليه بالإيمان والطاعة. وقوله تعالى (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) أي خوفناكم عذابا قريبا جدا يبتدىء بالموت ولا ينتهي أبدا ، وذلك (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير أو شر أي يرى جزاء عمله عيانا إن كان عمله خيرا جزي بمثله وإن كان شرا جزي بمثله. (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) إنه لما يرى البهائم بعد القصاص لها صارت ترابا يتمنى الكافر وهو في عذابه أن لو كان ترابا مثل البهائم ولو لا العذاب وشدته ودوامه لما تمنى أن يكون ترابا أبدا.

__________________

(١) المتقون هم الذين اتقوا الله فلم يشركوا به ولم يعصوه فحافظوا بذلك على زكاة نفوسهم فاستوجبوا لذلك الجنات واستحقوها فاللام للمتقين هي لام الاستحقاق.

(٢) (حَدائِقَ) بدل بعض من كل والحدائق جمع ، حديقة ، البستان : المحاط بجدار.

(٣) دهاقا بمعنى ملأى وهذا من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول فالدهاق كالدهق مصدر وأريد به المدهوق أي المملوء.

(٤) كافيا : تفسير كلمة حسابا إذ من أعطي ما يكفيه يقول حسبي.

(٥) الإذن اسم للكلام الذي يفيد إباحة فعل أو قول للمأذون ، وهو مشتق من أذن له إذا استمع إليه. نحو : (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ).

(٦) هذه الجملة كالفذلكة لما تقدم من وعد ووعيد وإنذار وتبشير سيق مساق التنويه بيوم الفصل الذي هو اليوم الحق الثابت قطعا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان كرامة المتقين وفضل التقوى.

٢ ـ وصف جميل لنعيم الجنة.

٣ ـ ذم الكذب واللغو وأهلهما.

٤ ـ بيان شدة الموقف وصعوبة المقام فيه.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٦ ـ الترغيب في العمل الصالح واجتناب العمل السيء الفاسد.

سورة النازعات

مكية وآياتها ست وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) : أي الملائكة تنزع أرواح الفجار والكفار عند الموت بشدة.

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) : أي الملائكة تنشط أرواح المؤمنين الصالحين نشطا أي تسلها برفق.

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) : أي الملائكة تسبح من السماء بأمر الله أي تنزل به إلى الأرض.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) : أي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة.

(فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) : أي الملائكة تدبر أمر الدنيا أي تنزل بتدبيره من لدن الله المدبر الحكيم.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) : أي النفخة الأولى نفخة الفناء التي يتزلزل كل شيء معها.

(تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) : أي النفخة الثانية.

(واجِفَةٌ) : أي خائفة قلقة.

(أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) : أي أنرد بعد الموت إلى الحياة إذ (١) الحافرة اسم لأول الأمر.

(تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) : أي رجعة إلى الحياة خاسرة.

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) : أي نفخة واحدة.

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) : أي بوجه الأرض أحياء سميت ساهرة لأن من عليها بها يسهر ولا ينام.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالنَّازِعاتِ (٢) غَرْقاً) الآيات هذا قسم عظيم أقسم تعالى به على أنه لا بد من البعث والجزاء حيث كان المشركون ينكرون ذلك حتى لا يقفوا عند حد في سلوكهم فيواصلوا كفرهم وفسادهم جريا وراء شهواتهم كل أيامهم وطيلة حياتهم كما قال تعالى (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ) فأقسم تعالى بخمسة أشياء وهي النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبرات ، ورجح أنهم أصناف من الملائكة وجائز أن يكون غير (٣) ذلك ولا حرج إذ العبرة بكونه تعالى قد أقسم ببعض مخلوقاته على أن البعث حق ثابت وواقع لا محالة ، وتقدير جواب القسم بلتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم إذ هو معهود في كثير من الإقسام في القرآن كقوله تعالى من سورة التغابن (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وسيتم ذلك البعث والجزاء (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٤) التي هي النفخة الأولى التي ترجف فيها العوالم كلها ويفنى فيها كل شيء ، ثم (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي النفخة الثانية وهي نفخة البعث من القبور أحياء وأن بين النفختين

__________________

(١) يقال : رجع فلان إلى حافرته أي في طريقه التي جاء فيها فحفرها برجليه وهو يمشي قال الشاعر :

أحافرة على صلع وشيب

معاذ الله من سفه وعار

أي أرجع إلى حالة الشباب بعد الصلع والشيب ، والشاهد في إنكاره الرجوع إلى حياته الأولى.

(٢) (النَّازِعاتِ) جمع نازعة وهي الجماعة من الملائكة والنزع هو اخراج الروح من الجسد مشبه بنزع الدلو من البئر. ولذا يقول فلان في حالة النزع للمحتضر وغرقا اسم مصدر عدل عن المصدر الذي هو إغراقا لمناسبة سبحا ونشطا وسبقا في الآيات ومعناه الإغراق في نزع الروح من أقصى الجسد.

(٣) إذ يرى بعضهم أنها النجوم ويرى بعضهم أنها جماعات الخيل الغازية ، والرماة أو الفرسان إلا أن الراجح أنها الملائكة ، فالنازعات الملائكة تنزع أرواح الكافرين والنشاطات تنشط أرواح المؤمنين نشطا تأخذها بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير والسابحات تسبح بأرواح المؤمنين ترفعها إلى الملكوت الأعلى ، فالسابقات الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء ، فالمدبرات ، الملائكة تقوم بتدبير ما أسند الله إليها كقبض الأرواح ، وإنزال الأمطار وإرسال الرياح ، ونفخ الأرواح إلى غير ذلك.

(٤) إطلاق الراجفة والرادفة على الصيحة إطلاق سائغ وهو إطلاق على مسببة الراجفة وهي الصيحة والرادفة التي جاءت بعدها وهي الصيحة الثانية.

أربعين سنة كما ذكر ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح وقوله تعالى (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي خائفة قلقة (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) أي أبصار أصحاب تلك القلوب خاشعة أي ذليلة خائفة. وقوله تعالى (يَقُولُونَ) أي منكرو البعث (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) أي أنرد بعد الموت إلى الحياة من جديد كما كنا أول مرة ، (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي بالية مفتتة وقولهم هذا استبعاد منهم للبعث وانكار له ، وقالوا (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) يعنون أنهم إذا عادوا إلى الحياة مرة أخرى فإن هذه العودة تكون خاسرة وهي بالنسبة إليهم كذلك إذ سيخسرون فيها كل شيء حتى أنفسهم كما قال تعالى قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين. وقوله تعالى (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) أي صيحة واحدة وهي نفخة اسرافيل الثانية نفخة البعث (فَإِذا هُمْ) أولئك المكذبون وغيرهم من سائر الخلق (بِالسَّاهِرَةِ) أي وجه الأرض وقيل فيها الساهرة لأن من عليها يومئذ لا ينامون بل يسهرون أبدا فرد تعالى بهذا على منكري البعث الآخر وقرره عزوجل بما لا مزيد عليه إعذارا وإنذارا ولا يهلك على الله إلا هالك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى يقسم بما يشاء من مخلوقاته بخلاف العبد لا يجوز له أن يقسم بغير ربه تعالى.

٢ ـ بيان أن روح المؤمن تنزع عند الموت نزعا سريعا لا يجد من الألم ما يجده الكافر.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بالإقسام عليها وذكر كيفية وقوعها.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦))

شرح الكلمات :

(مُوسى) : أي موسى بن عمران عليه‌السلام.

(بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) : أي بالواد الطاهر المبارك المسمى بطوى.

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) : أي بأن اذهب إلى فرعون.

(إِنَّهُ طَغى) : أي تجاوز حده كعبد إلى ادعاء الربوبية والألوهية.

(إِلى أَنْ تَزَكَّى) : أي تسلم فتطهر من رجس الشرك والكفر بالإسلام لله تعالى.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) : أي أرشدك إلى معرفة ربك الحق فتخشاه وتطيعه فتنجو من عذابه.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) : أي العصا واليد إذ هي من أكبر الآيات الدالة على صدق موسى.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) : أي بعد ما كذب وعصى رجع يجمع جموعه ويحشر جنوده لحرب موسى وقال كلمة الكفر أنا ربكم الأعلى فلا طاعة إلا لي.

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) : أي عذبه تعالى عذاب الآخرة وهو قوله أنا ربكم الأعلى وعذاب الأولى وهي قوله ما علمت لكم من إله غيري.

معنى الآيات :

قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) الآيات .. المقصود من هذه الآيات تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعاني من تكذيب قومه له ولما جاء به من التوحيد والشرع فقص تعالى عليه طرفا من قصة موسى مع فرعون تخفيفا عليه ، وتهديدا لقومه بعقوبة تنزل بهم كعقوبة فرعون الذي كان أشد منهم بطشا وقد أهلكه الله فأغرقه وجنده .. فقال تعالى (هَلْ أَتاكَ) (١) يا رسولنا (حَدِيثُ مُوسى) بن عمران ، (إِذْ (٢) ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) أي بالواد المطهر المبارك المسمى طوى ناده فأعلمه أولا أنه لا إله إلا هو وأمره بعبادته ، ثم أمره بأن يذهب إلى فرعون الوليد بن الريان ملك القبط بمصر فقال له (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي عتا وتكبر وظلم فأفحش في الظلم والفساد. وعلمه ما يقول له إذا انتهى إليه (فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) (٣) أي إلى أن تسلم فتزكو روحك وتطهر بالإسلام (وَأَهْدِيَكَ (٤) إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) أي وأرشدك إلى ربك وأعرفك به فتخشى أي عقابه فتترك الظلم والطغيان قال تعالى (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) والتي هي اليد والعصا ، (فَكَذَّبَ) فرعون موسى في دعوته (وَعَصى) ربه

__________________

(١) هل الاستفهام هنا صوري المراد به تشويق السامع إلى الخبر ولذا استعمل فيه هل التي هي بمعنى قد للتحقيق أي قد أتاك حديث موسى العجيب فاستمع.

(٢) (إِذْ) اسم زمان بدل اشتمال من حديث موسى.

(٣) قرأ نافع تزكى بتشديد الزاي وقرأ حفص بتخفيفها فمن شددها أدغم فيها إحدى تائي تتزكى ومن خفف حذف احدى التائين لأن أصل الفعل تتزكى بتائين.

(٤) الهداية : الدلالة على الطريق الموصل إلى المطلوب إذا سلكه المرء وصل إلى مرغوبه.

فلم يستجب له ولم يطعه فيما أمره به ودعاه إليه من الإيمان برسالة موسى وإرسال بني إسرائيل معه بعد الإسلام لله ظاهرا وباطنا. (ثُمَّ أَدْبَرَ) فرعون أي عن دعوة الحق رافضا لها (يَسْعى) في الباطل والشر (فَحَشَرَ) رجاله وجنده (فَنادى) أي ناداهم ليعدهم إلى حرب موسى (فَقالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) يعني أنه لا رب فوقه ، (فَأَخَذَهُ اللهُ) أي عذبه (نَكالَ) أي (١) عذاب (الْآخِرَةِ) أي الكلمة وهي قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ونكال الأولى وهي قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) وبين الكلمتين الخبيثتين أربعون سنة فالأولى قالها في بداية الدعوة حيث ادعى أنه بحث واستقصى في البحث واجتهد وأنه بعد كل ذلك الاجتهاد لم يعلم أن للناس من قومه من إله سواه. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ (٢) يَخْشى) أي فيما قص تعالى من خبر موسى وفرعون (لَعِبْرَةً) أي عظة لمن يخشى الله وعذاب الدار الآخرة فيؤمن ويتقي أي فيزداد إيمانا وتقوى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تسلية الداعي إلى الله تعالى وحمله على الصبر في دعوته حتى ينتهي بها إلى غاياتها.

٢ ـ اثبات مناجاة موسى لربه تعالى وأنه كلمه ربه كفاحا بلا واسطة.

٣ ـ تقرير أن لا تزكية للنفس البشرية إلا بالإسلام أي بالعمل بشرائعه.

٤ ـ لا تحصل الخشية من الله للعبد إلا بعد معرفة الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء.

٥ ـ وجود المعجزات لا يستلزم الإيمان فقد رأى فرعون أعظم الآيات كالعصا واليد وما آمن.

٦ ـ التنديد والوعيد الشديد لمن يدعي الربوبية والألوهية فيأمر الناس بعبادته.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣))

__________________

(١) النكل القيد قال تعالى (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) جمع نكل ويطلق النكال على العذاب والهروب منه وأخذ منه فعل نكل تنكيلا أي عذبه تعذيبا فنكال الأولى أي عذاب الأولى ونكال الآخرة عذاب الآخرة كما هو مبين في التفسير.

(٢) (لِمَنْ يَخْشى) : أي يخشى الله تعالى وهو المؤمن التقي إذ مثله النفسي هو الذي يجد العظة والعبرة فيما يعرض عليه من أحداث فاصلة أما الكافر فأنى له أن يسمع حتى يبصر؟

شرح الكلمات :

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ)؟ : أي أشد خلقا.

(رَفَعَ سَمْكَها) : أي غلظها وارتفاعها.

(فَسَوَّاها) : أي جعلها مستوية سطحا واحدا ما فيها نتوء ولا انخفاض.

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها) : أي أظلمه جعله مظلما.

(وَأَخْرَجَ ضُحاها) : أي ضوءها ونهارها.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) : أي بعد أن خلق الأرض خلق السماء ثم دحا الأرض أي بسطها وأخرج منها ماءها ومرعاها.

(وَالْجِبالَ أَرْساها) : أي أثبتها على سطح الأرض لتثبت ولا تميد بأهلها.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) : أي اخرج من الأرض ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم وهي المواشي من الحيوان.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ (١) خَلْقاً) الآيات .. سيقت هذه الآيات الكريمة لتقرير عقيدة البعث والجزاء بايراد أكبر دليل عقلي لا يرده العاقل ابدا وهو أن السماء في خلقها وما خلق الله فيها ، وأن الأرض في خلقها وما خلق الله فيها أشد خلقا وأقوى وأعظم من خلق الإنسان بعد موته فالبشرية كلها لا يساوي حجمها حجم كوكب واحد من كواكب السماء ولا سلسلة واحدة من سلاسل الجبال في الأرض فضلا عن السماء والأرض. إذا فالذي قدر على خلق السماء وما فيها والأرض وما فيها قادر قطعا ومن باب أولى على خلق الإنسان مرة أخرى وقد خلقه أولا فإعادة خلقه بإحيائه بعد موته أيسر وأسهل وأمكن من خلقه أولا على غير مثال سبق ، ولا صورة تقدمت ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون لأنهم لا يفكرون وهذا عرض الآيات قوله تعالى (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) أيها المنكرون للبعث المكذبون به (أَمِ السَّماءُ) (٢) والجواب الذي لا شك فيه هو أن السماء أشد خلقا منهم وبيان ذلك فيما يلي :

١ ـ (بَناها) فهي سقف للأرض مرفوعة فوقها مسواة فلا انفطار فيها ولا ارتفاع لبعض وانخفاضا لبعض آخر بل هي كالزجاجة في سمتها واعتدالها في خلقها.

__________________

(١) الاستفهام تقريري أي الجاؤهم إلى الإقرار والإعتراف بأن خلق السماء أعظم من خلقهم إذا كيف ينكرون البعث والحياة الثانية.

(٢) المراد بالسماء السماء الدنيا المشاهدة للناس ، وإن كان لفظ السماء يطلق إطلاق أسماء الأجناس الدالة على أكثر من واحد والبناء للسماء وهو خلقها في صورة بناء رفيع.

٢ ـ (رَفَعَ سَمْكَها) (١) فإن غلظها مقدر بمسيرة خمسمائة عام.

٣ ـ (أَغْطَشَ لَيْلَها) فجعله مظلما.

٤ ـ (وَأَخْرَجَ ضُحاها) فجعل نهارها مضيئا. هذه هي السماء.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد (٢) أن خلقها أولا وقبل السماء عاد إليها فدحاها بأن بسطها للأنام

و (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها) ففجر فيها عيونها وأخرج منها مرعى وهو ما يرعى من سائر الحبوب والثمار والنبات والأشجار منفعة للإنسان ولحيوانه المفتقر إليه في ركوبه (٣) وطعامه وشرابه وما ذكر تعالى من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة في الأرض لا يقل عما ذكر في السماء إن لم يكن أعظم فكيف إذا ينكر الإنسان على ربه أن يعيده حيا بعد إماتته له ليحاسبه وليجزيه إنه بدل أن ينكر يجب عليه أن يشكر ، ولكن الإنسان ظلوم كفار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على الإنسان وإنعامه عليه.

٣ ـ مشروعية الاستدلال بالكبير على الصغير وبالكثير على القليل وهو مما يعلم بداهة وبالضرورة إلا أن الغفلة أكبر صارف وأقوى حايل فلا بد من إزالتها أولا.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى

__________________

(١) السمك يفتح السين وتسكين الميم الرفع في الفضاء ، وهو مصدر سمك إذا رفع والسمك محرك السين والميم الحوت المعروف واحده سمكة كبقرة.

(٢) اختلف في أيها خلق الله تعالى أولا الأرض أم السماء والراجح أنها الأرض أولا لقوله (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ..). إلى قوله (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) الآية من سورة فصلت. وطريق الجمع كما في التفسير خلق الأرض أولا ثم السموات ثم عاد إلى الأرض فدحاها بمعنى أخرج منها ماءها ومرعاها أي أعدها إعدادا خاصا لحياة الإنسان والحيوان وهو المراد من قوله دحاها إذ الدحو البسط والتسوية والترتيب.

(٣) إذ هو المراد من قوله تعالى هي الآية (وَلِأَنْعامِكُمْ) التي هي الإبل والبقر والغنم فالإبل يركب ظهرها ، ويشرب لبنها ويؤكل لحمها.

(٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦))

شرح الكلمات :

(الطَّامَّةُ الْكُبْرى) : أي النفخة الثانية وأصل الطامة الداهية التي تعلو على كل داهية.

(ما سَعى) : أي ما عمل في الدنيا من خير وشر.

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) : أي كفر وظلم.

(وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) : أي باتباع الشهوات.

(فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) : أي النار مأواه.

(مَقامَ رَبِّهِ) : أي قيامه بين يديه ليسأله عما قدم وأخر.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) : أي المردى المهلك باتباع الشهوات.

(فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) : أي مأواه الذي يأوي إليه بعد الحساب.

(عَنِ السَّاعَةِ) : أي القيامة للحساب والجزاء.

(أَيَّانَ مُرْساها) : أي أي متى وقوعها وقيامها.

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) : أي في أي شيء من ذكراها أي ليس عندك علمها حتى تذكرها.

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) : أي منتهى علمها إلى الله وحده فلا يعلمها سواه.

(لَمْ يَلْبَثُوا) : أي في قبورهم.

(إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) : أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية.

معنى الآيات :

بعد أن بين تعالى مظاهر قدرته في حياة الناس وما خلق لهم فيها تدليلا على البعث والجزاء وذكر في هذه الآيات مظاهر قدرته في معادهم تدليلا على قدرته على بعثهم بعد موتهم ومحاسبتهم ومجازاتهم فقال عز من قائل (فَإِذا) (١) (جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) أي القيامة وسميت بالطامة الكبرى لأنها تطم على (٢) كل شيء ولا يعظمها شيء لا ريح عاد ولا صيحة ثمود ولا رجفة يوم الظلة. (يَوْمَ

__________________

(١) فالفاء للتفريع عما تقدم إن تقدم مظاهر قدرته في الكون والحياة تدليلا على قدرته على البعث والجزاء ففرع عنه بيان أحوال البعث وما يجري فيه تقريرا له ووقوفا بالمنكرين له على مصيرهم فيه مبالغة في طلب هدايتهم وإقامة الحجة عليهم.

(٢) أصل الطامة الحادثة التي تطم أي تلو وتغلب أمثالها من الأحداث الجسام والمراد بها هنا القيامة ، قال سفيان الطامة هي الساعة التي يسلم فيها أهل النار للزبانية قال الشاعر :

إن بعض الحب يعمي ويصم

وكذاك البغض أدهى وأطم

يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) من خير أو شر لأنه أيقن انه محاسب ومجزي بعمله. (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) أي أبرزها فظهرت لمن يراها لا يخفيها شيء. والناس بعد ذلك مؤمن وكافر والطريق طريقان طريق جنة وطريق نار. (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي عتا عن أمر ربه فعصاه ولم يطعه بأداء فرائضه واجتناب نواهيه. (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على الآخرة فعمل للدنيا وصرف كل جهده وطاقته لها ، ولم يعمل للآخرة فما صام ولا صلى ولا تصدق ولا زكى (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) أي مأواه ومستقره ومثواه شرابه الحميم وطعامه الزقوم (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) وهو الوقوف بين يديه لمساءلته ومجازاته فأدى الفرائض واجتنب النواهي ، (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) أي نفسه عن هواها فلم يجبها في هوى يبغضه الله ولم يطعها في شيء حرمه الله (فَإِنَّ الْجَنَّةَ) دار السلام والأبرار والمتقين الأخيار هي مأواه ولنعم المأوى هي حيث العيون الجارية والسرر المرفوعة والأكواب الموضوعة والنمارق المصفوفة والزرابي المبثوثة والكواعب العرب الأتراب ولقاء الأحباب (١). وقوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) أي يسألك يا رسولنا المنكرون للبعث عن الساعة أي قيامها ومتى رسوها وثبوتها وهي كالسفينة سائرة ليل نهار متى ترسو؟ (فِيمَ) (٢) أي في أي شيء (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي ليس عندك علمها فتذكرها لهم (إِلى رَبِّكَ) وحده علم وقت مجيئها وساعة رسوها لتنقل الناس من دنياهم إلى آخرتهم ، وبذلك تنتهي رحلتهم ويستقر قرارهم. وينتهي ليلهم ونهارهم. وقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) أي ليس إليك يا رسولنا علمها ولا منتهى أمر ما إنما أنت مهمتك غير ما يطلب منك إنها انذار من يخشى الساعة ويخاف حلولها لإيمانه بها وبما يكون فيها من تعيم وجحيم أما من لا يؤمن بها فهو لا يخافها وسؤاله عنها سؤال استهزاء ، فلا تحفل بهم ولا تهتم لهم فإنهم يوم يرونها كأن لم يلبثوا في دنياهم هذه وقبورهم (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) أي عشية يوم أو ضحى تلك العشية لما يستقبلون من أهوال الموقف وفظائع العذاب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر أحوالها وصفاتها.

٢ ـ الناس يوم القيامة مؤمن تقي في الجنة ، وكافر وفاجر في النار.

٣ ـ بيان استئثار الله تعالى بعلم الغيب والساعة.

٤ ـ بيان أي الشدائد ينسى بعضها بعضا فإن عذاب القبر يهون أمام عذاب النار.

__________________

(١) كل ما ذكر من قولنا العيون إلى لقاء الأحباب هو من القرآن. يروى أن بلالا وهو في سياقة الموت يغمى عليه فإذا أفاق ووجد امرأته تبكي : يقول لها لا تبكي : غدا ألقى الأحبه محمدا وصحبه.

(٢) اسم استفهام أريد به الإنكار مشوبا بالتعجب من إلحاح المشركين على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعين لهم وقتها.

سورة عبس

مكية وآياتها ثنتان وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

شرح الكلمات :

(عَبَسَ) : أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعنى كلح وجهه وتغير.

(وَتَوَلَّى) : أي أعرض.

(أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) : أي لأجل أن جاء عبد الله بن أم مكتوم فقطعه عما هو مشغول به من دعوة بعض أشراف قريش للإسلام.

(لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) : أم يتطهر من الذنوب.

(أَوْ يَذَّكَّرُ) : أي يتعظ.

(فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) : أي الموعظة.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) : عن الإيمان والعلم والدين بالمال والجاه.

(فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) : أي تقبل عليه وتتصدى له.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) : أي ليس عليك بأس في عدم تزكيته نفسه بالإسلام.

(يَسْعى) : أي في طلب الخير من العلم والهدى.

(فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) : أي تشاغل.

(كَلَّا) : أي لا تعد لمثل ذلك.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ) : أي الآيات عظة للخلق.

(مُكَرَّمَةٍ) : أي عند الله.

(مَرْفُوعَةٍ) : أي في السماء.

(مُطَهَّرَةٍ) : أي منزهة عن مس الشياطين.

(بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) : كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ.

(كِرامٍ بَرَرَةٍ) : مطيعين لله وهم الملائكة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) (٢) هذا عتاب لطيف يعاتب به الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالذي عبس بمعنى قطب وجهه وأعرض هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأعمى الذي لأجله عبس رسول الله وأعرض عنه هو عبد الله بن أم مكتوم الأعمى أحد المهاجرين ابن خال خديجة بنت خوليد أم المؤمنين. وسبب هذا العتاب الكريم أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في مكة يوما ومعه صناديد قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف يدعوهم إلى الإسلام مجتهدا معهم يرغبهم ويرهبهم طمعا في إسلامهم فجاء عبد الله بن أم مكتوم ينادي يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله وكرر ذلك مرارا فانزعج لذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قطعه لحديثه مع القوم فعبس وتولى عنه لا يجيبه ، وما إن عاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى منزله حتى نزلت هذه الآيات (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي قطب وأعرض (أَنْ (٣) جاءَهُ الْأَعْمى وَما يُدْرِيكَ) أي وما يعلمك أنه (يَزَّكَّى) (٤) بما يطلب من القرآن والسنة أي يريد زكاة نفسه وتطهير روحه بما يتعلمه منك ، (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى). أي وما يعلمك لعله بندائه لك وطلبه منك أن يتذكر بما يسمع منك فيتعظ به وتنفعه الذكرى منك. وقوله تعالى (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) أي عن الإيمان والإسلام وما عندك من العلم بالله والمعرفة استغنى بماله وشرفه في قومه (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (٥) أي تتعرض له مقبلا عليه (وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) أي وأي شيء يلحقك من الأذى إن لم يتزك ذاك المستغنى عنك بشرفه وماله. وكرر تعالى العتاب بالكلمات العذاب (٦) فقال (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ

__________________

(١) (عَبَسَ) : أي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعنى عبس قطب ما بين عينيه كراهية لما نابه وحصل له مما أزعجه.

(٢) انظر مضمون هذه الآية في قوله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ.). الآية وأخرى (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) الآية. الأولى من سورة الأنعام والثانية من الكهف.

(٣) (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) : مجرور بحرف جر محذوف وهو اللام أي لأن جاءه وهذا الحذف مطرد وأصل التركيب لأجل مجيء الأعمى له.

(٤) (يَزَّكَّى) أصلها يتزكى أي يطلب التزكية لنفسه فأدغمت التاء في الزاي فصارت يزكى.

(٥) قرأ نافع تصدى بتشديد الصاد والدال معا ، وقرأ حفص بتخفيف الصاد ، فمن شدد أدغم إحدى التائين في الصاد ومن خفف حذفها.

(٦) العذاب : جمع عذبه بمعنى الحلوة الطيبة إذ كل حلو طيب هو عذب.

يَخْشى) جاءك مسرعا يجري وراءك يناديك بأحب الأسماء إليك يا رسول الله والحال انه يخشى الله تعالى ويخاف عقابه فلذا هو يطلب ما يزكي به نفسه ليقيها العقاب والعذاب (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١) أي تتشاغل بغيره (كَلَّا) أي لا تفعل مثل هذا مرة أخرى. وقوله تعالى (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي هذه الآيات وما تحمل من عتاب حبيب إلى حبيب موعظة (فَمَنْ شاءَ) من عباد الله (ذَكَرَهُ) أي ذكر هذا الوحي والتنزيل (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء مطهرة منزهة عن مس الشياطين لها (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي مطيعين لله صادقين هم الملائكة كتبة ينسخونها من اللوح المحفوظ وما أقرب هذا الوصف من مؤمن كريم النفس طاهر الروح يحفظ كتاب الله ويعمل به بيده مصحف يقرأه ويرتل كلام الله فيه وقد جاء في الصحيح (٢) أن هذا العبد الذي وصفت مع السفرة الكرام البررة. اللهم اجعلني منهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنه أشرف مقام وأسماه دل على ذلك أسلوب عتاب الله تعالى له حيث خاطبه في أسلوب شخص غائب حتى لا يواجهه بالخطاب فيؤلمه فتلطف معه ، ثم أقبل عليه بعد أن أزال الوحشة يخاطبه وما يدريك.

٢ ـ إثبات ما جاء في الخبر أدبني ربي فأحسن تأديبي فقد دلت الآيات عليه.

٣ ـ بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأديب ربه له مستوى لم يبلغه سواه ، فقد كان إذ جاءه ابن أم مكتوم يوسع له في المجلس ويجلسه إلى جنبه ويقول له مرحبا بالذي عاتبني ربي (٣) من اجله وولاه على المدنية مرات ، وكان مؤذنا له في رمضان.

٤ ـ استحالة كتمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشيء من الوحي فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لو كان للرسول أن يكتم شيئا من وحي الله لكتم عتاب الله تعالى له في عبس وتولى.

__________________

(١) (تَلَهَّى) : أصلها تتلهى حذفت إحدى التائين تخفيفا ، وتلهى تطلب التلهي أو حصل له وهو الانشغال بشيء وترك الآخر.

(٢) في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة ، ومثل الذي يقرأه وهو يتعاهده وهو عليه شاق شديد فله أجران.

(٣) قال الثوري فكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم يبسط له رداءه ويقول مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ويقول : هل من حاجة؟ واستخلفه بالمدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس فرأيته يوم القادسية راكبا وعليه درع وراية سوداء.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

شرح الكلمات :

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) : لعن الإنسان الكافر.

(١) (ما أَكْفَرَهُ) : أي ما حمله على الكفر؟.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) : من نطفة خلقه.

(فَقَدَّرَهُ) : أي من نطفة إلى علقة إلى مضغة فبشر سوي.

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) : أي سبيل الخروج من بطن امه.

(إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) : أي إذا شاء إحياءه أحياه.

(كَلَّا) : حقا أو ليس الأمر كما يدعي الإنسان أنه أدى ما عليه من الحقوق.

(لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) : أي ما كلفه به من الطاعات والواجبات في نفسه وماله.

(إِلى طَعامِهِ) : أي كيف قدر ودبر له.

(حَبًّا وَعِنَباً) : أي الحب الحنطة والشعير والعنب هو المعروف.

(وَقَضْباً) : أي القت الرطب وسمي قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد مرة.

(وَحَدائِقَ غُلْباً) : أي كثيرة الأشجار والواحدة غلباء كحمراء كثيفة الشجر.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) : أي ما يتفكه به من سائر الفواكه والأب التبن وما ترعاه البهائم.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) : أي ما تقدم ذكره منفعة لكم ولأنعامكم التي هي الإبل والبقر والغنم.

__________________

(١) جائز أن تكون ما تعجبية إذ من عادة العرب إذا تعجبوا من شيء قالوا فيه قاتله الله ما أحسنه أو ما أقبحه أو ما أجرأه مثلا.

أي أعجبوا لخلقه من نطفة مع كفره بربه.

معنى الآيات :

بعدما عاتب الرب تبارك وتعالى رسوله على انشغاله بأولئك الكفرة المشركين وإعراضه عن ابن أم مكتوم الأعمى فكان أولئك المشركون هم السبب في إعراض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ابن أم مكتوم وفي عتاب الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاستوجبوا لذلك لعنة الله تعالى عليهم لكفرهم وكبريائهم جرد الله تعالى شخصا منهم غير معلوم والمراد كل كافر متكبر مثلهم فقال (قُتِلَ الْإِنْسانُ) أي الكافر (ما أَكْفَرَهُ) أي ما حمله على الكفر والكبر. فلينظر (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ربه الذي يكفر به؟ إنه خلقه (مِنْ نُطْفَةٍ) قذرة (خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي أطوارا نطفة فعلقة فمضغة. أمن كان هذا حاله يليق به أن يكفر ويتكبر ويستغني عن الله؟ فلينظر إلى مبدئه ومنتهاه وما بينهما مبدأه نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة. وهو بينهما حامل عذرة. كيف يكفر وكيف يتكبر؟ وقوله تعالى (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) فلو لا أن الله تعالى يسر له طريق الخروج من بطن أمه والله ما خرج. (ثُمَّ أَماتَهُ) بدون استشارته ولا أخذ رأيه (فَأَقْبَرَهُ) (١) هيأ له من يقبره وإلا لأنتن وتعفن وأكلته الكلاب ، (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢) كَلَّا) (٣). أما يصحو هذا المغرور أما يفيق هذا المخدوع. (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) فما له لا يقضي ما أمره ربه من الإيمان به وطاعته (فَلْيَنْظُرِ) هذا (الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) (٤) الذي حياته متوقفة عليه كيف يتم له بتقدير الله تعالى وتدبيره لعله يذكر فيشكر (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالبر والشعير والذرة وسائر الحبوب المقتاتة (وَعِنَباً) يأكله رطبا ويابسا (وَقَضْباً) وهو القت الرطب يقضب أي يقطع مرة بعد مرة وهو علف البهائم ، (وَزَيْتُوناً) يأكله حبا ويدهن به زيتا (وَنَخْلاً) يأكله ثمرة بسرا ورطبا وتمرا (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي بساتين ملتفة الأشجار كثيرتها الواحدة غلباء (٥) (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الفاكهة لكم والأب علف لدوابكم (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي هذه المذكورات بعضها متاعا لكم أي منافع تتمتعون بها وبعضها لأنعامكم وهو القضب والأب منفعة لها تعيش عليها فبأي وجه تكفر ربك يا أيها الإنسان الكافر؟

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته وهي مقتضية للإيمان به وبآياته ورسوله ولقائه.

__________________

(١) يقال قبره إذا دفنه وأقبره إذا هيأ له من يقبره.

(٢) أنشره ونشره بمعنى واحد أي أحياه بعد موته وسيشاء ذلك فينشره يوم القيامة للحساب والجزاء.

(٣) لأهل العلم في حقيقة (كَلَّا) هذه كلام طويل واختلاف كبير والراجح أنها كما هي الغالب فيها أنها للردع أي ردع له على كفره واستمرار غفلته وإعراضه وجهله وعدم علمه ، وجملة لما يقض بيانية أي بيان علة كفره وعناده وهي انه لم يقض ما أمر به من النظر والتأمل ولو فعل ذلك لعرف واهتدى ، ومن هنا أمره أن ينظر إلى طعامه.

(٤) هناك لطيفة تستشف من هذه الآية وهي أن طعام الإنسان كالمثل للدنيا في مبدئها ومنتهاها فإن طعامه وإن ملحه وفلفله فإنه يصير إلى عذرة منتنة.

(٥) يقال للأسد الأغلب لأنه مصمت العنق لا يلتفت إلا جمعا.

٢ ـ الاستدلال بالصنعة على الصانع. وأن أثر الشيء يدل عليه ، ولذا يتعجب من كفر الكافر بربه وهو خلقه ورزقه وكلأ حياته وحفظ وجوده إلى أجله.

٣ ـ بيان أن الإنسان لا يزال مقصرا في شكر ربه ولو صام الدهر كله وصلى في كل لحظة من لحظاته.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

شرح الكلمات :

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) : أي النفخة الثانية.

(وَصاحِبَتِهِ) : أي زوجته.

(شَأْنٌ يُغْنِيهِ) : أي حال تشغله عن شأن غيره.

(مُسْفِرَةٌ) : أي مضيئة.

(عَلَيْها غَبَرَةٌ) : أي غبار.

(تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) : أي ظلمة من سواد ومعنى ترهقها تغشاها.

(الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) : أي الجامعون بين الكفر والفجور.

معنى الآيات :

بعدما بين تعالى بداية أمر الإنسان في حياته ومعاشه فيها ذكر تعالى معاده ومآله فيها فقال عز من قائل (فَإِذا جاءَتِ (١) الصَّاخَّةُ) وهي القيامة ولعل تسميتها بهذا الاسم الصاخة نظرا إلى نفخة الصور التي تصخ الآذان أى تصمها بمعنى تصيبها بالصمم لشدتها. وهي النفخة الثانية وقوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ) (٢) (وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ) أي زوجته (وَبَنِيهِ) وهؤلاء أقرب الناس إليه

__________________

(١) الفاء للتفريع هذا الكلام متفرع على ما قبله كما في التفسير أنه بعد أن ذكر الإنسان بمبدأ خلقه ومنتهى حياته في الدنيا فرع على ذلك بيان حياته الآخرة ومصيره فيها.

(٢) قال بعضهم أول من يفر يفر قابيل من أخيه هابيل ، وقال الحسن أول من يفر يوم القيامة ابراهيم يفر من أبيه ونوح من ابنه ولوط من امرأته.

ومع هذا يفر عنهم أي يهرب خشية أن يطالبوه بحق لهم عليه فيؤخذ به. وقوله تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ (١) مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ) أي حال وأمر (يُغْنِيهِ) عن السؤال عن غيره ولو كان أقرب قريب إليه. هنا ورد أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائلة يا نبي الله كيف يحشر الرجال؟ قال حفاة عراة ، ثم انتظرت ساعة فقالت يا نبي الله كيف يحشر النساء؟ قال كذلك حفاة عراة قالت واسوأتاه من يوم القيامة : قال وعن ذلك تسألين إنه قد نزلت علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أم لا قالت أي آية هي يا نبي الله قال (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). وقوله تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) (٢) أي مضيئة مشرقة (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) وهي وجوه المؤمنين والمؤمنات أهل التقوى وجوههم حسنة مشرقة بالأنوار مستبشرون بالقدوم على ربهم والنزول بجواره الكريم. (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي تقوم القيامة ويحشر الناس لفصل القضاء (عَلَيْها غَبَرَةٌ) أي غبار (تَرْهَقُها) أي تغشاها (قَتَرَةٌ). أي ظلمة وسواد (أُولئِكَ) أي الذين عليهم الغبرة وتغشاهم القترة (هُمُ الْكَفَرَةُ) في الدنيا (الْفَجَرَةُ) فيها الذين عاشوا على الكفر والفجور وماتوا على ذلك والفجور هو الخروج عن طاعة الله تعالى بترك الواجبات وغشيان المحرمات كالربا والزنا وسفك الدماء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان شدة الهول يوم القيامة يدل عليه فرار المرء من أقربائه.

