
بسم الله الرّحمن الرّحيم
المقدمة
إن الحمد لله
نحمده ، ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده
الله فلا مضلّ له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله
إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اصطفاه رحمة للعالمين ،
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد : فإن
مذهب السّلف هو المذهب المنصور ، والحق الثابت المأثور ، وأهله هم الفرقة الناجية
والطائفة المرحومة ، التي هي بكل خير فائزة ، ولكلّ مكرمة راجية ، من الشفاعة
والورود على الحوض المورود ورؤية الحق وغير ذلك من سلامة الصدر ، والإيمان بالقدر
، والتسليم لما جاءت به النصوص.
ومقصودنا من مذهب
السلف ما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم وتابعوهم بإحسان ممّن شهد لهم
النبي صلىاللهعليهوسلم بالخيرة ثم أئمة المسلمين ممّن شهد لهم بالإمامة وتلقّى الناس
كلامهم خلفا عن سلف أمثال الأئمة الأربعة المجتهدين ، فكل إمام منهم عبّر عن
معتقده ومن هؤلاء الأئمّة الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، فقد أعلن في
كتابه الفقه الأكبر أن معتقده هو معتقد السلف أهل السّنّة والجماعة ، فقد أثبت رحمهالله جميع ما جاء به القرآن والسّنّة دون تأويل ، أو تحريف
للكلم عن مواضعه.
وقد تصدّى العلماء
لشرح الفقه الأكبر ، وقام غير واحد بهذه المهمة ومنهم على سبيل الذكر الإمام أبو
منصور الماتريدي المتوفّى سنة ٣٣٣ ه وقد طبع هذا الشرح بالهند.
ومنهم العلّامة
الفقيه علي بن سلطان الهروي المكّي الشهير بالقاري المتوفّى سنة ١٠١٤ ه ، وهو
شرحنا هذا ، وهو شرح جيد أكثر فيه من التقوّل عن أئمة المذهب الحنفي وخاصّة كتاب
الوصية لأبي حنيفة وهو كتاب لم يطبع بعد ، وكتاب شرح العقيدة الطحاوية للقاضي ابن
أبي العز الدمشقي الحنفي المتوفى سنة ٧٩٢ ه ولكنه رحمهالله لا يصرّح باسمه فتارة يقول : قال شارح الطحاوية أو عقيدة
الطحاوي وأحيانا لا يصرّح بذلك ، ورأيته رحمهالله ينقل من شرح العقائد النسفية للسعد التفتازاني ، ويزيّن
شرحه
بأقوال السّلف
أحيانا ويميل إلى نصرة مذهب الخلق تارة أخرى وقد ذيّله بفتاوى لأئمة المذهب ووضع
فيه شيئا من التصوّف والرقائق فجاء شرحا لا بأس به. ولمّا كان الكتاب بحاجة إلى
الضبط والإيضاح ، وحاجة العلماء وطلاب العلم إليه ماسّة أقدمت على تحقيقه وضبطه
وتخريج أحاديثه والتعليق عليه سائلا المولى عزوجل أن يجعله في ميزان حسناتي ، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ
العالمين.
المنهج العلمي في
التحقيق :
١ ـ مقدمة بيّنت
فيها أهمية الكتاب.
٢ ـ توثيق نسبة
الكتاب إلى الإمام أبي حنيفة رحمهالله وأهم من تصدّى لشرحه من العلماء.
٣ ـ ترجمة الإمام
أبي حنيفة والعلّامة علي القاري الهروي.
٤ ـ تخريج الآيات
القرآنية والأحاديث الشريفة الواردة في ثنايا الكتاب.
٥ ـ ضبط الكلمات
المصحّفة واستدراك النقص بالرجوع إلى مصادر النقول التي أخذ عنها الشارح.
٦ ـ ترجمة الأعلام
، والكتب الواردة في ثنايا الكتاب.
٧ ـ التعليق على
بعض المسائل الهامة زيادة منّا في الإيضاح.
٨ ـ المراجع التي
اعتمدت عليها في التحقيق والتخريج.
هذا وأسأل الله عزوجل أن ينفعني بهذا العمل وينفع به قارئه ، وإن أحسنت فذلك من
الله وإن أسأت فذلك تقصير مني وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
وكتبه علي محمد دندل
توثيق نسبة الكتاب إلى الإمام أبي حنيفة رحمهالله :
أقول وبالله
المستعان : حاول البعض التشكيك في نسبة الفقه الأكبر للإمام أبي حنيفة ولكن
محاولاتهم لن تفيدهم شيئا فقد نسبه شارح العقيدة الطحاوية لأبي حنيفة فقد قال رحمهالله في شرحه : ١ / ٥ : «ولهذا سمّى الإمام أبو حنيفة رحمة الله
عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين : «الفقه الأكبر». ونقل عن هذا الكتاب
في أكثر من موضع من شرحه ونسبه العلّامة اللكنوي في الفوائد البهيّة ص ٨ في ترجمة
الشيخ علي القاري ، ونسبه حاجي خليفة في كشف الظنون ٢ / ١٢٨٧ فقال : الفقه الأكبر
في الكلام للإمام الأعظم أبي حنيفة نعمان بن ثابت الكوفي المتوفى سنة ١٥٠ ه روى
عنه أبو مطيع البلخي واعتنى به جماعة من العلماء فشرحه غير واحد من الفضلاء منهم
محيي الدين محمد بن بهاء الدين المتوفى سنة ٩٥٦ ه شرحا جمع فيه بين الكلام
والتصوّف وأتقن المسائل وأوضحها غاية الإيضاح سمّاه القول الفصل ، والمولى إلياس
بن إبراهيم السينوبي المتوفى ببلدة بروسا سنة ٨٩١ ه ، والمولى أحمد بن محمد
المغنيساوي ... وشرحه مولانا علي القاري في مجلد وسمّاه «منح الروض الأزهر» وهو
شرح كبير ممزوج أوله الحمد لله واجب الوجود ... إلخ وشرحه الشيخ أكمل الدين وسمّاه
الإرشاد. ا. ه.
ترجمة الإمام أبي
حنيفة صاحب الفقه الأكبر :
قال الإمام الذهبي
في تذكرة الحفّاظ : ١ / ١٦٨ : هو النعمان بن ثابت بن زوطى مولاهم الكوفي ، مولده
سنة ٨٠ ه ، رأى أنس بن مالك غير مرة لمّا قدم عليهم الكوفة ، حدّث عن عطاء ونافع
ومحمد الباقر.
