


سورة الرّعد
مكية
وآياتها
ثلاث وأربعون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(المر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ
يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ
بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ
صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى
بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))
شرح الكلمات :
(المر) : هذه الحروف المقطعة تكتب المر وتقرأ ألف لام ميم را.
والله أعلم بمراده بها.
(بِغَيْرِ عَمَدٍ
تَرَوْنَها) : العمد جمع عمود أي مرئية لكم إذ الجملة نعت.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) : استواء يليق به عزوجل.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) : أي ذللها بمواصلة دورانها لبقاء الحياة إلى أجلها.
(هُوَ الَّذِي مَدَّ
الْأَرْضَ) : أي بسطها للحياة فوقها.
(رَواسِيَ) : أي جبال ثوابت.
(زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) : أي نوعين وضربين كالحلو والحامض والأصفر والأسود مثلا.
(يُغْشِي اللَّيْلَ
النَّهارَ) : أي يغطيه حتى لا يبقى له وجود بالضياء.
(لَآياتٍ) : أي دلالات على وحدانية الله تعالى.
(قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) : أي بقاع متلاصقات.
(وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ) : أي عدة نخلات في أصل واحد يجمعها ، والصنو الواحد والجمع
صنوان.
(فِي الْأُكُلِ) : أي في الطعم هذا حلو وهذا مرّ وهذا حامض ، وهذا لذيذ
وهذا خلافه.
معنى الآيات :
قوله تعالى (المر) الله أعلم بمراده به. وقوله (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) الإشارة إلى ما جاء من قصص سورة يوسف ، فالمراد بالكتاب
التوراة والإنجيل فمن جملة آياتها ما قص الله تعالى على رسوله. وقوله : (وَالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) وهو القرآن العظيم (الْحَقُ) أي هو الحق الثابت. وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أي مع أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق فإن أكثر الناس من
قومك وغيرهم لا يؤمنون بأنه وحي الله وتنزيله فيعملوا به فيكملوا ويسعدوا. وقوله
تعالى : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ
__________________
تَرَوْنَها) : أي أن إلهكم الحق الذي يجب أن تؤمنوا به وتعبدوه وتوحدوه
الله الذى رفع السموات على الأرض بغير عمد مرئية لكم ولكن رفعها بقدرته وبما شاء
من سنن. وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) أي خلق السموات والأرض ثم استوى على عرشه استواء يليق
بذاته وجلاله يدبر أمر الملكوت وقوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ) أي ذللهما بعد خلقهما يسيران في فلكهما سيرا منتظما إلى
نهاية الحياة ، وقوله (كُلٌّ يَجْرِي) أي في فلكه فالشمس تقطع فلكها في سنة كاملة والقمر في شهر
كامل وهما يجريان هكذا إلى نهاية الحياة الدنيا فيخسف القمر وتنكدر الشمس وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) أي يقضى ما يشاء في السموات والأرض ويدبر أمر مخلوقاته
بالإماتة والاحياء والمنع والإعطاء كيف يشاء وحده لا شريك له في ذلك. وقوله : (يُفَصِّلُ الْآياتِ) أي القرآنية بذكر القصص وضرب الأمثال وبيان الحلال والحرام
كل ذلك ليهيئكم ويعدكم للإيمان بلقاء ربكم فتؤمنوا به وتعبدوا الله وتوحدوه في
عبادته فتكملوا في أرواحكم وأخلاقكم وتسعدوا في دنياكم وآخرتكم. وقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) اي بسطها (وَجَعَلَ فِيها
رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت (وَأَنْهاراً) أي وأجرى فيها أنهارا (وَمِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي نوعين وضربين فالرمان منه الحلو ومنه الحامض والزيتون
منه الأصفر والأسود ، والتين منه الأبيض والأحمر وقوله : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أي يغطي سبحانه وتعالى النهار بالليل لفائدتكم لتناموا
وتستريح أبدانكم من عناء النهار. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور في هذه الآية الكريمة من مد الأرض وجعل الرواسي
فيها واجراء الأنهار ، وخلق أنواع الثمار واغشاء الليل النهار ، في كل هذا المذكور
(لَآياتٍ) أي علامات ودلائل واضحات على وجود الله تعالى وعلمه وقدرته
وحكمته وعلى وجوب عبادته وتوحيده وعلى الإيمان بوعده ووعيده ، ولقائه وما أعد من
نعيم لأوليائه وعذاب لأعدائه ، وقوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) أي بقاع من الأرض بعضها إلى جنب بعض متلاحقات هذه تربتها
طيبة وهذه تربتها خبيثة ملح سبخة وفي الأرض أيضا جنات أي بساتين من
__________________
أعناب وفيها زرع
ونخيل (صِنْوانٌ) النخلتان والثلاث في أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) كل نخلة قائمة على أصلها ، وقوله : (يُسْقى) أي تلك الأعناب والزروع والنخيل (بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها
عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) وهو ما يؤكل منها فهذا حلو وهذا حامض وهذا لذيذ وهذا سمج ،
وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من القطع المتجاورات مع اختلاف الطيب وعدمه
وجنات الأعناب والنخيل وسقيها بماء واحد واختلاف طعومها وروائحها وفوائدها (لَآياتٍ) علامات ودلائل باهرات على وجوب الإيمان بالله وتوحيده
ولقائه ، ولكن (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أما الذين فقدوا عقولهم لاستيلاء المادة عليها واستحكام
الشهوة فيها فإنهم لا يدركون ولا يفهمون شيئا فكيف إذا يرون دلائل وجود الله وعلمه
وقدرته وحكمته فيؤمنون به ويعبدونه ويتقربون إليه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
الوحي الإلهي ونبوة محمد صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ تقرير عقيدة
التوحيد وأنه لا إله إلا الله.
٣ ـ تقرير عقيدة
البعث الآخر والجزاء على الكسب في الدنيا.
٤ ـ فضيلة التفكر
في الآيات الكونية.
٥ ـ فضيلة العقل
للاهتداء به إلى معرفة الحق واتباعه للإسعاد والإكمال.
(وَإِنْ تَعْجَبْ
فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ
__________________
جَدِيدٍ
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ
وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ
يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ
وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩))
شرح الكلمات :
(وَإِنْ تَعْجَبْ) : أي يأخذك العجب من إنكارهم نبوتك والتوحيد.
(فَعَجَبٌ) : أي فأعجب منه إنكارهم للبعث والحياة الثانية مع وضوح
الأدلة وقوة الحجج.
(لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) : أي نرجع كما كنا بشرا أحياء.
(الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ) : أي موانع من الإيمان والاهتداء في الدنيا ، وأغلال تشد
بها أيديهم إلى أعناقهم في الآخرة.
(بِالسَّيِّئَةِ) : أي بالعذاب.
(قَبْلَ الْحَسَنَةِ) : أي الرحمة وما يحسن بهم من العاقبة والرخاء والخصب.
(الْمَثُلاتُ) : أي العقوبات واحدها مثلة التي قد أصابت المكذبين في
الأمم الماضية.
(لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ) : أي هلّا أنزل ، ولو لا أداة تحضيض كهلّا.
(آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : أي معجزة كعصا موسى وناقة صالح مثلا.
(وَلِكُلِّ قَوْمٍ
هادٍ) : أي نبي يدعوهم إلى ربهم ليعبدوه وحده ولا يشركون به
غيره.
(ما تَحْمِلُ كُلُّ
أُنْثى) : أي من ذكر أو أنثى واحدا أو أكثر أبيض أو أسمر.
(وَما تَغِيضُ
الْأَرْحامُ) : أي تنقص من دم الحيض ، وما تزداد منه.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في دعوة المشركين إلى الإيمان بالتوحيد والنبوة المحمدية والبعث يوم
القيامة للحساب والجزاء ، فقوله تعالى في الآية الأولى (٥) (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا نبينا من عدم إيمانهم برسالتك وتوحيد ربك فعجب أكبر هو
عدم إيمانهم بالبعث الآخر ، إذ قالوا في إنكار وتعجب : (أَإِذا كُنَّا
تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يحصل لنا بعد الفناء والبلى؟ قال تعالى مشيرا إليهم
مسجلا الكفر عليهم ولازمه وهو العذاب (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي
أَعْناقِهِمْ) وهي في الدنيا موانع الهداية كالتقليد الأعمى والكبر
والمجاحدة والعناد ، وفي الآخرة أغلال توضع في أعناقهم من حديد تشد بها أيديهم إلى
أعناقهم ، (وَأُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ) أي أهلها (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أي ماكثون أبدا لا يخرجون منها بحال من الأحوال.
وقوله تعالى في
الآية الثانية (٦) (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) يخبر تعالى رسوله مقررا ما قال أولئك الكافرون بربهم
ولقائه ونبي الله وما جاء به ، ما قالوه استخفافا واستعجالا وهو طلبهم العذاب
الدنيوي ، إذ كان الرسول صلىاللهعليهوسلم يخوفهم من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فهم يطالبون به كقول
بعضهم : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا
حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، قبل طلبهم الحسنة وهذا لجهلهم وكفرهم ، وإلا لطالبوا
بالحسنة التي هي العافية والرخاء والخصب قبل السيئة التي هي الدمار والعذاب.
__________________
وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) أي والحال أن العقوبات قد مضت في الأمم من قبلهم كعقوبة
الله لعاد وثمود وأصحاب الأيكة والمؤتفكات فما لهم يطالبون بها استبعادا لها
واستخفافا بها أين ذهبت عقولهم؟ وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى
ظُلْمِهِمْ) وهو ظاهر مشاهد إذ لو كان يؤاخذ بالظلم لمجرد وقوعه فلم
يغفر لأصحابه لما ترك على الأرض من دابة ، وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَشَدِيدُ الْعِقابِ) أي على من عصاه بعد أن أنذره وبين له ما يتقي فلم يتق ما
يوجب له العذاب من الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى في
الآية الثالثة (٧) (وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ)! يخبر تعالى رسوله والمؤمنين عن قيل الكافرين بالتوحيد
والبعث والنبوة : (لَوْ لا) أي هلا أنزل على محمد صلىاللهعليهوسلم آية من ربه كعصا موسى وناقة صالح ، حتى نؤمن بنبوته ونصدق برسالته
، فيرد تعالى عليهم بقوله : (إِنَّما أَنْتَ
مُنْذِرٌ) والمنذر المخوف من العذاب وليس لازما أن تنزل معه الآيات ،
وعليه فلا تلتفت إلى ما يطالبون به من الآيات ، واستمر على دعوتك فإن لكل قوم هاديا وأنت هادي هذه الأمة ، وداعيها إلى ربها فادع واصبر.
وقوله تعالى في
الآية الرابعة (٨) (اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي من ذكر أو أنثى واحدا أو أثنين أبيض أو أسمر سعيدا أو
شقيا ، وقوله : (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ
وَما تَزْدادُ) أي ويعلم ما تغيض الأرحام من دماء الحيض وما تزداد منها إذ غيضها ينقص من مدة الحمل وازديادها يزيد
في مدة الحمل فقد تبلغ السنة أو أكثر ، وقوله : (وَكُلُّ شَيْءٍ
عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) أي وكل شيء في حكمه وقضائه وتدبيره بمقدار معين لا يزيد
ولا ينقص في ذات ولا صفة
__________________
ولا حال ، ولا
زمان ولا مكان ، وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ) أي كل ما غاب عن الخلق ، وما لم يغب عنهم مما يشاهدونه أي
العليم بكل شيء ، وقوله : (الْكَبِيرُ
الْمُتَعالِ) أي الذي لا أكبر منه وكل كبير أمامه صغير المتعال على خلقه
المنزه عن الشريك والشبيه والصاحبة والولد هذا هو الله وهذه صفاته فهل يليق بعاقل
أن ينكر استحقاقه للعبادة دون سواه؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر عليه أن يوحي بما شاء
على من يشاء من عباده؟ فهل يليق بعاقل أن ينكر على من هذه قدرته وعلمه أن يحيي
العباد بعد أن يميتهم ليسألهم عن كسبهم ويحاسبهم عليه ويجزيهم به؟ اللهم لا إذا
فالمنكرون على الله ما دعاهم إلى الإيمان به لا يعتبرون عقلاء وإن طاروا في السماء
وغاصوا في الماء.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير أصول
العقيدة الثلاثة : التوحيد والنبوة البعث والجزاء الآخر.
٢ ـ صوارف الإيمان
والتي هي كالأغلال هي التقليد الأعمى ، والكبر والعناد.
٣ ـ عظيم قدرة
الله تعالى وسعة علمه.
٤ ـ تقرير عقيدة
القضاء والقدر.
(سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ
وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ
لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ
خَوْفاً وَطَمَعاً
وَيُنْشِئُ
السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ
فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣))
شرح الكلمات :
(وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) : أي ظاهر في سربه أي طريقه.
(لَهُ مُعَقِّباتٌ) : أي ملائكة تتعقبه بالليل والنهار.
(مِنْ أَمْرِ اللهِ) : أي بأمر الله تعالى وعن إذنه وأمره.
(لا يُغَيِّرُ ما
بِقَوْمٍ) : أي من عافية ونعمة إلى بلاء وعذاب.
(ما بِأَنْفُسِهِمْ) : من طهر وصفاء بالإيمان والطاعات إلى الذنوب والآثام.
(وَما لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ والٍ) : أي وليس لهم من دون الله من يلبي أمرهم فيدفع عنهم
العذاب.
(مِنْ خِيفَتِهِ) : أي من الخوف منه وهيبته وجلاله.
(وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ) : أي القوة والمماحلة.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر جلال الله وعظيم قدرته وسعة علمه ، قال تعالى في هذه الآية : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ
أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) فالله يعلم السر والجهر وأخفى (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) يمشي في ظلامه ومن هو (سارِبٌ بِالنَّهارِ) أي يمشي في سربه وطريقه مكشوفا معلوما لله تعالى ، وقوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ
__________________
أَمْرِ
اللهِ) جائز أن يعود الضمير فى «له» على من هو مستخف بالليل وسارب
بالنهار ، فيكون المراد من المعقبات الحرس والجلاوزة الذين يحرسون السلطان من أمر
الله تعالى في نظرهم ، ولكن إذا أراده الله بسوء فلا مرد له وما له من دون الله من
وال يتولى حمايته والدفاع عنه ، وجائز أن يعود على الله تعالى ويكون المراد من
المعقبات الملائكة الحفظة والكتبة للحسنات والسيئات ويكون معنى من أمر الله أي بأمره تعالى وإذنه ، والمعنى صحيح في التوجيهين للآية
وإلى الأول ذهب ابن جرير وإلى الثاني ذهب جمهور المفسرين ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ
حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه ماضية فيهم وهي أنه
تعالى لا يزيل نعمة أنعم بها على قوم من عافية وأمن ورخاء بسبب إيمانهم وصالح
أعمالهم حتى يغيروا ما بأنفسهم من طهارة وصفاء بسبب ارتكابهم للذنوب وغشيانهم
للمعاصي نتيجة الإعراض عن كتاب الله وإهمال شرعه وتعطيل حدوده والانغماس في
الشهوات والضرب في سبيل الضلالات ، وقوله تعالى : (وَإِذا أَرادَ اللهُ
بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) هذا إخبار منه تعالى بأنه إذا أراد بقوم أو فرد أو جماعة
سوءا ما أي ما يسوءهم من بلاء وعذاب فلا مرد له بحال من الأحوال بل لا بد وأن
يمسهم ، ولا يجدون من دون الله من وال يتولى صرف العذاب عنهم ، أما من الله تعالى
فإنهم إذا أنابوا إليه واستغفروه وتابوا إليه فإنه تعالى يكشف عنهم السوء ويصرف
عنهم العذاب ، وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً) من الصواعق من جهة وطمعا في المطر من جهة أخرى (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ) أي وهو الذي ينشىء أي يبدء السحاب الثقال الذي يحمل الأمطار (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي وهو الذي يسبح الرعد بحمده وهو ملك موكل بالسحاب يقول :
__________________
سبحان الله وبحمده
، وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ
خِيفَتِهِ) أي خيفة الله وهيبته وجلاله فهي لذلك تسبحه أي تنزهه عن
الشريك والشبيه والولد بألفاظ يعلمها الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها
مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي في وجوده وصفاته وتوحيده وطاعته (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) هذه الآية نزلت فعلا في رجل بعث إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من يدعوه إلى الإسلام فقال الرجل الكافر لمن جاء من قبل
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : من رسول الله؟ وما الله أمن ذهب هو أم من فضة أم من نحاس؟
فنزلت عليه صاعقة أثناء كلامه فذهبت بقحف رأسه ، ومعنى شديد المحال أي القوة
والأخذ والبطش.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ سعة علم الله
تعالى.
٢ ـ الحرس
والجلاوزة لمن يستخدمهم لحفظه من أمر الله تعالى لن يغنوا عنه من أمر الله شيئا.
٣ ـ تقرير عقيدة
أن لكل فرد ملائكة يتعاقبون عليه بالليل والنهار منهم الكرام الكاتبون ، ومنهم
الحفظة للإنسان من الشياطين والجان.
٤ ـ بيان سنة أن
النعم لا تزول إلا بالمعاصي.
٥ ـ استحباب قول
سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته عند سماع الرعد لورود ذلك عن النبي صلىاللهعليهوسلم بألفاظ مختلفة.
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ
إِلاَّ
__________________
كَباسِطِ
كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥) قُلْ
مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ
دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ
يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ
عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))
شرح الكلمات :
(لَهُ دَعْوَةُ
الْحَقِ) : أي لله تعالى الدعوة الحق أي فهو الإله الحق الذي لا إله إلا هو.
(لِيَبْلُغَ فاهُ) : أي الماء فمه.
(إِلَّا فِي ضَلالٍ) : أي في ضياع لا حصول منه على طائل.
(بِالْغُدُوِّ
وَالْآصالِ) : أي بالبكر جمع بكرة ، والعشايا جمع عشية.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير عقيدة التوحيد بالأدلة والبراهين ، قال تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) أي لله سبحانه وتعالى الدعوة الحق وهي أنه الإله الحق الذي
لا إله إلا هو ، أما غيره فإطلاق لفظ الإله إطلاق باطل ، فالأصنام والأوثان وكل ما
عبد من دون الله إطلاق لفظ إله عليه إطلاق باطل ، والدعوة إلى عبادته باطلة ، أما
الدعوة الحق فإنها لله وحده.
وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله من سائر المعبودات (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) أي لا يجيبونهم بإعطائهم شيئا مما يطلبون منهم (إِلَّا كَباسِطِ
__________________
كَفَّيْهِ
إِلَى الْماءِ) أي إلا كاستجابة من بسط يديه أي فتحهما ومدهما إلى الماء والماء في قعر
البئر فلا كفاه تصل إلى الماء ولا الماء يصل إلى كفيه وهو عطشان ويظل كذلك حتى
يهلك عطشا ، هذا مثل من يعبد غير الله تعالى بدعاء أو ذبح أو نذر أو خوف أو رجاء
فهو محروم الاستجابة خائب في مسعاه ولن تكون له عاقبة إلا النار والخسران وهو معنى
قوله تعالى (وَما دُعاءُ
الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) أي بطلان وخسران ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي
السَّماواتِ) أي الملائكة (وَالْأَرْضِ) أي من مؤمن يسجد طوعا ، ومنافق أي يسجد كرها ، (وَظِلالُهُمْ) تسجد أيضا (بِالْغُدُوِّ) أوائل النهار ، (وَالْآصالِ) أواخر النهار. ومعنى الآية الكريمة : إذا لم يسجد الكافرون
أي لم ينقادوا لعبادة الله وحده تعالى فإنّ لله يسجد من في السماوات من الملائكة ،
ومن في الأرض من الجن والإنس المؤمنون يسجدون طائعين والكافرون يسجدون إذا أكرهوا
على السجود والمنافقون يسجدون مكرهين ، وظلالهم تسجد في البكر والعشايا كما أنهم
منقادون لقضاء الله تعالى وحكمه فيهم لا يستطيعون الخروج عنه بحال فهو الذى خلقهم
وصورهم كما شاء ورزقهم ما شاء ويميتهم متى شاء فأي سجود وخضوع وركوع أظهر من هذا؟ وقوله
تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي من خالقهما ومالكهما ومدبر الأمر فيهما؟ وأمر رسوله أن
يسبقهم إلى الجواب (قُلِ اللهُ) إذ لا جواب لهم إلا هو ، وبعد أن أقروا بأن الرب الحق هو
الله ، أمر رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم موبخا مقرعا (أَفَاتَّخَذْتُمْ
مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي شركاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فضلا عن أن
يملكوا لكم نفعا أو يدفعون عنكم ضرا فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون ، ومبالغة في
البيان وإقامة للحجة والبرهان على وجوب التوحيد وبطلان الشرك والتنديد أمر رسوله
أن يقول لهم : (هَلْ يَسْتَوِي
الْأَعْمى
__________________
وَالْبَصِيرُ
، أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) ؟ والجواب قطعا لا إذا فكيف يستوى المؤمن والكافر ، وكيف
يستوي الهدى والضلال ، فالمؤمن يعبد الله على بصيرة على علم أنه خالقه ورازقه يعلم
سره ونجواه يجيبه إذا دعاه أرسل إليه رسوله وأنزل عليه كتابه ، والكافر المشرك
يعبد مخلوقا من مخلوقات الله لا تملك لنفسها فضلا عن عابديها نفعا ولا ضرا لا تسمع
نداء ولا تجيب دعاء ، المؤمن يعبد الله بما شرع له من عبادات وبما طلب منه من
طاعات وقربات ، والكافر المشرك يعبد الباطل بهواه ، ويسلك سبيل الغيّ في الحياة.
وقوله : (أَمْ جَعَلُوا
لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) أي بل جعلوا لله شركاء فخلقت تلك الشركاء مخلوقات كخلق
الله فتشابه الخلق على المشركين فعبدوها ظنا منهم أنها خلقت كخلق الله؟ والجواب لا
فإنها لم تخلق ولا تستطيع خلق ذبابة فضلا عن غيرها إذا فكيف تصح عبادتها وهي لم
تخلق شيئا ، وقوله تعالى : (قُلِ اللهُ خالِقُ
كُلِ شَيْءٍ
وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) أي قل أيها الرسول للمشركين عند اعترافهم بأن آلهتهم لم
تخلق شيئا قل لهم : الله خالق كل شيء وهو الواحد الذي لا شريك له ولا ند ولا مثل ،
القهار لكل جبار والمذل لكل معاند كفار ، هو المستحق للعبادة الواجب له الطاعة ،
الإيمان به هدى والكفر به ضلال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ دعوة الحق لله
وحده فهو المعبود بحق لا إله غيره ولا رب سواه.
٢ ـ حرمان
المشركين من دعائهم وسائر عباداتهم.
٣ ـ الخلق كلهم
يسجدون لله طوعا أو كرها إذ الكل خانع خاضع لحكم الله وتدبيره فيه.
__________________
٤ ـ مشروعية
السجود للقارىء والمستمع إذا بلغ هذه الآية (وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ويستحب أن يكون طاهرا مستقبلا القبلة ، ويكبر عند الخفض
والرفع ولا يسلم.
٥ ـ بطلان الشرك
إذ لا دليل عليه من عقل ولا نقل .
٦ ـ وجوب العبادة
لله تعالى.
(أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً
رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ
مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا
لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ
الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))
شرح الكلمات :
(فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِها) : أي بمقدار مائها الذي يجري فيها.
(زَبَداً رابِياً) : أي غثاء عاليا إذ الزبد هو وضر غليان الماء أو جريانه في
الأنهار.
(وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ
فِي النَّارِ) : أي كالذهب والفضة والنحاس.
(ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ
أَوْ مَتاعٍ) : أي طلبا لحلية من ذهب أو فضة أو متاع من الأواني.
(زَبَدٌ مِثْلُهُ) : أي مثل زبد السيل.
(فَأَمَّا الزَّبَدُ) : أي زبد السيل أو زبد ما أوقد عليه النار.
__________________
(فَيَذْهَبُ جُفاءً) : أي باطلا مرميا به بعيدا إذ هو غثاء ووضر لا خير فيه.
(فَيَمْكُثُ فِي
الْأَرْضِ) : أي يبقى في الأرض زمنا ينتفع به الناس.
(لِلَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) : أي للذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة.
(لَمْ يَسْتَجِيبُوا) : أي لم يؤمنوا به ولم يطيعوه.
(لَافْتَدَوْا بِهِ) : أي من العذاب.
(سُوءُ الْحِسابِ) : وهي المؤاخذة بكل ذنب عملوه لا يغفر لهم منه شيء.
(وَبِئْسَ الْمِهادُ) : أي الفراش الذي أعدوه لأنفسهم وهو جهنم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير التوحيد والتنديد بالكفر والشرك ففي هذه الآية الكريمة ضرب الله تعالى مثلا
للحق والباطل ، للحق في بقائه ، والباطل في اضمحلاله وتلاشيه فقال : (أَنْزَلَ) أي الله (مِنَ السَّماءِ ماءً
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) أي بحسب كبرها وصغرها لأن الوادي قد يكون كبيرا وقد يكون
صغيرا ، فاحتمل السيل أي حمل سيل الماء في الوادي زبدا رابيا أي غثاء ووضرا عاليا
على سطح الماء ، هذا مثل مائي ، ومثل ناري قال فيه عزوجل : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ
عَلَيْهِ فِي النَّارِ) أي ومما يوقد عليه الصاغة والحدادون (ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) أي طلبا للحلية ، (أَوْ مَتاعٍ) أي طلبا لمتاع يتمتع به كالأوانى إذا الصائغ أو الحداد يضع
الذهب أو الفضة أو النحاس في البوتقة وينفخ عليها بالكير فيعلو ما كان فاسدا غير
صالح على صورة الزبد وما كان صالحا يبقى في البوتقة وهو الذي يصنع منه الحلية
والمتاع ، وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي المذكور من الأمور الأربعة مثلي الحق وهما الماء
والجوهر ومثلي الباطل وهما زبد الماء وزبد الجوهر (فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفاءً) أي باطلا
__________________
مرميا به يرميه
السيل إلى ساحل الوادي فيعلق بالأشجار والأحجار ويرميه الصائغ عن بوتقته ، وأما ما
ينفع الناس من الماء للسقي والري فيمكث في الأرض ، وكذا ما ينفع من الحلي والمتاع
يبقى في بوتقة الصائغ والحداد وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَضْرِبُ
اللهُ الْأَمْثالَ) أي مثل هذا المثل الذي ضربه للحق في بقائه والباطل في
ذهابه وتلاشيه وإن علا وطغا في بعض الأوقات ، (يَضْرِبُ) أي بين الأمثال ، ليعلموا فيؤمنوا ويهتدوا فيكملوا
ويسعدوا.
هذا ما تضمنته
الآية الأولى (١٧) وأما الآية الثانية (١٨) فقد أخبر تعالى بوعد له ووعيد أما وعده
فلأهل طاعته بأن لهم الحسنى الجنة وأما وعيده فلأهل معصيته وهو أسوأ وعيد وأشده ، فقال تعالى في وعده : (لِلَّذِينَ
اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى) وقال في وعيده : (وَالَّذِينَ لَمْ
يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) أي من مال ومتاع (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) أيضا لافتدوا به من العذاب الذي تضمنه هذا الوعيد الشديد ،
ويعلن عن الوعيد فيقول : (أُولئِكَ) أي الأشقياء (لَهُمْ سُوءُ
الْحِسابِ) وهو أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة في أعمالهم ولا يغفر
لهم منها شيء (وَمَأْواهُمْ
جَهَنَّمُ) أي مقرهم ومكان إيوائهم (وَبِئْسَ الْمِهادُ) أي الفراش جهنم لهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٢ ـ ثبات الحق ،
واضمحلال الباطل سنة من سنن الله تعالى.
٣ ـ بيان وعد الله
للمستجيبين له بالإيمان والطاعة وهي الجنة.
٤ ـ بيان وعيد
الله لمن لم يستجب له بالإيمان والطاعة.
__________________
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما
يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا
يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ
يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ
صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ
أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ
مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ
عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ (٢٤))
شرح الكلمات :
(كَمَنْ هُوَ أَعْمى) : أي لا يرى الحق ولا يعلمه ولا يؤمن به.
(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أي أصحاب العقول.
(يَصِلُونَ ما أَمَرَ
اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : أي من الإيمان والتوحيد والأرحام.
(وَيَدْرَؤُنَ
بِالْحَسَنَةِ) : أي يدفعون بالحلم الجهل ، وبالصبر الأذى.
(عُقْبَى الدَّارِ) : أي العاقبة المحمودة في الدار الآخرة.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) : أي جنات إقامة دائمة.
معنى الآيات :
لقد تضمنت هذه
الآيات مقارنة ومفاضلة بين شخصيتين : الأولى شخصية مؤمن صالح كحمزة بن عبد المطلب
والثانية شخصية كافر فاسد كأبي جهل المخزومي وبين ما
لهما من جزاء في
الدار الآخرة ، مع ذكر صفات كل منهما ، تلك الصفات المقتضية لجزائهما في الدار
الآخرة قال تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) فيؤمن به بعد العلم ويستقيم على منهجه في عقيدته وعبادته
ومعاملاته وسلوكه كله. هذه الشخصية الأولى (كَمَنْ هُوَ أَعْمى) لم يعلم الحق ولم يؤمن به ولم يعمل بما أنزل إلى الرسول من
الشرع.
والجواب قطعا
أنهما لا يستويان ولا يكونان في ميزان العدل والحق متساويين وقوله تعالى : (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا
الْأَلْبابِ) أي يتعظ بمثل هذه المقارنة أصحاب العقول المدركة للحقائق
والمفرقة بين المتضادّات كالحق والباطل والخير والشر والنافع والضار. وقوله تعالى
: (الَّذِينَ يُوفُونَ) هذا مشروع في بيان صفاتهم المقتضية إنعامهم وإكرامهم نذكر
لهم ثماني صفات هي كالتالي : (١) الوفاء بالعهود وعدم نقضها : (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ) (اللهِ وَلا
يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ) إذ لا دين لمن لا عهد له. (٢) وصل ما أمر الله به أن يوصل
من الإيمان والإسلام والإحسان والأرحام : (وَالَّذِينَ
يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ). (٣) خشية الله المقتضية لطاعته : (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ). (٤) الخوف من سوء الحساب يوم القيامة المقتضي لمحاسبة
النفس على الصغيرة والكبيرة : (وَيَخافُونَ سُوءَ
الْحِسابِ). (٥) الصبر طلبا لمرضاة الله على الطاعات وعن المعاصي ،
وعلى البلاء : (وَالَّذِينَ صَبَرُوا
ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ). (٦) إقامة الصلاة وهي اداؤها في أوقاتها جماعة بكامل
الشروط والأركان والسنن والآداب : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ). (٧) الانفاق مما رزقهم الله في الزكاة والصدقات الواجبة
والمندوبة : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْناهُمْ). (٨) دفع السيئة بالحسنة فيدرءون سيئة الجهل عليهم بحسنة
الحلم ، وسيئة الأذى بحسنة الصبر.
وقوله تعالى : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) أي العاقبة المحمودة وفسرها بقوله (جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة لا ظعن منها يدخلونها هم (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ
وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ)
__________________
والصلاح هنا
الإيمان والعمل الصالح. وقوله : (وَالْمَلائِكَةُ
يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) هذا عند دخولهم الجنة تدخل عليهم الملائكة تهنئهم بسلامة
الوصول وتحقيق المأمول وتسلم عليهم قائلة : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ
بِما صَبَرْتُمْ) أي بسبب صبركم والإيمان والطاعة (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) . هذه تهنئة الملائكة لهم وأعظم بها تهنئة وأبرك بها بركة
اللهم اجعلني منهم ووالدي وأهل بيتي والمسلمين أجمعين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ المؤمن حيّ
يبصر ويعلم ويعمل والكافر ميت أعمى لا يعلم ولا يعمل.
٢ ـ الاتعاظ
بالمواعظ يحصل لذي عقل راجح سليم.
٣ ـ فضل هذه
الصفات الثمانية المذكورة في هذه الآيات. أولها الوفاء بعهد الله وآخرها درء
السيئة بالحسنة.
٤ ـ تفسير عقبى
الدار وأنها الجنة.
٥ ـ بيان أن
الملائكة تهنىء أهل الجنة عند دخولهم وتسلم عليهم.
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ
بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ
سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ
إِلاَّ مَتاعٌ (٢٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ
مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ
أَنابَ (٢٧) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ
__________________
قُلُوبُهُمْ
بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨) الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (٢٩))
شرح الكلمات :
(وَالَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) : أي يحلونه ولا يلتزمون به فلم يعبدوا ربهم وحده.
(وَيَقْطَعُونَ ما
أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) : أي من الإيمان والأرحام.
(وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) : أي بترك الصلاة ومنع الزكاة ، وبارتكاب السيئات وترك
الحسنات.
(لَهُمُ اللَّعْنَةُ) : أي البعد من رحمة الله تعالى.
(وَلَهُمْ سُوءُ
الدَّارِ) : أي جهنم وبئس المهاد.
(وَيَقْدِرُ) : أي يضيق ويقتر.
(إِلَّا مَتاعٌ) : قدر يسير يتمتع به زمنا ثم ينقضي.
(طُوبى لَهُمْ
وَحُسْنُ مَآبٍ) : أي لهم طوبى شجرة في الجنة وحسن منقلب وهو دار السّلام.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ) الآيات ، هذا هو الطرف المقابل أو الشخصية الثانية وهو من
لم يعلم ولم يؤمن كأبي جهل المقابل لحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ذكر تعالى
هنا صفاته الموجبة لعذابه وحرمانه فذكر له ولمن على شاكلته الصفات التالية :
(١) نقض العهد فلم
يعبدوا الله ولم يوحدوه وهو العهد الذى أخذ عليهم في عالم الأرواح : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ
مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).
(٢) قطع ما أمر
الله به أن يوصل من الإيمان وصلة الأرحام : (وَيَقْطَعُونَ ما
أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ).
__________________
(٣) الإفساد في
الأرض بالشرك والمعاصي : (وَيُفْسِدُونَ فِي
الْأَرْضِ) بهذه الصفات استوجبوا هذا الجزاء ، قال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي البعد من الرحمة (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي جهنم وبئس المهاد ، وقوله تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ
وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي
الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) يخبر تعالى عن سنة من سننه في خلقه وهي أنه يبسط الرزق أي
يوسعه على من يشاء امتحانا هل يشكر أم يكفر ويضيّق ويقتّر على من يشاء ابتلاء هل
يصبر أو يجزع ، وقد يبسط الرزق لبعض إذ لا يصلحهم إلا ذاك ، وقد يضيق على بعض إذ
لا يصلحهم إلا ذاك ، فلن يكون الغنى دالّا على رضى الله ، ولا الفقر دالّا على
سخطه تعالى على عباده ، وقوله : (وَفَرِحُوا
بِالْحَياةِ الدُّنْيا) أي فرح أولئك الكافرون بالحياة الدنيا لجهلهم بمقدارها
وعاقبتها وسوء آثارها وما الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وهم أهل
الإيمان به وطاعته إلا متاع قليل ككفّ التمر أو قرص الخبز يعطاه الراعي غذاء له
طول النهار ثم ينفد ، وقوله تعالى في الآية (٢٧) : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فقد تقدم مثل هذا الطلب من المشركين وهو مطالبة المشركين
النبي صلىاللهعليهوسلم أن تكون له آية كناقة صالح أو عصا موسى ليؤمنوا به وهم في
ذلك كاذبون فلم يحملهم على هذا الطلب إلا الاستخفاف والعناد وإلا آيات القرآن أعظم
من آية الناقة والعصا ، فلذا قال تعالى لرسوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) إضلاله ولو رأى وشاهد ألوف الآيات (وَيَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ أَنابَ) ولو لم ير آية واحدة إلا أنه أناب إلى الله فهداه إليه
وقبله وجعله من أهل ولايته ، وقوله تعالى في الآية (٢٨) (الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ) أولئك الذين أنابوا إليه تعالى إيمانا وتوحيدا فهداهم إليه
صراطا مستقيما هؤلاء تطمئن قلوبهم أي تسكن وتستأنس بذكر الله وذكر وعده وذكر صالحي
عباده محمد صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، وقوله تعالى : (أَلا بِذِكْرِ اللهِ
تَطْمَئِنُ
__________________
الْقُلُوبُ) أي قلوب المؤمنين أما قلوب الكافرين فإنها تطمئن لذكر الدنيا
وملاذها وقلوب المشركين تطمئن لذكر أصنامهم ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ
وَحُسْنُ مَآبٍ) إخبار من الله تعالى بما أعد لأهل الإيمان والعمل الصالح
وهو طوبى حال من الحسن الطيب يعجز البيان عن وصفها أو شجرة في الجنة وحسن منقلب
وهو الجنة دار السّلام والنعيم المقيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة الاتصاف
بصفات أهل الشقاء وهي نقض العهد ، وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإفساد في الأرض
بالشرك والمعاصي.
٢ ـ بيان أن الغنى
والفقر يتمان حسب علم الله تعالى امتحانا وابتلاء فلا يدلان على رضا الله ولا على
سخطه.
٣ ـ حقارة الدنيا
وضآلة ما فيها من المتاع.
٤ ـ فضل ذكر الله
وسكون القلب إليه.
٥ ـ وعد الله
تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح بطوبى وحسن المآب.
كَذَلِكَ
أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ
عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ
هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ
(٣٠)
وَلَوْ
أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ
كُلِّمَ
__________________
بِهِ
الْمَوْتَى بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا
أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ
كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن
دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ
(٣١)
وَلَقَدِ
اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
(٣٢)
شرح الكلمات :
(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) : أي مثل ذلك الإرسال الذي أرسلنا به رسلنا أرسلناك.
(لِتَتْلُوَا
عَلَيْهِمُ) : أي لتقرأ عليهم القرآن تذكيرا وتعليما ونذارة وبشارة.
(وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمنِ) : إذ قالوا وما الرحمن وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة.
(سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبالُ) : أي نقلت من أماكنها.
(أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ
الْأَرْضُ) : أي شققت فجعلت أنهارا وعيونا.
(أَوْ كُلِّمَ بِهِ
الْمَوْتى) : أي أحيوا وتكلموا.
(أَفَلَمْ يَيْأَسِ) : أي يعلم.
(قارِعَةٌ) : أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والحزن وتهلكهم وتستأصلهم.
(أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) : أي القارعة أو الجيش الإسلامي.
(فَأَمْلَيْتُ) : أي أمهلت وأخرت مدة طويلة.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير أصول العقائد : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء الآخر ففي الآية الأولى من
هذا السياق وهي قوله تعالى : (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) فقرر نبوة الرسول صلىاللهعليهوسلم
بقوله كذلك أي
الإرسال الذي أرسلنا من قبلك أرسلناك أنت إلى أمة قد خلت من قبلها
أمم ، وبين فائدة الإرسال فقال : (لِتَتْلُوَا
عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وهو الرحمة والهدى والشفاء (وَهُمْ يَكْفُرُونَ
بِالرَّحْمنِ) الرحمن الذى أرسلك لهم بالهدى ودين الحق لإكمالهم وإسعادهم يكفرون
به ، إذا فقل أنت أيها الرسول هو ربي لا إله إلا هو أي لا معبود بحق إلا هو عليه
توكلت وإليه متاب أي توبتي ورجوعي فقرر بذلك مبدأ التوحيد بأصدق عبارة وقوله تعالى
في الآية الثانية (٣١) (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً) الخ .. لا شك أن مشركي مكة كانوا طالبوه بما ذكر في هذه الآية إذ قالوا إن كنت رسولا فادع لنا ربك
فيسر عنا هذه الجبال التي تكتنف وادينا فتتسع أرضنا للزراعة والحراثة وقطع أرضنا
فأخرج لنا منها العيون والأنهار وأحيي لنا فلانا وفلانا حتى نكلمهم ونسألهم عن صحة
ما تقول وتدعي بأنك نبي فقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى) أي لكان هذا القرآن ، ولكن ليست الآيات هي التي تهدي بل لله الأمر جميعا يهدي من يشاء ويضل من
يشاء ، ولما صرفهم الله تعالى عن الآيات الكونية لعلمه تعالى أنهم لو أعطاهم إياها
لما آمنوا عليها فيحق عليهم عذاب الإبادة كالأمم السابقة ، وكان من المؤمنين من
يود الآيات الكونية ظنا منه أن المشركين لو شاهدوا آمنوا وانتهت المعركة الدائرة
بين الشرك والتوحيد قال تعالى : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ
آمَنُوا) أي يعلموا (أَنْ لَوْ يَشاءُ
اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) بالآيات وبدونها فليترك الأمر له سبحانه وتعالى يفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد ، وقوله تعالى : (وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا) أي من الشرك والمعاصي (قارِعَةٌ) أي داهية تقرع قلوبهم بالخوف والفزع ونفوسهم بالهم والحزن
وذلك كالجدب والمرض والقتل والأسر (أَوْ تَحُلُّ
قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) أي يحل الرسول بجيشه الإسلامي ليفتح مكة حتى يأتي وعد الله
بنصرك أيها الرسول عليهم والآية
__________________
عامة فيمن بعد
قريش ويكون الوعيد متناولا أمم الكفر عامة وها هي ذي الحروب تقرعهم كل قرن مرة
ومرتين والحرب الذرية على أبوابهم ولا يزال أمرهم كذلك حتى يحل الجيش الإسلامي
قريبا من دارهم ليدخلوا في دين الله أو يهلكوا ، (إِنَّ اللهَ لا
يُخْلِفُ الْمِيعادَ) وقد أنجز ما وعد قريشا ، وفي الآية الأخيرة (٣٢) يخبر
تعالى رسوله مسليا إياه عما يجد من تعب وألم من صلف المشركين وعنادهم فيقول له : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ
مِنْ قَبْلِكَ) أي كما استهزىء بك فصبروا فاصبر أنت ، (فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي أمهلتهم وأنظرتهم حتى قامت الحجة عليهم ثم أخذتهم فلم
أبق منهم أحدا (فَكَيْفَ كانَ
عِقابِ) أي كان شديدا عاما واقعا موقعه ، فكذلك أفعل بمن استهزأ بك
يا رسولنا إذا لم يتوبوا ويسلموا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير
التوحيد.
٢ ـ لا توكل إلا
على الله ، ولا توبة لأحد إلا إليه.
٣ ـ عظمة القرآن
الكريم وبيان فضله.
٤ ـ إطلاق لفظ
اليأس والمراد به العلم.
٥ ـ توعد الرب
تعالى الكافرين بالقوارع في الدنيا إلى يوم القيامة.
٦ ـ الله جل جلاله
يملي ويمهل ولكن لا يهمل بل يؤاخذ ويعاقب.
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ
أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ
بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ
يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ
__________________
الدُّنْيا
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ
الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ
أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى
الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥))
شرح الكلمات :
(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى
كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) : أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت ويجازيها بعملها.
(قُلْ سَمُّوهُمْ) : أي صفوهم له من هم؟
(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ
بِما لا يَعْلَمُ) : أي أتخبرونه بما لا يعلمه؟
(بِظاهِرٍ مِنَ
الْقَوْلِ) : أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
(أَشَقُ) : أي أشد.
(واقٍ) : أي مانع يمنعهم من العذاب.
(مَثَلُ الْجَنَّةِ) : أي صفتها التي نقصها عليك.
(أُكُلُها دائِمٌ
وَظِلُّها) : أي ما يؤكل فيها دائم لا يفنى وظلها دائم لا ينسخ.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير التوحيد وإبطال التنديد بقوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ
عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) أي حافظها ورازقها وعالم بها وبما كسبت من خير وشر
ومجازيها كمن لا يحفظ ولا يرزق ولا يعلم ولا يجزي وهو الأصنام ، إذا فبطل تأليهها
ولم يبق إلا الإله الحق الله الذي لا إله إلا هو ولا رب سواه ، وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) أي
__________________
يعبدونهم معه (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي قل لهم يا رسولنا سموا لنا تلك الشركاء صفوهم بينوا من
هم؟ (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ
بِما لا يَعْلَمُ فِي
الْأَرْضِ) أي أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض؟ (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) أي بل بظاهر من القول أي بظن باطل لا حقيقة له في الواقع.
وقوله تعالى : (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مَكْرُهُمْ) أي قولهم الكاذب وافتراؤهم الماكر فبذلك صدوا عن السبيل سبيل الحق وصرفوا عنه فلم يهتدوا إليه ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
هادٍ)
وقوله تعالى : (لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالقتل والأسر ، (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَقُ) أي أشد من عذاب الدنيا مهما كان (وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ) أي وليس لهم من دون الله من يقيهم فيصرفه عنهم ويدفعه حتى
لا يذوقوه ، وقوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي لما ذكر عذاب الآخرة لأهل الكفر والفجور ذكر نعيم
الآخرة لأهل الإيمان والتقوى ، فقال : (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي صفة الجنة ووصفها بقوله : (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) دائم كذلك فطعامها لا ينفد ، وظلها لا يزول ولا ينسخ بشمس
كظل الدنيا ، وقوله : (تِلْكَ) أي الجنة (عُقْبَى الَّذِينَ
اتَّقَوْا) أي ربهم فآمنوا به وعبدوه ووحدوه وأطاعوه في أمره ونهيه ، (وَعُقْبَى الْكافِرِينَ
النَّارُ) والعقبى بمعنى العاقبة في الخير والشر.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
إذ الأصنام لا تحفظ ولا ترزق ولا تحاسب ولا تجزي ، والله هو القائم على كل نفس فهو
الإله الحق وما عداه فآلهة باطلة لا حقيقة لها إلا مجرد أسماء.
٢ ـ استمرار
الكفار على كفرهم هو نتيجة تزيين الشيطان لهم ذلك فصدهم عن السبيل.
٣ ـ ميزة القرآن
الكريم في الجمع بين الوعد والوعيد إذ بهما تمكن هداية الناس.
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ
مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ
بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً
عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما
لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ
قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ
يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا
اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩))
شرح الكلمات :
(وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) : أي كعبد الله بن سلام ومن آمن من اليهود.
(يَفْرَحُونَ بِما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ) : أي يسرون به لأنهم مؤمنون صادقون ولأنه موافق لما عندهم.
(وَمِنَ الْأَحْزابِ) : أي من اليهود والمشركين.
(مَنْ يُنْكِرُ
بَعْضَهُ) : أي بعض القرآن فالمشركون أنكروا لفظ الرحمن وقالوا لا
رحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب.
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) : أي بلسان العرب لتحكم به بينهم.
(لِكُلِّ أَجَلٍ
كِتابٌ) : أي لكل مدة كتاب كتبت فيه المدة المحددة.
(يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ) : أي يمحو من الأحكام وغيرها ويثبت ما يشاء فما محاه هو
المنسوخ وما أبقاه هو المحكم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير أصول العقيدة : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) كعبد الله بن سلام يفرحون بما أنزل إليك وهو القرآن وفي هذا تقرير للوحي
وإثبات له ، وقوله : (وَمِنَ الْأَحْزابِ) ككفار أهل الكتاب والمشركين (مَنْ يُنْكِرُ
بَعْضَهُ) فاليهود أنكروا أغلب ما في القرآن من الأحكام ولم يصدقوا
إلا بالقصص ، والمشركون أنكروا «الرحمن» وقالوا لا رحمن إلا رحمان اليمامة يعنون
مسيلمة الكذاب عليه لعائن الله ، وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ
أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) أي أمرني ربي أن أعبده ولا أشرك به ، إليه تعالى أدعو
الناس أي إلى الإيمان به وإلى توحيده وطاعته ، (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي رجوعي وإيابي وفي هذا تقرير للتوحيد ، وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) أي وكهذا الإنزال للقرآن أنزلناه بلسان العرب لتحكم بينهم
به ، وفي هذا تقرير للوحي الإلهي والنبوة المحمدية ، وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ
بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بأن وافقتهم على مللهم وباطلهم في اعتقاداتهم ، وحاشا رسول
الله صلىاللهعليهوسلم أن يفعل وإنما الخطاب من باب .. إياك أعني واسمعي يا جارة
.. (ما لَكَ مِنَ اللهِ
مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) أي ليس لك من دون الله من ولي يتولى أمر نصرك وحفظك ، ولا
واق يقيك عذاب الله إذا أراده بك لاتباعك أهل الباطل وتركك الحق وأهله ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
__________________
رُسُلاً
مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) فلا معنى لما يقوله المبطلون : لم يتخذ محمد أزواجا ولم تكون له ذرية؟ وهو يقول أنه نبي
الله ورسوله ، فإن الرسل قبلك من نوح وإبراهيم إلى موسى وداوود وسليمان الكل كان
لهم أزواج وذرية ، ولما قالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْهِ آيَةٌ) رد الله تعالى عليهم بقوله : (وَما كانَ لِرَسُولٍ
أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فالرسل كلهم مربوبون لله مقهورون لا يملكون مع الله شيئا
فهو المالك المتصرف إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم ، وقوله : (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ) أي لكل وقت محدد يعطي الله تعالى فيه أو يمنع كتاب كتب فيه
ذلك الأجل وعيّن فلا فوضى ولا أنف ، وقوله : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ردّ على قولهم لم يثبت الشيء ثم يبطله كاستقبال بيت المقدس
ثم الكعبة وكالعدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشرة أيام فأعلمهم أن الله تعالى ذو
إرادة ومشيئة لا تخضعان لإرادة الناس ومشيئاتهم فهو تعالى يمحو ما يشاء من الشرائع
والأحكام بحسب حاجة عباده ويثبت كذلك ما هو صالح لهم نافع ، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) أي الذي حوى كل المقادير فلا يدخله تبديل ولا تغيير كالموت
والحياة والسعادة والشقاء ، وفي الحديث : «رفعت الأقلام وجفت الصحف» رواه مسلم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
الوحي والنبوة.
٢ ـ تقرير عقيدة
التوحيد.
٣ ـ تقرير أن
القضاء والحكم في الإسلام مصدره الأول القرآن الكريم ثم السنة لبيانها للقرآن ، ثم
القياس المأذون فيه فإجماع الأمة لاستحالة اجتماعها على غير ما يحب الله
__________________
تعالى ويرضى به.
٤ ـ التحذير من
اتباع أصحاب البدع والأهواء والملل والنّحل الباطلة.
٥ ـ تقرير عقيدة
القضاء والقدر.
٦ ـ بيان النسخ في
الأحكام بالكتاب والسنة.
(وَإِنْ ما
نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ
نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ
سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ
الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ
لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ
كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ
(٤٣))
شرح الكلمات :
(نَعِدُهُمْ) : أي من العذاب.
(أَوْ
نَتَوَفَّيَنَّكَ) : أي قبل ذلك.
(نَنْقُصُها مِنْ
أَطْرافِها) : أي بلدا بعد بلد بالفتح ودخول الإسلام فيها وانتهاء
الشرك منها.
(لا مُعَقِّبَ
لِحُكْمِهِ) : أي لا راد له بحيث لا يتعقب حكمه فيبطل.
(وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) : من مؤمني اليهود والنصارى.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ
الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) أي إن أريتك بعض الذي نعد قومك من العذاب فذاك ، وإن
توفيتك قبل ذلك فليس عليك إلا البلاغ فقد بلغت وعلينا الحساب فسوف نجزيهم بما كانوا يكسبون ،
فلا تأس أيها الرسول ولا تضق ذرعا بما يمكرون ، وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي المشركون الجاحدون الماكرون المطالبون بالآيات على صدق
نبوة نبينا (أَنَّا نَأْتِي
الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي نفتحها للإسلام بلدا بعد بلد أليس ذلك آية دالة على صدق
الرسول صلىاللهعليهوسلم وصحة دعوته ، وقوله : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا
مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) أي والله جل جلاله يحكم في خلقه بما يشاء فيعز ويذل ويعطي
ويمنع وينصر ويهزم ، ولا معقب لحكمه أي ليس هناك من يعقب على حكمه فيبطله فإذا حكم
بظهور الإسلام وإدبار الكفر فمن يرد ذلك على الله ، وقوله : (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) إذا حاسب على كسب فحسابه سريع يجزي الكاسب بما يستحق دون
بطء ولا تراخ وقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي وقد مكرت أقوام قبل قريش وكفار مكة فكيف كان عاقبة
مكرهم؟ إنها دمارهم أجمعين ، أما يخشى رؤساء الكفر في مكة من عاقبة كهذه؟ وقوله : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) أي إذا فلا عبرة بمكرهم ولا قيمة له فلا يرهب ولا يلتفت
إليه وقوله : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ) من خير وشر فأين مكر من لا يعلم من مكر من يعلم كل شىء
فسوف يصل بالممكور به إلى حافة الهلاك وهو لا يشعر ، أفلا يعي هذا كفار قريش
فيكفوا عن مكرهم برسول الله ودعوته؟ وقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ
الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى
الدَّارِ) أي سيعلم المشركون خصوم التوحيد يوم القيامة لمن عقبى
الدار أي العاقبة الحميدة لمن دخل الجنة وهو محمد صلىاللهعليهوسلم وأتباعه أو لمن دخل النار وهم دعاة الشرك والكفر وأتباعهم
، وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً) أي يواجهونك بالإنكار عليك والجحود لنبوتك ورسالتك قل لهم
يا رسولنا الله شهيد بيني
__________________
وبينكم وقد شهد لي
بالرسالة وأقسم لي عليها مرات في كلامه مثل (يس وَالْقُرْآنِ
الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وكفى بشهادة الله شهادة ، (وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتابِ) الأول التوراة والإنجيل وهم مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود
والنصارى كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي والنجاشي وتميم الداري وغيرهم
.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ انتصار
الإسلام وانتشاره في ظرف ربع قرن أكبر دليل على أنه حق.
٢ ـ أحكام الله
تعالى لا ترد ، ولا يجوز طلب الاستئناف على حكم من أحكام الله تعالى فى كتابه أو
في سنة رسوله صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ شهادة الله
أعظم شهادة ، فلا تطلب بعدها شهادة إذا كان الخصام بين مؤمنين.
٤ ـ فضل العالم
على الجاهل ، إذ شهادة مؤمني أهل الكتاب تقوم بها الحجة على من لا علم لهم من
المشركين.
سورة ابراهيم
مكية
وآياتها اثنتان وخمسون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الر كِتابٌ
أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١)
__________________
اللهِ
الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ
عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى
الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي
ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥))
شرح الكلمات :
(الر) : هذا أحد الحروف المقطعة تكتب الر وتقرأ ألف لام را والتفويض
فيها أسلم وهو قول الله أعلم بمراده بذلك .
(كِتابٌ) : أي هذا كتاب عظيم.
(أَنْزَلْناهُ
إِلَيْكَ) : يا محمد صلىاللهعليهوسلم.
(مِنَ الظُّلُماتِ) : أي من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
(الْعَزِيزِ
الْحَمِيدِ) : أي المحمود بآلائه.
(عَنْ سَبِيلِ اللهِ) : أي الإسلام.
(عِوَجاً) : أي معوجّة.
(بِآياتِنا) : أي المعجزات التسع : العصا ، اليد ، الطوفان ، الجراد ،
القمل ،
__________________
الضفادع ، الدم ،
والطمس والسنين ونقص الثمرات.
(وَذَكِّرْهُمْ
بِأَيَّامِ اللهِ) : أي ببلائه ونعمائه.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (الر) الله أعلم بمراده وقوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) أي هذا كتاب عظيم القدر أنزلناه إليك يا رسولنا لتخرج
الناس من الظلمات أي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإيمان والعلم الشرعي ، وذلك (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بتوفيقه ومعونته (إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إلى طريق العزيز الغالب الحميد أى المحمود بآلائه وافضالاته على عباده
وسائر مخلوقاته (اللهِ الَّذِي
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصريفا وتدبيرا ، هذا هو الله صاحب الصراط
الموصل إلى الإسعاد والإكمال البشري ، والكافرون معرضون بل ويصدون عنه فويل لهم من
عذاب شديد ، الكافرون (الَّذِينَ
يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي يفضلون الحياة الدنيا فيعملون للدنيا ويتركون العمل
للآخرة لعدم إيمانهم بها (وَيَصُدُّونَ) أنفسهم وغيرهم أيضا (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي الإسلام (وَيَبْغُونَها
عِوَجاً) أي معوجة إنهم يريدون من الإسلام أن يوافقهم فى أهوائهم
وما يشتهون حتى يقبلوه ويرضوا به دينا قال تعالى : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ
بَعِيدٍ) إنهم بهذا السلوك المتمثل في إيثار الدنيا على الآخرة
والصد عن الإسلام ، ومحاولة تسخير الاسلام لتحقيق أطماعهم وشهواتهم في ضلال بعيد
لا يمكن لصاحبه أن يرجع منه إلى الهدى ، وقوله تعالى في الآية (٤) من هذا السياق (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ) أي بلغتهم التي يتخاطبون بها ويتفاهمون لحكمة أن يبين لهم
، والله بعد ذلك يضل من يشاء إضلاله
__________________
حسب سنته في
الإضلال ويهدي من يشاء كذلك (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الذي لا يمانع في شيء أراده (الْحَكِيمُ) الذي يضع كل شيء في موضعه فلذا هو لا يضل إلا من رغب في
الإضلال وتكلف له وأحبه وآثره ، وتنكر للهدى وحارب المهتدين والداعين إلى الهدى ،
وليس من حكمته تعالى أن يضل من يطلب الهدى ويسعى إليه ويلتزم طريقه ويحبه ويحب
أهله ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مُوسى) أي موسى نبي بني إسرائيل (بِآياتِنا) أي بحججنا وأدلتنا الدالة على رسالته والهادية إلى ما يدعو
إليه وهي تسع آيات منها اليد والعصى (أَنْ أَخْرِجْ
قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي أخرج قومك من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد ، (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) أي وقلنا له : ذكرهم بأيام الله وهي بلاؤه ونعمه إذ أنجاهم
من عذاب آل فرعون وأنعم عليهم بمثل المن والسلوى ، وذلك ليحملهم على الشكر لله
بطاعته وطاعة رسوله ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي إن في ذلك التذكير بالبلاء والنعماء لدلالات يستدل بها
على إفضال الله وإنعامه الموجب للشكر ، ولكن الذين يجدون تلك الدلالات في التذكير
هم أهل الصبر والشكر بل هم الكثيروا الصبر والشكر ، وأما غيرهم فلا يرى في ذلك دلالة ولا علامة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إقامة الحجة
على المكذبين بالقرآن الكريم ، إذ هو مؤلف من الحروف المقطعة مثل آلر وطسم وآلم
وحم ، ولم يستطيعوا أن يأتوا بمثله بل بسورة مثله ..
٢ ـ بيان أن الكفر
ظلام والإيمان نور.
٣ ـ بيان الحكمة
في إرسال الله تعالى الرسل بلغات أقوامهم.
__________________
٤ ـ تقرير أن الذي
يخلق الهداية هو الله وأما العبد فليس له أكثر من الكسب.
٥ ـ فضيلة التذكير
بالخير والشر ليشكر الله ويتقى.
٦ ـ فضيلة الصبر
والشكر.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ
وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ
كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ
يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا
بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ
(٩))
شرح الكلمات :
(وَإِذْ قالَ مُوسى) : أي اذكر إذ قال موسى.
(يَسُومُونَكُمْ) : يذيقونكم.
(وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) : أي يستبقونهنّ.
(بَلاءٌ مِنْ
رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) : أي ابتلاء واختبار ، ويكون بالخير والشر.
(وَإِذْ تَأَذَّنَ
رَبُّكُمْ) : أي أعلم ربكم.
(بِالْبَيِّناتِ) : بالحجج الواضحة على صدقهم في دعوة النبوة والتوحيد
والبعث الآخر.
(فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) : أي فرد الأمم أيديهم في أفواههم أي أشاروا إليهم أن اسكتوا.
(مُرِيبٍ) : موقع في الريبة.
معنى الآيات :
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِقَوْمِهِ) أي اذكر يا رسولنا إذ قال موسى لقومه من بني إسرائيل (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) أي لتشكروها بتوحيده وطاعته ، فإن من ذكر شكر وبين لهم نوع
النعمة وهي إنجاؤهم من فرعون وملائه إذ كانوا يعذبونهم بالاضطهاد والاستعباد ،
فقال : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ
الْعَذابِ) أي يذيقونكم سوء العذاب وهو أسوأه وأشده ، (وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) أي الأطفال المولودين ، لأن الكهنة أو رجال السياسة قالوا
لفرعون : لا يبعد أن يسقط عرشك وتزول دولتك على أيدي رجل من بني إسرائيل فأمر بقتل
المواليد فور ولادتهم فيقتلون الذكور ويستبقون الإناث للخدمة ولعدم الخوف منهن وهو
معنى قوله : (وَيَسْتَحْيُونَ
نِساءَكُمْ) وقوله تعالى : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ
مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) فهو بالنظر إلى كونه عذابا بلاء بالشر ، وفي كونه نجاة منه
، بلاء بالخير ، وقوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) هذا من قول موسى لبني إسرائيل أي أذكر لهم إذ أعلم ربكم
مقسما لكم (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) نعمي بعبادتي وتوحيدي فيها وطاعتي وطاعة رسولي بامتثال
الأوامر واجتناب النواهي (لَأَزِيدَنَّكُمْ) في الإنعام والإسعاد (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) فلم تشكروا نعمي فعصيتموني وعصيتم رسولي أي لأسلبنها منكم
وأعذبكم بسلبها من أيديكم (إِنَّ عَذابِي
__________________
لَشَدِيدٌ) فاحذروه واخشوني فيه ، وقوله تعالى : (وَقالَ مُوسى) أي لبني إسرائيل (إِنْ تَكْفُرُوا
أَنْتُمْ) نعم الله فلم تشكروها بطاعته (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً) وكفرها من في الأرض جميعا (فَإِنَّ اللهَ
لَغَنِيٌ) عن سائر خلقه لا يفتقر إلى أحد منهم (حَمِيدٌ) أي محمود بنعمه على سائر خلقه ، وقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ) هذا قول موسى لقومه وهو يعظهم ويذكرهم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ) أي لا يعلم عددهم ولا يحصيهم (إِلَّا اللهُ
جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) أي بالحجج والبراهين على صدق دعوتهم وما جاء به من الدين
الحق ليعبد الله وحده ويطاع وتطاع رسله فيكمل الناس بذلك ويسعدوا ، وقوله : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ) أي ردت الأمم المرسل إليهم أيديهم إلى أفواههم تغيظا على
أنبيائهم وحنقا ، أو أشاروا إليهم بالسكوت فأسكتوهم ردا لدعوة الحق التي جاؤوا بها
، وقالوا لهم : (إِنَّا كَفَرْنا بِما
أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي بما جئتم به من الدين الإسلامي والدعوة إليه ، (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا
تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) أي موقع في الريبة التي هي قلق النفس واضطرابها لعدم
سكونها للخبر الذي يلقى إليها ، هذا وما زال السياق طويلا وينتهي بقوله تعالى : (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
التذكير بنعم الله لنشكر ولا نكفر.
٢ ـ وعد الله
تعالى بالمزيد من النعم لمن شكر نعم الله عليه.
٣ ـ كفر النعم سبب
زوالها.
٤ ـ بيان غنى الله
تعالى المطلق على سائر خلقه فالناس ان شكروا شكروا لأنفسهم وإن كفروا كفروا على
أنفسهم أي شكرهم ككفرهم عائد على أنفسهم.
٥ ـ التذكير بقصص
السابقين وأحوال الغابرين مشروع وفيه فوائد عظيمة.
__________________
(قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ
بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا
فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما
كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ
وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى
إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ
الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤))
شرح الكلمات :
(أَفِي اللهِ شَكٌ) : أي لا شك في وجود الله ولا في توحيده ، إذ الاستفهام
إنكاري.
(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي إلى أجل الموت.
(بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : بحجة ظاهرة تدل على صدقكم.
(يَمُنُّ عَلى مَنْ
يَشاءُ) : أي بالنبوة والرسالة على من يشاء لذلك.
(وَقَدْ هَدانا
سُبُلَنا) : أي طرقه التي عرفناه بها وعرفنا عظيم قدرته وعز سلطانه.
(لَنُخْرِجَنَّكُمْ
مِنْ أَرْضِنا) : أي من ديارنا أو لتعودون في ديننا.
(لِمَنْ خافَ مَقامِي) : أي وقوفه بين يدي يوم القيامة للحساب والجزاء.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ما ذكر به موسى قومه بقوله : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ
نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ ...) فقوله تعالى : (قالَتْ رُسُلُهُمْ) أي قالت الرسل إلى أولئك الأمم الكافرة (أَفِي اللهِ شَكٌ) ؟ أي كيف يكون في توحيد الله شك وهو فاطر السموات والأرض ، فخالق السموات والأرض وحده لا يعقل أن يكون له
شريك في عبادته ، انه لا إله إلا هو وقوله : (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان والعمل الصالح الخالي من الشرك (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) وهو كل ذنب بينكم وبين ربكم من كبائر الذنوب وصغائرها أما
مظالم الناس فردوها إليهم تغفر لكم وقوله : (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى
أَجَلٍ مُسَمًّى) أي يؤخر العذاب عنكم لتموتوا بآجالكم المقدرة لكم ، وقوله
: (قالُوا) أي قالت الأمم الكافرة لرسلهم (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أي ما أنتم إلا بشر مثلنا ، (تُرِيدُونَ أَنْ
تَصُدُّونا) أي تصرفونا (عَمَّا كانَ يَعْبُدُ
آباؤُنا) من آلهتنا أي أصنامهم وأوثانهم التي يدّعون أنها آلهة ،
وقولهم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ
مُبِينٍ) قال الكافرون للرسل ائتونا بسلطان مبين أي بحجة ظاهرة تدل
على صدقكم أنكم رسل الله إلينا فأجابت الرسل قائلة ما أخبر تعالى به عنهم بقوله : (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ
إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي ما نحن إلا بشر مثلكم فما لا تستطيعونه أنتم لا نستطيعه
نحن (وَلكِنَّ اللهَ
يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي إلا أن الله يمن على من يشاء بالنبوة
__________________
فمن علينا بها
فنحن ننبئكم بما أمرنا الله ربنا وربكم أن ننبئكم به كما نأمركم وندعوكم لا من
تلقاء أنفسنا ولكن بما أمرنا أن نأمركم به وندعوكم إليه ، (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ
بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بإرادته وقدرته فهو ذو الإرادة التي لا تحد والقدرة
التي لا يعجزها شيء ولذا توكلنا عليه وحده وعليه (فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ) فإنه يكفيهم كل ما يهمهم ، ثم قالت الرسل وهي تعظ أقوامها
بما تقدم : (وَما لَنا أَلَّا) (نَتَوَكَّلَ عَلَى
اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي طرقنا التي عرفناه بها وعرفنا عظمته وعزة سلطانه فأي
شيء يجعلنا لا نتوكل عليه وهو القوي العزيز (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى
ما آذَيْتُمُونا) بألسنتكم وأيديكم متوكلين على الله حتى ينتقم الله تعالى
لنا منكم ، (وَعَلَى اللهِ
فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) إذ هو الكافل لكل من يثق فيه ويفوض أمره إليه متوكلا عليه
وحده دون سواه ، وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا) هذا إخبار منه تعالى على ما قالت الأمم الكافرة لرسلها :
قالوا موعدين مهددين بالنفي والإبعاد من البلاد لكل من يرغب عن دينهم ويعبد غير
آلهتهم : (لَنُخْرِجَنَّكُمْ
مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي ديننا الذي نحن عليه وهنا أوحى الله تعالى إلى رسله بما
أخبر تعالى به : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِهِمْ) قال لنهلكن الظالمين ولم يقل لنهلكنهم إشارة إلى علة
الهلاك وهي الظلم الذي هو الشرك والإفساد ليكون ذلك عظة للعالمين ، وقوله تعالى : (ذلِكَ) أي الإنجاء للمؤمنين والإهلاك للظالمين جزاء (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي الوقوف بين يدي يوم القيامة (وَخافَ وَعِيدِ) على ألسنة رسلي بالعذاب لمن كفر بي وأشرك في عبادتي ومات
على غير توبة إلىّ من كفره وشركه وظلمه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بطلان الشك في
وجود الله وعلمه وقدرته وحكمته ووجوب عبادته وحده وذلك لكثرة
__________________
الأدلة وقوة الحجج
، وسطوع البراهين.
٢ ـ بيان ما كان
أهل الكفر يقابلون به رسل الله والدعاة إليه سبحانه وتعالى وما كانت الرسل ترد به
عليهم.
٣ ـ وجوب التوكل
على الله تعالى ، وعدم صحة التوكل على غيره إذ لا كافي إلا الله.
٤ ـ وجوب الصبر
على الأذى في سبيل الله وانتظار الفرج بأخذ الظالمين.
٥ ـ عاقبة الظلم
وهي الخسران والدمار لا تتبدل ولا تتخلف وإن طال الزمن.
(وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ
صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ
كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَثَلُ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ
فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ
الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩))
(وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))
شرح الكلمات :
(وَاسْتَفْتَحُوا) : أي طلب الرسل الفتح لهم أي النصر على أقوامهم الظالمين.
(وَخابَ) : أي خسر وهلك.
(كُلُّ جَبَّارٍ
عَنِيدٍ) : أي ظالم يجبر الناس على مراده عنيد كثير العناد.
(مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) : أي هو ما يخرج سائلا من أجواف أهل النار مختلطا من قيح
ودم وعرق.
(يَتَجَرَّعُهُ وَلا
يَكادُ يُسِيغُهُ) : أي يبتلعه مرة بعد مرة لمرارته ولا يقارب ازدراده لقبحه
ومراراته.
(وَيَأْتِيهِ
الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) : أي لشدة ما يحيط به من العذاب فكل أسباب الموت حاصلة
ولكن لا يموت.
(أَعْمالُهُمْ
كَرَمادٍ) : أي الصالحة منها كصلة الرحم وبر الوالدين وإقراء الضيف
وفك الأسير والفاسدة كعبادة الأصنام بالذبح لها والنذر والحلف والعكوف حولها
كرماد.
(لا يَقْدِرُونَ
مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ) : أي لا يحصلون من أعمالهم التي كسبوها على ثواب وإن قل
لأنها باطلة بالشرك.
(وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ) : أي بصعب ممتنع عليه.
معنى الآيات :
هذا آخر حديث ما
ذكر به موسى قومه من أنباء الأمم السابقة على بنى اسرائيل ، قال تعالى في الإخبار
عنهم : (وَاسْتَفْتَحُوا
وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي واستفتح الرسل أي طلبوا من الله تعالى أن يفتح عليهم بنصر على أعدائه وأعدائهم واستجاب الله لهم ، (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) أي خسر وهلك كل ظالم طاغ معاند للحق وأهله ، وقوله : (مِنْ وَرائِهِ
جَهَنَّمُ) أي أمامه جهنم تنتظره سيدخلها بعد هلاكه ويعطش ويطلب الماء
__________________
فتسقيه الزبانية (مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) أي وهو صديد أهل النار وهو ما يخرج من قيح ودم وعرق ، (يَتَجَرَّعُهُ) أي يبتلعه جرعة بعد أخرى لمرارته (وَلا يَكادُ
يُسِيغُهُ) أي يدخله جوفه الملتهب عطشا لقبحه ونتنه ومرارته وحرارته ،
وقوله تعالى : (وَيَأْتِيهِ
الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) أي ويأتي هذا الجبار العنيد والذي هو في جهنم يقتله الظمأ
فيسقى بالماء الصديد يأتيه الموت لوجود أسبابه وتوفرها من كل مكان إذ العذاب محيط
به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وما هو بميت لأن الله تعالى لم يشأ ذلك
قال تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها
وَلا يَحْيى) وقال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ
فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) ومن وراء ذلك العذاب الذى هو فيه (عَذابٌ) أي لون آخر من العذاب (غَلِيظٌ) أي شديد لا يطاق ،
وقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ
بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) أي شديد هبوب الريح فيه (لا يَقْدِرُونَ
مِمَّا كَسَبُوا) أي من أعمال في الدنيا (عَلى شَيْءٍ) أي من الثواب والجزاء الحسن عليها ، هذا مثل أعمالهم
الصالحة كأنواع الخير والبر والطالحة كالشرك والكفر وعبادة غير الله مما كانوا
يرجون نفعه ، الكل يذهب ذهاب رماد حملته الريح وذهبت به ، مشتدة في يوم عاصف شديد
هبوب الريح فيه.
وقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي ذلك الذى دل عليه المثل هو الضلال البعيد لمن وقع فيه
إذ ذهب كل عمله سدى بغير طائل فلم ينتفع بشيء منه وأصبح من الخاسرين.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) أي ألم تعلم أيها الرسول أن الله خلق السموات والأرض بالحق
أي من أجل الإنسان ليذكر الله تعالى ويشكره فإذا تنكر لربه فكفر به وأشرك غيره في
عبادته عذبه بالعذاب الأليم الذي تقدم
__________________
وصفه في هذا
السياق لأن الله تعالى لم يخلق السموات والأرض عبثا وباطلا بل خلقهما وخلق ما
فيهما من أجل أن يذكر فيهما ويشكر فمن ترك الذكر والشكر عذبه أشد العذاب وأدومه
وأبقاه ، وقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ
يُذْهِبْكُمْ) أيها الناس المتمردون على طاعته المشركون به (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) غيركم يعبدونه ويوحدونه (وَما ذلِكَ عَلَى
اللهِ بِعَزِيزٍ) أي بممتنع ولا متعذر لأن الله على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إنجاز وعد
الله لرسله في قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) الآية.
٢ ـ خيبة وخسران
عامة أهل الشرك والكفر والظلم.
٣ ـ عظم عذاب يوم
القيامة وشدته.
٤ ـ بطلان أعمال
المشركين والكافرين وخيبتهم فيها إذ لا ينتفعون بشيء منها.
٥ ـ عذاب أهل
الكفر والشرك والظلم لازم لأنهم لم يذكروا ولم يشكروا والذكر والشكر علة الوجود
كله فلما عبثوا بالحياة استحقوا عذابا أبديا.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا
لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما
لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ
وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا
تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا
__________________
بِمُصْرِخِكُمْ
وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ
فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))
شرح الكلمات :
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ
جَمِيعاً) : أي برزت الخلائق كلها لله وذلك يوم القيامة.
(إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً) : أي تابعين لكم فيما تعقتدون وتعملون.
(فَهَلْ أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا) : أي دافعون عنا بعض العذاب.
(ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) : أي من ملجأ ومهرب أو منجا.
(لَمَّا قُضِيَ
الْأَمْرُ) : بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
(ما أَنَا
بِمُصْرِخِكُمْ) : أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب والكرب.
(تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) : أي من تحت قصورها وأشجارها الأنهار الأربعة : الماء
واللبن والخمر والعسل.
معنى الآيات :
في هذه الآيات عرض
سريع للموقف وما بعده من استقرار أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة يقرر
مبدأ الوحي والتوحيد والبعث الآخر بأدلة لا ترد ، قال تعالى : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) أي خرجت البشرية من قبورها مؤمنوها وكافروها صالحوها
وفاسدوها (فَقالَ الضُّعَفاءُ) أي الأتباع (لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا) أي الرؤساء والموجهون للناس بما لديهم من قوة وسلطان (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) أي أتباعا في عقائدكم وما تدينون به ، (فَهَلْ
__________________
أَنْتُمْ
مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ)؟ أي فهل يمكنكم أن ترفعوا عنا بعض العذاب بحكم تبعيتنا لكم
فأجابوهم بما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا لَوْ هَدانَا
اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) اعترفوا الآن أن الهداية بيد الله وأقروا بذلك ، ولكنا
ضللنا فأضللناكم (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا) اليوم (أَمْ صَبَرْنا ما
لَنا مِنْ مَحِيصٍ) أي من مخرج من هذا العذاب ولا مهرب ، وهنا يقوم إبليس
خطيبا فيهم بما أخبر تعالى عنه بقوله : (وَقالَ الشَّيْطانُ) أي إبليس عدو بنى آدم (لَمَّا قُضِيَ
الْأَمْرُ) بأن أدخل أهل الجنة الجنة وأدخل أهل النار النار (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) بأن من آمن وعمل صالحا مبتعدا عن الشرك والمعاصي أدخله
جنته وأكرمه فى جواره ، وأن من كفر وأشرك وعصى أدخله النار وعذبه عذاب الهون في
دار البوار (وَوَعَدْتُكُمْ) بأن وعد الله ووعيده ليس بحق ولا واقع (فَأَخْلَفْتُكُمْ) فيما وعدتكم به ، وكنت في ذلك كاذبا عليكم مغررا بكم ، (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) أي من قوة مادية أكرهتكم بها على اتباعي ولا معنوية ذات
تأثير خارق للعادة أجبرتكم بها على قبول دعوتي (إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ) أي لكن دعوتكم (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) إذا (فَلا تَلُومُونِي
وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) أي بمزيل صراخكم بما أغيثكم به من نصر وخلاص من هذا العذاب
(وَما أَنْتُمْ) أيضا (بِمُصْرِخِيَ) ، أي بمغيثيّ (إِنِّي كَفَرْتُ بِما
أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ
قَبْلُ) إذ كل عابد لغير الله في الواقع هو عابد للشيطان إذ هو
الذي زين له ذلك ودعاه إليه ، و (إِنَّ الظَّالِمِينَ
لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) أي المشركين لهم عذاب أليم موجع ، وقوله تعالى : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ
آمَنُوا) أي وأدخل الله الذين آمنوا أي صدّقوا بالله وبرسوله وبما
جاء به رسوله (وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) وهي العبادات التي تعبّد الله بها عباده فشرعها
__________________
في كتابه وعلى لسان
رسوله صلىاللهعليهوسلم (جَنَّاتٍ) بساتين (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من خلال قصورها وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر
والعسل (خالِدِينَ فِيها) لا يخرجون منها ولا يبغون عنها حولا ، وقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي أن ربهم هو الذي أذن لهم بدخولها والبقاء فيها أبدا ،
وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ فِيها
سَلامٌ) أي السّلام عليكم يحييهم ربهم وتحييهم الملائكة ويحيي
بعضهم بعضا بالسلام وهي كلمة دعاء بالسلامة من كل العاهات والمنغصات وتحية بطلب
الحياة الأبدية.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أن
التقليد والتبعية لا تكون عذرا لصاحبها عند الله تعالى.
٢ ـ بيان أن
الشيطان هو المعبود من دون الله تعالى إذ هو الذي دعا إلى عبادة غير الله وزينها
للناس.
٣ ـ تقرير لعلم
الله بما لم يكن كيف يكون إذ ما جاء في الآيات من حوار لم يكن بعد ولكنه في علم
الله كائن كما هو وسوف يكون كما جاء في الآيات لا يتخلف منه حرف واحد.
٤ ـ وعيد الظالمين
بأليم العذاب.
٥ ـ العمل لا يدخل
الجنة إلا بوصفه سببا لا غير ، وإلا فدخول الجنة يكون بإذن الله تعالى ورضاه.
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ
ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ
وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤)
__________________
تُؤْتِي
أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ
خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ
اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ
دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ
مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))
شرح الكلمات :
(كَلِمَةً طَيِّبَةً) : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) : هي النخلة.
(كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) : هي كلمة الكفر.
(كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) : هي الحنظل.
(اجْتُثَّتْ) : أي اقتلعت جثتها أي جسمها وذاتها.
(بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ) : هو لا إله إلا الله.
(وَفِي الْآخِرَةِ) : أي في القبر فيجيب الملكين عما يسألانه عنه حيث يسألانه
عن ربه ودينه ونبيه.
(بَدَّلُوا نِعْمَتَ
اللهِ كُفْراً) : أي بدلوا التوحيد والاسلام بالجحود والشرك.
(دارَ الْبَوارِ) : أي جهنم.
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً) : أي شركاء.
معنى الآيات :
الآيات في تقرير
التوحيد والبعث والجزاء ، قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أيها الرسول أي ألم تعلم (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً) هي كلمة الإيمان يقولها المؤمن (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة (أَصْلُها ثابِتٌ) في الأرض (وَفَرْعُها) عال (فِي السَّماءِ) ، (تُؤْتِي أُكُلَها) تعطي أكلها أي ثمرها الذي يؤكل منها كل حين بلحا وبسرا
ومنصّفا ورطبا وتمرا وفي الصباح والمساء (بِإِذْنِ رَبِّها) أي بقدرته وتسخيره فكلمة الإيمان لا إله إلا الله محمد
رسول الله تثمر للعبد أعمالا صالحة كل حين فهي في قلبه والأعمال الصالحة الناتجة
عنها ترفع إلى الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي كما ضرب هذا المثال للمؤمن والكافر في هذا السياق يضرب
الأمثال للناس مؤمنهم وكافرهم لعلهم يتذكرون أي رجاء أن يتذكروا فيتعظوا فيؤمنوا
ويعملوا الصالحات فينجوا من عذاب الله ، وقوله : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ
خَبِيثَةٍ) هي كلمة الكفر في قلب الكافر (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) هي الحنظل مرّة ولا خير فيها ولا أصل لها ثابت ولا فرع لها
في السماء (اجْتُثَّتْ) أي اقتلعت واستؤصلت (مِنْ فَوْقِ
الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) أي لا ثبات لها ولا تثمر إلا ما فيها من مرارة وسوء طعم
وعدم بركة وقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ) هذا وعد من الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين بأنه
يثبتهم على الإيمان مهما كانت الفتن والمحن حتى يموتوا على الإيمان (وَفِي الْآخِرَةِ) أي في القبر إذ هو عتبة الدار الآخرة عند ما يسألهم الملكان عن الله وعن الدين والنبي من ربك؟ ما دينك؟ من
نبيك؟ فيثبتهم بالقول الثابت وهو الإيمان وأصله لا إله إلا الله محمد رسول الله
والعمل الصالح الذي هو الإسلام وقوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ
الظَّالِمِينَ) مقابل هداية المؤمنين فلا يوفقهم للقول الثابت حتى يموتوا
على الكفر فيهلكوا ويخسروا ، وذلك
__________________
لإصرارهم على
الشرك ودعوتهم إليه وظلم المؤمنين وأذيتهم من أجل إيمانهم ، وقوله تعالى : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) تقرير لإرادته الحرة فهو عزوجل يثبت من يشاء ويضل من يشاء فلا اعتراض عليه ولا نكير مع
العلم أنه يهدي ويضل بحكم عالية تجعل هدايته كإضلاله رحمة وعدلا.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ) أي ألم ينته إلى علمك أيها الرسول (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ
اللهِ) التي هي الإسلام الذي جاءهم به رسول الله بما فيه من الهدى
والخير فكذبوا رسول الله وكذبوا بما جاء به ورضوا بالكفر وأنزلوا بذلك قومهم الذين
يحثونهم على الكفر ويشجعونهم على التكذيب أنزلوهم (دارَ الْبَوارِ) فهلك من هلك في بدر كافرا الى جهنم ، ودار البوار هي جهنم
يصلونها أي يحترقون بحرها ولهيبها (وَبِئْسَ الْقَرارُ) أي المقر الذي أحلوا قومهم فيه ، وقوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً
لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) أي جعل أولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا وهم كفار مكة لله
أندادا أي شركاء عبدوها وهي اللّات والعزّى وهبل ومناة وغيرها من آلهتهم الباطلة ،
جعلوا هذه الأنداد ودعوا إلى عبادتها ليضلوا ويضلوا غيرهم عن سبيل الله التي هي
الإسلام الموصل إلى رضا الله تعالى وجواره الكريم ، وقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا) أي بما أنتم فيه من متاع الحياة الدنيا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ) أي نهاية أمركم (إِلَى النَّارِ) حيث تصيرون إليها بعد موتكم إن أصررتم على الشرك والكفر
حتى متم على ذلك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٢ ـ المقارنة بين
الإيمان والكفر ، وكلمة التوحيد وكلمة الكفر وما يثمره كل واحد من هذه الأصناف من
خير وشر.
__________________
٣ ـ بشرى المؤمن
بتثبيت الله تعالى له على إيمانه حتى يموت مؤمنا وبالنجاة من عذاب القبر حيث يجيب
منكرا ونكيرا على سؤالهما إياه بتثبيت الله تعالى له.
٤ ـ الأمر في قوله
تعالى تمتعوا ليس للإباحة ولا للوجوب وإنما هو للتهديد والوعيد.
(قُلْ لِعِبادِيَ
الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا
وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١)
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ
لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ
لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
(٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))
شرح الكلمات :
(لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خِلالٌ) : هذا يوم القيامة لا بيع فيه ولا فداء ولا مخالة تنفع ولا
صداقة.
(الْفُلْكَ) : أي السفن فلفظ الفلك دال على متعدد ويذكّر ويؤنث.
(دائِبَيْنِ) : جاريين في فلكهما لا يفتران أبدا حتى نهاية الحياة
الدنيا.
(لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) : كثير الظلم لنفسه ولغيره ، كفار عظيم الكفر هذا ما لم
يؤمن ويهتد فإن آمن واهتدى سلب هذا الوصف منه.
معنى الآيات :
لما أمر الله
تعالى رسوله أن يقول لأولئك الذين بدلوا نعمة الله كفرا (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَ
مَصِيرَكُمْ
إِلَى النَّارِ) أمر رسوله أيضا أن يقول للمؤمنين يقيموا الصلاة وينفقوا من
أموالهم سرا وعلانية ليتقوا بذلك عذاب يوم القيامة الذي توعد به الكافرين فقال : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
يُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي يؤدوها على الوجه الذي شرعت عليه فيتموا ركوعها وسجودها
ويؤدوها في أوقاتها المعينة لها وفي جماعة وعلى طهارة كاملة مستقبلين بها القبلة
حتى تثمر لهم زكاة أنفسهم وطهارة أرواحهم (وَيُنْفِقُوا) ويوالوا الإنفاق في كل الأحيان (سِرًّا وَعَلانِيَةً ، مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) وهو يوم القيامة (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا
خِلالٌ) لا شراء فيحصل المرء على ما يفدي به نفسه من طريق البيع ،
ولا خلة أي صداقة تنفعه ولا شفاعة إلا بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي انشأهما وابتدأ خلقهما (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) هو ماء الأمطار (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ
الثَّمَراتِ) والحبوب (رِزْقاً لَكُمْ) تعيشون به وتتم حياتكم عليه (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْفُلْكَ) أي السفن (لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ
بِأَمْرِهِ) أي بإذنه وتسخيره تحملون عليها البضائع والسلع من إقليم
إلى إقليم وتركبونها كذلك (وَسَخَّرَ لَكُمُ
الْأَنْهارَ) الجارية بالمياه العذبة لتشربوا وتسقوا مزارعكم وحقولكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
دائِبَيْنِ) لا يفتران أبدا في جريهما وتنقلهما في بروجهما لمنافعكم
التي لا تتم إلا على ضوء الشمس وحرارتها ونور القمر وتنقله في منازله (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الليل لتسكنوا فيه وتستريحوا والنهار لتعملوا فيه وتكسبوا
أرزاقكم (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ
ما سَأَلْتُمُوهُ) مما أنتم في حاجة إليه لقوام حياتكم ، هذا هو الله المستحق
لعبادتكم
__________________
رغبة فيه ورهبة
منه ، هذا هو المعبود الحق الذي يجب أن يعبد وحده لا شريك له وليس تلك الأصنام
والأوثان التي تعبدونها وتدعون إلى عبادتها حتى حملكم ذلك على الكفر والعناد بل
والظلم والشر والفساد.
وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا
تُحْصُوها) أي بعد أن عدد الكثير من نعمه أخبر أنه لا يمكن للإنسان أن
يعد نعم الله عليه ولا أن يحصيها عدا بحال من الأحوال ، وقرر حقيقة في آخر هذه
الموعظة والذكرى وهي أن الإنسان إذا حرم الإيمان والهداية الربانية (لَظَلُومٌ) أي كثير الظلم كفور كثير الكفر عظيمه ، والعياذ بالله
تعالى من ذلك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب إقام
الصلاة وإيتاء الزكاة والإكثار من الصدقات لاتقاء عذاب النار.
٢ ـ جواز صدقة
العلن كصدقة السر وإن كانت الأخيرة أفضل.
٣ ـ التعريف بالله
عزوجل إذ معرفة الله تعالى هي التي تثمر الخشية منه تعالى.
٤ ـ وجوب عبادة
الله تعالى وبطلان عبادة غيره.
٥ ـ وصف الإنسان
بالظلم والكفر وشدتهما ما لم يؤمن ويستقيم على منهج الإسلام.
(وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ
نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ
فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦)
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ
بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ
النَّاسِ
__________________
تَهْوِي
إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا
إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ
دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ
الْحِسابُ (٤١))
شرح الكلمات :
(هَذَا الْبَلَدَ
آمِناً) : أي اجعل مكة بلدا آمنا يأمن كل من دخله.
(وَاجْنُبْنِي) : بعّدني.
(أَنْ نَعْبُدَ
الْأَصْنامَ) : عن أن نعبد الأصنام.
(أَضْلَلْنَ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ) : أي بعبادتهم لها.
(فَمَنْ تَبِعَنِي
فَإِنَّهُ مِنِّي) : أي من اتبعني على التوحيد فهو من أهل ملتي وديني.
(مِنْ ذُرِّيَّتِي) : أي من بعض ذريتي وهو اسماعيل عليهالسلام وأمه هاجر.
(بِوادٍ غَيْرِ ذِي
زَرْعٍ) : أي مكة إذ لا مزارع فيها ولا حولها يومئذ.
(تَهْوِي إِلَيْهِمْ) : تحنّ إليهم وتميل رغبة في الحج والعمرة.
(عَلَى الْكِبَرِ
إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) : أي مع الكبر إذ كانت سنه يومئذ تسعا وتسعين سنة وولد له
إسحق وسنه مائة واثنتا عشرة سنة.
(وَلِوالِدَيَ) : هذا قبل أن يعرف موت والده على الشرك.
(يَوْمَ يَقُومُ
الْحِسابُ) : أي يوم يقوم الناس للحساب.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء وقد تضمنت هذه الآيات ذلك ،
فقوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) أي اذكر إذ قال إبراهيم فكيف يذكر ما لم يوح الله تعالى
إليه بذلك ففسر هذا نبوة رسول الله ونزول الوحي إليه ، وقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) إي ذا أمن فيأمن من دخله على نفسه وماله والمراد من البلد
مكة.
وقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ
أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) فيه تقرير للتوحيد الذي هو عبادة الله وحده ومعنى اجنبني
ابعدني أنا وأولادي وأحفادي وقد استجاب الله تعالى له فلم يكن في أولاده وأولاد
أولاده مشرك ، وقوله : (رَبِّ إِنَّهُنَّ
أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) تعليل لسؤاله ربه أن يجنبه وبنيه عبادتها ، واضلال الناس
كان بعبادتهم لها فضلوا في أودية الشرك ، وقوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي) أي من أولادي (فَإِنَّهُ مِنِّي) أي على ملتي وديني ، (وَمَنْ عَصانِي) فلم يتبعنى على ملة الإسلام إن تعذبه فذاك وإن تغفر له ولم
تعذبه (فَإِنَّكَ غَفُورٌ) (رَحِيمٌ) ، وقوله : (رَبَّنا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) أي من بعض ذريتي وهو اسماعيل مع أمه هاجر (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) هو مكة إذ ليس فيها ولا حولها زراعة يومئذ وإلى آماد بعيدة
وأزمنة عديدة (عِنْدَ بَيْتِكَ
الْمُحَرَّمِ) قال هذا بإعلام من الله تعالى له أنه سيكون له بيت في هذا
الوادي ومعنى المحرم أي الحرام وقد حرمه تعالى فمكة حرام إلى يوم القيامة لا يصاد
صيدها ولا يختلي خلاها ولا تسفك فيها دماء ولا يحل فيها قتال ، وقوله : (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) هذا دعاء بأن ييسر الله تعالى عيش سكان مكة ليعبدوا الله
تعالى فيها بإقام الصلاة ، فإن قلوب بعض الناس عند ما تهفوا الى مكة وتميل إلى
الحج والعمرة تكون سببا في نقل الأرزاق والخيرات إلى مكة ، وقوله : (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ
لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) دعاء آخر بأن يرزق الله بنيه من الثمرات ليشكروا الله
تعالى على ذلك فوجود الأرزاق والثمرات موجبة للشكر ، إذ النعم تقتضي
__________________
شكرا ، وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي
وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي
السَّماءِ) أراد به أن ما سأل ربه فيه من كل ما سأل انما هو من باب
إظهار العبودية لله والتخشع لعظمته والتذلل لعزته والافتقار الى ما عنده ، وإلا
فالله أعلم بحاله وما يصلحه هو وبنيه ، وما هم في حاجة إليه لأنه تعالى يعلم كل
شيء ولا يخفى عنه شيء في الأرض ولا في السماء .. وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي
عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ
وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أراد به حمد الله وشكره على ما أنعم به عليه حيث رزقه
اسماعيل واسحق على كبر سنه ، والاعلام بأن الله تعالى سميع دعاء من يدعوه وينيب
إليه ، وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي
مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) أيضا من يقيم الصّلاة ، لأن الصلاة هي علة الحياة كلها إذ
هي الذكر والشكر فمتى أقام العبد الصلاة فأداها بشروطها وأركانها كان من الذاكرين
الشاكرين ، ومتى تركها العبد كان من الناسين الغافلين وكان من الكافرين ، وأخيرا
ألحّ على ربه في قبول دعائه وسأل المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الناس للحساب وذلك يوم القيامة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل مكة
وشرفها وأنها حرم آمن أي ذو أمن.
٢ ـ الخوف من
الشرك لخطره وسؤال الله تعالى الحفظ من ذلك.
٣ ـ علاقة الإيمان
والتوحيد أولى من علاقة الرحم والنسب.
٤ ـ أهمية إقام
الصلاة وأن من لم يرد أن يصلي لا حق له في الغذاء ولذا يعدم إن أصر على ترك
الصلاة.
__________________
٥ ـ بيان استجابة
دعاء ابراهيم عليهالسلام فيما سأل ربه تعالى فيه.
٦ ـ وجوب حمد الله
وشكره على ما ينعم به على عبده.
٧ ـ مشروعية
الاستغفار للنفس وللمؤمنين والمؤمنات.
٨ ـ تقرير عقيدة
البعث والحساب والجزاء.
(وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ
تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ
إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ
يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى
أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ
وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ
مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦))
شرح الكلمات :
(عَمَّا يَعْمَلُ
الظَّالِمُونَ) : أي المشركون من أهل مكة وغيرهم.
(لِيَوْمٍ تَشْخَصُ
فِيهِ الْأَبْصارُ) : أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال.
(مُهْطِعِينَ
مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) : أي مسرعين إلى الداعي الذي دعاهم إلى الحشر ، رافعي
رؤوسهم.
(وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَواءٌ) : أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع.
(نُجِبْ دَعْوَتَكَ) : أي على لسان رسولك فنعبدك ونوحدك ونتبع الرسل.
(ما لَكُمْ مِنْ
زَوالٍ) : أي عن الدنيا إلى الآخرة.
(وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ) : أي مكرت قريش بالنبي صلىاللهعليهوسلم حيث أرادوا قتله
أو حبسه أو نفيه.
(وَإِنْ كانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) : أي لم يكن مكرهم بالذي تزول منه الجبال فإنه تافه لا
قيمة له فلا تعبأ به ولا تلتفت اليه.
معنى الآيات :
في هذا السياق
الكريم تقوية رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحمله على الصبر ليواصل دعوته إلى ربه إلى أن ينصرها الله
تعالى وتبلغ المدى المحدد لها والأيام كانت صعبة على رسول الله وأصحابه لتكالب
المشركين على أذاهم ، وازدياد ظلمهم لهم فقال تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) من قومك إنه إن لم ينزل بهم نقمته ولم يحل بهم عذابه إنما
يريد أن يؤخرهم (لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ
الْأَبْصارُ) أي تنفتح فلا تغمض ولا تطرف لشدة الأهوال وصعوبة الأحوال ،
(مُهْطِعِينَ) أي مسرعين (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي حال كونهم مهطعين مقنعي رؤوسهم أي رافعين رؤوسهم مسرعين
للداعي الذى دعاهم إلى المحشر ، قال تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ
يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا تغمض أعينهم من الخوف (وَأَفْئِدَتُهُمْ) أي قلوبهم (هَواءٌ) أي
__________________
فارغة من الوعي
والادراك لما أصابها من الفزع والخوف ثم أمر تعالى رسوله في الآية (٤٤) بإنذار
الناس مخوفا لهم من عاقبة أمرهم إذا استمروا على الشرك بالله والكفر برسوله وشرعه
، (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ
الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي أشركوا بربهم ، وآذوا عباده المؤمنين (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي يطلبون الإنظار والإمهال (نُجِبْ دَعْوَتَكَ) أي نوحدك ونطيعك ونطيع رسولك ، فيقال لهم : توبيخا وتقريعا
وتكذيبا لهم : (أَوَلَمْ تَكُونُوا
أَقْسَمْتُمْ) أي حلفتم (مِنْ قَبْلُ ما
لَكُمْ مِنْ زَوالٍ) أي أطلبتم الآن التأخير ولم تطلبوه عند ما قلتم ما لنا من
زوال ولا ارتحال من الدنيا الى الآخرة ، (وَسَكَنْتُمْ فِي
مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والمعاصي (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) أي عرفتم (كَيْفَ فَعَلْنا
بِهِمْ) أي بإهلاكنا لهم وضربنا لكم الأمثال في كتبنا وعلى ألسنة
رسلنا فيوبخون هذا التوبيخ ولا يجابون لطلبهم ويقذفون في الجحيم ، وقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي وقد مكر كفار قريش برسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث قرروا حبسه مغللا في السجن حتى الموت أو قتله ، أو
نفيه وعزموا على القتل ولم يستطيعوه (وَعِنْدَ اللهِ
مَكْرُهُمْ) أي علمه وما أرادوا به ، وجزاؤهم عليه ، وقوله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ
مِنْهُ الْجِبالُ) أي ولم يكن مكرهم لتزول منه الجبال فإنه تافه لا وزن له
ولا اعتبار فلا تحفل به أيها الرسول ولا تلتفت ، فإنه لا يحدث منه شيء ، وفعلا قد
خابوا فيه أشد الخيبة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تأخير العذاب
عن الظلمة في كل زمان ومكان لم يكن غفلة عنهم ، وإنما هو تأخيرهم إلى يوم القيامة
أو إلى أن يحين الوقت المحدد لأخذهم.
٢ ـ بيان أهوال
يوم القيامة وصعوبة الموقف فيه حتى يتمنى الظالمون الرجوع الى الدنيا ليؤمنوا
ويطيعوا ويوحدوا ربهم في عبادته.
٣ ـ التنديد
بالظلم وبيان عقاب الظالمين بذكر أحوالهم.
__________________
٤ ـ تقرير جريمة
قريش في ائتمارها على قتل رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ
تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ
(٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ
اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ
لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ
وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))
شرح الكلمات :
(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) : أي غالب لا يحال بينه وبين مراده بحال من الأحوال.
(ذُو انتِقامٍ) : أي صاحب انتقام ممن عصاه وعصى رسوله.
(يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ) : أي اذكر يا رسولنا للظالمين يوم تبدل الأرض.
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ) : أي خرجوا من القبور لله ليحاسبهم ويجزيهم.
(مُقَرَّنِينَ) : أي مشدودة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم.
(فِي الْأَصْفادِ) : الأصفاد جمع صفد وهو الوثاق من حبل وغيره.
(سَرابِيلُهُمْ) : أي قمصهم التي يلبسونها من قطران.
(هذا بَلاغٌ) : أي هذا القرآن بلاغ للناس.
(أُولُوا الْأَلْبابِ) : أصحاب العقول.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين وهم يعانون من صلف المشركين
وظلمهم وطغيانهم
فيقول تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (فَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) إنه كما لم يخلف رسله الأولين لا يخلفك أنت ، إنه لا بد
منجز لك ما وعدك من النصر على أعدائك فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ولا
تستعجل لهم. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) أي غالب لا يغلب غالب على أمره ما يريده لا بد واقع (ذُو انتِقامٍ) شديد ممن عصاه وتمرد على طاعته وحارب أولياءه ، واذكر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ
الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) كذلك (وَبَرَزُوا) أي ظهروا بعد خروجهم من قبورهم في طريقهم إلى المحشر إجابة
منهم لدعوة الداعي وقد برزوا (لِلَّهِ الْواحِدِ
الْقَهَّارِ) ، (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ
يَوْمَئِذٍ) يا رسولنا تراهم (مُقَرَّنِينَ فِي
الْأَصْفادِ) مشدودة أيديهم وارجلهم إلى أعناقهم ، هؤلاء هم المجرمون
اليوم بالشرك والظلم والشر والفساد أجرموا على أنفسهم أولا ثم على غيرهم ثانيا
سواء ممن ظلموهم وآذوهم أو ممن دعوهم إلى الشرك وحملوهم عليه ، الجميع قد أجرموا
في حقهم ، (سَرابِيلُهُمْ) قمصانهم التي على أجسامهم (مِنْ قَطِرانٍ) وهو ما تدهن به الإبل : مادة سوداء محرقة للجسم أو من نحاس
إذ قريء من قطرآن أي من نحاس أحمي عليه حتى بلغ المنتهى في الحرارة (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي وتغطي وجوههم النار بلهبها ، هؤلاء هم المجرمون في
الدنيا بالشرك والمعاصي ، وهذا هو جزاؤهم يوم القيامة ، فعل تعالى هذا بهم (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما
كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) فما بين أن وجدوا في الدنيا وبين أن انتهوا إلى نار جهنم
واستقروا في أتون جحيمها الا كمن دخل
__________________
مع باب وخرج مع
آخر ، وأخيرا يقول تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا
بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا
الْأَلْبابِ) أي هذا القرآن بلاغ للناس من رب الناس قد بلغه إليهم رسول
رب الناس (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي بما فيه من العظات والعبر والعرض لألوان العذاب وصنوف
الشقاء لأهل الإجرام والشر والفساد ، (وَلِيَعْلَمُوا) أي بما فيه من الحجج والدلائل والبراهين (أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي معبود واحد لا ثاني له وهو الله جل جلاله ، فلا يعبدوا
معه غيره إذ هو وحده الرب والإله الحق ، وما عداه فباطل ، (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول المدركة الواعية
فيعملوا على إنجاء أنفسهم من غضب الله وعذابه ، وليفوزوا برحمته ورضوانه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان صدق وعد
الله من وعدهم من رسله وأوليائه.
٢ ـ بيان أحوال
المجرمين في العرض وفي جهنم.
٣ ـ بيان العلة في
المعاد الآخر وهو الجزاء على الكسب في الدنيا.
٤ ـ قوله تعالى في
آخر آية من هذه السورة : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ
وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُوا الْأَلْبابِ) هذه الآية صالحة لأن تكون عنوانا للقرآن الكريم إذ دلت على مضمونه كاملا مع وجازة اللفظ
وجمال العبارة ، والحمد لله أولا وآخرا.
__________________
الجزء
الرابع عشر
سورة الحجر
مكية
وآياتها
تسع وتسعون
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الر تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا
مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ
فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ
مَعْلُومٌ (٤))
(ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))
شرح الكلمات :
(الر) : الله أعلم بمراده بذلك ، تكتب آلر. ويقرأ : ألف ، لام ،
را.
(تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) : الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف المقطعة تلك آيات
الكتاب أي القرآن.
(يَوَدُّ) : يحب ويرغب متمنّيا أن لو كان من المسلمين.
(وَيَتَمَتَّعُوا) : أي بالملذات والشهوات.
(وَيُلْهِهِمُ
الْأَمَلُ) : أي بطول العمر وبلوغ الأوطار وإدراك الرغائب الدنيوية.
(إِلَّا وَلَها كِتابٌ
مَعْلُومٌ) : أي أجل محدود لإهلاكها.
(ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها) : أي لا يتقدم أجلها المحدد لها ومن زائدة للتأكيد.
معنى الآيات :
بما أن السورة
مكية فإنها تعالج قضايا العقيدة وأعظمها التوحيد والنبوة والبعث. قوله تعالى : (الر) : الله أعلم بمراده به ، ومن فوائد هذه الحروف المقطعة
تنبيه السامع وشده بما يسمع من التلاوة ، إذ كانوا يمنعون سماعه خشية التأثر به ،
فكانت هذه الفواتح التى لم يألفوا مثلها في كلامهم تشدهم إلى سماع ما بعدها من
القرآن. وقوله : (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) من الجائز القول : الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف الر ،
آلم ، طس ، حم عسق. (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) المبين : المبين للحق والباطل والهدى والضلال وقوله تعالى
: (رُبَما يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) : يخبر تعالى أن يوما سيأتي هو يوم القيامة عند ما يرى
الكافر المسلمين يدخلون الجنة ويدخل هو النار يود يومئذ متمنيا أن لو كان من المسلمين. وقد يحدث الله تعالى ظروفا في الدنيا وأمورا
يتمنى الكافر فيها لو كان من المسلمين. وقوله تعالى : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا
وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي اتركهم يا رسولنا ، أي اترك الكافرين يأكلوا ما شاءوا
من الأطعمة ، ويتمتعوا بما حصل لهم من الشهوات والملذات ، ويلههم الأمل عن التفكير
في عاقبة أمرهم. إذ همهم طول أعمارهم ، وتحقيق أوطارهم ، فسوف يعلمون إذا ردّوا
إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون أنهم كانوا في الدنيا مخطئين
بإعراضهم عن الحق ودعوة الحق والدين الحق وقوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ
قَرْيَةٍ) أي من أهل قرية بعذاب الإبادة والاستئصال (إِلَّا وَلَها كِتابٌ) ، أي لها أجل مكتوب في كتاب محدد اليوم والساعة. وقوله : (.. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها
وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي بناء على كتاب المقادير فإن أمة كتب الله هلاكها لا
يمكن أن يتقدم هلاكها قبل ميقاته المحدد ، ولا أن يستأخر عنه ولو ساعة. وفي هذا
تهديد وتخويف لأهل مكة وهم يحاربون دعوة الحق ورسول الحق لعل قريتهم قد كتب لها
كتاب وحدد لها أجل وهم لا يشعرون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ القرآن الكريم
مبين لكل ما يحتاج إليه في إسعاد الإنسان وإكماله.
__________________
٢ ـ إنذار
الكافرين وتحذيرهم من مواصلة كفرهم وحربهم للإسلام فإن يوما سيأتي يتمنون فيه أن
لو كانوا مسلمين.
٣ ـ تقرير عقيدة
القضاء والقدر فما من شيء إلا وسبق به علم الله وكتبه عنده في كتاب المقادير
الحياة كالموت ، والربح كالخسارة ، والسعادة كالشقاء ، جميع ما كان وما هو كائن
وما سيكون سبق به علم الله وكتب في اللوح المحفوظ.
(وَقالُوا يا أَيُّهَا
الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ
الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (١١))
شرح الكلمات :
(نُزِّلَ عَلَيْهِ
الذِّكْرُ) : أي القرآن الكريم.
(لَوْ ما تَأْتِينا
بِالْمَلائِكَةِ) : أي هلا تأتينا بالملائكة تشهد لك أنك نبي الله.
(وَما كانُوا إِذاً
مُنْظَرِينَ) : أي ممهلين ، بل يأخذهم العذاب فور نزول الملائكة.
(إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) : أي القرآن.
(فِي شِيَعِ
الْأَوَّلِينَ) : أي في فرق وطوائف الأولين.
معنى الآيات :
قوله تعالى (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ
عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي قال الكافرون المنكرون للوحي والنبوة (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) أي غير عاقل وإلا لما ادعيت النبوة. وفي قولهم هذا استهزاء
ظاهر بالرسول صلىاللهعليهوسلم وهو ثمرة ظلمة الكفر التي في قلوبهم وقوله : (لَوْ ما تَأْتِينا) (بِالْمَلائِكَةِ) لو ما هنا بمعنى هلا التحضيضيه أي هلا تأتينا بالملائكة
نراهم عيانا يشهدون لك بأنك رسول الله (إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) في دعواك النبوة والرسالة فأت بالملائكة تشهد لك. قال
تعالى (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ
إِلَّا بِالْحَقِ) أي نزولا ملتبسا بالحق. أي لا تنزل الملائكة إلا لإحقاق
الحق وإبطال الباطل لا لمجرد تشهي الناس ورغبتهم ولو نزلت الملائكة ولم يؤمنوا
لنزل بهم العذاب فورا (وَما كانُوا إِذاً
مُنْظَرِينَ) أي ممهلين بل يهلكون في الحال. وقوله تعالى في الآية (٩) (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي القرآن (وَإِنَّا لَهُ
لَحافِظُونَ) أي من الضياع ومن الزيادة والنقصان لأنه حجتنا على خلقنا إلى يوم القيامة. أنزلنا الذكر هدى ورحمة وشفاء
ونورا. هم يريدون العذاب والله يريد الرحمة. مع أن القرآن نزلت به الملائكة ،
والملائكة إن نزلت ستعود الى السماء ولم يبق ما يدل على الرسالة إلا القرآن ولكن
القوم لا يريدون أن يؤمنوا وليسوا في ذلك الكفر والعناد وحدهم بل سبقتهم طوائف وأمم
أرسل فيهم فكذبوا وجاحدوا وهو قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي في فرقهم وأممهم (وَما يَأْتِيهِمْ
مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) لأن علة المرض واحدة إذا فلا تيأس يا رسول الله ولا تحزن بل
اصبر وانتظر وعد الله لك بالنصر فإن وعده حق : (كَتَبَ اللهُ
لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي! إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ما كان
يلقاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم من استهزاء وسخرية من المشركين.
٢ ـ مظهر من مظاهر
رحمة الله بالإنسان ، يطلب نزول العذاب والله ينزل الرحمة.
٣ ـ بيان حفظ الله
تعالى للقرآن الكريم من الزيادة والنقصان ومن الضياع.
٤ ـ بيان سنة الله
تعالى في الأمم والشعوب وهي أنهم ما يأتيهم من رسول ينكر عليهم مألوفهم ويدعوهم
إلى جديد من الخير والهدى إلا وينكرون ويستهزئون.
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ
فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا
فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ
مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها
لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))
شرح الكلمات :
(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) : أي التكذيب بالقرآن أو النبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) : أي مضت سنة الأمم السابقة.
(فَظَلُّوا فِيهِ
يَعْرُجُونَ) : أي يصعدون.
(إِنَّما سُكِّرَتْ) : أي سدت كما يسكّر النهر أو الباب.
(فِي السَّماءِ
بُرُوجاً) : أي كواكب ينزلها الشمس والقمر.
(شَيْطانٍ رَجِيمٍ) : أي مرجوم بالشهب.
(شِهابٌ مُبِينٌ) : كوكب يرجم به الشيطان يحرقه أو يمزقه أو يخبله أي يفسده.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
المكذبين للنبي المطالبين بنزول الملائكة لتشهد للرسول بنبوته حتى يؤمنوا بها. قال
تعالى : (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) أي التكذيب في قلوب المجرمين من قومك ، كما سلكناه حسب
سنتنا في قلوب من كذبوا الرسل من قبلك فسلكه (فِي قُلُوبِ
الْمُجْرِمِينَ) من قومك فلا يؤمنون بك ولا بالذكر الذي أنزل عليك. وقوله
تعالى : (وَقَدْ خَلَتْ
سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي مضت وهي تعذيب المكذبين للرسل المستهزئين بهم لأنهم لا يؤمنون
حتى يروا العذاب الأليم. وقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا
عَلَيْهِمْ باباً
مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا) أي الملائكة أو المكذبون (فِيهِ) أي في ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) أي يصعدون طوال النهار طالعين هابطين ولقالوا في المساء (إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي منعت من النظر
الحقيقي فلم نر الملائكة ولم نرى السماء (بَلْ نَحْنُ) (قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) فأصبحنا نرى أشياء لا حقيقية لها ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي كواكب هي منازل للشمس والقمر ينزلان بها وعلى مقتضاها يعرف عدد
السنين والحساب. وقوله : (زَيَّنَّاها) أي السماء بالنجوم (لِلنَّاظِرِينَ) فيها من الناس. وقوله : (وَحَفِظْناها) أي السماء الدنيا (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ) أي مرجوم ملعون. وقوله : (إِلَّا مَنِ
اسْتَرَقَ السَّمْعَ) إلا مارد من الشياطين طلع إلى السماء لاستراق السمع من
الملائكة لينزل بالخبر إلى وليه من الكهان من الناس (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) من نار (مُبِينٌ) أي يبين أثره في الشيطان إما بإخباله وإفساده وإما
بإحراقه. هذه الآيات وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا
__________________
فِي
السَّماءِ بُرُوجاً) إلى آخر ما جاء في هذا السياق الطويل ، القصد منه إظهار
قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته وكلها مقتضية لإرسال الرسول وإنزال الكتاب
لهداية الناس إلى عبادة ربهم وحده عبادة يكملون عليها ويسعدون في الدنيا والآخرة ،
ولكن المكذبين لا يعلمون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سنة الله
تعالى في المكذبين المعاندين وهي أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم.
٢ ـ مطالبة
المكذبين المجرمين بالآيات كرؤية الملائكة لا معنى لها إذ القرآن أكبر آية ولم
يؤمنوا به فلذا لو فتح باب من السماء فظلوا فيه يعرجون لما آمنوا.
٣ ـ بيان مظاهر
قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ورحمته فيما حملت الآيات من مظاهر لذلك ، بدءا من
قوله : (وَلَقَدْ جَعَلْنا
فِي السَّماءِ بُرُوجاً) إلى الآية السابعة والعشرين من هذا السياق الكريم.
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ
(٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ
بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ
__________________
بِخازِنِينَ
(٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ
عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ
(٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))
شرح الكلمات :
(وَالْأَرْضَ
مَدَدْناها) : أي بسطناها.
(وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) : أي جبالا ثوابت لئلا تتحرك الأرض.
(مَوْزُونٍ) : أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى.
(مَعايِشَ) : جمع معيشة أي ما يعيش عليه الإنسان من الأغذية.
(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ
بِرازِقِينَ) : كالعبيد والإماء والبهائم.
(وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) : أي المطر.
(وَأَرْسَلْنَا
الرِّياحَ لَواقِحَ) : أي تلقح السحاب فيمتلىء ماء ، كما تنقل مادة اللقاح من
ذكر الشجر إلى أنثاه.
(وَما أَنْتُمْ لَهُ
بِخازِنِينَ) : أي لا تملكون خزائنة فتمنعونه أو تعطونه من تشاءون.
المستقدمين منكم
والمستأخرين : أي من هلكوا من بني آدم إلى يومكم هذا والمستأخرين ممن هم أحياء
وممن لم يوجدوا بعد إلى يوم القيامة.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وهي موجبات الإيمان به وعبادته وتوحيده
والتقرب إليه بفعل محابه وترك مساخطه . قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها
رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت تثبت الأرض حتى لا
__________________
تتحرك أو تميد
بأهلها فيهلكوا ، (وَأَنْبَتْنا فِيها
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي مقدر معلوم المقدار لله تعالى. وقوله : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) عليها تعيشون وهي أنواع الحبوب والثمار وغيرها ، وقوله : (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) بل الله تعالى هو الذي يرزقه وإياكم من العبيد والإماء
والبهائم. وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي ما من شيء نافع للبشرية هي في حاجة إليه لقوام حياتها
عليه إلا عند الله خزائنه ، ومن ذلك الأمطار ، لكن ينزله بقدر معلوم حسب حاجة
المخلوقات وما تتوقف عليه مصالحها ، وهو كقوله : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكقوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما
يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)
وقوله : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) أي تلقح السحاب فتمتلىء ماء ، (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) بقدرتنا وتدبيرنا (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي لا تملكون خزائنه فتمنعونه من تشاءون وتعطونه من تشاءون
بل الله تعالى هو المالك لذلك ، فينزله على أرض قوم ويمنعه آخرين. وقوله : (إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ
وَنَحْنُ الْوارِثُونَ ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) (مِنْكُمْ) أي الذين ماتوا من لدن آدم (وَلَقَدْ عَلِمْنَا
الْمُسْتَأْخِرِينَ) ممن هم أحياء ومن لم يوجدوا وسيوجدون ويموتون إلى يوم
القيامة ، الجميع علمهم الله ، وغيره لا يعلم فلذا استحق العبادة وغيره لا
يستحقها. وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ) أيها الرسول (هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي إليه يوم القيامة ليحاسبهم ويجازيهم ، وهذا متوقف على
القدرة والحكمة والعلم ، والذي أحياهم ثم أماتهم قادر على إحيائهم مرة أخرى والذي
علمهم قبل خلقهم وعلمهم بعد خلقهم
__________________
قادر على حشرهم
والحكيم الذى يضع كل شيء في موضعه لا يخلقهم عبثا بل خلقهم ليبلوهم ثم ليحاسبهم
ويجزيهم إنه هو الحكيم العليم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان مظاهر
قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته المتجلية فيما يلى :
أ ـ خلق الأرض
ومدّها وإلقاء الجبال فيها. إرسال الرياج لواقح للسحب.
ب ـ إنبات
النباتات بموازين دقيقة. إحياء المخلوقات ثم إماتتها.
ج ـ إنزال المطر
بمقادير معينة. علمه تعالى بمن مات ومن سيموت.
٢ ـ تقرير التوحيد
أن من هذه آثار قدرته هو الواجب أن يعبد وحده دون سواه.
٣ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٤ ـ تقرير نبوة
الرسول صلىاللهعليهوسلم إذ هذا الكلام كلام الله أوحاه إليه صلىاللهعليهوسلم.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ
مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي
خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ
مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ
السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ
صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣))
شرح الكلمات :
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ) : أي آدم عليهالسلام.
(مِنْ صَلْصالٍ مِنْ
حَمَإٍ مَسْنُونٍ) : أي طين يابس له صلصلة من حمإ أي طين أسود متغير.
(مِنْ نارِ السَّمُومِ) : نار لا دخان لها تنفذ في المسام وهي ثقب الجلد البشري.
(فَإِذا سَوَّيْتُهُ) : أي أتممت خلقه.
(فَقَعُوا لَهُ
ساجِدِينَ) : أي خرّوا له ساجدين.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته. قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) أي آدم (مِنْ صَلْصالٍ) أي طين يابس يسمع له صوت صلصلة. (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) أي طين أسود متغير الريح ، هذا مظهر من مظاهر القدرة
والعلم. وقوله : (وَالْجَانَّ
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) من قبل خلق آدم والجان هو أبو الجن خلقناه (مِنْ نارِ السَّمُومِ) ونار السموم نار لا دخان لها تنفذ في مسام الجسم .. وقوله
: (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) أي اذكر يا رسولنا إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم أي
سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة لآدم ، إذ المعبود هو الآمر المطاع وهو الله
تعالى. فسجدوا (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) أي امتنع أن يكون مع الساجدين. وقوله : (قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا
تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) أي أي شيء حصل لك حتى امتنعت أن تكون من جملة الساجدين من
الملائكة؟ فأظهر اللعين سبب امتناعه وهو حسده لآدم واستكباره ، فقال (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ
خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ). وفي الآيات التالية جواب الله تعالى ورده عليه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أصل خلق
الإنسان وهو الطين ، والجان وهو لهب النار.
٢ ـ فضل السجود ،
إذ أمر تعالى به الملائكة فسجدوا أجمعون إلا إبليس.
__________________
٣ ـ ذم الحسد وأنه
شر الذنوب وأكثرها ضررا.
٤ ـ ذم الكبر وأنه
عائق لصاحبه عن الكمال في الدنيا والسعادة في الآخرة.
٥ ـ فضل الطين على
النار لأن من الطين خلق آدم ومن النار خلق إبليس.
(قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ
(٣٥) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) قالَ هذا صِراطٌ
عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ
مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ
(٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))
شرح الكلمات :
(قالَ فَاخْرُجْ
مِنْها) : أي من الجنة.
(فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) : أي مرجوم مطرود ملعون.
(إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) : أي وقت النفخة الأولى التي تموت فيها الخلائق كلها.
(بِما أَغْوَيْتَنِي) : أي بسبب إغوائك لي أي إضلالك وإفسادك لي.
(الْمُخْلَصِينَ) : أي الذين استخلصتهم لطاعتك فإن كيدي لا يعمل فيهم.
(هذا صِراطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ) : أي هذا طريق مستقيم موصل إليّ وعليّ مراعاته وحفظه.
(لَها سَبْعَةُ
أَبْوابٍ) : أي أبواب طبقاتها السبع التي هي جهنم ، ثم لظى ، ثم
الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (فَاخْرُجْ مِنْها) هذا جواب عن قول إبليس ، (لَمْ أَكُنْ
لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ). الآية إذا فاخرج منها أي من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي مرجوم مطرود مّبعد ، (وَإِنَّ عَلَيْكَ) لعنتي أي غضبي وإبعادي لك من السموات (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) أي إلى يوم القيامة وهو يوم الجزاء. فقال اللعين ما أخبر
تعالى به عنه : (قالَ رَبِّ
فَأَنْظِرْنِي) أي أمهلني لا تمتني (إِلى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ)
فأجاب الرب تعالى
بقوله : (فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ) أي الممهلين (إِلى يَوْمِ
الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) وهو فناء بني آدم حيث لم يبق منهم أحد وذلك عند النفخة
الأولى. فلما سمع اللعين ما حكم به الرب تعالى عليه قال ما أخبر الله عنه بقوله : (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) أي بسبب إغوائك (لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) أي الكفر والشرك وكبائر الذنوب ، و (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) أي لأضلنّهم (أَجْمَعِينَ إِلَّا
عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) فاستثنى اللعين من استخلصهم الله تعالى لطاعته وأكرمهم
بولايته وهم الذين لا يستبدّ بهم غضب ولا تتحكم فيهم شهوة ولا هوى. وقوله تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) أي هذا طريق مستقيم إليّ أرعاه وأحفظه وهو (إِنَّ عِبادِي) (لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (وَإِنَّ جَهَنَّمَ) لموعدك وموعد أتباعك الغاوين أجمعين (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) إذ هي سبع طبقات لكل طبقة باب فوقها يدخل معه أهل تلك
الطبقة ، وهو معنى قوله تعالى : (لِكُلِّ بابٍ
مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) أي نصيب معين وطبقاتها هي : جهنم ، لظى ، الحطمة ، السعير
، سقر ، الجحيم ، الهاوية.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمان إبليس
من التوبة لاستمرار غضب الله عليه إلى يوم القيامة.
٢ ـ استجاب الله
لشر خلقه وهو إبليس فمن الجائز ان يستجيب الله دعاء الكافر لحكمة يريدها الله
تعالى.
__________________
٣ ـ أمضى سلاح
يغوي به إبليس بني آدم هو التزين للأشياء حتى ولو كانت دميمة قبيحه يصيرها بوسواسه
زينة حسنة حتى يأتيها الآدمي.
٤ ـ عصمة الرسل
وحفظ الله للأولياء حتى لا يتلوثوا بأوضار الذنوب.
٥ ـ طريق الله
مستقيم إلى الله تعالى يسلكه الناس حتى ينتهوا إلى الله سبحانه فيحاسبهم ويجزيهم
بكسبهم الخير بالخير والشر بالشر.
٦ ـ بيان أن لجهنم
طبقات واحدة فوق أخرى ولكل طبقة بابها فوقها يدخل معه أهل تلك الطبقة لا غير.
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ
فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا
سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ
الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ
مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ
الضَّالُّونَ (٥٦))
شرح الكلمات :
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ) : أي الذين خافوا ربهم فعبدوه وحده بما شرع لهم من
العبادات.
(وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) : أي حقد وحسد وعداوة وبغضاء.
(عَلى سُرُرٍ
مُتَقابِلِينَ) : أي ينظر بعضهم إلى بعض ما داموا جالسين وإذا انصرفوا
دارت بهم الأسرة فلا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.
(لا يَمَسُّهُمْ فِيها
نَصَبٌ) : أي تعب.
(الْعَذابُ الْأَلِيمُ) : أي الموجع شديد الإيجاع.
(ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) : هم ملائكة نزلوا عليه وهم في طريقهم إلى قوم لوط
لإهلاكهم كان من بينهم جبريل وكانوا فى صورة شباب من الناس.
(إِنَّا مِنْكُمْ
وَجِلُونَ) : أي خائفون وذلك لمّا رفضوا أن يأكلوا.
(بِغُلامٍ عَلِيمٍ) : أي بولد ذي علم كثير هو إسحق عليهالسلام.
(فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) : أي تعجّب من بشارتهم مع كبره بولد.
(مِنَ الْقانِطِينَ) : أي الآيسين.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى
جزاء اتباع إبليس الغاوين ، ناسب ذكر جزاء عباد الرحمن أهل التقوى والإيمان فقال
تعالى مخبرا عما أعد لهم من نعيم مقيم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) أي الله بترك الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ) يقال لهم (ادْخُلُوها بِسَلامٍ
آمِنِينَ) أي حال كونكم مصحوبين بالسلام آمنين من الخوف والفزع. وقوله
: (وَنَزَعْنا ما فِي
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي لم يبق الله تعالى في صدور أهل الجنة ما ينغص نعيمها ،
أو يكدر صفوها كحقد أو حسد أو عداوة أو شحناء. وقوله : (إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) لما طهر صدورهم مما
__________________
من شأنه أن ينغص
أو يكدر ، أصبحوا في المحبة لبعضهم بعضا إخوانا يضمهم مجلس واحد يجلسون فيه على
سرر متقابلين وجها لوجه ، وإذا أرادوا الإنصراف إلى قصورهم تدور بهم الأسرة فلا
ينظر أحدهم إلى قفا أخيه. وقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها
نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) فيه الإخبار بنعيمين : نعيم الراحة الأبدية إذ لا نصب ولا
تعب في الجنة ونعيم البقاء والخلد فيها إذ هم لا يخرجون منها أبدا. وفي هذا تقرير
لمعتقد البعث والجزاء بأبلغ عبارة وأوضحها. وقوله تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي
أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي خبر يا رسولنا عبادنا المؤمنين الموحدين أن ربهم غفور
لهم إن عصوه وتابوا من معصيتهم. رحيم بهم فلا يعذبهم. (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ
الْأَلِيمُ) ونبئهم أيضا أن عذابى هو العذاب الأليم فليحذروا معصيتي
بالشرك بي ، أو مخالفة أوامري وغشيان محارمي. وقوله تعالى : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ . إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا
سَلاماً) أي سلموا عليه فرد عليهمالسلام وقدم لهم قرى الضيف وكان عجلا حنيذا ، كما تقدم في هود
وعرض عليهم الأكل فامتنعوا وهنا قال : (إِنَّا مِنْكُمْ
وَجِلُونَ) أي خائفون ، وكانوا جبريل وميكائيل وإسرافيل في صورة لشباب
حسان. فلما أخبرهم بخوفه منهم ، لأن العادة أن النازل على الإنسان إذا لم يأكل
طعامه دل ذلك على أنه يريد به سوء. (قالُوا لا تَوْجَلْ) أي لا تخف ، (إِنَّا نُبَشِّرُكَ
بِغُلامٍ عَلِيمٍ) أي بولد ذي علم كثير. فرد إبراهيم قائلا بما أخبر تعالى
عنه بقوله : (قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي
عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ
فَبِمَ) (تُبَشِّرُونَ) أي هذه البشارة بالولد على كبر سني أمر عجيب ، فلما تعجب
من البشارة وظهرت عليه علامات الشك والتردد في صحة الخبر قالوا له : (بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ
فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ) أي
__________________
الآيسين. وهنا رد
عليهم قائلا نافيا القنوط عنه لأن القنوط حرام. (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ
رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) أي الكافرون بقدرة الله ورحمته لجهلهم بربهم وصفاته
المتجلية في رحمته لهم وإنعامه عليهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نعيم
الجنة ، وأن نعيمها جسماني روحاني معا دائم أبدا.
٢ ـ صفاء نعيم
الجنة من كل ما ينغصه أو يكدره.
٣ ـ وعد الله
بالمغفرة لمن تاب من أهل الإيمان والتقوى من موحديّه.
٤ ـ وعيده لأهل
معاصيه إذا لم يتوبوا إليه قبل موتهم.
٥ ـ مشروعية
الضيافة وأنها من خلال البر والكرم.
٦ ـ حرمة القنوط
واليأس من رحمة الله تعالى.
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ
أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ
(٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ
الْمُرْسَلُونَ (٦١))
(قالَ إِنَّكُمْ
قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣)
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ
مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ
دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦))
شرح الكلمات :
(قالَ فَما خَطْبُكُمْ) : أي ما شأنكم؟
(إِلى قَوْمٍ
مُجْرِمِينَ) : هم قوم لوط عليهالسلام.
(إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ) : أي لإيمانهم وصالح أعمالهم.
(الْغابِرِينَ) : أي الباقين في العذاب.
(قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) : أي لا أعرفكم.
(بِما كانُوا فِيهِ
يَمْتَرُونَ) : أي بالعذاب الذي كانوا يشكون في وقوعه بهم
(حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) : أي إلى الشام حيث أمروا بالخروج إليه.
(وَقَضَيْنا إِلَيْهِ
ذلِكَ الْأَمْرَ) : أي فرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ، وأوحينا إليه أن دابر
هؤلاء مقطوع مصبحين.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن ضيف إبراهيم ، وها هو ذا قد سألهم بما أخبر به تعالى عنه بقوله : (قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا
الْمُرْسَلُونَ) أي ما شأنكم أيها المرسلون من قبل الله تعالى إذ هم
ملائكته؟ (قالُوا إِنَّا
أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) أي على أنفسهم ، وعلى غيرهم وهم اللوطيون لعنهم الله. وقوله
تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) أي آل بيته والمؤمنين معه ، (إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا) أي قضينا (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) أي الباقين في العذاب ، أي قضى الله وحكم بإهلاكها في جملة
من يهلك لأنها كافرة مثلهم. إلى هنا انتهى الحديث مع إبراهيم وانتقلوا الى مدينة
لوط عليهالسلام قال تعالى (فَلَمَّا جاءَ آلَ
لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) أي انتهوا إليهم ودخلوا عليهم الدار قال لوط عليهالسلام لهم (إِنَّكُمْ قَوْمٌ
مُنْكَرُونَ) أي لا أعرفكم وأجابوه قائلين : نحن رسل ربك جئناك بما كان
قومك فيه يمترون أي يشكون وهو عذابهم العاجل جزاء كفرهم وإجرامهم ، (وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ) الثابت الذى لا شك فيه (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرناك به وهو عذاب قومه المجرمين.
__________________
وعليه (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ) أي أسر بهم في جزء من الليل ، و (اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ) أي امش وراءهم وهم أمامك (وَلا يَلْتَفِتْ
مِنْكُمْ أَحَدٌ) بأن ينظر وراءه ، أي حتى لا يرى ما يسوءه عند نزول العذاب بالمجرمين ، وقوله (وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) أي يأمركم ربكم وقد أمروا بالذهاب إلى الشام. وقوله تعالى
: (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ
ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) أي وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ، وأوحينا إليه أن دابر
هؤلاء مقطوع مصبحين ، أي أنهم مهلكون عن آخرهم في الصباح الباكر ما أن يطلع الصباح
حتى تقلب بهم الأرض ويهلكوا عن آخرهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التنديد
بالإجرام وبيان عقوبة المجرمين.
٢ ـ لا قيمة للنسب
ولا للمصاهرة ولا عبرة بالقرابة إذا فصل الكفر والإجرام بين الأنساب والأقرباء
فامرأة لوط هلكت مع الهالكين ولم يشفع لها أنها زوجة نبي ورسول عليهالسلام.
٣ ـ مشروعية المشي
بالليل لقطع المسافات البعيدة.
٤ ـ مشروعية مشي
المسئول وكبير القوم وراء الجيش والقافلة لتفقد أحوالهم ، والاطلاع على من يتخلف
منهم لأمر ، وكذا كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يفعل.
٥ ـ كراهية
الإشفاق على الظلمة الهالكين ، لقوله : ولا يلتفت منكم أحد أى : بقلبه.
(وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ
(٦٨) وَاتَّقُوا
__________________
اللهَ
وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ
هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣)
فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ
(٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ
مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ
مُبِينٍ (٧٩))
شرح الكلمات :
(وَجاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) : أي مدينة سدوم ، أي فرحين بإتيانهم الفاحشة.
(وَاتَّقُوا اللهَ
وَلا تُخْزُونِ) : أي لا تذلوني في انتهاك حرمة ضيفي.
(أَوَلَمْ نَنْهَكَ
عَنِ الْعالَمِينَ) : أي عن إجارتك لهم واستضافتك.
(لَفِي سَكْرَتِهِمْ
يَعْمَهُونَ) : أي غوايتهم ، وشدة غلّمتهم التي أزالت عقولهم ، يترددون.
(مُشْرِقِينَ) : أي وقت شروق الشمس.
(مِنْ سِجِّيلٍ) : أي طين طبخ بالنار.
(لَآياتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ) : أي الناظرين المعتبرين.
(لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) : أي طريق قريش إلى الشام مقيم دائم ثابت.
(أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : أي قوم شعيب عليهالسلام ، والأيكة غيضة شجر بقرب مدين.
(وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) : أي قوم لوط ، وأصحاب الأيكة لبطريق مبين واضح.
معنى الآيات :
ما زال السياق مع
لوط عليهالسلام وضيفه من الملائكة من جهة ، وقوم لوط من جهة.
__________________
قال تعالى : (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) أي مدينة سدوم وأهلها سكانها من اللوطيين ، وقوله (يَسْتَبْشِرُونَ) أي فرحين مسرورين لطمعهم في اتيان الفاحشة. فقال لهم لوط
ما أخبر الله تعالى به : (قالَ إِنَّ هؤُلاءِ) يشير إلى الملائكة (ضَيْفِي فَلا
تَفْضَحُونِ) أي فيه أي بطلبكم الفاحشة ، (وَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوه (وَلا تُخْزُونِ) أي تهينوني وتذلوني. فأجابوا بما أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ
الْعالَمِينَ) أي أتقول ما تقول ولم تذكر أنا نهيناك عن استضافة أحد من
الناس أو تجيره ، فأجابهم لوط عليهالسلام بما أخبر تعالى به عنه : (قالَ هؤُلاءِ بَناتِي
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي هؤلاء بناتي فتزوجوهن إن كنتم فاعلين ما آمركم به أو
أرشدكم إليه. وقوله تعالى : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) أي وحياتك يا رسولنا ، إنهم أي قوم لوط (لَفِي سَكْرَتِهِمْ) غوايتهم التي أذهبت عقولهم فهبطوا إلى درك أسفل من درك
الحيوان ، (يَعْمَهُونَ) أي حيارى يترددون. (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ) أي صيحة جبريل عليهالسلام مشرقين مع إشراق الشمس. وقوله تعالى (فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) أي جعلنا عالي المدن سافلها وهو قلبها ظهرا على بطن ، (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ) فوق ذلك (حِجارَةً مِنْ
سِجِّيلٍ) أي من طين مطبوخ بالنار .. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ
لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي إن في ذلك المذكور من تدمير مدن كاملة بما فيها لآيات
وعبر وعظات للمتوسمين أي الناظرين نظر تفكر وتأمل لمعرفة الأشياء بسماتها
وعلاماتها. وقوله تعالى : (وَإِنَّها
لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ) أي وإن تلك القرى الهالكة لبطريق ثابت باق يمر به أهل مكة
فى أسفارهم إلى الشام. وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي لعبرة للمؤمنين فلا يقدمون على محارم الله ، ولا
يرتكبون معاصيه. وقوله تعالى : (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ). هذه إشارة خاطفة إلى قصة شعيب عليهالسلام مع قومه أصحاب الأيكة ، والأيكة الفيضة من الشجر الملتف ..
وكانت منازلهم
__________________
بها وكانوا مشركين
وهو الظلم في قوله (وَإِنْ كانَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ) لأنفسهم بعبادة غير الله تعالى ، وقوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي أهلكناهم بحر شديد يوم الظله وسيأتي الحديث عنهم في
سورة الشعراء قال تعالى هناك فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم. وقوله
: (وَإِنَّهُما
لَبِإِمامٍ مُبِينٍ) الإمام الطريق لأن الناس يمشون فيه وهو أمامهم ، ومبين
واضح. والضمير في قوله وإنهما عائد على قوم لوط ، وقوم شعيب وهم أصحاب الأيكة لا
أصحاب مدين لأنه أرسل إلى أصحاب الأيكة والى أهل مدين ، والطريق طريق قريش إلى
الشام ، والقصد من ذكر هذا وعظ قريش وتذكرهم ، فهل يتعظون ويتذكرون؟
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان إهلاك
قوم لوط.
٢ ـ إنكار الفاحشة
وأنها أقبح فاحشة تعرفها الإنسانية هي إتيان الذكور.
٣ ـ بيان دفاع لوط
عليهالسلام عن ضيفه حتى فداهم ببناته.
٤ ـ شرف النبي صلىاللهعليهوسلم حيث أقسم الله تعالى بحياته في قوله (لَعَمْرُكَ).
٥ ـ الحث على نظر
التفكر والإعتبار والتفرس فإنه أنفع للعقل البشري.
٦ ـ بيان نقمة
الله تعالى من الظالمين للاعتبار والإتعاظ.
٧ ـ تقرير نبوة
الرسول صلىاللهعليهوسلم إذ مثل هذه الأخبار لن تكون إلا عن وحي إلهي.
(وَلَقَدْ كَذَّبَ
أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها
مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ (٨٤)
__________________
وَما
خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ
السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ
أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ
(٨٨))
شرح الكلمات :
(أَصْحابُ الْحِجْرِ) : هم قوم صالح ومنازلهم بين المدينة النبوية والشام.
(وَآتَيْناهُمْ
آياتِنا) : أي في الناقة وهي أعظم آية.
(فَما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يَكْسِبُونَ) : من بناء الحصون وجمع الأموال.
(الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) : أي أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه وهذا قبل الأمر بقتالهم
(سَبْعاً مِنَ
الْمَثانِي) : هي آيات سورة الفاتحة السبع.
(أَزْواجاً مِنْهُمْ) : أي أصنافا من الكفار.
(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) : أي ألن جانبك للمؤمنين.
معنى الآيات :
هذا شروع في موجز
قصة أخرى هي قصة أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) وفي هذا موعظة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ كذبه قومه من أهل مكة فليصبر على تكذيبهم فقد كذبت
قبلهم أقوام. وقال تعالى (الْمُرْسَلِينَ) ولم يكذبوا إلا صالحا باعتبار أن من كذب رسولا فقد كذب
عامة الرسل ، لأن دعوة الرسل واحدة وهي أن يعبد الله وحده بما شرع لإكمال الإنسان
وإسعاده في
__________________
الحالتين. وقوله (وَآتَيْناهُمْ آياتِنا
فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) إن المراد من الآيات القائمة بالناقة منها أنها خرجت من
صخرة ، وأنها تشرب ماء البلد يوما ، وأنها تقف أمام كل بيت ليحلب أهله منها ما
شاءوا ، وإعراضهم عنها ، عدم إيمانهم وتوبتهم إلى الله تعالى بعد أن آتاهم ما
طلبوا من الآيات. وقوله (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً) أي كانوا يتخذون بالنحت بيوتا داخل الجبال يسكنوها شتاء
آمنين من أن تسقط عليهم لقوتها ومن أن ينالهم برد أو حر لوقايتها لهم ، وقوله
تعالى (فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ) وذلك صيحة اليوم الرابع وهو يوم السبت فهلكوا أجمعين ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا
يَكْسِبُونَ) من المال والعتاد وبناء الحصون بل هلكوا ولم ينج منهم أحد إلا من آمن وعمل صالحا فقد نجاه
الله تعالى مع نبيه صالح عليهالسلام. وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا من أجل أن أذكر وأشكر ، فلذا من كفر بي فلم يذكرني
وعصاني فلم يشكرني أهلكته. لأني لم أخلق هذا الخلق العظيم لهوا وباطلا وعبثا.
وقوله : (وَإِنَّ السَّاعَةَ
لَآتِيَةٌ) أي حتما لا محالة وثمّ يجزي كل بما كسب فلا تحزن على قومك
ولا تجزع منهم فإن جزاءهم لازم وآت لا بد ، فاصبر واصفح عنهم وهو معنى قوله تعالى (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي الذي لا جزع معه. وقوله (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) خلق كل شيء وعلم بما خلق فعلى كثرة المخلوقات يعلم نياتها
، وأعمالها ، وأحوالها ، ولا يخفى عليه شيء من أمرها وسيعيدها كما بدأها ويحاسبها
ويجزيها بما كسبت. وهذا من شأنه أن يساعد الرسول صلىاللهعليهوسلم على الصبر والثبات على دعوته حتى ينصرها الله تعالى
__________________
في الوقت الذي
حدده لها. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ
سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) أي أعطيناك سورة الفاتحة أم القرآن وأعطيناك القرآن العظيم وهو خير عظيم لا يقادر
قدره. إذا (لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ) متطلعا (إِلى ما مَتَّعْنا
بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أي أصنافا من رجالات قريش ، فما آتيناك خير مما هم عليه من
المال والحال التي يتمتعون فيها بلذيذ الطعام والشراب. وقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن هم لم يؤمنوا بك ولم يتابعوك على ما جئت به ، فإن أمرهم
إلى الله تعالى ، وأمره تعالى أن يلين جانبه لأصحابه المؤمنين فقال : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) فحسبك ولاية الله لك فذر المكذبين أولي النعمة ، وتعايش مع
المؤمنين ، ولين جانبك لهم ، واعطف عليهم فإن الخير فيهم وليس في أولئك الأغنياء
الأثرياء الكفرة الفجرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إذا أراد الله
هلاك أمة فإن قوتها المادية لا تغني عنها شيئا.
٢ ـ لم يخلق الله
الخلق عبثا بل خلقه ليعبد بالذكر والشكر ، فمن عبده نجا ، ومن أعرض عن ذكره وترك
عبادته أذاقه عذاب الخزي في الدنيا والآخرة أو في الآخرة وهو أشد وأخزى.
٣ ـ بيان أن الصفح
الجميل هو الذي لا جزع معه.
٤ ـ بيان أن من
أوتي القرآن لم يؤت أحد مثله من الخير قط.
٥ ـ فضل الفاتحة
إذ هي السبع المثاني.
٦ ـ على الدعاة
إلى الله أن لا يلتفتوا إلى ما في أيدي الناس من مال ومتاع ، فإن ما آتاهم الله من
الإيمان والعلم والتقوى خير مما آتى أولئك من المال والمتاع.
٧ ـ استحباب لين
الجانب للمؤمنين والعطف عليهم والرحمة لهم.
__________________
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا
النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ
أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى
يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩))
شرح الكلمات :
(النَّذِيرُ الْمُبِينُ) : المبين النذارة.
(عَلَى
الْمُقْتَسِمِينَ) : أي الذين قسموا كتاب الله فقالوا فيه شعر ، وقالوا سحر ،
وقالوا كهانة.
(جَعَلُوا الْقُرْآنَ
عِضِينَ) : هم المقسمون للقرآن وجعلوه عضين جمع عضة وهي القطعة
والجزء من الشيء.
(فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ) : أي اجهر به وأعرضه كما أمرك ربك.
(يَضِيقُ صَدْرُكَ
بِما يَقُولُونَ) : أي من الاستهزاء بك والتكذيب لك.
(حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ) : أي الموت ، أي إلى أن تتوفى وأنت تعبد ربك.
معنى الآيات :
ما زال السياق فى
إرشاد الرسول صلىاللهعليهوسلم وتعليمه ما ينبغي أن يكون عليه فأمره تعالى
بقوله : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ
الْمُبِينُ) أي أعلن لقومك بأنك النذير البين النذارة لكم يا قوم أن
ينزل بكم عذاب الله إن أصررتم على الشرك والعناد والكفر ، وقوله : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) انذركم عذابا كالذي أنزله الله وينزله على المقتسمين الذين
قسموا التوراة والإنجيل فآمنوا ببعض وكفروا ببعض وهم اليهود والنصارى ، والمقتسمين
الذين تقاسموا أن يبيتوا صالحا فأنزل الله بهم عقوبته والمقتسمين الذين جعلوا
القرآن عضين أي أجزاء فقالوا فيه شعر وسحر وكهانة ، المقتسمين الذين قسموا طرق مكة
وجعلوها نقاط تفتيش يصدون عن سبيل الله كل من جاء يريد الإسلام وهؤلاء كلهم
مقتسمون وحل بهم عذاب الله ونقمته. وقوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ
لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) يقسم الجبار تبارك وتعالى لرسوله أنه ليسألنهم يوم القيامة
عما كانوا يعملون ويجزيهم به فلذا لا يهولنّك أمرهم واصبر على أذاهم. وقوله (فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ) أي أجهر بدعوة لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وما تؤمر
ببيانه والدعوة إليه أو التنفير منه ، (وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ) ولا تبال بهم ، وقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ) والمراد بهؤلاء المستهزئين الذين واعد تعالى بكفاية رسوله
شرّهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل ، وعدي بن قيس ، والأسود بن عبد يغوث كلهم
ماتوا بآفات مختلفة في أمد يسير ، عليهم لعائن الله تعالى. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ
صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ) أي من الاستهزاء بك والسخرية ، ومن المبالغة في الكفر
والعناد فنرشدك إلى ما يخفف عنك الألم النفسي (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ) أي قل سبحان الله وبحمده أي أكثر من هذا الذكر (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي المصلين إذ لا سجود إلا في الصلاة أو تلاوة القرآن ، إذا فافزع عند الضيق إلى الصلاة
__________________
فلذا كان صلىاللهعليهوسلم إذا أحزنه أمر فزع
إلى الصلاة. وقوله : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي واصل العبادة وهي الطاعة في غاية الذل والخضوع لله
تعالى حتى يأتيك اليقين الذي هو الموت فإن القبر أول عتبة الآخرة وبموت الإنسان
ودخوله في الدار الآخرة أصبح ايمانه يقينا محضا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة الإختلاف
في كتاب الله تعالى على نحو ما اختلف فيه أهل الكتاب.