٢ ـ خطر التبعات على العبد يوم القيامة وهي الحقوق التي يطالب بها العبد يوم القيامة.

٣ ـ شدة الهول والفزع تنسي المرء يوم القيامة أن ينظر إلى عورة أحد من أهل الموقف.

٤ ـ ثمرة الإيمان والتقوى تظهر في الموقف نورا على الوجه وإشراقا له وإضاءة وثمرة الكفر والفجور تظهر ظلمة وسوادا على الوجه وغبارا.

٥ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بعرض صورة من صورها.

__________________

(١) روى الترمذي وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال يحشرون حفاة عراة غرلا فقالت امرأة أينظر بعضنا بعضا؟ قال يا فلانة لكل امرء منهم يومئذ شأن يغنيه. غرلا : جمع أغرل وهو من لم تؤخذ غلفة ذكره بالختان.

(٢) مسفرة من طول قيام الليل والضرب في سبيل الله يقال أسفر الصبح إذا أضاء وأسفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها.

سورة التكوير

مكية وآياتها تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

شرح الكلمات :

(إِذَا) : أي ظرف لما ذكر بعد من المواضع الأثنى عشر ، وجوابها علمت نفس ما أحضرت.

(كُوِّرَتْ) : أي لفت وذهب بنورها.

(انْكَدَرَتْ) : أي انقضت وتساقطت على الأرض.

(سُيِّرَتْ) : ذهب بها عن وجه الأرض فصارت هباء منبثا.

(وَإِذَا الْعِشارُ) : أي النوق الحوامل.

(عُطِّلَتْ) : أي تركت بلا راع أو بلا حلب لما دهاهم من الأمر.

(الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) : أي جمعت وماتت.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) : أي أوقدت فصارت نارا.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) : أي قرنت بأجسادها ثم بقرنائها وأمثالها في الخير والشر.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ) : أي البنت تدفن حية خوف العار أو الحاجة.

(سُئِلَتْ) : أي تبكيتا لقاتلها.

(بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) : أي بلا ذنب.

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) : أي صحف الأعمال فتحت وبسطت.

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) : أي نزعت من أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) : أي النار أججت.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) : أي قربت لأهلها ليدخلوها.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) : أي كل نفس وقت هذه المذكورات ما أحضرت من خير وشر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) إلى قوله علمت نفس ما أحضرت اشتمل على اثنى عشر حدثا جللا ، ستة أحداث منها في الدنيا وستة في الآخرة وكلها معتبرة شرطا لجواب واحد وهو قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي من خير وشر لتجزي به والسياق كله في تقرير عقيدة البعث والجزاء التي انكرها العرب المشركون وبالغوا في إنكارها مبالغة شديدة وكونها عليها مدار إصلاح الفرد والجماعة وأنه بدونها لا يتم إصلاح ولا تهذيب ولا تطهير عني القرآن بها عناية فائقة ويدل لذلك أن فواتح سور والصافات والذاريات والطور والمرسلات والنازعات والتكوير والانفطار والانشقاق والبروج والفجر كل هذه بما فيها من إقسامات عظيمة هي لتقرير عقيدة البعث والجزاء.

وهذه الأحداث الستة التي تقع في الدنيا وهي مبادىء الآخرة :

١) تكوير (١) الشمس بلفها وذهاب ضوئها.

٢) انكدار (٢) النجوم بانقضائها وسقوطها على الأرض.

٣) تسيير الجبال بذهابها عن وجه الأرض واستحالتها إلى هباء يتطاير.

٤) تعطيل العشار (٣) وهي النوق الحوامل فلا تحلب ولا تركب ولا ترعى لما أصاب أهلها من الهول والفزع وكانت أفضل أموالهم وأحبها إلى نفوسهم.

٥) حشر الوحوش وموتها وهي دواب البر قاطبة.

٦) تسجير (٤) البحار باشتعالها نارا.

وهذه الأحداث الستة التي تقع في الآخرة :

__________________

(١) قال أبو عبيدة : كورت مثل تكوير العمامة فتلف وقال الربيع كورت ورمي بها.

(٢) انكدرت تهافتت وتناثرت ، وقال أبو عبيدة انصبت كما ينصب العقاب إذا انكسر قال العجاج يصف صقرا :

أبصر خربان فضاء فانكدر

تقضي الباز إذا البازي كسر

(٣) العشار واحدها عشراء وهي التي مضى على حملها عشرة أشهر ثم لا يزال اسمها كذلك حتى تضع.

(٤) أو جائز أن يكون تسجير البحار فيضانها بتجاوز مياهها معدل سطوحها ، وجائز أن تشتعل فيها النار فتحترق ، وظاهرة وجود البترول تحت سطحها تدل على أنها تحترق وتسجر كما يسجر التنور.

١) تزويج النفوس وهو قرنها بأجسادها بعد خلق الأجساد لها ، وبعد ذلك بأمثالها في الخير والشر.

٢) سؤال الموءودة (١) عن ذنبها الذي قتلت به؟

٣) نشر صحف الأعمال وفتحها وبسطها.

٤) كشط السماء (٢) أي نزعها من أماكنها نزع الجلد عن الشاة عند سلخها.

٥) تسعير النار أي تأجيجها وتقويتها.

٦) إزلاف الجنة وتقريبها لأهلها أهل الإيمان والتقوى.

وجواب هذه الأحداث التي وقعت شرطا لحرف «إذا» هو قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ) (٣) (ما أَحْضَرَتْ) من حسنات فتصير بها إلى الجنة ، أو سيئات فتصير بها إلى النار. اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ بيان مفصل عن مبادىء القيامة ، وخواتيمها وفي حديث الترمذي الحسن الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سره أن ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت وإذا السماء انشقت.

٣ ـ الترغيب في الإيمان والعمل الصالح إذ بهما المصير إلى الجنة.

٤ ـ الترهيب من الشرك والمعاصي إذ بهما المصير إلى النار.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ

__________________

(١) الوأد : دفن الطفلة وهي حية ، وكان العرب في الجاهلية يئدون البنات خشية العار ، ويقتلون أولادهم خشية الفقر أو لنذرهم إياهم للآلهة.

(٢) الكشط إزالة الإهاب «الجلد» عن الحيوان الميت.

(٣) روي أن عمر رضي الله عنه قرأ هذه السورة فلما بلغ قوله تعالى (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) قال لهذا أجريت القصة.

(٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(بِالْخُنَّسِ) : أي التي تخنس بالنهار أي تختفي وتظهر بالليل.

(الْجَوارِ الْكُنَّسِ) : أي التي تجري أحيانا وتكنس في مكانسها أحيانا أخرى والمكانس محل إيوائها كمكانس بقر الوحش وهي الدرارى الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل.

(إِذا عَسْعَسَ) : أي أقبل أو أدبر لأن عسعس من أسماء الأضداد.

(تَنَفَّسَ) : أي امتد حتى يصير نهارا بينا.

(إِنَّهُ) : أي القرآن.

(لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) : أي جبريل كريم على الله تعالى وأضيف إليه القرآن لنزوله به.

ذو قوة : أي شديد القوى.

(عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) : أي عند الله تعالى ذي مكانة.

(مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) : أي مطاع في السماء تطيعه الملائكة أمين على الوحي.

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) : أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي ليس به جنون.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) : أي ولقد رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها بالأفق الأعلى البين من ناحية المشرق.

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ) : أي وما محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الغيب وهو ما غاب من الوحي وخبر السماء.

(بِضَنِينٍ) : أي ببخيل وفي قراءة بالظاء أي بمتهم فينقص منه ولا يعطيه كله.

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : أي وليس القرآن بقول شيطان مسترق للسمع مرجوم.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) : أي فأي طريق تسلكون في إنكاركم القرآن وإعراضكم عنه.

ما هو إلا ذكر للعالمين : أي ما القرآن إلا موعظة للإنس والجن.

(أَنْ يَسْتَقِيمَ) : أي يتحرى الحق ويعتقده ويعمل بمقتضاه.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : أي ومن شاء الاستقامة منكم فإنه لم يشأها إلا بعد أن شاءها الله قبله إذ لو لم يشأها الله ما أشاءها عبده.

معنى الآيات :

لما قرر تعالى عقيدة البعث والجزاء بوصف كامل لأحداثها وكان الوصف من طريق الوحي فافتقر الموضوع إلى صحة الوحي والإيمان به فإذا صح الوحي وآمن به العبد آمن بصحة البعث والجزاء. ومن هنا أقسم تعالى بأعظم قسم على أن القرآن نزل به جبريل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو كلام الله ووحيه وليس هو بمجنون يقول ما لا يدري ويهذر بما لا يعني ولا هو بقول شيطان رجيم ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى إخوانهم من الكهان بل هو كلام الله صدقا وحقا وما يخبر به كما يخبر صدق وحق فقال تعالى (فَلا) أي ليس (١) الأمر كما تدعون بأن ما يقوله رسولنا هو من جنس ما تقوله الكهنة. ولا مما يقوله الشعراء ، ولا هو بكلام مجانين. ولا هو سحر الساحرين أقسم بالخنس الجواري الكنس أي بكل ما يخنس ويجري ويكنس من الظباء وبقر الوحش والكواكب والدراري الخمسة عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل. والمراد من الخنوس الاختفاء والكنوس إيواءها إلى مكانسها مواضع (٢) إيوائها. وقوله (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي أقسم بالليل إذا أقبل أو أدبر إذ لفظ عسعس بمعنى أقبل وأدبر فهو لفظ مشترك بين الإقبال والإدبار (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي امتدضوءه فصار نهارا بينا أقسم بكل هذه المذكرات على أن القرآن الذي يصف لكم البعث والجزاء حق الوصف هو قول رسول كريم أي جبريل الكريم على ربه (ذِي قُوَّةٍ) لا يقادر قدرها فلا يقدر إنس ولا جن على انتزاع ما عنده من الوحي ولا على زيادة فيه أو نقص منه. (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ) سبحانه وتعالى (مَكِينٍ) أي ذي مكانة محترمة (مُطاعٍ) في السموات أمين على الوحي هذا أولا وثانيا والله (وَما صاحِبُكُمْ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (بِمَجْنُونٍ) كما تقولون (وَلَقَدْ رَآهُ) أي رأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل (بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) رآه على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح رآه بالأفق ناحية الشرق وقد سد الأفق كله ، والأفق بين والنهار طالع. (وَما هُوَ) أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٣) أي بمظنون فيه التهمة بأن يزيد فيه أو ينقص منه أو يبدل فيه أو بغير كما هو ليس ببخيل فيظن فيه أنه يكتم منه شيئا أو يخفيه بخلا به أو ينقص منه شحا به وبخلا. (وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى أوليائهم من الإنس فيخلطون فيه ويكذبون. وقوله تعالى :

__________________

(١) (فَلا أُقْسِمُ) الفاء للتفريع أي لتفريع الكلام اللاحق على السابق وجائز أن تكون لا مزيدة لتقوية القسم ، وكونها نافية ردا على باطل المشركين أو لا كما في التفسير.

(٢) (بِالْخُنَّسِ) جمع خانسة وهي التي تخنس. أي تختفي ، والكنس جمع كانسة : كنس الظبي إذا دخل كناسه بكسر الكاف وهو البيت الذي يتخذه للمبيت ، وقيل الكنوس أن تأوي إلى مكانسها وهي المواضع التي تأوي إليها الوحوش والظباء. قال الأعشى :

فلما أتينا الحي أتلع أنس

كما أتلعت تحت المكانس ربرب

(٣) قريء في السبع بظنين بالظاء ومعناه بمتهم من ظننت كذا وقريء (بِضَنِينٍ) بالضاد بمعنى بخيل ولذا شرحت الآية مراعيا فيها القراءتين وكلا المعنيين صحيح فلا هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمتهم على الوحي ولا ببخيل به ولا بغيره.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (١) ينكر عليهم مسلكهم الشائن في تكذيب رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتهامه بالسحر ، والقرآن بالشعر والكهانة والأساطير. وقوله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين من الإنس والجن يذكرون به خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم وما له عليهم من حق العبادة وواجب الشكر ويتعظون به فيخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائضه عليهم ولا بارتكاب ما حرمه عليهم وقوله تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) على منهاج الحق فيتحرى الحق أولا ويؤمن به ويعمل بمقتضاه ثانيا. ولما سمع أبو جهل هذه الآية (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) قال الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم. أنزل تعالى قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فاكبت اللعين فاعلم أن من شاء الاستقامة من العالمين لم يشأها إلا بعد أن شاءها الله تعالى له ولو لم يشأها الله تعالى والله ما شاءها العبد أبدا إذ مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد ، وفي كل ما يشاؤه الإنسان فإن مشيئة الله سابقة لمشيئته لأن الإنسان عبد والله رب والرب لا مشيئة تسبق مشيئته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الإقسام بالله تعالى وأسمائه وصفاته.

٢ ـ تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية.

٣ ـ بيان صفات جبريل الكمالية الأمانة ، القوة ، علو المكانة ، الطاعة ، الكرم.

٤ ـ براءة الرسول مما اتهمه به المشركون.

٥ ـ بيان أن مشيئة الله سابقة لمشيئة العبد. فلا يقع في ملك الله تعالى إلا ما يريد.

سورة الانفطار

مكية وآياتها تسع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ

__________________

(١) (فَأَيْنَ) الفاء لتفريع التوبيخ اين اسم استفهام عن المكان والاستفهام إنكاري.

وَأَخَّرَتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢))

شرح الكلمات :

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) : أي انشقت.

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) : أي تساقطت.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) : أي اختلطت ببعضها وأصبحت بحرا واحدا الملح والعذب سواء.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) : قلب ترابها وبعث موتاها.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ) : أي من الأعمال وما أخرت منها فلم تعمله وذلك عند قراءتها كتاب أعمالها.

(ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ) : أي أي شيء خدعك وجراك على عصيانه.

(الَّذِي خَلَقَكَ) : أي بعد أن لم تكن.

(فَسَوَّاكَ) : أي جعلك مستوى الخلقة سالم الأعضاء.

(فَعَدَلَكَ) : أي جعلك معتدل الخلق متناسب الأعضاء ليست يد أطول أو رجل أطول من الأخرى.

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) : ليس الكرم هو الذي غره وإنما جرأه على المعاصي تكذيبه بالدين الذي هو الجزاء بعد البعث حيا من قبره.

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً) : أي وإن عليكم لملائكة كراما على الله تعالى حافظين لأعمالكم.

(كاتِبِينَ) : أي لها أي لأعمالكم خيرها وشرها حسنها وقبيحها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذَا (١) السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (٢) أي انشقت (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي انفضت وتساقطت (وَإِذَا

__________________

(١) (إِذَا) ظرف للمستقبل متضمن معنى الشرط. وجوابه علمت نفس ما قدمت وأخرت.

(٢) صيغة الماضي في انفطرت وانتثرت ، وفجرت وبعثرت للدلالة على تحقق الوقع نحو (أَتى أَمْرُ اللهِ).

الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي اختلط ماؤها بعضه ببعض ملحها بعذبها لانكسار ذلك الحاجز الذي كان يفصلهما عن بعضهما لزلزلة الأرض إيذانا بخراب العالم ، (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (١) قلبت وأخرج ما فيها من الأموات ، إذا حصلت هذه الأحداث الأربعة ثلاثة منها في الدنيا وهي انفطار السماء وانتثار الكواكب وتفجر البحار وهذه تتم بالنفخة الأولى والرابع وهو بعثرة القبور يتم في الآخرة بعد النفخة الثانية ، وعندها تعلم نفس ما قدمت وما أخرت وهذا جواب إذا في أول الآيات. ومعنى (عَلِمَتْ (٢) نَفْسٌ) أي كل نفس مكلفة (ما قَدَّمَتْ) من أعمال حسنة أو سيئة ، وما أخرت من أعمال لحقتها بعدها وذلك ما سنته من سنن الهدى أو سنن الضلال ، لحديث من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عملها لا ينقص من أوزارهم شيء ، وهذا العلم يحصل للنفس أولا مجملا وذلك عند ابيضاض الوجوه واسودادها ، ويحصل لها مفصلا عند ما تقرأ كتاب أعمالها. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ (٣) بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) يخاطب تعالى الإنسان الكافر والفاجر ليسأله موبخا إياه مقرعا مؤنبا بقوله ما غرك أي أي شيء خدعك وجرأك على الكفر بربك الكريم وعصيانه بالفسق عن امره والخروج عن طاعته. وهو القادر على مؤاخذتك والضرب على يديك ساعة ما كفرت به أو عصيته أليس هو الذي خلقك فسوى خلقك وعدل (٤) أعضاءك وناسب بين أجزائك (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) إن شاء بيضك أو سودك طولك أو قصرك جعلك ذكرا أو انثى انسانا أو حيوانا قردا أو خنزيرا هل هناك من يصرفه عما أراد لك والجواب لا أحد إذا كيف يسوغ لك الكفر به وعصيانه والخروج عن طاعته وبعد هذا التوبيخ والتأنيب قال تعالى (كَلَّا) أي ما غرك كرم (٥) الله ولا حلمه (بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي بالبعث والجزاء في الدار الآخرة هو الذي جرأكم على الكفر والظلم والإجرام وما علمتم والله (إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) يحفظون عليكم أعمالكم ويحصونها لكم ويكتبونها في صحائفكم. (يَعْلَمُونَ ما

__________________

(١) (بُعْثِرَتْ) : انقلب باطنها ظاهرها إذ البعثرة الانقلاب يقال بعثر المتاع إذا قلب بعضه على بعض.

(٢) ليس بلازم أنها بمجرد ما يحصل الذي جعلت إذا شرطا له يتم العلم للنفس ، وانما إذا قامت القيامة بحصول الانقلاب الكوني وحشر الناس لفصل القضاء ثم يحصل للنفس. فتعلم ما قدمت وما أخرت.

(٣) الإنسان هنا للجنس وقيل المراد به أبو الأسد بن كلدة الجمحي والاستفهام للإنكار عليه كفره والتعجب من حاله ونداؤه (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) مشعر بالاهتمام.

(٤) (فَعَدَلَكَ) قرأ نافع فعدلك بتشديد الدال. وقرأ حفص بتخفيفها.

(٥) روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) قال غره جهله قيل للفضيل بن عياض لو أقامك الله يوم القيامة بين يديه فقال (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ما ذا كنت تقول؟ قال : كنت أقول غرني ستورك المرخاة لأن الكريم هو الستار نظمه ابن السماك فقال :

يا كاتم الذنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك امهاله

وستره طول مساويكا

تَفْعَلُونَ) في السر والعلن وسوف تفاجأون يوم تعلم نفس ما قدمت وأخرت بصخائف أعمالكم وقد حوت كل أعمالكم لم تغادر صغيرة منها ولا كبيرة ويتم الجزاء بموجبها.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أحداث تسبق يوم البعث وذلك في نفخة الفناء وأما النفخة الثانية وهي نفخة البعث حيث تجمع الخلائق ويجرى الحساب فتعطى الصحف وتوزن الأعمال وينصب الصراط ، ثم إلى جنة أو إلى نار.

٢ ـ التحذير من السنة السيئة يتركها المرء بعده فإن أوزارها تكتب عليه وهو في قبره.

٣ ـ التحذير من الغرور والانخداع بعامل الشيطان من الإنس أو الجن.

٤ ـ التحذير من التكذيب بالبعث والجزاء فإنه اكبر عامل من عوامل الشر والفساد في الدنيا وأكبر موجب للعذاب يوم القيامة.

٥ ـ تقرير عقيدة كتابة الأعمال حسنها وسيئها والحساب بمقتضاها يوم القيامة بواسطة ملكين كريمين على كل إنسان مكلف لحديث الصحيح يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار الحديث

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الْأَبْرارَ) : أي المؤمنين المتقين الصادقين.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ) : أي الكافرين والخارجين عن طاعة الله ورسوله.

(يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) : أي يدخلونها ويقاسون حرها يوم الجزاء وهو يوم القيامة.

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) : أي بمخرجين.

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) : أي أي شيء جعلك تدري لو لا أنا علمناك.

(لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) : أي من المنفعة وإن قلت.

(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) : أي لا لغيره ، ولا تنفع الشفاعة عنده إلا بإذنه.

معنى الآيات :

تقدم أن العرض على الله حق وان المجازاة تكون بحسب الأعمال التي عملها المرء ، وأنها محفوظة محصاة عليه بواسطة ملائكة كرام. وأن الناس يومئذ كما هم اليوم مؤمن بار وكافر فاجر. بين تعالى جزاء الكل مقرونا بعلة الحكم فقال عزوجل (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي (١) نَعِيمٍ) أي في الجنة دار السلام وذلك لبرورهم وهو طاعتهم لله في صدق كامل (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) أي نار ذات جحيم وذلك لفجورهم وهو كفرهم وخروجهم عن طاعة ربهم. وقوله (يَصْلَوْنَها) (٢) أي يدخلونها ويقاسون حرها (يَوْمَ الدِّينِ) أي يوم الجزاء الذي كفروا به فأدى بهم إلى الفجور وارتكاب عظائم الذنوب. وقوله (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٣) أي إذا دخلوها لا يخرجون منها. وقوله (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي وما يعلمك يا رسولنا ما يوم الدين إنه يوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين هكذا يخبر تعالى عن عظم شأن هذا اليوم. ويؤكد ذلك فيقول (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) ويكشف عن بعض جوانب الخطورة بقوله (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) من المنفعة حيث يكون الأمر كله فيه لله وحده ولا تنفع فيه الشفاعة إلا بإذنه وما للظالمين فيه من شفيع ولا حميم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم الله في أهل الموقف إذ هم ما بين بار صادق فهو في نعيم وفاجر كافر فهو في جحيم.

٢ ـ بيان عظم شأن يوم الدين وأنه يوم عظيم.

٣ ـ بيان أن الناس في يوم الدين لا تنفعهم شفاعة ولا خلة إذ لا يشفع أحد إلا بإذن الله والكافرون هم الظالمون ، وما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع.

__________________

(١) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ، إذ تقدم من الكلام ما يجعل المرء يتشوق إلى معرفة مصير الناس يوم القيامة والأبرار جمع بر وهو التقي المطيع الصادق والنعيم اسم لما ينعم به.

(٢) (يَصْلَوْنَها) قال القرطبي يصيبهم حرها ولهيبها وهذا قطعا بعد دخولها.

(٣) كونهم لا يغيبون عنها دال على أن الفجار هم المشركون والكافرون إذ المؤمنون لا يخلدون في النار.

سورة المطففين

مدنية الأوائل مكية الأواخر وآياتها ست وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

شرح الكلمات :

(وَيْلٌ) : كلمة عذاب ، وواد في جهنم.

(لِلْمُطَفِّفِينَ) : المنقصين في كيل أو وزن الباخسين فيهما.

(إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) : أي من الناس.

(يَسْتَوْفُونَ) : الكيل.

(وَإِذا كالُوهُمْ) : أي كالوا لهم.

(أَوْ وَزَنُوهُمْ) : أي وزنوا لهم.

(يُخْسِرُونَ) : أي ينقصون الكيل أو الوزن.

(أَلا) : استفهام توبيخي انكاري.

(يَظُنُ) : أي يتيقن.

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) : أي يوم القيامة لما فيه من أهوال وعظائم الأمور.

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) : أي من قبورهم.

(لِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي يقومون خاشعين ذليلين ينتظرون حكم الله فيهم.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) هذه الآيات الأولى من سورة المطففين قال أحد الأنصار رضي الله عنه كنا أسوأ الناس كيلا ، (٢) حتى إنه ليكون لأحدنا مكيالان مكيال يشتري به وآخر يبيع به ، وما إن

__________________

(١) روى النسائي عن ابن عباس قال لما قدم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) فأحسنوا الكيل بعد ذلك ، قال الفراء : فهم من أوفى الناس كيلا إلى يومهم هذا.

(٢) أيام نزول هذه السوة كان أهل المدينة يكيلون وأهل مكة يزنون ثم شاع الكيل والوزن في كلا البلدين معا.

نزلت فينا ويل للمطففين حتى أصبحنا أحسن كيلا ووزنا. وصدق هذا الصاحب الجليل فو الله لقد نزلت المدينة مهاجرا عام ثلاثة وسبعين وثلثمائة وألف فوجدتهم على ما كانوا عليه ولقد كنت أشفق عليهم إذا كالوا لي أو وزنوا لي. فقوله تعالى (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) يتوعد سبحانه وتعالى بواد في جهنم بسيل صديد أهل النار الذين يبخسون الناس الكيل والميزان أي ينقصونهم ويبينهم تعالى بقوله (الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ) أي اشتروا منهم يأخذون كيلهم وافيا وكذا إذا وزنوا (وَإِذا كالُوهُمْ) أي كالوا لهم (٢) أو وزنوا لهم (يُخْسِرُونَ) أن ينقصون. قال تعالى موبخا لهم منكرا (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ) المطففون (٣) (أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) من قبورهم (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) هو يوم الدين والجزاء والحساب (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) خاشعين ذليلين ينتظرون حكمه فيهم ، ويطول بهم الموقف المائة سنة وأكثر وإن أحدهم ليلجمه العرق إلجاما ومنهم من يصل العرق إلى نصف أذنيه والروايات في هذا كثيرة وصحيحة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ حرمة (٤) التطفيف في الكيل والوزن وهو أن يأخذ زائدا ولو قل أو ينقص عامدا شيئا ولو قل. وما كان بغير عمد ولا قصد فإنه مما يعفا عنه.

٢ ـ التذكير بالبعث والجزاء وتقريرهما.

٣ ـ عظم يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين ليحكم بينهم ويجزي كلا بعمله خيرا أو شرا.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١)

__________________

(١) يروي بعضهم أن التطفيف في الكيل والوزن والوضوء والصلاة وأسوأ الناس سرقة من يسرق في صلاته وروي عن سالم بن أبي الجعد : قال الصلاة بمكيال فمن أوفى أوفي له ، ومن طفف فقد علمتم ما قال الله عزوجل.

(٢) شاهده قول الشاعر :

ولقد جنيتك اكمؤا وعساقلا

ونهيتك عن بنات الأوبر

والشاهد في قوله جنيتك أي جنيت لك.

(٣) المطفف مأخوذ من الطفيف وهو القليل ، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق في كيل أو وزن والتطفيف هو النقص من حق المقدار في الموزون والمكيال ، وهو مصدر طفف إذا بلغ الطفاف ، والطفاف ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام ، ويطلق الطف على ما تجاوز عرض المكيال فهي زيادة طفيفة أو نقصان طفيف وهما محل النهي وفاء أو نقصان.

(٤) روى مالك والبزار عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال خمس بخمس : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشى فيهم الفقر ، وما ظهرت الفاحشة فيهم إلا ظهر فيهم الطاعون ، وما طففوا الكيل إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر.

وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

شرح الكلمات :

(كَلَّا) : أي حقا وأن الأمر ليس كما يظن المطففون.

(لَفِي سِجِّينٍ) : سجين علم على كتاب ديوان الشر دون فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة وهو أيضا موضع في أسفل الأرض السابعة فيه سجين الذي هو ديوان الكتب وبه أرواح الأشقياء عامة.

(كِتابٌ مَرْقُومٌ) : أي مسطور بين الكتابة فيه أعمالهم.

(بِيَوْمِ الدِّينِ) : أي يوم القيامة الذي هو يوم الحساب والجزاء.

(كُلُّ مُعْتَدٍ) : أي ظالم مضيع حقوق ربه تعالى وحقوق غيره.

(أَثِيمٍ) : منغمس في الآثام مكثر منها.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : أي ما سطره الأولون من القصص والأخبار التي لا تصح.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في التحذير من الظلم والفسق عن أوامر الرب تبارك وتعالى وقوله تعالى (كَلَّا) (١) أي ليس الأمر كما يظن المطففون والباخسون للحقوق أنه لا دقة في الحساب والجزاء أو أن مثل هذا لا يكتب ولا يحاسب عليه ولا يجزى به حقا (إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ) أي الظلمة الفاجرين عن الشرع وحدوده (لَفِي سِجِّينٍ) موضع في أسفل الخلق به أرواح الكافرين والظالمين وكتب أعمالهم ، وقوله (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) (٢) أي وما أعلمك يا رسولنا ما سجين تفخيم لشأنه. وقوله (٣) (كِتابٌ مَرْقُومٌ) بيان لكتاب الفجار أي أنه مكتوب مسطور بين الكتابة ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) أي العذاب الأليم بوادي الويل يوم القيامة للمكذبين بالله وآياته ولقائه المكذبين بيوم الجزاء والحساب وقوله تعالى : (وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) (٤) يريد وما يكذب بيوم الجزاء والحساب إلا كل معتد ظالم متجاوز للحد أثيم مرتكب للذنوب والآثام بفسقه عن أوامر ربه وخروجه عن طاعة الله بغشيانه

__________________

(١) (كَلَّا) كلمة ردع وزجر لأولئك الذين يطففون ألا فلينزجروا ويتركوا التطفيف والبخس في الكيل والوزن.

(٢) الاستفهام للتهويل من شأن سجين.

(٣) (كِتابٌ) خبر محذوف المبتدأ والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم.

(٤) الأثيم مبالغة في الإثم أي كثير الإثم والإثم كل اعتقاد أو قول أو عمل ضار قبيح أو فاسد.

المحارم وقوله (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) هذا بيان لذلك المعتدي الأثيمو هو انه إذا قرئت عليه آيات الله تذكيرا له وتعليما ردها بقوله أساطير الأولين أي هذه حكايات وأخبار الأولين مسطرة مكتوبة وأنكر كتاب الله وكذب به.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان كتاب الفجار وأنه في سجين وسجين ديوان تدون فيه سائر كتب الفجار من أهل النار وموضع أسفل الأرض السابعة مستودع لكتب أعمال الفجار من كفار وفساق ولأرواحهم إلى يوم القيامة ولفظ سجين مشتق من السجن الذي هو الحبس.

٢ ـ الوعيد الشديد للمكذبين بالله وبآياته ولقائه.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

(كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

شرح الكلمات :

(رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) : أي غطى قلوبهم وحجبها عن قبول الحق.

(ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : أي من الذنوب والآثام.

(لَمَحْجُوبُونَ) : أي يحال بينهم وبين رؤية الرب إلى يوم القيامة.

(لَصالُوا الْجَحِيمِ) : أي لداخلوها ومحرقون معذبون بها.

(هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) : أي يقال لهم توبيخا وخزيا لهم وهم في العذاب هذا الذي كنتم به تكذبون.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في التنديد بالاعتداء والمعتدين والإثم والآثمين فقال تعالى (بَلْ رانَ (١) عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ما الأمر كما يدعون من أن القرآن أساطير الأولين وإنما ران على قلوبهم أي غشاها وغطاها أثر الذنوب والجرائم فحجبها عن معرفة

__________________

(١) الران والرين مصدران لران يرين ربنا ورانا كالعيب والعاب والذيم والذام.

الحق (١) وقبوله ، وقوله (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي ردعا لهم وزجرا عن أقوالهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة إنهم عن ربهم لمحجوبون فلا يرونه ولا يرون كرامته (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي لداخلوها ومصطلون بحرها معذبون بأنواع العذب فيها (ثُمَّ يُقالُ) لهم توبيخا وخزيا وتأنيبا (هذَا) أي العذاب (الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ) في الدنيا (تُكَذِّبُونَ) حتى واصلتم كفركم وإجرامكم فحل بكم هذا الذي أنتم فيه الآن فذوقوا فلن تزدادوا إلا عذابا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من مواصلة الذنوب وعدم التوبة منها حيث يؤدي ذلك بالعبد إلى أن يحرم التوبة ففي حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب صقل منها فإن عاد عادت حتى تعظم في قلبه فذلك الران الذي قال الله كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون.

٢ ـ تقرير رؤية الله تعالى في الآخرة بدليل قوله إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون أي الأشقياء إذا فالسعداء غير محجوبين فهم يرون ربهم ويشهد له قوله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

__________________

(١) روى الترمذي وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر الله وتاب صقل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه. وهو الران الذي ذكر الله تعالى في كتابه (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

شرح الكلمات :

(كِتابَ الْأَبْرارِ) : أي كتاب أعمالهم والأبرار هم المطيعون لله ولرسوله الصادقون.

(لَفِي عِلِّيِّينَ) : أي في موضع يسمى عليين في أعلى الجنة.

(كِتابٌ مَرْقُومٌ) : أي كتاب مرقوم بأمان من الله إياه من النار يوم القيامة والفوز بالجنة.

(يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) : أي يحضره المقربون من أهل كل سماء ويحفظونه لأنه يحمل أمانا لصاحبه من النار وفوزه بالجنة.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) : أي إن الذين بروا ربهم بطاعته بأداء الفرائض واجتناب النواهي لفي نعيم الجنة.

(عَلَى الْأَرائِكِ) : أي على الأسرة ذات الحجال.

(يَنْظُرُونَ) : أي ما آتاهم ربهم من صنوف النعيم.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) : أي حسنه وبريقه وتلألؤه.

(مِنْ رَحِيقٍ) : أي من خمر صرف خالصة لا غش فيها ولا دنس.

(مَخْتُومٍ) : أي مختوم على إنائها لا يفك ختمه إلا هم.

(خِتامُهُ مِسْكٌ) : أي آخر شربها يفوح برائحة المسك.

(وَفِي ذلِكَ) : أي لا في غيره.

(فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) : أي فليطلب بالطاعة والاستقامة الطالبون للنعيم المقيم.

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) : أي ومزاج شرابهم من عين تجري من عال تسمى التسنيم.

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) : عينا هي التسنيم يشرب منها المقربون صرفا وتمزج لأصحاب اليمين.

معنى الآيات :

بعد أن ذكر تعالى كتاب الفجار وما ختم له به ذكر كتاب الأبرار وما ختم له به فقال (كَلَّا) أي حقا (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ) وهو جمع بر أو بار وهو المؤمن الذي بر ربه بطاعته في أداء فرائضه واجتناب نواهيه وكان صادقا في ذلك كتاب أعمال هؤلاء الأبرار في عليين (وَما أَدْراكَ) يا رسولنا (١) (ما عِلِّيُّونَ) أنه موضع في أعلى (٢) الجنان. وقوله (كِتابٌ مَرْقُومٌ) يريد كتاب الأبرار الموضوع في عليين كتاب مرقوم بأمان من الله لصاحبه من النار والفوز بالجنة (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي مقربو كل سماء يحضرونه ويحفظون له ويشهدون

__________________

(١) الاستفهام للتفخيم والتعظيم بشأن عليين إذ هو في أعلى مرتبة وأسمى منزلة.

(٢) قال البراء بن عازب رضي الله عنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليون في السماء السابعة تحت العرش.

بما فيه من الأمان لصاحبه من النار والفوز بالجنة. وقوله تعالى (إِنَّ الْأَبْرارَ) (١) وأصحاب الكتب المودعة في عليين (لَفِي نَعِيمٍ) يريد يوم القيامة والنعيم هو نعيم الجنة وهذا لون منه (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرة ذات الحجال (يَنْظُرُونَ) إنهم جالسون على الأرائك ينظرون (٢) باستحسان وإعجاب ملكهم الكبير الذي ملكهم الله تعالى وقد يمتد مسافة ألفي سنة وينتهي إليه بصرهم (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي حسنه وبريقه وتلألؤه وقوله (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) أي من خمر هي الرحيق صافية لا دنس فيها ولا غش مختوم على أوانيها لا يفكها إلا هم. (خِتامُهُ مِسْكٌ) آخر هذا الشراب (٣) يفوح برائحة المسك الأذفر فهي طيبة الرائحة للغاية. وقوله تعالى (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ (٤) الْمُتَنافِسُونَ) أي وفي مثل هذا النعيم لا في غيره من حطام الدنيا وشرابها وملكها الزائل يجب أن يتنافس المتنافسون أي في طلبه بالإيمان وصالح الأعمال بعد البعد كل البعد عن الشرك وسيئي الأقوال وقبيح الأفعال. وقوله تعالى (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي إن ذلك الرحيق يمزج لأصحاب اليمين بماء عين تسمى التسنيم ويشربه المقربون صرفا أي خالصا بدون مزج من عين التسنيم وقوله (يَشْرَبُ بِهَا) الباء بمعنى من أو ضمن يشرب معنى يلتذ أي يلتذ بها وقد سبق في سورة الإنسان وقلت إنها لطيب شرابها تكاد تكون آلة للشرب فتكون الباء للآلة على بابها نحو شربت بالكأس.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الثناء على الأبرار وبيان ما أعد الله تعالى لهم وهم المؤمنون المتقون الصادقون في ذلك.

٢ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر ما يجري فيها.

٣ ـ الترغيب في العمل الصالح للحصول على نعيم الجنة لقوله تعالى (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ).

__________________

(١) (الْأَبْرارَ) جمع برهم أهل الطاعة والصدق فيها.

(٢) وقيل ينظرون إلى أعدائهم في النار وهم على أرائكهم ولا عجب لما ظهر اليوم من آلة التلفاز.