تفقه به زفر ،
وداود الطائي ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وأسد بن عمرو ، والحسن اللؤلؤي ، ونوح الجامع
، وعدّة ، وكان قد تفقّه بحماد بن أبي سليمان وغيره. حدّث عنه وكيع ، وعبد الرزاق
، وأبو نعيم شيخ البخاري ، وكان إماما ورعا عالما عاملا كبير الشأن لا يقبل جوائز
السلطان بل يتّجر ويتكسّب.
سئل يزيد بن هارون
، أيما أفقه الثوري أو أبو حنيفة ، فقال : أبو حنيفة أفقه ، وسفيان أحفظ للحديث ،
ضربه يزيد بن عمر على القضاء ، فأبى أن يكون قاضيا. ومناقب هذا الإمام قد أفردتها
في جزء ، كان موته في رجب سنة ١٥٠ ه رضي الله عنه. ا. ه.
«ترجمة الشّارح» :
قال العلّامة اللكنوي
في الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص ٨ : هو علي بن سلطان محمد الهروي نزيل مكة
المعروف بالقاري الحنفي ، أحد صدور العلم ، فردّ عصره الباهر السّمت في التحقيق ،
ولد بهراة ورحل إلى مكة ، وأخذ عن الأستاذ أبي الحسن البكري وأحمد بن حجر المكي ،
وعبد الله السندي ، وقطب الدين المكي ، واشتهر ذكره وطار صيته وألف التأليف
النافعة منها شرحه على المشكاة ، وشرح الشمائل ، وشرح النخبة ، وشرح الشاطبية ،
وشرح الجزرية ، والأثمار الجنيّة في أسماء الحنفية ، ونزهة الخاطر الفاتر في مناقب
الشيخ عبد القادر ، وكانت وفاته بمكة سنة ١٠١٤ ه. كذا في خلاصة الأثر في أعيان
القرن الحادي عشر لمحمد بن فضل الله الدمشقي ، وقد طالعت تصانيفه المذكورة كلها
وشرح موطأ محمد ، وسند الأنام شرح مسند الإمام ، وتزيين العبارة لتحسين الإشارة ،
والتدهين للتزيين كلاهما في مسألة الإشارة بالسّبّابة في التشهّد ، والحظّ الأوفر
في الحج الأكبر ، ورسالة في العمامة ، ورسالة في حبّ الهرّة في الإيمان ، ورسالة
في العصا ، ورسالة في أربعين حديثا في النكاح ، وأخرى في أربعين حديثا في فضائل
القرآن ، وأخرى في تركيب لا إله إلّا الله ، وأخرى في قراءة البسملة أول سورة
براءة ، وفرائد القلائد في تخريج أحاديث العقائد ، والمصنوع في معرفة الموضوع ،
وكشف الخدر عن أمر الخضر ، وضوء المعالي شرح بدء الأمالي ، والمعدن العدني في
فضائل أويس القرني ، ورسالة في حكم سباب الشيخين وغيرهما من الصحابة ، وشرح الفقه
الأكبر ، وفتح باب العناية في شرح النقاية ، والاهتداء في الاقتداء. وكلها نفيسة
في بابها فريدة ، وله رسالة في حجّ أبي بكر كان في ذي الحجة ، ورسالة في والديّ
المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، ورسالة في صلاة الجنازة في المسجد ، وبهجة الإنسان في
مهجة الحيوان ، وشرح عين العلم ، وغير ذلك من رسائل لا تعدّ ولا تحصى وكلها مفيدة.
ا. ه.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
خطبة الكتاب
الحمد لله واجب
الوجود. ذي الكرم والفضل والجود. الأول القديم بلا ابتداء. والآخر الكريم بلا
انتهاء. لم يزل ولا يزال صاحب نعوت الكمال. من صفات الجلال والجمال. المنزّه عن
سمات النقصان والحدوث والزوال. والصلاة والسلام على أكمل مظاهر الحق. في مرأى
الخلق. نبي الرحمة. وشفيع الأمة. وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين. وعلى أتباعه
وأشياعه إلى يوم الدين.
أما بعد ... فيقول
أفقر العباد إلى برّ ربّه الباري علي بن سلطان محمد القاري. عاملهما الله بلطفه
الخفي. وكرمه الوفي : اعلم أن علم التوحيد الذي هو أساس بناء التأييد أشرف العلوم
تبعا للمعلوم ، لكن بشرط أن لا يخرج من مدلول الكتاب والسّنّة وإجماع العدول ، ولا
يدخل فيه مداخل مجردة لأدلة العقول كما وقع فيه أهل البدعة ، فتركوا طريق الجادة
التي عليها السّنّة والجماعة ، كما أخبر به الصادق وفق الواقع المطابق على ما رواه
الترمذي وغيره أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين وسبعين ملة
وتفرّق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة ، قالوا : من هي يا
رسول الله؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي» .
وفي رواية أحمد
وأبي داود عن معاوية رضي الله عنه : «اثنتان وسبعون في النار ، وواحدة في الجنة
وهي الجماعة» . يعني أكثر أهل الملّة ، فإن أمته عليه الصلاة والسلام
__________________
لا تجتمع على
الضلالة على ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام ، وفي رواية : عليكم
بالسواد الأعظم ، وعن سفيان رضي الله عنه : لو أن فقيها واحدا على رأس جبل لكان هو
الجماعة ومعناه أنه حيث قام بما قام به الجماعة فكأنه جماع ومنه قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) . أي وحده ، وقد قيل :
وليس على الله
بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في واحد
|
وقد قال ابن عباس
رضي الله عنه : تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضلّ في الدنيا ولا
يشقى في العقبى ، ثم قرأ هذه الآية : (فَمَنِ اتَّبَعَ
هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) . وأما ما وقع من كراهة أكثر السلف وجمع من الخلف ومنعهم من
علم الكلام وما يتبعه من المنطق وما يقربه من المرام حتى قال الإمام أبو يوسف رحمهالله لبشر المريسي : العلم بالكلام هو الجهل ، والجهل بالكلام هو العلم ،
وكأنه أراد
__________________
بالجهل به اعتقاد
عدم صحته ، فإن ذلك علم نافع ، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره
، فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علما بهذا الاعتبار ، وعنه أيضا : من طلاب
العلم بالكلام تزندق ، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس ، ومن طلب غريب الحديث فقد
كذب .