٢ ـ مشروعية الجهر
بالحق وبيانه لا سيما إذا لم يكن هناك اضطهاد.
٣ ـ فضل التسبيح
بجملة : سبحان الله وبحمده ومن قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل ربد البحر
وهذا مروي في الصحيح .
٤ ـ مشروعية صلاة
الحاجة فمن حزبه أمر أو ضاق به فليصل صلاة يفرج الله تعالى بها ما به أو يقضي
حاجته إن شاء وهو العليم الحكيم.
سورة النّحل
مكية
وآياتها
مائة وثمان وعشرون
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(أَتى أَمْرُ اللهِ
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ
أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ
نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ
__________________
خَلَقَها
لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ
حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ
لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (٧))
شرح الكلمات :
(أَتى أَمْرُ اللهِ) : أي دنا وقرب أمر الله بعذابكم أيها المشركون فلا
تستعجلون.
(يُنَزِّلُ
الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ) : أي بالوحي الذي به حياة الأرواح والمراد من الملائكة
جبريل.
(خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ نُطْفَةٍ) : أي قطرة من المني.
(دِفْءٌ وَمَنافِعُ) : أي ما تستدفئون به ، ومنافع من العسل واللبن واللحم
والركوب.
(حِينَ تُرِيحُونَ) : أي حين تردونها من مراحها.
(وَحِينَ تَسْرَحُونَ) : أي وحين إخراجها من مراحها إلى مسارحها أي الأماكن التي
تسرح فيها.
(إِلَّا بِشِقِّ
الْأَنْفُسِ) : أي بجهد الأنفس ومشقة عظيمة.
معنى الآيات :
لقد استعجل
المشركون بمكة العذاب وطالبوا به غير مرة فأنزل الله تعالى قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) أي بعذابكم أيها المستعجلون له. لقد دنا منكم وقرب فالنضر
بن الحارث القائل : (اللهُمَّ إِنْ كانَ
هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ،
أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، جاءه بعد سنيّات قلائل فهلك ببدر صبرا ، إلى جهنم ،
وعذاب يوم القيامة لمن استعجله قد قرب وقته ولذا عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه وقرب
مجيئه فلا معنى لاستعجاله فلذا قال الله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) وقوله (سُبْحانَهُ وَتَعالى
عَمَّا يُشْرِكُونَ)
__________________
أي تنزه وتقدس عما
يشركون به من الآلهة الباطلة إذ لا إله حق إلا هو. وقوله (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ
أَمْرِهِ) أي بإرادته وإذنه (عَلى مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ). أي ينزل جبريل عليهالسلام بالوحي على من يشاء من عباده وهو محمد صلىاللهعليهوسلم وقوله (أَنْ أَنْذِرُوا
أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) أي بأن انذروا أي خوفوا المشركين عاقبة شركهم فإن شركهم باطل سيجر عليهم
عذابا لا طاقة لهم به ، لأنه لا إله إلا الله ، وكل الآلهة دونه باطلة. إذا فاتقوا
الله بترك الشرك والمعاصي وإلا تعرضتم للعذاب الأليم. في هاتين الآيتين تقرير
للوحي والنبوة للنبي صلىاللهعليهوسلم وتقرير التوحيد أيضا وقوله تعالى في الآيات التالية : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) استدلال على وجوب التوحيد وبطلان الشرك فالذى خلق السموات
والأرض بقدرته وعلمه وحده دون ما معين له ولا مساعد حقّ أن يعبد ، لا تلك الآلهة
الميتة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق (تَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) أي تنزه وتقدس تعالى عما يشركون به من أصنام وأوثان. وقوله
: (خَلَقَ الْإِنْسانَ
مِنْ نُطْفَةٍ) أي من أضعف شيء وأحقره قطرة المني خلقه في ظلمات ثلاث
وأخرجه من بطن أمه لا يعلم شيئا حتى إذا رباه وأصبح رجلا إذا هو خصم لله يجادل
ويعاند ، ويقول من يحيى العظام وهي رميم. وقوله تعالى (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها
دِفْءٌ وَمَنافِعُ
وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فهذه مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرحمة وهي
الموجبة لعبادته تعالى وترك عبادة ما سواه. فالأنعام وهي الإبل والبقر والغنم
خلقها الله تعالى لبني آدم ولم يخلقها لغيرهم ، لهم فيها دفء إذ يصنعون الملابس
والفرش والأغطية من صوف الغنم ووبر الإبل ولهم فيها منافع كاللبن والزبدة والسمن
والجبن والنسل حيث تلد كل سنة فيتنفعون بأولادها. ومنها يأكلون اللحوم المختلفة
فالمنعم بهذه النعم هو الواجب العبادة دون غيره من سائر
__________________
مخلوقاته وقوله : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي منظر حسن جميل حين تريحونها عشية من المرعى إلى المراح (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي تخرجونها صباحا من مراحها إلى مراعيها ، فهذه لذة روحية
ببهجة المنظر. وقوله (وَتَحْمِلُ
أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِ الْأَنْفُسِ) أي إلا بجهد النفس والمشقة العظيمة. فالإبل في الصحراء
كالسفن في البحر تحمل الأثقال من بلد إلى بلد وقد تكون المسافة بعيدة لا يصلها
الإنسان إلا بشق النفس وبذل الجهد والطاقة ، لو لا الإبل سفن الصحراء ومثل الإبل
الخيل والبغال والحمير في حمل الأثقال. فالخالق لهذه الأنعام هو ربكم لا إله إلا هو
فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمْ) أي خالقكم ورازقكم ومربيكم وإلهكم الحق الذي لا إله لكم
غيره لرؤوف رحيم ، ومظاهر رحمته ورأفته ظاهره في كل حياة الإنسان فلو لا لطف الله
بالانسان ورحمته له لما عاش ساعة في الحياة الدنيا فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قرب يوم
القيامة فلا معنى لاستعجاله فإنه آت لا محالة ، وكل آت قريب.
٢ ـ تسمية الوحي
بالروح من أجل أنه يحيى القلوب ، كما تحيى الأجسام بالأرواح.
٣ ـ تقرير التوحيد
والنبوة والبعث الآخر بذكر مظاهر القدرة الإلهية والعلم والحكمة والرأفة والرحمة.
(وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ
(٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ
أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ
__________________
شَرابٌ
وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ
وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ
مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣))
شرح الكلمات :
(وَيَخْلُقُ ما لا
تَعْلَمُونَ) : من سائر الحيوانات ومن ذلك السيارات والطائرات والقطر.
(وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ) : أي تفضلا منه وامتنانا ببيان السبيل القاصده وهي
الإسلام.
(وَمِنْها جائِرٌ) : أي عادل عن القصد وهو سائر الملل كاليهودية والنصرانية.
(وَمِنْهُ شَجَرٌ) : أي وبسببه يكون الشجر وهو هنا عام في سائر النباتات.
(فِيهِ تُسِيمُونَ) : ترعون مواشيكم.
(مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ) : أي بإذنه وقدرته.
(وَما ذَرَأَ لَكُمْ
فِي الْأَرْضِ) : أي خلق لكم في الأرض من الحيوان والنباتات المختلفة.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته إذ قال تعالى :
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ
وَالْحَمِيرَ) أي خلقها وهو خالق كل شيء لعلة ركوبهم
__________________
إياها إذ قال : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) أي ولأجل أن تكون زينة لكم في حياتكم وقوله (وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) أي مما هو مركوب وغير مركوب من مخلوقات عجيبة ومن المركوب
هذه السيارات على اختلافها والطائرات والقطر السريعة والبطيئة هذا كله إفضاله
وإنعامه على عباده فهل يليق بهم أن يكفروه ولا يشكروه؟ وهل يليق بهم أن يشركوا في
عبادته سواه. وقوله (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ
السَّبِيلِ) ومن إفضاله وإنعامه الموجب لشكره ولعبادته دون غيره أن بين
السبيل القاصد الموصل إلى رضاه وهو الإسلام ، في حين ان ما عدا الإسلام من سائر
الملل كاليهودية والنصرانية والمجوسية وغيرها سبل جائره عن العدل والقصد سالكوها
ضالون غير مهتدين إلى كمال ولا إلى إسعاد هذا معنى قوله تعالى (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) وقوله (وَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) أي لو تعلقت بإرادته هداية الناس أجمعين لهداهم أجمعين
وذلك لكمال قدرته وعلمه ، إلا أن حكمته لم تقتض هداية لكل الناس فهدى من رغب في
الهداية وأضل من رغب في الضلال. ومن مظاهر ربوبيته الموجبة لألوهيته أي عبادته ما
جاء في الآيات التالية (١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، ١٤ ، ١٥) إذ قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ
ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ) تشربون منه وتتطهرون ، (وَمِنْهُ) أي من الماء الذي أنزل من السماء شجر لأن الشجرة والمراد به هنا سائر النباتات يتوقف وجوده على
الماء وقوله (فِيهِ تُسِيمُونَ) أي فى ذلك النبات ترعون مواشيكم. يقال سام الماشية اي
ساقها إلى المرعى ترعى وسامت الماشية أي رعت بنفسها. وقوله تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ) أي بما أنزل من السماء من ماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ
وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) كالفواكه والخضر على اختلافها إذ كلها متوقفة على الماء.
وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من نزول الماء وحصول المنافع الكثيرة به
__________________
(لَآيَةً) أي علامة واضحة على وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ورحمته
وهي مقتضية لعبادته وترك عبادة غيره. ولكن (لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ) فيتعظون. أما اشباه البهائم الذين لا يفكرون في شيء فلا
يجدون آية ولا شبه آية فى الكون كله وهم يعيشون فيه. وقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الليل للسكون والراحة ، والنهار للعمل ابتغاء الرزق
وتسخيرهما كونهما موجودين باستمرار لا يفترقان أبدا إلى أن يأذن الله بانتهائهما
وقوله : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي سخرهما كذلك للانتفاع بضوء الشمس وحرارتها ، وضوء القمر
لمعرفة عدد السنين والحساب ، وقوله (وَالنُّجُومُ
مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ) كذلك ومن فوائد النجوم الاهتداء بها في ظلمات البر والبحر
وكونها زينة وجمالا للسماء التي هي سقف دارنا هذه .. وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من تسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم (لَآياتٍ) عدة يستدل بها على الخالق وعلى وجوب عبادته وعلى توحيده
فيها ، ولكن (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي الذين يستخدمون طاقة عقولهم في فهم الأشياء وإدراك
أسرارها وحقائقها أما أشباه البهائم والمجانين الذين لا يفكرون ولا يتعقلون ولا
يعقلون ، فليس لهم في الكون كله آية واحدة يستدلون بها على ربهم ورحمته بهم وواجب
شكره عليهم وقوله تعالى : (وَما ذَرَأَ
لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي وما خلق لكم في الأرض من إنسان وحيوان ونبات (مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ) وخصائصه وشيانه ومنافعه وآثاره (إِنَّ فِي ذلِكَ) الخلق العجيب (لَآيَةً) أي دلالة واضحة على وجود الخالق عزوجل ووجوب عبادته وترك عبادة غيره ولكن (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فيتعظون فينتبهون إلى ربهم فيعبدونه وحده بامتثال أمره
واجتناب نهيه فيكملون على ذلك ويسعدون في الحياتين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ كون الخيل والبغال والحمير خلقت للركوب والزينة لا ينفي منفعة أخرى
فيها وهي أكل
__________________
لحوم الخيل لثبوت
السنة بإباحة لحوم الخيل ، ومنع لحوم البغال والحمير كما في الصحيحين.
٢ ـ الإسلام هو
السبيل التي بينها الله تعالى فضلا منه ورحمة وما عداه فهى سبل جائرة عن العدل
والحق.
٣ ـ فضيلة التفكر
والتذكر والتعقل وذم أضدادها لأن الآيات الكونية كالآيات القرآنية إذا لم يتفكر
فيها العبد لا يهتدي إلى معرفة الحق المنشود وهو معرفة الله تعالى ليعبده بالذكر
والشكر وحده دون سواه.
(وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً
طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ
مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً
لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ
يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ
اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما
تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))
شرح الكلمات :
(حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) : هي اللؤلؤ والمرجان.
(مَواخِرَ فِيهِ) : أي تشقه بجريها فيه مقبلة ومدبرة بريح واحدة وبالبخار
اليوم.
__________________
(مِنْ فَضْلِهِ) : أي من فضل الله تعالى بالتجارة.
(أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) : أي تميل وتتحرك فيخرب ما عليها ويسقط.
(لا تُحْصُوها) : أي عدا فتضبطوها فضلا عن شكرها للمنعم بها عزوجل.
(ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ) : من المكر بالنبي صلىاللهعليهوسلم ومن أذاه علانية هذا بالنسبة إلى أهل مكة ، إذ الخطاب
يتناولهم أولا ثم اللفظ عام فالله يعلم كل سر وعلانية فى أي أحد.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته تلك المظاهر الموجبة لتوحيده
وعبادته وشكره وذكره قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ) وهو كل ماء غمر كثير عذبا كان أو ملحا وتسخيره تيسير الغوص
فيه وجرى السفن عليه. وقوله (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ
لَحْماً طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) بيان لعلة تسخير البحر وهي ليصيد الناس منه السمك يأكلونه
، ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان حلية لنسائهم . وقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ
مَواخِرَ فِيهِ) أي وترى أيها الناظر الى البحر ترى السفن تمخر الماء أي
تشقه ذاهبة وجائية. وقوله : (وَلِتَبْتَغُوا) أي سخّر البحر والفلك لتطلبوا الرزق بالتجارة بنقل البضائع
والسلع من إقليم إلى إقليم وذلك كله من فضل الله وحوله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي كي تشكروا الله تعالى. أي سخر لكم ذلك لتحصلوا على
الرزق من فضل الله فتأكلوا وتشكروا الله على ذلك والشكر يكون بحمد الله والاعتراف
بنعمته وصرفها فى مرضاته وقوله : (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي ألقى في الأرض جبالا ثوابت (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) كي لا تميد بكم ، وميدانها ميلها وحركتها إذ لو كانت تتحرك
لما استقام العيش عليها والحياة فيها. وقوله : (وَأَنْهاراً) أي وأجرى لكم أنهارا في الأرض كالنيل والفرات
__________________
وغيرهما (وَسُبُلاً) أي وشّق لكم طرقا (لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ) إلى منازلكم في بلادكم وقوله (وَعَلاماتٍ) أي وجعل لكم علامات للطرق وأمارات كالهضاب والأودية
والأشجار وكل ما يستدل به على الطريق والناحية ، وقوله (وَبِالنَّجْمِ) أي وبالنجوم (هُمْ يَهْتَدُونَ) فركاب البحر لا يعرفون وجهة سيرهم في الليل إلا بالنجوم
وكذا المسافرون في الصحارى والوهاد لا يعرفون وجهة سفرهم إلا بالنجوم وذلك قبل
وجود آلة البوصلة البحرية ولم توجد إلا على ضوء النجم وهدايته وقوله في الآية (١٧)
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) هذا تأنيب عظيم لأولئك الذين يصرون على عبادة الأصنام
ويجادلون عليها ويجالدون فهل عبادة من يخلق ويرزق ويدبر حياة الإنسان وهو الله رب
العالمين كعبادة من لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر؟ فمن يسوي من العقلاء بين الحي المحيي
الفعال لما يريد واهب الحياة كلها وبين الأحجار والأوثان؟ فلذا وبخهم بقوله (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتذكرون فتعرفون أن عبادة الأصنام باطلة وأن عبادة الله حق
فتتوبوا إلى ربكم وتسلموا له قبل أن يأتيكم العذاب. وقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) بعد ما عدد في هذه الآيات من النعم الكثيرة أخبر أن الناس
لو أرادوا أن يعدوا نعم الله ما استطاعوا عدها فضلا عن شكرها ، ولذا قال (إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ولو لا أنه كذلك ليؤاخذهم على تقصيرهم فى شكر نعمه عليهم
ولسلبها منهم عند كفرها وعدم الاعتراف بالمنعم بها عزوجل وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما
تُعْلِنُونَ) هذه آخر مظاهر القدرة والعلم والحكمة والنعمة في هذا
السياق الكريم فالله وحده يعلم سر الناس وجهرهم فهو يعلم إذا حاجاتهم وما تتطلبه
حياتهم ، فإذا عادوه وكفروا به فكيف يأمنون على حياتهم ولما كان الخطاب في سياق
دعوة مشركي مكة إلى الإيمان والتوحيد فالاية إخطار لهم بأن الله عليم بمكرهم
برسوله وتبييت الشر له وأذاهم له بالنهار. فهي تحمل التهديد والوعيد لكفار مكة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان العلة فى
الرزق وأنها الشكر فالله سبحانه وتعالى يرزق ليشكر.
__________________
٢ ـ إباحة أكل
الحوت وكل دواب البحر.
٣ ـ لا زكاة فى
اللؤلؤ والمرجان لأنه من حلية النساء.
٤ ـ المقارنة بين
الحي الخلاق العليم ، وبين الأصنام الميتة المخلوقة لتقرير بطلان عبادة غير الله
تعالى لأن من يخلق ليس كمن لا يخلق.
٥ ـ عجز الإنسان
عن شكر نعم الله تعالى يتطلب منه أن يشكر ما يمكنه منها وكلمة (الحمد لله) تعد رأس
الشكر والاعتراف بالعجز عن الشكر من الشكر ، والشكر صرف النعم فيما من أجله أنعم
الله تعالى بها.
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ
أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٢١) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ
فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ (٢٢) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما
يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (٢٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما
ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ
يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥))
شرح الكلمات :
(وَهُمْ يُخْلَقُونَ) : أي يصورون من الحجارة وغيرها.
(وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : أي وما تشعر الأصنام ولا تعلم الوقت الذي تبعث فيه وهو
يوم القيامة. ولا يبعث فيه عابدوها من دون الله.
(قُلُوبُهُمْ
مُنْكِرَةٌ) : أي جاحدة للوحدانية والنبوة والبعث والجزاء.
(وَهُمْ
مُسْتَكْبِرُونَ) : لظلمة قلوبهم بالكفر يتكبرون.
(لا جَرَمَ) : أي حقا.
(أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) : أي أكاذيب الأولين.
(لِيَحْمِلُوا
أَوْزارَهُمْ) : أي ذنوبهم يوم القيامة.
(أَلا ساءَ ما
يَزِرُونَ) : أي بئس ما يحملون من الأوزار.
معنى الآيات :
في هذا السياق
مواجهة صريحة للمشركين بعد تقدم الأدلة على اشراكهم وضلالهم فقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ) أي تعبدونهم أيها المشركون (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ) أي هم أموات إذ لا حياة لهم ودليل ذلك أنهم لا يسمعون ولا
يبصرون ولا ينطقون ، وقوله (وَما يَشْعُرُونَ
أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) أي لا يعلمون متى يبعثون كما أنكم أنتم أيها العابدون لهم لا تشعرون متى
تبعثون. فكيف تصح عبادتهم وهم أموات ولا يعلمون متى يبعثون للاستنطاق والاستجواب
والجزاء على الكسب في هذه الحياة ، وقوله (إِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) هذه النتيجة العقلية التي لا ينكرها العقلاء وهي أن
المعبود واحد لا شريك له ، وهو الله جل جلاله ، إذ هو الخالق الرازق المدبر المحي
المميت ذو الصفات العلا والأسماء الحسنى ، وما عداه فلا يخلق ولا يرزق ولا يدبّر
ولا يحيي ولا يميت فتأليهه سفه وضلال ، وبعد تقرير ألوهية الله تعالى وإثباتها
بالمنطق السليم قال تعالى : (فَالَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) ذكر علة الكفر لدى الكافرين والفساد عند المفسدين وهي
تكذيبهم بالبعث الآخر إذ لا يستقيم عبد على منهج الحق والخير وهو لا يؤمن باليوم
الآخر يوم الجزاء على العمل في الحياة الدنيا ، فأخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون
بالآخرة قلوبهم منكرة لكل ما يسمعون من الحق الذي يدعو إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتبينه آيات القرآن الكريم ، وهم مع إنكار قلوبهم لما
يسمعون من الحق مستكبرون عن
__________________
قبول الحق
والإذعان له. وقوله تعالى : (لا جَرَمَ أَنَّ
اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ) أي حقا ان الله يعلم ما يسر أولئك المكذبون بالآخرة وما
يعلنون وسيحصى ذلك عليهم ويجزيهم به لا محالة في يوم كانوا به يكذبون .. ويا للحسرة
ويا للندامة!! وهذا الجزاء كان بعذاب النار متسبب عن بغض الله للمستكبرين وعدم حبه
لهم ، وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) يخبر تعالى عن أولئك المنكرة قلوبهم للوحي الإلهي وما جاء
به رسول الله هؤلاء المستكبرون كانوا إذا سئلوا عن القرآن من قبل من يريد أن يعرف
ممن سمع بالدعوة المحمدية فجاء من بلاد يتعرف عليها قالوا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أخبار كاذبة عن الأولين مسطره عند الناس فهو يحكيها ويقول
بها ، وبذلك يصرفون عن الإسلام ويصدون عن سبيل الله ، قال تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ) أي تبعة آثامهم وتبعة آثام من صدوهم عن سبيل الله كاملة
غير منقوصة يوم القيامة ، وهم لا يعلمون ذلك ولكن الحقيقة هي : انّ من دعا إلى
ضلالة كان عليه وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزار من عملها شيء ، وكذا من دعا
إلى هدى فله أجر من عمل به من غير أن ينقص من أجر العامل به شيء. وقوله تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي قبح الوزر الذي يزرونه فإنه قائدهم إلى النار موبقهم في
نار جهنم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بطلان الشرك
وتقرير التوحيد.
٢ ـ التكذيب
باليوم الآخر والبعث والجزاء هو سبب كل شر وفساد يأتيه العبد.
__________________
٣ ـ التنديد
بجريمة الاستكبار عن الحق والإذعان له.
٤ ـ بيان اثم
وتبعة من يصد عن سبيل الله بصرف الناس عن الإسلام.
٥ ـ بيان تبعة من
يدعو إلى ضلالة فإنه يتحمل وزر كل من عمل بها.
(قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا
يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ
وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ
كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (٣٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
أَوْ
يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما
ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ
سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤))
شرح الكلمات :
(مِنْ قَبْلِهِمْ) : أي من قبل كفار قريش بمكة كالنمرود وغيره.
(فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ) : أي قصد إليه ليدمره فسلط عليه الريح والزلزلة فسقط من
أسسه.
(فَخَرَّ عَلَيْهِمُ
السَّقْفُ) : أي سقط لتداعي القواعد وسقوطها.
(كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ
فِيهِمْ) : أي تخالفون المؤمنين فيهم بعبادتكم إياهم وجدالكم عنه ،
وتشاقون الله بمخالفتكم إياه بترك عبادته وعبادتكم إياها.
(قالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ) : أي الأنبياء والمؤمنون.
(ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) : بالشرك والمعاصي.
(فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ) : أي استسلموا وانقادوا.
(فَلَبِئْسَ مَثْوَى
الْمُتَكَبِّرِينَ) : مثوى المتكبرين : أي قبح منزل المتكبرين في جهنم مثلا.
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا) : أي اتقوا الشرك والمعاصي.
(لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا) : أي أعمالهم وأقوالهم ونياتهم فأتوا بها وفق مراد الله
تعالى.
(حَسَنَةٌ) : أي الحياة الطيبة حياة العز والكرامة.
(وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ) : أي الجنة دار السّلام.
(طَيِّبِينَ) : أي الأرواح بما زكوها به من الإيمان والعمل الصالح. وبما
أبعدوها عنه من الشرك والمعاصي.
(يَقُولُونَ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ) : أي يقول لهم ملك الموت «عزرائيل» وأعوانه.
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) : أي لقبض أرواحهم وعند ذلك يؤمنون.
(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ) : أي بالعذاب أو بقيام الساعة وحشرهم إلى الله عزوجل.
(وَحاقَ بِهِمْ ما
كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) : أي نزل بهم العذاب وأحاط بهم وقد كانوا به يستهزئون.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم مع كفار قريش في تذكيرهم وتبصرهم بما هم فيه من الجهالة والضلالة. فيقول
تعالى : (قَدْ مَكَرَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أي من قبل مكر كفار قريش وذلك كالنمرود وفرعون وغيرهم من
الجبابرة الذين تطاولوا على الله عزوجل ومكروا برسلهم ، فالنمرود ألقى بإبراهيم في النار ، وفرعون
قال ذروني اقتل موسى وليدع ربه .. وقوله : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ
مِنَ الْقَواعِدِ) أي أتاه أمر الله بهدمه وإسقاطه على الظلمة الطغاة (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) . وذهب باطلهم وزال مكرهم. ألم يتعظ بهذا كفرة قريش وهم
يمكرون بنبيهم ويبيّتون له السوء بالقتل أو النفي أو الحبس؟ وقوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ) أي يهينهم ويذلهم ويوبخهم بقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) أي أصنامكم وأوثانكم الذين كنتم تخالفوني بعبادتكم إياهم
دوني كما تشاقون اوليائي المؤمنين أي تخالفونهم بذلك وتحاربونهم فيه. وهنا يقول
الأشهاد والذين أوتوا العلم من الأنبياء والعلماء الربانيين : (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ
عَلَى الْكافِرِينَ) أي إن الذل والهون والدون على الكافرين. وقوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ
ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) بالشرك والمعاصي ومن جملة المعاصي ترك الهجرة والبقاء بين
ظهراني الكافرين والفساق المجرمين حيث لا يتمكن المؤمن من عبادة الله تعالى بترك
المعاصي والقيام بالعبادات. وقوله (فَأَلْقَوُا
السَّلَمَ) أي عند معاينتهم ملك الموت وأعوانه أي استسلموا وانقادوا
وحاولوا الإعتذار بالكذب وقالوا (ما كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ) فترد عليهم الملائكة قائيلن : (بَلى) أي كنتم تعملون السوء (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ويقال لهم أيضا (فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي أبواب طبقاتها (خالِدِينَ فِيها
فَلَبِئْسَ) جهنم (مَثْوَى) أي مقاما ومنزلا (الْمُتَكَبِّرِينَ) عن عبادة الله وحده. وقوله تعالى : (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه في أمره ولا نهيه وأطاعوا
رسوله كذلك : (ما ذا أَنْزَلَ
رَبُّكُمْ) أي إذا سألهم من أتى مكة يتعرف على ما بلغه من
__________________
دعوة الإسلام
فيقولون له : (خَيْراً) أي أنزل خيرا لأن القرآن خير وبالخير نزل بخلاف تلاميذ
المشركين يقولون أساطير الأولين كما تقدم في هذا السياق.
كما ذكر تعالى
جزاء الكافرين وما يلقونه من العذاب في نار جهنم وهم الذين أساءوا في هذه الحياة
الدنيا إلى أنفسهم بشركهم بالله ومكرهم وظلمهم للمؤمنين ، ذكر جزاء المحسنين. فقال
: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي آمنوا وعملوا الصالحات متبعين شرع الله في ذلك فأخلصوا
عبادتهم لله تعالى ودعوا الناس الى عبادة الله وحثوهم على ذلك فكانوا بذلك محسنين
لأنفسهم ولغيرهم لهؤلاء الذين أحسنوا في الدنيا (حَسَنَةٌ) وهي الحياة الطيبة حياة الطهر والعزة والكرامة ، ولدار الآخرة خير لهم من دار الدنيا مع ما فيها من حسنة
وقوله تعالى : (وَلَنِعْمَ دارُ
الْمُتَّقِينَ) ثناء ومدح لتلك الدار الآخرة لما فيها من النعيم المقيم
وإضافتها إلى المتقين باعتبار أنهم أهلها الجديرون بها إذ هي خاصة بهم ورثوها
بإيمانهم وصالح أعمالهم بتركهم الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ
يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) هو وصف وبيان لدار المتقين فأخبر أنها جنات جمع جنة وهي
البستان المشتمل على الأشجار والأنهار والقصور وما لذ وطاب من المطاعم والمشارب والملابس
والمناكح والمراكب وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها ما
يَشاؤُنَ) هذا نهاية لإكرام والإنعام إذ كون العبد يجد كل ما يشتهي
ويطلب هو نعيم لا مزيد عليه وقوله تعالى : (كَذلِكَ يَجْزِي
اللهُ الْمُتَّقِينَ) أي كهذا الجزاء الحسن العظيم يجزي الله المتقين في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ
تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ) أي طاهري الأرواح لأرواحهم ريح طيبة ثمرة إيمانهم وصالح
أعمالهم ونتيجة بعدهم عما يدنس أنفسهم من أوضار الشرك وعفن المعاصي. وقوله : (يَقُولُونَ) أي تقول لهم الملائكة وهم ملك الموت وأعوانه (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) تحييهم وفى ذلك بشارة لهم برضا ربهم وجواره الكريم. (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) بأرواحهم اليوم
__________________
وبأجسامهم غدا يوم
القيامة. وقوله (بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) أي بسبب ما كنتم تعملونه من الطاعات والمسابقة في الخيرات
بعد عمل قلوبكم بالايمان واليقين والحب في الله والبغض فيه عزوجل والرغبة والتوكل عليه. هذا ما تضمنته الآيات (٣١ ، ٣٢)
وأما الآيات بعد ذلك فيقول الله مستبطئا ايمان قريش وتوبتهم بعد تلك الحجج والبراهين
والدلائل والبينات على صدق نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وعلى وجوب التوحيد وبطلان الشرك وعلى الإيمان باليوم
الآخر. (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي ما ينظرون بعد هذا إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم
(أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ
رَبِّكَ) بإبادتهم واستئصالهم ، إذ لم يبق ما ينتظرونه إلا أحد هذين
الأمرين وكلاهما مر وشر لهم. وقوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من كفار الأمم السابقة فحلت بهم نقمة الله ونزل بهم عذابه
فأهلكهم. (وَما ظَلَمَهُمُ
اللهُ) تعالى في ذلك أبدا (وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بإصرارهم على الشرك والعناد والمجاحدة والمكابرة (فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ) أي جزاء سيئات (ما عَمِلُوا) من الكفر والظلم (وَحاقَ بِهِمْ) أي نزل بهم وأحاط بهم (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) إذ كانت رسلهم إذا خوفتهم من عذاب الله سخروا منهم
واستهزأوا بالعذاب واستخفوا به حتى نزل بهم والعياذ بالله تعالى.
من
هداية الآيات :
١ ـ سوء عاقبة
المكر وأنه يحيق بأهله لا محالة والمراد به المكر السيء.
٢ ـ بيان خزي الله
تعالى يوم القيامة لأهل الشرك به والمعاصي له ولرسوله.
٣ ـ فضل أهل العلم
إذ يتخذ منهم شهداء يوم القيامة ويشمتون بأهل النار.
٤ ـ بيان استسلام
الظلمة عند الموت وانهزامهم وكذبهم.
٥ ـ تقرير معتقد
البعث والحياة الآخرة بأروع أسلوب وأحكمه وأمتنه.
٦ ـ إطلاق لفظ خير
على القرآن وهو حق خير فالذي أوتي القرآن أوتي الخير كله ، فلا ينبغي أن يرى أحدا
من أهل الدنيا خيرا منه وإلا سخط نعمة الله تعالى عليه.
٧ ـ سعادة الدارين
لأهل الإحسان وهم أهل الإيمان والإسلام والإحسان في إيمانهم بالإخلاص وفي إسلامهم
بموافقة الشرع ومراقبة الله تعالى في ذلك.
٨ ـ بشرى أهل
الإيمان والتقوى عند الموت ، وعند القيام من القبور بالنعيم المقيم في جوار رب
العالمين.
٩ ـ إعمال القلوب
والجوارح سبب في دخول الجنة وليست ثمنا لها لغلائها ، وإنما الأعمال تزكي النفس
وتطهر الروح وبذلك يتأهل العبد لدخول الجنة.
١٠ ـ ما ينتظر
المحرمون بإصرارهم على الظلم والشر والفساد إلا العذاب ، عاجلا أو آجلا فهو نازل
بهم حتما مقضيا إن لم يبادروا إلى التوبة الصادقة.
(وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ
بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ
يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ
(٣٩) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
(٤٠))
شرح الكلمات :
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : هم كفار قريش ومشركوها.
(وَلا حَرَّمْنا مِنْ
دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) : كالسوائب والبحائر والوصائل والحامات.
(فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ) : أي ما على الرّسل إلا البلاغ فالإستفهام للنفي.
(وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ) : أي عبادة الأصنام والأوثان.
(حَقَّتْ عَلَيْهِ
الضَّلالَةُ) : أي وجبت في علم الله أزلا.
(جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي غايتها حيث بذلوا جهدهم فيها مبالغة منهم.
(بَلى وَعْداً
عَلَيْهِ حَقًّا) : أي بلى يبعث من يموت وقد وعد به وعدا وأحقه حقا. فهو
كائن لا محالة.
(يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) : أي بين المؤمنين من التوحيد والشرك.
(أَنَّهُمْ كانُوا
كاذِبِينَ) : أي في قولهم «لا نبعث بعد الموت».
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحجاج مع مشركي قريش فيقول تعالى مخبرا عنهم (وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا) أي مع الله آلهة أخرى وهي أصنامهم كهبل واللات والعزّى
وقالوا لو شاء الله عدم إشراكنا به ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ، ولا حرمنا من دون
تحريمه شيئا فهل قالوا هذا إيمانا بمشيئة الله تعالى ، أو قالوه استهزاء وسخرية
دفاعا عن شركهم وشرعهم الباطل في التحريم والتحليل بالهوى ، والأمران محتملان.
والرد عليهم بأمرين أولهما ما دام الله قد نهاهم عن الشرك والتشريع فإن ذلك أكبر
دليل على تحريمه تعالى لشركهم ومحرماتهم من السوائب والبحائر وغيرها وثانيهما كونه
لم يعذبهم عليها بعد ليس دليلا على رضاه بها بدليل أن من سبقهم من الأمم والشعوب
الكافرة قالوا قولتهم هذه محتجين به على باطلهم فلم يلبثوا حتى أخذهم الله ، فدل
ذلك قطعا على عدم رضاه بشركهم وشرعهم إذ قال تعالى فى سورة الأنعام ردا على هذه
الشبهة كذلك قال الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا أي عذاب انتقامنا منهم لما كذبوا
رسلنا وافتروا علينا. وقوله تعالى : (كَذلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ
__________________
مِنْ
قَبْلِهِمْ) من الأمم السابقة قالوا قول هؤلاء لرسلهم وفعلوا فعلهم حتى
أخذهم الله بالعذاب. وقوله (فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلَّا
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) أي ليس على الرسول إكراه المشركين على ترك الشرك ولا
إلزامهم بالشرع وانما عليه أن يبلغهم أمر الله تعالى ونهيه لا غير .. فلذا كان في
الجملة تسلية رسول الله صلىاللهعليهوسلم وحمله على الصبر حتى يبلغ دعوة ربه وينصره على أعدائه. هذا
ما دلت عليه الآية الأولى في هذا السياق (٣٥) وقوله في الآية الثانية (٣٦) (وَلَقَدْ
بَعَثْنا
فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فأخبر تعالى بأنه ما أخلى أمة من الأمم من إرسال رسول إليها
لهدايتها وبيان سبيل نجاتها وتحذيرها من طرق غوايتها وهلاكها. كما أخبر عن وحدة
الدعوة بين الرسل وهي لا إله إلا الله المفسره بعبادة الله تعالى وحده ، واجتناب
الطاغوت وهو كل ما عبد من دون الله مما دعا الشيطان الى عبادته بالتزيين والتحسين
عن طريق الوسواس من جهة ومن طريق اوليائه من الناس من جهة أخرى.
وقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ) أي من الأمم المرسل إليهم (مَنْ هَدَى اللهُ) فعرف الحق واعتقده وعمل به فنجا وسعد ، (وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) أزلا في كتاب المقادير لأنه أصر على الضلال وجادل عنه
وحارب من أجله باختياره وحريته فحرمه الله لذلك التوفيق فضلّ ضلالا لا أمل في
هدايته. وقوله تعالى : (فَسِيرُوا فِي
الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) أمر لكفار قريش المجادلين بالباطل المحتجين على شركهم
وشرعهم الباطل أمر لهم أن يسيروا في الأرض جنوبا أو شمالا فينظروا كيف كانت عاقبة
المكذبين أمثالهم من أمة عاد في الجنوب وثمود في الشمال ، ومدين ولوط وفرعون في
الغرب. وقوله تعالى في تسلية رسوله والتخفيف من الهمّ عنه : (إِنْ تَحْرِصْ) يا رسولنا
__________________
(عَلى هُداهُمْ) أي هدايتهم إلى الحق (فَإِنَّ اللهَ لا
يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) فخفف على نفسك وهون عليها فلا تأسف ولا تحزن وادع الى ربك
في غير حرص يضر بك وقوله (لا يَهْدِي مَنْ
يُضِلُ) أي لا يقدر أحد أن يهدي من أضله الله ، لأن اضلال الله
تعالى يكون على سنن خاصة لا تقبل التبديل ولا التغيير لقوة سلطانه وسعة عمله.
وقوله (وَما لَهُمْ مِنْ
ناصِرِينَ) أي وليس لأولئك الضلال الذين أضلهم الله حسب سنته من
ناصرين ينصرونهم على ما سينزل بهم من العذاب وما سيحل بهم من خسران وحرمان. وقوله
تعالى في الآية (٣٨) (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) اخبار عن قول المشركين والمكذبين باليوم الآخر أصحاب
القلوب المنكرة ، ومعنى (أَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) أي حلفوا أشد الأيمان إذ كانوا في الأمور التافهة يحلفون
بآلهتهم وآبائهم. وإذا كان الأمر ذا خطر وشأن أقسموا بالله وبالغوا في الإقسام حتى
يبلغوا جهد أيمانهم والمحلوف عليه هو أنهم إذا ماتوا لا يبعثون أحياء فيحاسبون
ويجزون فرد الله تعالى عليهم بقوله (بَلى) أي تبعثون وعد الله حقا فلا بد ناجز (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) فلذا ينفون البعث وينكرونه لجهلهم بأسرار الكون والحياة
وعلل الوجود والعمل فيه فلذا أشار الله تعالى إلى بعض تلك العلل في قوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) فلو لا البعث الآخر ما عرف المحق من المبطل في هذه الحياة
والخلاف سائد ودائم بين الناس. هذا أولا. وثانيا : (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) في اعتقاداتهم وأعمالهم ونفيهم الحياة الثانية للجزاء على
العمل في دار العمل هذه أما استبعادهم البعث بعد الموت نظرا إلى وسائلهم ووسائطهم
الخاصة بهم فقد أخبرهم تعالى بأن الأمر ليس كما تقدرون أنتم وتفكرون : إنه مجرد ما
تتعلق إرادتنا بشيء نريد أن يكون ، نقول له كن
__________________
فيكون فورا ،
والبعث الآخر من ذلك. هذا ما دل عليه قوله في الآية (٤٠) (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ولا يقولن قائل كيف يخاطب غير الموجود فيأمره ليوجد فإن
الله تعالى إذا أراد شيئا علمه أولا ثم قال له كن فهو يكون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الرد على شبهة
المشركين في احتجاجهم بالمشيئة الإلهية.
٢ ـ تفسير لا إله
إلا الله.
٣ ـ التحذير من
تعمد الضلال وطلبه والحرص عليه فإن من طلب ذلك وأضله الله لا ترجى هدايته.
٤ ـ بيان بعض
الحكم في البعث الآخر.
٥ ـ لا يستعظم على
الله خلق شيء وإيجاده ، لأنه يوجد بكلمة التكوين فقط.
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ
رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤))
شرح الكلمات :
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي اللهِ) : أي خرجوا من مكة في سبيل الله نصرة لدينه وإقامته بين
الناس.
__________________
(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : أي لننزلنهم دارا حسنة هي المدينة النبوية هذا بالنسبة
لمن نزلت فيهم الآية.
(الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : أي على أذى المشركين وهاجروا متوكلين على ربهم في دار
هجرتهم.
(فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) : أي أيها الشاكّون فيما جاء به محمد صلىاللهعليهوسلم فاسألوا أهل التوراة والإنجيل لإزالة شككم ووقوفكم على
الحقيقة وأن ما جاء به محمد حق وأن الرسل قبله كلهم كانوا بشرا مثله.
(بِالْبَيِّناتِ
وَالزُّبُرِ) : أي أرسلناهم بشرا بالبينات والزبر لهداية الناس.
(وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ) : أي القرآن.
(لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ
ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) : علة لإنزال الذكر إذ وظيفة الرسل ، البيان.
معنى الآيات :
إنه بعد اشتداد
الأذى على المؤمنين لعناد المشركين وطغيانهم ، أذن الله تعالى على لسان رسوله
للمؤمنين بالهجرة من مكة إلى الحبشة ثم إلى المدينة فهاجر رجال ونساء فذكر تعالى
ثناء عليهم وتشجيعا على الهجرة من دار الكفر فقال عزوجل (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي
اللهِ) أي في ذات الله ومن أجل عبادة الله ونصرة دينه (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) أي من قبل المشركين (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلهم ولنسكننهم (فِي الدُّنْيا
حَسَنَةً) وهي المدينة النبوية ولنرزقنهم فيها رزقا حسنا هذا بالنسبة
لمن نزلت فيهم الآية ، وإلا فكل من هاجر في الله ينجز له الرب هذا
الوعد كما قال تعالى : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي
سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) أي في العيش والرزق (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) المعد لمن هاجر في سبيل
__________________
الله (أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) . هذا ترغيب في الهجرة وتشجيع للمتباطئين على الهجرة وقوله
: (الَّذِينَ صَبَرُوا
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) بيان لحالهم وثناء عليهم بخير لأنهم صبروا أولا على الأذى
في مكة ثم لما أذن لهم بالهجرة هاجروا متوكلين على الله تعالى مفوضين أمورهم إليه
، واثقين في وعده. هذا ما دلت عليه الآيتان (٤١) ، (٤٢). وأما الآية الثالثة (٤٣)
والرابعة من هذا السياق فهما تقرير حقيقة علمية بعد إبطال شبهة المشركين القائلين
كيف يرسل الله محمدا رسولا وهو بشر مثلنا لم لا يرسل ملكا .. وهو ما أخبر الله
تعالى في قوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ) أي من الرسل (إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة (نُوحِي إِلَيْهِمْ) بأمرنا وقوله : (فَسْئَلُوا) أيها المشركون المنكرون أن يكون الرسول بشرا ، اسألوا أهل
الذكر وهو الكتاب الأول أي أسألوا علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى هل كان
الله تعالى يرسل الرسل من غير البشر (إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) فإنهم يخبرونكم. وما موسى ولا عيسى إلا بشر ، وقوله : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) أي أرسلنا أولئك الرسل من البشر بالبينات أي الحجج
والدلائل الدالة على وجوب عبادتنا وترك عبادة من سوانا. والزبر أي الكتب. ثم يقول
تعالى لرسوله : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) وفي هذا تقرير لنبوته وقوله : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيعرفون صدق ما جئتهم به فيؤمنوا. ويتوبوا إلى ربهم فينجوا
ويسعدوا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل الهجرة
ووجوبها عند اضطهاد المؤمن وعدم تمكنه من عبادة الله تعالى.
٢ ـ وجوب سؤال أهل
العلم على كل من لا يعلم أمور دينه من عقيدة وعبادة وحكم.
٣ ـ السنة لا غنى
عنها لأنها المبينة لمجمل القرآن والموضحة لمعانيه.
__________________
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ
فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ
يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ
داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ
دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ
فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠))
شرح الكلمات :
(مَكَرُوا
السَّيِّئاتِ) : أي مكروا المكرات السيئات فالسيئات وصف للمكرات التى
مكروها.
(فِي تَقَلُّبِهِمْ) : أي في البلاد مسافرين للتجارة وغيرها.
(عَلى تَخَوُّفٍ) : أي تنقص.
(يَتَفَيَّؤُا
ظِلالُهُ) : أي تتميل من جهة إلى جهة.
(سُجَّداً لِلَّهِ) : أي خضعا لله كما أراد منهم.
(داخِرُونَ) : أي صاغرون ذليلون.
(مِنْ فَوْقِهِمْ) : من أعلى منهم إذ هو تعالى فوق كل شيء ذاتا وسلطانا
وقهرا.
(ما يُؤْمَرُونَ) : أي ما يأمرهم ربهم تعالى به.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تخويف المشركين وتذكيرهم لعلهم يرجعون بالتوبة من الشرك والجحود للنبوة والبعث
والجزاء. قال تعالى : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا) المكرات
__________________
(السَّيِّئاتِ) من محاولة قتل النبي صلىاللهعليهوسلم والشرك والتكذيب بالنبوة والبعث وظلم المؤمنين وتعذيب
بعضهم ، أفأمنوا (أَنْ يَخْسِفَ اللهُ
بِهِمُ الْأَرْضَ) من تحتهم فيفرون في أعماقها ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ
حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ولا يتوقعون من ريح عاصف تعصف بهم أو وباء يشملهم أو قحط
يذهب بمالهم. وقوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ
فِي تَقَلُّبِهِمْ) أي في تجارتهم وأسفارهم ذاهبين آيبين من بلد إلى بلد. (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) له تعالى لو أراد أخذهم وإهلاكهم. وقوله تعالى : (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ) أي تنقص بأن يهلكهم واحدا بعد واحد أو جماعة بعد جماعة حتى لا يبقى
منهم أحدا ، وقد أخذ منهم ببدر من أخذ وفي أحد. وقوله تعالى : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تذكير لهم برأفته ورحمته إذ لولاهما لأنزل بهم نقمته
وأذاقهم عذابه بدون إنظار لتوبة أو إمهال لرجوع إلى الحق. وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ
مِنْ شَيْءٍ) من شجر وجبل وإنسان وحيوان (يَتَفَيَّؤُا
ظِلالُهُ) بالصباح والمساء (عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ) «جمع شمال» (سُجَّداً لِلَّهِ) خضعا بظلالهم (وَهُمْ داخِرُونَ) أي صاغرون ذليلون. أما يكفيهم ذلك دلالة على خضوعهم لله
وذلتهم بين يديه ، فيؤمنوا به ويعبدونه ويوحدوه فينجوا من عذابه ويفوزوا برحمته. وقوله
تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) أي ولله لا لغيره يسجد بمعنى يخضع وينقاد لما يريده الله
تعالى من إحياء أو إماتة أو صحة أو مرض أو خير أو غيره من دابة أي من كل ما يدب من
كائن على هذه الأرض (وَالْمَلائِكَةُ)
__________________
على شرفهم يسجدون (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادة ربهم (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) إذ هو العلي الأعلى وكل الخلق تحته. (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فلا يعصون ربهم ما أمرهم. إذا كان هذا حال الملائكة فما
بال هؤلاء المشركين يلجون في الفساد والاستكبار والجحود والمكابرة وهم أحقر سائر
المخلوقات ، وشر البريات إن بقوا على كفرهم وشركهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة الأمن من
مكر الله.
٢ ـ كل شيء ساجد
لله ، أي خاضع لما يريده منهم ، إلا أن السجود الطوعي الاختياري هو الذي يثاب عليه
العبد ، أما الطاعة اللا إرادية فلا ثواب فيها ولا عقاب.
٣ ـ فضل السجود
الطوعي الاخيتاري.
٤ ـ مشروعية
السجود عند هذه الآية : إذا قرأ القارىء أو المستمع : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ، عليه أن يسجد ان كان متطهرا إلى القبلة إن أمكن ويسبح في
السجود ويكبر في الخفض والرفع ولا يسلم ، ولا يسجد عند طلوع الشمس ولا عند غروبها.
(وَقالَ اللهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ
إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣)
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ
__________________
لِما
لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا
كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦))
شرح الكلمات :
(لا تَتَّخِذُوا
إِلهَيْنِ) : أي تعبدونهما إذ ليس لكم إلا إله واحد.
(وَلَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي خلقا وملكا ، إذا فما تعبدونه مع الله هو لله ولم
يأذن بعبادته.
(وَلَهُ الدِّينُ
واصِباً) : أي خالصا دائما واجبا.
(فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) : أي ترفعون أصواتكم بدعائه طالبين الشفاء منه.
(فَتَمَتَّعُوا
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) : تهديد على كفرهم وشركهم ونسيانهم دعاء الله تعالى.
(وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) : أي يجعلون لآلهتهم نصيبا من الحرث والأنعام.
(عَمَّا كُنْتُمْ
تَفْتَرُونَ) : أي تختلقون بالكذب وتفترون على الله عزوجل.
معنى الآيات :
بعد إقامة الحجج
على التوحيد وبطلان الشرك أخبرهم أن الله ربهم رب كل شيء قد قال لهم : أيها الناس (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) فلفظ اثنين توكيد للفظ إلهين أي لا تعبدوا إلهين بل اعبدوا
إلها واحدا وهو الله إذ ليس من إله إلا هو فكيف تتخذون إلهين والحال انه (إِلهٌ واحِدٌ) لا غير وهو الله الخالق الرازق المالك ، ومن عداه من
مخلوقاته كيف تسوّى به وتعبد معه؟ وقوله تعالى : (فَإِيَّايَ
فَارْهَبُونِ) أي ارهبوني وحدي ولا ترهبوا سواي إن بيدي كل شيء ، وليس
لغيري شيء فأنا المحيي المميت ، الضار النافع ، يوبخهم على رهبتهم غيره سبحانه
وتعالى من لا يستحق أن يرهب لعجزه وعدم قدرته على أن ينفع أو يضر. وقوله تعالى : (وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) برهان على بطلان رهبة غيره أو
__________________
الرغبة في سواه ما
دام له ما في السموات والأرض خلقا وملكا. وقوله (وَلَهُ الدِّينُ
واصِباً) أي العبادة والطاعة دائما ثابتا واجبا ، ألا لله الدين
الخالص. وقوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ
تَتَّقُونَ) يوبخهم على خوف سواه وهو الذي يجب أن يرهب ويخاف لأنه
الملك الحق القادر على إعطاء النعم وسلبها ، فكيف يتقى من لا يملك ضرا ولا نفعا
ويعصى من بيده كل شيء وإليه مرد كل شيء ، وما شاءه كان وما لم يشأه لم يكن. وقوله
: (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) يخبرهم تعالى بالواقع الذي يتنكرون له فيخبرهم أنه ما بهم
من نعمة جلت أو صغرت من صحة أو مال أو ولد فهي من الله تعالى خالقهم وواهبهم
حياتهم ، وليست من أحد غيره ، ودلل على ذلك شعورهم الفطري وهو أنهم إذا مسهم الضر
من فقر أو مرض أو تغير حال كخوف غرق في البحر فإنهم يرفعون أصواتهم إلى أعلاها
مستغيثين بالله سائلينه أن يكشف ضرهم أو ينجيهم من هلكتهم المتوقعة لهم فقال عزوجل : (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ فَإِلَيْهِ) دون غيره (تَجْئَرُونَ) برفع أصواتكم بالدعاء والإستغاثة به سبحانه وتعالى وقوله :
(ثُمَّ إِذا كَشَفَ
الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ) كبير (مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ) فيعبدون غيره بأنواع العبادات متناسين الله الذى كشف ضرهم
وأنجاهم من هلكتهم.
وقوله : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) أي ليؤول أمرهم إلى كفران ونسيان ما آتاهم الله من نعم وما
أنجاهم من محن. أفهكذا يكون الجزاء؟ أينعم بكل أنواع النعم وينجى من كل كرب ثم
ينسى له ذلك كله ، ويعبد غيره؟ بل ويحارب دينه ورسوله؟ إذا (فَتَمَتَّعُوا) أيها الكافرون (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة كفركم وإعراضكم عن طاعة الله وذكره وشكره. وقوله
تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِما
لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ) وهذا ذكر لعيب آخر من عيوبهم وباطل من باطلهم أنهم يجعلون
لأوثانهم التى لا يعلمون عنها شيئا من نفع أو ضر أو اعطاء أو منع أو إماتة أو
إحياء يجعلونها لها طاعة للشيطان نصيبا وحظا من أموالهم
__________________
يتقربون به إليها
فسيبوا لها السوائب ، وبحروا لها البحائر من الأنعام ، وجعلوا لها من الحرث والغرس
كذلك كما جاء ذلك في سورة الأنعام والمائدة قبلها : وقوله تعالى : (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَ عَمَّا
كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) أقسم الجبار لهم تهديدا لهم وتوعدا أنهم سيسألون يوم
القيامة عما كانوا يفترون أي من هذا التشريع الباطل حيث يحرمون ويحللون ويعطون
آلهتهم ما شاءوا وسوف يوبخهم عليه ويجزيهم به جهنم وبئس المهاد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
بعبادة الله تعالى وحده.
٢ ـ وجوب الرهبة
من الله دون سواه.
٣ ـ وجوب الدين
لله إذ هو الإله الحق دون غيره.
٤ ـ كل نعمة
بالعبد صغرت أو كبرت فهى من الله سبحانه وتعالى.
٥ ـ تهديد
المشركين إن أصروا على شركهم وعدم توبتهم.
٦ ـ التنديد
بالمشركين وتشريعهم الباطل بالتحليل والتحريم والإعطاء والمنع.
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى
مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ
يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها
مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ
لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما
يَكْرَهُونَ
__________________
وَتَصِفُ
أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ
وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢))
شرح الكلمات :
(وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ) : إذ قالوا الملائكة بنات الله.
(وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) : أي الذكور من الأولاد.
(ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا) : أي متغيرا بالسواد لما عليه من كرب.
(وَهُوَ كَظِيمٌ) : أي ممتلىء بالغم.
(أَمْ يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ) : أي يدفن تلك المولودة حية وهو الوأد.
(مَثَلُ السَّوْءِ) : أي الصفة القبيحة.
(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) : أي الصفة العليا وهي لا إله إلا الله.
(أَنَّ لَهُمُ
الْحُسْنى) : أي الجنة إذ قال بعضهم ولئن رجعت إلى ربي ان لي عنده
للحسنى.
(وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ) : أي مقدمون إلى جهنم متروكون فيها.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
بيان أخطاء المشركين في اعتقاداتهم وسلوكهم فقال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ
الْبَناتِ ـ سُبْحانَهُ ـ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) وهذا من سوء أقوالهم وأقبح اعتقادهم حيث ينسبون إلى الله
تعالى البنات ، إذ قالوا الملائكة بنات الله في الوقت الذي يكرهون نسبة البنات
إليهم ، حتى إذا بشر أحدهم بأنثى بأن أخبر بأنه ولدت له بنت ظل نهاره كاملا في غم
وكرب (وَجْهُهُ مُسْوَدًّا
وَهُوَ كَظِيمٌ) ممتلىء بالغم والهم. (يَتَوارى) أي يستتر ويختفي عن أعين الناس خوفا من المعرة ، وذلك (مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) وهو البنت وهو في ذلك بين أمرين إزاء هذا المبشّر به : إما
أن يمسكه. أن يبقيه في بيته بين
__________________
أولاده (عَلى هُونٍ) أي مذلة وهوان ، وإما أن (يَدُسُّهُ فِي
التُّرابِ) أي يدفنه حيا وهو الوأد المعروف عندهم. قال تعالى منددا بهذا
الإجرام : (أَلا ساءَ ما
يَحْكُمُونَ) في حكمهم هذا من جهة نسبة البنات لله وتبرّئهم منها ، ومن
جهة وأد البنات أو إذلالهن ، قبح حكمهم الجاهلي هذا من حكم. هذا ما دلت
عليه الآية الأولى (٥٧) وهي قوله : (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ) حيث قالوا الملائكة بنات الله (سُبْحانَهُ) أي نزه تعالى نفسه عن الولد والصاحبة فلا ينبغي أن يكون له
ولد ذكرا كان أو أنثى لأنه رب كل شيء ومليكه فما الحاجة إلى الولد إذا؟ والآية
الثانية (٥٨) وهي قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى) (ظَلَّ وَجْهُهُ
مُسْوَدًّا) أي أقام النهار كله مسود الوجه من الغم (وَهُوَ كَظِيمٌ) أي ممتلىء بالغم والهم ، (يَتَوارى مِنَ
الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) أي من البنت (أَيُمْسِكُهُ عَلى
هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ)
وقوله تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
مَثَلُ السَّوْءِ) يخبر تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم منكروا البعث
الآخر لهم المثل السوء أي الصفة السوء وذلك لجهلهم وظلمة نفوسهم لأنهم لا يعملون
خيرا ولا يتركون شرا ، لعدم إيمانهم بالحساب والجزاء فهؤلاء لهم الصفة السوأى في
كل شيء ، (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ) (الْأَعْلى) أي الصفة الحسنى وهو أنه لا إله إلا الله منزه عن النقائص
رب كل شيء ومالكه ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، لا شريك له ولا ند له ولا
ولد وقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ) ثناء على نفسه بأعظم وصف العزة والقهر والغلبة لكل شيء
والحكمة العليا في تدبيره وتصريفه شؤون عباده ، وحكمه وقضائه لا إله إلا هو ولا رب
سواه. وقوله تعالى فى الآية (٦١) (وَلَوْ يُؤاخِذُ
اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها) أي على الأرض
__________________
(مِنْ دَابَّةٍ) أي نسمة تدب على الأرض من إنسان أو حيوان فهذه علة عدم
مؤاخذة الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم يفسدون ويجرمون وهذا الإهمال تابع لحكم عالية
أشار إلى ذلك بقوله : (وَلكِنْ
يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي وقت معين محدد قد يكون نهاية عمر كل أحد ، وقد يكون
نهاية الحياة كلها فإذا جاء ذلك الأجل لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه أخرى
ثم يجزيهم بأعمالهم السيئة بمثلها وما هو عزوجل بظلام للعبيد.
وآخر آية في هذا
السياق (٦٢) تضمنت التنديد بسوء حال الذين لا يؤمنون بالآخرة وذلك أنهم لجهلهم
بالله وقبح تصورهم لظلمه نفوسهم أنهم يجعلون لله تعالى ما يكرهونه لأنفسهم من
البنات والشركاء وسب الرسول وازدرائه ، ومع هذا يتبجحون بالكذب بأن لهم الحسنى أي
الجنة يوم القيامة. فرد تعالى على هذا الافتراء والهراء السخيف بقوله : (لا جَرَمَ) أي حقا وصدقا ولا محالة (أَنَّ لَهُمُ
النَّارَ) بدل الجنة (وَأَنَّهُمْ
مُفْرَطُونَ) إليها مقدمون متروكون فيها أبدا. هذا ما تضمنته الآية فى
قوله تعالى : (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى
لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ) وإن قرىء مفرطون باسم الفاعل فهم حقا مفرطون في الشر
والفساد والكفر والضلال والانحطاط الى أبعد حد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان الحال
الإجتماعية التي كان عليها المشركون وهي كراهيتهم للبنات خوف العار.
٢ ـ بيان جهلهم
بالرب تعالى فهم يؤمنون به ويجهلون صفاته حتى نسبوا اليه الولد والشريك.
٣ ـ بيان العلة في
ترك الظّلمة يتمادون زمنا في الظلم والشر والفساد.
٤ ـ بيان سوء
اعتقاد الذين لا يؤمنون بالآخرة وهو أنهم ينسبون إلى نفوسهم الحسنى ويجعلون لله ما
يكرهون من البنات والشركاء وسب الرسل وامتهانهم.
__________________
(تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ
فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً
وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ
(٦٦))
شرح الكلمات :
(تَاللهِ) : أي والله.
(أَرْسَلْنا إِلى
أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) : أي رسلا.
(فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) : فكذبوا لذلك الرسل.
(فَهُوَ وَلِيُّهُمُ
الْيَوْمَ) : أي الشيطان هو وليهم اليوم أي في الدنيا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) : أي دلالة واضحة على صحة عقيدة البعث الآخر.
(لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) : أي سماع تدبر وتفهم.
(لَعِبْرَةً) : أي دلالة قوية يعبر بها من الجهل إلى العلم لأن العبرة
من العبور.
(مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ) : أي ثفل الكرش ، أي الرّوث الموجود في الكرش.
(لَبَناً خالِصاً) : أي ليس فيه شيء من الفرث ولا الدم ، لا لونه ولا رائحته
ولا طعمه.
معنى الآيات :
يقسم الله تعالى
بنفسه لرسوله فيقول بالله يا رسولنا (لَقَدْ أَرْسَلْنا) رسلا (إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) كانوا مشركين كافرين كأمتك (فَزَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) فقاوموا رسلنا
وحاربوهم وأصروا
على الشرك والكفر فتولاهم الشيطان ، لذلك (فَهُوَ وَلِيُّهُمُ
الْيَوْمَ) أي في الدنيا (وَلَهُمْ) في الآخرة (عَذابٌ أَلِيمٌ) ، والسياق الكريم في تسلية رسول الله صلىاللهعليهوسلم
ولذا قال تعالى في
الآية الثانية : (وَما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي لإرهاقك وتعذيبك ولكن لأجل أن تبين للناس الذي اختلفوا
فيه من التوحيد والشرك والهدى والضلال. كما أنزلنا الكتاب هدى يهتدى به المؤمنون
إلى سبل سعادتهم ونجاحهم ، ورحمة تحصل لهم بالعمل به عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا
وحكما ، فيعيشون متراحمين تسودهم الأخوة والمحبة وتغشاهم الرحمة والسّلام.
بعد هذه التسلية
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عاد السياق إلى الدعوة الى التوحيد وعقيدة البعث والجزاء
بعد تقرير النبوة المحمدية بقوله تعالى : (تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا) الآية فقال تعالى : (وَاللهُ أَنْزَلَ) (مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) الماء هو ماء المطر وحياة الأرض بالنبات والزرع بعد ما
كانت ميتة لا نبات فيها وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بعد موتها (لَآيَةً) واضحة الدلالة قاطعة على وجوده تعالى وقدرته ، وعلمه
ورحمته كما هو آية على البعث بعد الموت من باب أولى. وقوله تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) أي حالا تعبرون بها من الجهل إلى العلم .. من الجهل بقدرة
الله ورحمته ووجوب عبادته بذكره وشكره إلى العلم بذلك والمعرفة به فتؤمنوا وتوحدوا
وتطيعوا. وبين وجه العبرة العظيمة فقال : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِهِ) أي بطون المذكور من الأنعام (مِنْ بَيْنِ
فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) فسبحان ذي القدرة العجيبة والعلم الواسع والحكمة التي لا
يقادر قدرها .. اللبن يقع بين الفرث والدم ،
__________________
فينتقل الدم إلى
الكبد فتوزعه على العروق لبقاء حياة الحيوان ، واللبن يساق إلى الضرع ، والفرث
يبقى أسفل الكرش ، ويخرج اللبن خالصا من شائبة الدم وشائبة الفرث فلا يرى ذلك في
لون اللبن ولا يشم في رائحته ولا يوجد في طعمه بدليل أنه سائغ للشاربين ، فلا يغص
به شارب ولا يشرق به ، حقا! انها عبرة من أجل العبر تنقل صاحبها إلى نور العلم
والمعرفة بالله في جلاله وكماله ، فتورثه محبة الله وتدفعه إلى طاعته والتقرب
إليه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ان الله
يقسم بنفسه وبما شاء من خلقه.
٢ ـ بيان أن الله
أرسل رسلا إلى أمم سبقت وأن الشيطان زين لها أعمالها فخذلها.
٣ ـ تقرير النبوة
وتسلية رسول الله صلىاللهعليهوسلم من جراء ما يلقاه من المشركين.
٤ ـ بيان مهمة
رسول الله وأنها بيان ما أنزل الله تعالى لعباده من وحيه في كتابه.
٥ ـ بيان كون
القرآن الكريم هدى ورحمة للمؤمنين الذين يعملون به.
٦ ـ دليل البعث
والحياة الثانية احياء الأرض بعد موتها فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر
على إحياء الأموات بعد فنائهم وبلاهم.
(وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ
أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ
(٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً
يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ
يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠))
__________________
شرح الكلمات :
(وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ) : أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه سكرا أي خمرا ورزقا حسنا أي والتمر والزبيب والخل
والدبس الرزق الحسن.
(وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ) : أي ألهمها أن تفعل ما تفعله بإلهام منه تعالى.
(وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) : أي يبنون لها.
(سُبُلَ رَبِّكِ
ذُلُلاً) : أي طرق ربك مذللة فلا يعسر عليك السير فيها ولا تضلين
عنها.
(شَرابٌ) : أي عسل.
(فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ) : أي من الأمراض إن شرب بنية الشفاء ، أو بضميمته الى عقار
آخر.
(إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ) : أي أخسّه من الهرم والخرف ، والخرف فساد العقل.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته الموجبة لعبادته وحده والمقررة لعقيدة
النبوة والبعث الآخر. قال تعالى في معرض بيان ذلك بأسلوب الامتنان المقتضي للشكر (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ
وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) ورزقا حسنا أي ومن بعض ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون
منه سكرا أي شرابا مسكرا. وهذا كان قبل تحريم الخمر (وَرِزْقاً حَسَناً) وهو الزبيب والخل من العنب والتمر والدبس العسل من النخل
وقوله (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي أن فيما ذكرنا لكم لآية أي دلالة واضحة على قدرتنا
وعلمنا ورحمتنا لقوم يعقلون الأمور ويدركون نتائج المقدمات ، فذو القدرة والعلم
والرحمة هو الذي يستحق التأليه والعبادة .. وقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ
إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) هذا مظهر آخر عظيم من مظاهر قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته
ورحمته يتجلى بإعلامه حشرة
__________________
النحل كيف تلد
العسل وتقدمه للإنسان فيه دواء من كل داء. فقوله (وَأَوْحى رَبُّكَ) أيها الرسول (إِلَى النَّحْلِ) بأن ألهمها (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ) أيضا بيوتا ، (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي ومما يعرش الناس لك أي يبنون لك ، اتخذي من ذلك بيوتا
لك إذ النحلة تتخذ لها بيتا داخل العريش الذي يعرش لها تبنيه بما تفرزه من الشمع وقوله
تعالى : (ثُمَّ كُلِي مِنْ
كُلِّ الثَّمَراتِ) أي ألهمها أن تأكل من كل ما تحصل عليه من الثمرات من
الأشجار والنباتات أي من أزهارها ونوارها وقوله لها (فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً) بإلهام منه تسلك ما سخر لها وذلك من الطرق فتنتقل من مكان
إلى آخر تطلب غذاءها ثم تعود الى بيوتها لا تعجز ولا تضل وذلك بتذليل الله تعالى
وتسخيره لها تلك الطرق فلا تجد فيها وعورة ولا تنساها فتخطئها. وقوله تعالى (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) أي بطون النحل (شَرابٌ) أي عسل يشرب (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ما بين أبيض وأحمر وأسود ، أو أبيض مشرب بحمرة أو يضرب إلى
صفرة. وقوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ
لِلنَّاسِ) أي من الأدواء ، هذا التذكير في قوله شفاء دال على بعض دون
بعض جائز هذا حتى يضم إليه بعض الأدوية أو العقاقير الأخرى ، أمّا مع النية أي أن
يشرب بنية الشفاء من المؤمن فإنه شفاء لكل داء وبدون ضميمة أي شيء آخر له. وفي
حديث الصحيح وخلاصته أن رجلا شكا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم استطلاق بطن أخيه أي مشي بطنه عليه فقال له اسقه العسل ،
فسقاه فعاد فقال ما أراه زاده الا استطلاقا فعاد فقال مثل ما قال أولا ثلاث مرات
وفي الرابعة أو الثالثة قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم صدق الله وكذب بطن أخيك اسقه العسل فسقاه فقام كأنما نشط
من عقال. وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من إلهام الله تعالى للنحل وتعليمها كيف تصنع
العسل ليخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس لدلالة واضحة على
__________________
علم الله وقدرته
ورحمته وحكمته المقتضية عبادته وحده وتأليهه دون سواه ولكن لقوم يتفكرون في
الأشياء وتكوينها وأسبابها ونتائجها فيهتدون إلى المطلوب منهم وهو أن يذكروا
فيتعظوا فيتوبوا إلى خالقهم ويسلموا له بعبادته وحده دون سواه وقوله تعالى في
الآية الأخرى (٧٠) (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا
يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) هذه آية أخرى أجل وأعظم في الدلالة على قدرة الله وعلمه
وحكمته ورحمته ، وهي موجبة لعبادته وحده وملزمة بالإيمان بالبعث الآخر فخلق الله
تعالى لنا وحده وهو واحد ونحن لا يحصى لنا عد ، ثم إماتته لنا موتا حقيقيا بقبض
أرواحنا ولا يستطيع أحد أن لا يموت ولا يتوفى أبدا ثم من مظاهر الحكمة أن يتوفانا
من أجال مختلفة اقتضتها الحكمة لبقاء النوع واستمرار الحياة إلى نهايتها. فمن
الناس من يموت طفلا ومنهم من يموت شابا ، وكلها حسب حكمة الابتلاء والتربية
الإلهية ، وآية أخرى ان منا من يرد إلى أرذل عمره ، أي أردأه وأخسّه فيهرم ويخرف
فيفقد ما كان له من قوة بدن وعقل ولا يستطيع أحد أن يخلصه من ذلك إلا الله ، مظهر
قدرة ورحمة أرأيتم لو شاء الله أن يرد الناس كلهم إلى أرذل العمر ولو في قرن أو
قرنين من السنين فكيف تصبح حياة الناس يومئذ؟ وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) تقرير لعلمه وقدرته ، إذ ما نتج وما كان ما ذكره من خلقنا
ووفاتنا ورد بعضنا الى أرذل العمر إلا بقدرة قادر وعلم عالم وهو الله العليم
القدير.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان منة الله
تعالى على العباد بذكر بعض أرزاقهم لهم ليشكروا الله على نعمه.
٢ ـ بيان آيات
الله تعالى الدالة على قدرته وعلمه وحكمته في خلق شراب الإنسان وغذائه ودوائه.
٣ ـ فضيلة العقل
والتعقل والفكر والتفكر.
٤ ـ تقرير عقيدة
الإيمان باليوم الآخر الدال عليه القدرة والعلم الإلهيين ، إذ من خلق وأمات لا
يستنكر منه أن يخلق مرة أخرى ولا يميت.
(وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي
رِزْقِهِمْ
عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ
يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا
يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))
شرح الكلمات :
(فَضَّلَ بَعْضَكُمْ
عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) : أي فمنكم الغني ومنكم الفقير ، ومنكم المالك ومنكم
المملوك.
(بِرَادِّي رِزْقِهِمْ
عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) : أي بجاعلي ما رزقناهم شركة بينهم وبين مماليكهم من
العبيد.
(وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) : إذ حواء خلقت من آدم وسائر النساء من نطف الرجال.
(وَحَفَدَةً) : أي خدما من زوجه وولد وولد ولد وخادم وختن.
(أَفَبِالْباطِلِ
يُؤْمِنُونَ) : أي بعبادة الأصنام يؤمنون.
(رِزْقاً مِنَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي بإنزال المطر من السماء ، وإنبات النبات من الأرض.
معنى الآيات :
ما زال السياق
العظيم في تقرير التوحيد وإبطال التنديد. فقوله تعالى : (وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ
عَلى
بَعْضٍ
فِي الرِّزْقِ) فمنكم من أغناه ومنكم من أفقره أيها الناس ، وقد يكون لأحدكم أيها الأغنياء عبيد مملوكين له ، لم لا
يرضى أن يشرك عبيده في أمواله حتى يكونوا فيها سواء لا فضل لأحدهما على الآخر؟
والجواب أنكم تقولون في استنكار عجيب كيف أسوّي مملوكي في رزقي فأصبح وإياه سواء؟
هذا لا يعقل أبدا! إذا كيف جوزتم إشراك آلهتكم في عبادة ربكم وهي مملوكة له تعالى
إذ هو خالقها وخالقكم ومالك جميعكم؟ فأين يذهب بعقولكم أيها المشركون؟ وقوله تعالى
(أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ
يَجْحَدُونَ؟) حقا إنهم جحدوا نعمة العقل أولا فلم يعترفوا بها فلذا لم
يفكروا بعقولهم ، ثم جحدوا نعمة الله عليهم في خلقهم ورزقهم فلم يعبدوه بذكره
وشكره وعبدوا غيره من أصنام وأوثان لا تملك ولا تضر ولا تنفع. هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (٧١) أما الآية الثانية فيقول تعالى فيها مقررا إنعامه تعالى على
المشركين بعد توبيخهم على إهمال عقولهم في الآية الأولى وكفرهم بنعم ربهم فيقول : (وَاللهُ) أي وحده (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ
مِنَ الطَّيِّباتِ) أي جعل لكم من أنفسكم أزواجا أي بشريّات من جنسكم تسكنون إليهنّ وتتفاهمون معهن
وتتعاونون بحكم الجنسية الآدمية وهي نعمة عظمى ، وجعل لكم من أولئك الأزواج بنين
بطريق التناسل والولادة وحفدة أيضا والمراد من الحفدة كل من يحفد أي يسرع في خدمتك
وقضاء حاجتك من زوجتك وولدك وولد ولدك وختنك أي صهرك ، وخادمك إذ الكل يحفدون لك
أي يسارعون في خدمتك بتسخير الله تعالى لك ، وثالثا (وَرَزَقَكُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي حلال الطعام والشراب على اختلافه وتنوع مذاقه وطعمه
ولذته. هذا هو الله الذي تدعون إلى عبادته وحده فتكفرون فأصبحتم بذلك تؤمنون
بالباطل وهي الأصنام
__________________
وعبادتها ،
وتكفرون بالمنعم ونعمه ولذا استحقوا التوبيخ والتقريع فقال تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ)؟ إذ عدم عبادتهم للمنعم عزوجل هو عين كفرانهم بنعمة الله تعالى. وقوله (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أصناما لا تملك لهم (رِزْقاً مِنَ
السَّماواتِ) بإنزال المطر ، (وَالْأَرْضِ) بإنبات الزروع والثمار شيئا ولو قلّ ولا يستطيعون شيئا من
ذلك لعجزهم القائم بهم لأنهم تماثيل منحوتة من حجر أو خشب وفي هذا من التنبيه لهم
على خطأهم ما لا يقادر قدره. وقوله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ
اللهَ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي ينهاهم تعالى عن ضرب الأمثال لله باتخاذ الأصنام آلهة
بإطلاق لفظ إله عليها ، والله لا مثل له ، وباعتقاد أنها شافعة لهم عند الله وأنها
تقربهم إليه تعالى ، وأنها واسطة بمثابة الوزير للأمير إلى غير ذلك ، فنهاهم عن
ضرب هذه الأمثال لله تعالى لأنه عزوجل يعلم أنه لا مثل له ولا مثال ، بل هو الله الذي لا إله إلا
هو تعالى عن الشبيه والمثيل والنظير ، وهم لا يعلمون فلذا هم متحيرون متخبطون في
ظلمات الشرك وأودية الضلال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قطع دابر
الشرك في المثل الذي حوته الآية الأولى : (وَاللهُ فَضَّلَ
بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ).
٢ ـ وجوب شكر الله
تعالى على نعمه وذلك بذكره وشكره وإخلاص ذلك له.
٣ ـ قبح كفر النعم
وتجاهل المنعم بترك شكره عليها.
٤ ـ التنديد بمن
يضربون لله الأمثال وهم لا يعلمون باتخاذ وسائط له تشبيها لله تعالى بعباده فهم
يتوسطون بالأولياء والأنبياء بدعائهم والاستغاثة بهم بوصفهم مقربين إلى الله تعالى
يستجيب لهم ، ولا يستجيب لغيرهم.
__________________
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ
لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما
يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧) وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ
لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨))
شرح الكلمات :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) : أي هو عبدا مملوكا الخ ..
(عَبْداً مَمْلُوكاً) : أي ليس بحر بل هو عبد مملوك لغيره.
(هَلْ يَسْتَوُونَ) : أي العبيد العجزة والحر المتصرف ، والجواب : لا يستوون
قطعا.
(وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً) : أي هو رجلين الخ ..
(أَبْكَمُ) : أي ولد أخرس وأصم لا يسمع.
(لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) : أي لا يفهم ولا يفهم غيره.
(وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي ما غاب فيهما.
(وَما أَمْرُ
السَّاعَةِ) : أي أمر قيامها ، وذلك بإماتة الأحياء وإحيائهم مع من مات
قبل وتبديل صور الأكوان كلها.
(الْأَفْئِدَةَ) : أي القلوب.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك والتنفير منه وقد تقدم أن الله تعالى جهل
المشركين في ضرب الأمثال له وهو لا مثل له ولا نظير ، وفي هذا السياق ضرب تعالى
مثلين وهو العليم الخبير .. فالأول قال فيه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً) أي غير حر من أحرار الناس ، (لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) إذ هو مملوك لا حق له في التصرف في مال سيده إلا بإذنه ، فلذا فهو لا يقدر على إعطاء أو منع شيء ، هذا طرف المثل
، والثاني (وَمَنْ رَزَقْناهُ
مِنَّا رِزْقاً حَسَناً) صالحا واسعا (فَهُوَ يُنْفِقُ
مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً) ليلا ونهارا لأنه حر التصرف بوصفه مالكا (هَلْ يَسْتَوُونَ ؟) الجواب لا يستويان .. إذا (الْحَمْدُ لِلَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ) والمثل مضروب للمؤمن والكافر ، فالكافر أسير للأصنام عبد
لها لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، لا يعمل في سبيل الله ولا ينفق لأنه لا يؤمن
بالدار الآخرة ، والجزاء فيها ، وأما المؤمن فهو حرّ يعمل بطاعة الله فينفق في
سبيل الله سرا وجهرا يبتغي الآخرة والمثوبة من الله ، ذا علم وإرادة ، لا يخاف إلا
الله ولا يرجو الا هو سبحانه وتعالى. وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ) هو المثال الثاني في هذا السياق وقد حوته الآية الثانية (٧٦)
فقال تعالى فيه (وَضَرَبَ اللهُ
مَثَلاً) هو (رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ) ولفظ الأبكم قد يدل على الصمم فالغالب أن الأبكم لا يسمع (لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ) فلا يفهم غيره لأنه أصم ولا يفهم غيره لأنه أبكم ، (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) أي ابن عمه أو من يتولاه من أقربائه يقومون بإعاشته
ورعايته لعجزه وضعفه وعدم قدرته على شيء. وقوله : (أَيْنَما يُوَجِّهْهُ
لا يَأْتِ بِخَيْرٍ) أي أينما يوجهه مولاه وابن عمه ليأتي بشيء
__________________
لا يأتي بخير ،
وقد يأتي بشر ، أمّا النفع والخير فلا يحصل منه شيء.
وهذا مثل الأصنام
التي تعبد من دون الله إذ هي لا تسمع ولا تبصر فلا تفهم ما يقال لها ، ولا تفهم
عابديها شيئا وهي محتاجة إليهم في صنعها ووضعها وحملها وحمايتها. وقوله تعالى (هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو الله تعالى يأمر بالعدل أي بالتوحيد والاستقامة في كل
شيء ، وهو قائم على كل شيء ، وهو على صراط مستقيم يدعو الناس إلى سلوكه لينجوا
ويسعدوا في الدارين ، فالجواب ، لا يستويان بحال ، فكيف يرضى المشركون بعبادة
وولاية الأبكم الذي لا يقدر على شيء ويتركون عبادة السميع البصير ، القوي ، القدير
، الذي يدعوهم إلى كمالهم وسعادتهم في كلتا حياتهم ، أمر يحمل على العجب ، ولكن لا
عجب مع أقدار الله وتدابير الحكيم العليم.
وقوله تعالى في
الآية (٧٧) (وَلِلَّهِ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وحده يعلم ما غاب عنا فيهما فهو يعلم من كتبت له السعادة
ومن حكم عليه بالشقاوة ، ومن يهتدي ومن لا يهتدي ، والجزاء آت بإتيان الساعة (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ) أي إتيانها (إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ
أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) إذ لا يتوقف أمرها الا على كلمة (كُنْ) فقط فتنتهي هذه الحياة بكل ما فيها ، وتأتي الحياة الأخرى
وقد تبدلت صور الأشياء كلها (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن ذلك قيام القيامة ، ومجيء الساعة. وقوله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ
أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) حقيقة لا تنكر ، الله الذى أخرجنا من بطون أمهاتنا بعد أن
صورنا في الأرحام ونمانا حتى صرنا بشرا ثم أذن بإخراجنا ، فأخرجنا ، وخرجنا لا
نعلم شيئا قط ، هذه آية القدرة الإلهية والعلم الإلهي والتدبير الإلهي ، فهل
للأصنام شيء من ذلك ، والجواب لا ، لا وثانيا جعل الله تعالى لنا الأسماع والأبصار
والأفئدة نعمة أخرى ، إذ لو لا ذلك ما سمعنا ولا أبصرنا ولا عقلنا وما قيمة حياتنا
يومئذ ، إذ العدم خير منها. وقوله :
__________________
(لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) كشف كامل عن سر هذه النعمة وهي أنه جعلنا نسمع ونبصر ونعقل
ليكلفنا فيأمرنا وينهانا فنطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، وذلك شكره منا مع
ما في ذلك الشكر من خير .. إنه إعداد للسعادة في الدارين. فهل من متذكر يا عباد
الله؟!
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال وهو تشبيه حال بحال على أن يكون ضارب المثل عالما.
٢ ـ بيان مثل
المؤمن في كماله والكافر في نقصانه.
٣ ـ بيان مثل
الأصنام في جمودها وتعب عبدتها عليها في الحماية وعدم انتفاعهم بها.
ومثل الرب تبارك
وتعالى في عدله ، ودعوته إلى الإسلام وقيامه على ذلك مع استجابة دعاء أوليائه ،
ورعايتهم ، وعلمه بهم وسمعه لدعائهم ونصرتهم في حياتهم وإكرامهم والإنعام عليهم في
كلتا حياتهم. ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم.
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى
الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ
فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً
تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠) وَاللهُ جَعَلَ
لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ
لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ
يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ
الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ
الْكافِرُونَ (٨٣))
شرح الكلمات :
(مُسَخَّراتٍ فِي
جَوِّ السَّماءِ) : أي مذللات في الفضاء بين السماء والأرض وهو الهواء.
(ما يُمْسِكُهُنَ) : أي عند قبض أجنحتها وبسطها إلا الله تعالى بقدرته وسننه
في خلقه.
(مِنْ بُيُوتِكُمْ
سَكَناً) : أي مكانا تسكنون فيه وتخلدون للراحة.
(مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعامِ بُيُوتاً) : أي خياما وقبابا.
(يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) : أي ارتحالكم في أسفاركم.
(أَثاثاً وَمَتاعاً
إِلى حِينٍ) : كبسط وأكسية تبلى وتتمزق وترمى.
ظلالا
ومن الجبال أكنانا : أي ما تستظلون به من حر الشمس ، وما تسكنون به في غيران الجبال.
(وَسَرابِيلَ) : أي قمصانا تقيكم الحر والبرد.
(وَسَرابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) : أي دروعا تقيكم الضرب والطعان في الحرب.
(لَعَلَّكُمْ
تُسْلِمُونَ) : أي رجاء أن تسلموا له قلوبكم ووجوهكم فتعبدوه وحده.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه وإبطال الشرك وتركه فيقول تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي
جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَ إِلَّا
اللهُ) فإن في خلق الطير على اختلاف أنواعه وكثرة أفراده ، وفي
طيرانه في جو السماء ، أي في الهواء وكيف يقبض جناحيه وكيف يبسطها ولا
يقع على الأرض فمن يمسكه غير الله بما شاء من تدبيره في خلقه وأكوانه إن في ذلك
المذكور لآيات عدة تدل على الخالق وقدرته وعلمه وتوجب معرفته
__________________
والتقرب إليه
وطاعته بعبادته وحده ، كما تدل على بطلان تأليه غيره وعبادة سواه ، وكون الآيات
لقوم يؤمنون هو باعتبار أنهم أحياء القلوب يدركون ويفهمون بخلاف الكافرين فإنهم
أموات القلوب فلا إدراك ولا فهم لهم ، فلم يكن لهم في ذلك آية .. وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ
مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً) أي موضع سكون وراحة ، (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ
جُلُودِ الْأَنْعامِ) الإبل والبقر والغنم (بُيُوتاً) أي خياما وقبابا (تَسْتَخِفُّونَها) أي تجدونها خفيفة المحمل (يَوْمَ ظَعْنِكُمْ) أي ارتحالكم في أسفاركم وتنقلاتكم (وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ) في مكان واحد كذلك. وقوله : (وَمِنْ أَصْوافِها
وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها) أي جعل لكم منه (أَثاثاً) كالبسط الفرش والأكسية (متاعا) أي تتمتعون بها إلى حين
بلاها وتمزقها وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ) من أشياء كثيرة (ظِلالاً) تستظلون بها من حر الشمس (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبالِ أَكْناناً) تكنون فيها أنفسكم من المطر والبرد أو الحر وهي غيران
وكهوف في الجبال (وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ) قمصان (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) والبرد (وَسَرابِيلَ) هي الدروع (تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) في الحرب تتقون بها ضرب السيوف وطعن الرماح. أليس الذي جعل
لكم هذه كلها أحق بعبادتكم وطاعتكم ، وهكذا (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ) فبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه ليعدّكم للإسلام
فتسلموا. وهنا وبعد هذا البيان الواضح والتذكير البليغ يقول لرسوله (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عما ذكرتهم به فلا تحزن ولا تأسف إذ ليس عليك
هداهم (فَإِنَّما عَلَيْكَ
الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد بلغت وبينت. فلا عليك بعد شيء من التبعة والمسؤولية. وقوله
: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللهِ) أي نعمة الله عليهم كما ذكّرناهم بها (ثُمَّ يُنْكِرُونَها) فيعبدون غير المنعم بها (وَأَكْثَرُهُمُ
الْكافِرُونَ) أي الجاحدون المكذبون بنبوتك ورسالتك والإسلام الذي جئت
به.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا ينتفع
بالآيات إلا المؤمنون لحياة قلوبهم ، أما الكافرون فهم في ظلمة الكفر لا يرون شيئا
من الآيات ولا يبصرون.
٢ ـ مظاهر قدرة
الله وعلمه وحكمته ورحمته ونعمه تتجلى في هذه الآيات الأربع ومن العجب أن المشركين
كالكافرين عمي لا يبصرون شيئا منها وأكثرهم الكافرون.
٣ ـ مهمة الرسول صلىاللهعليهوسلم ليست هداية القلوب وانما هي بيان الطريق بالبلاغ المبين.
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ
مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ
دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا
إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ
الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً
وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩))
شرح الكلمات :
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ) : أي اذكر يوم نبعث.
(شَهِيداً) : هو نبيها.
(لا يُؤْذَنُ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا) : أي بالاعتذار فيتعذرون.
(وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) : أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع إلى اعتقاد وقول وعمل
ما يرضي الله عنهم.
(وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ) : أي الذين كانوا يعبدونهم من دون الله كالأصنام
والشياطين.
(فَأَلْقَوْا
إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) : أي ردوا عليهم قائلين لهم إنكم لكاذبون.
(وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) : أي ذلوا له وخضعوا لحكمه واستسلموا.
(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) : من أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وتنجيهم من عذابه ،
ومعنى ضل غاب.
(عَذاباً فَوْقَ
الْعَذابِ) : أنه عقارب وحيات كالنّخل الطوال والبغال الموكفة.
(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ) : أي القرآن.
(تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) : أي لكل ما بالأمة من حاجة إليه في معرفة الحلال والحرام
والحق والباطل والثواب والعقاب.
معنى الآيات :
انحصر السياق
الكريم في هذه الآيات الست في تقرير البعث والجزاء مع النبوة فقوله تعالى : (يَوْمَ نَبْعَثُ) أي اذكر يا رسولنا محمد يوم نبعث (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ) من الأمم (شَهِيداً) هو نبيها الذي نبىء فيها وأرسل إليها (ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) أي بالاعتذار فيعتذرون (وَلا هُمْ
يُسْتَعْتَبُونَ) أي لا يطلب منهم العتبى أي الرجوع الى اعتقاد وقول وعمل يرضي الله عنهم أي اذكر
هذا لقومك ، علهم يذكرون فيتعظون ، فيتوبون ، فينجون
__________________
ويسعدون. وقوله في
الآية الثانية (٨٥) (وَإِذا رَأَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ) أي يوم القيامة (فَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون. اذكر هذا أيضا تذكيرا وتعليما ، واذكر لهم (إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا
شُرَكاءَهُمْ) في عرصات القيامة أو في جهنم صاحوا قائلين (رَبَّنا) أي يا ربنا (هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا
الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) أي نعبدهم بدعائهم والإستغاثة بهم ، (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ) فورا (إِنَّكُمْ
لَكاذِبُونَ.)
(وَأَلْقَوْا إِلَى
اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي الإستسلام فذلوا لحكمه (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما
كانُوا يَفْتَرُونَ) في الدنيا من ألوان الكذب والترهات كقولهم هؤلاء شفعاؤنا
عند الله ، وأنهم ينجون من النار بشفاعتهم ، وأنهم وسيلتهم إلى الله كل ذلك ضل أي
غاب عنهم ولم يعثروا منه على شيء. وقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) غيرهم بالدعوة إلى الكفر وأسبابه والحمل عليه أحيانا
بالترهيب والترغيب (زِدْناهُمْ عَذاباً
فَوْقَ الْعَذابِ) الذي استوجبوه بكفرهم. ورد أن هذه الزيادة من العذاب أنها
عقارب كالبغال الدهم ، وأنها حيات كالنخل الطوال والعياذ بالله تعالى من النار وما
فيها من أنواع العذاب ، وقوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ) أي اذكر يا رسولنا يوم نبعث (فِي كُلِّ أُمَّةٍ
شَهِيداً) أي يوم القيامة (عَلَيْهِمْ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا
بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي على من أرسلت إليهم من أمتك. فكيف يكون الموقف إذ تشهد
على أهل الإيمان بالإيمان وعلى أهل الكفر بالكفر. وعلى أهل التوحيد بالتوحيد ،
وعلى أهل الشرك بالشرك إنه لموقف صعب تعظم فيه الحسرة وتشتد الندامة .. وقوله
تعالى في خطاب رسوله مقررا نبوته والوحي إليه (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ) أي القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) الأمة في حاجة إلى معرفته من الحلال والحرام والأحكام
والأدلة (وَهُدىً) من كل ضلال (وَرَحْمَةً) خاصة بالذين يعملون به ويطبقونه على أنفسهم وحياتهم فيكون
__________________
رحمة عامة بينهم (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) أي المنقادين لله في أمره ونهيه بشرى لهم بالأجر العظيم
والثواب الجزيل يوم القيامة ، وبالنصر والفوز والكرامة في هذه الدار. وبعد إنزالنا
عليك هذا الكتاب فلم يبق من عذر لمن يريد أن يعتذر يوم القيامة ولذا ستكون شهادتك
على امتك أعظم شهادة وأكثرها أثرا على نجاة الناجين وهلاك الهالكين ولا يهلك على
الله إلا هالك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث الآخر بما لا مزيد عليه لكثرة ألوان العرض لما يجرى في ذلك اليوم.
٢ ـ براءة
الشياطين والأصنام الذين أشركهم الناس في عبادة الله من المشركين بهم والتبرؤ منهم
وتكذيبهم.
٣ ـ زيادة العذاب
لمن دعا الى الشرك والكفر وحمل الناس على ذلك.
٤ ـ لا عذر لأحد
بعد أن أنزل الله تعالى القرآن تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين.
(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها
وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ
(٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً
تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
__________________
بَيْنَكُمْ
أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ
وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢)
وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣))
شرح الكلمات :
(بِالْعَدْلِ) : الإنصاف ومنه التوحيد.
(الْإِحْسانِ) : أداء الفرائض وترك المحارم مع مراقبة الله تعالى.
(وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى) : أي إعطاء ذي القربى حقوقهم من الصلة والبر.
(عَنِ الْفَحْشاءِ) : الزنا.
(يَعِظُكُمْ) : أي يأمركم وينهاكم
(تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون
(تَوْكِيدِها) : أي تغليظها
(نَقَضَتْ غَزْلَها) : أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته.
(مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) : أي أحكام له وبرم.
(أَنْكاثاً) : جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام.
(كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها) : هي حمقاء مكة وتدعى ريطة بنت سعد بن تيم القرشية.
(دَخَلاً بَيْنَكُمْ) : الدخل ما يدخل في الشيء وهو ليس منه للإفساد والخديعة.
(أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) : أي أكثر منها عددا وقوة.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ) أي أن الله يأمر في الكتاب الذي أنزله تبيانا لكل شيء ،
يأمر بالعدل وهو الإنصاف ومن ذلك أن يعبد الله بذكره وشكره لأنه الخالق المنعم
__________________
وتترك عبادة غيره
لأن غيره لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم بشيء. ولذا فسر هذا اللفظ بلا إله إلا الله ، (وَالْإِحْسانِ) وهو أداء الفرائض واجتناب المحرمات مع مراقبة الله تعالى
في ذلك حتى يكون الأداء على الوجه المطلوب إتقانا وجودة والإجتناب خوفا من الله
حياء منه ، وقوله (وَإِيتاءِ ذِي
الْقُرْبى) أي ذوي القرابات حقوقهم من البر والصلة. هذا مما أمر الله
تعالى به في كتابه ، ومما ينهى عنه الفحشاء وهو الزنا واللواط وكل قبيح اشتد قبحه
وفحش حتى البخل (وَالْمُنْكَرِ) وهو كل ما أنكر الشرع وانكرته الفطر السليمة والعقول
الراجحة السديدة ، وينهى عن البغي وهو الظلم والاعتداء ومجاوزة الحد في الأمور كلها ، وقوله (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي أمر بهذا في كتابه رجاء أن تذكروا فتتعظوا فتمتثلوا
الأمر وتجتنبوا النهي. وبذلك تكملون وتسعدون. ولذا ورد أن هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) إلى (تَذَكَّرُونَ) هي أجمع آية في كتاب الله للخير والشر. وهي كذلك فما من
خير إلا وأمرت به ولا من شر إلا ونهت عنه. وقوله تعالى (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا
عاهَدْتُمْ) أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بالوفاء بالعهود فعلى
كل مؤمن بايع إماما أو عاهد أحدا على شيء أن يفي له بالعهد ولا ينقضه. «إذ لا
إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له» كما في الحديث الشريف .. وقوله
تعالى (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ
بَعْدَ تَوْكِيدِها) الأيمان جمع يمين وهو الحلف بالله وتوكيدها تغليظها
بالألفاظ الزائدة (وَقَدْ جَعَلْتُمُ
اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) أي وكيلا ، أي أثناء حلفكم به تعالى ، فقد جعلتموه وكيلا ،
فهذه الآية حرمت نقض الأيمان وهو نكثها وعدم الإلتزام بها بالحنث فيها لمصالح
مادية . وقوله
__________________
تعالى (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
تَفْعَلُونَ) فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها. وقوله تعالى (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ
غَزْلَها) ، وهي امرأة بمكة حمقاء تغزل ثم تنكث غزلها وتفسده بعد إبرامه وإحكامه فنهى الله تعالى المؤمنين
أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً
بَيْنَكُمْ) أي إفسادا وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها ، ثم تنقضون
عهدكم وتحلون ما أبرمتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون
بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ
هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) أي جماعة أكثر من جماعة رجالا وسلاحا أو مالا ومنافع.
وقوله تعالى : (إِنَّما يَبْلُوكُمُ
اللهُ بِهِ) أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل
إليها ، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولا
تفعلوا إيثارا للدنيا عن الآخرة ، (وَلَيُبَيِّنَنَّ
لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ثم يحكم بينكم ويجزيكم ، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته
.. وقوله تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) على التوحيد والهداية لفعل .. ولكن اقتضت حكمته العالية أن
يهدي من يشاء هدايته لأنه رغب فيها وطلبها ، ويضل من يشاء إضلاله لأنه رغب في
الضلال وطلبه وأصر عليه بعد النهي عنه. وقوله تعالى : (لَتُسْئَلُنَ) أي سؤال توبيخ وتأنيب (عَمَّا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) من سوء وباطل ، ولازم ذلك الجزاء العادل من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها وهم لا يظلمون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أجمع آية
للخير والشر في القرآن وهي آية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) الآية (٩٠).
٢ ـ وجوب العدل
والإحسان وإعطاء ذوي القربى حقوقهم الواجبة من البر والصلة.
__________________
٣ ـ تحريم الزنا
واللواط وكل قبيح اشتد قبحه من الفواحش الظاهرة والباطنة.
٤ ـ تحريم البغي
وهو الظلم بجميع صوره وأشكاله.
٥ ـ وجوب الوفاء
بالعهود وحرمة نقضها.
٦ ـ حرمة نقض
الأيمان بعد توكيدها وتوطين النفس عليها لتخرج لغو اليمين.
٧ ـ من بايع أميرا
أو عاهد أحدا يجب عليه الوفاء ولا يجوز النقض والنكث لمنافع دنيوية أبدا.
(وَلا تَتَّخِذُوا
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا
السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا
بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ
وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ
(٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما
كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧))
شرح الكلمات :
(دَخَلاً بَيْنَكُمْ) : أي لأجل الإفساد والخديعة.
(وَتَذُوقُوا السُّوءَ) : أي العذاب.
(ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ) : يفنى وينتهى.
(وَهُوَ مُؤْمِنٌ) : أي والحال أنه عند ما عمل صالحا كان مؤمنا ، إذ بدون
إيمان لا عمل يقبل.
(حَياةً طَيِّبَةً) : في الدنيا بالقناعة والرزق الحلال وفي الآخرة هي حياة
الجنة.
(بِأَحْسَنِ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) : أي يجزيهم على كل أعمالهم حسنها وأحسنها بحسب الأحسن
فيها.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تربية المؤمنين أهل القرآن الذي هو تبيان كل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقال
تعالى لهم (وَلا تَتَّخِذُوا
أَيْمانَكُمْ دَخَلاً) أي خديعة (بَيْنَكُمْ) لتتوصلوا بالأيمان إلى غرض دنيوي سافل ، (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ
ثُبُوتِها) بأن يقع أحدكم في كبيرة من هذا النوع ، يحلف بالله بقصد
الخداع والتضليل فتذوقوا السوء في الدنيا بسبب صدكم عن سبيل الله من تعاهدونهم أو
تبايعونهم وتعطونهم أيمانكم وعهودكم ثم تنقضوها فهؤلاء ينصرفون عن الإسلام ويعرضون
عنه بسبب ما رأوا منكم من النقض والنكث ، وتتحملون وزر ذلك ، ويكون لكم العذاب
العظيم يوم القيامة. فإياكم والوقوع في مثل هذه الورطة ، فاحذروا أن تزل قدم أحدكم
عن الإسلام بعد أن رسخت فيه. وقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ
اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وكل ما في الدنيا قليل وقوله تعالى إنما عند الله هو خير
لكم قطعا ، لأن ما عندكم من مال أو متاع ينفد أي يفنى ، (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) لا نفاذ له ، فاذكروا هذا ولا تبيعوا الغالي بالرخيص
والباقي بالفاني ، وقوله تعالى : (وَلَنَجْزِيَنَّ
الَّذِينَ صَبَرُوا) على عهودهم (أَجْرَهُمْ) على صبرهم (بِأَحْسَنِ ما كانُوا
يَعْمَلُونَ) أي يضاعف لهم الأجر فيعطيهم سائر أعمالهم حسنها وأحسنها
بحسب أفضلها وأكملها حتى يكون أجر النافلة ، كأجر الفريضة وهذا وعد من الله تعالى
لمن يصبر على إيمانه واسلامه ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ، ووعد ثان في
قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) إلا أن أصحاب هذا الوعد هم أهل الإيمان والعمل الصالح ،
الإيمان الحق الذي يدفع إلى العمل الصالح ، ولازم ذلك أنهم تخلوا عن الشرك
والمعاصي ، هؤلاء وعدهم ربهم بأنه يحييهم في الدنيا حياة طيبة لا خبث فيها قناعة
وطيب طعام وشراب ورضا ، هذا في
__________________
الدنيا وفي الآخرة
الجنة والجزاء يكون بحسب أحسن عمل عملوه من كل نوع ، من الصلاة كأفضل صلاة وفي
الصدقات بأفضل صدقة وهكذا. (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وآتنا ما وعدتهم إنك
بر رحيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة اتخاذ
الأيمان طريقا إلى الغش والخديعة والإفساد.
٢ ـ ما عند الله
خير مما يحصل عليه الإنسان بمعصيته الرحمن من حطام الدنيا.
٣ ـ عظم أجر الصبر
على طاعة الله تعالى فعلا وتركا.
٤ ـ وعد الصدق لمن
آمن وعمل صالحا من ذكر وأنثى بالحياة الطيبة في الدنيا والآخرة.
(فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ
لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩)
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ
مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما
يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢))
شرح الكلمات :
(فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ) : أي أردت أن تقرأ القرآن.
(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
مِنَ الشَّيْطانِ) : أي قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لحمايتك من وسواسه.
(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ
سُلْطانٌ) : أي قوة وتسلط على إفساد الذين آمنوا وإضلالهم ، ما داموا
متوكلين على الله.
(وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ) : أي بنسخها وإنزاله آية أخرى غيرها لمصلحة العباد.
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ) : أي جبريل عليهالسلام.
(لِيُثَبِّتَ
الَّذِينَ آمَنُوا) : أي على إيمانهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في هداية المسلمين وتكميلهم ، فقوله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ) يا محمد أنت أو أحد من المؤمنين أتباعك (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ
الرَّجِيمِ) أي إذا كنت قارئا عازما على القراءة فقل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فإن ذلك يقيك من وسواسه الذي قد يفسد
عليك تلاوتك ، وقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ) أي للشيطان (سُلْطانٌ) يعني تسلط وغلبة وقهر (عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وهذه بشرى خير للمؤمنين (إِنَّما سُلْطانُهُ
عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) بطاعته والعمل بتزيينه للشر والباطل ، (وَالَّذِينَ هُمْ
بِهِ مُشْرِكُونَ). هؤلاء هم الذين يتسلط الشيطان عليهم فيغويهم ويضلهم حتى
يهلكهم. وقوله تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أي نسخنا حكما بحكم آخر بآية أخرى قال المشركون المكذبون
بالوحي الإلهي (إِنَّما أَنْتَ) يا محمد (مُفْتَرٍ) تقول بالكذب والخرص ، أي يقول اليوم شيئا ويقول غدا خلافه.
وقوله تعالى : (وَاللهُ أَعْلَمُ
بِما يُنَزِّلُ) فإنه ينزله لمصلحة عباده فينسخ ويثبت لأجل مصالح المؤمنين.
وعلم الله تعالى رسوله كيف يرد على هذه الشبهة وقال له (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِ) فلست أنت الذي تقول ما تشاء وإنما هو وحي الله وكلامه ينزل
به جبريل عليهالسلام من عند ربك بالحق الثابت عند الله الذي لا يتبدل ولا يتغير
، وذلك لفائدة تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وإسلامهم.
__________________
فكلما نزل قرآن
ازداد المؤمنون إيمانا فهو كالغيث ينزل على الأرض كلما نزل ازدادت حياتها نضرة
وبهجة فكذلك نزول القرآن تحيا به قلوب المؤمنين ، وهو أي القرآن هدى من كل ضلالة.
وبشرى لكل المسلمين بفلاح الدنيا وفوز الآخرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استحباب
الاستعاذة عند قراءة القرآن بلفظ : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
٢ ـ بيان أنه لا
تسلط للشيطان على المؤمنين المتوكلين على ربهم.
٣ ـ بيان أن سلطان
الشيطان على أوليائه العاملين بطاعته المشركين بربهم.
٤ ـ بيان أن
القرآن فيه الناسخ والمنسوخ.
٥ ـ بيان فائدة
نزول القرآن بالناسخ والمنسوخ وهي تثبيت الذين آمنوا على إيمانهم وهدى من الضلالة
وبشرى للمسلمين بالفوز والفلاح في الدارين.
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ
أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ
هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ
أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ
بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ
وَأَنَّ
اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ
عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨)
لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))
شرح الكلمات :
(بَشَرٌ) : يعنون قينا (حدادا) نصرانيا في مكة.
(لِسانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) : أي يميلون إليه.
(وَهذا لِسانٌ
عَرَبِيٌ) : أي القرآن فكيف يعلمه أعجمي.
(إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) : أي على التلفظ بالكفر فتلفظ به.
(وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ
بِالْكُفْرِ صَدْراً) : أي فتح صدره الكفر وشرحه له فطابت نفسه له.
(وَأُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) : أي عما يراد بهم.
(لا جَرَمَ) : أي حقا.
(هُمُ الْخاسِرُونَ) : أي لمصيرهم إلى النار خالدين فيها أبدا.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الرد على المشركين الذين اتهموا الرسول صلىاللهعليهوسلم بالافتراء فقال تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) أي يعلم محمدا بشر أي انسان من الناس ، لا أنه وحي يتلقاه
من الله. قال تعالى في الرد على هذه الفرية وإبطالها (لِسانُ الَّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) أي يميلون إليه بأنه هو الذي يعلم محمد لسانه (أَعْجَمِيٌ) لأنه عبد رومي ، (وَهذا) أي القرآن (لِسانٌ عَرَبِيٌّ
مُبِينٌ) ذو فصاحة وبلاغة وبيان فكيف
__________________
يتفق هذا مع ما
يقولون انهم يكذبون لا غير ، وقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) وهي نور وهدى وحجج قواطع ، وبرهان ساطع (لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) إلى معرفة الحق وسبيل الرشد لأنهم أعرضوا عن طريق الهداية
وصدوا عن سبيل العرفان وقوله (وَلَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ) أي جزاء كفرهم بآيات الله. وقوله (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي إنما يختلق الكذب ويكذب فعلا الكافر بآيات الله لأنه لا
يرجو ثواب الله ولا يخاف عقابه ، فلذا لا يمنعه شيء عن الكذب ، أما المؤمن فإنه
يرجو ثواب الصدق ويخاف عقاب الكذب فلذا هو لا يكذب أبدا ، وبذا تعين أن النبي لم
يفتر الكذب وإنما يفترى الكذب أولئك المكذبون بآيات الله وهم حقا الكاذبون. وقوله
تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على التلفظ بالكفر (وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) لا يخامره شك ولا يجد اضطرابا ولا قلقا فقال كلمة الكفر
لفظا فقط ، فهذا كعمار بن ياسر كانت قريش تكرهه على كلمة الكفر فأذن له الرسول صلىاللهعليهوسلم في قولها بلسانه ولكن المستحق للوعيد الآتي (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي رضي بالكفر وطابت نفسه وهذا وأمثاله (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي باءوا بغضب الله وسخطه ولهم في الآخرة عذاب عظيم ، وعلل
تعالى لهذا الجزاء العظيم بقوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ) بكفرهم بالله وعدم إيمانهم به لما في ذلك من التحرر من
العبادات ، فلا طاعة ولا حلال ولا حرام. وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الْكافِرِينَ) هذا وعيد منه تعالى سبق به علمه وأن القوم الكافرين يحرمهم
التوفيق للهداية عقوبة لهم على اختيارهم الكفر وإصرارهم عليه. وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى
قُلُوبِهِمْ) وعلى سمعهم وأبصارهم أولئك الذين توعدهم الله بعدم هدايتهم
هم الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون (وَسَمْعِهِمْ) فهم لا يسمعون المواعظ ودعاء الدعاة إلى
__________________
الله تعالى (وَأَبْصارِهِمْ) فهم لا يبصرون آيات الله وحججه في الكون ، وما حصل لهم من
هذه الحال سببه الإعراض المتعمد وإيثار الحياة الدنيا ، والعناد ، والمكابرة ،
والوقوف في وجه دعوة الحق والصد عنها. وقوله (وَأُولئِكَ هُمُ
الْغافِلُونَ) أي عمّا خلقوا له ، وعما يراد لهم من نكال في الآخرة وعذاب
أليم. وقوله تعالى (لا جَرَمَ) أي حقا (أَنَّهُمْ فِي
الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) المغبونون حيث وجدوا أنفسهم في عذاب أليم دائم لا يخرجون
منه ولا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ دفاع الله
تعالى عن رسوله ودرء كل تهمة توجه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ المكذبون
بآيات الله يحرمون هداية الله ، لأن طريق الهداية هو الإيمان بالقرآن. فلما كفروا
به فعلى أي شيء يهتدون.
٣ ـ المؤمنون لا
يكذبون لإيمانهم بثواب الصدق وعقاب الكذب ، ولكن الكافرين هم الذين يكذبون لعدم ما
يمنعهم من الكذب إذ لا يرجون ثوابا ولا يخافون عقابا.
٤ ـ الرخصة في كلمة الكفر في حال التعذيب بشرط اطمئنان القلب إلى
الإيمان وعدم انشراح الصدر بكلمة الكفر.
٥ ـ إيثار الدنيا
على الآخرة طريق الكفر وسبيل الضلال والهلاك.
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ
تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ
__________________
نَفْسٍ
ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ
آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا
يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣))
شرح الكلمات :
(هاجَرُوا) : أي إلى المدينة.
(مِنْ بَعْدِ ما
فُتِنُوا) : أي فتنهم المشركون بمكة فعذبوهم حتى قالوا كلمة الكفر
مكرهين.
(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها) : أي من بعد الهجرة والجهاد والصبر على الإيمان والجهاد.
(لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) : أي غفور لهم رحيم بهم.
(يَوْمَ تَأْتِي) : أي اذكر يا محمد يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.
(مَثَلاً قَرْيَةً) : هي مكة.
(رِزْقُها رَغَداً) : أي واسعا.
(فَكَفَرَتْ
بِأَنْعُمِ اللهِ) : أي بالرسول والقرآن والأمن ورغد العيش.
(فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ) : أي بسبب قحط أصابهم حتى أكلوا العهن لمدة سبع سنين.
(وَالْخَوْفِ) : حيث أصبحت سرايا الإسلام تغزوهم وتقطع عنهم سبل تجارتهم.
معنى الآيات :
بعد ما ذكر الله
تعالى رخصة كلمة الكفر عند الإكراه وبشرط عدم انشراح الصدر بالكفر ذكر مخبرا عن
بعض المؤمنين ، تخلفوا عن الهجرة بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلما أرادوا الهجرة منعتهم قريش وعذبتهم حتى قالوا كلمة
الكفر ، ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا وجاهدوا
وصبروا فأخبر الله
تعالى عنهم بأنه لهم مغفرته ورحمته ، فلا يخافون ولا يحزنون فقال تعالى (ثُمَّ إِنَ رَبَّكَ) أيها الرسول (لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي عذّبوا (ثُمَّ جاهَدُوا
وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي غفور لهم رحيم بهم.
وقوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي
كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) أي اذكر ذلك واعظا به المؤمنين أي تخاصم طالبة النجاة
لنفسها (وَتُوَفَّى كُلُّ
نَفْسٍ ما عَمِلَتْ) أي من خير أو شر (وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) لأن الله عدل لا يجور في الحكم ولا يظلم. وقوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) أي مكة (كانَتْ آمِنَةً) من غارات الأعداء (مُطْمَئِنَّةً) لا ينتابها فزع ولا خوف ، لما جعل الله تعالى في قلوب
العرب من تعظيم الحرم وسكانه ، (يَأْتِيها رِزْقُها
رَغَداً) أي واسعا (مِنْ كُلِ مَكانٍ) حيث يأتيها من الشام واليمن في رحلتيهما في الصيف والشتاء (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) وهي تكذيبها برسول الله صلىاللهعليهوسلم وإنكارها للتوحيد ، وإصرارها على الشرك وحرب الإسلام (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ) فدعا عليهم الرسول اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف
السبع الشداد ، فأصابهم القحط سبع سنوات فجاعوا حتى أكلوا الجيف والعهن ، وأذاقها
لباس الخوف إذ أصبحت سرايا الإسلام تعترض طريق تجارتها بل تغزوها في عقر دارها ،
وقوله تعالى (بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) أي جزاهم الله بالجوع والخوف بسبب صنيعهم الفاسد وهو
اضطهاد المؤمنين بعد كفرهم وشركهم وإصرارهم على ذلك. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ) هو محمد صلىاللهعليهوسلم (فَكَذَّبُوهُ) أي جحدوا رسالته وانكروا نبوته وحاربوا دعوته (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) عذاب الجوع والخوف والحال أنهم (ظالِمُونَ) أي مشركون وظالمون لأنفسهم حيث عرضوها
__________________
بكفرهم إلى عذاب
الجوع والخوف.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل الهجرة
والجهاد والصبر ، وما تكفر هذه العبادات من الذنوب وما تمحو من خطايا.
٢ ـ وجوب التذكير باليوم
الآخر وما يتم فيه من ثواب وعقاب للتجافي عن الدنيا والإقبال على الآخرة.
٣ ـ استحسان ضرب
الأمثال من أهل العلم.
٤ ـ كفر النعم
بسبب زوالها والانتقام من أهلها.
٥ ـ تكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم في ما جاء به ، ولو بالإعراض عنه وعدم العمل به يجر البلاء
والعذاب.
(فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ
وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ
باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ
الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ
(١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا
حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨))
شرح الكلمات :
(فَكُلُوا) : أي أيها الناس.
(حَلالاً طَيِّباً) : أي غير حرام ولا مستقذر.
واشكروا
نعمة الله عليكم : أي بعبادته وحده وبالانتهاء إلى ما أحل لكم عما حرمه عليكم.
(إِنْ كُنْتُمْ
إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) : أي إن كنتم تعبدونه وحده فامتثلوا أمره ، فكلوا مما أحل
لكم وذروا ما حرم عليكم.
(الْمَيْتَةَ) : أي ما مات من الحيوان حتف أنفه من غير تذكية شرعية.
(وَالدَّمَ) : أي الدم المسفوح السائل لا المختلط باللحم والعظم.
(وَما أُهِلَّ
لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) : أي ما ذكر عليه غير اسم الله تعالى.
(غَيْرَ باغٍ وَلا
عادٍ) : أي غير باغ على أحد ، ولا عاد أي متجاوز حد الضرورة.
(وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) : أي لا تحللوا ولا تحرموا بألسنتكم كذبا على الله فتقولوا
هذا حلال وهذا حرام بدون تحليل ولا تحريم من الله تعالى.
(وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا) : أي اليهود.
(حَرَّمْنا ما
قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) : أي في سورة الأنعام.
معنى الآيات :
امتن الله عزوجل على عباده ، فأذن لهم أن يأكلوا مما رزقهم من الحلال الطيب
ويشكروه على ذلك بعبادته وحده وهذا شأن من يعبد الله تعالى وحده ، فإنه يشكره على
ما أنعم به عليه ، وقوله تعالى : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) فلا تحرموا ما لم يحرم عليكم كالسائبة والبحيرة والوصيلة
التي حرمها المشركون افتراء على الله وكذبا. وقوله (فَمَنِ اضْطُرَّ) منكم أي خاف على نفسه ضرر الهلاك بالموت لشدة الجوع وكان (غَيْرَ باغٍ) على أحد ولا معتد ما أحل له إلى ما حرم عليه
__________________
فليأكل ما يدفع به
غائلة الجوع ولا إثم عليه (فَإِنَّ اللهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر للمضطر كما يغفر للتائب ويرحم المضطر فيأذن له في
الأكل دفعا للضرر رحمة به كما يرحم من أناب إليه.
وقوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا
حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) أي ينهاهم عن التحريم والتحليل من تلقاء أنفسهم بأن يصفوا
الشيء بأنه حلال أو حرام لمجرد قولهم بألسنتهم الكذب : هذا حلال وهذا حرام كما
يفعل المشركون فحللوا وحرموا بدون وحي إلهي ولا شرع سماوي. ليؤول قولهم وصنيعهم
ذلك الى الإفتراء على الله والكذب عليه. مع أن الكاذب على الله لا يفلح أبدا لقوله
(إِنَّ الَّذِينَ
يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتاعٌ قَلِيلٌ) وإن تمتعوا قليلا في الدنيا بمال أو ولد أو عزة وسلطان فإن
ذلك متاع قليل جدا ولا يعتبر صاحبه مفلحا ولا فائزا. فإن وراء ذلك العذاب الآخروي
الأليم الدائم الذي لا ينقطع. وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ
هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يخاطب الله تعالى رسوله فيقول : كما حرمنا على هذه الأمة
المسلمة الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، حرمنا على اليهود ما
قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام. إذ قال تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا
حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ
بِعَظْمٍ). وحرم هذا الذي حرم عليهم بسبب ظلم منهم فعاقبهم الله فحرم
عليهم هذه الطيبات التي أحلها لعباده المؤمنين. ولذا قال تعالى (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ يجب مقابلة
النعم بالشكر فمن غير العدل أن يكفر العبد نعم الله تعالى عليه فلا يشكره عليها
بذكره وحمده وطاعته بفعل محابه وترك مساخطه.
__________________
٢ ـ بيان المحرمات
من المطاعم وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله.
٣ ـ بيان الرخصة
في الأكل من المحرمات المذكورة لدفع غائلة الموت.
٤ ـ حرمة التحريم
والتحليل بغير دليل شرعي قطعي لا ظني إلا ما غلب على الظن تحريمه.
٥ ـ حرمة الكذب
على الله وأن الكاذب على الله لا يفلح في الآخرة وفلاحه في الدنيا جزئ قليل لا
قيمة له .. هذا إن أفلح.
٦ ـ قد يحرم العبد
النعم بسبب ظلمه فكم حرمت أمة الإسلام من نعم بسبب ظلمها في عصور انحطاطها.
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) إِنَّ
إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))
شرح الكلمات :
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ
لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) : أي ثم إن ربك غفور رحيم للذين عملوا السوء بجهالة ثم
تابوا.
(مِنْ بَعْدِها) : أي من بعد الجهالة والتوبة.
(إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً) : أي إماما جامعا لخصال الخير كلها قدوة يقتدى به في ذلك.
(قانِتاً لِلَّهِ
حَنِيفاً) : أي مطيعا لله حنيفا : مائلا إلى الدين القيم الذي هو
الإسلام.
(اجْتَباهُ) : أي ربه اصطفاه للخلة بعد الرسالة والنبوة.
(وَآتَيْناهُ فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً) : هي الثناء الحسن من كل أهل الأديان السماوية.
(إِنَّما جُعِلَ
السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) : أن اليهود أمروا بتعظيم الجمعة فرفضوا وأبوا إلا السبت
ففرض الله عليهم ذلك وشدد لهم فيه عقوبة لهم.
معنى الآيات :
بعد ما نددت
الآيات في سياق طويل بالشرك وإنكار البعث والنبوة من قبل المشركين الجاحدين
المعاندين ، وقد أوشك سياق السورة على الانتهاء فتح الله تعالى باب التوبة لهم
وقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ) أي بالمغفرة والرحمة (لِلَّذِينَ عَمِلُوا
السُّوءَ بِجَهالَةٍ) فأشركوا بالله غيره وأنكروا وحيه وكذبوا بلقائه (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) فوحدوه تعالى بعبادته وأقروا بنبوة رسوله وآمنوا بلقائه
واستعدوا له بالصالحات (وَأَصْلَحُوا) ما كانوا قد أفسدوه من قلوبهم وأعمالهم وأحوالهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) من بعد هذه التوبة والأوبة الصحيحة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) بهم. فكانت بشرى لهم على لسان كتاب ربهم. وقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً
قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً
لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي
الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إنه لما كان من شبه المشركين انهم على دين أبيهم ابراهيم
باني البيت وشارع المناسك ومحرم الحرم ، واليهود والنصارى كذلك يدعون أنهم على ملة
إبراهيم فأصر الجميع على أنه متبع لملة إبراهيم وأنه على دينه ورفضوا الإسلام بدعوى
ما هم عليه هو دين الله الذي جاء به إبراهيم أبو الأنبياء عليه
__________________
السّلام ، ومن باب
إبطال الباطل وإزاحة ستار الشبه وتنقية الحق لدعوة الحق والدين الحق ذكر تعالى
جملة من حياة إبراهيم الروحية والدينية كمثال حي ناطق لكل عاقل إذا نظر إليه عرف
هل هو متبع لإبراهيم يعيش على ملته أو هو على غير ذلك. فقال تعالى (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) أي إماما صالحا جامعا لخصال الخير ، يقتدي به كل راغب في
الخير. هذا أولا وثانيا أنه كان قانتا أي مطيعا لربه فلا يعصي له أمرا ولا نهيا
ثالثا لم يك من المشركين بحال من الأحوال بل هو برىء من الشرك وأهله ، ورابعا كان
شاكرا لأنعم الله تعالى عليه أي صارفا نعم الله عليه فيما يرضي الله ، خامسا
اجتباه ربه أي اصطفاه لرسالته وخلته لأنه أحب الله أكثر من كل شيء فتخلل حب الله
قلبه فلم يبق لغيره في قلبه مكان. فخالّه الله أي بادله خلة بخلّة فكان خليل
الرحمن. سادسا وهداه إلى صراط مستقيم الذي هو الإسلام ، سابعا وآتاه في الدنيا
حسنة وهي الثناء الحسن والذكر الجميل من جميع أهل الأديان الإلهية الأصل. ثامنا
وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين قال الله تعالى فيهم : أعددت لعبادي الصالحين
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وهي منزلة من أشرف المنازل
وأسماها. تاسعا مع جلالة قدر النبي محمد صلىاللهعليهوسلم ورفعة مكانته أمره الله تعالى أن يتبع ملة إبراهيم حنيفا.
هذا هو إبراهيم
فمن أحق بالنسبة إليه ، المشركون؟ لا! اليهود؟ لا ، النصارى؟ لا! المسلمون
الموحدون؟ نعم نعم اللهم اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم وأكرمنا يوم تكرمهم.
وقوله تعالى : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى
الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) فيه دليل على بطلان دعوى اليهود أنهم على ملة إبراهيم
ودينه العظيم ، إذ تعظيم السبت لم يكن من دين إبراهيم ،
__________________
وإنما سببه أن
الله تعالى أوحى إلى أحد أنبيائهم أن يأمر بني إسرائيل بتعظيم الجمعة فاختلفوا في
ذلك وآثروا السبت عنادا ومكابرة فكتب الله عليهم تعظيم السبت. وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيه وعيد لهم وأنه سيجزيهم سوءا على تمردهم على أنبيائهم
واختلافهم عليهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ باب التوبة
مفتوح لكل ذي ذنب عظم أو صغر على شرط صدق التوبة بالإقلاع الفوري والندم
والاستغفار الدائم وإصلاح الفاسد.
٢ ـ تقرير التوحيد
والإعلان عن شأن إبراهيم عليهالسلام وبيان كمالاته وانعام الله عليه.
٣ ـ بيان أن سبت
اليهود هو من نقم الله عليهم لا من نعمه وافضاله عليهم.
(ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ
أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما
عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦)
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي
ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨))
شرح الكلمات :
(إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) : أي إلى طاعته إذ طاعة الله موصلة إلى رضوانه وإنعامه فهي
سبيل الله.
(بِالْحِكْمَةِ) : أي بالقرآن والمقالة المحكمة الصحيحة ذات الدليل الموضح
للحق.
(وَالْمَوْعِظَةِ
الْحَسَنَةِ) : هي مواعظ القرآن ، والقول الرقيق الحسن.
(وَجادِلْهُمْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : أي بالمجادلة التي هي أحسن من غيرها.
(لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ) : أي خير من الإنتقام عاقبة.
(وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ
مِمَّا يَمْكُرُونَ) : أي لا تهتم بمكرهم ، ولا يضيق صدرك به.
(مَعَ الَّذِينَ
اتَّقَوْا) : أي اتقوا الشرك والمعاصي.
(وَالَّذِينَ هُمْ
مُحْسِنُونَ) : أي في طاعة الله ، ومعيته تعالى هي نصره وتأييده لهم في
الدنيا.
معنى الآيات :
يخاطب الرب تعالى
رسوله تشريفا وتكليفا : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ) أي إلى دينه وهو الإسلام سائر الناس ، وليكن دعاؤك (بِالْحِكْمَةِ) التي هي القرآن الكريم الحكيم (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وهي مواعظ القرآن وقصصه وأمثاله ، وترغيبه وترهيبه ، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي خاصمهم بالمخاصمة التي هي أحسن وهي الخالية من السب
والشتم والتعريض بالسوء ، فإن ذلك أدعى لقبول الخصم الحق وما يدعي إليه ، وقوله
تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) من الناس (وَهُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ) وسيجزيهم المهتدي بهداه ، والضال بضلاله ، كما هو أعلم بمن
ضل واهتدى أزلا. فهون على نفسك ولا تشطط في دعوتك فتضر بنفسك ، والأمر ليس إليك.
بل لربك يهدي من يشاء ويضل من يشاء وما عليك إلا الدعوة بالوصف الذي وصف لك ،
بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وقوله تعالى (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا
بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ) لا أكثر ، (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ) وتركتم المعاقبة (لَهُوَ) أي صبركم (خَيْرٌ) لكم من المعاقبة على الذنب والجناية ، وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ) على ترك ما عزمت عليه أيها الرسول من التمثيل بالمشركين
جزاء تمثيلهم بعمك حمزه ، فأمره بالصبر ولازمه ترك المعاقبة والتمثيل معا ، وقوله
: (وَما صَبْرُكَ إِلَّا
بِاللهِ) أي إلا بتوفيقه وعونه ، فكن مع ربك
__________________
تستمد منه الصبر
كما تستمد منه العون والنصر. وقوله تعالى : (وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ) أي على عدم اهتدائهم إلى الحق والأخذ به والسير في طريقه
الذي هو الإسلام (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ) نفسي يؤلمك (مِمَّا يَمْكُرُونَ) بك فإن الله تعالى كافيك مكرهم وشرهم إنه معك فلا تخف ولا
تحزن لأنه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وأنت منهم. وقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين أنه عزوجل بنصره وتأييده ومعونته وتوفيقه مع الذين اتقوا الشرك
والمعاصي فلم يتركوا فرائض دينه ، ولم يغشوا محارمه والذين هم محسنون فى طاعة ربهم
إخلاصا في النية والقصد ، وأداء على نحو ما شرع الله وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الدعوة
إلى الله تعالى أي إلى الإسلام وهو واجب كفائى ، إذا قامت به جماعة أجزأ ذلك عنهم.
٢ ـ بيان أسلوب
الدعوة وهو أن يكون بالكتاب والسنة وأن يكون خاليا من العنف والغلظة والشدة ، وأن
تكون المجادلة بالتي هي أحسن من غيرها.
٣ ـ جواز المعاقبة
بالأخذ بقدر ما أخذ من المرء ، وتركها صبرا واحتسابا أفضل.
٤ ـ معية الله
تعالى ثابتة لأهل التقوى والإحسان ، وهي معية نصر وتأييد وتسديد.
__________________
الجزء
الخامس عشر
سورة الإسراء
مكية
وآياتها عشر ومائة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١))
شرح الكلمات :
(سُبْحانَ) : أي تنزه وتقدس عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وهو الله
جل جلاله.
(بِعَبْدِهِ) : أي بعبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم.
(مِنَ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) : أي الذي بمكة.
(إِلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى) : أي الذي ببيت المقدس.
(مِنْ آياتِنا) : أي من عجائب قدرتنا ومظاهرها في الملكوت الأعلى.
معنى الآية
الكريمة :
نزه الرب تبارك
وتعالى نفسه عما نسب إليه المشركون من الشركاء والبنات وصفات المحدثين ، فقال : (سُبْحانَ الَّذِي
أَسْرى بِعَبْدِهِ) أي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي
العدناني «ليلا من المسجد الحرام» أي بالليل من المسجد الحرام بمكة إذ أخرج من بيت
أم هانىء
__________________
وغسل قلبه بماء
زمزم وحشي إيمانا وحكمة ، ثم أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بيت
المقدس ، وأخبر صلىاللهعليهوسلم أنه جمع الله تعالى له الأنبياء في المسجد الأقصى وصلى بهم
إماما فكان بذلك إمام الأنبياء وخاتمهم ثم عرج به إلى السماء سماء بعد سماء يجد في
كل سماء مقربيها إلى أن انتهى إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى ثم عرج به إلى أن
انتهى إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وقوله تعالى : (الَّذِي بارَكْنا
حَوْلَهُ) أي حول المسجد الأقصى معنى حوله خارجه وذلك بالأشجار والأنهار والثمار أما داخله
فالبركة الدينية بمضاعفة الصلاة فيه أي أجرها إذ الصلاة فيه بخمسمائة صلاة أجرا
ومثوبة وقوله تعالى (لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا) تعليل للاسراء والمعراج وهو أنه تعالى أسرى بعبده وعرج به
ليريه من عجائب صنعه في مخلوقاته في الملكوت الأعلى ، وليكون ما علمه من طريق
الوحي قد علمه بالرؤية والمشاهدة. وقوله تعالى (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يعني تعالى نفسه بأنه هو السميع لأقوال عباده البصير
بأعمالهم وأحوالهم فاقتضت حكمته هذا الاسراء العجب ليزداد الذين آمنوا إيمانا
وليرتاب المرتابون ويزدادون كفرا وعنادا
هداية الآية
الكريمة :
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ تقرير عقيدة
الإسراء والمعراج بالنبي صلىاللهعليهوسلم بالروح والجسد معا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ثم إلى السماوات
العلى ، إلى مستوى سمع فيه صرير الأقلام وأوحى إليه تعالى ما أوحى وفرض عليه وعلى
أمته الصلوات الخمس.
٢ ـ شرف المساجد
الثلاثة : الحرام ، ومسجد النبي صلىاللهعليهوسلم ، والمسجد الأقصى أما المسجدان الحرام والأقصى فقد ذكرا
بالنص وأما مسجد الرسول صلىاللهعليهوسلم فقد ذكر بالاشارة والإيماء إذ قول الأقصى يقتضي قصيا ، فالقصي هو المسجد
النبوي والأقصى هو مسجد بيت المقدس.
٣ ـ بيان الحكمة
في الاسراء والمعراج وهي أن يرى الرسول صلىاللهعليهوسلم بعيني رأسه ما كان آمن به وعلمه من طريق الوحي فاصبح الغيب
لدى رسول الله شهادة.
__________________
(وَآتَيْنا مُوسَى
الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي
وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً
(٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ
مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما
بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ
الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ
نَفِيراً (٦))
شرح الكلمات :
(وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة.
(وَجَعَلْناهُ هُدىً) : أي جعلنا الكتاب أو موسى هدى أي هاديا لبني إسرائيل.
(وَكِيلاً) : أي حفيظا أو شريكا.
(مَنْ حَمَلْنا) : أي في السفينة.
(وَقَضَيْنا) : أي أعلمناهم قضاء نافيهم.
(فِي الْكِتابِ) : أي التوراة.
(عُلُوًّا كَبِيراً) : أي بغيا عظيما.
(أُولاهُما) : أي أولى المرتين.
(فَجاسُوا خِلالَ) : أي ترددوا جائين ذاهبين وسط الديار يقتلون ويفسدون.
(وَعْداً مَفْعُولاً) : أي منجزا لم يتخلف.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أنه هو
الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأنه هو الذي آتى موسى
الكتاب أي التوراة فهو تعالى المتفضل على محمد صلىاللهعليهوسلم وعلى أمته بالإسراء به والمعراج
وعلى موسى بإعطائه
الكتاب ليكون هدى وبيانا لبني إسرائيل فهو متفضل أيضا على بني إسرائيل فله الحمد
وله المنة.
وقوله : (جَعَلْناهُ) أي الكتاب (هُدىً) أي بيانا لبني إسرائيل يهتدون إلى سبل الكمال والإسعاد
وقوله : (أَلَّا تَتَّخِذُوا
مِنْ دُونِي وَكِيلاً) أي آتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل من أجل ألا
يتخذوا من غيري حفيظا لهم يشركونه بي بالتوكل عليه وتفويض أمرهم إليه ناسين لي
وأنا ربهم وولي نعمتهم. وقوله تعالى : (ذُرِّيَّةَ مَنْ
حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) أي يا ذرية من حملنا مع نوح اشكروني كما شكرني نوح على انجائي إياه في
السفينة مع أصحابه فيها ، إنه أي نوحا (كانَ عَبْداً شَكُوراً) فكونوا أنتم مثله فاشكروني بعبادتي ووحدوني ولا تتركوا
طاعتي ولا تشركوا بي سواي
وقوله تعالى (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي
الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا
كَبِيراً) يخبر تعالى بأنه أعلم بني اسرائيل بقضائه فيهم وذلك في
كتابهم التوراة أنهم يفسدون في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب ، ويعلون في
الأرض بالجراءة على الله وظلم الناس (عُلُوًّا كَبِيراً) أي عظيما. ولا بد أن ما قضاه واقع وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما) أي وقت المرة الأولى (بَعَثْنا عَلَيْكُمْ
عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي قوة وبطش في الحرب شديد ، وتم هذا لما أفسدوا وظلموا
بانتهاك حدود الشرع والإعراض عن طاعة الله تعالى حتى قتلوا نبيهم «أرميا» عليهالسلام وكان هذا على يد الطاغية جالوت فغزاهم من أرض الجزيرة ففعل
بهم مع جيوشه ما أخبر تعالى به في قوله : (فَجاسُوا خِلالَ
الدِّيارِ) ذاهبين جائين قتلا وفتكا وإفسادا نقمة الله على بني
إسرائيل لإفسادهم وبغيهم البغي العظيم.
وقوله تعالى : (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً) أي ما حصل لهم في المرة الأولى من الخراب والدمار ومن
__________________
أسبابه كان بوعد
من الله تعالى منجزا فوفاه لهم ، لأنه قضاه وأعلمهم به في كتابهم. وقوله : (ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ
عَلَيْهِمْ) أي بعد سنين طويلة وبنو اسرائيل مضطهدون مشردون نبتت منهم
نابتة وطالبت بأن يعين لهم ملكا يقودهم إلى الجهاد وكان ذلك كما تقدم في سورة
البقرة جاهدوا وقتل داود جالوت وهذا معنى (ثُمَّ رَدَدْنا
لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) وقوله : (وَأَمْدَدْناكُمْ
بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً) أي رجالا في الحروب وكثرت أموالهم وأولادهم وتكونت لهم
دولة سادت العالم على عهد داود وسليمان عليهماالسلام.
هداية الآيات :
١ ـ بيان إفضال
الله تعالى على الأمتين الإسلامية والإسرائيلية.
٢ ـ بيان سر إنزال
الكتب وهو هداية الناس إلى عبادة الله تعالى وتوحيده فيها.
٣ ـ وجوب شكر الله
تعالى على نعمه إذ كان نوح عليهالسلام إذا أكل الأكلة قال الحمد لله ، وإذا شرب الشربة قال الحمد
لله ، وإذا لبس حذاءه قال الحمد لله وإذا قضى حاجة قال الحمد لله فسمى عبدا شكورا
وكذا كان رسول الله والصالحون من أمته إلى اليوم.
٤ ـ ما قضاه الله
تعالى كائن ، وما وعد به ناجز ، والإيمان بذلك واجب.
٥ ـ التنديد
بالإفساد والظلم والعلو في الأرض ، وبيان سوء عاقبتها.
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ
يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً
(٨))
__________________
شرح الكلمات :
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ) : أي طاعة الله وطاعة رسوله بالإخلاص فيها وبأدائها على
الوجه المشروع لها.
(أَحْسَنْتُمْ
لِأَنْفُسِكُمْ) : أي أن الأجر والمثوبة والجزاء الحسن يعود عليكم لا على
غيركم.
(وَإِنْ أَسَأْتُمْ) : أي في الطاعة فإلى أنفسكم سوء عاقبة الإساءة.
(وَعْدُ الْآخِرَةِ) : أي المرة الآخرة المقابلة للأولى وقد تقدمت.
(لِيَسُوؤُا
وُجُوهَكُمْ) : أي يقبحوها بالكرب واسوداد الحزن وهم الذل.
(وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ) : أي بيت المقدس.
(وَلِيُتَبِّرُوا ما
عَلَوْا تَتْبِيراً) : أي وليدمروا ما غلبوا عليه من ديار بني إسرائيل تدميرا
(وَإِنْ عُدْتُمْ
عُدْنا) : أي وإن رجعتم إلى الفساد والمعاصي عدنا بالتسليط عليكم.
(حَصِيراً) : أي محبسا وسجنا وفراشا يجلسون عليها فهي من فوقهم ومن
تحتهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن بني إسرائيل فبعد أن أخبرهم تعالى بما حكم به عليهم في كتابهم أنهم
يفسدون في الأرض مرتين ويعلون علوا كبيرا. وأنه إذا جاء ميقات أولى المرتين بعث
عليهم عبادا أشداء أقوياء وهم جالوت وجنوده فقتلوهم وسبوهم ، أنه تعالى رد لهم
الكرة عليهم فانتصروا عليهم وقتل داود جالوت وتكونت لهم دولة عظيمة كانت أكثر
الدول رجالا واوسعها سلطانا وذلك لرجوعهم إلى الله تعالى بتطبيق كتابه والتزام
شرائعه وهناك قال تعالى لهم : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ
أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) أي إن أحسنتم باتباع الحق والتزام الطاعة لله ورسوله بفعل
المأمورات واجتناب المنهيات والأخذ بسنن الله تعالى في الاصلاح البشري وإن أسأتم
بتعطيل الشريعة والانغماس في الملاذ والشهوات فإن نتائج ذلك عائدة على أنفسكم حسب
سنة الله تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً). وقوله تعالى : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ
الْآخِرَةِ) أي وقتها المعين لها ، وهي المرة الآخرة بعد الأولى بعث
أيضا عليهم عبادا له وهم بختنصّر وجنوده بعثهم عليهم ليسودوا وجوههم بما يصيبونهم
به من الهم والحزن والمهانة والذل (وَلِيَدْخُلُوا
الْمَسْجِدَ) أي بيت المقدس كما دخلوه أول مرة (وَلِيُتَبِّرُوا) أي يدمروا ما علوا أي ما غلبوا عليه من ديارهم (تَتْبِيراً) أي تدميرا كاملا وتحطيما تاما وحصل لهم هذا لما قتلوا
زكريا ويحيى عليهماالسلام وكثيرا من العلماء وبعد أن ظهر فيهم الفسق وفي نسائهم
التبرج والفجور واتخاذ الكعب العالي. كما أخبر بذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله تعالى : (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ) فهذا خير عظيم لهم لو طلبوه بصدق لفازوا به ولكنهم أعرضوا
عنه وعاشوا على التمرد على الشرع والعصيان لله ورسله. وقوله وإن عدتم عدنا أي وإن
عدتم إلى الفسق والفجور عدنا بتسليط من نشاء من عبادنا فأنجزهم الله تعالى ما
وعدهم فسلط عليهم رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين فاجلى بني قينقاع وبني النضير من المدينة وقتل
بني قريضة كما سلط عليهم ملوك أروبا فطاردوهم وساموهم الخسف وأذاقوهم سوء العذاب
في قرون طويلة وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ حَصِيراً) أي إن كان عذاب الدنيا بالتسلط على الظالمين وسلبهم حريتهم
وإذاقتهم عذاب القتل والأسر والتشريد فإن عذاب الآخرة هو الحبس والسجن في جهنم
تكون حصيرا للكافرين لا يخرجون منها للكافرين أي الذين يكفرون شرائع الله ونعمه
عليهم بتعطيل الأحكام وتضييع الفرائض وإهمال السنن والانغماس في الملاذ والشهوات.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ صدق وعد الله
تعالى.
٢ ـ تقرير نبوة
النبي صلىاللهعليهوسلم إذ مثل هذه الأنباء لا يقصها إلا نبي يوحى إليه.
٣ ـ تقرير قاعدة (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ
وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها).
٤ ـ وجوب الرجاء
في الله وهو انتظار الفرج والخير منه وإن طال الزمن.
٥ ـ قد يجمع الله
تعالى للكافرين بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، وكذا الفاسقون من المؤمنين.
(إِنَّ هذَا
الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ
يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ
الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
__________________
وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ
النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))
شرح الكلمات :
(لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ) : أي للطريقة التي هي أعدل وأصوب.
(أَنَّ لَهُمْ أَجْراً
كَبِيراً) : إنه الجنة دار السّلام.
(أَعْتَدْنا لَهُمْ
عَذاباً أَلِيماً) : انه عذاب النار يوم القيامة.
(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ
بِالشَّرِّ) : أي على نفسه وأهله إذا هو ضجر وغضب.
(وَكانَ الْإِنْسانُ
عَجُولاً) : أي سريع التأثر بما يخطر على باله فلا يتروى ولا يتأمل.
(آيَتَيْنِ) : أي علامتين دالتين على وجود الله وقدرته وعلمه ورحمته
وحكمته.
(فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ) : أي طمسنا نورها بالظلام الذي يعقب غياب الشمس.
(مُبْصِرَةً) : أي يبصر الانسان بها أي بسبب ضوء النهار فيها.
(عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ) : أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات
النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أن هذا
القرآن الكريم الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم الذي أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى
يهدي بما فيه من الدلائل والحجج والشرائع والمواعظ للطريقة والسبيل التي هي أقوم أي أعدل واقصد من سائر الطرق والسبيل إنها الدين القيم
الإسلام سبيل السعادة والكمال في الدارين ، ويبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أي
ويبشر القرآن الذين آمنوا بالله ورسوله ولقاء الله ووعده ووعيده وعملوا الصالحات
وهي الفرائض والنوافل بعد تركهم الكبائر والمعاصي بأن لهم أجرا كبيرا ألا وهو
الجنة ، كما يخبر الذين لا يؤمنون بالآخرة أن الله تعالى
__________________
أعد أي هيأ لهم
عذابا أليما في جهنم.
وقوله تعالى (وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ
دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) يخبر تعالى عن الإنسان في ضعفه وقلة إدراكه لعواقب الأمور
من أنه إذا ضجر أو غضب يدعو على نفسه وأهله بالشر غير مفكر في عاقبة دعائه لو
استجاب الله تعالى له. يدعو بالشر دعاءه بالخير أي كدعائه بالخير ، وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) أي كثير العجلة يستعجل في الأمور كلها هذا طبعه ما لم
يتأدب بآداب القرآن ويتخلق بأخلاقه فإن هو استقام على منهج القرآن تبدل طبعه وأصبح
ذا توأدة وحلم وصبر وأناة. وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) أي علامتين على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا ، وقوله (فَمَحَوْنا آيَةَ
اللَّيْلِ) أي بطمس نورها ، وجعلنا آية النهار مبصرة أي مضيئة وبين
علة ذلك بقوله : (لِتَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ) أي لتطلبوا رزقكم بالسعي والكسب في النهار. هذا من جهة ومن
جهة أخرى (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ) أي عدد السنين وانقضائها وابتداء دخولها وحساب ساعات
النهار والليل وأوقاتها كالأيام والأسابيع والشهور. لتوقف مصالحكم الدينية والدنيوية على ذلك. وقوله تعالى : (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) أي وكل شيء يحتاج إليه في كمال الإنسان وسعادته بيناه
تبيينا أي في هذا الكتاب الذي يهدي للتي هي أقوم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان فضل
القرآن الكريم ، بهدايته إلى الإسلام الذي هو سبيل السعادة للإنسان.
٢ ـ الوعد والوعيد
بشارة المؤمنين العاملين للصالحات ، ونذارة الكافرين باليوم الآخر.
٣ ـ بيان طبع
الإنسان قبل تهذيبه بالآداب القرآنية والأخلاق النبوية.
٤ ـ كون الليل
والنهار آيتين تدلان على الله تعالى وتقرران علمه وقدرته وتدبيره.
٥ ـ مشروعية علم
الحساب وتعلمه.
__________________
(وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً
يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ
حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ
فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ
قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى
بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧))
شرح الكلمات :
(طائِرَهُ) : أي عمله وما قدر له من سعادة وشقاء.
(فِي عُنُقِهِ) : أي ملازم له لا يفارقه حتى يفرغ منه.
(عَلَيْكَ حَسِيباً) : أي كفى نفسك حاسبا عليك.
(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) : أي لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى.
(مُتْرَفِيها) : منعميها من أغنياء ورؤساء.
(فَحَقَّ عَلَيْهَا
الْقَوْلُ) : أي بالعذاب.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا) : أي أهلكنا كثيرا.
(مِنَ الْقُرُونِ) : أي من أهل القرون السابقة.
(خَبِيراً بَصِيراً) : أي عليما بصيرا بذنوب العباد.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أنه عزوجل لعظيم قدرته ، وسعة علمه ، وحكمته في تدبيره ألزم كل انسان
ما قضى به له من عمل وما يترتب على العمل من سعادة أو شقاء في الدارين ، الزمه ذلك
بحيث لا يخالفه ولا
يتأخر عنه بحال
حتى كأنه مربوط بعنقه. هذا معنى قوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ
أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ
فِي عُنُقِهِ). وقوله تعالى : (وَنُخْرِجُ لَهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) أي وفي يوم القيامة يخرج الله تعالى لكل انسان كتاب عمله
فيلقاه منشورا أي مفتوحا أمامه. ويقال له : (اقْرَأْ كِتابَكَ) الذي أحصى لك عملك كله فلم يغادر منه صغيرة ولا كبيرة.