(٣) الرحيق هي الخمر العتيقة البيضاء الصافية من الغش ، النيرة قال حسان :

يسقون من ورد البريص عليهم

بردى يصفق بالرحيق السلسل

والبريص نهر بدمشق وبردى نهر آخر بها ويصفه يخرج والرحيق الخمر البيضاء.

(٤) يقال نفست عليه الشيء أنفسه نفاسة أي ضننت به ولم أحب أن يصير إليه وذلك لحسنه وجودته وتعلق النفس به.

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) : أي على أنفسهم بالشرك والمعاصي كأبي جهل وأمية بن خلف وعتبة بن أبي معيط.

(مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) : أي كبلال وياسر وعمار وصهيب وخبيب.

(يَتَغامَزُونَ) : أي يشيرون إلى المؤمنين بالجفن والحاجب استهزاء بهم.

(فَكِهِينَ) : أي إذا رجعوا إلى ديارهم وأهليهم يرجعون نشاوى فرحين معجبين بحالهم.

(وَإِذا رَأَوْهُمْ) : أي وإذا رأى أولئك الفكهون رأوا المؤمنين.

(قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) : إن هؤلاء يعنون المؤمنين من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لضالون بتركهم دينهم واتخاذهم لدين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجديد.

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) : أي ولم يكلفهم الله تعالى بحفظ أعمالهم ورعاية أحوالهم. وإنما هم متطفلون.

(فَالْيَوْمَ) : أي يوم القيامة.

(مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) : أي من أجل ما هم فيه من العذاب حيث يرونهم وهم على أرائكهم.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) : أي هل جوزي الكفار بما كانوا يفعلون من الكفر والشر والفساد؟ والجواب نعم نعم نعم.

معنى الآيات :

بعدما بين تعالى حال الأبرار في دار الأبرار وذكر ما شاء الله أن يذكر من نعيمهم ترغيبا وتعليما بعد أن ذكر في الآيات قبلها حال المجرمين وما أعدلهم من عذاب في دار العذاب. ذكر تعالى هنا في خاتمة السورة ما أوجب للمجرمين وهو النار ، وما أوجب للمؤمنين وهو الجنة فذكر طرفا من سلوك المجرمين وآخر من سلوك المؤمنين فقال عز من قائل (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) (١) أي على أنفسهم أي أفسدوها بالشرك والشر والفساد كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي وغيرهم كانوا من الذين آمنوا كبلال وعمار وصهيب وخبيب وأضرابهم من فقراء المؤمنين (يَضْحَكُونَ) (٢) استهزاء بهم وسخرية. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ) في شوارع مكة وحول المسجد الحرام (يَتَغامَزُونَ) يشيرون إليهم بالجفن والحاجب على عادة المتكبرين (وَإِذَا انْقَلَبُوا) أي رجعوا (إِلى أَهْلِهِمُ) في ديارهم (انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣) ناعمين معجبين بحالهم فرحين بما عندهم (وَإِذا رَأَوْهُمْ) أي وإذا رأى أولئك المجرمون المؤمنين أشاروا إليهم وقالوا (إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) بتركهم دينهم واعتناق دين محمد الجديد في نظرهم. قال تعالى (وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ (٤) حافِظِينَ) أي على أعمالهم وأحوالهم حتى يقولوا ما قالوا وإنما هم متطفلون يدعون ما ليس لهم لقبح سلوكهم وسوء فهو مهم ، قال تعالى (فَالْيَوْمَ) (٥) يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي من الكفار (عَلَى الْأَرائِكِ) أي الأسرة ذات الحجال (يَنْظُرُونَ) إلى الكفار وهم في النار ويضحكون منهم وهم يعذبون ولا عجب في كيفية رؤيتهم لهم وهم في النار أسفل سافلين والمؤمنون في أعلى عليين إذ البث التلفزيوني اليوم قطع العجب وأبطله وقوله تعالى (هَلْ ثُوِّبَ (٦) الْكُفَّارُ) أي هل جوزي الكفار على أفعالهم الإجرامية؟ والجواب معلوم مما تقدم إذ وصفت حالهم وبين عذابهم والعياذ بالله من عذابه وأليم عقابه.

__________________

(١) الإجرام مصدر أجرم إذا ارتكب الجرم وهو الإثم العظيم وأعظمه الشرك والكفر.

(٢) معنى يضحكون منهم أنهم يضحكون من حالهم وهي حال خاصة كالفقر والضعف أو ترك دينهم إلى دين آخر قال الحارث بن عبد يغوث :

وتضحك مني شيخة عبشمية

كأن لم تر قبلي أسيرا يمانيا

(٣) قرأ نافع والجمهور فاكهين بصيغة اسم الفاعل ، وقرأ حفص بدون ألف على أنه جمع فكه صفة مشبهة ، والمعنى واحد كفارح وفرح.

(٤) الجملة متضمنة معنى التهكم بأولئك الضاحكين الساخرين من فقراء المؤمنين.

(٥) تقديم الظرف فاليوم للاهتمام به لأنه يوم الجزاء وفيه تشفى صدور المؤمنين من الأعداء.

(٦) الجملة فذلكة ما تقدم من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة والاستفهام بهل تقريري وتعجب من عدم إفلاتهم منه بعد دهور ، وثوب بمعنى أعطى الثواب يقال أثابه وثوبه إذا أعطاه ثوابه وهو جزاء عمله وفي التفسير الثواب تهكم واضح بالمشركين نحو بشرهم بعذاب أليم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بالإجرام والمجرمين.

٢ ـ بيان ما كان عليه المشركون في مكة إبان الدعوة وما لقيه المؤمنون منهم.

٣ ـ بيان أن المؤمنين سيرون المشركين في الجحيم ويضحكون منهم وهم في نعيمهم والمشركون في جحيمهم.

٤ ـ بيان إكرام الله لأوليائه ، وإهانته تعالى لأعدائه.

سورة الانشقاق

مكية وآياتها خمس وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

شرح الكلمات :

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) : أي بالغمام وهو سحاب أبيض رقيق وذلك لنزول الملائكة.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) : أي سمعت وأطاعت.

(وَحُقَّتْ) : أي وحق لها أن تسمع أمر ربها وتطيعه.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) : أي زيد في سعتها كما يمد الأديم أي الجلد إذ لم يبق عليها بناء ولا جبل.

(وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) : أي ألقت ما فيها من الموتى ألقتهم أحياء إلى ظهرها وتخلت عنه أي عما كان في بطنها.

(إِنَّكَ كادِحٌ) : أي عامل كاسب للخير أو الشر.

(إِلى رَبِّكَ كَدْحاً) : أي إلى أن تلقى ربك وأنت تعمل وتكسب فليكن عملك مما يرضي عنك ربك.

(فَمُلاقِيهِ) : أي ملاق ربك بعد موتك وبعملك خيره وشره.

(كِتابَهُ) : أي كتاب عمله وذلك بعد البعث.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) : أي بعد الحساب اليسير يرجع إلى أهله في الجنة من الحور العين فرحا.

(وَراءَ ظَهْرِهِ) : أي يأخذه بشماله من وراء ظهره إهانة له.

(يَدْعُوا ثُبُوراً) : أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي يا هلاكه.

(وَيَصْلى سَعِيراً) : أي ويحرق بالنار تحريقا وينضج انضاجة بعد اخرى على قراءة يصلى بالتضعيف.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) : أي انه كان في الدنيا يظن انه لا يرجع إلى الحياة بعد الموت فلذا لم يعمل خيرا قط ولم يتورع عن ترك الشر قط لعدم إيمانه بالبعث.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) يخبر تعالى أنه إذا انشقت السماء أي تصدعت وتفطرت وذابت فصارت كالدهان (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي وسمعت (١) لأمر ربها واستجابت فكانت كما أمرها الله أن تكون منشقة منفطرة حتى تكون كالمهل ، (وَإِذَا الْأَرْضُ (٢) مُدَّتْ) من الأديم واتسعت رقعتها حيث زال منها الجبال والآكام والمباني والعمارات وأصبحت قاعا صفصفا (وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي ما في بطنها من أموات (وَتَخَلَّتْ) عنه أي عما كان في بطنها (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) في ذلك كله أي سمعت وأجابت (وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تسمع وتجيب وتطيع

__________________

(١) شاهده قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن أي ما استمع لشيء الخ .. وقال الشاعر :

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أذنوا بمعنى سمعوا.

(٢) (إِذَا) ظرف خافض لشرطه منوصب بجوابه.

وجواب إذا الأولى والثانية واحد وهو (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) (١) أو ما أحضرت كما تقدم نظيره في التكوير والانفطار. وقوله تعالى (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) أي يا بن آدم (إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ (٢) كَدْحاً) أي إنك عامل تعمل يوميا وليل نهار إلى أن تموت وتلقى ربك إنك لا تبرح تعمل لا محالة وتكسب بجوارحك الخير والشر إلى الموت حيث تنتقل إلى الدار الآخرة وتلقى ربك وتلاقيه هذا يشهد له قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح (٣) [كلكم يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها] ، إذا فمن الخير لك يا أيها الإنسان المكلف أن تعمل خيرا تلاقي به ربك فيرضى عنك به ويكرمك إنك حقا ملاق ربك بعملك فأنصح لك أن يكون عملك صالحا وانظر إلى الصورة التالية (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) لأنه حوى الخير ولا شر فيه (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (٤) ينظر في كتابه ويقرر هل فعلت كذا فيعترف ويتجاوز عنه (وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ) في الجنة وهم الحور العين والنساء المؤمنات والذرية الصالحة يجمعهم الله ببعهضهم كرامة لهم وهو قوله تعالى (وَالَّذِينَ (٥) آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) أي كتاب أعماله (وَراءَ ظَهْرِهِ) حيث تغل اليمني مع عنقه وتخرج الشمال وراء ظهره ويعطى كتابه وراء ظهره (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) أي ينادي هلاكه قائلا واثبوراه واثبوراه أي باهلاكه احضر فهذا أوان حضورك (وَيَصْلى (٦) سَعِيراً) أي ويدخل نارا مستعرة شديدة الالتهاب ويصلى أيضا فيها تصلية أي ينضح فيها لحمه المرة بعد المرة وأبدا. والعياذ بالله وعلة ذلك وسببه هو (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ) في الدنيا (مَسْرُوراً) لا يخاف الله ولا يرجو الدار الآخرة يعمل ما يشاء ويترك ما يشاء (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ (٧) يَحُورَ) أي انه لا يرجع حيا بعد موته ولا يحاسب ولا يجزى هذه علة هلاكه وشقائه فاحذروها

__________________

(١) اضطرب المفسرون والنحاة في جواب إذا فمنهم من قال إنه يا أيها الإنسان ، ومنهم من قال أذنت لربها. على أن الواو زائدة ، ومنهم من قال إنه فأما من أوتي كتابه ، وغاب عنهم أن جواز حذف الشرط كجواز حذف القسم. لا سيما وقد تقدم جواب الشرط كهذا في التكوير والانفطار إذا فما كان هناك جوابا يكون هنا جوابا.

(٢) الكدح الكسب والعمل قال ابن مقبل :

وما الدهر إلا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

والإنسان هنا الجنس فهو عام في كل إنسان من بني آدم.

(٣) في صحيح مسلم حديث طويل أوله : ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله .. الخ.

(٤) (حِساباً يَسِيراً) أي مناقشة فيه كما في حديث عائشة إذ قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حوسب يوم القيامة عذب قالت يا رسول الله أليس قد قال الله فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ فقال ليس ذلك الحساب إنما ذلك العرض. من نوقش الحساب يوم القيامة عذب رواه البخاري وغيره.

(٥) الآية من سورة الطور.

(٦) قرأ نافع ويصلى بتشديد اللام وسعيرا منصوب على نزع الخافض أي بسعير ، وقرأ حفص بتخفيف اللام والبناء للفاعل مضارع صلى كرضى يصلى كيرضى إذا مسته النار.

(٧) يحور بمعنى يرجع شاهده قول الشاعر :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

أيها الناس اليوم فآمنوا بربكم ولقائه واعملوا عملا ينجيكم من عذابه. وقوله تعالى (بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي ليحورن وليبعثن وليحاسبن وليس كما يظن انه لا يبعث ولا يحاسب ولا يجزى بل لا بد من ذلك كله إن ربه تعالى كان به وبعمله بصيرا لا يخفى عليه من أمره شيء ونتيجة لذلك تم له هذا الحساب والعقاب بأمر العذاب وأشده دخول النار وتصلية جحيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء ببيان مقدماته في انقلاب الكون.

٢ ـ بيان حتمية لقاء الإنسان ربه.

٣ ـ كل إنسان مكلف بالعقل والبلوغ فهو عامل وكاسب لا محالة إلى أن يموت ويلقى ربه.

٤ ـ أهل الإيمان والتقوى يحاسبون حسابا يسيرا وهو مجرد عرض لا غير ويفوزون أما من نوقش الحساب فقد هلك وعذب لأنه لا يملك حجة ولا عذرا.

٥ ـ التنعم في الدنيا والانكباب على شهواتها وملاذها مع ترك الطاعات والصالحات ثمرة عدم الإيمان أو اليقين بالبعث والجزاء.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)) (١)

شرح الكلمات :

(بِالشَّفَقِ) : أي بالحمرة في الأفق بعد غروب الشمس.

(وَما وَسَقَ) : أي دخل عليه من الدواب وغيرها.

(إِذَا اتَّسَقَ) : اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض.

__________________

(١) جائز أن يكون (فَلا) صلة أي فأقسم بالشفق وكونها نافية لكلام سابق كما في التفسير هو اختيار بن جرير.

(طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : أي حالا بعد حال الموت ، ثم الحياة ، ثم ما بعدها من أحوال القيامة.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) : أي أي مانع لهم من الإيمان بالله ورسوله ولقاء ربهم والحجج كثيرة تتلى عليهم.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) : أي تلي عليهم وسمعوه.

(لا يَسْجُدُونَ) : أي لا يخضعون فيؤمنوا ويسلموا.

(بِما يُوعُونَ) : أي يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب.

(لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : أي غير مقطوع.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلا أُقْسِمُ) أي فليس الأمر كما تدعون من أنه لا بعث ولا جزاء أقسم (بِالشَّفَقِ) وهي (١) حمرة الأفق بعد غروب الشمس (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي وما جمع من كل ذي روح من سابح في الماء وطائر في السماء وسارح في الغبراء (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي اجتمع وتم نوره وذلك في الليالي البيض. وجواب القسم قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي حالا بعد (٢) حال الموت ثم الحياة ، ثم العرض ، ثم الحساب ، ثم الجزاء فهي أحوال وأهوال فليس الأمر كما تتصورون من أنه موت ولا غير. وقوله تعالى (٣) (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي ما للناس لا يؤمنون أي شيء منعهم من الإيمان بالله ورسوله والدار الآخرة مع كثرة الآيات وقوة الحجج وسطوع البراهين. وما لهم أيضا إذا تلي عليهم القرآن وسمعوه لا يخضعون ولا يخشعون ولا يخرون ساجدين مع ما يحمل من أنواع الحجج والبراهين وقوله تعالى (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي بدل أن يؤمنوا ويسلموا (يُكَذِّبُونَ (٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) في قلوبهم من الكفر والتكذيب وفي نفوسهم من الحسد والكبر والغل والبغض وبناء على ذلك (فَبَشِّرْهُمْ) (٥) يا رسولنا أي أخبرهم بما يسوءهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) عاجلا وآجلا (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) (٦) أي منهم آمنوا بالله ورسوله وآيات الله ولقائه (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فأدوا الفرائض واجتنبوا

__________________

(١) أكثر أهل العلم على أن الشفق الحمرة بعد غروب الشمس قال الفراء سمعت بعض العرب يقول لثوب عليه مصبوغ كأنه الشفق وكان أحمر. وقال الشاعر : وأحمر اللون كمحمر الشفق.

(٢) من شواهد هذه الحقيقة قول الشاعر :

كذلك المرء إن ينسأ له أجل

يركب على طبق من بعده طبق

(٣) الاستفهام للإنكار عليهم والتعجب من حالهم في ترك الإيمان.

(٤) (يُكَذِّبُونَ) صيغة المضارع تدل على استمرار تكذيبهم والصلة هي الكفر. فلو آمنوا ما كذبوا ولكفرهم يكذبون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به وأخبر عنه.

(٥) (فَبَشِّرْهُمْ) الفاء للتفريع والترتيب والبشارة هنا للتهكم بهم.

(٦) الاستثناء منقطع بمعنى لكن الذين آمنوا ، الخ.

المحارم فهؤلاء (لَهُمْ أَجْرٌ) أي ثواب عند الله إلى يوم يلقونه (غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير منقوص ولا مقطوع في الجنة دار السلام. اللهم اجعلنا من أهلها برحمتك يا أرحم الراحمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الإنسان مقبل على أحوال وأهوال حالا بعد حال وهولا بعد هول إلى أن ينتهى إلى جنة أو نار.

٢ ـ بيان أن عدم إيمان الإنسان بربه أمر يستدعي العجب إذ لا مانع للعبد من الإيمان بخالقه وهو يعلم أنه مخلوق وقد تعرف إليه فأنزل كتبه وبعث رسله وأقام الأدلة على ذلك.

٣ ـ مشروعية السجود عند تلاوة هذه الآية وهي وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون.

٤ ـ علم الله تعالى بما يعي الإنسان في قلبه وما يحمل في نفسه فذكره للعبد بأن يراقب ربه فلا يعي في قلبه إلا الإيمان ولا يحمل في نفسه إلا الخير فلا غل ولا حسد ولا شك ولا عداء ولا بغضاء.

سورة البروج

مكية وآياتها ثنتان وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

شرح الكلمات :

(ذاتِ الْبُرُوجِ) : أي منازل الشمس والقمر الاثنى عشر برجا.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) : أي يوم القيامة إذ وعدت لله تعالى عباده أن يجمعهم فيه لفصل القضاء.

(وَشاهِدٍ) : أي يوم الجمعة.

(وَمَشْهُودٍ) : أي يوم عرفة.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) : أي لعن أصحاب الأخدود.

(الْأُخْدُودِ) : أي الحفر تحفر في الأرض وهو مفرد وجمعه أخاديد.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) : أي على حافتها وشفيرها.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) : أي ما عابوا أي شيء سوى إيمانهم بالله تعالى.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (١) هذا قسم من أعظم الأقسام إذ أقسم تعالى فيه بالسماء ذات البروج وهي منازل الشمس والقمر الأثنا عشر برجا ، (٢) وباليوم الموعود وهو يوم القيامة إذ وعد الرب تعالى عباده أن يجمعهم فيه ليحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون وبالشاهد (٣) وهو يوم الجمعة وبالمشهود وهو يوم عرفة وجواب القسم أو المقسم عليه محذوف قد يكون تقديره لتبعثن ثم لتنبؤن لأن السورة مكية والسور المكية تعالج العقيدة بأنواعها الثلاثة التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، وجائز أن يكون الجواب (قُتِلَ) بتقدير اللام وقد نحو لقد قتل أي لعن أصحاب الأخدود وهي حفر حفرها الكفار وأججوا فيها نارا وأتوا بالمؤمنين المخالفين لدينهم وعرضوا عليهم الكفر أو الإلقاء في النار فاختاروا الإلقاء في النار مع بقاء إيمانهم حتى إن امرأة كانت ترضع صبيا فأحجمت عن إلقاء نفسها مع طفلها في النار فأنطق الله الصبي فقال لها : أماه امضي فإنك على الحق فاقتحمت النار. وقوله (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) بيان للحال التي كانوا يفتنون فيها المؤمنين والمؤمنات إذ كانوا على شفير النار وحافتها قاعدين ، وقوله تعالى (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ

__________________

(١) روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج وروي أيضا عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر أن يقرأ في العشاء بالسموات أي السماء ذات البروج والسماء والطارق.

(٢) (الْبُرُوجِ) هي منازل الكواكب والشمس والقمر يسير القمر في كل برج منها يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين. وتسير الشمس في كل برج منها شهرا وهي الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، والبروج في لغة العرب القصور.

(٣) روى الترمذي عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة وقال فيه حديث حسن غريب ، وجائز أن يكون الشهود الكرام الكاتبين والمشهود عليهم بنو آدم ، وجائز أن يكون الشاهد هذه الأمة والشهود عليهم سائر الأمم وجائز غير ما ذكر.

بِالْمُؤْمِنِينَ) من الإلقاء في النار والارتداد عن الإسلام (شُهُودٌ) أي حضور ، ولم يغيروا منكرا ولم يأمروا بمعروف. وقوله تعالى (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي وما عابوا عنهم شيئا سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فحسب العبد من الله هذه الصفات فإنها توجب الإيمان بالله وطاعته ومحبته وخشيته وهي كونه سبحانه وتعالى عزيزا في انتقامه لأوليائه حميدا يحمده لآلائه ونعمه سائر خلقه مالكا لكل ما في السموات والأرض ليس لغيره ملك في شيء معه وعلمه الذي أحاط بكل شيء دل عليه قوله وهو على كل شيء شهيد. فكيف ينكر على المؤمن إيمانه بربه ذي الصفات العلا. والجلال والجمال والكمال. سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك. وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ (١) وَالْمُؤْمِناتِ) أي فتنوهم عن دينهم فأحرقوهم بالنار (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) بعد فتنتهم للمؤمنين والمؤمنات (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) جزاء لهم. (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) عذاب جهنم في الدار الآخرة وعذاب الحريق في الدنيا. فقد روي أنهم لما فرغوا من إلقاء المؤمنين في النار والمؤمنون كانت تفيض أرواحهم قبل وصولهم إلى النار فلم يحسوا بعذاب النار والكافرون خرجت لهم النار من الأخاديد وأحرقتهم فذاقوا عذاب الحريق في الدنيا ، وسيذوقون عذاب جهنم في الآخرة هذا بالنسبة إلى أبدانهم أما أرواحهم فإنها بمجرد مفارقة الجسد تلقى في سجين مع أرواح الشياطين والكافرين وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) بالله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي آمنوا بالله ربا وإلها وعبدوه بأداء فرائضه وترك محارمه (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من تحت أشجارها وقصورها. وقوله تعالى (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) (٣) حقا هو فوز كبير ، لأنه نجاة من النار أولا ودخول الجنة ثانيا. كما قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

__________________

(١) (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) الخ .. الآية عامة ليست خاصة بأصحاب الأخدود ولا بكفار قريش ، وإنما هي عامة في كل من يفتن المؤمنين والمؤمنات في دينهم.

فيصرفهم عنه بأنواع من التعذيب وجزاؤهم ما ذكر في الآية وهو عذاب جهنم وعذاب الحريق إلا من تاب قبل موته وقد عد ممن فتنوا المؤمنين والمؤمنات في مكة أبو جهل رأس الفتنة وأمية بين خلف والأسود بن عبد يغوث والوليد بن المغيرة وعد من المعذبين المفتونين بلال بن رباح ، وأبو فكيهة وخباب بن الأرت وياسر والد عمار وعامر بن فهيرة وعدد من النساء المعذبات حمامة أم بلال ، وزنيرة ، وسمية والدة عمار.

(٢) هذا الكلام مستأنف يبين فيه تعالى جزاء من آمن وعمل صالحا وهو دعوة إلى الإيمان والعمل الصالح والتخلي عن الشرك والشر والفساد. إنه لما ذكر جزاء الكفر وهو عذاب جهنم وعذاب الحريق ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان وصالح الأعمال.

(٣) اسم الإشارة (ذلِكَ) عائد إلى ما اختصهم الله تعالى به من الجنات التي تجري من تحتها الأنهار أنهار الماء واللبن والخمر والعسل في دار السلام.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ فضل يومي الجمعة وعرفة.

٣ ـ بيان ما يبتلى به المؤمنون في هذه الحياة ويصبرون فيكون جزاؤهم الجنة.

٤ ـ الترهيب والترغيب في ذكر جزاء الكافرين والمؤمنين الصالحين.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

شرح الكلمات :

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) : أي أخذه إذا أخذ الكافر شديد.

(يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) : أي يبدىء الخلق ويعيده بعد فنائه ويبدىء العذاب ويعيده.

(الْغَفُورُ الْوَدُودُ) : أي لذنوب عباده المؤمنين المتودد لأوليائه.

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) : أي صاحب العرش إذ هو خالقه ومالكه والمجيد المستحق لكمال صفات العلو.

(فِي تَكْذِيبٍ) : أي بما ذكر في سياق الآيات السابقة.

(مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) : أي هم في قبضته وتحت سلطانه وقهره.

(قُرْآنٌ مَجِيدٌ) : أي كريم عظيم.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) : أي من الشياطين والمراد به اللوح المحفوظ.

معنى الآيات :

لما ذكر تعالى ما توعد به الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من أجل إيمانهم أخبر رسوله معرضا بمشركي قومه وطغاتهم الذين آذوا المؤمنين في مكة من أجل إيمانهم أخبره بقوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ (١) لَشَدِيدٌ) أي إن أخذه إذا بطش أخذه أليم شديد ودلل على ذلك بقوله (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) فالقادر على البدء والإعادة بطشه شديد. وقوله (يُبْدِئُ) أي الخلق ثم يعيده. ويبدىء العذاب (٢) أيضا ثم يعيده (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) فهو قادر على البطش بأعدائه ، وهو الغفور لذنوب أوليائه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) أي صاحب العرش خلقا وملكا المجيد العظيم الكريم ، (فَعَّالٌ لِما (٣) يُرِيدُ) إذ لا يكره تعالى على شيء ولا يقدر أحد على إكراهه.

وقوله تعالى (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) كيف أهلكهم الله لما طغوا وبغوا وكفروا وعصوا نعم قد أتاك وقرأته عى قومك الكافرين ولم ينتفعوا به لأنهم يعيشون في تكذيب لك يحيط بهم لا يخرجون منه لأنه تكذيب ناشئ من الكبر والحسد والجهل فلذا هم لم يؤمنوا بعد. وقوله تعالى (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (٤) أي هم في قبضته وتحت قهره وسلطانه لا يخفى عليه منهم شيء ولا يحول بينه وبينهم متى أراد أخذهم شيء. وقوله تعالى (بَلْ هُوَ (٥) قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٦) يرد بهذا على المشركين الذين قالوا في القرآن إنه سحر وشعر وأساطير الأولين فقال ليس هو كما قالوا وادعوا وإنما هو قرآن مجيد في لوح محفوظ من الشياطين فلا تمسه ولا تقربه ولا من غير الشياطين من سائر الخلق أجمعين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تهديد الظلمة بالعذاب عقوبة في الدنيا وفي الآخرة.

__________________

(١) يرى بعضهم أن قوله (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) هو جواب القسم (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ). وأنه وإن كان جائزا فإن تقديره في أول الكلام أولى من تأخيره. وهذه الآية مستأنفة تحمل الوعيد والتعريض بمجرمي قريش كأبي جهل وأضرابه.

(٢) إنه هو يبدىء ويعيد الجملة تعليلية إذ الذي يبدي ويعيد لا يكون بطشه إلا قويا شديدا ومن مظاهر الكمال الألهي جمعه بين صفتي البطش ، والمغفرة والود ، فهنيئا لأوليائه ، ويا ويل أعدائه.

(٣) روي أن أناسا دخلوا على أبي بكر في مرضه الذي مات فيه يعودونه فقالوا له ألا نأتيك بطبيب؟ قال قد رآني قالوا فما قال لك؟ قال قال لي : إني فعال لما أريد وفي بعض الروايات قال الطبيب أمرضني.

(٤) فهو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون ، وعاد وثمود قبله.

(٥) (بَلْ) للإضراب الإبطالي أي ليس القرآن كما يصفونه بأنه أساطير الأولين ، وإفك مفترى وما إلى ذلك مما قالوه في القرآن من رده وعدم الإيمان به بل هو قرآن مجيد بالغ الغاية في المجد والشرف والسمو والعلو في ألفاظه ومعانيه ، وما يحمل من هدى وتشريع وأنه في مناعته لا تصل إليه أيدي الخلق بالتحريف والتبديل إذ هو في لوح محفوظ.

(٦) قرأ نافع وحده يرفع محفوظ صفة القرآن وجره الباقون حفص وغيره على أنه نعت للفظ لوح وحفظ اللوح حفظ للقرآن المكتوب عليه.

٢ ـ إن الله تعالى لكرمه يتودد لأوليائه من عباده.

٣ ـ فائدة القصص هي الموعظة تحصل للعبد فلا يترك واجبا ولا يغشى محرما.

٤ ـ بيان إحاطة الله تعالى بعباده وأنهم في قبضته وتحت سلطانه.

٥ ـ شرف القرآن الكريم ، وإثبات اللوح المحفوظ وتقريره.

سورة الطارق

مكية وآياتها سبع عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

شرح الكلمات :

(وَالطَّارِقِ) : أي كل ما يطرق ويأتي ليلا وسمي النجم طارقا لطلوعه ليلا.

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) : أي الثريا والثاقب المضيء الذي يثقب الظلام بنوره.

(لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) : أي إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها.

(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ) : أي ماء ذي اندفاق وهو بمعنى مدفوق أي مصبوب في الرحم.

(مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) : الصلب : عظم الظهر من الرجل ، والترائب عظام الصدر والواحدة تريبة.

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) : أي تختبر ضمائر القلوب في العقائد والنيات. والسرائر جمع سريرة كالسر.

(ذاتِ الرَّجْعِ) : أي ذات المطر لرجوعه كل حين والرجع من أسماء المطر.

(ذاتِ الصَّدْعِ) : أي التصدع والتشقق بالنبات.

(لَقَوْلٌ فَصْلٌ) : أي يفصل بين الباطل وفي الخصومات يقطعها بالحكم الجازم.

(وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) : أي باللعب والباطل بل هو الجد كل الجد.

(يَكِيدُونَ كَيْداً) : أي يعملون المكائد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَأَكِيدُ كَيْداً) : أي أستدرجهم من حيث لا يعلمون لأوقعهم في المكروه.

(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) : أي زمنا قليلا وقد أخذهم في بدر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) هذا قسم إلهي حيث أقسم تعالى بالسماء والطارق ولما كان لفظ الطارق يشمل كل طارق آت بليل ، وأراد طارقا معينا فخم من شأنه بالاستفهام عنه الدال على تهويله فقال (٢) (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) ثم بينه بقوله (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) وكل نجم هو ثاقب للظلام بضوئه. والمراد به هنا الثريا لتعارف العرب على إطلاق النجم على الثريا. هذا هو القسم والمقسم عليه هو قوله تعالى (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ (٣) لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤). وهنا قراءتان سبعيتان الأولى بتخفيف ميم لما وحينئذ تصبح زائدة لتقوية الكلام لا غير واللام للفرق بين إن النافية والمؤكدة الداخلة على الأسم وهو هنا ضمير شأن محذوف والتقدير أنه أي الحال والشأن كل نفس عليها حافظ. والثانية بتشديد لما وحينئذ تكون إن نافية بمعنى ما ولما بمعنى إلا ويصير الكلام هكذا. ما كل نفس إلا عليها حافظ من ربها يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشر. وقوله تعالى (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) (٥) أي الكافر المكذب بالبعث والجزاء (مِمَّ خُلِقَ) أي من أي شيء خلق. وبين تعالى مما خلقه بقوله (خُلِقَ مِنْ (٦) ماءٍ دافِقٍ) أي ذي اندفاق وهو المني يصب في الرحم (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي يخرج الماء من صلب الرجل وهو عظام ظهره وترائب المرأة وهي محل القلادة من صدرها ، وقد اختلف في تقدير فهم هذا الخبر عن الله تعالى وجاء

__________________

(١) قال العلماء افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق اليه.

(٢) (وَما أَدْراكَ) استفهام المراد منه تهويل الأمر وتعظيمه.

(٣) الإخبار بأن كل نفس عليها حافظ يحفظ أعمالها لتحاسب عليها وتجزى بها إثبات للبعث الآخر بطريق الكناية.

(٤) قرأ نافع بتخفيف الميم من لما وشددها حفص.

(٥) الفاء للتفريع إذ الجملة متفرعة عن قوله إن كل نفس لما عليها حافظ إن شك الإنسان في حقيقة البعث فلينظر في أصل نشأته وجائز أن تكون الفاء الفصيحة.

(٦) هذا جواب الاستفهام (مِمَّ خُلِقَ) إذ من ابتدائية وما استفهامية وحذف ألفها تخفيفا لتقدم حرف الجر عليها نحو عم؟ ولم؟ والجار والمجرور متعلق بخلق بعده والإنسان منكر البعث.

العلم الحديث فشرح الموضوع وأثبت أن ماء الرجل يخرج حقا مما ذكر الله تعالى في هذه الآية وأن ماء المرأة كذلك يخرج مما وصف عزوجل وصدق الله العظيم. وقوله تعالى (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ (١) لَقادِرٌ) أي الذي خلقه مما ذكر من ماء دافق فجعله بشرا سويا ثم أماته بعد أن كان حيا قادر على إرجاعه حيا كما كان وأعظم مما كان. وذلك (٢) (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي تختبر (٣) الضمائر وتكشف الأسرار وتعرف العقائد والنيات الصالحة من الفاسدة والسليمة من المعيبة ويومها (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) ليس لهذا الكافر والمكذب بالبعث والحياة الثانية ما له قوة يدفع بها عن نفسه عذاب ربه ولا ناصر ينصره فيخلصه من العذاب. وقوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أقسم تعالى بالسماء ذات السحب والغيوم والأمطار ، والأرض ذات التشقق عن النباتات والزروع المختلفة على أن القرآن الكريم قول فصل وحكم عدل في كل مختلف فيه من الحق والباطل فما أخبر به وحكم فيه من أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها هو الحق الذي لا مرية فيه والصدق الذي لا كذب معه وقوله تعالى (وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي وليس القرآن باللعب الباطل بل هو الحق من الله الذي لا باطل معه. وقوله تعالى (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي إن كفار قريش يمكرون بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبدعوته مكرا ويكيدون لهما كيدا. وقوله (وَأَكِيدُ كَيْداً) أي وأنا أمكر بهم أكيد لهم كيدا فمن يغلب مكره وكيده الخالق المالك أم المخلوق المملوك؟ (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) يا رسولنا (أَمْهِلْهُمْ) قليلا ، فقد كتبنا في كتاب عندنا (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقد أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين فلم يمض إلا سنيات قلائل ، ولم يبق في مكة من سلطان إلا الله ، ولا من معبود يعبد إلا الله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد والبعث والجزاء.

٢ ـ تقرير أن أعمال العباد محصية محفوظة وأن الحساب يجري بحسبها.

٣ ـ بيان مادة تكوين الإنسان ومصدر تكوين تلك المادة.

٤ ـ التحذير من إسرار الشر وإخفاء الباطل ، وإظهار خلاف ما في الضمائر ، فإن الله تعالى عليم بذلك ، وسيختبر عباده في كل ما يسرون ويخفون.

__________________

(١) جائز أن يكون (عَلى رَجْعِهِ) ماء في الصلب كما كان قادرا إلا أن ما في التفسير أولى بقرينة يوم تبلى السرائر وذلك يوم القيامة الذي هو يوم البعث.

(٢) (تُبْلَى) نختبر وتمتحن لإظهار ما كان مستورا مخبوءا فيها من كفر وإيمان وخير وشر. ورد عن السلف أن الوضوء والغسل والصلاة والصيام والزكاة من السرائر ، وأن حيض المرأة وحملها من السرائر إذ في إمكانها إخفاءه وإظهاره.

(٣) (السَّرائِرُ) جمع سريرة وهي ما يسر العبد ويخفيه في نفسه. وما يستره من أعماله. قال الأحوص :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشاء

سريرة ود يوم تبلى السرائر

٥ ـ إثبات أن القرآن قول فصل ليس فيه من الباطل شيء وقد تأكد هذا بمرور الزمان فقد صدقت أنباؤه ونجحت في تحقيق الأمن والاستقرار أحكامه.

سورة الأعلى

مكية وآياتها تسع عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤))

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

شرح الكلمات :

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) : أي نزه اسم ربك أن يسمى به غيره وأن يذكر بسخرية أو لعب أي لا يذكر إلا باجلال واكبار ونزه ربك عما لا يليق به من الشرك والصاحبة والولد والشبيه والنظير.

(الْأَعْلَى) : أي فوق كل شيء والقاهر لكل شيء.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) : أي الإنسان فسوى أعضاءه بأن جعلها متناسبة غير متفاوتة.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) : أي قدر ما شاء لمن شاء وهداه إلى إتيان ما قدره له وعليه.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) : أي أنبت العشب والكلأ.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) : أي بعد الخضرة والنضرة هشيما يابسا أسود.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) : أي القرآن فلا تنساه بإذننا.

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) : أي إلا ما شئنا أن ننسيكه فإنك تنساه وذلك إذا أراد الله تعالى نسخ شيء من القرآن بلفظه فإنه ينسي فيه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) : أي للشريعة السهلة وهي الإسلام.

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) : أي من تذكر أو لم تنفع ومعنى ذكر عظ بالقرآن.

(وَيَتَجَنَّبُهَا) : أي الذكرى أي يتركها جانبا فلا يلتفت إليها.

(الْأَشْقَى) : أي الكافر الذي كتبت شقاوته أزلا.

(يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) : أي نار الدار الآخرة.

(لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) : أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيا فيهنأ.