وقال الإمام
الشافعي رحمهالله : حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ، ويطاف
بهم في العشائر والقبائل ، ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسّنّة وأقبل على
كلام أهل البدعة وقال أيضا :
كل العلوم سوى
القرآن مشغلة
|
|
إلا الحديث وإلا
الفقه في الدين
|
العلم ما كان
فيه قال : حدّثنا
|
|
وما سوى ذاك
وسواس الشياطين
|
ومن كلامه أيضا
لأن يلقى الله العبد بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ،
وقال : لقد أطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلما يقوله ، وذكر أصحابنا في الفتاوى أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون ،
ولو
__________________
أوصى إنسان أن
يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم فأفتى السلف أنه يباع ما فيه من كتب الكلام ذكر
ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية وهو كلام مستحسن عند أرباب العقول إذ كيف يرام الوصول إلى
علم الأصول بغير اتّباع ما جاء به الرسول ولله درّ القائل في هذا القول :
أيها المغتدي
لتطلب علما
|
|
كل علم عبد لعلم
الرسول
|
تطلب العلم كي
تصحّح أصلا
|
|
كيف أغفلت علم
أصل الأصول
|
وقد قال شيخ
مشايخنا الجلال السيوطي : إنه يحرم علوم الفلسفة كالمنطق لإجماع السلف ، وأكثر
المفسرين المعتبرين من الخلف ، وممّن صرّح ذلك ابن الصلاح والنووي وخلق لا يحصون ، وقد جمعت في تحريمه كتابا نقلت فيه نصوص
الأئمة في الحطّ عليه.
وذكر الحافظ سراج
الدين القزويني من الحنفية في كتاب ألّفه في تحريمه أن الغزالي رجع إلى تحريمه بعد ثنائه عليه في أول المنتقى وجزم السلفي
من أصحابنا وابن رشد من المالكية بأن المشتغل به لا تقبل روايته. انتهى.
__________________
وقد
فصل الإمام حجة الإسلام في إحياء العلوم هذا المرام حيث قال : فإن قلت فعلم الجدل والكلام مذموم
كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب ، [إليه] ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوّا وإسرافا في أطراف ، فمن قائل
: إنه بدعة وحرام وإن العبد أن يلق الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام ، ومن
قائل : إنه فرض أما على الكفاية ، وأما على الأعيان ، وأنه أفضل العبادات وأكمل القربات ، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين
الله المجيد قال : وإلى التحريم ذهب الشافعي ومحمد ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف رضي الله عنهم ، وساق ألفاظا
عن هؤلاء وإنهم قالوا ما سكت عنه الصحابة مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح في ترتيب
الألفاظ من سائر الخلائق إلا لما يتولد منه من الشر ، ولذا قال عليه الصلاة
والسلام : «هلك المتنطّعون» . أي المتعمّقون في البحث واحتجوا
__________________
أيضا بأن ذلك لو
كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويعلم طريقه ويثني على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم ، ثم ذكر استدلال
الفريق الآخر إلى أن قال : فإن قلت فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل فقال : فيه
منفعة ، وفيه مضرّة ، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب ،
كما يقتضيه الحال ، وهو باعتبار مضرّته في وقت الاستضرار ومحله حرام قال : فأما
مضرّته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم وذلك مما يحصل
بالابتداء ، ورجوعه بالدليل المشكوك فيه وتختلف فيه الأشخاص ، فهذا ضرورة في اعتقاد المحق ، وله ضرر في تأكيد اعتقاد المبتدعة وتثبيتها في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار
عليه. ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور عن الجدل.
وأما منفعته فقد
يظن أن فائدته كشف الحقائق لديه ومعرفتها على ما هي عليه ، وهيهات فليس في الكلام وفاء
بهذا المطلب الشريف ، ولعل التخبيط والتضليل [فيه] أكثر ، من الكشف والتعريف قال : وهذا إذا سمعته من محدّث
أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممّن خبر الكلام ، ثم
قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين ، وجاوز ذلك إلى
التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من
هذا الوجه
__________________
مسدود ، ولعمري لا
ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ، ولكن على النذور . انتهى.
فإنما صدر هذا كله
عنهم لأمور منها ما فهم مما سبق في أثناء الكلام من أن سبب ذمهم عدولهم عن الأخذ
بأصول الإسلام واشتغالهم بما لا يعنيهم في مقام المرام ، ومنها منازعتهم ومجادلتهم
، ولو كان على الحق لانجراره غالبا إلى مخاصمتهم المؤدية إلى الأخلاق الفاسدة
والأحوال الكاسدة كما بيّنه حجة الإسلام الغزالي في الأحياء.
فقد ذكر في غياث
المفتي عن أبي يوسف إنه لا تجوز الصلاة خلف المتكلم ، وإن تكلم
بحق لأنه مبتدع ، ولا تجوز خلف المبتدع وعرضت هذه الرواية على أستاذي فقال :
تأويله انه لا يكون غرضه إظهار الحق ، والذي قاله أستاذي رأيته في تلخيص الإمام
الزاهدي حيث قال : وكان أبو حنيفة يكره الجدل على سبيل الحق ، حتى
روي عن أبي يوسف رحمهالله أنه قال : كنا جلوسا عند أبي حنيفة إذ دخل عليه جماعة في
أيديهم رجلان فقالوا : إن أحد هذين يقول القرآن مخلوق ، وهذا ينازعه ويقول : هو
غير مخلوق. قال : لا تصلّوا خلفهما ، فقلت : أما الأول فنعم فإنه لا يقول بقدم
القرآن ، وأما الآخر فما باله لا يصلى خلفه؟ فقال : إنهما يتنازعان في الدين ، والمنازعة
في الدين بدعة ، كذا في مفتاح السعادة ، ولعل وجه ذم الآخر حيث أطلق فإنه محدث إنزاله ، وأنه
مكتوب في مصاحفنا ومقروء بألسنتنا ومحفوظ في صدورنا.
وقال الشافعي رحمهالله : إذا سمعت الرجل يقول : الاسم هو المسمى ، أو غير المسمى
فاشهد بأنه من أهل الكلام ، ولا دين له ... وقال أيضا : لو علم الناس ما في
__________________
هذا الكلام من
الأهواء لفرّوا منهم فرارهم من الأسد .
وقال مالك رحمهالله : لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء ، فقال بعض أصحابه في
تأويل ذلك : إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا ، ومنها أنه يؤدي
إلى الشك ، وإلى التردّد فيصير زنديقا بعد ما كان صديقا ... فروي عن أحمد بن حنبل رحمهالله أنه قال : علماء الكلام زنادقة ، وقال أيضا : لا يصلح صاحب
الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل ، ولقد بالغ فيه
حتى هجر الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على
المبتدعة وقال : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس
بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكّر في الشبهة فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث
والفتنة؟
هذا وفي كتاب
الخلاصة تعلم علم الكلام والنظر فيه والمناظرة وراء قدر الحاجة
منهيّ عنه ، وتعلم علم النجوم قدر ما يعلم به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به
والزيادة حرام ، ثم تكلمه على الإنصاف لا يكره بلا تعنت واعتساف ، وإن تكلم من
يريد التعنت ويريد أن يطرحه لا يكره ، قال : وسمعت القاضي الإمام : إن أراد تخجيل
الخصم يكفر. قال : وعندي لا يكفر. ويخشى عليه الكفر. انتهى كلام صاحب الخلاصة.