وقوله (كَفى بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) أي يكفيك نفسك حاسبا لأعمالك محصيا لها عليك أيها الانسان.
وقوله تعالى : (مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) ، أي بعد هذا الإعلام والبيان ينبغي أن يعلم أن من اهتدى
اليوم فآمن بالله ورسوله ، ولقاء الله ، ووعده ووعيده وعمل صالحا وتخلّى عن الشرك
والمعاصي فإنما عائد ذلك له ، هو الذي ينجو من العذاب ، ويسعد في دار السعادة ،
وان من ضل طريق الهدى فكذب ولم يؤمن ، وأشرك ولم يوحّد ، وعصى ولم يطع فإن ذلك
الضلال عائد عليه ، هو الذي يشقى به ويعذب في جهنم دار العذاب والشقاء. وقوله (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الوزر الإثم والذنب والوازرة الحاملة له لتؤخذ به ومعنى
الكلام ولا تحمل يوم القيامة نفس آثمة إثم نفس أخرى ، بل كل نفس تتحمل مسئوليتها
بنفسها ، والكلام تقرير لقوله : (مَنِ اهْتَدى
فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها). وقوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) أي لم يكن من شأن الله تعالى وهو العدل الرحيم أن يهلك أمة
بعذاب إبادة واستئصال قبل أن يبعث فيها رسولا يعرفها بربها وبمحابه ومساخطه ،
ويأمرها بفعل المحاب وترك المساخط التي هي الشرك والمعاصي. وقوله تعالى : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) أي أهل قرية (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) أي أمرنا منعميها من أغنياء ورؤساء وأشراف من أهل الحل
والعقد أمرناهم بطاعتنا بإقامة الشرع وأداء الفرائض والسنن واجتناب كبائر الإثم
والفواحش فلم يستجيبوا للأمر ولا للنهي وهو معنى (فَفَسَقُوا فِيها
فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) أي وجب عليها العذاب (فَدَمَّرْناها
تَدْمِيراً) أي أهلكناها إهلاكا كاملا ، وهذا الكلام بيان لقوله تعالى
: (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
__________________
رَسُولاً) إذ الرسول يأمر وينهى بإذن الله تعالى فإن لم يطع استوجب
الناس العذاب فعذبوا. وقوله تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا
مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) هو تقرير لهذا الحكم أيضا إذ علمنا تعالى أن ما أخبر به
كان واقعا بالفعل فكثيرا من الأمم أهلكها من بعد هلاك قوم نوح كعاد وثمود وقوم لوط
وأصحاب الأيكة وآل فرعون .. وقوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) : فإن القول وإن تضمّن علم الله تعالى بذنوب عباده فإن
معناه الوعيد الشديد والتهديد الأكيد ، فإنه تعالى لا يرضى باستمرار الجرائم
والآثام إنه يمهل لعل القوم يستفيقون ، لعل الفساق يكفون ، ثم إذ استمروا بعد
الإعلام إليهم والتنديد بذنوبهم والتخويف بظلمهم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. ألا
فليحذر ذلك المصرون على الشرك والمعاصي!!
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
القضاء والقدر.
٢ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٣ ـ تقرير العدالة
الإلهية يوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا.
٤ ـ بيان سنة الله
تعالى في إهلاك الأمم غير أنها لا تهلك إلا بعد الإنذار والإعذار إليها.
٥ ـ التحذير من
كثرة التنعم والترف فإنه يؤدي إلى الفسق بترك الطاعة ثم يؤدى الفسق إلى الهلاك
والدمار.
(مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ
__________________
الْآخِرَةَ
وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ
مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ
أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً
آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢))
شرح الكلمات :
(الْعاجِلَةَ) : أي الدنيا لسرعة انقضائها.
(يَصْلاها مَذْمُوماً
مَدْحُوراً) : أي يدخلها ملوما مبعدا من الجنة.
(وَسَعى لَها سَعْيَها) : أي عمل لها العمل المطلوب لدخولها وهو الإيمان والعمل
الصالح.
(كانَ سَعْيُهُمْ
مَشْكُوراً) : أي عملهم مقبولا مثابا عليه من قبل الله تعالى.
(كُلًّا نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) : أي كل فريق من الفريقين نعطي.
(وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) : أي لم يكن عطاء الله في الدنيا محظورا أي ممنوعا عن أحد.
(كَيْفَ فَضَّلْنا
بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) : أي في الرزق والجاه.
(لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) : أي لا تعبد مع الله تعالى غيره من سائر المعبودات
الباطلة.
(فَتَقْعُدَ
مَذْمُوماً مَخْذُولاً) : أي فتصير مذموما من الملائكة والمؤمنين مخذولا من الله
تعالى.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في أخبار الله تعالى الصادقة والمتضمنة لأنواع من الهدايات الإلهية التي لا
يحرمها إلا هالك ، فقال تعالى في الآية الأولى (١٨) (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْعاجِلَةَ) أي الدنيا (عَجَّلْنا لَهُ فِيها
ما نَشاءُ) ، لا ما يشاؤه العبد ، وقوله (لِمَنْ نُرِيدُ) لا من يريد غيرنا فالأمر كله لنا ، (ثُمَ) بعد ذلك (جَعَلْنا لَهُ
جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً) أي ملوما (مَدْحُوراً) أي مطرودا من رحمتنا التي هي الجنة دار الأبرار أي
المطيعين الصادقين. وقوله تعالى في الآية الثانية (١٩) (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ) يخبر
__________________
تعالى أن من أراد
الآخرة أي سعادة الآخرة (وَسَعى لَها سَعْيَها) أي عمل لها عملها اللائق بها وهو الإيمان الصحيح والعمل
الصالح الموافق لما شرع الله في كتابه وعلى لسان رسوله ، واجتنب الشرك والمعاصي
وقوله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) قيد في صحة العمل الصالح أي لا يقبل من العبد صلاة ولا
جهاد إلا بعد إيمانه بالله وبرسوله وبكل ما جاء به رسوله وأخبر به من الغيب.
وقوله (فَأُولئِكَ) أي المذكورون بالإيمان والعمل الصالح (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) أي كان عملهم متقبلا يثابون عليه بالجنة ورضوان الله
تعالى. وقوله تعالى : (كُلًّا نُمِدُّ
هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) إي ان كلا من مريدي الدنيا ومريدي الآخرة يمد الله هؤلاء
وهؤلاء من عطائه أي فضله الواسع فالكل يأكل ويشرب ويكتسي بحسب ما قدر له من الضيق
والوسع ثم يموت وثمّ يقع التفاضل بحسب السعى الفاسد أو الصالح وقوله (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) يعني أن من أراد الله إعطاءه شيئا لا يمكن لأحد أن يصرفه
منه ويحرمه منه بحال من الأحوال وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) أي انظر يا رسولنا ومن يفهم خطابنا كيف فضلنا بعض الناس
على بعض في الرزق الذي شمل الصحة والعافية والمال والذرية والجاه ، فإذا عرفت هذا
فاعرف أن الآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا وذلك عائد إلى فضل الله أولا ثم إلى الكسب
صلاحا وفسادا وكثرة وقلّة كما هي الحال أيضا في الدنيا فبقدر كسب الإنسان الصالح
للدنيا يحصل عليها ولو كان كافرا لقوله تعالى من سورة هود (مَنْ كانَ يُرِيدُ
الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ
فِيها لا يُبْخَسُونَ) أي لا ينقصون ثمرات عملهم لكونهم كفارا مشركين.
وقوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي لا تجعل يا رسولنا مع الله إلها آخر تؤمن به وتعبده
وتقرر إلهيته دوننا فإنك إن فعلت ـ وحاشاه أن يفعل لأن الله لا يريد له ذلك فتقعد
في جهنم مذموما أي ملوما يلومك المؤمنون والملائكة مخذولا من قبل ربك لا ناصر لك
والسياق وإن كان في خطاب الرسول صلىاللهعليهوسلم فإن المراد به كل إنسان فالله تعالى ينهى عبده أن يعبد معه
غيره فيترتب على ذلك شقاؤه والعياذ بالله تعالى.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ كلا الدارين
السعادة فيها أو الشقاء متوقف على الكسب والعمل هذه سنة الله تعالى في العباد.
٢ ـ سعى الدنيا
التجارة والفلاحة والصناعة.
٣ ـ سعى الآخرة
الإيمان وصالح الأعمال والتخلية عن الشرك والمعاصي.
٤ ـ يعطي الله
تعالى الدنيا من يحب ومن لا يحب وعطاؤه قائم على سنن له في الحياة يجب معرفتها
والعمل بمقتضاها لمن أراد الدنيا والآخرة.
٥ ـ ما أعطاه الله
لا يمنعه أحد فوجب التوكل على الله والإعراض عما سواه.
٦ ـ تحريم الشرك
والوعيد عليه بالخلود في نار جهنم.
(وَقَضى رَبُّكَ
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا
يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي
صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ
فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ
كَفُوراً (٢٧))
شرح الكلمات :
(وَقَضى رَبُّكَ) : أي أمر وأوصى.
(وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) : أي وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا وذلك ببرورهما.
(فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) : أي تبا أو قبحا أو خسرانا.
(وَلا تَنْهَرْهُما) : أي ولا تزجرهما بالكلمة القاسية.
(قَوْلاً كَرِيماً) : جميلا لينا.
(جَناحَ الذُّلِ) : أي ألن لهما جانبك وتواضع لهما.
(كانَ لِلْأَوَّابِينَ) : أي الرجاعين إلى الطاعة بعد المعصية.
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى) : أي أعط أصحاب القرابات حقوقهم من البر والصلة.
(وَلا تُبَذِّرْ
تَبْذِيراً) : أي ولا تنفق المال في غير طاعة الله ورسوله.
(لِرَبِّهِ كَفُوراً) : أي كثير الكفر كبيره لنعم ربه تعالى ، فكذلك المبذر
أخوه.
معنى الآيات :
لما حرم الله
تعالى الشرك ونهى عنه رسوله بقوله (لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) أمر بالتوحيد فقال : (وَقَضى رَبُّكَ) أي حكم وأمر ووصى (أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ) أي بأن لا تعبدوا إلا الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ
إِحْساناً) أي وأوصى بالوالدين وهما الأم والأب إحسانا وهو برهما وذلك
بإيصال الخير إليهما وكف الأذى عنهما ، وطاعتهما في غير معصية الله تعالى. وقوله تعالى : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) أي إن يبلغ سن الكبر عندك واحد منهما الأب أو الأم أو
يكبران معا وأنت حي موجود بينهما في هذه الحال يجب أن تخدمهما خدمتهما لك وأنت طفل
فتغسل بولهما وتطهر نجاستهما وتقدم لهما ما يحتاجان إليه ولا تتضجّر أو تتأفف من
خدمتهما كما كانا هما يفعلان ذلك معك وأنت طفل تبول وتخرأ وهما يغسلان وينظفان ولا
يتضجران أو يتأففان ، وقوله : (وَلا تَنْهَرْهُما) أي لا تزجرهما بالكلمة العالية النابية (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) اي جميلا سهلا لينا يشعران معه بالكرامة والإكرام لهما وقوله
تعالى : (وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) أي ألن لهما وتطامن وتعطف عليهما وترحم. وادع لهما طوال
__________________
حياتك بالمغفرة والرحمة
إن كانا موحّدين وماتا على ذلك لقوله تعالى : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى) وهو معنى قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) ، وقوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ
فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) يخبر تعالى بأنه أعلم بنا من أنفسنا فمن كان يضمر عدم
الرضا عن والديه والسخط عليهما فالله يعلمه منه ، ومن كان يضمر حبهما واحترامهما
والرضا بهما وعنهما فالله تعالى يعلمه ويجزيه به فالمحسن يجزيه بالإحسان والمسىء
يجزيه بالإساءة ، وقوله : (إِنْ تَكُونُوا
صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) بحكم ضعف الإنسان فإنه قد يضمر مرة السوء لوالديه أو تبدر
منه البادرة السيئة من قول أو عمل وهو صالح مؤد لحقوق الله تعالى وحقوق والديه
وحقوق الناس فهذا العبد الصالح يخبر تعالى أنه غفور له متى آب إلى الله تعالى
مستغفرا مما صدر منه نادما عليه.
وقوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) هذا أمر الله للعبد المؤمن بايتاء قرابته حقوقهم من البر
والصلة وكذا المساكين وهم الفقراء الذي مسكنتهم الفاقة وأذلهم الفقر فهؤلاء أمر
تعالى المؤمن باعطائهم حقهم من الإحسان إليهم بالكساء أو الغذاء والكلمة الطيبة ،
وكذا ابن السبيل وهو المسافر يعطي حقه من الضيافة والمساعدة على سفره إن احتاج إلى
ذلك مع تأمينه وإرشاده إلى طريقه. وقوله تعالى (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) أي ولا تنفق مالك ولا تفرقه في غير طاعة الله تعالى. وقوله
(إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ) لأنهم بتبذيرهم المال في المعاصي كانوا عصاة لله فاسقين عن
أمره وهذه حال الشياطين فتشابهوا فكانوا إخوانا ، وقوله إن الشيطان كان لربه كفورا
لأنه عصى الله تعالى وكفر نعمه عليه ولم يشكره بطاعته فالمبذر للمال في المعاصي
فسق عن أمر ربه ولم يشكر نعمه عليه فهو إذا شيطان فهل يرضى عبد الله المسلم أن
يكون شيطانا؟
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب عبادة
الله تعالى وحده ووجوب بر الوالدين ، وهو الإحسان بهما ، وكف الأذى عنهما ،
وطاعتهما في المعروف.
__________________
٢ ـ وجوب الدعاء
للوالدين بالمغفرة والرحمة .
٣ ـ وجوب مراقبة
الله تعالى وعدم إضمار أي سوء في النفس.
٤ ـ من كان صالحا
وبدرت منه البادرة وتاب منها فإن الله يغفر له ذلك.
٥ ـ وجوب إعطاء
ذوي القربى حقوقهم من البر والصلة ، وكذا المساكين وابن السبيل.
٦ ـ حرمة التبذير
وحقيقته إنفاق المال في المعاصي والمحرمات.
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً
مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ
الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً
(٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي
حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا
لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣))
شرح الكلمات :
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ
عَنْهُمُ) : أي عن المذكورين من ذي القربى والمساكين وابن السبيل فلم
تعطهم شيئا.
(ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ
مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) : أي طلبا لرزق ترجوه من الله تعالى.
__________________
(قَوْلاً مَيْسُوراً) : أي لينا سهلا بأن تعدهم بالعطاء عند وجود الرزق.
(مَغْلُولَةً إِلى
عُنُقِكَ) : أي لا تمسك عن النفقة كأن يدك مربوطة إلى عنقك فلا
تستطيع أن تعطي شيئا.
(وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ) : أي ولا تنفق كل ما بيدك ولم تبق شيئا.
(فَتَقْعُدَ مَلُوماً) : أي يلومك من حرمتهم من الإنفاق.
(مَحْسُوراً) : أي منقطعا عن سيرك في الحياة إذ لم تبق لك شيئا.
يبسط الرزق ويقدر
: أي يوسعه ، ويقدر أي يضيقه امتحانا وابتلاء.
(خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) : أي خوف الفقر وشدته.
(خِطْأً كَبِيراً) : أي إثما عظيما.
(فاحِشَةً وَساءَ
سَبِيلاً) : أي خصلة قبيحة شديدة القبح ، وسبيلا بئس السبيل.
(لِوَلِيِّهِ
سُلْطاناً) : أي لوارثه تسلطا على القاتل.
(فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ.) : أي لا يقتل غير القاتل.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في وصايا الرب تبارك وتعالى والتي هي حكم أوحاها الله تعالى إلى رسوله
للاهتداء بها ، والكمال والإسعاد عليها. فقوله تعالى : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي إن أعرضت عن قرابتك أو عن مسكين سألك أو ابن سبيل احتاج
إليك ولم تجد ما تعطيهم فأعرضت عنهم بوجهك أيها الرسول (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) أي سهلا لينا وهو العدة الحسنة كقولك إن رزقني الله سأعطيك
أو عما قريب سيحصل لي كذا وأعطيك وما أشبه ذلك من الوعد الحسن ، فيكون ذلك عطاء
منك عاجلا لهم يسرون به ، ولا يحزنون. وقوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أي لا تبخل بما آتاك الله فتمنع ذوي الحقوق حقوقهم كأن يدك
مشدودة إلى عنقك فلا تستطيع أن تنفق ، وقوله : (وَلا تَبْسُطْها
كُلَّ الْبَسْطِ) أي تفتح يديك بالعطاء فتخرج كل ما بجيبك أو خزانتك فلا تبق
شيئا لك ولأهلك. وقوله : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً
مَحْسُوراً) أي إن أنت أمسكت ولم تنفق لامك سائلوك إذ لم تعطهم ، وإن
أنت أنفقت كل
__________________
شيء عندك انقطعت
بك الحياة ولم تجد ما تواصل به سيرك في بقية عمرك فتكون كالبعير الذي أعياه السير
فانقطع عنه وترك محسورا في الطريق لا يستطيع صاحبه رده إلى أهله ، ولا مواصلة
السير عليه إلى وجهته. وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ) أي يوسع على من يشاء امتحانا له أيشكر أم يكفر ويقدر لمن
يشاء أي يضيق على من يشاء ابتلاء له أيصبر أم يضجر ويسخط ، (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً
بَصِيراً) فلذا هو يوسع ويضيق بحسب علمه وحكمته ، إذ من عباده من لا
يصلحه إلا السعة ، ومنهم من لا يصلحه إلا الضيق ، وقوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ) أي ومما حكم به وقضى ووصى (لا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ) أي أطفالكم (خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) أي مخافة الفاقة والفقر ، إذ كان العرب يئدون البنات خشية
العار ويقتلون الأولاد الذكور كالإناث مخافة الفقر فأوصى تعالى بمنع ذلك وقال
متعهدا متكفلا برزق الأولاد وآبائهم فقال : (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ) وأخبر تعالى أن قتل الأولاد (كانَ خِطْأً كَبِيراً) أي إثما عظيما فكيف يقدم عليه المؤمن؟.
وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) أي ومن جملة ما حكم به ووصى أن لا تقربوا أيها المؤمنون
الزنا مجرد قرب منه قبل فعله ، لأن الزنا كان في حكم الله فاحشة أي خصلة قبيحة
شديدة القبح ممجوجة طبعا وعقلا وشرعا ، وساء طريق هذه الفاحشة سبيلا أي بئس الطريق
الموصل إلى الزنا طريقا للآثار السيئة والنتائج المدمرة التي تترتب عليه أولها
أذية المؤمنين في أعراضهم وآخرها جهنم والاصطلاء بحرها والبقاء فيها أحقابا طويلة.
وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) أي ومما حكم تعالى به وأوصى أن لا تقتلوا أيها المؤمنون
النفس التي حرم الله أي قتلها إلا بالحق ، وقد بيّن رسول الله صلىاللهعليهوسلم الحق الذي تقتل به نفس المؤمن وهو واحدة من ثلاث : القتل
العمد العدوان ، الزنا بعد الاحصان ، الكفر بعد الإيمان. وقوله : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ
جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً) أي من قتل له قتيل ظلما وعدوانا أي غير خطأ فقد أعطاه
تعالى سلطة كاملة على قاتل وليه إن شاء قتله وإن شاء أخذ دية منه ، وإن شاء عفا
عنه لوجه الله تعالى : وقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي
الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) أي لا يحل لولي الدم أي لمن قتل له
__________________
قتيل أن يسرف في
القتل فيقتل بدل الواحد أكثر من واحد أو بدل المرأة رجلا. أو يقتل غير القاتل ،
وذلك أن الله تعالى أعطاه سلطة تمكنه من قتل قاتله فلا يجوز أن يقتل غير قاتله كما
كانوا في الجاهلية يفعلون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ العدة الحسنة
تقوم مقام الصدقة لمن لم يجد ما يتصدق به على من سأله.
٢ ـ حرمة البخل ،
والإسراف معا وفضيلة الاعتدال والقصد.
٣ ـ تجلى حكمة
الله تعالى في التوسعة على أناس ، والتضييق على آخرين.
٤ ـ حرمة قتل
الأولاد بعد الولادة أو إجهاضا قبلها خوفا من الفقر أو العار.
٥ ـ حرمة مقدمات
الزنا كالنظر بشهوة والكلام مع الأجنبية ومسها وحرمة الزنا وهو أشد.
٦ ـ حرمة قتل
النفس التي حرّم الله قتلها إلا بالحق والحق قتل عمد عدوانا ، وزنا بعد إحصان ،
وكفر بعد إيمان.
(وَلا تَقْرَبُوا مالَ
الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا
كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً
(٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ
مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى
إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))
__________________
شرح الكلمات :
(إِلَّا بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) : أي ألا بالخصلة التي هي أحسن من غيرها وهي تنميته
والإنفاق عليه منه بالمعروف.
(حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ) : أي بلوغه سن التكليف وهو عاقل رشيد.
(وَأَوْفُوا
بِالْعَهْدِ) : أي إذا عاهدتم الله أو العباد فأوفوا بما عاهدتم عليه.
(إِنَّ الْعَهْدَ كانَ
مَسْؤُلاً) : أي عنه وذلك بأن يسأل العبد يوم القيامة لم نكثت عهدك؟
(أَوْفُوا الْكَيْلَ) : أي اتموه ولا تنقصوه.
(بِالْقِسْطاسِ
الْمُسْتَقِيمِ) : أي الميزان السوي المعتدل.
(وَأَحْسَنُ
تَأْوِيلاً) : أي مآلا وعاقبة.
(وَلا تَقْفُ) : أي ولا تتبع.
(وَالْفُؤادَ) : أي القلب.
(كانَ عَنْهُ
مَسْؤُلاً) : أي عن كل واحد من هذه الحواس الثلاث يوم القيامة.
(مَرَحاً) : أي ذا مرح بالكبر والخيلاء.
(لَنْ تَخْرِقَ
الْأَرْضَ) : أي لن تثقبها أو تشقها بقدميك.
(مِنَ الْحِكْمَةِ) : أي التي هي معرفة المحاب لله تعالى للتقرب بها إليها
ومعرفة المساخط لتتجنبها تقربا إليه تعالى بذلك.
(مَلُوماً مَدْحُوراً) : أي تلوم نفسك على شركك بربك مبعدا من رحمة الله تعالى.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في بيان ما قضى به الله تعالى على عباده المؤمنين ووصاهم به فقال تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا) أي أيها المؤمنون (مالَ الْيَتِيمِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي بالفعلة التي هي أجمل وذلك بأن تتصرفوا فيه بالتثمير له
والاصلاح فيه ، والانفاق منه على اليتيم بالمعروف أما أن تقربوه لتأكلوه إسرافا
وبدارا فلالا. وقوله : حتى يبلغ أشده أي حتى يبلغ سن الرشد فتحاسبوه وتعطوه ماله
يتصرف فيه حسب المشروع من التصرفات المالية. وقوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ) أي ومما أوصاكم به أن توفوا بعهودكم التي بينكم وبين ربكم
وبينكم وبين سائر الناس مؤمنهم وكافرهم فلا يحل لكم أن لا توفوا بالعهد وأنتم
قادرون على الوفاء بحال من الأحوال. وقوله (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) تأكيد للنهي عن نكث العهد إذ أخبر تعالى أن العبد
__________________
سيسأل عن عهده
الذي لم يف به يوم القيامة ، ومثل العهد سائر العقود من نكاح وبيع وإيجار وما إلى
ذلك لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أي العهود ، وقوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) هذا مما أمر الله تعالى وهو إيفاء الكيل والوزن أي
توفيتهما وعدم بخسهما ونقصهما شيئا ولو يسيرا ما دام في الإمكان عدم نقصه ، أما ما
يعسر التحرز منه فهو من العفو لقوله تعالى : (لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلَّا وُسْعَها). وقوله (ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي ذلك الوفاء والتوفية في الكيل والوزن خير لبراءة الذمة
وطيب النفس به وأحسن تأويلا أي عاقبة إذ يبارك الله تعالى في ذلك المال بأنواع من
البركات لا يعلمها إلا هو عزوجل. ومن ذلك أجر الآخرة وهو خير فإن من ترك المعصية وهو قادر
عليها أثابه الله تعالى على ذلك بأحسن ثواب. وقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي لا تتبع بقول ولا عمل ما لا تعلم ، ولا تقل رأيت كذا
وأنت لم تر ، ولا سمعت كذا وأنت لم تسمع. وقوله تعالى : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ
وَالْفُؤادَ) أي القلب (كُلُّ أُولئِكَ كانَ
عَنْهُ مَسْؤُلاً) أي لا تقف ما ليس لك به علم ، لأن الله تعالى سائل هذه
الأعضاء يوم القيامة عما قال صاحبها أو عمل فتشهد عليه بما قال أو عمل مما لا يحل
له القول فيه أو العمل. ومعنى أولئك أي تلك المذكورات من السمع والبصر والفؤاد. وقوله
تعالى : (وَلا تَمْشِ فِي
الْأَرْضِ مَرَحاً) أي خيلاء وتكبرا أي مما حرم تعالى وأوصى بعدم فعله المشي
في الأرض مرحا أي تكبرا واختيالا ، لأن الكبر حرام وصاحبه لا يدخل الجنة ، وقوله (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ) أي برجليك أيها المتكبر لأن المتكبر يضرب الأرض برجليه
اعتزازا واهتزازا ، ولن تبلغ الجبال طولا مهما تعاليت وتطاولت فإنك كغيرك من الناس
لا تخرق الأرض أي تثقبها أو تقطعها برجليك ولا تبلغ علو الجبال فلذا أترك مشية
الخيلاء والتكبر ، لأن ذلك معيب ومنقصة ولا يأتيه إلا ذو حماقة وسفه. وقوله تعالى
: (كُلُّ ذلِكَ كانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) أي كل ذلك المأمور به
__________________
والمنهي عنه من قوله
تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ) إلى قوله (كُلُّ ذلِكَ كانَ
سَيِّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهاً) سيئة كالتبذير والبخل وقتل الأولاد والزنا وقتل النفس وأكل
مال اليتيم ، وبخس الكيل والوزن ، والقول بلا علم كالقذف وشهادة الزور ، والتكبر
كل هذا الشيء مكروه عند الله تعالى إذا فلا تفعله يا عبد الله وما كان من حسن فيه
كعبادة الله تعالى وحده وبر الوالدين والإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن
السبيل والعدة الحسنة فكل هذا الحسن هو عند الله حسن فأته يا عبد الله ولا تتركه
ومن قرأ كنافع كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها فإنه يريد ما اشتملت عليه الآيات من
التبذير والبخل وقتل النفس إلى آخر المنهيات.
وقوله تعالى : (ذلِكَ مِمَّا
أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) أي ذلك الذي بيّنّا لك يا رسولنا من الأخلاق الفاضلة
والخلال الحميدة التي أمرناك بالأخذ بها والدعوة إلى التمسك بها ، ومن الخلال
القبيحة والخصال الذميمة التي نهيناك عن فعلها وحرمنا عليك إتيانها مما أوحينا
إليك في كتابنا هذا من أنواع الحكم وضروب العلم والمعرفة ، فلله الحمد وله المنة.
وقوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) هذه أم الحكم بدأ بها السياق وختمه بها تقريرا وتأكيدا إذ
تقدم قوله تعالى : (لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً). والخطاب وإن كان لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فإن كل أحد معني به فأي إنسان يشرك بربه أحدا من خلقه في
عبادته فقد جعله إلها مع الله ، ولا بد أن يلقى في جهنم ملوما من نفسه مدحورا
مبعدا من رحمة ربه التي هي الجنة. وهذا إذا مات قبل أن يتوب فيوحد ربه في عباداته.
إذ التوبة إذا صحت جبّت ما قبلها.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة مال
اليتيم أكلا أو إفسادا أو تضييعا وإهمالا.
٢ ـ وجوب الوفاء
بالعهود وسائر العقود.
٣ ـ وجوب توفية
الكيل والوزن وحرمة بخس الكيل والوزن.
__________________
٤ ـ حصول البركة
لمن يمتثل أمر الله في كيله ووزنه.
٥ ـ حرمة القول أو
العمل بدون علم لما يفضي إليه ذلك من المفاسد ولأن الله تعالى سائل كل الجوارح
ومستشهدها على صاحبها يوم القيامة.
٦ ـ حرمة الكبر
ومقت المتكبرين.
٧ ـ إنتظام هذا
السياق لخمس وعشرين حكمة الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها ، والتفريط فيها هو سبب
خسران الدنيا والآخرة.
(أَفَأَصْفاكُمْ
رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ
لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ
لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ
آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً
غَفُوراً (٤٤))
شرح الكلمات :
(أَفَأَصْفاكُمْ) : الاستفهام للتوبيخ والتقريع ومعنى أصفاكم خصكم بالبنين
واختارهم لكم.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ) : أي بينا فيه من الوعد والوعيد والأمثال والعظات والأحكام
والعبر.
(لِيَذَّكَّرُوا) : أي ليذكروا فيتعظوا فيؤمنوا ويطيعوا.
(لَابْتَغَوْا إِلى
ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) : أي لطلبوا طريقا إلى الله تعالى للتقرب إليه وطلب
المنزلة عنده.
(وَمَنْ فِيهِنَ) : أي في السموات من الملائكة والأرض من انسان وجان وحيوان.
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ) : أي وما من شيء إلا يسبح بحمده من سائر المخلوقات.
(حَلِيماً غَفُوراً) : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على معصيتكم إياه وعدم طاعتكم
له.
معنى الآيات :
يقول تعالى مقرعا
موبخا المشركين الذين يئدون البنات ويكرهو نهنّ ثم هم يجعلون الملائكة إناثا (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ) أي أخصكم بالبنين (وَاتَّخَذَ مِنَ
الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) أيها المشركون إذ تجعلون لله ما تكرهون افترء وكذبا على
الله تعالى ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي
هذَا الْقُرْآنِ) أي من الحجج والبينات والأمثال والمواعظ الشيء الكثير من
أجل أن يذّكروا فيذكروا ويتعظوا فينيبوا إلى ربهم فيوحدونه وينزهونه عن الشريك
والولد ، ولكن ما يزيدهم القرآن وما فيه من البينات والهدى إلا نفورا وبعدا عن
الحق. وذلك لغلبة التقليد عليهم ، والعناد والمكابرة والمجاحدة. وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما
يَقُولُونَ) أي قل يا نبينا لهؤلاء المشركين المتخذين لله أندادا
يزعمون أنها آلهة مع الله قل لهم لو كان مع الله آلهة كما تقولون وإن كان الواقع
يكذبكم إذ ليس هناك آلهة مع الله ولكن على فرض أنه لو كان مع الله آلهة (لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ
سَبِيلاً) أي لطلبوا طريقا إلى ذي العرش سبحانه وتعالى يلتمسون فيها
رضاه ويطلبون القرب منه والزلفى إليه لجلاله وكماله ، وغناه وحاجتهم وافتقارهم إليه. ثم نزه سبحانه وتعالى نفسه أن يكون معه آلهة فقال (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ
عُلُوًّا كَبِيراً). وقوله : (تُسَبِّحُ لَهُ
السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) فأخبر تعالى منزها نفسه مقدّسا ذاته عن الشبيه والشريك
والولد والعجز ، فأخبر أنه لعظمته وكماله تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن
بكلمة : سبحان الله وبحمده (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) كما أخبر أنه ما من شيء من المخلوقات إلا ويسبح بحمده
__________________
بلسان قاله وحاله معا فيقول سبحان الله وبحمده وقوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) لاختلاف الألسنة واللغات. وقوله إن كان أي الله حليما : أي
لا يعاجل بالعقوبة من عصاه (غَفُوراً) يغفر ذنوب وزلات من تاب إليه وأناب طالبا مغفرته ورضاه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة القول
على الله تعالى بالباطل ونسبة النقص إليه تعالى كاتخاذه ولدا أو شريكا.
٢ ـ مشروعية
الاستدلال بالعقليات ، على إحقاق الحق وإبطال الباطل.
٣ ـ فضيلة التسبيح
وهو قول : سبحان الله وبحمده حتى إن من قالها مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت في
الكثرة مثل زبد البحر.
٤ ـ كل المخلوقات
في العوالم كلها تسبح الله تعالى أي تنزهه عن الشريك والولد والنقص والعجز ومشابهة
الحوادث إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
٥ ـ حلم الله
يتجلى في عدم تعجيل عقوبة من عصاه ولو لا حلمه لعجل عقوبة مشركي مكة وأكابر
مجرميها. ولكن الله أمهلهم حتى تاب أكثرهم.
(وَإِذا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ
وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ
وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ
بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ
إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))
__________________
شرح الكلمات :
(حِجاباً مَسْتُوراً) : أي ساترا لهم فلا يسمعون كلام الله تعالى.
(وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) : أي أغطية على القلوب فلا تعي ولا تفهم.
(وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) : أي ثقلا فلا يسمعون القرآن ومواعظه.
(وَلَّوْا عَلى
أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) : أي فرارا من السماع حتى لا يسمعوا.
(بِما يَسْتَمِعُونَ
بِهِ) : أي بسببه وهو الهزء بالنبي صلىاللهعليهوسلم.
(وَإِذْ هُمْ نَجْوى) : أي يتناجون بينهم يتحدثون سرا.
(رَجُلاً مَسْحُوراً) : أي مغلوبا على عقله مخدوعا.
(ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ) : أي قالوا ساحر ، وقالوا كاهن وقالوا شاعر.
(فَضَلُّوا.) : أي عن الهدى فلا يستطيعون سبيلا.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) يخبر تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم أنه إذا قرأ القرآن على المشركين ليدعوهم به إلى الله
تعالى ليؤمنوا به ويعبدوه وحده جعل الله تعالى بينه وبين المشركين حجابا ساترا ، أو مستورا لا يرى وهو حقا حائل بينهم وبين الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى لا يسمعوا القرآن الذي يقرأ عليهم فلا ينتفعون به.
وهذا الحجاب ناتج عن شدة بغضهم للرسول صلىاللهعليهوسلم وكراهيتهم لدعوته فهم لذلك لا يرونه ولا يسمعون قراءته. وقوله
تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) جمع كنان وهو الغطاء حتى لا يصل المعنى المقروء من الايات
إلى قلوبهم فيفقهوه ، وقوله : (وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) أي وجعل تعالى في آذان أولئك المشركين الخصوم ثقلا في
آذانهم فلا يسمعون القرآن الذي يتلى عليهم ، وهذا كله من الحجاب الساتر والأكنة ،
والوقر في الآذان عقوبة من الله تعالى لهم حرمهم بها من الهداية بالقرآن لسابقة
الشر لهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ببغضهم للرسول وما جاء به وحربهم
له ولما جاء به من التوحيد والدين الحق ، وقوله
__________________
تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ
وَحْدَهُ) بأن قلت لا إله إلا الله ، أو ما أفهم معنى لا إله إلا الله ولى المشركون على أدبارهم نفورا من سماع التوحيد لحبهم الوثنية وتعلق قلوبهم بالشرك.
وقوله تعالى (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ
بِهِ) يقول تعالى لرسوله نحن أعلم بما يستمع به المشركون أي بسبب
أنهم يستمعون من أجل الاستهزاء بك والسخرية منك ومما تتلوه لا أنهم يستمعون للعلم
والمعرفة ولطلب الحق والاهتداء إليه. وقوله : (إِذْ يَسْتَمِعُونَ
إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى) أي يناجي بعضهم بعضا (إِذْ يَقُولُ
الظَّالِمُونَ) أي المشركون (إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي لا تتبعون (إِلَّا رَجُلاً
مَسْحُوراً) أي مخدوعا مغلوبا على أمره ، فكيف تتبعونه إذا؟.
وقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا
لَكَ الْأَمْثالَ) أي انظر يا رسولنا كيف ضرب لك هؤلاء المشركون المعاندون
الأمثال فقالوا عنك : ساحر ، وشاعر ، وكاهن ومجنون فضلوا في طريقهم (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إنهم عاجزون عن الخروج من حيرتهم هذه التي أوقعهم فيها
كفرهم وعنادهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير قاعدة
حبك الشيء يعمى ويصم : فإن الحجاب المذكور في الآية وكذا الأكنة والثقل في الآذان
هذه كلها حالت دون سماع القرآن من أجل بغضهم للرسول صلىاللهعليهوسلم وللقرآن وما جاء به عن الدعوة إلى التوحيد.
٢ ـ بيان مدى
كراهية المشركين للتوحيد وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله.
٣ ـ بيان مدى ما
كان عليه المشركون من السخرية والاستهزاء بالرسول والقرآن.
٤ ـ بيان اتهامات
المشركين للرسول صلىاللهعليهوسلم بالسحر مرة والكهانة ثانية والجنون ثالثة بحثا عن الخلاص
من دعوة التوحيد فلم يعثروا على شيء كما قال تعالى : (فَضَلُّوا فَلا
يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).
__________________
(وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى
أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))
شرح الكلمات :
(وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) : الاستفهام للإنكسار والاستبعاد والرّفات الأجزاء
المتفرقة.
(مِمَّا يَكْبُرُ فِي
صُدُورِكُمْ) : أي يعظم عن قبول الحياة في اعتقادكم.
(فَطَرَكُمْ) : خلقكم.
(فَسَيُنْغِضُونَ) : أي يحركون رؤوسهم تعجبا.
(مَتى هُوَ؟) : الاستفهام للاستهزاء أى متى هذا البعث الذي تعدنا.
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : أي يناديكم من قبوركم على لسان إسرافيل.
(فَتَسْتَجِيبُونَ) : أي تجيبون دعوته قائلين سبحانك اللهم وبحمدك.
(وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) : وتظنون أنكم ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير العقيدة ففي الآيات قبل هذه كان تقرير التوحيد والوحي وفي هذه الآيات تقرير
البعث والجزاء الآخر ففي الآية (٤٩) يخبر تعالى عن إنكار المشركين للبعث
واستبعادهم له بقوله : (وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي أجزاء متفرقة كالحطام (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) وفي الآية الثانية (٥٠) يأمر تعالى الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم
__________________
كونوا ما شئتم فإن
الله تعالى قادر على إحيائكم وبعثكم للحساب والجزاء وهو قوله تعالى؟ قل كونوا
حجارة أو حديدا
أو خلقا مما يكبر
في صدوركم أي مما يعظم في نفوسكم أن يقبل الحياة كالموت مثلا فإن الله تعالى سيحييكم ويبعثكم. وقوله تعالى :
فسيقولون من يعيدنا؟ يخبر تعالى رسوله أن منكري البعث سيقولون له مستبعدين البعث :
من يعيدنا وعلمه الجواب فقال له قل الذي فطركم أي خلقكم أول مرة وهو جواب مسكت
فالذي خلقكم ثم أماتكم هو الذي يعيدكم كما بدأكم وهو أهون عليه. وقوله تعالى (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ
وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟) يخبر تعالى رسوله بما سيقوله منكروا البعث له فيقول تعالى (فَسَيُنْغِضُونَ) أي يحركون إليك رؤوسهم خفضا ورفعا استهزاء ويقولون : (مَتى هُوَ؟) أي متى البعث أي في أي يوم هو كائن. وقوله تعالى : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً) علمه تعالى كيف يجيب المكذبين. وقوله (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) أي يكون بعثكم الذي تنكرونه يوم يدعوكم بأمر الله تعالى
إسرافيل من قبوركم فتستجيبون أي فتجيبونه بحمد الله (وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ) أي لبثتم (إِلَّا قَلِيلاً) أي ما لبثتم في قبوركم إلا قليلا من اللبث وذلك لما تعاينون من الأهوال وتشاهدون من الأحوال
المفزعة المرعبة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء وبيان حتميتها.
٢ ـ بيان ما كان
عليه المشركون من شدة إنكارهم للبعث الآخر.
٣ ـ تعليم الله
تعالى لرسوله كيف يجيب المنكرين المستهزئين بالتي هي أحسن.
٤ ـ بيان الأسلوب
الحواري الهادي الخالي من الغلظة والشدة.
__________________
٥ ـ استقصار مدة
اللبث في القبور مع طولها لما يشاهد من أهوال البعث.
(وَقُلْ لِعِبادِي
يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ
الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ
إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً
(٥٥))
شرح الكلمات :
(الَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) : أي الكلمة التي هي أحسن من غيرها للطفها وحسنها.
(يَنْزَغُ) : أي يفسد بينهم .
(عَدُوًّا مُبِيناً) : أي بيّن العداوة ظاهرها.
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ) : هذه هي الكلمة التي هي أحسن.
(وَما أَرْسَلْناكَ
عَلَيْهِمْ وَكِيلاً) : أي فيلزمك إجبارهم على الإيمان.
(فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ) : أي بتخصيص كل منهم بفضائل أو فضيلة خاصة به.
(وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً) : أي كتابا هو الزبور هذا نوع من التفضيل.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
طلب هداية أهل مكة ، من طريق الحوار والمجادلة وحدث أن بعض المؤمنين واجه بعض
الكافرين اثناء الجدال بغلظة لفظ كأن توعده بعذاب النار فأثار ذلك حفائظ المشركين
فأمر تعالى رسوله أن يقول للمؤمنين إذا خاطبوا المشركين أن لا يغلظوا لهم القول
فقال تعالى : (وَقُلْ لِعِبادِي) أي المؤمنين (يَقُولُوا الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) من الكلمات لتجد طريقا إلى قلوب الكافرين ، وعلل لذلك
تعالى فقال (إِنَّ الشَّيْطانَ
يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) بالوسواس فيفسد العلائق التي
__________________
كان في الامكان
التوصل بها إلى هداية الضالين ، وذلك أن الشيطان كان وما زال للإنسان عدوا مبينا
أي بيّن العداوة ظاهرها فهو لا يريد للكافر أن يسلم ، ولا يريد للمسلم أن يؤجر
ويثاب في دعوته. وقوله تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) فيتوب عليكم فتسلموا. (أَوْ إِنْ يَشَأْ
يُعَذِّبْكُمْ) بأن يترككم تموتون على شرككم فتدخلوا النار. مثل هذا
الكلام ينبغي أن يقول المؤمنون للكافرين لا أن يصدروا الحكم عليهم بأنهم أهل النار
والمخلدون فيها فيزعج ذلك المشركين فيتمادوا في العناد والمكابرة. وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً). يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك رقيبا عليهم فتجبرهم على
الإسلام وإنما أرسلناك مبلغا دعوتنا إليهم بالأسلوب الحسن وهدايتهم إلينا ، وفي
هذا تعليم للمؤمنين كيف يدعون الكافرين إلى الإسلام. وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يخبر تعالى رسوله والمؤمنين ضمنا أنه تعالى أعلم بمن في
السموات والأرض فضلا عن هؤلاء المشركين فهو أعلم بما يصلحهم وأعلم بما كتب لهم أو
عليهم من سعادة أو شقاء ، وأسباب ذلك من الإيمان أو الكفر ، وعليه فلا تحزنوا على
تكذيبهم ولا تيأسوا من إيمانهم ، ولا تتكلفوا ما لا تطيقون في هدايتهم فقولوا التي
هي أحسن واتركوا أمر هدايتهم لله تعالى هو ربهم وأعلم بهم وقوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ
النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) ، يخبر تعالى عن انعامه بين عباده فالذي فاضل بين النبيين
وهم أكمل الخلق وأصفاهم فهذا فضله بالخلة كابراهيم وهذا بالتكليم كموسى ، وهذا
بالكتاب الحافل بالتسابيح والمحامد والعبر والمواعظ كداود ، وأنت يا محمد بمغفرته
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، وبإرسالك إلى الناس كافة إلى غير ذلك من الإفضالات
وإذا تجلت هذه الحقيقة لكم وعرفتم أن الله أعلم بمن يستحق الهداية وبمن يستحق
الضلالة ، وكذا الرحمة والعذاب ففوضوا الأمر إليه ، وادعوا عباده برفق ولين وبالتي
هي أحسن من غيرها من الكلمات.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ النهي عن
الكلمة الخشنة المسيئة إلى المدعو إلى الإسلام.
__________________
٢ ـ بيان أن
الشيطان يسعى للإفساد دائما فلا يمكن من ذلك بالكلمات المثيرة للغضب والحاملة على
اللجج والخصومة الشديدة.
٣ ـ بيان نوع
الكلمة التي هي أحسن مثل (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ).
٤ ـ بيان أن الله
تعالى أعلم بخلقه فهو يهب كل عبد ما أهله له حتى إنه فاضل بين أنبيائه ورسله عليهمالسلام في الكمالات الروحية والدرجات العالية.
(قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ
وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ
إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ
مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ
ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ
إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً
فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا
لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي
الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))
شرح الكلمات :
(فَلا يَمْلِكُونَ) : أي لا يستطيعون.
(كَشْفَ الضُّرِّ) : أي إزالته بشفاء المريض.
(وَلا تَحْوِيلاً) : أي للمرض من شخص مريض إلى آخر صحيح ليمرض به.
(يَدْعُونَ) : أي ينادونهم طالبين منهم أو متوسلين بهم.
(يَبْتَغُونَ إِلى
رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) : أي يطلبون القرب منه بالطاعات وأنواع القربات.
(كانَ مَحْذُوراً) : أي يحذره المؤمنون ويحترسون منه بترك معاصي الله تعالى.
(فِي الْكِتابِ
مَسْطُوراً) : أي في كتاب المقادير الذي هو اللوح المحفوظ مكتوبا.
(أَنْ نُرْسِلَ
بِالْآياتِ) : أي بالآيات التي طلبها أهل مكة كتحويل الصفا إلى جبل
ذهب. أو إزالة جبال مكة لتكون أرضا زراعية وإجراء العيون فيها.
(إِلَّا أَنْ كَذَّبَ
بِهَا الْأَوَّلُونَ) : إذ طالب قوم صالح بالآية ولما جاءتهم كفروا بها فأهلكهم
الله تعالى.
(النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً) : أي وأعطينا ثمود قوم صالح الناقة آية مبصرة واضحة بينة.
(فَظَلَمُوا بِها) : أي كفروا بها وكذبوا فأهلكهم الله تعالى.
(إِلَّا تَخْوِيفاً) : إلا من أجل تخويف العباد بأنا إذا أعطيناهم الآيات ولم
يؤمنوا أهلكناهم.
(أَحاطَ بِالنَّاسِ) : أي قدرة وعلما فهم في قبضته وتحت سلطانه فلا تخفهم.
(وَما جَعَلْنَا
الرُّؤْيَا) : هي ما رآه الرسول صلىاللهعليهوسلم ليلة الإسراء والمعراج من عجائب خلق الله تعالى.
(وَالشَّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ) : هي شجرة الزقوم الوارد لفظها في الصافات والدخان.
(وَنُخَوِّفُهُمْ) : بعذابنا في الدنيا بالإهلاك والإبادة وفي الآخرة بالزقوم
والعذاب الأليم.
(فَما يَزِيدُهُمْ) : أي التخويف إلا طغينانا وكفرا.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير التوحيد فيقول تعالى لرسوله قل يا محمد صلىاللهعليهوسلم لأولئك المشركين أدعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله
سبحانه وتعالى فإنهم لا يملكون أن يكشفوا الضر عن مريض ولا يستطيعون تحويله عنه
إلى آخر عدو له يريد أن يمسه الضر لأنهم أصنام وتماثيل لا يسمعون
__________________
ولا يبصرون فضلا
عن أن يستجيبوا دعاء من دعاهم لكشف ضر أو تحويله إلى غيره ، هذا ما دلت عليه الآية
الأولى (٥٦) (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ، فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا
تَحْوِيلاً).
وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ). يخبرهم تعالى بأن أولئك الذين يعبدونهم من الجن أو الملائكة أو الأنبياء أو الصالحين هم أنفسهم يدعون ربهم
ويتوسلون للحصول على رضاه. بشتى أنواع الطاعات والقربات فالذي يعبد لا يعبد ،
والذي يتقرب إلى الله بالطاعات لا يتقرب إليه وإنما يتقرب إلى من هو يتقرب إليه
ليحظى بالمنزلة عنده ، وقوله (يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ
وَ يَخافُونَ
عَذابَهُ) ، أي أن أولئك الذين يدعوهم الجهال من الناس ويطلبون منهم
قضاء حاجاتهم هم أنفسهم يطلبون الله ويرجون رحمته ويخافون عذابه. لأن عذابه تعالى
كان وما زال يحذره العقلاء ، لأنه شديد لا يطاق. فكيف يدعى ويرجى ويخاف من هو يدعو
ويرجو ويخاف لو كان المشركون يعقلون.
وقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي مدينة من المدن (إِلَّا نَحْنُ
مُهْلِكُوها) أي بعذاب إبادة قبل يوم القيامة ، (أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً) بمرض أو قحط أو خوف من عدو (كانَ ذلِكَ فِي
الْكِتابِ مَسْطُوراً) أي مكتوبا في اللوح المحفوظ ، فلذا لا يستعجل أهل مكة
العذاب فإنه إن كان قد كتب عليهم فإنه نازل بهم لا محالة وإن لم يكن قد كتب عليهم
فلا معنى لاستعجاله فإنه غير واقع بهم وهم مرجون للتوبة أو لعذاب يوم القيامة وقوله
تعالى : (وَما مَنَعَنا
أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ) أي بالمعجزات وخوارق العادات (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ
بِهَا) أي بالمعجزات الأولون من الأمم فأهلكناهم بتكذيبهم بها ،
فلو أرسلنا نبينا محمدا بمثل تلك الآيات وكذبت بها قريش
__________________
لأهلكهم ، وهو
تعالى لا يريد أهلاكهم بل يريد هدايتهم ليهتدي على أيديهم خلقا كثيرا من العرب
والعجم والأبيض والأصفر فسبحان الله العليم الحكيم وقوله تعالى (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ
مُبْصِرَةً) أي آية مبصرة أي مضيئة بينة فظلموا بها أي كذبوا بها
فعقروها فظلموا بذلك أنفسهم وعرضوها لعذاب الإبادة فأبادهم الله فأخذتهم الصيحة
وهم ظالمون هذا دليل على أن المانع من الإرسال بالآيات هو ما ذكر تعالى في هذه
الآية وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ
بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) يخبر تعالى أنه ما يرسل الرسل مؤيدين بالآيات التي هي
المعجزات والعبر والعظات إلا لتخويف الناس عاقبة الكفر والعصيان لعلهم يخافون
فيؤمنون ويطيعون قوله تعالى (وَإِذْ قُلْنا لَكَ
إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ) أي اذكر يا محمد إذ قلنا لك بواسطة وحينا هذا إن ربك أحاط
بالناس. فهم في قبضته وتحت قهره وسلطانه فلا ترهبهم ولا تخش منهم أحدا فإن الله
ناصرك عليهم ، ومنزل نقمته بمن تمادى في الظلم والعناد ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أَرَيْناكَ) يريد رؤيا الإسراء والمعراج حيث أراه الله من آياته وعجائب
صنعه وخلقه ، ما أراه (إِلَّا فِتْنَةً
لِلنَّاسِ) أي لأهل مكة اختبارا لهم هل يصدقون أو يكذبون ، إذ ليس
لازما لتقرير نبوتك وإثبات رسالتك وفضلك أن نريك الملكوت الأعلى وما فيه من مظاهر
القدرة والعلم والحكمة والرحمة.
وقوله تعالى : (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ) أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن الكريم وهي شجرة
الزقوم وأنها (تَخْرُجُ فِي أَصْلِ
الْجَحِيمِ) إلا فتنة كذلك لأهل مكة حيث قالوا كيف يصح وجود نخلة ذات
طلع في وسط النار ، كيف لا تحرقها النار قياسا للغائب على الشاهد وهو قياس فاسد ،
وقوله تعالى (وَنُخَوِّفُهُمْ) بالشجرة الملعونة وأنها (طَعامُ الْأَثِيمِ
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) وبغيرها من أنواع العذاب الدنيوي والأخروي ، وما يزيدهم
ذلك إلا طغيانا كبيرا أي ارتفاعا وتكبرا عن قبول الحق والاستجابة له لما سبق في
علم الله من خزيهم وعذابهم فاصبر أيها الرسول وامض في دعوتك فإن العاقبة لك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
بالحكم على عدم استجابة الآلهة المدعاة لعابديها.
٢ ـ بيان حقيقة
عقلية وهي أن دعاء الأولياء والاستغاثة بهم والتوسل إليهم بالذبح والنذر هو أمر
__________________
باطل ومضحك في نفس
الوقت ، إذ الأولياء كانوا قبل موتهم يطلبون الوسيلة إلى ربهم بأنواع الطاعات
والقربات ومن كان يعبد لا يعبد. ومن كان يتقرب لا يتقرّب إليه ، ومن كان يتوسّل لا
يتوسل إليه بل يعبد الذي كان يعبد ويتوسل إلى الذي كان يتوسل إليه ويتقرب إلى الذي
كان يتقرب إليه ، وهو الله سبحانه وتعالى.
٣ ـ تقرير عقيدة
القضاء والقدر.
٤ ـ بيان المانع
من عدم إعطاء الرسول صلىاللهعليهوسلم الآيات على قريش.
٥ ـ بيان علة
الإسراء والمعراج ، وذكر شجرة الزقوم في القرآن الكريم.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ
قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ
وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ
عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))
شرح الكلمات :
(لِمَنْ خَلَقْتَ
طِيناً) : أي من الطين.
(أَرَأَيْتَكَ) : أي أخبرني
(كَرَّمْتَ عَلَيَ) : أي فضّلته علي بالأمر بالسجود له.
(لَأَحْتَنِكَنَ) : لأستولين عليهم فأقودهم إلى الغواية كالدابة إذا جعل
الرسن في
حنكها ، تقاد حيث
شاء راكبها!.
(اذْهَبْ) : أي منظرا إلى وقت النفخة الأولى.
(جَزاءً مَوْفُوراً) : أي وافرا كاملا.
(وَاسْتَفْزِزْ) : أي واستخفف
(بِصَوْتِكَ) : أي بدعائك إياهم إلى طاعتك ومعصيتي بأصوات المزامير
والأغاني واللهو.
(وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ) : أي صح فيهم بركبانك ومشاتك.
(وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ) : بحملهم على أكل الربا وتعاطيه.
(وَالْأَوْلادِ) : بتزيين الزنا ودفعهم إليه.
(وَعِدْهُمْ) : أي بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء.
(إِلَّا غُرُوراً) : أي باطلا.
(لَيْسَ لَكَ
عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) : أي إن عبادي المؤمنين ليس لك قوة تتسلط عليهم بها.
(وَكَفى بِرَبِّكَ
وَكِيلاً) : أي حافظا لهم منك أيها العدوّ.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ) أي اذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين الجهلة الذين أطاعوا
عدوهم وعدو أبيهم من قبل ، وعصوا ربهم ، اذكر لهم كيف صدّقوا ظنّ إبليس فيهم ،
واذكر لهم (إِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) فامتثلوا أمرنا (فَسَجَدُوا إِلَّا
إِبْلِيسَ) قال منكرا أمرنا ، مستكبرا عن آدم عبدنا (أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِيناً)؟ أي لمن خلقته من الطين لأن آدم خلقه الله تعالى من أديم
الأرض عذبها وملحها ولذا سمى آدم آدم ثم قال في صلفه وكبريائه (أَرَأَيْتَكَ) أي أخبرني أهذا (الَّذِي كَرَّمْتَ
عَلَيَ) ؟! قال هذا استصغار لآدم واستخفافا بشأنه ، (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) أي وعزتك لئن أخرت موتي (إِلى يَوْمِ
الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ) أي لأستولين عليهم وأسوقهم إلى أودية الغواية والضلال حتى
يهلكوا مثلي (إِلَّا قَلِيلاً) منهم ممن
__________________
تستخلصهم لعبادتك فأجابه
الرب تبارك وتعالى : (قالَ اذْهَبْ) أي منظرا وممهلا إلى وقت النفخة الأولى وقوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) أي عصاني وأطاعك (فَإِنَّ جَهَنَّمَ
جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) أي وافرا كاملا.
وقوله تعالى : (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ
مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) قال هذا لإبليس بعد أن أنظره إلى يوم الوقت المعلوم أذن له
في أن يعمل ما استطاع في إضلال أتباعه ، (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ) أي واستخفف منهم بدعائك إلى الباطل بأصوات المزامير
والأغاني وصور الملاهي وأنديتها وجمعياتها ، (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ) أي صح على خيلك ورجلك الركبان والمشاة وسقهم جميعا على بني آدم لإغوائهم
وإضلالهم (وَشارِكْهُمْ فِي
الْأَمْوالِ) بحملهم على الربا وجمع الأموال من الحرام وفي (الْأَوْلادِ) بتزيين الزنا وتحسين الفجور وعدهم بالأماني الكاذبة وبأن
لا بعث يوم القيامة ولا حساب ولا جزاء قال تعالى : (وَما يَعِدُهُمُ
الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) أي باطلا وكذبا وزورا. وقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي) أي المؤمنين بي ، المصدقين بلقائي ووعدي ووعيدي ليس لك
عليهم قوة تتتسلط عليهم بها ، (وَكَفى بِرَبِّكَ
وَكِيلاً) أي حافظا لهم : منك فلا تقدر على إضلالهم ولا إغوائهم يا
عدوي وعدوهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
التذكير بالأحداث الماضية للتحذير من الوقوع في الهلاك.
٢ ـ ذم الكبر وأنه
من شر الصفات.
٣ ـ تقرير عداوة
إبليس والتحذير منها.
٤ ـ بيان مشاركة
إبليس أتباعه في أموالهم وأولادهم ونساءهم.
٥ ـ بيان أن أصوات
الأغاني والمزامير والملاهي وأندية الملاهي وجمعياتها الجميع من جند إبليس الذي
يحارب به الآدمي المسكين الضعيف.
٦ ـ بيان حفظ الله
تعالى لأوليائه ، وهم المؤمنون المتقون ، جعلنا الله تعالى منهم وحفظنا بما يحفظهم
به إنه بر كريم.
__________________
(رَبُّكُمُ الَّذِي
يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ
بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ
تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ
الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً
(٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ
قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ
عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠))
شرح الكلمات :
(يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ) : أي يسوقها فتسير فيه.
(لِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ) : أي لتطلبوا رزق الله بالتجارة من إقليم إلى آخر.
(وَإِذا مَسَّكُمُ
الضُّرُّ) : أي الشدة والبلاء والخوف من الغرق.
(ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ
إِلَّا إِيَّاهُ) : أي غاب عنكم من كنتم تدعونهم من آلهتكم.
(أَعْرَضْتُمْ) : أي عن دعاء الله وتوحيده في ذلك.
(أَوْ يُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ حاصِباً) : أي ريحا ترمي بالحصباء لشدتها.
(ثُمَّ لا تَجِدُوا
لَكُمْ وَكِيلاً) : أي حافظا منه أي من الخسف أو الريح الحاصب.
(قاصِفاً مِنَ
الرِّيحِ) : أي ريحا شديدة تقصف الأشجار وتكسرها لقوتها.
(عَلَيْنا بِهِ
تَبِيعاً) : أي نصيرا ومعينا يتبعنا ليثأر لكم منا.
(وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ) : أي فضلناهم بالعلم والنطق واعتدال الخلق.
(حَمَلْناهُمْ فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : في البر على البهائم والبحر على السفن.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير التوحيد والدعوة إليه. فقوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يخبرهم تعالى بأن ربهم الحق الذي يجب أن يعبدوه ويطيعوه
بعد أن يؤمنوا به هو الذي (يُزْجِي لَكُمُ
الْفُلْكَ) أي السفينة (فِي الْبَحْرِ) أي يسوقها فتسير بهم في البحر إلى حيث يريدون من أجل أن
يطلبوا رزق الله لهم بالتجارة من إقليم لآخر. هذا هو إلهكم الحق ، أما الأصنام والأوثان فهي مخلوقة لله مربوبة له ،
لا تملك لنفسها فضلا عن غيرها ، نفعا ولا ضرا.
وقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) ومن رحمته تعالى تسخيره البحر لهم وإزجاء السفن وسوقها فيه
ليحصلوا على أقواتهم عن طريق السفر والتجارة. وقوله تعالى : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي
الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) يذكرهم بحقيقة واقعة لهم وهي أنهم إذا ركبوا في الفلك
وأصابتهم شدة من مرض أو ضلال طريق أو عواصف بحرية اضطربت لها السفن وخافوا الغرق
دعوا الله وحده ولم يبق من يدعوه سواه تعالى لكنهم إذا نجاهم من الهلكة التي
خافوها ونزلوا بشاطىء السلامة اعرضوا عن ذكر الله وذكروا آلهتهم ونسوا ما كانوا
يدعونه وهو الله من قبل (وَكانَ الْإِنْسانُ
كَفُوراً) هذا طبعه وهذه حاله سرعة النسيان ، وشدة الكفران وقوله
تعالى : وهو يخاطبهم لهدايتهم (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ
يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) يقرعهم على إعراضهم فيقول (أَفَأَمِنْتُمْ) الله تعالى (أَنْ يَخْسِفَ) (بِكُمْ) جانب الأرض الذي نزلتموه عند خروجكم من البحر (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً) أي ريحا شديدة تحمل الحصباء فيهلككم كما أهلك عادا (ثُمَّ لا تَجِدُوا
لَكُمْ) من غير الله (وَكِيلاً) يتولى دفع العذاب عنكم ويقول : (أَمْ أَمِنْتُمْ) الله تعالى (أَنْ يُعِيدَكُمْ
فِيهِ) أي في البحر (تارَةً أُخْرى) أي مرة أخرى (فَيُرْسِلَ
عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ) أي ريحا شديدة تقصف الأشجار وتحطمها (فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ) أي بسبب كفركم كما أغرق آل فرعون (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ
تَبِيعاً) أي تابعا يثأر لكم منا ويتبعنا مطالبا بما نلنا منكم من
العذاب.
__________________
فما لكم إذا لا
تؤمنون وتوحدون وبالباطل تكفرون. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي
آدَمَ) أي فضلناهم بالنطق والعقل والعلم واعتدال الخلق (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ) على ما سخرنا لهم من المراكب (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ) أي المستلذات من اللحوم والحبوب والفواكه والخضر والمياه
العذبة الفرات. وقوله تعالى : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى
كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) فالآدميون أفضل من الجن وسائر الحيوانات ، وخواصهم أفضل من
الملائكة ، وعامة الملائكة أفضل من عامة الآدميين ومع هذا فإن الآدمي إذا كفر ربه
وأشرك في عبادته غيره ، وترك عبادته ، وتخلى عن محبته ومراقبته أصبح شر الخليقة
كلها. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ
فِيها ، أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تعريف الله
تعالى بذكر صفاته الفعلية والذاتية.
٢ ـ تذكير
المشركين بحالهم في الشدة والرخاء حيث يعرفون الله في الشدة ويخلصون له الدعاء ،
وينكرونه في الرخاء ويشركون به سواه.
٣ ـ تخويف
المشركين بأن الله تعالى قادر على أن يخسف بهم الأرض أو يرسل عليهم حاصبا من الريح
فيهلكهم أو يردهم إلى البحر مرة أخرى ويرسل عليهم قاصفا من الريح فيغرقهم بسبب
كفرهم بالله ، وعودتهم إلى الشرك بعد دعائه تعالى والتضرع إليه حال الشدة.
٤ ـ بيان منن الله
تعالى على الانسان وأفضاله عليه في تكريمه وتفضيله.
٥ ـ حال الرخاء
أصعب على الناس من حال الشدة بالقحط والمرض ، أو غيرهما من المصائب.
٦ ـ الاعلان عن
كرامة الآدمي وشرفه على سائر المخلوقات الأرضية.
(يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ
بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ
__________________
أَعْمى
فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا
لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ
وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ
تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ
وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ
رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))
شرح الكلمات :
(بِإِمامِهِمْ) : أي الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه في الخير أو الشر.
(فَتِيلاً) : أي مقدار فتيل وهو الخيط الذي يوجد وسط النواة.
(وَمَنْ كانَ فِي
هذِهِ أَعْمى) : من كان في الدنيا أعمى عن حجج الله تعالى الدالة على
وجوده وعلمه وقدرته ، فلم يؤمن به ولم يعبده فهو في الآخرة أشد عمى وأضل سبيلا.
(وَإِنْ كادُوا) : أي قاربوا.
(لَيَفْتِنُونَكَ) : أي يستنزلونك عن الحق ، أي يطلبون نزولك عنه.
(لِتَفْتَرِيَ
عَلَيْنا غَيْرَهُ) : أي لتقول علينا افتراء غير الذي أوحينا إليك.
(إِذاً لَاتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً) : أي لو فعلت الذي طلبوا منك فعله لاتخذوك خليلا لهم.
(ضِعْفَ الْحَياةِ
وَضِعْفَ الْمَماتِ) : أي لعذبناك عذاب الدنيا مضاعفا وعذاب الآخرة كذلك.
(لَيَسْتَفِزُّونَكَ
مِنَ الْأَرْضِ) : أي ليستخفونك من الأرض أرض مكة.
(لا يَلْبَثُونَ
خِلافَكَ) : أي لا يبقون خلفك أي بعدك إلا قليلا ويهلكهم الله.
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) : أي لو أخرجوك لعذبناهم بعد خروجك بقليل ، سنتنا في
الأمم.
(وَلا تَجِدُ
لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) : أي عما جرت به في الأمم السابقة.
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله
في تقرير عقيدة البعث والجزاء ، اذكر يا رسولنا (يَوْمَ نَدْعُوا
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) الذي كانوا يقتدون به ويتبعونه فيتقدم ذلك الإمام ووراءه
أتباعه وتوزع الكتب عليهم واحدا واحدا فمن أعطى كتابه بيمينه تشريفا له وتكريما ،
فأولئك الذين أكرموا بإعطائهم كتبهم بأيمانهم ، (يَقْرَؤُنَ
كِتابَهُمْ) ويحاسبون بما فيه (وَلا يُظْلَمُونَ) أي لا ينقصون مقدار فتيل لا تنقص حسناتهم ، ولا بزيادة سيئاتهم
. واذكر هذا لهم تعظهم به لعلهم يتعظون ، وقوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ) أي الدنيا (أَعْمى) لا يبصر هذه الحجج والآيات والدلائل وأصر على الشرك ،
والتكذيب والمعاصي (فَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ أَعْمى) أي أشد عمى (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) فلا يرى طريق النجاة ولا يسلكه حتى يقع في جهنم. وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) أي يصرفونك (عَنِ الَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من توحيدنا والكفر بالباطل وأهله. (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ) أي لتقول علينا غير الحق الذي أوحيناه إليك ، وإذا لو فعلت
بأن وافقتهم على ما طلبوا منك ، من الإغضاء على شركهم والتسامح معهم إقرارا
لباطلهم ، ولو مؤقتا ، (لَاتَّخَذُوكَ
خَلِيلاً) لهم وكانوا أولياء لك ، وذلك أن المشركين في مكة والطائف ،
واليهود في المدينة كانوا يحاولون جهدهم أن يستنزلوا الرسول على شيء من الحق الذي
يأمر به ويدعو إليه مكرا منهم وخديعة سياسية إذ لو وافقهم على شيء لطالبوا بآخر ،
ولقالوا قد رجع إلينا ، فهو إذا يتقوّل ، وليس بالذي يوحى إليه بدليل قبوله منا
كذا وكذا وتنازله عن كذا وكذا. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ) أي على الحق حيث عصمناك (لَقَدْ كِدْتَ) أي قاربت (تَرْكَنُ) أي تميل (إِلَيْهِمْ شَيْئاً
قَلِيلاً) بقبول بعض اقتراحاتهم (إِذاً) أي لو ملت إليهم ، وقبلت منهم ولو شيئا يسيرا (لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ
وَضِعْفَ الْمَماتِ) ، أي لضاعفنا عليك العذاب في الدنيا والآخرة ثم لا تجد لك
نصيرا ينصرك إذا نحن خذلناك وعذبناك وقوله تعالى في حادثة أخرى وهي أنهم لما فشلوا
في المحاولات السلمية أرادوا استعمال القوة فقرروا إخراجه من مكة بالموت أو الحياة
فأخبر تعالى
__________________
رسوله بذلك إعلاما
وإنذارا ، فقال : (وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ) أرض مكة (لِيُخْرِجُوكَ مِنْها
وَإِذاً) أي لو فعلوا لم يلبثوا بعد إخراجك إلا زمنا قليلا ونهلكهم
كما هي سنتنا في الأمم السابقة التي أخرجت أنبياءها أو قتلتهم هذا معنى قوله تعالى
: (وَإِنْ كادُوا
لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أي يستخفونك (مِنَ الْأَرْضِ
لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا
قَلِيلاً سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ
لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) أي عما جرت به في الأمم السابقة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الترغيب في
الاقتداء بالصالحين ومتابعتهم والترهيب من الاقتداء بأهل الفساد ومتابعتهم.
٢ ـ عدالة الله
تعالى في الموقف بإقامة الحجة على العبد وعدم ظلمه شيئا.
٣ ـ عمى الدنيا عن
الحق وشواهده سبب عمى الآخرة وموجباته من السقوط في جهنم.
٤ ـ حرمة الركون
أي الميل لأهل الباطل بالتنازل عن شيء من الحق الثابت إرضاء لهم.
٥ ـ الوعيد الشديد
لمن يرضى أهل الباطل تملقا لهم طمعا في دنياهم فيترك الحق لأجلهم.
٦ ـ إمضاء سنن
الله تعالى وعدم تخلفها بحال من الأحوال.
(أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي
مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ
سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ
كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ
__________________
وَرَحْمَةٌ
لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا
أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ
كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))
شرح الكلمات :
(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) : أي زوالها من كبد السماء ودحوضها إلى جهة الغرب.
(إِلى غَسَقِ
اللَّيْلِ) : أي إلى ظلمة الليل ، إذ الغسق الظلمة.
(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) : صلاة الصبح.
(كانَ مَشْهُوداً) : تشهده الملائكة ، ملائكة الليل وملائكة النهار.
(فَتَهَجَّدْ بِهِ) : أي بالقرآن.
(نافِلَةً) : أي زائدة عن الغرض وهي التهجد بالليل.
(مَقاماً مَحْمُوداً) : هو الشفاعة العظمى يوم القيامة حيث يحمده الأولون
والآخرون.
(أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ
صِدْقٍ) : أي المدينة ، إدخالا مرضيا لا أرى فيه مكروها.
(وَأَخْرِجْنِي
مُخْرَجَ صِدْقٍ) : أي من مكة إخراجا لا ألتفت بقلبي إليها.
(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ
وَزَهَقَ الْباطِلُ) : أي عند دخولك مكة فاتحا لها بإذن الله تعالى.
(زَهَقَ الْباطِلُ) : أي ذهب واضمحل.
(أَعْرَضَ وَنَأى
بِجانِبِهِ) : أعرض عن الشكر فلم يشكر ، ونأ بجانبه : أي ثنى عطفه
متبخترا في كبرياء.
(عَلى شاكِلَتِهِ) : أي طريقته ومذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلال.
معنى الآيات :
بعد ذلك العرض
الهائل لتلك الأحداث الجسام أمر تعالى رسوله بإقام الصلاة فإنها مأمن الخائفين ،
ومنار السالكين ، ومعراج الأرواح إلى ساحة الأفراح فقال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
__________________
الشَّمْسِ) أي لأول دلوكها وهو ميلها من كبد السماء إلى الغرب وهو وقت الزوال ودخول
وقت الظهر ، وقوله (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أي إلى ظلمته ، ودخلت صلاة العصر فيما بين دلوك الشمس وغسق الليل ، ودخلت صلاة المغرب وصلاة
العشاء في غسق الليل الذي هو ظلمته ، وقوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) أي صلاة الصبح وهذه هي الصلوات الخمس المفروضة على أمة
الإسلام ، النبي وأتباعه سواء وقوله (إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) يعني محضورا ، تحضره ملائكة النهار لتنصرف ملائكة الليل ،
لحديث الصحيح «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ....» وقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نافِلَةً لَكَ) أي صلاة زائدة على الفرائض الخمس وهي قيام الليل ، وهو
واجب عليه صلىاللهعليهوسلم بهذه الآية ، وعلى أمته مندوب إليه ، مرغب فيه.
وقوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً
مَحْمُوداً) عسى من الله تعالى تفيد الوجوب ، ولذا فقد أخبر تعالى
رسوله مبشرا إياه بأن يقيمه يوم القيامة (مَقاماً مَحْمُوداً) يحمده عليه الأولون والآخرون. وهو الشفاعة العظمى حيث
يتخلى عنها آدم فمن دونه ... حتى تنتهي إليه صلىاللهعليهوسلم فيقول : أنالها ، أنالها ، ويأذن له ربه فيشفع للخليقة في
فضل القضاء ، ليدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، وتستريح الخليقة من عناء
الموقف وطوله وصعوبته.
وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ.) هذه بشارة أخرى أن الله تعالى أذن لرسوله بالهجرة من تلقاء
نفسه لا بإخراج قومه وهو كاره. فقال له : قل في دعائك ربي أدخلني المدينة دار
هجرتي «مدخل صدق» بحيث لا أرى فيها مكروها ، وأخرجني من مكة يوم تخرجني «مخرج صدق»
غير ملتفت إليها بقلبي شوقا وحنينا إليها.
(وَاجْعَلْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) أي وسلني أن أجعل لك من لدني سلطانا نصيرا لك على من بغاك
بسوء ، وكادك بمكر وخديعة ، وحاول منعك من إقامة دينك ، ودعوتك إلى ربك ،
__________________
وقوله تعالى : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ
الْباطِلُ) هذه بشارة أخرى بأن الله تعالى سيفتح له مكة ، ويدخلها
ظافرا منتصرا وهو يكسر الأصنام حول الكعبة وكانت ثلاثمائة وستين صنما! ويقول جاء
الحق وزهق الباطل أي ذهب الكفر واضمحل. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ
زَهُوقاً). لا بقاء له ولا ثبات إذا صاول الحق ، ووقف في وجهه ،
وجائز أن يكون المراد بالحق ، القرآن وبالباطل الكذب والافتراء ، وجائز أن يكون
الحق الإسلام والباطل الكفر والشرك وأعم من ذلك ، أن الحق هو كل ما هو طاعة لله عزوجل ، والباطل كل طاعة للشيطان من الشرك والظلم وسائر المعاصي.
وقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ
الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أي وننزل عليك يا رسولنا محمد من القرآن ما هو شفاء أي ما يستشفى به من مرض الجهل والضلال والشك والوساوس
ورحمة للمؤمنين دون الكافرين ، لأن المؤمنين يعملون به فيرحمهمالله تعالى بعملهم بكتابه ، وأما الكافرون ، فلا رحمة لهم فيه ،
لأنهم مكذبون به تاركون للعمل بما فيه. وقوله : (وَلا يَزِيدُ
الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) أي ولا يزيد القرآن الظالمين وهم المشركون المعاندون الذين
أصروا على الباطل عنادا ومكابرة ، هؤلاء لا يزيدهم ما ينزل من القرآن ويسمعونه إلا
خسارا لازدياد كفرهم وظلمهم وعنادهم. وقوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا
عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى
بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) يخبر الله تعالى عن الإنسان الكافر المحروم من نور الإيمان
وهداية الإسلام أنه إذا أنعم عليه بنعمة النجاة من الهلاك وقد أشرف عليه بغرق أو
مرض أو جوع أو نحوه ، أعرض عن ذكر الله ودعائه كما كان يدعوه في حال الشدة ، ونأى
بجانبه أي بعد عنا فلا يلتفت إلينا بقلبه ، وذهب في خيلائه وكبريائه وقوله تعالى :
(وَإِذا مَسَّهُ
الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) أي قنوطا. هذا هو الكافر ، ذو ظلمة النفس لكفره وعصيانه.
إذا مسه الشر من جوع أو مرض أو خوف أحاط به كان يؤوسا أي كثير اليأس والقنوط
تامهما ، لعدم إيمانه بالله ورحمته وقدرته على إنجائه وخلاصه.
وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) أي قل يا رسولنا للمشركين ، كل منا ومنكم يعمل على طريقته
ومذهبه بحسب حاله هداية وضلالا. والله تعالى ربكم أعلم بمن هو أهدى منا ومنكم
سبيلا. ويجزي الكل بحسب عمله وسلوكه. وهذه كلمة
__________________
مفاصلة قاطعة ،
للنزاع الناجم عن كون كل يدعى أنه على الحق وأن دينه أصوب ، وطريقته أمثل وسبيله
أجدى وأنفع.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب إقامة
الصلاة وبيان أوقاتها المحددة لها.
٢ ـ الترغيب في
النوافل ، وخاصة التهجد أي «نافلة الليل».
٣ ـ تقرير الشفاعة
العظمى للنبي صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ ضعف الباطل
وسرعة تلاشيه إذا صاوله الحق ووقف في وجهه.
٥ ـ القرآن شفاء
لأمراض القلوب عامة ورحمة بالمؤمنين خاصة.
٦ ـ بيان طبع
المرء الكافر وبيان حال الضعف الملازم له.
٧ ـ تعليم الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين كيف يتخلصون من الجدال الفارغ والحوار غير
المثمر.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ
قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ
لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ
فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))
شرح الكلمات :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) : أي يسألك المشركون بواسطة أهل الكتاب عن الروح الذي يحيا
به البدن.
(مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : أي من شأنه وعلمه الذي استأثر به ولم يعلمه غيره.
(لَنَذْهَبَنَّ
بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : أي القرآن بأن نمحوه من الصدور والمصاحف لفعلنا.
(لَكَ بِهِ عَلَيْنا
وَكِيلاً) : يمنع ذلك منا ويحول دون ما أردناه منك.
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ
رَبِّكَ) : أي لكن أبقيناه عليك رحمة من ربك فلم نذهب به.
(بِمِثْلِ هذَا
الْقُرْآنِ) : من الفصاحة والبلاغة والمحتوى من الغيوب والشرائع
والأحكام.
(ظَهِيراً) : أي معينا ونصيرا.
(صَرَّفْنا) : بينا للناس مثلا من جنس كل مثل ليتعظوا به فيؤمنوا ويوحدوا.
(فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ) : أي أهل مكة إلا كفورا أي جحودا للحق وعنادا فيه.
معنى الآيات :
يقول تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الرُّوحِ) إذ قد سأله المشركون عن الروح وعن أصحاب الكهف ، وذي
القرنين بإيعاز من يهود المدينة فأخبره تعالى : بذلك وعلمه الرد عليهم فقال : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وعلمه الذي لا يعلمه إلا هو ، وما أوتيتم من العلم إلا
قليلا لأن سؤالهم هذا ونظائره دال على إدعائهم العلم فأعلمهم أن ما أوتوه من العلم
إلا قليل بجانب علم الله تعالى
وقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَ بِالَّذِي
أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) هذا امتنان من الله على رسوله الذي أنزل عليه القرآن شفاء
ورحمة للمؤمنين بأنه تعالى قادر على محوه من صدره. وسطره ، فلا تبقى منه آية ثم لا
يجد الرسول وكيلا له يمنعه من فعل الله به ذلك ولكن رحمة منه تعالى لم يشأ ذلك بل
يبقيه إلى قرب قيام الساعة حجة الله على عباده وآية على نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وصدق رسالته ، وليس هذا بأول إفضال من الله تعالى على
رسوله ، بل فضل الله عليه كبير ، ولنذكر من ذلك طرفا وهو
__________________
عموم رسالته ،
كونه خاتم الأنبياء ، العروج به إلى الملكوت الأعلى ، إمامته للأنبياء الشفاعة
العظمى ، والمقام المحمود.
وقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ
وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) لا شك أن هذا الذي علم الله رسوله أن يقوله له سبب وهو
ادعاء بعضهم أنه في إمكانه أن يأتي بمثل هذا القرآن الذي هو آية صدق نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، وبذلك تبطل الدعوى ، وينتصر باطلهم على الحق. فأمر تعالى
رسوله أن يرد على هذا الزعم الباطل بقوله : قل يا رسولنا لهؤلاء الزاعمين الإتيان
بمثل هذا القرآن لئن اجتمعت الإنس والجن متعاونين متظاهرين على الاتيان بمثل هذا
القرآن لا يأتون بمثله ، ذلك لأنه وحي الله وكتابه ، وحجته على خلقه. وكفى. فكيف
إذا يمكن للإنس والجن أن يأتوا بمثله؟!
وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا
الْقُرْآنِ) أي بينا مثلا من جنس كل مثل من أجل هداية الناس وإصلاحهم
علهم يتذكرون فيتعظون ، فيؤمنون ويوحدون فأبى أكثر الناس إلا كفورا أي جحودا بالحق
، وإنكارا للقرآن وتكذيبا به وبما جاء فيه من الحق والهدى والنور ، لما سبق القضاء
الإلهي من امتلاء جهنم بالغاوين وجنود إبليس أجمعين.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ علم الروح مما
استأثر الله تعالى به.
٢ ـ ما علم أهل
العلم إلى علم الله تعالى إلا كما يأخذ الطائر بمنقاره من ماء المحيط.
٣ ـ حفظ القرآن في
الصدور والسطور إلى قرب الساعة.
٤ ـ عجز الإنس
والجن عن الإتيان بقرآن كالقرآن الكريم.
٥ ـ لما سبق في
علم الله من شقاوة الناس تجد أكثرهم لا يؤمنون.
(وَقالُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ
لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً
(٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما
__________________
زَعَمْتَ
عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي
هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥))
شرح الكلمات :
(يَنْبُوعاً) : عينا لا ينضب ماؤها فهي دائمة الجريان.
(جَنَّةٌ) : بستان كثير الأشجار.
(كِسَفاً) : قطعا جمع كسفة كقطعة.
(قَبِيلاً) : مقابلة لنراهم عيانا.
(مِنْ زُخْرُفٍ) : من ذهب.
(تَرْقى) : تصعد في السماء.
(مُطْمَئِنِّينَ) : ساكنين في الأرض لا يبرحون منها.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الدعوة إلى التوحيد والنبوة والبعث وتقرير ذلك. فقال تعالى مخبرا عن
قيلهم لرسول الله وهم يجادلون في نبوته : فقالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ
لَكَ) أي لن نتابعك على ما تدعو إليه من التوحيد والنبوة لك والبعث
والجزاء لنا (حَتَّى تَفْجُرَ لَنا
مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) أي
__________________
عينا يجري ماؤها
على وجه الأرض لا ينقطع (أَوْ تَكُونَ لَكَ
جَنَّةٌ) أي بستان من نخيل وعنب ، (فَتُفَجِّرَ
الْأَنْهارَ خِلالَها) أي خلال الأشجار تفجيرا ، (أَوْ تُسْقِطَ
السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) أي قطعا ، (أَوْ تَأْتِيَ
بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً) أي مقابلة نراهم معاينة ، (أَوْ يَكُونَ لَكَ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) أي من ذهب تسكنه بيننا (أَوْ تَرْقى فِي
السَّماءِ) أي تصعد بسلم ذي درج في السماء ، (وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) إن أنت رقيت (حَتَّى تُنَزِّلَ
عَلَيْنا كِتاباً) من عند الله (نَقْرَؤُهُ) يأمرنا فيه بالإيمان بك واتباعك! هذه ست طلبات كل واحدة
اعتبروها آية متى شاهدوها زعموا أنهم يؤمنون ، والله يعلم أنهم لا يؤمنون ، فلذا
لم يستجب لهم وقال لرسوله : قل يا محمد لهم : سبحان الله متعجبا من طلباتهم (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟! أي هل كنت غير بشر رسول؟ وإلا كيف يطلب مني هذا الذي
طلبوا ، إن ما تطلبونه لا يقدر عليه عبد مأمور مثلي ، وإنما يقدر عليه رب عظيم
قادر ، يقول للشيء كن .... فيكون! وأنا ما ادعيت ربوبية ، وإنما أصرح دائما بأني
عبد الله ورسوله إليكم لأبلغكم رسالته بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به سواه وتؤمنوا
بالبعث الآخر وتعملوا له بالطاعات وترك المعاصي. وقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي وما منع أهل مكة (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ
جاءَهُمُ الْهُدى) على يد رسولهم (إِلَّا أَنْ قالُوا) أي إلا قولهم (أَبَعَثَ اللهُ
بَشَراً رَسُولاً)؟ منكرين على الله أن يبعث رسولا من البشر!
وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ
مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ
مَلَكاً رَسُولاً) أي قل يا رسولنا لهؤلاء المنكرين أن يكون الرسول بشرا ،
المتعجبين من ذلك ، قل لهم : لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكنين في
الأرض لا يغادرونها لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا يهديهم بأمرنا ويعلمهم ما
يطلب منهم فعله بإذننا لأنهم يفهمون عنه لرابطة الجنس بينهم والتفاهم الذي يتم
لهم. ولذا بعثنا إليكم رسولا من جنسكم تفهمون ما يقول لكم يقدر على إفهامكم
والبيان لكم فكيف إذا تنكرون الرسالة للبشر وهي أمر لا بد منه؟!
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة
الرسول صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ بيان شدة عناد
مشركي قريش ، وتصلبهم وتحزبهم إزاء دعوة التوحيد.
٣ ـ بيان سخف عقول
المشركين برضاهم للألوهية بحجر وإنكارهم الرسالة للبشر!
٤ ـ تقرير أن
التفاهم حسب سنة الله لا يتم إلا بين المتجانسين فإذا اختلفت الأجناس فلا تفاهم
إلا أن يشاء الله فلا يتفاهم انسان مع حيوان أو جان.
(قُلْ كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ
سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا
كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ
يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ
يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى
الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩))
شرح الكلمات :
(شَهِيداً) : على أني رسول الله إليكم وقد بلغتكم وعلى أنكم كفرتم
وعاندتم.
(فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ
أَوْلِياءَ) : أي يهدونهم.
(عَلى وُجُوهِهِمْ) : أي يمشون على وجوههم.
(عُمْياً وَبُكْماً
وَصُمًّا) : لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون.
(كُلَّما خَبَتْ) : أي سكن لهبها زدناهم سعيرا أي تلهبا واستعارا.
(وَقالُوا) : أي منكرين للبعث.
(مِثْلَهُمْ) : أي أناسا مثلهم.
(أَجَلاً) : وقتا محددا.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير النبوة المحمدية إذ يقول تعالى لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم : قل لأولئك المنكرين أن يكون الرسول بشرا ، (كَفى بِاللهِ
شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) على أني رسوله وأنتم منكرون عليّ ذلك.
إنه تعالى كان وما
زال (بِعِبادِهِ خَبِيراً) أي ذا خبرة تامة بهم (بَصِيراً) بأحوالهم يعلم المحق منهم من المبطل ، والصادق من الكاذب
وسيجزي كلا بعدله ورحمته.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ) يخبر تعالى أن الهداية بيده تعالى فمن يهده الله فهو
المهتدي بحق ، (وَمَنْ يُضْلِلْ
فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ) (أَوْلِياءَ مِنْ
دُونِهِ) أي يهدونهم بحال من الأحوال ، وفي هذا الكلام تسلية للرسول
وعزاء له في قومه المصرّين على الجحود والانكار لرسالته.
وقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي أولئك المكذبين الضالين الذين ماتوا على ضلالهم
وتكذيبهم فلم يتوبوا نحشرهم يوم القيامة ، يمشون على وجوههم حال كونهم عميا لا يبصرون ، بكما لا ينطقون ، صما لا يسمعون وقوله تعالى : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) أي محل استقرارهم في ذلك اليوم جهنم الموصوفة بأنها (كُلَّما خَبَتْ) أي سكن لهبها عنهم زادهم الله سعيرا أي تلهبا
__________________
واستعارا. وقوله
تعالى : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ) أي ذلك العذاب المذكور جزاؤهم بأنهم كفروا بآيات الله أي
بسبب كفرهم بآيات الله. وقولهم إنكارا للبعث الآخر واستبعادا له : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً) أي ترابا (أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً)
ورد الله تعالى
على هذا الاستبعاد منهم للحياة الثانية فقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي أينكرون البعث الآخر؟ ولم يروا بعيون قلوبهم (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ)؟؟! بلى إنه لقادر لو كانوا يعلمون!
وقوله تعالى : (وَ جَعَلَ
لَهُمْ أَجَلاً) أي وقتا محدودا معينا لهلاكهم وعذابهم (لا رَيْبَ فِيهِ) وهم صائرون إليه لا محالة ، وقوله : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) أي مع هذا البيان والاستدلال العقلي أبى الظالمون إلا
الجحود والكفران ليحق عليهم كلمة العذاب فيذوقوه والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم شهادة
الله تعالى ووجوب الاكتفاء بها.
٢ ـ الهداية
والاضلال بيد الله فيجب طلب الهداية منه والاستعاذة به من الضلال.
٣ ـ فظاعة عذاب
يوم القيامة إذ يحشر الظالمون يمشون على وجوههم كالحيات وهم صم بكم عمي والعياذ
بالله تعالى من حال أهل النار.
٤ ـ جهنم جزاء
الكفر بآيات الله والانكار للبعث والجزاء يوم القيامة.
٥ ـ دليل البعث
عقلي كما هو نقلي فالقادر على البدء ، قادر عقلا على الإعادة بل الاعادة ـ عقلا ـ
أهون من البدء للخلق من لا شيء.
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ
تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ
فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي
لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ
__________________
هؤُلاءِ
إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا
فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي
إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ
لَفِيفاً (١٠٤))
شرح الكلمات :
(خَزائِنَ رَحْمَةِ
رَبِّي) : أي من المطر والأرزاق
(لَأَمْسَكْتُمْ) : أي منعتم الانفاق.
(خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) : خوف النفاد.
(قَتُوراً) : أي كثير الاقتار أي البخل والمنع للمال.
(تِسْعَ آياتٍ
بَيِّناتٍ) : أي معجزات بينات أي واضحات وهو اليد والعصا والطمس إلخ.
(مَسْحُوراً) : أي مغلوبا على عقلك ، مخدوعا.
(ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) : أي الآيات التسع.
(مَثْبُوراً) : هالكا بانصرافك عن الحق والخير.
(فَأَرادَ أَنْ
يَسْتَفِزَّهُمْ) : أي يستخفهم ويخرجهم من ديار مصر.
(اسْكُنُوا الْأَرْضَ) : أي أرض القدس والشام.
(الْآخِرَةِ) : أي الساعة.
(لَفِيفاً) : أي مختلطين من أحياء وقبائل شتى.
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله
صلىاللهعليهوسلم ، قل يا محمد لأولئك الذين يطالبون بتحويل جبل الصفا إلى
ذهب ، وتحويل المنطقة حول مكة إلى بساتين من نخيل وأعناب تجري الأنهار من خلالها ،
قل لهم ، لو كنتم أنتم تملكون خزائن رحمة ربي من الأموال والأرزاق لأمسكتم بخلابها
ولم تنفقوها خوفا من نفادها إذ هذا طبعكم ، وهو البخل ، (وَكانَ الْإِنْسانُ) قبل هدايته وإيمانه (قَتُوراً) أي كثير التقتير بخلا وشحا نفسيا ملازما له حتى يعالج هذا
الشح بما وضع الله تعالى من دواء نافع جاء بيانه في سورة المعارج من هذا
__________________
الكتاب الكريم.
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ، ولقد أعطينا موسى بن عمران نبي بني إسرائيل تسع آيات
وهي : اليد ، والعصا والدم ، وانفلاق البحر ، والطمس على أموال آل فرعون ، والطوفان
والجراد والقمل والضفادع ، فهل آمن عليها آل فرعون؟! لا ، إذا ، فلو أعطيناك ما
طالب به قومك المشركون من الآيات الست التي اقترحوها وتقدمت في هذه السياق الكريم
مبينة ، ما كانوا ليؤمنوا بها ، ومن هنا فلا فائدة من إعطائك إياها.
وقوله تعالى : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي سل يا نبينا علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره
، إذ جاءهم موسى بطالب فرعون بإرسالهم معه ليخرج بهم إلى بلاد القدس ، وأرى فرعون
الآيات الدالة على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما يطالب به فقال له فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي ساحرا لإظهارك ما أظهرت من هذه الخوارق ، ومسحورا بمعنى
مخدوعا مغلوبا على عقلك فتقول الذي تقول مما لا يقوله العقلاء فرد عليه موسى بقوله
بما أخبر تعالى به في قوله (لَقَدْ عَلِمْتَ) أي فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البينات إلا رب السماوات أي
خالقها ومالكها والمدبر لها (بَصائِرَ) أي آيات واضحات مضيئات هاديات لمن طلب الهداية ، فعميت
عنها وأنت تعلم صدقها (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ
يا فِرْعَوْنُ) (مَثْبُوراً)! أي من أجل هذا أظنك يا فرعون ملعونا ، من رحمة الله مبعدا
مثبورا هالكا. فلما أعيته أي فرعون الحجج والبينات لجأ إلى القوة ، (فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ
الْأَرْضِ) أي يستخفهم من أرض مصر بالقتل الجماعي استئصالا لهم ، أو
بالنفي والطرد والتشريد ، فعامله الرب تعالى بنقيض ، قصده فأغرقه الله تعالى هو
وجنوده أجمعين ، وهو معنى قوله تعالى : (فَأَغْرَقْناهُ
وَمَنْ مَعَهُ) أي من الجنود أجمعين وقوله تعالى :
__________________
(وَقُلْنا مِنْ
بَعْدِهِ) أي من بعد هلاك فرعون وجنوده لبني إسرائيل على لسان موسى عليهالسلام (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) أي أرض القدس والشام إلى نهاية آجالكم بالموت. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي يوم القيامة بعثناكم أحياء كغيركم ، (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي مختلطين من أحياء وقبائل وأجناس شتى لا ميزة لأحد على
آخر ، حفاة عراة لفصل القضاء ثم الحساب والجزاء.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ الشح من طبع
الانسان إلا أن يعالجه بالإيمان والتقوى فيقيه الله منه .
٢ ـ الآيات وحدها
لا تكفي لهداية الإنسان بل لا بد من توفيق إلهي.
٣ ـ مظاهر قدرة
الله تعالى وانتصاره لأوليائه وكبت أعدائه.
٤ ـ بيان كيفية
حشر الناس يوم القيامة لفيفا أخلاطا من قبائل وأجناس شتى.
(وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً
(١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا
لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً
(١٠٩))
شرح الكلمات :
(وَبِالْحَقِّ
أَنْزَلْناهُ) : أي القرآن.
(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) : أي نزل ببيان الحق في العبادات والعقائد والأخبار
والمواعظ والحكم والأحكام.
(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) : أن نزلناه مفرقا في ظرف ثلاث وعشرين سنة لحكمة اقتضت
ذلك.
(عَلى مُكْثٍ) : أي على مهل وتؤده ليفهمه المستمع إليه.
__________________
(وَنَزَّلْناهُ
تَنْزِيلاً) : أي شيئا فشيئا حسب مصالح الأمة لتكمل به ولتسعد عليه.
(أُوتُوا الْعِلْمَ
مِنْ قَبْلِهِ) : أي مؤمنوا أهل الكتاب من اليهود والنصارى كعبد الله بن
سلام ، وسلمان الفارسي.
(لِلْأَذْقانِ
سُجَّداً) : أي سجدا على وجوههم ، ومن سجد على وجهه فقد خرّ على ذقنه
ساجدا.
(إِنْ كانَ وَعْدُ
رَبِّنا لَمَفْعُولاً) : منجزا ، واقعا ، فقد أرسل النبي الأمي الذي بشرت به كتبه
وأنزل عليه كتابه.
معنى الآيات :
يقول تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي ذلك الكتاب الذي جحد به الجاحدون ، وكذب به المشركون
أنزلناه بالحق الثابت حيث لا شك أنه كتاب الله ووحيه إلى رسوله ، و (بِالْحَقِّ نَزَلَ) فكل ما جاء فيه ودعا إليه وأمر به. وأخبر عنه من عقائد
وتشريع وأخبار ووعد ووعيد كله حق ثابت لا خلاف فيه ولا ريبة منه. وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً
وَنَذِيراً) أي لم نرسلك لخلق الهداية في قلوب عبادنا ولا لإجبارهم
بقوة السلطان على الإيمان بنا وتوحيدنا ، وإنما أرسلناك للدعوة والتبليغ (مُبَشِّراً) من أطاعنا بالجنة ومنذرا من عصانا مخوفا من النار. وفي هذا
تقرير لرسالته صلىاللهعليهوسلم ونبوته وقوله تعالى : (وَقُرْآناً
فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) أي أنزلنا القرآن وفرقناه في خلال ثلاث وعشرين سنة لحكمة
منا اقتضت ذلك وقوله (لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) آيات بعد آيات ليكون ذلك أدعى إلى فهم من يسمعه ويستمع
إليه ، وقوله تعالى : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) أي شيئا فشيئا حسب مصالح العباد وما تتطلبه تربيتهم الروحية والانسانية
ليكملوا به ، عقولا وأخلاقا وأرواحا ويسعدوا به في الدارين وقوله تعالى : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) أي قل يا رسولنا للمنكرين للوحي القرآني من قومك ، آمنوا
به أولا تؤمنوا فإن إيمانكم به كعدمه لا يغير من واقعه شيئا فسوف يؤمن به ويسعد
عليه غيركم إن لم تؤمنوا أنتم به وهاهم أولاء الذين أوتوا العلم من قبله من علماء
أهل الكتابين اليهود والنصاري قد آمنوا به ، يريد أمثال عبد الله بن سلام وسلمان
الفارسي ، والنجاشي أصحم الحبشي وإنهم (إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ) أي يقرأ عليهم (يَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) أي يخرون ساجدين على أذقانهم ووجوههم ويقولون حال سجودهم (سُبْحانَ رَبِّنا)
__________________
أي تنزيها له أن
يخلف وعده إذ وعد أنه يبعث نبي آخر الزمان وينزل عليه قرآنا ، (إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) إقرارا منهم بالنبوة المحمدية والقرآن العظيم ، أي ناجزا
إذ وعد بإرسال النبي الخاتم وإنزال الكتاب عليه فأنجز ما وعد ، وهكذا وعد ربنا
دائما ناجز لا يتخلف. وقوله (وَيَخِرُّونَ
لِلْأَذْقانِ
يَبْكُونَ) أي عند ما يسمعون القرآن لا يسجدون فحسب بل يخرون يبكون
ويزيدهم سماع القرآن وتلاوته خشوعا في قلوبهم واطمئنانا في جوارحهم لأنه الحق
سمعوه من ربهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ القرآن حق من
الله وما نزل به كله حق.
٢ ـ الندب إلى
ترتيل القرآن لا سيما عند قراءته على الناس لدعوتهم إلى الله تعالى.
٣ ـ تقرير نزول
القرآن مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.
٤ ـ تقرير النبوة
المحمدية بنزول القرآن وإيمان من آمن به من أهل الكتاب.
٥ ـ بيان حقيقة
السجود وأنه وضع الوجه على الأرض.
٦ ـ مشروعية
السجود للقارىء أو المستمع وسنية ذلك عند قراءة هذه الآية وهي (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ
وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً) فيخر ساجدا مكبرا في الخفض وفي الرفع قائلا : الله أكبر
ويسبح ويدعو في سجوده بما يشاء.
(قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا
تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً (١١١))
__________________
شرح الكلمات :
(ادْعُوا اللهَ أَوِ
ادْعُوا الرَّحْمنَ) : أي سموه بأيهما ونادوه بكل واحد منهما الله أو الرحمن.
(أَيًّا ما تَدْعُوا) : أي إن تدعوه بأيهما فهو حسن لأن له الأسماء الحسنى وهذان
منها.
(وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ) : أي بقراءتك في الصلاة كراهة أن يسمعها المشركون فيسبوك
ويسبوا القرآن ومن أنزله.
(وَلا تُخافِتْ بِها) : أي ولا تسر به إسرارا حتى ينتفع بقراءتك أصحابك الذين
يصلون وراءك بصلاتك.
(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ
سَبِيلاً) : أي اطلب بين السر والجهر طريقا وسطا.
(لَمْ يَتَّخِذْ
وَلَداً) : كما يقول الكافرون.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ) : كما يقول المشركون.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) : أي لم يكن له ولي ينصره من أجل الذل إذ هو العزيز الجبار
مالك الملك ذو الجلال والاكرام.
(وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً) : أي عظمه تعظيما كاملا عن اتخاذ الولد والشريك والولي من
الذل.
معنى الآيات :
كان صلىاللهعليهوسلم يقول في دعائه يا ألله. يا رحمن ، يا رحمن يا رحيم فسمعه
المشركون وهم يتصيدون له أية شبهة ليثيروها ضده فلما سمعوه يقول : يا الله ، يا
رحمن قالوا : أنظروا إليه كيف يدعو إلهين وينهانا عن ذلك فأنزل الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) أي قل لهم يا نبينا أدعوا الله أو أدعوا الرحمن فالله هو
الرحمن الرحيم (أَيًّا ما تَدْعُوا) منهما الله أو الرحمن فهو الله ذو الأسماء الحسنى والصفات
العلى وقوله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ
وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي وسطا بين السر والجهر ، وذلك أن المشركين كانوا إذا
سمعوا القرآن سبّوا قارئه ومن أنزله ، فأمر الله تعالى رسوله والمؤمنون تابعون له
إذا قرأوا في صلاتهم أن لا يجهروا حتى لا
__________________
يسمع المشركون
قراءتهم ولا يسروا حتى لا يحرم سماع القرآن من يصلي وراءهم فأمر رسول الله بالتوسط
بين الجهر والسر.
وقوله تعالى : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً). أي أمر الله تعالى الرسول أن يحمد الله الذي لم يتخذ ولدا
كما زعم ذلك بعض العرب ، إذ قالوا الملائكة بنات الله! وكما زعم ذلك اليهود إذ
قالوا عزير بن الله والنصارى إذ قالوا عيسى بن الله! (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) كما قال المشركون من العرب : لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك
لك لبيك إلا شريكا هو لك ، تملكه وما ملك!
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) كما قال الصابئون والمجوس : لو لا أولياء الله لذل الله!
(وَكَبِّرْهُ) أنت أو عظمه يا رسولنا تعظيما من أن يكون له وصف النقص
والافتقار والعجز.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إن لله
الأسماء الحسنى وهي مائة اسم إلا اسما واحدا فيدعى الله تعالى وينادى بأيّها ، وكلها حسنى كما قال
تعالى في سورة الأعراف : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)
٢ ـ بيان ما كان
عليه المشركون في مكة من بغض للرسول والقرآن والمؤمنين ..
٣ ـ مشروعية الأخذ
بالاحتياط للدين كما هو للدنيا.
٤ ـ وجوب حمد الله
تعالى والثناء عليه وتنزيهه عن كل عجز ونقص.
٥ ـ هذه الآية (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) تسمى آية العز هكذا سماها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
سورة الكهف
مكية
وآياتها عشر ومائة
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١)
قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ
فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما
لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ
أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ
عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦))
شرح الكلمات :
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الحمد الوصف بالجميل ، والله علم على ذات الرب تعالى.
(الْكِتابَ) : القرآن الكريم.
(وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) : أي ميلا عن الحق والاعتدال في ألفاظه ومعانيه.
(قَيِّماً) : أي ذا اعتدال لا إفراط فيه ولا تفريط في كل ما حواه ودعا
إليه من التوحيد والعبادة والآداب والشرائع والأحكام.
(بَأْساً شَدِيداً) : عذابا ذا شدة وقسوة وسوء عذاب في الآخرة.
__________________
(مِنْ لَدُنْهُ) : من عنده سبحانه وتعالى.
(أَجْراً حَسَناً) : أي الجنة إذ هي أجر المؤمنين العاملين بالصالحات.
(كَبُرَتْ كَلِمَةً) : أي عظمت فريه وهي قولهم الملائكة بنات الله.
(إِنْ يَقُولُونَ
إِلَّا كَذِباً) : أي ما يقولون إلا كذبا بحتا لا واقع له من الخارج.
(باخِعٌ نَفْسَكَ) : قاتل نفسك كالمنتحر.
(بِهذَا الْحَدِيثِ
أَسَفاً) : أي بالقرآن من أجل الأسف الذي هو الحزن الشديد.
معنى الآيات :
أخبر تعالى في
فاتحة سورة الكهف بأنه المستحق للحمد ، وأن الحمد لله وذكر موجب ذلك ، وهو
إنزاله على عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم الكتاب الفخم العظيم وهو القرآن العظيم الكريم فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) وقوله تعالى ، (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ
عِوَجاً) أي ولم يجعل لذلك الكتاب العظيم عوجا أي ميلا عن الحق
والاعتدال في ألفاظه ومعانيه فهو كلام مستقيم محقق للآخذ به كل سعادة وكمال في
الحياتين. وقوله (قَيِّماً) أي معتدلا خاليا من الإفراط والتفريط قيما على الكتب
السابقة مهيمنا عليها الحق فيها ما أحقه والباطل ما أبطله.
وقوله (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ
لَدُنْهُ) أي أنزل الكتاب الخالي من العوج القيم من أجل أن ينذر الظالمين
من أهل الشرك والمعاصي عذابا شديدا في الدنيا والآخرة ينزل بهم من عند ربهم الذين
كفروا به وأشركوا وعصوه وكذبوا رسوله وعصوه. ومن أجل أن يبشر بواسطته أيضا (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) أي يخبرهم بما يسرهم ويفرح قلوبهم وهو أن لهم عند ربهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وقوله تعالى : (وَيُنْذِرَ) بصورة خاصة أولئك المتقولين على الله المفترين عليه
بنسبتهم الولد إليه فقالوا : (اتَّخَذَ اللهُ
وَلَداً) وهم اليهود والنصارى وبعض مشركي العرب الذين قالوا ان
الملائكة بنات الله! هذا ما دل عليه قوله تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ
قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً)
وهو قول توارثوه
لا علم لأحد منهم به ، وإنما هو مجرد كذب يتناقلونه
__________________
بينهم لذا قبح
الله قولهم هذا وعجب منه العقلاء ، فقال : (كَبُرَتْ كَلِمَةً
تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أي عظم قولهم (اتَّخَذَ اللهُ
وَلَداً) كلمة قالوها تخرج من أفواههم لا غير إذ لا واقع لها أبدا ،
وقرر الانكار عليهم فقال : (إِنْ يَقُولُونَ
إِلَّا كَذِباً) أي ما يقولون إلا الكذب البحت الذي لا يعتمد على شيء من
الصحة البتة. وقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) يعاتب الله تعالى رسوله ويخفف عنه ما يجده في نفسه من
الحزن على عدم إيمان قومه واشتدادهم في الكفر والتكذيب وما يقترحونه عليه من
الآيات أي فلعلك يا رسولنا قاتل نفسك على إثر رفض قومك للإيمان بك وبكتابك وما جئت
به من الهدى ، حزنا عليهم ، وجزعا منهم ، فلا تفعل واصبر لحكم ربك فإنه منجز وعده
لك بالنصر على قومك المكذبين لك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب حمد الله
تعالى على آلائه وعظيم نعمه.
٢ ـ لا يحمد إلا
من له ما يقتضي حمده ، وإلا كان المدح كذبا وزورا.
٣ ـ عظم شأن
القرآن الكريم وسلامته من الافراط والتفريط والانحراف في كل ما جاء به.
٤ ـ بيان مهمة
القرآن وهي البشارة لأهل الإيمان والإنذار لأهل الشرك والكفران.
٥ ـ التنديد
بالكذب على الله ونسبة ما لا يليق بجلاله وكماله إليه كالولد ونحوه.
٦ ـ تحريم
الانتحار وقتل النفس من الحزن أو الخوف ونحوه من الغضب والحرمان.
(إِنَّا جَعَلْنا ما
عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً
وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي
__________________
الْكَهْفِ
سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى
لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))
شرح الكلمات :
(صَعِيداً جُرُزاً) : أي ترابا لا نبات فيه ، فالصعيد هو التراب والجرز الذي لا نبات فيه.
(الْكَهْفِ) : النقب الواسع في الجبل والضيق منه يقال له «غار»
(وَالرَّقِيمِ) : لوح حجري رقمت فيه أسماء أصحاب الكهف.
(أَوَى الْفِتْيَةُ
إِلَى الْكَهْفِ) : اتخذوه مأوى لهم ومنزلا نزلوا فيه.
(الْفِتْيَةُ) : جمع فتى وهم شبان مؤمنون.
(هَيِّئْ لَنا مِنْ
أَمْرِنا رَشَداً) : أي ييسر لنا طريق رشد وهداية.
(فَضَرَبْنا عَلَى
آذانِهِمْ) : أي ضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم من سماع الأصوات
والحركات.
(سِنِينَ عَدَداً) : أي أعواما عدة.
(ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) : أي من نومهم بمعنى أبقظناهم.
(أَحْصى لِما لَبِثُوا) : أي أضبط لأوقات بعثهم في الكهف.
(أَمَداً) : أي مدة محدودة معلومة.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَها) من حيوان وأشجار ونبات وأنهار وبحار ، وقوله (لِنَبْلُوَهُمْ) أي لنختبرهم (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) أي أيهم أترك لها وأتبع لأمرنا ونهينا وأعمل فيها بطاعتنا وقوله
: (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ
ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) أي وإنا لمخربوها في يوم ، من الأيام بعد عمارتها ونضارتها
وزينتها نجعلها (صَعِيداً جُرُزاً) أي ترابا لا نبات فيه ، إذا فلا تحزن يا رسولنا ولا تغتم
مما تلاقيه من قومك فإن مآل الحياة التي من أجلها عادوك وعصوننا إلى أن
__________________
تصبح صعيدا جرزا. وقوله
تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ
أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا
مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي أظننت أيها النبي أن أصحاب الكهف أي الغار في الكهف
والرقيم وهو اللوح الذي كتبت عليه ورقم أسماء أصحاب الكهف وأنسابهم وقصتهم (كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) أي كان أعجب من آياتنا في خلق ومخلوقات ، السموات والأرض
بل من مخلوقات الله ما هو أعجب بكثير. وقوله : (إِذْ أَوَى
الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) هذا شروع في ذكر قصتهم العجيبة ، أي اذكر للسائلين لك عن
قصة هؤلاء الفتية ، إذ أووا إلى الغار في الكهف فنزلوا فيه ، واتخذوه مأوى لهم
ومنزلا هروبا من قومهم الكفار أن يفتنوهم في دينهم وهم سبعة شبان ومعهم كلب لهم
فقالوا سائلين ربهم : (رَبَّنا آتِنا مِنْ
لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي أعطنا من عندك رحمة تصحبنا في هجرتنا هذه للشرك
والمشركين (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ
أَمْرِنا رَشَداً) أي ويسر لنا من أمرنا في فرارنا من ديار المشركين خوفا على
ديننا (رَشَداً) أي سدادا وصلاحا ونجاة من أهل الكفر والباطل ، قال ابن
جرير الطبري في تفسيره لهذه الآيات وقد اختلف أهل العلم في سبب مصير هؤلاء الفتية
إلى الكهف الذي ذكره الله في كتابه فقال بعضهم : كان سبب ذلك أنهم كانوا مسلمين
على دين عيسى وكان لهم ملك عابد وثن دعاهم إلى عبادة الأصنام فهربوا بدينهم منه
خشية أن يفتنهم عن دينهم أو يقتلهم فاستخفوا منه في الكهف وقوله تعالى : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي
الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) أي فضربنا على آذانهم حجابا يمنعهم من سماع الأصوات والحركات فناموا في كهفهم سنين
معدودة أي ثلاثمائة وتسع سنين ، وكانوا يتقلبون بلطف الله وتدبيره لهم من جنب إلى
جنب حتى بعثهم من نومهم وهذا استجابة الله تعالى لهم إذ دعوه قائلين : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)
وقوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) أي من نومهم ورقادهم (لِنَعْلَمَ أَيُّ
الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا) أي في الكهف (أَمَداً) أي لنعلم علم مشاهدة ولينظر عبادي فيعلموا أي الطائفتين اللتين اختلفتا في قدر لبثهم في الكهف كانت أحصى لمدة
لبثهم في الكهف حيث اختلف الناس إلى حزبين حزب يقول لبثوا في كهفهم كذا سنة وآخر
يقول لبثوا إلى مدى أي غاية كذا من السنين.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان العلة في
وجود الزينة على هذه الأرض ، وهي الابتلاء والاختبار للناس ليظهر الزاهد فيها ،
العارف بتفاهتها وسرعة زوالها ، وليظهر الراغب فيها المتكالب عليها الذي عصى الله
من أجلها.
٢ ـ تقرير فناء كل
ما على الأرض حتى تبقى صعيدا جرزا وقاعا صفصفا لا يرى فيها عوج ولا أمت.
٣ ـ تقرير نبوة
الرسول صلىاللهعليهوسلم بإجابة السائلين عن أصحاب الكهف بالايجاز والتفصيل.
٤ ـ تقرير التوحيد
ضمن قصة أصحاب الكهف إذ فروا بدينهم خوفا من الشرك والكفر.
٥ ـ استجابة الله
دعاء عباده المؤمنين الموحدين حيث استجاب للفتية فآواهم الغار ورعاهم حتى بعثهم
بعد تغير الأحوال وتبدل العباد والبلاد.
(نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا
رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ
قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً
لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى
عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ
اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))
شرح الكلمات :
(نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) : أي خبرهم العجيب بالصدق واليقين.
(وَزِدْناهُمْ هُدىً) : أي إيمانا وبصيرة في دينهم ومعرفة ربهم حتى صبروا على
الهجرة.
(وَرَبَطْنا عَلى
قُلُوبِهِمْ) : أي شددنا عليها فقويت عزائمهم حتى قالوا كلمة الحق عند
سلطان جائر.
(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ
دُونِهِ إِلهاً) : لن نعبد من دونه إلها آخر.
(لَوْ لا يَأْتُونَ
عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ) : أي هلا يأتون بحجة قوية تثبت صحة عبادتهم.
(عَلَى اللهِ كَذِباً) : أي باتخاذ آلهة من دونه تعالى يدعوها ويعبدها.
(فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ) : أي انزلوا في الكهف تستترون به على أعين أعدائكم
المشركين.
(يَنْشُرْ لَكُمْ
رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) : أي يبسط من رحمته عليكم بنجاتكم مما فررتم منه.
(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ) : وييسر لكم من أمركم الذي أنتم فيه من الغم والكرب.
(مِرْفَقاً) : أي ما ترتفقون به وتنتفعون من طعام وشراب وإواء.
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى
موجز قصة أصحاب الكهف أخذ في تفصيلها فقال (نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) أي نحن رب العزة والجلال نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب
الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ) ، جمع فتى (آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) أي صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها وقوله (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي هداية إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.
وقوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) أي قوّينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا
على رؤوس الملأ وأمام ملك كافر (رَبُّنا رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ليس لنا رب سواه ، لن ندعوا من دونه إلها مهما كان شأنه
، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قلنا إذا شططا من القول وهو الكذب والغلو فيه
وقوله تعالى : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم إذ
قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا
اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً ، لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) أي هلا يأتون عليهم بسلطان بيّن أي بحجة واضحة تثبت عبادة
هؤلاء الأصنام من دون الله؟ ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلا الله؟!
وقوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ
افْتَرى) ينفي الله عزوجل أن يكون هناك أظلم ممن افترى
__________________
على الله كذبا
باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى
بواسطتها!! وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ
وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) من الأصنام والأوثان (فَأْوُوا إِلَى
الْكَهْفِ) أي فصيروا إلى غار الكهف المسمى «بنجلوس» (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ
رَحْمَتِهِ) أي يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي
رميتم به من الكافر «دقينوس» (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) أي ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد
الذي أويتم إليه فرارا بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم
أو يقتلكم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير النبوة
المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف.
٢ ـ تقرير زيادة
الإيمان ونقصانه.
٣ ـ فضيلة الجرأة
في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن.
٤ ـ تقرير التوحيد
وأنه لا إله إلا الله على لسان أصحاب الكهف.
٥ ـ بطلان عبادة
غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها.
٦ ـ الشرك ظلم وكذب
والمشرك ظالم مفتر كاذب.
٧ ـ تقرير فرض
الهجرة في سبيل الله.
٨ ـ فضيلة
الالتجاء إلى الله تعالى وطلب حمايته لعبده وكفاية الله من لجأ إليه في صدق.
(وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ
مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ
وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ
ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ
__________________
باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً
وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))
شرح الكلمات :
(تَزاوَرُ) : أي تميل.
(تَقْرِضُهُمْ) : تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم.
(فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها.
(مِنْ آياتِ اللهِ) : أي دلائل قدرته.
(أَيْقاظاً) : جمع يقظ أي منتبهين لأن أعينهم منفتحة.
(بِالْوَصِيدِ) : فناء الكهف.
(رُعْباً) : منعهم الله بسببه من الدخول عليهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في عرض قصة أصحاب الكهف يقول تعالى في خطاب رسوله صلىاللهعليهوسلم (وَتَرَى الشَّمْسَ
إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ
كَهْفِهِمْ) أي تميل عنه ذات اليمين (وَإِذا غَرَبَتْ
تَقْرِضُهُمْ) أي تتركهم وتتجاوز عنهم فلا تصيبهم ذات الشمال. وقوله
تعالى : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي متسع من الكهف ينالهم برد الريح ونسيمها ، وقوله (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي وذلك المذكور من ميلان الشمس عنهم إذا طلعت وقرضها لهم
إذا غربت من دلائل قدرة الله تعالى ورحمته بأوليائه ولطفه بهم ، وقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) يخبر تعالى أن الهداية بيده وكذلك الإضلال فليطلب العبد من
ربه الهداية إلى صراطه المستقيم ، وليستعذ به من الضلال المبين ، إذ من يضله الله
لن يوجد له ولي يرشده بحال من الأحوال ، وقوله تعالى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) أي انك إذا نظرت إليهم تظنهم أيقاظا
__________________
أي منتبهين لأن
أعينهم متفتحة وهم رقود نائمون لا يحسّون بأحد ولا يشعرون ، وقوله تعالى : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ) أي جهة اليمين (وَذاتَ الشِّمالِ) أي جهة الشمال حتى لا تعدو التربة على أجسادهم فتبليها.
وقوله : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ
ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي : وكلبهم الذي خرج معهم ، وهو كلب صيد (باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أي : بفناء الكهف. وقوله تعالى : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ) أي لو شاهدتهم وهم رقود وأعينهم مفتحة (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً) لرجعت فارا منهم (وَلَمُلِئْتَ
مِنْهُمْ رُعْباً) أي خوفا وفزعا ، ذلك أن الله تعالى ألقى عليهم من الهيبة
والوقار حتى لا يدنو منهم أحد ويمسهم بسوء إلى أن يوقظهم عند نهاية الأجل الذي ضرب
لهم ، ليكون أمرهم آية من آيات الله الدالة على قدرته وعظيم سلطانه وعجيب تدبيره
في خلقه.
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان لطف الله
تعالى بأوليائه بإكرامهم في هجرتهم إليه.
٢ ـ تقرير أن
الهداية بيد الله فالمهتدي من هداه الله والضال من أضله الله ولازم ذلك طلب
الهداية من الله ، والتعوذ به من الضلال لأنه مالك ذلك.
٣ ـ بيان عجيب
تدبير الله تعالى وتصرفه في مخلوقاته فسبحانه من إله عظيم عليم حكيم.
(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ
لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا
يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ
فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ
أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا
يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ
يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً
(٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
وَأَنَّ
__________________
السَّاعَةَ
لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا
عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى
أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))
شرح الكلمات :
(كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) : أي كما أنمناهم تلك النومة الطويلة الخارقة للعادة
بعثناهم من رقادهم بعثا خارقا للعادة أيضا فكان في منامهم آية وفي
إفاقتهم آية.
(كَمْ لَبِثْتُمْ) : أي في الكهف نائمين.
(يَوْماً أَوْ بَعْضَ
يَوْمٍ) : لأنهم دخلوا الكهف صباحا واستيقظوا عشية.
(بِوَرِقِكُمْ) : بدراهم الفضة التي عندكم.
(إِلَى الْمَدِينَةِ) : أي المدينة التي كانت تسمى أفسوس وهي طرسوس اليوم.
(أَزْكى طَعاماً) : أي أيّ أطعمة المدينة أحلّ أي أكثر حلّيّة.
(وَلْيَتَلَطَّفْ) : أي يذهب يشتري الطعام ويعود في لطف وخفاء.
(يَرْجُمُوكُمْ) : أي يقتلوكم رميا بالحجارة.
(أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ) : أطلعنا عليهم أهل بلدهم.
(لِيَعْلَمُوا) : أي قومهم أن البعث حق للأجساد والأرواح معا.
(إِذْ يَتَنازَعُونَ) : أي الكفار قالوا ابنوا عليهم أي حولهم بناء يسترهم.
(فَقالُوا) : أي المؤمنون والكافرون في شأن البناء عليهم.
(قالَ الَّذِينَ
غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ) : وهم المؤمنون لنتخذن حولهم مسجدا يصلى فيه.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحديث عن أصحاب الكهف فقوله تعالى : (وَكَذلِكَ
بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) أي كما أنمناهم ثلاثمائة سنة وتسعا وحفظنا أجسادهم وثيابهم
من البلى
__________________
ومنعناهم من وصول
أحد إليهم ، وهذا من مظاهر قدرتنا وعظيم سلطاننا بعثناهم من نومهم الطويل
ليتساءلوا بينهم فقال قائل منهم مستفهما كم لبثتم يا إخواننا فأجاب بعضهم قائلا (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) لأنهم آووا إلى الكهف في الصباح وبعثوا من رقادهم في
المساء وأجاب بعض آخر بقول مرض للجميع وهو قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِما لَبِثْتُمْ) فسلموا الأمر إليه ، وكانوا جياعا فقالوا لبعضهم (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) يشيرون إلى عملة من فضة كانت معهم (إِلَى الْمَدِينَةِ) وهي أفسوس التي خرجوا منها هاربين بدينهم. وقوله : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً
فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ) أي فلينظر الذي تبعثونه لشراء الطعام أي أنواع الأطعمة
أزكى أي أطهر من الحرام والاستقذار (فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ
مِنْهُ) لتأكلوه سدا لجوعكم وليتلطف في شرائه وذهابه وإيابه حتى لا يشعر بكم أحدا وعلل لقوله
هذا بقوله (إِنَّهُمْ إِنْ
يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) أي يطلعوا (يَرْجُمُوكُمْ) أو يقتلوكم رجما بالحجارة (أَوْ يُعِيدُوكُمْ
فِي مِلَّتِهِمْ) ملة الشرك بالقسر والقوة. (وَلَنْ تُفْلِحُوا
إِذاً أَبَداً) أي ولن تفلحوا بالنجاة من النار ودخول الجنة إذا أنتم عدتم
للكفر والشرك .. فكفرتم وأشركتم بربكم.
وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي وكما أنمناهم تلك المدة الطويلة وبعثناهم ليتساءلوا
بينهم فيزدادوا إيمانا ومعرفة بولاية الله تعالى وحمايته لأوليائه (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أهل مدينتهم الذين انقسموا إلى فريقين فريق يعتقد أن البعث
حق وأنه بالأجسام والأرواح ، وفريق يقول البعث الآخر للأرواح دون الأجسام كما هي
عقيدة النصارى إلى اليوم ، فأنام الله الفتية وبعثهم وأعثر عليهم هؤلاء القوم
المختلفين فاتضح لهم أن الله قادر على بعث الناس أحياء أجساما وأرواحا كما بعث
أصحاب الكهف وهو معنى قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا
عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) أي أولئك المختلفون في شأن البعث أن وعد الله حق وهو ما
وعد به الناس من أنه سيبعثهم بعد موتهم يوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم. (وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها) وقوله تعالى : (إِذْ
__________________
يَتَنازَعُونَ
بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) أي أعثرناهم عليهم في وقت كان أهل البلد يتنازعون في شأن
البعث والحياة الآخرة هل هي بالأجسام والأرواح أو بالأرواح دون الأجسام. فتبين لهم
بهذه الحادثة أن البعث حق وأنه بالأجسام والأرواح معا. وقوله تعالى : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) واتركوهم في الكهف أي سدوا عليهم باب الكهف واتركوهم فيه
لأنهم بعد أن عثروا عليهم ماتوا (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ
بِهِمْ) وبحالهم.
وقوله تعالى : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى
أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي قال الذين غلبوا على أمر الفتية لكون الملك كان مسلما
معهم (لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) أي للصلاة فيه وفعلا بنوه على مقربة من فم الغار بالكهف.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مظاهر قدرة
الله تعالى وعلمه وحكمته.
٢ ـ وجوب طلب
الحلال في الطعام والشراب وغيرهما.
٣ ـ الموت على
الشرك والكفر مانع من الفلاح يوم القيامة أبدا.
٤ ـ تقرير معتقد
البعث والجزاء الذي ينكره أهل مكة.
٥ ـ مصداق قول
الرسول صلىاللهعليهوسلم «لعن الله اليهود
والنصارى إتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» وقوله «إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح
فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق يوم القيامة» (في
الصحيحين).
٦ ـ مصداق قول
الرسول صلىاللهعليهوسلم «لتتبعن سنن من
قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع». إذ قد بنى المسلمون على قبور الأولياء والصالحين المساجد. بعد القرون
المفضلة حتى أصبح يندر وجود مسجد عتيق خال من قبر أو قبور.
__________________
(سَيَقُولُونَ
ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ
رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي
أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ
رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا
رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا
تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا
يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦))
شرح الكلمات :
(رَجْماً بِالْغَيْبِ) : أي قذفا بالظن غير يقين علم.
(ما يَعْلَمُهُمْ
إِلَّا قَلِيلٌ) : أي من الناس.
(فَلا تُمارِ فِيهِمْ) : لا تجادل في عدتهم.
(وَلا تَسْتَفْتِ
فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) : أي من أهل الكتاب ، الاستفتاء : الاستفهام والسؤال.
(إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللهُ) : أي إلا أن تقول إن شاء الله.
(لِأَقْرَبَ مِنْ هذا
رَشَداً) : هداية وأظهر دلالة على نبوتي من قصة أصحاب الكهف.
(لَهُ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : أي علم غيب السموات والأرض وهو ما غاب فيهما
(أَبْصِرْ بِهِ
وَأَسْمِعْ) : أي أبصر بالله واسمع به صيغة تعجب! والأصل ما أبصره وما
أسمعه
(ما لَهُمْ مِنْ
دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) : أي ليس لأهل السموات والأرض من دون الله أي من ناصر.
(وَلا يُشْرِكُ فِي
حُكْمِهِ أَحَداً) : لأنه غني عما سواه ولا شريك له.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن أصحاب الكهف يخبر تعالى بأن الخائضين في شأن أصحاب الكهف سيقول بعضهم
بأنهم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول بعض آخرهم خمسة سادسهم كلبهم (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي قذفا بالغيب من غير علم يقيني ، ويقول بعضهم هم سبعة
وثامنهم كلبهم ، ثم أمر الله تعالى رسوله أن يقول لأصحابه تلك الأقوال : (رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما
يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) أي ما يعلم عددهم إلا قليل من الناس قال ابن عباس أنا من
ذلك القليل فعدتهم سبعة وثامنهم كلبهم ولعله فهم ذلك من سياق الآية إذ ذكر تعالى
أن الفريقين الأول والثاني قالوا ما قالوه من باب الرجم بالغيب لا من باب العلم
والمعرفة ، وسكت عن الفريق الثالث ، فدل ذلك على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم والله
أعلم. وقوله تعالى : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ
إِلَّا مِراءً ظاهِراً) أي ولا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدالا
بينا لينا بذكرك ما قصصنا عليك دون تكذيب لهم ، ولا موافقة لهم. وقوله تعالى (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ) أي في أصحاب الكهف (ثامِنُهُمْ) أي من أهل الكتاب (أَحَداً) وذلك لأنهم لا يعلمون عدتهم وإنما يقولون بالخرص والتخمين
لا بالعلم واليقين. وقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي
فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي لا تقل يا محمد في شأن تريد فعله مستقبلا أي سأفعل كذا
إلا أن تقول إن شاء الله ، وذلك أنه صلىاللهعليهوسلم لما سأله وفد قريش بإيعاز من اليهود عن المسائل الثلاث :
الروح ، وأصحاب الكهف وذي القرنين ، قال لسائليه : أجيبكم غدا انتظارا للوحي ولم
يقل إن شاء الله ، فأدبه ربه تعالى بانقطاع الوحي عنه نصف شهر ، وأنزل هذه السورة
وفيها هذا التأديب له صلىاللهعليهوسلم وقوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) أي إذا نسيت الاستثناء الذي علمناك فاذكره ولو بعد حين
لتخرج من الحرج.
أما الكفارة
فلازمة إلا أن يكون الاستثناء متصلا بالكلام وقوله تعالى : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي وقل بعد النسيان والاستثناء المطلوب منك (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ
__________________
رَبِّي
لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) أي لعل الله تعالى أن يهديني فيسددني لأسدّ ما وعدتكم أن
أخبركم به مما هو أظهر دلالة على نبوتي مما سألتموني عنه اختبارا لي. وقوله تعالى
: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُوا تِسْعاً) يخبر تعالى أن الفتية لبثوا في كهفهم رقودا من ساعة دخلوه
إلى أن أعثر الله عليهم قومهم ثلاثمائة سنين بالحساب الشمسي وزيادة تسع سنين
بالحساب القمري.
وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) رد به على من قال من أهل الكتاب إن الثلاثمائة والتسع سنين
هي من ساعة دخولهم الكهف إلى عهد النبي صلىاللهعليهوسلم فأبطل الله هذا بتقرير الثلثمائة والتسع أولا وبقوله (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) ثانيا وبقوله : (لَهُ غَيْبُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي ما غاب فيهما ، ثالثا ، وبقوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) أي ما أبصره بخلفه وما أسمعه لأقوالهم حيث لا يخفى عليه
شيء من أمورهم وأحوالهم خامسا ، وقوله (ما لَهُمْ) أي لأهل السموات والأرض من دونه تعالى (مِنْ وَلِيٍ) أي ولا ناصر (وَلا يُشْرِكُ فِي
حُكْمِهِ أَحَداً) لغناه عما سواه ولعدم وجود شريك له بحال من الأحوال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان اختلاف
أهل الكتاب وعدم ضبطهم للأحداث التاريخية.
٢ ـ بيان عدد فتية
أصحاب الكهف وأنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٣ ـ من الأدب مع
الله تعالى أن لا يقول العبد سأفعل كذا مستقبلا إلا قال بعدها إن شاء الله.
٤ ـ من الأدب من
نسي الاستثناء أن يستثني ولو بعد حين فإن حلف لا ينفعه الاستثناء إلا إذا كان
متصلا بكلامه.
٥ ـ تقرير المدة
التي لبثها الفتية في كهفهم وهي ثلاث مائة وتسع سنين بالحساب القمري.
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ
إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ
__________________
يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا
تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ
سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ
بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ
لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها
مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ
مُرْتَفَقاً (٣١))
شرح الكلمات :
واتل
ما أوحي إليك من الكتاب : أي اقرأ القرآن تعبدا ودعوة وتعليما.
(لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ) : أي لا مغير لكلمات الله في ألفاظها ولا معانيها
وأحكامها.
(مُلْتَحَداً) : أي ملجأ تميل إليه إحتماءا به.
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) : أي إحبسها.
(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) : أي طاعته ورضاه ، لا عرضا من عرض الدنيا.
(وَلا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ) : أي لا تتجاوزهم بنظرك إلى غيرهم من أبناء الدنيا.
(تُرِيدُ زِينَةَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) : أي بمجالستك الأغنياء تريد الشرف والفخر.
(مَنْ أَغْفَلْنا
قَلْبَهُ) : أي جعلناه غافلا عما يجب عليه من ذكرنا وعبادتنا.
(وَكانَ أَمْرُهُ
فُرُطاً) : أي ضياعا وهلاكا.
(أَحاطَ بِهِمْ
سُرادِقُها) : حائط من نار أحيط بهؤلاء المعذبين في النار.
(بِماءٍ كَالْمُهْلِ) : أي كعكر الزيت أي الدردي وهو ما يبقى في أسفل الإناء
ثخنا رديئا.
(مِنْ سُنْدُسٍ
وَإِسْتَبْرَقٍ) : أي مارقّ من الديباج ، والاستبرق ما غلظ منه أي من
الديباج.
معنى الآيات :
بعد نهاية الحديث
عن أصحاب الكهف أمر تعالى رسوله بتلاوة كتابه فقال : (وَاتْلُ) أي واقرأ (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ
مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) تعبدا به ودعوة للناس إلى ربهم به وتعليما للمؤمنين بما
جاء فيه من الهدى.
وقوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) أي لا تتركن تلاوته والعمل به والدعوة إليه فتكون من
الهالكين فإن ما وعد ربك به المعرضين عنه المكذبين به كائن حقا وواقع صدقا فإن ربك
(لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِهِ) المشتملة على وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ممن كفروا به
وكذبوا بكتابه فلم يحلوا حلاله ولم يحرموا حرامه.
وقوله تعالى : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي انك إن لم تتل كتابه الذي أوحاه إليك وتعمل بما فيه
فنالك ما أوعد به الكافرين المعرضين عن ذكره. (لَنْ تَجِدَ مِنْ
دُونِهِ مُلْتَحَداً) أي موئلا تميل إليه وملجأ تحتمي به وإذا كان مثل هذا
الوعيد الشديد يوجه إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو المعصوم فغيره ممن تركوا تلاوة القرآن والعمل به فلا
أقاموا حدوده ولا أحلوا حلاله ولا حرموا حرامه أولى بهذا الوعيد وهو حائق بهم لا
محالة إن لم يتوبوا قبل موتهم وقوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ
مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) نزل هذا التوجيه للرسول صلىاللهعليهوسلم عند ما عرض عليه المشركون إبعاد أصحابه الفقراء كبلال
وصهيب وغيرهما ليجلسوا إليه ويسمعوا منه فنهاه ربه عن ذلك وأمره أن يحبس نفسه مع
أولئك الفقراء المؤمنين (الَّذِينَ يَدْعُونَ) ربهم في صلاتهم في الصباح والمساء لا يريدون بصلاتهم
وتسبيحهم ودعائهم عرضا من أعراض الدنيا وإنما يريدون رضا الله ومحبته بطاعته في
ليلهم ونهارهم.
وقوله تعالى : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) أي لا تتجاوز ببصرك هؤلاء المؤمنين الفقراء إلى أولئك
الأغنياء تريد مجالستهم للشرف والفخر وقوله (وَلا تُطِعْ مَنْ
أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) فجعلناه غافلا
__________________
عن ذكرنا وذكر
وعدنا ووعيدنا ليكون من الهالكين لعناده وكبريائه وظلمه. (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) أي ضياعا وهلاكا ، وقوله تعالى في الآية الثالثة من هذا
السياق (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ
شاءَ فَلْيَكْفُرْ) أي هذا الذي جئت به وأدعو إليه من الايمان والتوحيد
والطاعة لله بالعمل الصالح هو (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) أيها الناس. (فَمَنْ شاءَ) الله هدايته فآمن وعمل صالحا فقد نجاه ومن لم يشأ الله
هدايته فبقي على كفره فلم يؤمن فقد خاب وخسر.
وقوله : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً
أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) أي جدرانها النارية. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا) من شدة العطش (يُغاثُوا بِماءٍ
كَالْمُهْلِ) رديئا ثخنا (يَشْوِي الْوُجُوهَ) إذا أدناه الشارب من وجهه ليشرب شوى جلده ووجهه ولذا قيل
فيه ذم له. (بِئْسَ الشَّرابُ
وَساءَتْ) أي جهنم (مُرْتَفَقاً) في منزلها وطعامها وشرابها إذ كله سوء وعذاب هذا وعيد من
اختار الكفر على الإيمان وأما وعد من آمن وعمل صالحا وقد تضمنته الآيتان (٣١ ـ ٣٢)
إذ قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) هذا حكمنا الذي لا تبديل له وبين تعالى أجرهم على إيمانهم
وإحسان أعمالهم فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ
جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة دائمة (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ، مُتَّكِئِينَ فِيها
عَلَى الْأَرائِكِ) وهي الأسرة بالحجلة . ثم أثنى الله تعالى على نعيمهم الذي أعده لهم بقوله : (نِعْمَ الثَّوابُ) الذي أثيبوا به (وَحَسُنَتْ) الجنة في حليها وثيابها وفرشها وأسرتها وطعامها وشرابها
وحورها ورضوان الله فيها (حَسُنَتْ) (مُرْتَفَقاً) يرتفقون فيه وبه ، جعلنا الله من أهلها
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان خيبة
وخسران المعرضين عن كتاب الله فلم يتلوه ولم يعملوا بما جاء فيه من شرائع وأحكام.
__________________
٢ ـ الترغيب في
مجالسة أبناء الآخرة وهم الفقراء الصابرون وترك أبناء الدنيا والإعراض عما هم فيه.
٣ ـ على الداعي
إلى الله تعالى أن يبين الحق ، والناس بعد بحسب ما كتب لهم أو عليهم.
٤ ـ الترغيب
والترهيب بذكر جزاء الفريقين المؤمنين والكافرين.
٥ ـ عذاب النار شر
عذاب ، ونعيم الجنة ، نعم النعيم ولا يهلك على الله إلا هالك.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ
وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ
أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ
ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها
مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا
هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨))
شرح الكلمات :
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلاً) : أي اجعل لهم مثلا هو رجلين ... الخ
(جَنَّتَيْنِ) : أي بستانين.
(وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) : أي أحطناهما بنخل.
(آتَتْ أُكُلَها) : أي أعطت ثمارها وهو ما يؤكل.
(وَلَمْ تَظْلِمْ
مِنْهُ شَيْئاً) : أي ولم تنقص منه شيئا بل أتت به كاملا ووافيا.
(خِلالَهُما نَهَراً) : أي خلال الأشجار والنخيل نهرا جاريا.
(وَهُوَ يُحاوِرُهُ) : أي يحادثه ويتكلم معه.
(وَأَعَزُّ نَفَراً) : أي عشيرة ورهطا.
(تَبِيدَ) : أي تفنى وتذهب.
(خَيْراً مِنْها
مُنْقَلَباً) : أي مرجعا في الآخرة.
(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي
خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ؟!) : الاستفهام للتوبيخ والخلق من تراب باعتبار الأصل هو آدم.
(مِنْ نُطْفَةٍ) : أي مني.
(ثُمَّ سَوَّاكَ) : أي عدلك وصيرك رجلا.
(لكِنَّا) : أي لكن أنا ، حذفت الألف وأدغمت النون في النون فصارت
لكنا.
(هُوَ اللهُ رَبِّي) : أي أنا أقول الله ربي.
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله
صلىاللهعليهوسلم : واضرب لأولئك المشركين المتكبرين الذين اقترحوا عليك أن
تطرد الفقراء المؤمنين من حولك حتى يجلسوا إليك ويسمعوا منك (اضْرِبْ لَهُمْ) أي اجعل لهم مثلا : (رَجُلَيْنِ) مؤمنا وكافرا (جَعَلْنا
لِأَحَدِهِما) وهو الكافر (جَنَّتَيْنِ مِنْ
أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ) أي أحطناهما بنخل ، (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُما) أي بين الكروم والنخيل (زَرْعاً كِلْتَا
الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ
أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي لم تنقص منه شيئا (وَفَجَّرْنا
خِلالَهُما نَهَراً) ليسقيهما. (وَكانَ لَهُ
ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) أي في الكلام يراجعه ، ويفاخره : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ
نَفَراً) أي عشيرة ورهطا ، قال هذا فخرا وتعاظما. (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) والحال أنه (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والكبر وقال : (ما أَظُنُ أَنْ
تَبِيدَ هذِهِ) يشير إلى جنته (أَبَداً) أي لا تفنى. (وَما أَظُنُّ
السَّاعَةَ
__________________
قائِمَةً
وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي) كما تقول أنت (لَأَجِدَنَّ خَيْراً
مِنْها) أي من جنتي (مُنْقَلَباً) أي مرجعا إن قامت الساعة وبعث الناس وبعثت معهم. هذا القول
من هذا الرجل هو ما يسمى بالغرور النفسي الذي يصاب به أهل الشرك والكبر. وهنا قال
له صاحبه المسلم (وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ
بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ)؟ وهو الله عزوجل حيث خلق أباك آدم من (تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي ثم خلقك أنت من نطفة أي من مني (ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) وهذا توبيخ من المؤمن للكافر المغرور ثم قال له : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي) أي لكن أنا أقول هو الله ربي ، (وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً) من خلقه في عبادته.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال للوصول بالمعاني الخفية إلى الأذهان.
٢ ـ بيان صورة
مثالية لغرس بساتين النخل والكروم.
٣ ـ تقرير عقيدة
التوحيد والبعث والجزاء.
٤ ـ التنديد
بالكبر والغرور حيث يفضيان بصاحبهما إلى الشرك والكفر.
(وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ
أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً
مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً
زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها
وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي
أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ
__________________
فِئَةٌ
يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ
لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))
شرح الكلمات :
(ما شاءَ اللهُ) : أي يكون وما لم يشأ لم يكن.
(حُسْباناً مِنَ
السَّماءِ) : أي عذابا ترمى به فتؤول إلى أرض ملساء دحضا لا يثبت
عليها قدم.
(أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها
غَوْراً) : أي غائرا في أعماق الأرض فلا يقدر على استنباطه وإخراجه.
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) : أي هلكت ثماره ، فلم يبق منها شيء.
(يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ) : ندما وحسرة على ما أنفق فيها من جهد كبير ومال طائل.
(وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) : أي ساقطة على أعمدتها التي كان يعرش بها للكرم ، وعلى
جدران مبانيها.
(فِئَةٌ) : جماعة من الناس قوية كعشيرته من قومه.
(هُنالِكَ) : أي حين حل العذاب بصاحب الجنتين أي يوم القيامة.
(الْوَلايَةُ) : أي الملك والسلطان الحق لله تعالى.
(خَيْرٌ ثَواباً
وَخَيْرٌ عُقْباً) : أي الله تعالى خير من يثيب وخير من يعقب أي يحزي بخير.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في المثل المضروب للمؤمن الفقير والكافر الغني فقد قال المؤمن للكافر ما
أخبر تعالى به في قوله : (وَلَوْ لا إِذْ
دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) أي هلا إذ دخلت بستانك قلت عند تعجبك من حسنه وكماله (ما شاءَ اللهُ) أي كان (لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) أي لا قوة لأحد على فعل شيء
__________________
أو تركه إلا
بإقدار الله تعالى له وإعانته عليه قال هذا المؤمن نصحا للكافر وتوبيخا له. ثم قال
له (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ
مِنْكَ مالاً وَوَلَداً) اليوم (فَعَسى رَبِّي) أي فرجائي في الله (أَنْ يُؤْتِيَنِ
خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها) أي على جنة الكافر (حُسْباناً مِنَ السَّماءِ) أي عذابا ترمى به. (فَتُصْبِحَ صَعِيداً
زَلَقاً) : أي ترابا أملس لا ينبت زرعا ولا يثبت عليه قدم. (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) الذي تسقى به غائرا في أعماق الأرض فلن تقدر على إستخراجه
مرة أخرى ، وهو معنى (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ
لَهُ طَلَباً).
وقوله تعالى : في
الآيات (٤٠) ، (٤١) ، (٤٢) يخبر تعالى أن رجاء المؤمن قد تحقق إذ قد أحيط فعلا
ببستان الكافر فهلك بكل ما فيه من ثمر (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ) ندما وتحسرا (عَلى ما أَنْفَقَ
فِيها) من جهد ومال في جنته (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) أي ساقطة على أعمدة الكرم التي كان يعرشها للكرم أي يحمله
عليها كما سقطت جدران مبانيها على سقوفها وهو يتحسر ويتندم ويقول : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي
أَحَداً ، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ) جماعة قوية تنصره (مِنْ دُونِ اللهِ
وَما كانَ) المنهزم (مُنْتَصِراً) لأن من خذله الله لا ناصر له. قال تعالى : في نهاية المثل
الذي هو أشبه بقصة (هُنالِكَ) أي يوم القيامة (الْوَلايَةُ) أي القوة والملك والسلطان (لِلَّهِ) أي المعبود (الْحَقِ) لا لغيره من الأصنام والأحجار (هُوَ) تعالى (خَيْرٌ ثَواباً) أي خير من يثيب على الإيمان والعمل الصالح. (وَخَيْرٌ) (عُقْباً) أي خير من يعقب أي يجزي بحسن العواقب
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان مآل
المؤمنين كصهيب وسلمان وبلال ، وهو الجنة ومآل الكافرين كأبي جهل وعقبة بن أبي
معيط وهو النار.
٢ ـ استحباب قول
من أعجبه شيء : (ما شاءَ اللهُ ، لا
قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) فإنه لا يرى فيه مكروها إن شاء الله.
__________________
٣ ـ استجابة الله
تعالى لعباده المؤمنين وتحقيق رجائهم فيه سبحانه وتعالى.
٤ ـ المخذول من
خذله الله تعالى فإنه لا ينصر أبدا.