معنى الآيات :

قوله تعالى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) هذا أمر من الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته تابعة له بأن ينزه اسم (٢) ربه عن أن يسمى به غيره ، أو أن يذكر في مكان قذر ، أو أن يذكر بعدم اجلال واحترام ، والأعلى صفة للرب تبارك وتعالى دالة على علوه على خلقه فالخلق كله تحته وهو قاهر له وحاكم فيه. (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي أوجد من العدم المخلوقات وسوى خلقها كل مخلوق بحسب ذاته فعدل أجزاءه وسوى بينها فلا تفاوت فيها (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي قدر الأشياء في كتاب المقادير من خير وغيره وهدى كل مخلوق إلى ما قدره له أو عليه فهو طالب له حتى يدركه في زمانه ومكانه وعلى الصورة التى قدر عليها (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي ما ترعاه البهائم من الحشيش والعشب والكلأ. (فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٣) أي فجعله بعد الخضرة والنضرة هشيما متفرقا يابسا بين سواد وبياض وهي الحوة هذه خمس آيات الآية الأولى تضمنت الأمر بتنزيه اسم الله والأربع بعدها في التعريف به سبحانه وتعالى حتى يعظم اسمه وتعظم ذاته وتنزه عن الشريك والصاحبة والولد وقوله تعالى (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) هذه عدة من الله تعالى لرسوله. لعل سببها أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءه جبريل بالآيات يخاف نسيانها فيستعجل قراءتها قبل فراغ جبريل عليه‌السلام من إملائها عليه فيحصل له بذلك شدة فطمأنه ربه أنه لا ينسى ما يقرئه جبريل (إِلَّا ما شاءَ (٤) اللهُ) أن ينسيه إياه لحكمة اقتضت ذلك فإنه ينساه فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينسى وذلك لما أراد الله أن ينسخه من كلامه.

__________________

(١) روي في السنن لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعلوها في سجودكم. فكانوا يقولون في سجودهم سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر.

(٢) إن تنزيه الاسم مستلزم لتنزيه المسمى ، فلذا لا حاجة إلى القول بأن اسم صلة قصد بها تعظيم المسمى. استشهادا بقول لبيد :

إلى الحول تم اسم السلام عليكما

فتنزيه اسم الله وتقديسه مطلوب

بل من أسمى المطالب ، وتنزيه الله تعالى يكون بنفي الشريك عنه والولد ونفي كل نقص عنه قولا واعتقادا وما يقرر أن تنزيه الاسم مستلزم لتنزيه المسمى قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجعلوها في سجودكم. لأنها دالة على تنزيه الرب تعالى وتعظيمه.

(٣) الأحوى : الموصوف بالحوة وهي لون من الألوان سمرة تقرب من السواد ، وأحوى صفة لغثاء الذي هو اليابس من النبات.

(٤) الاستثناء مفرغ أي إلا الذي شاء الله أن تنساه فإنك تنساه.

وقوله تعالى (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) هذه الجملة تعليلية لقدرة الله تعالى على أن يحفظ على رسوله القرآن فلا ينساه ومعنى يعلم الجهر وما يخفى أي أن الله تعالى يعلم ما يجهر به المرء من قراءة أو حديث وما يخفيه الكل يعلمه الله بخلاف عباده فإنهم لا يعلمون ما يخفى عليهم ويسر به وقوله تعالى (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي للطريقة السهلة الخالية من الحرج وهي الشريعة الإسلامية التي بنيت على أساس أن لا حرج في الدين (وما جعل عليكم في الدين من حرج وقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ (١) الذِّكْرى) من آيسناك من إيمانهم أو لم تنفع. لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور بالبلاغ فيبلغ الكافر والمؤمن ويذكر الكافر والمؤمن. والأمر بعد لله. وقوله تعالى (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي سيذكر ويتعظ من يخشي عقاب الله لإيمانه به ومعرفته له (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي الذكرى (الْأَشْقَى) أي أشقى الفريقين فريق من يتذكر وفريق من لا يتذكر (الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي يدخل النار الكبرى نار يوم القيامة (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها) من جراء عذابها فيستريح (وَلا يَحْيى) (٢) فيهنأ ويسعد إذ الشقاء لازمه. وهذه حال أهل النار ونعوذ بالله من حال أهل النار.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب تسبيح اسم الله وتنزيهه عما لا يليق به كوجوب تنزيه ذات الله تعالى عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله.

٢ ـ مشروعية قول سبحان ربي الأعلى عند قراءة هذه الآية سبح اسم ربك الأعلى.

٣ ـ وجوب التسبيح بها في السجود في كل سجدة من الصلاة سبحان ربي الأعلى ثلاثا فأكثر.

٤ ـ مشروعية قراءة هذه السورة في الوتر فيقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة والأعلى وفي الثانية بالفاتحة والكافرون ، وفي ركعة الوتر بالفاتحة والصمد أو الصمد والمعوذتين.

٥ ـ أحب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة الأعلى لأنها سورة ربه وأن ربه بشره فيها بشارتين عظيمتين الأولى انه ييسره لليسرى ، ومن ثم ما خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما والثانية أنه حفظه من النسيان بأن جعله لا ينسى. ولذا كان يصلي بهذه السورة الجمع والأعياد والوتر في كل ليلة فصلى الله عليه وسلم.

__________________

(١) في الجملة تعريض بأن بين كفار قريش من لم تنفعهم الذكرى ، ومع هذا فالتذكير متعين للجميع إقامة للحجة.

(٢) قوله (وَلا يَحْيى) في الجملة احتراس مما قد يظن أنه ما دام الجهنمي أنه لا يموت فسوف يحيى حياة عادية لا عذاب فيها فرفع هذا التوهم بهذه الجملة (وَلا يَحْيى) أي حياة راحة من العذاب كما قال القائل :

ألا ما لنفس لا تموت فينقضي

عناها ولا تحيا حياة لها طعم

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

شرح الكلمات :

(أَفْلَحَ) : أي فاز بأن نجا من النار ، ودخل الجنة.

(مَنْ تَزَكَّى) : أي تطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) : أي في كل أحايينه عند الأكل وعند الشرب وعند النوم وعند الهبوب منه وفي الصلاة وخارج الصلاة من تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير.

(فَصَلَّى) : أي الصلوات الخمس والنوافل من رواتب وغيرها.

(تُؤْثِرُونَ) : أي تقدمون وتفضلون الدنيا على الآخرة.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) : أي إن هذا وهو قوله قد أفلح إلى قوله وأبقى.

(صُحُفِ إِبْراهِيمَ) : إذ كانت عشر صحف.

(وَمُوسى) : أي توراته.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) يخبر تعالى بفلاح عبد مؤمن زكى نفسه (١) أي طهرها بالإيمان وصالح الأعمال ، وذكر اسم ربه على كل أحايينه عند القيام من النوم عند الوضوء بعد الوضوء في الصلاة وبعد الصلاة وعند الأكل والشرب وعند اللباس فلا يخلو من ذكر الله ساعة فصلى الصلوات الخمس وصلى النوافل. ومعنى الفلاح الفوز والفوز هو النجاة من المرهوب والظفر بالمرغوب المحبوب. والمراد منه في الآية النجاة من النار ودخول الجنة لآية آل عمران (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ). وقوله تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أيها الناس أي تفضلونها على الآخرة فتعملون لها وتنسون الآخرة فلا تقدمون لها شيئا.

__________________

(١) قوله (تَزَكَّى) فيه معنى المعالجة وهي أنه عمل على تزكية نفسه بإبعادها عما يخبثها من الشرك والآثام ، ثم بتحليتها بالعبادات المزكية لها وهي الإيمان وصالح الأعمال.

هذا هو طبعكم أيها الناس إلا من ذكر الله فصلى بعد أن آمن واهتدى في حين أن الآخرة خير من الدنيا وأبقى خير نوعا وأبقى مدة حتى قال الحكماء (١) لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف .. طين لاختار العاقل ما يبقى على ما يفنى ، لأن الدنيا فانية والآخرة باقية وقوله تعالى (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أي إن قوله تعالى قد أفلح من تزكى إلى قوله خير وأبقى مذكور في كل من صحف ابراهيم وكانت له عشر صحف ولموسى (٢) ، التوراة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الترغيب في الزكاة والذكر والصلاة ، ويحصل هذا للمسلم كل عيد فطر إذ يخرج زكاة الفطر أولا ثم يأتي المسجد يكبر ، ثم يصلي حتى أن بعضهم يرى أن هذه الآية نزلت في ذلك.

٢ ـ التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة لفناء الدنيا وبقاء الآخرة.

٣ ـ توافق الكتب السماوية دليل أنها وحي الله وكتبه أنزلها على رسله عليهم‌السلام.

سورة الغاشية

مكية وآياتها ست وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

__________________

(١) قال مالك بن دينار ونص كلمته كالتالي : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى لكان الواجب أن يؤثر خزف يبقى على ذهب يفنى. قال فكيف والآخرة من ذهب يبقى والدنيا من خزف يفنى؟

(٢) لقد كان لموسى صحف كثيرة إذ هي مجموع صحف أسفار التوراة والصحف جمع صحيفة على غير قياس إذ القياس صحائف وصار صحف أشهر وأفصح من صحائف كما قالوا في جمع سفينة سفن فكان أفصح من سفائن.

شرح الكلمات :

(هَلْ أَتاكَ) : أي قد جاءك.

(الْغاشِيَةِ) : أي القيامة وسميت الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) : أي يوم إذ تقوم الساعة.

(خاشِعَةٌ) : أي ذليلة أطلق الوجوه وأراد أصحابها.

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) : أي ذات نصب وتعب بالسلاسل والأغلال وتكليف شاق الأعمال.

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) : ترد هذه الوجوه نارا حامية قد اشتدت حرارتها.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) : أي بلغت أناها من الحرارة يقال أني الحميم إذا بلغ منتهاه.

(إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) : أي أخبث طعام وأنتنه ، وضريع الدنيا نبت يقال له الشبرق لا ترعاه الدواب لخبثه.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) : أي حسنة نضرة.

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) : أي لعملها الصالحات في الدنيا راضية في الآخرة لما رأت من ثوابها.

(لاغِيَةً) : أي كلمة لاغية من اللغو والباطل.

(وَأَكْوابٌ) : أقداح لا عرا لها موضوعة على حافة العين للشرب.

(وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) : أي ومساند جمع نمرقة مصفوفة الواحدة إلى جنب الأخرى للاستناد إليها.

(وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) : أي بسط وطنافس لها خمل وما لا خمل لها يسمى سجادة ومعنى مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (هَلْ أَتاكَ (١) حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (٢) هذا خطاب من الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول له فيه هل أتاك نبأ الغاشية وخبرها العظيم وحديثها المهيل المخيف إن لم يكن أتاك فقد أتاك الآن إنه حديث القيامة التي تغشي الناس بأهوالها وصعوبة مواقفها واشتداد أحوالها وإليك عرضا سريعا لبعض ما يجري فيها : (وُجُوهٌ (٣) يَوْمَئِذٍ) تغشاهم الغاشية (خاشِعَةٌ) ذليلة (ناصِبَةٌ) أي

__________________

(١) افتتح تعالى هذه السورة بالاستفهام بهل المفيد لمعنى قد التي هي للتحقيق من أجل التشويق إلى ما يخبر به لما فيه من العلم والمعرفة وما يحوي من موعظة كبرى.

(٢) (الْغاشِيَةِ) : القيامة علم لها بالغلبة واشتق لها هذا الاسم من الغشيان الذي هو التغشيان الذي هو التغطية إذ هي تغطي الناس بأهوالها وتذهل عقولهم وتغطيها.

(٣) هذه الجملة بيان لجملة حديث الغاشية بينها بذكر أحوالها وأهوالها إذ المقصود العبرة وتقرير البعث الذي أنكره المشركون وذكر الوجوه كناية عن أصحابها إذ يطلق الوجه ويراد به الذات.

ذات نصب وتعب من جر السلاسل والأغلال ، وتكليف أشق الأعمال (تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي ترد نارا (تُسْقى) أي فيها (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) قد بلغت أناها وانتهت إلى غايتها في حرارتها هذا هو الشراب أما الطعام فإنه (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (١) قبيح اللون خبيث الطعم منتن الريح ، (لا يُسْمِنُ) آكله ولا يغنيه من جوع. هذه حال من كفر وفجر كفر بالله وبآياته ولقائه ورسوله ، أو فجر عن طاعة الله ورسوله فترك الفرائض وغشي المحارم هذه وجوه و (وُجُوهٌ (٢) يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي نضرة حسنة فإنها (لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي لسعيها في الدنيا وهو إيمانها وصبرها إيمانها وجهادها إيمانها وتقواها إيمانها وعملها الصالح أصحاب هذه الوجوه راضون بأعمالهم لما رأوا من ثوابها والجزاء عليها.

إنهم أدخلوا (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) لا يقادر علاها ، (لا تَسْمَعُ (٣) فِيها لاغِيَةً) أي كلمة باطلة تنغص سعادتهم ولا كلمة نابية تقلق راحتهم. (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) من غير أخدود حفر لها ، (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) قدرا وحالا ومكانا ، (وَأَكْوابٌ) أقداح لا عرا لها من ذهب وفضة (مَوْضُوعَةٌ) لشربهم إن شاءوا شربوا بأيديهم أو ناولتهم غلمانهم ، ذاك لون من الشراب أما الفراش فإنها سرر مرفوعة ، (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) ، وسائد قد صفت للراحة والاتكاء الواحدة إلى جنب الأخرى طنافس ذات خمائل مبثوثة مفروشة هنا وهناك مبسوطة. هذه لمحة خاطفة عن الدار الآخرة تعتبر ذكرى للذاكرين وعظة للمتقين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر عرض سريع لها.

٢ ـ من أسماء القيامة الغاشية لأنها تغشى الناس بأهوالها.

٣ ـ بيان أن في النار نصبا وتعبا. على عكس الجنة فإنها لا نصب فيها ولا تعب.

٤ ـ من مؤلمات النفس البشرية لغو الكلام وكذبه باطله وهو ما ينزه عنه المؤمنون أنفسهم.

__________________

(١) الضريع هو يابس ثمر الشبرق بكسر الشين وإسكان الباء وكسر الراء وهو نبت ذو شوك فإذا يبس يقال له ضريع ويصير مسموما أي فيه مادة السم القاتلة هذا طعام أهل النار وجائز أن يكون الضريع شجر في النار ينتج عنه عصير الغسلين.

(٢) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ). هذه الجملة غير معطوفة على الوجوه الأولى ، لأن المقصود من الكلام هو بيان القيامة وما يكون فيها من عذاب وشقاء للمكذبين بها. فلما تم الحديث عنها قد يتشوق السامع إلى معرفة حال المؤمنين بها فأجيب بقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) الخ .. فهو استئناف بياني.

(٣) قرأ نافع لا تسمع بالبناء للمجهول ولاغية نائب فاعل وقرأ حفص (لا تَسْمَعُ) بالبناء للفاعل و (لاغِيَةً) مفعول به.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

شرح الكلمات :

(أَفَلا يَنْظُرُونَ) : أي أينكرون البعث فلا ينظرون نظر اعتبار.

(إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) : أي خلقا بديعا معدولا به عن سنن سائر المخلوقات.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) : أي فوق الأرض بلا عمد ولا مستند.

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) : أي على وجه الأرض نصبا ثابتا لا يتزلزل.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) : أي بسطت.

(فَذَكِّرْ) : أي ذكرهم بنعم الله ودلائل توحيده.

(بِمُصَيْطِرٍ) : أي بمسلط.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَفَلا يَنْظُرُونَ) (١) أي أينكرون البعث والجزاء وما أعد الله لأوليائه من النعيم المقيم وما أعد لأعدائه من عذاب الجحيم. أفلا ينظرون نظرة اعتبار (إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (٢) ، وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) فهل خلق الإبل على تلك الصورة العجيبة وذاك التسخير لها وما فيها من منافع إذ يشرب لبنها ويركب ظهرها ويؤكل لحمها لا يدل على قدرة الخالق على إحياء الموتى وهل خلق السماء بكواكبها وشمسها وقمرها ثم رفعها بغير عمد يدعمها ولا سند يسندها لا يدل على قدرة الله على بعث الموتى أحياء ليحاسبهم ويجزيهم ، وهل نصب الجبال بعد خلق ترابها وإيجاد صخورها لا يدل على قدرة الله خالقها

__________________

(١) هذا الكلام متفرع عما سبقه إذ إنكار المشركين للبعث والجزاء وللتوحيد الناتج عن جهلهم وغفلتهم وعدم تفكرهم فلذا استحثهم على النظر والتفكر موبخا لهم على ترك ذلك.

(٢) (كَيْفَ خُلِقَتْ) بدل اشتمال من الإبل ، وكيف في محل نصب على الحال والعامل فيه ما ذكر بعدها وأما وإلى السماء وما بعدها فإنها معطوفات على جملة إلى الإبل وإعراب كيف واحد والإبل اسم جمع للبعران لا مفرد لها من لفظه.

على بعث الرمم وإحياء الأجساد البالية كيف شاء ومتى شاء وهل خلق الأرض بكل ما فيها ثم بسطها وتسطيحها للحياة عليها والسير فوقها وتعميرها بأنواع العمران لا يدل على قدرة الله على البعث والجزاء. فما للقوم لا ينظرون (١) ولا يفكرون وقوله تعالى (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) بعد لفت أنظار المشركين إلى ما لو نظروا إليه وتفكروا فيه لاهتدوا إلى الحق وعرفوا أن الخالق لكل شيء لا يعجزه بعث عباده ولا جزاؤهم. أمر رسوله أن يقوم بالمهمة التي أنيطت به وهي التذكير دون الهداية التي هي لله وحده دون سواه فقال له (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي ذكر بمظاهر قدرتنا وآياتنا في الآفاق وآلائنا على العباد إنما أنت مذكر ليس غير. وقوله (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي بمتسلط تجبرهم على الإيمان والاستقامة وقوله (إِلَّا مَنْ (٢) تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي لكن من تولى عن الإيمان فكفر بآياتنا ورسولنا ولقائنا (فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) وهو عذاب الآخرة. وقوله تعالى (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) أي رجوعهم إلينا لا إلى غيرنا. (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا) لا على غيرنا (حِسابَهُمْ) ومن ثم سوف نجزيهم الجزاء اللائق بهم ، ولذا فلا يضرك يا رسولنا إعراضهم ولا توليهم. وحسبك تذكيرهم فمن اهتدى نجا ونجاته لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها إذ عاقبة ضلاله وهي الخسران التام عائدة عليه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير البعث والجزاء بالدعوة إلى النظر إلى الأدلة الموجبة للإيمان به.

٢ ـ بيان أن الداعي إلى الله تعالى مهمته الدعوة دون هداية القلوب فإنها إلى الله تعالى وحده.

٣ ـ بيان أن مصير البشرية إلى الله تعالى وهي حال تقتضي الإيمان به تعالى وطاعته وطلبا للنجاة من عذابه والفوز برحمته. وهو مطلب كل عاقل لو أن الناس يفكرون.

__________________

(١) من مظاهر رحمة الله ولطفه بعباده أن يوجه عباده إلى سبيل هدايتهم توجيها خاليا من العناء والمشقة فالعربي يركب بعيره في طريقه إلى حاجته فينظر إليه وهو راكبه وينظر إلى السماء فوقه وإلى الجبال حواليه وإلى الأرض تحت قدميه فيسأل أليس القادر على خلق هذا قادرا على البعث؟ فيجيب نفسه بلى إنه قادر.

(٢) روي أن عليا أتى بمرتد عن الإسلام فاستتابه ثلاثة أيام فلم يتب وأصر على الردة فضرب عنقه وقرأ (إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ).

سورة الفجر

مكية وآياتها ثلاثون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

شرح الكلمات :

(وَالْفَجْرِ) : أي فجر كل يوم.

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) : أي عشر ذي الحجة.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) : أي الزوج والفرد.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) : أي مقبلا أو مدبرا.

(لِذِي حِجْرٍ) : أي حجى وعقل.

(بِعادٍ إِرَمَ) : هي عاد الأولى.

(ذاتِ الْعِمادِ) : إذ كان طول الرجل منهم اثنى عشر ذراعا.

(جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) : أي قطعوا الصخر جعلوا من الصخور بيوتا بوادي القرى.

(ذِي الْأَوْتادِ) : أي صاحب الأوتاد وهي أربعة أوتاد يشد إليها يدي ورجلي من يعذبه

(طَغَوْا فِي الْبِلادِ) : أي تجبروا فيها وظلموا العباد وأكثروا فيها الفساد.

(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) : أي الشرك والقتل.

(سَوْطَ عَذابٍ) : أي نوع عذاب.

(لَبِالْمِرْصادِ) : أي يرصد أعمال العباد ليجزيهم عليها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (١) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) هذه أربعة أشياء قد أقسم الله تعالى بها وهي الفجر وفي كل يوم فجر وجائز أن يكون قد أراد تعالى فجر يوم معين وجائز أن يريد فجر كل يوم (وَلَيالٍ عَشْرٍ) وهي العشر الأول من شهر الحجة وفيها عرفة والأضحى وقد أشاد بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ما من (٢) أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من عشر ذي الحجة (وَالشَّفْعِ) وهو كل زوج (وَالْوَتْرِ) (٣) وهو كل فرد فهو إقسام بالخلق كله (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) مقبلا أو مدبرا فهو بمعنى والليل إذا سار والسير يكون صاحبه ذاهبا أو آيبا وقوله تعالى (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي لذي حجر ولب وعقل أي نعم فيه قسم عظيم وجواب القسم أو المقسم عليه جائز أن يكون قوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الآتي ، وجائز أن يكون مقدرا مثل لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير ، وهذا لأن السورة مكية وهي تعالج العقيدة ومن أكبر ما أنكره المشركون البعث والجزاء فلذا هذا الجواب مراد ومقصود. ويدل عليه ما ذكر تعالى من مظاهر قدرته في الآيات بعد والقدرة هي التي يتأتى بها البعث والجزاء فقال عزوجل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ (٤) فَعَلَ رَبُّكَ) أي ألم تنظر بعيني قلبك (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ (٥) بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) وهي عاد الأولى قوم هود الذين قالوا من أشد منا قوة ، وقال لهم نبيهم هود وزادكم في الخلق بسطة فقد كان طول الرجل منهم اثنى عشر ذراعا ، ولفظ إرم عطف بيان لعاد فإرم هي عاد قوم هود ووصفها بأنها ذات عماد وأنها (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) هو وصف لها بالقوة والشدة وفعلا كانوا أقوى الأمم وأشدها ولازم طول الأجسام أن تكون أعمدة المنازل كأعمدة الخيام من الطول ما يناسب سكانها في طولهم. ومع هذه القوة والشدة فقد أهلكهم الله الذي هو أشد منهم قوة وقوله تعالى (وَثَمُودَ الَّذِينَ (٦) جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ). أي وانظر كيف فعل ربك بثمود وهم أصحاب الحجر (مدائن صالح) شمال المدينة النبوية قوم صالح الذين كانوا أقوياء أشداء حتى

__________________

(١) لصلوحية الشفع والوتر لأشياء كثيرة ذكر القرطبي منها عددا كثيرا فروى عن عمران بن حصين أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال الشفع صلاة الصبح والوتر صلاة المغرب وأولى ما يقال أن الله تعالى أقسم بكافة خلقه إذ كل ما عداه تعالى ما بين شفع ووتر ، إذ الشفع ما يكون ثانيا لغيره ، والوتر الشيء المفرد.

(٢) رواه مسلم وغيره.

(٣) قرأ نافع والجمهور والوتر بفتح الواو وكسرها حفص.

(٤) (أَلَمْ تَرَ) استفهام تقريري والمخاطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو متضمن التعريض بالمشركين المعاندين ، كما هو متضمن الوعد بنصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرؤية قلبية أو هي بمعنى ألم ينتهي إلى علمك فعل ربك بعاد الخ ..

(٥) عاد اسم أبي قبيلة وهو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه‌السلام.

(٦) وكون عاد إرم هم قوم هود عليه‌السلام يرجحه ذكر ثمود بعدهم في السياق كما هو في سائر قصص القرآن.

إنهم قطعوا الصخور نحتا لها فجعلوا منها البيوت والمنازل كما قال تعالى عنهم (وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً) والمراد بالواد واديهم الذي كان بين جبلين من جبالهم التي ينحتون منها البيوت. فمعنى جابوا الصخر بالواد أي قطعوا الصخور بواديهم وجعلوا منها مساكن لهم تقيهم برد الشتاء القارص وحر الصيف اللافح ، ومع هذا فقد أهلكهم الله ذو القوة المتين وقوله (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي (١) الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) وانظر يا رسولنا كيف فعل ربك بفرعون صاحب المشانق والقتل والتعذيب إذ كان له أربعة أوتاد إذا أراد قتل من كفر به وخرج عن طاعته قيد كل يد بوتد وكل رجل بوتد ويقتله كما هي المشانق التي وضعها الطغاة الظلمة فيما بعد. وقوله تعالى (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) وهو الشرك والمعاصي فأهلكهم الله أجمعين عاد إرم وثمود وفرعون وملأه إذ (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (٢) أي نوع عذاب من أنواع عذابه فأهلك عاد إرم بالريح الصرصر ، وثمود بالصيحة العاتية ، وفرعون بالغرق في البحر. وقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي لكل جبارعات وطاغية ظالم أي هو تعالى يرصد أعمال العباد ليجزيهم بها في الدنيا وفي الآخرة. ولفظ المرصاد يطلق على مكان يرصد فيه تحركات الصيد الذي يصاد ، أو تحركات العدو وهو كبرج المراقبة. والرب تبارك وتعالى فوق عرشه والخليقة كلها تحته يعلم ظواهرها وبواطنها ويراقب أعمالها ويجزيها بحسبها قال تعالى (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضل الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى العاشر منه.

٢ ـ بيان مظاهر قدرة الله في إهلاك الأمم العاتية والشعوب الظالمة مستلزم لقدرته تعالى على البعث والجزاء والتوحيد والنبوة وهو ما أنكره أهل مكة.

٣ ـ التحذير من عذاب الله ونقمه فإنه تعالى بالمرصاد فليحذر المنحرفون عن سبيل الله والحاكمون بغير شرعه والعاملون بغير هداه أن يصب عليهم سوط عذاب.

__________________

(١) جائز أن يكون الموصول مرادا به عاد إرم وثمود وفرعون ، وكونه عائدا إلى فرعون أولى وإن كان الجميع طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد بالشرك والظلم والفساد.

(٢) السوط آلة ضرب يتخد من جلد يضفر ظفرا فيصبح كالعصا فتضرب به الخيل لتسرع في جريها ، ويطلق العرب لفظ سوط على كل عذاب يكون فيه السوط ، وسوط عذاب هو من إضافة الصفة إلى الموصوف إذ كلمة سوط صفة للعذاب والعرب يطلقون لفظ سوط العذاب على كل نهاية العذاب حتى قال الشاعر :

ألم تر أن الله أظهر دينه

وصب على الكفار سوط عذاب

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠))

شرح الكلمات :

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ) : أي الكافر المشرك.

(ابْتَلاهُ) : أي اختبره.

(فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) : أي بالمال والجاه ونعمه بالخيرات.

(أَكْرَمَنِ) : أي فضلني لمالي من مزايا على غيري.

(فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) : أي ضيقه ولم يوسعه عليه.

(أَهانَنِ) : أي أذلني بالفقر ولم يشكر الله على ما وهبه من سلامة جوارحه والعافية في جسمه.

(كَلَّا) : أي ليس الأمر كما يرى هذا الكافر ويعتقد ويقول.

(التُّراثَ) : أي الميراث.

(أَكْلاً لَمًّا) : أي أكلا كثيرا ولما شديدا إذ يلمون نصيب النساء والأطفال لما لهم فلا يورثونهم من التركة.

(حُبًّا جَمًّا) : أي حبا شديدا كثيرا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَأَمَّا الْإِنْسانُ (١) إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي (٢) أَكْرَمَنِ) لقد تقدم قول الله

__________________

(١) الفاء للتفريع وما بعدها متفرع عما قبلها ، وفي التفسير بيان ذلك وتوضيحه فليتأمل.

(٢) قرأ نافع ربي في الموضعين بفتح الياء وقرأ حفص بسكون الياء ممدودة.

تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وهو دال على أن الله تعالى يحب من عبده أن يعبده ويشكره ليكرمه في دار كرامته يوم لقائه ، وإعلام الله تعالى عباده بأنه بالمرصاد يراقب أعمالهم دلالته على أنه يخوفهم من معاصيه ويرغبهم في طاعته واضحة فتلخص من ذلك أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر وأنه يحب لهم الشكر فأما الإنسان فماذا يحب وماذا يكره قال تعالى عنه فأما الإنسان وهو المشرك وأكثر الناس مشركون إذا ما ابتلاه ربه أي اختبره فأكرمه بالمال والولد والجاه ونعمه بالأرزاق والخيرات لينظر الله هل يشكر أو يكفر فيقول مفاخرا ربي أكرمن أي فضلني على غيري لما لي من فضائل ومزايا لم تكن لهؤلاء الفقراء (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) (١) أي وأما إذا ما اختبره وضيق عليه رزقه لينظر تعالى هل يصبر العبد المختبر أو يجزع فيقول ربي اهانن أي أذلني فأفقرني.

وقوله تعالى (كَلَّا (٢) بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً) (٣) (لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٤) أي ألا فارتدعوا أيها الماديون الذين تقيسون الأمور كلها بمقاييس المادة فالله جل جلاله يوسع الرزق اختبارا للعبد هل يشكر نعم الله عليه فيذكرها ويشكرها بالإيمان والطاعة ويضيق الرزق امتحانا هل يصبر العبد لقضاء ربه أو يجزع. وإنما أنتم أيها الماديون ترون أن في التوسعة اكراما وفي التضييق إهانة كلا ليس الأمر كذلك ، ونظريتكم المادية هذه أتتكم من حبكم الدنيا واغتراركم بها ويشهد بذلك إهانتكم لليتامى وعدم إكرامكم لهم لضعفهم وعجزهم أمامكم ، وعدم الاستفادة المادية منهم. وشاهد آخر أنكم لا تحضرن أنفسكم ولا غيركم على إطعام المساكين وهم جياع أمامكم ، وآخر أنكم تأكلون التراث أي الميراث (أَكْلاً لَمًّا) شديدا تجمعون مال الورثة من الأطفال والنساء إلى أموالكم. وتحرمون الضعيفين الأطفال والنساء. وآخر وتحبون المال حبا جما أي قويا شديدا. كلا ألا ارتدعوا واخرجوا من دائرة هذه النظرية المادية قبل حلول العذاب ، ونزول ما تكرهون. فآمنوا بالله ورسوله.

__________________

(١) قرأ نافع أكرمني وأهانني بياء ساكنة في الوصل وبحذفها في الوقف وقرأ حفص بدون ياء في الوصل والوقف معا. وكتابة الياء مفصولة عن النون إشارة إلى أنها تحذف في الوقف.

(٢) (كَلَّا) حرف زجر وردع للإنسان القائل أكرمن وأهانن إذ قوله باطل ولم يقم على علم بالإكرام ولا بالإهانة فالإكرام علته الاختبار هل يشكر العبد أو يكفر ، وتقدير الرزق تضييقه علته الامتحان هل يصبر العبد أو يسخط هذه هي الحقيقة والعبد الكافر الجاهل يري أن الإكرام لشخص المكرم والإهانة كذلك.

(٣) (لَمًّا) أي جمعا شديدا يقال لممت الطعام ألمه إذا جمعته وأكلته ومنه قول بعضهم لم الله شملك أو شعثك أي جمع ما تفرق من أمرك.

(٤) (جَمًّا) أي كثيرا حلاله وحرامه إذ الجم الكثير يقال جم الشيء يجم جموما فهو جم وجام. ومنه جم الماء في الحوض أو البئر إذا اجتمع والجموم البئر الكثيرة الماء.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ النظرية المادية لم تكن حديثة عهد إذ عرفها الماديون في مكة من مشركي قريش قبل أربعة عشر قرنا.

٢ ـ وجوب اكرام اليتامى والحض على إطعام الجياع من فقراء ومساكين.

٣ ـ وجوب اعطاء المواريث لمستحقيها ذكورا أو اناثا صغارا أو كبارا.

٤ ـ التنديد بحب المال الذي يحمل على منع الحقوق ، ويزن الأمور بميزانه قوة وضعفا.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

شرح الكلمات :

(إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا) : أي حركت حركة شديدة وزلزلت زلزالا قويا فلم يبق عليها شاخص البتة.

(وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) : أي والملائكة أي صفا بعد صف.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) : أي تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك.

(يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) : أي الكافر ما قالت له الرسل من وعد الله ووعيده ، يوم لقائه.

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) : أي لا تنفعه في هذا اليوم الذكرى.

(قَدَّمْتُ لِحَياتِي) : أي هذه الإيمان وصالح الأعمال.

(لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) : أي لا يعذب مثل عذاب الله أحد أي في قوته وشدته.

(وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) : أي ولا يوثق أحد مثل وثاق الله عزوجل.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) : أي المؤمنة الآمنة اليوم من العذاب لما لاح لها من بشائر النجاة.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) : أي إلى جواره في دار كرامته أي الجنة.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) : أي في جملة عبادي المؤمنين المتقين.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) : أي دار كرامتي لأوليائي.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (١) هو كقوله (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (وَجاءَ رَبُّكَ) أي لفصل القضاء (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٢) بعد صف ، (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) تجر بسبعين ألف زمام كل زمام بأيدي سبعين ألف ملك. هنا وفي هذا اليوم وفي هذه الساعة (يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) (٣) المهمل المفرط المعرض عن دعوة الرسل ، الكافر بلقاء الله والجزاء على الأعمال (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) هنا يتذكر وماذا يتذكر؟ ، وكفره كان عريضا وشره كان مستطيرا ، ماذا يتذكر وهل تنفعه الذكرى ، اللهم لا ، لا وماذا عساه أن يقول في هذا الموقف الرهيب يقول نادما متحسرا (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي هذه الحياة الماثلة بين يديه ، وهل ينفعه التمني اللهم لا ، لا.

قال تعالى مخبرا عن شدة العذاب وقوة الوثاق (فَيَوْمَئِذٍ) أذ تقوم القيامة ويجيء الرب لفصل القضاء ويجاء بجهنم ويتذكر الإنسان ويأسف ويتحسر في هذا اليوم يقضي الله تعالى بعذاب أهل الكفر والشرك والفجور والفسوق فيعذبون ويوثقون بأمر الله وقضائه في السلاسل ويغلون في الأغلال ويذوقون العذاب والنكال الأمر الذي ما عرفه الناس في الدنيا أيام كانوا يعذبون المؤمنين ويوثقونهم في الحبال وهو ما أشار إليه بقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ) (٤) (عَذابَهُ أَحَدٌ) أي لا يعذب عذاب احد في الدنيا مهما بالغ في التعذيب عذاب الله في الآخرة (وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي (٥) لا يوثق أحد في الدنيا وثاق الله في الآخرة هذه صورة من عذاب الله لأعدائه من أهل الشرك به والكفر بآياته ورسوله ولقائه وأما أهل الإيمان به وطاعته وهم أولياؤه الذين آمنوا في الدنيا وكانوا يتقون فها هم ينادون فاستمع (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) إلى صادق وعد الله ووعيده في كتابه وعلى لسان رسوله فآمنت واتقت وتخلت عن الشرك والشر فكانت مطمئنة بالإيمان وذكر الله قريرة

__________________

(١) الدك الحطم والكسر ، ودك الأرض تحطيمها وتفريق أجزائها.

(٢) الملك اسم جنس المراد به الملائكة وصفا صفا أي صفا بعد صف أي خلفه ووراءه.

(٣) (أَنَّى) اسم استفهام بمعنى أين له الذكرى والاستفهام مستعمل في الإنكار والنفي معا والتقدير وأين له نفع الذكرى

(٤) جائز أن يعود الكلام على الإنسان الكافر ويكون معناه أنه يعذب عذابا لا يعذبه أحد غيره ويوثق وثاقا لا يوثقه غيره من الموثقين ، وما في التفسير أولى.

(٥) الوثاق بمعنى الإيثاق يقال أوثقته إيثاقا.

العين بحب الله ورسوله ، وما وعدها الرحمن (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) أي إلى جواره في دار كرامته حال كونك (راضِيَةً) ثواب الله لك مرضيا عنك من قبل مولاك (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي في جملة عبادي الصالحين (وَادْخُلِي (١) جَنَّتِي) فيقال لها هذا عند ما يرسل الله الأرواح إلى الأجساد يوم المعاد ، فإذا دخلت تلقتها الملائكة بالسلام وتساق إلى ساحة العرض وتعطى كتابها بيمينها وثم يقال لها ادخلي في عبادي أي في جملتهم وادخلي جنتي بعد مرورها على الصراط اللهم اجعل نفسي مثل تلك النفس (٢) المطمئنة بالإيمان وذكر الله ووعد الرحمن وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير المعاد بعرض شبه تفصيلي ليوم القيامة.

٢ ـ بيان اشتداد حسرة المفرطين اليوم في طاعة الله تعالى وطاعة رسوله يوم القيامة.

٣ ـ بشرى النفس المطمئنة بالإيمان وذكر الله ووعده ووعيده ، عند الموت وعند القيام من القبر وعند تطاير الصحف.

سورة البلد

مكية وآياتها عشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ

__________________

(١) إن كان هذا القول وهو بشرى عظيمة للمؤمن يقال عند الموت فمعنى ارجعي إلى ربك هو على ظاهره أي ارجعي إلى جوار ربك وكرامته وحسن ثوابه كما في التفسير. وإن كان هذا يقال يوم القيامة فمعنى إلى ربك إلى صاحبك أي إلى الجسد الذي كانت فيه ، وذلك بعد خلق الله تعالى الأجساد وجائز أن يراد المعنيان فيقال هذا عند الموت. ويقال لها ذلك يوم القيامة وهذا من بلاغة القرآن وإعجازه فاللفظ واحد وهو صالح لموقفين مختلفين وسبحان الله العظيم.