وخلاصة الكلام
وسلالة المرام أن العقائد الصحيحة وما يقويها من الأدلة الصريحة كما تؤثر في قلوب
أهل الدين وتثمر كمال الإيمان واليقين كذلك العقائد الباطلة تؤثّر في القلب
وتقسّيه وتبعده عن حضور الرب وتسوده وتضعف يقينه وتزلزل دينه ، بل هي أقوى أسباب
سوء الخاتمة نسأل الله العفو والعافية. ألا ترى إن الشيطان إذا أراد أن يسلب إيمان
العبد بربه فإنه لا يسلبه منه إلا بإلقاء العقائد الباطلة في قلبه ، ومنها الخوض
في علم الكلام وترك العلم بأحكام الإسلام المستفادة من الكتاب والسّنة وإجماع
الأمة حتى أن بعضهم يجتهد ثلاثين سنة ليصير كلاميا ، ثم يدرس فيه ويتكلم بما
يوافقه ويدفع ما ينافيه ولو سئل عن معنى آية أو حديث أو مسألة مهمة من الفروع
المتعلقة بالطهارة والصلاة والصوم كان جاهلا عنها وساكتا فيها مع أن جميع العقائد
الثابتة موجودة في الكتاب قطعيّا ، وفي السّنّة ظنيّا ولذا قال الله تعالى : (هذا بَلاغٌ
__________________
لِلنَّاسِ) . أي القرآن كفاية لهم في الموعظة في أمر معاشهم ومعادهم ،
وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) . أي القرآن تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان مع علمهم
بأنك أمّيّ لا تكتب ولا تقرأ ، ومنها أن مآل علم الكلام والجدل إلى الحيرة في
الحال والضلال والشك في المآل ، كما قال ابن رشد الحفيد ، وهو من أعلم الناس بمذهب
الفلاسفة ومقالاتهم في كتابه تهافت التهافت : ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتدّ به ، وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه واقف في المسائل الكبار جائر ، وكذلك
الغزالي انتهى آخر أمره إلى التوقف والحيرة في المسائل الكلامية ، ثم أعرض عن تلك
الطرق وأقبل على أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم فمات والبخاري على صدره ، وكذا الرازي قال في كتابه الذي صنّفه في أقسام [اللذّات] :
نهاية إقدام
العقول عقال
|
|
وغاية سعي
العالمين ضلال
|
وأرواحنا في
وحشة من جسومنا
|
|
وحاصل دنيانا
أذّى ووبال
|
ولم نستفد من
بحثنا طول عمرنا
|
|
سوى أن جمعنا
فيه قيل وقالوا
|
__________________
ولقد تأمّلت الطرق
الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ، ولا تروي غليلا ، ورأيت أقرب
الطرق طريق القرآن أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) . (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وأقرأ في النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) ، ثم قال : ومن جرّب مثل تجريبي عرف مثل معرفتي ، وكذا قال الشهرستاني رحمهالله : إنه لم يجد على الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم
حيث قال :
لعمري لقد طفت
المعاهد كلها
|
|
وسيّرت طرفي بين
تلك المعالم
|
فلم أر إلا
واضعا كف حائر
|
|
على ذقن أو
قارعا سنّ نادم
|
وكذا قال أبو
المعالي الجويني : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام فلو عرفت أن الكلام يبلغ
بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته : لقد خضت البحر الخضمّ وخليت أهل
الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه ، والآن فإن لم يتداركني ربي
__________________
برحمته فالويل
لابن الجويني ، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي ، أو قال على عقيدة عجائز أهل
نيسابور ، وكذا قال الخسروشاهي وكان من أجلّ تلامذة فخر الدين الرازي لبعض الفضلاء ودخل
عليه يوما ما تعتقده قال : ما يعتقده المسلمون ، فقال : وأنت منشرح الصدر لذلك
مستيقن به ، أو كما قال ، فقال : نعم. فقال : أشكر الله على هذه النعمة ولكني
والله ما أدري ما أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد ، وبكى حتى اخضل لحيته. وقال
الخونجي عند موته : ما عرفت مما حصّلته شيئا سوى الممكن مفتقر إلى
المرجح ، ثم قال : الافتقار وصف سلبي أموت وما عرفت شيئا. وقال آخر : أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي وأقابل بين حجج
هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر ، ولم يترجح عندي منها شيء ، ومن يصل إلى مثل هذا
الحال لم يتداركه الله بالرحمة والإقبال تزندق وساء له المآل ، فالدواء النافع
لمثل هذا المرض ما كان طبيب القلوب يتضرّع به إلى علّام الغيوب ويدعو بقوله : «اللهمّ يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» ، وبقوله : «اللهمّ فاطر السّماوات والأرض عالم الغيب
والشّهادة اهدني لما
__________________
اختلفوا فيه من
الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . وبقوله : «لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» .
ومنها أن القول
بالرأي والعقل المجرد في الفقه والشريعة بدعة وضلالة فأولى أن يكون ذلك في علم
التوحيد ، والصفات بدعة وضلالة فقد قال فخر الإسلام علي البزدوي في أصول الفقه : إنه يرد في الشرع دليل على أن العقل موجب
، ولا يجوز أن يكون موجبا وعلة بدون الشرع إذ العلل موضوعات الشرع ، وليس إلى
العباد ذلك ، لأنه ينزع أي يسوق إلى الشركة ، فمن جعله موجبا بلا دليل شرعا فقد
جاوز حدّ العباد وتعدّى عن حدّ الشرع على وجه العناد.