٥ ـ الولاية بمعنى الموالاة النافعة للعبد هي موالاة الله تعالى لا
موالاة غيره.
٦ ـ الولاية بمعنى
الملك والسلطان لله يوم القيامة ليست لغيره إذ الملك والأمر كلاهما لله تعالى.
(وَاضْرِبْ لَهُمْ
مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))
شرح الكلمات :
المثل
: الصفة المعجبة.
(هَشِيماً) : يابسا متفتتا.
(تَذْرُوهُ الرِّياحُ) : أي تنثره الرياح وتفرقه لخفته ويبوسته.
(مُقْتَدِراً) : أي كامل القدرة لا يعجزة شيء.
(زِينَةُ الْحَياةِ
الدُّنْيا) : أي يتجمل بما فيها.
(وَالْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) : هي الأعمال الصالحة من سائر العبادات والقربات.
(وَخَيْرٌ أَمَلاً) : أي ما يأمله الإنسان وينتظره من الخير.
معنى الآيات :
هذا مثل آخر مضروب
أي مجعول للحياة الدنيا حيث اغتر بها الناس وخدعتهم فصرفتهم عن الله تعالى ربهم
فلم يذكروه ولم يشكروه فاستوجبوا غضبه وعقابه.
__________________
قال تعالى : في
خطاب رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم : (وَاضْرِبْ لَهُمْ) أي لأولئك المغرورين بالمال والسلطان (مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي صفتها الحقيقية التي لا تختلف عنها بحال (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ
، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ) فزها وازدهر واخضرّ وأنظر ، فأعجب أصحابه ، وأفرحهم وسرهم
ما يأملون منه. وفجأة أتاه أمر الله برياح لاحفة ، محرقة ، (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي يابسا متهشما متكسرا (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) هنا وهناك (وَكانَ اللهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) أي قادرا كامل القدرة ، فأصبح أهل الدنيا مبلسين آيسين من
كل خير.
وقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ
الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ
أَمَلاً) إنه بعد أن ضرب المثل للحياة الدنيا التي غرت أبناءها
فأوردتهم موارد الهلاك أخبر بحقيقة أخرى ، يعلم فيها عباده لينتفعوا بها ، وهي أن (الْمالُ وَالْبَنُونَ) أو الأولاد (زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) لا غير أي يتجمل بهما ساعة ثم يبيدان ويذهبان ، فلا يجوز
الاغترار بهما ، بحيث يصبحان همّ الإنسان في هذه الحياة فيصرفانه عن طلب سعادة
الآخرة بالإيمان وصالح الأعمال ، هذا جزء الحقيقة في هذه الآية ، والجزء الثاني هو
أن (الْباقِياتُ
الصَّالِحاتُ) والمراد بها أفعال البر وضروب العبادات ومنها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول
ولا قوة إلا بالله ، أي هذه (خَيْرٌ ثَواباً) أي جزاء وثمارا ، يجنيه العبد من الكدح المتواصل في طلب
الدنيا مع الإعراض عن طلب الآخرة ، (وَخَيْرٌ أَمَلاً) يأمله الإنسان من الخير ويرجوه ويرغب في تحصيله.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان حقارة
الدنيا وسوء عاقبتها.
٢ ـ تقرير أن
المال والبنين لا يعدوان كونهما زينة ، والزينة سريعة الزوال وهما كذلك فلا يجوز
الاغترار بهما ، وعلى العبد أن يطلب ما يبقى على ما يفنى وهو الباقيات الصالحات من
أنواع البر والعبادات من صلاة وذكر وتسبيح وجهاد. ورباط ، وصيام وزكاة.
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ
أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما
خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
(٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا
كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ
أَحَداً (٤٩))
شرح الكلمات :
(نُسَيِّرُ الْجِبالَ) : أي تقتلع من أصولها وتصير هباء منبثا.
(بارِزَةً) : ظاهرة إذ فنى كل ما كان عليها من عمران.
(فَلَمْ نُغادِرْ) : لم نترك منهم أحدا.
(مَوْعِداً) : أي ميعادا لبعثكم أحياء للحساب والجزاء.
(وَوُضِعَ الْكِتابُ) : كتاب الحسنات وكتاب السيئات فيؤتاه المؤمن بيمينه
والكافر بشماله.
(مُشْفِقِينَ) : خائفين.
(يا وَيْلَتَنا) : أي يا هلكتنا احضري هذا أوان حضورك.
(لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً) : أي لا يترك صغيرة من ذنوبنا ولا كبيرة إلا جمعها عدّا.
(ما عَمِلُوا حاضِراً) : مثبتا في كتابهم ، مسجلا فيها.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى مآل
الحياة الدنيا وأنه الفناء والزوال ورغّب في الصالحات وثوابها المرجوا يوم القيامة
، ناسب ذكر نبذة عن يوم القيامة ، وهو يوم الجزاء على الكسب في الحياة الدنيا قال
تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ
الْجِبالَ) أي اذكر (يَوْمَ نُسَيِّرُ) أي تقتلع من أصولها وتصير هباء منبثا ، (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ظاهرة ليس علهيا شيء فهي قاع صفصف (وَحَشَرْناهُمْ) أي جمعناهم من قبورهم للموقف (فَلَمْ نُغادِرْ
مِنْهُمْ أَحَداً) أي لم نترك منهم أحدا كائنا من كان ، (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) أيها الرسول صفا وقوفا أذلاء ، وقيل لهم توبيخا وتقريعا : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ
أَوَّلَ مَرَّةٍ) لا مال معكم ولا سلطان لكم بل حفاة عراة غرلا ، جمع أغرل ، وهو الذي لم يختتن.
وقوله تعالى : (بَلْ زَعَمْتُمْ) أي ادعيتم كذبا أنا لا نجمعكم ليوم القيامة ، ولن نجعل لكم
موعدا فها أنتم مجموعون لدينا تنتظرون الحساب والجزاء ، وفي هذا من التوبيخ
والتقريع ما فيه ، وقوله تعالى في الآية (وَوُضِعَ الْكِتابُ) يخبر تعالى عن حال العرض عليه فقال : (وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي كتاب الحسنات والسيئات وأعطى كل واحد كتابه فالمؤمن
يأخذه بيمينه والكافر بشماله ، (فَتَرَى
الْمُجْرِمِينَ) في تلك الساعة (مُشْفِقِينَ) أي خائفين (مِمَّا فِيهِ) أي في الكتاب من السيآت (وَيَقُولُونَ : يا
وَيْلَتَنا) ندما وتحسرا ينادون يا ويلتهم وهي هلاكهم قائلين :
__________________
(ما لِهذَا الْكِتابِ
لا يُغادِرُ صَغِيرَةً
وَلا كَبِيرَةً) من ذنوبنا (إِلَّا أَحْصاها) أي أثبتها عدّا.
وقوله تعالى : في
آخر العرض (وَوَجَدُوا ما
عَمِلُوا حاضِراً) أي من خير وشر مثبتا في كتابهم ، وحوسبوا به ، وجوزوا عليه
(وَلا يَظْلِمُ
رَبُّكَ أَحَداً) بزيادة سيئة على سيئاته أو بنقص حسنة من حسناته ، ودخل أهل
الجنة الجنة ، وأهل النار النار.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء بعرضها على مسامع المنكرين لها.
٢ ـ يبعث الانسان
كما خلقه الله ليس معه شيء ، حافيا عاريا لم يقطع منه غلفة الذكر.
٣ ـ تقرير عقيدة
كتب الأعمال في الدنيا وإعطائها أصحابها في الآخرة تحقيقا للعدالة الإلهية.
٤ ـ نفي الظلم عن
الله تعالى وهو غير جائز عليه لغناه المطلق وعدم حاجته إلى شيء.
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ
اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ
أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ
لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ
زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ
مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها
وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣))
شرح الكلمات :
(اسْجُدُوا لِآدَمَ) : أي حيّوه بالسجود له كما أمرتكم طاعة لي.
(إِلَّا إِبْلِيسَ) : أي الشيطان أبى السجود ورفضه وهو معنى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أي
__________________
خرج عن طاعته ،
ولم يكن من الملائكة ، بل كان من الجن ، لذا أمكنه أن يعصي ربه!
(أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ؟) : الاستفهام للاستنكار ، ينكر تعالى على بني آدم اتخاذ
الشيطان وأولاده أولياء يطاعون ويوالون بالمحبة والمناصرة ، وهم لهم عدو ، عجبا
لحال بني آدم كيف يفعلون ذلك!؟.
(بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) : قبح بدلا طاعة إبليس وذريته عن طاعة الله ورسوله.
(الْمُضِلِّينَ
عَضُداً) : أي ما كنت متخذ الشياطين من الانس والجن أعوانا في الخلق
والتدبير ، فكيف تطيعونهم وتعصونني.
(مَوْبِقاً) : أي واديا من أودية جهنم يهلكون فيه جميعا هذا إذا دخلوا
النار ، أما ما قبلها فالموبق ، حاجز بين المشركين ، وما كانوا يعبدون بدليل قوله
:
(وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها).
(مُواقِعُوها) : أي واقعون فيها ولا يخرجون منها أبدا.
(وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْها مَصْرِفاً) : أي مكانا غيرها ينصرفون إليه لينجوا من عذابها.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في إرشاد بني آدم وتوجيههم إلى ما ينجيهم من العذاب ويحقق لهم السعادة في
الدارين ، قال تعالى في خطاب رسوله واذكر لهم (إِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ) وهم عبادنا المكرمون (اسْجُدُوا لِآدَمَ) فامتثلوا أمرنا وسجدوا إلا إبليس. لكن ابليس الذي يطيعه
الناس اليوم كان من الجن وليس من الملائكة لم يسجد ، ففسق بذلك عن أمرنا وخرج عن طاعتنا. (أَفَتَتَّخِذُونَهُ) أي أيصح منكم يا بني آدم أن تتخذوا عدو أبيكم وعدو ربكم
وعدوكم أيضا وليا توالونه وذريته بالطاعة لهم والاستجابة لما يطلبون منكم من أنواع الكفر
والفسق (بِئْسَ
لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم (بَدَلاً) طاعة الشيطان وذريته وولايتهم عن
__________________
طاعة الله ورسوله
وولايتهما.
وقوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً) يخبر تعالى بأنه المنفرد بالخلق والتدبير ليس له وزير معين
فكيف يعبد الشيطان وذريته ، وأنا الذي خلقتهم وخلقت السموات والأرض وخلقت هؤلاء الذين يعبدون الشيطان ، ولم أكن (مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) وهم الشياطين من الجن والإنس الذين يضلون عبادنا عن طريقنا
الموصل إلى رضانا وجنتنا ، أي لم أكن لأجعل منهم معينا لي يعضدني ويقوي أمري
وخلاصة ما في الآية أن الله تعالى ينكر على الناس عبادة الشياطين وهي طاعتهم وهم
مخلوقون وهو خالقهم وخالق كل شيء.
وقوله تعالى : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي أذكر يا رسولنا لهؤلاء المشركين المعرضين عن عبادة الله
إلى عبادة عدوه الشيطان ، أذكر لهم يوم يقال لهم في عرصات القيامة (نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ) أشركتموهم في عبادتي زاعمين أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم
فيخلصونكم من عذابنا.
قال تعالى (فَدَعَوْهُمْ) يا فلان!! يا فلان .. (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا
لَهُمْ) إذ لا يجرؤ أحد ممن عبد من دون الله أن يقول رب هؤلاء
كانوا يعبدونني. قال تعالى : (وَجَعَلْنا
بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً) أي حاجزا وفاصلا من عداوتهم لبعضهم. وحتى لا يتصل بعضهم
ببعض في عرصات القيامة. وقوله تعالى : (وَرَأَى
الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) أي يؤتى بها تجرّ بالسلاسل حتى تبرز لأهل الموقف
فيشاهدونها وعندئذ يظن المجرمون أي يوقنوا (أَنَّهُمْ
مُواقِعُوها) أي داخلون فيها. (وَلَمْ يَجِدُوا
عَنْها مَصْرِفاً) أي مكانا ينصرفون إليه لأنهم محاطون بالزبانية ، والعياذ
بالله من النار وعذابها.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عداوة
إبليس وذريته لبني آدم.
٢ ـ العجب من بني
آدم كيف يطيعون عدوهم ويعصون ربهم!!
٣ ـ لا يستحق
العبادة أحد سوى الله عزوجل لأنه الخالق لكل مبعود مما عبد من سائر المخلوقات.
٤ ـ بيان خزي
المشركين يوم القيامة حيث يطلب إليهم أن يدعوا شركاءهم لاغاثتهم فيدعونهم فلا
يستجيبون لهم.
٥ ـ جمع الله
تعالى المشركين وما كانوا يعبدون من الشياطين في موبق واحد في جهنم وهو وادي من شر
أودية جهنم وأسوأها.
(وَلَقَدْ صَرَّفْنا
فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ
شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى
وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ
يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا
بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ
لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَتِلْكَ
الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))
شرح الكلمات :
(صَرَّفْنا) : أي بيّنا وكررنا البيان.
(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) : المثل الصفة المستغربة العجيبة.
(جَدَلاً) : أي مخاصمة بالقول.
(سُنَّةُ
الْأَوَّلِينَ) : أي العذاب بالإبادة الشاملة والاستئصال التام.
(قُبُلاً) : عيانا ومشاهدة.
(لِيُدْحِضُوا بِهِ
الْحَقَ) : أي يبطلوا به الحق.
(هُزُواً) : أي مهزوءا به.
(أَكِنَّةً) : أغطية.
(وَفِي آذانِهِمْ
وَقْراً) : أي ثقلا فهم لا يسمعون.
(مَوْئِلاً) : أي مكانا يلجأون إليه.
(لِمَهْلِكِهِمْ
مَوْعِداً) : أي وقتا معينا لإهلاكهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في بيان حجج الله تعالى على عباده ليؤمنوا به ويعبدوه وحده فينجوا من عذابه
ويدخلوا دار كرامته فقال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي
هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) أي ضربنا فيه الأمثال الكثيرة وبيّنا فيه الحجج العديدة ، (وَصَرَّفْنا فِيهِ) من الوعد والوعيد ترغيبا وترهيبا ، وقابلوا كل ذلك بالجحود
والمكابرة ، (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ
شَيْءٍ جَدَلاً) فأكثرهم الإنسان يصرفه في الجدل والخصومات حتى لا يذعن
للحق ويسلم به ويؤديه إن كان عليه. هذا ما دلت عليته الآية الأولى : (٥٤) أما
الآية الثانية فقد أخبر تعالى فيها أن الناس ما منعهم (أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ
__________________
الْهُدى) وهو بيان طريق السعادة والنجاة بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي
عن الكفر والشرك وسوء الأعمال (وَيَسْتَغْفِرُوا
رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) بعذاب الاستئصال والإبادة الشاملة ، (أَوْ يَأْتِيَهُمُ) عذاب يوم القيامة معاينة وهو معنى قوله تعالى : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ
الْعَذابُ قُبُلاً) وحينئذ لا ينفع الإيمان. وقوله تعالى : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي دعاة هداة يبشرون من آمن وعمل صالحا بالجنة وينذرون من
كفر ، وعمل سوءا بالنار. فلم نرسلهم جبارين ولم نكلفهم بهداية الناس أجمعين ، لكن
الذين كفروا يتعامون عن هذه الحقيقة ويجادلون (بِالْباطِلِ
لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ). (وَاتَّخَذُوا) آيات الله وحججه (وَما أُنْذِرُوا) به من العذاب اللازم لكفرهم وعنادهم اتخذوه سخرية وهزءا
يهزءون به ويسخرون منه وبذلك أصبحوا من أظلم الناس. وهو ما قررته الآية (٥٧) إذ
قال تعالى فيها : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) أي من الإجرام والشر والشرك. اللهم إنه لا أحد أظلم من هذا
الإنسان الكافر العنيد. ثم ذكر تعالى سبب ظلم وإعراض ونسيان هؤلاء الظلمة المعرضين
الناسين وهو أنه تعالى حسب سنته فيمن توغل في الشر والظلم والفساد يجعل على قلبه
كنانا يحيطه به فيصبح لا يفقه شيئا. ويجعل في أذنيه ثقلا فلا يسمع الهدى. ولذا قال
لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ
إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً) أي بعد ما جعل على قلوبهم من الأكنة وفي آذانهم من الوقر (أَبَداً).
وقوله تعالى : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ
لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) أي لو يؤاخذ هؤلاء الظلمة المعرضين (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) ، ولكن مغفرته ورحمته تأبيان ذلك وإلا لعجل لهم العذاب
فأهلكهم أمامكم وأنتم تنظرون. ولكن (لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ
يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) يئلون إليه ولا ملجأ يلجأون إليه. ويرجح أن يكون ذلك يوم
بدر لأن السياق في الظلمة المعاندين المحرومين من هداية الله كأبي جهل وعقبة ابن
أبي معيط والأخنس بن شريق ، هذا أولا. وثانيا قوله تعالى : (وَتِلْكَ الْقُرى
أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) يريد أهل القرى من قوم هود وقوم صالح وقوم لوط.
__________________
(وَجَعَلْنا
لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي لهلاكهم موعدا محددا فكذلك هؤلاء المجرمون من قريش ،
وقد أهلكهم ببدر ولعنهم إلى الأبد.
هداية الآيات
١ ـ لقد أعذر الله
تعالى إلى الناس بما يبين في كتابه من الحجج وما ضرب فيه من الأمثال.
٢ ـ بيان غريزة
الجدل في الإنسان والمخاصمة.
٣ ـ بيان مهمة
الرسل وهي البشارة والنذارة وليست إكراه الناس على الإيمان.
٤ ـ بيان عظم ظلم
من يذكّر بالقرآن فيعرض ويواصل جرائمه ناسيا ما قدمت يداه.
٥ ـ بيان سنة الله
في أن العبد إذا واصل الشر والفساد يحجب عن الإيمان والخير ويحرم الهداية أبدا حتى
يهلك كافرا ظالما فيخلد في العذاب المهين.
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا
غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ
الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣)
قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا
عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ
مَعِيَ
صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ
سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩))
شرح الكلمات :
(وَإِذْ قالَ مُوسى
لِفَتاهُ) : أي أذكر إذ قال موسى بن عمران نبي بني إسرائيل لفتاه
يوشع بن نون بن افرايم بن يوسف عليهالسلام.
(مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) : أي حيث التقى البحران بحر فارس وبحر الروم.
(حُقُباً) : الحقب الزمن وهو ثمانون سنة والجمع أحقاب.
(سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ سَرَباً) : أي طريقه في البحر سربا أي طريقا كالنفق.
(فَلَمَّا جاوَزا) : أي المكان الذي فيه الصخرة ومنه اتخذ الحوت طريقه في
البحر سربا.
(فِي الْبَحْرِ
عَجَباً) : أي عجبا لموسى حيث تعجب من إحياء الحوت واتخاذه في البحر
طريقا كالنفق في الجبل
(قَصَصاً) : أي يتتبعان آثار أقدامهما.
(عَبْداً مِنْ
عِبادِنا) : هو الخضر عليهالسلام.
(مِمَّا عُلِّمْتَ
رُشْداً) : أي ما هو رشاد إلى الحق ودليل على الهدى.
(ما لَمْ تُحِطْ بِهِ
خُبْراً) : أي علما.
(وَلا أَعْصِي لَكَ
أَمْراً) : أي انتهى إلى ما تأمرني به وإن لم يكن موافقا هواي.
معنى الآيات :
هذه قصة موسى مع الخضر عليهماالسلام وهي تقرر نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم وتؤكدها. إذ مثل هذا القصص الحق لا يتأتى لأحد أن يقصه ما
لم يتلقه وحيا من الله عزوجل. قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى) أي أذكر يا رسولنا تدليلا على توحيدنا ولقائنا ونبوتك. إذ
قال موسى بن عمران نبينا إلى بني إسرائيل لفتاه يوشع بن نون (لا أَبْرَحُ) أي سائرا (حَتَّى أَبْلُغَ
مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) حيث أرشدني ربي إلى لقاء عبد هناك من عباده هو أكثر مني
علما حتى
__________________
اتعلم منه علما
أزيده على علمي ، (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي أواصل سيري زمنا طويلا حتى أظفر بهذا العبد الصالح
لأتعلم عنه. قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغا
مَجْمَعَ بَيْنِهِما) أي بين البحرين وهما بحر الروم وبحر فارس عند باب المندب
حيث التقى البحر الأحمر والبحر الهندي. أو البحر الأبيض والأطلنطي عند طنجة والله
أعلم بأيهما أراد. وقوله (نَسِيا حُوتَهُما) أي نسي الفتى الحوت ، إذ هو الذي كان يحمله ، ولكن نسب
النسيان إليهما جريا على المتعارف من لغة العرب ، وهذا الحوت قد جعله الله تعالى علامة لموسى على وجود
الخضر حيث يفقد الحوت ، إذ القصة كما في البخاري تبتدىء بأن موسى خطب يوما في بنى
إسرائيل فأجاد وأفاد فأعجب به شاب من بني إسرائيل فقال له : هل يوجد من هو أعلم
منك يا موسى؟ فقال : لا. فأوحى إليه ربه فورا بلى عبدنا خضر ، فتاقت نفسه للقياه
للتعلم عنه ، فسأل ربه ذلك ، فأرشده إلى مكان لقياه وهو مجمع البحرين ، وجعل له
الحوت علامة فأمره أن يأخذ طعامه حوتا وأعلمه أنه إذا فقد الحوت فثم يوجد عبد الله
خضر ومن هنا لما بلغا مجمع البحرين واستراحا فنام موسى والفتى شبه نائم وإذا بالحوت يخرج من المكتل «وعاء» ويشق
طريقه إلى البحر فينجاب عنه البحر فيكون كالطاق أو النفق آية لموسى. ويغلب النوم
على يوشع فينام فلما استراحا قاما مواصلين سيرهما ونسي الفتى وذهب من نفسه خروج
الحوت من المكتل ودخوله في البحر لغلبة النوم فلما مشيا مسافة بعيدة وشعرا بالجوع وقد
جاوزا المنطقة التي هي مجمع البحرين قال موسى للفتى (آتِنا غَداءَنا) وعلل ذلك بقوله : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ
سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي تعبا. هنا قال الفتى لموسى ما قصّ الله تعالى : قال
مجيبا لموسي (أَرَأَيْتَ) أي أتذكر (إِذْ أَوَيْنا إِلَى
الصَّخْرَةِ) التي استراحا عندها (فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ) وقال كالمعتذر ، (وَما أَنْسانِيهُ
إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ،
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) أي طريقه (فِي الْبَحْرِ
عَجَباً) أي حيي بعد موت
__________________
ومشى حتى انتهى
إلى البحر وانجاب له البحر فكان كالسرب فيه أي النفق فأجابه موسى بما قص تعالى : (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) وذلك لأن الله تعالى جعل لموسى فقدان الحوت علامة على مكان
الخضر الذي يوجد فيه (فَارْتَدَّا) أي رجعا (عَلى آثارِهِما
قَصَصاً) أي يتتبعان آثار أقدامهما (فَوَجَدا) خضرا كما قال تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً) (مِنْ عِبادِنا) وهو خضر (آتَيْناهُ رَحْمَةً
مِنْ عِنْدِنا) أي نبوة (وَعَلَّمْناهُ مِنْ
لَدُنَّا عِلْماً) وهو علم غيب خاص به (قالَ لَهُ مُوسى) مستعطفا له (هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) أي مما علمك الله رشدا أي رشادا يدلّني على الحق وتحصل لي
به هداية فأجابه خضر بما قال تعالى : (قالَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يريد أنه يرى منه أمورا لا يقره عليها وخضر لا بد يفعلها
فيتضايق موسى لذلك ولا يطيق الصبر ، وعلل له عدم استطاعته الصبر بقوله (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ
بِهِ خُبْراً) أي علما كاملا. فأجابة موسى وقد صمم على الرحلة لطلب العلم
مهما كلفه الثمن فقال (سَتَجِدُنِي إِنْ
شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) أي سأنتهي إلى ما تأمرني وإن لم يكن موافقا لما أحب وأهوى.
هداية الآيات :
١ ـ عتب الله
تعالى على رسوله موسى عليهالسلام عند ما سئل هل هناك من هو أعلم منك فقال لا وكان المفروض
أن يقول على الأقل الله أعلم. فعوقب لذلك فكلف هذه الرحلة الشاقة.
٢ ـ استحباب
الرفقة في السفر ، وخدمة التلميذ للشيخ ، إذ كان يوشع يخدم موسى بحمل الزاد.
٣ ـ طروء النسيان
على الانسان مهما كان صالحا.
٤ ـ مراجعة الصواب
بعد الخطأ خير من التمادي على الخطأ (فَارْتَدَّا عَلى
آثارِهِما قَصَصاً.)
٥ ـ تجلى قدرة
الله تعالى في إحياء الحوت بعد الموت ، وانجياب الماء عليه حتى كان كالطاق فكان
للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا. وبه استدل موسى أي بهذا العجب على مكان خضر فوجده
هناك.
٦ ـ استحباب طلب
المزيد من العلم مهما كان المرء عالما وهنا أورد الحديث التالي وهو خير من قنطار
ذهبا لمن حفظه وعمل به وهو قول ابن عباس رضي الله عنه قال سأل موسى ربه : قال رب
أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال : فأي عبيدك أقضى؟ قال
الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : أي رب أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي
علم الناس إلى
__________________
علم نفسه عسى أن
يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى. وللأثر بقية ذكره ابن جرير عند تفسير هذه
الآيات.
(قالَ فَإِنِ
اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً
(٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها
لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ
وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا
غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً نُكْراً (٧٤))
شرح الكلمات :
(ذِكْراً) : أي بيانا وتفصيلا لما خفي عليك.
(لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً) : أي فعلت شيئا منكرا.
(لا تُرْهِقْنِي) : أي لا تغشني بما يعسر علي ولا أطيق حمله فتضيق علي صحبتي
إياك.
(نَفْساً زَكِيَّةً) : أي طاهرة لم تتلوث روحها بالذنوب.
(بِغَيْرِ نَفْسٍ) : أي بغير قصاص.
(نُكْراً) : الأمر الذي تنكره الشرائع والعقول من سائر المناكر! وهو
المنكر الشديد النكارة.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليهالسلام والعالم الذي أراد أن يصحبه لطلب العلم منه وهو خضر. قوله
تعالى : (قالَ) أي خضر (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي) مصاحبا لي لطلب العلم (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ
شَيْءٍ) أفعله مما لا تعرف له وجها شرعيا (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي حتى أكون أنا الذي يبين لك حقيقته وما جهلت منه. وقوله
تعالى : (فَانْطَلَقا) أي
__________________
بعد رضا موسى
بمطلب خضر انطلقا يسيران في الأرض فوصلا ميناء من المواني البحرية ، فركبا سفينة كان خضر
يعرف أصحابها فلم يأخذوا منهما أجر الإركاب فلما أقلعت السفينة ، وتوغلت في البحر
أخذ خضر فأسا فخرق السفينة ، فجعل موسى يحشو بثوب له الخرق ويقول : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) على أنهما حملانا بدون نول (لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً) أي أتيت يا عالم منكرا فظيعا فأجابه خضر بما قص تعالى : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً)
فأجاب موسى بما
ذكر تعالى عنه : (قالَ لا تُؤاخِذْنِي
بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي لا تعاقبني بالنسيان فإن الناسي لا حرج عليه. وكانت هذه
من موسى نسيانا حقا ولا تغشني بما يعسر علي ولا أطيقه فاتضايق من صحبتي إياك.
قال تعالى : (فَانْطَلَقا) بعد نزولهما من البحر إلى البر فوجدا غلاما جميلا وسيما
يلعب مع الغلمان فأخذه خضر جانبا وأضجعه وذبحه فقال له موسى بما أخبر تعالى عنه : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ
نَفْسٍ) زاكية طاهرة لم يذنب صاحبها ذنبا تتلوث به روحه ولم يقتل
نفسا يستوجب بها القصاص (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً
نُكْراً) أي أتيت منكرا عظيما بقتلك نفسا طاهرة لم تذنب ولم تكن هذه
نسيانا من موسى بل كان عمدا إن لم يطق فعل منكر كهذا لم يعرف له وجها ولا سببا.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ جواز الاشتراط
في الصحبة وطلب العلم وغيرهما للمصلحة الراجحة.
٢ ـ جواز ركوب
السفن في البحر.
٣ ـ مشروعية إنكار
المنكر على من علم أنه منكر.
٤ ـ رفع الحرج عن
الناس.
٥ ـ مشروعية
القصاص وهو النفس بالنفس.
__________________
الجزء
السادس عشر
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ
شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا
أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ
قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨))
شرح الكلمات :
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ
لَكَ) : أي قال خضر لموسى عليهماالسلام.
(بَعْدَها) : أي بعد هذه المرة.
(فَلا تُصاحِبْنِي) : أي لا تتركني أتبعك.
(مِنْ لَدُنِّي
عُذْراً) : أي من قبلي (جهتي) عذرا في عدم مصاحبتي لك.
(أَهْلَ قَرْيَةٍ) : مدينة أنطاكية.
(اسْتَطْعَما أَهْلَها) : أي طلبا منهم الطعام الواجب للضيف.
(يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَ) : أي قارب السقوط لميلانه.
(فَأَقامَهُ) : أي الخضر بمعنى أصلحه حتى لا يسقط.
(أَجْراً) : أي جعلا على إقامته وإصلاحه.
(هذا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ) : أي قولك هذا (لَوْ شِئْتَ
لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) هو نهاية الصحبة وبداية المفارقة.
(بِتَأْوِيلِ) : أي تفسير ما كنت تنكره على حسب علمك.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
محاورة الخضر مع موسى عليهماالسلام ، فقد تقدم إنكار موسى على
الخضر قتله الغلام
بغير نفس ، ولا جرم إرتكبه ، وبالغ موسى في إنكاره إلى أن قال : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فأجابه خضر بما أخبر تعالى به في قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) لما سألتني الصحبة للتعليم ، فأجاب موسى بما أخبر تعالى به
في قوله : (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ
عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المرة (فَلا تُصاحِبْنِي) أي اترك صحبتي فإنك (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي) أي من جهتي وقبلي عذرا في تركك إياي.
قال تعالى : (فَانْطَلَقا) في سفرهما (حَتَّى إِذا أَتَيا
أَهْلَ قَرْيَةٍ) (أي مدينة) قيل
إنها انطاكية ووصلاها في الليل والجو بارد فاستطعما أهلها أي طلبا منهم طعام الضيف
الواجب له (فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُما ،
فَوَجَدا فِيها) أي في القرية (جِداراً يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَ) أي يسقط فأقامه الخضر وأصلحه فقال موسى له : (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً) أي جعل مقابل إصلاحه ، لا سيما أن أهل هذه القرية لم
يعطونا حقنا من الضيافة. وهنا قال الخضر لموسى : (هذا فِراقُ بَيْنِي
وَبَيْنِكَ) لانك تعهدت إنك إذا سألتني بعد حادثة قتل الغلام عن شىء أن
لا تطلب صحبتي وها أنت قد سألتني ، فهذا وقت فراقك إذا (سَأُنَبِّئُكَ) أي أخبرك (بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الوفاء
بما التزم به الإنسان لآخر.
٢ ـ وجوب الضيافة
لمن استحقها.
٣ ـ جواز التبرع
بأي خير أو عمل إبتغاء وجه الله تعالى.
__________________
(أَمَّا السَّفِينَةُ
فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ
وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ
فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً
(٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ
رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي
الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ
أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما
فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))
شرح الكلمات :
المساكين
: جمع مسكين وهو
الضعيف العاجز عن الكسب.
(يَعْمَلُونَ فِي
الْبَحْرِ) : أي يؤجرون سفينتهم للركاب.
(أَعِيبَها) : أي أجعلها معيبة حتى لا يرغب فيها.
(غَصْباً) : أي قهرا.
(أَنْ يُرْهِقَهُما
طُغْياناً وَكُفْراً) : أي يغشاهما : ظلما وجحودا
(وَأَقْرَبَ رُحْماً) : أي رحمة إذ الرحم والرحمة بمعنى واحد.
(وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي) : أي عن اختيار مني بل بأمر ربي جل جلاله وعظم سلطانه.
معنى الآيات :
هذا آخر حديث موسى
والخضر عليهماالسلام ، فقد واعد الخضر موسى عند ما أعلن له عن فراقه أن يبين له
تأويل ما لم يستطع عليه صبرا ، وهذا بيانه ، قال تعالى (حكاية عن
الخضر) (أَمَّا السَّفِينَةُ) التي خرقتها وأنكرت عليّ ذلك (فَكانَتْ) (لِمَساكِينَ
يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) يؤجرون سفينتهم بما يحصل لهم بعض القوت (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) لا لأغرق أهلها ، (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) ظالم (يَأْخُذُ كُلَّ
سَفِينَةٍ) صالحة (غَصْباً) أي قهرا وإنما أردت أن أبقيها لهم إذ الملك المذكور لا
يأخذ إلا السفن الصالحة (وَأَمَّا الْغُلامُ) الذي قتلت وأنكرت عليّ قتله (فَكانَ أَبَواهُ
مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا) إن كبر (أَنْ يُرْهِقَهُما) أي يغشيهما (طُغْياناً وَكُفْراً
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما
رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) أي طهرا وصلاحا (وَأَقْرَبَ رُحْماً) أي رحمة وبرا بهما فلذا قتلته ، (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ
يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ، وَكانَ أَبُوهُما
صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي سن الرشد (وَيَسْتَخْرِجا
كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي كان ذلك رحمة (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ
أَمْرِي) أي عن إرادتي وإختياري بل كان بأمر ربي وتعليمه. (ذلِكَ) أي هذا (تَأْوِيلُ ما لَمْ
تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ضروب من
خفي ألطاف الله تعالى فعلى المؤمن أن يرضى بقضاء الله تعالى وإن كان ظاهره ضارا.
٢ ـ بيان حسن
تدبير الله تعالى لأوليائه بما ظاهره عذاب ولكن في باطنه رحمة.
٣ ـ مراعاة صلاح
الأباء في إصلاح حال الأبناء.
__________________
٤ ـ كل ما أتاه
الخضر كان بوحي إلهي وليس هو مما يدعيه جهال الناس ويسمونه بالعلم الّلدنّي
وأضافوه إلى من يسمونهم الأولياء ، وقد يسمونه كشفا ، ويؤكد بطلان هذا أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : إن الخضر قال لموسى : أنا على علم مما علمني ربي
وأنت على علم مما علمك الله وإن علمي وعلمك إلى علم الله إلا كما يأخذ الطائر
بمنقاره من البحر.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ
ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا
مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤)
فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ
فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ
إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا
مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ
عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً
الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً
(٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ
نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ
خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ
وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣))
شرح الكلمات :
(وَيَسْئَلُونَكَ) : أي كفار قريش بتعليم يهود لهم.
(ذِي الْقَرْنَيْنِ) : الإسكندر باني الاسكندرية المصرية الحميري أحد الملوك
التبابعة وكان عبدا صالحا.
(سَأَتْلُوا
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) : سأقص عليكم من حاله خيرا يحمل موعظة وعلما.
(مَكَّنَّا لَهُ فِي
الْأَرْضِ) : بالحكم والتصرف في ممالكها.
(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
سَبَباً) : أي يحتاج إليه سببا موصلا إلى مراده.
(فَأَتْبَعَ سَبَباً) : أي فأتبع السبب سببا آخر حتى انتهى إلى مراده.
(تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ
حَمِئَةٍ) : ذات حماة وهي الطين الأسود وغروبها إنما هو في نظر العين
وإلا فالشمس في السماء والبحر في الأرض.
(قَوْماً) : أي كافرين.
(عَذاباً نُكْراً) : أي عظيما فظيعا.
(يُسْراً) : أي لينا من القول سهلا من العمل.
(مَطْلِعَ الشَّمْسِ) : أي مكانا تطلع منه.
(قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ
لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) : القوم هم الزّنج ولم يكن لهم يومئذ ثياب يلبسونها ولا
منازل يسكنونها وإنما لهم أسراب في الأرض يدخلون فيها.
(كَذلِكَ) : أي الأمر كما قلنا لك ووصفنا.
(بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : السدان جبلان شمال شرق بلاد الترك سد ذو القرنين ما
بينهما فقيل فيهما سدان.
(قَوْماً لا يَكادُونَ
يَفْقَهُونَ قَوْلاً) : لا يفهمون كلام من يخاطبهم إلا بشدة وبطء وهم يأجوج
ومأجوج.
معنى الآيات :
هذه قصة العبد الصالح
ذي القرنين الحميري التّبعي على الراجح من أقوال العلماء ، وهو الأسكندر باني
الأسكندرية المصرية ، ولأمر ما لقّب بذي القرنين ، وكان قد تضمن سؤال قريش النبي صلىاللهعليهوسلم بإيعاذ من يهود المدينة ذا القرنين إذ قالوا لقريش سلوه عن
الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين فإن أجابكم عنها فإنه نبي ، وإلا فهو غير نبي فروا
رأيكم فيه فكان الجواب عن الروح في سورة الإسراء وعن الفتية وذي القرنين في سورة
الكهف هذه وقد تقدم
__________________
الحديث التفصيلي
عن أصحاب الكهف في أول السورة وهذا بدء الحديث المتضمن للإجابة عن الملك ذي
القرنين عليهالسلام قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ) يا نبينا (عَنْ ذِي
الْقَرْنَيْنِ قُلْ) للسائلين من مشركي قريش (سَأَتْلُوا
عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) أي سأقرأ عليكم من أمره وشأنه العظيم ذكرا خبرا يحمل الموعظة
والعلم والمعرفة : وقوله تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا
لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً.) هذه بداية الحديث عنه فأخبر تعالى أنه مكن له في الأرض
بالملك والسلطان ، وأعطاه من كل شيء يحتاج إليه في فتحه الأرض ونشر العدل والخير
فيها سببا يوصله إلى ذلك ، وقوله (فَأَتْبَعَ سَبَباً) حسب سنة الله في تكامل الأشياء فمن صنع إبرة وتابع الأسباب
التي توصل بها إلى صنع الإبرة فإنه يصنع المسلة ، وهكذا تابعه بين أسباب الغزو
والفتح والسير في الأرض (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) وهي على ساحل المحيط الأطلنطي ، وكونها تغرب فيها هو بحسب
رأي العين ، وإلا فالشمس في السماء والعين الحمئة والمحيط إلى جنبها في الأرض وقوله تعالى : (وَوَجَدَ عِنْدَها) أي عند تلك العين في ذلك الإقليم المغربي (قَوْماً) أي كافرين غير مسلمين فأذن الله تعالى له في التحكم
والتصرف فيهم إذ يسر له أسباب الغلبة عليهم وهو معنى قوله تعالى : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) وقد يكون نبيا ويكون قوله الله تعالى هذا له وحيا وهو (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) بالأسر والقتل ، (وَإِمَّا أَنْ
تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) وهذا بعد حربهم والتغلب عليهم فأجاب ذو القرنين ربه بما
أخبر تعالى به : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي بالشرك والكفر (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) بالقتل والأسر ، (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى
رَبِّهِ) بعد موته (فَيُعَذِّبُهُ
عَذاباً نُكْراً) أي فظيعا أليما. (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ
وَعَمِلَ صالِحاً) أي أسلم وحسن اسلامه (فَلَهُ جَزاءً) على إيمانه وصالح أعماله (الْحُسْنى) أي الجنة في الآخرة (وَسَنَقُولُ لَهُ
مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) فلا نغلظ له في
__________________
القول ولا نكلفه
ما يشق عليه ويرهقه.
وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي ما تحصل عليه من القوة في فتح المغرب استخدمه في مواصلة
الغزو والفتح في المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ
مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها
تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ) بدائيين لم تساعدهم الأرض التي يعيشون عليها على التحضر
فلذا هم لا يبنون الدور ولا يلبسون الثياب ، ولكن يسكنون الكهوف والمغارات
والسراديب وهو ما دل عليه قوله تعالى : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ
مِنْ دُونِها) أي الشمس (سِتْراً). وقوله تعالى : (كَذلِكَ) أي القول الذي قلنا والوصف الذي وصفنا لك من حال ذي
القرنين (وَقَدْ أَحَطْنا بِما
لَدَيْهِ) من قوة وأسباب مادية وروحية (خُبْراً) أي علما كاملا. وقوله تعالى : (ثُمَّ أَتْبَعَ) أي ذو القرنين (سَبَباً) أي واصل طريقه في الغزو والفتح (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) وهما جبلان بأقصى الشمال الشرقي للأرض بنى ذو القرنين
بينهما سدا عظيما حال به دون غزو يأجوج ومأجوج للإقليم المجاور لهم ، وهم القوم
الذين قال تعالى عنهم (وَجَدَ مِنْ
دُونِهِما قَوْماً
لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) فلا يفهمون ما يقال لهم ويخاطبون به إلا بشدة وبطء كبير.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة
النبي محمد صلىاللهعليهوسلم إذ هذا جواب آخر أسئلة قريش الثلاثة. قرأه عليهم قرآنا
موحى به إليه.
٢ ـ إتباع السبب
السبب يصل به ذو الرأي والإرادة إلى تحقيق ما هو كالمعجزات.
٣ ـ قول : ذو
القرنين : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ
...) الخ يجب أن يكون مادة دستورية يحكم به الأفراد والجماعات
لصدقها وإجابيتها وموافقتها لحكم الله تعالى ورضاه ، ومن الأسف أن
__________________
يعكس هذا القول
السديد والحكم الرشيد فيصبح أهل الظلم مكرمين لدى الحكومات ، وأهل الإيمان
والإستقامة مهانين!!
٤ ـ بيان وجود أمم
بدائية إلى عهد ما بعد ذي القرنين لا يلبسون ثيابا ولا يسكنون سوى الكهوف
والمغارات ويوجد في البلاد الكينية إلى الآن قبائل لا يرتدون الثياب ، وإنما يضعون
على فروجهم خيوط وسيور لا غير.
٥ ـ تقرير أن هذا
الملك الصالح قد ملك الأرض فهو أحد أربعة حكموا الناس شرقا وغربا.
(قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ
نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ
ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ
الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ
عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ
نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا
جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ
فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١))
__________________
شرح الكلمات :
(يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ) : قبيلتان من أولاد يافث بن نوح عليهالسلام والله أعلم.
(نَجْعَلُ لَكَ
خَرْجاً) : أي جعلا مقابل العمل.
(سَدًّا) : السد بالفتح والضم الحاجز المانع بين شيئين.
(رَدْماً) : حاجزا حصينا وهو السد.
(زُبَرَ الْحَدِيدِ) : جمع زبرة قطعة من حديد على قدر الحجرة التي يبنى بها.
(بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) : أي صدف الجبلين أي جانبهما.
(قِطْراً) : القطر النحاس المذاب.
(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ) : أي عجزوا عن الظهور فوقه لعلوه وملاسته.
(نَقْباً) : أي فتح ثغرة تحت تحته ليخرجوا معها.
(جَعَلَهُ دَكَّاءَ) : أي ترابا مساويا للأرض.
(وَتَرَكْنا
بَعْضَهُمْ) : أي يأجوج ومأجوج أي يذهبون ويجيئون في اضطراب كموج
البحر.
(أَعْيُنُهُمْ فِي
غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) : أي عن القرآن لا يفتحون أعينهم فيما تقرأه عليهم بغضا له
أو أعين قلوبهم وهي البصائر فهي في أكنة لا تبصر الحق ولا تعرفه.
(لا يَسْتَطِيعُونَ
سَمْعاً) : لبغضهم للحق والداعي إليه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
حديث ذي القرنين إذ شكا إليه سكان المنطقة الشمالية الشرقية من الأرض» بما أخبر
تعالى به عنهم إذ قال : (قالُوا يا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي بالقتل والأكل والتدمير والتخريب ، (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) أي أجرا (عَلى
__________________
أَنْ
تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي حاجزا قويا لا يصلون معه إلينا. فأجابهم ذو القرنين بما
أخبر الله تعالى به في قوله : (قالَ ما مَكَّنِّي
فِيهِ رَبِّي) من المال القوة والسلطان (خَيْرٌ) أي من جعلكم وخرجكم (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ
أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) أي أي سدا قويا وحاجزا مانعا (آتُونِي زُبَرَ
الْحَدِيدِ) أي قطع الحديد كل قطعة كالّلبنة المضروبة ، فجاءوا به إليه
فأخذ يضع الحجارة وزبر الحديد ويبني حتى ارتفع البناء فساوى بين الصدفين جانبي
الجبلين ، وقال لهم (انْفُخُوا) أي النار على الحديد (حَتَّى إِذا جَعَلَهُ
ناراً) قال آتوني بالنحاس المذاب أفرغ عليه قطرا فأتوه به فأفرغ عليه من القطر ما جعله كأنه صفيحة
واحدة من نحاس (فَمَا اسْطاعُوا) أي يأجوج ومأجوج (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يعلوا فوقه ، (وَمَا اسْتَطاعُوا
لَهُ نَقْباً) أي خرقا فلما نظر إليه وهو جبل شامخ وحصن حصين قال هذا من
رحمة ربي أي من أثر رحمة ربي عليّ وعلى الناس وأردف قائلا (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) وهو خروج يأجوج ومأجوج عند قرب الساعة (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي ترابا مساويا للأرض ، (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي
حَقًّا) وهذا مما وعد به وانه كائن لا محالة قال تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ
يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي مختلطين مضطربين إنسهم وجنهم (وَنُفِخَ فِي
الصُّورِ) نفخة البعث (فَجَمَعْناهُمْ) للحساب والجزاء (جَمْعاً وَعَرَضْنا
جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) حقيقيا يشاهدونها فيه من قرب ، ثم ذكر ذنب الكافرين وعلة
عرضهم على النار فقال : وقوله الحق : (الَّذِينَ كانَتْ
أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي أعين قلوبهم وهي البصائر فلذا هم لا ينظرون في آيات
الله الكونية فيستدلون بها على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها ، ولا في آيات
الله القرآنية فيهتدون بها إلى أنه لا إله إلا الله ويعبدونه بما تضمنته الآيات
القرآنية ، (وَكانُوا لا
يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) للحق ولما يدعوا إليه رسل الله من الهدى والمعروف.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
الجعالة للقيام بالمهام من الأعمال.
٢ ـ فضيلة التبرع بالجهد
الذاتي والعقلي
٣ ـ مشروعية
التعاون على ما هو خير ، أو دفع للشر.
٤ ـ تقرير وجود
أمة يأجوج ومأجوج ، وأن خروجهم من أشراط الساعة.
٥ ـ تقرير البعث
والجزاء.
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً
(١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ
رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا
آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦))
شرح الكلمات :
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا) : الاستفهام للتقريع والتوبيخ.
(أَنْ يَتَّخِذُوا
عِبادِي) : كالملائكة وعيسى بن مريم والعزير وغيرهم.
(أَوْلِياءَ) : أربابا يعبدوهم بأنواع من العبادات.
(نُزُلاً) : النزل : ما يعد للضيف من قرى وهو طعامه وشرابه ومنامه.
(ضَلَّ سَعْيُهُمْ) : أي بطل عملهم وفسد عليهم فلم ينتفعوا به.
(يُحْسِنُونَ صُنْعاً) : أي بعمل يعمل يجازون عليه بالخير وحسن الجزاء.
(بِآياتِ رَبِّهِمْ) : أي بالقرآن وما فيه من دلائل التوحيد والأحكام الشرعية.
(وَلِقائِهِ) : أي كفروا بالبعث والجزاء.
(وَزْناً) : أي لا نجعل لهم قدرا ولا قيمة بل نزدريهم ونذلهم.
(ذلِكَ) : أي أولئك جزاؤهم جهنم وأطلق لفظ ذلك بدل أولئك ، لأنهم
بكفرهم وحبوط أعمالهم أصبحوا غثاء كغثاء السيل لا خير فيه ولا وزن له فحسن أن يشار
إليه بذلك.
معنى الآيات :
ينكر تعالى على
المشركين شركهم ويوبخهم مقرعا لهم على ظنهم أن اتخاذهم عباده من دونه أولياء يعبدونهم كالملائكة حيث عبدهم بعض
العرب والمسيح حيث عبده النصارى ، والعزير حيث عبده بعض اليهود ، لا يغضبه تعالى
ولا يعاقبهم عليه. وكيف لا يغضبه ولا يعاقبهم عليه وقد أعد جهنم للكافرين نزلا أي
دار ضيافة لهم فيها طعامهم وفيها شرابهم وفيها فراشهم كما قال تعالى (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ
فَوْقِهِمْ غَواشٍ) هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٠٢) وهي قوله تعالى (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ . إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ
لِلْكافِرِينَ نُزُلاً). وقوله تعالى في الآية الثانية (١٠٣) يخبر تعالى بأسلوب
الاستفهام للتشويق للخبر فيقول (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ) أيها المؤمنون (بِالْأَخْسَرِينَ
أَعْمالاً)
إنهم (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) أي عملا ، ويعرفهم فيقول (أُولئِكَ الَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) فلم يؤمنوا بها ، وبلقاء ربهم فلم يعملوا العمل الذي يرضيه
عنهم ويسعدهم به وهو الإيمان الصحيح والعمل الصالح الذي شرعه الله لعباده المؤمنين
به يتقربون به إليه. فلذلك حبطت أعمالهم لأنها شرك وكفر وشر وفساد ، (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وَزْناً) إذ لا قيمة لهم ولا لأعمالهم الشركية الفاسدة الباطلة فإن
أحدهم لا يزن جناح بعوضة لخفته.
__________________
وأخيرا أعلن تعالى
عن حكمه فيهم وعليهم فقال (ذلِكَ) أي المذكور من غثاء الخلق (جَزاؤُهُمْ
جَهَنَّمُ.) وعلل للحكم فقال : (بِما كَفَرُوا
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً) أي بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات ربهم وبرسله فكان الحكم
عادلا ، والجزاء موافقا والحمد لله رب العالمين.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير شرك من
يتخذ الملائكة أو الأنبياء أو الأولياء آلهة يعبدوهم تحت شعار التقرب إلى الله
تعالى والاستشفاع بهم والتوسل إلى الله تعالى بحبهم والتقرب إليهم.
٢ ـ تقرير هلاك
أصحاب الأهواء الذين يعبدون الله تعالى بغير ما شرع ويتوسلون إليه بغير ما جعله
وسيلة لرضاه وجنته. كالخوارج والرهبان من النصارى والمبتدعة الروافض والإسماعيلية
، والنصيرية والدروز ومن إليهم من غلاة المبتدعة في العقائد والعبادات والأحكام
الشرعية.
٣ ـ لا قيمة ولا
ثقل ولا وزن لعمل لا يوافق رضا الله تعالى وقبوله له ، كما لا وزن عند الله تعالى
لصاحبه ، وإن مات خوفا من الله أو شوقا إليه.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً
(١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ
الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ
__________________
إِنَّما
أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ
كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠))
شرح الكلمات :
(كانَتْ لَهُمْ) : أي جزاء إيمانهم وعملهم الصالح.
(الْفِرْدَوْسِ
نُزُلاً) : هو وسط الجنة وأعلاها ونزلا منزل إكرام وإنعام.
(لا يَبْغُونَ عَنْها
حِوَلاً) : أي لا يطلبون تحولا منها لأنها لا خير منها أبدا.
(لَوْ كانَ الْبَحْرُ) : أي ماؤه مدادا.
(قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِماتُ رَبِّي) : أي قبل أن تفرغ.
(لَنَفِدَ الْبَحْرُ) : أي ولم تنفد هي أي لم تفرغ.
(يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) : يأمل وينتظر البعث والجزاء يوم القيامة حيث يلقى ربه
تعالى.
(وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) : أي لا يرائي بعمله أحدا ولا يشرك في عبادة الله تعالى
غيره تعالى.
معنى الآيات :
بعد ما ذكر تعالى
جزاء أهل الشرك والأهواء وأنه جهنم ناسب ذكر جزاء أهل الإيمان والتقوى التي هي عمل
الصالحات واجتناب المحرمات فقال : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي صدقوا الله ورسوله وآمنوا بلقاء الله ، ووعده لأوليائه
، ووعيده لأعدائه من أهل الشرك والمعاصي ، وعملوا الصالحات فأدوا الفرائض
والواجبات وسارعوا في النوافل والخيرات هؤلاء (كانَتْ لَهُمْ) في علم الله وحكمه (جَنَّاتُ
الْفِرْدَوْسِ) أي بساتين الفردوس منزلا ينزلونه ودار كرامة يكرمون فيها
وينعمون ، والفردوس أعلى الجنة وأوسطها قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم واصفا لها ومرغبا فيها وقد ارتادها وانتهى إلى مستوى فوقها
ليلة الإسراء والمعراج قال : «إن سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة
وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ، ومنه تفجر أنهار الجنة» ، كما في
الصحيح ، وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها لا
يَبْغُونَ
__________________
عَنْها
حِوَلاً) أي ماكثين فيها أبدا لا يطلبون متحولا عنها إذ نعيمهما لا
يمل وسعادتها لا تنقص ، وصفوها لا يكدر وسرورها لا ينغص بموت ولا بمرض ولا نصب ولا
تعب جعلني الله ومن قال أمين من أهلها. آمين. وقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً
لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) تضمنت هذه الآية ردا على اليهود الذين لما نزل قول الله
تعالى (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) في الرد عليهم لما سألوا عن الروح بواسطة وفد قريش إليهم.
فقالوا : أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فأنزل الله تعالى قل لو كان البحر مدادا
الآية ردا عليهم وإبطالا لمزاعمهم فأعلمهم وأعلم كل من يدعي العلم الذي مافوقه علم
بأنه لو كان ماء البحر مدادا وكان كل غصن وعود في أشجار الدنيا كلها قلما ، وكتب
بهما لنفد ماء البحر وأغصان الشجر ولم تنفد كلمات ربي التي تحمل العلوم والمعارف
الإلهية وتدل عليها وتهدي إليها فسبحان الله وبحمده ، سبحانه الله العظيم سبحان
الله الذي انتهى إليه علم كل شيء وهو على كل شيء قدير. وقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ). يأمر تعالى رسوله بأن يقول للمشركين الذين يطلبون منه
المعجزات كالتي أوتى موسى وعيسى : إنما أنا بشر مثلكم لا أقدر على ما لا تقدرون
عليه أنتم ، والفرق بيننا هو أنه يوحى إلي الأمر من ربي وأنتم لا يوحى إليكم يوحى
إلي أنما إلهكم أي معبودكم الحق وربكم الصدق هو إله واحد الله ربكم ورب آبائكم
الأولين. وقوله (فَمَنْ كانَ
يَرْجُوا) أي يأمل وينتظر (لِقاءَ رَبِّهِ) خوفا منه وطمعا فيه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صالِحاً) وهو مؤمن موقن ، (وَلا يُشْرِكْ
بِعِبادَةِ رَبِّهِ
أَحَداً) فإن الشرك محبط للعمل مبطل له ، وبهذا يكون رجاءه صادقا
وانتظاره صالحا صائبا.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٢ ـ بيان أفضل
الجنان وهو الفردوس الأعلى.
٣ ـ علم الله غير
متناهي لأن كلماته غير متناهية.
٤ ـ تقرير صفة
الكلام لله تعالى.
٥ ـ تقرير بشرية
النبي صلىاللهعليهوسلم وأنه ليس روحا ولا نورا فحسب كما يقول الغلاة الباطنية.
٦ ـ تقرير التوحيد
والتنديد بالشرك.
٧ ـ تقرير أن
الرياء شرك لما ورد أن الآية نزلت في بيان حكم المرء يجاهد يريد وجه الله ويرغب أن يرى مكانه بين الناس ، يصلى ويصوم
ويحب أن يثنى عليه بذلك.
سورة مريم
مكية
وآياتها ثمان وتسعون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(كهيعص (١) ذِكْرُ
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣)
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ
أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي
وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي
وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧))
__________________
شرح الكلمات :
(كهيعص) : هذه من الحروف المقطعة تكتب كهيعص وتقرأ كاف ، هاء يا
عين صاد. ومذهب السلف أن يقال فيها : الله أعلم بمراده بذلك.
(ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ) : أي هذا ذكر رحمة ربك.
(نادى رَبَّهُ) : أي قال : يا رب ليسأله الولد.
(نِداءً خَفِيًّا) : أي سر بعدا عن الرياء.
(وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي) : أي رق وضعف لكبر سني
(وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً) : أي انتشر الشيب في شعر رأسي انتشار النار في الحطب.
(وَلَمْ أَكُنْ
بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) : أي إنك لم تخيبني فيما دعوتك فيه قبل فلا تخيبني اليوم فيما
أدعوك فيه.
(وَإِنِّي خِفْتُ
الْمَوالِيَ) : أي خشيت بني عمي أن يضيعوا الدين بعد موتي.
(امْرَأَتِي عاقِراً) : لا تلد واسمها أشاع وهي أخت حنة أم مريم.
(فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ وَلِيًّا) : أي ارزقني من عندك ولدا.
(وَيَرِثُ مِنْ آلِ
يَعْقُوبَ) : أي جدي يعقوب العلم والنبوة.
(وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا) : أي مرضيا عندك.
(سَمِيًّا) : أي مسمى يحيى.
معنى الآيات :
أما قوله تعالى :
كهيعص فإن هذا من الحروف المقطعة والراجح أنها من المتشابه الذي نؤمن به ونفوض فهم
معناه لمنزله سبحانه وتعالى فنقول : (كهيعص) الله أعلم بمراده به.
وأما قوله تعالى :
(ذِكْرُ رَحْمَتِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) فإن معناه : مما تتلو عليك فى هذا القرآن يا نبينا
__________________
فيكون دليلا على
نبوتك ذكر رحمة ربك التي رحم بها عبده زكريا حيث كبرت سنه ، وامرأته عاقر لا يولد
لها ورغب في الولد لمصلحة الدعوة الإسلامية إذ لا يوجد من يخلفه فيها إذا مات نظرا
إلى أن الموجود من بني عمه ومواليه ليس بينهم كفؤ لذلك بل هم دعاة إلى السوء فنادى
ربه نداء خفيا قائلا : (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ
الْعَظْمُ مِنِّي) أي رق وضعف ، (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ
شَيْباً) أي شاب شعر رأسي لكبر سني ، (وَلَمْ أَكُنْ
بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) أي في يوم من الأيام بمعنى أنك عودتني الاستجابة لما أدعوك
له ولم تحرمني استجابة دعائي فأشقى به دون الحصول على رغبتي. (وَإِنِّي) يا ربي قد (خِفْتُ الْمَوالِيَ) أن يضيعوا هذه الدعوة دعوة الحق التي هي عبادتك بما شرعت
وحدك لا شريك لك ، وذلك بعد موتي (فَهَبْ لِي مِنْ
لَدُنْكَ) أي من عندك تفضلا به علي إذ الأسباب غير متوفرة للولد :
المرأة عاقر وأنا شيخ كبير هرم ، (وَلِيًّا) أي ولدا يلي أمر هذه الدعوة بعد وفاتي فيرثني فيها (وَيَرِثُ مِنْ
آلِ يَعْقُوبَ) جدي ما تركوه بعدهم من دعوة أبيهم إبراهيم وهي الحنيفية
عبادة الله وحده لا شريك له (وَاجْعَلْهُ رَبِّ
رَضِيًّا) أي واجعل الولد الذي تهبني يا ربي (رَضِيًّا) أي عبدا صالحا ترضاه لحمل رسالة الدعوة إليك ، فأجابه الرب
تبارك وتعالى بما في قوله : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا
نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى ،
لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) أي من سمي باسمه يحيى قط.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة
محمد صلىاللهعليهوسلم بإخباره بهذا الذي أخبر به عن زكريا عليهالسلام.
٢ ـ استحباب
السرية في الدعاء لأنه أقرب إلى الاستجابة.
__________________
٣ ـ وجود العقم في
بعض النساء.
٤ ـ قدرة الله
تعالى فوق الأسباب إن شاء تعالى أوقف الأسباب وأعطى بدونها.
٥ ـ تقرير مبدأ أن
الأنبياء لا يورثون فيما يخلفون من المال كالشاه والبعير وإنما يورثهم الله أولادهم في النبوة والعلم والحكمة.
(قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ
مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ
أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ
مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا
يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً
مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ
جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ
وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))
شرح الكلمات :
(أَنَّى يَكُونُ لِي
غُلامٌ؟) : أي من أي وجه وجهة يكون لي ولد.
(عِتِيًّا) : أي يبست مفاصلي وعظامي.
(آيَةً) : أي علامة تدلني على حمل امرأتى
(سَوِيًّا) : أي حال كونك سويّ الخلق ما بك عليه خرس.
__________________
(مِنَ الْمِحْرابِ) : المصلى الذي يصلى فيه وهو المسجد.
(فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) : أومأ إليهم وأشار عليهم.
(وَآتَيْناهُ
الْحُكْمَ صَبِيًّا) : الحكم والحكمة بمعنى واحد وهما الفقه في الدين ومعرفة
أسرار الشرع.
(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) : أي عطفا على الناس موهوبا له من عندنا.
(وَزَكاةً) : أي طهارة من الذنوب والآثام.
(جَبَّاراً عَصِيًّا) : أي متعاليا لا يقبل الحق عصيا لا يطيع أمر الله عزوجل وأمر والديه.
(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) : أي أمان له من الشيطان أن يمسه بسوء يوم يولد ، وأمان له
من فتاني القبر يوم يموت ، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حيا.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر رحمة الله عبده زكريا إنه لما بشره ربه تعالى بيحيى قال : ما أخبر
به تعالى عنه في قوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى
يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ
عِتِيًّا) أي من أي وجه وجهة يأتيني الولد أمن إمرأة غير امرأتي ، أم
منها ولكن تهبني قوة على مباضعتها وتجعل رحمها قادرة على العلوق ، لأني كما تعلم يا ربي قد بلغت من الكبر حدا بئس فيه عظمي
ومفاصلي وهو العتى كما أن امرأتي عاقر لا يولد لها. فأجابه الرب تبارك وتعالى بما
في قوله عزوجل : (قالَ كَذلِكَ) أي الأمر كما قلت يا زكريا ، ولكن (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي إعطاؤك الولد على ما أنت عليه من الضعف والكبر وامرأتك
من العقر سهل يسير لا صعوبة فيه ويدلك على ذلك أني (قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ
قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) ، فكما قدر ربك على خلقك ولم تك شيئا فهو قادر على هبتك
الولد على ضعفك وعقر امرأتك وهنا طالب زكريا ربه بأن يجعل له علامة تدله على وقت
حمل امرأته بالولد فقال ما أخبر به تعالى في قوله : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ
لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) فأعطاه تعالى علامة على وقت حمل امرأته بالولد وهي أنه
يصبح يوم بداية الحمل لا يقدر على الكلام
__________________
وهو سوي البدن ما
به خرس ولا مرض يمنعه من الكلام ، (فَخَرَجَ عَلى
قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) أي المصلى الذي يصلي فيه (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أي أومأ وأشار إليهم (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) أي اذكروا الله في هذين الوقتين بالصلاة والتسبيح. وهنا
علم بحمل امرأته إذ إمتناعه عن الكلام مع سلامة جسمه وحواسه آية على بداية الحمل. وقوله
تعالى : (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) هذا قول الله تعالى للغلام بعد بلوغه ثلاث سنين أمره الله
تعالى أن يتعلم التوراة ويعمل بها بقوة جد وحزم وقوله (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) أي وهبناه الفقه في الكتاب ومعرفة أسرار الشرع وهو صبي لم
يبلغ سن الاحتلام. وقوله تعالى : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا
وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) أي ورحمة منا به ومحبة له آتيناه الحكم صبيا كما أنه عليهالسلام كان ذا حنان على أبويه وغيرهما من المسلمين وقوله (وَزَكاةً) أي طهارة من الذنوب باستعمال بدنه في طاعة ربه عزوجل (وَكانَ تَقِيًّا) أي خائفا من ربه فلا يعصه بترك فريضة ولا يفعل حرام.
وقوله تعالى : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) أي محسنا بهما مطيعا لهما لا يؤذيهما أدنى أذى وقوله (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) أي لم يكن عليهالسلام مستكبرا ولا ظالما ، ولا متمردا عاصيا لربه ولا لأبويه وقوله
: (وَسَلامٌ عَلَيْهِ
يَوْمَ وُلِدَ) أي أمان له من الشيطان يوم ولد ، وأمان له من فتانى القبر
يوم يموت ، وأمان له من الفزع الأكبر يوم يبعث حيا ، فسبحان الله ما أعظم فضله
وأجزل عطاءه على أوليائه ، اللهم أمنا كما أمنته فإنك ذو فضل عظيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ طلب معرفة
السبب الذي يتأتى به الفعل غير قادح في صاحبه فسؤال زكريا عن الوجه الذي يأتي به
الولد ، كسؤال إبراهيم عن كيفية إحياء الموتى.
__________________
٢ ـ جواز طلب
العلامات الدالة على الشيء للمعرفة.
٣ ـ آية عجيبة أن
يصبح زكريا لا يتكلم فيفهم غيره بالإشارة فقط.
٤ ـ فضل التسبيح
في الصباح والمساء.
٥ ـ وجوب أخذ
القرآن بجد وحزم قراءة وحفظا وعملا بما فيه.
٦ ـ صدق قول أهل
العلم من حفظ القرآن في سن ما قبل البلوغ فقد أوتي الحكم صبيا.
٧ ـ وجوب البر
بالوالدين ورحمتهما والحنان عليهما والتواضع لهما.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ
لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ
كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً
زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ
أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ
وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١))
شرح الكلمات :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ) : أي القرآن مريم أي خبرها وقصتها.
(مَرْيَمَ) : هي بنت عمران والدة عيسى عليهالسلام.
(إِذِ انْتَبَذَتْ) : أي حين اعتزلت أهلها باتخاذها مكانا خاصا تخلو فيه
بنفسها.
(شَرْقِيًّا) : أي شرق الدار التي بها أهلها.
(حِجاباً) : أي ساترا يسترها عن أهلها وذويها.
(رُوحَنا) : جبريل عليهالسلام.
(بَشَراً سَوِيًّا) : أي تام الخلق حتى لا تفزع ولا تروع منه.
(إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) : أي عاملا بإيمانك وتقواك لله فابتعدعنى ولا تؤذني.
(غُلاماً زَكِيًّا) : ولدا طاهرا لم يتلوث بذنب قط.
(وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ) : أي لم أتزوج.
(وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) : أي زانية.
(قالَ كَذلِكِ) : أي الأمر كذلك وهو خلق غلام منك من غير أب.
(هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) : ما هو إلا أن ينفخ رسولنا في كم درعك حتى يكون الولد.
(وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) : أي على عظيم قدرتنا.
(وَرَحْمَةً مِنَّا) : أي وليكون الولد رحمة بمن آمن به واتبع ما جاء به.
(أَمْراً مَقْضِيًّا) : أي حكم الله به وفرغ منه فهو كائن حتما لا محالة.
معنى الآيات :
هذه بداية قصة
مريم عليهاالسّلام إذ قال تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ) أي القرآن الكريم (مَرْيَمَ) أي نبأها وخبرها ليكون ذلك دليلا على نبوتك وصدقك في
رسالتك وقوله (إِذِ انْتَبَذَتْ) أي اعتزلت (مِنْ أَهْلِها) هذا بداية القصة وقوله (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي موضعا شرقي دار قومها وشرق المسجد ، ولذا اتخذ النصارى
المشرق قبلة لهم في صلاتهم ولا حجة لهم في ذلك إلا الابتداع وإلا فقبلة كل مصلي
لله الكعبة بيت الله الحرام قوله تعالى : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ
دُونِهِمْ) أي من دون أهلها (حِجاباً) ساترا لها عن أعينهم ، ولما فعلت ذلك أرسل الله تعالى إليها جبريل في صورة بشر
سوي الخلقة معتدلها ، فدخل عليها فقالت ما قص الله تعالى في كتابه (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ
إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي أحتمي بالرحمن الذي يرحم الضعيفات مثلي إن كنت مؤمنا
تقيا فاذهب عني ولا تروعني أو تمسني بسوء. فقال لها جبريل عليهالسلام ما أخبر تعالى به وهو (قالَ إِنَّما أَنَا
رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
غُلاماً زَكِيًّا) إي طاهرا لا يتلوث بذنب قط. فأجابت بما أخبر تعالى عنها في
قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي
__________________
غُلامٌ) أي من أي وجه يأتيني الولد ، (وَلَمْ يَمْسَسْنِي
بَشَرٌ) أي وأنا لم أتزوج ، (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) أي ولم أك زانية ، فأجابها جبريل بما أخبر تعالى به في
قوله : (قالَ كَذلِكِ) أي الأمر كما قلت ولكن ربك قال : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي خلقه بدون أب من نكاح أو سفاح ، لأنه هين علينا من جهة
، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً
لِلنَّاسِ) دالة على قدرتنا على خلق آدم بدون أب ولا أم ، والبعث
الآخر من جهة أخرى. وقوله تعالى (رَحْمَةً مِنَّا
وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي ولنجعل الغلام المبشر به رحمة منا لكل من آمن به واتبع
طريقته في الإيمان والاستقامة وكان هذا الخلق للغلام وهبته لك أمرا مقضيا أي حكم
الله فيه وقضى به فهو كائن لا محالة ونفخ جبريل في جيب قميصها فسرت النفخة في
جسمها فحملت به كما سيأتي بيانه في الآيات التالية.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان شرف مريم
وكرامتها على ربها.
٢ ـ فضيلة العفة
والحياء.
٣ ـ كون الملائكة
يتشكلون كما أذن الله تعالى لهم.
٤ ـ مشروعية
التعوذ بالله من كل ما يخاف من إنسان أو جان.
٥ ـ التقوى مانعة من فعل الأذى بالناس أو إدخال الضرر عليهم.
٦ ـ خلق عيسى آية
مبصرة تتجلى فيها قدرة الله تعالى على الخلق بدأ وإعادة.
__________________
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ
بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ
يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ
تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي
إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي
وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي
إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦))
شرح الكلمات :
(فَانْتَبَذَتْ بِهِ) : فاعتزلت به.
(مَكاناً قَصِيًّا) : أي بعيدا من أهلها.
(فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ) : أي ألجأها الطلق واضطرها وجع الولادة.
(إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ) : لتعتمد عليها وهي تعاني من آلام الولادة.
(نَسْياً مَنْسِيًّا) : أي شيئا متروكا لا يعرف ولا يذكر.
(فَناداها مِنْ
تَحْتِها) : أي عيسى عليهالسلام بعدما وضعته.
(تَحْتَكِ سَرِيًّا) : أي نهرا يقاله سري.
(رُطَباً جَنِيًّا) : الرطب الجني : ما طاب وصلح للإجتناء.
(فَكُلِي وَاشْرَبِي) : أي كل من الرطب واشربي من السري.
(وَقَرِّي عَيْناً) : أي وطيبي نفسا وافرحي بولادتك إياي ولا تحزني.
(نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ
صَوْماً) : أي إمساكا عن الكلام وصمتا.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في قصة مريم إنه بعد أن بشرها جبريل بالولد وقال لها وكان أمرا مقضيا ونفخ
في كم درعها أو جيب قميصها فحملته فورا (فَانْتَبَذَتْ بِهِ
مَكاناً قَصِيًّا) أي فاعتزلت به في مكان بعيد
(فَأَجاءَهَا
الْمَخاضُ) أي ألجأها وجع النفاس (إِلى جِذْعِ
النَّخْلَةِ) لتعتمد عليه وهي تعاني من آلام الطلق وأوجاعه ، ولما وضعته
قالت متأسفة متحسرة ما أخبر تعالى به : (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ
قَبْلَ هذا) أي الوقت الذي أصبحت فيه أم ولد ، (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي شيئا متروكا لا يذكر ولا يعرف وهنا (فَناداها) عيسى عليهالسلام (مِنْ تَحْتِها أَلَّا
تَحْزَنِي) يحملها على الصبر والعزاء وقوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) أي نهر ماء يقال له سري ، (وَهُزِّي إِلَيْكِ
بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي) أي كلي من الرطب واشربي من ماء النهر ، (وَقَرِّي عَيْناً) أي طيبي نفسا وافرحي بولدك ، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ
مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) أي فسألك عن حالك أو عن ولدك فلا تكلميه واكتفي بقولك (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي صمتا (فَلَنْ أُكَلِّمَ
الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) هذا كله من قول عيسى لها أنطقه الله كرامة لها ليذهب عنها
حزنها وألمها النفسي من جراء الولادة وهي بكر لم تتزوج.
__________________
هداية الايات
من
هداية الآيات :
١ ـ من مظاهر قدرة
الله تعالى حملها ووضعها في خلال ساعة من نهار.
٢ ـ إثبات كرامات
الله لأوليائه إذ أكرم الله تعالى مريم بنطق عيسى ساعة وضعه فأرشدها وبشرها وأذهب
عنها الألم والحزن ، وأثمر لها النخلة فأرطبت وأجرى لها النهر بعد يبسه.
٣ ـ تقرير نظام
الأسباب التي في مكنة الإنسان القيام بها فإن الله تعالى قد أثمر لمريم النخلة إذ
هذا لا يمكنها القيام به ثم أمرها أن تحرك النخلة من جذعها ليتساقط عليها الرطب الجني إذ هذا في استطاعتها.
٤ ـ مشروعية النذر
إلا أنه بالامتناع عن الكلام منسوخ في الإسلام.
(فَأَتَتْ بِهِ
قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا
أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨)
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا
(٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما
دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا
(٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ
حَيًّا (٣٣))
__________________
شرح الكلمات :
(فَأَتَتْ بِهِ) : أي بولدها عيسى عليه وعليهاالسّلام.
(جِئْتِ شَيْئاً
فَرِيًّا) : أي عظيما حيث أتيت بولد من غير أب.
(يا أُخْتَ هارُونَ) : أي يا أخت الرجل الصالح هارون.
(امْرَأَ سَوْءٍ) : أي رجلا يأتي الفواحش.
(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) : أي إلى عيسى وهو في المهد.
(آتانِيَ الْكِتابَ) : أي الإنجيل باعتبار ما يكون مستقبلا.
(مُبارَكاً أَيْنَ ما
كُنْتُ) : أي حيثما وجدت كانت البركة فيّ ومعي ينتفع الناس بي.
(وَبَرًّا بِوالِدَتِي) : أي محسنا بها مطيعا لها لا ينالها مني أدنى أذى.
(جَبَّاراً شَقِيًّا) : ظالما متعاليا ولا عاصيا لربي خارجا عن طاعته.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في قصة مريم مع قومها : إنها بعد أن تماثلت للشفاء حملت ولدها وأتت به
قومها وما ان رأوهما حتى قال قائلهم : (يا مَرْيَمُ لَقَدْ
جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) أي أمرا عظيما وهو إتيانك بولد من غير أب. (يا أُخْتَ هارُونَ) نسبوها إلى عبد صالح يسمى هارون : (ما كانَ أَبُوكِ) عمران (امْرَأَ سَوْءٍ) يأتي الفواحش (وَما كانَتْ أُمُّكِ) «حنة» (بَغِيًّا) أي زانية فكيف حصل لك هذا وأنت بنت البيت الطاهر والأسرة
الشريفة. وهنا أشارت إلى عيسى الرضيع في قماطته أي قالت لهم سلوه يخبركم الخبر
وينبئكم بالحق ، لأنها علمت أنه يتكلم لما سبق أن ناداها ساعة وضعه من تحتها وقال
لها ما ذكر تعالى في الآيات السابقة.
__________________
فردوا عليها
مستخفين بها منكرين عليها متعجبين منها : (كَيْفَ نُكَلِّمُ
مَنْ كانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيًّا؟) فأنطق الله عيسى الرضيع فأجابهم بما أخبر تعالى عنه في
قوله : (قالَ إِنِّي عَبْدُ
اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما
كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي
وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) فأجابهم بكل ما كتب الله وأنطقه به ، وكان عيسى كما أخبر
عن نفسه لم ينقص من ذلك شيئا كان عبدا لله وأنزل عليه الإنجيل ونبأه وأرسله إلى
بني إسرائيل وكان مباركا يشفي المرضى ويحيي الموتى بإذن الله تنال البركة من صحبته
وخدمته والإيمان به وبمحبته وكان مقيما للصلاة مؤديا للزكاة طوال حياته وما كان
ظالما ولا متكبرا عاتيا ولا جبارا عصيا. فعليه كما أخبر السّلام أي الأمان التام
يوم ولد فلم يقربه شيطان ويوم يموت فلا يفتن في قبره ويوم يبعث حيا فلا يحزنه
الفزع الأكبر ، ويكون من الآمنين السعداء في دار السّلام.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة
محمد صلىاللهعليهوسلم وعبودية عيسى ونبوته عليهماالسلام.
٢ ـ آية نطق عيسى
في المهد وإخباره بما أولاه الله من الكمالات.
٣ ـ وجوب بر
الوالدين بالاحسان بهما وطاعتهما والمعروف وكف الأذى عنهما.
٤ ـ التنديد
بالتعالى والكبر والظلم والشقاوة التي هي التمرد والعصيان.
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ
__________________
فَاعْبُدُوهُ
هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
(٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي
غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ
عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))
شرح الكلمات :
(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ) : أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو عيسى بن
مريم.
(قَوْلَ الْحَقِ) : أي وهو قول الحق الذي أخبر تعالى به.
(يَمْتَرُونَ) : يشكون.
(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) : أي ليس من شأن الله أن يتخذ ولدا وهو الذي يقول للشيء كن
فيكون.
(سُبْحانَهُ) : أي تنزيها له عن الولد والشريك والشبيه والنظير.
(صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) : أي طريق مستقيم لا يضل سالكه.
(فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ) : أي في شأن عيسى فقال اليهود هو ساحر وابن زنا ، وقال
النصارى هو الله وابن الله تعالى الله عما يصفون.
(مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) : هو يوم القيامة.
(أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ) : أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة عند معاينة العذاب.
(وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ) : أي خوفهم بما يقع في يوم القيامة من الحسرة والندامة
وذلك عند ما يشاهدون أهل الجنة قد ورثوا منازلهم فيها وهم ورثوا منازل أهل الجنة
في النار فتعظم الحسرة ويشتد الندم.
معنى الآيات :
بعد أن قص الله
تعالى قصة مريم من ساعة أن اتخذت من دون أهلها حجابا معتزلة أهلها منقطعة إلى ربها
إلى أن أشارت إلى عيسى وهو في مهده فتكلم فقال : إني عبد الله ، فبين تعالى أن
جبريل بشرها ، وأنه نفخ في كم درعها فحملت بعيسى وأنه ولد في ساعة من حمله وأنها
وضعته تحت جذع النخلة وأنه ناداها من تحتها : أن لا تحزني ، وأرشدها إلى القول
الذي تقول لقومها إذا سألوها عن ولادتها المولود بدون أب ، وهو أن تشير إليه تطلب منهم
أن يسألوه وسألوه فعلا فأجاب بأنه عبد الله وأنه آتاه الكتاب وجعله نبيا ومباركا
وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيا وأنه بر بوالدته ، ولم يكن جبارا شقيا فأشار
تعالى إلى هذا بقوله في هذه الآية (٣٤) (ذلِكَ) أي هذا الذي بينت لكم صفته وأخبرتكم خبره هو (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) ، وما أخبرتكم به هو (قَوْلَ الْحَقِّ
الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي يشكون إذ قال اليهود في عيسى أنه ابن زنا وانه ساحر
وقال النصارى هو الله وابن الله وثالث ثلاثة حسب فرقهم وطوائفهم المتعددة وقوله
تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ
يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ) ينفي تعالى عنه اتخاذ الولد وكيف يصح ذلك له أو ينبغي وهو
الغني عما سواه والمفتقر إليه كل ما عداه ، وأنه يقول للشيء كن فيكون فعيسى عليهالسلام كان بكلمه الله تعالى له كن فكان وهو معنى قوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . وقد نزه تعالى نفسه عن الولد والشريك والشبيه والنظير ،
والافتقار والحاجة إلى مخلوقاته بقوله : سبحانه أي تنزيها له عن صفات المحدثين وقوله
تعالى : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي
وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) . هذا من قول عيسى عليهالسلام لبني إسرائيل أخبرهم أنه عبد الله وليس بابن لله ولا بإله
مع الله وأخبرهم
__________________
أنّ الله تعالى هو
ربه وربهم فليعبدوه جميعا بما شرع لهم ولا يعبدون معه غيره إذ لا إله لهم إلا هو
سبحانه وتعالى ، وأعلمهم أن هذا الاعتقاد الحق والعبادة بما شرع الله هو الطريق
المفضي بسالكه إلى السعادة ومن تنكب عنه وسلك طريق الشرك والضلال أفضى به إلى
الخسران وقوله تعالى في الآية (٣٧) (فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) أي في شأن عيسى فمن قائل هو الله ، ومن قائل هو ابن الله
ومن قائل هو وامه الهين من دون الله والقائلون بهذه المقالات كفروا بها فتوعدهم
الله تعالى بالعذاب الأليم فقال (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا) بنسبتهم الولد والشريك لله ، والويل واد في جهنم فهم إذا
داخلوها لا محالة ، وقوله (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) يعني به يوم القيامة وهو يوم ذو أهوال وشدائد لا يقادر
قدرها.
وقوله تعالى في
الآية (٣٨) (أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) يخبر تعالى أن هؤلاء المتعامين اليوم عن الحق لا يريدون أن
يبصروا آثاره الدالة عليه فيؤمنوا ويوحدوا ويعبدوا ، والمتصاممين عن سماع الحجج
والبراهين وتوحيد الله وتنزيهه عن الشريك والولد هؤلاء يوم يقدمون عليه تعالى في
عرصات القيامة يصبحون أقوى ما يكون أبصارا وسمعا ، ولكن حين لا ينفعهم سمع ولا بصر
، وقوله تعالى : (لكِنِ الظَّالِمُونَ
الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يخبر تعالى أن أهل الشرك والكفر وهم الظالمون في ضلال مبين
أي عن طريق الهدى وهو سبب عدم إبصارهم للحق وسماعهم لحججه التي جاءت بها رسل الله
ونزلت بها كتبه.
وقوله تعالى في
آية (٣٩) (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ
قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يأمر تعالى رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم بأن ينذر الكفار والمشركين أي يخوفهم عاقبة شركهم وكفرهم
وضلالهم يوم القيامة حيث تشتد فيه الحسرة وتعظم الندامة وذلك عند ما يتوارث
الموحدون مع المشركين فالموحدون يرثون منازل المشركين في الجنة ، والمشركون يرثون
منازل
__________________
الموحدين في النار
، وعند ما يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار ، وينادي مناد يا أهل
الجنة خلود فلا موت؟ ويا أهل النار خلود فلا موت عندها تشتد الحسرة ويعظم الندم
هذا معنى قوله تعالى (وَأَنْذِرْهُمْ
يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عما حكم عليهم به من الخلود في نار جهنم (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بالبعث ولا بما يتم فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم. وقوله
تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها ، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يخبر تعالى عن نفسه بأنه الوارث للأرض ومن عليها ومعنى هذا
أنه حكم بفناء ، هذه المخلوقات وأن يوما سيأتي يفنى فيه كل من عليها ، والجميع
سيرجعون إليه ويقفون بين يديه ويحاسبهم بما كتبت أيديهم ويجزيهم به ، ولذا فلا
تحزن أيها الرسول وامض في دعوتك تبلغ عن ربك ولا يضرك تكذيب المكذبين ولا شرك
المشركين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير أن عيسى
عبد الله ورسوله ، وليس كما قال اليهود ، ولا كما قالت النصارى.
٢ ـ استحالة اتخاذ
الله الولد وهو الذي يقول للشيء كن فيكون.
٣ ـ تقرير التوحيد
على لسان عيسى عليهالسلام.
٤ ـ الإخبار بما
عليه النصارى من خلاف في شأن عيسى عليهالسلام.
٥ ـ بيان سبب
الحسرة يوم القيامة وهو الكفر بالله والشرك به.
٦ ـ تقرير فناء
الدنيا ، ورجوع الناس إلى ربهم بعد بعثهم وهو تقرير لعقيدة البعث والجزاء التي
تعالجها السور المكية في القرآن الكريم.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ
يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ
__________________
إِنِّي
قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً
سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ
لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ
الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥))
شرح الكلمات :
(اذْكُرْ فِي
الْكِتابِ) : أي في القرآن.
(إِنَّهُ كانَ
صِدِّيقاً) : أي كثير الصدق بالغ الحد الأعلى فيه.
(يا أَبَتِ) : يا أبي وهو آزر.
(صِراطاً سَوِيًّا) : أي طريقا مستقيما لا اعوجاج فيه يفضي بك إلى الجنة.
(لا تَعْبُدِ
الشَّيْطانَ) : أي لا تطعه في دعوته إياك إلى عبادة الأصنام.
(عَصِيًّا) : أي عاصيا لله تعالى فاسقا عن أمره.
(فَتَكُونَ
لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) : أي قريبا منه قرينا له فيها أي النار.
معنى الآيات :
هذه بداية قصة
إبراهيم الخليل عليهالسلام مع والده آزر عليه لعائن الرحمن قال تعالى لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم (وَاذْكُرْ) يا نبينا (فِي الْكِتابِ) أي القرآن الكريم (إِبْراهِيمَ) خليلنا (إِنَّهُ كانَ
صِدِّيقاً) أي صادقا في أقواله وأعماله بالغا مستوى عظيما في الصدق (نَبِيًّا) من أنبيائنا فهو جدير بالذكر في القرآن ليكون قدوة صالحة
للمؤمنين. واذكره (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) آزر (يا أَبَتِ لِمَ
تَعْبُدُ) أي تسأله بالدعاء والتقرب بأنواع القربات ما لا يسمع ولا
يبصر من الأصنام أي لا يبصرك ولا يسمعك (وَلا يُغْنِي عَنْكَ
شَيْئاً) لا يدفع عنك ضرا ولا يجلب لك نفعا فأي حاجة لك إلى عبادته (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) أي من قبل ربي تعالى (ما لَمْ يَأْتِكَ) أنت (فَاتَّبِعْنِي) فيما أعتقده وأعمله وأدعو إليه (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) أي مستقيما يفضي
__________________
بك إلى السعادة
والنجاة ، (يا أَبَتِ لا
تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) أي بطاعته فيما يدعوك إليه من عبادة غير الله تعالى من هذه
الأصنام التي لا تضر ولا تنفع لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تعطي ولا تمنع ، (إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ
عَصِيًّا) أي عاصيا أمره فأبى طاعته وفسق عن أمره. (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ
عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) إن أنت بقيت على شركك وكفرك ولم تتب منهما حتى مت فيمسك
عذاب من الرحمن (فَتَكُونَ) أي بذلك (لِلشَّيْطانِ
وَلِيًّا) أي قريبا منه قرينا له في جهنم فتهلك وتخسر.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
بالدعوة إليه.
٢ ـ كمال إبراهيم
بذكره في الكتاب.
٣ ـ بطلان عبادة
غير الله تعالى.
٤ ـ عبادة الأوثان
والأصنام وكل عبادة لغير الله تعتبر عبادة للشيطان لأنه الآمر بها والداعي إليها.
(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ
عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي
حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا
رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ
وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ
جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ
لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))
__________________
شرح الكلمات
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) : أي عن التعرض لها وعيبها.
(لَأَرْجُمَنَّكَ) : بالحجارة أو بالقول القبيح فاحذرني.
(وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا) : أي سليما من عقوبتي
(سَلامٌ عَلَيْكَ) : أي أمنة مني لك أن أعاودك فيما كرهت مني.
(إِنَّهُ كانَ بِي
حَفِيًّا) : أي لطيفا بي مكرما لي يجيبني لما أدعوه له.
(عَسى أَلَّا أَكُونَ
بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) : بل يجيب دعائي ويعطني مسألتي.
(فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ) : بأن هاجر إلى أرض القدس وتركهم.
(وَهَبْنا لَهُ
إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) : أي وهبنا له ولدين يأنس بهما مجازاة منا له على هجرته
قومه.
(وَوَهَبْنا لَهُمْ
مِنْ رَحْمَتِنا) : خيرا كثيرا المال والولد بعد النبوة والعلم.
(لِسانَ صِدْقٍ
عَلِيًّا) : أي رفيعا بأن يثنى عليهم ويذكرون بأطيب الخصال.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
قصة إبراهيم مع أبيه آزر إنه بعد تلك الدعوة الرحيمة بالألفاظ الطيبة الكريمة التي
وجهها إبراهيم لأبيه آزر ليؤمن ويوحد فينجو ويسعد قال آزر رادا عليه بعبارات خالية
من الرحمة والأدب بل ملؤها الغلظة والفظاظة والوعيد والتهديد وهي ما أخبر به تعالى
عنه في قوله : في الآية (٤٦) (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ
عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أي أكاره لها تعيبها ، (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) أى عن التعرض لها بأي سوء (لَأَرْجُمَنَّكَ) بأبشع الألفاظ وأقبحها ، (وَاهْجُرْنِي
مَلِيًّا) أي وابعد عني مادمت معافى سليم البدن سويه قبل أن ينالك
مني ما تكره. كان هذا رد آزر الكافر المشرك. فيما أجاب ابراهيم المؤمن الموحد أجاب
بما أخبر تعالى به عنه في قوله في آية (٤٧) (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) أي أمان لك مني يا أبتاه فلا أعاودك
__________________
فيما كرهت مني قط
وسأقابل إساءتك بإحسان (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ
رَبِّي) أي أطلب منه أن يهديك للإيمان والتوحيد فتتوب فيغفر لك (إِنَّهُ كانَ) سبحانه وتعالى (بِي حَفِيًّا) لطيفا بي مكرما لي لا يخيبني فيما أدعوه فيه.
وقوله تعالى حكاية
عن قيل ابراهيم : (وَأَعْتَزِلُكُمْ
وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي أذهب بعيدا عنكم تاركا لكم ولما تعبدون من دون الله من
أصنام وأوثان ، (وَأَدْعُوا رَبِّي
عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) أي رجائي في ربي كبير أن لا أشقى بعبادته كما شقيتم أنتم
بعبادة الأصنام. قال تعالى مخبرا عنه فلما حقق ما واعدهم به من هجرته لديارهم إلى
ديار القدس تاركا أباه وأهله وداره كافأناه بأحسن حيث أعطيناه ولدين يأنس بهما في
وحشته وهما إسحق ويعقوب وكلا منهما جعلناه نبيا رسولا ، ووهبنا لجميعهم وهم ثلاثة
الوالد ابراهيم وولداه اسحق ويعقوب بن اسحق عليهمالسلام من رحمتنا الخير العظيم من المال والولد والرزق الحسن هذا
معنى قوله تعالى : (فَلَمَّا
اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ) وهو ابن ولده إسحق (وَكُلًّا جَعَلْنا
نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا). وقوله تعالى عنهم (وَجَعَلْنا لَهُمْ
لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هذا إنعام آخر مقابل الهجرة في سبيل الله حيث جعل الله
تعالى لهم لسان الصدق في الآخرة فسائر أهل الأديان الإلهية يثنون على إبراهيم
وذريته بأطيب الثناء وأحسنه وهو لسان الصدق العلي الرفيع الذي حظى به إبراهيم
وولديه إكراما من الله تعالى وإنعاما عليهم جزاء صدق إبراهيم وصبره وبالتالي هجرته
للأصنام وعابديها.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان الفرق
بين ما يخرج من فم المؤمن الموحد من طيب القول وسلامة اللفظ ولين الجانب والكلام ،
وبين ما يخرج من فم الكافر المشرك من سوء القول وقبح اللفظ وقسوة الجانب وفظاظة
الكلام.
٢ ـ مشروعية سلام
المتاركة والموادعة وهو أن يقال للسيء من الناس سلام عليك وهو لا يريد
__________________
بذلك تحيته ولكن
تركه وما هو فيه.
٣ ـ مشروعية الهجرة
وبيان فضلها وهجرة إبراهيم هذه أول هجرة كانت في الأرض.
٤ ـ الترغيب في
حسن الأحدوثة بأن يكون للمرء حسن ثناء بين الناس لما يقدم من جميل وما يورث من خير
وإفضال.
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١)
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢)
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣))
شرح الكلمات :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ) : أي في القرآن تشريفا وتعظيما.
(مُوسى) : أي ابن عمران نبي بني إسرائيل عليهالسلام.
(مُخْلَصاً) : أي مختارا مصطفى على قراءة فتح اللام «مخلصا» وموحدا
لربه مفردا اياه بعبادته بالغا في ذلك أعلى المقامات على قراءة كسر اللام.
(جانِبِ الطُّورِ) : الطور جبل بسيناء بين مدين ومصر.
(وَقَرَّبْناهُ
نَجِيًّا) : أي أدنيناه إدناء تشريف وتكريم مناجيا لنا مكلما من قبلنا.
(أَخاهُ هارُونَ
نَبِيًّا) : إذ سأل ربه لأخيه الرسالة فأعطاه فنبّأه وأرسله معه إلى
فرعون.
معنى الآيات :
هذا موجز قصة موسى
عليهالسلام قال تعالى في ذلك وهو يخاطب نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم (وَاذْكُرْ) في هذه السلسلة الذهبية من عباد الله الصالحين أهل التوحيد
واليقين موسى ابن عمران انه جدير بالذكر في القرآن وعلة ذلك في قوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) أي مختارا مصطفى للإبلاغ عنا عبادنا ما خلقناهم لأجله وهو
ذكرنا وشكرنا ذكرنا بالسنتهم وقلوبهم وشكرهم لنا بجوارحهم وذلك بعبادتنا وحدنا دون
من سوانا ، وكان موسى كذلك ، وقوله تعالى : (وَكانَ رَسُولاً
نَبِيًّا) أي ومن افضالنا عليه وإكرامنا له أن جعلناه نبيا رسولا
نبأناه
وأرسلناه إلى
فرعون وملائه ، (وَنادَيْناهُ) وهو في طريقه من مدين إلى مصر في جانب الطور الأيمن حيث نبأناه وأرسلناه وبذلك (وَقَرَّبْناهُ
نَجِيًّا) فصار يناجينا فنسمعه كلامنا ونسمع كلامه وأعظم بهذا التكريم من تكريم ، وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا
أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) هذا إنعام آخر من الله تعالى على موسى النبي إذ سأل ربه أن
يرسل معه أخاه هارون إلى فرعون فبرحمة من الله تعالى استجاب له ونبأ هارون وأرسله
معه رسولا وما كان هذا إلا برحمة خاصة إذ النبوة لا تطلب ولا يتوصل إليها
بالاجتهاد في العبادة ولا بالدعاء والصراعة إذ هي هبة إلهية خاصة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة الإخلاص
، وهو إرادة الله تعالى بالعبادة ظاهرا وباطنا.
٢ ـ إثبات صفة
الكلام والمناجاة لله تعالى.
٣ ـ بيان إكرام
الله تعالى وإنعامه على موسى إذ أعطاه ما لم يعط أحدا من العالمين باستجابة دعائه
بأن جعل أخاه هارون رسولا نبيا.
٤ ـ تقرير أن كل
رسول نبيا والعكس لا أي ليس كل نبي رسولا.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ
يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦)
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ
__________________
أَنْعَمَ
اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا
مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا
وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً
وَبُكِيًّا (٥٨))
شرح الكلمات :
(وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) : أي اذكر في القرآن تشريفا وتعظيما اسماعيل بن ابراهيم
الخليل عليهماالسلام.
(صادِقَ الْوَعْدِ) : لم يخلف وعد قط.
(بِالصَّلاةِ
وَالزَّكاةِ) : أي بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.
(مَرْضِيًّا) : أي رضى الله تعالى قوله وعمله ليقينه وإخلاصه.
(إِدْرِيسَ) : هو جد أبي نوح عليهالسلام.
(وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) : إلى السماء الرابعة.
(إِسْرائِيلَ) : أي يعقوب بن اسحق بن ابراهيم عليهمالسلام.
(وَمِمَّنْ هَدَيْنا
وَاجْتَبَيْنا) : أي من جملة من هديناهم لطريقنا واجتبيناهم بنبوتنا.
(إِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ) : أي تقرأ عليهم وهم يستمعون إليها.
(سُجَّداً وَبُكِيًّا) : جمع ساجد وباك أي ساجدين وهم يبكون.
معنى الآيات :
يقول تعالى لنبيه
محمد صلىاللهعليهوسلم كما ذكرت من ذكرت من مريم وابنها وابراهيم وموسى اذكر كذلك
اسماعيل فإنه (كانَ صادِقَ
الْوَعْدِ) لم يخلف وعدا قط وكان ينتظر الموعود الليالي حتى يجىء وهو
قائم في مكانه ينتظره ، (وَكانَ رَسُولاً
نَبِيًّا) نبأه تعالى بمكة المكرمة إذ عاش بها وأرسله إلى قبيلة جرهم
العربية ومنها تزوج وأنجب وكان من ذريته محمد صلىاللهعليهوسلم وقوله تعالى :
__________________
(وَكانَ يَأْمُرُ
أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) المراد من الأهل أسرته وقومه من قبيلة جرهم والمراد من
الصلاة إقامتها ومن الزكاة أداؤها ، وهذا مما أعلى شأنه ورفع قدره فاستحق ذكره في
القرآن العظيم ، وقوله : (كانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيًّا) موجب آخر لإكرامه والإنعام عليه بذكره في القرآن الكريم في
سلسلة الأنبياء والمرسلين ، ومعنى (كانَ عِنْدَ رَبِّهِ
مَرْضِيًّا) أي أقواله وأفعاله كلها كانت مقبولة مرضية فكان بذلك هو مرضيا
من قبل ربه عزوجل. وقوله تعالى (وَاذْكُرْ فِي
الْكِتابِ إِدْرِيسَ) وهو جد أبي نوح واستوجب الذكر في القرآن لأنه (كانَ صِدِّيقاً) كثير الصدق مبالغا فيه حتى إنه لم يجر على لسانه كذب قط ،
وصديقا في أفعاله وما يأتيه فلم يعرف غير الصدق في قول ولا عمل وكان نبيا من
أنبياء الله ، وقوله (وَرَفَعْناهُ مَكاناً
عَلِيًّا) إلى السماء الرابعة في حياته كما رفع تعال عيسى ورفع محمد إلى ما فوق السماء
السابعة. وقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) كأدريس ، (وَمِمَّنْ حَمَلْنا
مَعَ نُوحٍ) أي في الفلك كابراهيم ، (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْراهِيمَ) كاسحق واسماعيل ، (وَإِسْرائِيلَ) أي ومن ذرية إسرائيل كموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا
ويحيى وعيسى ، (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) لمعرفتنا وطريقنا الموصل إلى رضانا وذلك بعبادتنا والاخلاص
لنا فيها (وَاجْتَبَيْنا) لوحينا وحمل رسالتنا. وقوله (إِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) أي أولئك الذين هديناهم واجتبينا من اجتبينا منهم.
والاجتباء الأختيار والاصطفاء بأخذ الصفوة (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
آياتُ الرَّحْمنِ) الحاملة للعظات والعبر والدلائل والحجج (خَرُّوا سُجَّداً) لله ربهم (وَبُكِيًّا) عما يرون من التقصير أو التفريط في جنب ربهم جل وعظم
سلطانه.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير النبوة
إذ الذي نبأ هؤلاء وأرسلهم لا ينكر عليه أن ينبىء محمدا ويرسله.
٢ ـ فضيلة الأمر
بالصلاة والزكاة.
٣ ـ فضيلة الوفاء بالوعد
والصدق في القول والعمل.
٤ ـ سنية السجود
لمن تلا هذه الآية أو تليت وهو يستمع إليها. (خَرُّوا سُجَّداً
وَبُكِيًّا)
٥ ـ فضيلة البكاء
حال السجود فقد كان عمر إذا تلا هذه الآية سجد ثم يقول هذا السجود فأين البكيّ
يعني البكاء.
(فَخَلَفَ مِنْ
بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ
يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ
يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي
وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا
يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ
تَقِيًّا (٦٣))
شرح الكلمات :
(فَخَلَفَ) : أي عقب سوء.
(أَضاعُوا الصَّلاةَ) : أهملوها فتركوها فكانوا بذلك كافرين.
(اتَّبَعُوا
الشَّهَواتِ) : انغمسوا في الذنوب والمعاصي كالزنا وشرب الخمر.
(يَلْقَوْنَ غَيًّا) : أي واديا في جهنم يلقون فيه.
(وَلا يُظْلَمُونَ
شَيْئاً) : أي لا ينقصون شيئا من ثواب حسناتهم.
__________________
(جَنَّاتِ عَدْنٍ) : أي إقامة دائمة.
(بِالْغَيْبِ) : أي وعدهم بها وهي غائبة عن أعينهم لغيابهم عنها إذ هي في
السماء وهم في الأرض.
(مَأْتِيًّا) : أي موعوده وهو ما يعد به عباده آتيا لا محالة.
(لَغْواً) : أي فضل الكلام وهو ما لا فائدة فيه.
(بُكْرَةً وَعَشِيًّا) : أي بقدرهما في الدنيا وإلا فالجنة ليس فيها شمس فيكون
فيها نهار وليل.
(مَنْ كانَ تَقِيًّا) : أي من كان في الحياة الدنيا تقيا لم يترك الفرائض ولم
يغش المحارم.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) يخبر تعالى عن أولئك الصالحين ممن اجتبى وهدى من النبيين
وذرياتهم ، انه خلف من بعدهم خلف سوء كان من شأنهم أنهم (أَضاعُوا الصَّلاةَ) فمنهم من أخرها عن أوقاتها ومنهم من تركها (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) فانغمسوا في حمأة الرذائل فشربوا الخمور وشهدوا الزور
وأكلوا الحرام ولهوا ولعبوا وزنوا وفجروا ، بعد ذهاب أولئك الصالحين كما هو حال
النصارى واليهود اليوم وحتى كثير من المسلمين ، فهؤلاء الخلف السوء يخبر تعالى
أنهم (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا) بعد دخولهم نار جهنم. والغي : ورد عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه بئر في جهنم وعن ابن مسعود أنه واد في جهنم ، والكل صحيح إذ البئر توجد في الوادي وكثيرا ما توجد
الآبار في الأودية.
وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي لكن من تاب من هذا الخلف السوء وآمن أي حقق إيمانه وعمل
صالحا فأدى الفرائض وترك غشيان المحارم. فأولئك أي فهؤلاء التابئون المنيبون (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) مع سلفهم
__________________
الصالح ، (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) أي ولا ينقصون ولا يبخسون شيئا من ثواب أعمالهم.
وقوله تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي بساتين إقامة أبدية (الَّتِي وَعَدَ
الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) أي وعدهم بها وهي غائبة عنهم لم يروها لأنها في السماء وهم
في الأرض.
وقوله : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي كونهم مارأوها غير ضار لأن ما وعد به الرحمن لا يتخلف
أبدا لا بد من الحصول عليه ومعنى مأتيا يأتيه صاحبه قطعا.
وقوله تعالى في
الآية (٦٢) (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً) يخبر تعالى أن أولئك التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات
ودخلوا الجنة لا يسمعون فيها أي في الجنة لغوا وهو الباطل من القول وما لا خير فيه
من الكلام اللهم إلا السّلام فإنهم يتلقونه من الملائكة فيسمعونه منهم وهو من
النعيم الروحاني في الجنة دار النعيم.
وقوله تعالى : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً
وَعَشِيًّا) أي ولهم طعامهم فيها وهو ما تشتهيه أنفسهم من لذيذ الطعام
والشراب (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي في وقت الغداة في الدنيا وفي وقت العشي في الدنيا إذ لا
ليل في الجنة ولا نهار ، وإنما هي أنوار وجائز إذا وصل وقت الغداء أو العشاء تغير
الأنوار من لون إلى آخر أو تغلق الأبواب وترخى الستائر ويكون ذلك علامة على وقت
الغداء والعشاء.
وقوله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ) آية (٦٣) يشير تعالى إلى الجنة دار السّلام تلك الجنة
العالية (الَّتِي نُورِثُ مِنْ
عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) منهم ، أما الفاجر فإن منزلته فيها نورثها المتقي كما أن
منزل التقي في النار نورثه فاجرا من الفجار ، إذ هذا معنى التوارث : هذا يرث هذا
وذاك يرث ذا ، إذ ما من إنسان إلا وله منزلة في الجنة ومنزل في النار فمن آمن وعمل
صالحا دخل الجنة ونزل في منزلته ، ومن كفر وأشرك وعمل سوءا دخل النار ونزل في
منزله فيها ، ويورث الله تعالى الأتقياء منازل الفجار التي كانت لهم في الجنة.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التنديد بخلف
السوء وهو من يضيع الصلاة ويتبع الشهوات.
٢ ـ الوعيد الشديد
لمن ينغمس في الشهوات ويترك الصلاة فيموت على ذلك.
٣ ـ باب التوبة
مفتوح والتوبة مقبولة من كل من أرادها وتاب.
٤ ـ بيان نعيم
الجنة دار المتقين الأبرار.
٥ ـ تقرير مبدأ
التوارث بين أهل الجنة وأهل النار.
٦ ـ بيان أن ورثة
الجنة هم الأتقياء ، وأن ورثة النار هم الفجار.
(وَما نَتَنَزَّلُ
إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ
ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا
(٦٥))
شرح الكلمات :
(وَما نَتَنَزَّلُ) : التنزل النزول وقتا بعد وقت.
(إِلَّا بِأَمْرِ
رَبِّكَ) : أي إلا بإذنه لنا في النزول على من يشاء.
(لَهُ ما بَيْنَ
أَيْدِينا) : أي مما هو مستقبل من أمر الآخرة.
(وَما خَلْفَنا) : أي ما مضى من الدنيا.
(وَما بَيْنَ ذلِكَ) : مما لم يمض من الدنيا إلى يوم القيامة أي له علم ذلك
كله.
(وَما كانَ رَبُّكَ
نَسِيًّا) : أي ذا نسيان فإنه تعالى لا ينسى فكيف ينساك ويتركك؟.
(رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) : أي مالكهما والمتصرف فيهما.
(وَاصْطَبِرْ
لِعِبادَتِهِ) : أي اصبر وتحمل الصبر في عبادته حتى الموت.
(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا) : أي لا سميّ له ولا مثل ولا نظير فهو الله أحد ، لم يكن
له كفوا أحد.
معنى الآيتين :
لنزول هاتين
الآيتين سبب وهو ما روى واستفاض أن الوحي تأخر عن النبي صلىاللهعليهوسلم والذي يأتي بالوحي جبريل عليهالسلام فلما جاء بعد بطء قال له النبي صلىاللهعليهوسلم ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا فأنزل الله تعالى قوله
: جوابا لسؤال النبي صلىاللهعليهوسلم : (وَما نَتَنَزَّلُ) أي نحن الملائكة وقتا بعد وقت على من يشاء ربنا (إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أيها الرسول أي إلا بإذنه لنا فليس لأحد منا أن ينزل من
سماء إلى سماء أو إلى أرض إلا بإذن ربنا عزوجل ، (لَهُ ما بَيْنَ
أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ) أي له أمر وعلم ما بين أيدينا أي ما أمامنا من أمور الآخرة
وما خلفنا أي مما مضى من الدنيا علما وتدبيرا ، وما بين ذلك إلى يوم القيامة علما
وتدبيرا ، وما كان ربك عزوجل يا رسول الله ناسيا لك ولا تاركا فإنه تعالى لم يكن النسيان وصفا له فينسى.
وقوله تعالى : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما) يخبر تعالى رسوله بأنه تعالى مالك السموات والأرض وما
بينهما والمتصرف فيهما فكل شيء له وبيده وفي قبضته وعليه (فَاعْبُدْهُ) أيها الرسول بما أمرك بعبادته به (وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) إي تحمل لها المشاق ، فإنه لا إله إلا هو ، ف (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أي نظيرا أو مثيلا والجواب لا : إذا فاعبده وحده وتحمل في
سبيل ذلك ما استطعت تحمله. فإنه لا معبود بحق إلا هو إذ كل ما عداه مربوب له خاضع
لحكمه وتدبيره فيه.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ تقرير سلطان
الله على كل الخلق وعلمه بكل الخلق وقدرته على كل ذلك.
__________________
٢ ـ استحالة
النسيان على الله عزوجل.
٣ ـ تقرير ربوبية
الله تعالى للعالمين ، وبذلك وجبت له الألوهية على سائر العالمين.
٤ ـ وجوب عبادة
الله تعالى ووجوب الصبر عليها حتى الموت.
٥ ـ نفي الشبيه
والمثل والنظير لله إذ هو الله أحد لم يكن له كفوا أحد.
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ
الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ
لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى
الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها
صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً
مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها
جِثِيًّا (٧٢))
شرح الكلمات :
(وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ) : أي الكافر بلقاء الله تعالى.
(وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) : أي قبل خلقه فلا ذات له ولا اسم ولا صفة.
(جِثِيًّا) : أي جاثمين على ركبهم في ذل وخوف وحزن.
(مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) : أي طائفة تعاونت على الباطل وتشيع بعضها لبعض فيه
(عِتِيًّا) : أي تكبرا عن عبادته وظلما لعباده
(أَوْلى بِها صِلِيًّا) : أي أحق بها اصطلاء واحتراقا وتعذيبا في النار.
(إِلَّا وارِدُها) : أي مارا بها إن وقع بها هلك ، وإن مر ولم يقع نجا.
(حَتْماً مَقْضِيًّا) : أي أمرا قضى به الله تعالى وحكم به وحتّمه فهو كائن لا
بد.
(فِيها جِثِيًّا) : أي في النار جاثمين على ركبهم بعضهم إلى بعض.
معنى الآيات :
الآيات في سياق
تقرير عقيدة البعث والجزاء يقول تعالى وقوله الحق : (وَيَقُولُ
الْإِنْسانُ) أي المنكر للبعث والدار الآخرة وقد يكون القائل أبي بن خلف
أو العاص بن وائل وقد يكون غيرهما إذ هذه قولة كل من لا يؤمن بالآخرة يقول : (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ
حَيًّا) يقول هذا استنكارا وتكذيبا قال تعالى : رادا على هذا
الإنسان قولته الكافرة (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) أي المنكر للبعث الآخر (أَنَّا خَلَقْناهُ
مِنْ قَبْلُ
وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) أيكذب بالبعث وينكره ولا يذكر خلقنا له من قبل ، ولم يك
شيئا.
أليس الذي قدر على
خلقه قبل أن يكون شيئا قادرا على إعادة خلقه مرة أخرى أليست الإعادة أهون من الخلق
الأول والإيجاد من العدم ، ثم يقسم الله تبارك وتعالى لرسوله على أنه معيدهم كما
كانوا ويحشرهم جميعا مع شياطينهم الذين يضلونهم ثم يحضرنهم حول جهنم جثيا على
ركبهم أذلاء صاغرين. هذا معنى قوله تعالى في الآية (٦٨) (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ
ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا).
وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ
أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) يخبر تعالى بعد حشرهم إلى ساحة فصل القضاء أحياء مع
الشياطين الذين كانوا يضلونهم ، يحضرهم حول جهنم جثيا ، ثم يأخذ تعالى من كل طائفة
من تلك الطوائف التي أحضرت حول جهنم وهي جاثية تنتظر حكم الله تعالى فيها أيهم كان
أشد على الرحمن عتيا أي تمردا عن طاعته وتكبرا عن الإيمان به وبرسوله ووعده ووعيده
وهو معنى قوله تعالى في الآية (٦٩) (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ
مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وقوله تعالى : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ
هُمْ
__________________
أَوْلى
بِها صِلِيًّا) يخبر تعالى بعلمه بالذين هم أجدر وأحق بالاصطلاء بعذاب
النار ، وسوف يدخلهم النار قبل غيرهم ثم يدخل باقيهم بعد ذلك وهو معنى قوله عزوجل : (ثُمَّ لَنَحْنُ
أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) .
وقوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ
عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ، فإنه يخبر عزوجل عن حكم حكم به وقضاء قضى به وهو أنه ما من واحد منا معشر
بني آدم إلا وارد جهنم وبيان ذلك كما جاء في الحديث أن الصراط جسر يمد على ظهر
جهنم والناس يمرون فوقه فالمؤمنون يمرون ولا يسقطون في النار والكافرون يمرون
فيسقطون في جهنم. وهو معنى قوله في الآية (٧٢) (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي ربهم فلم يشركوا به ولم يعصوه بترك واجب ولا بارتكاب
محرم (وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ) بالتكبر والكفر وغشيان الكبائر من الذنوب (فِيها جِثِيًّا) أي ونترك الظالمين فيها أي جهنم جاثمين على ركبهم يعانون
أشد أنواع العذاب
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء بالحشر والاحضار حول جهنم والمرور على الصراط.
٢ ـ تقرير معتقد
الصراط في العبور عليه إلى الجنة.
٣ ـ تقديم رؤساء
الضلال وأئمة الكفر إلى جهنم قبل الأتباع الضالين.
٤ ـ تقرير حتمية
المرور على الصراط.
٥ ـ بيان نجاة
الأتقياء ، وهلاك الفاجرين الظالمين بالشرك والمعاصي.
__________________
(وَإِذا تُتْلى
عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي
الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما
يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦))
شرح الكلمات :
(آياتُنا بَيِّناتٍ) : أي آيات القرآن البينات الدلائل الواضحات الحجج.
(خَيْرٌ مَقاماً) : نحن أم أنتم والمقام المنزل ومحل الإقامة والمراد هنا
المنزلة.
(وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) : أي ناديا وهو مجتمع الكرام ومحل المشورة وتبادل الآراء.
(أَحْسَنُ أَثاثاً
وَرِءْياً) : أي مالا ومتاعا ومنظرا.
(إِمَّا الْعَذابَ
وَإِمَّا السَّاعَةَ) : أي بالقتل والأسر وأما الساعة القيامة المشتملة على نار
جهنم.
(مَنْ هُوَ شَرٌّ
مَكاناً) : أي منزلة.
(وَأَضْعَفُ جُنْداً) : أي أقل أعوانا.
(وَخَيْرٌ مَرَدًّا) : أي ما يرد إليه ويرجع وهو نعيم الجنة.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير النبوة والتوحيد والبعث الآخر يقول تعالى (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
آياتُنا) (بَيِّناتٍ) أي وإذا قرئت على كفار قريش المنكرين للتوحيد والنبوة
المحمدية والبعث والجزاء
__________________
يوم القيامة إذا
قرأ عليهم رسول الله أو أحد المؤمنين من أصحابه بعض الآيات من القرآن البينات في
معانيها ودلائلها على التوحيد والنبوة والبعث (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) ، وقولهم هذا هو رد فعل لا غير ، إذ أنهم لما يسمعون
الآيات تحمل الوعد للمؤمنين والوعيد للكافرين مثلهم لا يجدون ما يخففون به ألم
نفوسهم فيقولون هذا الذي أخبر تعالى به عنهم (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) أي فريق المؤمنين أو فريق الكافرين خير مقاما أي منزلا
ومسكنا وأحسن نديا أي ناديا ومجتمعا يجتمع فيه ، لأنهم يقارنون بين منازل فقراء
المؤمنين ودار الأرقم بن أبي الأرقم التي يجتمع فيها الرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنون وبين دور ومنازل أبي سفيان وأغنياء مكة ونادي
قريش وهو مجلس شوراهم فرد تعالى عليهم بقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) أي لا ينبغي أن يغرهم هذا الذي يتبجحون به ويتطاولون فإنه
لا يدوم لهم ماداموا يحاربون دعوة الحق والقائمين عليها فكم من أهل قرون أهلكناهم
لما ظلموا وكانوا أحسن من هؤلاء مالا ومتاعا ومناظر حسنة جميلة.
وقوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ
فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) أي اذكر لهم سنتنا في عبادنا يا رسولنا وهي أن من كان في
ضلالة الشرك والظلم والمكابرة والعناد فإن سنة الرحمن فيه أن يمد له بمعنى يمهله
ويملي له استدراجا حتى إذا انتهوا إلى ما حدد لهم من زمن يؤخذون فيه بالعذاب جزاء
كفرهم وظلمهم وعنادهم وهو إما عذاب دنيوى بالقتل والأسر ونحوهما أو عذاب الآخرة
بقيام الساعة حيث يحشرون إلى جهنم عميا وبكما وصما جزاء التعالي والتبجح بالكلام
وهو معنى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا
ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ
هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) أي شر منزلة وأقل ناصرا أهم الكافرون أم المؤمنون ، ولكن
حين لا ينفع العلم. إذ التدارك أصبح غير ممكن وإنما هي
__________________
الحسرة والندامة
لا غير.
وقوله تعالى : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا
هُدىً) أي إذا كان تلاوة الآيات البينات تحمل المشركين على العناد
والمكابرة وذلك لظلمة كفرهم فيزدادون كفرا وعنادا فإن المؤمنين المهتدين يزدادون
بها هداية لأنها تحمل لهم الهدى في كل جملة وكلمة منها وهم لإشراق نفوسهم بالإيمان
يرون ما تحمل الآيات من الدلائل والحجج والبراهين فيزداد إيمانهم وتزداد هدايتهم
في السير في طريق السعادة والكمال بأداء الفرائض واجتناب المناهي.
وقوله تعالى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ
خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ) أيها الرسول (ثَواباً وَخَيْرٌ
مَرَدًّا) في هذه الآية تسلية للرسول والمؤمنين بأن ما يتبجح به
المشركون من المال والمتاع وحسن الحال لا يساوي شيئا أمام الإيمان وصالح الأعمال
لأن المال فان ، والصالحات باقية فثواب الباقيات الصالحات من العبادات والطاعات
خير من كل متاع الدنيا وخير مردا أي مردودا على صاحبها إذ هو الجنة دار السّلام
والتكريم والإنعام.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الكشف عن
نفسيات الكافرين وهي الإعتزاز بالمال والقوة إذا اعتز المؤمنون بالإيمان وثمراته
في الدنيا والآخرة من حسن العاقبة.
٢ ـ بيان سنة الله
تعالى في امهال الظلمة والإملاء لهم استدراجا لهم حتى يهلكوا خاسرين.
٣ ـ بيان سنة الله
تعالى في زيادة إيمان المؤمنين عند سماع القرآن الكريم ، أو مشاهدة أخذ الله تعالى
للظالمين.
٤ ـ بيان فضيلة
الباقيات الصالحات ومنها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا
حول ولا قوة إلا بالله.
__________________
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ
أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ
وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا
فَرْداً (٨٠))
شرح الكلمات :
(الَّذِي كَفَرَ
بِآياتِنا) : هو العاص بن وائل.
(لَأُوتَيَنَّ مالاً
وَوَلَداً) : يريد في الآخرة.
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) : أي فعرف أنه يعطى مالا وولدا يوم القيامة.
(كَلَّا) : ردع ورد فإنه لم يطلع الغيب ولم يكن له عند الله عهدا.
(وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ
الْعَذابِ مَدًّا) : أي نضاعف له العذاب يوم القيامة.
(وَنَرِثُهُ ما
يَقُولُ) : أي نسلبه ما تبجح به من المال والولد ويبعث فردا ليس معه
مال ولا ولد.
معنى الآيات :
يقول تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم معجبا له (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي
كَفَرَ بِآياتِنا) أي كذب بالوحي وما يدعوا له من التوحيد والبعث والجزاء
وترك الشرك والمعاصي. وهو العاص بن وائل المسمى أبو عمرو بن العاص. (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) قال هذا لخباب بن الأرت حينما طالبه بدين له عليه فأبى أن
يعطيه استصغارا له لأنه قيّن «حدادا» وقال له لا أعطيكه حتى تكفر بمحمد فقال له
خباب والله ما أكفر بمحمد صلىاللهعليهوسلم حتى تموت ثمّ تبعث فقال له العاص إذا أنا متّ ثم بعثت كما
تقول ثم جئتني ولي مال وولد قضيتك دينك فأكذبه الله تعالى ورد عليه قوله بقوله عزوجل : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) فعرف أن له يوم القيامة مالا وولدا. (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ
__________________
الرَّحْمنِ
عَهْداً) بذلك بأن سيعطيه مالا وولدا يوم القيامة (كَلَّا) لم يطلع على الغيب ولم يكن له عند الرحمن عهدا. وقوله
تعالى : (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) من الكذب والإفتراء ونحاسبه به ونضاعف له العذاب به العذاب
وهو معنى قوله تعالى : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ
الْعَذابِ مَدًّا) ، وقوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما
يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً) أي ونسلبه ما يقول من المال والولد حيث يموت ويترك ذلك أو
ينصر رسوله على قومه فيسلبهم المال والولد. ويأتينا في عرصات القيامة للحساب فردا
لا مال معه ولا ولد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الكشف عن
نفسيات الكافرين لا سيما إذا كانوا أقوياء بمال أو ولد أو سلطان فإنهم يعيشون على
الغطرسة منه والاستعلاء وتجاهل الفقراء واحتقارهم.
٢ ـ تقرير البعث
والحساب والجزاء.
٣ ـ مضاعفة العذاب
على الكافرين الظالمين لظلمهم بعد كفرهم.
٤ ـ تقرير معنى
آية : إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون.
(وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ
وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ
عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما
نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ
وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا
يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧))
__________________
شرح الكلمات :
(لِيَكُونُوا لَهُمْ
عِزًّا) : أي منعة لهم وقوة يشفعون لهم عند الله حتى لا يعذبوا.
(سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ) : أي يوم القيامة يجحدون أنهم كانوا يعبدونهم.
(ضِدًّا) : أي أعداء لهم وأعوانا عليهم.
(تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) : أي تزعجهم ازعاجا وتحركهم حراكا شديدا نحو الشهوات
والمعاصي.
(وَفْداً) : أي راكبين على النّجب تحوطهم الملائكة حتى ينتهوا إلى ربهم
فيكرمهم.
(إِلى جَهَنَّمَ
وِرْداً) : أي يساق المجرمون كما تساق البهائم مشاة عطاشا.
(عَهْداً) : هو شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا حول ولا
قوة إلا بالله.
معنى الآيات :
يخبر تعالى منددا
بالمشركين فيقول : (وَاتَّخَذُوا مِنْ
دُونِ اللهِ آلِهَةً) أي معبودات من الأصنام فعبدوها بأنواع من العبادات ، (لِيَكُونُوا لَهُمْ) ـ في نظرهم الفاسد
ـ (عِزًّا) أي شفعاء لهم عندنا يعزون بواسطتهم ولا يهانون ، (كَلَّا) أي ليس الأمر كما يظنون (سَيَكْفُرُونَ
بِعِبادَتِهِمْ) وذلك يوم القيامة حيث ينكرون أنهم أمروهم بعبادتهم ، (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) أي خصوما ، ومن ذلك قولهم . (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ
ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ). وقولهم. (بَلْ كانُوا
يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).
وقوله تعالى في
الآية الثانية (٨٣) (أَلَمْ تَرَ أَنَّا
أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا)
__________________
يقول تعالى لرسوله
ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أنا أرسلنا الشياطين أي شياطين الجن والإنس على
الكافرين بنا وبآياتنا ورسولنا ولقائنا تؤزهم أزا أي تحركهم بشدة نحو الشهوات
والجرائم والمفاسد ، وتزعجهم إلى ذلك بالإغراء إزعاجا كبيرا. أي فلا تعجب من حال
مسارعتهم إلى الشر والفساد ولا تعجل عليهم بمطالبتنا بهلاكهم إنما نعد لهم كل
أعمالهم ونحصيها عليهم حتى أنفاسهم ونحاسبهم على كل ذلك ونجزيهم به. هذا معنى قوله
تعالى : (فَلا تَعْجَلْ
عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا).
وقوله تعالى في
الآية (٨٥) (يَوْمَ نَحْشُرُ
الْمُتَّقِينَ) أي أذكر يا رسولنا يوم نحشر المتقين (إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً). والمتقون هم أهل الإيمان بالله وطاعته وتوحيده ومحبته
وخشيته وطاعة رسوله ومحبته وفدا أي راكبين على النجائب من النوق عليها رحال الذهب
إلى الرحمن إلى جوار الرحمن عزوجل في دار المتقين الجنة دار الأبرار والسّلام.
وقوله تعالى : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ
وِرْداً) : أي ونسوق المجرمين على أنفسهم بالشرك والمعاصي مشاة على
أرجلهم عطاشا يساقون سوق البهائم إلى جهنم وبئس الورد المورود جهنم.
وقوله تعالى (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ
اتَّخَذَ
عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) أخبر تعالى أن المشركين المجرمين على أنفسهم بالشرك
والمعاصي فدسوها لا يملكون الشفاعة يوم القيامة لا يشفع بعضهم في بعض كالمتقين ولا
يشفع لهم أحد أبدا لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا بالإيمان به وبطاعته بأداء الفرائض
وترك المحرمات يملك إن شاء الله الشفاعة بأن يشفعه الله في غيره إكراما له أو يشفع
فيه غيره إكراما للشافع أيضا وإنعاما على المشفوع له. كما أن أهل لا إله إلا الله
محمد رسول الله المتبرئين من حولهم وقوتهم إلى الله الراجين ربهم يملكون الشفاعة
إن دخلوا النار بذنوبهم فيخرجون منها بشفاعة من أراد الله أن يشفعه فيهم.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ براءة سائر
المعبودات من دون الله من عابديها يوم القيامة خزيا لهم وإحقاقا للعذاب عليهم.
٢ ـ لا عجب مما
يشاهد من مسارعة الكافرين إلى الشر والفساد والشهوات لوجود شياطين تحركهم بعنف إلى
ذلك وتدفعهم إليه.
٣ ـ لا ينبغي طلب
العذاب العاجل لأهل الظلم لأنهم كلما ازدادوا ظلما ازداد عذابهم شدة يوم القيامة
إذ كل شيء محصى عليهم حتى أنفاسهم محاسبون عليه ومجزيون به.
٤ ـ بيان كرامة
المتقين ، ومهانة المجرمين.
(وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ
دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ
وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ
عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥))
شرح الكلمات :
(وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً) : أي قال العرب الملائكة بنات الله وقال النصارى عيسى ابن
الله.
(جِئْتُمْ شَيْئاً
إِدًّا) : أي منكرا عظيما.
(يَتَفَطَّرْنَ) : يتشققن من عظم هذا القول وشدة قبحه.
(وَتَخِرُّ الْجِبالُ
هَدًّا) : أي تسقط وتتهدم وتنهدم.
(أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً) : أي من أجل إدعائهم أن للرحمن عزوجل ولدا.
ولا
ينبغي : أي لا يصلح ولا
يليق به ذلك لأنه رب كل شيء ومليكه.
(إِلَّا آتِي
الرَّحْمنِ عَبْداً) : أي خاضعا منقادا كائنا من كان.
(فَرْداً) : أي ليس معه شيء لا مال ولا سلطان ولا ناصر.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر مقولات أهل الشرك والجهل والرد عليها من قبل الحق تبارك وتعالى قال تعالى
مخبرا عنهم : (وَقالُوا) أي أولئك الكافرون (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ
وَلَداً) إذ قالت بعض القبائل العربية الملائكة بنات الله ، وقالت
اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله. يقول تعالى لهم بعد أن ذكر
قولهم (لَقَدْ جِئْتُمْ
شَيْئاً إِدًّا) أي أتيتم بشيء منكر عظيم ،
(تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) أي يتشققن منه لقبح هذا القول وسوئه ، (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) أي تسقط لعظم هذا القول لأنه مغضب للجبار عزوجل ولو لا حلمه ورحمته لمس الكون كله عذاب أليم. وقوله : (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) أي أن نسبوا للرحمن ولدا ، (وَما يَنْبَغِي
لِلرَّحْمنِ) أي لا يصلح له ولا يليق بجلاله وكماله الولد ، لأن الولد
نتيجة شهوة بهيمية عارمة تدفع الذكر إلى اتيان الأنثى فيكون بإذن الله الولد ،
والله عزوجل منزه عن مشابهته لمخلوقاته وكيف يشبههم وهو خالقهم وموجدهم
من العدم؟
وقوله تعالى (إِنْ كُلُ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) هذا برهان على بطلان قولة الكافرين الجاهلين ، إذ الذى ما
من أحد في السموات أو في الأرض من ملائكة
__________________
وإنس وجن إلا آتى
الرحمن عبدا خاضعا ذليلا منقادا يوم القيامة كيف يعقل اتخاذه ولدا ، إذ الولد يطلب للحاجة إليه ، والغنى عن كل خلقه ما هي
حاجته إلى عبد من عباده يقول هذا ولدي اللهم إنا نبرؤا إليك مما يقوله الجاهلون بك
الضالون عن طريق هدايتك.
وقوله تعالى : (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) أي علمهم واحدا واحدا فلو كان بينهم إله معه أو ولد له
لعلمه ، فهذا برهان آخر على بطلان تلك الدعوة الجاهلية الباطلة الفاسدة وقوله : (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَرْداً) هذا رد على أولئك الذين يدعون أنهم إن بعثوا يكون لهم
المال والولد والشفيع والنصير. فأخبر تعالى أنه ما من أحد إلا ويأتيه يوم القيامة
فردا ليس معه شافع ولا ناصر ، ولا مال ولا سلطان.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم الكذب على
الله بنسبة الولد أو الشريك إليه أو القول عليه بدون علم.
٢ ـ بيان أن كل
المخلوقات من أجلّها إلى أحقرها ليس فيها غير عبد لله فنسبة الانسان أو الجان أو
الملك إلى الله تعالى هي عبد لرب مالك قاهر عزيز حكيم.
٣ ـ بيان إحاطة
الله بخلقه ومعرفته لعددهم فلا يغيب عن علمه أحد منهم ، ولا يتخلف عن موقف القيامة
فرد منهم إذ الكل يأتي الله تعالى يوم القيامة فردا.
(إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨))
__________________
شرح الكلمات :
(وُدًّا) : أي حبا فيعيشون متحابين فيما بينهم ويحبهم ربهم تعالى.
(فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) : أي يسرنا القرآن أي قراءته وفهمه بلغتك العربية.
(قَوْماً لُدًّا) : أي ألداء شديدوا الخصومة والجدل بالباطل وهم كفار قريش.
(وَكَمْ أَهْلَكْنا) : أي كثيرا من أهل القرون من قبلهم أهلكناهم.
(هَلْ تُحِسُّ
مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) : أي هل تجد منهم أحدا.
(أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزاً) : أي صوتا خفيا والجواب لا لأن الاستفهام إنكاري.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أن
الذين آمنوا بالله وبرسوله وبوعد الله ووعيده فتخلوا عن الشرك والكفر وعملوا الصالحات
وهي أداء الفرائض وكثير من النوافل هؤلاء يخبر تعالى أنه سيجعل لهم في قلوب عباده
المؤمنين محبة وودا وقد فعل سبحانه وتعالى فأهل الإيمان والعمل الصالح
متحابون متوادون ، وهذا التوادد بينهم ثمرة لحب الله تعالى لهم. وقوله تعالى : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي هذا القرآن الذي كذب به المشركون سهلنا قراءته عليك إذ
أنزلناه بلسانك (لِتُبَشِّرَ بِهِ
الْمُتَّقِينَ) من عبادنا المؤمنين وهم الذين اتقوا عذاب الله بالايمان
وصالح الأعمال بعد ترك الشرك والمعاصي ، (وَتُنْذِرَ بِهِ
قَوْماً لُدًّا) وهم كفار قريش وكانوا ألداء أشداء في الجدل والخصومة ، وقوله
تعالى : (وَكَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ) أي وكثيرا من أهل القرون السابقة لقومك أهلكناهم لما كذبوا
رسلنا وحاربوا دعوتنا (هَلْ تُحِسُ مِنْهُمْ
مِنْ أَحَدٍ) فتراه بعينك أو تمسه بيدك ، (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ
رِكْزاً) أي صوتا خفيا اللهم لا فهلا يذكر هذا قومك
__________________
فيتعظوا فيتوبوا
إلى ربهم بالإيمان به وبرسوله ولقائه ويتركوا الشرك والمعاصي.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ أعظم بشرى
تحملها الآية الأولى وهي حب الله وأوليائه لمن آمن وعمل صالحا.
٢ ـ بيان كون
القرآن ميسرا أن نزل بلغة النبي صلىاللهعليهوسلم من أجل البشارة لأهل الإيمان والعمل الصالح والنذارة لأهل
الشرك والمعاصي.
٣ ـ إنذار العتاة
والطغاة من الناس أن يحل بهم ما حل بمن قبلهم من هلاك ودمار والواقع شاهد أين أهل
القرون الأولى؟
سورة طه
مكية
وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(طه (١) ما أَنْزَلْنا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً
مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما
تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ
وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))
شرح الكلمات :
(طه) : أي يا رجل.
(إِلَّا تَذْكِرَةً) : أي يتذكر بالقرآن من يخشى عقاب الله عزوجل.
(عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) : أي ارتفع عليه وعلا.
(وَما تَحْتَ الثَّرى) : الثرى التراب الندي يريد ما هو أسفل الأرضين السبع.
(وَأَخْفى) : أي من السر ، وهو ما علمه الله وقدر وجوده وهو كائن ولكن
لم يكن بعد.
(الْحُسْنى) : الحسنى مؤنث الأحسن المفضل على الحسن.
معنى الآيات :
قوله تعالى (طه) لفظ طه جائز أن يكون من الحروف المقطعة ، وجائز أن يكون
معناه يا رجل ورجح الأمر ابن جرير لوجوده في لغة العرب طه بمعنى يا رجل وعلى
هذا فمعنى الكلام يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ردا على النضر بن الحارث
الذي قال إن محمدا شقي بهذا القرآن الذي أنزل عليه لما فيه من التكاليف فنفى الحق عزوجل ذلك وقال (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ
الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى)
وإنما أنزلناه
ليكون تذكرة ذكرى يذكر بها من يخشى ربه فيقبل على طاعته متحملا في سبيل ذلك كل ما
قد يلاقي في طريقه من أذى قومه المشركين بالله الكافرين بكتابه والمكذبين لرسوله ،
وقوله : (تَنْزِيلاً مِمَّنْ
خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) أي هذا القرآن الذي ما أنزلناه لتشقى به ولكن تذكرة لمن
يخشى نزّل تنزيلا من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي استوى على عرشه استواء
يليق به يدبر أمر مخلوقاته ، الذي (لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي
__________________
الْأَرْضِ
وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) من الأرضين السبع. وقوله (وَإِنْ تَجْهَرْ
بِالْقَوْلِ) أيها الرسول أو تسر (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفى) من السر ، وهو ما قدره الله وهو واقع في وقته المحدد له
فعلمه تعالى ولم يعلمه الإنسان بعد. وقوله : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ) أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق سواه (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) التي لا تكون إلا له ، ولا تكون لغيره من مخلوقاته. وهكذا
عرّف تعالى عباده به ليعرفوه فيخافونه ويحبونه فيؤمنون به ويطيعونه فيكملون على
ذلك ويسعدون فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال نظرية
أن التكاليف الشرعية شاقة ومرهقة للعبد.
٢ ـ تقرير عقيدة
الوحي وإثبات النبوة المحمدية.
٣ ـ تقرير الصفات
الإلهية كالاستواء ووجوب الإيمان بها بدون تأويل أو تعطيل أو تشبيه بل اثباتها على
الوجه الذي يليق بصاحبها عزوجل.
٤ ـ تقرير ربوبية
الله لكل شيء.
٥ ـ تقرير التوحيد
وإثبات أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.
(وَهَلْ أَتاكَ
حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ
ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠)
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما
يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا
__________________
فَاعْبُدْنِي
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها
لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا
يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))
شرح الكلمات :
(هَلْ أَتاكَ) : قد أتاك فالاستفهام للتحقيق.
(حَدِيثُ مُوسى) : أي خبره وموسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل
(إِذْ رَأى ناراً) : أي حين رؤيته نارا.
(لِأَهْلِهِ) : زوجته بنت شعيب ومن معها من خادم أو ولد.
(آنَسْتُ ناراً) : أي ابصرتها من بعد.
(بِقَبَسٍ) : القبس عود في رأسه نار.
(عَلَى النَّارِ هُدىً) : أي ما يهديني الطريق وقد ضل الطريق إلى مصر.
(فَلَمَّا أَتاها) : أي النار وكانت في شجرة من العوسج ونحوه تتلألؤ نورا لا
نارا.
(نُودِيَ يا مُوسى) : أي ناداه ربه قائلا له يا موسى ....!
(الْمُقَدَّسِ طُوىً) : طوى اسم للوادي المقدس المطهر.
(اخْتَرْتُكَ) : من قومك لحمل رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل.
(فَاسْتَمِعْ لِما
يُوحى) : أي إليك وهو قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا).
(لِذِكْرِي) : أي لأجل أن تذكرني فيها.
(أَكادُ أُخْفِيها) : أي أبالغ في اخفائها حتى لا يعلم وقت مجيئها أحد.
__________________
(بِما تَسْعى) : أي سعيها في الخير أو في الشر.
(فَتَرْدى) : أي تهلك.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير التوحيد ففي نهاية الآية السابقة (٨) كان قوله تعالى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تقريرا للتوحيد وإثباتا له وفي هذه الآية (٩) يقرره تعالى
عن طريق الإخبار عن موسى ، وأن أول ما أوحاه إليه من كلامه كان إخباره بأنه لا إله
إلا هو أي لا معبود غيره وأمره بعبادته. فقال تعالى : (وَهَلْ أَتاكَ) أي يا نبينا (حَدِيثُ مُوسى إِذْ
رَأى ناراً ،) وكان في ليلة مظلمة شاتية وزنده الذي معه لم يقدح له نارا (فَقالَ لِأَهْلِهِ) أي زوجته ومن معها وقد ضلوا طريقهم لظلمة الليل ، (امْكُثُوا) أي ابقوا هنا فقد آنست نارا أي أبصرتها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) فنوقد به نارا تصطلون بها أي تستدفئون بها ، (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) أي أجد حولها ما يهدينا طريقنا الذي ضللناه.
وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَتاها) أي أتى النار ووصل إليها وكانت شجرة تتلألؤ نورا (نُودِيَ يا مُوسى) أي ناداه ربه تعالى قائلا يا موسى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) أي خالقك ورازقك ومدبر أمرك (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ
إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) وذلك من أجل أن يتبرك بملامسة الوادي المقدس بقدميه. وقوله
تعالى (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي لحمل رسالتي إلى من أرسلك إليهم. (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) أي إليك وهو : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) أي أنا الله المعبود بحق ولا معبود بحق غيري وعليه فاعبدني
وحدي ، (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي) ، أي لأجل أن تذكرني فيها وبسببها. فلذا من لم يصل لم يذكر
الله تعالى وكان بذلك كافرا لربه تعالى. وقوله (إِنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ) أي ان الساعة التي يقوم فيها الناس أحياء من قبورهم للحساب
والجزاء
__________________
آتية لا محالة. من
أجل مجازاة العباذ على أعمالهم وسعيهم طوال أعمارهم من خير وشر ، وقوله : (أَكادُ أُخْفِيها) أي أبالغ في إخفائها حتى أكاد أخفيها عن نفسي. وذلك لحكمة
أن يعمل الناس ما يعملون وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يبعثون فتكون أعمالهم
بإراداتهم لا إكراه عليهم فيها فيكون الجزاء على أعمالهم عادلا ، وقوله : (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا
يُؤْمِنُ بِها فَتَرْدى) ينهى تعالى موسى أن يقبل صدّ صاد من المنكرين للبعث متّبعي
الهوى عن الإيمان بالبعث والجزاء والتزود بالأعمال الصالحة لذلك اليوم العظيم الذي
تجزى فيه كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون ، فإن من لا يؤمن بها ولا يتزود لها يردى
أي يهلك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير النبوة
لمحمد صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ تقرير التوحيد
وإثباته ، وأن الدعوة إلى لا إله إلا الله دعوة كافة الرسل.
٣ ـ إثبات صفة
الكلام لله تعالى.
٤ ـ مشروعية
التبرك بما جعله الله تعالى مباركا ، والتبرك التماس البركة حسب بيان الرسول
وتعليمه.
٥ ـ وجوب إقام
الصلاة وبيان علة ذلك وهو ذكر الله تعالى.
٦ ـ بيان الحكمة
في إخفاء الساعة مع وجوب اتيانها وحتميته.
(وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها
عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩)
فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ
غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ
مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤))
شرح الكلمات :
(وَما تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يا مُوسى) : الاستفهام للتقرير ليرتب عليه المعجزة وهي انقلابها حية.
(أَتَوَكَّؤُا
عَلَيْها) : أي أعتمد عليها.
(وَأَهُشُّ بِها عَلى
غَنَمِي) : أخبط بها ورق الشجر فيتساقط فتأكله الغنم.
(وَلِيَ فِيها مَآرِبُ
أُخْرى) : أي حاجات أخرى كحمل الزاد بتعليقه فيها ثم حمله على
عاتقه ، وقتل الهوام.
(حَيَّةٌ تَسْعى) : أي ثعبان عظيم ، تمشي على بطنها بسرعة كالثعبان الصغير
المسمى بالجان.
(سِيرَتَهَا الْأُولى) : أي إلى حالتها الأولى قبل أن تنقلب حيّة.
(إِلى جَناحِكَ) : أي إلى جنبك الأيسر تحت العضد إلى الإبط.
(بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ
سُوءٍ) : أي من غير برص تضيء كشعاع الشمس.
(اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ) : أي رسولا إليه.
(إِنَّهُ طَغى) : تجاوز الحد في الكفر حتى ادعى الألوهية.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم مع موسى وربه تعالى إذ سأله الرب تعالى وهو أعلم به وبما عنده قائلا : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ؟) يسأله ليقرر بأن ما بيده عصا من خشب يابسة ، فإذا تحولت
إلى حية تسعى علم أنها آية له أعطاه إياها ربه ذو القدرة الباهرة ليرسله إلى فرعون
وملائه. وأجاب موسى ربه قائلا : (هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا
عَلَيْها وَأَهُشُ بِها
عَلى غَنَمِي) يريد يخبّط بها الشجر اليابس فيتساقط الورق فتأكله الغنم (وَلِيَ فِيها مَآرِبُ) أي حاجات
__________________
(أُخْرى) كحمل الزاد والماء يعلقه بها ويضعه على عاتقه كعادة الرعاة
وقد يقتل بها الهوام الضارة كالعقرب والحية. فقال له ربه عزوجل (أَلْقِها يا مُوسى
فَأَلْقاها) من يده (فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ
تَسْعى) أي ثعبان عظيم تمشي على بطنها كالثعبان الصغير المسمى
بالجان فخاف موسى منها وولى هاربا فقال له الرب تعالى : (خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها
سِيرَتَهَا الْأُولى) أي نعيدها عصا كما كانت قبل تحولها إلى حية وفعلا أخذها
فإذا هي عصاه التي كانت بيمينه. ثم أمره تعالى بقوله : (وَاضْمُمْ يَدَكَ) أي اليمنى (إِلى جَناحِكَ) الأيسر (تَخْرُجْ بَيْضاءَ
مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي برص وفعل فضم يده تحت عضده إلى ابطه ثم استخرجها فإذا
هي تتلألؤ كأنها فلقة قمر ، أو كأنها الثلج بياضا أو أشد ، وقوله تعالى (آيَةً أُخْرى) أي آية لك دالة على رسالتك أخرى إذ الأولى هي انقلاب العصا
إلى حية تسعى كأنها جان. وقوله تعالى : (لِنُرِيَكَ مِنْ
آياتِنَا الْكُبْرى) ، أي حولنا لك العصا حية وجعلنا يدك تخرج بيضاء من أجل أن
نريك من دلائل قدرتنا وعظيم سلطاننا. وقوله تعالى : (اذْهَبْ إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) لما اراه من عجائب قدرته أمره أن يذهب إلى فرعون رسولا
إليه يأمره بعبادة الله وحده وأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرج بهم إلى أرض المعاد
بالشام وقوله (إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز قدره ، وتعدى حده كبشر إذ أصبح يدعي الربوبية
والألوهية إذ فقال : (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى) وقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) ، فأي طغيان أكبر من هذا الطغيان.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة
الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم إذ مثل هذه الأخبار لا تصح إلا ممن يوحى إليه.
٢ ـ استحباب تناول
الأشياء غير المستقذرة باليمين.
٣ ـ مشروعية حمل
العصا.
__________________
٤ ـ سنة رعي الغنم
للأنبياء.
٥ ـ مشروعية
التدريب على السلاح قبل استعماله في المعارك.
٦ ـ آية موسى في
انقلاب العصا حية وخروج اليد بيضاء كأنها الثلج أو شعاع شمس.
٧ ـ بيان الطغيان
: وهو ادعاء العبد ما ليس له كالألوهية ونحوها.
(قالَ رَبِّ اشْرَحْ
لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي
(٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ
أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ
نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا
بَصِيراً (٣٥))
شرح الكلمات :
(اشْرَحْ لِي صَدْرِي) : أي وسعه لي لأتحمل الرسالة.
(وَيَسِّرْ لِي
أَمْرِي) : أي سهله حتى أقوى على القيام به
(وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي) : أي حبسة حتى أفهم من أخاطب.
(اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) : أي قوي به ظهري.
(وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي) : أي اجعله نبيا كما نبأتني
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في حديث موسى عليهالسلام مع ربه سبحانه وتعالى إنه بعد أن أمر الله تعالى موسى
بالذهاب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وارسال بني إسرائيل مع موسى ليذهب
به إلى أرض القدس قال موسى عليهالسلام لربه تعالى (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) لأتحمل أعباء الرسالة (وَيَسِّرْ لِي
أَمْرِي) أي سهل مهمتي عليّ وارزقني العون
__________________
عليها فإنها صعبة
شاقة. (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي) تلك العقدة التي نشأت بسبب الجمرة التي ألقاها في فمه
بتدبير الله عزوجل حيث عزم فرعون على قتله لما وضعه في حجره يلاعبه فأخذ موسى
بلحية فرعون ونتفها فغضب فقالت له آسية إنه لا يعقل لصغر سنه وقالت له تختبره بوضع
جواهر في طبق وجمر في طست وتقدمهما له فإن أخذ الجواهر فهو عاقل ودونك افعل به ما
شئت ، وإن أخذ الجمر فهو غير عاقل فلا تحفل به ولا تغتم لفعله ، وقدم لموسى الطبق
والطست فمد يده إلى الطست بتدبير الله فأخذ جمرة فكانت سبب هذه العقدة فسأل موسى
ربه أن يحلها من لسانه ليفصح إذا خاطب فرعون ويبين فيفهم قوله ، وبذلك يؤدي
رسالته. هذا معنى قوله : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً
مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) .
وقوله تعالى فيما
أخبر عن موسى (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً
مِنْ أَهْلِي
هارُونَ أَخِي) أي طلب من الله تعالى أن يجعل له من أخيه هارون معينا على
تبليغ الرسالة وتحمل أعبائها. وقوله : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) أي قوّ به ظهري. وقوله : (وَأَشْرِكْهُ فِي
أَمْرِي) وذلك بتنبئته وإرساله ليكون هارون نبيا رسولا. وعلل موسى
عليه الصلاة والسّلام لطلبه هذا بقوله : (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) ، وقوله (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا
بَصِيراً) أي أنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك شىء من أمرنا وهذا من
موسى توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه وما طلبه من ربه توسل إليه بعلمه تعالى به
وبأخيه وبحالهما.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب اللجأ
إلى الله تعالى في كل ما يهم العبد.
٢ ـ مشروعية الأخذ
بالأهبة والاستعداد لما يعتزم العبد القيام به.
٣ ـ فضيلة التسبيح
والذكر ، والتوسل بأسماء الله وصفاته.
__________________
(قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ
أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ
فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ
لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ
يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ
وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ
سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١))
شرح الكلمات :
(قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ) : أي مسؤولك من انشراح صدرك وتيسير أمرك وانحلال عقدة
لسانك ، وتنبئة أخيك.
(وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) : أي انعمنا عليك مرة أخرى قبل هذه.
(ما يُوحى) : أي في شأنك وهو قوله : أن اقذفيه الخ.
(فِي التَّابُوتِ) : أي الصندوق.
(فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِ) : أي في نهر النيل.
(وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) : تربى بمرأى مني ومحبة وإرادة.
(عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) : ليكمل له رضاعه
(وَقَتَلْتَ نَفْساً) : هو القبطي الذي قتلته بمصر وهو في بيت فرعون.
(فَنَجَّيْناكَ مِنَ
الْغَمِ) : إذ استغفرتنا فغفرنا لك وأئتمروا بك ليقتلوك فنجيناك
منهم.
(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) : أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء عظيما.
__________________
(جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) : أي جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون.
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) : أي أنعمت عليك بتلك النعم اجتباء منا لك لتحمل رسالتنا.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
حديث موسى مع ربه تعالى فقد تقدم أن موسى عليهالسلام سأل ربه أمورا لتكون عونا له على حمل رسالته فأجابه تعالى
بقوله : في هذه الآية (٣٦) (قالَ قَدْ أُوتِيتَ
سُؤْلَكَ يا مُوسى) أي قد أعطيت ما طلبت ، (وَلَقَدْ مَنَنَّا
عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) أي قبل هذه الطلبات وهي أنه لما أمر فرعون بذبح أبناء بني
إسرائيل (إِذْ أَوْحَيْنا إِلى
أُمِّكَ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) أي في الصندوق (فَاقْذِفِيهِ فِي
الْيَمِ) أي نهر النيل (فَلْيُلْقِهِ
الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ
لَهُ) فهذه النجاة نعمة ، ونعمة أخرى تضمنها قوله تعالى : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) أي أضفيت عليك محبتي فأصبح من يراك يحبك ، ونعمة أخرى وهي
: من أجل أن تربّى وتغذى على مرأى مني وإرادة لي أرجعتك بتدبيري إلى أمك لترضعك
وتقر عينها ولا تحزن على فراقك ، وهو ما تضمنه قوله تعالى : (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ) فتقول : (هَلْ أَدُلُّكُمْ
عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) لكم أي لا رضاعه وتربيته. (فَرَجَعْناكَ إِلى
أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) ، ونعمة أخرى وهي أعظم إنجاؤنا لك من الغم الكبير بعد قتلك
النفس وائتمار آل فرعون على قتلك (فَنَجَّيْناكَ مِنَ
الْغَمِ) من القتل وغفرنا لك خطيئة القتل. وقوله تعالى : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي ابتليناك ابتلاء عظيما وها هي ذي خلاصته في الأرقام
التالية :
١ ـ حمل امك بك في
السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل.
٢ ـ إلقاء أمك بك
في اليم.
٣ ـ تحريم المراضع
عليك حتى رجعت إلى أمك.
٤ ـ أخذك بلحية
فرعون وهمه بقتلك.
__________________
٥ ـ قتلك القبطي
وائتمار آل فرعون بقتلك.
٦ ـ إقامتك في
مدين وما عانيت من آلام الغربة.
٧ ـ ضلالك الطريق
بأهلك وما أصابك من الخوف والتعب.
هذه بعض ما يدخل
تحت قوله تعالى : وفتناك فتونا وقوله (فَلَبِثْتَ سِنِينَ
فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) ترعى غنم شعيب عشرا من السنين (ثُمَّ جِئْتَ) من مدين إلى طور سينا (عَلى قَدَرٍ) منا مقدر ووعد محدد ما كنت تعلمه حتى لاقيته.
واصطنعتك لنفسي أي
خلقتك وربيتك وابتليتك واتيت بك على موعد قدّرته لك لأحمّلك عبء الرسالة إلى فرعون
وبني إسرائيل :
إلى فرعون لتدعوه
إلى عبادتنا وإرسال بني إسرائيل معك إلى أرض المعاد. وإلى بني إسرائيل لهدايتهم
وإصلاحهم وإعدادهم للإسعاد والإكمال في الدارين إن هم آمنوا واستقاموا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مظاهر لطف
الله تعالى وحسن تدبيره في خلقه.
٢ ـ مظاهر اكرام
الله تعالى ولطفه بعبده ورسوله موسى عليهالسلام.
٣ ـ آية حب الله
تعالى لموسى ، وأثر ذلك في حب الناس له.
٤ ـ تقرير نبوة
محمد صلىاللهعليهوسلم بإخباره في كتابه بمثل هذه الأحداث في قصص موسى عليهالسلام.
(اذْهَبْ أَنْتَ
وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ
طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤)
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ
لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا
رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ
__________________
وَلا
تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ
الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى (٤٨))
شرح الكلمات :
(بِآياتِي) : أي بالمعجزات التي آتيتك كالعصا واليد وغيرها.
(وَلا تَنِيا فِي
ذِكْرِي) : أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري فإنه سر الحياة وعونكما
على أداء رسالتكما.
(إِنَّهُ طَغى) : تجاوز قدره بادعائه الألوهية والربوبية.
(قَوْلاً لَيِّناً) : أي خاليا من الغلظة والعنف.
(لَعَلَّهُ
يَتَذَكَّرُ) : أي فيما تقولان فيهتدي إلى معرفتنا فيخشانا فيؤمن ويسلم
ويرسل معكما بني إسرائيل.
(يَفْرُطَ عَلَيْنا) : أي يعجل بعقوبتنا قبل أن ندعوه ونبين له.
(أَوْ أَنْ يَطْغى) : أي يزداد طغيانا وظلما.
(أَسْمَعُ وَأَرى) : أي اسمع ما تقولانه وما يقال لكما ، وأرى ما تعملان وما
يعمل لكما.
(فَأَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) : أي لنذهب بهم إلى أرض المعاد أرض أبيهم ابراهيم.
(بِآيَةٍ) : أي معجزة تدل على صدقنا في دعوتنا وأنا رسولا ربك حقا
وصدقا.
(وَالسَّلامُ عَلى
مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) : أي النجاة من العذاب في الدارين لمن آمن واتقى ، إذ
الهدى إيمان وتقوى.
(مَنْ كَذَّبَ
وَتَوَلَّى) : أي كذب بالحق ودعوته وأعرض عنهما فلم يقبلهما.
معنى الكلمات :
ما زال السياق
الكريم في الحديث عن موسى مع ربه تبارك وتعالى فقد أخبره تعالى في
الآية السابقة أنه
صنعه لنفسه ، فأمره في هذه الآية بالذهاب مع أخيه هارون مزودين بآيات الله وهي
حججه التي أعطاهما من العصا واليد البيضاء ، ونهاهما عن التواني في ذكر الله بأن
يضعفا في ذكر وعده ووعيده فيقصرا في الدعوة إليه تعالى فقال : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا
تَنِيا فِي ذِكْرِي)
وبين لهما إلى من
يذهبا وعلة ذلك فقال : (اذْهَبا إِلى
فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي تجاوز قدره وتعدى حده من إنسان يعبد الله إلى إنسان
كفار ادعى أنه رب وإله ، وعلمهما اسلوب الدعوة فقال لهما : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أي خاليا من الغلظة والجفا وسوء الإلقاء وعلل لذلك فقال (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) أي رجاء أن يتذكر معاني كلامكما وما تدعوانه إليه فيراجع
نفسه فيؤمن ويهتدي أو يخشى العذاب ان بقى على كفره وظلمه فيسلم لكما بني إسرائيل
ويرسلهم معكما ، فأبدى موسى وأخوه هارون تخوفا فقال ما أخبر تعالى به عنهما في
قوله : (قالا رَبَّنا إِنَّنا
نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يعجل بعقوبتنا بالضرب أو القتل ، (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي يزداد طغيانا وظلما. فطمأنهما ربهما عزوجل بأنه معهما بنصره وتأييده وهدايته إلى كل ما فيه عزهما
فقال لهما : (لا تَخافا) أي من فرعون وملائه : (إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) اسمع ما تقولان لفرعون وما يقول لكما. وأرى ما تعملان من
عمل وما يعمل فرعون وإني أنصركما عليه فأحق عملكما وأبطل عمله. فاتياه إذا ولا
تترددا فقولا أي لفرعون (إِنَّا رَسُولا
رَبِّكَ) أي إليك (فَأَرْسِلْ مَعَنا
بَنِي إِسْرائِيلَ) لنخرج بهما حيث أمر الله ، (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) بقتل رجالهم واستحياء نسائهم واستعمالهم في أسوء الأعمال
وأحطها ، (قَدْ جِئْناكَ
بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) أي بحجة من ربك دالة على أنا رسولا ربك إليك وأنه يأمرك
بالعدل والتوحيد
__________________
وينهاك عن الظلم
والكفر ومنع بني إسرائيل من الخروج إلى أرض المعاد معنا. (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) أي واعلم يا فرعون أن الأمان والسلامة يحصلان لمن اتبع
الهدى الذي جئناك به ، فاتبع الهدى تسلم ، وإلا فأنت عرضة للمخاوف والهلاك والدمار وذلك لأنه (قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا) أي أوحى إلينا ربنا ، (أَنَّ الْعَذابَ عَلى
مَنْ كَذَّبَ) بالحق الذي جئناك به (وَتَوَلَّى) عنه فأعرض عنه ولم يقبله كبرياء وعنادا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم شأن الذكر
بالقلب واللسان والجوارح أي بالطاعة فعلا وتركا.
٢ ـ وجوب مراعاة
الحكمة في دعوة الناس إلى ربهم.
٣ ـ تقرير معية
الله تعالى مع أوليائه وصالحى عباده بنصرهم وتأييدهم.
٤ ـ تقرير أن
السلامة من عذاب الدنيا والآخرة هي من نصيب متبعي الهدى.
٥ ـ شرعية إتيان
الظالم وأمره ونهيه والصبر على اذاه.
٦ ـ عدم المؤاخذة
على الخوف حيث وجدت اسبابه.
(قالَ فَمَنْ
رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ
هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي
فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا
أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ
وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥))
__________________
شرح الكلمات :
(أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ) : أي خلقه الذي هو عليه متميز به عن غيره.
(ثُمَّ هَدى) : أي الحيوان منه إلى طلب مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه.
(قالَ فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى) : أي قال فرعون لموسى ليصرفه عن ادلائه بالحجج حتى لا
يفتضح فما بال القرون الأولى كقوم نوح وعاد وثمود في عبادتهم الأوثان؟
(قالَ عِلْمُها عِنْدَ
رَبِّي) : أي علم أعمالهم وجزائهم عليها عند ربي دعنا من هذا فإنه
لا يعنينا
(فِي كِتابٍ لا
يَضِلُّ رَبِّي) : أي أعمال تلك الأمم في كتاب محفوظ عند ربي وسيجزيهم
(وَلا يَنْسى) : بأعمالهم إن ربي لا يخطىء ولا ينسى فإن عذب أو أخر لعذاب
فإن ذلك لحكمة اقتضت منه ذلك.
(مَهْداً وَسَلَكَ
لَكُمْ فِيها سُبُلاً) : مهادا ، فراشا وسلك : سهل ، وسبلا طرقا.
(أَزْواجاً مِنْ
نَباتٍ شَتَّى) : أزواجا : أصنافا : شتى : مختلفة الألوان والطعوم.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) : لدلائل واضحات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.
(لِأُولِي النُّهى) : أي أصحاب العقول لأن النهية العقل وسمى نهية لأنه ينهى
صاحبه عن ارتكاب القبائح كالشرك والمعاصي.
(مِنْها خَلَقْناكُمْ) : أي من الأرض وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم عند
البعث يوم القيامة.
(تارَةً أُخْرى) : أي مرة أخرى إذ الأولى كانت خلقا من طين الأرض وهذه
اخراجا من الأرض.
معنى الآيات :
السياق الكريم في
الحوار الذي دار بين موسى عليهالسلام وفرعون إذ وصل موسى وأخوه إلى فرعون ودعواه إلى الله تعالى
ليؤمن به ويعبده وبأسلوب هادىء لين كما أمرهما الله تعالى : فقالا له : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ
كَذَّبَ
وَتَوَلَّى)؟ ولم يقولا له لا سلام عليك ، ولا أنت مكذب ومعذب ، وهنا
قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله : (قالَ فَمَنْ
رَبُّكُما يا مُوسى؟) أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في
بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة
وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب ، وطلب بقائها بما
سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع
حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفا موسى عن المقصود خشية الفضيحة
من الهزيمة أمام ملائه قال : (فَما بالُ
الْقُرُونِ الْأُولى) أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان.
وعرف موسى أن
اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) (، لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسى) فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند
ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها ، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما
لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطىء ولا ينسى وسيجزى كلا بكسبه. ثم أخذ موسى يصف ربه
ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي فراشا مبسوطة للحياة عليها (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي سهل لكم للسير عليا طرقا تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم
فوقها ، (وَأَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو
ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا بِهِ
أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) أي بالمطر ازواجا أي أصنافا من نبات شتى أي مختلفة الألوان
والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله
__________________
تعالى تتميما
لكلام موسى وتذكيرا لأهل مكة المتجاهلين لله وحقه في التوحيد. وقوله : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أي مما ذكرنا لكم من أزواج النبات وارعوا إبلكم واغنامكم
وسائر بهائمكم واشكروا لنا هذا الإنعام بعبادتنا وترك عبادة غيرنا. وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي
النُّهى) أي إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإنبات النبات لتغذية
الإنسان والحيوان لدلالات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وانه بذلك مستحق
للعبادة دون سواه إلا أن هذه الدلائل لا يعقلها إلا اصحاب العقول وذوو النهى فهم
الذي يستدلون بها علم معرفة الله ووجوب عبادته وترك عبادة غيره. وقوله تعالى : (مِنْها) أي من الأرض التي فيها حياة النبات والحيوان خلقناكم أي
بخلق أصلكم الأول وهو آدم ، وفيها نعيدكم بالموت فتقبرون فيها ، (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ
تارَةً أُخْرى) أي مرة أخرى وذلك يوم القيامة إذ نبعثكم من قبوركم أحياء
للحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب المهين بحسب صفات نفوسكم فذو النفس
الطاهرة ينعم وذو النفس الخبيثة من الشرك والمعاصي يعذب.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تعين إجابة
السائل ولتكن بالعلم الصحيح النافع.
٢ ـ تقرير مبدأ من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
٣ ـ تنزه الرب
تعالى عن الخطأ والنسيان.
٤ ـ الاستدلال
بالآيات الكونية على الخالق عزوجل وقدرته وألوهيته.
٥ ـ احترام العقول
وتقديرها لأنها تعقل صاحبها دون الباطل والشر.
٦ ـ تسمية العقل
نهية لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.
__________________
(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ
آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا
بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا
وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠))
شرح الكلمات :
(أَرَيْناهُ آياتِنا
كُلَّها) : أي أبصرناه حججنا وأدلتنا على حقيقة ما أرسلنا به
رسولينا موسى وهارون إليه كلها فرفضها وأبى أن يصدق بأنهما رسولين إليه من رب
العالمين.
(مِنْ أَرْضِنا) : أي أرض مصر التي فرعون ملك عليها.
(بِسِحْرِكَ يا مُوسى) : يشير إلى العصا واليد البيضاء.
(مَكاناً سُوىً) : أي مكان عدل بيننا وبينك ونصف ، صالحا للمباراة بحيث
يكون ساحة كبرى مكشوفة مستوية يرى ما فيها كل ناظر إليها.
(يَوْمُ الزِّينَةِ) : أي يوم عيد يتزينون فيه ويقعدون عن العمل.
(وَأَنْ يُحْشَرَ
النَّاسُ ضُحًى) : أي وأن يؤتى بالناس من كل انحاء البلاد للنظر في
المباراة.
(فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ) : أي انصرف من مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون في
كبرياء وإعراض.
(فَجَمَعَ كَيْدَهُ) : أي ذوى كيده وقوته من السحرة.
معنى الآيات :
ما زال السياق الكريم
في الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملائه من جهة
أخرى فقال تعالى :
(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ) أي أرينا فرعون (آياتِنا كُلَّها) أي أدلتنا وحججنا على أن موسى وهارون رسولان من قبلنا أرسلناهما إليه ، فكذب
برسالتهما وأبى الاعتراف بهما ، وقال ما أخبر تعالى به عنه : (قالَ أَجِئْتَنا) أي يا موسى (لِتُخْرِجَنا مِنْ
أَرْضِنا) أي منازلنا وديارنا ومملكتنا (بِسِحْرِكَ) الذي انقلبت به عصاك حية تسعى ، (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ،
فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً) نتقابل فيه ، (لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ
وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) عدلا بيننا وبينك يكون من الاعتدال والاتساع بحيث كل من
ينظر إليه يرى ما يجرى فيه من المباراة بيننا وبينك. فأجاب موسى بما أخبر تعالى به
عنه فقال : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ) وهو يوم عيد للأقباط يتجملون فيه ويقعدون عن العمل ، (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أي في يوم يجمع فيه الناس ضحى للتفرج في المباراة من كل
أنحاء المملكة وهنا (فَتَوَلَّى
فِرْعَوْنُ) بمعنى انصرف من مجلس المحاورة وكله كبر وعناد فجمع قواته
من السحرة لإنفاذ كيده في موسى وهارون. وفي الآيات التالية تظهر الحقيقة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان كبر
فرعون وصلفه وطغيانه.
٢ ـ للسحر آثار
وله مدارس يتعلم فيها ورجال يحذقونه ويعلمونه.
٣ ـ مشروعية
المبارزة والمباراة لإظهار الحق وإبطال الباطل.
٤ ـ مشروعية
اختيار المكان والزمان اللائق للقتال والمباراة ونحوهما.
(قالَ لَهُمْ مُوسى
وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ
__________________
وَقَدْ
خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى
(٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ
بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا
مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ
بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ
سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦))
شرح الكلمات :
(وَيْلَكُمْ) : دعاء عليهم معناه : ألزمكم الله الويل وهو الهلاك.
(فَيُسْحِتَكُمْ
بِعَذابٍ) : أي يهلككم بعذاب من عنده.
(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ) : أي في شأن موسى وهارون أي هل هما رسولان أو ساحران.
(وَأَسَرُّوا
النَّجْوى) : وهي قولهم : ان هذان لساحران يريدان الخ ...
(بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلى) : أي ويغلبا على طريقة قومكم وهما أشرافهم وساداتهم.
(فَأَجْمِعُوا
كَيْدَكُمْ) : أي أحكموا أمر كيدكم حتى لا تختلفوا فيه.
قد
أفلح من استعلى : أي قد فاز من غلب.
(إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ) : أي عصاك.
فخيل
إليه أنها تسعى : أي فخيل إلى موسى أنها حية تسعى ، لأنهم طلوها بالزئبق فلما ضربت الشمس عليها
اضطربت واهتزت فخيل إلى موسى أنها تتحرك.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحوار الدائر بين موسى عليهالسلام والسحرة الذين جمعهم فرعون
للمباراة فأخبر
تعالى عن موسى أنه قال لهم مخوفا إياهم علهم يتوبون : (وَيْلَكُمْ لا
تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) أي لا تتقولوا على الله فتنسبوا إليه ما هو كذب (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) أي يهلككم بعذاب إبادة واستئصال ، (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) أي خسر من كذب على الله أو على الناس. ولما سمعوا كلام
موسى هذا اختلفوا فيما بينهم هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو كلام رسول من في
السماء؟ وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله :
(فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ) وقوله (وَأَسَرُّوا
النَّجْوى) أي أخفوا ما تناجوا به بينهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله
: (إِنْ هذانِ
لَساحِرانِ) أي موسى وهارون (يُرِيدانِ أَنْ
يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ) أي دياركم المصرية ، (وَيَذْهَبا
بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) أي باشرافكم وساداتكم من بني إسرائيل وغيرهم فيتابعوهما
على ما جاءا به ويدينون بدينهما ، وعليه فأجمعوا أمركم حتى لا تختلفوا فيما بينكم
، (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) واحدا متراصا ، (وَقَدْ أَفْلَحَ
الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) أي غلب ، وهذا بعد أن اتفقوا على أسلوب المباراة قالوا
بأمر فرعون : (يا مُوسى إِمَّا أَنْ
تُلْقِيَ) عصاك ، وإما أن نلقي نحن فنكون أول من ألقى. فقال لهم موسى
: (بَلْ أَلْقُوا) ، فالقوا عندئذ (فَإِذا حِبالُهُمْ
وَعِصِيُّهُمْ) وكانت ألوفا فغطت الساحة وهي تتحرك وتضطرب لأنها مطلية
بالزئبق فلما سخنت بحر الشمس صارت تتحرك وتضطرب الأمر الذي خيل فيه لموسى أنها
تسعى (باقي الحديث في الآيات بعد).
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة الكذب
على الله تعالى ، وإنه ذنب عظيم يسبب دمار الكاذب وخسرانه.
٢ ـ من مكر
الانسان وخداعه أن يحول القضية الدينية البحتة إلى سياسة خوفا من
التأثير على النفوس فتؤمن وتهتدي إلى الحق.
٣ ـ معية الله
تعالى لموسى وهارون تجلت في تصرفات موسى إذ الإذن لهم بالإلقاء أولا من الحكمة
وذلك أن الذي يبقى في نفوس المتفرجين والنظارة هو المشهد الأخير والكلمة الأخيرة
التي تقال. لا سيما في موقف كهذا.
(فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨)
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ
وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ
آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١))
شرح الكلمات :
(فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً) : أي أحس بالخوف في نفسه.
(أَنْتَ الْأَعْلى) : أي الغالب المنتصر.
(تَلْقَفْ) : أي تبتلع بسرعة ما صنع السحرة من تلك الحبال والعصي
(كَيْدُ ساحِرٍ) : أي كيد سحر لا بقاء له ولا ثبات.
__________________
(لا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ) : أي لا يفوز بمطلوبه حيثما كان.
(فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ سُجَّداً) : أي ألقوا بأنفسهم ورؤوسهم على الأرض ساجدين.
(إِنَّهُ
لَكَبِيرُكُمُ) : أي لمعلمكم الذي علمكم السحر.
(مِنْ خِلافٍ) : أي يد يمنى مع رجل يسرى.
(فِي جُذُوعِ
النَّخْلِ) : أي على أخشاب النخل.
(أَيُّنا أَشَدُّ
عَذاباً وَأَبْقى) : يعني نفسه ـ لعنه الله ـ ورب موسى اشد عذابا وأدومه على
مخالفته وعصيانه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحديث عن المباراة التي بين موسى عليهالسلام وسحرة فرعون إنه لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم وتحركت
واضطربت وامتلأت بها الساحة شعر موسى بخوف في نفسه فأوحى إليه ربه تعالى في نفس
اللحظة : (لا تَخَفْ إِنَّكَ
أَنْتَ الْأَعْلى) أي الغالب القاهر لهم. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٧) (فَأَوْجَسَ فِي
نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) والثانية (٦٨) (قُلْنا لا تَخَفْ
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى)
وقوله تعالى : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ
تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) أي تبتلع بسرعة وعلل لذلك فقال : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي هو مكر وخدعة من ساحر (وَلا يُفْلِحُ
السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي لا يفوز الساحر بما أراد ولا يظفر به أبدا لأنه مجرد
تخيلات يريها غيره. وليس لها حقيقة ثابتة لا تتحول ولما شاهد السحرة ابتلاع العصا
لكل حبالهم وعصيتهم عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو معجزة سماوية ألقوا
بأنفسهم على الأرض ساجدين لله رب العالمين لما بهر نفوسهم من عظمة المعجزة وقالوا
في وضوح (آمَنَّا بِرَبِّ
هارُونَ وَمُوسى). وهنا صاح فرعون مزمجرا مهددا ليتلافى في نظره شر الهزيمة
فقال
__________________
للسحرة (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ
لَكُمْ) بذلك (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ) أي معلمكم العظيم (الَّذِي عَلَّمَكُمُ
السِّحْرَ) فتواطأتم معه على الهزيمة. (فَلَأُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) تعذيبا وتنكيلا فاقطع يمين أحدكم مع يسرى رجليه ، أو العكس
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي
جُذُوعِ النَّخْلِ) أي لأشدنكم على أخشاب النخل واترككم معلقين عبرة ونكالا
لغيركم (وَلَتَعْلَمُنَّ
أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) أي أدومه : رب موسى الذي آمنتم به أو أنا «فرعون عليه
لعائن الله»
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الشعور بالخوف
والإحساس به عند معاينة أسبابه لا يقدح في الإيمان.
٢ ـ تقرير أن ما
يظهر السحرة من تحويل الشيء إلى آخر إنما هو مجرد تخييل لا حقيقة له.
٣ ـ حرمة السحر
لأنه تزوير وخداع.
٤ ـ قوة تأثير
المعجزة في نفس السحرة لما ظهر لهم من الفرق بين الآية والسحر.
٥ ـ شجاعة المؤمن
لا يرهبها خوف بقتل ولا بصلب.
(قالُوا لَنْ
نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما
أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ
وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ
جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ
عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ
__________________
تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦))
شرح الكلمات :
(لَنْ نُؤْثِرَكَ) : أي لن نفضلك ونختارك.
(وَالَّذِي فَطَرَنا) : أي خلقنا ولم نكن شيئا.
(فَاقْضِ ما أَنْتَ
قاضٍ) : أي اصنع ما قلت إنك تصنعه بنا.
(وَاللهُ خَيْرٌ
وَأَبْقى) : أي خير منك ثوابا إذا أطيع وأبقى منك عذابا إذا عصى.
(مُجْرِماً) : مجرما أي على نفسه مفسدا لها بآثار الشرك والكفر
والمعاصي.
(جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) : أي ثواب من تتطهر من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان
والعمل الصالح.
معنى الآيات :
ما زال السياق مع
فرعون والسحرة المؤمنين انه لما هددهم فرعون بالقتل والصلب على جذوع النخل
لإيمانهم بالله وكفرهم به وهو الطاغوت قالوا له ما أخبر تعالى به عنهم في هذه
الآية (٧٢) (قالُوا لَنْ
نُؤْثِرَكَ) يا فرعون (عَلى ما جاءَنا مِنَ
الْبَيِّناتِ) الدلائل والحجج القاطعة على أن رب موسى وهارون هو الرب الحق الذي تجب عبادته وطاعته فلن
نختارك على الذي خلقنا فنؤمن بك ونكفر به لن يكون هذا أبدا واقض ما أنت عازم على
قضائه علينا من القتل والصلب. (إِنَّما تَقْضِي
هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) في هذه الحياة الدنيا لما لك من السلطان فيها أما الآخرة
فسوف يقضى عليك فيها بالخلد في العذاب المهين.
وأكدوا إيمانهم في
غير خوف ولا وجل فقالوا : (إِنَّا آمَنَّا
بِرَبِّنا) أي خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا (لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا) أي ذنوبنا ، (وَما أَكْرَهْتَنا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) أي من تعلمه والعمل به ، ونحن لا نريد ذلك ولا شك أن فرعون
كان قد ألزمهم بتعلم السحر والعمل به من أجل محاربة موسى وهارون لما رأى من معجزة
العصا واليد. وقولهم (وَاللهُ خَيْرٌ
وَأَبْقى)
__________________
أي خير ثوابا
وجزاء حسنا لمن آمن به وعمل صالحا ، وأبقى عذابا لمن كفر به وبآمن بغيره وعصاه.
هذا ما دلت عليه الآيتان (٧٢) و (٧٣).
أما الآية الثالثة
(٧٤) وهي قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِماً) أي على نفسه بإفسادها بالشرك والمعاصي (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ
لا يَمُوتُ فِيها) فيستريح من العذاب فيها ، (وَلا يَحْيى) حياة يسعد فيها.
وقولهم (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ
الصَّالِحاتِ) أي مؤمنا به كافرا بالطاغوت قد عمل بشرائعه فأدى الفرائض
واجتنب المناهي (فَأُولئِكَ لَهُمُ) جزاء إيمانهم وعملهم الصالح (الدَّرَجاتُ الْعُلى
جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي في جنات عدن (تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) لا يموتون ولا يخرجون منها ، (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ
تَزَكَّى) أي تتطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد تخليه عن الشرك
والخطايا والذنوب. لا شك أن هذا العلم الذي عليه السحرة كان قد حصل لهم من طريق
دعوة موسى وهارون إذ أقاموا بينهم زمنا طويلا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لا يؤثر الكفر
على الإيمان والباطل على الحق والخرافة على الدين الصحيح إلا أحمق جاهل.
٢ ـ تقرير مبدأ أن
عذاب الدنيا يتحمل ويصبر عليه بالنظر إلى عذاب الآخرة.
٣ ـ الاكراه نوعان
: ما كان بالضرب الذي لا يطاق يغفر لصاحبه وما كان لمجرد تهديد ومطالبة فإنه لا
يغفر إلا بالتوبة الصادقة وإكراه السحرة كان من النوع الآخر.
٤ ـ بيان جزاء كل
من الكفر والمعاصي ، والإيمان والعمل الصالح في الدار الآخرة.
__________________
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنا
إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ
يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ
بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ
عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ
الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا
فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى
(٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى
(٨٢))
شرح الكلمات :
(أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي) : أي سر ليلا من أرض مصر
(طَرِيقاً فِي
الْبَحْرِ يَبَساً) : طريقا في وسط البحر يابسا لا ماء فيه
(لا تَخافُ دَرَكاً) : أي لا تخش أن يدركك فرعون ، ولا تخشى غرقا
(فَغَشِيَهُمْ مِنَ
الْيَمِ) : أي فغطاهم من ماء البحر ما غطاهم حتى غرقوا فيه.
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ
قَوْمَهُ) : أي بدعائهم إلى الإيمان به والكفر بالله رب العالمين.
(وَما هَدى) : أي لم يهدهم كما وعدهم بقوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ
الرَّشادِ).
(جانِبَ الطُّورِ
الْأَيْمَنَ) : أي لأجل إعطاء موسى التوراة التي فيها نظام حياتهم دينا
ودنيا.
(الْمَنَّ وَالسَّلْوى) : المن : شيء أبيض كالثلج ، والسلوى طائر يقال له السماني .
(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) : أي بالإسراف فيه ، وعدم شكر الله تعالى عليه.
__________________
(ثُمَّ اهْتَدى) : أي بالاستقامة على الإيمان والتوحيد والعمل الصالح حتى
الموت.
معنى الآيات :
إنه بعد الجدال
الطويل والخصومة الشديدة التي دامت زمنا غير قصير وأبى فيها فرعون وقومه قبول الحق
والإذعان له أوحى تعالى إلى موسى عليهالسلام بما أخبر به في قوله عزوجل : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا
إِلى مُوسى) وبأي شيء أوحى إليه. بالسرى ببني إسرائيل وهو قوله تعالى (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ
أَسْرِ بِعِبادِي) قوله (فَاضْرِبْ لَهُمْ
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) أي اجعل لهم طريقا في وسط البحر ، وذلك حاصل بعد ضربه
البحر بالعصي فانفلق البحر فرقتين والطريق وسطه يابسا لا ماء فيه حتى اجتاز بنو
اسرائيل البحر ، ولما تابعهم فرعون ودخل البحر بجنود أطبق الله تعالى عليهم البحر
فأغرقهم أجمعين ، بعد أن نجى موسى وبني إسرائيل ، وهو معنى قوله تعالى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ
بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِ) أي من ماء البحر (ما غَشِيَهُمْ) أي الشيء العظيم من مياه البحر. وقوله لموسى (لا تَخافُ دَرَكاً
وَلا تَخْشى) أي لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى غرفا في
البحر.
وقوله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما
هَدى) إخبار منه تعالى أن فرعون أضل أتباعه حيث حرمهم من الإيمان
بالحق واتباع طريقه ، ودعاهم إلى الكفر بالحق وتجنب طريقه فاتبعوه على ذلك فضلوا
وما اهتدوا ، وكان يزعم أنه ما يهديهم إلا سبيل الرشاد وكذب. وقوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ) أي فرعون ، (وَواعَدْناكُمْ
جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ) أي مع نبينا موسى لانزال التوراة لهدايتكم وحكمهم بشرائعها
، وأنزلنا عليكم المن والسلوى غذاء لكم في التيه ، (كُلُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي قلنا لكم : كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلال الطعام
والشراب ، (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) بترك
__________________
الحلال إلى الحرام
وبالأسراف في تناوله وبعدم شكر الله تعالى ، وقوله تعالى : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) أي أن أنتم طغيتم فيه. (وَمَنْ يَحْلِلْ
عَلَيْهِ غَضَبِي) أي ومن يجب عليه غضبي (فَقَدْ هَوى) أي في قعر جهنم وهلك.
وقوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ
وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) يعدهم تعالى بأن يغفر لمن تاب منهم ومن غيرهم فآمن وعمل
صالحا أي أدى الفرائض واجتنب المناهي ثم استمر على ذلك ملازما له حتى مات.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير النبوة
المحمدية إذ مثل هذا القصص لا يقصه إلا بوحي إليه إذ لا سبيل إلى معرفته إلا من
طريق الوحي الإلهي.
٢ ـ آية انفلاق
البحر ووجود طريق يابس فيه لبني إسرائيل حتى اجتازوه دالة على جود الله تعالى
وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
٣ ـ تذكير اليهود
المعاصرين للدعوة الإسلامية بإنعام الله تعالى على سلفهم لعلهم يشكرون فيتوبون
فيسلمون.
٤ ـ تحريم الإسراف
والظلم ، وكفر النعم.
٥ ـ الغضب صفة لله
تعالى كما يليق ذلك بجلاله وكماله لا كصفات المحدثين.
(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ
لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ
أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ
__________________
الْعَهْدُ
أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ
مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا
أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ
(٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ
وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً
وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩))
شرح الكلمات :
(وَما أَعْجَلَكَ) : أي شيء جعلك تترك قومك وتأتي قبلهم.
هم على أثري : أي
آتون بعدي وليسوا ببعيدين مني.
(وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ
رَبِّ لِتَرْضى) : أي استعجلت المجىء إليك طلبا لرضاك عني.
(قَدْ فَتَنَّا
قَوْمَكَ) : أي ابتليناهم أي بعبادة العجل.
(وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُ) : أي عن الهدى الذي هو الإسلام إلى الشرك وعبادة غير الرب
تعالى.
(غَضْبانَ أَسِفاً) : أي شديد الغضب والحزن.
(وَعْداً حَسَناً) : أي بأن يعطيكم التوراة فيها نظام حياتكم وشريعة ربكم
لتكملوا عليها وتسعدوا.
(أَفَطالَ عَلَيْكُمُ
الْعَهْدُ) : أي مدة الموعد وهي ثلاثون يوما قبل أن يكملها الله تعالى
أربعين يوما.
(فَأَخْلَفْتُمْ
مَوْعِدِي) : بترككم المجىء بعدي.
(بِمَلْكِنا) : أي بأمرنا وطاقنا ، ولكن غلب علينا الهوى فلم نقدر على
انجاز الوعد بالسير وراءك.
__________________
(أَوْزاراً) : أي أحمالا من حلي نساء الأقباط وثيابهن.
(فَقَذَفْناها) : أي القيناها في الحفرة بأمر هارون عليهالسلام.
(أَلْقَى السَّامِرِيُ) : السامري هو موسى بن ظفر من قبيلة سامرة الإسرائيلية ، وما ألقاه هو التراب الذي أخذه من تحت
حافر فرس جبريل ألقاه أي قذفه على الحلي.
(عِجْلاً جَسَداً) : أي ذا جثة
(لَهُ خُوارٌ) : الخوار صوت البقر
(فَنَسِيَ) : أي موسى ربه هنا وذهب يطلبه.
(أَلَّا يَرْجِعُ
إِلَيْهِمْ قَوْلاً) : أنه لا يكلمهم إذا كلموه لعدم نطقه بغير الخوار.
معنى الآيات :
بعد أن نجى الله
تعالى بني إسرائيل من فرعون وملائه حيث اجتاز بهم موسى البحر وأغرق الله فرعون وجنوده
أخبرهم موسى أن ربه تعالى قد أمره أن يأتيه ببني اسرائيل وهم في طريقهم إلى أرض
المعاد إلى جبل الطور ليؤتيهم التوراة فيها شريعتهم ونظام حياتهم دنيا ودينا وأنه
واعدهم جانب الطور الأيمن ، واستعجل موسى في المسير إلى الموعد فاستخلف أخاه هارون على بني اسرائيل
ليسير بهم وراء موسى ببطء حتى يلحقوا به عند جبل الطور ، وحدث أن بني إسرائيل
فتنهم السامري بصنع العجل ودعوتهم إلى عبادته وترك المسير وراء موسى عليهالسلام فقوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ
قَوْمِكَ يا مُوسى) هو سؤال من الله تعالى لموسى ليخبره بما جرى لقومه بعده
وهو لا يدري فلما قال تعالى لموسى : (وَما أَعْجَلَكَ) عن المجىء وحدك دون بني إسرائيل مع ان الأمر أنك تأتي معهم
أجاب موسى بقوله
__________________
(هُمْ أُولاءِ عَلى
أَثَرِي) آتون بعدي ، وعجلت المجىء إليك لترضى عني. هنا أخبره تعالى
بما حدث لقومه فقال عزوجل : (فَإِنَّا قَدْ
فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) أي بصنع العجل لهم ودعوتهم إلى عبادته بحجة انه الرب تعالى
وأن موسى لم يهتد إليه. ولما انتهت المناجاة وأعطى الله تعالى موسى الألواح التي
فيه التوراة (فَرَجَعَ مُوسى إِلى
قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً) أي حزينا إلى قومه فقال لهم بما أخبر تعالى عنه بقوله : (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً) فذكرهم بوعد الله تعالى لهم بإنجائهم من آل فرعون وإكرامهم
بالملك والسيادة موبخا لهم على خطيئتهم بتخلفهم عن السير وراءه وانشغالهم بعبادة
العجل والخلافات الشديدة بينهم ، وقوله (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) أي لم يطل فالمدة هي ثلاثون يوما فلم تكتمل حتى فتنتم
وعبدتم غير الله تعالى ، قوله (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ
عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ) أي بل أردتم بصنيعكم الفاسد أن يجب عليكم غضب من ربكم فحل
بكم ، (فَأَخْلَفْتُمْ
مَوْعِدِي) بعكوفكم على عبادة العجل وترككم السير على أثرى لحضور موعد
الرب تعالى الذي واعدكم.
وقوله تعالى (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ
بِمَلْكِنا) هذا ما قاله قوم موسى كالمعتذرين به إليه فزعموا أنهم ما
قدروا على عدم اخلاف الموعد لغلبة الهوى عليهم فلم يطيقوا السير وراءه مع وجود
العجل وما ضللهم به السامري من أنه هو إلههم وأن موسى أخطأ الطريق إليه. هذا معنى
قولهم : (ما أَخْلَفْنا
مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) أي بأمرنا وقدرتنا إذ كنا مغلوبين على أمرنا.
وقولهم : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً
مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها) هذا بيان لوجه الفتنة وسببها وهي أنهم لما كانوا خارجين من
مصر استعار نساؤهم حليا من نساء القبط بدعوى عيد لهم ،
__________________
وأصبحوا خارجين مع
موسى في طريقهم إلى القدس ، وتم إنجاؤهم واغراق فرعون ولما نزلوا بالساحل استعجل
موسى موعد ربه وتركهم تحت إمرة هارون أخيه على أن يواصلوا سيرهم وراء موسى إلى جبل
الطور غير أن موسى الملقب بالسامري استغل الفرصة وقال لنساء بني إسرائيل هذا الحلى
الذي عند كن لا يحل لكنّ أخذه إذ هي ودائع كيف تستحلونها وحفر لهم حفرة وقال
ألقوها فيها وأوقد فيها النهار لتحترق ولا ينتفع بها بعد ، هذا ما دل عليه قولهم (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ
زِينَةِ الْقَوْمِ) أي قوم فرعون فقذفناها أي في الحفرة التي أمر بها السامري
وقوله تعالى (فَكَذلِكَ أَلْقَى
السَّامِرِيُ) هو من جملة قول بني إسرائيل لموسى فكما ألقينا الحلي في
الحفرة القى السامري ما معه من التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل ، فصنع
السامري العجل فأخرجه لهم عجلا جسدا له خوار أي صوت فقال بعضهم لبعض هذا إلهكم وإله موسى الذي
ذهب إلى موعده فنسي وضل الطريق إليه فاعبدوه حتى يأتي موسى. قال تعالى موبخا
إياهم (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً) إذا كلموه ، (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ
ضَرًّا وَلا نَفْعاً) فكيف يعقلون أنه إله وهو لا يجيبهم إذا سألوه ، ولا يعطيهم
إذا طلبوه ، ولا ينصرهم إذا استنصروه ولكنه الجهل والضلال واتباع الهوى. والعياذ
بالله تعالى.
هداية الآيات
١ ـ ذم العجلة
وبيان آثارها الضّارة فاستعجال موسى الموعد وتركه قومه وراءه كان سببا في أمر عظيم
وهو عبادة العجل وما تترب عليها من آثار جسام.
٢ ـ مشروعية طلب
رضا الله تعالى ولكن بما يحب أن يتقرب به إليه.
٣ ـ مشروعية الغضب
لله تعالى والحزن على ترك عبادته بمخالفة أمره ونهيه.
٤ ـ مشروعية
استعارة الحلي للنساء والزينة ، وحرمة جحدها وأخذها بالباطل.
٥ ـ وجوب استعمال
العقل واستخدام الفكر للتمييز بين الحق والباطل ، والخير والشر.
__________________
(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ
هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ
الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما
مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي
(٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ
أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤))
شرح الكلمات :
(فُتِنْتُمْ بِهِ) : أي ابتليتم به أي بالعجل.
(لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ) : أي لن نزال عاكفين على عبادته.
(إِذْ رَأَيْتَهُمْ
ضَلُّوا) : أي بعبادة العجل واتخاذه الها من دون الله تعالى.
(لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي) : حيث أخذ موسى من شدة غضبه بلحية أخيه وشعر رأسه يجره
إليه يعذله ويلوم عليه.
(وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي) : أي ولم تنتظر قولي فيما رأيته في ذلك.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحوار الذي دار بين موسى وقومه بعد رجوعه إليهم من المناجاة فقوله تعالى : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ
قَبْلُ) أي من قبل رجوع موسى قال لهم أثناء عبادتهم العجل يا قوم
إن العجل ليس إلهكم ولا إله موسى وإنما هو فتنة فتنتم به ليرى الله تعالى صبركم
على عبادته ولزوم طاعة رسوله ، وليرى خلاف ذلك فيجزى كلا بما يستحق وقال لهم : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) الذي شاهدتم آثار رحمته في حياتكم كلها فاذكروها
(فَاتَّبِعُونِي) في عبادة الله وحده وترك عبادة غيره (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) فإني خليفة موسى الرسول فيكم فأجاب القوم الضالون بما أخبر
تعالى عنهم بقوله : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ
عَلَيْهِ عاكِفِينَ) أي لن نزول عن عبادته والعكوف حوله (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) . ولما سمع موسى من قومه ما سمع التفت إلى هارون قائلا
معاتبا عاذلا لائما (يا هارُونُ ما) (مَنَعَكَ إِذْ
رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) أي بعبادة العجل (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أي بمن معك من المسلمين وتترك المشركين ، (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ، ومن شدة الوجد وقوة اللوم والعذل أخذ بشعر رأس أخيه
بيمينه وأخذ بلحيته بيساره وجره إليه وهو يعاتبه ويلوم عليه فقال هارون : (يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي
وَلا بِرَأْسِي) إن لي عذرا في عدم متابعتك وهو اني خشيت إن أنا أتيتك ببعض
قومك وهم المسلمون وتركت بعضا آخر وهم عباد العجل (أَنْ تَقُولَ
فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) وذلك لا يرضيك. (وَلَمْ تَرْقُبْ
قَوْلِي) أي ولم تنظر قولي فيما رأيت في ذلك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ معصية الرسول
تؤدي إلى فتنة العاص في دينه ودنياه.
٢ ـ جواز العذل
والعتاب للحبيب عند تقصيره فيما عهد به إليه.
٣ ـ جواز الاعتذار
لمن اتهم بالتقصير وان حقا.
٤ ـ قد يخطىء
المجتهد في اجتهاده وقد يصيب.
__________________
(قالَ فَما خَطْبُكَ
يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً
مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ
فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ
مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧)
إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ
عِلْماً (٩٨))
شرح الكلمات :
(فَما خَطْبُكَ) : أي ما شأنك وما هذا الأمر العظيم الذي صدر منك.
(بَصُرْتُ بِما لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ) : أي علمت من طريق الإبصار والنظر ما لم يعلموا به لأنهم
لم يروه.
(قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ
الرَّسُولِ) : أي قبضت قبضة من تراب أثر حافر فرس الرسول جبريل عليهالسلام.
(فَنَبَذْتُها) : أي القيتها وطرحتها على الحلى المصنوع عجلا.
(سَوَّلَتْ لِي
نَفْسِي) : أي زينت لي هذا العمل الذي هو صنع العجل.
(أَنْ تَقُولَ لا
مِساسَ) : أي اذهب تائها في الأرض طول حياتك وأنت تقول لا مساس أي
لا يمسني أحد ولا أمسه لما يحصل من الضرر العظيم لمن تمسه أو يمسك.
(إِلهِكَ) : أي العجل.
(ظَلْتَ) : أي ظللت طوال الوقت عاكفا عليه.
(فِي الْيَمِّ نَسْفاً) : أي في البحر ننسفه بعد إحراقه وجعله كالنشارة نسفا.
(إِنَّما إِلهُكُمُ
اللهُ) : أي لا معبود لكم إلا الله الذي لا إله إلا هو.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحوار بين موسى وقومه فبعد لومه أخاه وعذله له التفت إلى السامري المنافق إذ هو
من عبّاد البقر وأظهر الإسلام في بني إسرائيل ، ولما اتيحت له الفرصة عاد إلى
عبادة البقر فصنع العجل وعبده ودعا إلى عبادته فقال له : في غضب (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ) أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى فعلك القبيح الشنيع هذا فقال
السامري كالمعتذر (بَصُرْتُ بِما لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ) أي علمت ما لم يعلمه قومك (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً
مِنْ أَثَرِ) حافر فرس (الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) في الحلي المصنوع عجلا فخار كما تخور البقر. (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) ذلك أي زينته لي وحسنته ففعلته ، وهنا أجابه موسى عليهالسلام بما أخبر تعالى به في قوله : (قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ
لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ) أي لك مدة حياتك أن تقول لمن أراد أن يقربك لا مساس أي لا
تمسني ولا أمسك لتتيه طول عمرك في البرية مع السباع والحيوان عقوبة لك على جريمتك ،
ولا شك أن فراره من الناس وفرار الناس منه لا يكون مجرد أنه لا يرقب في ذلك ، بل
لعله قيل إنها الحمى فإذا مس أحد حمّا معا أي أصابتهما الحمى معا كأنه اسلاك
كهربائية مكشوفة من مسها تكهرب منها. وقوله له : (وَإِنَّ لَكَ
مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ) ، أي ذاك النفي والطرد عذاب الدنيا ، وإن لك عذابا آخر يوم
القيامة في موعد لن تخلفه أبدا فهو آت وواقع لا محالة.
وقوله : أي موسى
للسامري : (وَانْظُرْ إِلى
إِلهِكَ) المزعوم (الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ
عاكِفاً) تعبده لا تفارقه ، والله (لَنُحَرِّقَنَّهُ
ثُمَ لَنَنْسِفَنَّهُ
فِي الْيَمِّ نَسْفاً) وفعلا حرقه ثم جعله كالنشارة
__________________
وذره في البحر
تذرية حتى لا يعثر له على أثر ، ثم قال لأولئك الذين عبدوا العجل المغرر بهم
المضللين : (إِنَّما إِلهُكُمُ) الحق الذي تجب له العبادة والطاعة (اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ
كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شيء فهو عليم بكل شيء وقدير على كل شيء وما
عداه فليس له ذلك وما لم يكن ذا قدرة على شيء وعلم بكل شيء فكيف يعبد ويطاع ..؟!
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
الاستنطاق للمتهم والاستجواب له.
٢ ـ ما سولت النفس
لأحد ولا زينت له شيئا إلا تورط فيه إن هو عمل بما سولته له.
٣ ـ قد يجمع الله
تعالى للعبد ذي الذنب العظيم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
٤ ـ مشروعية هجران
المبتدع ونفيه وطرده فلا يسمح لأحد بالاتصال به والقرب منه.
٥ ـ كسر الأصنام
والأوثان والصور وآلات اللهو والباطل الصارفة عن عباد الله تعالى.
(كَذلِكَ نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً
(٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠)
خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ
فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ
بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ
إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤))
شرح الكلمات :
(كَذلِكَ) : أي كما قصصنا عليك هذه القصة قصة موسى وفرعون وموسى وبني
إسرائيل نقص عليك من أنباء الرسل.
(مِنْ لَدُنَّا
ذِكْراً) : أي قرآنا وهو القرآن الكريم.
__________________
(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) : أي لم يؤمن به ولم يقرأه ولم يعمل به.
(وِزْراً) : أي حملا ثقيلا من الآثام.
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ) : أي النفخة الثانية وهي نفخة البعث ، والصور هو القرن.
(زُرْقاً) : أي عيونهم زرق ووجوههم سود آية أنهم أصحاب الجحيم.
(يَتَخافَتُونَ
بَيْنَهُمْ) : أي يخفضون أصواتهم يتسارون بينهم من شدة الهول.
(أَمْثَلُهُمْ
طَرِيقَةً) : أي أعدلهم رأيا في ذلك ، وهذا كله لعظم الموقف وشدة
الهول والفزع.
معنى الآيات :
بعد نهاية الحديث
بين موسى وفرعون ، وبين موسى وبني اسرائيل قال تعالى لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم (كَذلِكَ نَقُصُ عَلَيْكَ) أي كما قصصنا عليك ما قصصنا من نبأ موسى وفرعون وخبر موسى
وبني إسرائيل نقص عليك (مِنْ أَنْباءِ ما
قَدْ سَبَقَ) أي أحداث الأمم السابقة ليكون ذلك آية نبوتك ووحينا إليك ،
وعبرة وذكرى للمؤمنين. وقوله تعالى : (وَقَدْ آتَيْناكَ
مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي وقد أعطيناك تفضلا منا ذكرا وهو القرآن العظيم يذكر به
العبد ربه ويهتدي به إلى سبيل النجاة والسعادة ، وقوله (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ) أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه (فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ
وِزْراً) أي اثما عظيما لأنه لم يعمل صالحا وكل عمله كان سيئا لكفره
وعدم إيمانه ، (خالِدِينَ فِيهِ) أي في ذلك الوزر في النار ، وقوله (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
حِمْلاً) أي قبح ذلك الحمل حملا يوم القيامة إذ صاحبه لا ينجو من
العذاب بل بطرح معه في جهنم يخلد فيها وقوله (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ) أي المكذبين بالدين الحق العاملين بالشرك والمعاصي (يَوْمَئِذٍ) أي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية (زُرْقاً) أي الأعين مع اسوداد الوجوه وقوله : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) أي يتهامسون بينهم يسأل بعضهم بعضا كم لبثتم في الدنيا وفي
القبور فيقول البعض : (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا
عَشْراً) أي ما لبثتم إلا
__________________
عشر ليال ، وقوله
تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي أعدلهم رأيا (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا يَوْماً) ، وهذا التقال للزمن الطويل سببه هول القيامة وعظم ما
يشاهدون فيها من ألوان الفزع والعذاب.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة
محمد صلىاللهعليهوسلم يقص تعالى عليه انباء ما قد سبق بعد قصه عليه أنباء موسى
وفرعون بالحق ، وايتائه القرآن الكريم.
٢ ـ كون القرآن
ذكرا للذاكرين لما يحمل من الحجج والدلائل والبراهين.
٣ ـ سوء حال
المجرمين يوم القيامة ، الذين أعرضوا عن القرآن الكريم.
٤ ـ عظم أهوال يوم
القيامة حتى يتقال معها المرء مدة الحياة الدنيا التي هي آلاف الأعوام.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً
(١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ
الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ
إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ
الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢))
__________________
شرح الكلمات :
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْجِبالِ) : أي المشركون عن الجبال كيف تكون يوم القيامة.
(فَقُلْ يَنْسِفُها
رَبِّي نَسْفاً) : أي يفتتها ثم تذروها الرياح فتكون هباء منبثا.
(قاعاً صَفْصَفاً) : أي مستويا.
(عِوَجاً وَلا أَمْتاً) : أي لا ترى فيها انخفاضا ولا ارتفاعا.
(الدَّاعِيَ) : أي إلى المحشر يدعوهم إليه للعرض على الرب تعالى.
(وَخَشَعَتِ
الْأَصْواتُ) : أي سكنت فلا يسمع إلا الهمس وهو صوت الأقدام الخفي.
(وَرَضِيَ لَهُ
قَوْلاً) : بأن قال لا إله إلا الله من قلبه صادقا.
(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) : الله تعالى ما بين أيدي الناس وما خلفهم ، وهم لا يحيطون
به علما.
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) : أي ذلت وخضعت
للرب الحي الذي لا يموت.
(مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) : أي جاء يوم القيامة يحمل أوزار الظلم وهو الشرك.
(ظُلْماً وَلا هَضْماً) : أي لا يخاف ظلما بأن يزاد في سيئاته ولا هضما بأن ينقص
من حسناته.
معنى الآيات :
يقول تعالى لرسوله
: (وَيَسْئَلُونَكَ) أي المشركين من قومك المكذبين بالبعث والجزاء (عَنِ الْجِبالِ) عن مصيرها يوم القيامة فقل له : (يَنْسِفُها رَبِّي
نَسْفاً ، فَيَذَرُها قاعاً
صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) أي أجبهم بأن الله تعالى يفتتها ثم ينسفها فتكون هباء
منبثا ، فيترك أماكنها قاعا صفصفا أي أرضا مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا أي لا
انخفاضا ولا ارتفاعا. وقوله
__________________
يَوْمَئِذٍ
يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا
تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي يوم تقوم القيامة فينشرون يدعوهم الداعي هلموا إلى أرض
المحشر فلا يميلون عن صوته يمنة ولا يسرة وهو معنى لا عوج له. وقوله تعالى : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) أي ذلت وسكنت (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا
هَمْساً) وهو صوت خفي كأصوات خفاف الإبل إذا مشت وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) عنده (إِلَّا مَنْ أَذِنَ
لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) أي يخبر تعالى انهم يوم جمعهم للمحشر لفصل القضاء لا تنفع
شفاعة أحد أحدا إلا من أذن له الرحمن في الشفاعة ، ورضى له قولا أي وكان المشفوع
فيه من أهل التوحيد أهل لا إله إلا الله وقوله (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) أي يعلم ما بين أيدي أهل المحشر أي ما يسيحكم به عليهم من
جنة أو نار ، وما خلفهم مما تركوه من أعمال في الدنيا ، وهم لا يحيطون به عزوجل علما ، فلذا سيكون الجزاء عادلا رحيما ، وقوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي ذلت وخضعت كما يعنو بوجهه الأسير ، والحي القيوم هو
الله جل جلاله وقوله تعالى : (وَقَدْ خابَ) أي خسر (مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) ألا وهو الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ
وَهُوَ مُؤْمِنٌ) والحال أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر
والبعث الآخر فهذا لا يخاف ظلما بالزيادة في سيّاته ، ولا هضما بنقص من
حسناته ، وهي عدالة الله تعالى تتجلى في موقف الحساب والجزاء.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان جهل
المشركين في سؤالهم عن الجبال.
٢ ـ تقرير مبدأ
البعث الآخر.
٣ ـ لا شفاعة لغير
أهل التوحيد فلا يشفع مشرك ، ولا يشفع لمشرك.
٤ ـ بيان خيبة
المشركين وفوز الموحدين يوم القيامة.
__________________
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ
يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ
الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥))
شرح الكلمات :
(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا) : أي مثل ذلك الانزال أنزلنا قرآنا عربيا أي بلغة العرب
ليفهموه.
(وَصَرَّفْنا فِيهِ
مِنَ الْوَعِيدِ) : أي من أنواع الوعيد ، وفنون العذاب الدنيوي والأخروى.
(أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ
ذِكْراً) : أي بهلاك الأمم السابقة فيتعظون فيتوبون ويسلمون.
(فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُ) : أي عما يقول المفترون ويشرك المشركون.
(وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ) : أي بقراءته.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) : أي من قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك.
(عَهِدْنا إِلى آدَمَ) : أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة.
(فَنَسِيَ) : أي عهدنا وتركه.
(وَلَمْ نَجِدْ لَهُ
عَزْماً) : أي حزما وصبرا عما نهيناه عنه.
معنى الآيات :
يقول تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي ومثل ما أنزلنا من تلك الآيات المشتملة
__________________
على الوعد والوعيد
أنزلنا القرآن بلغة العرب ليفهموه ويهتدوا به (وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ
الْوَعِيدِ) أي بينا فيه من أنواع الوعيد وكررنا فنون العذاب الدنيوي
والأخروى لعل قومك أيها الرسول يتقون ما كان سببا في اهلاك الأمم السابقة وهو
الشرك والتكذيب والمعاصي (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) أي يوجد لهم ذكرا في أنفسهم فيتعظون فيتوبون من الشرك والتكذيب
للرسول ويطيعون ربهم فيكملون ويسعدون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١٣).
وأما الآية
الثانية وهي قوله تعالى (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُ) فإن الله تعالى يخبر عن علوه عن سائر خلقه وملكه لهم
وتصرفه فيهم وقهره لهم ، ومن ثمّ فهو منزّه عن الشريك والولد وعن كل نقص يصفه به
المفترون الكذابون.
وقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ
مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) يعلّم تعالى رسوله كيفية تلقي القرآن عن جبريل عليهالسلام فيرشده إلى أنه لا ينبغي أن يستعجل في قراءة الآيات ولا في
إملائها على أصحابها ولا في الحكم بها حتى يفرغ جبريل من قراءتها كاملة عليه وبيان
مراد الله تعالى منها في إنزالها عليه. وطلب إليه أن يسأله المزيد من العلم بقوله
: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) ، وفيه إشعار بأنه دائما في حاجة إلى المزيد ، ولذا فلا
يستعجل ولكن يتريث ويتمهل ، وهذا علماء أمته أحوج إليه منه صلىاللهعليهوسلم فالاستعجال في الفتيا وفي إصدار الحكم كثيرا ما يخطىء
صاحبهما.
وقوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا
إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْماً) يقول تعالى مخبرا رسوله والمؤمنين ولقد وصينا آدم من قبل
هذه الأمم التي أمرناها ونهيناها فلم يطع أكثرها وصيناه بأن لا يطيع عدوه ابليس
وأن لا يأكل من الشجرة فترك وصيتنا ناسيا لها غير مبال بها
__________________
وأطاع عدوه وأكل
من الشجرة ، ولم نجد له عزما بل ضعف أمام الإغراء والتزيين فلم يحفظ العهد ولم
يصبر على الطاعة ، فكيف إذا بغير آدم من سائر ذرياته فلذا ينبغي أن لا تأسى ولا
تحزن على عدم ايمان قومك بك واستجابتهم لدعوتك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان الحكمة
من إنزال القرآن باللسان العربي وتصريف الوعيد فيه.
٢ ـ اثبات علو
الله تعالى وقهره لعباده وملكه لهم وتنزهه عن الولد والشريك وكل نقص يصفه به
المبطلون.
٣ ـ استحباب
التريث والتأني في قراءة القرآن وتفسيره وإصدار الحكم والفتيا منه.
٤ ـ الترغيب في
طلب العلم والمزيد من التحصيل العلمي وإشعار النفس بالجهل والحاجة إلى العلم.
٥ ـ التسلية
بنسيان آدم وضعف قلبه أمام الإغراء الشيطاني.
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ
الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨)
وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ
قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠)
فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ
فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢))
شرح الكلمات :
(وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ) : أي اذكر قولنا للعظة والاعتبار.
(إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبى) : أي امتنع من السجود لكبر في نفسه إذ هو ليس من الملائكة
وإنما هو أبو الجان كان مع الملائكة يعبد الله معهم.
(عَدُوٌّ لَكَ
وَلِزَوْجِكَ) : أي حواء ومعنى عدو أنه لا يحب لكما الخير بل يريد لكما
الشر.
(فَتَشْقى) : أي بالعمل في الأرض إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى
تتغذى.
(لا تَظْمَؤُا فِيها
وَلا تَضْحى) : أي لا تعطش ولا يصيبك حر شمس الضحى المؤلم في الأرض.
(شَجَرَةِ الْخُلْدِ) : أي التي يخلد من أكل منها.
(وَمُلْكٍ لا يَبْلى) : أي لا يفنى ولا يبيد ولازم ذلك الخلود.
(فَبَدَتْ لَهُما
سَوْآتُهُما) : أي ظهر لكل منهما قبل صاحبه ودبره فاستاءا لذلك.
(وَطَفِقا يَخْصِفانِ) : أي أخذا وجعلا يلزقان ورق الشجر عليهما سترا لسوءاتهما
(فَغَوى) : أي بالأكل من الشجرة المنهي عنها.
(اجْتَباهُ رَبُّهُ
فَتابَ عَلَيْهِ) : أي اختاره لولايته فهداه للتوبة فتاب ليكون عبدا صالحا.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى ضعف
آدم عليهالسلام حيث عهد الله إليه بعدم طاعة إبليس حتى لا يخرجه هو وزوجه
من الجنة ، وأن آدم نسي العهد فأكل من الشجرة ناسب ذكر قصة آدم بتمامها ليكون
موعظة للمتقين وهدى للمؤمنين فقال تعالى لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم واذكر (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وسجودهم عبادة لله تعالى وتحية لآدم لشرفه وعلمه. فامتثلت
الملائكة أمر الله (فَسَجَدُوا) كلهم أجمعون (إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبى) أن يسجد لما داخله من الكبر ولأنه لم يكن من الملائكة بل
كان من الجن إلا أنه كان يتعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (١١٦).
وقوله تعالى (فَقُلْنا يا آدَمُ) أي بعد أن تكبّر إبليس عن السجود لآدم نصحنا آدم وقلنا له (إِنَّ هذا) أي إبليس (عَدُوٌّ لَكَ
وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) أي فلا تطيعانه
فإن طاعته تكون سبب إخراجكما من الجنة ومتى خرجتما منها شقيتما
، ووجه الخطاب إلى آدم في قوله تعالى : فتشقى لأن المراد من الشقاء هنا العمل
كالزرع والحصاد وغيرهما مما هو ضروري للعيش خارج الجنة والزوج هو المسئول عن إعاشة
زوجته فهو الذي يشقى دونها ، وقوله تعالى لآدم (إِنَّ لَكَ أَلَّا
تَجُوعَ فِيها) أي في الجنة (وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ
لا تَظْمَؤُا فِيها) أي لا تعطش (وَلا تَضْحى) أي لا تتعرض لحر شمس ضحى كما هي في الأرض والخطاب وإن كان
لآدم فحواء تابعة له بحكم رئاسة الزوج على زوجته ، ومن الأدب خطاب الرجل دون
امرأته إذ هي تابعة له وقوله تعالى : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ
الشَّيْطانُ) أي ناداه من طريق الوسوسة. (يا آدَمُ هَلْ
أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ
لا يَبْلى)
فقبل منه ذلك آدم
واستجاب لوسوسته فأكلت حواء أولا ثم أكل آدم وهو قوله تعالى (فَأَكَلا مِنْها) فترتب على ذلك انكشاف سوءاتهما لهما بذهاب النور الساتر
لهما بسبب المعصية لله تعالى وقوله تعالى (وَطَفِقا يَخْصِفانِ
عَلَيْهِما) من ورق الشجر أي فأخذا يشدان ورق الشجر على عوراتهما سترا
لهما لأن منظر العورة يسوء الآدمي ولذلك سميت العورة سوءة وهكذا عصى آدم ربه
باستجابته لوسواس عدوه وأكله من الشجرة ، فبذلك غوى ، إلا أن ربه تعالى اجتباه اي نبيا وقربه وليا (فَتابَ عَلَيْهِ
وَهَدى) وهداه للعمل بطاعته ليكون من جملة أصفيائه وصالح عباده. والحمد
لله ذي الإنعام والإفضال.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير النبوة
المحمدية بذكر مثل هذا القصص الذي لا يعلم إلا بالوحي الإلهي.
__________________
٢ ـ تقرير عداوة
إبليس لبني آدم.
٣ ـ بيان أن الجنة
لا نصب فيها ولا تعب ، وإنما ذلك في الأرض.
٤ ـ التحذير من
أخطار الاستجابة لوسوسة إبليس فإنها تردى صاحبها.
٥ ـ ضعف المرأة
وقلة عزمها فقد أكلت قبل آدم فسهلت عليه المعصية.
٦ ـ كون المرأة
تابعة للرجل وليس لها أن تستقل بحال من الأحوال.
٧ ـ حرمة كشف
العورات ووجوب سترها.
٨ ـ إثبات نبوة
آدم وتوبة الله عليه وقبولها منه وهدايته إلى العمل بمحابه وترك مكارهه.
(قالَ اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً
فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى
(١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ
نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ
أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧))
شرح الكلمات :
(قالَ اهْبِطا مِنْها
جَمِيعاً) : أي آدم وحواء من الجنة وإبليس سبق أن أبلس وهبط.
(بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ
عَدُوٌّ) : أي آدم وحواء وذريتهما عدو لإبليس وذريته ، وإبليس
وذريته عدو لآدم وحواء وذريتهما.
(فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) : أي فإن يأتيكم مني هدى وهو كتاب ورسول.
(فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدايَ) : أي الذي أرسلت به رسولي وهو القرآن.
(فَلا يَضِلُ) : أي في الدنيا
(وَلا يَشْقى) : في الآخرة
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) : أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه.
(مَعِيشَةً ضَنْكاً) : أي ضيّقة تضيق بها نفسه ولم يسعد بها ولو كانت واسعة.
(أَعْمى) : أي أعمى البصر لا يبصر.
(وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيراً) : أي ذا بصر في الدنيا وعند البعث.
(قالَ كَذلِكَ) : أي الأمر كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكما نسيتها تنسى في
جهنم.
(وَكَذلِكَ نَجْزِي
مَنْ أَسْرَفَ) : أي وكذلك الجزاء الذي جازينا به من نسي آياتنا نجزي من
أسرف في المعاصي ولم يقف عند حد ، ولم يؤمن بآيات ربه سبحانه وتعالى.
(أَشَدُّ وَأَبْقى) : أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم فلا ينقضي ولا ينتهي.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في قصة آدم إنه لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وعاتبهما
ربهما بقوله في آية غير هذه (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ
تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ). وأنزل على آدم كلمة التوبة فقالها مع زوجه فتاب الله عليهما لما تم كل ذلك قال
(اهْبِطا) (مِنْها) أي من الجنة (جَمِيعاً) إذ ابليس العدو قد ابلس من قبل وطرد من الجنة فهبطوا
جميعا. وقوله : (فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) أي بيان عبادتي تحمله كتبي وتبينه رسلي ، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ) فآمن به وعمل بما فيه (فَلا يَضِلُ) في حياته (وَلا يَشْقى) في آخرته
__________________
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) أي فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه (فَإِنَّ لَهُ) أي جزاء منا له (مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وإن اتسع
رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا
حجة له ولا بصر يبصر به. وقد يعجب لحاله ويسأل ربه (لِمَ حَشَرْتَنِي
أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ) في الدنيا وفي البعث (بَصِيراً)
فيجيبه ربه تعالى
بقوله : (كَذلِكَ) أي الأمر كذلك كنت بصيرا وأصبحت أعمى لأنك (أَتَتْكَ آياتُنا) تحملها كتبنا وتبينها رسلنا (فَنَسِيتَها) أي تركتها ولم تلتفت إليها معرضا عنها فاليوم تترك في جهنم
منسيا كذلك وقوله تعالى في الآية الآخرة (١٢٧) (وَكَذلِكَ نَجْزِي
مَنْ أَسْرَفَ) في معاصينا فلم يقف عند حد ولم يؤمن بآيات ربه فنجعل له
معيشة ضنكا في حياته الدنيا وفي البرزخ (وَلَعَذابُ
الْآخِرَةِ أَشَدُّ) من عذاب الدنيا (وَأَبْقى) أي أدوم حيث لا ينقضي ولا ينتهي.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عداوة
الشيطان للإنسان.
٢ ـ عدة الله
تعالى لمن آمن بالقرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في حياته ولا يشقى في آخرته.
٣ ـ بيان جزاء من أعرض
عن القرآن في الدنيا والآخرة.
٤ ـ التنديد
بالإسراف في الذنوب والمعاصي مع الكفر بآيات الله ، وبيان جزاء ذلك.
(أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ
آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا
__________________
تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ
أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ
نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢))
شرح الكلمات :
(أَفَلَمْ يَهْدِ
لَهُمْ) : أي أفلم يبيّن لهم.
(مِنَ الْقُرُونِ) : أي من أهل القرون.
(لَآياتٍ لِأُولِي
النُّهى) : أي أصحاب العقول الراجحة إذ النهية العقل.
(وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ) : أي بتأخير العذاب عنهم.
(لَكانَ لِزاماً) : أي العذاب لازما لا يتأخر عنهم بحال.
(ما يَقُولُونَ) : من كلمات الكفر ، ومن مطالبتهم بالآيات.
(وَمِنْ آناءِ
اللَّيْلِ) : أي ساعات الليل واحدها إني أو إنو.
(لَعَلَّكَ تَرْضى) : أي رجاء أن تثاب الثواب الحسن الذي ترضى به.
(إِلى ما مَتَّعْنا
بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) : أي رجالا منهم من الكافرين.
(زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) : أي زينة الحياة الدنيا وقيل فيها زهرة لأنها سرعان ما
تذبل وتذوى.
(لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) : أي لنبتليهم في ذلك أيشكرون أم يكفرون.
(وَالْعاقِبَةُ
لِلتَّقْوى) : العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
معنى الآيات :
بعد ذكر قصة آدم عليهالسلام وما تضمنته من هداية الآيات قال تعالى (أَفَلَمْ يَهْدِ) لأهل مكة المكذبين المشركين أي أغفلوا فلم يهد لهم أي
يتبين (كَمْ أَهْلَكْنا
قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) أي اهلاكنا للعديد من أهل القرون الذين هم يمشون في
مساكنهم ذاهبين جائين
__________________
كثمود وأصحاب مدين
والمؤتفكات أهلكناهم بكفرهم ومعاصيهم فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا.
وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من الإهلاك للقرون الأولى (لَآياتٍ) أي دلائل واضحة على وجوب الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما ، (لِأُولِي النُّهى) أي لأصحاب العقول أما الذين لا عقول لهم لأنهم عطلوها فلم
يفكروا بها فلا يكون في ذلك آيات لهم. وقوله تعالى (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ
سَبَقَتْ مِنْ
رَبِّكَ) بأن لا تموت نفس حتى تستوفي أجلها ، وأجل مسمّى عند الله
في كتاب المقادير لا يتبدل ولا يتغير لكان عذابهم لازما لهم لما هم عليه من الكفر
والشرك والعصيان. وعليه (فَاصْبِرْ) يا رسولنا (عَلى ما يَقُولُونَ) من أنك ساحر وشاعر وكاذب وكاهن من كلمات الكفر ، واستعن
على ذلك بالصلاة ذات الذكر والتسبيح (قَبْلَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ) وهو صلاة الصبح (وَقَبْلَ غُرُوبِها) وهو صلاة العصر (وَمِنْ آناءِ
اللَّيْلِ) أي ساعات الليل وهما صلاتا المغرب والعشاء ، (وَأَطْرافَ النَّهارِ) وهو صلاة الظهر لأنها تقع بين طرفي النهار أي نصفه الأول
ونصفه الثاني وذلك عند زوال الشمس ، لعلك بذلك ترضى بثواب الله تعالى
لك.
وقوله تعالى (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي لا تتطلع ناظرا (إِلى ما مَتَّعْنا
بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) أشكالا في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم (زَهْرَةَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) أي من زينة الحياة الدنيا (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي لنختبرهم في ذلك الذي متعناهم به من زينة الحياة الدنيا
وقوله تعالى : (وَرِزْقُ رَبِّكَ) أي ما لك عند الله من أجر ومثوبة (خَيْرٌ وَأَبْقى) خيرا في نوعه وأبقى في مدته ، واختيار الباقي على الفاني
مطلب العقلاء.
وقوله تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ
وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) أي من أزواجك وبناتك وأتباعك
__________________
المؤمنين بالصلاة
ففيها الملاذ وفيها الشفاء من آلام الحاجة والخصاصية واصطبر عليها واحمل نفسك على
الصبر على إقامتها. وقوله (لا نَسْئَلُكَ
رِزْقاً) أي لا نكلفك ما لا تعطيناه ولكن تكلف صلاة فأدها على أكمل
وجوهها. (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) أي رزقك علينا ، (وَالْعاقِبَةُ
لِلتَّقْوى) أي العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى من
عبادنا وهم الذين يخشوننا فيؤدون ما أوجبنا عليهم ويجتنبون ما حرمنا عليهم رهبة
منا ورغبة فينا. هؤلاء لهم أحسن العواقب ينتهون إليها نصر في الدنيا وسعادة في
الآخرة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير مبدأ
العاقل من اعتبر بغيره.
٢ ـ بيان فضيلة
العقل وشرف صاحبه وانتفاعه به.
٣ ـ وجوب الصبر
على دعوة الله والاستعانة على ذلك بالصلاة.
٤ ـ بيان أوقات
الصلوات الخمس والحصول على رضى النفس بثوابها.
٥ ـ وجوب عدم تعلق
النفس بما عند أهل الكفر من مال ومتاع لأنهم ممتحنون به.
٦ ـ وجوب الرضا
بما قسم الله للعبد من رزق إنتظارا لرزق الآخرة الخالد الباقي.
٧ ـ وجوب الأمر
بالصلاة بين الأهل والأولاد والمسلمين والصبر على ذلك.
٨ ـ فضل التقوى
وكرامة أصحابها وفوزهم بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
٩ ـ إقام الصلاة
بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله تعالى به أسباب الرزق وتوسعته عليهم.
(وَقالُوا لَوْ لا
يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ
الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا
رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ
أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا
فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥))
شرح الكلمات :
(لَوْ لا) : أي هلا فهي أداة تحضيض وحث على وقوع ما يذكر بعدها.
(بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) : أي معجزة تدل على صدقه في نبوته ورسالته.
(بَيِّنَةُ ما فِي
الصُّحُفِ الْأُولى) : أي المشتمل عليها القرآن العظيم من أنباء الأمم الماضية
وهلاكهم بتكذيبهم لرسلهم.
(مِنْ قَبْلِهِ) : من قبل ارسالنا رسولنا محمد صلىاللهعليهوسلم وانزالنا كتابنا القرآن.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ
نَذِلَّ وَنَخْزى) : أي من قبل أن يصيبنا الذل والخزي يوم القيامة في جهنم.
(مُتَرَبِّصٌ) : أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
(فَسَتَعْلَمُونَ) : أي يوم القيامة.
(الصِّراطِ السَّوِيِ) : أي الدين الصحيح وهو الإسلام.
(وَمَنِ اهْتَدى) : أي ممن ضل نحن أم أنتم.
معنى الآيات :
ما زال السياق مع
المشركين طلبا لهدايتهم فقال تعالى مخبرا عن أولئك المشركين الذين متع الله رجالا
منهم بزهرة الحياة الدنيا أنهم أصروا على الشرك والتكذيب (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا
بِآيَةٍ) أي هلا يأتينا محمد بمعجزة كالتي أتى بها صالح وموسى وعيسى
بن مريم تدل على صدقه في نبوته ورسالته إلينا. فقال تعالى رادا عليهم قولتهم
الباطلة : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ
بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ
الْأُولى؟) أيطالبون بالآيات وقد جاءتهم بينة ما في الصحف الأولى
بواسطة القرآن الكريم فعرفوا ما حل بالأمم التي طالبت بالآيات ولما جاءتهم الآيات
كذبوا بها فأهلكهم الله بتكذيبهم فما يؤمن هؤلاء المشركين المطالبين بالآيات أنها لو جاءتهم
ما آمنوا بها فأهلكوا كما
__________________
أهلك المكذبين من
قبلهم.
وقوله تعالى في
الآية الثانية (١٣٤) (وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ
مِنْ قَبْلِهِ) أي من قبل ارسالنا محمد وانزالنا الكتاب عليه لقالوا للرب
تعالى إذا وقفوا بين يديه : (رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) فيما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان والعمل الصالح وذلك
من قبل أن نذل هذا الذل ونخزى هذا الخزي في نار جهنم. فإن كان هذا قولهم لا محالة
فلم لا يؤمنون ويتبعون آيات الله فيعملون بما جاء فيها من الهدى قبل حلول العذاب
بهم؟ وفي الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله بعد هذا الإرشاد الذي أرشدهم إليه (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) أي كل منا متربص أي منتظر ما يؤول إليه الأمر (فَتَرَبَّصُوا) ، فستعلمون في
نهاية الأمر وعند ما توقفون في عرصات القيامة (مَنْ) هم (أَصْحابُ الصِّراطِ
السَّوِيِ) الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام الدين الحق ، (وَمَنِ اهْتَدى) إلى سبيل النجاة والسعادة ممن ضل ذلك فخسر وهلك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ المطالبة بالآيات
سنة متبعة للأمم والشعوب عند ما تعرض عن الحق وتتنكر للعقل وهدايته.
٢ ـ الذلة والخزي
تصيب أهل النار يوم القيامة لما فرطوا فيه من الإيمان والعمل الصالح.
٣ ـ في الآية
إشادة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه : «يحتج به على الله يوم القيامة
ثلاثة : الهالك في الفترة ، والمغلوب على عقله ، والصبي الصغير ، فيقول المغلوب
على عقله لم تجعل لي عقلا انتفع به ، ويقول الهالك في الفترة لم يأتني رسول ولا
نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك إليك ، وقرأ صلىاللهعليهوسلم (لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً) ويقول الصبي الصغير كنت صغيرا لا أعقل. قال فترفع لهم نار
ويقال لهم : ردوها قال فيردها من كان في علم الله أنه سعيد ، ويتلكأ عنها من كان
في علم الله أنه شقي فيقول إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم». رواه ابن جرير عند
تفسير هذه الآية (رَبَّنا لَوْ لا
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً).
__________________
الجزء
السابع عشر
سورة الأنبياء
مكية
وآياتها مائة واثنتا عشرة آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً
قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي
يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا
بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦))
شرح الكلمات :
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسابُهُمْ) : أي قرب زمن حسابهم وهو يوم القيامة.
(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) : أي عما هم صائرون إليه
(مُعْرِضُونَ) : أي عن التأهب ليوم الحساب بصالح الأعمال بعد ترك
__________________
الشرك والمعاصي
(مِنْ ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) : أي من قرآن نازل من ربهم محدث جديد النزول.
(وَهُمْ يَلْعَبُونَ) : أي ساخرين مستهزئين.
(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) : مشغولة عنه بما لا يغني من الباطل والشر والفساد.
(وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى) : أي أخفوا مناجاتهم بينهم.
(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أي أخلاط رآها في المنام.
(بَلِ افْتَراهُ) : أي اختلقه وكذبه ولم يوح إليه.
(أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) : أي لا يؤمنون فالاستفهام للنفي.
معنى الآيات :
يخبر تعالى فيقول
وقوله الحق : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) أي دنا وقرب وقت حسابهم على أعمالهم خيرها وشرها (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) عما ينتظرهم من حساب وجزاء (مُعْرِضُونَ) عما يدعون إليه من التأهب ليوم الحساب بترك الشرك والمعاصي
والتزود بالإيمان وصالح الأعمال. وقوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ
رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي ما ينزل الله من قرآن يعظهم به ويذكرهم بما فيه (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أي استمعوه وهم هازئون ساخرون لاعبون غير متدبرين له ولا
متفكرين فيه. وقوله تعالى : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) أي مشغولة عنه منصرفة عما تحمل الآيات المحدثة النزول من
هدى ونور ، (وَأَسَرُّوا
النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهم المشركون قالوا في تناجيهم بينهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي ما محمد إلا إنسان مثلكم فكيف تؤمنون به وتتابعونه على
ما جاء به ،
__________________
إنه ما هو إلا
ساحر (أَفَتَأْتُونَ
السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) مالكم أين ذهبت عقولكم؟ قال تعالى لرسوله : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ
الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ ...) لأقوال عباده (الْعَلِيمُ) بأعمالهم فهو تعالى سميع لما تقولون من الكذب عليم بصدقي
وحقيقة ما أدعوكم إليه.
وقوله تعالى : (بَلْ قالُوا) أي أولئك المتناجون الظالمون (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) أي قالوا في القرآن يأتيهم من ربهم محدث لهم ؛ ليهتدوا به
قالوا فيه أضغاث أي أخلاط رؤيا منامية وليس بكلام الله ووحيه ، (بَلِ افْتَراهُ) انتقلوا من قول إلى آخر لحيرتهم (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) أي صلىاللهعليهوسلم وما يقوله ليس من جنس الشعر الذي هو ذكر أشياء لا واقع لها
ولا حقيقة. وقوله تعالى عنه : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ
كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) أي إن كان رسولا كما يدعي وليس بشاعر ولا ساحر فليأتنا
بآية أي معجزة كآية صالح أو موسى أو عيسى كما أرسل بها الأنبياء الأولون. قال
تعالى : (ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية (أَهْلَكْناها) بالعذاب لما جاءتها الآية فكذبت أفهم يؤمنون أي لا يؤمنون إذ شأنهم شأن غيرهم ، فلذا لا معنى
لإعطائهم الآية من أجل الإيمان ونحن نعلم أنهم لا يؤمنون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قرب الساعة.
٢ ـ بيان ما كان
عليه المشركون من غفلة ولهو وإعراض ، والناس اليوم أكثر منهم في ذلك.
٣ ـ بيان حيرة
المشركين إزاء الوحي الإلهي والنبي صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ المعجزات لم
تكن يوما سببا في هداية الناس بل كانت سبب اهلاكهم إذ هذا طبع الإنسان إذا لم يرد
الإيمان والهداية فإنه لا يهتدي ولو جاءته كل آية.
__________________
(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ
إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا
خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ
ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠))
شرح الكلمات :
(قَبْلَكَ) : يا محمد.
(أَهْلَ الذِّكْرِ) : أي الكتاب الأول وهم أهل الكتاب.
(جَسَداً) : أي أجسادا آدمية.
(الْوَعْدَ) : أي الذي واعدناهم.
(الْمُسْرِفِينَ) : أي في الظلم والشرك والمعاصي.
(كِتاباً) : هو القرآن العظيم.
(فِيهِ ذِكْرُكُمْ) : أي ما تذكرون به ربكم وما تذكرون به من الشرف بين الناس.
معنى الآيات :
كانت مطالب قريش
من اعتراضاتهم تدور حول لم يكون الرسول بشرا ، ولم يكون رسولا ويأكل الطعام لم لا
يكون له كنز أو جنة يأكل منها ، لم لا يأتينا بآية كما أرسل بها الأولون ، وهكذا.
قال قتادة قال أهل مكة للنبي صلىاللهعليهوسلم «وإذا كان ما
تقوله حقا ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا ، فأتاه جبريل فقال إن شئت كان الذي
سألك قومك ، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا «أي ينزل بهم العذاب فورا» وإن
شئت استأنيت بقومك ، قال بل استأني بقومي فأنزل الله (ما آمَنَتْ
قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ).
وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) يا رسولنا (إِلَّا رِجالاً
نُوحِي إِلَيْهِمْ) ما نريد إبلاغه عبادنا من أمرنا ونهينا. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي فليسأل قومك أهل الكتاب من قبلهم وهم أحبار اليهود
ورهبان النصارى إن كانوا لا يعلمون فإنهم يعلمون أن الرسل من قبلهم لم يكونوا إلا
بشرا. وقوله تعالى : (وَما جَعَلْناهُمْ) أي الرسل (جَسَداً) أي أجسادا ملائكية أو بشرية لا يأكل أصحابها الطعام بل
جعلناهم أجسادا آدمية تفتقر في بقاء حياتها إلى الطعام والشراب فلم يعترض هؤلاء المشركون على كون الرسول بشرا يأكل الطعام
ويمشي في الأسواق؟ وقوله تعالى : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ) أي أولئك الرسل (الْوَعْدَ) الذى وعدناهم وهو أنا إذا آتينا أقوامهم ما طالبوا به من
المعجزات ثم كذبوا ولم يؤمنوا أهلكناهم (فَأَنْجَيْناهُمْ
وَمَنْ نَشاءُ) أي أنجينا رسلنا ومن آمن بهم واتبعهم ، وأهلكنا المكذبين
المسرفين في الكفر والعناد والشرك والشر والباطل.
وقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً
فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ؟) يقول تعالى لأولئك المشركين المطالبين بالآيات التي قد
تكون سبب هلاكهم ودمارهم (لَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ) لهدايتكم وإصلاحكم ثم إسعادكم (كِتاباً) عظيم الشأن (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي ما تذكرون به وتتعظون فتهتدون إلى سبيل سلامتكم
وسعادتكم ، فيه ذكركم بين الأمم والشعوب لأنه نزل بلغتكم الناس لكم فيه تبع وهو
شرف أي شرف لكم. أتشتطون في المكايدة والعناد فلا تعقلون ، ما هو خير لكم مما هو
شر لكم.
__________________
هداية الأيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير مبدأ أن
الرسل لا يكونون إلا بشرا ذكورا لا إناثا.
٢ ـ تعين سؤال أهل
العلم في كل ما لا يعلم إلا من طريقهم ، من أمور الدين والآخرة.
٣ ـ ذم الإسراف في
كل شيء وهو كالغلو في الشرك والظلم.
٤ ـ القرآن ذكر
يذكر به الله تعالى لما فيه من دلائل التوحيد وموعظة لما فيه من قصص الأولين وشرف
أي شرف لمن آمن به وعمل بما فيه من شرائع وآداب وأخلاق.
(وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ
قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا
أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا
إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا
يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى
جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥))
شرح الكلمات :
(وَكَمْ قَصَمْنا) : أي وكثيرا من أهل القرى قصمناهم بإهلاكهم وتفتيت
أجسامهم.
(كانَتْ ظالِمَةً) : أي كان أهلها ظالمين.
(يَرْكُضُونَ) : أي فارين هاربين.
(إِلى ما أُتْرِفْتُمْ
فِيهِ) : أي من وافر الطعام والشراب والمسكن والمركب.
(تُسْئَلُونَ) : أي عن شيء من دنياكم على عادتكم.
(تِلْكَ دَعْواهُمْ) : أي دعوتهم التي يرددونها وهي : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).
(حَصِيداً خامِدِينَ) : أي لم يبق منهم قائم فهم كالزرع المحصود خامدين لا حراك
لهم كالنار إذا أخمدت.
معنى الآيات :
يقول تعالى منذرا
قريشا أن يحل بها ما حل بغيرها ممن أصروا على التكذيب والعناد (وَكَمْ قَصَمْنا) أي أهلكنا وأبدنا إبادة كاملة (مِنْ قَرْيَةٍ) أي أهل قرية (كانَتْ ظالِمَةً) أي كان أهلها ظالمين بالشرك والمعاصي والمكابرة والعناد ، (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ) هم خير من أولئك الهالكين. وقوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا
إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) أي فلما أحسّ أولئك الظالمون (بَأْسَنا) أي شعروا به وادركوه بحواسهم بأسماعهم وأبصارهم (إِذا هُمْ مِنْها) من تلك القرية يركضون هاربين فرارا من الموت. والملائكة
تقول لهم توبيخا لهم وتقريعا : (لا تَرْكُضُوا) هاربين (وَارْجِعُوا إِلى ما
أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) نعمتم فيه من وافر الطعام والشراب والكساء والمسكن والمركب
(لَعَلَّكُمْ
تُسْئَلُونَ) على العادة عن شيء من أموركم وأمور دنياكم ،
فكان جوابهم ما
أخبر تعالى به عنهم : (قالُوا يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا أحضر هذا أو آن حضورك إنا كنا ظالمين أنفسنا
بالشرك والمعاصي والتكذيب والعناد. قال تعالى : (فَما زالَتْ تِلْكَ
دَعْواهُمْ) أي ما زال قولهم (يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا ظالِمِينَ) تلك دعوتهم التي يرددونها (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً
خامِدِينَ) أي مجتثين من أصولهم ساقطين في الأرض خامدين لا حراك لهم
كالنار إذا أخمدت فلم يبق لها لهيب.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التنديد
بالظلم وأعلى درجاته الشرك بالله.
٢ ـ جواز
الاستهزاء بالمشرك الظالم إذا حل به العذاب تقريعا له وتوبيخا.
٣ ـ لا تنفع
التوبة عند معاينة العذاب لو طلبها الهالكون.
٤ ـ شدة الهول
ورؤية العذاب قد تفقد صاحبها رشده وصوابه فيهذر ولا يدري ما يقول.
__________________
(وَما خَلَقْنَا
السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ
نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ
الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ
عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (٢٠))
شرح الكلمات :
(لاعِبِينَ) : أي عابثين لا مقصد حسن لنا في ذلك.
(لَهْواً) : أي زوجة وولدا.
(مِنْ لَدُنَّا) : أي من عندنا من الحور العين أو الملائكة.
(بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِ) : أي نرمي بالحق على الباطل.
(فَيَدْمَغُهُ) : أي يشج رأسه حتى تبلغ الشجة دماغه فيهلك.
(فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) : أي ذاهب مضمحل.
(وَلَكُمُ الْوَيْلُ
مِمَّا تَصِفُونَ) : أي ولكم العذاب الشديد من أجل وصفكم الكاذب للديان بأنّ
له زوجة وولدا وللرسول بأنه ساحر ومفتر.
(وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : خلقا وملكا وتدبيرا لا شريك له في ذلك.
(وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) : أي لا يعيون ولا يتعبون فيتركون التسبيح.
(لا يَفْتُرُونَ) : عن التسبيح لأنه منهم كالنفس منا لا يتعب أحدنا من
التنفس ولا يشغله عنه شيء.
معنى الآيات :
كونه تعالى يهلك الأمم
الظالمة بالشرك والمعاصي دليل أنه لم يخلق الإنسان والحياة
لعبا وعبثا بل خلق
الإنسان وخلق الحياة ليذكر ويشكر فمن أعرض عن ذكره وترك شكره أذاقه بأساءه في
الدنيا والآخرة وهذا ما دلت عليه الآية السابقة وقررته الآية وهي قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) أي عابثين لا قصد حسن لنا بل خلقناهما بالحق وهو وجوب
عبادتنا بالذكر والشكر لنا وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً) أي صاحبة أو ولدا كما يقول المبطلون من العرب القائلون بأن
الله أصهر إلى الجن فأنجب الملائكة وكما يقول ضلّال النصارى أن الله اتخذ مريم
زوجة فولدت له عيسى الابن ، تعالى الله عما يأفكون فرد تعالى هذا الباطل بالمعقول
من القول فقال لو أردنا أن نتخذ لهوا نتلهى به من صاحبة وولد لاتخذنا من لدنا من
الحور العين والملائكة ولكنا لم نرد ذلك ولا ينبغي لنا إنا نملك كل من في السموات
ومن في الأرض عبيدا لنا فكيف يعقل اتخاذ مملوك لنا ولدا ومملوكة زوجة والناس
العجزة الفقراء لا يجيزون ذلك فالرجل لا يجعل مملوكته زوجة له ولا عبده ولدا بحال
من الأحوال وقوله تعالى : (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا
هُوَ زاهِقٌ) فتلك الأباطيل والترهات تنزل حجج القرآن عليها فتدمغها
فإذا هي ذاهبة مضمحلة لا يبقى منها شيء (وَلَكُمُ الْوَيْلُ) أيها الكاذبون مما تصفون الله بالزوجة والولد والشريك
والرسول بالسحر والشعر والكهانة والكذب العذاب لازم لكم من أجل كذبكم وافترائكم
على ربكم ورسوله. وقوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) برهان آخر على بطلان دعوى أن له تعالى زوجة وولدا فالذي
يملك من في السموات ومن في الأرض غنيّ عن الصاحبة والولد إذ الكل له ملكا وتصرفا.
وقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) برهان آخر (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا
__________________
يَفْتُرُونَ) أي فكيف يفتقر إلى الزوجة والولد ، ومن عنده من الملائكة
وهم لا يحصون عدا يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته ولا يملون منها ولا يتعبون من
القيام بها ، يسبحونه الليل والنهار ، والدهر كله (لا يَفْتُرُونَ) أي لا يسأمون فيتركون التسبيح فترة بعد فترة للاستراحة ،
إنهم في تسبيحهم وعدم سآمتهم منه وعدم انشغالهم عنه كالآدميين في تنفسهم وطرف
أعينهم هل يشغل عن التنفس شاغل أو عن طرف العين آخر وهل يسأم الإنسان من ذلك
والجواب لا ، فكذلك الملائكة يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تنزه الرب
تعالى عن اللهو واللعب والصاحبة والولد.
٢ ـ حجج القرآن هي
الحق متى رمى بها الباطل دمغته فذهب واضحمل.
٣ ـ إقامة
البراهين العقلية على إبطال الباطل أمر محمود ، وقد يكون لا بد منه.
٤ ـ بيان غنى الله
المطلق عن كل مخلوقاته.
٥ ـ بيان حال
الملائكة في عبادتهم وتسبيحهم لله تعالى.
(أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ
اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا
يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا
مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُونِ (٢٥))
شرح الكلمات :
(أَمِ اتَّخَذُوا
آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) :
أي من معادنها كالذهب
والفضة والنحاس والحجر.
(هُمْ يُنْشِرُونَ) : أي يحيون الأموات إذ لا يكون إلها حقا إلا من يحيي
الموتى.
(لَوْ كانَ فِيهِما) : أي في السموات والأرض.
(لَفَسَدَتا) : أي السموات والأرض لأن تعدد الآلهة يقتضى التنازع عادة
وهو يقضي بفساد النظام.
(فَسُبْحانَ اللهِ) : أي تنزيه لله عما لا يليق بحلاله وكماله.
(رَبِّ الْعَرْشِ) : أي خالقه ومالكه والمختص به.
(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي الله تعالى من صفات النقص كالزوجة والولد والشريك.
(لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ) : إذ هو الملك المتصرف ، وغيره يسأل عن فعله لعجزه وجهله
وكونه مربوبا.
(قُلْ هاتُوا
بُرْهانَكُمْ) : أي على ما اتخذتم من دونه من آلهة ولا برهان لهم على ذلك
فهم كاذبون.
(هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ) : أي القرآن ذكر أمتى.
(وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي) : أي التوراة والانجيل وغيرهما من كتب الله الكل يشهد أنه
لا إله إلا الله.
(لا يَعْلَمُونَ
الْحَقَ) : أي توحيد الله ووجوبه على العباد فلذا هم معرضون.
(فَاعْبُدُونِ) : أي وحدوني في العبادة فلا تعبدوا معي غيري إذ لا يستحق
العبادة سواي.
معنى الآيات :
يوبخ تعالى
المشركين على شركهم فيقول : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً
مِنَ الْأَرْضِ) أي من أحجارها ومعادنها آلهة (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي يحيون الموتى ، والجواب كلا إنهم لا يحيون والذي لا
يحيي الموتى لا يستحق الألوهية بحال من الأحوال. هذا ما دل عليه قوله
__________________
تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ
هُمْ يُنْشِرُونَ) وفي الآية الثانية (٢٢) يبطل تعالى دعواهم في اتخاذ آلهة
مع الله فيقول : (لَوْ كانَ فِيهِما) أي في السموات والأرض آلهة غير الله تعالى لفسدتا لأن تعدد
الآلهة يقتضى التنازع والتمانع هذا يريد أن يخلق كذا وهذا لا يريده هذا يريد أن
يعطى كذا وذاك لا يريده فيختل نظام الحياة وتفسد ، ومن هنا كان انتظام الحياة هذه
القرون العديدة دالا على وحدة الخالق الواجب الوجود الذي تجب له العبادة وحده دون
من سواه ، فلذا نزه تعالى نفسه عن الشريك وما يصفه به المبطلون من الزوجة والولد
فقال : (فَسُبْحانَ اللهِ
رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)
وقرر ألوهيته
وربوبيته المطلقة بقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فالذي يفعل ولا يسأل لعلمه وقدرته وملكه هو الإله الحق
والذي يسأل عن عمله لم فعلت ولم تركت ويحاسب عليه ويجزى به لن يكون إلا عبدا
مربوبا ، وقوله في توبيخ آخر للمشركين : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ) عزوجل آلهة يعبدونها؟ قل لهم يا رسولنا هاتوا برهانكم على صدق
دعواكم في أنها آلهة ، ومن أين لهم البرهان على احقاق الباطل؟ وقوله تعالى : (هذا ذِكْرُ مَنْ
مَعِيَ) أي من المؤمنين وهو القرآن الكريم به يذكرون الله ويعبدونه
وبه يتعظون (وَذِكْرُ مَنْ
قَبْلِي) أي التوراة والانجيل هل في واحد منها ما يثبت وجود آلهة مع
الله تعالى. والجواب لا. إذا فما هي حجة هؤلاء المشركين على صحة دعواهم ، والحقيقة
أن المشركين جهلة لا يعرفون منطقا ولا برهانا فلذا هم معرضون وهذا ما دل عليه قوله
تعالى : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا
يَعْلَمُونَ الْحَقَ فَهُمْ
مُعْرِضُونَ) فليسوا أهلا لمعرفة الأدلة والبراهين لجهلهم فلذا هم
معرضون عن قبول التوحيد وتقرير أدلته وحججه وبراهينه.
__________________
وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) فلو كان المشركون يعلمون هذا لما أشركوا وجادلوا عن الشرك
، ولكنهم جهلة مغررون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ من أخص صفات
الإله أن يخلق ويرزق ويحيي ويميت فإن لم يكن كذلك فليس بإله.
٢ ـ وحدة النظام
دالة على وحدة المنظم ، ووحدة الوجود دالة على وحدة الموجد وهذا برهان التمانع
الذى يقرر منطقيا وجود الله ووجوب عبادته وحده.
٣ ـ لا برهان على
الشرك أبدا ، ولا يصح في الذهن وجود دليل على صحة عبادة غير الله تعالى.
٤ ـ القرآن
والتوراة وكل كتب الله متضافرة على تقرير توحيد الله تعالى.
٥ ـ تقرير توحيد
الله تعالى وإبطال الشرك والتنديد بالمشركين.
(وَقالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ
مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ
نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٢٩))
__________________
شرح الكلمات :
(وَلَداً) : أي من الملائكة حيث قالوا الملائكة بنات الله ، تعالى
الله عن ذلك علوا كبيرا.
(سُبْحانَهُ) : تنزيه له تعالى عن اتخاذ الولد.
(بَلْ عِبادٌ
مُكْرَمُونَ) : هم الملائكة ، ومن كان عبدا لا يكون ابنا ولا بنتا.
(لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ) : أي لا يقولون حتى يقول هو وهذا شأن العبد لا يتقدم سيده
بشيء.
(وَهُمْ بِأَمْرِهِ
يَعْمَلُونَ) : أي فهم مطيعون متأدبون لا يعملون إلا بإذنه لهم.
(وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) : أي إلّا لمن رضي تعالى أن يشفع له.
(مُشْفِقُونَ) : أي خائفون.
(مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله كإبليس عليه لعائن الله.
(كَذلِكَ نَجْزِي
الظَّالِمِينَ) : أي لأنفسهم بالشرك والمعاصي.
معنى الآيات :
بعد أن أبطلت
الآيات السابقة الشرك ونددت بالمشركين جاءت هذه الآيات في إبطال باطل آخر للمشركين
وهو نسبتهم الولد لله تعالى فقال تعالى عنهم و (قالُوا اتَّخَذَ
الرَّحْمنُ وَلَداً) وهو زعمهم أن الملائكة بنات الله فنزه تعالى نفسه عن هذا
النقص فقال (سُبْحانَهُ) وأبطل دعواهم وأضرب عنها فقال (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) أي فمن نسبوهم لله بنات له هم عباد له مكرمون عنده ووصفهم
تعالى تعالى بقوله : (لا يَسْبِقُونَهُ
بِالْقَوْلِ) فهم لكمال عبوديتهم لا يقولون حتى يقول هو سبحانه وتعالى ،
وهم يعملون بأمره فلا يقولون ولا يعملون إلا بعد إذنه لهم ، وأخبر تعالى أنه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ) فعلمه عزوجل محيط بهم ولا يشفعون لأحد من خلقه إلا لمن ارتضى أن يشفع له فقال تعالى :
__________________
(وَلا يَشْفَعُونَ
إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) وزيادة على ذلك أنهم (مِنْ خَشْيَتِهِ
مُشْفِقُونَ) خائفون ، وعلى فرض أن أحدا منهم قال إنى إله من دون الله فإن الله تعالى يجزيه بذلك القول جهنم وكذلك
الجزاء نجزي الظالمين أي أنفسهم بالشرك والمعاصي ، وبهذا بطلت فرية المشركين في
جعلهم الملائكة بنات لله وفي عبادتهم ليشفعوا لهم عنده تعالى.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال نسبة
الولد إلى الله تعالى من قبل المشركين وكذا اليهود والنصارى.
٢ ـ بيان كمال
عبودية الملائكة لله تعالى وكمال أدبهم وطاعتهم لربهم سبحانه وتعالى.
٣ ـ بطلان دعوى
المشركين في شفاعة الملائكة لهم ، إذ الملائكة لا يشفعون إلا لمن رضى الله تعالى
أن يشفعوا له.
٤ ـ تقرير وجود
شفاعة يوم القيامة ولكن بشروطها وهي أن يكون الشافع قد أذن له بالشفاعة ، وأن يكون
المشفوع له من أهل التوحيد فأهل الشرك لا تنفعهم شفاعة الشافعين.
(أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا
فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ
عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٣٣))
__________________
شرح الكلمات :
(كانَتا رَتْقاً) : أي كتلة واحدة منسدة لا انفتاح فيها.
(فَفَتَقْناهُما) : أي جعلنا السماء سبع سموات والأرض سبع أرضين.
(رَواسِيَ) : أي جبالا ثابتة.
(أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) : أي تتحرك فتميل بهم.
(فِجاجاً سُبُلاً) : أي طرقا واسعة يسلكونها تصل بهم إلى حيث يريدون.
(لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) : إلى مقاصدهم في أسفارهم.
(وَهُمْ عَنْ آياتِها) : من الشمس والقمر والليل والنهار معرضون.
(كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) : الفلك كل شيء دائر.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير التوحيد ووجوب تنزيه الله تعالى عن صفات النقص والعجز فقال تعالى
: (أَوَلَمْ يَرَ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي الكافرون بتوحيد الله وقدرته وعلمه ووجوب عبادته إلى
مظاهر قدرته وعلمه وحكمته في هذه المخلوقات العلوية والسفلية فالسموات والأرض
كانتا كتلة واحدة من سديم فخلق الله تعالى منها السموات والأرضين كما أن السماء
تتفتق بإذنه تعالى عن الأمطار ، والأرض تتفتق عن النباتات المختلفة الألوان
والروائح والطعوم والمنافع ، وأن كل شيء حيّ في هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات
هو من الماء أليست هذه كلها دالة على وجود الله ووجوب عبادته وتوحيده فيها؟
فما للناس لا
يؤمنون؟ هذا ما دل عليه قوله تعالى في الآية الأولى (٣٠) (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً
فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ
كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ؟)
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت كيلا تميد أي
__________________
تتحرك وتضطرب
بسكانها ، (وَجَعَلْنا فِيها) أي في الأرض (فِجاجاً سُبُلاً) أي طرقا سابلة للسير فيها (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي كي يهتدوا إلى مقاصدهم في أسفارهم ، وقوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً
مَحْفُوظاً) من السقوط ومن الشياطين. وقوله : (وَهُمْ عَنْ آياتِها) من الشمس والقمر والليل والنهار إذ هذه آيات قائمة بها (مُعْرِضُونَ) أي لا يفكرون فيها فيهتدوا إلى معرفة الحق عزوجل ومعرفة ما يجب له من العبادة والتوحيد فيها ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ
وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ
كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي كل من الشمس والقمر في فلك خاص به يسبح الدهر كله ،
والفلك عبارة عن دائرة كفلكة المغزل يدور فيها الكوكب من شمس وقمر ونجم يسبح فيها
لا يخرج عنها إذ لو خرج يحصل الدمار الشامل للعوالم كلها ، فسبحان العليم الحكيم ،
هذه كلها مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي موجبة للتوحيد مقررة له ، ولكن
المشركين عنها معرضون لا يفكرون ولا يهتدون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان مظاهر
قدرة الله وعلمه وحكمته الموجبة لتوحيده والإيمان به وطاعته.
٢ ـ بيان الحكمة
من خلق الجبال الرواسي.
٣ ـ بيان دقة
النظام الإلهي ، وعظيم العلم والحكمة له سبحانه وتعالى.
٤ ـ إعراض أكثر
الناس عن آيات الله في الآفاق كإعراضهم عن آياته القرآنية هو سبب جهلهم وشركهم
وشرهم وفسادهم.
__________________
(وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ
نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً
وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ
هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا
تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
(٣٨))
شرح الكلمات :
(الْخُلْدَ) : أي البقاء في الدنيا.
(ذائِقَةُ الْمَوْتِ) : أي مرارة مفارقة الجسد.
(وَنَبْلُوكُمْ) : أي نختبركم.
(بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ) : فالشر كالفقر والمرض ، والخير كالغنى والصحة.
(فِتْنَةً) : أي لأجل الفتنة لننظر أتصبرون وتشكرون أم تجزعون
وتكفرون.
(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
إِلَّا هُزُواً) : أي ما يتخذونك إلا هزوا أي مهزوءا بك.
(يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) : أي يعيبها.
(بِذِكْرِ الرَّحْمنِ
هُمْ كافِرُونَ) : جيث أنكروا اسم الرحمن لله تعالى وقالوا : ما الرحمن؟
(خُلِقَ الْإِنْسانُ
مِنْ عَجَلٍ) : حيث خلق الله آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة على عجل ،
فورث بنوه طبع العجلة عنه.
(سَأُرِيكُمْ آياتِي) : أي سأريكم ما حملته آياتي من وعيد لكم بالعذاب في الدنيا
والآخرة.
معنى الآيات :
كأنّ المشركين
قالوا شامتين إن محمدا سيموت ، وقالوا نتربص به ريب المنون فأخبر تعالى أنه لم
يجعل لبشر من قبل نبيّه ولا من بعده الخلد حتى يخلد هو صلىاللهعليهوسلم فكل نفس زائقة الموت ، ولكن إن مات رسوله فهل المشركون
يخلدون والجواب لا ، إذا فلا وجه للشماتة بالموت لو كانوا يعقلون. هذا ما دلت عليه
الآية الأولى (٣٤) (وَما جَعَلْنا
لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ)
وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) أي كل نفس منفوسة ذائقة مرارة الموت بمفارقة الروح للبدن ،
والحكمة في ذلك أن يتلقى العبد بعد الموت جزاء عمله خيرا كان أو شرا ، دل عليه
قوله بعد : (وَنَبْلُوكُمْ
بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) من غنى وفقر ومرض وصحة وشدة ورخاء (فِتْنَةً) أي لأجل فتنتكم أي اختباركم ليرى الصابر الشاكر والجزع
الكافر. وقوله تعالى : (وَإِلَيْنا
تُرْجَعُونَ) أي بعد الموت للحساب والجزاء على كسبكم خيره وشره.
وقوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) يخبر تعالى رسوله بأن المشركين إذا رأوه ما يتخذونه إلا
هزوا وذلك لجهلهم بمقامه وعدم معرفتهم فضله عليهم وهو حامل الهدى لهم ، وبين وجه
استهزائهم به صلىاللهعليهوسلم بقوله : (أَهذَا الَّذِي
يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) أي بعيبها وانتقاصها ، قال تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ
كافِرُونَ) أي عجبا لهم يتألمون لذكر ألهتم بسوء وهي محط السوء فعلا ،
ولا يتألمون لكفرهم بالرحمن ربهم سبحانه وتعالى حتى إنهم أنكروا أن يكون اسم
الرحمن اسما لله تعالى وقالوا لا رحمن الا رحمن اليمامة.
وقوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ
عَجَلٍ) قال تعالى هذا لما استعجل المشركون
__________________
العذاب وقالوا
للرسول والمؤمنين : (مَتى هذَا الْوَعْدُ
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فأخبر تعالى أن الاستعجال من طبع الإنسان الذي خلق عليه ، وأخبرهم أنه سيريهم آياته
فيهم بإنزال العذاب بهم وأراهم ذلك في بدر الكبرى وذلك في قوله (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا
تَسْتَعْجِلُونِ) أي : فلا داعي إلى الاستعجال وقوله تعالى (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ) أخبر تعالى عن قيلهم للرسول والمؤمنين وهم يستعجلون العذاب
: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ وهذا عائد إلى ما فطر عليه الإنسان من العجلة من
جهة ، وإلى جهلهم وكفرهم من جهة أخرى وإلا فالعاقل لا يطالب بالعذاب بل يطالب
بالرحمة والخير ، لا بالعذاب والشر.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال ما شاع
من أن الخضر حيّ مخلد لا يموت لنفيه تعالى ذلك عن كل البشر.
٢ ـ بيان العلة من
وجود خير وشر في هذه الحياة الدنيا وهي الاختبار.
٣ ـ بيان ما كان
عليه المشركون من الاستهزاء بالرسول صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ تقرير حقيقة
أن الإنسان مطبوع على العجلة فلذا من غير طبعه بالتربية فأصبح ذا أناة وتؤدة كان
من أكمل الناس وأشرفهم.
(لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ
ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ
فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ
بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ
__________________
الرَّحْمنِ
بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ
مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣))
شرح الكلمات :
(لا يَكُفُّونَ) : أي لا يمنعون ولا يدفعون النار عن وجوههم.
(بَلْ تَأْتِيهِمْ
بَغْتَةً) : أي تأتيهم القيامة بغتة أي فجأة.
(فَتَبْهَتُهُمْ) : أي تحيرهم.
(وَلا هُمْ
يُنْظَرُونَ) : أي يمهلون ليتوبوا.
وحاق بهم : أي نزل
بهم العذاب الذي كانوا به يستهزئون.
(مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) : أي من يحفظكم ويحرسكم.
(مِنَ الرَّحْمنِ) : أي من عذابه إن أراد إنزاله بكم.
(بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) :
أي هم عن القرآن
معرضون فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
(وَلا هُمْ مِنَّا
يُصْحَبُونَ) : أي لا يجدون من يجيرهم من عذابنا.
معنى الآيات :
يقول تعالى (لَوْ يَعْلَمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) المستعجلون بالعذاب المطالبون به حين أي الوقت الذي يلقون
فيه في جهنم والنار تأكل وجوههم وظهورهم ، ولا يستطيعون أن يمنعوا أنفسهم منها ولا
هم ينصرون بمن يدفع العذاب عنهم لو علموا هذا وأيقنوا به لما طالبوا بالعذاب ولا
استعجلوا يومه وهو يوم القيامة ، هذا ما دل عليه قوله تعالى : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
حِينَ لا
يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ
يُنْصَرُونَ) وقوله تعالى :
__________________
(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً
فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي أن القيامة لا تأتيهم على علم منهم بوقتها وساعتها
فيمكنهم بذلك التوبة ، وإنما تأتيهم (بَغْتَةً) أي فجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي فتحيرهم (فَلا يَسْتَطِيعُونَ
رَدَّها ، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي يمهلون ليتوبوا من الشرك والمعاصى فينجوا من عذاب النار
،
وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو العذاب هذا القول للرسول صلىاللهعليهوسلم تعزية له وتسلية ليصبر على ما يلاقيه من استهزاء قريش به
واستعجالهم العذاب ، إذ حصل مثله للرسل قبله فصبروا حتى نزل العذاب بالمستهزئين
بالرسل عليهمالسلام. وقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) يأمر تعالى رسوله أن يقول للمطالبين بالعذاب المستعجلين له
: (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي من يجيركم من الرحمن إن أراد أن يعذبكم ، إنه لا أحد
يقدر على ذلك إذا فلم لا تتوبون إليه بالإيمان والتوحيد والطاعة له ولرسوله ،
وقوله : (بَلْ هُمْ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) إن علة عدم استجابتهم للحق هي إعراضهم عن القرآن الكريم
وتدبر آياته وتفهم معانيه. وقوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ
تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ينكر تعالى أن يكون للمشركين آلهة تمنعهم من عذاب الله متى
نزل بهم ويقرر أن آلهتهم لا تستطيع نصرهم (وَلا هُمْ مِنَّا
يُصْحَبُونَ) أي وليس هناك من يجيرهم من عذاب الله من آلهتهم ولا من
غيرها فلا يقدر أحد على إجارتهم من عذاب الله متى حل بهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير أن
الساعة لا تأتي إلا بغتة.
٢ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٣ ـ تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم بما كان عليه الرسل من قبله وما لاقوه من أممهم.
__________________
٤ ـ بيان عجز الهة
المشركين عن نصرتهم بدفع العذاب عنهم متى حل بهم.
٥ ـ بيان أن علة
إصرار المشركين على الشرك والكفر هو عدم إقبالهم على تدبر القرآن الكريم وتفكرهم
في آياته وما تحمله من هدى ونور.
(بَلْ مَتَّعْنا
هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا
نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ
إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما
يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ
يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ
مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧))
شرح الكلمات :
(مَتَّعْنا هؤُلاءِ
وَآباءَهُمْ) : أي بما أنعمنا عليهم من الخيرات.
(حَتَّى طالَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) : فانغرّوا بذلك.
(نَنْقُصُها مِنْ
أَطْرافِها) : أي بالفتح على النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه المؤمنين.
(إِنَّما أُنْذِرُكُمْ
بِالْوَحْيِ) : أي بأخبار الله تعالى التي يوحيها إلي وليس هناك شيء من
عندي.
(نَفْحَةٌ) : أي وقعة من عذاب خفيفة.
(يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا ظالِمِينَ) : أي يقولون يا ويلنا أي يا هلاكنا.
(إِنَّا كُنَّا
ظالِمِينَ) : أي بالشرك والتكذيب للرسول صلىاللهعليهوسلم.
(الْمَوازِينَ
الْقِسْطَ) : أي العادلة.
(فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ
شَيْئاً) : لا بنقص حسنة ولا بزيادة سيئة.
(مِثْقالَ حَبَّةٍ) : أي زنة حبة من خردل.
(وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) : أي محصين لكل شيء.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
إبطال دعاوي المشركين فقال تعالى : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ) بما أنعمنا عليهم هم وآباؤهم فظنوا أن آلهتهم هي الحافظة
لهم بل الله هو الحافظ (حَتَّى طالَ
عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فانغروا بذلك. (أَفَلا يَرَوْنَ
أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) أرض الجزيرة بلادهم (نَنْقُصُها مِنْ
أَطْرافِها) بدخول أهلها في الإسلام بلدا بعد بلد. (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ)؟ الله هو الغالب حيث مكن لرسوله والمؤمنين وفتح عليهم ، ثم
أمر رسوله أن يقول لهم أيها المكذبون إنما أنذركم العذاب وأخوفكم من عاقبة شرككم
بالوحي الإلهي لا من تلقاء نفسي ، وقوله تعالي : (وَلا يَسْمَعُ
الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ) فالصم لحبهم الباطل الذي هم عليه لا يسمعون الدعاء إذا ما
ينذرون وفي الخبر حبك الشيء يعمي ويصم فحبهم للشرك وآلهته جعلهم لا يسمعون فاستوى
انذارهم وعدمه وقوله تعالى : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ
نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) أي وقعة خفيفة من العذاب لصاحوا يدعون بالويل على أنفسهم
قائلين (يا وَيْلَنا إِنَّا
كُنَّا ظالِمِينَ)
فكيف بهم إذا وضعت
الموازين العدل ليوم القيامة حيث لا تظلم نفس شيئا وإن قل وإن كان مثقال حبة من
حسنة أو سيئة أتينا بها ووزناها (وَكَفى بِنا
حاسِبِينَ) أي محصين لأعمال العباد لعلمنا المحيط بكل شيء وقدرتنا
التي لا يعجزها شيء .. ألا فلنتق الله أيها العقلاء!!
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ طول العمر
والرزق الواسع كثيرا ما يسبب الغرور لصاحبه.
٢ ـ حب الشيء يعمي
صاحبه حتى لا يرى إلا ما أحبه ويصمه بحيث لا يسمع إلا ما أحبه.
٣ ـ بيان ضعف
الإنسان وأن أدنى عذاب ينزل به لا يتحمله ويصرخ داعيا يا هلاكاه.
٤ ـ تقرير البعث
والحساب والجزاء.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ
يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا
ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))
شرح الكلمات :
(الْفُرْقانَ) : التوراة لأنها فارقة بين الحق والباطل كالقرآن.
(وَضِياءً) : أي يهدي إلى الحق في العقائد والشرائع.
(وَذِكْراً) : أي موعظة.
(يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ
بِالْغَيْبِ) : أي يخافون ربهم وهم لا يرونه في الدنيا فلا يعصونه بترك
واجب ولا بفعل حرام.
(وَهُمْ مِنَ
السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) : أي وهم من أهوال يوم القيامة وعذابه خائفون.
(وَهذا ذِكْرٌ
مُبارَكٌ) : أي القرآن الكريم تنال بركته قارئه والعامل به.
(أَفَأَنْتُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ) : الاستفهام للتوبيخ يوبخ تعالى من أنكر أن القرآن كتاب
الله.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أنه
آتى موسى وهارون الفرقان أي الحق الذي فرق بين حق موسى وهارون
__________________
وبين باطل فرعون ،
كما فرق بين التوحيد والشرك يوم بدر يوم الفرقان وآتاهما التوراة ضياء يستضاء بها
في معرفة الحلال والحرام والشرائع والأحكام وذكرا أي موعظة للمتقين ، ووصف المتقين
بصفتين : الأولى أنهم يخشون ربهم أي يخافونه بالغيب أي وهم لا يرونه والثانية : أنهم مشفقون من الساعة أي مما يقع فيها من أهوال وعذاب وقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) يشير الى القرآن الكريم ويصفه بالبركة فبركته لا ترفع فكل
من قرأه وعمل بما فيه نالته بركته قراءة الحرف الواحد منه بعشر حسنات لا تنقضى
عجائبه ولا تكتنه أسراره ولا تكتشف كل حقائقه ، هدى لمن استهدى ، وشفاء لمن استشفى
وقوله تعالى : (أَفَأَنْتُمْ لَهُ
مُنْكِرُونَ) يوبخ به العرب الذين آمنوا بكتاب اليهود إذ كانوا يسألونهم
عما في كتابهم ، وكفروا بالقرآن الذي هو كتابهم فيه ذكرهم وشرفهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إظهار منة
الله تعالى على موسى وقومه ومحمد وأمته بانزال التوراة على موسى والقرآن على محمد صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ بيان صفات
المتقين وهم الذين يخشون ربهم بالغيب فلا يعصونه بترك واحب ولا بفعل محرم : وهم
دائما في اشفاق وخوف من يوم القيامة.
٣ ـ الاشادة
بالقرآن الكريم حيث أنزله تعالى مباركا.
٤ ـ توبيخ وتقريع
من يكفر بالقرآن وينكر ما فيه من الهدى والنور.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢)
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣)
__________________
قالَ
لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا
بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا
مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨))
شرح الكلمات :
(رُشْدَهُ) : أي هداه بمعرفة ربّه والإيمان به ووجوب طاعته والتقرب
إليه.
(التَّماثِيلُ) : جمع تمثال وهو الصورة المصنوعة على شبه إنسان أو حيوان.
(الَّتِي أَنْتُمْ
لَها عاكِفُونَ) : أي مقبلون عليها ملازمون لها تعبدا.
(أَمْ أَنْتَ مِنَ
اللَّاعِبِينَ) : أي الهازلين غير الجادين فيما يقولون أو يفعلون.
(رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّماواتِ) : أي المستحق للعبادة مالك السموات والأرض.
(الَّذِي فَطَرَهُنَ) : أي أنشأهن خلقا وإيجادا على غير مثال سابق.
(لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ) : أي لأحتالن على كسر أصنامكم وتحطيمها.
(جُذاذاً) : فتاتا وقطعا صغيرة.
(إِلَّا كَبِيراً
لَهُمْ) : إلا أكبر صنم لهم فإنه لم يكسره.
(لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ) : كي يرجعوا إليه فيؤمنوا بالله ويوحّدوه بعد أن يظهر لهم
عجز آلهتهم.
معنى الآيات :
على ذكر ما منّ به
تعالى على موسى وهارون ومحمد صلىاللهعليهوسلم من إيتائه إياهم التوراة والقرآن ذكر أنه امتن قبل ذلك على
إبراهيم فآتاه رشده في صباه فعرفه به وبجلاله وكماله ووجوب
الإيمان به تعالى
وعبادته وحده ، وإن عبادة من سواه باطلة ، فقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ
مِنْ قَبْلُ) وقوله : (وَكُنَّا بِهِ
عالِمِينَ) أي بأهليته للدعوة والقيام بها لما علمناه (إِذْ قالَ) أي في الوقت الذي قال لأبيه أي آزر ، وقومه منكرا عليهم
عبادة غير الله (ما هذِهِ) (التَّماثِيلُ الَّتِي
أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) أي مقبلون عليها ملازمون لها فأجابوه بما أخبر تعالى به
عنهم في قوله : (قالُوا وَجَدْنا
آباءَنا لَها عابِدِينَ) فأعلنوا عن جهلهم إذ لم يذكروا برهانا على صحة أو فائدة
عبادتها واكتفوا بالتقليد الأعمى وشأنهم في هذا شأن سائر من يعبد غير الله تعالى
فإنه لا برهان له على صحة عبادة من يعبد إلا التقليد لمن رآه يعبده. فرد عليهم
ابراهيم بما أخبر تعالى عنه في قوله (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ
أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) أي الذين قلدتموهم في عبادة الأصنام (فِي ضَلالٍ) أي عن الهدى الذي يجب أن تكونوا عليه (مُبِينٍ) لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه ، وردوا على إبراهيم قوله
هذا فقالوا بما أخبر تعالى به عنهم (قالُوا أَجِئْتَنا
بِالْحَقِ) أي فيما قلت لنا من أنّا وآباءنا في ضلال مبين (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) أي في قولك الذي قلت لنا فلم تكن جادا فيما تقول وإنما أنت
لاعب لا غير ورد إبراهيم عليهم بما أخبر تعالى به عنه في قوله : (قالَ بَلْ) (رَبُّكُمْ رَبُّ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ) أي ليس ربكم تلك التماثيل بل ربكم الحق الذي يستحق عبادتكم
الذي فطر السموات والأرض فأنشأهن خلقا عجيبا من غير مثال سابق وأنا على كون ربكم
رب السموات والأرض من الشاهدين إذ لا رب لكم غيره ، ولا إله حق لكم سواه. (وَتَاللهِ) قسما به تعالى (لَأَكِيدَنَّ
أَصْنامَكُمْ) أي لأحتالن عليها فأكسرها (بَعْدَ أَنْ
تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) أي بعد أن ترجعوا عنها وتتركوها وحدها.
__________________
وفعلا لما خرجوا
إلى عيد لهم يقضون يوما خارج المدينة أتى تلك التماثيل فكسرها فجعلها قطعا متناثرة
هنا وهناك إلا صنما كبيرا لهم تركه (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ
يَرْجِعُونَ) أي يرجعون إلى إبراهيم فيعبدون معه ربّه سبحانه وتعالى عند
ما يتبيّن لهم بطلان عبادة الأصنام لأنها لم تستطع أن تدفع عن نفسها فكيف تدفع عن
غيرها.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مظاهر إنعام
الله وإكرامه لمن اصطفى من عباده.
٢ ـ تقرير النبوة
والتوحيد ، والتنديد بالشرك والمشركين.
٣ ـ ذم التقليد
وأنه ليس بدليل ولا برهان للمقلد على ما يعتقد أو يفعل.
٤ ـ مشروعية
الشهادة وفضلها في مواطن تعز فيها ويحتاج إليها.
٥ ـ تغيير المنكر
باليد لمن قدر عليه مقدم على تغييره باللسان والجمع بينهما أفضل.
(قالُوا مَنْ فَعَلَ
هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ
النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا
يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ
كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ
أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما
هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥))
شرح الكلمات :
(بِآلِهَتِنا) : أي بأصنامهم التي سموها آلهة لأنهم يعبدونها ويؤلهونها
__________________
(فَتًى يَذْكُرُهُمْ) : أي بالعيب والإنتقاص.
(عَلى أَعْيُنِ
النَّاسِ) : أي ظاهرا يرونه بأعينهم.
(يَشْهَدُونَ) : أي عليه بأنه الذي كسر الآلهة ، ويشهدون العقوبة التي
ننزلها به.
(أَأَنْتَ فَعَلْتَ
هذا) : هذه صيغة الاستنطاق والاستجواب.
(بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) : أشار إلى أصبعه نحو الصنم الكبير الذي علق به الفاس
قائلا بل فعله كبيرهم هذا وورّى بإصبعه تحاشيا للكذب.
(فَرَجَعُوا إِلى
أَنْفُسِهِمْ) : أي بعد التفكر والتأمل حكموا على أنفسهم بالظلم لعبادتهم
ما لا ينطق.
(نُكِسُوا عَلى
رُؤُسِهِمْ) : أي بعد اعترافهم بالحق رجعوا إلى اقرار الباطل فكانوا
كمن نكس فجعل رأسه أسفل ورجلاه أعلى.
(ما هؤُلاءِ
يَنْطِقُونَ) : فكيف تطلب منا أن نسألهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم فيما دار بين إبراهيم الخليل وقومه من حوار حول العقيدة انه لما استغل
ابراهيم فرصة خروج القوم إلى عيدهم خارج البلد ودخل البهو فكسر الآلهة فجعلها قطعا
متناثرة وعلق الفأس بكبير الآلهة المزعومة وعظيمها وخرج فلما جاء المساء وعادوا
إلى البلد ذهبوا إلى الآلهة المزعومة لأخذ الطعام الموضوع بين يديها لتباركه في
زعمهم واعتقادهم الباطل وجدوها مهشمة مكسرة صاحوا قائلين : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ
لَمِنَ الظَّالِمِينَ)
فأجاب بعضهم بعضا
قائلا : (سَمِعْنا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ) أي شابا يذكر الآلهة بعيب وازدراء ، واسمه إبراهيم ، وهنا
قالوا إذا (فَأْتُوا بِهِ عَلى
أَعْيُنِ النَّاسِ) لنشاهده ونحقق معه فإذا ثبت أنه هو عاقبناه وتشهد الناس
عقوبته فيكون ذلك نكالا لغيره ، وجاءوا به عليهالسلام وأخذوا في استنطاقه فقالوا ما أخبر تعالى به عنهم : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا)
__________________
أي التكسير
والتحطيم (يا إِبْراهِيمُ)؟ فأجابهم بما أخبر تعالى به عنه بقوله : (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ
هذا) يشير بأصبعه إلى كبير الآلهة تورية ، (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) تقريعا لهم وتوبيخا وهنا رجعوا الى أنفسهم باللائمة فقالوا
: (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ
الظَّالِمُونَ) أي حيث تألهون ما لا ينطق ولا يجيب ولا يدفع عن نفسه فكيف
عن غيره ، وقوله تعالى : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى
رُؤُسِهِمْ) أي قلبهم الله رأسا على عقب فبعد أن عرفوا الحق ولاموا على
أنفسهم عادوا إلى الجدال بالباطل فقالوا : (لَقَدْ عَلِمْتَ) أي يا إبراهيم ما (هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) فكيف تطلب منا أن نسألهم وأنت تعلم أنهم لا ينطقون. كما أن
اعترافهم بعدم نطق الآلهة المدعاة إنتكاس منهم إذ اعترفوا ببطلان تلك الآلهة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الظلم معروف
لدى البشر كلهم ومنكر بينهم ولو لا ظلمة النفوس لما أقروه بينهم.
٢ ـ إقامة البيّنة
على الدعاوي أمر مقرر في عرف الناس وجاءت به الشرائع من قبل.
٣ ـ أسلوب
المحاكمة يعتمد على الاستنطاق والاستجواب أولا.
٤ ـ مشروعية
التورية خشية القول بالكذب .
(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ
وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ
وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
__________________
فاعِلِينَ
(٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا
بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى
الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ
وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢))
شرح الكلمات :
(ما لا يَنْفَعُكُمْ
شَيْئاً) : أي آلهة لا تنفعكم شيئا ولا تضركم إن أرادت ضركم.
(أُفٍّ لَكُمْ) : أي قبحا لكم ولما تعبدون من دون الله.
(قالُوا : حَرِّقُوهُ) : أي أحرقوه بالنار إنتصارا لألهتكم التي كسرها.
(بَرْداً وَسَلاماً) : أي على إبراهيم فكانت كذلك فلم يحرق منه غير وثاقه «الحبل
الذي وثق به».
(كَيْداً) : وهو تحريقه بالنار للتخلص منه.
(فَجَعَلْناهُمُ
الْأَخْسَرِينَ) : حيث خرج من النار ولم تحرقه ونجا من قبضتهم وذهب كيدهم
ولم يحصلوا على شيء.
(وَنَجَّيْناهُ
وَلُوطاً) : أي ابن أخيه هاران.
(الَّتِي بارَكْنا
فِيها) : وهي أرض الشام.
(وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) : زيادة على طلبه الولد فطلب ولدا فأعطاه ما طلب وزاده
آخر.
(وَكُلًّا جَعَلْنا
صالِحِينَ) : أي وجعلنا كل واحد منهم صالحا من الصالحين الذين يؤدون
حقوق الله كاملة وحقوق الناس كذلك.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أن
إبراهيم عليهالسلام قال لقومه منكرا عليهم عبادة ألهتهم (أَفَتَعْبُدُونَ
__________________
مِنْ
دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) أي أتعبدون آلهة دون الله علمتم أنها لا تنفعكم شيئا ولا
تضركم ولا تنطق إذا استنطقت ولا تجيب إذا سئلت (أُفٍّ لَكُمْ وَلِما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي قبحا لكم ولتلك التماثيل التي تعبدون من دون الله
الخالق الرازق الضار النافع (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح عبادتها وباطل تأليهها وهي جماد لا تسمع ولا تنطق ولا
تنفع ولا تضر وهنا أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم فقالوا : (حَرِّقُوهُ) أي أحرقوا إبراهيم بالنار (وَانْصُرُوا
آلِهَتَكُمْ) التي أهانها وكسرها (إِنْ كُنْتُمْ
فاعِلِينَ) أي مريدين نصرتها حقا وصدقا. ونفذوا ما أجمعوا عليه وجمعوا
الحطب وأججوا النار في بنيان خاص وألقوه فيه بواسطة منجنيق لقوة لهبها وشدة حرها
وقال تعالى للنار
ما أخبر به فى قوله : (قُلْنا يا نارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت كما طلب منها ولم تحرق غير وثاقه الحبل الذي شدت به
يداه ، ورجلاه ولو لم يقل وسلاما لكان من الجائز أن تنقلب النار جبلا من ثلج ويهلك
به إبراهيم عليهالسلام. روى أن والد إبراهيم لما رأى إبراهيم لم تحرقه النار وهو
يتفصد عرقا قال : نعم الرب ربك يا إبراهيم! وقوله تعالى : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ
الْأَخْسَرِينَ) أي أرادوا بإبراهيم مكرا وهو إحراقه بالنار فخيّب الله
مسعاهم وأنجى عبده وخليله من النار وأحبط عليهم ما كانوا يأملون فخسروا في كل
أعمالهم التي أرادوا بها إهلاك إبراهيم ، وقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) أي ونجينا إبراهيم وابن أخيه هاران وهو لوط (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها
لِلْعالَمِينَ) وهي أرض الشام فنزل إبراهيم
__________________
بفلسطين ونزل لوط
بالمؤتفكة وهي قرى قوم لوط التى بعد دمارها استحالت الى بحيرة غير صالحة للحياة
فيها وقوله : (بارَكْنا فِيها
لِلْعالَمِينَ) أي بارك في أرزاقها بكثرة الاشجار والانهار والثمار لكل من
ينزل بها من الناس كافرهم ومؤمنهم لقوله : (لِلْعالَمِينَ)
وقوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ) أي لإبراهيم اسحق حيث سأل الله تعالى الولد ، وزاده يعقوب
نافلة وقوله : (وَكُلًّا جَعَلْنا
صالِحِينَ) أي وجعلنا كل واحد منهم من الصالحين الذين يعبدون الله بما
شرع لهم فأدوا حقوق الربّ تعالى كاملة ، وأدوا حقوق الناس كاملة وهذا نهاية
الصلاح.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان قوة حجة
إبراهيم عليهالسلام ، ومتانة أسلوبه في دعوته وذلك مما آتاه ربّه.
٢ ـ مشروعية توبيخ
أهل الباطل وتأنيبهم.
٣ ـ آية إبطال
مفعول النار فلم تحرق إبراهيم إلا وثاقه لما أراد الله تعالى ذلك.
٤ ـ قوة التوكل
على الله كانت سبب تلك المعجزة إذ قال إبراهيم حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال الله تعالى
للنار : (كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فكانت ، وكفاه ما أهمه بصدق توكله عليه ، ويؤثر أن جبريل
عرض له قبل أن يقع في النار فقال هل لك يا إبراهيم من حاجة؟ فقال إبراهيم : أمّا
إليك فلا ، حسبي الله ونعم الوكيل.
٥ ـ تقرير التوحيد
والتنديد بالشرك والمشركين.
٦ ـ خروج إبراهيم
من أرض العراق إلى أرض الشام كانت أول هجرة في سبيل الله في التاريخ.
(وَجَعَلْناهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ
وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً
آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ
__________________
الْقَرْيَةِ
الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ
(٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً
إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧))
شرح الكلمات :
(أَئِمَّةً) : أي يقتدى بهم في الخير.
(يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) : أي يرشدون الناس ويعلمونهم ما به كمالهم ونجاتهم
وسعادتهم بإذن الله تعالى لهم بذلك حيث جعلهم رسلا مبلغين.
(وَكانُوا لَنا
عابِدِينَ) : أي خاشعين مطيعين قائمين بأمرنا.
(وَلُوطاً آتَيْناهُ
حُكْماً وَعِلْماً) : أي أعطينا لوطا حكما أي فصلا بين الخصوم وفقها في الدين
وكل هذا يدخل تحت النبوة والرسالة وقد نبأه وأرسله.
(تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) : كاللواط وغيره من المفاسد.
(فاسِقِينَ) : أي عصاة متمردين عن الشرع تاركين للعمل به.
(وَنُوحاً إِذْ نادى
مِنْ قَبْلُ) : أي واذكر نوحا إذ دعا ربّه على قومه الكفرة.
(مِنَ الْكَرْبِ
الْعَظِيمِ) : أي من الغرق الناتج عن الطوفان الذي عم سطح الأرض.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر أفضال الله تعالى على إبراهيم وولده فقال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ) أي إبراهيم واسحق ويعقوب أئمة هداة يقتدى بهم في الخير
ويهدون الناس إلى
دين الله تعالى
الحق بتكليف الله تعالى لهم بذلك حيث نبأهم وأرسلهم. وهو معنى قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنا) وقوله : (وَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) أي أوحينا إليهم بأن يفعلوا الخيرات جمع خير وهو كل نافع
غير ضار فيه مرضاة لله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. وقوله تعالى : (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) أي امتثلوا أمرنا فيما أمرناهم به وكانوا لنا مطعين خاشعين
وهو ثناء عليهم بأجمل الصفات وأحسن الأحوال وقوله تعالى : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً
وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ
كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) أي وكما آتينا إبراهيم وولديه ما آتيناهم من الإفضال
والإنعام الذي جاء ذكره في هذا السياق آتينا لوطا وقد خرج مهاجرا مع عمه إبراهيم
آتيناه أيضا حكما وعلما ونبوة ورسالة متضمنة حسن الحكم والقضاء وأسرار الشرع
والفقه في الدين. هذه منة وأخرى أنا نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث
وأهلكنا أهلها لأنهم كانوا قوم سوء لا يصدر عنهم الا ما يسوء إلى الخلق فاسقين عن
أمرنا خارجين عن طاعتنا ، وقوله : (وَأَدْخَلْناهُ فِي
رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا إنعام آخر أعظم وهو ادخاله في سلك المرحومين برحمة
الله الخاصة لأنه من عباد الله الصالحين.
وقوله تعالى : (وَنُوحاً) أي واذكر يا رسولنا في سلك هؤلاء الصالحين عبدنا ورسولنا
نوحا الوقت الذي نادى ربه من قبل إبراهيم فقال إني مغلوب فانتصر ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ
فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) حيث نجاه تعالى وأهله إلا امرأته وولده كنعان فإنهما لم
يكونا من أهله لكفرهما وظلمهما فكانا من المغرقين. وقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي ونصرناه بإنجائنا له منهم فلم يمسوه بسوء ، وأغرقناهم
أجمعين لأنهم كانوا قوم سوء فاسقين ظالمين .
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضل الدعوة
إلى الله تعالى وشرف القائمين بها.
٢ ـ فضل إقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وفعل الخيرات.
٣ ـ ثناء الله
تعالى على أوليائه وصالحي عباده بعبادتهم ، وخشوعهم له.
٤ ـ الخبث إذا كثر
في الأمة استوجبت الهلاك والدمار.
٥ ـ التنديد
بالفسق والتحذير من عواقبه فإنها مدمرة والعياذ بالله.
٦ ـ تقرير النبوة
المحمدية وتأكيدها إذ مثل هذا القصص لا يتأتى الا لمن يوحى إليه.
(وَداوُدَ
وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ
وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ
مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً
تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ
شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ
عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢))
شرح الكلمات :
(فِي الْحَرْثِ) : أي في الكرم الذي رعته الماشية ليلا.
(نَفَشَتْ فِيهِ) : أي رعته ليلا بدون راع.
__________________
(شاهِدِينَ) : أي حاضرين صدور حكمهم في القضية لا يخفى علينا شيء من
ذلك.
(فَفَهَّمْناها) : أي القضية التي جرى فيها الحكم.
(وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) : أي كلا من داود وولده سليمان أعطيناه حكما أي النبوة
وعلما بأحكام الله وفقهها.
(يُسَبِّحْنَ) : أي معه إذا سبح.
(وَكُنَّا فاعِلِينَ) : أي لما هو أغرب وأعجب من تسبيح الجبال والطير فلا
تعجبوا.
(صَنْعَةَ لَبُوسٍ
لَكُمْ) : هي الدروع وهي من لباس الحرب.
(لِتُحْصِنَكُمْ) : أي تقيكم وتحفظكم من ضرب السيوف وطعن الرماح.
(فَهَلْ أَنْتُمْ
شاكِرُونَ) : أي اشكروا فالاستفهام معناه الأمر هنا.
(إِلى الْأَرْضِ
الَّتِي بارَكْنا) : أي أرض الشام.
(يَغُوصُونَ) : أي في أعماق البحر لاستخراج الجواهر.
(وَيَعْمَلُونَ
عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) : أي دون الغوص كالبناء وغيره وبعض الصناعات.
(وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ) : أي لأعمالهم حتى لا يفسدوها.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من يشاء من عباده ، وفي ذلك تقرير
لنبوة نبيه محمد صلىاللهعليهوسلم التي كذبت بها قريش فقال تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ) أي واذكر يا نبينا داود وسليمان (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) أي اذكرهما في الوقت الذي كانا يحكمان في الحرث الذي (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي رعت فيه ليلا بدون راع فأكلته وأتلفته (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) حاضرين لا يخفى علينا ما حكم به كل منهما ، إذ حكم داود
بأن يأخذ صاحب الحرث الماشية مقابل ما أتلفته لأن المتلف يعادل قيمة الغنم التي
أتلفته ، وحكم سليمان بأن يأخذ صاحب الماشية الزرع يقوم عليه حتى يعود كما كان ،
ويأخذ صاحب الحرث الماشية يستغل صوفها ولبنها وسخالها فإذا
ردت إليه كرومه
كما كانت أخذها ورد الماشية لصاحبها لم ينقص منها شيء هذا الحكم أخبر تعالى أنه
فهم فيه سليمان وهو أعدل من الأول وهو قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها) أي الحكومة أو القضية أو الفتيا سليمان ، ولم يعاتب داود
على حكمه ، وقال : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً
وَعِلْماً) تلافيا لما قد يظن بعضهم أن داود دون ولده في العلم
والحكم.
وقوله : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ
يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) هذا ذكر لبعض ما أنعم به على داود عليهالسلام وهو أنه سخر الجبال والطير تسبح معه إذا سبح سواء أمرها
بذلك فأطاعته أو لم يأمرها فإنه إذا صلى وسبح صلت معه وسبحت ، وقوله : (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي لما هو أعجب من تسخير الجبال والطير تسبح مع سليمان
لأنا لا يعجزنا شيء وقد كتب هذا في كتاب المقادير فأخرجه في حينه ، وقوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ) أي داود (صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) وهي الدورع السابغة التي تقي لاسبها طعن الرماح وضرب
السيوف بإذن الله تعالى فهي آلة حرب ولذا قال تعالى (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ
فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ؟) أمر لعباده بالشكر على إنعامه عليهم والشكر يكون بحمد الله
تعالى والإعتراف بإنعامه ، وطاعته وصرف النعمة فيما من أجله أنعم بها على عبده ، وقوله
(وَلِسُلَيْمانَ) أي وسخرنا لسليمان (الرِّيحَ عاصِفَةً) شديدة السرعة (تَجْرِي بِأَمْرِهِ
إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) إذ يخرج غازيا أول النهار وفي آخره تعود به الريح تحمل
بساطه الذي هو كأكبر سفينة حربية اليوم إلى الأرض التي بارك الله وهي أرض الشام.
وقوله : (وَكُنَّا بِكُلِّ
شَيْءٍ عالِمِينَ) يخبر تعالى أنه كان وما زال عليما بكل شيء ما ظهر للناس
وما غاب عنهم فكل أحداث الكون تتم حسب علم الله وإذنه وتقديره وحكمته فلذا وجبت له
الطاعة واستحق الألوهة والعبادة.