(٢) أورد ابن كثير عند تفسير هذه الآية الدعاء الآتي اللهم إني أسألك نفسا بك مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك.

(٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

شرح الكلمات :

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) : أي مكة.

(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) : أي وأنت يا نبي الله محمد حلال بمكة.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) : أي وآدم وذريته.

(فِي كَبَدٍ) : أي في نصب وشدة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ) : أي أيظن وهو أبو الأشدين بن كلدة وكان قويا شديدا.

(أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) : يقول هذا مفاخرا بعداوة الرسول وأنه أنفق فيها مالا كثيرا.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) : أي أيظن أنه لم يره أحد؟ بل الله رآه وعلم ما أنفقه.

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) : أي بينا له طريق الخير وطريق الشر بما فطرناه عليه من ذلك وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (لا أُقْسِمُ (١) بِهذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌ (٢) بِهذَا الْبَلَدِ وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) هذا قسم لله تعالى أقسم فيه بمكة بلده الأمين والرسول بها وهو حل يقاتل ويقتل فيها وذلك يوم الفتح الموعود. وقد قتل صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومها ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة وأقسم بوالد وما ولد فالوالد آدم وما ولد ذريته منهم الأنبياء والأولياء وجواب القسم أو المقسم عليه قوله (لَقَدْ (٣) خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) أي في نصب وتعب لا يفارقانه منذ تخلقه في بطن أمه إلى وفاته بانقضاء عمره ثم يكابد شدائد الآخرة ثم إما إلى نعيم لا نصب معه ولا تعب ، وإما إلى جحيم لا يفارقه ما هو أشد من النصب والتعب عذاب الجحيم هكذا شاء الله وهو العليم الحكيم. وفي هذا الخبر الإلهي المؤكد بأجل قسم على أن الإنسان محاط منذ نشأته إلى نهاية أمره بالنصب والتعب ترويح على نفوس المؤمنين بمكة وهم

__________________

(١) الابتداء بالقسم للتشويق إلى ما يذكر بعد القسم ، ولا مزيدة لتقوية الكلام.

(٢) جملة وأنت حل بهذا البلد معترضة بين المتعاطفين وفائدتها تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعده بنصره على أعدائه.

(٣) (لَقَدْ خَلَقْنَا) : هذا جواب القسم والإنسان للجنس ولا يراد به واحد بعينه وبعضهم يرى أن المراد به أبو الأشدين أسيد بن كلدة الجمحي.

(٤) من مظاهر أن الإنسان مربوب وأن له ربا يسيره ويدبر حياته كونه لا يفارق النصب والتعب مدة حياته وهو لا يريد ذلك.

يعانون من الحاجة والاضطهاد والتعذيب أحيانا من طغاة قريش لا سيما المستضعفين كياسر وولده عمار وبلال وصهيب وخبيب ، وحتى الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو لم يسلم من أذى المشركين فإذا عرفوا طبيعة الحياة وأن السعادة فيها أن يعلم المرء أن لا سعادة بها هان عليهم الأمر وقل قلقهم وخفت آلامهم. كما هو تنبيه للطغاة وإعلام لهم بما هم عنه غافلون لعلهم يصحون من سكرتهم بحب الدنيا وما فيها وقوله عزوجل (أَيَحْسَبُ) (١) الإنسان (أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) هذا الإنسان الذي قيل أنه أبو الأشدين الذي أنفق ماله في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإسلام ويتبجح بذلك ويقول (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) كثيرا بعضه فوق بعض بلى إن الله تعالى قد رآه وعلم به وعلم القدر الذي أنفقه وسوف يحاسب عليه ويجزيه به ، ولن ينجيه اعتقاده الفاسد أنه لا بعث ولا جزاء قال تعالى مقررا له بقدرته ونعيمه عليه (أَلَمْ نَجْعَلْ (٢) لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٣) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٤) أي أعطيناه عينين يبصر بهما ولسانا ينطق به ويفصح عن مراده وزيناه بشفتين يستر بهما فمه وأسنانه ثم (هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي بينا له طريق الخير والشر والسعادة والشقاء بما أودعنا في فطرته وبما أرسلنا به رسلنا وأنزلنا به كتبنا أنسي هذا كله وتعامى عنه ثم هو ينفق ما اعطيناه في حرب رسولنا وديننا.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ شرف مكة وحرمتها وعلو شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمو مقامه وهو فيها وقد أحلها الله تعالى له ولم يحلها لأحد سواه.

٢ ـ شرف آدم وذريته الصالحين منهم.

٣ ـ اعلان حقيقة وهي أن الإنسان لا يبرح يعاني من أتعاب الحياة حتى الممات ثم يستقبل شدائد الآخرة إلى أن يقر قراره وينتهي تطوافه باستقراره في الجنة حيث يستريح نهائيا ، أو في النار فيعذب ويتعب أبدا.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ

__________________

(١) الاستفهام إنكاري مشبع بالتوبيخ والتقريع.

(٢) (أَلَمْ نَجْعَلْ) الاستفهام تقريري وفيه معنى التوبيخ.

(٣) الشفتين واحدتها شفة وأصلها شفو فقلبت الواو هاء فصارت شفة وتجمع على شفاه.

(٤) النجد الأرض المرتفعة ارتفاعا دون الجبل ، والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر كما في التفسير.

(١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

شرح الكلمات :

(فَلَا اقْتَحَمَ) : أي فهلا تجاوز.

(الْعَقَبَةَ) : أي الطريق الصعب في الجبل ، والمراد به النجاة من النار.

(فَكُّ رَقَبَةٍ) : أي اعتق رقبة في سبيل الله تعالى.

(فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) : أي في يوم ذي مجاعة وشدة مؤونة.

(يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) : أي أطعم يتيما من ذوي قرابته.

(مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) : أي أطعم فقيرا لا صقا بالتراب ليس له شيء.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله.

(وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) : أي أوصى بعضهم بعضا برحمة الفقراء والمساكين.

(أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) : أي أصحاب اليمين وهم المؤمنون المتقون.

(أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) : أي أصحاب الشمال وهم الكفار الفجار.

(مُؤْصَدَةٌ) : أي مطبقة لا نافذة لها ولا كوة فلا يدخلها هواء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (١) فهلا أنفق أبو الأشدين ما أنفقه في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا أنفقه في سبيل الله فاقتحم بها العقبة فتجاوزها ، وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) (٢) هذا تفخيم لشأنها وتعظيم له وقوله (فَكُّ رَقَبَةٍ (٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ) (٤) (مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) بهذه الأمور الأربعة تقتحم العقبة وتجتاز فينجو صاحبها من النار والأمور الأربعة هي :

__________________

(١) ذهب القرطبي إلى أن فلا هي بمعنى هلا التي هي للتحضيض ، وهو ما قررناه في التفسير وجائز أن يكون استفهاما إنكاريا ينكر عليه إنفاق أمواله فيما يضره وعدم إنفاقها فيما ينفعه.

(٢) الاستفهام للتشويق إلى معرفة حقيقة العقبة.

(٣) (فَكُّ رَقَبَةٍ) وما بعدها بيان للعقبة ، إذ التقدير هي فك رقبة. والمراد من فك الرقبة عتقها. وفي الحديث من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار.

(٤) هذه الجملة عطف على الجمل المسوقة للذم والتوبيخ.

* (فَكُّ رَقَبَةٍ) وقد ورد من اعتق رقبة مؤمنة فهي فداؤه من النار.

* (إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) أي مجاعة (١)

(يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي قرابة

(أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي ذا لصوق بالأرض لحاجته وشدة فقره.

* إيمان صادق بالله ورسوله وآيات الله ولقائه يحيا به قلبه.

* تواصى بالصبر أي مع المؤمنين المستضعفين بالثبات على الحق ولزوم طريقه وتواصي بالمرحمة مع أهل المال أن يرحموا الفقراء والمساكين فيسدوا خلتهم ويقضوا حاجتهم. بهذه الأربعة تجتاز العقبة وينجو المرء من عذاب الله ، وفي مثل هذا تنفق الأموال لا أن تنفق في الدسائس والمكر بالصالحين وخداع المؤمنين.

وقوله تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) لما ذكر الإيمان والعمل الصالح وهما المنجيان من عذاب الله تعالى ذكر ضدهما وهما الكفر والمعاصي وهما المهلكان الشرك والمعاصي لأن الكفر بآيات الله لازمه البقاء على الشرك المنافي للتوحيد ، والعصيان المنافي للطاعة وقوله تعالى (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي الشمال (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) مغلقة الأبواب مطبقة هي جزاؤهم لأنهم كفروا بآيات الله وعصوا رسوله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التنديد بمن ينفق ماله في معصية الله ورسوله ، والنصح له بالإنفاق في الخير فإنه أجدى له ، وأنجى من عذاب الله.

٢ ـ بيان أن عقبة عذاب الله يوم القيامة تقتحم وتجتاز بالإنفاق في سبيل الله وبالإيمان والعمل الصالح والتواصي به.

٣ ـ التنديد بالكفر والوعيد الشديد لأهله.

سورة الشمس

مكية وآياها خمس عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها

__________________

(١) اليتيم : الولد الذي ليس له أب لموته وهو دون البلوغ.

(٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

شرح الكلمات :

(وَضُحاها) : أي ونهارها

(إِذا تَلاها) : أي تلا الشمس فطلع بعد غروبها مباشرة وذلك ليلة النصف من الشهر.

(إِذا جَلَّاها) : أي إذا أضاءها.

(إِذا يَغْشاها) : أي غشى الشمس حتى تظلم الآفاق.

(وَما بَناها) : أي ومن بناها وهو الله عزوجل حيث جعل السماء كالسقف للأرض.

(وَما طَحاها) : أي ومن بسطها وهو الله عزوجل.

(وَما سَوَّاها) : أي ومن سوى خلقها وعدله وهو الله عزوجل.

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها) : أي فبين لها ما ينبغي لها أن تأتيه أو تتركه من الخير والشر.

(أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) : أي فاز بالنجاة من النار ودخول الجنة من طهر نفسه من الذنوب والآثام.

(وَقَدْ خابَ) : أي خسر في الآخرة نفسه وأهله يوم القيامة.

(مَنْ دَسَّاها) : أي دسى نفسه إذا أخفاها وأخملها بالكفر والمعاصي واصل دسها دسسها فأبدلت إحدى السينين ياء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالشَّمْسِ (١) وَضُحاها) (٢) إلى قوله (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) تضمنت هذه الآيات العشر قسما إلهيا من أعظم الأقسام ومقسما عليه وهو جواب القسم ومقسما لهم وهم سائر الناس فالقسم كان بما يلي بالشمس وضحاها وبالقمر إذا تلاها أي تلا الشمس إذا طلع بعد غروبها وذلك ليلة النصف من الشهر وبالنهار إذا جلاها إذا أضاء فكشف الظلمة أو الدنيا ، وبالليل إذا يغشاها أي يغشى الشمس حتى تظلم الآفاق وبالسماء وما بناها (٣) على أن ما تكون غالبا لغير العالم وقد تكون للعالم

__________________

(١) افتتحت بالقسم للتشويق إلى أخبارها ولم يقسم الله تعالى على شيء كما أقسم على جواب هذا القسم وهو حكم تقرير مصير الإنسان في الحياة الآخرة.

(٢) الضحى هو وقت ارتفاع الشمس مقدار رمح عن سطح الأرض فيما يرى الرائي إلى قبيل الزوال بربع ساعة تقريبا. وفيه تقع صلاة الضحى.

(٣) جائز أن تكون (ما) في الجمل الثلاثة (وَما بَناها وَما طَحاها وَما سَوَّاها) مصدرية فيكون الإقسام بالسماء وبنائها والأرض وطحوها ، والنفس وتسويتها إلا أن ما في التفسير وهو اختيار ابن جرير أولى إذ هو إقسام بالرب تعالى.

كما هي هنا فالذي بناها هو الله سبحانه وتعالى بالأرض وما طحاها أي بسطها وهو الله تعالى وبالنفس وما سواها أي خلقها وعدل خلقها وهو الله تعالى وقوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي خلقها وسوى خلقها وألهمها أي بين لها الخير والشر أي ما تعمله من الصالحات وما تتجنبه من المفسدات فأقسم تعالى بأربع من مخلوقاته العظام وبنفسه وهو العلي العظيم على ما دل عليه قوله (قَدْ أَفْلَحَ) (١) (مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وهو المقسم عليه وهو أن من وفقه الله وأعانه فزكى نفسه أي طهرها بالإيمان والعمل الصالح مبعدا لها عما يدنسها من الشرك والمعاصي فقد أفلح بمعنى فاز يوم القيامة وذلك بالنجاة من النار ودخول الجنة لأن معنى الفوز لغة هو السلامة من المرهوب والظفر بالمرغوب وأن من خذله الله تعالى لما له من سوابق في الشر والفساد فلم يزك نفسه بالإيمان والعمل الصالح ودساها أي دسسها (٢) اخفاها وأخملها بما أفرغ عليها من الذنوب وما غطاها من آثار الخطايا والآثام فقد خاب بمعنى خسر في آخرته فلم يفلح فخسر نفسه وأهله وهو الخسران المبين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان مظاهر القدرة الإلهية في الآيات التي أقسم بها الرب تعالى.

٢ ـ بيان بما يكون به الفلاح ، وما يكون به الخسران.

٣ ـ الترغيب في الإيمان والعمل الصالح والترهيب من الشرك والمعاصي.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

__________________

(١) قد أصلها لقد أفلح لأنها جواب القسم وحذفت اللام لطول جمل القسم إذ بلغت ثمان جمل.

(٢) فعل دس كان دسس فأبدلوا السين الآخرة ياء لوجود ثلاثة أحرف من نوع واحد طلبا للتخفيف ، وأصل دسي دس من دس الشيء إذا أخفاه بين شيئين حتى لا يظهر ومعنى دساها هو كما في التفسير أخفاها بما صب عليها من أوضار الذنوب فتدست وتدنست.

شرح الكلمات :

(ثَمُودُ) : أي أصحاب الحجر كذبوا رسولهم صالحا عليه‌السلام.

(بِطَغْواها) : أي بسبب طغيانها في الشرك والمعاصي.

(إِذِ انْبَعَثَ) : أي انطلق مسرعا.

(أَشْقاها) : أي أشقى القبيلة وهو قدار بن سالف الذي يضرب به المثل فيقال أشأم من قدار.

(رَسُولُ اللهِ) : أي صالح عليه‌السلام.

(ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) : أي ذروها وشربها في يومها.

(فَكَذَّبُوهُ) : أي فيما اخبرهم به من شأن الناقة.

(فَعَقَرُوها) : أي قتلوها ليخلص لهم ماء شربها في يومها.

(فَدَمْدَمَ) : أي اطبق عليهم العذاب فأهلكهم.

(بِذَنْبِهِمْ) : أي بسبب ذنوبهم التي هي الشرك والتكذيب وقتل الناقة.

(فَسَوَّاها) : أي سوى الدمدم عليهم فلم يفلت منهم أحد.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) : أي ولا يخاف الرب تعالى تبعة إهلاكهم كما يخاف الإنسان عاقبة فعله إذا هو قتل أحدا أو عذبه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) (١) إلى قوله (وَلا يَخافُ عُقْباها) هذه الآيات سيقت للتدليل على أمور هي أن الذنوب موجبة لعذاب الله في الدنيا والآخرة ، وأن تكذيب الرسول الذي عليه كفار مكة منذر بخطر عظيم إذا استمروا عليه فقد يهلكهم الله به كما أهلك أصحاب الحجر قوم صالح ، وأن محمدا رسول الله حقا وصدقا وإن انكار قريش له لا قيمة له ، وأنه لا إله إلا الله. وأن البعث والجزاء ثابتان بأدلة قدرة الله وعلمه فقوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ) إخبار منه تعالى المراد به إنذار قريش من خطر استمرارها على التكذيب وتسلية الرسول والمؤمنين وقوله (بِطَغْواها) (٢) أي بسبب ذنوبها التي بلغت فيها حد الطغيان الذي هو الإسراف ومجاوزة الحد في الأمر. وبين تعالى

__________________

(١) ثمود هي القبيلة المعروفة قوم صالح عليه‌السلام ومنازلهم بالحجر وهم أصحاب الحجر والجملة بيانية ، لأن من سمع جواب القسم وهو فلاح من زكى نفسه وخيبة من دساها وخسرانه تشوق إلى مثال لذلك فكان تكذيب ثمود وهلاكها.

(٢) الطغو اسم مصدر وهي كالطغيان الذي هو فرط الكبر والباء سببية أي كذبت ثمود رسولها صالحا عليه‌السلام بسبب طغواها ، لأن الكبر إذا عظم في الإنسان يحمله على الجحود والمعاندة والتكذيب.

ظرف ذلك بقوله (إِذِ انْبَعَثَ) (١) أشقى تلك القبيلة الذي هو قدار بن سالف الذي يضرب به المثل في الشقاوة فيقال أشأم من قدار وقال فيه رسول الله أشقى الأولين والآخرين قدار بن سالف وقوله (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ) أي صالح (ناقَةَ اللهِ) (٢) أي احذروها فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ذروها (وَسُقْياها) أي وماء شربها إذ كان الماء قسمة بينهم لها يوم ولهم يوم. (فَكَذَّبُوهُ) في ذلك وفي غيره من رسالته ودعوته إلى عبادة الله وحده (فَعَقَرُوها) (٣) أي فذبحوها (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي أطبق عليهم العذاب وعمهم به فلم ينج منهم أحد وذلك (بِذَنْبِهِمْ) لا بظلم منه تعالى ، (فَسَوَّاها) في النقمة والعذاب (وَلا يَخافُ (٤) عُقْباها) أي تبعة تلحقه من هلاكها إذ هو رب الكل ومالك الكل وهو القاهر فوق عباده وهو العزيز الحكيم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن نجاة العبد من النار ودخوله الجنة متوقف على زكاة نفسه وتطهيرها من أوضار الذنوب والمعاصي ، وأن شقاء العبد وخسرانه سببه تدنيسه نفسه بالشرك والمعاصي وكل هذا من سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات.

٢ ـ التحذير من الطغيان وهو الإسراف في الشر والفساد فإنه مهلك ومدمر وموجب للهلاك والدمار في الدنيا والعذاب في الآخرة.

٣ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والتخفيف عنه إذ كذبت قبل قريش ثمود وغيرها من الأمم كأصحاب مدين وقوم لوط وفرعون.

٤ ـ انذار كفار قريش عاقبة الشرك والتكذيب والمعاصي من الظلم والاعتداء.

__________________

(١) انبعث مضارع بعث أي بعثته فانبعث ، إذا القوم بعثوا قدارا أي أرسلوه فالبعث إجابة لهم إذ كان عقره الناقة بموافقتهم ورضاهم. بل بتحريضهم له ودفعهم إليها.

(٢) (ناقَةَ اللهِ) منصوب على التحذير كما في التفسير والإضافة للتشريف والسقيا اسم مصدر من سقى يسقي سقيا.

(٣) (فَعَقَرُوها) : العقر هو جرح البعير في يديه ليبرك على الأرض من الألم فإذا برك ذبح هذا الأصل ثم أصبح يطلق عقر البعير على ذبحه. والفاء في فعقروها للترتيب.

(٤) العقبى اسم لما يحصل عقب فعل من الأفعال من تبعة لصاحبه أو مثوبة فهي كالعاقبة وهي الحال التي تعقب من خير وشر.

سورة الليل (١)

مكية وآياتها احدى وعشرون آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

شرح الكلمات :

(إِذا يَغْشى) : أي بظلمته كل ما بين السماء والأرض في الإقليم الذي يكون به.

(إِذا تَجَلَّى) : أي تكشف وظهر في الإقليم الذي هو به وإذا هنا وفي التي قبلها ظرفية وليست شرطية.

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) : أي ومن خلق الذكر والأنثى آدم وحواء وكل ذريتهما وهو الله تعالى.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) : أي ان عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنة المورثة للجنة ومنه السيئة الموجبة للنار.

(مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) : أي حق الله وانفق في سبيل الله واتقى ما يسخط الله تعالى من الشرك والمعاصي.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) : أي بالخلف لحديث اللهم أعط منفقا خلفا.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) : أي فسنيسره للخلة أي الخصلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ليوجب له به الجنة في الآخرة.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) : أي منع حق الله والإنفاق في سبيل الله واستغنى بماله عن الله فلم يسأله من فضله ولم يعمل عملا صالحا يتقرب به إليه.

(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) : أي بالخلف وما تثمره الصدقة والإيمان وهو الجنة.

__________________

(١) قال صلى بنا عمر بن عبد العزيز المغرب فقرأ (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) فلما بلغ (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى) وقع عليه البكاء فلم يقدر يتعداها من البكاء فتركها وقرأ سورة أخرى.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) : فسنهيئه للخلة العسرى وهي العمل بما يكرهه الله ولا يرضاه ليكون قائده إلى النار.

(إِذا تَرَدَّى) : أي في جهنم فسقط فيها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَاللَّيْلِ) أقسم تعالى بالليل (١) (إِذا يَغْشى) بظلامه الكون ، وبالنهار (إِذا تَجَلَّى) (٢) أي تكشف وظهر وهما آيتان من آيات الله الدالتان على ربوبيته تعالى الموجبة لألوهيته ، وأقسم بنفسه جل وعز فقال (وَما خَلَقَ (٣) الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي والذي خلق الذكر والأنثى آدم وحواء ثم سائر الذكور وعامة الإناث من كل الحيوانات وهو مظهر لا يقل عظمة على آيتي الليل والنهار والمقسم عليه أو جواب القسم هو قوله (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن عملكم أيها الناس لمختلف منه الحسنات الموجبة للسعادة والكمال في الدارين ومنه السيئات الموجبة للشقاء في الدارين أي دار الدنيا ودار الآخرة. وبناء على هذا (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) حق الله في المال فأنفق وتصدق في سبيل الله (وَاتَّقى) الله تعالى فآمن به وعبده ولم يشرك به (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) (٤) التي هي الخلف أي العوض المضاعف الذي واعد به تعالى من ينفق في سبيله في قوله (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) وفي قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصحيح (٥) [ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم اعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا] ، فسيهيئه للخلة اليسرى وهي العمل بما يرضاه الله منه في الدنيا ويثيبه عليه في الآخرة بالجنة (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ) بالمال فلم يعط حق الله فيه ولم يتصدق متطوعا (٦) في سبيل الله (وَاسْتَغْنى) بماله وولده وجاهه فلم يتقرب إلى الله تعالى بطاعته في ترك معاصيه ولا في أداء فرائضه (وَكَذَّبَ) بالخلف من الله

__________________

(١) من لطائف هذا الإقسام بالليل والنهار وهما ضدان الإشارة إلى تضاد الذكر والأنثى والحسن والسوء والعسر واليسر والتصديق والتكذيب وهذا محتوى هذه السورة.

(٢) تجلى النهار وضوح ضوئه أقسم الله تعالى بكل من الليل وظلمته والنهار وضوءه لما في ذلك من مظاهر قدرة الله وعظمته على خلق الظلمات والنور.

(٣) يرى بعضهم أن المقسم به المصدر بناء على أن (ما) مصدرية والصحيح أنها موصولة وأن الإقسام كان بالرب تبارك وتعالى فإنه أعظم إقسام.

(٤) كلمة الحسنى صالحة لعدة معان وهي مؤنث الأحسن ولذا هي صفة لموصوف محذوف وتنوسي فيها ذلك فصارت اسما لما هو أحسن كالجنة والمثوبة الحسنة والنصر والعاقبة والخلف على المنفق في سبيل الله وهو الراجح هنا لاختيار ابن جرير له.

(٥) رواه البخاري وغيره.

(٦) في الآية دليل على أن الجود من مكارم الأخلاق والبخل من أرذلها ، وليس الجواد الذي يعطى في غير موضع العطاء كما ليس البخيل الذي يمنع في موضع المنع لكن الجواد الذي يعطي في موضع العطاء والبخيل الذي يمنع في موضع العطاء.

تعالى على من ينفق في سبيله (فَسَنُيَسِّرُهُ (١) لِلْعُسْرى) أي فسنهيئه للخلة العسرى (٢) وهي العمل بما يكره الله تعالى ولا يرضاه من الذنوب والآثام ليكون ذلك قائده إلى النار. وقوله تعالى (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) (٣) يخبر تعالى بأن من بخل واستغنى وكذب بالحسنى حفاظا على ماله وشحا به وبخلا أن ينفقه في سبيل ربه هذا المال لا يغني عنه شيئا يوم القيامة إذا ألقي به في نار جهنم فتردى ساقطا فيها على أم رأسه كما قال تعالى (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي لعدم الحسنات الكافية فيها (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان عظمة الله وقدرته وعلمه الموجبة لربوبيته المقتضية لعبادته وحده دون سواه.

٢ ـ تقرير القضاء والقدر وهو أن كل انسان ميسر لما خلق له من سعادة أو شقاء لحديث اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، مع تقرير أن من وفق للعمل بما يرضى الله تعالى كان ذلك دليلا على انه مكتوب سعيدا إذا مات على ما وفق له من العمل الصالح. وأن من وفق للعمل المسخط لله تعالى كان دليلا على انه مكتوب شقاوته إن هو مات على ذلك.

٣ ـ تقرير أن التوفيق للعمل بالطاعة يتوقف حسب سنة الله تعالى على رغبة العبد وطلبه ذلك والحرص عليه واختياره على غيره وتسخير النفس والجوارح له. كما أن التوفيق للعمل الفاسد قائم على ما ذكرنا في العمل الصالح وهو اختيار العبد وطلبه وحرصه وتسخير نفسه وجوارحه لذلك هذه سنة من سنن الله تعالى في خلقه.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

__________________

(١) في قوله فسنيسره للعسرى تهكم به نحو فبشره بعذاب أليم.

(٢) حديث صحيح.

(٣) التردي السقوط من أعلى إلى أسفل المفضي بصاحبه إلى الهلاك.

شرح الكلمات :

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) : أي إن علينا لبيان الحق من الباطل والطاعة من المعصية.

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) : أي ملك ما في الدنيا والآخرة نعطي ونحرم من نشاء لا مالك غيرنا.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ) : أي خوفتكم.

(ناراً تَلَظَّى) : أي تتوقد.

(لا يَصْلاها) : أي لا يدخلها ويحترق بلهبها.

(إِلَّا الْأَشْقَى) : أي إلا الشقى.

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) : كذب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به وتولى أعرض عن الإيمان به وبما جاء به من التوحيد والطاعة لله ورسوله.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) : أي يبعد عنها التقي.

(يَتَزَكَّى) : أي يتطهر به فلذا يخليه من النظر إلى غير الله فهو لذلك خال من الرياء والسمعة.

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) : أي ليس لأحد من الناس عليه منة فهو يكافئه بذلك.

(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) : لكن يؤتي ما له في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله عزوجل.

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) : أي يعطيه الله تعالى من الكرامة ما يرضي به في دار السلام.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) الآيات .. بعد أن أعلم تعالى عباده أنه ييسر لليسرى من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ، وأنه ييسر للعسرى من بخل واستغنى وكذب بالحسنى أعلم بحقيقة أخرى وهي أن بيان الطريق الموصل بالعبد لليسرى هو على الله تعالى متكفل به وقد بينه بكتابه ورسوله فمن طلب اليسرى فأولا يؤمن بالله ورسوله ويوطن نفسه على طاعتهما ويأخذ في تلك الطاعة يعمل بها وثانيا ينفق في سبيل الله ما يطهر به نفسه من البخل وشح النفس ويظهر فقره وحاجته إلى الله تعالى بالتقرب إليه بالنوافل وصالح الأعمال وبذلك يكون قد يسر فعلا لليسرى وقوله تعالى (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) (١) أي الدنيا وعليه فمن طلبها من غيرنا فقد أخطأ ولا يحصل عليها بحال فطلب الآخرة يكون بالإيمان والتقوى ، وطلب الدنيا يكون بالعمل حسب سنتنا في الكسب وحصول المال وقوله تعالى (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً (٢) تَلَظَّى لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (٣) الَّذِي كَذَّبَ

__________________

(١) المراد بالآخرة الجنة ، وإن كان اللفظ يشمل الآخرة بكل ما فيها من نعيم وجحيم وسعادة وشقاء وفوز وخسران.

(٢) تنكير (ناراً) للتهويل ، وجملة تلظى نعت ومعنى تلظى : تتلهب من شدة الاشتعال.

(٣) يذكر بعض المفسرين أن المراد بالأشقى أمية بن خلف ونظراؤه من أكابر مجرمي قريش ، واللفظ عام يشمل كل من ينطبق عليه الوصف المذكور.

وَتَوَلَّى) أي فبناء على ما بينا لكم فقد أنذرتكم أي خوفتكم (ناراً تَلَظَّى) أي تتوقد التهابا (لا يَصْلاها) لا يدخلها ويصطلي بحرها خالدا فيها أبدا (إِلَّا الْأَشْقَى) أي الأكثر شقاوة وهو المشرك وقد يدخلها الشقي من أهل التوحيد ويخرج منها بتوحيده ، حيث لم يكذب ولم يتول ، ولكن فجر وعصى ، وما أشرك وما تولى ، وقوله تعالى (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي يعطي ما له في سبيل الله يتزكى به من مرض الشح والبخل وآثار الذنوب والإثم ، وقوله (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ (١) وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي فهو ينفق ما ينفقه في سبيل الله خاصة وليس ما ينفقه من أجل أن عليه لأحد من الناس فضلا أو يدا فهو يكافئه بها لا لا ، وإنما هو ينفق ابتغاء وجه ربه الأعلى أي يريد رضا ربه تعالى لا غير. قال تعالى (وَلَسَوْفَ يَرْضى) (٢) أي ما دام ينفق ابتغاء وجهنا فقط فسوف نكافئه ونعطيه عطاء يرضى به وذلك في الجنة دار السلام. هذه الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كان في مكة يشتري العبيد من مواليهم الذين يعذبونهم من أجل إسلامهم فكان يشتريهم ويعتقهم لوجه الله تعالى ومنهم بلال رضي الله عنه فقال المشركون إنما فعل ذلك ليد عنده أي نعمه فهو يكافيه بها فأكذبهم الله في ذلك وأنزل قوله وسيجنبها الأتقى الآيات.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الله تعالى متكفل بطريق الهدى فأرسل الرسل وأنزل الكتاب فأبان الطريق وأوضح السبيل.

٢ ـ بيان أن لله تعالى وحده الدنيا والآخرة فمن أرادهما أو إحداهما فليطلب ذلك من الله تعالى فالآخرة تطلب بالإيمان والتقوى والدنيا تطلب باتباع سنن الله تعالى في الحصول عليها.

٣ ـ بيان فضل أبي بكر الصديق وأنه مبشر بالجنة في هذه الآية الكريمة.

__________________

(١) الابتغاء الطلب بجد فهو أبلغ من البغي.

(٢) (وَلَسَوْفَ يَرْضى) لتحقيق الوعد في المستقبل ، إذا اللام لام الابتداء لتأكيد الخبر هذه السورة تحمل معنى جوامع الكلم إذ تضمنت كل ما يرغب فيه الراغبون من الكمال والفوز والفلاح وهي آخر متوسط المفصل.

سورة الضحى

مكية وآيتها إحدى عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤))

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

شرح الكلمات :

(وَالضُّحى) : أي أول النهار ما بين طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى الزوال.

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) : غطى بظلامه المعمورة وسكن فسكن الناس وخلدوا إلى الراحة.

(ما وَدَّعَكَ) : أي ما تركك ولا تخلى عنك.

(وَما قَلى) : أي ما أبغضك

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً) : أي فاقد الأب إذ مات والده قبل ولادته.

(فَآوى) : أي فآواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا) : أي لا تعرف دينا ولا هدى.

(وَوَجَدَكَ عائِلاً) : أي فقيرا.

(فَأَغْنى :) أي بالقناعة ، وبما يسر لك من مال خديجة وأبي بكر الصديق.

(فَلا تَقْهَرْ) : أي لا تذله ولا تأخذ ماله.

(فَلا تَنْهَرْ) : أي لا تنهره بزجر ونحوه.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) : أي اذكر ما أنعم الله تعالى به عليك شكرا له على ذلك.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ (٢) رَبُّكَ وَما قَلى) هذا قسم من الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقسم له به على أنه ما تركه ولا أبغضه. وذلك أنه أبطأ عنه الوحي أياما فلما رأى ذلك المشركون فرحوا به وعيروه فجاءت امرأة وقالت (٣) له ما أرى شيطانك إلا قد تركك. فحزن لذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله سورة الضحى يقسم له فيها بالضحى وهو أول النهار من طلوع الشمس وارتفاعها قيد رمح إلى ما قبل الزوال بقليل ، وبالليل إذا سجى أي غطى بظلامه المعمورة وسكن فسكن الناس وخلدوا إلى الراحة فيه (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) يا محمد أي تركك (وَما قَلى) أي ما أبغضك (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي الدنيا وذلك لما أعد الله لك فيها من الملك الكبير والنعيم العظيم المقيم. وسوف يعطيك ربك من فواضل نعمه حتى ترضى في الدنيا من كمال الدين وظهور الأمر في الآخرة الشفاعة وأن لا يبقى أحد من أمته أهل التوحيد في النار والوسيلة والدرجة الرفيعة التي لا تكون لأحد سواه.

وقوله تعالى (أَلَمْ يَجِدْكَ (٤) يَتِيماً فَآوى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) هذه ثلاث منن لله تعالى على رسوله منها عليه وذكره بها ليوقن أن الله معه وله وأنه ما تركه ولن يتركه وحتى تنتهي فرحة المشركين ببطء الوحي وتأخره بضعة أيام. فالمنة الأولى أن والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد مات عقب ولادته وأمه ماتت بعيد فطامه فآواه ربه بأن ضمه إلى عمه أبي طالب فكان أبا رحيما وعما كريما له وحصنا منيعا له ، ولم يتخل عن نصرته والدفاع عنه حتى وفاته والثانية منة العلم والهداية فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعيش في مكة كأحد رجالاتها لا يعرف علما ولا شرعا وإن كان معصوما من ممارفة أي ذنب أو ارتكاب أية خطيئة إلا أنه ما كان يعرف إيمانا ولا إسلاما ولا شرعا كما قال تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) والثالثة منته عليه بالغنى بعد الحاجة فقد مات والده ولم يخلف أكثر من جارية هي بركة أم أيمن وبضعة جمال ، فأغناه الله بغنى القناعة فلم يمد يده لأحد قط وكان يقول

__________________

(١) هذا القسم لتأكيد الخبر الذي حملته الآيات بعده ، وكتبت (الضحى) بالألف المقصورة وأصلها الواو فكان المفروض أن تكتب بالألف الثابتة ولم تكتب بها مراعاة للمناسبة مع أكثر الكلمات : سجى وقلى والأولى

(٢) (ما وَدَّعَكَ) جواب القسم ولم يقرن باللام ، لأن الجملة المنفية لا تتطلب اللام. وما قلى معطوفة على ما ودعك ومعنى ما ودعك ما تركك ومعنى وما قلاك ما أبغضك شديد بغض ولا ضعيفه.

(٣) في البخاري عن جندب بن سفيان قال اشتكى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة هي أم جميل العوراء امرأة أبي لهب : فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك ولم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثة فأنزل الله والضحى. وقيل لما سئل عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين ، فقال سأخبركم غدا ولم يستثن فعوتب بانتظار الوحي خمسة عشر يوما وقال المشركون قلاه. فأنزل الله سورة الضحى.

(٤) الاستفهام للتقرير وكذا الاستفهامات بعده.

[ليس الغني عن كثرة العرض ولكن (١) الغني غني النفس] هذه ثلاث منن إلهية وما أعظمها والمنة تتطلب شكرا والله يزيد على الشكر ومن هنا أرشد الله تعالى رسوله إلى شكر تلك النعم ليزيده عليها فقال فأما (فَأَمَّا الْيَتِيمَ (٢) فَلا تَقْهَرْ) لا تقهره بأخذ ماله أو إذلاله أو أذاه ذاكرا رعاية الله تعالى لك أيام يتمك. (وَأَمَّا السَّائِلَ) وهو الفقير المسكين وذو الحاجة يسألك ما يسد خلته فاعطه ما وجدت عطاء أو رده بكلمة طيبة تشرح صدره وتخفف ألم نفسه ولا تنهره بزجر عنيف ولا بقول غير لطيف ذاكرا ما كنت عليه من حاجة وما كنت تشعر به من احتياج (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ (٣) فَحَدِّثْ) أي اشكر نعمة الإيمان والإحسان والوحي والعلم والفرقان وذلك بالتحدث بها ابلاغا وتعليما وتربية وهداية فذاك شكرها والله يحب الشاكرين هكذا أدب الله جل جلاله رسوله وخليله فأكمل تأديبه وأحسه

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الدنيا لا تخلو من كدر وصدق الله العظيم (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ).

٢ ـ بيان علو المقام المحمدي وشرف مكانته.

٣ ـ مشروعية التذكير بالنعم والنقم حملا للعبد على الصبر والشكر.

٤ ـ وجوب شكر النعم بصرفها في مرضاة المنعم عزوجل. (٤)

٥ ـ تقرير معنى الحديث (إذا أنعم الله تعالى على عبد نعمة أحب أن يرى أثرها عليه)

سورة الشرح

مكية وآياتها ثمانى آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤))

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

__________________

(١) مخرج في الصحيحين.