ومنها الإصغاء إلى
كلام الحكماء وأتباعهم من السفهاء حيث أعرضوا عن الآيات النازلة من السماء وخاضوا
مع الجهلاء الذين يظن فيهم أنهم العقلاء والعلماء ، وقد نبّه الله تعالى على ذلك
في كتابه حيث قال : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا). أي بالتأويلات الفاسدة والتعبيرات الكاسدة (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فإن معنى الآية يشملهم إذ العبرة بعموم المبنى لا بخصوص
السبب لذلك المعنى والتأويلات الباطلة والتحريفات العاطلة قد تكون كفرا ، وقد تكون
فسقا ، وقد تكون معصية ، وقد تكون خطأ والخطأ في هذا الباب غير معفو ومرفوع بخلاف
الخطأ في اجتهاد الفروع حيث لا وزر هنالك بل أجر يترتب على ذلك. وبهذا تبين وجه
الفرق بين اجتهاد أهل البدعة مع اختلافهم وبين اجتهاد أهل السّنّة مع ائتلافهم
ويشير إليه قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ
كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ
وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) . وفي الحديث : «القرآن حجة لك أو عليك فهو كبحر النيل
__________________
ماء للمحبوبين
ودماء للمحجوبين» ، فالواجب على المسلمين أجمعين اتّباع سيد المرسلين
المطابق لما جاء به عقيدة سائر النبيين وعين التبيين للكتاب المبين ، وقد بيّن
سبحانه أمره وعظيم شأنه وقدره حيث أقسم بنفسه فقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) . وأخبر أنّ المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره وأنهم
إذا دعوا إلى الله أي كتابه ورسوله أي حكمه صدّوا عنه صدودا أي أعرضوا عنه إعراضا
مبعودا وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحسانا وتوفيقا وإيقانا وتحقيقا كما يقوله
كثير من المتكلمين والمتفلسفة وغيرهم إنما نريد أن نحسن الأشياء بالجمع بين كلام
الأنبياء والحكماء ، وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسّكة إنما نريد الإحسان
بالجمع بين الإيمان والإيقان والتوفيق بين الشريعة والطريقة والحقيقة ويدسّون فيها
دسائس مذاهبهم الباطلة ومشاربهم العاطلة من الحلول والاتحاد والاتصال والانفصال
ودعوى الوجود المطلق ، وأن الموجودات بأسرها عين الحق ويتوهمون أنهم في مقام
الجمعية والحال أنهم في حال التفرقة وضلال الزندقة فكل من طلب أن يحكم في شيء من
أمر الدين غير ما ثبت عن النبي الأمين صلىاللهعليهوسلم ويظن أن ذلك مستحسن في باب اليقين وأن ذلك جامع بين ما جاء
به الرسول وبين ما يخالفه من المعقول فله نصيب من ذلك وحرام عليه الترقّي إلى ما
هنا لك إذ ما جاء به الرسول كاف شاف كامل تبيّن فيه حكم كل حق وباطل. قال الله
تعالى : (وَلا تَلْبِسُوا
الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وهذه كانت طريق السابقين الأولين وهي طريقة التابعين ومن
بعدهم من الأئمة المجتهدين وأكابر المفسّرين وأعاظم المحدّثين وعمدة الصوفية
المتقدمين كداود الطائي والمحاسبي
__________________
والسري السقطي ، ومعروف الكرخي والجنيد البغدادي والمتأخرين كأبي نجيب السهروردي وصاحب العوارف والمعارف والشيخ عبد القادر الجيلاني ، وأبي القاسم القشيري إلى أن خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتّبعوا الشهوات ،
وقد آن أن نشرع في المقصود بعون الملك المعبود.
قال الإمام الأعظم
والهمام الأفخم الأقدم قدوة الأنام أبو حنيفة الكوفي رحمهالله في كتابه المسمى بالفقه الأكبر المشار به إلى أنه ينبغي أن
يكون الاهتمام به هو الأكثر لأنه مدار الإيمان ومبنى صحة الأركان ومعنى غاية
الإحسان ، ونهاية العرفان بعد البسملة المشتملة على مضمون الحمدلة إخبارا في
المبنى وإنشاء في المعنى لله الجامع للصفات الحسنى والنعوت العليا ، ولذا روى هشام
عن محمد بن الحسن قال : سمعت أبا حنيفة رحمهالله يقول : اسم الله الأعظم هو الله ، وبه قال الطحاوي وأكثر العارفين حتى أنه
__________________
لا ذكر عندهم
لصاحب مقام فوق الذكر له وهو علم مرتجل من غير اعتبار أصل أخذ منه كما عليه
الأكثرون منهم : أبو حنيفة ومحمد بن الحسن ، والشافعي ، والخليل ، والزجّاج ، وابن كيسان والحليمي ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والخطابي وغيرهم.
__________________
أصل التوحيد
____________________________________
(أصل التوحيد) أي
هذا الكتاب أساس معرفة توحيد الحق على وجه الصواب حكي عن أبي حنيفة رحمهالله أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد
الربوبية فقال لهم : أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب
فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها وتعود بنفسها فتترسى بنفسها وتتفرّغ بنفسها
وترجع كل ذلك من غير أن يدبرها أحد ، فقالوا : هذا محال لا يمكن أبدا ، فقال لهم :
إذا كان هذا محالا في سفينة فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟ انتهى. وما أحسن
قول العارف إبراهيم الخواص في هذا المعنى :
لقد وضح الطريق
إليك حقّا
|
|
فما أحد أرادك
يستدل
|
وكذا قول الآخر من
هذا المبنى والمعنى :
لقد ظهرت فلا
تخفى على أحد
|
|
إلا على أكمه لا
يعرف القمرا
|
ولقد أحسن أبو العتاهية
في قوله :
فوا عجبا كيف
يعصى الإله
|
|
أم كيف يجحده
الجاحد
|
ولله في كل
تحريكة
|
|
وتسكينة أبدا
شاهد
|
وفي كل شيء له
آية
|
|
تدل على أنه
واحد
|
أقول ؛ فابتداء
كلامه سبحانه وتعالى في الفاتحة بالحمد لله رب العالمين يشير إلى تقدير توحيد الربوبية
المترتّب على توحيد الألوهية المقتضى من الخلق تحقيق العبودية وهو ما يجب على
العبد أولا من معرفة الله سبحانه وتعالى والحاصل أنه يلزم من توحيد العبودية توحيد
الربوبية دون العكس في القضية لقوله تعالى : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) . وقوله سبحانه حكاية عنهم : (ما نَعْبُدُهُمْ
إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) . بل غالب سور القرآن وآياته متضمنة لنوعي التوحيد ، بل
القرآن من أوله إلى آخره في بيانهما وتحقيق شأنهما ، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه
وصفاته
__________________
وما يصح الاعتقاد
عليه
____________________________________
وأفعاله فهو
التوحيد العلمي الخبري ، وإما دعوته إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من
دونه ، فهو التوحيد الإرادي الطلبي ، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته فذلك من حقوق
التوحيد ومكمّلاته ، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما
يكرمهم به في العقبى فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في
الدنيا من النّكال وما يحلّ بهم في العقبى من العذاب والسلاسل والأغلال ، فهو جزاء
من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في
التوحيد وحقوق أهله وثنائهم وفي شأن ذمّ الشرك وعقوق أهله وجزائهم ، فالحمد لله
ربّ العالمين توحيد الرحمن الرحيم ، توحيد مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين
توحيد اهدنا الصراط المستقيم ، توحيد متضمّن لسؤال الهداية إلى طريق التوحيد صراط
الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد عنادا وجهلا
وإفسادا ، وكذا السّنّة تأتي مبينة ومقررة لما دلّ عليه القرآن فلم يحوجنا ربنا
سبحانه وتعالى إلى رأي فلان وذوق فلان ووجد فلان في أصول ديننا ، ولذا نجد من خالف
الكتاب والسّنّة مختلفين مضطربين بل قال الله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) . فلا نحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسّنّة ،
كما قال الله تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) . وقال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) . وقال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) . وإلى هذا المعنى أشار الطحاوي بقوله في أول عقيدته لا
ندخل في ذلك متأوّلين بآرائنا ولا متوهّمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من
سلّمه الله عزوجل. (وما يصح الاعتقاد عليه). أي وما يصح اعتماد الاعتقاد
عليه في هذا الباب ، وهذا معنى قوله : الفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ، وقد
أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود ففي التنزيل : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) . فوجود الحق ثابت في فطرة الخلق كما يشير إليه قوله سبحانه
وتعالى : (فِطْرَتَ
__________________
____________________________________
اللهِ
الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) . ويومئ إليه حديث : «كل مولود يولد على فطرة الإسلام» . وإنما جاء الأنبياء عليهمالسلام لبيان التوحيد وتبيان التفريد ولذا أطبقت كلمتهم وأجمعت
حجتهم على كلمة لا إله إلا الله ولم يؤمروا بأن يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا الله
موجود بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود ردّا لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا :
هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى.