__________________
وقوله : (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) أي وسخرنا لسليمان من الشياطين من يغوضون له في أعماق
البحار لاستخراج الجواهر ، (وَيَعْمَلُونَ
عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) كالبناء وصنع التماثيل والمحاريب والجفان وغير ذلك. وقوله
تعالى : (وَكُنَّا لَهُمْ
حافِظِينَ) أي وكنا لأعمال أولئك العاملين من الجن حافظين لها عالمين
بها حتى لا يفسدوها بعد عملها مكرا منهم أو خديعة فقد روى أنهم كانوا يعملون ثم
يفسدون ما عملوه حتى لا ينتفع به.
هذا كله من إنعام
الله تعالى على داود وسليمان وغيره كثير فسبحان ذي الأنعام والافضال إله الحق ورب
العالمين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب نصب
القضاة للحكم بين الناس.
٢ ـ بيان حكم
الماشية ترعى فى حرث الناس وإن كان شرعنا على خلاف شرع من سبقنا فالحكم عندنا إن
رعت الماشية ليلا قوم المتلف على صاحب الماشية ودفعه لصاحب الزرع ، وإن رعت نهارا
فلا شيء لصاحب الزرع لأن عليه أن يحفظ زرعه من أن ترعى فيه مواشي الناس لحديث
العجماء جبار وحديث ناقة البراء بن عازب.
٣ ـ فضل التسبيح.
٤ ـ وجوب صنع آلة
الحرب واعدادها للجهاد في سبيل الله.
٥ ـ وجوب شكر الله
تعالى على كل نعمة تستجد للعبد.
٦ ـ بيان تسخير
الله تعالى الجن لسليمان يعملون له أشياء.
٧ ـ تقرير نبوة
الرسول صلىاللهعليهوسلم إذ من أرسل هؤلاء الرسل وأنعم عليهم بما أنعم لا يستنكر
عليه إرسال محمد رسولا وقد أرسل من قبله رسلا.
٨ ـ كل ما يحدث في
الكون من أحداث يحدث بعلم الله تعالى وتقديره ولحكمة تقضيه.
__________________
(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا
لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ
رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ
وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا
إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))
شرح الكلمات :
(وَأَيُّوبَ) : أي واذكر أيوب.
(إِذْ نادى رَبَّهُ) : أي دعاه لما ابتلى بفقد ماله وولده ومرض جسده.
(مَسَّنِيَ الضُّرُّ) : هو ما ضر بجسمه أو ماله أو ولده.
(وَذِكْرى
لِلْعابِدِينَ) : أي عظة للعابدين ، ليصبروا فيثابوا.
(وَأَدْخَلْناهُمْ فِي
رَحْمَتِنا) : بأن نبأناهم فانخرطوا في سلك الأنبياء إنهم من الصالحين.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر إفضالات الله تعالى وإنعامه على من شاء من عباده الصالحين فقوله
تعالى في الآية الأولى (٨٣) (وَأَيُّوبَ) أي واذكر عبدنا في شكره وصبره وسرعة أوبته ، وقد ابتليناه
بالعافية والمال والولد ، فشكر وابتليناه بالمرض وذهاب المال والأهل والولد فصبر.
أذكره (إِذْ نادى رَبَّهُ) أي داعيا ضارعا بعد بلوغ البلاء منتهاه ربّ
أي يا رب (أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
(فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (فَكَشَفْنا ما بِهِ
مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) من زوجة وولد (وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ) أي ضاعف له ما أخذه منه بالابتلاء بعد الصبر وأما المال
فقد ذكر النبي صلىاللهعليهوسلم أنه أنزل عليه رجلا من جراد من ذهب فكان أيوب يحثو في ثوبه
حثيثا فقال له ربّه في ذلك فقال من ذا الذي يستغنى عن بركتك يا رب. وقوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي رحمناه رحمة خاصة ، وجعلنا قصته ذكرى وموعظة للعابدين
لنا لما نبتليهم بالسراء والضراء فيشكرون ويصبرون ائتساء بعبدنا أيوب (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ
إِنَّهُ أَوَّابٌ) .
وقوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا
الْكِفْلِ) أي واذكر في عداد المصطفين من أهل الصبر والشكر اسماعيل بن
ابراهيم الخليل ، وادريس وهو اخنوخ وذا الكفل (كُلٌّ مِنَ
الصَّابِرِينَ) على عبادتنا
الشاكرين لنعمائنا ، (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي
رَحْمَتِنا) فنبأنا منهم من نبأنا وأنعمنا عليهم وأكرمناهم بجوارنا (إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ).
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ علو مقام
الصبر ومثله الشكر فالاول على البأساء والثانى على النعماء.
٢ ـ فضيلة الدعاء
وهو باب الاستجابة وطريقها من ألهمه ألهم الاستجابة.
٣ ـ في سير
الصالحين مواعظ وفي قصص الماضيين عبر.
٤ ـ من ابتلى بفقد
مال أو أهل أو ولد فصبر كان له من الله الخلف وما يقال عند المصيبة «إنا لله وإنا
إليه لراجعون اللهم أجرني في مصيبتى واخلف لي خيرا منها».
__________________
(وَذَا النُّونِ إِذْ
ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ
أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
(٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ
زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً
وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا
فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١))
شرح الكلمات :
(وَذَا النُّونِ) : هو يونس بن متّى عليهالسلام وأضيف إلى النون الذي هو الحوت في قوله تعالى (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) لأن حوتة كبيرة ابتعلته.
(إِذْ ذَهَبَ
مُغاضِباً) : أي لربه تعالى حيث لم يرجع إلى قومه لما بلغه أن الله
رفع عنهم العذاب.
(فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) : أي أن نحبسه ونضيق عليه في بطن الحوت من أجل مغاضبته.
(فِي الظُّلُماتِ) : ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل.
(وَنَجَّيْناهُ مِنَ
الْغَمِ) : أي الكرب الذي أصابه وهو في بطن الحوت.
(لا تَذَرْنِي فَرْداً) : أي بلا ولد يرث عني النبوة والعلم والحكمة بقرينة ويرث
من آل يعقوب.
(رَغَباً وَرَهَباً) : أي طمعا فينا ورهبا منا أي خوفا ورجاءا.
(أَحْصَنَتْ فَرْجَها) : أي صانته وحفظته من الفاحشة.
(مِنْ رُوحِنا) : أي جبريل حيث نفخ في كم درعها عليهاالسّلام.
(آيَةً لِلْعالَمِينَ) : أي علامة على قدرة الله تعالى ووجوب عبادته بذكره وشكره.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر افضال الله تعالى وانعامه على من يشاء من عباده فقال تعالى : (وَذَا النُّونِ) أي واذكر ذا النون أي يونس بن متّى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) لربه تعالى حيث لم يصبر على بقائه مع قومه يدعوهم إلى
توحيد الله وعبادته وطاعته وطاعة رسوله فسأل لهم العذاب ، ولما تابوا ورفع عنهم
العذاب بتوبتهم وعلم بذلك فلم يرجع إليهم فكان هذا منه مغاضبة لربه تعالى وقوله
تعالى عنه : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن يونس عليهالسلام أن الله تعالى لا يحبسه في بطن الحوت ولا يضيق عليه وهو
حسن ظن منه في ربه سبحانه وتعالى ، ولكن لمغاضبته ربه بعدم العودة إلى قومه بعد أن
رفع عنهم العذاب أصابه ربّه تطهيرا له من أمر المخالفة الخفيفة بأن ألقاه في ظلمات
ثلاث ، ظلمة الحوت والبحر والليل ثم ألهمه الدعاء الذي به النجاة فكان يسبح في
الظلمات الثلاث (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فاستجاب الله تعالى له وهو معنى قوله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي) (كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) الذي أصابه من وجوده في ظلمات محبوسا لا أنيس ولا طعام ولا
شراب مع غم نفسه من جراء عدم عودته الى قومه وقد أنجاهم الله من العذاب. وهو سبب
المصيبة ، وقوله تعالى :
__________________
(وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) مما قد يحل بهم من البلاء وقوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا) أي اذكر يا رسولنا زكريا في الوقت الذي نادى ربه داعيا
ضارعا قائلا : (رَبِ) أي يا رب (لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي لا تتركني فردا لا ولد لي يرثني في نبوتي وعلمي وحكمتي
ويرث ذلك من آل يعقوب حتى لا تنقطع منهم النبوة والصلاح وقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) ذكر هذا اللفظ توسلا به إلى ربه ليستجيب له دعاءه واستجاب
له والحمد لله. فوهبه يحيى وأصلح له زوجه بأن جعلها ولودا بعد العقر حسنة الخلق
والخلق. وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا
يُسارِعُونَ) أي زكريا ويحيى ووالدته كانوا يسارعون في الطاعات والقربات
أي في فعلها والمبادرة إليها. وقوله : (وَيَدْعُونَنا
رَغَباً وَرَهَباً) هذا ثناء عليهم أيضا إذ كانوا يدعون الله رغبة فى رحمته
ورهبة وخوفا من عذابه وقوله : (وَكانُوا لَنا
خاشِعِينَ) أي مطيعين ذليلين متواضعين وهم يعبدون ربهم بأنواع
العبادات.
وقوله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها
فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي واذكر يا نبينا تلك المؤمنة التي أحصنت فرجها أي منعته
مما حرم الله تعالى عليها وهي مريم بنت عمران اذكرها في عداد من أنعمنا عليهم
وأكرمناهم وفضلناهم على كثير من عبادنا الصالحين ، حيث نفخنا فيها من روحنا إذ
أمرنا جبريل روح القدس ينفخ في كم درعها فسرت النفخة إلى فرجها فحبلت وولدت في
ساعة من نهار ، وقوله تعالى : (وَجَعَلْناها
وَابْنَها) أي عيسى كلمة الله وروحه (آيَةً) أي علامة كبرى على وجودنا وقدرتنا وعلمنا وحكمتنا وإنعامنا
وواجب عبادتنا وتوحيدنا فيها حيث لا يعبد غيرنا (لِلْعالَمِينَ) أي للناس أجمعين
__________________
يستدلون بها على
ما ذكرنا آنفا من وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته ووجوب عبادته وتوحيده فيها.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة دعوة ذي
النون : (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). إذ ورد أنه ما دعا بها مؤمن إلا استجيب له ، وقوله تعالى
: (وَكَذلِكَ نُنْجِي
الْمُؤْمِنِينَ) يقوي هذا الخبر.
٢ ـ استحباب سؤال
الولد لغرض صالح لا من أجل الزينة واللهو به فقط.
٣ ـ تقرير أن
الزوجة الصالحة من حسنة الدنيا.
٤ ـ فضيلة
المسارعة في الخيرات والدعاء برغبة ورهبة والخشوع في العبادات وخاصة في الصلاة
والدعاء.
٥ ـ فضيلة العفة
والاحصان للفرج.
٦ ـ كون مريم
وابنها آية لأن مريم ولدت من غير فحل ، ولأن عيسى كان كذلك وكلم الناس في المهد ،
وكان يحيى الموتى بإذن الله تعالى.
(إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ
(٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى
إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦)
وَاقْتَرَبَ
الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا
قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧))
شرح الكلمات :
(إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ) : أي ملتكم وهي الإسلام ملة واحدة من عهد آدم إلى العهد
المحمدي إذ دين الانبياء واحد وهو عبادة الله تعالى وحده بما يشرع لهم.
(وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاعْبُدُونِ) : أنا الهكم الحق حيث خلقتكم ورزقتكم فلا تنبغي العبادة
الا لي فاعبدون ولا تعبدوا معي غيري.
(وَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) : أي وتفرقوا في دينهم فأصبح لكل فرقة دين كاليهودية
والنصرانية والمجوسية والوثنيات وما أكثرها.
(كُلٌّ إِلَيْنا
راجِعُونَ) : أي كل فرقة من تلك الفرق التي قطعت الإسلام راجعة الينا
وسوف نجزيها بكسبها.
(فَلا كُفْرانَ
لِسَعْيِهِ) : أي لا نكران ولا جحود لعمله بل سوف يجزى به وافيا.
(وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ) : إذ الكرام الكاتبون يكتبون أعمال العباد خيرها وشرها.
(وَحَرامٌ) : أي ممتنع رجوعهم إلى الدنيا.
(يَأْجُوجُ
وَمَأْجُوجُ) : قبيلتان موجودتان وراء سدهما الذي سيفتح عند قرب الساعة
(حَدَبٍ) : أي مرتفع من الأرض.
(يَنْسِلُونَ) : أي يسرعون المشي.
(الْوَعْدُ الْحَقُ) : يوم القيامة.
(فِي غَفْلَةٍ مِنْ
هذا) : أي من يوم القيامة وما فيه من أحداث.
معنى الآيات :
بعد ذكر أولئك
الأنبياء وما أكرمهم الله تعالى به من افضالات وما كانوا عليه من كمالات قال تعالى
مخاطبا الناس كلهم : (إِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ) أي ملتكم (أُمَّةً واحِدَةً) أي ملة واحد من عهد أول الرسل إلى خاتمهم وهو الإسلام
القائم على الإخلاص لله في العبادة والخلوص من الشرك وقوله تعالى : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ
بَيْنَهُمْ) ينعي تعالى على الناس تقطعيهم الإسلام إلى ملل شتى
كاليهودية والنصرانية وغيرهما ، وتمزيقه إلى طوائف ونحل ، وقوله : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) إخبار منه تعالى أنهم راجعون إليه لا محالة بعد موتهم وسوف
يجزيهم بما كانوا يكسبون ومن ذلك تقطيعهم للدين الإسلامي وتمزيقهم له فذهبت كل
فرقة بقطعة منه. وقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِنَ الصَّالِحاتِ) والحال أنه مؤمن ، والمراد من الصالحات ما شرعه الله تعالى
من عبادات قلبية وقولية وفعلية (فَلا كُفْرانَ
لِسَعْيِهِ) أي لعمله فلا يجحد ولا ينكر بل يراه ويجزى به كاملا. وقوله
تعالى : (وَإِنَّا لَهُ
كاتِبُونَ) يريد أن الملائكة تكتب أعماله الصالحة بأمرنا ونجزيه بها
أيضا أحسن جزاء وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح جعلنا الله
منهم وحشرنا في زمرتهم.
وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) يخبر تعالى أنه ممتنع امتناعا كاملا أن يهلك أمة بذنوبها
في الدنيا ثم يردها إلى الحياة في الدنيا ، وهذا بناء على أن (لا) مزيدة لتقوية الكلام ويحتمل الكلام معنى آخر وهي ممتنع على
أهل قرية قضى الله تعالى بعذابهم في الدنيا أو في الآخرة أنهم يرجعون إلى الإيمان
والطاعة بالتوبة الصادقة وذلك بعد أن كذبوا وعاندوا وظلموا وفسقوا فطبع على قلوبهم
فهم لا يرجعون إلى التوبة بحال ، ومعنى ثالث وهو حرام على أهل قرية أهلكهم الله
بذنوبهم فأبادهم إنهم
__________________
لا يرجعون إلى
الله تعالى يوم القيامة بل يرجعون للحساب والجزاء فهذه المعاني كلها صحيحة ،
والمعنى الأخير لا تكلف فيه بكون (لا) صلة بل هي نافية ويرجح المعنى
الأخير قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) فهو بيان لطريق رجوعهم إلى الله تعالى وذلك يوم القيامة
وبدايته بظهور علاماته الكبرى ومنها إنكسار سد يأجوج ومأجوج وتدفقهم في الأرض
يخربون ويدمرون (وَهُمْ مِنْ كُلِّ
حَدَبٍ) وصوب (يَنْسِلُونَ) مسرعين. وقوله تعالى : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ
الْحَقُ) وهو يوم الدين والحساب والجزاء وقوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ
الَّذِينَ كَفَرُوا) وذلك بعد قيامهم من قبورهم وحشرهم إلى أرض المحشر وهم
يقولون في تأسف وتحسر (يا وَيْلَنا) أي يا هلاكنا (قَدْ كُنَّا فِي
غَفْلَةٍ) أي في دار الدنيا (بَلْ كُنَّا
ظالِمِينَ) فاعترفوا بذنبهم حيث لا ينفعهم الاعتراف إذ لا توبة تقبل
يومئذ.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وحدة الدين
وكون الإسلام هو دين البشرية كافة لأنه قائم على أساس توحيد الله تعالى في عبادته
التي شرعها ليعبد بها.
٢ ـ بيان ما حدث
للبشرية من تمزيق الدين بينها بحسب الأهواء والأطماع والأغراض.
٣ ـ وعد الله لأهل
الإيمان والعمل الصالح بالجزاء الحسن وهو الجنة.
__________________
٤ ـ تقرير حقيقة
وهي إذا قضى بهلاك أمة تعذرت عليها التوبة ، وأن أمة يهلكها الله تعالى لا تعود
إلى الحياة الدنيا بحال وإن البشرية عائدة إلى ربها فممتنع عدم عودة الناس الى
ربهم ، وذلك لحسابهم وجزائهم يوم القيامة.
(إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ
كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها
زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ
مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها
وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ
الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما
بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
(١٠٤))
شرح الكلمات :
(وَما تَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) : أي من الأوثان والأصنام.
(حَصَبُ جَهَنَّمَ) : أي ما توقد به جهنم.
(لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً) : أي الأوثان التي يعبدها المشركون من قريش
(ما وَرَدُوها) : أي لحالوا بين عابديهم ودخول النار لأنهم آلهة قادرون
على ذلك ولكنهم ليسوا آلهة حق فلذا لا يمنعون عابديهم
من دخول النار.
(وَكُلٌّ فِيها
خالِدُونَ) : أي العابدون من الناس والمعبودون من الشياطين والأوثان.
(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) : أي لأهل النار فيها أنين وتنفس شديد وهو الزفير.
(سَبَقَتْ لَهُمْ
مِنَّا الْحُسْنى) : أي كتب الله تعالى أزلا أنهم أهل الجنة.
(حَسِيسَها) : أي حسّ صوتها.
(لا يَحْزُنُهُمُ
الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) : أي عند النفخة الثانية نفخة البعث فإنهم يقومون من
قبورهم آمنين غير خائفين.
(كَطَيِّ السِّجِلِّ
لِلْكُتُبِ) : أي يطوي الجبار سبحانه وتعالى السماء طيّ الورقة لتدخل
في الظرف.
(كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) : أي يعيد الله الخلائق كما بدأهم أول مرة فيبعث الناس من
قبورهم حفاة عراة غرلا ، كما ولدوا لم ينقص منهم شيء.
معنى الآيات :
يقول تعالى
للمشركين الذين بدأت السورة الكريمة بالحديث عنهم ، وهم مشركوا قريش يقول لهم
موعدا : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ) من أصنام وأوثان (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي ستكونون أنتم وما تعبدون من أصنام وقودا لجهنم التي
أنتم واردوها لا محالة ، وقوله تعالى : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ
آلِهَةً) لو كان هؤلاء التماثيل من الأحجار التي يعبدها المشركون لو
كانوا آلهة حقا ما ورد النار عابدوها لأنهم يخلصونهم منها ولما ورد النار المشركون
ودخلوها دل ذلك على أن آلهتهم كانت آلهة باطلة لا تستحق العبادة بحال. وقوله تعالى
: (كُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي المعبودات الباطلة وعابدوها الكل في جهنم
__________________
خالدون. وقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ
فِيها لا يَسْمَعُونَ) يخبر تعالى أن للمشركين في النار زفيرا وهو الأنين الشديد
من شدة العذاب وأنهم فيها لا يسمعون لكثرة الانين وشدة الأصوات وفظاعة ألوان
العذاب وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ، لا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) نزلت هذه الآية ردا على ابن الزّبعرى عند ما قال إن كان ما
يقوله محمد حقا بأننا وآلهتنا في جهنم فإن الملائكة معنا في جهنم لأننا نعبدهم ،
وأن عيسى والعزير في جهنم لأن اليهود عبدوا العزيز والنصارى عبدوا المسيح. فأخبر
تعالى أن من عبد بغير رضاه بذلك وكان يعبدنا ويتقرب إلينا بالطاعات فهو ممن سبقت
لهم منا الحسنى بأنهم من أهل الجنة هؤلاء عنها أي عن جهنم مبعدون (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي حس صوتها وهم في الجنة ولهم فيها ما يشتهون خالدون ، (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) عند قيامهم من قبورهم بل هم آمنون (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) عند القيام من قبورهم بالتحية والتهنئة قائلة لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ
تُوعَدُونَ)
وقوله تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) أي يتم لهم ذلك يوم يطوي الجبار جل جلاله السماء بيمينه (كَطَيِ السِّجِلِ) أي الصحيفة للكتب. وذلك يوم القيامة حيث تبدل الأرض غير
الأرض والسموات غير السموات. وقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي يعيد الإنسان كما بدأ خلقه فيخرج الناس من قبورهم حفاة
عراة غرلا. وقوله : (وَعْداً عَلَيْنا
إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي وعدنا بإعادة الخلق بعد فنائهم وبلاهم وعدا ، إنا كنا
فاعلين فأنجزنا ما وعدنا ، وإنا على ذلك لقادرون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
والنبوة والبعث والجزاء.
__________________
٢ ـ من عبد من دون
الله بأمره أو برضاه سيكون ومن عبده وقودا لجهنم ومن لم يأمر ولم يرض فلا يدخل
النار مع من عبده بل العابد له وحده في النار.
٣ ـ بيان عظمة
الله وقدرته إذ يطوي السماء بيمينه ، والأرض في قبضته يوم القيامة.
٤ ـ بعث الناس
حفاة عراة غرلا لم ينزع منهم شيء ولا غلفة الذكر إنجاز الله وعده في قوله : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) فسبحان الواحد القهار العزيز الجبار.
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما
أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ
ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما
تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ
(١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما
تَصِفُونَ (١١٢))
شرح الكلمات :
(وَلَقَدْ كَتَبْنا
فِي الزَّبُورِ) : أي في الكتب التي أنزلنا كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل
والقرآن.
(مِنْ بَعْدِ
الذِّكْرِ) : أي من بعد أن كتبنا ذلك في الذكر الذي هو اللوح المحفوظ.
(أَنَّ الْأَرْضَ) : أي أرض الجنة.
(عِبادِيَ
الصَّالِحُونَ) : هم أهل الإيمان والعمل الصالح من سائر الأمم من أتباع
الرسل عامة
(إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً) : أي إن في القرآن لبلاغا أي لكفاية وبلغة لدخول الجنة فكل
من آمن به وعمل بما فيه دخل الجنة.
(لِقَوْمٍ عابِدِينَ) : أي مطيعين الله ورسوله.
(رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) : أي الإنس والجن فالمؤمنون المتقون يدخلون الجنة
والكافرون ينجون. من عذاب الاستئصال والابادة الذي كان يصيب الامم السابقة.
(فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) : أي أسلموا فالاستفهام للأمر.
(وَإِنْ أَدْرِي) : أي ما أدري.
(فِتْنَةٌ لَكُمْ) : أي اختبار لكم.
(عَلى ما تَصِفُونَ) : من الكذب من أن النبي ساحر ، وأن الله اتخذ ولدا وأن
القرآن شعر.
معنى الآيات :
يخبر تعالى رسوله
والمؤمنين بوعده الكريم الذي كتبه في كتبه المنزلة بعد كتابته في الذكر الذي هو
كتاب المقادير المسمى باللوح المحفوظ أن أرض الجنة يرثها عباده الصالحون هذا ما دلت
عليه الآية الأولى (١٠٥) وقوله تعالى : (إِنَّ فِي هذا
لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي في هذا القرآن العظيم لبلاغا لمن كان من العابدين لله
بأداء فرائضه واجتناب نواهيه لكفاية في الوصول به إلى بغيته وهي رضوان الله والجنة
وقوله تعالى (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) يخبر تعالى انه ما ارسل رسوله محمدا صلىاللهعليهوسلم إلا رحمة للعالمين
__________________
إنسهم وجنهم
مؤمنهم وكافرهم فالمؤمنون باتباعه يدخلون رحمة الله وهي الجنة والكافرون يأمنون من
عذاب الإبادة والاستئصال في الدنيا ذلك العذاب الذي كان ينزل بالأمم والشعوب عند
ما يكذبون رسلهم وقوله تعالى (قُلْ إِنَّما يُوحى
إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يأمر تعالى رسوله أن يقول لقومه ولمن يبلغهم خطابه إن الذي
يوحى إلى هو أن إلهكم إله واحد أي معبودكم الحق واحد وهو الله تعالى ليس غيره وعليه
(فَهَلْ أَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) أي أسلموا له قلوبكم ووجوهكم فاعبدوه ولا تعبدوا معه سواه فبلغهم
يا رسولنا هذا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن هذا الطلب ولم يقبلوه (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ) أي اعلمتكم (عَلى سَواءٍ) أنا وأنتم انه لا تلاقي بيننا فأنا حرب عليكم وأنتم حرب
عليّ وقوله تعالى : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ
أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي وقل لهم يا رسولنا : إني ما أدري أقريب ما توعدون من
العذاب أم بعيد فالعذاب كائن لا محالة ما لم تسلموا إلا أني لا أعلم وقته. وفي
الآية وعيد واضح وتهديد شديد وقوله : (إِنَّهُ يَعْلَمُ
الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي يعلم طعنكم العلني في الإسلام وكتابه ونبيه ، كما يعلم
ما تكتمونه في نفوسكم من عداوتي وبغضي وما تخفون من إحن وفي هذا إنذار لهم وتهديد
، وهم مستحقون لذلك.
وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي) أي وما أدري (لَعَلَّهُ) أي تأخير العذاب عنكم بعد استحقاقكم له يحربكم للإسلام
ونبيه (فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي اختبار لعلكم تتوبون فيرفع عنكم العذاب أو هو متاع لكم
بالحياة إلى آجالكم ، ثم تعذبون بعد موتكم. فهذا علمه إلى ربي هو يعلمه ، وبهذا
أمرني بأن أقوله لكم. وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ احْكُمْ
بِالْحَقِ) وفي قراءة قل رب احكم بالحق أي قال الرسول بعد أمر الله
تعالى بذلك يا رب احكم بينى وبين قومى المكذبين لي المحاربين لدعوتك وعبادك
المؤمنين بالحق وذلك بنصري عليهم أو بإنزال نقمتك بهم ، وقوله : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ
عَلى ما تَصِفُونَ) أي وربنا الرحمن عز
__________________
وجلّ هو الذي
يستعان به على إبطال باطلكم أيها المشركون حيث جعلتم لله ولدا ، وشركاء ، ووصفتم
رسوله بالسحر والكذب.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ المؤمنون
المتقون وهم الصالحون هم ورثة الجنة دار النعيم المقيم.
٢ ـ في القرآن
الكريم البلغة الكافية لمن آمن به وعمل بما فيه بتحقيق ما يصبو إليه من سعادة
الدار الآخرة.
٣ ـ بيان فضل
النبي صلىاللهعليهوسلم وكرامته على ربه حيث جعله رحمة للعالمين.
٤ ـ وجوب المفاصلة
بين أهل الشرك وأهل التوحيد.
٥ ـ وجوب
الاستعانة بالله على كل ما يواجه العبد من صعاب وأتعاب.
سورة الحج
مكية
ومدنية
وآياتها ثمان وسبعون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ
تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ
اللهِ شَدِيدٌ
__________________
(٢)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ
شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ
يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤))
شرح الكلمات :
(اتَّقُوا رَبَّكُمْ) : أي عذاب ربكم وذلك بالإيمان والتقوى.
(إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ) : أي زلزلة الأرض عند مجىء الساعة.
(تَذْهَلُ كُلُّ
مُرْضِعَةٍ) : أي من شدة الهول والخوف تنسى رضيعها وتغفل عنه.
(وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها) : أي تسقط الحوامل ما في بطونهن من الخوف والفزع.
(سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) : أي ذاهلون فاقدون رشدهم وصوابهم كالسكارى وما هم بسكارى
(يُجادِلُ فِي اللهِ
بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي يقول إن الملائكة بنات الله وإن الله لا يحيي الموتى.
(شَيْطانٍ مَرِيدٍ) : أي متجرد من كل خير لا خير فيه البتة.
(كُتِبَ عَلَيْهِ
أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ) : فرض فيه أن من تولاه أي اتبعه يضله عن الحق.
معنى الآيات :
بعد ذلك البيان
الإلهي في سورة الأنبياء وما عرض تعالى من أدلة الهداية وما بين من سبل النجاة
نادى تعالى بالخطاب العام الذي يشمل العرب والعجم والكافر والمؤمن انذارا وتحذيرا
فقال في فاتحة هذه السورة سورة الحج المكية المدنية لوجود آي كثير فيها نزل في مكة
وآخر نزل بالمدينة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا) (رَبَّكُمْ) أي خافوا عذابه ، وذلك
__________________
بطاعته بامتثال
أمره واجتناب نهيه فآمنوا به وبرسوله وأطيعوهما في الأمر والنهي وبذلك تقوا أنفسكم
من العذاب. وقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) فكيف بالعذاب الذي يقع فيها لأهل الكفر والمعاصي ، إن
زلزلة لها تتم قبل قيامها تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت أي تنسى فيها الأم
ولدها ، (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ
حَمْلٍ حَمْلَها) فتسقط من شدة الفزع لتلك الزلزلة المؤذنة بخراب الكون
وفناء العوالم ويرى الناس فيها سكارى أي فاقدين لعقولهم وما هم بسكارى بشرب سكر (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فخافوه لظهور أماراته ووجود بوادره.
هذا ما دلت عليه
الآيتان (١) و (٢) وأما الآية الثالثة فينعى تعالى على النضر بن الحارث وأمثاله
ممن يجادلون في الله بغير علم فينسبون لله الولد والبنت ويزعمون أنه ما أرسل محمدا
رسولا ، وأنه لا يحيي الموتى بعد فناء الأجسام وتفتتها فقال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بجلال الله وكماله ولشرائعه وأحكامه وسننه في خلقه ، (وَيَتَّبِعُ) أي في جداله وما يقوله من الكذب والباطل (كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) أي متجرد من الحق والخير ، (كُتِبَ عَلَيْهِ) أي على ذلك الشيطان في قضاء الله أن من تولاه بالطاعة
والاتباع فإنه يضله عن الحق ويهديه بذلك إلى عذاب السعير في النار.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء بذكر أحوالهما وأهوالهما.
٢ ـ حرمة الجدال
بالباطل لإدحاض الحق وإبطاله.
٣ ـ حرمة الكلام
في ذات الله وصفاته بغير علم من وحي إلهي أو كلام نبوي صحيح.
٤ ـ موالاة
الشياطين واتباعهم يفضى بالموالي المتابع لهم إلى جهنم وعذاب السعير.
__________________
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ
مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ
مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا
يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا
أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى
وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ
فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧))
شرح الكلمات :
(فِي رَيْبٍ مِنَ
الْبَعْثِ) : الريب الشك مع اضطراب النفس وحيرتها ، والبعث الحياة بعد
الموت.
(مِنْ نُطْفَةٍ) : قطرة المنّي التي يفرزها الزوجان.
(عَلَقَةٍ) : أي قطعة دم متجمد تتحول إليه النطفة في خلال أربعين
يوما.
(مُضْغَةٍ) : أي قطعة لحم قدر ما يمضغ المرء تتحول العلقة اليها بعد
أربعين يوما.
(وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) : أي مصورة خلقا تاما ، مخلقة وغير مخلقة هي السقط يسقط
قبل تمام خلقه.
(لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) : أي قدرتنا على ما نشاء ونعرفكم بابتداء خلقكم كيف يكون.
(وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) : أي ونبقي في الرحم من نريد له الحياة والبقاء إلى نهاية
مدة الحمل ثم نخرجه طفلا سويا.
(لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) : أي كمال أبدانكم وتمام عقولكم.
(إِلى أَرْذَلِ
الْعُمُرِ) : أي سن الشيخوخة والهرم فيخرف.
(لِكَيْلا يَعْلَمَ
مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) : أي فيصير كالطفل في معارفه إذ ينسى كل علم علمه.
(هامِدَةً) : خامدة لا حراك لها ميتة.
(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) : أي تحركت بالنبات وارتفعت تربتها وأنبتت.
(زَوْجٍ بَهِيجٍ) : أي من كل نوع من أنواع النباتات جميل المنظر حسنه.
(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) : أي الإله الحق الذي لا إله سواه ، فعبادة الله حق وعبادة
غير الله باطل.
(وَأَنَّ السَّاعَةَ
آتِيَةٌ) : أي القيامة.
(يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) : أي يحييهم ويخرجهم من قبورهم احياء كما كانوا قبل موتهم.
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى بعض
أحوال القيامة وأهوالها ، وكان الكفر بالبعث الآخر هو العائق عن الاستجابة للطاعة
وفعل الخير نادى تعالى الناس مرة أخرى ليعرض عليهم أدلة البعث العقلية لعلهم
يؤمنون فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) أي في شك وحيرة وقلق نفسى من شأن بعث الناس أحياء من
قبورهم بعد موتهم وفنائهم لأجل حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم التي عملوها في دار
الدنيا فاليكم ما يزيل شككم ويقطع حيرتكم في هذه القضية العقدية وهو أن الله تعالى
قد خلقكم من تراب أي خلق
__________________
أصلكم وهو أبوكم
آدم من تراب وبلا شك ، ثم خلقكم أنتم من نطفة أي ماء الرجل وماء المرأة وبلا شك ، ثم من علقة بعد تحول النطفة إليها ثم من مضغة بعد تحول العلقة إليها وهذا بلا شك أيضا ، ثم المضغة إن
شاء الله تحويلها إلى طفل خلقها وجعلها طفلا ، وإن لم يشأ ذلك لم يخلقها وأسقطها
من الرحم كما هو معروف ومشاهد ، وفعل الله ذلك من أجل أن يبين لكم قدرته وعلمه
وحسن تدبيره لترهبوه وتعظموه وتحبوه وتطيعوه وقوله : (وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي ونقر تلك المضغة المخلقة في الرحم إلى أجل مسمى وهو
ميعاد ولادة الولد وانتهاء حمله ونخرجكم طفلا أي أطفالا صغارا لا علم لكم ولا حلم
، ثم ننميكم ونربيكم بما تعلمون من سننا في ذلك (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا
أَشُدَّكُمْ) أي تمام نماء أبدانكم وعقولكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) قبل بلوغه أشده لأن الحكمة الإلهية اقتضت وفاته ومنكم من
يعيش ولا يموت حتى يرد إلى ارذل العمر فيهرم ويخرف ويصبح كالطفل لا يعلم بعد علم
كان له قبل هرمه شيئا هذا دليل البعث وهو دليل عقلي منطقي وبرهان قوي على حياة
الناس بعد موتهم إذ الذي خلقهم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة يوجب
العقل قدرته على إحيائهم بعد موتهم ، إذ ليست الإعادة بأصعب من البداية. ودليل
عقلي آخر هو ما تضمنه قوله تعالى : (وَتَرَى الْأَرْضَ) أيها الإنسان (هامِدَةً) خامدة ميتة لا حراك فيها ولا حياة فإذا أنزل الله تعالى
عليها الماء من السماء (اهْتَزَّتْ) أي تحركت (وَرَبَتْ) أي ارتفعت وانتفخت تربتها وأخرجت من النباتات المختلفة
الألوان والطعوم والروائح (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ
بَهِيجٍ) جميل المنظر حسنه ، أليس وجود تربة صالحة كوجود رحم صالحة
وماء المطر كماء الفحل
__________________
وتخلق النطفة في
الرحم كتخلق البذرة في التربة وخروج الزرع حيا ناميا كخروج الولد حيا ناميا وهكذا
إلى حصاد الزرع وموت الإنسان فهذان دليلان عقليان على صحة البعث الآخر وأنه كائن
لا محالة وفوق ذلك كله إخبار الخالق وإعلامه خلقه بأنه سيعيدهم بعد موتهم فهل من
العقل والمنطق أو الذوق أن نقول له لا فإنك لا تقدر على ذلك قولة كهذه قذرة عفنة
لا يود أن يسمعها عقلاء الناس واشرافهم. ولما ضرب تعالى هذين المثالين أو ساق هذين
الدليلين على قدرته وعلمه وحكمته المقتضية لإعادة الناس أحياء بعد الموت والفناء
للحساب والجزاء قال وقوله الحق (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
هُوَ الْحَقُ) أي الرب الحق والإله المعبود الحق ، وما عداه فباطل (وَأَنَّهُ يُحْيِ) (الْمَوْتى وَأَنَّهُ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ
اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ومن شك فليراجع الدليلين السابقين في تدبر وتعقل فانه يسلم
لله تعالى ما أخبر به عن نفسه في قوله ذلك (بِأَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُ) الخ.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث الآخر والجزاء على الأعمال يوم القيامة.
٢ ـ بيان تطور خلق
الإنسان ودلالته على قدرة الله وعلمه وحكمته.
٣ ـ الاستدلال على
الغائب بالحاضر المحسوس وهذا من شأن العقلاء فإن المعادلات الحسابية والجبرية
قائمة على مثل ذلك.
٤ ـ تقرير عقيدة
التوحيد وهي أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ
عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ
يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ
اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ
عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ
انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ
(١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ
الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ
لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣))
شرح الكلمات :
(يُجادِلُ فِي اللهِ) : أي في شأن الله تعالى فينسب إلى الله تعالى ما هو منه
براء كالشريك والولد والعجز عن إحياء الموتى ، وهذا المجادل هو أبو جهل.
(بِغَيْرِ عِلْمٍ) : أي بدون علم من الله ورسوله.
(وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) : أي ولا كتاب من كتب الله ذي نور يكشف الحقائق ويقرر الحق
ويبطل الباطل.
(ثانِيَ عِطْفِهِ) : أي لآوى عنقه تكبرا ، لأن العطف الجانب من الإنسان.
(لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) : وقد أذاقه الله تعالى يوم بدر إذ ذبح هناك واحتز رأسه.
(بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ) : أي بذي ظلم للعبيد فيعذبهم بغير ظلم منهم لأنفسهم.
(يَعْبُدُ اللهَ عَلى
حَرْفٍ) : أي على شك في الإسلام هل هو حق أو باطل وذلك لجهلهم به
وأغلب هؤلاء أعراب
البادية.
(اطْمَأَنَّ بِهِ) : أي سكنت نفسه إلى الإسلام ورضي به.
(وَإِنْ أَصابَتْهُ
فِتْنَةٌ) : أي ابتلاء بنقص مال أو مرض في جسم ونحوه.
(انْقَلَبَ عَلى
وَجْهِهِ) : أي رجع عن الإسلام إلى ما كان عليه من الكفر الجاهلي.
ما لا يضره ولا
ينفعه : أي صنما لا يضره إن لم يعبده ، ولا ينفعه إن عبده.
(لَبِئْسَ الْمَوْلى) : أي قبح هذا الناصر من ناصر.
(وَلَبِئْسَ
الْعَشِيرُ) : أي المعاشر وهو الصاحب الملازم.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) هذه شخصية ثانية معطوفة على الأولى التي تضمنها قوله تعالى
: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) وهي شخصية النضر بن الحارث أحد رؤساء الفتنة في مكة ، وهذه
الشخصية هي فرعون هذه الأمة عمرو بن هشام الملقب بأبي جهل يخبر تعالى عنه فيقول : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي
اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) بل يجادل بالجهل وما أقبح جدال الجهل والجهّال ويجادل في
الله عزوجل يا للعجب أفيريد ان يثبت لله تعالى الولد والبنت والعجز
والشركاء والشفعاء ، ولا علم من وحي عنده ، ولا من كتاب إلهي موحى به إلى أحد
أنبيائه. وقوله تعالى : (ثانِيَ عِطْفِهِ) وصف له في حال مشيه وهو يجر رداءه مصعرا خده مائلا إلى أحد
جنبيه كبرا وغرورا ، وجداله لا لطلب الهدى أو لمجرد حب الإنتصار للنفس بل ليضل
غيره عن سبيل الله تعالى الذي هو الإسلام حتى لا يدخلوا فيه فيكملوا ويسعدوا عليه
في الحياتين. وقوله تعالى : (لَهُ فِي الدُّنْيا
خِزْيٌ) أي ذل وهوان وقد ناله حيث قتل في بدر شر قتلة فقد احتز
رأسه وفصل عن جثته ونال منه الذين كان يسخر منهم ويعذبهم من ضعفة المؤمنين ، وقوله
تعالى : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ
الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) وقد أذاقه ذلك بمجرد أن قتل فروحه في النار ويوم
__________________
القيامة يدخلها
بجمسه وروحه وقوله تعالى : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ
يَداكَ) أي يقال له يوم القيامة ذلك الخزي والهوان وعذاب الحريق
بما قدمت يداك من الشرك والظلم والمعاصي ، (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ، وأنت منهم والله ما ظلمك بل ظلمت نفسك ، والله متنزه عن
الظلم لكمال قدرته وغناه وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي على شك هذه شخصية ثالثة عطفت على سابقتيها وهي شخصية
بعض الاعراب كانوا يدخلون في الإسلام لا عن علم واقتناع بل عن شك وطمع وهو معنى
على حرف فإن أصابهم خير من مال وصحة وعافية اطمأنوا إلى الإسلام وسكنت نفوسهم
واستمروا عليه ، وإن أصابتهم فتنة أي اختبار في نفس أو مال أو ولد انقلبوا على
وجوههم أي ارتدوا عن الإسلام ورجعوا عنه فخسروا بذلك الدنيا والآخرة فلا الدنيا
حصلوا عليها ولا الآخرة فازوا فيها ، قال تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ
الْمُبِينُ) أي البين الواضح إذ لو بقوا على الإسلام لفازوا بالآخرة ،
ولأخلف الله عليهم ما فقدوه من مال أو نفس ، وقوله تعالى (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) أي ذلك المنقلب على وجهه المرتد يدعوا (ما لا يَضُرُّهُ) أي صنا لا يضره لو ترك عبادته (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن عبده وقوله تعالى : (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ
الْبَعِيدُ) أي دعاء وعبادة ما لا يضر ولا ينفع ضلال عن الهدى والخير
والنجاح والربح وبعيد أيضا قد لا يرجع صاحبه ولا يهتدي. وقوله : (يَدْعُوا لَمَنْ
ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) أي يدعو ذلك المرتد عن التوحيد إلى الشرك من ضره يوم
القيامة أقرب من نفعه فقد يتبرأ منه ويحشر معه في جهنم ليكونا معا وقودا لها. قال
تعالى : (لَبِئْسَ الْمَوْلى
وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) المعاشر والصاحب الملازم فذم تعالى وقبح ما كان المشركون
يؤملون فيهم ويرجون شفاعتهم يوم القيامة ،
__________________
تنفيرا لهم من
الشرك وعبادة غيره سبحانه وتعالى.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قبح جدال
الجاهل فيما ليس له به علم.
٢ ـ ذم الكبر
والخيلاء وسواء من كافر أو من مؤمن.
٣ ـ عدم جدوى
عبادة صاحبها شاك في نفعها غير مؤمن بوجوبها ومشروعيتها.
٤ ـ لا يصح دين مع
الشك.
٥ ـ تقرير التوحيد
والتنديد بالشرك والمشركين.
(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ
يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى
السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ
(١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ
(١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى
وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧))
شرح الكلمات :
(وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ) : أي الفرائض والنوافل وأفعال الخير.
(يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) : من إكرام المطيع وإهانة العاصي وغير ذلك من رحمه المؤمن
وعذاب الكافر.
(أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ
اللهُ) : أي محمدا صلىاللهعليهوسلم.
(فَلْيَمْدُدْ
بِسَبَبٍ) : أي بحبل.
(إِلَى السَّماءِ) : أي سقف بينه وليختنق غيظا
(هَلْ يُذْهِبَنَّ
كَيْدُهُ) : أي في عدم نصرة النبي صلىاللهعليهوسلم الذي يغيظه.
(وَكَذلِكَ
أَنْزَلْناهُ) : أي ومثل إنزالنا تلك الآيات السابقة أنزلنا القرآن.
(هادُوا) : أي اليهود.
(وَالصَّابِئِينَ) : فرقة من النصارى.
(وَالْمَجُوسَ) : عبدة النار والكواكب.
(عَلى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيدٌ) : أي عالم به حافظ له.
معنى الآيات :
بعد ما ذكر تعالى
جزاء الكافرين والمترددين بين الكفر والإيمان أخبر أنه تعالى يدخل الذين آمنوا به
وبرسوله ولقاء ربهم ووعده ووعيده وعملوا الصالحات وهي الفرائض التي افترضها الله
عليهم والنوافل التي رغبهم فيها يدخلهم جزاء لهم على إيمانهم وصالح أعمالهم جنات
تجري من تحتها الأنهار وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يُرِيدُ) ومن ذلك تعذيبه من كفر به وعصاه ورحمة من آمن به وأطاعه وقوله
تعالى : (مَنْ كانَ يَظُنُّ
أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله ودينه وعباده
المؤمنين فلذا هو يتردد ولم يؤمن ولم ينخرط في سلك المسلمين كبني أسد وغطفان فإنا
نرشده إلى ما يذهب عنه غيظه حيث يسوءه نصر الله تعالى لرسوله وكتابه ودينه وعباده
المؤمنين وهو أن يأتي بحبل وليربطه بخشبة في سقف بيته ويشده على عنقه ثم ليقطع
الحبل ، وينظر بعد هذه العملية الانتحارية هل كيده هذا يذهب عنه الذي يغيظه؟.
__________________
وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي ومثل ذلك الإنزال للآيات التي تقدمت في بيان قدرة الله
وعلمه في الخلق وإحياء الأرض وإعادة الحياة بعد الفناء أنزلنا القرآن آيات واضحات
تحمل الهدى والخير لمن آمن بها وعمل بما فيها من شرائع وأحكام وقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) أي هدايته بأن يوفقه للنظر والتفكر فيعرف الحق فيطلبه
ويأخذ به عقيدة وقولا وعملا.
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) وهم المسلمون (وَالَّذِينَ هادُوا) وهم اليهود (وَالصَّابِئِينَ) وهم فرقة من النصارى يقرأون الزبور ويعبدون الكواكب (وَالنَّصارى) وهم عبدة الصليب (وَالْمَجُوسَ) وهم عبدة النار والكواكب (وَالَّذِينَ
أَشْرَكُوا) وهم عبدة الأوثان هؤلاء جميعا سيحكم الله بينهم يوم القيامة فيدخل المؤمنين الجنة ويدخل
أهل تلك الملل الباطلة النار هذا هو الفصل الحق فالأديان ستة دين واحد للرحمن
وخمسة للشيطان فأهل دين الرحمن يدخلهم في رحمته ، وأهل دين الشيطان يدخلهم النار
مع الشيطان وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي عالم بكل شيء لا يخفى عليه شيء وسيجزى كل عامل بما عمل
، ولا يهلك على الله إلا هالك فقد أنزل كتابه وبعث رسوله ورغب ورهب وواعد وأوعد والناس
يختارون ما قدر لهم أو عليهم وسبحان الله العظيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ كل الأديان هي
من وحي الشيطان وأهلها خاسرون إلا الإسلام فهو دين الله الحق وأهله هم الفائزون ،
أهله هم القائمون عليه عقيدة وعبادة وحكما وقضاء.
٢ ـ ان الله ناصر
دينه ، ومكرم أهله ، ومن غاظه ذلك ولم يرضه فليختنق.
٣ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٤ ـ تقرير ارادة
الله ومشيئته فهو تعالى يفعل ما يشاء ويهدي من يريد.
__________________
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))
شرح الكلمات :
(أَلَمْ تَرَ) : أي ألم تر بقلبك فتعلم.
(يَسْجُدُ لَهُ) : أي يخضع ويذل له بوضع وجهه على الأرض بين يدي الرب
تعالى.
(مَنْ فِي السَّماواتِ) : من الملائكة.
(وَالدَّوَابُ) : من سائر الحيوانات التي تدب على الأرض.
(حَقَّ عَلَيْهِ
الْعَذابُ) : وجب عليه العذاب فلا بد هو واقع به.
(وَمَنْ يُهِنِ اللهُ) : أي يشقه في عذاب مهين.
(فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ) : أي ليس له من مكرم أي مسعد ليسعده ، وقد أشقاه الله.
معنى الآية
الكريمة :
يقول تعالى لرسوله
صلىاللهعليهوسلم : (أَلَمْ تَرَ) أيها الرسول بقلبك فتعلم (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ
لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) من الملائكة (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) من الجن والدواب (وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) وهم المؤمنون المطيعون وكثير أي من الناس حق عليهم العذاب
أي وجب لهم العذاب وثبت ، فهو لا يسجد سجود عبادة وقربة لنا أما سجود الخضوع
فظلالهم تسجد لنا بالصباح والمساء ، وقوله تعالى : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ
مُكْرِمٍ) أي ومن أراد الله إشقاءه وعذابه فما له من مكرم يكرمه برفع
__________________
العذاب عنه
واسعاده في دار السعادة وقوله : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ
ما يَشاءُ) فمن شاء أهانه ومن شاء أكرمه فالخلق خلقه وهو المتصرف فيهم
مطلق التصرف فمن شاء أعزه ، ومن شاء أذله فعلى عباده أن يرجعوا إليه بالتوبة
سائلين رحمته مشفقين من عذابه فهذا أنجى لهم من عذابه وأقرب الى رحمته.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ تقرير ربوبية
الله وألوهيته.
٢ ـ سجود
المخلوقات بحسب ذواتها ، وما أراد الله تعالى منها.
٣ ـ كل شيء خاضع
لله إلا الإنسان فاكثر افراده عصاة له متمردون عليه وبذلك استوجبوا العذاب المهين.
٤ ـ التالي لهذه
الآية والمستمع لتلاوته يسن لهم أن يسجدوا لله تعالى إذا بلغوا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).
(هذانِ خَصْمانِ
اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ
نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما
أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ
مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى
الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤))
__________________
شرح الكلمات :
(خَصْمانِ) : خصم مؤمن وخصم كافر كل واحد يريد أن يخصم صاحبه.
(اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ) : أي في دينه.
(قُطِّعَتْ لَهُمْ
ثِيابٌ) : أي فصلت لهم ثياب على قدر أجسامهم.
(يُصْهَرُ بِهِ ما فِي
بُطُونِهِمْ) : أي يذاب بالحميم وهو الماء الحار من شحوم وغيرها.
(مَقامِعُ مِنْ
حَدِيدٍ) : جمع مقمعة وهى آلة من حديد كالمجن.
(وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) : أي يقال لهم توبيخا وتقريعا : ذوقوا عذاب النار.
(وَلُؤْلُؤاً) : أي أساور من لؤلؤ محلاة بالذهب.
(إِلَى الطَّيِّبِ
مِنَ الْقَوْلِ) : هو شهادة أن لا إله إلا الله.
(إِلى صِراطِ
الْحَمِيدِ) : أي إلى الإسلام إذ هو طريق الله الموصل الى رضاه وجنته.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ) الخصم الأول المسلمون والثاني أهل الشرك والكفر (اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) أي في دينه تعالى كل خصم يدعي أنه على الدين الحق ، وماتوا
على ذلك وفصل الله تعالى بينهم يوم القيامة (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) وهم أهل الدين الباطل ادخلوا النار وفصلت لهم ثياب من نار (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ
رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) أي الماء الحار المنتهي في الحرارة ، (يُصْهَرُ بِهِ
ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) من لحم وشحم ، (وَلَهُمْ مَقامِعُ
مِنْ حَدِيدٍ) يضربون بها و (كُلَّما أَرادُوا
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) أي من النار بسبب ما ينالهم من غم عظيم (أُعِيدُوا فِيها) أي تجبرهم الزبانية على العودة إليها ولم تمكنهم من الخروج
__________________
منها ، ويقولون
لهم : (وَذُوقُوا عَذابَ
الْحَرِيقِ) أي لا تخرجوا منها وذوقوا عذاب الحريق. فهذا جزاء الخصم
الكافر ، وأما الخصم المؤمن فهذا جزاؤه وهو في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ
فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) أي أساور من لؤلؤ محلاة بالذهب (وَلِباسُهُمْ فِيها) أي في الجنة (حَرِيرٌ)
وقوله تعالى : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ
الْقَوْلِ) في الدنيا وهو لا إله إلا الله وسائر الأذكار والتسابيح
وكل كلام طيب ، (وَهُدُوا إِلى صِراطِ
الْحَمِيدِ) وهذا الطريق الموصل إلى رضا ربهم وهو الإسلام ، وكل ذلك
بتوفيق ربهم الذي آمنوا له وبرسوله وأطاعوه بفعل محابه وترك مساخطه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إثبات حقيقة
هي أن المؤمن خصم الكافر والكافر خصم المؤمن في كل زمان ومكان حيث إنّ الآية نزلت
في على وحمزة وعبيدة بن الحارث هذا الخصم المؤمن ، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة
والوليد بن عتبة وهذا الخصم الكافر وذلك أنهم تقاتلوا يوم بدر بالمبارزة ونصر الله
الخصم المؤمن على الكافر.
٢ ـ بيان جزاء كل
من الكافرين والمؤمنين في الدار الآخرة.
٣ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء بذكر أحوال الآخرة وما للناس فيها.
٤ ـ بيان الطيب من
القول وهو كلمة التوحيد وذكر الله تعالى.
٥ ـ بيان صراط
الحميد وهو الإسلام جعلنا الله من أهله.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي
جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ
بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥))
__________________
شرح الكلمات :
(كَفَرُوا) : جحدوا توحيد الله وكذّبوا رسوله وما جاءهم به من عند
ربهم.
(وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) : يمنعون الناس من الإسلام ، ويصرفونهم عنه.
(وَالْمَسْجِدِ
الْحَرامِ) : مكة المكرمة والمسجد الحرام ضمنها.
(الْعاكِفُ) : المقيم بمكة للتعبد في المسجد الحرام.
(وَالْبادِ) : الطاريء عن مكة النازح إليها.
(بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) : أي إلحادا أي ميلا عن الحق ملتبسا بظلم لنفسه أو لغيره.
معنى الآية
الكريمة :
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) هذه الآية الكريمة تحمل تهديدا ووعيدا شديدا لكل من كفر
بتوحيد الله وكذب رسوله وما جاء به من الهدى والدين الحق وصدّ عن سبيل الله أي صرف
الناس عن الدخول في الإسلام ، وعن دخول المسجد الحرام للطواف بالبيت والإقامة بمكة
للتعبد في المسجد الحرام والآية وإن تناولت المشركين الذين صدوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه عن دخول مكة عام الحديبية فإنها عامة فى كل من كفر
وصدّ إلى يوم القيامة وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلْناهُ
لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) هو وصف للمسجد الحرام إذ جعله الله تعالى موضع تنسّك لكل
من أتاه وأقام به أو يأتيه للعبادة ثم يخرج منه ، فالعاكف أي المقيم فيه كالبادي
الطارىء القدوم إليه هم سواء في حق الإقامة في مكة والمسجد الحرام للتعبد.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ
بِظُلْمٍ) أي يرد بمعنى يعتزم الميل عن الحق فيه بظلم يرتكبه كالشرك
وسائر الذنوب والمعاصي القاصرة على الفاعل أو المتعدية إلى غيره. وقوله تعالى : (نُذِقْهُ مِنْ
عَذابٍ أَلِيمٍ) هذا جزاء من كفر وصد عن سبيل الله
__________________
والمسجد الحرام
ومن أراد فيه إلحادا بظلم لنفسه أو لغيره.
هداية الآية
الكريمة
من
هداية الآية الكريمة :
١ ـ التنديد
بالكفر والصدّ عن سبيل الله والمسجد الحرام والظلم فيه والوعيد الشديد لفاعل ذلك.
٢ ـ مكة بلد الله
وحرمه من حق كل مسلم أن يقيم بها للتعبد والتنسك ما لم يظلم وينتهك حرمة الحرم
بالذنوب والمعاصي ، وخاصة الشرك والظلم والضلال.
٣ ـ عظيم شأن
الحرم حيث يؤاخذ فيه على مجرد العزم على الفعل ولو لم يفعل.
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا
مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩))
__________________
شرح الكلمات :
(وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ) : أي أذكر يا رسولنا إذ بوأنا : أي أنزلنا إبراهيم بمكة
مبينين له مكان البيت.
(أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) : أي ووصيناه بأن لا تشرك بي شيئا من الشرك والشركاء.
(وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) : ونظف بيتي من أقذار الشرك وأنجاس المشركين.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِ) : أعلن في الناس بأعلى صوتك.
(رِجالاً وَعَلى كُلِّ
ضامِرٍ) : مشاة وركبانا على ضوامر الإبل.
(فَجٍّ عَمِيقٍ) : طريق واسع بعيد الغور في قارات الأرض.
(فِي أَيَّامٍ
مَعْلُوماتٍ) : هي أيام التشريق.
(بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ) : أي الإبل والبقر والغنم إذ لا يصح الهدى إلا منها.
(الْبائِسَ الْفَقِيرَ) : أي الشديد الفقر.
(لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ) : أي ليزيلوا أوساخهم المترتبة على مدة الإحرام.
(وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) : أي بأن يذبحوا وينحروا ما نذروه لله من هدايا وضحايا.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ) أي اذكر يا رسولنا لقومك المنتسبين إلى إبراهيم باطلا
وزورا حيث كان موحدا وهم مشركون اذكر لهم كيف بوأه ربّه مكان البيت ليبنيه ويرفع
بناءه وكيف عهد الله إليه ووصاه بأن يطهره من الأقذار الحسية كالنجاسات من دماء
وأوساخ والمعنوية كالشرك والمعاصي وسائر الذنوب وذلك من أجل الطائفين به والقائمين
في الصلاة والراكعين والساجدين فيه إذ الرّكع جمع راكع والسجد جمع ساجد حتى لا
يتأذوا بأي أذى معنوي أو حسيّ وهم حول بيت ربهم وفي بلده وحرمه ، ليذكر قومك هذا
وهم قد نصبوا حول البيت التماثيل والأصنام ، ويحاربون كل من يقول لا إله إلا الله
وقد صدوك وأصحابك عن المسجد الحرام ومنعوك من الطواف بالبيت العتيق ، فأين يذهب
__________________
بعقولهم عند ما
يدعون أنهم على دين إبراهيم وإسماعيل. هذا ما دل عليه قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ
الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ
وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي وعهدنا إليه آمرين إياه أن يؤذن في الناس بأن ينادي
معلنا معلما : أيها الناس إن ربكم قد بنى لكم بيتا فحجوه ففعل ذلك فأسمع الله صوته
من شاء من عباده ممن كتب لهم أزلا أن يحجوا وسهل طريقهم وحجوا فعلا ولله الحمد
والمنة.
وقوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي عليك النداء وعلينا البلاغ فناد (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي مشاة (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) من النوق المهازيل (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ
فَجٍّ عَمِيقٍ) أي طريق بعيد في أغوار الأرض وأبعادها كالأندلس غربا
وأندونيسيا شرقا. وقوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا
مَنافِعَ لَهُمْ) أي يأتوك ليشهدوا منافع لهم دينيّة كمغفرة ذنوبهم واستجابة
دعائهم والفوز برضا ربهم ، وتعلم دينهم من علمائهم ، ودنيويّة كربح تجارة ببيع
وشراء وعرض سلع وأنواع صناعات ، وقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ) شاكرين لله تعالى إنعامه عليهم وإفضاله وذلك في أيام الحج
كلها من العشر الأول من ذي الحجة إلى نهاية أيام التشريق بالصلاة والذكر والدعاء ،
كما يذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام عند نحر الإبل وذبح البقر
والغنم بأن يقول الناحر أو الذابح بسم الله والله أكبر وقوله تعالى : (فَكُلُوا مِنْها) أي من بهيمة الأنعام التي نحرتموها أو ذبحتموها تقربا إلينا كهدى التمتع أو التطوع ، (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) وهو من اشتد به الفقر وقوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) بإزالة الشعث والوسخ الذي لازمهم طيلة مدة الإحرام. وقوله
: (وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ) أن من كان منهم قد نذر هديا بذبحه في الحرم فليوف بذلك إذ
هذا أوان الوفاء بما نذر أن ينحره أو يذبحه
__________________
بالحرم. وقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ) أي وليطوفوا طواف الإفاضة وهو ركن الحج ولا يصح الا بعد
الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة صباح العيد عيد الأضحى.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب بناء
البيت وإعلائه كلما سقط وتهدم ووجوب تطهيره من كل ما يؤذي الطائفين والعاكفين في
المسجد الحرام من الشرك والمعاصي وسائر الذنوب ومن الأقذار كالأبوال والدماء
ونحوها.
٢ ـ مشروعية فتح
مكاتب للدعاية للحج.
٣ ـ جواز الاتجار
أثناء إقامته في الحج.
٤ ـ وجوب شكر الله
تعالى وذكره.
٥ ـ جواز الأكل من
الهدي ومن ذبائح التطوع بل استحبابه.
٦ ـ وجوب الحلق أو
التقصير بعد رمي جمرة العقبة.
٧ ـ وجوب الوفاء
بالنذور الشرعية أما النذور للأولياء فهي شرك ولا يجوز الوفاء بها.
٨ ـ تقرير طواف
الإفاضة وبيان زمنه وهو بعد الوقوف بعرفة ورمي جمرة العقبة.
(ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ
مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ
فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ
وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ
__________________
(٣٢)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ
الْعَتِيقِ (٣٣))
شرح الكلمات :
(ذلِكَ) : أي الأمر هذا مثل قول المتكلم هذا أي ما ذكرت .. وكذا
وكذا ..
(حُرُماتِ اللهِ) : جمع حرمة ما حرّم الله إنتهاكه من قول أو فعل.
(فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ
عِنْدَ رَبِّهِ) : أي خير في الآخرة لمن يعظم حرمات الله فلا ينتهكها.
(إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) : أي تحريمه من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير
الله به.
(فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) : أي اجتنبوا عبادة الأوثان.
(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ
الزُّورِ) : وهو الكذب وأعظم الكذب ما كان على الله تعالى والشرك وشهادة الزور
(حُنَفاءَ لِلَّهِ) : موحدين له مائلين عن كل دين إلى الإسلام.
(خَرَّ مِنَ السَّماءِ) : أي سقط.
(فَتَخْطَفُهُ
الطَّيْرُ) : أي تأخذه بسرعة.
(شَعائِرَ اللهِ) : أعلام دينه وهي هنا البدن بأن تختار الحسنة السمينة
منها.
(فَإِنَّها مِنْ
تَقْوَى الْقُلُوبِ) : أي تعظيمها ناشىء من تقوى قلوبهم.
(لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ) : منها ركوبها والحمل عليها بما لا يضرها وشرب لبنها.
(إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : أي وقت معين وهو نحرها بالحرم أيام التشريق.
(ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) :
أي عند البيت
العتيق وهو مكة والحرم.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
مناسك الحج قوله تعالى (ذلِكَ) أي الأمر ذاك الذي علمتم من قضاء التفث أي إزالة شعر الرأس
وقص الشارب وقلم الأظافر ولباس الثياب ونحر وذبح الهدايا والضحايا ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ) منكم (حُرُماتِ اللهِ) فلا ينتهكها (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي ذلك التعظيم لها باحترامها وعدم انتهاكها خير له عند
ربّه يوم يلقاه وقوله تعالى : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ
__________________
الْأَنْعامُ) أي الإبل والبقر والغنم أحل الله تعالى لكم أكلها
والانتفاع بها وقوله تعالى : (إِلَّا ما يُتْلى
عَلَيْكُمْ) تحريمه كما جاء في سورة البقرة والمائدة والأنعام ، ومن
ذلك قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما
أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) وقوله : (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ) أي اجتنبوا عبادة الأوثان فإنها رجس فلا تقربوها بالعبادة
ولا بغيرها غضبا لله وعدم رضا بها وبعبادتها ، وقوله : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) وهو الكذب مطلقا وشهادة الزور وأعظم الكذب ما كان على الله
بوصفه بما هو منزه عنه أو بنسبه شيء إليه كالولد والشريك وهو عنه منزه ، أو وصفه
بالعجز أو بأي نقص وقوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ
غَيْرَ مُشْرِكِينَ) أي موحدين لله تعالى في ذاته وصفاته وعباداته مائلين عن كل
الأديان إلى دينه الإسلام ، غير مشركين به أي شيء من الشرك أو الشركاء وقوله تعالى
: (وَمَنْ يُشْرِكْ
بِاللهِ) إلها آخر فعبده أو صرف له بعض العبادات التي هي لله تعالى
فحاله في خسرانه وهلاكه هلاك من خرّ من السماء أي سقط منها بعد ما رفع إليها
فتخطفه الطير أي تأخذه بسرعة وتمزقه أشلاء كما تفعل البازات والعقبان بصغار الطيور
، أو تهوى به الريح في مكان سحيق بعيد فلا يعثر عليه أبدا فهو بين أمرين إما
اختطاف الطير له أو هوى الريح به فهو خاسر هالك هذا شأن من يشرك بالله تعالى فيعبد
معه غيره بعد أن كان في سماء الطهر والصفاء الروحي بسلامة فطرته وطيب نفسه فانتكس
في حمأة الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ
يُعَظِّمْ شَعائِرَ
اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي الأمر ذلك من تعظيم حرمات الله واجتناب قول الزور
والشرك وبيان خسران المشرك ومن يعظم شعائر الله وهي أعلام دينه من سائر المناسك
وبخاصة البدن التي تهدى للحرم وتعظيمها باستحسانها واستسمانها ناشىء عن تقوى
القلوب فمن عظمها طاعة لله تعالى وتقربا إليه دل ذلك
__________________
على تقوى قلبه
لربه تعالى والرسول يشير الى صدره ويقول التقوى ها هنا التقوى ها هنا ثلاث مرات وقوله
تعالى : (لَكُمْ فِيها
مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي أذن الله تعالى للمؤمنين أن ينتفعوا بالهدايا وهم
سائقوها إلى الحرم بأن يركبوها ويحملوا عليها ما لا يضرها ويشربوا من ألبانها وقوله تعالى
: (ثُمَّ مَحِلُّها
إِلَى الْبَيْتِ) (الْعَتِيقِ) أي محلها عند البيت العتيق وهو الحرم حيث تنحر إن كان مما
ينحر أو تذبح إن كان مما يذبح.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب تعظيم
حرمات الله لما فيها من الخير العظيم.
٢ ـ تقرير حلّيّة
بهيمة الأنعام بشرط ذكر اسم الله عند ذبحها أو نحرها.
٣ ـ حرمة قول
الزور وشهادة الزور وفي الأثر عدلت شهادة الزور الشرك بالله.
٤ ـ وجوب ترك
عبادة الأوثان ووجوب البعد عنها وترك كل ما يمت إليها بصلة.
٥ ـ بيان عقوبة
الشرك وخسران المشرك.
٦ ـ تعظيم شعائر
الله وخاصة البدن من تقوى قلوب أصحابها.
٧ ـ جواز الانتفاع
بالبدن الهدايا بركوبها وشرب لبنها والحمل عليها إلى غاية نحرها بالحرم.
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
(٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما
أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا
__________________
رَزَقْناهُمْ
يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها
خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها
فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها
لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ
يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى
ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧))
شرح الكلمات :
(مَنْسَكاً) : أي ذبائح من بهيمة الأنعام يتقربون بها إلى الله تعالى ،
ومكان الذبح يقال له منسك.
(فَلَهُ أَسْلِمُوا) : أي انقادوا
ظاهرا وباطنا لأمره ونهيه.
(وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ) : أي المطيعين المتواضعين الخاشعين.
(وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) : أي خافت من الله تعالى أن تكون قصّرت في طاعته.
(وَالْبُدْنَ) : جمع بدنة وهي ما يساق للحرم من إبل وبقر ليذبح تقربا إلى
الله تعالى.
(مِنْ شَعائِرِ اللهِ) : أي من أعلام دينه ، ومظاهر عبادته.
(صَوافَ) : جمع صافّة وهي القائمة على ثلاث معقولة اليد اليسرى.
(فَإِذا وَجَبَتْ
جُنُوبُها) : أي بعد أن تسقط على جنوبها على الأرض لا روح فيها.
(الْقانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ) : القانع السائل والمعتر الذي يتعرض للرجل ولا يسأله حياء وعفة.
__________________
(كَذلِكَ سَخَّرْناها) : أي مثل هذا التسخير سخرناها لكم لتركبوا عليها وتحملوا
وتحلبوا.
(لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ) : أي لأجل أن تشكروا الله تعالى بحمده وطاعته.
(لَنْ يَنالَ اللهَ
لُحُومُها) : أي لا يرفع إلى الله لحم ولا دم ، ولكن تقواه بفعل ما
أمر به وترك ما نهى عنه.
(لِتُكَبِّرُوا اللهَ
عَلى ما هَداكُمْ) : أي تقولون الله أكبر بعد الصلوات الخمس أيام التشريق
شكرا له على هدايته اياكم.
(وَبَشِّرِ
الْمُحْسِنِينَ) : أي الذين يريدون بالعبادة وجه الله تعالى وحده ويؤدونها
على الوجه المشروع.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
توجيه المؤمنين وإرشادهم إلى ما يكملهم ويسعدهم في الدارين فقوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي ولكل أمة من الأمم السابقة من أهل الإيمان والإسلام
جعلنا لهم مكان نسك يتعبدوننا فيه ومنسكا أي ذبح قربان ليتقربوا به إلينا ، وقوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) أي شرعنا لهم عبادة ذبح القربان لحكمة : وهو أن يذكروا
اسمنا على ذبح ما يذبحون ونحر ما ينحرون بأن يقولوا بسم الله والله أكبر. وقوله
تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) أي فمعبودكم أيها الناس معبود واحد (فَلَهُ أَسْلِمُوا) وجوهكم وخصوه بعبادتكم ثم قال لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم (وَبَشِّرِ
الْمُخْبِتِينَ) برضواننا ودخول دار كرامتنا ووصف المخبتين معرفا بهم الذين
تنالهم البشرى على لسان رسول الله فقال (الَّذِينَ إِذا
ذُكِرَ اللهُ) لهم أو بينهم (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي خافت شعورا بالتقصير في طاعته وعدم أداء شكره والغفلة
عن ذكره (وَالصَّابِرِينَ عَلى
ما أَصابَهُمْ) من البلاء فلا يجزعون ولا يتسخطون ولكن يقولون إنا لله
وإنا إليه راجعون ،
__________________
(وَالْمُقِيمِي) الصلاة أي بأدائها في أوقاتها في بيوت الله مع عباده المؤمنين ومع
كامل شرائطها وأركانها وسننها (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) مما قل أو كثر ينفقون في مرضاة ربهم شكرا لله على ما آتاهم
وتسليما بما شرع لهم وفرض عليهم.
وقوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها
لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) أي الإبل والبقر مما يهدى إلى الحرم جعلنا ذلكم من شعائر
ديننا ومظاهر عبادتنا ، (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) عظيم وأجر كبير عند ربكم يوم تلقوه إذ ما تقرب متقرب يوم
عيد الأضحى بأفضل من دم يهرقه في سبيل الله وعليه (فَاذْكُرُوا اسْمَ
اللهِ عَلَيْها) أي قولوا بسم الله والله أكبر عند نحرها ، وقوله : (صَوافَ) أي قائمة على ثلاثة معقولة اليد اليسرى ، فإذا نحرتموها
ووجبت أي سقطت على جنوبها فوق الأرض ميتة (فَكُلُوا مِنْها
وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) الذي يسألكم (وَالْمُعْتَرَّ) الذي يتعرض لكم ولا يسألكم حياءا ، وقوله تعالى : (سَخَّرْناها لَكُمْ) أي مثل ذلك التسخير الذي سخرناها لكم فتركبوا وتحلبوا
وتذبحوا وتأكلوا سخرناها لكم من أجل أن تشكرونا بالطاعة والذكر. وقوله تعالى في
آخر آية في هذا السياق وهي (٣٧) قوله : (لَنْ يَنالَ
اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) أي لن يرفع إليه لحم ولا دم ولن يبلغ الرضا منه ، ولكن
التقوى بالإخلاص وفعل الواجب والمندوب وترك الحرام والمكروه هذا الذي يرفع إليه
ويبلغ مبلغ الرضا منه.
__________________
وقوله تعالى : (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) أي كذلك التسخير الذي سخرها لكم لعلّة أن تكبروا الله على
ما هداكم إليه من الإيمان والإسلام فتكبروا الله عند نحر البدن وذبح الذبائح وعند
أداء المناسك وعقب الصلوات الخمس أيام التشريق. وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) أمر الله تعالى رسوله والمبلغ عنه محمدا صلىاللهعليهوسلم أن يبشر باسمه المحسنين الذين أحسنوا الإيمان والإسلام
فوحدوا الله وعبدوه بما شرع وعلى نحو ما شرع متبعين في ذلك هدى رسوله وسنة نبيه صلىاللهعليهوسلم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ ذبح القربان
مشروع في سائر الأديان الإلهية وهو دليل على أنه لا إله إلا الله إذ وحدة التشريع
تدل على وحدة المشرع.
وسر مشروعية ذبح
القربان هو أن يذكر الله تعالى ، ولذا وجب ذكر اسم الله عند ذبح ما يذبح ونحر ما
ينحر بلفظ بسم الله والله أكبر.
٢ ـ تعريف
المخبتين أهل البشارة السارة برضوان الله وجواره الكريم.
٣ ـ وجوب ذكر اسم
الله على بهيمة الأنعام.
٤ ـ بيان كيفية
نحر البدن ، وحرمة الأخذ منها قبل موتها وخروج روحها.
٥ ـ الندب إلى
الأكل من الهدايا ووجوب إطعام الفقراء والمساكين منها.
٦ ـ وجوب شكر الله
على كل إنعام.
٧ ـ مشروعية
التكبير عند أداء المناسك كرمي الجمار وذبح ما يذبح وبعد الصلوات الخمس أيام
التشريق.
٨ ـ فضيلة الإحسان
وفوز المحسنين ببشرى على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ
لَقَدِيرٌ
(٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا
رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ
صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً
وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا
الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ
عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١))
شرح الكلمات :
(يُدافِعُ) : قرىء يدفع أي
غوائل المشركين وما يكيدون به المؤمنين.
(خَوَّانٍ) : كثير الخيانة لأمانته وعهوده.
(كَفُورٍ) : أي جحود لربه وكتابه ورسوله ونعمه عليه.
(بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) : أي بسبب ظلم المشركين لهم.
(بِغَيْرِ حَقٍ) : أي استوجب إخراجهم من ديارهم.
(إِلَّا أَنْ
يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) : أي الا قولهم : ربنا الله والله حق ، وهل قول الحق يسوغ
إخراج قائله؟
(صَوامِعُ وَبِيَعٌ) : معابد الرهبان وكنائس النصارى.
(وَصَلَواتٌ) : معابد اليهود ، باللغة العبرية مفردها صلوثا.
(وَمَساجِدُ) : أي بيوت الصلاة للمسلمين.
(مَنْ يَنْصُرُهُ) : أي ينصر دينه وعباده المؤمنين.
(لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) : قادر على ما يريد عزيز لا يمانع فيما يريد.
(إِنْ مَكَّنَّاهُمْ
فِي الْأَرْضِ) : أي نصرناهم على عدوهم ومكنا لهم في البلاد بأن جعلنا
السلطة بأيديهم.
(وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) : أي آخر أمور الخلق مردها إلى الله تعالى الذي يثيب
ويعاقب.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
إرشاد المؤمنين وتعليمهم وهدايتهم قوله تعالى : (إِنَ اللهَ
يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ
آمَنُوا) أي يدفع عنهم غوائل المشركين ويحميهم من كيدهم ومكرهم.
وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ
كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) تعليل وهم المشركين الذين صدوا رسول الله والمؤمنين عن
المسجد الحرام وهم الخائنون لأماناتهم وعهودهم الكافرون بربهم ورسوله وكتابه وبما
جاء به ، ولما كان لا يحبهم فهو عليهم ، وليس لهم. ومقابله أنه يحب كل مؤمن صادق
في إيمانه محافظ على أماناته وعهوده مطيع لربه ، ومن أحبّه دافع عنه وحماه من
أعدائه.
وقوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) باسم للفاعل أي القادرين على القتال ويقاتلون باسم المفعول
وهما قراءتان أي قاتلهم المشركون هؤلاء أذن الله تعالى لهم في قتال أعدائهم المشركين بعد ما كانوا
ممنوعين من ذلك لحكمة يعلمها ربهم ، وهذه أول آية في القرآن تحمل طابع الحرب
بالإذن فيه للمؤمنين ، وقوله : (وَإِنَّ اللهَ عَلى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) طمأنهم على أنه معهم بتأييده ونصره وهو القدير على ذلك وقوله
تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا
مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍ) أي بدون موجب لإخراجهم اللهم إلا قولهم : ربنا الله وهذا حق وليس بموجب لإخراجهم من ديارهم وطردهم
من منازلهم وبلادهم هذه الجملة بيان لمقتضى الإذن لهم بالقتال ، ونصرة الله تعالى
لهم. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا دَفْعُ
اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ
بِبَعْضٍ) أي يدفع بأهل الحق أهل الباطل لو لا هذا لتغلب أهل الباطل و
(لَهُدِّمَتْ
__________________
صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ
وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) وهذا تعليل أيضا وبيان لحكمة الأمر بالقتال أي لو لا أن
الله تعالى يدفع بأهل الإيمان أهل الكفر لتغلب أهل الكفر وهدموا المعابد ولم
يسمحوا للمؤمنين أن يعبدوا الله ـ وفي شرح الكلمات بيان للمعابد المذكورة فليرجع
اليها.
وقوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ
إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) أي قدير (عَزِيزٌ) غالب فمن أراد نصرتة نصره ولو اجتمع عليه من بأقطار الأرض
، والذي يريد الله نصرته هو الذي يقاتل من أجل الله بأن يعبد في الأرض ولا يعبد معه
سواه فذلك وجه نصر الله فليعلم وقوله (الَّذِينَ إِنْ
مَكَّنَّاهُمْ) أي وطأنا لهم في الأرض وملكناهم بعد قهر أعدائهم المشركين
فحكموا وسادوا أقاموا الصلاة على الوجه المطلوب منهم ، وآتوا الزكاة المفروضة في
أموالهم ، وأمروا بالمعروف أي بالإسلام والدخول فيه وإقامته ، ونهوا عن المنكر وهو
الشرك والكفر ومعاصى الله ورسوله هؤلاء الأحقون بنصر الله تعالى لهم لأنهم يقاتلون
لنصرة الله عزوجل ، وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ
الْأُمُورِ) يخبر تعالى بأن مرد كل أمر إليه تعالى يحكم فيه بما هو
الحق والعدل فيثيب على العمل الصالح ويعاقب على العمل الفاسد ، وذلك يوم القيامة ،
وعليه فليراقب الله وليتق في السر والعلن وليتوكل عليه ، ولينب إليه ، فإن مرد كل
أمر إليه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وعد الله
الصادق بالدفاع عن المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
٢ ـ كره الله
تعالى لأهل الكفر والخيانة.
٣ ـ مشروعية
القتال لإعلاء كلمة الله بأن يعبد وحده ولا يضطهد أولياؤه.
٤ ـ بيان سر الإذن
بالجهاد ونصرة الله لأوليائه الذين يقاتلون من أجله.
__________________
٥ ـ بيان أسس
الدولة التي ورثّ الله أهلها البلاد وملكهم فيها وهي :
إقام الصلاة ـ
إيتاء الزكاة ـ الأمر بالمعروف ـ النهي عن المنكر.
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ
إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى
فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ
مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها
وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها
لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦))
شرح الكلمات :
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) : أي إن يكذبك قومك فقد كذبت قبلهم قوم نوح إذا فلا تأس إذ
لست وحدك المكذب.
(وَأَصْحابُ مَدْيَنَ) : هم قوم شعيب عليهالسلام.
(وَكُذِّبَ مُوسى) : أي كذبه فرعون وآله الأقباط.
(فَأَمْلَيْتُ
لِلْكافِرِينَ) : أي أمهلتهم فلم أعجل العقوبة لهم.
(ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) : أي بالعذاب المستأصل لهم.
(فَكَيْفَ كانَ
نَكِيرِ) : أي كيف كان إنكاري عليهم تكذيبهم وكفرهم أكان واقعا
موقعه؟ نعم إذ الإستفهام للتقرير.
(فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) : أي ساقطة على سقوفها.
(بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) : أي متروكة لا يستخرج منها ماء لموت أهلها.
(وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) : مرتفع مجصص بالجص.
(فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ) : أي فانها أي القصة لا تعمى الأبصار فإن الخلل ليس في
أبصارهم ولكن في قلوبهم حيث أعماها الهوى وأفسدتها الشهوة والتقليد لأهل الجهل
والضلال.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في دعوة قريش إلى الإيمان والتوحيد وإن تخللته إرشادات للمؤمنين فإنه لما
أذن للمؤمنين بقتال المشركين بين مقتضيات هذا الإذن وضمن النصرة لهم وأعلم أن
عاقبة الأمور إليه لا إلى غيره وسوف يقضي بالحق والعدل بين عباده يوم يلقونه. قال
لرسوله صلىاللهعليهوسلم مسليا له عن تكذيب المشركين له : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) أيها الرسول فيما جئت به من التوحيد والرسالة والبعث
والجزاء يوم القيامة فلا تأس ولا تحزن (فَقَدْ كَذَّبَتْ
قَبْلَهُمْ) أي قبل مكذّبيك من قريش والعرب واليهود (قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ) قوم هود (وَثَمُودُ) قوم صالح (وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ
وَقَوْمُ لُوطٍ ، وَأَصْحابُ مَدْيَنَ ، وَكُذِّبَ مُوسى) أيضا مع ما آتيناه من الآيات البينات ، وكانت سنتي فيهم
أني أمليت لهم أي مددت لهم في الزمن وأرخيت لهم الرسن حتى إذا بلغوا غاية الكفر
والعناد والظلم والاستبداد وحقت عليهم كلمة العذاب أخذتهم أخذ العزيز المقتدر (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، أي انكاري عليهم؟ كان وربّك واقعا موقعه ، وليس
المذكورون أخذت فقط .. (فَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ) عظيمة غانية برجالها ومالها وسلطانها (أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي ضالعة في الظلم أي الشرك والتكذيب (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي ساقطة على سقوفها ، وكم من بئر ماء عذب كانت سقيا لهم فهي الآن معطلة ، وكم من قصر مشيد أي
رفيع مشيد بالجص إذ
__________________
مات أهله وتركوه هذا ما تضمنته الآيات الأربع (٤٢ ، ٤٣ ، ٤٤ ، ٤٥) أما
الآية الأخيرة من هذا السياق فالحق عزوجل يقول (أَفَلَمْ يَسِيرُوا
فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ
بِها) حاثا المكذبين من كفار قريش والعرب على السير في البلاد
ليقفوا على آثار الهالكين فلعل ذلك يكسبهم حياة جديدة في تفكيرهم ونظرهم فتكون لهم
قلوب حية واعية يعقلون بها خطابنا إليهم ونحن ندعوهم إلى نجاتهم وسعادتهم أو تكون
لهم آذان يسمعون بها نداء النصح والخير الذي نوجهه إليهم بواسطة كتابنا ورسولنا ،
وما لهم من عيون مبصرة بدون قلوب واعية وآذان صاغية فإن ذلك غير نافع (فَإِنَّها لا تَعْمَى
الْأَبْصارُ ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ). وهذا حاصل القول ألا فليسيروا لعلهم يكسبون عبرا وعظات
تحيي قلوبهم وسائر حواسهم المتبلدة.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تكذيب الرسل
والدعاة إلى الحق والخير سنة مطردة في البشر لها عواملها من أبرزها التقليد
والمحافظة على المنافع المادية ، وظلمات القلب الناشئة عن الشرك والمعاصي.
٢ ـ مظاهر قدرة
الله تعالى في إهلاك الأمم والشعوب الظالمة بعد الإمهال لهم والإعذار.
٣ ـ مشروعية طلب
العبر وتصيدها من آثار الهالكين.
٤ ـ العبرة
بالبصيرة القلبية لا بالبصر فكم من أعمى هو أبصر للحقائق وطرق النجاة من ذي بصر
حاد حديد. ومن هنا كان المفروض على العبد أن يحافظ على بصيرته أكثر من المحافظة
على عينيه ، وذلك بأن يتجنب مدمرات القلوب من الكذب والترهات والخرافات ، والكبر
والعجب والحب والبغض في غير الله.
__________________
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ
كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ
لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ
سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١))
شرح الكلمات :
(يَسْتَعْجِلُونَكَ
بِالْعَذابِ) : أي يطالبونك مستعجلينك بما حذّرتهم منه من عذاب الله.
(كَأَلْفِ سَنَةٍ
مِمَّا تَعُدُّونَ) : أي من أيام الدنيا ذات الأربع والعشرين ساعة.
(وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ) : أي وكثير من القرى أي العواصم والحواضر الجامعة لكل
أسباب الحضارة.
(أَمْلَيْتُ لَها) : أي أمهلتها فمدّدت أيام حياتها ولم استعجلها بالعذاب.
(نَذِيرٌ مُبِينٌ) : منذر أي مخوّف عاقبة الكفر والظلم بيّن النذارة.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ
وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : أي ستر لذنوبهم ورزق حسن في الجنة
(سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ) : أي عملوا بجد واجتهاد في شأن إبعاد الناس عن الإيمان
بآياتنا وما تحمله من دعوة الى التوحيد وترك الشرك والمعاصي.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في إرشاد الرسول صلىاللهعليهوسلم وتوجيهه في دعوته إلى الصبر والتحمل فيقول له : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) أي يستعجلك المشركون من قومك بالعذاب الذي خوفتهم به
وحذرتهم منه ، (وَلَنْ يُخْلِفَ
اللهُ وَعْدَهُ) وقد وعدهم فهو واقع بهم لا بد وقد
__________________
تم ذلك في بدر
وقوله تعالى : (وَإِنَّ يَوْماً
عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فلذا تعالى لا يستعجل وهم يستعجلون فيوم الله بألف سنة ،
وأيامهم بأربع وعشرين ساعة فإذا حدد تعالى لعذابهم يوما معناه أن العذاب لا ينزل
بهم إلا بعد ألف سنة ، ونصف يوم بخمسمائة سنة ، وربع يوم بمائتين وخمسين سنة وهكذا
فلذا يستعجل الإنسان ويستبطىء ، والله عزوجل ينجز وعده في الوقت الذي حدده فلا يستخفه استعجال المجرمين
العذاب ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَجَلٌ
مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) من سورة العنكبوت هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٤٧) وقوله
تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ) أي مدينة كبرى (أَمْلَيْتُ لَها) أي أمهلتها وزدت لها في أيام بقائها والحال أنها ظالمة
بالشرك والمعاصي ثم بعد ذلك الإملاء والإمهال أخذتها (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) أي مصير كل شيء ومرده إلي فلا إله غيري ولا رب سواي فلا
معنى لإستعجال هؤلاء المشركين العذاب فإنهم عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا فإن
مصيرهم إلى الله تعالى وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون الجزاء العادل في دار الشقاء
والعذاب الأبدي وقوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّما
أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، فلست بإله ولا رب بيدي عذابكم إن عصيتموني وإنعامكم إن
أطعتموني ، وإنما أنا عبد مأمور بأن أنذر عصاة الرب بعذابه ، وابشر أهل طاعته
برحمته ، وهو معنى الآية (٥٠) فالذين آمنوا وعملوا الصالحات ولازمه أنهم تركوا الشرك
والمعاصي لهم مغفرة لذنوبهم ورزق كريم عند ربهم وهو الجنة دار النعيم (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا
مُعاجِزِينَ) أي عملوا جادين مسرعين في صرف الناس عن آيات الله حتى لا
يؤمنوا بها ويعملوا بما فيها من هدي ونور معاجزين لله يظنون أنهم يعجزونه والله
غالب على أمره ناصر دينه وأوليائه ، أولئك البعداء في الشر والشرك أصحاب الجحيم
الملازمون لها أبد الآبدين.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ العجلة من طبع
الإنسان ولكن استعجال الله ورسوله بالعذاب حمق وطيش وضلال وكفر.
٢ ـ ما عند الله
في الملكوت الأعلى يختلف تماما عما في هذا الملكوت السلفي.
٣ ـ عاقبة الظلم
وخيمة وفي الخبر الظلم يترك الديار بلاقع أي خرابا خالية.
٤ ـ بيان مهمة
الرسل وهي البلاغ مع الإنذار والتبشير ليس غير.
٥ ـ بيان مصير
المؤمنين والكافرين يوم القيامة.
(وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً
لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤)
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا
بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧))
شرح الكلمات :
(مِنْ رَسُولٍ وَلا
نَبِيٍ) : الرسول ذكر من بني آدم أوحي إليه بشرع وأمر بابلاغه. والنبي
مقرر لشرع من قبله.
تمنى
في أمنيته : أي قرأ في أمنيته
، أي في قراءته.
(ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ
آياتِهِ) : أي بعد إزالة ما ألقاه الشيطان في القراءة بحكم الله
آياته أي يثبتها.
(فِتْنَةً لِلَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : أي اختبارا للذين في قلوبهم مرض الشرك والشك.
(وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ) : هم المشركون.
(فَتُخْبِتَ لَهُ
قُلُوبُهُمْ) : أي تتطامن وتخشع له قلوبهم.
(فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) : أي في شك منه وريب من القرآن.
(عَذابُ يَوْمٍ
عَقِيمٍ) : هو عذاب يوم بدر إذ كان يوما عقيما لا خير فيه.
(فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ) : أي جنات ذات نعيم لا يبلغ الوصف مداه.
(لَهُمْ عَذابٌ
مُهِينٌ) : أي يهان فيه صاحبه فهو عذاب جثماني نفساني.
معنى الآيات :
بعد التسلية
الأولى للنبي صلىاللهعليهوسلم التي تضمنها قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ..) الخ ذكر تعالى تسلية ثانية وهي أنه صلىاللهعليهوسلم كان يقرأ حول الكعبة في صلاته سورة النجم والمشركون حول
الكعبة يسمعون فلما بلغ قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ
اللَّاتَ وَالْعُزَّى ، وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشيطان في مسامع المشركين الكلمات التالية : «تلك
الغرانيق العلا ، وإن شفاعتهن لترتجى» ففرح المشركون بما سمعوا ظنا منهم أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأها وأن الله أنزلها فلما سجد في آخر السورة سجدوا معه
إلا رجلا كبيرا لم يقدر على السجود فأخذ حثية من تراب وسجد عليها
وشاع أن محمدا قد اصطلح مع قومه حتى رجع المهاجرون من الحبشة فكرب لذلك رسول الله
وحزن فأنزل الله تعالى هذه
__________________
الآية تسلية له
فقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ) ذي رسالة يبلغها ولا نبىّ مقرر لرسالة نبي قلبه (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي قرأ (أَلْقَى الشَّيْطانُ
فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي في قراءته (فَيَنْسَخُ اللهُ) أي يزيل ويبطل (ما يُلْقِي
الشَّيْطانُ) من كلمات في قلوب الكافرين أوليائه (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) بعد إزالة ما قاله الشيطان فيثبتها فلا تقبل زيادة ولا
نقصانا ، والله عليم بخلقه وأحوالهم وأعمالهم لا يخفى عليه شيء من ذلك حكيم في
تدبيره وشرعه هذه سنته تعالى في رسله وأنبيائه. فلا تأس يا رسول الله ولا تحزن ثم
بين تعالى الحكمة في هذه السنة فقال : (لِيَجْعَلَ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي من كلمات في قراءة النبي أو الرسول (فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) الشك والنفاق (وَالْقاسِيَةِ
قُلُوبُهُمْ) وهم المشركون ومعنى فتنة هنا محنة يزدادون بها ضلالا على
ضلالهم وبعدا عن الحق فوق بعدهم إذ ما يلقى الشيطان في قلوب أوليائه إلا للفتنة أي
زيادة في الكفر والضلال. وقوله تعالى : (وَإِنَّ
الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) هو إخبار منه تعالى عن حال المشركين بأنهم في خلاف لله
ورسوله ، بعيدون فيما يعتقدونه وما يعملونه وما يقولونه ، وما يتصورونه مخالف تمام
المخالفة لما يأمر تعالى به ويدعوهم إليه من الاعتقاد والقول والعمل والتصور
والإدراك. وقوله تعالى : (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) هذا جزء العلة التي تضمنتها سنة الله في إلقاء الشيطان في
قراءة الرسول أو النبي فالجزء الأول تضمنه قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ
فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) وهذا هو الجزء الثاني أي (وَلِيَعْلَمَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالله وآياته وتدبيره (أَنَّهُ الْحَقُّ
مِنْ رَبِّكَ) أي ذلك الإلقاء والنسخ وإحكام
__________________
الآيات بعده (فَيُؤْمِنُوا بِهِ
فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي تطمئن وتسكن عنده وتخشع فيزدادون هدى. وقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هذا إخبار منه تعالى عن فعله مع أوليائه المؤمنين به
المتقين له وأنه هاديهم في حياتهم وفي كل أحوالهم إلى صراط مستقيم يفضي بهم إلى
رضاه وجنته ، وذلك بحمايتهم من الشيطان وتوفيقهم وإعانتهم على طاعة الرحمن سبحانه
وتعالى. وقوله تعالى : (وَلا يَزالُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي من القرآن هل هو كلام الله هل هو حق هل اتباعه نافع
وتستمر هذه المرية والشك بأولئك القساة القلوب أصحاب الشقاق البعيد (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ
بَغْتَةً) أي فجأة وهي القيامة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ
عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) أي لا خير فيه لهم وهو يوم بدر وقد تم لهم ذلك وعندها زالت
ريبتهم وعلموا انه الحق حيث لا ينفع العلم.
وقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ) أي يوم تأتي الساعة يتمحض الملك لله وحده فلا يملك معه أحد
فهو الحاكم العدل الحق يحكم بين عباده بما ذكر في الآية وهو أن الذين آمنوا به
وبرسوله وبما جاء به وعملوا الصالحات من فرائض ونوافل بعد تخليهم عن الشرك
والمعاصي يدخلهم جنات النعيم ، والذين كفروا به وبرسوله وبما جاء به ، وكذبوا
بآيات الله المتضمنة شرائعه وبيان طاعاته فلم يؤمنوا ولم يعملوا الصالحات وعملوا
العكس وهو السيئات فأولئك البعداء في الحطة والخسة لهم عذاب مهين يكسر أنوفهم ذلة
لهم ومهانة لأنفسهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سنة الله
في إلقاء الشيطان في قراءة الرسول أو النبي للفتنة.
٢ ـ بيان أن
الفتنة يهلك فيها مرضى القلوب وقساتها ، ويخرج منها المؤمنون أكثر يقينا
__________________
وأعظم هدى.
٣ ـ بيان حكم الله
تعالى بين عباده يوم القيامة بإكرام أهل الإيمان والتقوى وإهانة أهل الشرك
والمعاصي.
٤ ـ ظهور مصداق ما
أخبر به تعالى عن مجرمي قريش فقد استمروا على ريبهم حتى هلكوا في بدر.
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً
حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ
بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ
اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ
وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ
وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢))
شرح الكلمات :
(وَالَّذِينَ هاجَرُوا) : أي هجروا ديار الكفر وذهبوا الى دار الإيمان المدينة
المنورة.
(فِي سَبِيلِ اللهِ) : أي هجروا ديارهم لا لدنيا ولكن ليعبدوا الله وينصروا
دينه وأولياءه.
(لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً) : أي في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة.
(لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) : أي الجنة يوم القيامة.
(ذلِكَ) : أي الأمر ذلك المذكور فاذكروه ولا تنسوه.
(ثُمَّ بُغِيَ
عَلَيْهِ) : أي ظلم بعد أن عاقب عدوه بمثل ما ظلم به.
(يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ) : أي يدخل جزءا من الليل في النهار والعكس بحسب فصول السنة
كما أنه يوميا يدخل الليل في النهار إذا جاء النهار ويدخل النهار في الليل إذا جاء
الليل.
(بِأَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُ) : أي الإله الحق الذي تجب عبادته دون سواه.
(مِنْ دُونِهِ) : أي من أصنام وأوثان وغيرها هو الباطل بعينه.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في بيان حكم الله تعالى بين عباده فذكر تعالى ما حكم به لأهل الإيمان
والعمل الصالح وما حكم به لأهل الكفر والتكذيب ، وذكر هنا ما حكم به لأهل الهجرة
والجهاد فقال عزوجل : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا
فِي
سَبِيلِ اللهِ) أي خرجوا من ديارهم لأجل طاعة الله ونصرة دينه (ثُمَّ قُتِلُوا) من قبل أعداء الله المشركين (أَوْ ماتُوا) حتف أنوفهم بدون قتل (لَيَرْزُقَنَّهُمُ
اللهُ رِزْقاً حَسَناً) في الجنة إذ أرواحهم في حواصل طير خضر ترعى في الجنة وتأوي
إلى قناديل معلقة في العرش (لَيُدْخِلَنَّهُمْ) يوم القيامة (مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) وهو الجنة ، وقوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أي لخير من يرزق فما رزقهم به هو خير رزق وأطيبه وأوسعه.
وقوله : (وَإِنَّ اللهَ
لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بعباده وبأعمالهم الظاهرة والباطنة حليم يعفو ويصفح
عن بعض زلات عباده المؤمنين فيغفرها ويسترها عليهم إذ لا يخلو العبد من ذنب الا من
عصمهم الله من أنبيائه ورسله.
__________________
وقوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ) أي الأمر ذلك الذي بينت لكم ، (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) أي ومن أخذ من ظالمه بقدر ما أخذ منه قصاصا ، ثم المعاقب
ظلم بعد ذلك من عاقبه فإن المظلوم أولا وآخرا تعهد الله تعالى بنصره ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) فيه إشارة إلى ترغيب المؤمن في العفو عن أخيه إذا ظلمه فإن
العفو خير من المعاقبة وهذا كقوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما
عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)
وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ
فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) أي أن القادر على ادخال الليل في النهار والنهار في الليل
بحيث إذ جاء أحدهما غاب الآخر ، وإذا قصر أحدهما طال الآخر والسميع لأقوال عباده
البصير بأعمالهم وأحوالهم قادر على نصرة من بغي عليه من أوليائه. وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي المعبود الحق المستحق للعبادة ، وإن ما يدعون من دونه
من أصنام وأوثان هو الباطل أي ذلك المذكور من قدرة الله وعلمه ونصرة أوليائه كان
لأن الله هو الإله الحق وأن ما يعبدون من دونه من آلهة هو الباطل ، وأن الله هو
العلى على خلقه القاهر لهم المتكبر عليهم الكبير العظيم الذي ليس شيء أعظم منه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان فضل
الهجرة في سبيل الله حتى إنها تعدل الجهاد في سبيل الله.
٢ ـ جواز المعاقبة
بشرط المماثلة ، والعفو أولى من المعاقبة.
٣ ـ بيان مظاهر
الربوبية من العلم والقدرة الموجبة لعبادة الله تعالى وحده وبطلان عبادة غيره.
٤ ـ إثبات صفات
الله تعالى : العلم والحلم والمغفرة والسمع والبصر والعفو والعلو على الخلق
والعظمة الموجبة لعبادته وترك عبادة من سواه.
__________________
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ
لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ
لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ
أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦))
شرح الكلمات :
(أَلَمْ تَرَ) : أي ألم تعلم.
(مُخْضَرَّةً) : أي بالعشب والكلأ والنبات.
(الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ) : الغني عن كل ما سواه المحمود في أرضه وسمائه.
(سَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ) : أي سهل لكم تملكه والتصرف فيه والانتفاع به.
(أَحْياكُمْ) : أي أوجدكم احياء بعد ما كنتم عدما.
(لَكَفُورٌ) : أي كثير الكفر والجحود لربّه ونعمه عليه.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير التوحيد بذكر مظاهر القدرة والعلم والحكمة قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ) يا رسولنا (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّماءِ ماءً) أي مطرا فتصبح الأرض بعد
__________________
نزول المطر عليها
مخضرة بالعشب والنباتات والزروع ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) بعباده (خَبِيرٌ) بما يصلحهم ويضرهم وينفعهم.
وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وتصرفا ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ
الْغَنِيُ) عن خلقه (الْحَمِيدُ) أي المحمود في الأرض والسماء بجميل صنعه وعظيم إنعامه وقوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي الْأَرْضِ) من الدواب والبهائم على اختلافها (وَالْفُلْكَ) أي وسخر لكم الفلك أي السفن (تَجْرِي فِي
الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي بإذنه وتسخيره ، (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ
تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي كيلا تقع على الأرض (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي لا تقع إلا إذا أذن لها في ذلك وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ
رَحِيمٌ) من مظاهر رأفته ورحمته بهم تلك الرحمة المتجلية في كل جانب
من جوانب حياتهم في حملهم في ارضاعهم في غذائهم في نومهم في يقظتهم في تحصيل
أرزاقهم في عفوه عن زلاتهم في عدم تعجيل العقوبة لهم بعد استحقاقهم لها في إرسال
الرسل في إنزال الكتب فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، وقوله
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
أَحْياكُمْ) بالإنشاء والإيجاد من العدم ، ثم يميتكم عند انتهاء آجالكم
(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ويبعثكم ليجزيكم بكسبكم كل هذه النعم يكفرها الإنسان فيترك
ذكر ربه وشكره ويذكر غيره ويشكر سواه ، فهذه المظاهر لقدرة الرب وعلمه وحكمته وتلك
الآلاء والنعم الظاهرة والباطنة توجب الإيمان بالله وتحتم عبادته وتوحيده وذكره
وشكره ، وتجعل عبادة غيره سخفا وضلالا عقليا لا يقادر قدره ولا يعرف مداه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
بذكر مقتضياته من القدرة والنعمة.
٢ ـ إثبات صفات
الله تعالى : اللطيف الخبير الغني الحميد الرؤوف الرحيم المحيي المميت.
__________________
٣ ـ بيان إنعام
الله وإفضاله على خلقه.
٤ ـ مظاهر قدرة
الله تعالى في إمساك السماء أن تقع على الأرض ، وفي الإحياء والأماتة والبعث.
(لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى
رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ
أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً
وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا
تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ
بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ (٧٢))
شرح الكلمات :
(جَعَلْنا مَنْسَكاً) : أي مكانا يتعبدون فيه بالذبائح أو غيرها.
(فَلا يُنازِعُنَّكَ) : أي لا ينبغي أن ينازعوك.
(هُدىً مُسْتَقِيمٍ) : أي دين مستقيم هو الإسلام دين الله الحق.
(فِي كِتابٍ) : هو اللوح المحفوظ.
(ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ سُلْطاناً) : أي حجة وبرهانا.
(الْمُنْكَرَ) : أي الإنكار الدال عليه عبوس الوجه وتقطيبه.
(يَسْطُونَ) : يبطشون.
(بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) : هو النار.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في بيان هداية الله تعالى لرسوله والمؤمنين ودعوة المشركين الى ذلك قال
تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ
جَعَلْنا مَنْسَكاً) أي ولكل أمة من الأمم التي مضت والحاضرة أيضا جعلنا لهم
منسكا أي مكانا يتنسكون فيه ويتعبدون (هُمْ ناسِكُوهُ) أي الآن ، فلا تلتفت إلى ما يقوله هؤلاء المشركون ، ولا
تقبل منهم منازعة في أمر واضح لا يقبل الجدل ، وذلك أن المشركين انتقدوا ذبائح
الهدى والضحايا أيام التشريق ، واعترضوا على تحريم الميتة وقالوا كيف تأكلون ما
تذبحون ولا تأكلون ما ذبح الله بيمينه وقوله تعالى لرسوله : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي أعرض عن هذا الجدل الفارغ وادع إلى توحيد ربك وعبادته (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) أي طريق قاصد هاد إلى الإسعاد والاكمال وهو الإسلام وقوله
: (وَإِنْ جادَلُوكَ) في بيان بعض المناسك والنسك فاتركهم فإنهم جهلة لا يعلمون
وقل : (اللهُ أَعْلَمُ بِما
تَعْمَلُونَ) أي وسيجزيكم بذلك حسنة وسيئة و (اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) أي يقضي بينكم أيها المشركون فيما كنتم فيه تختلفون وعندها
تعرفون المحق من المبطل منا وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما
فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بلى إن الله يعلم كل ما في السموات والأرض من جليل ودقيق
وجليّ وخفي وكيف لا وهو اللطيف الخبير. (إِنَّ ذلِكَ فِي
كِتابٍ) وهو اللوح المحفوظ فكيف يجهل أو ينسى ، و (إِنَّ ذلِكَ) أي كتبه
__________________
وحفظه في كتاب
المقادير (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي هين سهل ، لأنه تعالى على كل شيء قدير. هذا ما دلت عليه
الآيات الأربع (٦٧ ، ٦٨ ، ٦٩ ، ٧٠) وقوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي ويعبد أولئك المشركون المجادلون في بعض المناسك أصناما
لم ينزل الله تعالى في جواز عبادتها حجّة ولا برهانا بل ما هو إلا إفك افتروه ،
ليس لهم به علم ولا لآبائهم ، وسوف يحاسبون على هذا الإفك ويجزون به في ساعة لا
يجدون فيها وليا ولا نصيرا إذ هم ظالمون بشركهم بالله آلهة مفتراة ويوم القيامة ما
للظالمين من نصير. هذا ما دلت عليه الآية (٧١) وأما قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا
بَيِّناتٍ) يخبر تعالى عن أولئك المشركين المجادلين بالباطل أنهم إذا
قرأ عليهم أحد المؤمنين آيات الله وهى بينات في مدلوها تهدى إلى الحق وإلى طريق
مستقيم (تَعْرِفُ) يا رسولنا (فِي وُجُوهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) أي تتغيّر وجوههم ويظهر عليها الإنكار على التالي عليهم
الآيات (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي يبطشون ويقعون بمن يتلون عليهم آيات الله لهدايتهم
وصلاحهم.
وقوله تعالى : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
مِنْ ذلِكُمُ) أي قل لهم يا رسولنا أفأنبكم بشر من ذلك الذي تكرهون وهو
من يتلون عليكم آيات الله أنه النار التى وعدها الله الذين كفروا أي من أمثالكم ،
وبئس المصير تصيرون إليه النار إن لم تتوبوا من شرككم وكفركم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير حقيقة
وهي أن كل أمة من الأمم بعث الله فيها رسولا وشرع لها عبادات تعبده بها.
٢ ـ استحسان ترك
الجدال في البدهيات والإعراض عن ما فيها.
٣ ـ تقرير علم
الله تعالى بكل خفي وجلي وصغير وكبير في السموات والأرض.
__________________
٤ ـ تقرير عقيدة
القضاء والقدر بتقرير الكتاب الحاوي لذلك وهو اللوح المحفوظ.
٥ ـ بيان شدة بغض
المشركين للموحدين إذا دعوهم إلى التوحيد وذكروهم بالآيات.
٦ ـ مشروعية إغاظة
الظالم بما يغيظه من القول الحق.
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ
يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ
بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ
تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦))
شرح الكلمات :
(ضُرِبَ مَثَلٌ) : أي جعل مثل هو ما تضمنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ ...) الخ.
(لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً) : أي لن يستطيعوا خلق ذبابة وهي أحقر الحيوانات تتخلق من
العفونات.
(وَلَوِ اجْتَمَعُوا) : أي على خلقه فإنهم لا يقدرون ، فكيف إذا لم يجتمعوا فهم
أعجز.
(لا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ) : أي لا يستردوه منه وذلك لعجزهم
(ضَعُفَ الطَّالِبُ
وَالْمَطْلُوبُ) : أي العابد والمعبود.
(ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ) : أي ما عظم المشركون الله تعالى حق قدره أي عظمته.
(يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) : أي يجتبي ويختار كجبريل.
(وَمِنَ النَّاسِ) : كمحمد صلىاللهعليهوسلم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الدعوة إلى التوحيد والتنديد بالشرك والمشركين يقول تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ) أي يا أيها المشركون بالله آلهة أصناما ضرب لآلهتكم في
حقارتها وضعفها وقلة نفعها مثل رائع فاستمعوا له. وبينه بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ) من أوثان وأصنام (لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً) وهو أحقر حيوان وأخبثه أي اجتمعوا واتحدوا متعاونين على
خلقه ، أو لم يجتمعوا له فإنهم لا يقدرون على خلقه وشيء آخر وهو إن يسلب الذباب
الحقير شيئا من طيب آلهتكم التى تضمّخونها به ، لا تستطيع آلهتكم أن تسترده منه
فما أضعفها إذا وما أحقرها إذا كان الذباب أقدر منها وأعز وأمنع.
وقوله تعالى : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) أي ضعف الصنم والذباب معا كما ضعف العابد المشرك والمعبود
الصنم (إِنَّ اللهَ
لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قوي قادر على كل شيء عزيز غالب لا يمانع في أمر يريده
فكيف ساغ للمشركين أن يؤلهوا غيره ويعبدونه معه ويجعلونه له مثلا. هذا ما دلت عليه
الآيتان الأولى (٧٣) والثانية (٧٤) وقوله تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) هذا رد على المشركين عند ما قالوا : (أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ
بَيْنِنا) وقالوا : (أَبَعَثَ اللهُ
بَشَراً رَسُولاً) فأخبر تعالى أنه يصطفي أي يختار من الملائكة رسلا كما
اختار جبرائيل وميكائيل ، ومن الناس كما اختار نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلىاللهعليهوسلم ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوال عباده طيبها وخبيثها (بَصِيرٌ) بأعمالهم صالحها وفاسدها وعلمه بخلقه وبصره بأحوالهم
وحاجاتهم اقتضى أن
__________________
يصطفي منهم رسلا وقوله
: (يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي ما بين أيدي رسله من الملائكة ومن الناس وما خلفهم
ماضيا ومستقبلا إذ علمه أحاط بكل شيء فلذا حق له أن يختار لرسالاته من يشاء فكيف
يصح الإعتراض عليه لو لا سفه المشركين وجهالاتهم وقوله تعالى : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) هذا تقرير لما تضمنته الجملة السابقة من أن لله الحق
المطلق في إرسال الرسل من الملائكة أو من الناس ولا إعتراض عليه في ذلك إذ مرد
الأمور كلها إليه بدءا ونهاية إذ هو ربّ كل شيء ومليكه لا إله غيره ولا رب سواه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان.
٢ ـ التنديد
بالشرك وبطلانه وبيان سفه المشركين.
٣ ـ ما قدر الله
حق قدره من سوى به أحقر مخلوقاته وجعل له من عباده جزءا وشبها ومثلا.
٤ ـ إثبات
الرسالات للملائكة وللناس معا.
٥ ـ ذكر صفات
الجلال والكمال لله تعالى المقتضية لربوبيته والموجبة لألوهيته وهى القوة والعزة ،
والسمع والبصر لكل شيء وبكل شيء والعلم بكل شيء.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ
اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ
__________________
وَاعْتَصِمُوا
بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))
شرح الكلمات :
(وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ) : أي أطيعوه في
أمره ونهيه في تعظيم هو غاية التعظيم وذل له هو غاية الذل.
(وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ) : أي من كل ما انتدبكم الله لفعله ورغبكم فيه من صالح
الأقوال والأعمال.
(لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) : أي كي تفوزوا بالنجاة من النار ودخول الجنة.
(حَقَّ جِهادِهِ) : أي الجهاد الحق الذي شرعه الله تعالى وأمر به وهو جهاد
الكفار والشيطان والنفس والهوى.
(اجْتَباكُمْ) : أي اختاركم لحمل دعوة الله إلى الناس كافة.
(مِنْ حَرَجٍ) : أي من ضيق وتكليف لا يطاق.
(مِلَّةَ أَبِيكُمْ) : أي الزموا ملة أبيكم إبراهيم وهي عبادة الله وحده لا
شريك له.
(وَفِي هذا) : أي القرآن.
(اعْتَصِمُوا بِاللهِ) : أي تمسكوا بدينه وثقوا في نصرته وحسن مثوبته.
(وَنِعْمَ النَّصِيرُ) : أي هو تعالى نعم النصير أي الناصر لكم.
معنى الآيات :
بعد تقرير العقيدة
بأقسامها الثلاثة : التوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، نادى الربّ تبارك وتعالى
المسلمين بعنوان الإيمان فقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) أي يا من آمنتم بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا ، (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أمرهم بإقام الصلاة (وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ) أي أطيعوه فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه معظمين له غاية
التعظيم خاشعين له غاية الخشوع (وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ) من كل ما انتدبكم الله إليه ورغبكم فيه من أنواع البر
وضروب العبادات (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) أي لتتأهلوا بذلك للفلاح الذي هو الفوز بالجنة بعد النجاة
من النار.
__________________
وقوله : (وَجاهِدُوا فِي
اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أي أمرهم ايضا بأمر هام وهو جهاد الكفار حتى لا تكون فتنة
ويكون الدين كله لله ومعنى حق جهاده أي كما ينبغي الجهاد من استفراغ الجهد والطاقة
كلها نفسا ومالا ودعوة وقوله : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هذه منّة ذكّر بها تعالى المؤمنين حتى يشكروا الله بفعل ما
أمرهم به أي لم يضيق عليكم فيما أمركم به بل وسع فجعل التوبة لكل ذنب ، وجعل
الكفارة لبعض الذنوب ، ورخص للمسافر والمريض في قصر الصلاة والصيام ، ولمن لم يجد
الماء أو عجز عن استعماله في التيمّم.
وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي الزموا ملة أبيكم وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ
الْمُسْلِمِينَ) أي الله جل جلاله هو الذي سماهم المسلمين في الكتب السابقة
وفي القرآن وهو معنى قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) (الْمُسْلِمِينَ مِنْ
قَبْلُ وَفِي هذا) أي القرآن وقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ
شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي اجتباكم أيها المؤمنون لدينه الإسلامي وسماكم المسلمين
ليكون الرسول شهيدا عليكم يوم القيامة بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم وتكونوا
أنتم شهداء حينئذ على الرسل أجمعين أنهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به إليهم وعليه
فاشكروا هذا الإنعام والإكرام لله تعالى (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي تمسكوا بشرعه عقيدة وعبادة وخلقا وأدبا وقضاءا وحكما ،
وقوله تعالى : (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي سيدكم ومالك أمركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى) هو سبحانه وتعالى (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي الناصر لكم ما دمتم أولياءه تعيشون على الإيمان
والتقوى.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة الصلاة
وشرف العبادة وفعل الخير.
٢ ـ مشروعية
السجود عند تلاوة هذه الآية (وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
٣ ـ فضل الجهاد في
سبيل الله وهو جهاد الكفار ، وان لا تأخذ المؤمن في الله لومة لائم.
٤ ـ فضيلة هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاثا لم يعطها إلا نبي كان
يقال للنبي عليهالسلام اذهب فليس عليك حرج فقال الله لهذه الأمة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ) وكان يقال للنبي عليهالسلام أنت شهيد على قومك وقال الله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وكان يقال للنبي سل تعطه وقال الله لهذه الأمة : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) دل على هذا قوله تعالى : (هُوَ اجْتَباكُمْ
وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ).
٥ ـ فرضية الصلاة
، والزكاة ، والتمسك بالشريعة.
__________________
الجزء
الثامن عشر
سورة المؤمنون
مكية
وآياتها
مائة وثماني عشرة آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما
مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ
ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ
الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١))
شرح الكلمات :
(قَدْ أَفْلَحَ
الْمُؤْمِنُونَ) : أي فاز قطعا بالنجاة من النار ودخول الجنة المؤمنون.
(فِي صَلاتِهِمْ
خاشِعُونَ) : أي ساكنون متطامنون لا يتلفتون بعين ولا قلب وهم بين يدي
ربهم.
(عَنِ اللَّغْوِ
مُعْرِضُونَ) : اللغو كل ما لا رضى فيه لله من قول وعمل وتفكير ، معرضون
أي منصرفون عنه.
(لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) : أي مؤدون.
(لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) : أي صائنون لها عن النظر إليها لا يكشفونها وعن إتيان
الفاحشة.
(أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُمْ) : من الجواري والسّراري إن وجدن.
(فَمَنِ ابْتَغى
وَراءَ ذلِكَ) : أي طلب ما دون زوجته وجاريته المملوكة شرعيا.
(فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ) : أي الظالمون المعتدون على حدود الشرع.
(راعُونَ) : أي حافظون لأماناتهم وعهودهم.
(الْفِرْدَوْسَ) : أعلى درجة في الجنة في أعلى جنة.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) يخبر تعالى وهو الصادق الوعد بفلاح المؤمنين وقد بين تعالى
في آية آل عمران معنى الفلاح وهو الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة ووصف هؤلاء
المؤمنين المفلحين بصفات من جمعها متصفا بها فقد ثبت له الفلاح وأصبح من الوارثين
الذين يرثون الفردوس يخلدون فيها وتلك الصفات هي :
(١) الخشوع في
الصلاة بأن يسكن فيها المصلي فلا يلتفت فيها برأسه ولا بطرفه ولا بقلبه مع رقة قلب
ودموع عين وهذه أكمل حالات الخشوع في الصلاة ، ودونها أن يطمئن ولا يتلفت برأسه
ولا بعينه ولا بقلبه في أكثرها. هذه الصفة تضمنها قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خاشِعُونَ) .
(٢) إعراضهم عن
اللغو وهو كل قول وعمل وفكر لم يكن فيه لله تعالى إذن به ولا رضى فيه ومعنى
إعراضهم عنه : إنصرافهم عنه وعدم التفاتهم إليه ، وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى :
(وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).
(٣) فعلهم الزكاة
أي أداؤهم لفريضة الزكاة الواجبة من أموالهم الناطقة كالمواشي والصامتة كالنقدين
والحبوب والثمار ، وفعلهم لكل ما يزكي النفس من الصالحات وقد تضمن هذه الصفة قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ).
(٤) حفظ فروجهم من
كشفها ومن وطء غير الزوج أو الجارية المملوكة بوجه شرعي وقد تضمن هذه الصفة قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ
غَيْرُ مَلُومِينَ) في إتيان أزواجهم وما ملكت أيمانهم ، ولكن اللوم
__________________
والعقوبة على من
طلب هذا المطلب من غير زوجه وجاريته (فَأُولئِكَ هُمُ
العادُونَ) أي الظالمون المعتدون حيث تجاوزوا ما أحل الله لهم إلى ما
حرم عليهم.
(٥) مراعاة
الأمانات والعهود بمعنى محافظتهم على ما ائتمنوا عليه من قول أو عمل ومن ذلك سائر
التكاليف الشرعية حتى الغسل من الجنابة فإنه من الأمانة وعلى عهودهم وسائر عقودهم
الخاصة والعامة فلا خيانة ولا نكث ولا خلف وقد تضمن هذا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ
وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) أي حافظون.
(٦) المحافظة على
الصلوات الخمس بأدائها في أوقاتها المحددة لها فلا يقدمونها ولا يؤخرونها مع
المحافظة على شروطها من طهارة الخبث وطهارة الحدث وإتمام ركوعها وسجودها واستكمال
أكثر سننها وآدابها وقد تضمن هذه الصفة قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).
فهذه ست صفات
إجمالا وسبع صفات تفصيلا فمن اتصف بها كمل إيمانه وصدق عليه اسم المؤمن وكان من
المفلحين الوارثين للفردوس الأعلى جعلنا الله تعالى منهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الخشوع
في الصلاة.
٢ ـ تحريم نكاح
المتعة لأن المتمتع بها ليست زوجة لأنها لا ترث ولا تورث بخلاف الزوجة فإنها لها
الربع والثمن ، ولزوجها النصف والربع ، لأن نكاح المتعة هو النكاح إلى أجل معين قد
يكون شهرا أو أكثر أو أقل.
٣ ـ تحريم العادة
السريّة وهي نكاح اليد وسحاق المرأة لأن ذلك ليس بنكاح زوجة ولا جارية مملوكة.
٤ ـ وجوب أداء
الزكاة ووجوب حفظ الأمانات ووجوب الوفاء بالعهود ووجوب المحافظة على الصلوات.
٥ ـ تقرير حكم
التوارث بين أهل الجنة وأهل النار فأهل الجنة يرثون منازل أهل النار وأهل النار
يرثون منازل أهل الجنة اللهم اجعلنا من الوارثين الذين يرثون الفردوس.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ
خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ
عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ
فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ
لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦))
شرح الكلمات :
(مِنْ سُلالَةٍ) : السلالة ما يستل من الشيء والمراد بها هنا ما استل من
الطين لخلق آدم.
(نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ) : النطفة قطرة الماء أي المني الذي يفرزه الفحل ، والقرار
المكين الرحم المصون.
(الْعَلَقَةَ) : الدم المتجمد الذي يعلق بالإصبع لو حاول أحد أن يرفعه
بأصبعه كمح البيض .
(الْمُضْغَةَ) : قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل.
(خَلْقاً آخَرَ) : أي غير تلك المضغة إذ بعد نفخ الروح فيها صارت إنسانا.
(أَحْسَنُ
الْخالِقِينَ) : أي الصانعين فالله يصنع والناس يصنعون والله أحسن
الصانعين.
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن
خلقه الإنسان آدم وذريته وفي ذلك تتجلى مظاهر قدرته وعلمه وحكمته والتي أوجبت
عبادته وطاعته ومحبته وتعظيمه وتقديره فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ) يعني آدم عليهالسلام (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ
طِينٍ) أي من خلاصة طين جمعه فأصبح كالحمإ المسنون فاستل منه
خلاصته ومنها خلق آدم ونفخ فيه من روحه فكان بشرا سويا ولله الحمد والمنة
__________________
قوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ) أي ثم جعلنا الإنسان الذي هو ولد آدم نطفة من صلب آدم (فِي قَرارٍ مَكِينٍ) هو رحم حواء (ثُمَّ خَلَقْنَا
النُّطْفَةَ) المنحدرة من صلب ادم (عَلَقَةً) أي قطعة دم جامدة تعلق بالإصبع لو حاول الإنسان أن يرفعها
بإصبعه ، (فَخَلَقْنَا
الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) وهي قطعة لحم قدر ما يمضغ الآكل ، (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً
فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً
ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أي إنسانا آخر غير آدم الأب ، وهكذا خلق الله عزوجل آدم وذريته ، (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ). وقد يصدق هذا على كون الإنسان هو خلاصة عناصر شتى استحالت
إلى نطفة الفحل ثم استحالت إلى علقة فمضغة فنفخ فيها الروح فصارت إنسانا آخر بعد
أن كانت جمادا لا روح فيها وقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) فأثنى الله تعالى على نفسه بما هو أهله أي تعاظم أحسن
الصانعين ، إذ لا خالق إلا هو ويطلق لفظ الخلق على الصناعة فحسن التعبير بلفظ أحسن
الخالقين.
وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ
لَمَيِّتُونَ) أي بعد خلقنا لكم تعيشون المدة التي حددناها لكم ثم تموتون
، (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) أحياء للحساب والجزاء لتحيوا حياة أبدية لا يعقبها موت ولا
فناء ولا بلاء.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان مظاهر
قدرة الله وعلمه وحكمته.
٢ ـ بيان خلق
الإنسان والأطوار التي يمر بها.
٣ ـ بيان مآل
الإنسان بعد خلقه.
٤ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء التي أنكرها الملاحدة والمشركون.
__________________
(وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧)
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا
عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ
نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها
وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى
الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٢٢))
شرح الكلمات :
(سَبْعَ طَرائِقَ) : أي سبع سموات كل سماء يقال لها طريقة لأن بعضها مطروق
فوق بعض.
(ماءً بِقَدَرٍ) : أي بمقدار معين لا يزيد ولا ينقص.
(مِنْ طُورِ سَيْناءَ) : جبل يقال له جبل طور سيناء.
(تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) : أي تنبت بثمر فيه الدهن وهو الزيت.
(وَصِبْغٍ
لِلْآكِلِينَ) : أي يغمس الآكل فيه اللقمة ويأكلها.
(فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً) : الأنعام الإبل والبقر والغنم والعبرة فيها تحصل لمن تأمل
خلقها ومنافعها.
(مِمَّا فِي بُطُونِها) : أي من اللبن.
(مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) : كالوبر والصوف واللبن والركوب.
(وَمِنْها تَأْكُلُونَ) : أي من لحومها.
(تُحْمَلُونَ) : أي تركبون الإبل في البر وتركبون السفن في البحر.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر نعمه تعالى على الإنسان لعل هذا الإنسان يذكر فيشكر فقال تعالى
: (وَلَقَدْ خَلَقْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) أي سموات سماء فوق سماء أي طريقة فوق طريقة وطبقا فوق طبق
وقوله تعالى : (وَما كُنَّا عَنِ
الْخَلْقِ غافِلِينَ) أي ولم نكن غافلين عن خلقنا وبذلك انتظم الكون والحياة ،
وإلا لخرب كل شىء وفسد وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) هو ماء المطر أي بكميات على قدر الحاجة وقوله (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا
عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ) أي أوجدنا لكم به بساتين من نخيل وأعناب (لَكُمْ فِيها) أي في تلك البساتين (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ ،
وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي ومن تلك الفواكه تأكلون وذكر النخيل والعنب دون غيرهما
لوجودهما بين العرب فهم يعرفونهما أكثر من غيرهما فالنخيل بالمدينة والعنب
بالطائف.
وقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ
مِنْ طُورِ سَيْناءَ) أي وأنبت لكم به شجرة الزيتون وهي (تَنْبُتُ) (بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ
لِلْآكِلِينَ) فبزيتها يدهن ويؤتدم فتصبغ اللقمة به وتؤكل. وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً) فتأملوها في خلقها وحياتها ومنافعها تعبرون بها إلى
الإيمان والتوحيد والطاعة. وقوله : (نُسْقِيكُمْ مِمَّا
فِي بُطُونِها) من ألبان تخرج من بين فرث ودم ، وقوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) كصوفها ووبرها ولبنها وأكل لحومها. وقوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ
تُحْمَلُونَ) وعلى بعضها كالإبل تحملون في البر وعلى السفن في البحر. أفلا
تشكرون لله هذه النعم فتذكروه وتشكروه أليست هذه النعم موجبة لشكر المنعم بها
فيعبد ويوحد في عبادته؟.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان قدرة
الله تعالى وعظمته في خلق السموات طرائق وعدم غفلته عن سائر خلقه فسار كل شيء لما
خلق له فثبت الكون وانتظمت الحياة.
٢ ـ بيان إفضال
الله تعالى في إنزال الماء بقدر وإسكانه في الأرض وعدم إذهابه مما يوجب الشكر لله
تعالى على عباده.
٣ ـ بيان منافع
الزيت حيث هو للدهن والائتدام والإستصباح.
٤ ـ فضل الله على
العباد في خلق الأنعام والسفن للانتفاع بالأنعام في جوانب كثيرة منها ، وفي السفن
للركوب عليها وحمل السلع والبضائع من إقليم إلى إقليم.
٥ ـ وجوب شكر الله
تعالى على انعامه وذلك بالإيمان به وعبادته وتوحيده فيها.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ
غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ
وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا
الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ
حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦))
شرح الكلمات :
(اعْبُدُوا اللهَ) : أي وحدوه بالعبادة إذ ليس لكم من إله غيره.
(أَفَلا تَتَّقُونَ) : أي أتعبدون معه غيره فلا تخافون غضبه وعقابه.
(الْمَلَأُ) : أي أعيان البلاد وكبراء القوم.
__________________
(ما هذا إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ) : أي ما نوح إلا بشر مثلكم فكيف تطيعونه بقبول ما يدعوكم
إليه.
(أَنْ يَتَفَضَّلَ
عَلَيْكُمْ) : أي يسودكم ويصبح آمرا ناهيا بينكم.
(وَلَوْ شاءَ اللهُ
لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) : أي لو شاء الله إرسال رسول لأنزل ملائكة رسلا.
(رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) : أي مصاب بمس من جنون.
(فَتَرَبَّصُوا بِهِ
حَتَّى حِينٍ) : أي فلا تسمعوا له ولا تطيعوه وانتظروا به هلاكه أو
شفاءه.
معنى الآيات :
هذا السياق بداية
عدة قصص ذكرت على إثر قصة بدأ خلق الإنسان الأول آدم عليهالسلام فقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
نُوحاً) أي قبلك يا رسولنا فكذبوه. كما كذبك قومك وإليك قصته إذ
قال يا قوم اعبدوا الله أي وحدوه في العبادة ، ولا تعبدوا معه غيره (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي إذ ليس لكم من إله غيره يستحق عبادتكم. وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي أتعبدون معه غيره أفلا تخافون غضبه عليكم ثم عقابه لكم؟.
فأجابه قومه
المشركون بما أخبر تعالى به عنهم في قوله : (فَقالَ الْمَلَأُ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) أي فرد عليه قوله أشرافهم وأهل الحل والعقد فيهم من أغنياء
وأعيان ممن كفروا من قومه ما هذا أي نوح (إِلَّا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يسود ويشرف فادعى أنه رسول الله إليكم. (وَلَوْ شاءَ اللهُ) أي أن لا نعبد معه سواه (لَأَنْزَلَ
مَلائِكَةً) تخبرنا بذلك (ما سَمِعْنا بِهذا) أي بالذي جاء به نوح ودعا إليه من ترك عبادة آلهتنا (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) أي لم يقل به أحد من أجدادنا السابقين (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) أي ما نوح إلا رجل به مس من جنون ، وإلا لما قال هذا الذي
يقول من تسفيهنا وتسفيه آبائنا (فَتَرَبَّصُوا بِهِ
حَتَّى حِينٍ) أي انتظروا به أجله حتى يموت ، ولا تتركوا دينكم لأجله
وهنا وبعد قرون طويلة بلغت ألف سنة إلا خمسين شكا نوح إلى ربه وطلب النصر منه فقال
ما أخبر تعالى به عنه (قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ) أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي وانصرني عليهم.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إثبات النبوة
المحمدية بذكر أخبار الغيب التي لا تعلم إلا من طريق الوحي.
٢ ـ تقرير التوحيد
بذكر دعوة الرسل أقوامهم إليه.
٣ ـ بيان سنة من
سنن البشر وهي أن دعوة الحق أول من يردها الكبراء من أهل الكفر.
٤ ـ بيان كيف يرد
الظالمون دعوة الحق بإتهام الدعاة بما هم براء منه كالجنون وغيره من الاتهامات
كالعمالة لفلان والتملق لفلان ..
(فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا
وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ
إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ
ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ
عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ
الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (٣٠))
شرح الكلمات :
(فَأَوْحَيْنا
إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ) : أي أعلمناه بطريق سريع خفي أي اصنع الفلك.
(بِأَعْيُنِنا
وَوَحْيِنا) : أي بمرأى منا ومنظر ، وبتعليمنا إياك صنعها.
(وَفارَ التَّنُّورُ) : تنور الخباز فار منه الماء آية بداية الطوفان.
(فَاسْلُكْ فِيها) : أي أدخل في السفينة.
(وَأَهْلَكَ) : أولادك ونساءك.
(وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا) : أي لا تكلمني في شأن الظالمين فإني حكمت بإغراقهم.
(وَقُلْ رَبِ) : أي وادعني قائلا يا رب أنزلني منزلا مباركا من الأرض.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) : أي لدلائل وعبر.
(وَإِنْ كُنَّا
لَمُبْتَلِينَ) : أي لمختبرين.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر قصة نوح عليهالسلام مع قومه فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحا عليهالسلام دعا ربه مستنصرا إياه لينصره على قومه الذين كذبوه قائلا :
(رَبِّ انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ) فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه أي أعلمه بطريق الوحي
الخاص (أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ) أي السفينة (بِأَعْيُنِنا
وَوَحْيِنا) أي بمرأى منا ومنظر وبتعليمنا إياك وجعل له علامة على
بداية هلاك القوم أن يفور التنور تنور طبخ الخبز بالماء وأمره إذا رأى تلك العلامة
أن يدخل في السفينة من كل زوج أي ذكر وانثى اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه
ذلك منه وأن يركب فيها أيضا أهله من زوجة وولد إلا من قضى الله بهلاكه ونهاه أن
يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعا. هذا ما تضمنته الآية الأولى (٢٧) (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ
الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) أي بإهلاك الظالمين المشركين (وَفارَ التَّنُّورُ ،
فَاسْلُكْ فِيها) أي في السفينة (مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
، وَأَهْلَكَ) أي أزواجك وأولادك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ
عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ) أي بإهلاكهم كامرأته ، (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.
وقوله تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ
وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) أي إذا ركبت واستقررت على متن السفينة أنت ومن معك من
المؤمنين فاحمدنا (فَقُلِ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وادعنا ضارعا
إلينا قائلا (رَبِّ أَنْزِلْنِي
مُنْزَلاً مُبارَكاً) أي من الأرض ، وأثن علينا
__________________
خيرا فقل (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ) أي المذكور من قصة نوح لدلائل على قدرة الله وعلمه ورحمته
وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته. وقوله : (وَإِنْ كُنَّا
لَمُبْتَلِينَ) أي مختبرين عبادنا بالخير والشر ليرى الكافر من المؤمن ،
والمطيع من العاصي ويتم الجزاء حسب ذلك إظهارا للعدالة الإلهية والرحمة الربانية.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ إثبات الوحي
الإلهي وتقرير النبوة المحمدية.
٢ ـ تقرير حادثة
الطوفان المعروفة لدى المؤرخين.
٣ ـ بيان عاقبة
الظلم وأنه هلاك الظالمين.
٤ ـ سنية قول بسم
الله والحمد لله سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا
لمنقلبون عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة.
٥ ـ استحباب
الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا.
٦ ـ بيان سر ذكر
قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر.
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ
أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ
الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ
(٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤)
__________________
أَيَعِدُكُمْ
أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ
افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨))
شرح الكلمات :
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) : أي خلقنا من بعد قوم نوح الهالكين قوما آخرين هم عاد قوم
هود.
(رَسُولاً مِنْهُمْ) : هو هود عليهالسلام.
(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) : أي قولوا لا إله إلا الله فاعبدوا الله وحده.
(وَأَتْرَفْناهُمْ) : أي أنعمنا عليهم بالمال وسعة العيش.
(أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ) : أي أحياء من قبوركم بعد موتكم.
(هَيْهاتَ هَيْهاتَ) : أي بعد بعدا كبيرا وقوع ما يعدكم.
(إِنْ هِيَ إِلَّا
حَياتُنَا الدُّنْيا) : أي ما هي إلا حياتنا الدنيا وليس وراءها حياة أخرى.
(إِنْ هُوَ إِلَّا
رَجُلٌ) : أي ما هو إلا رجل افترى على الله كذبا أي كذب. على الله
تعالى.
معنى الآيات :
هذه بداية قصة هود
عليهالسلام بعد قصة نوح عليهالسلام أيضا فقال تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ) أي خلقنا وأوجدنا من بعد قوم نوح الهالكين قوما آخرين هم عاد قوم هود (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْهُمْ) هو هود عليهالسلام بأن قال لهم : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ
ما
__________________
لَكُمْ
مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي اعبدوا الله بطاعته وإفراده بالعبادة إذ لا يوجد لكم
إله غير الله تصح عبادته إذ الخالق لكم الرازق الله وحده فغيره لا يستحق العبادة
بحال من الأحوال وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) يحثهم على الخوف من الله ويأمرهم به قبل أن تنزل بهم
عقوبته.
وقوله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) أي وقال أعيان البلاد وأشرافها من قوم هود ممن كفروا بالله
ورسوله وكذبوا بالبعث والجزاء في الدار الآخرة وقد أترفهم الله تعالى : بالمال وسعة الرزق فأسرفوا في الملاذ
والشهوات : قالوا : وما ذا قالوا؟ : قالوا ما أخبرنا تعالى به عنهم بقوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي ما هذا الرسول إلا بشر مثلكم (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ) من أنواع الطعام (وَيَشْرَبُ مِمَّا
تَشْرَبُونَ) من ألوان الشراب أي فلا فرق بينكم وبينه فكيف ترضون بسيادته عليكم يأمركم
وينهاكم. وقالوا : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ
بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي خاسرون حياتكم ومكانتكم ، وقالوا (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ
إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً) أي فنيتم وصرتم ترابا (أَنَّكُمْ
مُخْرَجُونَ) أي أحياء من قبوركم. وقالوا : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) أي بعد بعدا كبيرا ما يعدكم به هود إنهاما (هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) أي (نَمُوتُ وَنَحْيا) جيل يموت وجيل يحيا (وَما نَحْنُ
بِمَبْعُوثِينَ)
وقالوا : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى
اللهِ كَذِباً) أي اختلق الكذب على الله وقال عنه أنه يبعثكم ويحاسبكم
ويجزيكم بكسبكم. وقالوا (ما نَحْنُ لَهُ
بِمُؤْمِنِينَ) هذه مقالتهم ذكرها تعالى عنهم وهي مصرحة بكفرهم وتكذيبهم
وإلحادهم وما سيقوله هود عليهالسلام سيأتي في الآيات بعد.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سنة الله
تعالى في إرسال الرسل ، وما تبتدىء به دعوتهم وهو لا إله إلا الله.
__________________
٢ ـ أهل الكفر لا
يصدر عنهم إلا ما هو شر وباطل لفساد قلوبهم.
٣ ـ الترف يسبب
كثيرا من المفاسد والشرور ، ولهذا يجب أن يحذر بالاقتصاد.
٤ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء وإثباتها وهي ما ينكره الملاحدة هروبا من الاستقامة.
٥ ـ تكأة عامة
المشركين وهي كيف يكون الرسول رجلا من البشر ، دفعا للحق وعدم قبوله.
(قالَ رَبِّ
انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ
(٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً
لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤١) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً
آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ
أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ
فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ (٤٤))
شرح الكلمات :
(عَمَّا قَلِيلٍ) : أي عن قليل من الزمن.
(لَيُصْبِحُنَّ
نادِمِينَ) : ليصيرن نادمين على كفرهم وتكذيبهم.
(فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ) : أي صيحة العذاب والهلاك.
(فَجَعَلْناهُمْ
غُثاءً) : كغثاء السيل وهو ما يجمعه الوادي من العيدان والنبات
اليابس.
(فَبُعْداً) : أي هلاكا لهم.
(ثُمَّ أَنْشَأْنا) : أي أوجدنا من بعدهم أهل قرون آخرين كقوم صالح وإبراهيم
ولوط وشعيب.
(تَتْرا) : أي يتبع بعضها بعضا الواحدة عقب الأخرى.
(وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) : أي أهلكناهم وتركناهم قصصا تقص وأخبارا تتناقل.
معنى الآيات :
هذا ما قال هود عليهالسلام بعد الذي ذكر تعالى من أقوال قومه الكافرين (قالَ رَبِ) أي يا رب (انْصُرْنِي بِما
كَذَّبُونِ) أي بسبب تكذبيهم لي وردهم دعوتي وإصرارهم على الكفر بك
وعبادة غيرك فأجابه الرب تبارك وتعالى بقوله : (عَمَّا قَلِيلٍ
لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ) أي بعد قليل من الوقت وعزتنا وجلالنا ليصبحن نادمين أي
ليصيرن نادمين على كفرهم بي وإشراكهم في عبادتي وتكذيبهم إياك ولم يمض إلا قليل
زمن حتى أخذتهم الصيحة صيحة الهلاك ضمن ريح صرصر في أيام نحسات فإذا هم غثاء كغثاء
السيل لا حياة فيهم ولا فائدة ترجى منهم (فَبُعْداً لِلْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ) أي هلاكا للظالمين بالشرك والتكذيب والمعاصي وقوله تعالى :
(ثُمَّ أَنْشَأْنا
مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) أي ثم أوجدنا بعد إهلاكنا عادا أهل قرون آخرين كقوم صالح
وقوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب. وقوله تعالى : (ما تَسْبِقُ مِنْ
أُمَّةٍ أَجَلَها
وَما يَسْتَأْخِرُونَ) أي ان كل أمة حكمنا بهلاكها لا يمكنها أن تسبق أجلها أي
وقتها المحدود لها فتتقدمه كما لا يمكنها أن تتأخر عنه بحال.
وقوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) أي يتبع بعضها بعضا (كُلَّ ما جاءَ
أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) أي في الهلاك فكلما كذبت أمة رسولها ورفضت التوبة إلى الله
والإنابة إليه أهلكها ، وقوله تعالى (وَجَعَلْناهُمْ
أَحادِيثَ) أي لمن بعدهم يذكرون أحوالهم ويروون أخبارهم (فَبُعْداً) أي هلاكا منا (لِقَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ) في هذا تهديد قوي لقريش المصرة على الشرك والتكذيب
والعناد. وقد مضت فيهم سنة الله فأهلك المجرمين منها.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ استجابة الله
دعوة المظلومين من عباده لا سيما إن كانوا عبادا صالحين.
٢ ـ الآجال
للأفراد أو الأمم لا تتقدم ولا تتأخر سنة من سنن الله تعالى في خلقه.
٣ ـ تقرير حقيقة
تاريخية علمية وهي أن الأمم السابقة كلها هلكت بتكذيبها وكفرها ولم ينج منها عند
نزول العذاب بها إلا المؤمنون مع رسولهم.
٤ ـ كرامة هذه
الأمة المحمدية أن الله تعالى لا يهلكها هلاكا عاما بل تبقى بقاء الحياة تقوم بها
الحجة لله تعالى على الأمم والشعوب المعاصرة لها طيلة الحياة.
(ثُمَّ أَرْسَلْنا
مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ
وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا
مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى
رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠))
شرح الكلمات :
(بِآياتِنا وَسُلْطانٍ
مُبِينٍ) : الآيات هي التسع الآيات وهي الحجة والسلطان المبين.
(وَكانُوا قَوْماً
عالِينَ) : أي علوا أهل تلك البلاد قهرا واستبدادا وتحكما.
(وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) : أي مطيعون ذليلون نستخدمهم فيما نشاء وكيف نشاء.
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ) : أي التوراة.
(وَجَعَلْنَا ابْنَ
مَرْيَمَ) : أي عيسى حجة وبرهانا على وجود الله وقدرته وعلمه ووجوب
توحيده.
(إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ
قَرارٍ وَمَعِينٍ) : إلى مكان مرتفع ذي استقرار وفيه ماء جار عذب وفواكه
وخضر.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر نبذ من قصص الأولين للعظة والاعتبار ، ولإقامة الحجة على مشركي قريش
فقال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا
مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي بعد تلك الأمم الخالية أرسلنا موسى بن عمران وأخاه
هارون بسلطان مبين أي بحجج وبراهين بينة دالة على صدق موسى وما يدعو إليه من عبادة
الله وتوحيده فيها والخروج ببني إسرائيل إلى الأرض المباركة أرض الشام إلى فرعون
ملك مصر يومئذ وملئه من أشراف قومه وعليتهم فاستكبروا عن قبول دعوة الحق وكانوا
عالين على أهل تلك البلاد فاهرين لها مستبدين بها وقالوا ردا على دعوة موسى وهارون
ما أخبر تعالى به في قوله : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ
لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي خاضعون مطيعون. هكذا أعلنوا متعجبين من دعوة موسى
وهارون إلى الإيمان برسالتهما فقالوا : أنؤمن لبشر من مثلنا أي كيف يكون هذا أنتبع
رجلين مثلنا فنصبح نأتمر بأمرهما وننتهي بنهيهما وكيف يتم ذلك وقومهما يعنون بني
إسرائيل لنا عابدون. أي خاضعون لنا ومطيعون لأمرنا ونهينا. قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُما) ، فيما دعواهما إليه من الإيمان والتوحيد وإرسال بني
إسرائيل معهما إلى أرض الميعاد فترتب على تكذيبهم لرسولي الله موسى وهارون هلاكهم
فكانوا من المهلكين حيث أغرقهم الله أجمعين ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ
لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) ، ويخبر تعالى أنه بعد إهلاك فرعون ونجاة بني إسرائيل آتى
موسى التوراة من أجل هداية بني إسرائيل عليها لأنها تحمل النور والهدى. هذه أيادي
الله على خلقه وآياته فيهم فسبحانه من إله عزيز رحيم.
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) أي جعل عيسى ووالدته مريم (آيَةً) حيث خلق عيسى من غير أب فهي آية دالة على قدرة الله وعلمه
ورحمته وحكمته وهذه موجبة الإيمان به وعبادته وتوحيده والتوكل عليه والإنابة
والتوبة إليه. وقوله تعالى : (وَآوَيْناهُما إِلى
رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) أي أنزلنا مريم وولدها بعد اضطهاد اليهود لهما ربوة عالية صالحة للإستقرار عليها بها فاكهة وماء عذب جار إكرام
الله تعالى له ولوالدته فسبحان المنعم على عباده المكرم لأوليائه.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير نبوة كل
من موسى وأخيه هارون عليهماالسلام.
٢ ـ التنديد
بالإستكبار ، وأنه علة مانعة من قبول الحق.
٣ ـ مظاهر قدرة
الله وعلمه ورحمته في إرسال الرسل بالآيات وفي إهلاك المكذبين.
٤ ـ آية ولادة
عيسى من غير أب مقررة قدرة الله تعالى على إحياء الموتى ، وبعث الناس من قبورهم
للحساب والجزاء.
(يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ
عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٥٣) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي
الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦))
شرح الكلمات :
(كُلُوا مِنَ
الطَّيِّباتِ) : أي من الحلال.
(وَاعْمَلُوا صالِحاً) : أي بأداء الفرائض وكثير من النوافل.
(وَإِنَّ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ) : أي ملتكم الإسلامية.
(فَاتَّقُونِ) : أي بامتثال أمري واجتناب نهيي.
(فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ) : أي اختلفوا في دينهم فأصبحوا طوائف هذه يهودية وتلك
نصرانية.
(فِي غَمْرَتِهِمْ) : أي في ضلالتهم.
(نُسارِعُ لَهُمْ) : أي نعجل.
(بَلْ لا يَشْعُرُونَ) : أن ذلك استدراج منا لهم.
معنى الآيات :
بعد أن أكرم الله
تعالى عيسى ووالدته بما أكرمهما به من إيوائهما إلى ربوة ذات قرار ومعين
خاطب عيسى عبده ورسوله قائلا : (يا أَيُّهَا
الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) أي الحلال فكان عيسى عليهالسلام يأكل من غزل أمه إذ كانت تغزل الصوف بأجرة فكانا يأكلان من
ذلك أكلا من الطيب كما أمرهما الله تعالى وقوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) كلوا من الحلال واعملوا صالحا بأداء الفرائض والإكثار من
النوافل ، وقوله : (إِنِّي بِما
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فيه وعد بأن الله تعالى سيثيبهم على ما يعلمون من الصالحات.
وقوله : (وَإِنَ هذِهِ
أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) أعلمهم أن ملتهم وهي الدين الإسلامي دين واحد فلا ينبغي
الاختلاف فيه واعلمهم أيضا أنه ربهم أي مالك أمرهم والحاكم عليهم فليبتغوه بفعل ما
أمرهم به وترك ما نهاهم عنه ، لينجوا من عذابه ويظفروا برحمته ودخول جنته.
وقوله تعالى : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أي دينهم (زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ
بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) أي فرقوا دينهم فرقا فذهبت كل فرقة بقطعة منه وقسموا
الكتاب إلى كتب فهذه يهودية وهذه نصرانية واليهودية فرق والنصرانية فرق والإنجيل
أصبح أناجيل متعددة وصارت كل جماعة فرحة بما عندها مسرورة به لا ترى الحق إلّا فيه
.. (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)
وهنا أمر الله
رسوله أن يتركهم في غمرة ضلالتهم إلى حين أن ينزل بهم ما قضى به الرب تعالى على
أهل الاختلاف في دينه (فَذَرْهُمْ فِي
غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) إذ قال له في سورة الأنعام (إِنَّ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) وفيه من التهديد ما فيه. وهذا الذي نعاه تعالى على تلك
الأمم قد وقعت فيه أمة الإسلام فاختلفوا في دينهم مذاهب وطرقا عديدة ، ويا للأسف
وقد حلت بهم المحن ونزل بهم البلاء نتيجة ذلك الخلاف. وقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مالٍ
__________________
وَبَنِينَ) مع اختلافهم وانحرافهم مسارعة لهم منا في الخيرات لا بل ذلك استدراج لهم ليهلكوا ولكنهم لا يشعرون بذلك.
لشدة غفلتهم واستيلاء غمرة الضلالة عليهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الأكل من
الحلال ، ووجوب الشكر بالطاعة لله ورسوله.
٢ ـ الإسلام دين
البشرية جمعاء ولا يحل الاختلاف فيه بل يجب التمسك به وترك ما سواه.
٣ ـ حرمة الاختلاف
في الدين وأنه سبب الكوارث والفتن والمحن.
٤ ـ إذا انحرفت
الأمة عن دين الله ، ثم رزقت المال وسعة العيش كان ذلك استدراجا لها ، ولم يكن
إكراما من الله لها دالا على رضى ربها عنها بل ما هو إلا فتنة ليس غير.
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ
يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ
يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ
(٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا
نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ
لا يُظْلَمُونَ (٦٢))
شرح الكلمات :
(مُشْفِقُونَ) : أي خائفون.
(لا يُشْرِكُونَ) : أي بعبادته أحدا.
(يُؤْتُونَ ما آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) : أي خائفون أن لا يقبل منهم ذلك.
(أَنَّهُمْ إِلى
رَبِّهِمْ راجِعُونَ) : أي لأنهم إلى ربهم راجعون فيحاسبهم ويسألهم ويجزيهم.
(وَهُمْ لَها
سابِقُونَ) : أي بإذن الله وفي علمه.
(وَلا نُكَلِّفُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) : إلا طاقتها وما تقدر عليه.
(وَلَدَيْنا كِتابٌ
يَنْطِقُ بِالْحَقِ) : وهو ما كتبه الكرام الكاتبون فإنه ناطق بالحق.
(وَهُمْ لا
يُظْلَمُونَ) : أي بنقض حسنة من حسناتهم ولا بزيادة سيئة على سيآتهم.
__________________
معنى الآيات :
لما ذكر تعالى حال
الذين فرقوا دينهم فذهبت كل فرقة منهم بكتاب ومذهب ولقب ونعى عليهم ذلك التفرق
وأمر رسوله أن يتركهم في غمرة خلافاتهم ويدعهم إلى حين يلقون جزاءهم عاجلا أو آجلا
: أثنى تبارك وتعالى على عباده المؤمنين من أهل الخشية ، فقال وقوله الحق : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) أي من عذابه خائفون من الوقوف بين يديه فهذه صفة لهم وآخرى
(وَالَّذِينَ هُمْ
بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) أي بحجج الله تعالى التي تضمنتها آياته يؤمنون أي يوقنون وثالثة
: (وَالَّذِينَ هُمْ
بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) أى فى ذاته ولا صفاته ولا عباداته فيعبدونه بما شرع لهم
موحدينه في ذلك ورابعة : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ). أي يؤتون الزكاة وسائر الحقوق والواجبات وقلوبهم خائفة من ربهم أن
يكونوا قد قصروا فيما أوجب عليهم وخائفة أن لا يقبل منهم عملهم ، وذلك ناجم لهم من
قوة إيمانهم برجوعهم إلى ربهم ووقوفهم بين يديه ومساءلته لهم : لم قدمت؟ لم أخرت؟ وقوله
تعالى : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي
الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) في هذا بشرى لهم إذ أخبر تعالى أنهم يسارعون في الخيرات ،
وأنهم سبق ذلك لهم في الأزل فهنيئا لهم. وقوله تعالى : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فيه قبول عذر من بذل جهده في المسارعة في الخيرات ولم يلحق
بغيره أعذره ربه فإنه لا خوف عليه ما دام قد بذل جهده إذ هو تعالى (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) أي طاقتها وما يتسع له جهده.
وقوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) فيه وعد لأولئك المسارعين بالخيرات بأنّ أعمالهم مكتوبة
لهم في كتاب ينطق بالحق لا يخفى حسنة من حسناتهم ويستوفونها كاملة وفيه وعيد لأهل
الشرك والمعاصي بأنّ أعمالهم محصاة عليهم قد ضمها كتاب صادق وسوف يجزون بها وهم لا
يظلمون فلا تكتب عليهم سيئة لم يعملوها قط ولا يجزون إلّا بما كانوا يكسبون.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ فضيلة الخشية
والإيمان والتوحيد والتواضع والمراقبة لله تعالى.
٢ ـ بشرى الله
تعالى لأهل الإيمان والتقوى.
٣ ـ تقرير قاعدة
رفع الحرج في الدين.
٤ ـ تقرير كتابة
أعمال العباد وإحصاء أعمالهم ومجازاتهم العادلة.
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣)
حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا
تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ
بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما
لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ
فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠))
شرح الكلمات :
(فِي غَمْرَةٍ مِنْ
هذا) : أي جهالة من القرآن وعمى.
(وَلَهُمْ أَعْمالٌ
مِنْ دُونِ ذلِكَ) : أي من دون أعمال المؤمنين التي هي الخشية والإيمان
بالآيات والتوحيد والمراقبة.
(هُمْ لَها عامِلُونَ) : أي سيعملونها لتكون سبب نهايتهم حيث يأخذهم الله تعالى
بها.
(إِذا هُمْ
يَجْأَرُونَ) : أي يصرخون بأعلى أصواتهم ضاجيّن مستغيثين ممّا حلّ بهم
من العذاب.
(تَنْكِصُونَ) : أي ترجعون على أعقابكم كراهة سماع القرآن.
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) : أي بالحرم أي كانوا يقولون : لا يظهر علينا فيه أحد
لأنّا أهل الحرم.
(سامِراً تَهْجُرُونَ) : أي تسمرون بالحرم ليلا هاجرين الحق وسماعه على قراءة فتح
التاء وعلى قراءة ضمها تهجرون أي تقولوا الهجر من القول كالفحش والقبح.
(رَسُولَهُمْ) : أي محمدا صلىاللهعليهوسلم.
(بِهِ جِنَّةٌ) : أي مجنون.
معنى الآيات :
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي
غَمْرَةٍ مِنْ هذا) أي ليس الأمر كما يحسب هؤلاء المشركون أنّا نمدهم بالمال
مسارعة منا لهم في الخيرات لرضانا عنهم لا بل إن قلوبهم في غمرة وعمى من القرآن ، (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) أي دون عمل المؤمنين. (هُمْ لَها عامِلُونَ) حتى تنتهي بمترفيهم إلى هلاكهم ودمارهم وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ
بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي استمرت الأعمال الشركية الإجرامية حتى أخذ الله تعالى
مترفيهم في بدر بعذاب القتل والأسر (إِذا هُمْ
يَجْأَرُونَ) يضجون بالصراخ مستغيثين ، والله تعالى يقول لهم : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ
مِنَّا لا تُنْصَرُونَ)
وذكر تعالى لهم ما
كانوا عليه من التكذيب والاستكبار وقول الهجر موبخا إياهم (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ
فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) هروبا من سماعها حال كونكم (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي بالحرم زاعمين أنكم أهل الحرم ، وأن أحدا لا يظهر عليكم
فيه لأنكم أهله وقوله : (سامِراً تَهْجُرُونَ) أي تسمرون بالليل تهجرون بذلك سماع الحق ودعوة الحق التي
تتلى بها عليكم آيات الله. وقد قرىء
__________________
تهجرون بضم التاء
وكسر الجيم أي تقولون أثناء سمركم في الليل الهجر من القول كالكفر وقول الفحش وما
لا خير فيه من الكلام ، وكانوا كذلك.
وقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) الذي يسمعونه من نبينا محمد صلىاللهعليهوسلم فيعرفوا أنه حق وخير وأنه فيه صلاحهم (أَمْ جاءَهُمْ) من الدين والشرع (ما لَمْ يَأْتِ
آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) فقد جاءت رسل ونزلت كتب وهم يعرفون ذلك. (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) محمدا صلىاللهعليهوسلم فهم له منكرون إنهم يعرفونه بصدقه وطهارته وكماله منذ
نشأته وصباه إلى يوم أن دعاهم إلى الله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ
جِنَّةٌ) أي جنون وأين الجنون من رجل ينطق بالحكمة ويعمل بها ويدعو
إليها (بَلْ جاءَهُمْ
بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ
كارِهُونَ) ، وهذا هو سرّ إعراضهم واستكبارهم ـ إنه كراهيتهم للحق
لطول ما ألفوا الباطل وعاشوا عليه ، وهذه سنة البشر في كل زمان ومكان.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ غمرة الجهل
والتعصب وعمى التقليد هي سبب إعراض الناس عن الحق ومعارضتهم له.
٢ ـ لا تنفع
التوبة عند معاينة العذاب أو نزوله.
٣ ـ بيان الذنوب
التي أخذ بها مترفو مكة ببدر وهي هروبهم من سماع القرآن ونكوصهم عند سماعه على
أعقابهم حتى لا يسمعوه واستكبارهم بالحرم واعتزارهم به جهلا وضلالا واجتماعهم في
الليالي الطوال يسمرون على اللهو وقول الباطل هاجرين سماع القرآن وما يدعو إليه من
هدى وخير.
(وَلَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ
أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ
تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣)
__________________
وَإِنَّ
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ
رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ
يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ
وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ
شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٧))
شرح الكلمات :
(لَوِ اتَّبَعَ
الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) : أي ما يهوونه ويشتهونه.
(أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ) : أي بالقرآن العظيم الذي فيه ذكرهم فيه يذكرون ويذكرون.
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً) : أي مالا مقابل إبلاغك لهم دعوة ربهم.
(فَخَراجُ رَبِّكَ
خَيْرٌ) : أي ما يرزقكه الله خير وهو خير الرازقين.
(إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) : أي إلى الإسلام.
(عَنِ الصِّراطِ
لَناكِبُونَ) : أي عن الإسلام أي متنكبونه جاعلوه على منكب أي جانب
عادلون عنه.
(لَلَجُّوا فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) : لتمادوا في طغيانهم مصرين عليه.
(فَمَا اسْتَكانُوا) : أي ماذلوا ولا خضعوا.
(إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) : أي آيسون قنطون.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقوله تعالى : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ
أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) هذا كلام مستأنف لبيان حقائق أخرى منها أن هؤلاء المشركين
لو اتبع الحقّ النازل من عند الله والذي يمثله القرآن أهواءهم أي ما يهوونه
ويشتهونه فكان يوافقهم عليه لأدى ذلك إلى
__________________
فساد الكون كله
علويه وسفليه ، وذلك لأنهم أهل باطل لا يرون إلا الباطل ويصبح سيرهم معاكسا للحق
فيؤدي حتما إلى خراب الكون وقوله تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ) أي جئناهم بذكرهم الذي هو القرآن الكريم إذ به يذكرون وبه
يذكرون لأنه سبب شرفهم ، وقوله : (فَهُمْ عَنْ
ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) ، فهم لسوء حالهم وفساد قلوبهم معرضون عما به يذكرون
ويذكرون ، وقوله تعالى : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ
خَرْجاً) أي أجرا ومالا (فَخَراجُ رَبِّكَ
خَيْرٌ) أي ثواب ربّك الذي يثيبك به خير وهو تعالى خير الرازقين
وحاشا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يسألهم عن التبليغ أجرا وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) أي إلى الإسلام طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة ، وقوله
تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) أي علة تنكبّهم أي ابتعادهم عن الإسلام هو عدم إيمانهم
بالآخرة ، وهو كذلك فالقلب الذي لا يعمره الإيمان بلقاء الله والجزاء يوم القيامة
صاحبه ضد كل خير ومعروف ولا يؤمل منه ذلك لعلة كفره بالآخرة.
وقوله تعالى : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ
وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) يخبر تعالى أنه لو رحم أولئك المشركين المكذبين بالآخرة ،
وكشف ما بهم من ضر أصابهم من قحط وجدب وجوع ومرض لا يشكرون الله ، بل يتمادون في
عتوهم وضلالهم وظلمهم يعمهون حيارى يترددون ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) وهي سنوات الجدب والقحط بدعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم وما أصابهم من قتل وجراحات وهزائم في بدر. وقوله : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ
وَما يَتَضَرَّعُونَ) فما ذلوا لربهم وما دعوه ولا تضرعوا إليه بل بقوا على
طغيانهم في ضلالهم ومرد هذا ظلمة النفوس الناتجة عن الشرك والمعاصي.
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً
ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) وهو معركة بدر وما أصاب
__________________
المشركين من القتل
(إِذا هُمْ فِيهِ
مُبْلِسُونَ) أي آيسون من كل خير حزنون قنطون وذلك لظلمة نفوسهم بالشرك
والمعاصي.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ خطر اتباع
الهوى وما يفضي إليه من الهلاك والخسران.
٢ ـ الصراط
المستقيم الموصل إلى السعادة والكمال هو الإسلام لا غير.
٣ ـ التكذيب بيوم
القيامة وما يتم فيه من حساب وجزاء هو الباعث على كل شر والمانع من كل خير.
٤ ـ من آثار ظلمة
النفس نتيجة الكفر اليأس والقنوط والتمادي في الشر والفساد.
(وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ
(٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٨٣))
شرح الكلمات :
(أَنْشَأَ لَكُمُ
السَّمْعَ) : أي خلق وأوجد لكم الأسماع والأبصار.
(وَالْأَفْئِدَةَ) : جمع فؤاد وهو القلب.
(قَلِيلاً ما
تَشْكُرُونَ) : أي ما تشكرون إلّا قليلا.
(ذَرَأَكُمْ) : أي خلقكم.
__________________
(وَإِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ) : أي تجمعون إليه بعد إحيائكم وخروجكم من قبوركم.
(وَلَهُ اخْتِلافُ
اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي إليه تعالى إيجاد الليل والنهار وظلمة الليل وضياء
النهار.
(أَفَلا تَعْقِلُونَ) : فتعرفوا أن الله هو المعبود الحق إذ هو الرب الحق.
(إِلَّا أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ) : أي ما تقولون من البعث والحياة الثانية ما هو إلا حكايات
وأساطير وأخبار الأولين ، والأساطير جمع أسطورة أي حكاية مسطرة مكتوبة.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في دعوة المنكرين للبعث الآخر إلى الإيمان به بعرض الأدلة العقلية عليهم
لعلهم يؤمنون فقال تعالى لهم : (وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ
وَالْأَفْئِدَةَ) أي الله الذي خلق لكم أسماعكم وأبصاركم وقلوبكم قادر على
إحيائكم بعد موتكم وحشركم إليه تعالى ليحاسبكم ويجزيكم ، وقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) يوبخهم تعالى على كفرانهم نعمه عليهم ، إذ أوجد لهم أسماعا
وأبصارا وأفئدة ولم يحمدوه على ذلك ولم يشكروه بالإيمان به وبطاعته. وقوله تعالى :
(وَهُوَ الَّذِي
ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أي خلقكم في الأرض ، (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) إذ الذي قدر على خلقكم في الأرض قادر على خلقكم في أرض
أخرى بعد أن يميتكم ويحشركم أي يجمعكم إليه ليحاسبكم ويجزيكم. وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أي يحيي النطفة بجعلها مضغة لحم ثم ينفخ فيها الروح فتكون
بشرا ، ويميتكم بعد انقضاء آجالكم أليس هذا قادرا على إحيائكم بعد موتكم.
وقوله تعالى : (وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ
وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) أي ولله تعالى اختلاف الليل والنهار بإيجادهما وتعاقبهما
وإدخال أحدهما في الآخر أفلا تعقلون أنّ من هذه قدرته وتصاريفه في خلقه قادر على بعثكم
بعد إماتتكم وقوله تعالى : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما
قالَ الْأَوَّلُونَ) أي بدل
__________________
أن يؤمنوا باليوم
الآخر لما دلّ عليه من هذه الأدلة التي لا يردها عاقل ولا ينكرها عقل عادوا فقالوا
قولة المنكرين من الأمم قبلهم : (قالُوا أَإِذا
مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) وهو انكار صريح منهم للبعث الآخر. وقالوا أيضا ما أخبر
تعالى عنهم ، وهم يعلنون تكذيبهم لله تعالى ورسوله : (لَقَدْ وُعِدْنا
نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ
إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي لقد وعد هذا آباؤبا من قبل ولم يحصل ما هذا الذي يقال
إلا أساطير أي حكايات سطرها الأولون في كتبهم فهي تروى ويتناقلها الناس ولا حقيقة
لها ولا وجود.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب الشكر
لله تعالى بطاعته على نعمه ومن بينها نعمة السمع والبصر والقلب.
٢ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء بما تضمنت الآيات من الأدلة العديدة على ذلك.
٣ ـ سوء التقليد
وآثاره في السلوك الإنساني بحيث ينكر المقلد عقله.
(قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ
أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ
مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩)
بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ
مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ
__________________
الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٩٢))
شرح الكلمات :
(قُلْ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ) : فتعلمون أن من له الأرض ومن فيها خلقا وملكا قادر على
البعث وأنه لا إله إلا هو.
(قُلْ أَفَلا
تَتَّقُونَ) : أي كيف لا تتقونه بالإيمان به وتوحيده وتصديقه في البعث
والجزاء.
(مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) : أي ملك كل شيء يتصرف فيه كيف يشاء.
(وَهُوَ يُجِيرُ وَلا
يُجارُ عَلَيْهِ) : يحفظ ويحمي من يشاء ولا يحمى عليه ويحفظ من أراده بسوء.
(فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) : أي كيف تخدعون وتصرفون عن الحق.
(بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِ) : أي بما هو الحق والصدق في التوحيد والنبوة والبعث
والجزاء.
(وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) : أي قهرا وسلطانا.
(عَمَّا يَصِفُونَ) : أي من الكذب كزعمهم أن لله ولدا وأن له شريكا وأنه غير
قادر على البعث.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء فقال تعالى لرسوله
قل لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث والجزاء (لِمَنِ الْأَرْضُ
وَمَنْ فِيها) من المخلوقات (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ) من هي له فسموه. ولما لم يكن لهم من بدّ أن يقولوا (لِلَّهِ) أخبر تعالى أنهم سيقولون لله. إذا قل لهم : (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) فتعلموا أن من له الأرض ومن فيها خلقا وملكا وتصرفا لا
يصلح أن يكون له شريك من عباده ، وهو رب كل شيء ومليكه. وقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ
وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) أي سلهم من هو رب السموات السبع وربّ العرش العظيم. الذي
أحاط بالملكوت كله ، أي من هو خالق السموات السبع ، ومن فيهن ومن خالق العرش العظيم
ومالك ذلك كله والمتصرف فيه ، ولما لم يكن من جواب سوى الله أخبر تعالى أنهم
سيقولون الله أي خالقها وهي لله ملكا وتدبيرا وتصريفا إذا قل لهم يا رسولنا (أَفَلا تَتَّقُونَ) أي الله وأنتم تنكرون عليه قدرته في إحياء الناس بعد موتهم
وتجعلون له أندادا تعبدونها معه ، أما تخافون عقابه أما
__________________
تخشون عذابه وقوله
تعالى : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) أي سلهم يا رسولنا فقل لهم من بيده ملكوت كل شيء أي ملك كل
شيء وخزائنه؟ وهو يجير من يشاء أي يحمي ويحفظ من يشاء فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء
ولا يجار عليه ، أي ولا يستطيع أحد أن يجير أي يحمي ويحفظ عليه أحدا أراده بسوء
وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تعلمون أحدا غير الله بيده ملكوت كل شيء ويجير
ولا يجار عليه فاذكروه ، ولما لم يكن لهم أن يقولوا غير الله ، أخبر تعالى أنهم
سيقولون الله أي هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهي لله خلقا وملكا وتصرفا إذا
قل لهم (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ؟) أي كيف تخدعون فتصرفون عن الحق فتعبدون غير الخالق الرازق
، وتنكرون على الخالق إحياء الأموات وبعثهم وهو الذي أحياهم أولا ثم أماتهم ثانيا
فكيف ينكر عليه إحياءهم مرة أخرى وقوله تعالى : (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِالْحَقِ) أي ليس الأمر كما يتوهمون ويخيل إليهم بل أتيناهم بذكرهم
الذي هو القرآن به يذكرون لأنه ذكرى وذكر ، وبه يذكرون لأنه شرف لهم وإنهم لكاذبون
في كل ما يدعون ويقولون. (مَا اتَّخَذَ
اللهُ مِنْ وَلَدٍ) ولا بنت ، (وَما كانَ مَعَهُ
مِنْ إِلهٍ) ولا ينبغي ذلك ، والدليل المنطقي العقلي الذي لا يرد هو
أنه لو كان مع الله إله آخر لقاسمه الملك وذهب كل إله بما خلق ، ولحارب بعضهم بعضا
وعلا بعضهم على بعض غلبة وقهرا وقوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ) تنزيها لله تعالى عما يصفه به الواصفون من صفات العجز
كاتخاذ الولد والشريك ، والعجز عن البعث. وقوله تعالى : (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي ما ظهر وما بطن ، وما غاب وما حضر فلو كان معه آلهة
أخرى لعرفهم وأخبر عنهم ولكن هيهات هيهات أن يكون مع الله إله آخر وهو الخالق لكل
شيء والمالك لكل شيء. (فَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ)
__________________
علوا كبيرا وتنزه
تنزها عظيما.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية توبيخ
المتغافل المتجاهل وتأنيب المتعامي عن الحق وهو قادر على رؤيته.
٢ ـ تقرير ربوبية
الله تعالى وألوهيته.
٣ ـ تنزيه الله
تعالى عن الصاحبة والولد وإبطال ترهات المفترين.
٤ ـ الإستدلال
العقلي ومشروعيته والعمل به لإحقاق الحق وإبطال الباطل.
(قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ
(٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ
رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (٩٨) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها
كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠))
شرح الكلمات :
(إِمَّا تُرِيَنِّي ما
يُوعَدُونَ) : أي إن تريني من العذاب.
(ادْفَعْ بِالَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ) : أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض
عنهم.
(مِنْ هَمَزاتِ
الشَّياطِينِ) : أي من وساوسهم التي تخطر بالقلب فتكاد تفسده.
(أَنْ يَحْضُرُونِ) : أي في أموري حتى لا يفسدوها علي.
(جاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ) : أي رأى علاماته ورآه.
(بَرْزَخٌ) : أي حاجز يمنع وهو مدة الحياة الدنيا ، وإن عاد بالبعث
فلا عمل يقبل.
معنى الآيات :
في هذا السياق
تهديد للمشركين الذين لم ينتفعوا بتلك التوجيهات التي تقدمت في الآيات قبل هذه ،
فأمر الله تعالى رسوله أن يدعوه ويضرع إليه إن هو أبقاه حتى يحين هلاك قومه ، أن
لا يهلكه معهم فقال : (قُلْ رَبِّ إِمَّا
تُرِيَنِّي) أي أن تريني (ما يُوعَدُونَ) أي من العذاب ، (رَبِّ فَلا
تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) بل أخرجني منهم وأبعدني عنهم حتى لا أهلك معهم. وقوله
تعالى : (وَإِنَّا عَلى أَنْ
نُرِيَكَ ما
نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ) يخبر تعالى رسوله بأنه قادر على إنزال العذاب الذي وعد به
المشركين إذا لم يتوبوا قبل حلوله بهم.
وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ) هذا قبل أمره بقتالهم : أمره بأن يدفع ما يقولونه له في
الكفر والتكذيب بالخلّة والخصلة التي هي أحسن وذلك كالصفح والإعراض عنهم وعدم
الإلتفات إليهم. وقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما
يَصِفُونَ) أي من قولهم لله شريك وله ولد ، وأنه ما أرسل محمدا رسولا
، وأنه لا بعث ولا حياة ولا نشور يوم القيامة وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ
هَمَزاتِ الشَّياطِينِ
، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) لما علمه الاحتراز والتحصّن من المشركين بالصفح والإعراض
أمره أن يتحصن من الشياطين بالإستعاذة بالله تعالى فأمره أن يقول (رَبِ) أي يا رب (أَعُوذُ بِكَ) أي استجير بك من همزات الشياطين أي وساوسهم حتى لا يفتنوني
عن ديني وأعوذ بك أن يحضروا أمري فيفسدوه على.
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) أي إذا حضر أحد أولئك المشركين الموت
__________________
أي رأى ملك الموت
وأعوانه وقد حضروا لقبض روحه (قالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ) أي أخروا موتي كي أعمل صالحا فيما تركت العمل فيه بالصلاح
، وفيما ضيعت من واجبات قال تعالى ردا عليه (كَلَّا) أي لا رجوع أبدا ، (إِنَّها كَلِمَةٌ
هُوَ قائِلُها) لا فائدة منها ولا نفع فيها ، (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) أي حاجز مانع من العودة إلى الحياة وهو أيام الدنيا كلها
حتى إذا انقضت عادوا إلى الحياة ، ولكن ليست حياة عمل وإصلاح ولكنها حياة حساب
وجزاء هذا معنى قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ
بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) .
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
الدعاء والترغيب فيه وإنه لذو جدوى للمؤمن.
٢ ـ استحباب دفع
السيء من القول أو الفعل بالصفح والإعراض عن صاحبه.
٣ ـ مشروعية
الإستعاذة بالله تعالى من وساوس الشياطين ومن حضورهم أمر العبد الهام حتى لا
يفسدوه عليه بالخواطر السيئة.
٤ ـ موعظة المؤمن
بحال من يتمنى العمل الصالح عند الموت فلا يمكن منه فيموت بندمه وحسرته ويلقى جزاء
تفريطه حرمانا وخسرانا في الدار الآخرة.
(فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ
(١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤)
__________________
أَلَمْ
تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا
رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا
أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧))
شرح الكلمات :
(فِي الصُّورِ) : أي في القرن المعبر عنه بالبوق نفخة القيام من القبور
للحساب والجزاء.
(الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ) : أي تحرقها.
(وَهُمْ فِيها
كالِحُونَ) : الكالح من أحرقت النار جلدة وجهه وشفتيه فظهرت أسنانه.
(أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ) : أي يوبخون ويذكرون بالماضى ليحصل لهم الندم والمراد
بالآيات آيات القرآن.
(غَلَبَتْ عَلَيْنا
شِقْوَتُنا) : أي الشقاوة الأزلية التى تكتب على العبد في كتاب
المقادير قبل وجوده.
(أَخْرِجْنا مِنْها
فَإِنْ عُدْنا) : أي من النار فإن عدنا إلى الشرك والمعاصي.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تقرير التوحيد والنبوة والبعث والجزاء والدعوة إلى ذلك وعرض الأدلة وتبيينها
وتنويعها ، إذ لا يمكن استقامة إنسان في تفكيره وخلقه وسلوكه على مناهج الحق
والخبر إلا إذا آمن إيمانا راسخا بوجود الله تعالى ووجوب طاعته وتوحيده في عباداته
، وبالواسطة في ذلك وهو الوحي والنبي الموحي إليه ، وبالبعث الآخر الذي هو دور
الحصاد لما زرع الإنسان في هذه الحياة من خير وشر فقوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي
الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ
يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) هذا عرض لما يجرى في الآخرة فيخبر تعالى أنه إذا نفخ
اسرافيل بإذن الله في الصور الذي هو القرن أي كقرن الشاة لقوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ
__________________
يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ) فلشدة الهول وعظيم الفزع لم يبق نسب يراعى أو يلتفت إليه بل كل واحد همه نفسه فقط ، ولا يسأل
حميم حميما وسألت عائشة رضى الله عنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم قالت : هل تذكرون أهليكم يا رسول الله يوم القيامة فقال
أما عند ثلاثة فلا : إذا تطايرت الصحف ، وإذا وضع الميزان وإذا نصب الصراط ومعنى
هذا الحديث واضح والشاهد منه ظاهر وهو أنهم لا يتساءلون.
وقوله تعالى : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي من رجحت كفة حسناته على كفة سيئآته أفلح أي نجا من
النار وأدخل الجنة ومن خفت موازينه بأن حصل العكس فقد خسر وأبعد عن الجنة وأدخل
النار وهذا معنى قوله تعالى (وَمَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ
، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ
النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) أي تحرق وجوههم النار فيكلحون باحتراق شفاههم وتظهر
أسنانهم وهو أبشع منظر وأسوأه وقوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ؟) هذا يقال لهم تأنيبا وتوبيخا وهم في جهنم وهو عذاب نفساني
مع العذاب الجثماني (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي
تُتْلى عَلَيْكُمْ) أما كان رسلنا يتلون عليكم آياتنا (فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) بأقوالكم وأعمالكم أو بأعمالكم دون أقوالكم فلم تحرموا ما
حرم الله ولم تؤدوا ما أوجب الله ، ولم تنتهوا عما نهاكم عنه. وقوله تعالى : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا
شِقْوَتُنا) هذا جوابهم كالمعتذرين بأن شقاءهم كان بقضاء وقدر فلذا حيل
بينهم وبين الإيمان والعمل الصالح. وقوله تعالى : (وَكُنَّا قَوْماً
ضالِّينَ) هذا قولهم أيضا وهو اعتراف صريح بأنهم كانوا ضالين. ثم
قالوا ما أخبر تعالى به عنهم بقوله : (رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) هذا دعاؤهم وهم في جهنم يسألون ربهم أن يردهم إلى الدنيا ليؤمنوا
ويستقيموا على صراط الله المستقيم الذي هو الإسلام وسوف ينتظرون جواب
الله تعالى ألف سنة ، وهو ما تضمنته الآيات التالية.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء من خلال عرض أحداثها في هذه الآيات.
٢ ـ تقرير أن وزن
الأعمال يوم القيامة حق وإنكاره بدعة مكفرة.
٣ ـ تقرير أن
إسرافيل ينفخ في الصور وإنكار ذلك وتأويله بلفظ الصور كما فعل المراغي عند تفسيره
هذه الآية مع الأسف بدعة من البدع المنكرة ولذا نبهت عليها هنا حتى لا يغتر بها
المؤمنون.
٤ ـ الإعتذار
بالقدر لا ينفع صاحبه ، إذ القدر مستور فلا ينظر إليه والعبد مأمور فليؤتمر بأمر
الله ورسوله ولينته بنهيهما ما دام العبد قادرا على ذلك فإن عجز فهو معذور.
(قالَ اخْسَؤُا فِيها
وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا
آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ
تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ
الْفائِزُونَ (١١١))
شرح الكلمات :
(اخْسَؤُا) : أي أبعدوا في النار أذلاء مخزيين.
(فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي) : هم المؤمنون المتقون.
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ
سِخْرِيًّا) : أي جعلتموهم محط سخريتكم واستهزائكم.
(بِما صَبَرُوا) : أي على الإيمان والتقوى.
(هُمُ الْفائِزُونَ) : أي الناجون من النار المنعمون في الجنة.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) هذا جواب سؤالهم المتقدم حيث قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ
عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ)
وعلل تعالى لحكمه
فيهم بالإبعاد في جهنم أذلاء مخزيين يقوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ
مِنْ عِبادِي) وهو فريق المؤمنين المتقين يقولون (رَبَّنا آمَنَّا
فَاغْفِرْ لَنا) ذنوبنا (وَارْحَمْنا وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي يعبدوننا ويتقربون إلينا ويتوسلون بإيمانهم وصالح أعمالهم
ويسألوننا المغفرة والرحمة وكنتم أنتم تضحكون من عبادتهم ودعائهم وضراعتهم إلينا
وتسخرون منهم (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ
الْيَوْمَ) بصبرهم على طاعتنا مع ما يلاقون منكم من اضطهاد وسخرية. (أَنَّهُمْ هُمُ
الْفائِزُونَ) برضواني في جناتي لا غيرهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان مدى حسرة
أهل النار لما يجابون بكلمة : (اخْسَؤُا فِيها وَلا
تُكَلِّمُونِ).
٢ ـ فضيلة التضرع
إلى الله تعالى ودعائه والتوسل إليه بالإيمان وصالح الأعمال.
٣ ـ حرمة السخرية
بالمسلم والاستهزاء به والضحك منه.
٤ ـ فضيلة الصبر
ولذا ورد أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد.
__________________
(قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا
إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (١١٦) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا
يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ (١١٨))
شرح الكلمات :
(كَمْ لَبِثْتُمْ فِي
الْأَرْضِ) : أي كم سنة لبثتموها في الأرض أحياء وأمواتا في قبوركم؟.
(فَسْئَلِ الْعادِّينَ) : يريدون الملائكة التي كانت تعد ، وهم الكرام الكاتبون أو
من يعد أما نحن فلم نعرف.
(خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) : أي لا لحكمة بل لمجرد العيش واللعب كلا.
(فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُ) : أي تنزه الله عن العبث.
(لا بُرْهانَ لَهُ) : الجملة صفة ل «إلها آخر» لا مفهوم لها إذ لا يوجد برهان
ولا حجة على صحة عبادة غير الله تعالى إذ الخلق كله مربوب لله مملوك له.
(حِسابُهُ عِنْدَ
رَبِّهِ) : أي مجازاته عند ربه هو الذي يجازيه بشركه به ودعاء غيره.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم مع أهل النار المنكرين للبعث والتوحيد بقوله تعالى : (قالَ كَمْ
لَبِثْتُمْ
فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ؟) هذا سؤال طرح عليهم أي سألهم ربهم وهو أعلم بلبثهم كم
لبثتم من سنة في الدنيا مدة حياتكم فيها ومدة لبثكم أمواتا في قبوركم؟ فأجابوا
قائلين (لَبِثْنا يَوْماً
أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي من كان يعد من الملائكة أو من غيرهم ، وهذا الإضطراب
منهم عائد إلى نكرانهم للبعث وكفرهم في الدنيا به أولا وثانيا أهوال الموقف وصعوبة
الحال وآلام العذاب جعلتهم لا يعرفون أما أهل الإيمان فقد جاء في سورة الروم أنهم
يجيبون إجابة صحيحة إذ قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا
يُؤْفَكُونَ وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ
فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ). وقوله تعالى : (إِنْ لَبِثْتُمْ
إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) هذا بالنظر إلى ما تقدم من عمر الدنيا ، فمدة حياتهم وموتهم
إلى بعثهم ما هي إلا قليل وقوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما
خَلَقْناكُمْ عَبَثاً
وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، هذا منه تعالى توبيخ لهم وتأنيب على إنكارهم للبعث أنكر
تعالى عليهم حسبانهم وظنهم أنهم لم يخلقوا للعبادة وإنما خلقوا للأكل والشرب
والنكاح كما هو ظن كل الكافرين وأنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ولا يجزون بأعمالهم. وقوله
تعالى : (فَتَعالَى اللهُ
الْمَلِكُ الْحَقُ) أي عن العبث وعن كل ما لا يليق بجلاله وكماله وقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ) أي لا معبود بحق إلا هو (رَبُّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ) أي مالك العرش الكريم ووصف العرش بالكرم سائغ كوصفه
بالعظيم والعرش سرير الملك وهو كريم لما فيه من الخير وعظيم إذ هو أعظم من الكرسي
والكرسي وسع السموات والأرض ، ولم لا يكون العرش كريما وعظيما ومالكه جل جلاله هو
مصدر كل كرم وخير وعظمة.
__________________
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
لا بُرْهانَ لَهُ) أي ومن يعبد مع الله إلها آخر بالدعاء أو الخوف أو الرجاء
أو النذر والذبح ، وقوله : (لا بُرْهانَ لَهُ) أي لا حجة له ولا سلطان على جواز عبادة ما عبده ، ومن أين
يكون له الحجة والبرهان على عبادة غير الله والله رب كل شيء ومليكه وقوله تعالى : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي الله تعالى ربه يتولى حسابه ويجزيه بحسب عمله وسيخسر
خسرانا مبينا لأنه كافر والكافرون لا يفلحون أبدا فلا نجاة من النار ولا دخول للجنة
بل حسبهم جهنم وبئس المهاد. وقوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ
وَارْحَمْ) أي أمر الله تعالى رسوله أن يدعو بهذا الدعاء : رب اغفر لي
وارحمني واغفر لسائر المؤمنين وارحمهم أجمعين فأنت خير الغافرين والراحمين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم هول يوم
القيامة وشدة الفزع فيه فليتق ذلك بالإيمان وصالح الأعمال.
٢ ـ تنزه الله
تعالى عن العبث واللهو واللعب.
٣ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٤ ـ كفر وشرك من
يدعو مع الله إلها آخر.
٥ ـ الحكم بخسران
الكافرين وعدم فلاحهم.
٦ ـ استحباب
الدعاء بالمغفرة والرحمة للمؤمنين والمؤمنات.
__________________
سورة النّور
مدنية
وآياتها أربع وستون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها
وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا
يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))
شرح الكلمات :
(سُورَةٌ أَنْزَلْناها) : أي هذه سورة أنزلناها.
(وَفَرَضْناها) : أي فرضنا ما فيها من أحكام.
(وَأَنْزَلْنا فِيها
آياتٍ بَيِّناتٍ) : أي وأنزلنا ضمنها آيات أي حججا واضحات تهدي إلى الحق
وإلى صراط مستقيم.
(لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) : أي تتعظون فتعملون بما في السورة من أحكام.
(الزَّانِيَةُ) : من أفضت إلى رجل بغير نكاح شرعي وهي غير محصنة.
(مِائَةَ جَلْدَةٍ) : أي ضربة على جلد ظهره.
(رَأْفَةٌ) : شفقة ورحمة.
(وَلْيَشْهَدْ
عَذابَهُما) : أي اقامة الحد عليهما.
__________________
(طائِفَةٌ) : أي عدد لا يقل عن ثلاثة أنفار من المسلمين والأربعة أولى
من الثلاثة.
(الزَّانِي لا
يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) : أي إلا زانية مثله أو مشركة أي لا يقع وطء إلّا على مثله
.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) أي هذه سورة من كتاب الله أنزلناها أي على عبدنا ورسولنا
محمد صلىاللهعليهوسلم (وَفَرَضْناها) أي وفرضنا ما اشتملت عليه من أحكام على أمة الإسلام ،
وقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) أي تتعظون فتعملون بما حوته هذه السورة من أوامر ونواه
وآداب وأخلاق وقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَ واحِدٍ
مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) أي من زنت برجل منكم أيها المسلمون وهما بكران حرّان غير
محصنين ولا مملوكين فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة بعصا لا تشين جارحة ولا تكسر
عضوا أي جلدا غير مبرح ، وزادت السنة تغريب سنة ، وقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللهِ) ، أي لا تشفقوا عليهما فتعطلوا حدّ الله تعالى وتحرموهما
من التطهير بهذا الحد لأن الحدود كفارة لأصحابها ، وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي فأقيموا عليهما الحد وقوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما) أي إقامة الحد (طائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) أي ثلاثة أنفار فأكثر وأربعة أولى لأن شهادة الزنا تثبت
بأربعة شهداء وكلما كثر العدد كان أولى وأفضل.
وقوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً) أي لا يطأ إلا مثله من الزواني أو مشركة لا دين لها ،
والزانية أيضا لا يطأها إلا زان مثلها أو مشرك (وَحُرِّمَ ذلِكَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي حرم الله الزنا على المؤمنين والمؤمنات ولازم هذا أن لا
نزوج زانيا من عفيفة إلا بعد توبته ، ولا نزوج زانية من عفيف إلا بعد توبتها .
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان حكم
الزانية والزاني البكرين الحرين وهو جلد مائة وتغريب عام وأما الثيبان فالرجم إن
كانا حرين أو جلد خمسين جلدة لكل واحد منهما إن كانا غير حرين.
٢ ـ وجوب إقامة
هذا الحد أمام طائفة من المؤمنين.
٣ ـ لا يحل تزويج
الزاني إلا بعد توبته ، ولا الزانية إلا بعد توبتها.
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))
شرح الكلمات :
(يَرْمُونَ) : أي يقذفون.
(الْمُحْصَناتِ) : أي العفيفات والرجال هنا كالنساء.
(فَاجْلِدُوهُمْ) : أي حدا عليهم واجبا.
(وَلا تَقْبَلُوا
لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) : لسقوط عدالتهم بالقذف للمؤمنين والمؤمنات.
(إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) : فإنهم بعد توبتهم يعود إليهم اعتبارهم وتصح شهادتهم.
معنى الآيتين :
بعد بيان حكم
الزناة بين تعالى حكم القذف فقال : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) أي والذين يرمون المؤمنين والمؤمنات بالفاحشة وهي الزنا
واللواط بأن يقول فلان زان أو لائط
__________________
فيقذفه بهذه
الكلمة الخبيثة فإن عليه أن يحضر شهودا أربعة يشهدون أمام الحاكم
على صحة ما رمى به أخاه المؤمن فإن لم يأت بالأربعة شهود أقيم عليه الحد المذكور
في الآية : وهو جلد ثمانين جلدة على ظهره وتسقط عدالته حتى يتوب وهو معنى قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي عن طاعة الله ورسوله (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) بأن كذبوا أنفسهم بأنهم ما رأوا الفاحشة وقوله : (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) فيغفر لهم بعد التوبة (رَحِيمٌ) بهم يرحمهم ولا يعذبهم بهذا الذنب العظيم بعد ما تابوا
منه.
هداية الآيتين
من
هداية الآيتين :
١ ـ بيان حد القذف
وهو جلد ثمانين جلدة لمن قذف مؤمنا أو مؤمنة بالفاحشة وكان المقذوف بالغا عاقلا مسلما عفيفا أي لم يعرف بالفاحشة قبل رميه بها .
٢ ـ سقوط عدالة
القاذف إلا أن يتوب فإنه تعود إليه عدالته.
٣ ـ قبول توبة التائب إن كانت توبته صادقة نصوحا.
(وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ
فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
(٦)
__________________
وَالْخامِسَةُ
أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ
مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ
شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ
اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠))
شرح الكلمات :
(يَرْمُونَ
أَزْواجَهُمْ) : أي يقذفونهن بالزنا كأن يقول زنت أو الحمل الذي في بطنها
ليس منه.
(إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ) : أي فيما رماها به من الزنى.
(وَالْخامِسَةُ) : أي والشهادة الخامسة.
(وَيَدْرَؤُا عَنْهَا
الْعَذابَ) : أي يدفع عنها حد القذف وهو هنا الرجم حتى الموت.
(أَنْ تَشْهَدَ
أَرْبَعَ شَهاداتٍ) : أي شهادتها أربع شهادات.
(وَالْخامِسَةَ) : هي قولها غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ) : أي لفضح القاذف أو المقذوف ببيان كذب أحدهما.
معنى الآيات :
بعد بيان حكم حد
القذف العام ذكر تعالى حكم القذف الخاص وهو قذف الرجل زوجته فقال تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) أي بالفاحشة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
شُهَداءُ) أي من يشهد معهم إلا أنفسهم أي إلا القاذف وحده فالذي يقوم
مقام الأربعة شهود هو أن يشهد أربع شهادات قائلا : أشهد بالله لقد رأيتها تزني أو زنت أو هذا الولد أو الحمل ليس
لي ويلتعن فيقول في الخامسة (لَعْنَتَ اللهِ
عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي فيما رمى به زوجته. وهنا يعرض على الزوجة أن تقر بما
رماها به زوجها ويقام عليها حد القذف وهو هنا الرجم ، أو تشهد أربع شهادات بالله
أنها ما زنت ، والخامسة تدعو على نفسها بغضب الله
__________________
فتقول (أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ
مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به ، وبذلك درأت عنها العذاب الذي هو الحد
ويفرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ) جواب لو لا محذوف تقديره لعاجلكم بالعقوبة ولفضح أحد
الكاذبين : ولكن الله تواب رحيم فستر عليكم ليتوب من يتوب منكم ورحمكم بهذا
التشريع العادل الرحيم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان حكم قذف
الرجل امرأته ولم يكن له أربعة شهود يشهدون معه على ما رمى به زوجته وهو اللعان.
٢ ـ بيان كيفية
اللعان ، وأنه موجب لإقامة الحد ، إن لم ترد الزوجة الدعوى بأربع شهادات والدعاء
عليها في الخامسة وقولها (أَنَّ غَضَبَ اللهِ
عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ).
٣ ـ في مشروعية
اللعان مظهر من مظاهر حسن التشريع الإسلامي وكماله وأن مثله لن يكون إلا بوحي إلهي
وفيه إشارة إلى تقرير النبوة المحمدية.
(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ
مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما
أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤)
__________________
إِذْ
تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ
بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا
إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ
هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨))
شرح الكلمات :
(بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ) : الإفك الكذب المقلوب وهو أسوأ الكذب ، والعصبة الجماعة.
(شَرًّا لَكُمْ بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) : الشر ما غلب ضرره على نفعه ، والخير ما غلب نفعه على
ضرره ، والشر المحض النار يوم القيامة والخير المحض الجنة دار الأبرار.
(وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ) : أي معظمه وهو ابن أبي كبير المنافقين.
(لَوْ لا) : أداة تحضيض وحث بمعنى هلّا.
(فِيما أَفَضْتُمْ
فِيهِ) : أي فيما تحدثتم بتوسع وعدم تحفظ.
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) : أي تتلقونه أي يتلقاه بعضكم من بعض.
(وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً) : أي من صغائر الذنوب وهو عند الله من كبائرها لأنه عرض
مؤمنة هي زوج رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
(سُبْحانَكَ) : كلمة تقال عند التعجب والمراد بها تنزيه الله تعالى عما
لا يليق به.
(بُهْتانٌ عَظِيمٌ) : البهتان الكذب الذي يحيّر من قيل فيه.
(يَعِظُكُمُ اللهُ) : أي ينهاكم نهيا
مقرونا بالوعيد حتى لا تعودوا لمثله أبدا.
معنى الآيات :
بعد أن ذكر تعالى
حكم القذف العام والخاص ذكر حادثة الإفك التي هلك فيها خلق لا يحصون عدا إذ طائفة
الشيعة الروافض ما زالوا يهلكون فيها جيلا بعد جيل إلى اليوم إذ ورّث فيهم رؤوساء
الفتنة الذين اقتطعوا من الإسلام وأمته جزءا كبيرا سموه شيعة آل البيت تضليلا
وتغريرا فأخرجوهم من الإسلام باسم الإسلام وأوردهم النار باسم
الخوف من النار
فكذبوا الله ورسوله وسبوا زوج رسول الله واتهموها بالفاحشة وأهانوا أباها ولوثوا
شرف زوجها صلىاللهعليهوسلم بنسبة زوجه إلى الفاحشة.
وخلاصة الحادثة أن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد أن فرض الحجاب على النساء المؤمنات خرج إلى غزوة تدعى
غزوة بني المصطلق أو المريسيع ، ولما كان عائدا منها وقارب المدينة النبوية نزل
ليلا وارتحل ، ولما كان الرجال يرحلون النساء على الهوادج وجدوا هودج عائشة رضى
الله عنها فظنوها فيه فوضعوه على البعير وساقوه ضمن الجيش ظانين أن عائشة فيه ،
وما هي فيه ، لأنها ذكرت عقدا لها قد سقط منها في مكان تبرزت فيه فعادت تلتمس
عقدها فوجدت الجيش قد رحل فجلست في مكانها لعلهم إذا افتقدوها رجعوا إليها وما
زالت جالسة تنظر حتى جاء صفوان بن معطل السلمي رضى الله عنه وكان الرسول صلىاللهعليهوسلم قد عينه في الساقة وهم جماعة يمشون وراء الجيش بعيدا عنه
حتى إذا تأخر شخص أو ترك متاع أو ضاع شيء يأخذونه ويصلون به إلى المعسكر فنظر
فرآها من بعيد فأخذ يسترجع أي يقول إنا لله وإنا إليه راجعون آسفا لتخلف عائشة عن
الركب قالت رضى الله عنها فتجلببت بثيابي وغطيت وجهي وجاء فأناخ راحلته فركبتها
وقادها بي حتى انتهينا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المعسكر ، وما إن رآني ابن أبي لعنة الله عليه حتى قال
والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وروج للفتنة فاستجاب له ثلاثة أنفار فرددوا ما
قال وهم حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش ، (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) هو ابن أبي المنافق وتورط آخرون ولكن هؤلاء الأربعة هم
الذين أشاعوا وراجت الفتنة في المدينة واضطربت لها نفس رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونفوس أصحابه وآل بيته فأنزل الله هذه الآيات في براءة أم
المؤمنين عائشة رضى الله عنها وبراءة صفوان رضى الله عنه ، ومن خلال شرح الآيات
تتضح جوانب القصة.
قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ
بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) أي إن الذين جاءوا بهذا الكذب المقلوب إذ المفروض أن يكون
الطهر والعفاف لكل من أم المؤمنين وصفوان بدل الرمي بالفاحشة القبيحة فقلبوا
القضية فلذا كان كذبهم إفكا وقوله : (عُصْبَةٌ) أي جماعة لا يقل عادة عددهم على عشرة أنفار إلا أن الذين
روجوا الفتنة وتورطوا فيها حقيقة وأقيم عليهم الحد أربعة ابن أبي وهو الذي تولى
كبره منهم وتوعده الله بالعذاب العظيم لأنه منافق كافر
__________________
مات على كفره
ونفاقه ، ومسطح بن أثاثة ، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضى الله عنها
وحسان بن ثابت رضى الله عنه ، وقوله تعالى : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ) لما نالكم من هم وغم وكرب من جرائه (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لما كان له من العاقبة الحسنة وما نالكم من الأجر العظيم
من أجل عظم المصاب وشدة الفتنة وقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) على قدر ما قال وروج وسيجزي به إن لم يتب الله تعالى عليه
ويعفو عنه.
وقوله : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) وهو عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عليه لعنة
الله.
وقوله تعالى : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ
الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ
مُبِينٌ) هذا شروع في عتاب القوم وتأديبهم وتعليم المسلمين وتربيتهم
فقال عزوجل : (لَوْ لا) أي هلا وهي للحض والحث على فعل الشيء إذ سمعتم قول الإفك
ظننتم بأنفسكم خيرا إذ المؤمنون والمؤمنات كنفس واحدة ، وقلتم لن يكون هذا وإنما
هو إفك مبين أي ظاهر لا يقبل ولا يقر عليه هكذا كان الواجب عليكم ولكنكم ما فعلتم.
وقوله تعالى : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ
اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) أي كان المفروض فيكم أيها المؤمنون أنكم تقولون هذا لمن
جاء بالافك فإنهم لا يأتون بشاهد فضلا عن أربعة وبذلك تسجلون عليهم لعنة الكذب في
حكم الله. وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ
عَذابٌ عَظِيمٌ) هذه منة من الله تحمل أيضا عتابا واضحا إذ بولوغكم في عرض
أم المؤمنين ، وما كان لكم أن تفعلوا ذلك قد استوجبتم العذاب لو لا فضل الله عليكم
ورحمته لمسكم العذاب العظيم. وقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ) أي يتلقاه بعضكم من بعض ، (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ
ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) وهذا عتاب وتأديب. وقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّناً) أي ليس بذنب كبير ولا تبعة فيه (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) ، وكيف وهو يمس عرض رسول الله وعائشة والصديق وآل البيت
أجمعين.
__________________
وقوله تعالى : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ
ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) إذ هذه مما لا يصح لمؤمن أن يقول فيه لخطره وعظم شأنه.
وقلتم متعجبين من مثله كيف يقع (سُبْحانَكَ) أي يا رب (بِهذا) أي الإفك (بُهْتانٌ عَظِيمٌ) بهتوا به أم المؤمنين وصفوان.
وقوله : (يَعِظُكُمُ اللهُ) أي ينهاكم الله مخوفا لكم بذكر العقوبة الشديدة (أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي طول الحياة فإياكم إياكم إن كنتم مؤمنين حقا وصدقا فلا
تعودوا لمثله أبدا. وقوله : (وَيُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمُ الْآياتِ) التي تحمل الهدى والنور لترشدوا وتكملوا والله عليم بخلقه
وأعمالهم وأحوالهم حكيم فيما يشرع لهم من أمر ونهي.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ قضاء الله
تعالى للمؤمن كله خير له.
٢ ـ بشاعة الإفك
وعظيم جرمه.
٣ ـ العقوبة على
قدر الجرم كبرا وصغرا قلة وكثرة.
٤ ـ واجب المؤمن
أن لا يصدق من يرمي مؤمنا بفاحشة ، وأن يقول له هل تستطيع أن تأتي بأربعة شهداء
على قولك فإن قال لا قال له إذا أنت عند الله من الكاذبين.
٥ ـ حرمة القول
بدون علم والخوض في ذلك.
(إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩)
وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ
(٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ
يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَوْ لا فَضْلُ
__________________
اللهِ
عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ
يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ
وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢))
شرح الكلمات :
(أَنْ تَشِيعَ
الْفاحِشَةُ) : أي تعم المجتمع وتنتشر فيه والفاحشة هي الزنا.
(وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) : جواب لو لا محذوف تقديره : لعاجلكم بالعقوبة أيها
العصبة.
(خُطُواتِ الشَّيْطانِ) : نزغاته ووساوسه.
(ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ
أَحَدٍ أَبَداً) : أي ما طهر ظاهره وباطنه وهي خلو النفس من دنس الإثم.
(وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) : أي ولا يحلف صاحب الفضل منكم وهو أبو بكر الصديق رضى
الله عنه.
(وَالسَّعَةِ) : أي سعة الرزق والفضل والإحسان إلى الغير.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
عتاب المؤمنين الذين خاضوا في الإفك فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يُحِبُّونَ أَنْ
تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) أي تنتشر وتشتهر (فِي الَّذِينَ
آمَنُوا) أي في المؤمنين (لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بإقامة حد القذف عليهم وإسقاط عدالتهم وفي الآخرة إن لم
يتوبوا بإدخالهم نار جهنم ، وكفى بهذا الوعد زاجرا ورادعا وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ) أي ما يترتب على حب إشاعة الفاحشة بين المؤمنين من الآثار
السيئة فلذا توعد من يحبها بالعذاب الأليم في الدارين ، وأوجب رد الأمور إليه تعالى
وعدم الاعتراض على ما يشرع وذلك
__________________
لعلمه المحيط بكل
شيء وجهلنا لكل شيء إلا ما علمناه فأزال به جهلنا وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) لهلكتم بجهلكم وسوء عملكم. ولكن لما أحاطكم الله به من فضل لم
تستوجبوه إلا برأفته بكم ورحمته لكم عفا عنكم ولم يعاقبكم.
وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَتَّبِعُوا خُطُواتِ
الشَّيْطانِ) أي يا من صدقتم الله ورسوله لا تتبعوا خطوات الشيطان فإنه
عدوكم فكيف تمشون وراءه وتتبعونه فيما يزين لكم من قبيح المعاصي وسيء الأقوال
والأعمال فإن من يتبع خطوات الشيطان لا يلبث أن يصبح شيطانا يأمر بالفحشاء والمنكر
، ففاصلوا هذا العدو ، واتركوا الجري وراءه فإنه لا يأمر بخير قط فاحذروا وسواسه
وقاوموا نزغاته بالاستعاذة بالله السميع العليم فإنه لا ينجكم منه إلا هو سبحانه
وتعالى وقوله تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) وهذه منة أخرى وهي أنه لو لا فضل الله على المؤمنين ورحمته بحفظهم ودفع الشيطان عنهم ما كان
ليطهر منهم أحد ، وذلك لضعفهم واستعدادهم الفطري للاستجابة لعدوهم ، فعلى الذين
شعروا بكمالهم ؛ لأنهم نجوا مما وقع فيه عصبة الإفك من الإثم أن يستغفروا لإخوانهم
وأن يقللوا من لومهم وعتابهم ، فإنه لو لا فضله عليهم ورحمته بهم لوقعوا فيما وقع
فيه اخوانهم ، فليحمدوا الله الذي نجاهم وليتطامنوا تواضعا لله وشكرا له. وقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ
وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي فمن شاء الله تزكيته زكاه وعليه فليلجأ إليه وليطلب
التزكية منه ، وهو تعالى يزكي من كان أهلا للتزكية ، ومن لا فلا ، لأنه السميع
لأقوال عباده والعليم بأعمالهم ونياتهم وأحوالهم وهي حال تقتضي التضرع إليه
والتذلل وقوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ
أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ
وَالسَّعَةِ أَنْ
يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ ،
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق لما منع مسطح بن أثاثة
__________________
وهو ابن خالته ،
وكان رجلا فقيرا من المهاجرين ووقع في الإفك فغضب عليه أبو بكر وحلف أن يمنعه ما
كان يرفده به من طعام وشراب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ولا يأتل أي ولا يحلف
أصحاب الفضل والإحسان والسعة في الرزق والمعاش أن يؤتوا أولى القربى أي أن يعطوا
أصحاب القرابة ، والمساكين والمهاجرين في سبيل الله كمسطح ، وليعفوا أي وعليهم أن
يعفوا عما صدر من أولئك الأقرباء من الفقراء والمهاجرين ، وليصفحوا أي يعرضوا عما
قالوه فلا يذكروه لهم ولا يذكرونهم به فإنه يحزنهم ويسوءهم ولا سيما وقد تابوا
وأقيم الحد عليهم وقوله تعالى : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللهُ
لَكُمْ؟) فقال أبو بكر بلى والله أحب أن يغفر الله لي فعندها صفح
وعفا وسأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن يمينه فقال كفر عن يمينك ورد الذي كنت تعطيه لمسطح.
وتقرر بذلك أن من حلف يمينا على شيء فرأى غيره خيرا منه كفر عن يمينه وأتى الذي هو
خير.
وقوله تعالى : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فهذا إخبار منه تعالى أنه ذو المغفرة والرحمة وهما من
صفاته الثابتة له وفي هذا الخبر تطميع للعباد لأن يرجوا مغفرة الله ورحمته وذلك
بالتوبة الصادقة والطلب الحثيث المتواصل لأن الله تعالى لا يغفر لمن لا يستغفره ،
ولا يرحم من لا يرجو ويطلب رحمته.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ لقبح فاحشة
الزنى وضع الله تعالى لمقاومتها أمورا منها وضع حد شرعي لها ، ومنع تزويج الزاني
من عفيفة أو عفيفة من زان إلا بعد التوبة ، ومنها شهود عدد من المسلمين إقامة الحد
ومنها حد القذف ومنها اللعان بين الزوجين ، ومنها حرمة ظن السوء بالمؤمنين ، ومنها
حرمة حب ظهور الفاحشة وإشاعتها في المؤمنين. ومنها وجوب الإستئذان عند دخول البيوت
المسكونة ، ومنها وجوب غض البصر وحرمة النظر إلى الأجنبية ، ومنها احتجاب المؤمنة
عن الرجال الأجانب ومنها حرمة حركة ما كضرب الأرض بالأرجل لإظهار الزينة. ومنها
وجوب تزويج العزاب والمساعدة على ذلك حتى في العبيد بشروطها. ومنها وجوب استئذان
الأطفال إذا بلغوا الحلم ، وهذه وغيرها كلها أسباب واقية من أخطر فاحشة وهي الزنى.
__________________
٢ ـ حرمة إتباع
الشيطان فيما يزينه من الباطل والسوء والفحشاء والمنكر.
٣ ـ متابعة
الشيطان والجري وراءه في كل ما يدعو إليه يؤدي بالعبد أن يصبح شيطانا يأمر
بالفحشاء والمنكر.
٤ ـ على من حفظهم
الله من الوقوع في السوء أن يتطامنوا ولا يشعروا بالكبر فإن عصمتهم من الله تعالى
لا من أنفسهم.
٥ ـ من حلف على
شيء لا يفعله أو يفعله ورأى أن غيره خير منه كفر عن يمينه وفعل الذي هو خير.
٦ ـ وجوب العفو
والصفح على ذوي المروءات وإقالة عثرتهم إن هم تابوا وأصلحوا.
(إِنَّ الَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ
أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ
الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ
أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦))
شرح الكلمات :
(يَرْمُونَ
الْمُحْصَناتِ) : أي العفيفات بالزنى.
(الْغافِلاتِ) : أي عن الفواحش بحيث لم يقع في قلوبهن فعلها.
(الْمُؤْمِناتِ) : أي بالله ورسوله ووعد الله ووعيده.
(يَعْمَلُونَ) : أي من قول أو عمل.
(يُوَفِّيهِمُ اللهُ
دِينَهُمُ الْحَقَ) : أي يجازيهم جزاءهم الواجب عليهم.
(الْخَبِيثاتُ) : الخبيثات من النساء والكلمات.
(لِلْخَبِيثِينَ) : للخبيثين من الرجال
(وَالطَّيِّباتُ) : من النساء والكلمات.
(لِلطَّيِّبِينَ) : أي من الرجال.
(أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ
مِمَّا يَقُولُونَ) : أي صفوان بن المعطل وعائشة رضى الله عنهما أي مبرءون مما
قاله عصبة الإفك.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ
لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) هذه الآية وإن تناولت ابتداء عبد الله بن أبي فإنها عامة
في كل من يقذف مؤمنة محصنة أي عفيفة غافلة لسلامة صدرها من الفواحش لا تخطر ببالها
(لُعِنُوا) أي أبعدوا من الرحمة الإلهية (فِي الدُّنْيا
وَالْآخِرَةِ ، وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدنيا بإقامة الحد عليهم وفي الآخرة بعذاب النار ، وذلك
(يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) من سوء الأفعال وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ
اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) أي يتم ذلك يوم يوفيهم الله دينهم الحق أي جزاءهم الواجب
عليهم ويعلمون حينئذ أن الله هو الحق المبين أي الإله الحق الواجب الإيمان به والطاعة له
والعبودية الكاملة له لا لغيره.
وقوله تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ) أي الخبيثات من النساء والكلمات للخبيثين من الرجال كابن أبي ، (وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) أي والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء والكلمات وقوله
: (وَالطَّيِّباتُ
لِلطَّيِّبِينَ) أي والطيبات من النساء والكلمات للطيبين من الرجال كالنبي صلىاللهعليهوسلم وعائشة رضى الله عنها وقوله : (وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) أي والطيبون من الرجال للطيبات من النساء والكلمات تأكيد
للخبر السابق وقوله تعالى : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ
مِمَّا
__________________
يَقُولُونَ) أولئك إشارة إلى صفوان بن المعطل وعائشة رضى الله عنها ،
ومبرؤون أي من قالة السوء التي قالها ابن أبي ومن أذاعها معه. وقوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) هذه بشرى لهم بالجنة مقابل ما نالهم من ألم الإفك الذي
جاءت به العصبة المتقدم ذكرها إذ أخبر تعالى أن لهم مغفرة لذنوبهم التي لا يخلو
منها مؤمن وهو الستر عنها ومحوها ورزقا كريما في الجنة.
وبهذه تمت براءة
أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها والحمد لله أولا وآخرا.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ عظم ذنب قذف
المحصنات الغافلات المؤمنات وقد عده رسول الله صلىاللهعليهوسلم في السبع الموبقات ، والعياذ بالله تعالى.
٢ ـ تقرير الحساب
وما يتم فيه من استنطاق واستجواب.
٣ ـ تقرير التوحيد
بأنه لا إله إلا الله.
٤ ـ استحقاق الخبث
أهله. فالخبيث هو الذي يناسبه القول الخبيث والفعل الخبيث.
٥ ـ استحقاق الطيب
أهله فالطيب هو الذي يناسبه القول الطيب والفعل الطيب.
٦ ـ براءة أم
المؤمنين وصفوان مما رماهما به أهل الإفك.
٧ ـ بشارة أم
المؤمنين وصفوان بالجنة بعد مغفرة ذنوبهما.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ
وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ
وَما تَكْتُمُونَ (٢٩))
شرح الكلمات :
(آمَنُوا) : أي صدقوا الله ورسوله فيما أخبرا به من الغيب والشرع.
(تَسْتَأْنِسُوا) : أي تستأذنوا إذ الاستئذان من عمل الإنسان والدخول بدونه
من عمل الحيوان الوحشي.
(وَتُسَلِّمُوا عَلى
أَهْلِها) : أي تقولوا السّلام عليكم أأدخل ثلاثا.
(تَذَكَّرُونَ) : أي تذكرون أنكم مؤمنون ، وأن الله أمركم بالإستئذان.
(أَزْكى لَكُمْ) : أي أطهر وأبعد عن الريبة والإثم.
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ) : أي إثم ولا حرج.
(فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) : أي ما تتمتعون به كالنزول بها أو شراء حاجة منها.
(ما تُبْدُونَ) : أي ما تظهرونه.
(وَما تَكْتُمُونَ) : أي ما تخفونه إذا فراقبوه تعالى ولا تضمروا ما لا يرضى
فإنه يعلمه.
معنى الآيات :
نظرا إلى خطر
الرمي بالفاحشة وفعلها وحرمة ذلك كان المناسب هنا ذكر وسيلة من وسائل الوقاية من
الوقوع في مثل ذلك ففرض الله تعالى على المؤمنين الإستئذان فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) أي يا من آمنتم بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا لا
تدخلوا بيوتا على أهلها حتى تسلموا عليهم قائلين السّلام عليكم وتستأذنوا قائلين أندخل ثلاث مرات فإن أذن لكم بالدخول
دخلتم وإن قيل لكم ارجعوا أي لم يأذنوا لكم لحاجة عندهم فارجعوا وعبر عن الإستئذان
بالاستئناس لأمرين أولها أن لفظ الإستئناس وارد في لغة العرب بمعنى الإستئذان وثانيهما : أن الإستئذان
من خصائص الإنسان الناطق وعدمه من خصائص الحيوان المتوحش إذ يدخل على المنزل بدون
إذن إذ ذاك ليس من خصائصه.
__________________
وقوله (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي الإستئذان خير لكم أي من عدمه لما فيه من الوقاية من
الوقوع في الإثم وقوله : (لَعَلَّكُمْ
تَذَكَّرُونَ) أي تذكرون أنكم مؤمنون وأن الله تعالى أمركم بالإستئذان
حتى لا يحصل لكم ما يضركم وبذلك يزداد إيمانكم وتسموا أرواحكم. وقوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً) أي في البيوت يأذن لكم أي بالدخول فلا تدخلوها وقوله تعالى
: (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا) لأمر اقتضى ذلك (فَارْجِعُوا) وأنتم راضون غير ساخطين. وقوله تعالى : (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أي أطهر لنفوسكم وأكثر عائدة خير عليكم. وقوله تعالى : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) (عَلِيمٌ) أي مطلع على أحوالكم فتشريعه لكم الإستئذان واقع موقعه إذا
فأطيعوه فيه وفي غيره تكملوا وتسعدوا.
وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ
تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ). هذه رخصة منه تعالى لعباده المؤمنين بأن لا يستأذنوا عند
دخولهم بيوتا غير مسكونة أي ليس فيها نساء من زوجات وسريات يحرم النظر إليهن وذلك
كالدكاكين والفنادق وما إلى ذلك فللعبد أن يدخل لقضاء حاجاته المعبر عنها بالمتاع
بدون استئذان لأنها مفتوحة للعموم من أصحاب الأغراض والحاجات أما السّلام فسنة على
من دخل على دكان أو فندق فليقل السّلام عليكم والذي يسقط هو الإستئذان أي طلب
الإذن لا غير.
وقوله تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما
تَكْتُمُونَ) أي يعلم ما تظهرون من أقوالكم وأعمالكم وما تخفون إذا
فراقبوه تعالى في أوامره ونواهيه وافعلوا المأمور واتركوا المنهي تكملوا وتسعدوا
في الدنيا والآخرة.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية الإستئذان ووجوبه على كل من أراد أن يدخل بيتا مسكونا غير
بيته.
٢ ـ الرخصة في عدم
الإستئذان من دخول البيوت والمحلات غير المسكونة للعبد فيها غرض.
__________________
٣ ـ من آداب
الإستئذان أن يقف بجانب الباب فلا يعترضه ، وأن يرفع صوته بقدر الحاجة وأن يقرع
الباب قرعا خفيفا وأن يقول السّلام عليكم أأدخل ثلاث مرات.
٤ ـ في كل طاعة
خير وبركة وإن كانت كلمة طيبة.
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ
يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ
اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما
ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ
بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ
جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١))
شرح الكلمات :
(يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصارِهِمْ) : أي يخفضوا من أبصارهم حتى لا ينظروا إلى نساء لا يحل لهم
أن ينظروا إليهن.
(وَيَحْفَظُوا
فُرُوجَهُمْ) : أي يصونونها من النظر إليها ومن إتيان الفاحشة الزنى
واللواط.
__________________
(أَزْكى لَهُمْ) : أي أكثر تزكية لنفوسهم من فعل المندوبات والمستحبات.
(وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَ) : أي مواضع الزينة الساقين حيث يوضع الخلخال ، وكالكفين
والذراعين حيث الأساور والخواتم والحناء والرأس حيث الشعر والأقراط في الأذنين
والتزجيج في الحاجبين والكحل في العينين والعنق والصدر حيث السخاب والقلائد.
(إِلَّا ما ظَهَرَ
مِنْها) : أي بالضرورة دون اختيار وذلك كالكفين لتناول شيئا والعين
الواحدة أو الاثنتين للنظر بهما ، والثياب الظاهرة كالخمار والعجار والعباءة.
(بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَ) : أي ولتضرب المرأة المسلمة الحرة بخمارها على جيوب أي
فتحات الثياب في الصدر وغيره حتى لا يبدو شيء من جسمها.
(إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَ) : البعل الزوج والجمع بعول.
(أَوْ نِسائِهِنَ) : أي المسلمات فيخرج الذميات فلا تتكشف المسلمة أمامهن.
(أَوْ ما مَلَكَتْ
أَيْمانُهُنَ) : أي العبيد والجواري فللمسلمة أن تكشف وجهها لخادمها
المملوك.
(أَوِ التَّابِعِينَ
غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) : أي التابعين لأهل البيت يطعمونهم ويسكنونهم ممن لا حاجة
لهم إلى النساء.
(أَوِ الطِّفْلِ) : أي الأطفال الصغار قبل التمييز والبلوغ.
(لَمْ يَظْهَرُوا عَلى
عَوْراتِ النِّساءِ) : أي لم يبلغوا سنا تدعوهم إلى الاطلاع على عورات النساء
للتلذذ بهن.
(لِيُعْلَمَ ما
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) : أي الخلاخل في الرجلين.
(تُفْلِحُونَ) : أي تفوزون بالنجاة من العار والنار ، وبالظفر بالطهر
والشرف وعالي الغرف في دار النعيم.
معنى الآيات :
سبق أن ذكرنا أنه
لقبح وفساد الزنى وسوء أثره على النفس والحياة البشرية وضع الشارع عدة أسباب واقية
من الوقوع فيه ومنها الأمر بغض البصر للرجال والنساء فقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا) (مِنْ أَبْصارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) أي مر يا رسولنا المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم أي بأن يخفضوا أجفانهم على أعينهم حتى لا ينظروا
إلى الأجنبيات عنهم من النساء ويحفظوا فروجهم عن النظر إليها فلا يكشفوها لأحد إلا
ما كان من الزوج لزوجه فلا حرج وعدم النظر أولى وأطيب ، وقوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي أطهر لنفوسهم من نوافل العبادات ، وقوله : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) فليراقبوه تعالى في ذلك المأمور به من غض البصر وحفظ الفرج
إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ
أَبْصارِهِنَ) إذ شأنهن شأن الرجال في كل ما أمر به الرجال من غض البصر
وحفظ الفرج وقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَ) أي مرهن بغض البصر وحفظ الفرج وعدم إظهار الزينة (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) مما لا يمكنها ستره وإخفاؤه كالكفين عند تناول شيء أو
إعطائه أو العينين تنظر بهما وإن كان في اليد خاتم وحناء وفي العينين كحل وكالثياب
الظاهرة من خمار على الرأس وعباءة تستر الجسم فهذا معفو عنه إذ لا يمكنها ستره.
وقوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى
جُيُوبِهِنَ) كانت المرأة تضع خمارها على رأسها مسبلا على كتفيها فأمرت
أن تضرب به على فتحات درعها حتى تستر العنق والصدر سترا كاملا وقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) أعاد اللفظ ليرتب عليه ما بعده من المحارم الذي يباح
للمؤمنة أن تبدي زينتها إليهم وهم الزوج ، والأب والجد وان علا وأب الزوج وإن علا
وابنها وإن سفل وأبناء الزوج وإن نزلوا ، والأخ لأب أو الشقيق أو لأم وأبناؤه وأن
نزلوا ، وابن الأخ
__________________
وان نزل وسواء كان
لأب أو لأم أو شقيق ، وابن الأخت شقيقة أو لأب أو لأم. والمرأة المسلمة من نساء
المؤمنات ، وعبدها المملوك لها دون شريك لها فيه والتابع لأهل بيتها من شيخ هرم
أصابه الخرف ، وعنين ومعتوه وطفل صغير لم يميز دون البلوغ ممن لا حاجة لهم في
النساء لعدم الشهوة عندهم لكبر ومرض وصغر.
وقوله تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) نهى تعالى المؤمنات أن يضربن الأرض بأرجلهن التي فيها
الخلاخل لكي يعلم أنها ذات زينة في رجلها ، فلا يحل لها ذلك ولو لم تقصد إظهار
زينتها.
وقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أمر تعالى المؤمنين والمؤمنات بالتوبة وهي ترك ما من شأنه
أن يغضب الله تعالى ، وفعل ما وجب فعله ومن ذلك غض البصر وحفظ الفرج والالتزام
بالعفة والستر والتنزه عن الإثم صغيره وكبيره وبذلك يتأهل المؤمنون للفلاح الذي هو
الفوز بالنجاة من المرهوب والظفر بالمحبوب المرغوب.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب غض البصر
وحفظ الفرج .
٢ ـ وجوب ستر
المرأة زينتها ومواضع ذلك ما عدا ما يتعذر ستره للضرورة.
٣ ـ بيان المحارم
الذين للمرأة المؤمنة أن تبدي زينتها عندهم بلا حرج.
٤ ـ الرخصة في
إظهار الزينة للهرم المخرف من الرجال والمعتوه والطفل الصغير الذي لم يعرف عن
عورات النساء شيئا.
٥ ـ حرمة ضرب ذات
الخلاخل الأرض برجلها حتى لا يعلم ما تخفي من زينتها.
٦ ـ وجوب التوبة
من كل ذنب وعلى الفور للحصول على الفلاح العاجل والآجل.
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
__________________
وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا
تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا
عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ
إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ
مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً
لِلْمُتَّقِينَ (٣٤))
شرح الكلمات :
(وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ) : أي زوجوا من لا زوجة له من رجالكم ومن لا زوج لها من
نسائكم.
(وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) : أي وزوجوا أيضا القادرين والقادرات على أعباء الزواج من
عبيدكم وإمائكم.
(إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : أي إن يكن الأيامى فقراء فلا يمنعكم ذلك من تزويجهم فإن
الله يغنهم.
إن
الله واسع عليم : أي واسع الفضل عليم بحاجة العبد وخلته فيسدها تكرما.
(وَلْيَسْتَعْفِفِ) : أي وليطلب عفة نفسه بالصبر والصيام.
(يَبْتَغُونَ
الْكِتابَ) : أي يطلبون المكاتبة من المماليك
(إِنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْراً) : أي قدرة على السداد والإستقلال عنكم.
(وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ
اللهِ) : أي اعينوهم بثمن نجم من نجوم المكاتبة من الزكاة وغيرها.
(عَلَى الْبِغاءِ إِنْ
أَرَدْنَ تَحَصُّناً) : أي الزنى تحصنا أي تعففا وتحفظا من فاحشة الزنا.
(عَرَضَ الْحَياةِ
الدُّنْيا) : أي المال.
(وَمَنْ يُكْرِهْهُنَ) : أي على البغاء «الزنى».
(مُبَيِّناتٍ) : للأحكام موضحة لما يطلب منكم فعله وتركه.
(وَمَثَلاً مِنَ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) : أي قبلكم : أي قصصا من أخبار الأولين كقصة يوسف وقصة
مريم وهما شبيهتان بحادثة الإفك.
(وَمَوْعِظَةً) : الموعظة ما يتعظ به العبد فيسلك سبيل النجاة.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
ذكر الأسباب الواقية من وقوع الفاحشة فأمر تعالى في الآية الأولى من هذا السياق (٣٢)
أمر جماعة المسلمين أن يزوجوا الأيامى من رجالهم ونسائهم بالمساعدة على ذلك
والإعانة عليه حتى لا يبقى في البلد أو القرية عزب إلا نادرا ولا فرق بين البكر
والثيب في ذلك فقال تعالى : (وَأَنْكِحُوا) والأمر للإرشاد (الْأَيامى) جمع أيّم وهو من لا زوج له من رجل أو امرأة بكرا كان أو
ثيبا ، (مِنْكُمْ) أي من جماعات المسلمين لا من غيرهم كأهل الذمة من
الكافرين. وقوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) أي وزوجوا القادرين على مؤونة الزواج وتبعاته ، وتكاليفه
من مماليككم وقوله : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَراءَ) غير موسرين لا يمنعكم ذلك من تزويجهم فقد تكفل الله بغناهم
بعد تزويجهم بقوله : (يُغْنِهِمُ اللهُ
مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) أي واسع الفضل عليم بحاجة المحتاجين وأمر تعالى في هذه
الآية من لا يجد نكاحا لانعدام الزوج أو الزوجة مؤقتا أو انعدام مؤونة الزواج من
مهر ووليمة أن يستعفف أي يعف نفسه بالصبر والصيام والصلاة حتى لا يتطلع إلى الحرام
فيهلك فقال تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى
يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) والله واسع عليم أي واسع الفضل مطلق الغنى عليم بحال عباده
وحاجة المحتاجين منهم. وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) هذه مسألة ثالثة تضمنتها هذه
__________________
الآية وهي إذا كان
للمسلم عبد وطلب منه أن يكاتبه. وكان أهلا للتحرر بأن يقدر على تسديد مال
المكاتبة. ويستطيع أن يستقل بنفسه فعلى مالكه أن يكاتبه ، وأن يعينه على ذلك
بإسقاط نجم من نجوم الكتابة ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ
مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) وقوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) أي على الزنا وهي مسألة رابعة تضمنتها هذه الآية وهي أن
جاريتين كانتا لعبد الله بن أبي بن سلول المنافق يقال لهما معاذة ومسيكة قد أسلمتا
فأمرهما بالزنا لتكسبا له بفرجيهما كما هي عادة أهل الجاهلية قبل الإسلام فشكتا
ذلك لرسول الله صلىاللهعليهوسلم فأنزل الله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَياةِ الدُّنْيا) أي لأجل مال قليل يعرض لكم ويزول عنكم بسرعة. وقوله : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ
مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي لهن رحيم بهن لأن المكره لا إثم عليه فيما يقول ولا فيما
يفعل فامتنع المنافق من ذلك.
وقوله تعالى في
الآية الثانية (٣٤) (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا
إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي ولقد أنزلنا إليكم أيها المسلمون آيات أي قرآنيّة
مبينات أي موضحات للشرائع والأحكام والآداب فاعملوا بها تكملوا في حياتكم وتسعدوا
في دنياكم وآخرتكم. وقوله : (وَمَثَلاً مِنَ
الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) أي قصصا من أخبار الأولين كقصة يوسف ومريم عليهماالسلام وهما شبيهتان بحادثة الإفك وقوله : (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وهي ما تضمنته الآيات من الوعيد والوعد والترغيب والترهيب
وكونها للمتقين بحسب الواقع وهو أن المتقين هم الذين ينتفعون بالمواعظ دون
الكافرين والفاجرين.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ انتداب
المسلمين حاكمين ومحكومين للمساعدة على تزويج الأيامى من المسلمين أحرارا وعبيدا.
٢ ـ وجوب
الاستعفاف على من لم يجد نكاحا والصبر حتى ييسر الله أمره.
٣ ـ عدة الله
للفقير إذا تزوج بالغنى.
__________________
٤ ـ تعين مكاتبة
العبد إذا توفّرت فيه شروط المكاتبة.
٥ ـ حرمة الزنا
بالإكراه أو بالاختيار ومنع ذلك بإقامة الحدود.
٦ ـ صيغة المكاتبة
أن يقول السيد للعبد لقد كاتبتك على ثلاثة آلاف دينار منجمة أي مقسطة على ستة نجوم
تدفع في كل شهر نجما أي قسطا. على أنك إذا وفيتها في آجالها فأنت حر ، وعليه
أشهدنا وحرر بتاريخ كذا وكذا.
٧ ـ بيان فضل سورة
النور لما احتوته من أحكام في غاية الأهمية.
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ
فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ
مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ
يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
(٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ
لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا
بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ
يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨))
شرح الكلمات :
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ) : أي منورهما فلولاه لما كان نور في السموات ولا في
الأرض ، والله
تعالى نور وحجابه النور.
(مَثَلُ نُورِهِ) : أي في قلب عبده المؤمن.
(كَمِشْكاةٍ) : أي كوة
(كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) : أي مضىء اضاءة الدر الوهاج.
(نُورٌ عَلى نُورٍ) : أي نور النار على نور الزيت.
(يَهْدِي اللهُ
لِنُورِهِ) : أي للإيمان به والعمل بطاعته من يشاء له ذلك لعلمه
برغبته وصدق نيته.
(وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ) : أي ويجعل الله الأمثال للناس من أجل أن يفهموا عنه
ويعقلوا ما يدعوهم إليه.
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) : هي المساجد ورفعها إعلاء شأنها من بناء وطهارة وصيانة.
(يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) : يوم القيامة.
(يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ
بِغَيْرِ حِسابٍ) : أي بلا عدّ ولا كيل ولا وزن وهذا شأن العطاء إن كان
كثيرا.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) يخبر تعالى أنه لولاه لما كان في الكون نور ولا هداية في
السموات ولا في الأرض فهو تعالى منورهما فكتابه نور ورسوله نور أي يهتدي بهما في
ظلمات الحياة كما يهتدي بالنور الحسي والله ذاته نور وحجابه نور فكل نور حسي أو
معنوي الله خالقه وموهبه وهاد إليه.
وقوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) أي كوة في جدار (فِيها مِصْباحٌ
الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) من بلور ، و (الزُّجاجَةُ) في صفائها وصقالتها مشرقة (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌ) والكوكب الدري هو المضيء المشرق كأنه درة بيضاء صافية ،
وقوله : (يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) أي وزيت
__________________
المصباح من شجرة
مباركة وهي الزيتونة والزيتونة لا شرقية ولا غربية في موقعها من البستان لا ترى
الشمس إلا في الصباح ، ولا غربية لا ترى الشمس إلا في المساء بل هي وسط البستان
تصيبها الشمس في كامل النهار فلذا كان زيتها في غاية الجودة يكاد يشتعل لصفائه ،
ولو لم تمسه نار ، وقوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) أي نور النار على نور الزيت وقوله تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يخبر تعالى أنه يهدي لنوره الذي هو الإيمان والإسلام
والإحسان من يشاء من عباده ممن علم أنهم يرغبون في الهداية ويطلبونها ويكملون
ويسعدون عليها.
وقوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ
الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يخبر تعالى : أنه يضرب الأمثال للناس كهذا المثل الذي ضربه
للإيمان وقلب عبده المؤمن وأنه عليم بالعباد وأحوال القلوب ، ومن هو أهل
للهداية ومن ليس لها بأهل ، إذ هو بكل شيء عليم.
وقوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ
اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي المصباح في بيوت أذن الله أي أمر ووصّى أن ترفع حسا
ومعنى وهي المساجد فتطهر من النجاسات ومن اللغو فيها وكلام الدنيا ، وتصان وتحفظ من كل ما يخل بمقامها الرفيع لأنها بيوت الله
تعالى ، وقوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا
اسْمُهُ) أي بالأذان والإقامة والصلاة والتسبيح والدعاء وقراءة
القرآن. وقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) أي لله في تلك البيوت (بِالْغُدُوِّ) أي بالصباح (وَالْآصالِ) أي المساء (رِجالٌ) مؤمنون صادقون أبرار متقون (لا تُلْهِيهِمْ
تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) أي لا شراء ولا بيع (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) فقلوبهم ذاكرة غير غافلة وألسنتهم ذاكرة غير لاهية ولا
لاغية (وَإِقامِ الصَّلاةِ
وَإِيتاءِ الزَّكاةِ) أي لا تلهيهم دنياهم عن آخرتهم فهم يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة.
وقوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) أي من شدة الخوف وعظم الفزع والهول وهو يوم القيامة وقوله
تعالى : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ
أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ)
__________________
أي إنهم فعلوا ما
فعلوا من التسبيح وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة معرضين عن كل ما يشغلهم عن عبادة
ربهم فتأهلوا بذلك للثواب العظيم ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله فوق
ما استحقوه بأعمالهم وتقواهم لربهم ، والله يرزق من يشاء بغير حساب وذلك لعظيم
فضله وسابق رحمته فيعطي بدون عد ولا كيل ولا وزن وذلك لعظم العطاء وكثرته.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ كل خير وكل
نور وكل هداية مصدرها الله تعالى فهو الذي يطلب منه ذلك.
٢ ـ استحسان ضرب
الأمثال لتقريب المعاني إلى الأذهان والفهوم.
٣ ـ الإشارة إلى
أن ملة الإسلام لا يهودية ولا نصرانية ، لا اشتراكية ولا رأسمالية. بل هي الملة
الحنيفية من دان بها هدى ومن كفرها ضل.
٤ ـ وجوب تعظيم
بيوت الله تعالى «المساجد» بتطهيرها ورفع بنيانها وإخلائها إلا من ذكر الله والصلاة وطلب العلم
فيها.
٥ ـ ثناء الله
تعالى على من لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ
لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ
سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ
فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا
أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما
لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ
__________________
عَلِمَ
صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢))
شرح الكلمات :
(كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) : السراب شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء ، والقيعة
جمع قاع وهو ما انبسط من الأرض.
(الظَّمْآنُ) : العطشان.
(بَحْرٍ لُجِّيٍ) : أي ذو لجج واللجة معظم الماء وغزيره كما هي الحال في المحيطات.
(يَغْشاهُ مَوْجٌ) : يعلوه ويغطيه موج آخر.
(يُسَبِّحُ لَهُ) : ينزه ويقدس بألفاظ التسبيح والتقديس كسبحان الله ونحوه
والصلاة من التسبيح.
(صَافَّاتٍ) : باسطات أجنحتها.
(قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) : أي كل من في السموات والأرض قد علم الله صلاته وتسبيحه
كما أن كل مسبح ومصل قد علم صلاة وتسبيح نفسه.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ
كَسَرابٍ) لما بين تعالى حال المؤمنين وأنه تعالى وفاهم أجرهم بأحسن
مما كانوا يعملون وزادهم من فضله ذكر هنا حال الكافرين وهو أن أعمالهم في خسرانها
وعدم الانتفاع بها كسراب وهو شعاع أبيض يرى في نصف النهار وكأنه ماء (بِقِيعَةٍ) أي بقاع من الأرض وهو الأرض المنبسطة. (يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) أي يظنه العطشان ماء وما هو بماء ولكنه سراب خادع (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ
شَيْئاً) لأنه سراب لا غير. فيا للخيبة ، خيبة ظمآن يقتله العطش
فرأى سرابا فجرى وراءه يظنه ماء فإذا به لم يجد الماء ، ووجد الحق تبارك وتعالى
فحاسبه على كل أعماله وهي في جملتها أعمال إجرام وشر وفساد فوفاه إياها فخسر
خسرانا مبينا ، (وَاللهُ سَرِيعُ
الْحِسابِ) فما هي إلا لحظات والكافر في سواء الجحيم. هذا مثل تضمنته
الآية الأولى (٣٩) ومثل آخر تضمنته الآية الثانية (٤٠)
__________________
وهو مثل مضروب
لضلال الكافر وحيرته في حياته وما يعيش عليه من ظلمة الكفر وظلمة العمل السيىء
والإعتقاد الباطل وظلمة الجهل بربه وما يريده منه ، وما أعده له قال تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍ) أي ذي لجج من الماء (يَغْشاهُ) أي يعلوه (مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ
مَوْجٌ) أي من فوق الموج موج آخر (مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ). والسحاب عادة مظلم فهي (ظُلُماتٌ بَعْضُها
فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) لشدة الظلمة هذه حال الكافر في هذه الحياة الدنيا ، وهي
ناتجة عن إعراضه عن ذكر ربه وتوغله في الشر والفساد وقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ
يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ). أعلم تعالى عباده أن النور له وبيده فمن لم يطلبه منه
حرمه وعاش في الظلمات والعياذ بالله.
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله تعالى يسبح له من
في السموات من الملائكة والأرض أي ومن في الأرض بلسان القال والحال معا والطير صافات أي باسطات أجنحتها تسبح الله تعالى بمعنى تنزهه
بألفاظ التنزيه كسبحان الله. فإن امتنع المشركون أهل الظلمات من الإيمان بالله
وعبادته وتوحيده فيها فإن الله تعالى يسبح له الخلق كله علويه وسفليه فالكافر وإن
لم يسبح بلسانه فحاله تسبح فخلقه وتركيبه وأقواله وأعماله كلها تسبح الله خالقه
فهي شاهدة على قدرة الله وعلمه وحكمته وأنه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله تعالى
: (كُلٌ) أي ممن في السموات والأرض والطير قد علم الله صلاته
وتسبيحه كما أن كلا منهم قد علم صلاته لله تعالى وتسبيحه له (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) أي والله عليم بأفعال عباده ، ويجزيهم بها وهو على ذلك
قدير إذ له ملك السموات والأرض وإليه المصير أي مصير كل شيء إليه تعالى فهو الذي
يحكم فيه بحكمه العادل.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ استحسان ضرب
الأمثال لتقريب المعاني البعيدة إلى الأذهان.
٢ ـ بيان خسران
الكافرين في أعمالهم وحياتهم كلها.
٣ ـ بيان حال
الكافرين في هذه الدنيا وأنهم يعيشون في ظلمات الجهل والكفر والظلم.
٤ ـ تقرير حقيقة
وهي أن من لم يجعل الله له نورا في قلبه لن يكن له نور في حياته كلها.
٥ ـ بيان أن الكون
كله يسبح لله كقوله تعالى : (يُسَبِّحُ لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ).
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى
الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها
مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ
سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ
إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما
يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ
مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦))
شرح الكلمات :
(يُزْجِي سَحاباً) : أي يسوق برفق ويسر.
(ثُمَّ يُؤَلِّفُ
بَيْنَهُ) : أي يجمع بين أجزائه وقطعه.
(ثُمَّ يَجْعَلُهُ
رُكاماً) : أي متراكما بعضه فوق بعض.
(الْوَدْقَ) : أي المطر.
(يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ) : أي من فرجه ومخارجه.
(مِنْ جِبالٍ فِيها
مِنْ بَرَدٍ) : أي من جبال من برد في السماء والبرد حجارة بيضاء كالثلج.
(فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ
يَشاءُ) : أي فيصيب بالبرد من يشاء.
(سَنا بَرْقِهِ) : أي لمعانه.
(يَذْهَبُ
بِالْأَبْصارِ) : أي الناظرة إليه
(لَعِبْرَةً) : أي دلالة على وجود الله تعالى وقدرته وعلمه ووجوب
توحيده.
(كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ
ماءٍ) : أي حيوان من نطفة.
(عَلى بَطْنِهِ) : كالحيات والهوام.
(عَلى رِجْلَيْنِ) : كالإنسان والطير.
(عَلى أَرْبَعٍ) : أي كالأنعام والبهائم.
(إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) : أي إلى الإسلام.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية وهي الموجبة لله تعالى العبادة دون سواه
فقال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً) أي ألم ينته إلى علمك يا رسولنا أن الله يزجي سحابا أي يسوقه برفق وسهولة (ثُمَّ يُؤَلِّفُ) أي يجمع بين أجزائه فيجعله ركاما أي متراكما بعضه على بعض (فَتَرَى الْوَدْقَ) أي المطر (يَخْرُجُ مِنْ
خِلالِهِ) أي من فتوقه وشقوقه. والخلال جمع خلل كجبال جمع جبل وهو
الفتوق بين أجزاء السحاب وهو مظهر من مظاهر القدرة والعلم. وقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ
فِيها مِنْ بَرَدٍ) أي ينزل بردا من جبال البرد المتراكمة في السماء فيصيب
بذلك البرد من يشاء فيهلك به زرعه أو ماشيته ، ويصرفه عمن يشاء من عباده فلا يصيبه
شيء من ذلك وهذا مظهر آخر من مظاهر
__________________
القدرة واللطف
الإلهي وقوله : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) أي يقرب لمعان البرق الذي هو سناه يذهب بالأبصار التي تنظر
إليه أي يخطفها بشدة لمعانه.
وقوله تعالى (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بأن يظهر هذا ويخفي هذا فإذا ظهر النهار اختفى الليل ،
وإذا ظهر الليل اختفى النهار فيقلب أحدهما على الآخر فيخفيه ويستره به وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي
الْأَبْصارِ) أي إن في إنزال البرد ولمعان البرق وتقليب الليل والنهار
لعظة عظيمة لأولى البصائر تهديهم إلى الإيمان بالله وجلاله وكماله فيعبدونه
ويوحدونه محبّين له معظمين راجعين خائفين إن هذه ثمرة الهداية هذا ما دلت عليه
الآيتان الأولى (٤٣) والثانية (٤٤) أما الآية (٤٥) فقد اشتملت على أعظم مظهر من
مظاهر القدرة الإلهية فقال تعالى : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ) أي من إنسان وحيوان (مِنْ ماءٍ) أي نطفة من نطف الإنسان والحيوان ، (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) كالحيات والثعابين والأسماك ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى
رِجْلَيْنِ) كالإنسان والطير ، (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) كالأنعام والبهائم ، وقوله : (يَخْلُقُ اللهُ ما
يَشاءُ) إذ بعض الحيوانات لها أكثر من أربع وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي على فعل وإيجاد ما يريده قدير لا يعجزه شيء فأين الله
الخالق العليم الحكيم من تلك الأصنام والأوثان التي يؤلهها الجاهلون من أهل الشرك
والكفر؟
وقوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي واضحات لأجل هداية العباد إلى طريق سعادتهم وكمالهم وهي
هذه الآيات التي اشتملت عليها سورة النور وغيرها من آيات القرآن الكريم فمن آمن
بها ونظر فيها وأخذ بما تدعو إليه من الهدى اهتدى ، ومن أعرض عنها فضل وشقى فلا
يلومن إلا نفسه ، (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) هدايته ممن رغب في الهداية وطلبها وسلك لها مسالكها (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ألا وهو الإسلام طريق الكمال والسعادة في الحياتين اللهم
اجعلنا من أهله إنك قدير.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مظاهر قدرة
الله وعلمه وحكمته وهي موجبات الإيمان والتقوى.
٢ ـ بيان كيفية
نزول المطر والبرد.
٣ ـ مظاهر لطف
الله بعباده في صرف البرد عن الزرع والماشية وبعض عباده.
٤ ـ مظاهر القدرة
والعلم في تقليب الليل والنهار على بعضهما بعضا.
٥ ـ بيان أصناف
المخلوقات في مشيها على الأرض بعد خلقها من ماء وهو مظهر العلم والقدرة.
٦ ـ امتنان الله
تعالى على العباد بإنزاله الآيات المبينات للهدى وطريق السعادة والكمال.
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا
بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ
ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ
لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ
أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا
إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا
وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ
وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفائِزُونَ (٥٢))
__________________
شرح الكلمات :
(وَيَقُولُونَ) : أي المنافقون.
(آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ) : أي صدقنا بتوحيد الله وبنبوة الرسول محمد صلىاللهعليهوسلم.
(ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ) : أي يعرض.
(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ) : أي عن المجىء إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم.
(مُذْعِنِينَ) : أي مسرعين منقادين مطيعين.
(فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ) : أي كفر ونفاق وشرك.
(أَمِ ارْتابُوا) : أي بل شكوا في نبوة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
(أَنْ يَحِيفَ اللهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) : أي في الحكم فيظلموا فيه.
(إِنَّما كانَ قَوْلَ
الْمُؤْمِنِينَ) : هو قولهم سمعنا وأطعنا أي سمعا وطاعة.
(الْمُفْلِحُونَ) : أي الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنة.
معنى الآيات :
بعد عرض تلك
المظاهر لقدرة الله وعلمه وحكمته والموجبة للإيمان بالله ورسوله ، وما عند الله من
نعيم مقيم ، وما لديه من عذاب مهين فاهتدى عليها من شاء الله هدايته وأعرض عنها من
كتب الله شقاوته من المنافقين الذين أخبر تعالى عنهم بقوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ
وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا) أي صدقنا بالله ربّا وإلها وبمحمد نبيا ورسولا ، وأطعناهما
(ثُمَّ يَتَوَلَّى
فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد تصريحهم بالإيمان والطاعة يقولون معرضين بقلوبهم
عن الإيمان بالله وآياته ورسوله ، (وَما أُولئِكَ
بِالْمُؤْمِنِينَ) فأكذبهم الله في دعوة إيمانهم هذا ما دلت عليه الآية
الأولى (٤٧) وقوله تعالى : (وَإِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) أي في قضية من قضايا دنياهم ، (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) أي فاجأك فريق منهم بالإعراض عن التحاكم إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم
وقوله : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ) أي وإن يكن لهم في الخصومة التي بينهم وبين غيرهم (يَأْتُوا إِلَيْهِ) أي إلى رسول الله (مُذْعِنِينَ) أي منقادين طائعين أي لعلمهم أن الرسول يقضي بينهم بالحق
وسوف يأخذون حقهم وافيا وقوله تعالى : (أَفِي
__________________
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي بل في قلوبهم مرض الكفر والنفاق. (أَمِ ارْتابُوا) أي بل ارتابوا أي شكوا في نبوة رسول الله صلىاللهعليهوسلم. (أَمْ يَخافُونَ أَنْ
يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) لا ، لا ، (بَلْ أُولئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ) ، ولما كانوا ظالمين يخافون حكم الله ورسوله فيهم لأنه
عادل فيأخذ منهم ما ليس لهم ويعطيه لمن هو لهم من خصومهم وقوله تعالى : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) أي الصادقين في إيمانهم (إِذا دُعُوا إِلَى
اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) أي لم يكن للمؤمنين الصادقين من قول يقولونه إذا دعوا إلى
كتاب الله ورسوله ليحكم بينهم إلا قولهم : سمعنا وأطعنا فيجيبون الدعوة ويسلمون
بالحق قال تعالى في الثناء عليهم (وَأُولئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ) أي الناجحون في دنياهم وآخرتهم دون غيرهم من أهل النفاق. وقوله
تعالى : في الآية الكريمة الأخيرة (٥٢) (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ) أي فيما يأمران به وينهيان عنه ، (وَيَخْشَ اللهَ) أي يخافه في السر والعلن ، (وَيَتَّقْهِ) أي يتق مخالفته فلا يقصر في واجب ولا يغشى محرما ، (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) فقصر الفوز عليهم أي هم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة
المنعمون في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. اللهم اجعلنا
منهم واحشرنا في زمرتهم إنك ربنا وربهم.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب التحاكم
إلى الكتاب والسنة.
٢ ـ من دعي إلى
الكتاب والسنة فأعرض فهو منافق معلوم النفاق.
٣ ـ اتخاذ قوانين
وضعية للتحاكم إليها دون كتاب الله وسنة رسوله آية الكفر والنفاق.
٤ ـ فضل طاعة الله
ورسوله وتقوى الله عزوجل وأن أهلها هم الفائزون بالنجاة من النار ودخول الجنان.
__________________
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ
مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ
وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ
إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ
(٥٥))
شرح الكلمات :
(وَأَقْسَمُوا بِاللهِ
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) : أي حلفوا بالله بالغين غاية الجهد في حلفهم.
(لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) : أي بالخروج إلى الجهاد.
(طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) : أي طاعة معروفة للنبي فيما يأمركم وينهاكم خير من
إقسامكم بالله.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) : أي فإن تتولوا أي تعرضوا عن الطاعة.
(عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) : أي من ابلاغ الرسالة وبيانها بالقول والعمل.
(وَعَلَيْكُمْ ما
حُمِّلْتُمْ) : أي من وجوب قبول الشرع والعمل به عقيدة وعبادة وحكما.
(وَإِنْ تُطِيعُوهُ
تَهْتَدُوا) : أي وإن تطيعوا الرسول في أمره ونهيه وإرشاده تهتدوا إلى
خيركم.
(لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ) : أي يجعلهم خلفاء لغيرهم فيها بأن يديل لهم من أهلها
فيسودون فيها ويحكمون.
(وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ) : أي بأن يظهر الإسلام على سائر الأديان ويحفظه من الزوال.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر أحوال المنافقين فأخبر تعالى عنهم بقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ
أَيْمانِهِمْ) أي أقسموا للرسول صلىاللهعليهوسلم مبالغين في ذلك حتى بلغوا غاية الجهد قائلين لئن أمرتنا
بالخروج إلى الجهاد لنخرجن معكم. وهنا أمر تعالى رسوله أن يقول لهم : (لا تُقْسِمُوا) أي ما هناك حاجة إلى الحلف وتأكيده ، وإنما هي طاعة منكم
معروفة لنا تغنيكم عن الأيمان وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما
تَعْمَلُونَ) تأنيب لهم وتأديب حيث أخبرهم تعالى بأنه مطلع على أسرارهم
وما يقولونه ويعملونه في الخفاء ضد الرسول والمؤمنين ثم أمر تعالى رسوله أن يقول
لهم : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في كل ما يأمران به وينهيان عنه ، (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي تعرضوا عن الطاعة وترفضوها ، فإنما على الرسول ما حمل
من البلاغ والبيان ، وعليكم ما حملتم من وجوب الانقياد والطاعة ، ومن أخل بواجبه
الذي أنيط به فسوف يلقى جزاءه وافيا عند ربه وقوله تعالى : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) هذه الجملة عظيمة الشأن جليلة القدر للمؤمن أن يحلف بالله
ولا يحنث على أن من أطاع رسول الله في أمره ونهيه لن يضل أبدا ولن يشقى فالهداية
إلى كل خير كامنة في طاعة رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقوله تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) أي ليس على الرسول هداية القلوب ، وإنما عليه البلاغ
المبين لا غير فلا تلحق الرسول تبعة من عصى فضلّ وهلك.
وقوله تعالى في
الآية (٥٥) (وَعَدَ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) أي صدقوا الله والرسول (وعملوا الصالحات) فأقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض أي
يجعلهم خلفاء حاكمين في أهلها سائدين سكانها استخلافا كاستخلاف الذين من قبلهم من
بني إسرائيل حيث أجلى الكنعانيين والعمالقة من أرض القدس وورثها بني إسرائيل وقول
: (وَلَيُمَكِّنَنَّ
لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ) وهو الإسلام
__________________
فيظهره على الدين
كله ويحفظه من التغيير والتبديل والزوال إلى قرب الساعة وقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ
بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) إذ نزلت هذه الآية والمسلمون خائفون بالمدينة لا يقدر
أحدهم أن ينام وسيفه بعيد عنه من شدة الخوف من الكافرين والمنافقين وتألب الأحزاب
عليهم ولقد أنجز تعالى لهم ما وعدهم فاستخلفهم وأمكن لهم وبدلهم بعد خوفهم أمنا
فلله الحمد والمنة.
وقوله : (يَعْبُدُونَنِي لا
يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً) هذا ثناء عليهم ، وتعليل لما وهبهم وأعطاهم يعبدونه لا
يشركون به شيئا وقد فعلوا وما زال بقاياهم من الصالحين إلى اليوم يعبدون الله وحده
ولا يشركون به شيئا اللهم اجعلنا منهم. وقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ) وعيد وتهديد لمن كفر بعد ذلك الإنعام العظيم والعطاء
الجزيل فأولئك هم الفاسقون عن أمر الله الخارجون عن طاعته المستوجبون لعذاب الله
ونقمته. عياذا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ مشروعية
الإقسام بالله تعالى وحرمة الحلف بغيره تعالى.
٢ ـ عدم الثقة في
المنافقين لخلوهم من موجب الصدق في القول والعمل وهو الإيمان.
٣ ـ طاعة رسول
الله موجبة للهداية لما فيه من سعادة الدارين ومعصيته موجبة للضلال والخسران.
٤ ـ صدق وعد الله
تعالى لأهل الإيمان وصالح الأعمال من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
٥ ـ وجوب الشكر
على النعم بعبادة الله تعالى وحده بما شرع من أنواع العبادات.
٦ ـ الوعيد الشديد
لمن أنعم الله عليه بنعمة أمن ورخاء وسيادة وكرامة فكفر تلك النعم ولم يشكرها
فعّرضها للزوال.
__________________
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ
النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧))
شرح الكلمات :
(وَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) : أي أدوها أداءا كاملا تاما مراعين فيها شروطها وأركانها
وواجباتها وسننها حتى تثمر الزكاة والطهر في نفوسكم.
(وَآتُوا الزَّكاةَ) : أي المفروضة من المال الصامت كالذهب والفضة والحرث
والناطق كالأنعام من إبل وبقر وغنم.
(وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ) : أي محمدا صلىاللهعليهوسلم في أمره ونهيه والأخذ بإرشاده وتوجيهه.
(لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ) : أي رجاء أن يرحمكم ربكم في دنياكم وآخرتكم فلا يعذبكم
فيهما (مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ) : أي معجزين الله تعالى بحيث لا يدركهم ولا ينزل بهم نقمته
وعذابه.
(وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) : أي النار إذ هي المأوى الذي يأوون إليه ويصيرون إليه.
معنى الايتين :
يأمر تعالى عباده
المؤمنين من أصحاب الرسول الكريم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم في أمره ونهيه وإرشاده وتوجيهه وذلك رجاء أن يرحموا في
الدارين ، ولا يعذبوا فيهما. وهذا وإن كان موجها ابتداء إلى أصحاب الرسول فإنه عام
بعد ذلك فيشمل كل مؤمن ومؤمنة في الحياة وقوله (لا تَحْسَبَنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي
الْأَرْضِ) هذا خطاب للرسول صلىاللهعليهوسلم ينهاه ربه تعالى أن يظن أن الذين كفروا مهما كانت قوتهم
سيفوتون الله تعالى ويهربون مما أراد بهم من خزي وعذاب ، لا ، لابل سيخزيهم ويذلهم
ويسلط عليهم ، وقد فعل (وَمَأْواهُمُ
النَّارُ) يوم القيامة (وَلَبِئْسَ
الْمَصِيرُ) نار جهنم يصيرون إليها.
__________________
هداية الآيتين :
من
هداية الآيتين :
١ ـ وجوب إقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم للحصول على رحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة في الدنيا
بالنصر والتمكين والأمن والسيادة وفي الآخرة بدخول الجنة.
٢ ـ تقرير عجز
الكافرين وأنهم لن يفوتوا الله تعالى مهما كانت قوتهم وسينزل بهم نقمته ويحل عليهم
عذابه.
٣ ـ بيان مصير أهل
الكفر وأنه النار والعياذ بالله تعالى.
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ
صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ
صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ
جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ
يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ
عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠))
شرح الكلمات :
(لِيَسْتَأْذِنْكُمُ) : أي ليطلب الاذن منكم في الدخول عليكم.
(مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ) : من عبيد وإماء.
(لَمْ يَبْلُغُوا
الْحُلُمَ مِنْكُمْ) : أي سن التكليف وهو وقت الاحتلام خمسة عشر سنة فما فوق.
(تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ) : أي وقت القيلولة للإستراحة والنوم.
(ثَلاثُ عَوْراتٍ
لَكُمْ) : العورة ما يستحي من كشفه ، وهذه الأوقات الثلاثة ينكشف
فيها الإنسان في فراشه فكانت بذلك ثلاث عورات.
(بَعْدَهُنَ) : أي بعد الأوقات الثلاثة المذكورة.
(طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ) : أي للخدمة.
(بَعْضُكُمْ عَلى
بَعْضٍ) : أي بعضكم طائف على بعض.
(فَلْيَسْتَأْذِنُوا) : أي في جميع الأوقات لأنهم أصبحوا رجالا مكلفين.
(وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ) : أي اللاتي قعدن عن الحيض والولادة لكبر سنهن.
(أَنْ يَضَعْنَ
ثِيابَهُنَ) : كالجلباب والعباءة والقناع والخمار.
(غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ
بِزِينَةٍ) : أي غير مظهرات زينة خفية كقلادة وسوار وخلخال.
(وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) : بأن لا يضعن ثيابهن خير لهن من الأخذ بالرخصة.
معنى الآيات :
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) روى في نزول هذه الآية أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له مدلج إلى عمر بن الخطاب
يدعوه له فوجده نائما في وقت الظهيرة فدق الباب ودخل فاستيقظ عمر فانكشف منه شىء
فقال عندها عمر وددت أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا في
هذه الساعة إلا بإذن ، ثم انطلق إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوجد هذه الآية قد أنزلت فخر ساجدا شكرا لله تعالى.
فقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو نداء لكل المؤمنين في كل عصورهم وديارهم. وقوله (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ
لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) أي علموا أطفالكم وخدمكم الاستئذان عليكم في هذه الأوقات
الثلاثة وأمروهم بذلك. وقوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ) هي المبينة في قوله : (مِنْ قَبْلِ صَلاةِ
__________________
الْفَجْرِ) وهي ساعات النوم من الليل ، (وَحِينَ تَضَعُونَ
ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ) وهي القيلولة ، (وَمِنْ بَعْدِ) (صَلاةِ الْعِشاءِ) وهي بداية نوم الليل. وقوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) أي هي منطقة انكشاف العورة فيها فاطلق عليها اسم العورة
والعورة ما يستحي من كشفه وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
وَلا عَلَيْهِمْ) أي ولا على الأطفال والخدم (جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي بعد المرات الثلاث وقوله : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي يدخلون ويخرجون عليكم للخدمة. (بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) أي بعضكم يدخل على بعض للخدمة فلا غنى عنه فلذا فلا حرج
عليكم في غير الأوقات الثلاثة.
وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ) أي كهذا التبيين الذي بين لكم حكم الاستئذان يبين الله لكم
الآيات المتضمنة للشرائع والأحكام والآداب فله الحمد وله المنه وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) أي بخلقه وما يحتاجون إليه في إكمالهم وإسعادهم (حَكِيمٌ) فيما يشرع لهم ويفرض عليهم.
وقوله تعالى في
الآية الثانية (٥٩) (وَإِذا بَلَغَ
الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) أي إذا بلغ الطفل سن الاحتلام وهو البلوغ واحتلم فعليه أن
لا يدخل على غير محارمه إلا بعد الإستئذان كما يفعل ذلك الرجال من قبله إذ قد أصبح
بالبلوغ الذي علامته الإحتلام أو بلوغ خمس عشرة سنة فأكثر أصبح رجلا تماما فعليه
أن لا يدخل بيت أحد إلا بعد أن يستأذن هذا معنى قوله تعالى : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ
الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وهم الرجال وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ
اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أي المتضمنة لأحكامه وشرائعه (وَاللهُ عَلِيمٌ) بخلقه وما يصلح لهم (حَكِيمٌ) في شرعه وهذه حال توجب طاعته تعالى فيما يأمر به وينهى عنه
وقوله تعالى : (وَالْقَواعِدُ مِنَ
النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ
نِكاحاً) أي والتي قعدت عن الحيض والولادة لكبر سنها بحيث أصبحت لا
ترجو نكاحا ولا يرجى منها ذلك فهذه ليس عليها إثم ولا حرج في أن تضع خمارها من فوق
رأسها ، أو عباءتها من فوق ثيابها التي على
__________________
جسمها حال كونها
غير متبرجة أي مظهرة زينة لها كخضاب اليدين والأساور في المعصمين
والخلاخل في الرجلين ، أو أحمر الشفتين ، وما إلى ذلك مما هو زينة يجب ستره وقوله
تعالى : (وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي ومن لازمت خمارها وعجارها ولم تظهر للأجانب كاشفة وجهها
ومحاسنها خير لها حالا ومآلا ، وحسبها أن يختار الله لها فما اختاره لها لن يكون
إلا خيرا في الدنيا والآخرة فعلى المؤمنات أن يخترن ما اختار الله لهن. وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع لأقوال عباده عليم بأعمالهم وأحوالهم فليتق فيطاع
ولا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب تعليم
الآباء والسادة والأطفال والخدم الإستئذان عليهم في الأوقات الثلاثة المذكورة
والمعبر عنها بالعورات.
٢ ـ وجوب استئذان
الأولاد إذا احتلموا الاستئذان على من يريدون الدخول عليه في بيته لأنهم أصبحوا
رجالا مكلفين.
٣ ـ بيان رخصة كشف
الوجه لمن بلغت سنا لا تحيض فيها ولا تلد للرجال الأجانب ولو أبقت على سترها
واحتجابها لكان خيرا لها كما قال تعالى : (وَأَنْ
يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ).
(لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ
أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا
__________________
جَمِيعاً
أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١))
شرح الكلمات :
الحرج
: الضيق والمراد به
هنا الإثم أي لا إثم على المذكورين في مؤاكلة غيرهم.
(أَوْ ما مَلَكْتُمْ
مَفاتِحَهُ) : أي مما هو تحت تصرفكم بالأصالة أو بالوكالة كوكالة على
بستان أو ماشية.
(أَوْ صَدِيقِكُمْ) : أي من صدقكم الود وصدقتموه.
(جَمِيعاً أَوْ
أَشْتاتاً) : أي مجتمعين على الطعام أو متفرقين.
(مِنْ عِنْدِ اللهِ) : لأنه هو الذي شرعها وأمر بها ، وما كان من عند الله فهو
خير عظيم.
(طَيِّبَةً) : أي تطيب بها نفس المسلم عليه.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
هداية المؤمنين وبيان ما يكملهم ويسعدهم ففي هذه الآية الكريمة. رفع تعالى عنهم
حرجا عظيما كانوا قد شعروا به فآلمهم وهو أنهم قد رأوا أن الأكل مع ذوي العاهات
وهم العميان والعرجان والمرضى وأهل الزمانة قد يترتب عليه أن يأكلوا ما لا يحل لهم
أكله لأن أصحاب هذه العاهات لا يأكلون كما يأكل الأصحاء كما وكيفا والله يقول : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ). كما أن أصحاب العاهات قد تحرجوا أيضا من مؤاكلة الأصحاء
معهم خوفا أن يكونوا يتقذرونهم فآلمهم ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية فرفع الحرج
عن الجميع الأصحاء وأصحاب العاهات فقال تعالى : (لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ آبائِكُمْ
__________________
أَوْ
بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ ، أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ
بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) بوكالة وغيرها ، (أَوْ صَدِيقِكُمْ) وهو من صدقكم المودة وصدقتموه فيها ما دام الرضا حاصلا ،
وإن لم يحضروا ولا استئذان وإن حضروا.
ورفع تعالى عنهم
حرجا آخر وهو أن منهم من كان يتحرج في الأكل وحده ، ويرى أنه لا يأكل إلا مع غيره
وقد يوجد من يتحرج أيضا في الأكل الجماعي خشية أن يؤذي الآكل معه فرفع تعالى ذلك
كله بقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً) أي مجتمعين على قطعة واحدة (أَوْ أَشْتاتاً) أي متفرقين كل يأكل وحده متى بدا له ذلك وهذا كله ناجم عن
تقواهم لله تعالى وخوفهم من معاصيه إذ قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل في قوله
: (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ).
وقوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) فأرشدهم إلى ما يجلب محبتهم وصفاء نفوسهم ويدخل السرور
عليهم وهو أن من دخل بيتا من البيوت بيته كان أو بيت غيره عليه أن يسلم على أهل
البيت قائلا السّلام عليكم ، وإن كان البيت ما به أحد أو كان مسجدا قال : السّلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين وقوله : (تَحِيَّةً مِنْ
عِنْدِ اللهِ) إذ هو تعالى الذي أمر بها وأرشد إليها وقوله (مُبارَكَةً) أي ذات بركة تعود على الجميع وكونها طيبة أن نفوس المسلّم
عليهم تطيب بها.
وقوله تعالى : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ
الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي كذلك البيان الذي بين لكم من الأحكام والآداب يبين الله
لكم الآيات الحاملة للشرائع والأحكام رجاء أن تفهموا عن الله تعالى شرائعه وأحكامه
فتعملوا بها فتكملوا وتسعدوا عليها.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ الإذن العام
فى الأكل مع ذوي العاهات بلا تحرج من الفريقين.
__________________
٢ ـ الإذن في
الأكل من بيوت من ذكر في الآية من الأقارب والأصدقاء.
٣ ـ جواز الأكل
الجماعي والإنفرادي بلا تحرج.
٤ ـ مشروعية
التحية عند الدخول على البيوت وأن فيها خيرا وفضلا.
(إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى
أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا
اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ
وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا
دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ
الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ
عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤))
شرح الكلمات :
(أَمْرٍ جامِعٍ) : كخطبة الجمعة ونحوها مما يجب حضوره كاجتماع لأمر هام
كحرب ونحوها.
(يَسْتَأْذِنُوهُ) : أي يطلبوا منه صلىاللهعليهوسلم الإذن.
(لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ) : أي لبعض أمورهم الخاصة بهم.
(دُعاءَ الرَّسُولِ) : أي نداءه فلا ينادي بيا محمد ولكن بيا نبي الله ورسول
الله.
(كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ
بَعْضاً) : أي كما ينادي بعضكم بعضا بيا عمر ويا سعيد مثلا.
(يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِواذاً) : أي ينسلون واحدا بعد واحد يستر بعضهم بعضا حتى يخرجوا
خفية.
(أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ) : أي زيغ في قلوبهم فيكفروا.
(قَدْ يَعْلَمُ ما
أَنْتُمْ عَلَيْهِ) : أي من الإيمان والنفاق ، وإرادة الخير أو إرادة الشر.
وقد هنا للتأكيد عوملت معاملة رب إذ هي للتقليل وتكون للتكثير أحيانا.
معنى الآيات :
يخبر تعالى أن
المؤمنين الكاملين في إيمانهم هم الذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإذا كانوا معه صلىاللهعليهوسلم في أمر جامع يتطلب حضورهم كالجمعة واجتماعات الحروب ، لم
يذهبوا حتى يستأذنوه صلىاللهعليهوسلم ويأذن لهم هذا معنى قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ
لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ
أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ
لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ
إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذا تعليم للرسول والمؤمنين وتعريض بالمنافقين. فقد
أخبر تعالى أن الذين يستأذنون النبي هم المؤمنون بالله ورسوله ، ومقابله أن الذين
لا يستأذنون ويخرجون بدون إذن هم لا يؤمنون بالله ورسوله وهم المنافقون حقا ، وأمر
رسول الله إذا استأذنه المؤمنون لبعض شأنهم أن يأذن لمن شاء منهم ممن لا أهمية
لحضوره كما أمره أن يستغفر الله لهم لما قد يكون غير عذر شرعي يبيح لهم الاستئذان
وطمعهم في المغفرة بقوله إن الله غفور رحيم.
وقوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ
بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) هذا يحتمل أمورا كلها حق الأول أن يحاذر المؤمنون إغضاب
رسول الله بمخالفته فإنه إن دعا عليهم هلكوا لأن دعاء الرسول لا يرد فليس هو كدعاء
غيره ، والثاني أن لا يدعوا الرسول باسمه يا محمد ويا أحمد بل عليهم أن يقولوا يا
نبي الله ويا رسول الله ، والثالث أن لا يغلظوا في العبارة بل عليهم أن يلينوا
اللفظ ويرققوا العبارة إكبارا وتعظيما لرسول الله صلىاللهعليهوسلم هذا ما تضمنه قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)
وقوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) أعلمهم تعالى أنه يعلم قطعا أولئك المنافقين الذين يكونون
في أمر جامع مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيتسللون واحدا بعد آخر بدون أن يستأذنوا متلاوذين في
هروبهم من المجلس يستر بعضهم بعضا ، وفي هذا تهديد بالغ
__________________
الخطورة لأولئك
المنافقين. وقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ
يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) أي أمر رسول الله وهذا عام للمؤمنين والمنافقين وإلى يوم
القيامة فليحذروا أن تصيبهم فتنة وهي زيغ في قلوبهم فيموتوا كافرين ، أو يصيبهم
عذاب أليم في الدنيا والعذاب ألوان وصنوف.
وقوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) أي خلقا وملكا وعبيدا يتصرف كيف يشاء ويحكم ما يريد ألا
فليتقّ الله عزوجل في رسوله فلا يخالف أمره ولا يعصي في نهيه فإن الله لم
يرسل رسولا إلا ليطاع بإذنه.
وقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) إخبار يحمل التهديد والوعيد أيضا فما عليه الناس من أقوال
ظاهرة وباطنة معلومة لله تعالى ، ويوم يرجعون إلى الله بعد موتهم فينبئهم بما
عملوا من خير وشر ويجزيهم به الجزاء الأوفى ، (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فليحذر أن يخالف رسوله أو يعصي وليتق في أمره ونهيه فإن
نقمته صعبة وعذابه شديد.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ وجوب
الاستئذان من إمام المسلمين إذا كان الأمر جامعا. وللإمام أن يأذن لمن شاء ويترك
من يشاء حسب المصلحة العامة.
٢ ـ وجوب تعظيم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحرمة إساءة الأدب معه حيا وميتا.
٣ ـ وجوب طاعة
رسول الله وحرمة مخالفة أمره ونهيه.
٤ ـ المتجرىء على
الاستهانة بسنة الرسول صلىاللهعليهوسلم يخشى عليه أن يموت على سوء الخاتمة والعياذ بالله.
__________________
سورة الفرقان
مكية وآياتها سبع وسبعون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ
وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً
وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣))
شرح الكلمات :
(تَبارَكَ) : أي تكاثرت بركته وعمت الخلائق كلها.
(الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقانَ) : أي الله الذي نزل القرآن فارقا بين الحق والباطل.
(عَلى عَبْدِهِ) : أي محمد صلىاللهعليهوسلم.
(لِيَكُونَ
لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) : أي ليكون محمد صلىاللهعليهوسلم نذيرا للعالمين من الإنس والجن أي مخوفا لهم من عقاب الله
وعذابه إن كفروا به ولم يعبدوه ويوحدوه.
(فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) : أي سواه تسوية قائمة على أساس لا اعوجاج فيه ولا زيادة
ولا نقص عما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
(ضَرًّا وَلا نَفْعاً) : أي لا دفع ضر ولا جلب نفع.
(مَوْتاً وَلا حَياةً
وَلا نُشُوراً) : أي لا يقدرون على إماتة أحد ولا إحيائه ولا بعثا
للأموات.
__________________
معنى الآيات :
يثني الرب تبارك وتعالى على نفسه بأنه عظم خيره وعمت بركته المخلوقات كلها
الذي نزل الفرقان الكتاب العظيم الذي فرق به بين الحق والباطل والتوحيد والشرك
والعدل والظلم أنزله على عبده ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم ليكون للعالمين الإنس والجن نذيرا ينذرهم عواقب الكفر والشرك
والظلم والشر والفساد وهي عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة وقوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) خلقا وملكا وعبيدا وهو ثناء بعد ثناء وقوله : (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ
لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) وهو ثناء آخر عظيم أثنى تبارك وتعالى فيه على نفسه بالملك
والقدرة والخلق والعلم والحكمة وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ
آلِهَةً) أصناما (لا يَخْلُقُونَ
شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ) فضلا عن غيرهم من عابديهم (ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي دفع ضر ولا جلب نفع ، ولا يملكون موتا لأحد ولا حياة
لآخر ولا نشورا للناس يوم القيامة. أليس هذا موضع تعجب واستغراب أمع الله
الذي عمت بركته الأكوان وأنزل الفرقان ملك ما في السموات والأرض تنزه عن الولد
والشريك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا يتخذون من دونه آلهة
أصناما لا تدفع عن نفسها ضرا ولا تجلب لها نفعا ولا تملك موتا ولا حياة ولا نشورا
فسبحان الله أين يذهب بعقول الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ مظاهر ربوبية
الله تعالى الموجبة لألوهيته وهو إفاضة الخير على الخلق والملك والقدرة والعلم
والحكمة.
٢ ـ التنديد
بالشرك والمشركين.
__________________
٣ ـ تقرير التوحيد
والنبوة والبعث والجزاء.
(وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ
فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها
فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦)
وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ
لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ
كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩))
شرح الكلمات :
(إِفْكٌ افْتَراهُ) : أي ما القرآن إلا كذبا افتراه محمد وليس هو بكلام الله
تعالى هكذا قالوا.
(ظُلْماً وَزُوراً) : أي فرد الله عليهم قولهم بقوله فقد جاءوا ظلما حيث جعلوا
الكلام المعجز الهادي إلى الإسعاد والكمال البشري إفكا مختلقا وزورا بنسبة ما هو
برىء منه إليه.
(اكْتَتَبَها) : أي طلب كتابتها له فكتبت له.
(يَعْلَمُ السِّرَّ) : أي ما يسره أهل السماء والأرض وما يخفونه في نفوسهم.
(أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ
كَنْزٌ) : أي من السماء فينفق منه ولا يحتاج معه إلى الضرب في
الأسواق.
(جَنَّةٌ يَأْكُلُ
مِنْها) : بستان فيه ما يغنيه من أنواع الحبوب والثمار.
(رَجُلاً مَسْحُوراً) : مخدوعا مغلوبا على عقله.
(ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ) : أي بالسحر والجنون والشعر والكهانة والكذب وما إلى ذلك (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) : فضلوا الطريق الحق وهو أنه لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله فلا يهتدون.
معنى الآيات :
يخبر تعالى عن
أولئك المشركين الحمقى الذين اتخذوا من دون الله رب العالمين آلهة أصناما لا تضر
ولا تنفع أنهم زيادة على سفههم في اتخاذ الأحجار آلهة يعبدونها قالوا في القرآن
الكريم والفرقان العظيم ما هو إلا إفك أي كذب اختلقه محمد وأعانه عليه قوم آخرون يعنون اليهود ساعدوه على الإتيان بالقرآن. فقد جاءوا
بهذا القول الكذب الممقوت ظلما وزورا ظلما لأنهم جعلوا القرآن المعجز الحامل للهدى
والنور جعلوه كذبا وجعلوا البريء من الكذب والذي لم يكذب قط كاذبا فكان قولهم فيه
زورا وباطلا. وقوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) هذه الآية نزلت ردا على شيطان قريش النضر بن الحارث إذ كان
يأتي الحيرة ويتعلم أخبار ملوك فارس ورستم. وإذا حدث محمد صلىاللهعليهوسلم قومه محذرا إياهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فإذا قام صلىاللهعليهوسلم من المجلس جاء هو فجلس وقال تعالوا أقص عليكم إني أحسن
حديثا من محمد ، ويقول إن ما يقوله محمد هو من أكاذيب القصاص وأساطيرهم التي
سطروها في كتبهم فهو يحدث بها وهي تملى عليه أي يمليها عليه غيره صباحا ومساءا فرد
تعالى هذه الفرية بقوله لرسوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ) أي القرآن
__________________
(الَّذِي يَعْلَمُ
السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي سر ما يسره أهل السموات وأهل الأرض فهو علام الغيب
المطلع على الضمائر العالم بالسرائر ، ولو لا أن رحمته سبقت غضبه لأهلك من كفر به
وأشرك به سواه (إِنَّهُ كانَ
غَفُوراً رَحِيماً) يستر زلات من تاب إليه ويرحمه مهما كانت ذنوبه.
وقوله تعالى : (وَقالُوا : ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ
إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ
تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ
إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) هذه كلمات رؤوساء قريش وزعمائها لما عرضوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يترك دعوته إلى ربه مقابل ما يشاء من ملك أو مال أو
نساء أو جاه فرفض كل ذلك فقالوا له إذا فخذ لنفسك لماذا وأنت رسول الله تأكل
الطعام وتمشي في الأسواق تطلب العيش مثلنا فسل ربك ينزل إليك ملكا فيكون معك نذيرا
أو يلقي إليك بكنز من ذهب وفضة تعيش بهما أغنى الناس ، أو يجعل لك جنة من نخيل
وعنب ، أو يجعل لك قصورا من ذهب تتميز بها عن الناس وتمتاز فيعرف قدرك وتسود قومك
وقوله تعالى : (وَقالَ الظَّالِمُونَ) أي للمؤمنين من أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أي انكم باتباعكم محمدا فيما
جاء به ويدعو إليه ما تتبعون إلا رجلا مسحورا ، أي مخدوعا مغلوبا على عقله لا يدري
ما يقول ولا ما يفعل أي فاتركوه ولا تفارقوا ما عليه آباؤكم وقومكم. وقوله تعالى :
(انْظُرْ كَيْفَ
ضَرَبُوا لَكَ
الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) أي انظر يا رسولنا إلى هؤلاء المشركين المفتونين كيف شبهوا
لك الأشباه وضربوا لك الأمثال الباطلة فقالوا فيك مرة هو ساحر ، وشاعر وكاهن
ومجنون فضاعوا في هذه التخرصات وضلوا طريق الحق فلا يرجى لهم هداية بعد ، وذلك لبعد
ضلالهم فلا يقدرون على الرجوع إلى الحق وهو معنى قوله : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ما قابل
به المشركون دعوة التوحيد من جلب كل قول وباطل ليصدوا عن سبيل الله وما زال هذا
دأب المشركين إزاء دعوة التوحيد إلى اليوم وإلى يوم القيامة.
٢ ـ تقرير الوحي
الإلهي والنبوة المحمدية.
٣ ـ بيان حيرة
المشركين إزاء دعوة الحق وضربهم الأمثال الواهية الرخيصة للصّدّ عن سبيل الله ،
وقد باءت كل محاولاتهم بالفشل والخيبة المرة.
(تَبارَكَ الَّذِي
إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ
مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها
مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا
الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ
أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً
وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً
مَسْؤُلاً (١٦))
شرح الكلمات :
(تَبارَكَ) : أي تقدس وكثر خيره وعمت بركته.
(خَيْراً مِنْ ذلِكَ) : أي الذي اقترحه المشركون عليك.
(وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً) : أي كثيرة لا قصرا واحدا كما قال المشركون.
(بَلْ كَذَّبُوا
بِالسَّاعَةِ) : أي لم يكن المانع لهم من الإيمان كونك تأكل الطعام وتمشي
في
الأسواق بل تكذيبهم
بالبعث والجزاء هو السبب في ذلك.
(تَغَيُّظاً
وَزَفِيراً) : أي صوتا مزعجا من تغيظها على أصحابها المشركين بالله
الكافرين به.
(مُقَرَّنِينَ) : أي مقرونة أيديهم مع أعناقهم في الأصفاد.
(دَعَوْا هُنالِكَ
ثُبُوراً) : أي نادوا يا ثبورنا أي يا هلاكنا إذ الثبور الهلاك.
(كانَتْ لَهُمْ جَزاءً
وَمَصِيراً) : أي ثوابا على إيمانهم وتقواهم ، ومصيرا صاروا إليها لا
يفارقونها.
(وَعْداً مَسْؤُلاً.) : أي مطالبا به إذ المؤمنون يطالبون به قائلين ربنا وآتنا
ما وعدتنا والملائكة تقول ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الرد على مقترحات المشركين على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إذ قالوا لو لا أنزل إليه ملك ، أو يلقى إليه كنز وتكون
له جنة يأكل منها فقال تعالى : لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (تَبارَكَ الَّذِي
إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) أي الذي اقترحوه وقالوا خذ لنفسك من ربك بعد أن رفضت طلبهم
بترك دعوتك والتخلي عن رسالتك (جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) أي من خلال أشجارها وقصورها ، (وَيَجْعَلْ لَكَ
قُصُوراً) لا قصرا واحدا كما قالوا ، ولكنه لم يشأ ذلك لك من هذه الدار لأنها
دار عمل ليست دار جزاء وراحة ونعيم فربك قادر على أن يجعل لك ذلك ولكنه لم يشأه
والخير فيما يشاءه فاصبر فإن المشركين لم يكن المانع لهم من الإيمان هو كونك بشرا
تأكل الطعام وتمشي في الأسواق ، أو أن الله تعالى لم ينزل إليك ملكا بل المانع هو
تكذيبهم بالساعة فعلة كفرهم وعنادهم هي عدم إيمانهم بالبعث والجزاء فلو آمنوا
بالحياة الثانية لطلبوا كل سبب ينجي من عذابها ويحصل نعيمها (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ
وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ) أي القيامة (سَعِيراً) أي نارا مستعرة أو هي دركة من دركات النار تسمى سعيرا.
__________________
وقوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ
مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) هذا وصف للسعير وهو أنها إذا رأت أهلها من ذوي الشرك
والظلم والفساد من مكان بعيد تغيظت عليهم تغيظا وزفرت زفيرا مزعجا فيسمعونه فترتعد
له فرائصهم. (وَإِذا أُلْقُوا
مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) مشدودة أيديهم إلى أعناقهم بالأصفاد (دَعَوْا هُنالِكَ) أي نادوا بأعلى أصواتهم يا ثبوراه أي يا هلاكاه أحضر فهذا
وقت حضورك : فيقال لهم : خزيا وتبكيتا وتحسيرا : (لا تَدْعُوا
الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ، فهذا أوآن هلاككم وخزيكم وعذابكم وهنا يقول تعالى لرسوله
محمد صلىاللهعليهوسلم (قُلْ) لأولئك المشركين المكذبين بالبعث والجزاء : (أَذلِكَ) أي المذكور من السعير والإلقاء فيها مقرونة الأيدي
بالأعناق وهم يصرخون يدعون بالهلاك (خَيْرٌ أَمْ) (جَنَّةُ الْخُلْدِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي التي وعد الله تعالى بها عباده الذين اتقوا عذابه
بالإيمان به وبرسوله وبطاعة الله ورسوله قطعا جنة الخلد خير ولا مناسبة بينها وبين
السعير ، وإنما هو التذكير لا غير وقوله : (كانَتْ لَهُمْ) أي جنة الخلد كانت لأهل الإيمان والتقوى (جَزاءً) أي ثوابا ، (وَمَصِيراً) يصيرون إليه لا يفارقونه وقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ) أي فيها من أنواع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن
وقوله : (خالِدِينَ). أي فيها لا يموتون ولا يخرجون ، وقوله : (كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أي تفضل ربك أيها الرسول بها فوعد بها عباده المتقين وعدا
يسألونه إياه فينجزه لهم فهم يقولون : (رَبَّنا وَآتِنا ما
وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) ، والملائكة تقول ربنا (وَأَدْخِلْهُمْ
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ
وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أن مرد
كفر الكافرين وظلم الظالمين وفساد المفسدين إلى تكذيبهم بالبعث والجزاء
__________________
في الدار الآخرة
فإن من آمن بالبعث الآخر سارع إلى الطاعة والاستقامة.
٢ ـ تقرير عقيدة
البعث الآخر بوصف بعض ما يتم فيه من الجزاء بالنار والجنة.
٣ ـ فضل التقوى
وأنها ملاك الأمر فمن آمن واتقى فقد استوجب الدرجات العلى جعلنا الله تعالى من أهل
التقوى والدرجات العلى.
(وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ
أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا
سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ
وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً
بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً
وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما
أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ
الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ
وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))
شرح الكلمات :
(يَحْشُرُهُمْ) : أي يجمعهم
(وَما يَعْبُدُونَ
مِنْ دُونِ اللهِ) : من الملائكة والأنبياء والأولياء والجن
(أَمْ هُمْ ضَلُّوا
السَّبِيلَ) : أي طريق الحق بأنفسهم بدون دعوتكم إياهم إلى ذلك.
(سُبْحانَكَ) : أي تنزيها لك عما لا يليق بجلالك وكمالك.
(وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ) : أي بأن أطلت أعمارهم ووسعت عليهم أرزاقهم.
(وَكانُوا قَوْماً
بُوراً) : أي هلكى ، إذ البوار الهلاك.
(وَمَنْ يَظْلِمْ
مِنْكُمْ) : أي ومن يشرك منكم أيها الناس.
(وَجَعَلْنا
بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) : أي بليّة فالغني مبتلى بالفقير ، والصحيح بالمريض ،
والشريف بالوضيع فالفقير يقول ما لي لا أكون كالغني والمريض يقول مالي لا أكون
كالصحيح ، والوضيع يقول ما لي لا أكون كالشريف مثلا.
(أَتَصْبِرُونَ) : أي اصبروا على ما تسمعون ممّن ابتليتم بهم ، إذ
الاستفهام للأمر هنا.
(وَكانَ رَبُّكَ
بَصِيراً) : أي بمن يصبر وبمن يجزع ولا يصبر.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير عقيدة البعث والجزاء بذكر مظاهر لها في القيامة إذ إنكار هذه
العقيدة هو سبب كل شر وفساد في الأرض فقوله تعالى : (وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ وَما
يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي اذكر يا رسولنا يوم يحشر الله المشركين وما كانوا
يعبدونهم من دوننا كالملائكة والمسيح والأولياء والجن. (فَيَقُولُ) لمن كانوا يعبدونهم (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ
عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ؟) أي ما أضللتموهم ولكنهم ضلوا طريق الحق بأنفسهم فلم يهتدوا
إلى عبادتي وحدي دون سواي. فيقول المعبودون (سُبْحانَكَ) أي تنزيها لك وتقديسا عن كل ما لا يليق بجلالك وكمالك (ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ
مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) أي لا يصح منا اتخاذ أولياء من دونك فندعو عبادك إلى
عبادتهم فنضلهم بذلك ، (وَلكِنْ
مَتَّعْتَهُمْ) يا ربنا (وَآباءَهُمْ) من قبلهم بطول الأعمار وسعة الأرزاق فانغمسوا في الشهوات
والملاذ (حَتَّى نَسُوا
الذِّكْرَ) أي نسوا ذكرك وعبادتك وما جاءتهم به رسلك فكانوا بذلك قوما
بورا أي هلكى خاسرين.
وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ
بِما تَقُولُونَ) يقول تعالى للمشركين فقد كذبكم من كنتم
__________________
تشركون به ، فقامت
الحجة عليكم فأنتم الآن لا تستطيعون صرفا للعذاب عنكم ولا نصرا أي ولا تجدون من
ينصركم فيمنع العذاب عنكم.
وقوله تعالى : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ
عَذاباً كَبِيراً) هذا خطاب عام لسائر الناس يقول تعالى للناس ومن يشرك منكم
بي أي يعبد غيري نذقه أي يوم القيامة عذابا كبيرا وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) أي يا رسولنا (مِنَ الْمُرْسَلِينَ
إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) إذا فلا تهتم بقول المشركين ما لهذا الرسول يأكل الطعام
ولا تحفل به فإنهم يعرفون ذلك ولكنهم يكابرون ويجاحدون.
وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ
فِتْنَةً) أي هذه سنتنا في خلقنا نبتلي بعضهم ببعض فنبتلي المؤمن
بالكافر والغني بالفقير والصحيح بالمريض والشريف بالوضيع ، وننظر من يصبر ومن يجزع
ونجزي الصابرين بما يستحقون والجزعين كذلك.
وقوله تعالى : (أَتَصْبِرُونَ) هذا الاستفهام معناه الأمر أي اصبروا إذا ولا تجزعوا أيها
المؤمنون من أذى المشركين والكافرين لكم. وقوله تعالى : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي وكان ربك أيها الرسول بصيرا بمن يصبر وبمن يجزع فاصبر
ولا تجزع فإنها دار الفتنة والامتحان وإنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء.
٢ ـ يالهول الموقف
إذا سئل المعبودون عمن عبدوهم ، والمظلومون عمن ظلموهم.
٣ ـ براءة
الملائكة والأنبياء والأولياء من عبادة من عبدوهم.
٤ ـ خطورة طول
العمر وسعة الرزق إذ غالبا ما ينسى العبد بهما ربه ولقاءه.
٥ ـ تقرير أن
الدنيا دار ابتلاء فعلى أولى الحزم أن يعرفوا هذا ويخلصوا منها بالصبر والتحمل في
ذات الله حتى يخرجوا منها ولو كفافا لا لهم ولا عليهم.
__________________
الجزء
التاسع عشر
(وَقالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا
لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ
يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ
حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ
هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا
وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤))
شرح الكلمات :
(لا يَرْجُونَ
لِقاءَنا) : أي المكذبون بالبعث إذ لقاء العبد ربه يكون يوم القيامة.
(لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) : أي هلّا أنزلت علينا ملائكة تشهد لك بأنك رسول الله.
(أَوْ نَرى رَبَّنا) : أي فيخبرنا بأنك رسوله وأن علينا أن نؤمن بك.
(اسْتَكْبَرُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ) : أي في شأن أنفسهم ورأوا أنهم أكبر شيء وأعظمه غرورا
منهم.
(وَعَتَوْا عُتُوًّا
كَبِيراً) : أي طغوا طغيانا كبيرا حتى طالبوا بنزول الملائكة ورؤية
الرب تعالى.
(وَيَقُولُونَ حِجْراً
مَحْجُوراً) : أي تقول لهم الملائكة حراما محرما عليكم البشرى.
(وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا) : أي عمدنا إلى أعمالهم الفاسدة التي لم تكن على علم
وإخلاص.
(هَباءً مَنْثُوراً) : الهباء ما يرى من غبار في شعاع الشمس الداخل من الكوى.
(وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) : المقيل مكان الاستراحة في نصف النهار في أيام الحر.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر أقوال المشركين من قريش فقال تعالى (وَقالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ
لِقاءَنا) وهم المكذبون بالبعث المنكرون للحياة الثانية بكل ما فيها
من نعيم وعذاب (لَوْ لا أُنْزِلَ
عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) أي هلا أنزل الله علينا الملائكة تشهد لمحمد بالنبوة (أَوْ نَرى رَبَّنا) فيخبرنا بأن محمدا رسوله وأن علينا أن نؤمن به وبما جاء به
ودعا إليه. قال تعالى (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا
فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) أي وعزتنا وجلالنا لقد استكبر هؤلاء المشركون المكذبون
بالبعث في شأن أنفسهم ورأوا أنهم شيء كبير وعتوا أي طغوا طغيانا كبيرا في قولهم
هذا الذي لا داعي إليه إلا الشعور بالكبر ، والطغيان النفسي الكبير ، وقوله (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ) أي الذين يطالبون بنزولهم عليهم ، وذلك يوم القيامة. لا
بشرى يومئذ للمجرمين أي الذين أجرموا على أنفسهم فأفسدوها بالشرك والظلم الفساد : (وَيَقُولُونَ) أي وتقول لهم الملائكة (حِجْراً مَحْجُوراً) أي حراما محرما عليكم البشرى بل هي للمؤمنين المتقين.
وقوله تعالى (وَقَدِمْنا إِلى
ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) أي وعمدنا إلى أعمالهم التي لم تقم على مبدأ الإيمان
والإخلاص والموافقة للشرع فصيرناها هباء منثورا كالغبار الذي يرى في ضوء الشمس
الداخل مع كوة أو نافذة لا يقبض باليد ولا يلمس بالأصابع لدقته وتفرقه فكذلك
أعمالهم لا ينتفعون منها بشيء لبطلانها وعدم الاعتراف بها.
وقوله تعالى (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) أي أهلها الذين تأهلوا لها بالإيمان والتقوى يومئذ أي يوم
القيامة الذي كذب به المكذبون خير مستقرا أي مكان استقرار وإقامة وأحسن مقيلا
__________________
أي مكان استراحة
من العناء في نصف النهار أي خير وأحسن من أهل النار المشركين المكذبين وفي هذا
التعبير إشارة إلى أن الحساب قد ينقضي في نصف يوم الحساب وذلك أن الله سريع
الحساب.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ما كان
عليه غلاة المشركين من قريش من كبر وعتو وطغيان.