(٢) في الصحيح : أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين.

(٣) روى أبو داود والترمذي وصححه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشكر الله من لا يشكر الناس.

(٤) في الصحيحين : عن أنس أن المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله قال : لا ما دعوتم لهم وأثنيتم عليهم ، هذه الأحاديث دالة على وجوب شكر المنعم عزوجل بحمده والثناء عليه ، وأن شكر ذي النعمة من الناس كذلك ولو بالدعاء له والثناء عليه.

شرح الكلمات :

(أَلَمْ) : الاستفهام للتقرير أي إن الله تعالى يقرر رسوله بنعمه عليه.

(نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) : أي بالنبوة ، وبشقه وتطهيره وملئه إيمانا وحكمة.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) : أي حططنا عنك ما سلف من تبعات أيام الجاهلية قبل نبوتك.

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) : أي الذي أثقل ظهرك حيث كان يشعر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثقل السنين التي عاشها قبل النبوة لم يعبد فيها الله تعالى بفعل محابه وترك مكارهه لعدم علمه بذلك.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) : أي أعليناه فأصبحت تذكر معي في الآذان والإقامة والتشهد.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) : أي مع الشدة سهولة.

(فَإِذا فَرَغْتَ) : أي من الصلاة.

(فَانْصَبْ) : أي اتعب في الدعاء.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) : أي فاضرع إليه راغبا فيما عنده من الخيرات والبركات.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) (١) هذه ثلاث منن أخرى بعد المنن الثلاث التي جاءت في السورة قبلها منها الله تعالى على رسوله بتقريره بها فالأولى بشرح صدره ليتسع (٢) للوحي ولما سيلقاه من قومه من سيء القول وباطل الكلام الذي يضيق به الإنسان والثانية وضع الوزر عنه فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يكن له وزر حقيقة فإنه كان يشعر بحمل ثقيل من جراء ترك العبادة والتقرب إلى الله تعالى في وقت ما قبل النبوة ونزول الوحي عليه إذ عاش عمرا أربعين سنة لم يعرف فيها عبادة ولا طاعة لله ، أما مقارفة الخطايا فقد كان محفوظا بحفظ الله تعالى له فلم يسجد لصنم ولم يشرب خمرا ولم يقل أو يفعل إثما قط. فقد شق صدره وهو طفل في الرابعة من عمره وأخرجت منه العلقة التي هي محطة الشيطان التي ينزل بها من صدر الإنسان ويوسوس بالشر للإنسان والثالثة رفع الذكر أي ذكره صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ قرن اسمه باسمه تعالى في التشهد وفي الأذان والإقامة وذلك الدهر كله وما بقيت الحياة. وقوله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ

__________________

(١) (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) قال مجاهد يعني التأذين ، وفيه يقول حسان بن ثابت :

أغر عليه للنبوة خاتم

من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه

إذا قال المؤذن في الخمس أشهد

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

(٢) في الصحيح عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن رجل من قومه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلا يقول أحد الثلاثة إذ كان معه حمزة وابن عمه جعفر فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا. قال فاستخرج قلبي فغسل قلبي بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة.

يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فهذه بشرى بقرب الفرج له ولأصحابه بعد ذلك العناء الذي يعانون والشدة التي يقاسون ومن ثم بشر (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه وهو يقول [لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين] وقوله (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) هذه خطة لحياة المسلم وضعت لنبي الإسلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليطبقها أمام المسلمين ويطبقونها معهم حتى الفوز بالجنة والنجاة من النار وهي فإذا فرغت من عمل ديني فانصب لعمل دنيوي وإذا فرغت من عمل دنيوي فانصب لعمل ديني أخروي فمثلا فرغت من الصلاة فانصب نفسك للذكر والدعاء بعدها ، فرغت من الصلاة والدعاء فانصب نفسك لدنياك ، فرغت من الجهاد فانصب نفسك للحج. ومعنى هذا أن المسلم يحيا حياة الجد والتعب فلا يعرف وقتا للهو واللعب أو للكسل والبطالة قط وقوله (إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) ارغب بعد كل عمل تقوم به في مثوبة ربك وعطائه وما عنده من الفضل والخير إذ هو الذي تعمل له وتنصب من أجله فلا ترغب في غيره ولا تطلب سواه.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان ما أكرم الله تعالى به رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شرح صدره ومغفرة ذنوبه ورفع ذكره.

٢ ـ بيان أن انشراح (٢) صدر المؤمن للدين واتساعه لتحمل الأذى في سبيل الله نعمة عظيمة.

٣ ـ بيان أن مع العسر يسرا دائما وأبدا ، ولن يغلب عسر يسرين فرجاء المؤمن في الفرح دائم.

٤ ـ بيان أن حياة المؤمن ليس فيها لهو ولا باطل ولا فراغ لا عمل فيه أبدا ولا ساعة من الدهر قط وبرهان هذه الحقيقة أن المسلمين من يوم تركوا الجهاد والفتح وهم يتراجعون إلى الوراء في حياتهم حتى حكمهم الغرب وسامهم العذاب والخسف حتى المسخ والنسخ وقد نسخ إقليم الأندلس ومسخت أقاليم في بلاد الروس والصين حتى الأسماء غيرت.

__________________

(١) رواه ابن جرير والحديث مرسل وقال ابن مسعود. والذي نفسي بيده لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ولن يغلب عسر يسرين.

(٢) روى الضحاك عن ابن عباس قال قالوا يا رسول الله أيشرح الصدر؟ قال نعم وينفسح قالوا يا رسول الله وهل لذلك علامة؟

قال نعم التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت.

سورة التين

مكية وآياتها ثمان

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

شرح الكلمات :

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) : هما المعروفان التين فاكهة والزيتون ما يستخرج منه الزيت.

(وَطُورِ سِينِينَ) : جبل الطور الذي ناجى الرب تعالى فيه موسى عليه‌السلام.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) : مكة المكرمة لأنها بلد حرام لا يقاتل فيها فمن دخلها أمن.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) : جنس الإنسان آدم عليه‌السلام وذريته.

(فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) : أي في أجمل صورة في اعتدال الخلق وحسن التركيب.

(أَسْفَلَ سافِلِينَ) : أي إلى أرذل العمر حتى يخرف ويصبح لا يعلم بعد أن كان يعلم.

(أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) : أي غير منقطع فالشيخ الهرم الخرف المسلم يكتب له ما كان يفعله أيام قدرته على العمل فأجره لا ينقطع إلا بموته.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالتِّينِ (١) وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) هذا قسم جليل من أقسام الرب تعالى حيث أقسم فيه بأربعة أشياء وهي التين وهو التين المعروف وهو أشبه شيء بفاكهة الجنة لخلوه من العجم (٢). وما يوجد بداخل الفاكهة كالنواة ونحوها ، والزيتون وهو ذو منافع يؤكل ويدهن به ويستصبح به ويتداوى به كذلك ، وبطور سينين وهو جبل سينا في فلسطين إذ تم عليه أكبر

__________________

(١) عامة أهل السلف ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم أن المراد من التين والزيتون هما المعروفان قال غير واحد هو نبتكم الذي تأكلون وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت.

(٢) العجم ـ النوى.

حدث في تاريخ الحياة وهو أن الله تعالى كلم موسى بن عمران نبي بني اسرائيل عليه عدة مرات وأسمعه كلامه وتجلى للجبل فصار دكا. وبمكة أم القرى التي دحيت الأرض من تحتها وفيها بيت الله وحولها حرمه هذا قسم عظيم وجوابه قوله تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ولقد تضمن هذا الجواب لذلك القسم أكبر مظاهر القدرة والعلم والرحمة وهي موجبة للإيمان بالله وتوحيده ولقائه وهو ما كذب به أهل مكة وأنكروه وبيان ذلك أن الإنسان كائن حي مخلوق فخالقه ذو قدرة قطعا وتعديل خلقه بنصب قامته وتسوية أعضائه وحسن سمته وجمال منظره دال على علم وقدرة وهي موجبة للإيمان بالله ولقائه إذ القادر على خلق الإنسان اليوم وقبل اليوم قادر على خلقه غدا كما شاء متى شاء ولا يرد هذا إلا أحمق جاهل ، وقوله (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) وذلك بهرم بعض أفراده والنزول بهم إلى ما أسفل من سن الطفولة حيث يصبح الرجل فاقدا لعقله وقواه فيفقد قواه العقلية والبدنية وقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) وهو أن ما كانوا يقومون به من الفرائض والنوافل وسائر الطاعات والقربات لا ينقطع أجرهم (١) منها بكبرهم وعدم قيامهم بها في سن الشيخوخة والهرم والخرف بخلاف الكافر والفاجر والفاسق فليس لهم أعمال لا تنقطع إلا من سن منهم سنة سيئة فإن ذنبه لا ينقطع ما بقى من يعمل بتلك السنة السيئة. وقوله تعالى (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) (٢) أي فمن يقدر على تكذيبك يا رسولنا بعد هذه الآيات والحجج والبراهين الدالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته فمن يكذب بالبعث والجزاء على الكسب الإرادي الاختياري في هذه الحياة من خير وشر فإنه وإن كذب بالدين وهو الجزاء الأخروى على عمل المكلفين في هذه الحياة الدنيا فإن هذا التكذيب قائم على أساس العناد والمكابرة إذ الحجج الدالة على يوم الدين والجزاء فيه تجعل المكذب به مكابرا أو جاحدا لا غير. وقوله تعالى (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) (٣)؟ بلى فليس هناك أعدل من الله وأحسن حكما فكيف يظن إذا أن الناس يعملون متفاوتين في أعمالهم في هذه الدنيا ثم يموتون سواء ولا جزاء بعد بالثواب ولا بالعقاب هذا ظلم وباطل ومنكر ينزه الرب عنه سبحانه وتعالى فقضية البعث الآخر لا تقبل الجدل والمماحكة بحال من الأحوال.

__________________

(١) صح الحديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال إذا سافر العبد أو مرض كتب الله له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا. وعن ابن عمر : طوبى لمن طال عمره وحسن عمله.

(٢) وجائز أن يكون الخطاب للإنسان الكافر توبيخا له وإلزاما للحجة أي إذا عرفت أيها الإنسان أن الله خلقك في أحسن تقويم وأنه يردك إلى أرذل العمر فما يحملك على أن تكذب وعليه فالاستفهام توبيخي.

(٣) روي أن ابن عباس وعليا رضي الله عنهما كانا إذا قرءا (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) قالا بلى وأنا على ذلك من الشاهدين وروى الترمذي عن أبي هريرة من قرأ سورة والتين والزيتون فقرأ (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) فليقل بلى وأنا على ذلك من الشاهدين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان منافع التين والزيتون واستحباب غرس هاتين الشجرتين والعناية بهما.

٢ ـ بيان شرف مكة. وحرمها.

٣ ـ بيان فضل الله على الإنسان في خلقه في أحسن صورة وأقوم تعديل.

٤ ـ تقرير فضل الله على الإنسان المسلم وهو أنه يطيل عمره فإذا هرم وخرف كتب له كل ما كان يعمله من الخير ويجانبه من الشر.

٥ ـ مشروعية قول بلى وأنا على ذلك من الشاهدين بعد قراءة والتين إذ كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ذلك.

سورة العلق

مكية وآياتها تسع عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

شرح الكلمات :

(اقْرَأْ) : أي أوجد القراءة وهي جمع الكلمات ذات الحروف باللسان.

(بِاسْمِ رَبِّكَ) : أي بذكر اسم ربك.

(الَّذِي خَلَقَ) : أي خلق آدم من سلالة من طين.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ) : أي الإنسان الذي هو ذرية آدم.

(مِنْ عَلَقٍ) : أي جمع علقة وهي النطفة في الطور الثاني حيث تصير علقة أي قطعة من الدم الغليظ.

(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) : أي الذي لا يوازيه كريم ولا يعادله ولا يساويه.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) : أي علم العباد الكتابة والخط بالقلم.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ) : أي جنس الإنسان.

(ما لَمْ يَعْلَمْ) : أي ما لم يكن يعلمه من سائر العلوم والمعارف.

معنى الآيات :

قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) هذه الآيات الخمس من أول ما نزل من القرآن الكريم لأحاديث الصحاح (١) فيها فإن مما اشتهر في ذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأتي حراء يتحنث فيه أي يزيل الحنث فرارا مما عليه قومه من الشرك والباطل حتى فاجأه الحق وهو في غار حراء فقال يا محمد أنا جبريل وأنت رسول الله ثم قال اقرأ قلت ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ثم قال اقرأ باسم ربك الذي خلق فقرأت الحديث.

وقوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) يأمر الله تعالى رسوله أن يقرأ بادئا قراءته بذكر اسم ربه أي باسم الله الرحمن الرحيم وقوله (الَّذِي خَلَقَ) أي خلق الخلق كله وخلق آدم من طين و (خَلَقَ الْإِنْسانَ) من أولاد آدم (مِنْ عَلَقٍ) والعلق اسم جمع واحده علقة (٢) وهي قطعة من الدم غليظة كانت في الأربعين يوما الأولى في الرحم نطفة ثم تطورت إلى علقة تعلق بجدار الرحم ثم تتطور في أربعين يوما إلى مضعة لحم ، ثم إما أن يؤذن بتخلقها فتخلق وإما لا فيطرحها الرحم قطعة لحم وقوله (اقْرَأْ وَرَبُّكَ) تأكيد للأمر الأول لصعوبة الأمر واندهاش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمفاجأة (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٣) أي وربك الأكرم هو الذي علم بالقلم عباده الكتابة والخط. وقوله (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي من كرمه الذي أفاض منه على عباده نعمه التي لا تحصى إنه علم الإنسان بواسطة القلم ما لم يكن يعلم من العلوم والمعارف وهذه إشادة بالقلم وأنه واسطة العلوم والمعارف والواسطة تشرف بشرف الغاية المتوسط لها فلذا كان لا أشرف في الدنيا من عباد الله الصالحين والعلوم الإلهيه في الكتاب والسنة وما دعوا إليه وحضا عليه من العلوم النافعة للإنسان.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الوحي الإلهي وإثبات النبوة المحمدية.

٢ ـ مشروعية ابتداء القراءة بذكر اسم الله ولذا افتتحت سور القرآن ما عدا التوبة ببسم الله الرحمن الرحيم.

__________________

(١) منها حديث عائشة : أول ما بدىء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرؤيا الصادقة فجاءه الملك فقال أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم. رواه البخاري.

(٢) العلقة الدم الجامد والجمع علق ، والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه.

(٣) قيل سمي القلم قلما لأنه يقلم أي يقطع ، ومنه تقليم الظفر صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال. أول ما خلق الله القلم فقال له اكتب فكتب ما يكون إلى يوم القيامة فهو عنده في الذكر فوق عرشه.

٣ ـ بيان تطور النطفة في الرحم إلى علقة ومنها يتخلق الإنسان.

٤ ـ اعظام شأن الله تعالى وعظم كرمه فلا أحد يعادله في الكرم.

٥ ـ التنويه بشأن الكتابة والخط بالقلم إذ المعارف والعلوم لم تدون إلا بالكتابة والقلم.

٦ ـ بيان فضل الله تعالى على الإنسان في تعليمه ما لم يكن يعلم بواسطة الكتابة والخط.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

شرح الكلمات :

(كَلَّا) (١) : أي لا أداة استفتاح وتنبيه لكسر إن بعدها.

(إِنَّ الْإِنْسانَ) : أي ابن آدم قبل أن تتهذب مشاعره وأخلاقه بالإيمان والآداب الشرعية.

(لَيَطْغى) : أي يتجاوز الحد المفروض له في سلوكه ومعاملاته.

(أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) : أي عند ما يرى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) : أي إن إلى ربك أيها الرسول الرجعى أي الرجوع والمصير.

(الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) : أي أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي لعنه الله.

(إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) : أي هو رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي العدناني.

__________________

(١) (كَلَّا) الأصل فيها أنها أداة ردع وزجر وذلك إذا تقدمها ما يقتضي ذلك وتكون بمعنى حقا ، وتكون بمعنى ألا التي هي أداة استفتاح وتنبيه. وهي هنا تتردد من أمرين بين أن تكون بمعنى حقا أو بمعنى ألا ، وذلك لعدم تقدم كلام يقتضي الردع والزجر ، لأن الآيات الخمس الأولى نزلت في أول ما نزل وما بعد كلا نزل بعد ذلك بفترة طويلة وجائز أن تكون ردعا لمن قال قولا أو عمل عملا استحق به ذلك.

(إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) : أي هو أبو جهل.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) : أي من أذية رسولنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنعه من الصلاة خلف المقام.

(لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) : أي لنأخذن بناصيته ونسحبه إلى نار جهنم.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) : أي رجال مجلسه ومنتداه.

(سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) : أي خزان جهنم.

(كَلَّا) : أي ارتدع أيها الكاذب الكافر.

(وَاقْتَرِبْ) : أي منه تعالى وذلك بطاعته.

معنى الآيات :

قوله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) يخبر تعالى عن طبيعة الإنسان قبل أن يهذبه الإيمان والمعارف الإلهية المشتملة على معرفة محاب الله تعالى ، ومساخطه أنه إذا رأى نفسه قد استغنى بماله أو ولده أو سلطانه أو بالكل وما أصبح في حاجة إلى غيره يطغى فيتجاوز حد الآداب والعدل والحق والعرف فيتكبر ويظلم ويمنع الحقوق ويحتقر الضعفاء ويسخر بغيره. وأبو جهل كان مضرب المثل في هذا الوصف وصف الطغيان حتى قيل إنه فرعون هذه الأمة ، وها هو ذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي في المسجد الحرام خلف المقام فيأتيه هذا الطاغية ويهدده ويقول له لقد نهيتك عن الصلاة هنا فلا تعد ، ويقول له إن وجدتك مرة أخرى آخذ بناصيتك وأسحبك على الأرض فينزل الله تعالى هذه الآيات (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) فيقف برسوله على حقيقة ما كان يعلمها وهي أن ما يجده من أبي جهل وأضرابه من طغاة قريش علته كذا وكذا ويسليه فيقول له وإن طغوا وتجبروا إن مرجعهم إلينا وسوف ننتقم لك منهم (إِنَّ إِلى رَبِّكَ) يا رسولنا (الرُّجْعى) إذا فاصبر على أذاهم وانتظر ما سيحل بهم إن مصيرهم إلينا لا إلى غيرنا وسوف ننتقم منهم ثم يقول له قولا يحمل العقلاء على التعجب من سلوك أبي جهل الشائن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى)؟ وهل الذي يصلي ينهى عن الصلاة وهل الصلاة جريمة وهل في الصلاة ضرر على أحد؟ فكيف ينهى عنها؟ ويقول له (أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ) أي المصلي الذي نهي عن الصلاة وهو الرسول نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

(عَلَى الْهُدى) الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة وكرامتهما؟ (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أمر غيره بما يتقي به عذاب الدنيا والآخرة ، هل الآمر بالهدى والتقوى أي بأسباب النجاة والسعادة يعادي ويحارب؟ ويضرب ويهدد؟ إن هذا لعجب العجاب. ويقول (أَرَأَيْتَ) يا رسولنا (إِنْ كَذَّبَ) هذا الذي ينهى عبدا إذا صلى أي كذب بالحق والدين (وَتَوَلَّى) عن الإيمان والشرع ، كيف يكون حاله يوم يلقى ربه؟ (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي يرى أفعاله الاستفزازية المقيتة وتطاوله على رسول الله وتهديده له بالضرب إن وجده يصلي خلف المقام. بعد هذه الدعوة للطاغية لعله يرجع إلى الحق إذا سمعه ، وإذا به يزدادا طغيانا ويقول في مجلس قريش يقول واللات والعزى لئن رأيت محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه على التراب ، وفعلا أتى إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على ركبته فإذا به ينكص على عقبيه ، ويتقي بيديه ، فقيل له مالك فقال إن بيني وبينه خندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لودنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا وأنزل الله تعالى (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي صاحبها وهو أبو جهل أي لئن لم ينته عن أذية رسولنا وتعرضه له في صلاته ليمنعه منها لنأخذن بناصيته ونجره إلى جهنم عيانا. (فَلْيَدْعُ) حينئذ رجال (نادِيَهُ) ومجلس قومه فإنا ندعو الزبانية أي خزنة النار من الملائكة كلا فليرتدع هذا الطاغية وليعلم أنه لن يقدر على أن يصل إلى رسولنا بعد اليوم بأذى.

وقال تعالى لرسوله بعد تهديده للطاغية ، وردعه له ، وارتدع فعلا ولم يجرؤ بعد ذلك اليوم أن يمد لسانه ، ولا يده بسوء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تُطِعْهُ) فيما يطلب منك من ترك الصلاة في المسجد الحرام فقد كفيناك شره (وَاقْتَرِبْ) (١) إلينا بالطاعات ومن أهمها الصلاة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سبب نزول الآيات كلا إن الإنسان ليطغى إلى آخر السورة.

٢ ـ بيان طبع الإنسان إذا لم يهذب بالإيمان والتقوى.

٣ ـ نصرة الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالملائكة عيانا في المسجد الحرام.

٤ ـ تسجيل لعنة الله على فرعون الأمة أبي جهل وأنه كان أظلم قريش لرسول الله وأصحابه.

٥ ـ مشروعية السجود عند تلاوة هذه السورة إذا قرأ فاسجد واقترب شرع له السجود (٢) إلا أن يكون يصلي بجماعة في الصلاة السرية فلا يسجد لئلا يفتنهم.

__________________

(١) روى أصحاب الصحيح قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

(٢) ورد في الذكر حال السجود أن الساجد يقول (سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق بحوله وقوته سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين. اللهم اكتب لي بها أجرا وامح عني بها وزرا وارفع لي بها ذكرا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود).

سورة القدر

مكية وآياتها خمس آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

شرح الكلمات :

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ) : أي القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا.

(فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) : أي ليلة الحكم والتقدير التي يقضي فيها قضاء السنة كلها.

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) : أي إن شأنها عظيم.

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) : أي العمل الصالح فيها من صلاة وتلاوة قرآن ودعاء خير من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر.

(وَالرُّوحُ فِيها) : أي جبريل في ليلة القدر.

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) : أي ينزلون بأمره تعالى لهم بالتنزل فيها.

(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) : أي من كل أمر قضاه الله تعالى في تلك السنة من رزق وأجل وغير ذلك.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) : أي هي سلام من الشر كله من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) (١) أي القرآن الكريم الذي كذب به المكذبون وأنكره الكافرون يخبر تعالى أن ما يتلوه عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو حق وحي الله وكتابه أنزله جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وذلك في ليلة الحكم والقضاء التي يقضي الله فيها ما يشاء من أحداث العالم

__________________

(١) وجائز أن يطلق لفظ أنزلناه في ليلة القدر على الخمس الآيات التي أنزلت بغار حراء في رمضان وهي اقرأ باسم ربك .. إلى ما لم يعلم أي باعتبار بداية نزوله ، وما في التفسير عليه أئمته.

من رزق وأجل وغيرهما إلى بداية السنة الآتية وذلك كل سنة وهذا كقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ (١) فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ). إذ ما قضاه الله تعالى وحكم بوجوده قد كتب في اللوح المحفوظ ومنه القرآن الكريم ثم (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) تؤخذ نسخة من أحداث السنة فتعطى الملائكة وتنفذ حرفيا في تلك السنة ، ولذلك كان لليلة القدر بمعنى التقدير شأن عظيم ففضلها الله على ألف شهر وأخبر عن سبب فضلها أن الملائكة تتنزل فيها وجبريل معهم بإذن ربهم أي ينزلون بإذن الله تعالى لهم وأمره إياهم بالنزول ينزلون مصحوبين بكل أمر قضاه الله وحكم به في تلك السنة من خير وشر من رزق وأجل ولفضل هذه الليلة كانت العبادة فيها تفضل غيرها من نوعها بأضعاف مضاعفة إذ عمل تلك الليلة يحسب لصاحبه عمل ألف ليلة أي ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر. هذا ما دل عليه قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ (٢) ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وقوله (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هي سلام من كل شر إذ هي كلها خير من غروب الشمس إلى طلوع فجرها إنها كلها سلام سلام الملائكة على العابدين من المؤمنين والمؤمنات وسلامة من كل شر. والحمد لله الذي جعلنا من أهلها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير الوحي وإثبات النبوة المحمدية

٢ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر.

٣ ـ فضل ليلة القدر وفضل العبادة فيها (٤).

٤ ـ بيان أن القرآن نزل في رمضان جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وأنه ابتدىء نزوله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان أيضا.

٥ ـ الندب (٥) إلى طلب ليلة القدر للفوز بفضلها وذلك في العشر الأواخر من شهر رمضان وأرجى

__________________

(١) فاتحة سورة الدخان.

(٢) الاستفهام للتفخيم من شأن ليلة القدر أي أي شيء يعرفك ما هي ليلة القدر ذات الشأن العظيم وإظهار لفظ ليلة القدر بعد وما أدراك ما ليلة القدر دال على الاهتمام بها كقول عدي :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغص الموت ذا الغني والفقير

(٣) لحديث مالك في الموطأ سمعت من أثق فيه يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرى أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر وجعلها خيرا من ألف شهر.

(٤) حديث الصحيحين : من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.

(٥) أرجح الأقوال في ليلة القدر أنها في الوتر من العشر الأواخر من كل عام لحديث الصحيح التمسوها في الوتر من العشر الأواخر وان من صلى العشاء ليلتها في الجماعة ينال فضلها لما قاله مالك في الموطأ وهو قول سعيد بن المسيب (من شهد العشاء من ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها ومثله لا يدرك بالرأي.

ليلة في العشر الأواخر هي الوتر كالواحدة والعشرين إلى التاسعة والعشرين لحديث الصحيح التمسوها في العشر الأواخر.

٦ ـ استحباب الإكثار من قراءة القرآن وسماعه فيها لمعارضة جبريل الرسول (١) صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن في رمضان مرتين.

سورة البينة (٢)

مدنية وآياتها ثمان آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥))

شرح الكلمات :

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : أي اليهود والنصارى.

(وَالْمُشْرِكِينَ) : أي عبدة الأصنام.

(مُنْفَكِّينَ) : أي زائلين عما هم عليه منتهين عنه.

(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) : أي الحجة الواضحة وهي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه القرآن الكريم.

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ) : أي محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(صُحُفاً مُطَهَّرَةً) : أي من الباطل.

__________________

(١) معارضة القرآن ثابتة في الصحيح وفضل الدعاء فيها ثابت في الصحيح. قالت عائشة يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.

(٢) وتسمى سورة القيمة ولم يكن ، وورد في فضلها حديث الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بن كعب إن الله أمرني أن أقرأ عليك (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال وسماني لك؟ قال. نعم. فبكى. وفي هذا الحديث انه لا يأنف الفاضل أن يقرأ القرآن أو يتعلم العلم عن المفضول.

(فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) : أي في تلك الصحف المطهرة كتب من الله مستقيمة.

(إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) : أي الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه القرآن الكريم.

(وَما أُمِرُوا) : أي في كتبهم التوراة والانجيل.

(حُنَفاءَ) : أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الاسلام.

(دِينُ الْقَيِّمَةِ) : أي دين الملة القيمة أي المستقيمة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) وهم اليهود والنصارى (١) والمشركون هم عباد الأصنام لم يكونوا منفصلين عما هم عليه من الديانة تاركين لها إلى غاية مجيء البينة لهم فلما جاءتهم البينة. وهي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه انفكوا أي (٢) انقسموا فمنهم من آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه والدين الإسلامي ومنهم من كفر فلم يؤمن. وقوله تعالى (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوله (يَتْلُوا صُحُفاً) أي يقرأ على ظهر قلب ما تضمنته تلك الصحف المطهرة من الباطل والمشتملة على كتب (٣) من عند الله قيمة أي مستقيمة لا انحراف فيها عن الحق ولا بعد عن الهدى والمراد من الصحف المطهرة القرآن الكريم. وقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) أي اليهود والنصارى (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وهي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكتابه إذ كانوا قبل البعثة المحمدية متفقين على انتظار نبي آخر الزمان وأنه النبي الخاتم للنبوات فلما جاءهم تفرقوا فآمن بعض وكفر بعض. في حين أنهم ما أمروا في كتبهم وعلى ألسنة رسلهم. وكذا في القرآن وعلى لسان نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) أي مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) بأن يؤدوها في أوقاتها بشروطها وأركانها وآدابها (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) التي أوجب الله في الأموال لصالح الفقراء والمساكين. (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي وهذا هو دين الملة القيمة المستقيمة الموصلة للعبد إلى رضا الرب وجنات الخلد بعد انجائه من العذاب والغضب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان أن الديانات السابقة للإسلام والتي عاصرته كانت منحرفة اختلط فيها الحق بالباطل ولم

__________________

(١) قال ابن عباس أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بالمدينة وهم قريظة والنظير وبنو قينقاع ولفظ الآية أعم وأشمل إذ تناول اليهود مطلقا والنصارى كذلك.

(٢) انفك ينفك انفكاكا مضارع فكه فانفك ومعناه الإزالة والإقلاع أي لم يكونوا مقلعين عما هم عليه أو زائلين عنه تاركين له منتهين عنه.

(٣) إن قيل الكتب هي التي تشتمل على صحف فكيف يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة؟ والجواب نعم الصحف تكون كتابا وإذا كثرت كونت كتبا والقرآن العظيم كثرة صحفه كونت كتابا باعتبار ما حواه من الشارئع والأحكام والقصص والأخبار.

تصبح صالحة للإسلام والهداية البشرية ولا فرق بين اليهودية والنصرانية والمجوسية.

٢ ـ إن أهل الكتاب بصورة خاصة كانوا منتظرين البعثة المحمدية بفارغ الصبر لعلمهم بما أصاب دينهم من فساد ، ولما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجاءتهم البينة على صدقه وصحة ما جاء به تفرقوا فآمن البعض (١) وكفر البعض.

٣ ـ مما يؤخذ على اليهود والنصارى أنهم في كتبهم مأمورون بعبادة الله تعالى وحده والكفر بالشرك مائلين عن كل دين إلى دين الإسلام ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فما بالهم لما جاءهم الإسلام بمثل ما أمروا به كفروا به وعادوه. والجواب انهم لما انحرفوا عز عليهم أن يستقيموا لما ألفوا من الشرك والضلالة والباطل.

٤ ـ بيان أن الملة القيمة والدين المنجي من العذاب المحقق للاسعاد والكمال ما قام على أساس عبادة الله وحده وأقام الصلاة وايتاء الزكاة والميل عن كل دين إلى هذا الدين الإسلامي.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

شرح الكلمات :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : أي بالإسلام ونبيه وكتابه هم اليهود والنصارى.

(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) : أي شر الخليقة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : أي آمنوا بالإسلام ونبيه وكتابه وعملوا الصالحات.

(أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) : أي هم خير الخليقة.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ) : أي بساتين اقامة دائمة.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) : أي بطاعته.

(وَرَضُوا عَنْهُ) : أي بثوابه.

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) أي كفر من كفر منهم الآية من سورة البقرة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا (١) مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) إنه بعد أن بين الدين الحق المنجي من العذاب والموجب للنعيم وهو الدين الإسلامي اخبر تعالى أن من كفر به من أهل الكتاب ومن المشركين هم (فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) هذا حكم الله فيهم لكفرهم بالحق واعراضهم عنه بعد ما جاءتهم البينة وعرفوا الطريق وتنكبوه رضا بالباطل واقتناعا بالكفر والشرك بدل الإيمان والتوحيد هؤلاء الكفرة الفجرة هم شر الخليقة كلها. وهو معنى قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ (٢) شَرُّ الْبَرِيَّةِ) كما أخبر تعالى بأن جزاء من آمن بالله ورسوله وعمل بالدين الإسلامي فأدى الفرائض واجتنب النواهي وسابق في الخيرات والصالحات هؤلاء هم (٣) خير البرية إذ قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وقوله (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي جزاء أولئك الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به من الهدى والدين الحق أولئك هم خير الخليقة وقوله (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أي يوم يلقونه وذلك بعد الموت (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة دائمة خالدين فيها أبدا أي لا يخرجون منها ولا يموتون أبدا وقوله (رَضِيَ (٤) اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي رضى الله عنهم بسبب إيمانهم وطاعتهم ورضوا عنه بسبب ما وهبهم وأعطاهم من النعيم المقيم في دار السلام وقوله تعالى (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ (٥) رَبَّهُ) أي ذلك الجزاء المذكور وهو جزاء عظيم إذ جمع لأهله فيه بين سعادة الروح وسعادة البدن معا هو جزاء عبد خاف ربه فلم يعصه حتى لقيه بعد موته وإن عصاه يوما تاب وإن أخطأ رجع حتى مات وهو على الطاعة لا على المعصية.

__________________

(١) (كَفَرُوا) أي من بعد ما جاءتهم البينة من الطوائف الثلاثة حكم الله تعالى فيهم بأنهم شر الخليقة فهم شر من القردة والخنازير وأخبث أنواع الحيوان كالحيات والثعابين لأنهم كفروا بربهم وفسقوا من أمره واستوجبوا لعنته وعذابه فكانوا بذلك شر البرية.

(٢) (الْبَرِيَّةِ) الخليقة إذ هي من برأ إذا خلق والباري الخالق وأصل البرية : البريئة قلبت الهمزة ياء وأدغمت في الياء فصارت البرية بياء مشددة وقرأ نافع البرئة مهموزا على الأصل وخففها حفص فقرأ البرية كالخلية وزنا.

(٣) أي في حكم الله وقضائه وحصلت لهم الخيرية بإيمانهم بربهم واستقامتهم على منهج شرعه فكملوا في أرواحهم وأخلاقهم وتهيؤ اللملكوت الأعلى فكانوا بذلك خير البرية اللهم اجعلنا منهم.

(٤) قول البعض رضي أعمالهم هروبا من عقيدة السلف والا فالآية نص في رضاه تعالى عنهم وان كانت الأعمال سببا في رضاه إذ الأعمال طهرت نفوسهم وزكت أرواحهم فاستحقوا رضى الله فرضي عنهم ورضى الله أكبر من نعيم الجنة كقوله تعالى ورضوان من الله أكبر.

(٥) الخشية الموجبة لهذا النعيم المقيم هي ثمرة العلم إذ لا خشية بلا علم قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء فلذا وجب طلب العلم وهو العلم بالله ومحابه ومكارهه ووعده ووعيده إذ هذا هو العلم الذي يثمر الخشية.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان جزاء من كفر بالإسلام من سائر الناس وأنه بئس الجزاء.

٢ ـ بيان جزاء من آمن بالإسلام ودخل فيه وطبق قواعده واستقام على الأمر والنهي فيه وهو نعم الجزاء رضى الله والخلود في دار السلام.

٣ ـ فضل الخشية إن حملت صاحبها على طاعة الله ورسوله فأطاعهما بأداء الفرائض وترك المحرمات في الاعتقاد والقول والعمل.

سورة الزلزلة (١)

مدنية وآياتها ثماني آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

شرح الكلمات :

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) : أي حركت لقيام الساعة.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) : أي كنوزها وموتاها فألقتها وتخلت.

(ما لَها) : أي وقال الكافر ما لها أي أي شيء جعلها تتحرك هذه الحركة.

(تُحَدِّثُ أَخْبارَها) : أي تخبر بما وقع عليها من خير وشر وتشهد به لأهله.

(أَوْحى لَها) : أي بأن تحدث أخبارها فحدثت.

(يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) : أي من موقف الحساب.

__________________

(١) وتسمى سورة الزلزال لوجود لفظ الزلزال فيها وهو قوله إذا زلزلت الأرض زلزالها ، واشتهرت بسورة الزلزلة وهي تسمية بالمعنى إذ ليس فيها لفظ الزلزلة. ورد أنها تعدل ربع القرآن أو نصفه والحديث ضعيف.

(لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) : إي جزاء أعمالهم إما إلى الجنة وإما إلى النار.

(مِثْقالَ ذَرَّةٍ) : زنة نملة صغيرة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) أي تحركت حركتها الشديدة لقيام الساعة (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) من كنوز وذلك في النفخة الأولى ، وأموات وذلك في النفخة الثانية ففي الإخبار اجمال إذ المقصود تقرير البعث والجزاء ليعمل الناس بما ينجيهم من النار ويدخلهم الجنة. وقوله (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها)؟ (٢) لا شك أن هذا الإنسان السائل كان كافرا بالساعة ولذا تساءل أما المؤمن فهو يعلم ذلك لأنه جزء من عقيدته. وقوله تعالى (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٣) أي تخبر بما جرى عليها من خير وشر بلسان القال أو الحال. وهي في هذا الإخبار مأمورة لقوله تعالى (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي بذلك وقوله (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) (٤) أي يوم تزلزل الأرض وتهتز للنفخة الثانية نفخة يصدر الناس فيها أشتاتا أي يصدرون من ساحة فصل القضاء فمن آخذ ذات اليمين ومن آخذ ذات الشمال (لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي جزاء أعمالهم في الدنيا من حسنة وسيئة فالحسنة تورث الجنة والسيئة تورث النار. وقوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً) (٥) أي وزن ذرة من خير في الدنيا يثب عليه في الآخرة (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) أي وزن ذرة من شر في الدنيا يجز به في الآخرة إلا أن يعفو الجبار عزوجل وبما أن الكفر مانع من دخول الجنة فإن الكافر إذا عمل حسنة في الدنيا يرى جزاءها في الدنيا ، وليس له في الآخرة شيء منها وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها إذ سألت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن عبد الله بن جدعان هل ينفعه في الآخرة ما كان يفعله في الدنيا من إطعام الحجيج وكسوتهم فقال لها. لا إنه لم يقل يوما من الدهر رب اغفرلي خطيئتي يوم الدين.