على أن التوحيد
يفيد الوجود مع مزيد التأييد ثم العقائد يجب أن تؤخذ من الشرع الذي هو الأصل ، وإن
كانت مما يستقل فيه العقل وإلا فعلم إثبات الصانع وعلمه وقدرته لا تتوقف من حيث
ذاتها على الكتاب والسّنّة ، ولكنها تتوقف عليهما من حيث الاعتداد بها لأن هذه
المباحث إذا لم يعتبر مطابقتها للكتاب والسّنّة كانت بمنزلة العلم الإلهي للفلاسفة
فحينئذ لا عبرة بها على ما ذكره المحقّقون ، فمن الآيات الدالّة على وجوده وظهور
فضله وقدرته وحكمته وجوده قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) . فمن أدار نظره في عجائب هذه المذكورات من خلق الأرضين
والسموات وبدائع فطرة الحيوانات والنباتات وسائر ما اشتملت عليه الآيات الآفاقية
والأنفسية كقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .
وقد قال الله
تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا
فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ
يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) .
__________________
____________________________________
وفي كل شيء له
شاهد
|
|
يدل على أنه
واحد
|
ألجأه ذلك إلى
الحكم بأن هذه الأمور العجيبة مع هذه التراتيب المحكمة الغريبة لا يستغني كلّ منها
عن صانع أوجده من العدم ، وعن حكيم رتبه على قانون أودع فيه فنونا من الحكم ، وعلى
هذا درج كل العقلاء إلا من لا عبرة بمكابرته كبعض الدهرية من السفهاء ، وإنما كفر بعضهم بالاشتراك حيث دعوا مع الله
إلها آخر كعبدة الأصنام وسائر الوثنيين من الأنام ، وبعضهم ينسب بعض الحوادث إلى
غيره تعالى كالمجوس ينسبون الشرّ إلى ظلمة أهرمن ، وهو الشيطان ، والخير إلى
نور الرحمن وكبعض الوثنيين من العوام ينسبون بعض الآثار إلى الأصنام كما أخبر الله
سبحانه وتعالى عنهم بقوله : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) ، وكالصابئين وبعض المنجّمين حيث ينسبون بعض الآثار إلى الكواكب لما
فيها من الأنوار سبحانه وتعالى عما يشركون.
وبعضهم بإنكار ما
جعل الله سبحانه إنكاره كفرا كالبعث وإحياء الموتى في دار القرار ، وهذا المقدار
كاف لأولي الأبصار ، ولذا أعرضنا عن المقدمات العقلية التي رتّبها النّظّار على
سبيل الاستظهار ومجمله : أن العالم حادث بمعنى محدث وجد بعد العدم ، وهو محتاج إلى
محدث موصوف بصفة القدم ، وذلك المحدث الموجد هو الله سبحانه
__________________
يجب أن يقول آمنت
بالله
____________________________________
كما يشير إليه
قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) . وقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ
اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) . فمن قال بقدم العالم فهو كافر ، ثم لما ثبت انتهاء
الموجودات إلى واجب الوجود لذاته والعدم على الواجب ممتنع لأن ما ثبت قدمه استحال
عدمه لزم كونه أزليّا أبديّا ، فهو قديم لا أول لوجوده ، وباق لا آخر لشهوده فيرجع
معنى القدم والبقاء في حقه سبحانه وتعالى إلى الصفات السلبية ، وإن عدّهما بعضهم
في النعوت الثبوتية لأن معنى البقاء في حقه سبحانه وتعالى نفي عدم لاحق في الأبد ،
كما أن القدم عبارة عن نفي عدم سابق في الأزل فيرجع معناهما إلى نفي العدم ، ولذا
قال التوربشتي في معتقده : إن الموجود والقديم من أسماء الذات.
قال الإمام الأعظم
: (يجب) أن يفرض فرضا عينيّا بعد ما يحصل علما يقينيّا (أن يقول) أي المكلّف
بلسانه المطابق لما في جنانه (آمنت بالله) وفيه إشعار بأن الإقرار له اعتبار على
خلاف في أنه شطر للإيمان إلا أنه يسقط في بعض الأحيان أو شرط لإجراء أحكام الإيمان
كما هو مقرر عند الأعيان ، وهو المروي عن الإمام وإليه ذهب الماتريدي وهو الأصح عند الأشعري ، ويؤيده قوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) وقال البزدوي : من صدق بقلبه وترك البيان من غير عذر لم
يكن مؤمنا. وهذا مذهب المحقّقين من الفقهاء وفي كلامه إشارة إلى عدم اشتراط لفظ :
أشهد حيث لم يقل يجب أن يشهد بأني آمنت بالله خلافا لمن شرطه من الشافعية مستدلين
بقوله عليه الصلاة والسلام : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله مع أنه جاء في
__________________
وملائكته وكتبه
ورسله
____________________________________
رواية أخرى حتى
يقولوا لا إله إلا الله والمعنى صدقت معترفا بوجود الله سبحانه وتعالى وتوحّده في
ذاته وتفرّده في صفاته (وملائكته) بأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره
يعملون وإنهم معصومون ولا يعصون الله ومنزّهون عن صفة الذكورية ونعت الأنوثية ،
وقد أنكر الله في كتابه على من قال : إنهم بنات الله حيث قال : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ
وَيُسْئَلُونَ) . وقال أيضا : (أَصْطَفَى الْبَناتِ
عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) . وذكر في جواهر الأصول أن الملائكة ليس لهم حظ من نعيم
الحنان ، ولا من رؤية الرحمن ، كذا في شرح القونوي لعمدة النسفي ، وذكر أيضا أنهم أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكّل
بأشكال مختلفة أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع مسكنهم السموات أي مسكن معظمهم قال :
وهذا قول أكثر المسلمين (وكتبه) أي المنزلة من عنده كالتوراة والإنجيل والزبور
والفرقان وغيرها من غير تعيين في عددها (ورسله) أي جميع أنبيائه أعمّ من أنه أمر
بتبليغ الرسالة أم لا.