٢ ـ إثبات رؤية
الملائكة عند قبض الروح ، ويوم القيامة.
٣ ـ نفي البشرى عن
المجرمين وإثباتها للمؤمنين المتقين.
٤ ـ حبوط عمل
المشركين وبطلانه حيث لا ينتفعون بشيء منه البتة.
٥ ـ انتهاء حساب
المؤمنين قبل نصف يوم الحساب الذي مقداره خمسون ألف سنة.
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ
السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً
(٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩))
شرح الكلمات :
(بِالْغَمامِ) : أي عن الغمام وهو سحاب أبيض رقيق كالذي كان لبني إسرائيل
في التيه.
(الْمُلْكُ) : أي الملك الحق لله ولم يبق لملوك الأرض ومالكيها ملك في
شيء ولا لشيء.
(عَلَى الْكافِرِينَ
عَسِيراً) : أي صعبا شديدا.
(يَعَضُّ الظَّالِمُ
عَلى يَدَيْهِ) : أي ندما وأسفا على ما فرط في جنب الله.
(سَبِيلاً) : أي طريقا إلى النجاة بالإيمان والطاعة.
(لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاناً خَلِيلاً) : أي أبي بن خلف خليلا صديقا ودودا.
(لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ) : أي عن القرآن وما يدعو إليه من الإيمان والتوحيد والعمل
الصالح.
(وَكانَ الشَّيْطانُ) : شيطان الجن وشيطان الإنس معا.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في عرض مظاهر القيامة وبيان أحوال المكذبين بها فقال تعالى (وَيَوْمَ) أي اذكر (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي عن الغمام ونزّل الملائكة تنزيلا وذلك لمجيء الرب تبارك
وتعالى لفصل القضاء. وقوله تعالى (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
الْحَقُ) أي الثابت للرحمن عزوجل لا لغيره من ملوك الدنيا ومالكيها ، وكان ذلك اليوم يوما
على الكافرين عسيرا لا يطاق ولا يحتمل ما فيه من العذاب والأهوال وقوله (يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى
يَدَيْهِ) أي المشرك الكافر بيان لعسر اليوم وشدته حيث يعض الظالم
على يديه تندما وتحسرا وأسفا على تفريطه في الدنيا في الإيمان وصالح الأعمال ..
يقول يا ليتني أي متمنيا : (اتَّخَذْتُ مَعَ
الرَّسُولِ سَبِيلاً) أي طريقا إلى النجاة من هول هذا اليوم وذلك بالإيمان
والتقوى. وينادي مرة أخرى قائلا (يا وَيْلَتى) أي يا هلكتي احضري فهذا وقت حضورك ، ويتمنى مرة أخرى فيقول
(لَيْتَنِي لَمْ
أَتَّخِذْ فُلاناً
خَلِيلاً) وهو شيطان من الإنس أو الجن كان قد صافاه ووالاه في الدنيا
فغرر به وأضله عن الهدى. فقال في تحسر (لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ) أي القرآن بعد إذ جاءني من ربي بواسطة الرسول وفيه هداي
__________________
وبه هدايتي ، قال
تعالى (وَكانَ الشَّيْطانُ
لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي يورطه ثم يتخلى عنه ويتركه في غير موضع وموطن.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير عقيدة
البعث والجزاء بذكر البعث والجزاء وبذكر أحوالها وبعض أهوالها.
٢ ـ إثبات مجيء الرب
تبارك وتعالى لفصل القضاء يوم القيامة.
٣ ـ تندم الظلمة
وتحسرهم على ما فاتهم من الإيمان والطاعة لله ورسوله.
٤ ـ بيان سوء
عاقبة موالاة شياطين الإنس والجن وطاعتهم في معصية الله ورسوله.
٥ ـ تقرير مبدأ أن
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إذ عقبة بن أبي معيط هو الذي أطاع أبي بن خلف
حيث آمن ، ثم لامه أبىّ بن خلف فارتد عن الإسلام فهو المتندم المتحسر القائل (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ
فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ ...).
(وَقالَ الرَّسُولُ يا
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ
جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً
وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ
جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً
(٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً
(٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ
مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤))
__________________
شرح الكلمات :
(مَهْجُوراً) : أي شيئا متروكا لا يلفت إليه.
(هادِياً وَنَصِيراً) : أي هاديا لك إلى طريق الفوز والنجاح وناصرا لك على كل
أعدائك.
(جُمْلَةً واحِدَةً) : أي كما نزلت التوراة والإنجيل والزبور دفعة واحدة فلا
تجزئة ولا تفريق.
(لِنُثَبِّتَ بِهِ
فُؤادَكَ) : أي نقوي قلبك لتتحمل أعباء الرسالة وإبلاغها.
(وَرَتَّلْناهُ
تَرْتِيلاً) : أي أنزلناه شيئا فشيئا آيات بعد آيات وسورة بعد أخرى
ليتيسر فهمه وحفظه.
(شَرٌّ مَكاناً) : أي ينزلونه وهو جهنم والعياذ بالله منها.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في عرض أحوال البعث الآخر الذي أنكره المشركون وكذبوا فقال تعالى (وَقالَ الرَّسُولُ :) (يا رَبِّ إِنَّ
قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) هذه شكوى الرسول صلىاللهعليهوسلم بقومه إلى ربه ليأخذهم بذلك. وهجرهم للقرآن تركهم سماعه
وتفهمه والعمل بما فيه.
وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) أي وكما جعلنا لك أيها الرسول أعداء لك من مجرمي قومك
جعلنا لكل نبي قبلك عدوا من مجرمي قومه ، إذا فاصبر وتحمل حتى تبلغ رسالتك وتؤدي
أمانتك ، والله هاديك إلى سبيل نجاحك وناصرك على أعدائك. وهذا معنى قوله تعالى (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً). وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) أي وقال المكذبون بالبعث المنكرون للنبوة المحمدية
المشركون بالله آلهة من الأصنام هلا نزل عليه القرآن مرة واحدة مع بعضه بعضا لا
مفرقا آيات وسورا أي كما نزلت التوراة جملة واحدة والإنجيل والزبور وهذا من باب
التعنت منهم والاقتراحات التي لا معنى لها إذ هذا ليس من شأنهم ولا مما يحق لهم
الخوض فيه ، ولكنه الكفر والعناد. ولما كان هذا مما قد يؤلم الرسول صلىاللهعليهوسلم رد تعالى عليهم
__________________
بقوله (كَذلِكَ) أي أنزلناه كذلك منجما ومفرقا لحكمة عالية وهي تقوية قلبك
وتثبيته لأنه كالغيث كلما أنزل أحيا موات الأرض وازدهرت به ونزوله مرة بعد مرة
أنفع من نزول المطر دفعة واحدة. وقوله تعالى : (وَرَتَّلْناهُ
تَرْتِيلاً) أي أنزله مرتلا أي شيئا فشيئا ليتيسر حفظه وفهمه والعمل
به.
وقوله تعالى (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) هذا بيان الحكمة في نزول القرآن مفرقا لا جملة واحدة وهو
أنهم كلما جاءوا بمثل أو عرض شبهة ينزل القرآن الكريم بإبطال دعواهم وتفنيد كذبهم
، وإلغاء شبهتهم ، وإحقاق الحق في ذلك وبأحسن تفسير لما اشتبه عليهم واضطربت
نفوسهم فيه وقوله تعالى (الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُ سَبِيلاً) أي أولئك المنكرون للبعث المقترحون نزول القرآن جملة واحدة
هم الذين يحشرون على وجوههم تسحبهم الملائكة على وجوههم إلى جهنم لأنهم مجرمون بالشرك
والتكذيب والكفر والعناد. أولئك البعداء شر مكانا يوم القيامة ، وأضل سبيلا في
الدنيا ، إذ مكانهم جهنم ، وسبيلهم الغواية والضلالة والعياذ بالله من ذلك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ شهادة الرسول صلىاللهعليهوسلم على من هجروا القرآن الكريم فلم يسمعوه ولم يتفهموه ولم
يعملوا به ، وشكواه إياهم إلى الله عزوجل.
٢ ـ بيان سنة الله
في العباد وهي أنه ما من نبي ولا هاد ولا منذر إلا وله عدوّ من الناس وذلك لتعارض
الحق مع الباطل ، فينجم عن ذلك عداء لازم من أهل الباطل لأهل الحق.
٣ ـ بيان الحكمة
في نزول القرآن منجما شيئا فشيئا مفرقا.
٤ ـ بيان أن
المجرمين يحشرون على وجوههم لا على أرجلهم إلى جهنم إهانة لهم وتعذيبا.
__________________
(وَلَقَدْ آتَيْنا
مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا
اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ
تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ
وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً
(٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً
(٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ
أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ
يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))
شرح الكلمات :
(الْكِتابَ) : أي التوراة.
(وَزِيراً) : أي يشد أزره ويقويه ويتحمل معه أعباء الدعوة.
(إِلَى الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا) : هم فرعون وآله.
(لَمَّا كَذَّبُوا
الرُّسُلَ) : أي نوحا عليهالسلام.
(وَجَعَلْناهُمْ
لِلنَّاسِ آيَةً) : أي علامة على قدرتنا في إهلاك وتدمير الظالمين وعبرة
للمعتبرين.
(وَعاداً وَثَمُودَ) : أي اذكر قوم عاد وثمود إلخ ..
(وَأَصْحابَ الرَّسِ) : الرس بئر رس فيها قوم نبيهم ، أي رموه فيها ودسوه في
التراب.
(وَقُرُوناً بَيْنَ
ذلِكَ كَثِيراً) : أي ودمرنا بين من ذكرنا من الأمم قرونا كثيرا.
(تَبَّرْنا تَتْبِيراً) : أي دمرناهم تدميرا.
(الَّتِي أُمْطِرَتْ
مَطَرَ السَّوْءِ) : هي سدوم قرية قوم لوط.
(لا يَرْجُونَ نُشُوراً) : أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء الآخر.
معنى الآيات :
قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) هذا شروع في عرض أمم كذبت رسلها وردت دعوة الحق التي جاءوا
بها فأهلكهم الله تعالى ليكون هذا عظة للمشركين لعلهم يتعظون فقال تعالى وعزتنا
لقد آتينا موسى بن عمران الكتاب الذي هو التوراة (وَجَعَلْنا مَعَهُ
أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي معينا ، فقلنا أي لهما (اذْهَبا إِلَى
الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) وهم فرعون وملأه فأتوهم فكذبوهما فدمرناهم تدميرا كاملا حيث أغرقوا في البحر ، وقوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ) أي اذكر قوم نوح أيضا فإنهم لما كذبوا الرسل أي كذبوا نوحا ومن كذب رسولا فكأنما كذب عامة الرسل
أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم للناس بعدهم آية أي عبرة للمعتبرين وقوله (وَأَعْتَدْنا) أي وهيأنا للظالمين في الآخرة عذابا أليما أي موجعا زيادة على
هلاك الدنيا ، وقوله (وَعاداً وَثَمُودَ
وَأَصْحابَ الرَّسِ) أي أهلكنا الجميع ودمرناهم تدميرا لما كذبوا رسلنا وردوا
دعوتنا ، وقرونا أي وأهلكنا قرونا بين ذلك الذي ذكرنا كثيرا.
وقوله (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي إقامة للحجة عليهم فما أهلكناهم إلا بعد الإنذار
والإعذار لهم. وقوله (وَكُلًّا تَبَّرْنا
تَتْبِيراً) أي أهلكناهم إهلاكا لتكذيبهم رسلنا وردهم دعوتنا. وقوله : (وَلَقَدْ أَتَوْا
عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) أي ولقد مر أي كفار قريش على القرية التي أمطرت مطر السوء أي
الحجارة وهي قرى قوم لوط سدوم وعمورة وغيرهما فأهلكهم لتكذيبهم رسولهم وإيتانهم
الفاحشة وقوله تعالى (أَفَلَمْ يَكُونُوا
يَرَوْنَها) في سفرهم إلى الشام وفلسطين. فيعتبروا بها فيؤمنوا وهو
استفهام تقريري وإذ كانوا يمرون بها ولكنهم لم يعتبروا لعلة وهي أنهم لا يؤمنون
بالبعث الآخر وهو معنى قوله تعالى (بَلْ كانُوا لا
يَرْجُونَ نُشُوراً) فالذي لا يرجو أن يبعث ويحاسب ويجزى لا يؤمن ولا يستقيم
أبدا.
__________________
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سنة الله
تعالى في إهلاك الأمم بعد الإنذار والإعذار إليها.
٢ ـ بيان عاقبة
المكذبين وما حل بهم من دمار وعذاب.
٣ ـ بيان علة
تكذيب قريش للرسول صلىاللهعليهوسلم وما جاء به وهي تكذيبهم بالبعث والجزاء فلهذا لم تنفعهم
المواعظ ولم تؤثر فيهم العبر.
(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ
يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ
كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ
أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))
شرح الكلمات :
(إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) : أي ما يتخذونك.
(إِلَّا هُزُواً) : أي مهزوءا به.
(أَهذَا الَّذِي
بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) : أي في دعواه لا أنهم معترفون برسالته والاستفهام للتهكم
والاحتقار.
(إِنْ كادَ
لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) : أي قارب أن يصرفنا عن آلهتنا.
(لَوْ لا أَنْ
صَبَرْنا عَلَيْها) : أي لصرفنا عنها.
(أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : أي أخبرني عمن جعل هواه معبوده فأطاع هواه. فهل تقدر على
هدايته.
(إِنْ هُمْ إِلَّا
كَالْأَنْعامِ) : أي ما هم إلا كالأنعام في عدم الوعي والإدراك.
معنى الآيات :
قوله تعالى (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
إِلَّا هُزُواً) يخبر تعالى رسوله عن أولئك المشركين المكذبين بالبعث أنهم إذا رأوه في مجلس أو طريق
ما يتخذونه إلا هزوا أي مهزوءا به احتقارا وازدراء له فيقولون فيما بينهم ، (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وهو استفهام احتقار وازدراء لأنهم لا يعتقدون أنه رسول
الله ويقولون (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا
عَنْ آلِهَتِنا) أي يصرفنا عن عبادة آلهتنا لو لا أن صبرنا وثبتنا على
عبادتها. وهذا القول منهم ناتج عن ظلمة الكفر والتكذيب بالبعث وقوله تعالى (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ
الْعَذابَ) في الدنيا أو في الآخرة أي عند ما يعاينون العذاب يعرفون من
كان أضل سبيلا هم أم الرسول والمؤمنون ، وفي هذا تهديد ووعيد بقرب عذابهم وقد حل
بهم في بدر فذلوا وأسروا وقتلوا وتبين لهم أنهم أضل سبيلا من النبىّ وأصحابه. وقوله
تعالى لرسوله وهو يسليه ويخفف عنه آلام إعراض المشركين عن دعوته (أَرَأَيْتَ مَنِ
اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) أخبرني عمن جعل معبوده هواه فلا يعبد غيره فكلما اشتهى
شيئا فعله بلا عقل ولا روية ولا فكر فقد يكون لأحدهم حجر يعبده فإذا رأى حجرا أحسن
منه عبده وترك الأول فهذا لم يعبد إلا هواه وشهوته فهل مثل هذا الإنسان الهابط إلى
مستوى دون البهائم تقدر على هدايته يا رسولنا؟ (أَفَأَنْتَ تَكُونُ
عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي حفيظا تتولى هدايته أم أنك لا تقدر فاتركه لنا يمضي فيه
حكمنا.
وقوله (أَمْ تَحْسَبُ) أيها الرسول أن أكثر هؤلاء المشركين يسمعون ما يقال لهم ويعقلون ما يطلب منهم إن هم إلا كالأنعام فقط بل هم أضل سبيلا من الأنعام إذ الأنعام
__________________
تعرف طريق مرعاها
وتستجيب لنداء راعيها وهم على خلاف ذلك فجهلوا ربهم الحق ولم يستجيبوا لنداء رسوله
إليهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان ما كان
الرسول صلىاللهعليهوسلم يلاقي في سبيل الدعوة من سخرية به واستهزاء.
٢ ـ يتجاهل
الإنسان الضال الحق وينكره حتى إذا عاين العذاب عرف ما كان ينكر ، وآمن بما كان
يكفر.
٣ ـ هداية الإنسان
ممكنة حتى إذا كفر بعقله وآمن بشهوته وعبد هواه تعذرت هدايته وأصبح أضل من الحيوان
وأكثر خسرانا منه.
(أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً
(٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً
وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً
بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً
وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩))
شرح الكلمات :
(أَلَمْ تَرَ إِلى
رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) : أي ألم تنظر إلى صنيع ربك في الظل كيف بسطه. ولو شاء
الله لجعله ساكنا : أي ثابتا على حاله في الطول والامتداد ولا يقصر ولا يطول.
(ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) : أي علامة على وجوده إذ لو لا الشمس لما عرف الظل.
(ثُمَّ قَبَضْناهُ
إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) : أي أزلناه بضوء الشمس على مهل جزءا فجزءا حتى ينتهي.
ثم
جعلنا الليل لباسا : أي يستركم بظلامه كما يستركم اللباس.
(وَالنَّوْمَ سُباتاً) : أي راحة لأبدانكم من عناء عمل النهار.
(وَجَعَلَ النَّهارَ
نُشُوراً) : أي حياة إذ النوم بالليل كالموت والانتشار بالنهار
كالبعث.
(بُشْراً بَيْنَ
يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : أي مبشرة بالمطر قبل نزوله ، والمطر هو الرحمة.
(ماءً طَهُوراً) : أي تتطهرون به من الأحداث والأوساخ.
(لِنُحْيِيَ بِهِ
بَلْدَةً مَيْتاً) : أي بالزروع والنباتات المختلفة.
(أَنْعاماً
وَأَناسِيَّ كَثِيراً) : أي حيوانا وأناسا كثيرين.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ
بَيْنَهُمْ) : أي المطر فينزل بأرض قوم ولا ينزل بأخرى لحكم عالية.
(لِيَذَّكَّرُوا) : أي يذكروا فضل الله عليهم فيشكروا فيؤمنوا ويوحدوا.
(فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) : أي فلم يذكروا وأبى أكثرهم إلا كفورا جحودا للنعمة.
معنى الآيات :
قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ
كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) هذا شروع في ذكر مجموعة من أدلة التوحيد وهي مظاهر لربوبية
الله تعالى المقتضية لألوهيته فأولا الظل وهو المشاهد من وقت الإسفار إلى طلوع
الشمس وقد مدّه الخالق عزوجل أي بسطه في الكون ، ثم تطلع الشمس فتأخذ في زواله وانكماشه
شيئا فشيئا ، ولو شاء الله تعالى لجعله ساكنا لا يبارح ولا يغادر ولكنه حسب مصلحة
عباده جعله يتقاصر ويقبض حتى تقف الشمس في كبد السماء فيستقر ثم لما تدحض الشمس
مائلة إلى الغروب يفيء أي يرجع شيئا فشيئا فيطول تدريجيا لتعرف به ساعات النهار
وأوقات الصلوات حتى يبلغ من الطول حدا كبيرا كما كان في أول النهار ثم يقبض قبضا
يسيرا خفيا سريعا حين تغرب الشمس ويغشاه ظلام الليل. هذه آية من آيات قدرة الله
وعلمه وحكمته ورحمته بعباده تجلت في الظل الذي
__________________
قال تعالى فيه (أَلَمْ تَرَ) أيها الرسول أي تنظر إلى صنيع ربك جل جلاله (كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ، وَلَوْ شاءَ
لَجَعَلَهُ ساكِناً) ينتقل ، (ثُمَّ جَعَلْنَا
الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) إذ بضوءها يعرف ، فلو لا الشمس لما عرف الظل وقوله تعالى (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً
يَسِيراً) حسب سنته ففي خفاء كامل وسرعة تامة يقبض الظل نهائيا ويحل
محله الظلام الحالك.
وثانيا : في الليل
والنهار قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) أي ساترا يستركم بظلامه كما تستركم الثياب ، (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي وجعل النوم قطعا للعمل فتحصل به راحة الأبدان (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) أي حياة بعد وفاة النوم فيتنشر فيه الناس لطلب الرزق
بالعمل بالأسباب والسنن التي وضع الله تعالى لذلك.
وثالثا : إرسال
الرياح للقاح السحب للإمطار لإحياء الأرض بعد موتها بالقحط والجدب قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) هو لا غيره من الآلهة الباطلة (أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ
يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي مبشرات بالمطر متقدمة عليه وهو الرحمة وهي بين يديه فمن
يفعل هذا غير الله؟ اللهم إنه لا أحد.
ورابعا : إنزال
الماء الطهور العذب الفرات للتطهير به وشرب الحيوان والإنسان قال تعالى (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
طَهُوراً لِنُحْيِيَ
بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً) أي إبلا وبقرا وغنما (وَأَناسِيَّ كَثِيراً) أي وأناسا كثيرين وهم الآدميون ففي خلق الماء وإنزاله
وإيجاد حاجة في الحيوان والإنسان إليه ثم هدايتهم لتناوله وشربه كل هذا آيات
الربوبية الموجبة لتوحيد الله تعالى.
وخامسا : تصريف
المطر بين الناس فيمطر في أرض ولا يمطر في أخرى حسب الحكمة الإلهية والتربية
الربانية. قال تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) أي بين الناس كما
__________________
هو مشاهد إقليم
يسقى وآخر يحرم ، وقوله تعالى : (فَأَبى أَكْثَرُ
النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) أي جحودا لإنعام الله عليهم وربوبيته عليهم وألوهيته لهم.
وهو أمر يقتضى التعجب والاستغراب. هذه مظاهر الربوبية المقتضية للألوهية ، (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا
كُفُوراً) والعياذ بالله تعالى.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ عرض الأدلة
الحسية على وجوب عبادة الله تعالى وتوحيده فيها ووجوب الإيمان بالبعث والجزاء الذي
أنكره المشركون فضلوا ضلالا بعيدا.
٢ ـ بيان فائدة
الظل إذ به تعرف ساعات النهار وبه يعرف وقت صلاة الظهر والعصر فوقت الظهر من بداية
الفيء ، أي زيادة الظل بعد توقفه من النقصان عند وقوف الشمس في كبد السماء ، ووقت
العصر من زيادة الظل مثله بمعنى إذا دخل الظهر والظل أربعة أقدام أو ثلاثة أو أقل
أو أكثر فإذا زاد مثله دخل وقت العصر فإن زالت الشمس على أربعة أقدام فالعصر يدخل
عند ما يكون الظل ثمانية أقدام وإن زالت الشمس على ثلاثة أقدام فالعصر على ستة
أقدام وهكذا.
٣ ـ الماء الطهور
وهو الباقي على أصل خلقته فلم يخالطه شيء يغير طعمه أو لونه أو ريحه. وبه ترفع
الأحداث وتغسل النجاسات ، ويحرم منعه عمن احتاج إليه من شرب أو طهارة.
(وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ
بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ
شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ
__________________
وَجاهِدْهُمْ
بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ
فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً
(٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً
وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ
وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ
إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦))
شرح الكلمات :
(لَبَعَثْنا فِي كُلِّ
قَرْيَةٍ نَذِيراً) : أي رسولا ينذر أهلها عواقب الشرك والكفر.
(وَجاهِدْهُمْ بِهِ
جِهاداً كَبِيراً) : أي بالقرآن جهادا كبيرا تبلغ فيه أقصى غاية جهدك.
(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : أي خلط بينهما وفي نفس الوقت منع الماء الملح أن يفسد
الماء العذب.
(وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً) : أي حاجزا بين الملح منهما والعذب.
(وَحِجْراً مَحْجُوراً) : أي وجعل بينهما سدا مانعا فلا يحلو الملح ، ولا يملح
العذب.
(خَلَقَ مِنَ الْماءِ
بَشَراً) : أي خلق من الماء الإنسان والمراد من الماء النطفة.
(فَجَعَلَهُ نَسَباً
وَصِهْراً) : أي ذكرا وأنثى أي نسبا ينسب إليه ، وصهرا يصهر إليه أي
يتزوج منه.
(ما لا يَضُرُّهُمْ
وَلا يَنْفَعُهُمْ) : أي أصناما لا تضر ولا تنفع.
(وَكانَ الْكافِرُ عَلى
رَبِّهِ ظَهِيراً) : أي معينا للشيطان على معصية الرحمن.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
تعداد مظاهر الربوبية المستلزمة للتوحيد قال تعالى (وَلَوْ شِئْنا
لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) أي في كل مدينة نذيرا أي رسولا ينذر الناس عواقب الشرك
والكفر ،
ولكنا لم نشأ
لحكمة اقتضتها ربوبيننا وهي أن تكون أيها الرسول أفضل الرسل وأعظم منزلة وأكثرهم
ثوابا فحبوناك بهذا الفضل فكنت رسول كل القرى أبيضها وأسودها فاصبر وتحمل ، واذكر
شرف منزلتك (فَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ) في أي أمر أرادوه منك (وَجاهِدْهُمْ) به أي بالقرآن وكله حجج وبينات جهادا كبيرا تبلغ فيه اقصى جهدك. بعد هذه الجملة الاعتراضية من الكلام الإلهي قال
تعالى مواصلا ذكر مظاهر ربوبيته تعالى على خلقه. (وَهُوَ الَّذِي
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) الملح والعذب أي أرسلهما مع بعضهما بعضا (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) أي حلو (سائِغٌ شَرابُهُ ، وَهذا
مِلْحٌ أُجاجٌ) أي لا يشرب (وَجَعَلَ بَيْنَهُما
بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) أي ساترا مانعا من اختلاط العذب بالملح مع وجودهما في مكان
واحد ، فلا يبغي هذا على هذا بأن يعذب الملح أو يملح العذب. وقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ
بَشَراً) أي من المني ونطفته خلق الإنسان وجعله ذكرا وأنثى وهو معنى
قوله نسبا وصهرا أي ذوي نسب ينسب إليهم وهم الذكور ، وذوات صهر يصاهر بهن
وهن الإناث. وقوله تعالى (وَكانَ رَبُّكَ
قَدِيراً) أي على فعل ما يريده من الخلق والإيجاد أو التحويل والتبديل
، والسلب والعطاء هذه مظاهر الربوبية المقتضية لعبادته وتوحيده والمشركون يعبدون
من دونه أصناما لا تنفعهم إن عبدوها ، ولا تضرهم إن لم يعبدوها وذلك لجهلهم وظلمة
نفوسهم فيعبدون الشيطان إذ هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وبذلك كان الكافر على
ربه ظهيرا إذ بعبادته للشيطان يعينه على معصية الرب تبارك وتعالى وهو معنى قوله
تعالى ، ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وكان الكافر على ربه ظهيرا. أي
معينا للشيطان على الرحمن والعياذ بالله تعالى.
وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً
وَنَذِيراً) يقول تعالى لرسوله إنا لم نرسلك لغير بشارة المؤمنين
بالجنة ونذارة الكافرين بالنار أما هداية القلوب فهي إلينا من شئنا هدايته
__________________
اهتدى ومن لم
نشأها ضل. إلا أن الله يهدي ويضل حسب سنن له قد مر ذكرها مرات .
هداية الآيات :
من
هداية الآيات :
١ ـ الإشارة إلى
الحكمة في عدم تعدد الرسل في زمن البعثة المحمدية والاكتفاء بالرسول محمد صلىاللهعليهوسلم.
٢ ـ حرمة طاعة
الكافرين في أمور الدين والشرع.
٣ ـ من الجهاد
جهاد الكفار والملاحدة بالحجج القرآنية والآيات التنزيلية.
٤ ـ مظاهر العلم
والقدرة الإلهية في عدم اختلاط البحرين مع وجودهما في مكان واحد. وفي خلق الله
تعالى الإنسان من ماء وجعله ذكرا وأنثى للتناسل وحفظ النوع.
٥ ـ التنديد
بالمشركين والكافرين المعينين للشيطان على الرحمن.
(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما
بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ
فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا
وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ
الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً
(٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢))
__________________
شرح الكلمات :
(عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) : أي على البلاغ من أجر اتقاضاه منكم.
(سَبِيلاً) : أي طريقا يصل به إلى مرضاته والفوز بجواره ، وذلك بإنفاق
ماله في سبيل الله.
(وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) : أي قل سبحان الله وبحمده.
(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) : أي من أيام الدنيا التي قدرها وهي الأحد ... والجمعة.
(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) : العرش سرير الملك والاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان
به واجب.
(فَسْئَلْ بِهِ
خَبِيراً) : أي أيها الإنسان إسأل خبيرا بعرش الرحمن ينبئك فإنه
عظيم.
(وَزادَهُمْ نُفُوراً) : أي القول لهم اسجدوا للرحمن زادهم نفورا من الإيمان.
(جَعَلَ فِي السَّماءِ
بُرُوجاً) : هي إثنا عشر برجا انظر تفصيلها في معنى الآيات.
(سِراجاً) : أي شمسا.
(خِلْفَةً) : أي يخلف كل منهما الآخر كما هو مشاهد.
(أَنْ يَذَّكَّرَ) : أي ما فاته في أحدهما فيفعله في الآخر.
(أَوْ أَرادَ شُكُوراً) : أي شكرا لنعم ربه عليه فيهما بالصيام والصلاة.
معنى الآيات :
بعد هذا العرض
العظيم لمظاهر الربوبية الموجبة للألوهية أمر الله تعالى رسوله أن يقول للمشركين
ما أسألكم على هذا البيان الذي بينت لكم ما تعرفون به إلهكم الحق فتعبدونه وتكملون
على عبادته وتسعدون أجرا أي مالا ، لكن من شاء أن ينفق من ماله في وجوه البر
والخير يتقرب به إلى ربه فله ذلك ليتخذ بنفقته في سبيل الله طريقا إلى رضا ربه عنه ورحمته له.
وقوله (وَتَوَكَّلْ عَلَى
الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) يأمر تعالى رسوله أن يمضي في طريق
__________________
دعوته مبلغا عن
ربه داعيا إليه متوكلا عليه أي مفوضا أمره إليه إذ هو الحي الذي لا يموت وغيره
يموت ، وأمره أن يستعين على دعوته وصبره عليها بالتسبيح فقال (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي قل سبحان الله وبحمده ، وسبحانك اللهم وبحمدك وهو أمر
بالذكر والصلاة وسائر العبادات فإنها العون الكبير للعبد على الثبات والصّبر.
وقوله تعالى (وَكَفى بِهِ
بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي فلا تكرب لهم ولا تحزن عليهم من أجل كفرهم وتكذيبهم
وشركهم فإن ربك عالم بذنوبهم محص عليهم أعمالهم وسيجزيهم بها في عاجل أمرهم أو
آجله. ثم أثنى تبارك وتعالى على نفسه بقوله (الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ) مقدرة بأيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة ، ثم استوى
على العرش العظيم استواء يليق بجلاله وكماله. (الرَّحْمنُ) الذي عمّت رحمته العالمين (فَسْئَلْ بِهِ
خَبِيراً) أي فاسأل يا محمد بالرحمن خبيرا بخلقه فإنه خالق كل شيء والعليم بكل شيء فهو
وحده العليم بعظمة عرشه وسعة ملكه وجلال وكمال نفسه لا إله إلا هو ولا رب سواه وقوله
(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) أي وإذا قال لهم الرسول أيها المشركون اسجدوا للرحمن ولا
تسجدوا لسواه من المخلوقات. قالوا منكرين متجاهلين (مَا الرَّحْمنُ ؟) أنسجد لما تأمرنا أي أتريد أن تفرض علينا طاعتك (وَزادَهُمْ) هذا القول (نُفُوراً) ، أي بعدا واستنكارا للحق والعياذ بالله تعالى. وقوله
تعالى (تَبارَكَ الَّذِي
جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أي تقدس وتنزه أن يكون له شريك في خلقه أو في عبادته الذي
بعظمته جعل في السماء بروجا وهي منازل الكواكب السبعة السيارة فلذا سميت بروجا جمع
برج وهو القصر الكبير وتعرف هذه البروج الاثنا عشر بالحمل والثور والجوزاء
والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت. والكواكب
السبعة السيارة هي : المريخ ، والزهرة وعطارد ، والقمر ، والشمس ، والمشتري ، وزحل.
فهذه الكواكب تنزل في البروج كالقصور لها.
__________________
وقوله تعالى (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) هو الشمس (وَقَمَراً مُنِيراً) هو القمر أي تعاظم وتقدس الذي جعل في السماء بروجا وجعل
فيها سراجا وقمرا منيرا وقوله (وَهُوَ الَّذِي
جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي يخلف بعضهما بعضا فلا يجتمعان أبدا وفي ذلك من المصالح
والفوائد ما لا يقادر قدره ومن ذلك أن من نسي عملا بالنهار يذكره في الليل فيعمله
، ومن نسي عملا بالليل يذكره بالنهار فيعمله ، وهو معنى قوله (لِمَنْ أَرادَ أَنْ
يَذَّكَّرَ) وقوله (أَوْ أَرادَ شُكُوراً) فإن الليل والنهار ظرفان للعبادة الصيام بالنهار والقيام
بالليل فمن أراد أن يشكر الله تعالى على نعمه فقد وهبنا له فرصة لذلك وهو الليل
للتهجد والقيام والنهار للجهاد والصيام.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ دعوة الله
ينبغي أن لا يأخذ الداعي عليها أجرا ممن يدعوهم إلى الله تعالى ومن أراد أن يتطوع من نفسه فينفق في سبيل
الله فذلك له.
٢ ـ وجوب التوكل
على الله فإنه الحي الذى لا يموت وغيره يموت.
٣ ـ وجوب التسبيح
والذكر والعبادة وهذه هي زاد العبد وعدته وعونه.
٤ ـ مشروعية
السجود عند قوله تعالى وزادهم نفورا للقارىء والمستمع .
٥ ـ صفة استواء
الرحمن على عرشه فيجب الإيمان بها على ما يليق بجلال الله وكماله ويحرم تأويلها
بالاستيلاء والقهر ونحوهما.
٦ ـ الترغيب في
الذكر والشكر ، واغتنام الفرص للعبادة والطاعة.
__________________
(وَعِبادُ الرَّحْمنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ
قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها
كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ
مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ
اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))
شرح الكلمات :
(يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْناً) : في سكينة ووقار.
(وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ) : أي بما يكرهون من الأقوال.
(قالُوا سَلاماً) : أي قولا يسلمون به من الإثم ، ويسمى هذا سلام المتاركة.
(سُجَّداً وَقِياماً) : أي يصلون بالليل سجدا جمع ساجد.
(إِنَّ عَذابَها كانَ
غَراماً) : أي عذاب جهنم كان لازما لا يفارق صاحبه.
__________________
(إِنَّها ساءَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) : أي بئست مستقرا وموضع إقامة واستقرار.
(لَمْ يُسْرِفُوا
وَلَمْ يَقْتُرُوا) : أي لم يبذروا ولم يضيقوا.
(وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ
قَواماً) : أي بين الإسراف والتقتير وسطا.
(الَّتِي حَرَّمَ
اللهُ) : وهي كل نفس آدمية إلا نفس الكافر المحارب.
(إِلَّا بِالْحَقِ) : وهو واحد من ثلاث : كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو
قتل ظلم وعدوان.
(يَلْقَ أَثاماً) : أي عقوبة شديدة.
(يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) : بأن يمحو بالتوبة سوابق معاصيهم ، ويثبت مكانها لواحق
طاعاتهم.
معنى الآيات :
لما أنكر المشركون
الرحمن (قالُوا وَمَا
الرَّحْمنُ) وأبوا أن يسجدوا للرحمن ، وقالوا أن محمدا ينهانا عن الشرك
وهو يدعو مع الله الرحمن فيقول يا الله يا رحمن ، ناسب لتجاهلهم هذا الاسم الرحمن
أن يذكر لهم صفات عباد الرحمن ليعرفوا الرحمن بعباده على حد (خيركم من إذا رؤي ذكر
الله) فقال تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) ووصفهم بثمان صفات وأخبر عنهم بما أعده لهم من كرامة يوم
القيامة. الاولى في قوله (الَّذِينَ يَمْشُونَ
عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) أي ليسوا جبابرة متكبرين ، ولا عصاة مفسدين ولكن يمشون
متواضعين عليهم السكينة والوقار ، (وَإِذا خاطَبَهُمُ
الْجاهِلُونَ) أي السفهاء بما يكرهون من القول قالوا قولا يسلمون به من الإثم فلم يردوا السيئة بالسيئة ولكن بالحسنة.
الثانية : في قوله
(وَالَّذِينَ
يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) أي يقضون ليلهم بين السجود
__________________
والقيام يصفون
أقدامهم ويذرفون دموعهم على خدودهم خوفا من عذاب ربهم.
والثالثة : في
قوله (وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ) إنهم لقوة يقينهم كأنهم شاعرون بلهب جهنم يدنو من وجوههم
فقالوا (رَبَّنَا اصْرِفْ
عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أي ملحّا لازما لا يفارق صاحبه ، (إِنَّها ساءَتْ) أي جهنم (مُسْتَقَرًّا
وَمُقاماً) أي بئست موضع إقامة واستقرار.
والرابعة : في
قوله (وَالَّذِينَ إِذا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) في إنفاقهم فيتجاوزوا الحد المطلوب منهم ، ولم يقتروا
فيقصروا في الواجب عليهم وكان إنفاقهم بين الإسراف والتقتير قواما أي عدلا وسطا.
والخامسة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ
إِلهاً آخَرَ) أي لا يسألون غير ربهم قضاء حوائجهم كما لا يشركون بعبادة
ربهم أحدا (وَلا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) قتلها وهي كل نفس آدمية ما عدا نفس الكافر المحارب فإنها
مباحة القتل غير محرمة. (إِلَّا بِالْحَقِ) وهو واحدة من ثلاث خصال بينها الرسول صلىاللهعليهوسلم في حديث الصحيحين (لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث :
الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) (وَلا يَزْنُونَ) أي لا يرتكبون فاحشة الزنا والزنا نكاح على غير شرط النكاح
المباح وقوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ
ذلِكَ) هذا كلام معترض بين صفات عباد الرحمن. أي ومن يفعل ذلك
المذكور من الشرك بدعاء غير الرب أو قتل النفس بغير حق ، أو زنا (يَلْقَ أَثاماً) أي عقابا (يُضاعَفْ لَهُ
الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ) أي في العذاب (مُهاناً) مخزيا ذليلا ، وقوله تعالى (إِلَّا مَنْ تابَ) من الشرك وآمن بالله وبلقائه وبرسوله وما جاء به من الدين
الحق (وَعَمِلَ عَمَلاً
صالِحاً) من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله
الحرام (فَأُوْلئِكَ) المذكورون أي التائبون (يُبَدِّلُ اللهُ
سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) أي يمحو سيآتهم بتوبتهم ويكتب لهم مكانها صالحات أعمالهم
وطاعاتهم بعد توبتهم (وَكانَ اللهُ
غَفُوراً رَحِيماً) ذا مغفرة للتائبين من عباده ذا رحمة بهم فلا يعذبهم بعد
توبته عليهم ، وقوله (وَمَنْ تابَ) من غير هؤلاء المذكورين أي رجع إلى الله تعالى بعد غشيانه
الذنوب
__________________
(وَعَمِلَ صالِحاً) بعد توبته (فَإِنَّهُ يَتُوبُ
إِلَى اللهِ مَتاباً) أي يرجع إليه تعالى مرجعا مرضيا حسنا فيكرمه وينعمه في دار
كرامته.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان صفات
عباد الرحمن الذين بهم يعرف الرحمن عزوجل.
٢ ـ فضيلة التواضع
والسكينة في المشيء والوقار.
٣ ـ فضيلة رد
السيئة بالحسنة والقول السليم من الإثم.
٤ ـ فضيلة قيام الليل والخوف من عذاب النار.
٥ ـ فضيلة
الاعتدال والقصد في النفقة وهي الحسنة بين السيئتين.
٦ ـ حرمة الشرك
وقتل النفس والزنى وأنها أمهات الكبائر.
٧ ـ التوبة تجب ما قبلها. والندب إلى التوبة وأنها مقبولة مالم يغرغر.
(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ
صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا
__________________
هَبْ
لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا
وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ
فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧))
شرح الكلمات :
(لا يَشْهَدُونَ
الزُّورَ) : أي لا يحضرون مجالسه ولا يشهدون بالكذب والباطل.
(وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ) : أي بالكلام السيء القبيح وكل ما لا خير فيه.
(مَرُّوا كِراماً) : أي معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن سماعه أو المشاركة فيه.
(إِذا ذُكِّرُوا
بِآياتِ رَبِّهِمْ) : أي إذا وعظوا بآيات القرآن.
(لَمْ يَخِرُّوا
عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) : أي لم يطأطئوا رؤوسهم حال سماعها عميا لا يبصرون ولا صما
لا يسمعون بل يصغون يسمعون ويعون ما تدعو إليه ويبصرون ما تعرضه.
(قُرَّةَ أَعْيُنٍ) : أي ما تقر به أعيننا وهو أن تراهم مطيعين لك يعبدونك وحدك.
(وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) : أي من عبادك الذين يتقون سخطك بطاعتك قدوة يقتدون بنا في
الخير.
(يُجْزَوْنَ
الْغُرْفَةَ) : أي الدرجة العليا في الجنة.
(بِما صَبَرُوا) : أي على طاعتك بامتثال الأمر واجتناب النهي.
(حَسُنَتْ
مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) : أي صلحت وطابت مستقرا لهم أي موضع استقرار
__________________
وإقامة.
(ما يَعْبَؤُا بِكُمْ
رَبِّي) : أي ما يكترث ولا يعتد بكم ولا يبالي.
(لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) : إياه ، ودعاؤه إياكم لعبادته بذكره وشكره.
(فَسَوْفَ يَكُونُ
لِزاماً) : أي العذاب لزاما أي لازما لكم في بدر ويوم القيامة.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في ذكر صفات عباد الرحمن الذي تجاهله المشركون وقالوا : وما الرحمن فها هي
ذي صفات عباده دالة عليه وعلى جلاله وكماله ، وقد مضى ذكر خمس صفات :
والسادسة : في
قوله تعالى (وَالَّذِينَ لا
يَشْهَدُونَ الزُّورَ) الزور هو الباطل والكذب وعباد الرحمن لا يحضرون مجالسه ولا
يقولونه ولا يشهدونه ولا ينطقون به (وَإِذا مَرُّوا
بِاللَّغْوِ) وهو كل عمل وقول لا خير فيه (مَرُّوا) (كِراماً) أي مكرمين أنفسهم
من التلوث به ، بالوقوع فيه.
والسابعة : في
قوله تعالى (وَالَّذِينَ إِذا
ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) أي إذا ذكرهم أحد بآيات القرآن كتاب ربهم عزوجل لم يحنوا رؤوسهم عليها صما حتى لا يسمعوا مواعظها ولا
عميانا حتى لا يشاهدوا آثار آياتها بل يحنون رؤوسهم سامعين لها واعين لما تقوله
وتدعو إليه مبصرين آثارها مشاهدين وقائعها متأثرين بها.
والثامنة : فى
قوله تعالى (وَالَّذِينَ
يَقُولُونَ) أي في دعائهم (رَبَّنا هَبْ لَنا) أي أعطنا (مِنْ أَزْواجِنا
وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) أي ما تقر به أعيننا وذلك بأن نراهم يتعلمون الهدى ويعملون
به طلبا لمرضاتك يا ربنا (وَاجْعَلْنا
لِلْمُتَّقِينَ) من عبادك الذين يتقون سخطك
__________________
بطاعتك بفعل أمرك
وأمر رسولك واجتناب نهيك ونهي رسولك (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ
إِماماً) أي قدوة صالحة يقتدون بنا في الخير يا ربنا. قال تعالى
مخبرا عنهم بما أنعم به عليهم : (أُوْلئِكَ) أي السامون أنفسا العالون أرواحا (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) وهي الدرجة العليا في الجنة (بِما صَبَرُوا) على طاعة مولاهم ، وما يلحقهم من أذى في ذات ربهم (وَيُلَقَّوْنَ فِيها) أي تتلقاهم الملائكة بالتهاني والتحيات (تَحِيَّةً وَسَلاماً) أي بالدعاء بالحياة السعيدة والسلامة من الآفات إذ هي حياة
بلا ممات ، وسعادة بلا منغصات. وقوله تعالى (خالِدِينَ فِيها) أي في تلك الغرفة في أعلى الجنة (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا) أي طابت موضع إقامة واستقرار. إلى هنا انتهى الحديث عن
صفات عباد الرحمن وبيان جزائهم عند ربهم. وقوله تعالى : (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ
لا دُعاؤُكُمْ) أي قل يا رسولنا لأولئك المشركين المنكرين للرحمن (ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي) أي ما يكترث لكم أو يبالي بكم (لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) إياه أي عبادة من يعبده منكم إذ الدعاء هو العبادة ما أبالي بكم ولا أكترث
لكم. أما وقد كذبتم بي وبرسولى فلم تعبدوني ولم توحدوني وإذا (فَسَوْفَ يَكُونُ) العذاب (لِزاماً) وقد أذقتموه يوم بدر ، وسوف يلازمهم في قبورهم إلى نشورهم
، وسوف يلاحقهم حتى مستقرهم في جهنم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ حرمة شهود
الزور وحرمة شهادته.
٢ ـ فضيلة الإعراض
عن اللغو فعلا كان أو قولا.
__________________
٣ ـ فضيلة تدبر
القرآن وحسن الاستماع لتلاوته والاتعاظ بمواعظه والعمل بهدايته.
٤ ـ فضيلة علو
الهمة وسمو الروح وطلب الكمال والقدوة في الخير.
٥ ـ لا قيمة
للإنسان وهو أشرف الحيوانات لو لا عبادته الله عزوجل فإذا لم يعبده كان شر الخليقة.
__________________
سورة الشّعراء
مكية
وآياتها مائتان وسبع وعشرون آية
(بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(طسم (١) تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ
(٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ
أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ
مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ
أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ
كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً
وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (٩))
شرح الكلمات :
(طسم) : الله أعلم بمراده بذلك.
(الْكِتابِ الْمُبِينِ) : أي القرآن المبين للحق من الباطل.
(باخِعٌ نَفْسَكَ) : أي قاتلها من الغم.
(أَلَّا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) : أي من أجل عدم إيمانهم بك.
(آيَةً) : أي نخوفهم بها.
(مِنْ ذِكْرٍ) : أي من قرآن.
(مُعْرِضِينَ) : أي غير ملتفتين إليه.
(زَوْجٍ كَرِيمٍ) : أي صنف حسن.
(الْعَزِيزُ) : الغالب على أمره ومراده.
(الرَّحِيمُ) : بالمؤمنين من عباده.
معنى الآيات :
طسم هذه أحد
الحروف المقطعة تكتب طسم ، وتقرأ طا سين ميم بإدغام النون من سين في الميم الأولى
من ميم والله أعلم بمراده منها. وفيها إشارة إلى أن القرآن مؤلف من مثل هذه الحروف
وعجز العرب عن تأليف مثله بل سورة واحدة من مثله دال قطعا على أنه كلام الله ووحيه
إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم. وقوله (تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ) أي الآيات المؤلفة من مثل هذه الحروف هي آيات الكتاب أي
القرآن (الْمُبِينِ) أي المبين للحق من الباطل والهدى من الضلال ، والشرائع
والأحكام. وقوله تعالى (لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ) أي قاتلها ومهلكها (أَلَّا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ) أي إن لم يؤمن بك وبما جئت به قومك ، فأشفق على نفسك يا
رسولنا ولا تعرضها للغم القاتل فإنه ليس عليك هدايتهم وإنما عليك البلاغ وقد بلغت
، إنا لو أردنا هدايتهم بالقسر والقهر لما عجزنا عن ذلك (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها
خاضِعِينَ) أي إنا لقادرون على أن ننزل عليهم من السماء آية كرفع جبل
أو إنزال كوكب أو رؤية ملك فظلت أي فتظل طوال النهار أعناقهم خاضعة ، تحتها تتوقع
فى كل لحظة نزولها عليهم فتهلكهم فيؤمنوا حينئذ إيمان قسر وإكراه ومثله لا ينفع
صاحبه فلا يزكي نفسه ولا يطهر روحه لأنه غير إرادي له ولا اختياري.
وقوله تعالى (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ
الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) أي وما يأتي قومك المكذبين لك من موعظة قرآنية وحجج
وبراهين تنزيلية تدل على صدقك وصحة دعوتك ممّا يحدثه الله إليك ويوحي به إليك
لتذكرهم به إلا أعرضوا فلا يستمعون إليه ولا يفكرون فيه.
وقوله تعالى : (فَقَدْ كَذَّبُوا) يخبر تعالى رسوله بأن قومه قد كذبوا بما أتاهم من ربهم من
ذكر محدث وعليه (فَسَيَأْتِيهِمْ
أَنْبؤُا) أي أخبار (ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) وهو عذاب الله تعالى الذي كذبوا برسوله ووحيه وجحدوا
توحيده وأنكروا طاعته وفي الآية وعيد شديد وهم عرضة له في أية لحظة إن لم يتوبوا.
__________________
وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) إن كانت علة هذا التكذيب من هؤلاء المشركين هي إنكارهم
للبعث والجزاء وهو كذلك فلم لا ينظرون إلى الأرض الميتة بالقحط ينزل الله تعالى
عليها ماء من السماء فتحيا به بعد موتها فينبت الله فيها من كل زوج أي صنف من
أصناف النباتات كريم أي حسن. أليس في ذلك آية على قدرة الله تعالى على إحياء
الموتى وبعثهم من قبورهم وحشرهم للحساب والجزاء ، فلم لا ينظرون؟ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي علامة واضحة للمشركين على صحة البعث والجزاء. ففي إحياء
الأرض بعد موتها دليل على إحياء الناس بعد موتهم. وقوله تعالى (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) يخبر تعالى أنّ فيما ذكر من إنباته أصناف النباتات الحسنة
آية على البعث والحياة الثانية ولكن قضى الله أزلا أن أكثر هؤلاء المشركين لا
يؤمنون وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) يقول تعالى لرسوله محمد صلىاللهعليهوسلم (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ) أي الغالب على أمره المنتقم من أعدائه (الرَّحِيمُ) بأوليائه فاصبر لحكمه وتوكل عليه وواصل دعوتك في غير غم
ولا هم ولا حزن وإن العاقبة لك وللمؤمنين بك المتبعين لك.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أن
القرآن الكريم معجز لأنه مؤلف من مثل طا سين ميم ولم يستطع أحد أن يؤلف مثله.
٢ ـ بيان ما كان
الرسول صلىاللهعليهوسلم يناله من الغم والحزن وتكذيب قومه له.
٣ ـ بيان أن إيمان
المكره لا ينفعه ، ولذا لم يكره الله تعالى الكفار على الإيمان بواسطة الآيات.
٤ ـ التحذير من
عاقبة التكذيب بآيات الله وعدم الاكتراث بها.
٥ ـ في إحياء
الأرض بالماء وإنبات النباتات المختلفة فيها دليل على البعث الآخر.
__________________
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ
(١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا
يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ
فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧))
شرح الكلمات :
(وَإِذْ نادى رَبُّكَ) : أي اذكر لقومك يا رسولنا إذ نادى ربك موسى.
(أَنِ ائْتِ) : أي بأن ائت القوم الظالمين.
(أَلا يَتَّقُونَ) : ألا يخافون الله ربهم ورب آبائهم الأولين ما لهم ما
دهاهم؟
(وَيَضِيقُ صَدْرِي) : أي من تكذيبهم لي.
(وَلا يَنْطَلِقُ
لِسانِي) : أي للعقدة التي به.
(فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) : أي إلى أخي هرون ليكون معي في إبلاغ رسالتي.
(وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ) : أي ذنب القبطي الذي قتله موسى قبل خروجه إلى مدين.
(قالَ كَلَّا) : أي قال الله تعالى له كلا أي لا يقتلونك.
(فَاذْهَبا) : أنت وهرون.
(إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ) : أي إليك.
معنى الآيات :
قوله تعالى (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى) هذا بداية سلسة من القصص بدئت بقصة موسى وختمت بقصة شعيب
وقصها على المشركين ليشاهدوا أحداثها ويعرفوا نتائجها
وهي دمار المكذبين
وهلاكهم مهما كانت قوتهم وطالت أعمارهم قال تعالى في خطاب رسوله محمد صلىاللهعليهوسلم (وَإِذْ نادى رَبُّكَ
مُوسى) أي اذكر إذ نادي ربك موسى في ليلة باردة شاتية بالواد
الأيمن من البقعة المباركة من الشجرة (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) إذ ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك وظلموا بني إسرائيل
باضطهادهم وتعذيبهم (أَلا يَتَّقُونَ) أي قل لهم ألا تتقون أي يأمرهم بتقوى ربهم بالإيمان به
وتوحيده وترك ظلم عباده فالاستفهام معناه الأمر. وقوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ
يُكَذِّبُونِ) أي قال موسى بعد تكليفه رب إني أخاف أن يكذبون فيما أخبرهم به وأدعوهم إليه ، (وَيَضِيقُ صَدْرِي) لذلك (وَلا يَنْطَلِقُ
لِسانِي) للعقدة التي به ، وعليه (فَأَرْسِلْ إِلى
هارُونَ) أي جبريل يبلغه أن يكون معي معينا لي على إبلاغ رسالتي ، وقوله
(وَلَهُمْ عَلَيَّ
ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) هذا قول موسى عليهالسلام لربه تعالى شكا إليه خوفه من قتلهم له بالنفس التي قتلها أيام كان بمصر قبل خروجه إلى مدين فأجابه الرب
تعالى (كَلَّا) أي لن يقتلوك. وأمرهما بالسير إلى فرعون فقال (فَاذْهَبا بِآياتِنا) وهي العصا واليد (إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ) أي فبلغاه ما أمرتكما ببلاغه وإنا معكم مستمعون لما تقولان
ولما يقال لكما (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ
فَقُولا) له عند وصولكما إليه (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أي نحمل رسالة منه مفادها أن ترسل معنا بني إسرائيل لنخرج بهم إلى أرض الشام التي وعد الله بها
بني إسرائيل هذا ما قاله موسى وهرون رسولا رب العالمين أما جواب فرعون ففي الآيات
التالية.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إثبات صفة
الكلام لله تعالى بندائه موسى عليهالسلام.
٢ ـ لا بأس بإبداء
التخوف عند الإقدام على الأمر الصعب ولا يقدح فى الإيمان ولا في التوكل.
٣ ـ مشروعية طلب
العون والمساعدة من المسئولين إذا كلفوا المرء بما يصعب.
(قالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها
إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ
فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢١) وَتِلْكَ
نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (٢٢))
شرح الكلمات :
(قالَ) : أي قال فرعون ردا على كلام موسى في السياق السابق.
(أَلَمْ نُرَبِّكَ
فِينا وَلِيداً) : أي في منازلنا وليدا أي صغيرا قريبا من أيام الولادة.
(وَلَبِثْتَ فِينا
مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) : أي أقمت بيننا قرابة ثلاثين سنة وكان موسى يدعى ابن
فرعون لجهل الناس به ورؤيتهم له في قصره يلبس ملابسه ويركب مراكبه.
(وَفَعَلْتَ
فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) : أي قتلت الرجل القبطي.
(وَأَنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ) : أي الجاحدين لنعمتي عليك بالتربية وعدم الاستعباد.
(وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) : إذ لم يكن عندي يومئذ من علم ربي ورسالته ما عندي الآن.
(أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي
إِسْرائِيلَ) : أي هل تعبيدك لبني إسرائيل يعد نعمة فتمن بها علي؟
معنى الآيات
ما زال السياق
والحوار الدائر بين موسى عليهالسلام وفرعون عليه لعائن الرحمن فرد فرعون على موسى بما أخبر
تعالى به عنه في قوله (قالَ أَلَمْ
نُرَبِّكَ فِينا
وَلِيداً) أي أتذكر معترفا أنا ربيناك وليدا أي صغيرا وأنت في حال
الرضاع (وَلَبِثْتَ فِينا) أي في قصرنا مع الأسرة المالكة (سِنِينَ) ثلاثين سنة قضيتها من عمرك في ديارنا (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ) أي الشنعاء (الَّتِي فَعَلْتَ) وهي قتل موسى القبطي (وَأَنْتَ مِنَ
الْكافِرِينَ) أي لنعمنا عليك الحاجد بها ، كان هذا رد فرعون فلنستمع إلى
رد موسى عليهالسلام كما أخبر به الله تعالى عنه في قوله : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً) أي يومئذ (وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) أي الجاهلين لأنه لم يكن قد علمنى ربي ما علّمنى الآن وما أوحى
إلي ولا أرسلني إليكم رسولا (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ
لَمَّا خِفْتُكُمْ) من أجل قتلي النفس التي قتلت وأنا من الجاهلين (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) أي علما نافعا يحكمني دون فعل ما لا ينبغي فعله (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أي من أنبيائه ورسله إلى خلقه ثم قال له ردا على ما امتن
به فرعون بقوله (أَلَمْ نُرَبِّكَ
فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)
فقال (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) أي أو تلك نعمة تمنها علي وهي (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي استعبدتهم أي اتخذتهم عبيدا لك يخدمونك تستعملهم كما
تشاء كالعبيد لك ولم تستعبدني أنا لاتخاذك إياي ولدا حسب زعمك فأين النعمة التي
تمنها علي يا فرعون ، نترك رد فرعون إلى الآيات التالية.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قبح جريمة
القتل عند كافة الناس مؤمنهم وكافرهم وهو أمر فطري.
٢ ـ جواز التذكير
بالإحسان لمن أنكره ولكن لا على سبيل الامتنان فإنه محبط للعمل.
٣ ـ جواز إطلاق
لفظ الضلال على الجهل كما قال تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) كم قال موسى (وَأَنَا مِنَ
الضَّالِّينَ) أي الجاهلين قبل أن يعلمني ربي.
٤ ـ مشروعية
الفرار من الخوف إذا لم يكن في البلد قضاء عادل ، وإلا لما جاز الهرب من وجه
العدالة.
(قالَ فِرْعَوْنُ وَما
رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٣) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا
إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٢٤) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (٢٥) قالَ
رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٢٦) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي
أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (٢٧) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما
بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (٢٨) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً
غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١))
شرح الكلمات :
(وَما رَبُّ
الْعالَمِينَ) : أي الذي قلت إنك لرسوله من أي جنس هو؟
(رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) : أي خالق ومالك السموات والأرض وما بينهما.
(إِنْ كُنْتُمْ
مُوقِنِينَ) : بأن السموات والأرض وما بينهما من سائر المخلوقات مخلوقة
قائمة فخالقها ومالكها هو رب العالمين.
(لِمَنْ حَوْلَهُ) : أي من أشراف قومه ورجال دولته.
(أَلا تَسْتَمِعُونَ) : أي جوابه الذي لم يطابق السؤال في نظره.
(أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ) : أي أتسجنني ولو جئتك ببرهان وحجة على رسالتي.
(فَأْتِ بِهِ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : أي فأت بهذا الشيء المبين إن كنت من الصادقين فيما تقول.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليهالسلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لما قال موسى (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) في أول الحوار قال فرعون مستفسرا في عناد ومكابرة (وَما رَبُ الْعالَمِينَ)؟ أي أيّ شيء هو أو من أي جنس من أجناس المخلوقات فأجابه
موسى بما أخبر تعالى به عنه (قالَ رَبُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) أي خالق السموات والأرض وخالق ما بينهما. ومالك ذلك كله ، (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) بأن كل مخلوق لا بد له من خالق خلقه ، وهو أمر لا تنكره
العقول. وهنا قال فرعون في استخفاف وكبرياء لمن حوله من رجال دولته وأشراف قومه : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) كأن ما قاله موسى أمر عجب أو مستنكر فعرف موسى ذلك فقال (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ) أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الكل مربوب له خاضع لحكمه
وتصرفه. وهوا اغتاظ فرعون فقال (إِنَّ رَسُولَكُمُ
الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أراد أن ينال من موسى لأنه أغاظه بقوله (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ
الْأَوَّلِينَ)
فرد موسى أيضا
قائلا (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) أي رب الكون كله (إِنْ كُنْتُمْ
تَعْقِلُونَ) أي ما تخاطبون به ويقال لكم وفي هذا الجواب ما يتقطع له
قلب فرعون فلذا رد بما أخبر به تعالى عنه في قوله (قالَ لَئِنِ
اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي) أي ربا سواي (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ
الْمَسْجُونِينَ) أي لأسجننك وأجعلك في قعر تحت الأرض مع المسجونين فرد موسى
عليهالسلام قائلا (أَوَلَوْ جِئْتُكَ
بِشَيْءٍ مُبِينٍ) أي أتسجنني ولو
__________________
جئت بحجة بينة
وبرهان ساطع على صدقي فيما قلت وأدعوكم إليه؟ وهنا قال فرعون ما أخبر تعالى به (قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ) أي فيما تدعي وتقول
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير
الربوبية المقتضية للألوهية من طريق هذا الحوار ليسمع ذلك المشركون ، وليعلموا
أنهم مسبوقون بالشرك والكفر وأنهم ضالون.
٢ ـ سنة أهل
الباطل أنهم يفجرون في الخصومة وفي الحديث (وإذا خاصم فجر) .
٣ ـ أهل الكبر
والعلو في الأرض إذا أعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد واستخدام القوة.
(فَأَلْقى عَصاهُ
فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥)
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ
بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ
(٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا
لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ
نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢))
__________________
شرح الكلمات :
(ثُعْبانٌ مُبِينٌ) : أي ثعبان ظاهر أنه ثعبان لا شك.
(وَنَزَعَ يَدَهُ) : أي أخرجها من جيبه بعد أن أدخلها فيه.
(لَساحِرٌ عَلِيمٌ) : أي متفوق في علم السحر.
(أَرْجِهْ وَأَخاهُ) : أي أخرّ أمرهما.
(حاشِرِينَ) : أي جامعين للسحرة.
(سَحَّارٍ عَلِيمٍ) : أي متفوق في الفن أكثر من موسى.
(يَوْمٍ مَعْلُومٍ) : هو ضحى يوم الزينة عندهم.
(هَلْ أَنْتُمْ
مُجْتَمِعُونَ) : أي اجتمعوا كي نتبع السحرة على دينهم إن كانوا هم
الغالبين.
(وَإِنَّكُمْ إِذاً
لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) : أي لكم الأجر وهو الجعل الذي جعل لهم وزادهم مزية القرب
منه.
معنى الآيات
ما زال السياق
الكريم في الحوار الدائر بين موسى عليهالسلام وفرعون عليه لعائن الرحمن لقد تقدم في السياق أن فرعون
طالب موسى بالإتيان بالآية أي الحجة على صدق دعواه وها هو ذا موسى عليهالسلام يلقي عصاه أمام فرعون وملائه فإذا هي ثعبان ظاهر لا شك فيه
، وأخرج يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين لا يشك في بياضها وأنه بياض خارق
للعادة هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (٣٢) والثانية (٣٣) (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ
، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ
لِلنَّاظِرِينَ)
واعترف فرعون بأن
ما شاهده من العصا واليد أمر خارق للعادة ولكنه راوغ فقال (إِنَّ هذا) أي موسى (لَساحِرٌ عَلِيمٌ) أي ذو خبرة بالسحر وتفوق فيه قال هذا للملأ حوله كما قال
تعالى عنه (قالَ لِلْمَلَإِ
حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ)
وقوله تعالى عنه (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ
أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) قال فرعون هذا تهيجا للملأ ليثوروا ضد موسى عليهالسلام وهذا من المكر السياسي إذ جعل القضية
__________________
سياسية بحتة وأن
موسى يريد الاستيلاء على الحكم والبلاد ويطرد أهلها منها بواسطة السحر ، وقال لهم
كالمستشير لهم (فَما ذا تَأْمُرُونَ؟)
فأشاروا عليه بما
أخبر تعالى به عنهم (قالُوا أَرْجِهْ
وَأَخاهُ) أي أخر أمرهما (وَابْعَثْ فِي
الْمَدائِنِ) أي مدن المملكة رجالا (حاشِرِينَ) أي جامعين (يَأْتُوكَ) أيها الملك (بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) أي ذو خبرة في السحر متفوقة ، وفعلا أخذ بمشورة رجاله (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ
مَعْلُومٍ) أي لموعد معلوم وهو ضحى يوم العيد عندهم واستحثوا الناس
على الحضور من كافة أنحاء البلاد وهو ما أخبر تعالى به في قوله (قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي
الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ
لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) فنبقى على ديننا ولا نتبع موسى وأخاه على دينهما الجديد (إِنْ كانُوا) أي السحرة (هُمُ الْغالِبِينَ) وهذا من باب الاستحثاث والتحريض على الالتفات حول فرعون
وملائه. وقوله تعالى (فَلَمَّا جاءَ
السَّحَرَةُ) أي من كافة أنحاء البلاد قالوا لفرعون ما أخبر تعالى به
عنهم (أَإِنَّ لَنا
لَأَجْراً) أي جعلا (إِنْ كُنَّا نَحْنُ
الْغالِبِينَ؟)
فأجابهم فرعون
قائلا (نَعَمْ وَإِنَّكُمْ
إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) أي زيادة على الأجر مكافأة أخرى وهي أن تكونوا من المقربين
لدينا ، وفي هذا إغراء كبير لهم على أن يبذلوا أقصى جهدهم في الانتصار على موسى عليهالسلام.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إثبات
المعجزات للأنبياء كمعجزة العصا واليد لموسى عليهالسلام.
٢ ـ مشروعية
استشارة الأمير رجاله في الأمور ذات البال.
٣ ـ ثبوت السحر
وأنه فن من فنون المعرفة وإن كان تعلمه وتعليمه محرمين
٤ ـ إعطاء
المكافأة للفائزين في المباراة وغيرها ومن ذلك السباق في الإسلام.
__________________
(قالَ لَهُمْ مُوسى
أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى
عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ
(٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي
عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩))
شرح الكلمات :
(أَلْقُوا ما أَنْتُمْ
مُلْقُونَ) : أمرهم بالإلقاء توسلا إلى ظهور الحق.
(ما يَأْفِكُونَ) : أي ما يقلبونه بتمويههم من أن حبالهم وعصيهم حيات تسعى.
(رَبِّ مُوسى
وَهارُونَ) : أي لعلمهم بأن ما شاهدوه من العصا لا يأتي بواسطة السحر.
(مِنْ خِلافٍ) : أي يد كل واحد اليمنى ورجله اليسرى.
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
أَجْمَعِينَ) : أي لأشدنكم بعد قطع أيديكم وأرجلكم من خلاف على الأخشاب.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحوار الذي دار بين موسى عليهالسلام وفرعون عليه لعائن الرحمن إنه بعد إرجاء السحرة فرعون
وسؤالهم له : هل لهم من أجر على مباراتهم موسى إن هم غلبوا وبعد أن طمأنهم فرعون
على الأجر والجائزة قال لهم موسى (أَلْقُوا ما
أَنْتُمْ مُلْقُونَ) من الحبال والعصي في الميدان (فَأَلْقَوْا
حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ) وأقسموا بعزة فرعون إنهم هم
__________________
الغالبون وفعلا
انقلبت الساحة كلها حيات وثعابين حتى أوجس موسى في نفسه خيفة فأوحى إليه ربه تعالى
أن ألق عصاك فألقاها فإذا هي تلقف ما يأفكون. هذا معنى قوله تعالى في هذا السياق (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ
وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ
إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما
يَأْفِكُونَ) ومعنى تلقف ما يأفكون أي تبتلع في جوفها من طريق فمها كل
ما أفكه أي كذبه وافتراه السحرة بسحرهم من انقلاب الحبال والعصي حيات وثعابين ، وقوله
تعالى (فَأُلْقِيَ
السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أي أنهم لاندهاشهم وما بهرهم من الحق ألقوا بأنفسهم على
الأرض ساجدين لله تعالى مؤمنين به ، فسئلوا عن حالهم تلك فقالوا (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ
مُوسى وَهارُونَ) وهنا خاف فرعون تفلت الزمام من يده وأن يؤمن الناس بموسى
وهرون ويكفروا به فقال للسحرة : (آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ
أَنْ آذَنَ لَكُمْ) بذلك أي كيف تؤمنون بدون إذني؟ على أنه يملك ذلك منهم وهي
مجرد مناورة مكشوفة ، ثم قال لهم (إِنَّهُ) أي موسى (لَكَبِيرُكُمُ
الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أي انه لما كان استاذكم تواطأتم معه على الغلب فأظهرتم أنه
غلبكم ، تمويها وتضليلا للجماهير .. ثم تهددهم قائلا (فَلَسَوْفَ
تَعْلَمُونَ) عقوبتي لكم على هذا التواطؤ وهي (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أي أقطع من الواحد منكم يده اليمنى ورجله اليسرى (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) فلا أبقي منكم أحدا إلا أشده على خشبة حتى يموت مصلوبا ،
هل فعل فرعون ما توعد به؟ الله أعلم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ لم يبادر موسى
بإلقاء عصاه أولا لأن المسألة مسألة علم لا مسألة حرب ففي الحرب تنفع المبادرة
بافتكاك زمام المعركة ، وأما في العلم فيحسن تقديم الخصم ، فإذا أظهر ما عنده كر
عليه بالحجج والبراهين فأبطله وظهر الحق وانتصر على الباطل ، هذا الأسلوب الذي
اتبع موسى بإلهام من ربه تعالى.
__________________
٢ ـ مظهر من مظاهر
الهداية الإلهية هداية السحرة إذ هم فى أول النهار سحرة كفرة وفي آخره مؤمنون
بررة.
٣ ـ ما سلكه فرعون
مع السحرة كله من باب المناورات السياسية الفاشلة.
(قالُوا لا ضَيْرَ
إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا
رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ
فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨)
كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠))
شرح الكلمات :
(لا ضَيْرَ) : أي لا ضرر علينا.
(مُنْقَلِبُونَ) : أي راجعون بعد الموت وذلك يسر ولا يضر.
(أَنْ كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ) : أي رجوا أن يكفر الله عنهم سيئاتهم لأنهم سبقوا
بالإيمان.
(أَنْ أَسْرِ
بِعِبادِي) : السرى المشي ليلا والمراد من العباد بنو إسرائيل.
(إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) : أي من قبل فرعون وجيوشه.
(لَشِرْذِمَةٌ) : أي طائفة من الناس.
(لَغائِظُونَ) : أي فاعلون ما يغيظنا ويغضبنا.
(حاذِرُونَ) : أي متيقظون مستعدون.
(وَمَقامٍ كَرِيمٍ) : أي مجلس حسن كان للأمراء والوزراء.
(كَذلِكَ) : أي كان إخراجنا كذلك أي على تلك الصورة.
(مُشْرِقِينَ) : أي وقت شروق الشمس.
معنى الآيات :
قوله تعالى (قالُوا لا ضَيْرَ) هذا قول السحرة لفرعون بعد أن هددهم وتوعدهم (قالُوا لا ضَيْرَ) أي لا ضرر علينا بتقطيعك أيدينا وأرجلنا وتصليبك إيانا (إِنَّا إِلى رَبِّنا
مُنْقَلِبُونَ) أي راجعون إن كل الذي تفعله معنا إنك تعجل برجوعنا إلى
ربنا وذاك أحب شيء إلينا. وقالوا (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ
يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا) أي ذنوبنا (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ
الْمُؤْمِنِينَ) في هذه البلاد برب العالمين رب موسى وهرون.
بعد هذا الانتصار
العظيم الذي تم لموسى وهرون أوحى تعالى إلى موسى (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) أي امش بهم ليلا (إِنَّكُمْ
مُتَّبَعُونَ) أي من قبل فرعون وجنوده. وعلم فرعون بعزم موسى على الخروج
ببني إسرائيل فأرسل في المدائن وكانت له مآت المدن حاشرين من الرجال أي جامعين وكأنها
تعبئة عامة. يقولون محرضين (إِنَ هؤُلاءِ) أي موسى وبني إسرائيل (لَشِرْذِمَةٌ) أي طائفة أفرادها قليلون (وَإِنَّهُمْ لَنا
لَغائِظُونَ) أي لفاعلون ما يغيظنا ويغضبنا (وَإِنَّا) أي حكومة وشعبا (لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) أي متيقظون مستعدون فهلم إلى ملاحقتهم وردهم إلى الطاعة. وعجل
تعالى بالمسرة في هذا الخبر فقال تعالى (فَأَخْرَجْناهُمْ) أي آل فرعون (مِنْ جَنَّاتٍ
وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ) أي كنوز الذهب والفضة التي كانت مدفونة تحت التراب ، إذ
الطمس كان على العملة فسدت وأما مخزون الذهب والفضة فما زال تحت الأرض ، إذ الكنز
يطلق على المدفون تحت الأرض وإن كان شرعا هو الكنز ما لم تؤد زكاته سواء كان تحت
الأرض أو فوقها.
وقوله تعالى (كَذلِكَ) أي إخراجنا لهم كان كذلك ، (وَأَوْرَثْناها) أي تلك النعم بنى إسرائيل أي بعد هلاك فرعون وجنوده أجمعين.
وقوله تعالى (فَأَتْبَعُوهُمْ
مُشْرِقِينَ) أي فاتبع آل فرعون بنى إسرائيل أنفسهم في وقت شروق الشمس
ليردوهم ويحولوا بينهم
__________________
وبين الخروج من
البلاد.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ قوة الإيمان
مصدر شجاعة خارقة للعادة بحيث يفرح المؤمن بالموت لأنه يوصله إلى ربه.
٢ ـ حسن الرجاء في
الله والطمع في رحمته ، وفضل الأسبقية في الخير.
٣ ـ مشروعية
التعبئة العامة واستعمال أسلوب خاص في الحرب يهديء من مخاوف الأمة حكومة وشعبا.
٤ ـ دمار الظالمين
وهلاك المسرفين في الكفر والشر والفساد.
(فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ
مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣)
وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ
(٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨))
شرح الكلمات :
(فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ) : أي رأى بعضهما بعضا لتقاربهما والجمعان جمع بني إسرائيل
وجمع فرعون.
(إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) : أي قال أصحاب موسى من بني إسرائيل إنا لمدركون أي
سيلحقنا فرعون وجنده.
(قالَ كَلَّا) : أي قال موسى عليهالسلام كلا أي لن يدركونا ولن يلحقوا بنا.
(فَانْفَلَقَ) : أي انشق.
(فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ
كَالطَّوْدِ) : أي شقّ أي الجزء المنفرق والطود : الجبل.
(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ
الْآخَرِينَ) : أي قربنا هنا لك الآخرين أي فرعون وجنده.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) : أي عظة وعبرة توجب الإيمان برب العالمين برب موسى وهرون.
معنى الآيات :
هذا آخر قصة موسى عليهالسلام مع فرعون قال تعالى في بيان نهاية الظالمين وفوز المؤمنين (فَلَمَّا تَراءَا) (الْجَمْعانِ) جمع موسى وجمع فرعون وتقاربا بحيث رأى بعضهما بعضا (قالَ أَصْحابُ مُوسى) أي بنو إسرائيل (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) أي خافوا لما رأوا جيوش فرعون تتقدم نحوهم صاحوا (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)
فطمأنهم موسى
بقوله (كَلَّا) أي لن تدركوا ، وعلل ذلك بقوله (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) إلى طريق نجاتي قال تعالى (فَأَوْحَيْنا إِلى
مُوسى أَنِ اضْرِبْ) أي اضرب بعصاك البحر فضرب امتثالا لأمر ربه فانفلق البحر
فرقتين كل فرقة منه كالجبل العظيم (وَأَزْلَفْنا) أي قربنا (ثَمَّ الْآخَرِينَ) أي أدنينا هناك الآخرين وهم فرعون وجيوشه (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ) أي من بني إسرائيل (أَجْمَعِينَ)
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا
الْآخَرِينَ) المعادين لبني إسرائيل وهم فرعون وجنده. قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من إهلاك فرعون وإنجاء موسى وبني إسرائيل (لَآيَةً) أي علامة واضحة بارزة لربوبية الله وألوهيته وقدرته وعلمه
ورحمته وهي عبرة وعظة أيضا للمعتبرين ، وما كان أكثر قومك يا محمد مؤمنين مع موجب الإيمان ومقتضيه لأنه سبق في علم
الله أنهم لا يؤمنون.
وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ) أي وإن ربك يا محمد لهو الغالب على أمره الذي لا يمانع في
شيء يريده ولا يحال بين مراده الرحيم بعباده فاصبر على دعوته وتوكل عليه فإنه
ناصرك ومذل أعدائك.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ ظهور آثار
الاستعباد في بني إسرائيل متجلية في خوفهم مع مشاهدة الآيات.
٢ ـ ثبوت صفة
المعية الإلهية في قول موسى (إِنَّ مَعِي رَبِّي) إذ قال له عند إرساله (إِنَّنِي مَعَكُما).
٣ ـ ثبوت الوحي
الإلهي.
٤ ـ آية انفلاق
البحر من أعظم الآيات.
٥ ـ تقرير نبوة
محمد صلىاللهعليهوسلم بقصة مثل هذا القصص الذي لا يتأتى إلا بوحي خاص.
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠)
قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ
يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ
عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
(٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِينِ (٨٠) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢))
شرح الكلمات :
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ) : أي اقرأ يا رسولنا على قومك خبر إبراهيم وشأنه العظيم.
(لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) : أي آزر والبابليين.
(فَنَظَلُّ لَها
عاكِفِينَ) : أي فنقيم أكثر النهار عاكفين على عبادتها.
(قالُوا بَلْ وَجَدْنا) : أي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر بل وجدنا آباءنا لها عابدين
فنحن تبع لهم.
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي) : أي أعداء لي يوم القيامة إذا أنا عبدتهم لأنهم يتبرءون
من عابديهم.
(إِلَّا رَبَّ
الْعالَمِينَ) : فإن من يعبده لا يتبرأ منه يوم القيامة بل ينجيه من
النار ويكرمه بالجنة.
(فَهُوَ يَهْدِينِ) : أي إلى ما ينجيني من العذاب ويسعدني في دنياي وأخراي.
(وَالَّذِي يُمِيتُنِي
ثُمَّ يُحْيِينِ) : أي يميتني عند انتهاء أجلي ، ثم يحييني ليوم الدين.
(يَوْمَ الدِّينِ) : أي يوم الجزاء والحساب وهو يوم القيامة والبعث الآخر.
معنى الآيات :
هذا بداية قصص
إبراهيم عليهالسلام والقصد منه عرض حياة إبراهيم الدعوية على مسامع قريش قوم
محمد صلىاللهعليهوسلم علهم يتعظون بها فيؤمنوا ويوحدوا فيسلموا ويسلموا من خزي
الدنيا وعذاب الآخرة قال تعالى (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ إِبْراهِيمَ) أي اقرأ على قومك من قريش خبر إبراهيم في الوقت الذي قال
لأبيه وقومه (ما تَعْبُدُونَ) مستفهما إياهم ليرد على جوابهم وهو أسلوب حكيم في الدعوة
والتعليم يسألهم ويجيبهم بناء على مقتضى سؤالهم فيكون ذلك أدعى للفهم وقبول الحق :
(قالُوا نَعْبُدُ
أَصْناماً) أي في صور تماثيل (فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ) فنقيم أكثر النهار عاكفين حولها نتقرب إليها ونتبرك بها
خاشعين خاضعين عندها. ولما سمع جوابهم وقد صدقوا فيه قال لهم (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ
إِذْ تَدْعُونَ) أي إذ تدعونها (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) إن طلبتم منهم منفعة (أَوْ يَضُرُّونَ) إن طلبتم منهم أن يضروا أحدا تريدون ضره أنتم؟ فأجابوا
قائلين في كل ذلك لا ، لا ، لا. وإنما وجدنا آباءنا كذلك
__________________
يفعلون ففعلنا
مثلهم اقتداء بهم واتباعا لطريقتهم ، وهنا صارحهم إبراهيم بما يريد أن يفهموه عنه
فقال (أَفَرَأَيْتُمْ ما
كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) الذين هم أجدادكم الذين ورث عنهم آباؤكم هذا الشرك والباطل
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي) أي أعداء لي وذلك يوم القيامة إن أنا عبدتهم معكم ، لأن كل
من عبد من دون الله يتبرأ يوم القيامة ممن عبده ويعلن عداوته له طلبا لنجاة نفسه
من عذاب الله. وقوله (إِلَّا رَبَّ
الْعالَمِينَ) فإنه لا يكون عدوا لمن عبده بل يكون ودودا له رحيما به.
ألا فاعبدوه يا قوم واتركوا عبادة من يكون عدوا لكم يوم القيامة!!
ثم أخذ إبراهيم
يذكر ربه ويثني عليه ويمجده تعريفا به وتذكيرا لأولئك الجهلة المشركين فقال (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) أي إلى طريق نجاتي وكمالي وسعادتي وذلك ببيانه لي محابه
لآتيها ، ومساخطه لأتجنبها ، (وَالَّذِي هُوَ
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) أي يغذونى بأنواع الأطعمة ويسقيني بما خلق ويسر لي من
أنواع الأشربة من ماء ولبن وعسل ، (وَإِذا مَرِضْتُ) بأن اعتل جسمي وسقم فهو لا غيره يشفيني ، (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) يوم يريد إماتتي عند انتهاء ما حدد لي من أجل تنتهي به
حياتي ، ثم يحييني يوم البعث والنشور ، (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) أي يسترها ويمحو أثرها من نفسي يوم الدين أي يوم الجزاء
والحساب على عمل الإنسان في هذه الدار إذ هي دار عمل والآخرة دار جزاء.
وإذا قيل ما
المراد من الخطيئة التي ذكر إبراهيم لنفسه؟ فالجواب إنها الكذبات الثلاث التي كانت
لإبراهيم طوال حياته الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) والثانية (بَلْ فَعَلَهُ
كَبِيرُهُمْ هذا) والثالثة قولي للطاغية إنه أخي ولا تقولي إنه زوجي ، هذه
الكذبات التي كانت لإبراهيم فهو خائف منها ويوم القيامة لما تطلب منه البشرية
الشفاعة عند ربها يذكر هذه الكذبات ويقول إنما أنا من وراء وراء فاذهبوا إلى موسى.
ألا فليتعظ
المؤمنون الذين كذبهم لا يعد كثرة!!
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير النبوة
المحمدية بذكر هذا القصص.
٢ ـ تقرير التوحيد
بالحوار الذي دار بين إبراهيم إمام الموحدين وقومه المشركين.
٣ ـ بيان أن كل من
عبد معبودا غير الله تعالى سيكون له عدوا لدودا يوم القيامة.
٤ ـ بيان أن
العكوف على الأضرحة والتمرغ في تربتها وطلب الشفاء منها شرك.
٥ ـ بيان الاسلوب
الحكيم في الدعوة إلى الله تعالى من طريق السؤال والجواب.
(رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي
الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ
لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ
(٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ
سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ
لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ
اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣))
شرح الكلمات :
(رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً) : أي يا رب أعطني من فضلك حكما أي علما نافعا وارزقني
العمل به.
(وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) : لأعمل عملهم في الدنيا وأكون معهم في الدار الآخرة.
(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) : أي اجعل لي ذكرا حسنا أذكر به فيمن يأتي بعدي (وَاغْفِرْ لِأَبِي) : كان هذا منه قبل أن يتبين له أنه عدو لله.
(وَلا تُخْزِنِي
يَوْمَ يُبْعَثُونَ) : أي لا تفضحني.
(بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) : أي من الشرك والنفاق.
(وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) : أي أدنيت وقربت للمتقين.
(وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) : أي أظهرت وجليت للغاوين.
(هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) : أي بدفع العذاب عنكم.
معنى الآيات :
هذا آخر قصص
إبراهيم وخاتمته لما ذكر إبراهيم قومه ووعظهم رفع يديه إلى ربه يسأله ويتضرع إليه
فقال (رَبِّ هَبْ لِي
حُكْماً) أي علما نافعا يمنعني من فعل ما يسخطك عني ويدفعني إلى فعل
ما يرضيك عني ، (وَأَلْحِقْنِي
بِالصَّالِحِينَ) في أعمالهم الخيرية في الدنيا وبمرافقتهم في الجنة.
(وَاجْعَلْ لِي لِسانَ
صِدْقٍ
فِي الْآخِرِينَ) أي اجعل لي ذكرا حسنا أذكر به فيمن يأتي من عبادك المؤمنين
، (وَاجْعَلْنِي مِنْ
وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ) الذين يرثونها بالإيمان والتقوى بعد فضلك عليهم ورحمتك بهم
، (وَاغْفِرْ لِأَبِي
إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) أي الجاهلين بك وبمحابك ومكارهك فما عبدوك ولا تقربوا
إليك. وكان هذا من إبراهيم قبل العلم بأن أباه عدو لله حيث سبق له ذلك أزلا ، إذ
قد تبرأ منه بعد أن علم ذلك وقوله (وَلا تُخْزِنِي) أي لا تذلني (يَوْمَ يُبْعَثُونَ) أي من قبورهم للحساب والجزاء على أعمالهم (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) وهو يوم القيامة (إِلَّا مَنْ أَتَى
اللهَ بِقَلْبٍ) (سَلِيمٍ) أي لكن من أتى الله أى جاءه يوم القيامة وقلبه سليم من
الشرك والنفاق فهذا ينفعه عمله الصالح لخلوه مما يحبطه وهو الشرك والكفر الظاهر
والباطن وقوله تعالى (وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ) أي قربت وأدنيت للمتقين الله ربهم فلم يشركوا به في عبادته
ولم يجاهروا بمعاصيه ، (وَبُرِّزَتِ
الْجَحِيمُ) أي أظهرت وارتفعت (لِلْغاوِينَ) أي أهل الغواية والضلالة في الدنيا من المشركين والمسرفين
في الإجرام والشر والفساد (وَقِيلَ لَهُمْ) أي سئلوا فى عرصات القيامة (أَيْنَ ما كُنْتُمْ
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)؟ أروناهم (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) مما أنتم فيه
__________________
فيدفعون عنكم
العذاب ، (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) لأنفسهم فيدفعون عنها العذاب إن كانوا من أهل النار لأنهم
رضوا بأن يعبدوا ودعوا الناس إلى عبادتهم كالشياطين والمجرمين من الإنس والجن.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أن الجنة
تورث ويذكر تعالى سبب إرثها وهو التقوى في قوله (تِلْكَ الْجَنَّةُ) (الَّتِي نُورِثُ مِنْ
عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا).
٢ ـ مشروعية
الاستغفار للوالدين إن ماتا على التوحيد.
٣ ـ بطلان
الانتفاع يوم القيامة بغير الإيمان والعمل الصالح بعد فضل الله ورحمته.
٤ ـ الترغيب في
التقوى والتحذير من الغواية.
(فَكُبْكِبُوا فِيها
هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها
يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ
نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ
(٩٩) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (١٠١) فَلَوْ أَنَّ
لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ
الرَّحِيمُ (١٠٤))
شرح الكلمات :
(فَكُبْكِبُوا فِيها) : أي ألقوا على وجوههم في جهنم ودحرجوا فيها حتى انتهوا
الى قعرها.
(وَالْغاوُونَ) : جمع غاو وهو الفاسد القلب المدنس الروح من الشرك
والمعاصي.
(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) : أي أتباعه وأنصاره وأعوانه من الإنس والجن.
__________________
(إِذْ نُسَوِّيكُمْ
بِرَبِّ الْعالَمِينَ) : أي في العبادة فعبدناكم كما يعبد الله جل جلاله.
(وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) : أي يهمه أمرنا وتنفعنا صداقته نحتمى به من أن نعذب.
(فَلَوْ أَنَّ لَنا
كَرَّةً) : أي رجعة إلى الدنيا لنؤمن ونوحد ونعبد ربنا بما شرع لنا.
معنى الآيات :
قوله تعالى (فَكُبْكِبُوا) بعد ذلك الاستفهام التوبيخي التقريعي الذي تقدم في قوله
تعالى (وَقِيلَ لَهُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ
يَنْتَصِرُونَ)؟ وفشلوا في الجواب ولم يجيدوه إذ هو غير ممكن فأخبر تعالى
عنهم بأنهم كبكبوا في جهنم ـ أي كبوا على وجوههم ودحرجوا فيها هم والغاوون جمع غاو
أي فاسد العقيدة والعمل وجنود إبليس أجمعون من أتباع الشيطان وأعوانه من دعاة
الشرك والمعاصي والجريمة في الأرض من الإنس والجن قوله تعالى (قالُوا وَهُمْ
فِيها يَخْتَصِمُونَ) أي وهم في جهنم يختصمون كل واحد يحمل الثاني التبعة
والمسؤولية فقال المشركون لمن أشركوا بهم (تَاللهِ إِنْ كُنَّا
لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ظاهر بين لا يختلف فيه ، وذلك إذ كنا (نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ
الْعالَمِينَ) عزوجل فنعبدكم معه ، (وَما أَضَلَّنا
إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) وهم دعاة الشرك والشر والضلال الذين أجرموا على أنفسهم
فأفسدوها ، وأجرموا علينا فأفسدوا نفوسنا بالشرك والمعاصي ، وقوله تعالى (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ
حَمِيمٍ) هذا قولهم أيضا قرروا فيه حقيقة أخرى وهي أنه ليس لهم في
هذا اليوم من شافعين يشفعون لهم عند الله تعالى لا من الملائكة ولا من الإنس والجن
إذ لا شفاعة تنفع من مات على الشرك والكفر ، وقولهم ولا صديق حميم أي وليس لنا أي
من صديق حميم تنفعنا صداقته وولايته.
وقالوا متمنين بعد
اليأس من وجود شافعين (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) أي رجعة إلى دار الدنيا (فَنَكُونَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ) فنؤمن ونوحد ونتبع الرسل. وهذا آخر ما أخبر تعالى به عنهم
من كلامهم في
__________________
جهنم.
وقوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من كبكبة المشركين والغاوين وجنود إبليس أجمعين
في جهنم وخصومتهم فيها وما قالوا وتمنوه وحرمانهم من الشفاعة وخلودهم في النار (لَآيَةً) أي لعبرة لمن يعتبر بغيره ، (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ) ولم يكن أكثر قومك يا رسولنا مؤمنين وإلا لانتفعوا بهذه
العبر فآمنوا ووحدوا وأسلموا (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي الغالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الرحيم
بعباده إن أنابوا إليه وأخلصوا العبادة له يكرمهم في جواره في جنات النعيم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير أن دعاة
الزنى والربا والخرافة والشركيات من الناس هم من جند إبليس.
٢ ـ تقرير أن
المجرمين هم الذين أفسدوا نفوسهم ونفوس غيرهم بدعوتهم إلى الضلال وحملهم على
المعاصي.
٣ ـ تقرير أن
الشفاعة لن تكون لمن مات على الشرك والكفر.
٤ ـ لا تنفع العبر
والمواعظ والآيات في هداية قوم كتب الله أزلا شقاءهم وعلم منهم أنهم لا يؤمنون
فكتب ذلك عليهم.
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ
(١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٠٨)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ (١٠٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ
(١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا
بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤))
__________________
شرح الكلمات :
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) : قوم نوح الأمة التي بعث فيها ، والمراد من المرسلين نوح عليهالسلام.
(أَخُوهُمْ نُوحٌ) : أي في النسب.
(أَلا تَتَّقُونَ) : أي اتقوا الله ربكم فلا تعصوه بالشرك والمعاصي.
(رَسُولٌ أَمِينٌ) : أي على ما أمرني ربي بإبلاغه إليكم.
(مِنْ أَجْرٍ) : أي لا أسألكم على إبلاغ رسالة الله أجرة مقابل البلاغ.
(أَنُؤْمِنُ لَكَ
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) : أي كيف نتبعك على ما تدعونا إليه وقد اتبعك أراذل الناس
أي سفلتهم وأهل الخسة فيهم.
(إِنْ حِسابُهُمْ
إِلَّا عَلى رَبِّي) : أي ما حسابهم إلا على ربي.
معنى الآيات :
هذه بداية قصص نوح
عليهالسلام فقال تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ
نُوحٍ) أي بما جاءهم به نوح من الأمر بالتوحيد وترك الشرك (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) أي في النسب (نُوحٌ أَلا
تَتَّقُونَ) أي عقاب الله وأنتم تشركون به ، وتكذبون رسوله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) على ما أبلغكم من
وحي الله تعالى فاتقوا الله بترك الشرك وأطيعوني فيما أدعوكم إليه وآمركم به (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي على البلاغ من أجر أتقاضاه منكم مقابل ما أبلغكم من
رسالة ربكم. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا
عَلى) الله إذ هو الذي كلفني (فَاتَّقُوا اللهَ) أي خافوا عقابه أن يحل بكم وأنتم تكفرون به وتكذبون برسوله
وأطيعون فيما آمركم به وأنهاكم عنه. بعد هذا الذي أمرهم به وكرره عليهم من تقوى
الله وطاعة لرسوله كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله : (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ) أي أنصدقك ونتابعك على ما جئت به من الدين (وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) أي سفلة الناس وأخساؤهم؟.
فأجابهم نوح بقوله
(وَما عِلْمِي بِما
كانُوا يَعْمَلُونَ) فيما يعملونه بعيدين عني من
__________________
الباطن أو الظاهر
أنا لا أعلمه ولا أسأل عنه ولا أحاسب عليه ، (إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا
عَلى رَبِّي) هو الذي يحاسبهم ويجزيهم لو تشعرون بهذه الحقيقة لما
عبتموهم لي وحملتموني مسئولية عملهم (وَما أَنَا بِطارِدِ
الْمُؤْمِنِينَ) أي من حولي ، (إِنْ أَنَا إِلَّا
نَذِيرٌ مُبِينٌ) فلست بجبار ولا ذي سلطان فأطرد الناس وظيفتي أنى أنذر
الناس عاقبة الكفر والمعاصي ليقلعوا عن ذلك فينجوا من عذاب الله ويسلموا.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أن من
كذب رسولا فكأنما كذب كل الرسل وذلك باعتبار أن دعوتهم واحدة وهي أن يعبد الله
وحده بما شرع للناس من عبادات تطهرهم وتزكيهم.
٢ ـ إثبات أخوة
النسب ، ولا تعارض بينها وبين أخوة الدين.
٣ ـ عدم جواز أخذ
أجرة على دعوة الله تعالى. ووجوب إبلاغها مجانا.
٤ ـ وجوب التقوى
لله تعالى ، وطاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
٥ ـ لا يجوز طرد
الفقراء من مجالس العلم ليجلس مجالسهم الأغنياء وأهل الجاه.
(إِنْ أَنَا إِلاَّ
نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ
بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا
بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢))
__________________
شرح الكلمات :
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) : أي عن دعوتنا إلى ترك آلهتنا وعبادة إلهك وحده.
(مِنَ الْمَرْجُومِينَ) : أي المقتولين رجما بالحجارة.
(فَافْتَحْ بَيْنِي
وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) : أي أحكم بيني وبينهم حكما بأن تهلكهم وتنجيني ومن معي من
المؤمنين.
(فِي الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ) : أي المملوء بالركاب وأزواج المخلوقات الأخرى.
(بَعْدُ الْباقِينَ) : أي بعد إنجائنا نوحا والمؤمنين بركوبهم في السفينة
أغرقنا الكافرين إذ إغراقهم كان بعد نجاة المؤمنين.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحوار الدائر بين نوح وقومه إنه لما دعاهم إلى التوحيد وكرر عليهم الدعوة وأفحمهم
في مواطن كثيرة وأعيتهم الحجج لجأوا إلى التهديد والوعيد فقالوا ما أخبر تعالى به
عنهم في قوله (قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا نُوحُ) أي قسما بآلهتنا لئن لم تنته يا نوح من تسفيهنا وسب آلهتنا
ومطالبتنا بترك عبادتها (لَتَكُونَنَّ مِنَ
الْمَرْجُومِينَ) أي لنقتلنك رميا بالحجارة. وهنا وبعد دعوة دامت ألف سنة
إلا خمسين عاما رفع نوح شكواه إلى الله قائلا : (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً) أي احكم بيننا وافصل في قضية وجودنا مع بعضنا بعضا فأهلكهم
(وَنَجِّنِي وَمَنْ
مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال تعالى (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي
الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي المملوء بأنواع الحيوانات (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ
الْباقِينَ) أي بعد إنجائنا نوحا ومن معه من المؤمنين بأن ركبوا في
الفلك وما زال الماء يرتفع النازل من السماء والنابع من الأرض حتى غرق كل من على
الأرض والجبال ولم ينج أحد إلا نوح وأصحاب السفينة ، قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي المذكور من الصراع الذي دار بين التوحيد والشرك وفي
عاقبة التوحيد وهي نجاة أهله والشرك وهي دمار أهله (لَآيَةً) أي
__________________
عبرة . ولكن أهل مكة لم يعتبروا (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لما سبق في علم الله تعالى من عدم إيمانهم إذا فلا تحزن
عليهم. (وَإِنَّ رَبَّكَ) أيها الرسول الكريم لهو لا غيره العزيز الغالب الرحيم بمن
تاب من عباده فإنه لا يعذبه بل يرحمه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان سنة أن
الظلمة والطغاة إذا أعيتهم الحجج يلجأون إلى القوة.
٢ ـ جواز
الاستنصار بالله تعالى وطلب الفتح بين المظلوم والظالمين.
٣ ـ سرعة استجابة
الله تعالى لعبده نوح وذلك لصبره قرونا طويلة فلما انتهى صبره ورفع شكاته الى ربه
أجابه فورا فأنجاه وأهلك أعداءه.
(كَذَّبَتْ عادٌ
الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ
لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠)
فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١))
شرح الكلمات :
(كَذَّبَتْ عادٌ) : عاد اسم أبي القبيلة وسميت القبيلة به.
(أَخُوهُمْ هُودٌ) : أخوهم في النسب.
(فَاتَّقُوا اللهَ) : أي خافوا عقابه فلا تشركوا به شيئا.
__________________
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ
رِيعٍ) : أي مكان عال مرتفع.
(آيَةً) : أي قصرا مشيدا عاليا مرتفعا.
(تَعْبَثُونَ) : أي ببنيانكم حيث تبنون ما لا تسكنون.
(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) : أي حصونا منيعة وقصورا رفيعة.
(لَعَلَّكُمْ
تَخْلُدُونَ) : أي كأنكم تأملون الخلود في الأرض وترجونه.
(وَإِذا بَطَشْتُمْ) : أي أخذتم أحدا سطوتم عليه بعنف وشدة.
(جَبَّارِينَ) : أي عتاة متسلطين.
معنى الآيات :
هذه بداية قصص هود
عليهالسلام يقول تعالى (كَذَّبَتْ عادٌ) أي قبيلة عاد (الْمُرْسَلِينَ) أي رسول الله هودا ، (إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) أي ألا تتقون عقاب الله بترككم الشرك والمعاصي بمعنى اتقوا
الله ربكم فلا تشركوا به ، وقوله (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) يخبرهم بأنه رسول الله إليهم يبلغهم عن الله أمره ونهيه
وأنه أمين على ذلك فلا يزيد ولا ينقص فيما أمره ربه بإبلاغه إليهم ، وعليه (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) أي بوصفي رسول الله إليكم فإن طاعتي واجبة عليكم حتى
أبلغكم ما أرسلت به إليكم.
وقوله (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي على إبلاغ رسالتي إليكم من أجر أي من أي أجر كان. ولو
قل (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري إلا على رب العالمين سبحانه وتعالى إذ هو الذي
أرسلني وكلفني فهو الذي أرجو أن يثييني على حمل رسالتي إليكم وإبلاغها إيّاكم. وعليه
فاتقوا الله أي خافوا عقابه بترك الشرك به والمعاصي وأطيعوني بقبول ما أبلغكم به
لتكملوا وتسعدوا.
وقوله : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً
تَعْبَثُونَ) ينكر هود على قومه إنهماكهم في الدنيا
__________________
وانشغالهم بما لا
يعني وإعراضهم عما يعنيهم فيقول لهم كالمنكر عليهم أتبنون بكل ريع أي مكان عال
مرتفع آية أي قصرا مشيدا آية في ارتفاعه وعلوه. تعبثون حيث لا تسكنون فيما تبنون
فهو لمجرد اللهو والعبث وقوله (وَتَتَّخِذُونَ
مَصانِعَ) وهي مبان عالية كالحصون أو خزانات الماء أو الحصون (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي كيما تخلدون ، وما أنتم بخالدين ، وإنما مقامكم فيها
قليل. وقوله (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ
جَبَّارِينَ) أي إذا سطوتم على أحد تسطون عليه سطو العتاة الجبارين
فتأخذون بعنف وشدة بلا رحمة ولا رفق (فَاتَّقُوا اللهَ) يا قوم فخافوا عقابه وأليم عذابه ، (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه وأبلغكموه عن ربي فإن ذلك خير لكم من
الإعراض والتمادي في الباطل.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الأمر بالتقوى
من النصح للمأمور بها ، لأن النجاة والفوز لا يتمان للعبد إلا عليها.
٢ ـ الرسل أمناء
على ما يحملون وما يبلغون الناس.
٣ ـ حرمة أخذ
الأجرة على بيان الشرع والدعوة إلى ذلك.
٤ ـ ينبغي للعبد
أن لا يسرف فيبني ما لا يسكن ويدخر ما لا يأكل.
٥ ـ استنكار العنف
والشدة في الأخذ وعند المؤاخذة.
(وَاتَّقُوا الَّذِي
أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥)
قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ
هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ
مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))
__________________
شرح الكلمات :
(أَمَدَّكُمْ) : أي أعطاكم منعما عليكم.
(بِأَنْعامٍ) : هي الإبل والبقر والغنم.
(عَذابَ يَوْمٍ
عَظِيمٍ) : هو يوم هلاكهم في الدنيا ويوم بعثهم يوم القيامة.
(سَواءٌ عَلَيْنا) : أي مستو عندنا وعظك وعدمه فإنا لا نطيعك.
(إِنْ هذا إِلَّا
خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) : أي ما هذا الذي تعظنا فيه من البناء وغيره إلا دأب وعادة
الأولين فنحن على طريقتهم ، وما نحن بمعذبين.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في الحوار الذي دار بين نبي الله هود عليهالسلام وبين قومه المشركين إذ أمرهم بالتقوى وبطاعته وأمرهم أيضا
بتقوى الله الذي أمدهم أي أنعم عليهم بما يعلمونه من أنواع النعم فإن طاعة المنعم
شكر له على إنعامه ومعصيته كفر لإنعامه فقال (وَاتَّقُوا الَّذِي
أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ)
وبين ذلك بقوله (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ) أي مواشي من إبل وبقر وغنم (وَبَنِينَ) أي أولاد ذكور وإناث (وَجَنَّاتٍ) أي بساتين (وَعُيُونٍ) لسقيها وسقيكم وتطهيركم ، ثم قال لهم في إشفاق عليهم (إِنِّي أَخافُ
عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) إن أنتم أصررتم على الشرك والمعاصي وقد يكون عذابا في
الدنيا وعذابا في الآخرة ، وقد عذبوا في الدنيا بإهلاكهم ويعذبون في الآخرة لأنهم
ماتوا كفارا مشركين عصاة مجرمين ، كان هذا ما وعظهم به نبيهم هود عليهالسلام ، وكان ردهم على وعظه ما أخبر تعالى به في قوله (قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ
لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أي مستو عندنا وعظك أي تخويفك وتذكيرك وعدمه فما نحن
بتاركي آلهتنا عن قولك ، وما نحن لك بمؤمنين وقالوا (إِنْ هذا) الذي نحن عليه من البناء والإشادة وعبادة آلهتنا (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) أي دأب وعادة من سبقنا من الناس ، (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) عليه قال تعالى مخبرا عن نتيجة ذلك
__________________
الحوار وتلك الدعوة
التي قام بها نبي الله هود (فَكَذَّبُوهُ) أي كذبوا هودا فيما جاءهم به ودعاهم إليه وحذرهم منه ، (فَأَهْلَكْناهُمْ) أي بتكذيبهم وإعراضهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك للمكذبين عبرة لقومك يا محمد لو كانوا يعتبرون (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لما سبق في علم الله من عدم إيمانهم فلذا لم تنفعهم
المواعظ والعبر ، (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) فقد أخذ الجبابرة العتاة فأنزل بهم نقمته وأذاقهم مر عذابه
، ورحم أولياءه فأنجاهم وأهلك أعداءهم.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تنويع أسلوب
الدعوة وتذكير الجاحدين بما هو محسوس لديهم مرأي لهم.
٢ ـ التخويف من
عذاب الله والتحذير من عاقبة عصيانه من أساليب الدعوة.
٣ ـ بيان سنة
الناس في التقليد واتباع آبائهم وإن كانوا ضلالا جاهلين.
٤ ـ تقرير التوحيد
والنبوة والبعث إذ هو المقصود من هذا القصص.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما
أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ
(١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً
فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ
الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢))
__________________
شرح الكلمات :
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ) : أي كذبت قبيلة ثمود نبيّها صالحا.
(فِي ما هاهُنا
آمِنِينَ) : أي من الخيرات والنعم غير خائفين من أحد.
(طَلْعُها هَضِيمٌ) : أي طلع النخلة ليّن ناعم ما دام في كفرّاه أي غطاؤه الذي
عليه.
(وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ بُيُوتاً) : أي تنجرون بآلات النحت الصخور في الجبل وتتخذون منها
بيوتا.
(فارِهِينَ) : أي حذقين من جهة وبطرين متكبرين مغترين بصنيعكم من جهة
أخرى.
(وَأَطِيعُونِ) : أي فيما أمرتكم به.
(الْمُسْرِفِينَ) : أي في الشر والفساد بالكفر والعناد.
(الَّذِينَ
يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) : أي بارتكاب الذنوب العظام فيها.
ولا يصلحون فيها :
أي بفعل الطاعات والقربات.
معنى الآيات :
هذا بداية قصص نبي
الله صالح عليهالسلام قال تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ
الْمُرْسَلِينَ) أي جحدت قبيلة ثمود ما جاءها به رسولها صالح ، (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب لا في الدين إذ هو مؤمن وهم كافرون (أَلا تَتَّقُونَ) أي يحضهم على التقوى ويأمرهم بها لأن فيها نجاتهم والمراد
من التقوى اتقاء عذاب الله بالإيمان به وتوحيده وطاعته وطاعة رسوله وقوله (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) يعلمهم بأنه مرسل من قبل الله تعالى إليهم أمين على رسالة
الله وما تحمله من العلم والبيان والهدى إليهم. (فَاتَّقُوا اللهَ
وَأَطِيعُونِ) كرر الأمر بالتقوى وبطاعته إذ هما معظم رسالته ومتى حقّقها
المرسل إليهم اهتدوا وأفلحوا (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أبعد تهمة المادة لما قد يقال أنه يريد مالا فأخبرهم في
صراحة أنه لا يطلب على إبلاغهم دعوة ربهم أجرا من أحد إلا من الله رب العالمين إذ
هو الذي يثيب ويجزي العاملين له وفى دائرة طاعته وقوله فيما أخبر تعالى به عنه (أَتُتْرَكُونَ فِي
ما هاهُنا) بين
__________________
أيديكم من الخيرات
(آمِنِينَ) غير خائفين ، وبين ما أشار إليه بقوله فيما ها هنا فقال (فِي جَنَّاتٍ) أي بساتين ومزارع بمدائنهم وهي إلى الآن قائمة (وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ ، وَنَخْلٍ
طَلْعُها هَضِيمٌ) أي لين ناعم ما دام في كفراه أي غلافه (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) لما خولكم الله من قوة ومعرفة بفن النحت حتى أصبحتم تتخذون
من الجبال الصم بيوتا تسكنونها شتاء فتقيكم البرد. وقوله (فارِهِينَ) هذا حال من قوله (وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبالِ) ومعنى (فارِهِينَ) حذقين فن النحت وبطرين متكبرين مغترين بقوتكم وصناعتكم ، إذا
(فَاتَّقُوا اللهَ) يا قوم بترك الشرك والمعاصي (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به وأنهاكم عنه وأدعوكم إليه (وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) أي على أنفسهم بارتكاب الكبائر وغشيان الذنوب. (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) أي بمعاصي الله ورسوله فيها (وَلا يُصْلِحُونَ) أي جمعوا بين الفساد والإفساد ، وترك الصلاح والإصلاح.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ دعوة الرسل
واحدة ولذا التكذيب برسول يعتبر تكذيبا بكل الرسل.
٢ ـ الأمانة شعار
كل الرسل والدعاة الصادقين الصالحين في كل الأمم والعصور.
٣ ـ مشروعية
التذكير بالنعم ليذكر المنعم فيحب ويطاع.
٤ ـ التحذير من
طاعة المسرفين في الذنوب والمعاصي لوخامة عاقبة طاعتهم.
٥ ـ تقرير أن
الفساد في الأرض يكون بارتكاب المعاصي فيها.
__________________
(قالُوا إِنَّما
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ
شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ
الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))
شرح الكلمات :
(إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ) : الذين سحروا وبولغ في سحرهم حتى غلب عقولهم.
(فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ
كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) : إن كنت من الصادقين في أنك رسول فأتنا بآية تدل على ذلك.
(لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ
شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) : أي لها يوم تشرب فيه من العين ولكم يوم آخر معلوم.
(فَعَقَرُوها
فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) : أي فلم يؤمنوا فقتلوها فأصبحوا نادمين لما شاهدوا
العذاب.
معنى الآيات :
ما زال السياق في
الحوار الذي دار بين صالح عليهالسلام وقومه ثمود فلما ذكرهم ووعظهم ردوا عليه بما أخبر تعالى
عنهم في قوله (قالُوا إِنَّما
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) أي الذين سحروا وبولغ في سحرهم حتى غلب على عقولهم فهم لا
يعرفون ما يقولون (ما أَنْتَ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) تأكل الطعام وتشرب الشراب فلا أنت رب ولا ملك فنخضع لك
__________________
ونطيعك (فَأْتِ بِآيَةٍ) علامة قوية ودلالة صادقة تدل على أنك رسول الله حقا وأنت
من الرسل الصادقين ، فأجابهم صالح بما أخبر تعالى به عنه في قوله : (قالَ هذِهِ ناقَةٌ) أي عظيمة الخلقة سأل ربه آية فأعطاه هذه الناقة فما زال
قائما يصلي ويدعو وهم يشاهدون حتى أنفلق الجبل وخرجت منه هذه الناقة الآية العظيمة
فقال (هذِهِ ناقَةٌ لَها
شِرْبٌ) أي حظ ونصيب من ماء البلد تشربه وحدها لا يرد معها أحد
ولكم أنتم شرب يوم معلوم لكم تردونه وحدكم. (وَلا تَمَسُّوها
بِسُوءٍ) وحذرهم أن يمسوها بسوء لا بضرب ولا بقتل ولا بمنع من شرب ،
فإنه يأخذكم عذاب يوم عظيم قال تعالى (فَعَقَرُوها) أي فكذبوه وعصوه وعقروها بأن ضربوها في يديها ورجلها فبركت
وقتلوها. فلما عقروها قال لهم صالح (تَمَتَّعُوا فِي
دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) فأصبحوا بذلك نادمين ففي صبيحة اليوم الثالث أخذتهم الصيحة مع شروق الشمس فاهلكوا
أجمعين ونجى الله تعالى صالحا ومن معه من المؤمنين (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) أي علامة كبرى على قدرة الله تعالى وعلمه وأنه واجب
الألوهية (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) مع وضوح الأدلة لأنه لم يسبق لهم إيمان في قضاء الله وقدره
(وَإِنَّ رَبَّكَ) أيها الرسول لهو وحده العزيز الغالب الذي لا يغالب الرحيم
بأوليائه وصالحي عباده.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير أن
السحر من عمل الناس وأنه معلوم لهم معمول به منذ القدم.
٢ ـ سنة الناس في
المطالبة بالآيات عند دعوتهم إلى الدين الحق.
٣ ـ وجود الآيات
لا يستلزم بالضرورة إيمان المطالبين بل أكثرهم لا يؤمنون.
٤ ـ الندم من
التوبة ولكن لا ينفع ندم ولا توبة عند معاينة العذاب أو أماراته.
__________________
(كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ
(١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ
ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦))
شرح الكلمات
(قَوْمُ لُوطٍ) : هم سكان مدن سدوم وعمورية وقرى أخرى ولوط هو نبي الله
لوط بن هاران ابن أخى إبراهيم.
(أَخُوهُمْ لُوطٌ) : هذه أخوة بلد وسكنى لا أخوة نسب ولا دين.
(إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) : أي إني مرسل إليكم لا إلى غيركم أمين في إبلاغكم رسالتي
فلا أنقص ولا أزيد.
(فَاتَّقُوا اللهَ) : بالإيمان به وعبادته وحده وترك معاصيه.
(وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ) : أي على البلاغ من أجرة مقابل إرشادكم وتعليمكم.
(أَتَأْتُونَ
الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) : أي أتأتون الفاحشة من الرجال وتتركون النساء.
(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ
عادُونَ) : أي معتدون ظالمون متجاوزون الحد في الإسراف في الشر.
معنى الآيات :
هذه بداية قصص لوط
مع قومه أصحاب المؤتفكات قال تعالى (كَذَّبَتْ قَوْمُ
لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) أي كذبوا لوطا الرسول وتكذيبه يعتبر تكذيبا لكافة الرسل
لأن دعوة الله واحدة كذبوه لما دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك الفواحش
والظلم والشر والفساد (إِذْ قالَ لَهُمْ
أَخُوهُمْ لُوطٌ) هذه أخوة الوطن لا غير إذ لوط بابلي الموطن ودينه الإسلام
وأبوه هاران
__________________
أخو إبراهيم عليهالسلام ، وإنما لما أرسل لوط إلى أهل هذه البلاد وسكن معهم قيل
لهم أخوهم بحكم المعاشرة والمواطنة الحاصلة (أَلا تَتَّقُونَ) يأمرهم بتقوى الله ويحضهم عليها لأنهم قائمون على عظائم
الذنوب فخاف عليهم الهلاك فدعاهم إلى أسباب النجاة وهي تقوى الله تعالى بطاعته
وترك معاصيه. وقال لهم (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) فلا تشكوا في رسالتي وأطيعون ، وإني غير سائلكم أجرا على
تبليغ رسالتي إليكم إن أجري آخذه من رب العالمين الذي حملني هذه الرسالة وأمرني
بإبلاغكم إياها وهنا أنكر عليهم أعظم منكر فقال موبخا مقرعا (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ
مِنَ الْعالَمِينَ) فترتكبون الفاحشة معهم (وَتَذَرُونَ) أي تتركون ما خلق الله لكم من أزواجكم (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) أي متجاوزون الحدود التي رسمها الشرع والعقل والآدمية.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ جواز إطلاق
أخوة الوطن دون الدين والنسب.
٢ ـ الأمانة من
مستلزمات الرسالة ، إذ كل رسول يقول (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ).
٣ ـ سبيل نجاة
الفرد والجماعة في تقوى الله تعالى وطاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم.
٤ ـ وجوب إنكار
المنكر وتقبيحه على فاعله لعله يرعوي.
٥ ـ أكبر فاحشة
وقعت في الأرض هي فاحشة اللواط. والعياذ بالله تعالى.
(قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي
لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ
(١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠)
__________________
إِلاَّ
عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١)) ثُمَّ
دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))
شرح الكلمات :
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) : أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة.
(مِنَ الْمُخْرَجِينَ) : أي من بلادنا وطردك من ديارنا.
(لِعَمَلِكُمْ مِنَ
الْقالِينَ) : أي المبغضين له البغض الشديد.
(رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) : أي من عقوبة وعذاب ما يعملونه من الفواحش.
(فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ) : أي نجينا لوطا الذي دعانا وأهله وهم امرأته المؤمنة
وابنتاه.
(إِلَّا عَجُوزاً فِي
الْغابِرِينَ) : أي فإنا لم ننجها إذ حكمنا بإهلاكها مع الظالمين
فتركناها معهم حتى هلكت بينهم لأنها كانت كافرة وراضية بعمل القوم.
(وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً) : أي أنزل عليهم حجارة من السماء فأمطروا بها بعد قلب
البلاد عاليها سافلها.
(فَساءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ) : أي فقبح مطر المنذرين ولم يمتثلوا فما كفوا عن الشر
والفساد.
معنى الآيات :
ما زال السياق
فيما دار بين نبي الله لوط وقومه المجرمين فإنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم ونهاهم
وسمعوا ذلك كله منه أجابوا بما أخبر تعالى به عنهم (قالُوا لَئِنْ لَمْ
تَنْتَهِ يا لُوطُ) أي عن إنكارك علينا ما نأتيه من الفاحشة (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) أي نخرجك من بلادنا ونطردك من بيننا ولا تبقى ساعة واحدة
عندنا إنتبه يا رجل .. فأجابهم لوط
__________________
الرسول عليهالسلام بقوله (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ
مِنَ الْقالِينَ) أي إني لعملكم الفاحشة من المبغضين أشد البغض ، ثم التفت
إلى ربه داعيا ضارعا فقال (رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) وهذا بعد أن أقام يدعوهم ويتحمل سنين عديدة فلم يجد بدا من
الفزع إلى ربه ليخلصه منهم فقال (رَبِّ نَجِّنِي
وَأَهْلِي) من عقوبة وعذاب ما يعملونه من إتيان الفاحشة من العالمين قال
تعالى (فَنَجَّيْناهُ
وَأَهْلَهُ) وهم امرأته المسلمة وابنتاه المسلمتان طبعا (إِلَّا عَجُوزاً) وهي امرأته الكافرة المتواطئة مع الظلمة الراضية بالفعلة
الشنعاء كانت في جملة الغابرين أي المتروكين بعد خروج لوط من البلاد لتهلك مع الهالكين قال
تعالى (ثُمَّ دَمَّرْنَا
الْآخَرِينَ) أي بعد أن أنجينا لوطا وأهله أجمعين باستثناء العجوز الكافرة
دمرنا أي أهلكنا الآخرين (وَأَمْطَرْنا
عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) إنه بعد قلب البلاد سافلها على عاليها أمطر عليهم مطر
حجارة من السماء لتصيب من كان خارج المدن المأفوكة المقلوبة.
قوله تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي في هذا الذي ذكرنا من إهلاك المكذبين والمسرفين
الظالمين آية وعلامة كبرى لمن يسمع ويرى (وَما كانَ
أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) لما سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون فسبحان الله
العظيم. وقوله (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) وإن ربك يا رسولنا هو لا غيره العزيز الغالب القاهر لكل
الظلمة والمسرفين الرحيم بأوليائه وعباده المؤمنين.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ التهديد
بالنفي سنة بشرية قديمة.
__________________
٢ ـ وجوب بغض الشر
والفساد في أي صورة من صورهما.
٣ ـ استجابة دعوة
المظلوم لا سيما إن كان من الصالحين.
٤ ـ توقع العذاب
إذا انتشر الشر وعظم الظلم والفساد.
٥ ـ الآيات مهما
كانت عظيمة لا تستلزم الإيمان والطاعة.
٦ ـ من لم يسبق له
الإيمان لا يؤمن ولو جلب عليه كل آية.
٧ ـ مظاهر قدرة
الله وعلمه ورحمته.
(كَذَّبَ أَصْحابُ
الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ
(١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ
الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١)
وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ
وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))
شرح الكلمات :
(أَصْحابُ الْأَيْكَةِ) : أي الغيضة وهي الشجر الملتف.
(إِذْ قالَ لَهُمْ
شُعَيْبٌ) : النبي المرسل شعيب عليهالسلام.
(أَوْفُوا الْكَيْلَ) : أي أتموه.
(وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ) : الذين ينقصون الكيل والوزن.
(بِالْقِسْطاسِ
الْمُسْتَقِيمِ) : أي الميزان السوي المعتدل.
(وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) : أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئا.
(وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) : أي بالقتل والسلب والنهب.
(وَالْجِبِلَّةَ
الْأَوَّلِينَ) : أي والخليقة أي الناس من قبلكم.
معنى الآيات :
هذه بداية قصص
شعيب عليهالسلام مع أصحاب الأيكة والأيكة الشجر الملتف كشجر الدوم وهذه
الغيضة قريبة من مدينة مدين وشعيب أرسل لهما معا وفي سورة هود (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) لأنه منهم ومن مدينتهم فقيل له أخوهم ، وأما أصحاب الأيكة
جماعة من بادية مدين كانت لهم أيكة من الشجر يعبدونها تحت أي عنوان كعبدة الأشجار
والأحجار في كل زمان ومكان ، فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فدعاهم إلى عبادة الله وحده
وترك عبادة ما سواه فكذبوه وهو قوله تعالى (كَذَّبَ أَصْحابُ) (الْأَيْكَةِ
الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) (أَلا تَتَّقُونَ) أي اتقوا الله وخافوا عقابه (إِنِّي لَكُمْ
رَسُولٌ أَمِينٌ) فاتقوا الله بعبادته وترك عبادة ما سواه وأطيعون أهدكم الى
ما فيه كمالكم وسعادتكم (وَما أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ) أي على بلاغ رسالة ربي إليكم أجرا أي جزاء وأجرة (إِنْ أَجْرِيَ) أي ما أجري إلا على رب العالمين. وأمرهم بترك أشهر معصية
كانت شائعة بينهم وهي تطفيف الكيل والوزن فقال لهم (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أي أتموها ولا تنقصوها (وَلا تَكُونُوا مِنَ
الْمُخْسِرِينَ) أي الذين ينقصون الكيل والوزن (وَزِنُوا) أي إذا وزنتم (بِالْقِسْطاسِ
الْمُسْتَقِيمِ) أي بالميزان العادل ، (وَلا تَبْخَسُوا
النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) أي لا تنقصوهم من حقوقهم شيئا فما يساوي دينارا لا تعطوا فيه
نصف دينار وما يساوي عشرة لا تأخذوه بخمسة مثلا ومن أجرته اليومية عشرون لا تعطوه
عشرة مثلا ، (وَلا تَعْثَوْا فِي
الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) أي ولا تفسدوا في البلاد بأي نوع من الفساد كالقتل والسلب
ومنع الحقوق وارتكاب المعاصي والذنوب (وَاتَّقُوا الَّذِي
خَلَقَكُمْ) أي الله فخافوا عقابه (وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) أي وخلق الخليقة من قبلكم
__________________
اتقوه بترك الشرك
والمعاصي تنجوا من عذابه ، وتظفروا برضاه وإنعامه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ الأمر بالتقوى
فريضة كل داع إلى الله تعالى وسنة الدعاة والهداة إذ طاعة الله واجبة.
٢ ـ لا يصح لداع
إلى الله أن يطلب أجره ممن يدعوهم فإن ذلك ينفرهم.
٣ ـ وجوب توفية
الكيل والوزن وحرمة التطفيف فيهما.
٤ ـ حرمة بخس
الناس حقوقهم ونقصها بأي حال من الأحوال.
٥ ـ حرمة الفساد
في الأرض بارتكاب المعاصي وغشيان الذنوب.
(قالُوا إِنَّما
أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ
نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ
إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ
(١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ
(١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))
شرح الكلمات :
(إِنَّما أَنْتَ مِنَ
الْمُسَحَّرِينَ) : أي ممن يأكلون الطعام ويشربون فلست بملك تطاع.
(وَإِنْ نَظُنُّكَ
لَمِنَ الْكاذِبِينَ) : أي وما نحسبك إلا واحدا من الكاذبين.
(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا
كِسَفاً) : أي قطعا من السماء تهلكنا بها إن كنت من الصادقين فيما
تقول.
(عَذابُ يَوْمِ
الظُّلَّةِ) : أي السحابة التي أظلتهم ثم التهبت عليهم نارا.
(إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً) : أي لعبرة وعلامة عبرة لمن يعتبر وعلامة دالة على صدق
الرسول صلىاللهعليهوسلم.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في قصص شعيب عليهالسلام مع أصحاب الأيكة وأهل مدين إنه لما ذكرهم ووعظهم وأمرهم
كان جوابهم ما أخبر به تعالى عنهم في قوله (قالُوا إِنَّما
أَنْتَ) أي يا شعيب (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الذي غلب السحر على عقولهم فلا يدرون ما يفعلون وما لا
يقولون
كما أنك بشر مثلنا
تأكل الطعام وتشرب الشراب فما أنت بملك من الملائكة حتى نطيعك ، (وَإِنْ نَظُنُّكَ) أي وما نظنك إلا من الكاذبين من الناس (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) أي قطعا من السماء تهلكنا بها (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعوى أنك رسول
من الله إلينا. فأجابهم قائلا بما ذكر تعالى (قالَ رَبِّي أَعْلَمُ
بِما تَعْمَلُونَ) ولازم ذلك أنه سيجازيكم بعملكم قال تعالى (فَكَذَّبُوهُ) في كل ما جاءهم به واستوجبوا لذلك العذاب (فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ) (الظُّلَّةِ إِنَّهُ
كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) فقد أنزل الله تعالى عليهم حرا شديدا التهب منه الجوّ أو
كاد فلجأوا إلى المنازل والكهوف والسراديب تحت الأرض فلم تغن عنهم شيئا ، ثم
ارتفعت في سماء بلادهم سحابة فذهب إليها بعضهم فوجدها روحا وبردا وطيبا فنادى
الناس أن هلموا فجاءوا فلما اجتمعوا تحتها كلهم انقلبت نارا فأحرقتهم ورجفت بهم
الأرض من تحتهم فهلكوا عن آخرهم.
قال تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي علامة لقومك يا محمد على قدرتنا وعلمنا ووجوب عبادتنا
وتصديق رسولنا ولكن أكثرهم لا يؤمنون لما سبق في علمنا أنهم لا يؤمنون ، وإن ربك
يا محمد لهو العزيز أي الغالب على أمره الرحيم بمن تاب من عباده.
__________________
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ هذا آخر سبع
قصص ذكرت بإيجاز تسلية للنبي صلىاللهعليهوسلم وتهديدا للمشركين المكذبين.
٢ ـ دعوة الرسل
واحدة وأسلوبهم يكاد يكون واحدا : الأمر بتقوى الله وطاعة رسوله.
٣ ـ سنة تعلل
الناس بأن الرسول لا ينبغي أن يكون بشرا فلذا هم لا يؤمنون.
٤ ـ المطالبة
بالآيات تكاد تكون سنة مطردة ، وقل من يؤمن عليها.
٥ ـ تقرير التوحيد
والنبوة والبعث وهي ثمرة كل قصة تقص في هذا القرآن العظيم.
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى
قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ
يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩)
كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى
يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١))
شرح الكلمات :
(وَإِنَّهُ
لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) : أي القرآن الكريم تنزيل رب العالمين.
(الرُّوحُ الْأَمِينُ) : جبريل عليهالسلام أمين على وحي الله تعالى.
(وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) : أي كتب الأولين ، واحد الزبر : زبرة وكصفحة وصحف.
(أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ آيَةً) : أي علامة ودليلا علم بني إسرائيل به.
(عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ) : الأعجمي من لا يقدر على التكلم بالعربية.
(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) : أي التكذيب في قلوب المجرمين من كفار مكة.
معنى الآيات :
لقد أنكر كفار مكة
أن يكون القرآن وحيا أوحاه الله تعالى وبذلك أنكروا أن يكون محمد رسول الله ، ومن
هنا ردوا عليه كل ما جاءهم به من التوحيد وغيره ، فإيراد هذا القصص يتلوه محمد صلىاللهعليهوسلم وهو لا يقرأ ولا يكتب دال دلالة قطعية على أنه وحى إلهي
أوحاه إلى محمد صلىاللهعليهوسلم وهو بذلك رسوله. فقوله تعالى (وَإِنَّهُ) أي القرآن الذي كذب به المشركون (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ نَزَلَ
بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) جبريل عليهالسلام
(عَلى قَلْبِكَ) أي الرسول لأن القلب هو الذي يتلقى الوحي إذ هو محط
الإدراك والوعي والحفظ ، وقوله (لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ) هو علة لنزول القرآن عليه وبه كان من الرسل المنذرين. وقوله
(وَإِنَّهُ لَفِي
زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي القرآن مذكور في الكتب الإلهية التي سبقته كالتوراة والإنجيل. وقوله تعالى (أَوَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ) أي لكفار قريش (آيَةً) أي علامة على أن القرآن وحي الله وكتابه وأن محمدا عبد
الله ورسوله (أَنْ يَعْلَمَهُ
عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أي علم بني إسرائيل به كعبد الله بن سلام فقد قال والله
إني لأعلم أن محمدا رسول أكثر مما أعلم أن فلانا ولدي ، لأن ولدي في الإمكان أن
تكون أمه قد خانتني أما محمد فلا يمكن أن يكون غير رسول الله وفيهم قال تعالى (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ
أَبْناءَهُمْ) ومن عرف محمدا رسولا عرف القرآن وحيا إلهيا.
وقوله تعالى (وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ
الْأَعْجَمِينَ) أي وبلسان عربي مبين فكان ذلك آية ، وقرأه عليهم الأعجمي ،
ما كانوا به مؤمنين. أي من أجل الأنفة والحمية إذ يقولون أعجمي وعربي؟ وقوله تعالى
: (كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي التكذيب وعدم الإيمان (فِي قُلُوبِ
__________________
الْمُجْرِمِينَ) أي كما سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين لو قرأ القرآن
عليهم أعجمي سلكناه أي التكذيب في قلوب المجرمين إن قرأه عليهم محمد صلىاللهعليهوسلم ، والعلة في ذلك هي أن الإجرام على النفس بارتكاب عظائم
الذنوب من شأنه أن يحول بين النفس وقبول الحق لما ران عليها من الذنوب وأحاط بها
من الخطايا. وقوله (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) تأكيد لنفي الإيمان حتى يروا العذاب الأليم أي يستمر
تكذيبهم بالقرآن والمنزل عليه حتى يروا العذاب الموجع ، وحينئذ لا ينفعهم إيمانهم
ولا هم ينظرون.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير معتقد
الوحي الإلهي والنبوة المحمدية.
٢ ـ بيان أن جبريل
هو الذي كان ينزل بالوحي القرآني على النبي محمد صلىاللهعليهوسلم.
٣ ـ تقرير النبوة
المحمدية وأن محمدا من المنذرين.
٤ ـ بيان أن
القرآن مذكور في الكتب السابقة بشهادة علماء أهل الكتاب.
٥ ـ إذا تراكمت
آثار الذنوب والجرائم على النفس حجبتها عن التوبة ومنعتها من الإيمان.
(فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا
يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ
جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ
(٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما
كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢))
__________________
شرح الكلمات :
(هَلْ نَحْنُ
مُنْظَرُونَ) : أي ممهلون لنؤمن. والجواب قطعا : لا لا ..
(أَفَرَأَيْتَ) : أي أخبرني.
(إِنْ مَتَّعْناهُمْ
سِنِينَ) : أي أبقينا على حياتهم يأكلون ويشربون وينكحون.
(ما كانُوا يُوعَدُونَ) : أي من العذاب.
(ما أَغْنى عَنْهُمْ) : أي أي شيء أغنى عنهم ذلك التمتع الطويل لا بدفع العذاب
ولا بتخفيفه.
(إِلَّا لَها
مُنْذِرُونَ) : أي رسل ينذرون أهلها عاقبة الكفر والشرك.
(ذِكْرى) : أي عظة.
(وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ) : أي لا يتأتى لهم ولا يصلح لهم أن يتنزلوا به.
(وَما يَسْتَطِيعُونَ) : أي لا يقدرون.
(إِنَّهُمْ عَنِ
السَّمْعِ) : أي لكلام الملائكة لمعزولون.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في تقرير النبوة المحمدية واثبات الوحي. لقد جاء في السياق أن المجرمين لا
يؤمنون بهذا القرآن حتى يروا العذاب الأليم. (فَيَأْتِيَهُمْ
بَغْتَةً) أي فجأة (وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ) أي لا يعلمون به حتى يفاجئهم. فيقولون حينئذ : (هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) أي يتمنون أن لو يمهلوا حتى يؤمنوا ويصلحوا ما أفسدوا.
وقوله تعالى (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) عندما قالوا للرسول (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ
حَتَّى) تنزل علينا كسفا من السماء أي قطعا ، أحمق هم أم مجانين
يستعجلون عذاب الله الذي إن جاءهم كان فيه حتفهم أجمعين؟ ثم قال لرسوله : (أَفَرَأَيْتَ) يا رسولنا (إِنْ مَتَّعْناهُمْ
سِنِينَ) بأن أطلنا أعمارهم ووسعنا في أرزاقهم فعاشوا سنين عديدة ثم
جاءهم عذابنا أي
__________________
أخبرنى هل يغني
ذلك التمتع عنهم شيئا؟ (ما أَغْنى عَنْهُمْ
ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) أي لم يغن عنهم شيئا لا بدفع العذاب ولا بتأخيره ولا
بتخفيفه.
وقوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) كتلك القرى التي مر ذكرها في هذه السورة (إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) أي كان لها رسل ينذرون أهلها عقاب الله إن أصروا على الشرك
والكفر والشر والفساد. وقوله (ذِكْرى) أي عظة لعلهم يتعظون. وقوله (وَما كُنَّا
ظالِمِينَ) في إهلاك من أهلكنا بعد أن أنذرنا.
ونزل ردا على
المشركين المجرمين الذين قالوا إن الشياطين يلقون القرآن على لسان محمد كما يأتون
للكهان بأخبار السماء. (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ
الشَّياطِينُ) كما يزعم المكذبون (وَما يَنْبَغِي
لَهُمْ) أي للشياطين أي لا يصلح لهم ولا يتأتّى منهم ذلك لأنهم
معزولون عن السمع ، أي سماع كلام الملائكة إذ أرصد الله تعالى شهبا حالت بينهم
وبين السماع من السماء .. فلذا دعوى المشركين باطلة من أساسها.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ بيان أن
المجرمين إذا شاهدوا العذاب تمنوا التوبة ولا يمكنون منها.
٢ ـ بيان أن
استعجال عذاب الله حمق ونزغ في الرأي وفساد في العقل.
٣ ـ بيان أن طول
العمر وسعة الرزق لا يغنيان عن صاحبها شيئا من عذاب الله إذا نزل به.
٤ ـ بيان سنة الله
تعالى في أنه لا يهلك أمة إلا بعد الإنذار والبيان.
٥ ـ إبطال مزاعم
المشركين في أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان ، وأن الشياطين تتنزل به.
(فَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
(٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي
__________________
بَرِيءٌ
مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي
يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))
شرح الكلمات :
(فَلا تَدْعُ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ) : أي لا تعبد مع الله إلها آخر ، لأن الدعاء هو العبادة.
(وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) : وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب.
(وَاخْفِضْ جَناحَكَ) : أي ألن جانبك.
(فَإِنْ عَصَوْكَ) : أي أبوا قبول دعوتك إلى التوحيد ، ورفضوا ما تدعوهم
إليه.
(فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) : أي من عبادة غير الله سبحانه وتعالى.
(الَّذِي يَراكَ حِينَ
تَقُومُ) : أي إلى الصلاة فتصلي متهجدا بالليل وحدك.
(وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ) : أي ويرى تقلبك مع المصلين راكعا ساجدا قائما.
معنى الآيات :
ما زال السياق
الكريم في طلب هداية قريش قوم محمد صلىاللهعليهوسلم فقوله تعالى (فَلا تَدْعُ مَعَ) (اللهِ إِلهاً آخَرَ
فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) فيه إيحاء وإشارة واضحة بأنه تعريض بالمشركين الذين يدعون
آلهة أصناما وهي دعوة توقظهم من نومتهم إنه إذا كان رسول الله ينهى عن عبادة غير
الله وإلا يعذب مع المعذبين فغيره من باب أولى فكأن الكلام جرى على حد إياك أعني
واسمعي يا جارة!! وقوله تعالى (وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أمر من الله لرسوله أن يخص أولا بإنذاره قرابته لأنهم أولى
بطلب النجاة لهم من العذاب ، وقد امتثل الرسول أمر ربه فقد ورد في الصحاح عن أبي
هريرة رضى الله عنه أنه صلىاللهعليهوسلم لما أنزل عليه (وَأَنْذِرْ
__________________
عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ) قال «يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله (يعني بالإيمان والعمل الصالح
بعد التخلي عن الشرك والمعاصي) فإني لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد
المطلب لا أغني عنكم من الله أي من عذابه شيئا ، يا عباس بن عبد المطلب ، لا أغني
عنك من الله شيئا ، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا ، يا فاطمة
بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا».
وقوله تعالى (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أمره أن يلين جانبه للمؤمنين وأن يعطف عليهم ويطايبهم
ليرسخ الإيمان في قلوبهم ويسلموا من غائلة الردة فيما لو عوملوا بالقسوة والشدة
وهم في بداية الطريق الى الله تعالى وقوله تعالى (فَإِنْ عَصَوْكَ) أي من أمرت بدعوتهم إلى توحيد الله وعبادته وخلع الأنداد
والتخلي عن عبادتها (فَقُلْ إِنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) أي من عبادة غير الله تعالى وغير راض بذلك منكم ولا موافق عليه
لأنه شرك حرام وباطل مذموم. وقوله تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ) أي الغالب القاهر الذي لا يمانع في شيء يريده الرحيم
بالمؤمنين من عباده ، والأمر بالتوكل هنا ضروري لأنه أمره بالبراءة من الشرك
والمشركين وهي حال تقتضي عداوته والكيد له بل ومحاربته ومن هنا وجب التوكل على الله والاعتماد عليه ، وإلا فلا طاقة له بحرب قوم وهو
فرد واحد وقوله (الَّذِي يَراكَ حِينَ
تَقُومُ) أي في صلاتك وحدك (وَتَقَلُّبَكَ فِي
السَّاجِدِينَ) أي ويرى تقلبك قائما وراكعا وساجدا مع المصلين من المؤمنين
، بمعنى أنه معك يسمع ويرى فتوكل عليه ولا تخف غيره وامض في دعوتك ومفاصلتك
للمشركين. وقوله (إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تقرير لتلك المعية الخاصة إذ السميع لكل صوت والعليم بكل
حركة وسكون يحق للعبد التوكل عليه وتفويض الأمر إليه.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ تقرير التوحيد
، وحرمة دعاء غير الله تعالى من سائر مخلوقاته لأنه الشرك الحرام.
__________________
٢ ـ من مات يدعو
غير الله فهو معذب لا محالة مع المعذبين.
٣ ـ تقرير قاعدة
البدء بالأقارب في كل شيء لأنهم ألصق بقريبهم من غيرهم.
٤ ـ مشروعية لين
الجانب والتواضع للمؤمنين لا سيما الحديثو عهد بالإسلام.
٥ ـ وجوب البراءة
من الشرك وأهله.
٦ ـ وجوب التوكل
على الله والقيام بما أوجبه الله تعالى.
٧ ـ فضل قيام
الليل وصلاة الجماعة لما يحصل للعبد من معية الله تعالى.
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
(٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ
(٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما
ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (٢٢٧))
شرح الكلمات :
(أُنَبِّئُكُمْ) : أي أخبركم.
(أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) : أي كذاب يقلب الكذب فيكون إفكا أثيم غارق في الآثام.
(يُلْقُونَ السَّمْعَ) : أي يلقون أسماعهم ويصغون أشد الإصغاء للشياطين فيتلقون
منهم مما أكثره كذب وباطل.
(الْغاوُونَ) : جمع غاو : الضال عن الهدى الفاسد القلب والنية.
(فِي كُلِّ وادٍ) : أي من أودية الكلام وفنونه.
(يَهِيمُونَ) : أي يمضون في كل شعب وواد من الكلام مدحا أو ذما كان صدقا
أو كذبا.
(يَقُولُونَ ما لا
يَفْعَلُونَ) : أي يقولون فعلنا وهم لم يفعلوا.
(وَانْتَصَرُوا مِنْ
بَعْدِ ما ظُلِمُوا) : أي قالوا الشعر انتصارا للحق بأن ردوا على من هجا
المسلمين.
(أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ) : أي مرجع يرجعون بعد الموت وهو دار البوار جهنم.
معنى الآيات :
لما ادعى المبطلون
من مشركي قريش أن الرسول صلىاللهعليهوسلم يتلقى من الشياطين كما تتلقى الكهان منهم رد تعالى عليهم
بقوله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى
مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟)
وأجاب عن السؤال
قائلا (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ
أَفَّاكٍ) كذاب يقلب الكذب قلبا فيقول في الظالم عادل ، وفي الخبيث
طيب ، وفي الفاسد صالح ، (أَثِيمٍ) أي كثير الآثام إذ لم يترك جريمة إلا يقارفها ولا سيئة إلا
يجترحها حتي يغرق في الإثم فهذا الذي تتحد معه الشياطين وتلقي إليه بما تسمعه من
السماء لكونه مثلها في ظلمة النفس وخبث الروح ، وأما محمد صلىاللهعليهوسلم فهو أبعد الناس عن الكذب والإثم فلم يجرب عليه كذب قط ولم
يعرف منه ذنب أبدا فكيف تتحد معه الشياطين وتخبره وتلقي إليه بخبر السماء؟ وبهذا
بطلت التهمة وقوله (يُلْقُونَ السَّمْعَ
وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) أي إن الشياطين قبل أن يحال بينهم وبين استراق السمع
بإرصاد الشهب لهم. كانوا يلقون أسماعهم للحصول على الخبر وأكثرهم كاذبون حيث
بحلطون مع الكلمة التي سمعوها مائة كلمة كلها كذب منهم ويلقون ذلك الكذب إلى
إخوانهم في الكفر والخبث من كهنة الناس.
وقوله تعالى (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي أهل الغواية والضلال هم الذين يتبعون الشعراء فيروون
لهم وينقلون عنهم ، ويصدقونهم فيما يقولون. والدليل على ذلك (أَنَّهُمْ) أي الشعراء (فِي كُلِّ وادٍ) من أودية الكلام وفنونه (يَهِيمُونَ) على وجوههم
__________________
ماضين في قولهم
فيمدحون ويذمون ، يهجون ، ويفخرون ، ويدعون أنهم فعلوا كذا وكذا وما فعلوا فهل
محمد صلىاللهعليهوسلم الذي اتهمتموه بأنه شاعر وما يقوله من جنس الشعر أتباعه غاوون انظروا إليهم واسألوا عنهم فإنهم أهدى الناس وأبرهم
فعلا وأصدقهم حديثا وأبعدهم عن الريبة ، فلو كان محمد شاعرا لكان أتباعه الغاوين
فبذا بطلت الدعوى من أساسها.
وقوله (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما
ظُلِمُوا) إنه لما ذم الشعراء ، استثنى منهم أمثال : عبد الله بن
رواحة وحسان بن ثابت ممن آمنوا وعملوا الصالحات وانتصروا يردون هجاء المشركين
لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وينافحون عن الإسلام وأهله بشعرهم الصادق النقي الطاهر
الوفي.
وقوله تعالى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) رسول الله باتهامه بالكهانة مرة وبالشعر مرة أخرى وظلموا
الوحي الإلهي بوصفه بما هو بعيد عنه من الكهانة والشعر (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) أي أي مرجع يرجعون إليه ، إنه النار وبئس القرار.
هداية الآيات
من
هداية الآيات :
١ ـ إبطال فرية
المشركين من أن القرآن من جنس ما يقوله الكهان.
٢ ـ إبطال أن
الرسول صلىاللهعليهوسلم كاهن وشاعر.
٣ ـ بيان أن
الشياطين تتحد مع ذوي الأرواح الخبيثة بالإفك والآثام.
٤ ـ بيان أن
الشعراء المبطلين أتباعهم في كل زمان ومكان الغاوون الضالون.
٥ ـ جواز نظم
الشعر وقوله في تقرير علم أو تسجيل حكمة ، أو انتصار للإسلام والمسلمين بالرد على من يهجو الإسلام والمسلمين.
٦ ـ التحذير من
عاقبة الظلم فإنها وخيمة.
__________________
فهرس المجلد الثالث
سورة الرعد من الاية (١)....................................................... ٥
سورة إبراهيم من الآية (١).................................................... ٣٨
الجزء
الرابع عشر............................................................. ٧٠
سورة الحجر من الآية (١)..................................................... ٧٠
سورة النحل من الآية (١)..................................................... ٩٧
الجزء
الخامس عشر......................................................... ١٧٢
سورة الإسراء من الآية (١).................................................. ١٧٢
سورة الكهف من الآية (١).................................................. ٢٣٦
الجزء
السادس عشر......................................................... ٢٧٦
سورة الكهف من الآية (٧٥)................................................ ٢٧٦
سورة مريم من الآية (١)..................................................... ٢٩٢
سورة طه من الآية (١)...................................................... ٣٣٧
الجزء
السابع عشر.......................................................... ٣٩٤
سورة الأنبياء من الآية (١).................................................. ٣٩٤
سورة الحج من الآية (١).................................................... ٤٤٩
الجزء
الثامن عشر........................................................... ٥٠٤
سورة المؤمنون من الآية (١).................................................. ٥٠٤
سورة النور من الآية (١).................................................... ٥٤٦
سورة الفرقان من الآية (١).................................................. ٥٩٦
الجزء
التاسع عشر.......................................................... ٦٠٧
سورة الفرقان من الآية (٢١)................................................. ٦٠٧
سورة الشعراء من الآية (١).................................................. ٦٣٦
|