كما أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يأكل مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونزلت هذه الآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية فرفع أبو بكر يده من الطعام وقال إني لراء ما عملت من خير وشر؟ فقال

__________________

(١) اضافة الزلزال إلى ضمير الأرض لإفادة تمكنه منها وللإشارة إلى هوله وفظاعته لما عرف الناس من أهوال الزلزال إذا وقع والزلزال بكسر الزاء مصدر وبفتحها اسم مصدر. وهو مأخوذ من الزلل وهو زلق الرجلين. فلما قصدوا شدة الزلل ضاعفوا الفعل فقالوا في زل زلزل كما قالوا في كبه كبكبه.

(٢) مالها استفهام ناشئ عن دهشة وحيرة للمفاجأة. أي ما للأرض زلزلت هذا الزلزال.

(٣) روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فقال أتدرون ما أخبارها؟ قالوا الله ورسوله أعلم قال فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها ، وتقول عمل يوم كذا وكذا فهذه أخبارها وجملة (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ) جواب الشرط (إِذا زُلْزِلَتِ).

(٤) الأشتات جمع شت بمعنى متفرقين جماعات جماعات أصحاب يمين وأصحاب شمال.

(٥) يحكى أن أعرابيا أخر (خَيْراً يَرَهُ) فقيل له قدمت وأخرت فقال :

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه

كلا جانبي هرشى لهن طريق

وفات الأعرابي أن تقديم لفظ الخير تنويه به وبأهله ولذا قدم في الآية.

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن ما ترى مما تكره فهو من مثاقيل ذر شر كثير ، ويدخر الله لك مثاقيل الخير حتى تعطاه يوم القيامة وتصديق ذلك في كتاب الله (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ).

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ الإعلام بالانقلاب الكوني الذي تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات غير السموات.

٣ ـ تكلم الجمادات من آيات الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته وهي موجبات ألوهيته بعبادته وحده دون سواه.

٤ ـ تقرير حديث الصحيح اتقوا النار ولو بشق تمرة. (١)

٥ ـ الكافر عمله الخيري ينفعه في الدنيا دون الآخرة.

٦ ـ المؤمن يجزي (٢) بالسيئة في الدنيا ويدخر له صالح عمله للآخرة.

سورة العاديات

مكية وآياتها إحدى عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

شرح الكلمات :

(وَالْعادِياتِ) : أي والخيل تعدو في الغزو.

__________________

(١) حديث اتقوا النار ولو بشق تمرة. رواه البخاري وفي الموطأ أن مسكينا استطعم عائشة أم المؤمنين وبين يديها عنب فقالت لإنسان خذ حبة فأعطه إياها ، فجعل ينظر إليها ويعجب ، فقالت أتعجب؟ كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة؟

(٢) شاهده حديث أبي بكر السالف الذكر.

(ضَبْحاً) : أي تضبح ضبحا والضبح صوت الخيل إذا عدت أي جرت.

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) : أي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت بالليل.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) : أي الخيل تغير على العدو صباحا.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) : هيجن به أي بمكان عدوها نقعا أي غبارا.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) : أي بالنقع جمع العدو أي حيث تجمعاته.

(لَكَنُودٌ) : لكفور بجحد نعمه تعالى عليه.

(لَشَهِيدٌ) : أي يشهد على نفسه بعمله.

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ) : أي المال.

(إِذا بُعْثِرَ) : أي أثير وأخرج ما في القبور.

(وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) : بين وأفرز ما في الصدور من الإيمان والكفر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (١) الآيات إلى قوله (أَفَلا يَعْلَمُ) تضمنت قسما إليها عظيما على حقيقة كبرى يجهلها كثير من الناس وهي كفر الإنسان لربه ولنعمه عليه يعد المصائب وينسى النعم والفواضل وهذا بيان ما أقسم تعالى به وهو العاديات ضبحا وهي الخيل (٢) تضبح أي تخرج صوتا خاصا غير الصهيل المعروف (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي الخيل توري النار بحوافرها إذا مشت فوق الحجارة ليلا ويدخل ضمن هذا كل قادحة للنار (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي جماعات الخيل يركبها فرسانها للإغارة على العدو بها صباحا. وقوله (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي فأثارت الخيل النقع وهو الغبار والتراب عند سيرها بفرسانها فتوسطت جمع العدو وكتائبه لقتال أعداء الله الكافرين بالله وآياته ولقائه المفسدين في الأرض بالشرك والمعاصي هذا ما أقسم الله تعالى به وهو الخيل ذات الصفات الثلاث : العدو والإوراء والإغارة والمقسم عليه قوله (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) المراد من الإنسان الكافر والجاهل بربه تعالى الذي لم تتهذب روحه بمعرفة الله ومحابه ومكارهه ولم يزك نفسه بفعل المحاب وترك المكاره هذا الإنسان أقسم تعالى على أنه كفور لربه تعالى ولنعمه عليه أي شديد الكفر كثيره بذكر المصائب ويشعر بها ويصرخ لها ويصر عليها وينسى النعم والفواضل عليه فلا يذكرها ولا يشكر الله تعالى عليها. فالكنود الكفور (٣). وقوله تعالى

__________________

(١) الأفراس تعدو (القرطبي) تضبح أي تحمحم إذا عدت وأصل الضبح والضباح للثعالب كالنبح والنباح للكلاب.

(٢) يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في العاديات أنها الإبل تعدو في الحج من عرفة إلى مزدلفة وإلى منى إلا أن الخيل أولى بهذه الصفات.

(٣) فسر السلف الكنود بالهلوع والجحود والجهول والحقود والمنوع ، وفعله كند يكند كنودا من باب دخل يدخل دخلا أي كفر النعمة وجحدها.

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإن الله تعالى على هذا الوصف في الإنسان لشهيد فأخبر تعالى بما علمه من الإنسان وشهد به عليه كما أن الإنسان شهيد بأعماله وصنائع أقواله وأفعاله شهيد على نفسه بالكفر والجحود. وقوله (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) هذا مما أقسم تعالى عليه أيضا وهو وصف للإنسان الكنود وهو انه شديد حب المال وسمي المال خيرا تسمية (١) عرفية إذ تعارف الناس على ذلك كما أنه خير من حيث أنه يحصل به الخير الكثير إذا أنفق في مرضاة الله تعالى.

وقوله تعالى (أَفَلا (٢) يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ (٣) ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أيكفر الإنسان بربه ويجحد نعمه عليه وإحسانه إليه ويحب المال أشد الحب فيمنع حقوق الله فيه ويكتسبه مما حرم الله عليه وقوله تعالى (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا (٤) بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي بعثرت القبور وأخرج ما فيها من البشر للحساب والجزاء ووقفوا بين يدي الله تعالى وأفرز وبين ما كان خفيا في الصدور من الاعتقادات والنيات الصالحة والفاسدة ولا يخفى على الله تعالى منهم شيء حيث (إِنَّ رَبَّهُمْ (٥) بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) كما هو اليوم خبير إلا أنها ساعة الحساب والمجازاة فذكر فيها علم الله تعالى وخبرته بالظواهر والبواطن والضمائر والسرائر فلا يخفى على الله من ذلك شيء وسيتم الجزاء العادل بحسب هذا العلم وتلك الخبرة الإلهية. فلو علم الكفور من الناس المحب للمال هذا وأيقنه لعدل من سلوكه وأصلح من اعتقاده ومن أقواله وأعماله فالآيات دعوة إلى مراقبة الله تعالى بعد الإيمان والاستقامة على طاعته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ الترغيب في الجهاد والإعداد له كالخيل أمس ، ونفاث الطائرات اليوم.

٢ ـ بيان حقيقة وهي أن الإنسان كفور لربه ونعمه عليه يذكر المصيبة إذا أصابته وينسى النعم التي غطته إلا إذا آمن وعمل صالحا.

__________________

(١) شاهده قوله تعالى : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) الآية. وقال عدي :

ما ذا ترجي النفوس من طلب

الخير وحب الحياة كاربها

كاربها غامها من الكرب الذي هو الغم.

(٢) الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء للتفريع ، والمفعول محذوف لتذهب النفس في طلبه مذاهب تقديره أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور العذاب الذي هو جزاء الكفر والجحود والبخل.

(٣) (حُصِّلَ) معناه جمع وأحصى أو جمع وعد ليحاسب العبد عليه.

(٤) (بُعْثِرَ) أي قلب من أسفل إلى علو ، والمراد إحياء ما في القبور من الأموات.

(٥) هذه الجملة مستأنفة علة لتحقيق الجزاء وإثباته ذلك الجزاء الذي يحصل يوم خروج الناس من قبورهم وحسابهم على أعمالهم.

٣ ـ بيان أن الإنسان يحب المال حبا شديدا إلا إذا هذب بالإيمان وصالح الأعمال.

٤ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

سورة القارعة

مكية وآيتها احدى عشرة آية

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

شرح الكلمات :

(الْقارِعَةُ) : القيامة وسميت القارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها.

(مَا الْقارِعَةُ) : أي أي شيء هي؟ فالاستفهام للتهويل من شأنها.

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) : زيادة في تهويل أمرها وتعظيمه.

(كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) : أي كغوغاء الجراد المنتشر يموج بعضهم في بعض.

(كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) : أي كالصوف المندوف هذه حالها أولا ثم تكون كثيبا مهيلا ثم تكون هباء منبثا.

(فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) : أي يرضاها صاحبها في الجنة فهي مرضية له.

(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) : أي مأواه ومسكنه الهاوية التي يهوي فيها على رأسه وهي النار.

(نارٌ حامِيَةٌ) : أي هي نار حامية.

معنى الآيات :

قوله تعالى (الْقارِعَةُ) (١) إلى آخر السورة الكريمة تضمنت آياتها الإحدى عشرة آية وصفا لعقيدة البعث والجزاء التي كذب بها المشركون وأنكروها وبالغوا في انكارها فأخبر تعالى أن القيامة التي تقرع الناس بأهوالها وعظائم ما يجري فيها بحيث (يَكُونُ النَّاسُ) وهم أشرف الكائنات الأرضية يكونون في خفة أحلامهم وحيرة عقولهم (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) وهو غوغاء الجارد وتجمعه وتراكمه وانتشاره وهو يموج بعضه فوق بعض. (وَتَكُونُ الْجِبالُ) على رسوها وعلوها وضخامة ذواتها (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) أي كالصوف المندوف بالمنداف وهو يتطاير هنا وهناك. هذا في أول الأمر وقد تكون كالرمل المتهيل. ثم كالهباء المنبث فإذا بعثوا ووقفوا بين يدي ربهم لحسابهم ومجازاتهم (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي موازين حسناته فقد نجا من النار وهو (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي مرضية له وهو بها راض وكيف لا وهي الجنة دار النعيم المقيم. (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) أي قلت حسناته وكثرت سيئاته أو لم يكن له حسنة بالمرة كأهل الكفر والشرك (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٢) أي فأمه التي تضمه إليها وتؤيه عندها هاوية بحيث يهوى فيها على أم رأسه وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟) أي هي (نارٌ حامِيَةٌ) (٣) هذا الاستفهام للتهويل من شأنها وهي كذلك لا أشد هولا منها إنها النار دار البوار والخسران أعاذنا الله تعالى منها وعتق رقابنا منها اللهم آمين.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر صورة صادقة لها.

٢ ـ التحذير من أهوال يوم القيامة وعذاب الله تعالى فيها.

٣ ـ تقرير عقيدة وزن الأعمال صالحها وفاسدها وترتيب الجزاء عليها.

٤ ـ تقرير أن الناس يوم القيامة فريقان فريق في الجنة وفريق في السعير.

__________________

(١) (الْقارِعَةُ) مبتدأ (مَا) اسم استفهام مبتدأ ثان القارعة خبره والجملة خبر عن المبتدأ الأول والاستفهام للتهويل من شأنها والتفخيم لأمرها. وجملة ما أدراك ما القارعة تضمنت استفهاما آخر للتهويل من شأنها أيضا كالتأكيد للأول والظرف يوم يكون مفعول فيه أي تكون أو تحصل يوم يكون الناس كالفراش.

(٢) سميت النار أما لأهلها لأنهم يؤوون إليها كما يأوي الأبن إلى أمه قاله ابن زيد ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

فالأرض معقلنا وكانت أمنا

فيها مقابرنا وفيها نولد

(٣) في مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم ، قالوا والله إن كانت لكافية يا رسول الله ، قال فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلها مثل حرها.

سورة التكاثر

مكية وآياتها ثماني آيات (١)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤))

(كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

شرح الكلمات :

(أَلْهاكُمُ) : أي شغلكم عن طاعة الله تعالى.

(التَّكاثُرُ) : أي التباهي بكثرة المال.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) : أي تشاغلتم بجمع المال والتباهي بكثرته حتى متم ونقلتم إلى المقابر.

(كَلَّا) : أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا التكاثر.

(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) : أي إذا دخلتم قبوركم علمتم خطأكم في التكاثر في الأموال والأولاد.

(كَلَّا) : أي حقا.

(لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) : أي علما يقينيا عاقبة التكاثر لما تفاخرتم بكثرة أموالكم.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) : أي النار.

(يَوْمَئِذٍ) : أي يوم ترون الجحيم عين اليقين.

(عَنِ النَّعِيمِ) : أي تنعمتم به وتلذذتم من الصحة والفراغ والأمن والمطاعم والمشارب.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) (٢) هذا خطاب الله تعالى للمشتغلين بجمع المال وتكثيره للمباهاة به

__________________

(١) إلا البخاري فإنه يرى أنها مدنية والصحيح أنها مكية ولعل البخاري تأثر بما رواه من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر في بستان ابن تيهان إن هذا من النعيم الذي تسألون عنه.

(٢) ألهاكم شغلكم قال امرؤ القيس.

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول

أي شغلتها.

والتفاخر الأمر الذي ألهاهم عن طاعة الله ورسوله فماتوا ولم يقدموا لأنفسهم خيرا فقال تعالى لهم ألهاكم أي شغلكم التكاثر أي في الأموال للتفاخر بها والمباهاة بكثرتها (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (١) أي بعد موتكم نقلتم إليها لتبقوا فيها إلى أن تخرجوا منها للحساب والجزاء أي يوم القيامة. وقوله لهم (كَلَّا) أي ما هكذا ينبغي أن تفعلوا فارتدعوا عن هذا السلوك المفضي بكم إلى الهلاك والخسران. (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تشاغلكم عن طاعة الله وطاعة رسوله والتزود للدار الآخرة (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ (٢) تَعْلَمُونَ) كرر الوعيد والتهديد. وقوله (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) (٣) أي (٤) حقا لو تعلمون ما تجدونه في قبوركم ويوم بعثكم ونشوركم لما تشاغلتم بالأموال وتكاثرتم فيها. وقوله (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) هذا جواب قسم نحو وعزتنا لترون الجحيم أي النار وذلك يوم القيامة المشرك يراها ويصلاها والمؤمن يراها وينجيه الله تعالى منها. (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي الأمر الذي لا شك فيه إذ يؤتى بجهنم فيراها أهل الموقف أجمعون وقوله (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ) أي يوم ترون الجحيم عين اليقين (عَنِ النَّعِيمِ) (٥) الذي كان لكم في الدنيا من صحة وفراغ وأمن وطعام وشراب. فمن أدى شكره نجا ، ومن لم يؤد شكره أخذ به ولا يعفى إلا عن ثوب يستر العورة وكسرة خبز تسد الجوعة وجحر يكن من الحر والبرد وقد صح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبي بكر وعمرو ابن التيهان [هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة يشير إلى بسر ورطب وماء بارد] وصح أيضا [انه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن علمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم انفقه؟]

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ التحذير من جمع المال وتكثيره مع عدم شكره وترك طاعة الله ورسوله من أجله.

__________________

(١) في صحيح مسلم عن مطرف عن أبيه قال أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقرأ ألهاكم التكاثر ، قال : يقول ابن آدم : مالي مالي وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس. وروى البخاري قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لو أن لابن آدم واديا من ذهب لأحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب.

(٢) هذه الجملة توكيد للأولى وهي سوف تعلمون ، ومفعول تعلمون محذوف تقديره تعلمون سوء مغبة لهوكم بالتكاثر مشغولين عن طاعة الله ورسوله مشغولين بجمع الأموال والتكاثر بها.

(٣) جواب (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) محذوف كما حذف الأول تقديره لتبين لكم حال مفظع عظيم والإضافة في علم اليقين إضافة بيانية لأن اليقين علم.

(٤) وجائز أن تكون كلاهما كالأولى للردع والزجر وكونها بمعنى حقا أولى.

(٥) اختلف في تحديد النعيم المذكور الذي نسأل عنه يوم القيامة فقيل له الأمن والصحة وقيل الصحة والفراغ ، وقيل شبع البطون وبارد الشراب وظلال المساكن. وفي البخاري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ.

٢ ـ إثبات عذاب القبر وتأكيده بقوله حتى زرتم المقابر كلا سوف تعلمون أي في القبر.

٣ ـ تقرير عقيدة البعث وحتمية الجزاء بعد الحساب والاستنطاق والاستجواب.

٤ ـ حتمية سؤال العبد عن النعم التي أنعم الله تعالى عليه بها في الدنيا فإن كان شاكرا لها فاز وإن كان كافرا لها أخذ والعياذ بالله.

سورة العصر

مكية وآياتها ثلاث آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

شرح الكلمات :

(وَالْعَصْرِ) : أي الدهر كله.

(إِنَّ الْإِنْسانَ) : أي جنس الإنسان كله.

(لَفِي خُسْرٍ) : أي في نقصان وخسران إذ حياته هي رأس ماله فإذا مات ولم يؤمن ولم يعمل صالحا خسر كل الخسران.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) : أي أوصى بعضهم بعضا باعتقاد الحق وقوله والعمل به.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : أي اوصى بعضهم بعضا بالصبر على اعتقاد الحق وقوله والعمل به.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَالْعَصْرِ) (١) الآيات الثلاث تضمنت هذه الآيات حكما ومحكوما عليه ومحكوما به فالحكم هو ما حكم به تعالى على الإنسان (٢) كل الإنسان من النقصان والخسران والمحكوم عليه هو الإنسان أبن آدم والمحكوم به هو الخسران لمن لم يؤمن ويعمل صالحا والربح والنجاة من الخسران لمن آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر فقوله تعالى (وَالْعَصْرِ)

__________________

(١) ذكر أهل التفسير في تحديد كلمة العصر أقوالا منها أنها صلاة العصر لأنها الصلاة الوسطى ، ومنها عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما في التفسير أعم وأولى.

(٢) الإنسان (أل) فيه لاستغراق الجنس إلا أنه خاص بالموجودين في زمن النزول للآية ومن بلغته الدعوة الإسلامية ، أما من كانوا قبل نزول الآية وظهور الإسلام فلا يدخلون في عموم لفظ الإنسان ولو قيل بالعموم لكان حقا أيضا.

هو قسم أقسم الله به والعصر هو الدهر كله ليله ونهاره وصبحه ومساؤه وجواب القسم قوله تعالى (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي نقصان وهلكة وخسران إذ يعيش في كبد ويموت إلى جهنم فيخسر كل شيء حتى نفسه التي بين جنبيه وقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فهؤلاء استثناهم الله تعالى من الخسر فهم رابحون غير خاسرين وذلك بدخولهم الجنة دار السعادة والمراد من الإيمان الإيمان بالله ورسوله وما جاء به رسوله من الهدى ودين الحق والمراد من العمل الصالح الفرائض والسنن والنوافل ، وقوله (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) أي باعتقاده وقوله والعمل به وذلك باتباع الكتاب والسنة ، وقوله (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (١) أي أوصى بعضهم بعضا بالحق اعتقادا وقولا وعملا وبالصبر على ذلك حتى يموت أحدهم وهو يعتقد الحق ويقول به ويعمل بما جاء فيه فالإسلام حق والكتاب حق والرسول حق فهم بذلك يؤمنون ويعملون ويتواصون بالثبات على ذلك حتى الموت.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ فضيلة سورة العصر لاشتمالها على طريق النجاة في ثلاث آيات حتى قال الإمام الشافعي لو ما أنزل الله تعالى على خلقه حجة إلا هذه السورة لكفتهم.

٢ ـ بيان مصير الإنسان الكافر وأنه الخسران التام.

٣ ـ بيان فوز أهل الإيمان والعمل الصالح المجتنبين للشرك والمعاصي.

٤ ـ وجوب التواصي بالحق والتواصي بالصبر بين المسلمين.

سورة الهمزة

مكية وآياتها تسع آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

__________________

(١) حقيقة الصبر منع المرء نفسه مما هو مناف لطاعة الله ورسوله فعلا أو تركا.

شرح الكلمات :

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) : كلمة يطلب بها العذاب وواد في جهنم الهمزة كثير الهمز واللمزة كذلك وهم الطعانون المظهرون العيوب للإفساد.

(جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) : أي أحصاه وأعده لحوادث الدهر.

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) : أي يجعله خالدا في الحياة لا يموت.

(كَلَّا) : أي ليس الأمر كما يزعم ويظن.

(لَيُنْبَذَنَ) : أي ليطرحن في الحطمة.

(فِي الْحُطَمَةِ) : أي النار التي تحطم كل ما يلقى فيها.

(تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) : أي تشرف على القلوب فتحرقها.

(مُؤْصَدَةٌ) : أي مغلقة مطبقة.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) : أي يعذبون في النار بأعمدة ممدة.

معنى الآيات :

قوله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) يتوعد الرب تبارك وتعالى بواد في جهنم يسيل بصديد أهل النار وقيوحهم كل همزة لمزة (٢) أي كل مغتاب عياب ممن يمشون بالنميمة ويبغون للبراء العيب وقوله (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) هذا وصف آخر لتلك الهمزة اللمزة وهو أنه (جَمَعَ مالاً) كثيرا من حرام وحلال (وَعَدَّدَهُ) أي أحصاه وعرف مقداره وأعده لحوادث الدهر كما يزعم. (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن أنه لا يموت لكثرة أمواله ومتى كان المال ينجي من الموت؟ إنه الغرور في الحياة ، لو كان المال يخلد أحدا لأخلد قارون ، وقوله تعالى (كَلَّا) (٣) لا يخلده ماله بل وعزتنا وجلالنا (لَيُنْبَذَنَ) (٤) أي يطرحن (فِي الْحُطَمَةِ) النار المستعرة التي تحطم كل ما يلقى فيها وقوله تعالى (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) (٥) هذا الاستفهام لتعظيم أمرها وتهويل شأنها ، وبينها تعالى بقوله (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) أي المستعرة المتأججة ، (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى

__________________

(١) قال ابن عباس هم المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرآء العيب.

(٢) قال عطاء بن أبي رياح : الهمزة الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللمزة الذي يغتابه من خلقه إذا غاب قال حسان :

همزتك فاختضعت بذل نفس

بقافية تأجج كالشواظ

(٣) (كَلَّا) رد لما توهمه الكافر وردع له وزجر على اعتقاده وقوله إذ كلاهما فاسد باطل.

(٤) اللام موطئة للقسم.

(٥) الحطمة دركة من درك النار قيل انها الثانية وقيل الرابعة أو هي اسم من أسماء جهنم.

الْأَفْئِدَةِ) أي تشرف على القلوب فتحرقها ، وقوله تعالى (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (١) أي إن النار على أولئك الهمازين اللمازين مطبقة مغلقة الأبواب وقوله تعالى (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) أي يعذبون في النار بعمد ممددة ، والله أعلم كيف يكون تعذيبهم (٢) بها إذ لم يطلعنا الله تعالى على كيفيته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ التحذير من الغيبة والنميمة.

٣ ـ التنديد بالمغترين بالأموال المعجبين بها.

٤ ـ بيان شدة عذاب النار وفظاعته.

سورة الفيل

مكية وآياتها خمس آيات

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

شرح الكلمات :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) : أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل.

(بِأَصْحابِ الْفِيلِ) : أي محمود وهي أكبرها ومعه اثنا عشر فيلا وصاحبها أبرهة.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ) : أي في هدم الكعبة.

(فِي تَضْلِيلٍ) : أي في خسار وهلاك.

(أَبابِيلَ) : أي جماعات جماعات.

(مِنْ سِجِّيلٍ) : أي طين مطبوخ.

__________________

(١) يقال آصدت الباب إذا أغلقته قاله مجاهد ومنه قول الشاعر (الرقيات)

إن في القصر لو دخلنا غزالا

مصفقا موصدا عليه الحجاب

فمصفقا وموصدا بمعنى واحد وهو مغلق.

(٢) (فِي عَمَدٍ) أي موثقين في عمد كما يوثق المسجون المغلظ عليه من رجليه في فلقة ذات ثقب يدخل في رجليه والعمد اسم جمع عمود ، والعمود خشبة والممددة المجعولة طويلة جدا.

(كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) : أي كورق زرع أكلته الدواب وداسته بأرجلها.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَلَمْ (١) تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) (٢) إلى قوله (مَأْكُولٍ) هي خمس آيات تضمنت الحديث عن حادث جلل وقع أمام (٣) ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلاصته أن أبرهة الأشرم والي اليمن من قبل ملك الحبشة قد رأى أن يبني بيتا في صنعاء اليمن يدعو العرب إلى حجه بدل حجهم البيت الحرام والقصد من ذلك تحويل التجارة والمكاسب من مكة إلى اليمن وعرض هذا على الملك الحبشي فوافق وسره ذلك ولما بني البيت «الكنيسة» وسماها القليس لم يبن مثلها في تاريخها جاء رجل قرشي فتغوط فيها ولطخ جدرانها بالعذرة غضبا منه ، وذهب فلما رآها أبرهة الأشرم بتلك الحال استشاط غيظا وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة وكان معه ثلاثة عشر فيلا ومن بينها فيل يدعى محمود وهو أكبرها وساروا ما وقف في وجههم حي من أحياء العرب إلا قاتلوه وهزموه حتى انتهوا إلى قرب مكة وجرت سفارة بينهم وبين شيخ مكة عبد المطلب بن هاشم جد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتهت المفاوضات بأن يرد أبرهة إبل عبد المطلب ثم هو وشأنه بالكعبة وأمر رجال مكة أن يخلو البلد ويلتحقوا برؤوس الجبال بنسائهم وأطفالهم خشية المعرة تلحقهم من الجيش الغازي والظالم ، وما هي إلا أن تحرك جيش أبرهة ووصل إلى وادي محسر وهو في وسط الوادي سائر وإذا بفرق من الطير فرقة بعد أخرى ترسل على ذلك الجيش حجارة الواحدة ما بين الحمصة والعدسة في الحجم وما تسقط الحجرة على رجل إلا ذاب وتناثر لحمه فهلكوا وفر ابرهة ولحمه يتناثر فهلك في الطريق وكانت هذه نصرة من الله لسكان حرمه وحماة بيته ومن ثم ما زالت العرب تحترم الكعبة والحرم وسكانه إلى اليوم. وقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) يخاطب تعالى رسوله مذكرا إياه بفعله الجبار في إهلاك الجبابرة فأين قوة ظلمة قريش كالعاص بن وائل وعمرو بن هشام والوليد وعقبة من قوة ابرهة وأبادها الله تعالى في ساعة فاصبر يا محمد ولا تحمل لهؤلاء الأعداء هما فإن لهم ساعة فكانت السورة عبارة عن ذكرى للعظة والاعتبار. وهذا شرح الآيات (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) أي ألم ينته إلى علمك فعل ربك بأصحاب الفيل. (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) أي ألم يجعل ما كادوه لبيتنا وحرمنا في خسارة وضلال فلم يجنوا إلا الخزي والدمار (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أي جماعات جماعات كانت تشاهد وهي

__________________

(١) الاستفهام تقريري والمخاطب هنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا خلاف (وكيف) جائز أن تكون مجردة عن الاستفهام وهي في محل نصب على المفعول به لتر.

(٢) الفيل أنثاه فيلة ويجمع على أفيال وفيول وفيلة ، وصاحبه فيال.

(٣) إذ ولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل أي بعد حادثة الفيل بخمسين يوما.

تخرج من البحر يشاهدها رجال مكة المعتصمون بقمم الجبال إذ تمر فوقهم وهي تحمل حجارة من سجيل (١) كل طائر يحمل ثلاثة أحجار كالحمصة والعدسة واحدة بمنقاره واثنتين بمخلبيه كل واحدة في مخلب ترميهم بها فتتفتت لحومهم وتتناثر (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي كزرع دخلته ماشية فأكلت عصفه أي ورقه وكسرت قائمه وهشمته فكانت آية من آيات الله تعالى.

هداية الآيات :

من هداية الآيات

١ ـ تسلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما يلاقيه من ظلم كفار قريش.

٢ ـ تذكير قريش بفعل الله عزوجل تخويفا لهم وترهيبا.

٣ ـ مظاهر قدرة الله تعالى في تدبيره لخلقه وبطشه بأعدائه.

سورة قريش

مكية وآياتها أربع آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

شرح الكلمات :

(لِإِيلافِ) : الإيلاف مصدر آلف الشيء يؤالفه إيلافا إذا اعتاده وزالت الكلفة عنه والنفرة منه.

(قُرَيْشٍ) (٢) : هم ولد النضر بن كنانة وهم قبائل شتى.

__________________

(١) (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) طبخت من نار جهنم وسجيل أصلها سجين بالنون فأبدلت لا ما كما أبدلت في أصيلان بأصيلال قال الشاعر :

ورجلة يضربون البيض عن عرض

ضربا تواصت به الأبطال سجينا

(٢) قريش لقب الجد الذي يجمع بطون قريش كافة وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وأما ما فوق فهر فهم من كنانة ولقب بقريش تصغير قرش بفتح القاف وسكون الراء والنسبة إليه قرشي وهل اشتقاق قرش من التقريش الذي هو الاكتساب أو التجمع أو نسبة إلى القرش وهو سمكة بحرية قوية والنسبة إلى قرش قرشي وقريش تصرف إن أريد الحي وتمنع إن أريد القبيلة ورجح القرطبي أن يكون قريش بن النضر بن كنانة. فكل من كان من ولد النضر فهو قرشي ورجحه للحديث : (إنا ولد النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا) وبالتأمل لا توجد منافاة إذ قبائل قريش تعود إلى النضر بن كنانة.

(رِحْلَةَ الشِّتاءِ) : أي إلى اليمن.

(وَالصَّيْفِ) : أي إلى الشام.

(فَلْيَعْبُدُوا) : أي إن لم يعبدوا الله لسائر نعمه فليعبدوه لتحبيب هاتين الرحلتين اليهم.

(رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) : أي مالك البيت الحرام ورب كل شيء.

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) : أي من أجل البيت الحرام.

(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) : أي من أجل البيت الحرام.

معنى الآيات :

قوله تعالى (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) (١) هذا الجار والمجرور متعلق بكلام قبله وهو فعلت ما فعلت بأصحاب الفيل لإيلاف قريش رحلتيهم ، أو أعجبوا لإيلاف قريش رحلتهم والرحلتان هما رحلة في الشتاء إلى اليمن ، ورحلة في الصيف إلى الشام وذلك للاتجار وجلب الأرزاق إلى بلادهم التي ليست هي بذات زرع ولا صناعة فإيلافهم هاتين الرحلتين كان بتدبير الله تعالى ليعيش سكان حرمه وبلده في رغد من العيش فهي نعمة من نعم الله تعالى وعليه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) (٢) بما هيأ لهم من أسباب (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) كذلك ولم يعدلون عن عبادته إلى عبادة الأصنام والأوثان فالله أحق أن يعبدوه إذ هو الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف بما ألقى في قلوب العرب من احترام الحرم وسكانه وتعظيمه وتعظيمهم فتمكنوا من السفر إلى خارج بلادهم والعودة إليها في أمن وطمأنينة قال تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس أي لقريش تقوم مصالحهم عليها لما ألقى في قلوب العرب (٣) من تعظيم واحترام أهله.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مظاهر تدبير الله تعالى وحكمته ورحمته فسبحانه من إله حكيم رحيم.

__________________

(١) إلإيلاف مصدر آلف يؤلف إيلافا قال الشاعر :

المنعمين إذ النجوم تغيرت

والظاعنين لرحلة الإيلاف

وأما ألفه يألفه إلفا والافا ، فقد فرأ به أبو جعفر لإلف قريش ، وقد جمع بين المصدرين الشاعر في قوله

أزعمتم أن إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف

ولام الجر في متعلقها ثلاثة احتمالات ذكر في التفسير منها اثنان ، والثالث انها متعلقة ب فليعبدوا : كأنه قال آلف الله قريشا إيلافا فليعبدوا رب هذا البيت ، ويقدر شرط محذوف أي إذا كان الأمر كذلك فليعبدوا ، ويرجح الأول لمصحف أبي بن كعب ، إذ لم يفصل فيه بين السورتين. وكذا قراءة عمر إذ صلى المغرب يوما فقرأ في الأولى بالتين وفي الثانية بالفيل وقريش ولم يفصل بينهما بالبسملة ، ولا مانع منه وهو أوضح.

(٢) إنما هي استجابة الله دعوة إبراهيم : رب اجعل هذا البلد آمنا وارزق أهله من الثمرات.

(٣) مصداق قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا).

٢ ـ بيان إفضال الله تعالى على قريش وإنعامه عليها الأمر الذي تطلب شكرها ولم تشكر فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بتركها للشكر.

٣ ـ وجوب عبادة الله تعالى وترك عبادة من سواه.

٤ ـ وجوب الشكر على النعم وشكرها حمد الله تعالى عليها والثناء عليه بها وصرفها في مرضاته.

٥ ـ الاطعام من الجوع والتأمين من الخوف عليهما مدار كامل أجهزة الدولة فأرقى الدول اليوم وقبل اليوم لم تستطع أن تحقق لشعوبها هاتين النعمتين نعمة العيش الرغد والأمن التام.

سورة الماعون

مكية الأوائل مدنية الأواخر

وآياتها تسع آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) : أي هل عرفته والدين ثواب الله وعقابه يوم القيامة.

(فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) : أي فهو ذلك الذي يدفع اليتيم عن حقه بعنف.

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) : أي لا يحض نفسه ولا غيره على إطعام المساكين.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) : أي العذاب الشديد للمصلين الساهين عن صلاتهم.

(عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) : أي يؤخرونها عن أوقاتها.

(يُراؤُنَ) : أي يراءون بصلاتهم وأعمالهم الناس فلم يخلصوا لله تعالى في ذلك.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) : أي لا يعطون من سألهم ماعونا كالأبرة والقدر والمنجل ونحوه مما ينتفع به ويرد بعينه كسائر الأدوات المنزلية.

معنى الآيات :

قوله تعالى (أَرَأَيْتَ (١) الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (٢) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) هذه الآيات الثلاث نزلت بمكة في العاص بن وائل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من عتاة قريش وكفارها فهذه الآيات تعرض بهم وتندد بسلوكهم وتوعدهم فقوله تعالى (أَرَأَيْتَ) يا رسولنا (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) وهو الجزاء في الآخرة على الحسنات والسيئات فهو ذاك (الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي يدفعه بعنف عن حقه ولا يعطيه إياه احتقارا له وتكبرا عليه (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث ولا يحض نفسه ولا غيره على إطعام الفقراء والمساكين وذلك ناتج عن عدم إيمانه بالدين أي بالحساب والجزاء في الدار الآخرة وهذه صفة كل ظالم مانع للحق لا يرحم ولا يشفق إذ لو آمن بالجزاء في الدار الآخرة لعمل لها بترك الشر وفعل الخير فمن أراد أن يرى مكذبا بالدين فإنه يراه في الظلمة المعتدين القساة القلوب الذين لا يرحمون ولا يعطون ولا يحسنون وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) هذه الآيات الأربع نزلت في بعض منافقي المدينة النبوية فلذا نصف السورة مكي ونصفها مدني وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٣) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) هذا وعيد شديد لهم إذ الويل واد في جهنم يسيل من صديد أهل النار وقيوحهم وهو أشد العذاب إذ كانوا يغمسون فيه أو يطعمون ويشربون منه. ومعنى عن صلاتهم ساهون انهم غافلون عنها لا يذكرونها فكثيرا ما تفوتهم ويخرج وقتها وأغلب حالهم أنهم لا يصلونها إلا عند قرب خروج وقتها هذا وصف وآخر انهم (يُراؤُنَ) بصلاتهم وبكل أعمالهم أي يصلون وينفقون ليراهم المؤمنون فيقولوا انهم مؤمنون وبالمراءاة يدرءون عن أنفسهم القتل والسبي وثالث أنهم (يَمْنَعُونَ الْماعُونَ) فإذا استعارهم مؤمن ماعونا للحاجة به لا يعيرون ويعتذرون بمعاذير باطلة فلا يعيرون فأسا ولا منجلا ولا قدرا ولا أية آنية أو ماعون لأنهم يبغضون المؤمنين ولا يريدون أن ينفعوهم بشيء فيحرمونهم من إعارة شيء ينتفعون به ويردونه عليهم.

__________________

(١) الاستفهام للتعجب هنا من حال المكذبين بالجزاء وما أورثهم التكذيب من سوء الصنيع قرأ نافع أرأيت بتسهيل الهمزة بعد الراء ألفا وحققها حفص والجمهور.