وظاهر كلام الإمام
ترادف النبي والرسول كما اختاره ابن الهمام إلا أن الجمهور على ما قدّمناه من أن الرسول أخصّ من النبي
في تحقيق المرام ولا نعيّن عددا لئلا يدخل فيهم من ليس منهم ، أو يخرج منهم من هو
منهم ، والترتيب بين الثلاثة باعتبار أن الملائكة يأتون بالكتب إلى الرسل ، وإلا
فالكتب أفضل من الملائكة بالإجماع ، فإنها كلام
__________________
والبعث بعد الموت
____________________________________
الله من غير نزاع
، (والبعث) أي الحياة (بعد الموت) قيد يفيد أن المراد به الإعادة بعد فناء هيئة
البداية لا بعث الأنبياء إلى الخلق ، وإن كان مما يجب الإيمان به أيضا ودليله قوله
سبحانه وتعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) . وقوله سبحانه : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) . إلى غير ذلك من النصوص القاطعة والأدلة اللامعة ، قال في
المقاصد .
وبالجملة ،
فالإيمان بالحشر من ضروريات الدين ، وإنكاره كفر باليقين ، فإن قيل : هذا قول
بالتناسخ ، وهو انتقال الروح من بدن إلى بدن ، فإن البدن الثاني ليس هو الأول لما
ورد في الحديث أن أهل الجنة جرد مرد ، وأن الجهنمي ضرسه مثل أحد ، ولأجل هذا المعنى وهو أن القول بالمعاد وحشر الأجساد قول
بالتناسخ ، قال جلال الدين الرومي رحمهالله : ما من مذهب إلا وللتناسخ فيه قدم راسخ؟ فالجواب أنه إنما
يلزم التناسخ لو لم يكن البدن الثاني مخلوقا من الأجزاء الأصلية للبدن الأول وإن
سمي مثل ذلك تناسخا كان نزاعا في مجرد الاسم ، وتحقيق الرسم على أن التناسخ عند
أهله هو رد الأرواح إلى الأشباح في الدنيا لا في الأخرى ، فإنهم ينكرون الجنة
والنار وسائر أمور العقبى ، ولذا كفروا [لقوله] تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) . يفيد أن يكون المثاب والمعاقب باللّذّات الحسيّة والآلام
الجسمية غير من عمل الطاعة وارتكب المعصية لأنّا نقول العبرة في ذلك بالإدراك ،
وإنما هي الروح ولو بواسطة
__________________
والقدر خيره وشره
من الله تعالى
____________________________________
الآلات وهو باق
بعينه ، وكذا الأجزاء الأصلية من البدن ، ولذا يقال لمن رؤي حال سنّ الصبا في
الشيخوخة أنه هو بعينه ، وإن بدّلت الصور والهيئات ، بل كثير من الأعضاء والآلات
ولا يقال لمن جنى في الشباب فعوقب في المشيب أنه عقوبة لغير الجاني فكبر ضرس
الكافر بمنزلة ورم أعضائه.
وفي شرح المواقف الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الباقية من أول العمر إلى
آخره. قال بعض الأفاضل : الأجزاء الأصلية هي الأجزاء الحاصلة في أول الفطرة وهي
وقت تعلّق الأرواح بالأشباح ، وربما ذكرنا من اعتبار الأجزاء الأصلية في الحشر سقط
ما قالوا في نفي الحشر بمعنى جمع الأجزاء أيضا على أن الحشر أولا لا يكون إلا بجمع
الأجزاء من أول العمر إلى آخره ، وتحقيقا لمعنى الإعادة كما ورد أنه سبحانه وتعالى
يعيد القلفة والأجزاء المقطعة من الظفر والشعر والأجزاء المقلعة من السن وأمثال
ذلك.
ثم إنه سبحانه
وتعالى يبقي ما أراده ، ويعدم ما أراده على ما تعلّقت به المشيئة في الكمية
والكيفية والهيئة ، ثم اعلم أنه سبحانه وتعالى كما يحيي العقلاء يحيي المجانين
والصبيان والجنّ والشياطين والبهائم والحشرات والطيور للأخبار الواردة في ذلك ،
وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه هل يحشر؟ فروي عن أبي حنيفة رحمهالله أنه إذا نفخ فيه الروح يحشر ، وإلا فلا ، وهو الظاهر لأن
المذهب المختار عند الأبرار هو الحشر. المركّب من الروح والجسد.
وقول القونوي :
والذي يقتضي مذهب علمائنا أنه إذا كان استبان بعض خلقه يحشر ، وهو قول الشعبي وابن
سيرين مدفوع بأن هذا الحكم حكم فقهي يترتب عليه بعض الأمور الدنيوية ، ولا تقاس
عليه الأحوال الأخروية ، (والقدر) أي وبالقضاء والقدر (خيره وشره) أي نفعه وضرّه ،
وحلوه ومرّه حال كونه (من الله تعالى) فلا تغيير للتقدير فيجب الرضاء بالقضاء
والقدر وهو تعيين كل مخلوق بمرتبته التي توجد من حسن وقبح ونفع وضرّ ، وما يحيط به
من مكان وزمان وما يترتب عليه من ثواب أو عقاب.
ولعل الإمام
الأعظم رحمهالله عدل عن الإيمان الإجمالي المشتمل عليه كلمنا
__________________
والحساب والميزان ،
والجنة والنار حق كله. والله تعالى واحد لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا
شريك له (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ)
....
____________________________________
الشهادة تبعا له صلىاللهعليهوسلم حيث أجاب سؤال جبرائيل عليهالسلام عن الإيمان بهذا المقدار من البيان إلا أن الإمام الأعظم رحمهالله عبّر عن اليوم الآخر بمبدئه من البعث بعد الموت ليشمل حال
البرزخ والموقف. ثم رأيت في نسخة صحيحة أنه جمع بين قوله : واليوم الآخر ، والبعث
بعد الموت ، فتعيّن أن يراد حينئذ من البعث بعد الموت هو الإحياء في القبر ، أو
أراد باليوم الآخر جميع أحوال القيامة وما بعدها من المثوبة والعقوبة ، ثم خصّ
منها البعث للحشر والنشر ، فإنه أول ما فيه نزاع أهل الكفر ولأنها تشتمل على أصول
الإيمان التفصيلي فأراد بذلك أن ينبّهك في أول كتابه إجمالا على ما أراد بيانه فيه
تفصيلا وإكمالا ، كما أنه أجمل بقوله : والبعث بعد الموت أولا ثم ذيّله بقوله آخرا.