(٢) في الكلام حذف تقديره أرأيت الذي يكذب بالدين. أمصيب هو أم مخطيي والجواب قطعا مخطيء وخطأه كفره وشركه وعداوته للإسلام ونبيه وأهله وجزاؤه سيكون جحيما وعذابا أليما وإذا كان هذا العذاب بسبب كفره وأذاه للمؤمنين إذا فويل للمنافقين المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين يراءون ويمنعون الماعون لظلمة قلوبهم بالكفر والشرك الذي يخفونه.

(٣) الفاء للتفريع والترتيب والتسبب. والسؤال : على أي شيء تفرع ما بعدها على ما قبلها. والآيات نزلت بالمدينة في المنافقين وما قبلها نزل في المشركين في مكة؟ والجواب تقدم في رقم (٢) قبل هذا الرقم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة البعث والجزاء.

٢ ـ أيما قلب خلا من عقيدة البعث والجزاء إلا وصاحبه شر الخلق لا خير فيه البتة.

٣ ـ التنديد بالذين يأكلون أموال اليتامى ويدفعونهم عن حقوقهم استصغارا لهم واحتقارا.

٤ ـ التنديد والوعيد للذين يتهاونون بالصلاة ولا يبالون في أي وقت صلوها وهو من علامات النفاق والعياذ بالله.

٥ ـ منع الماعون من صفات المنافقين والمانع لما المسلمون في حاجة إليه ليس منهم لحديث من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم فكيف بالذي يمنعهم ما هو فضل عنده وهم في حاجة إليه؟

سورة الكوثر (١)

مكية وآياتها ثلاث آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

شرح الكلمات :

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) : أي إنا رب العزة والجلال وهبناك يا نبينا الكوثر أي نهرا في الجنة.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) : أي فاشكر ذلك بصلاتك لربك المنعم عليك وحده وانحر له وحده.

(إِنَّ شانِئَكَ) : أي مبغضك.

(هُوَ الْأَبْتَرُ) : أي الأقل الأذل المنقطع عقبه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (٢) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) هذه الآيات الثلاث

__________________

(١) وتسمى سورة النحر.

(٢) روى مسلم عن أنس بن مالك قال بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ، ثم قال أتدرون من الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم قال فإنه نهر وعدنيه ربي عزوجل عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة وظاهر هذه الرواية أن سورة الكوثر مدنية ولا مانع من نزولها مرتين مرة بمكة وأخرى بالمدينة.

مختصة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ هو المخاطب بها وأنها تحمل طابع التعزية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد روي أنه لما مات ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاسم قال العاص بن وائل السهمي بتر محمد أو هو أبتر أي لا عقب له بعده فأنزل الله تعالى هذه السورة تحمل الرد على العاص والتعزية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والبشرى له ولأمته بالكوثر الذي هو نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج ، ومن الكوثر يملأ الحوض الذي في عرصات القيامة ولا يرده إلا الصالحون من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقوله تعالى (إِنَّا أَعْطَيْناكَ) أي خصصناك بالكوثر (١) الذي هو نهر في (٢) الجنة من أعظم أنهارها مع الخير الكثير الذي وهبه الله تعالى لك من النبوة والدين الحق ورفع الذكر والمقام المحمود وقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (٣) أي فاشكر هذا الإنعام بأن تصلي لربك وحده ولا تشرك به غيره وكذا النحر فلا تذبح لغيره تعالى وفي هذا تعليم لأمته وهل المراد من الصلاة صلاة العيد والنحر الأضحية لا مانع من دخول هذا في سائر الصلوات والنسك وقوله تعالى (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٤) أي إن مبغضك في كل زمان ومكان هو الأقل الأذل المنقطع النسل والعقب.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان إكرام الله تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ تأكيد أحاديث الكوثر وأنه نهر في الجنة.

٣ ـ وجوب الإخلاص في العبادات كلها لا سيما الصلاة والنحر.

٤ ـ مشروعية الدعاء على الظالم.

__________________

(١) لفظ الكوثر يطلق عربية على الخير الكثير كما هي صيغة فوعل نحو النوفل من النفل والجوهر من الجهر والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد والقدر كوثرا والكوثر الذي أعطيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهر في الجنة كما في البخاري والنبوة والكتاب والعلم والحكمة.

(٢) في حديث البخاري دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أظفر قلت ما هذا يا جبريل؟ قال هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزوجل.

(٣) في الآية دليل على وجوب تقديم صلاة العيد على النحر وهو ما عليه جمهور الفقهاء وجائز أن يكون المراد من صل لربك وانحر أي صل صلاة الصبح بمزدلفة وانحر هديك بمنى.

(٤) (الْأَبْتَرُ) حقيقته : المقطوع بعضه وغلب على المقطوع ذنبه من الدواب ويستعار لمن نقص منه ما هو من الخير في نظر الناس تشبيه بالدواب المقطوع أذنابها ومنه الخبطة البتراء التي لم يحمد فيها الله ولم يصل فيها على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

سورة الكافرون

مكية وآياتها ست آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

شرح الكلمات :

(قُلْ) : أي يا رسول الله.

(يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) : أي المشركون وهم الوليد والعاص وابن خلف والأسود بن المطلب.

(لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) : أي من الآلهة الباطلة الآن.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : أي الآن.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) : أي في المستقبل أبدا.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) : أي في المستقبل أبدا لعلم الله تعالى بذلك.

(لَكُمْ دِينُكُمْ) : أي ما أنتم عليه من الوثنية سوف لا تتركونها أبدا حتى تهلكوا.

(وَلِيَ دِينِ) : أي الإسلام فلا أتركه أبدا.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) الآيات الست الكريمات نزلت ردا على اقتراح تقدم به بعض المشركين وهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطلب وأمية بن خلف مفاده أن يعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم آلهتهم سنة ويعبدون معه إلهه سنة مصالحة بينهم وبينه وإنهاء للخصومات في نظرهم ، ولم يجبهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء حتى نزلت هذه السورة (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المقترحين الباطل يا أيها الكافرون بالوحي الإلهي وبالتوحيد

__________________

(١) ورد في فضل هذه السورة أنها تعدل ربع القرآن كسورة الزلزلة والنصر وصح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقرؤها في الشفع في الركعة الثانية ويقرأ في الأولى بالأعلى ، وصح أنه كان يقرأ بها وبالصمد في ركعتي الطواف.

المشركون في عبادة الله تعالى أصناما وأوثانا (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (١) الآن كما اقترحتم (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ) الآن (ما أَعْبُدُ) لما قضاه الله لكم بذلك ، (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) في المستقبل أبدا (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) في المستقبل أبدا لأن ربي حكم فيكم بالموت على الكفر والشرك حتى تدخلوا النار لما علمه من قلوبكم وأحوالكم وقبح سلوككم وفساد أعمالكم (لَكُمْ دِينُكُمْ) لا أتابعكم عليه (وَلِيَ دِينِ) (٢) لا تتابعونني عليه. بهذا أيأس الله رسوله من إيمان هذه الجماعة التي كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطمع في إيمانهم وأيأس المشركين من الطمع في موافقة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على مقترحهم الفاسد ، وقد هلك هؤلاء المشركون على الكفر فلم يؤمن منهم أحد فمنهم من هلك في بدر ومنهم من هلك في مكة على الكفر والشرك وصدق الله العظيم فيما أخبر به عنهم أنهم لا يعبدون الله عبادة تنجيهم من عذابه وتدخلهم رحمته.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير عقيدة القضاء والقدر وأن الكافر من كفر أزلا والمؤمن من آمن أزلا.

٢ ـ ولاية الله تعالى لرسوله عصمته من قبول اقتراح المشركين الباطل.

٣ ـ تقرير وجود المفاصلة بين أهل الإيمان وأهل الكفر والشرك.

سورة النصر

مدنية وآياتها ثلاث آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

__________________

(١) التكرار الموجود في الآية المراد منه التأكيد الذي يحمل المقترحين على اليأس من قبول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اقتراحهم بعبادة آلهتهم معهم سنة وهذا التكرار وارد في سورة الرحمن وسورة المرسلات ، والتكرار شائع في لغة العرب من ذلك قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا آذن ثم لا آذن إنما فاطمة بضعة مني (مسلم) وقال الشاعر :

يا لبكر انشروا لي كليبا

يا لبكر أين أين الفرار

وقال آخر :

يا علقمة يا علقمة يا علقمة

خير تميم كلها وأكرمه

(٢) حذفت ياء الضمير تخفيفا من ولي دين وبه قرأ جمهور القراء.

شرح الكلمات :

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) : أي نصر الله نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أعدائه المشركين.

(وَالْفَتْحُ) : أي فتح مكة.

(فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) : أي في الإسلام جماعات جماعات.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) : أي نزهه عن الشريك ملتبسا بحمده.

(وَاسْتَغْفِرْهُ) : أي أطلب منه المغفرة توبة منك إليه.

معنى الآيات :

قوله تعالى (إِذا جاءَ (١) نَصْرُ اللهِ) (٢) الآيات الثلاث المباركات نزلت في أخريات أيام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تحمل علامة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قرب أجله فقوله تعالى (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) أي لك يا رسولنا فأصبحت تنتصر على أعدائك في كل معركة تخوضها معهم وجاءك الفتح فتح مكة ففتحها الله عليك وأصبحت دار إسلام بعد أن كانت دار كفر (٣) ، (وَرَأَيْتَ النَّاسَ) من سكان اليمن وغيرهم (يَدْخُلُونَ فِي) دينك الدين الإسلامي (أَفْواجاً) وجماعات جماعة بعد أخرى بعد أن كانوا يدخلون فرادى واحدا واحدا وهم خائفون إذا تم هذا ورأيته

(فَسَبِّحْ (٤) بِحَمْدِ رَبِّكَ) شكرا له على نعمة النصر والفتح ودخول الناس في دينك وانتهاء دين المشركين الباطل. (وَاسْتَغْفِرْهُ) أي اطلب منه المغفرة لما فرط منك مما هو ذنب في حقك لقربك وكمال علمك وأما غيرك فليس هو بالذنب الذي يستغفر منه ويناب إلى الله تعالى منه وقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إن الله تعالى الذي أمرك بالاستغفار توبة إليه كان توابا على عباده يقبل توبتهم فيغفر ذنوبهم ويرحمهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية نعي الميت إلى أهله ولكن بدون إعلان وصوت عال.

__________________

(١) الإجماع على أن آخر سورة نزلت جميعا هي سورة النصر هذه قاله ابن عباس كما في صحيح مسلم.

(٢) النصر : العون مأخوذ من قولهم نصر الغيث الأرض إذا أعان نباتها ومنع من قحطها قال الشاعر :

إذا انسلخ الشهر الحرام فودعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر

(٣) روي أن العرب قالت : أما إذا ظفر محمد بأهل الحرم وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فكانوا يسلمون أفواجا أمة أمة ، والأمة أربعون رجلا.

(٤) روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر من قول سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب اليه : قالت فقلت يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده ، استغفر الله وأتوب إليه : قال خبرني ربي اني سأرى علامة في أمتي فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه فقد رأيتها : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ.). الخ. وصح أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في ركوعه ، سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي.

٢ ـ وجوب الشكر عند تحقق النعمة ومن ذلك سجدة الشكر.

٣ ـ مشروعية قول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي في الركوع.

سورة المسد

مكية وآياتها خمس آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

شرح الكلمات :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) : أي خسرت يدا أبي لهب بن عبد المطلب أي خسر عمله.

(وَتَبَ) : أي خسر هو بذاته إذ هو من أهل النار.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ) : أي أي شيء أغنى عنه ماله لما سخط الله تعالى عليه وعذبه في الدنيا والآخرة.

(وَما كَسَبَ) : أي من المال والولد وغيرها.

(سَيَصْلى ناراً) : أي يدخل نارا يصطلي بحرها ولفحها.

(ذاتَ لَهَبٍ) : أي توقد واشتعال.

(وَامْرَأَتُهُ) : أي أم جميل العوراء.

(حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) : أي تحمل شوك السعدان وتلقيه في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذية له وكرها.

(فِي جِيدِها) : أي في عنقها.

(حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) : أي من ليف.

معنى الآيات :

قوله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) الآيات الخمس المباركات نزلت ردا على أبي لهب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ صح أنه لما نزلت آية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) من سورة الشعراء طلع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جبل الصفا ونادى : واصباحاه واصباحاه فاجتمع الناس حوله فقال لهم إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد : قولوا لا إله إلا الله كلمة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم. فنطق أبو لهب فقال :

ألهذا جمعتنا تبالك طول اليوم فأنزل (١) الله تعالى ردا عليه (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) (٢) أي خسر أبو لهب وخسر كل شيء له وهذه جملة دعائية ولذا هلك بمرض (٣) خطير لم يتمكنوا من غسله فأراقوا عليه الماء ، فقط وقوله (وَتَبَ) إخبار من الله تعالى بهلاك عبد العزى أبي لهب وقوله (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٤) أي لما سخط الله عليه وادخله ناره لم يغن عنه أي لم يدفع عنه العذاب ماله ولا ولده. وقوله تعالى (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي توقد وتأجج. (وَامْرَأَتُهُ) أم جميل العوراء (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٥) حيث كانت تأتي بشوك السعدان وتضعه في طريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذهابه إلى صلاة الصبح بالمسجد الحرام. وقوله تعالى (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي في (٦) عنقها حبل من ليف النخل أو مسد شجر الدوم بهذا حكم الله تعالى على أعدائه وأعداء رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هداية

من هداية الآيات :

١ ـ بيان حكم الله بهلاك أبي لهب وإبطال كيده الذي كان يكيده لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢ ـ لا يغني المال ولا الولد عن العبد شيئا من عذاب الله إذا عمل بمساخطه وترك مراضيه.

٣ ـ حرمة أذية المؤمنين مطلقا.

٤ ـ عدم إغناء القرابة شيئا مع الشرك والكفر إذ أبو لهب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في النار ذات اللهب.

__________________

(١) صح أنه لما سمعت امرأة أبي لهب ما نزل فيها وزوجها من القرآن أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ومعه أبو بكر رضي الله عنه وفي يدها فهر من حجارة فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت يا أبا بكر أين صاحبك قد بلغني أنه يهجوني. والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر ، والله إني لشاعرة : مذمما عصينا وأمره أبينا ، ثم انصرفت فقال أبو بكر يا رسول الله أما تراها رأتك؟ قال : ما رأتني لقد أخذ الله بصرها عني.

(٢) سمي أبو لهب بأبي لهب وكان اسمه عبد العزى فسمي باللهب لحسنه وإشراق وجهه. وقال العلماء سمي بأبي لهب لمعان أربع والذي أراه أنه سمي بقضاء وقدر أبا لهب ليكون من أهل النار نظيره اختيار الشيوعيين اليوم شعار الحمرة ، وكلمة اليسار ، لما سبق أنهم أهل النار وأصحاب الشمال وهم أهل النار.

(٣) يسمى المرض الذي أصابه الله به مرض العدسة فمات وأقام ثلاثة أيام لم يدفن حتى أنتن ثم إن ولده غسلوه بالماء من بعيد مخافة عدوى العدسة؟ إذ كانت العرب تتقي هذا المرض كما يتقى الطاعون.

(٤) الكسب يكون حلالا ويكون حراما وخيره ما كان حلالا ، وفي الصحيح حديث عائشة رضي الله عنها إذ قالت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه رواه أبو داود.

(٥) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي كانت تمشي بالنميمة بين الناس ، تقول العرب فلان يحطب على فلان إذا ورش عليه أي حرش. قال الشاعر :

إن بني الأدرم حمالوا الحطب

هم الوشاة في الرضا وفي الغضب

ولا منافاة مع ما روي أنها كانت تحمل حزمة الشوك إذ هي تفعل هذا أو ذاك.

(٦) الجيد العنق شاهده قول الشاعر :

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش

إذا هي نصته ولا بمعطل

الريم : الظبي الأبيض الخالص البياض. ونصته : رفعته ، والمعطل الذي لا حلي عليه.

سورة الإخلاص

مكية وآياتها أربع آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

شرح الكلمات :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) : أي قل لمن سألك يا نبينا عن ربك هو الله أحد.

(اللهُ الصَّمَدُ) : أي الله الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، الصمد : السيد الذي يصمد إليه.

في الحوائج. فهو المقصود في قضاء الحوائج على الدوام.

(لَمْ يَلِدْ) : أي لا يفنى إذ لا شيء يلد إلا وهو فان بائد لا محالة.

(وَلَمْ يُولَدْ) : أي ليس بمحدث بأن لم يكن فكان فهو كائن أولا وأبدا.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) : أي لم يكن أحد شبيه له أو مثيل إذ ليس كمثله شيء.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) الآيات الأربع المباركات نزلت جوابا لمن قالوا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المشركين انسب (٢) لنا ربك أو صفه لنا فقال تعالى لرسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل أي لمن سألوك ذلك (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٣) (اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ربي هو الله أي إلإله الذي لا تنبغي الألوهية إلا له ، ولا تصلح العبادة إلا له أحد في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له نظير ولا مثيل في ذلك إذ هو خالق الكل ومالك الجميع فلن تكون المحدثات المخلوقات كخالقها ومحدثها الله أي المعبود الذي لا معبود بحق إلا هو ، الصمد أي السيد المقصود في قضاء الحوائج الذي استغنى عن كل خلقه وافتقر الكل إليه (لَمْ يَلِدْ) أي لم يكن له ولد لانتفاء

__________________

(١) ورد في فضل السورة أنها تعدل ثلث القرآن رواه البخاري وروى مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختتم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال سلوه لأي شيء يصنع ذلك؟ فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن فأنا أحب أن أقرأ بها فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبروه أن الله عزوجل يحبه.

(٢) روى الترمذي عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنسب لنا ربك فأنزل الله عزوجل قل هو الله أحد الله الصمد.

(٣) أحد أصلها وحد قلبت الواو فيها همزة قال النابغة :

كان رحلي وقد زال النهار بنا

بذي الجليل على مستأنس وحد

و (أَحَدٌ) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ تقديره هو أحد و (هُوَ) ضمير شأن أي المسؤول عنه هو الله أحد.

من يجانسه إذ الولد يجانس والده ، والمجانسة منفية عنه تعالى إذ ليس كمثله شيء (وَلَمْ يُولَدْ) لانتفاء الحدوث عنه تعالى.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (١) أي ولم يكن أحد كفوا له ولا مثيلا ولا نظيرا ولا شبيها إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. فلذا هو يعرف بالأحدية والصمدية فالأحدية هو أنه واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن له كفو ولا شبيه ولا نظير والصمدية هي أنه المستغني عن كل ما سواه والمفتقر إليه في وجوده وبقائه كل ما عداه كما يعرف بأسمائه وصفاته وآياته.

من هداية الآيات :

١ ـ معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.

٢ ـ تقرير التوحيد والنبوة.

٣ ـ بطلان نسبة الولد إلى الله تعالى.

٤ ـ وجوب عبادته تعالى وحده لا شريك له فيها ، إذ هو الله ذو الألوهية على خلقه دون سواه.

سورة الفلق

مدنية وآياتها خمس آيات

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

شرح الكلمات :

(أَعُوذُ) : أي استجير واتحصن.

(الْفَلَقِ) : أي الصبح.

__________________

(١) قرأ نافع كفؤا. مهموزا وقرأ حفص (كُفُواً) بإبدال الهمزة واوا تخفيفا.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) : من حيوان وجماد.

(غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) : أي الليل إذا أظلم أو القمر إذا غاب.

(النَّفَّاثاتِ) : أي السواحر اللاتي ينفثن.

(فِي الْعُقَدِ) : أي في العقد التي يعقدنها.

(حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) : أي إذا أظهر حسده وأعمله.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) أنه لما سحر لبيد بن معصم (٢) اليهودي بالمدينة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنزل تعالى المعوذتين فرقاه بهما جبريل فشفاه الله تعالى ولذا فالسورتان مدنيتان وقوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) أي قل يا رسولنا أعوذ أي استجير وأتحصن برب الفلق وهو الله عزوجل إذ هو فالق الإصباح وفالق الحب والنوى ولا يقدر على ذلك إلا هو لعظيم قدرته وسعة علمه. (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي من شر ما خلق تعالى من الكائنات من حيوان مكلف كالإنسان وغير مكلف كسائر الحيوانات ومن الجمادات أي من شر كل ذي شر منها ومن سائر المخلوقات. وقوله (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) أي الليل إذا أظلم والقمر (٣) إذا غاب إذ الظلام بدخول الليل أو بغياب القمر يكون مظنة خروج الحيات السامة والحيوانات المفترسة والجماعات المتلصصة للسطو والسرقة وابتغاء الشر والفساد. وقوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) أي وتعوذ بالله برب الفلق من شر السواحر وهن النساء اللاتي ينفثن في كل عقدة يرقين عليها ويعقدنها والنفث هي إخراج هواء من الفم بدون ريق ولذا ورد من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر. وقوله تعالى (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ (٤) إِذا حَسَدَ) (٥) أي وتعوذ برب الفلق من شر حاسد أي من الناس إذا حسد أي أظهر حسده فابتغاك بضر أو أرادك بشر أو طلبك بسوء بحسده لك لأن الحسد طلب زوال النعمة عن المحسود وسواء أرادها له أو لم يردها وهو شر الحسد.

__________________

(١) هذه أولى المعوذتين والثانية الناس وقبلهما الصمد قال فيهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتعوذ الناس بمثلهن وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتكى قرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عنه بيده رجاء بركتها.

(٢) حديث سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت في الصحيح وغيرهما. ومما رقى به جبريل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر حاسد وعين والله يشفيك.

(٣) روى الترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب.

(٤) روى النسائي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل إليه. لهذا كره بعض السلف النفث في الرقية وقالوا يرقى ولا ينفث ، والجمهور على الجواز.

(٥) الحسد حرام وهو أول ذنب عصى به الله تعالى إذ حسد أبليس آدم وحسد قابيل هابيل وحقيقته تمني زوال النعمة على الغير لتحصل له ، أو لا تحصل وهو شر الحسد.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب التعوذ بالله والاستعاذة بجنابه تعالى من كل مخوف لا يقدر المرء على دفعه لخفائه أو عدم القدرة عليه.

٢ ـ تحريم النفث في العقد إذ هو من السحر. والسحر كفر وحد الساحر ضربة بالسيف.

٣ ـ تحريم الحسد قطعيا وهو داء خطير حمل ابن آدم على قتل أخيه وحمل إخوة يوسف على الكيد له.

٤ ـ الغبطة ليست من الحسد لحديث الصحيح لا حسد إلا في اثنتين إذ المراد به الغبطة.

سورة الناس

مدنية وآياتها ست آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

شرح الكلمات :

(أَعُوذُ) : أي أتحصن وأستجير

(بِرَبِّ النَّاسِ) : أي خالقهم ومالكهم.

(مَلِكِ النَّاسِ) : أي سيد الناس ومالكهم وحاكمهم.

(إِلهِ النَّاسِ) : أي معبود الناس بحق إذ لا معبود سواه.

(مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) : أي من شر الشيطان سمى بالمصدر لكثرة ملابسته له.

(الْخَنَّاسِ) : أي الذي يخنس ويتأخر عن القلب عند ذكر الله تعالى.

(فِي صُدُورِ النَّاسِ) : أي في قلوبهم إذا غفلوا عن ذكر الله تعالى.

(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) : أي من شيطان الجن ومن شيطان الإنس.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) هذه السورة هي إحدى المعوذتين الأولى الفلق وهذه الناس والأولى اشتملت على أربع خصال يستعاذ منها وهي من شر كل ذي شيء من سائر الخلق والثانية من شر ما يحدث في الظلام ظلام الليل أو ظلام القمر إذا غاب والثالثة من شر السواحر النفاثات في العقد والرابعة من شر حاسد إذا حسد وقد اشتملت هذه الأربع على كل ما يخاف لأذاه وضرره أما سورة الناس فإنها قد اشتملت على شر واحد إلا أنه أخطر من تلك الأربع وذلك لتعلقه بالقلب ، والقلب إذا فسد فسد كل شيء وإذا صلح صلح كل شيء ولذا كانت سورة الناس خاصة بالتعوذ من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس. فقوله تعالى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) أمر منه تعالى لرسوله وأمته تابعة له أعوذ أي أتحصن برب الناس أي خالقهم ومالكهم وإلههم الذي لا إله لهم سواه (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) (٢) الذي هو الشيطان الموسوس في صدور الناس وذلك بصوت خفي لا يسمع فيلقى الشبه في القلب ، والمخاوف والظنون السيئة ويزين القبيح ويقبح الحسن وذلك متى غفل المرء عن ذكر الله تعالى ، وقوله تعالى (الْخَنَّاسِ) هذا وصف للشيطان من الجن فإنه إذا ذكر العبد ربه خنس أي استتر وكانه غاب ولم يغب فإذا غفل العبد عن ذكر الله عاد للوسوسة. وقوله تعالى (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) يعني أن الموسوس للإنسان كما يكون من الجن يكون من الناس والإنسان يوسوس (٤) بمعنى يعمل عمل الشيطان في تزيين الشر وتحسين القبيح. والقاء الشبه في النفس ، وإثارة الهواجس والخواطر بالكلمات الفاسدة والعبارات المضللة حتى إن ضرر الإنسان على الإنسان أكبر من ضرر الشيطان على الإنسان ، إذ الشيطان من الجن يطرد بالاستعاذة وشيطان الإنس لا يطرد بها وإنما يصانع ويدارى للتخلص منه اللهم إنا نعوذ بك من شر كل ذي شر ومن شر الإنس والجن ، فأعذنا ربنا فإنه لا يعيذنا إلا أنت ربنا ولك الحمد والشكر.

__________________

(١) لما كان في الناس ملوك ، وفيهم من يعبد غير الله تعالى ذكر تعالى أنه ملك الناس وإلههم ومعبودهم الحق الذي لا يستحق العبادة سواه فيه يستعاذ وبجنابه يلاذ.

(٢) جائز أن يكون المستعاذ منه لا الوسواس وإنما صاحب الوسواس وهو الشيطان أي من شر ذي الوسواس والوسوسة حديث النفس. صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الوسوسة التي هي حديث النفس الخالية من القول والعمل معفو عنها ولا يؤاخذ به العبد لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إن الله عزوجل تجاوز لأمتي عما حدثت أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم به).

(٤) قال مقاتل إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في العروق سلطه الله على ذلك وفي الصحيح إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الإنس والجن.

٢ ـ تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته عزوجل.

٣ ـ بيان لفظ الاستعاذة وهو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما بينته السنة الصحيحة إذ تلاحى رجلان في الروضة النبوية فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه أي الغضب : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

«خاتمة الطبعة الأولى والثانية»

الحمد لله ملء السموات وملء الأرض ، والشكر لله ملأهما وملء ما بينهما والصلاة والسلام التامان الأكملان على نبي الرحمة وقائد الأمة وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد ففي ليلة السبت الثالث والعشرين من محرم الحرام لعام ١٤٠٧ وبالروضة الشريفة من المسجد النبوي الشريف قد تم ختم هذا التفسير المبارك المسمى بأيسر التفاسير لكلام العلي الكبير والحمد لله أولا وآخرا.

هذا وأقدم اعتذاري لأخي القارىء وهو أني لم أستطع الالتزام بما نوهت عليه في مقدمة الكتاب وهو أني لا أزيد على الخمس أو الست آيات في الدرس الواحد ، حيث واجهتني في المفصل بالذات آيات كثيرة لا تزيد على جملة قصيرة نحو (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) فلذا كنت أنظر إلى عدد الأسطر لا إلى عدد الآيات. والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

هذا اعتذار ، وآخر هو أني كتبت هذا التفسير في ظروف مختلفة مرة في الطائرة ، ومرة في الحضر ، وأخرى في السفر ، ومرة والبال مشغول وثانية والجسم معلول ، فلذا قد يجد القارىء أحيانا جفافا في الشرح أو قلقا في العبارة ، يضاف إلى ذلك الخطأ المطبعي الذي أصبح لا ينجو منه كتاب ، ولا يسلم منه خطاب.

وكلمة أخيرة وهي أني ما آلوت جهدا في تحري الحق والصواب وفي التيسير والتسهيل في هذا الكتاب ، وما توفيقي إلا بالله. وعليه فإنه ما كان من كمال فهو من الله ، وما كان من نقصان فإنه مني ، وأعتذر مستغفرا الله تعالى لي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات ، والمسلمين والمسلمات ، الأحياء منهم والأموات ، ومصليا ومسلما على أشرف المخلوقات وصاحب المعجزات نبينا محمد وآله الطاهرين ، وصحابته أجمعين.

أبو بكر جابر الجزائري

«خاتمة الطبعة الثالثة»

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقات محمد ذي الكمالات ، وآله وصحبه ما أشرقت بنور ربها قلوب المؤمنين والمؤمنات.

وبعد : ففي الروضة الشريفة من المسجد النبوي الشريف ، وبين العشائين من ليلة السبت الموافق لعيد الفطر المبارك من عام ١٤٠٩ من الهجرة النبوية كتبت هذه الكلمة «الخاتمة» (لنهر الخير) على أيسر التفاسير ، فكانت إحدى النعم التي والاها الله ذو الفضل والإنعام على أضعف عباده وأقلهم شأنا ، وأدناهم فضلا ، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وهو ذو الفضل العظيم.

لقد ابتدأت كتابة هذه الحاشية المباركة إن شاء الله تعالى في أواخر محرم الحرام وأنا بين خوف ورجاء : خوف من موافاة الأجل قبل إتمام العمل ، إذ كثيرون ما أتموا ما بدأوا ولا أدركوا ما أملوا أذكر منهم الشيخين الجليلين : محمد عبده ، وتلميذه محمد رشيد رضا ، فقد بدءا تفسيرهما فتركه الأول في سورة النساء وتركه الثاني في سورة يوسف عليه‌السلام وأجابا نداء ربهما وتركا تفسيرهما لم يتماه ولم يكملاه لأمر أراده الله ، فأعظم الله أجرهما وأحسن عزاءنا فيهما ونفعنا بتفسيرهما وقد فعل فله الحمد وله المنة فقد قرأت وطالعت (المنار) أكثر من أربع مرات ، وكنت إذا وصلت إلى موضع انتهاء ما كان الشيخ رشيد يتلقاه عن شيخه ويقول إلى هنا انتهى ما كنت أتلقاه من الشيخ ، يغلبني البكاء فأبكي وأرى أن رزية ما فوقها رزية في موت الشيخين قبل إتمام تفسيرهما.

واستجاب الله لي ووقاني كل ما يعوقني أو يعوقني عن إتمام هذه الحاشية التي أراها ضرورية لأيسر التفاسير الذي ما كتبته وجمعته إلا لعلمي بحاجة المسلمين اليوم إلى مثله فأتم الله علي نعمة من أجل النعم ومنة من أعظم المنن فاللهم لك الحمد ولك الشكر حمدا لا ينتهي وشكرا لا ينقضي ، وكما أنعمت وأفضلت فاغفر وارحم وأنت خير الراحمين واعف وتجاوز وأنت العفو الكريم ، وصل وسلم وبارك على خاتم أنبيائك ، محمد عبدك ورسولك وآله الطاهرين وصحابته أجمعين وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

أبو بكر جابر الجزائري

فهرس المجلد الخامس

سورة الدخان.................................................................. ٥

سورة الجاثية................................................................. ٢١

الجزء السادس والعشرون...................................................... ٤٤

سورة الأحقاف.............................................................. ٤٤

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.................................................. ٦٩

سورة الفتح.................................................................. ٩٢

سورة الحجرات............................................................. ١١٩

سورة ق................................................................... ١٣٦

سورة الذاريات............................................................. ١٥٤

الجزء السابع والعشرون...................................................... ١٦٣

سورة الذاريات من الآية (٣١)............................................... ١٦٣

سورة الطور................................................................ ١٧٣

سورة النجم................................................................ ١٨٧

سورة القمر................................................................ ٢٠٤

سورة الرحمن............................................................... ٢٢٨

سورة الواقعة............................................................... ٢٣٧

سورة الحديد............................................................... ٢٥٧

الجزء الثامن والعشرون....................................................... ٢٨٢

سورة المجادلة............................................................... ٢٨٢

سورة الحشر............................................................... ٣٠٠

سورة الممتحنة.............................................................. ٣١٩

سورة الصف............................................................... ٣٣٤

سورة الجمعة............................................................... ٣٤٤

سورة المنافقون.............................................................. ٣٥٢

سورة التغابن............................................................... ٣٦٠

سورة الطلاق.............................................................. ٣٧١

سورة التحريم............................................................... ٣٨٣

الجزء التاسع والعشرون...................................................... ٣٩٣

سورة الملك................................................................ ٣٩٣

سورة القلم................................................................ ٤٠٥

سورة الحاقة................................................................ ٤١٩

سورة المعارج............................................................... ٤٢٩

سورة نوح................................................................. ٤٣٢

سورة الجن................................................................. ٤٤٥

سورة المزمل................................................................ ٤٥٥

سورة المدثر................................................................ ٤٦٢

سورة القيامة............................................................... ٤٧٣

سورة الإنسان.............................................................. ٤٨١

سورة المرسلات............................................................. ٤٩٠

الجزء الثلاثون.............................................................. ٥٠٠

سورة النبأ................................................................. ٥٠٠

سورة النازعات............................................................. ٥٠٧

سورة عبس................................................................ ٥١٦

سورة التكوير.............................................................. ٥٢٣

سورة الانفطار............................................................. ٥٢٨

سورة المطففين.............................................................. ٥٣٣

سورة الانشقاق............................................................ ٥٤٢

سورة البروج................................................................ ٥٤٧

سورة الطارق............................................................... ٥٥٢

سورة الأعلى............................................................... ٥٥٥

سورة الغاشية.............................................................. ٥٥٩

سورة الفجر............................................................... ٥٦٤

سورة البلد................................................................. ٥٧١

سورة الشمس.............................................................. ٥٧٥

سورة الليل................................................................. ٥٨٠

سورة الضحى.............................................................. ٥٨٥

سورة الشرح............................................................... ٥٨٧

سورة التين................................................................. ٥٩٠

سورة العلق................................................................ ٥٩٢

سورة القدر................................................................ ٥٩٧

سورة البينة................................................................ ٥٩٩

سورة الزلزلة................................................................ ٦٠٣

سورة العاديات............................................................. ٦٠٥

سورة القارعة............................................................... ٦٠٨

سورة التكاثر............................................................... ٦١٠

سورة العصر............................................................... ٦١٢

سورة الهمزة................................................................ ٦١٣

سورة الفيل................................................................ ٦١٥

سورة قريش................................................................ ٦١٧

سورة الماعون............................................................... ٦١٩

سورة الكوثر............................................................... ٦٢١

سورة الكافرون............................................................. ٦٢٣

سورة النصر............................................................... ٦٢٤

سورة المسد................................................................ ٦٢٦

سورة الإخلاص............................................................ ٦٢٨

سورة الفلق................................................................ ٦٢٩

سورة الناس................................................................ ٦٣١

خاتمة الطبعة الأولى والثانية.................................................. ٦٣٤

خاتمة الطبعة الثالثة......................................................... ٦٣٥

أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ٥

المؤلف: أبي بكر جابر الجزائري
الصفحات: 639
  • سورة الدخان 5
  • سورة الجاثية 21
  • الجزء السادس والعشرون 44
  • سورة الأحقاف 44
  • سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم 69
  • سورة الفتح 92
  • سورة الحجرات 119
  • سورة ق 136
  • سورة الذاريات 154
  • الجزء السابع والعشرون 163
  • سورة الذاريات من الآية (31) 163
  • سورة الطور 173
  • سورة النجم 187
  • سورة القمر 204
  • سورة الرحمن 228
  • سورة الواقعة 237
  • سورة الحديد 257
  • الجزء الثامن والعشرون 282
  • سورة المجادلة 282
  • سورة الحشر 300
  • سورة الممتحنة 319
  • سورة الصف 334
  • سورة الجمعة 344
  • سورة المنافقون 352
  • سورة التغابن 360
  • سورة الطلاق 371
  • سورة التحريم 383
  • الجزء التاسع والعشرون 393
  • سورة الملك 393
  • سورة القلم 405
  • سورة الحاقة 419
  • سورة المعارج 429
  • سورة نوح 432
  • سورة الجن 445
  • سورة المزمل 455
  • سورة المدثر 462
  • سورة القيامة 473
  • سورة الإنسان 481
  • سورة المرسلات 490
  • الجزء الثلاثون 500
  • سورة النبأ 500
  • سورة النازعات 507
  • سورة عبس 516
  • سورة التكوير 523
  • سورة الانفطار 528
  • سورة المطففين 533
  • سورة الانشقاق 542
  • سورة البروج 547
  • سورة الطارق 552
  • سورة الأعلى 555
  • سورة الغاشية 559
  • سورة الفجر 564
  • سورة البلد 571
  • سورة الشمس 575
  • سورة الليل 580
  • سورة الضحى 585
  • سورة الشرح 587
  • سورة التين 590
  • سورة العلق 592
  • سورة القدر 597
  • سورة البينة 599
  • سورة الزلزلة 603
  • سورة العاديات 605
  • سورة القارعة 608
  • سورة التكاثر 610
  • سورة العصر 612
  • سورة الهمزة 613
  • سورة الفيل 615
  • سورة قريش 617
  • سورة الماعون 619
  • سورة الكوثر 621
  • سورة الكافرون 623
  • سورة النصر 624
  • سورة المسد 626
  • سورة الإخلاص 628
  • سورة الفلق 629
  • سورة الناس 631
  • خاتمة الطبعة الأولى والثانية 634
  • خاتمة الطبعة الثالثة 635