(والحساب والميزان والجنة والنار حق كله) وكذا الصراط والحوض وغيرهما من مواقف
القيامة على ما سيأتي بيانها ويرد برهانها. ثم الإمام الأعظم أوضح معنى التوحيد
بظهور المرام حيث قال : (والله تعالى واحد) أي في ذاته (لا من طريق العدد) أي حتى
لا يتوهّم أن يكون بعده أحد (ولكن من طريق أنه لا شريك له). أي في نعته السرمدي لا
في ذاته ولا في صفاته ولا نظير له ، ولا شبيه له كما سيأتي في كلامه النبيه تنبيه
على هذا التنزيه وكأنه استفاد هذا المعنى من سورة الإخلاص على صورة الاختصاص (قُلْ
هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أي متوحّد في ذاته متفرّد بصفاته (اللهُ الصَّمَدُ) أي المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) أي ليس بمحل الحوادث ولا بحادث. (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي ليس له أحد مماثلا ومجانسا ومشابها وفيه رد على كفّار
مكة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وعلى اليهود حيث قالوا : عزير ابن الله وعلى
النصارى حيث قالوا : المسيح ابن الله ، وإن أمه صاحبة له ، وفي التنزيل حكاية عن
مؤمني الجن : (وَأَنَّهُ تَعالى
جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) . أي بطريق المجاز إذ على سبيل الحقيقة محال ذلك على الملك
المتعال.
والحاصل أن صانع
العالم واحد إذ لا يمكن أن يصدق مفهوم واجب الوجود إلا على ذات واحدة متّصفة بنعوت
متعددة كما يستفاد من قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما
آلِهَةٌ
__________________
لا يشبه شيئا من
الأشياء من خلقه ...
____________________________________
إِلَّا
اللهُ لَفَسَدَتا) . ببرهان التمانع وتقريره : إنه لو أمكن إلهان لأمكن بينهما
تمانع بأن يريد أحدهما سكون زيد والآخر حركته ، لأن كلّا منهما في نفسه أمر ممكن ،
وكذا تعلّق الإرادة بكلّ منهما ممكن في نفسه أيضا إذ لا تضاد بين الإرادتين ، بل
بين المرادين فحينئذ إما أن يحصل الأمران فيجتمع الضدّان أولا فيلزم عجز أحدهما
وهو إمارة الحدوث والإمكان لما فيه من شائبة الاحتياج فالتعدّد مستلزم لإمكان
التمانع المستلزم للمحال فيكون محالا ، وهذا تفصيل ما يقال إن أحدهما إن لم يقدر
على مخالفة الآخر لزم عجزه ، وإن قدر لزم عجز الآخر ، وبما ذكرنا يندفع ما يقال
إنه يجوز أن يتفقا من غير تمانع ، وأما قول العلّامة التفتازاني الآية حجة إقناعية
أي يظن في أول الأمر إنها حجة ويزول ذلك عند تحقّق المعرفة والملازمة عادية على ما
هو اللائق بالخطابيات ، فإن العادة جارية بوجود التمانع والتغالب عند تعدّد الحاكم
على ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ
عَلى بَعْضٍ) . فالمحقّقون كالغزالي وابن الهمام والبيضاوي ما قنعوا بالإقناعية وجعلوها من الحقائق القطعية ، بل قيل
: يكفر قائلها والمسألة مستوفاة في الكتب الكلامية ، ثم اعلم أن لو في هذه الآية
ليست لانتفاء الثاني في الماضي بسبب انتفاء الأول ، كما هو أصل اللغة بل للاستدلال
بانتفاء الجزاء على انتفاء الشرط من غير دلالة على تعيّن زمان فإنه قد يستعمل بهذا
المعنى في بعض المبنى (لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه) أي من مخلوقاته وهذا لأنه
تعالى واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن الوجود في حدّ ذاته فواجب الوجود هو الصمد
الغني الذي لا يفتقر إلى شيء ، ويحتاج كل ممكن إليه في إيجاده وإمداده.
قال الله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) . فإذا وجوده عين ذاته وصفاته ليست عين ذاته خلافا للفلاسفة
ولا غير ذاته كما تقوله المعتزلة ولا حادثة كما تقوله الكرامية بخلاف المخلوقين ،
فإن صفاتهم غير ذاتهم عند الكل والحاصل أن الفلاسفة
__________________
ولا يشبهه شيء من
خلقه ...
____________________________________
والمعتزلة نفوا
الصفات احترازا عن تعدّد القدماء وكذا الأشاعرة حيث ذهبوا إلى نفي غيريتها
وعينيتها في تحقيق الأسماء (ولا يشبهه شيء من خلقه) تأكيد لما قبله وتقرير لما
قدّمه وهو مستفاد من قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) . أي كذاته أو صفته ، أو لأن نفي مثل المثل مستلزم لنفي
المثل بطريق البرهان كما حقّقه بعض الأعيان ، ولا نقول بزيادة الكاف أو المثل لأن
المطلق هو المساوي من جميع الوجوه.
وفي شرح القونوي
قال نعيم بن حماد : من شبّه الله بشيء من خلقه فقد كفر ، ومن أنكر ما وصف
الله به نفسه فقد كفر.
وقال إسحاق بن
راهويه : من وصف الله فشبّه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر
بالله العظيم.
وقال علّامة جهم
وأصحابه : دعواهم على أهل السّنّة والجماعة وما أولعوا به من الكذب أنهم مشبّهة بل
هم المعطّلة ، ولذا قال كثير من أئمة السلف : علّامة الجهمية تسميتهم أهل السّنّة
مشبّهة فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبّها
حتى بعض المفسّرين كعبد الجبار والزمخشري وغيرهما من
__________________
لم يزل ولا يزال
بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية ، أما الذاتية فالحياة والقدرة
____________________________________
المعتزلة والرافضة
يسمّون كلّ من أثبت شيئا من الصفات ، أو قال برؤية الذات مشبّها والمشهور عند
الجمهور من أهل السّنّة والجماعة أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات ، بل
يريدون أنه سبحانه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله كما بيّنه الإمام
بيانا شافيا (لم يزل) أي فيما مضى (ولا يزال) أي فيما يبقى (بأسمائه) أي منعوتا
بأسمائه ، (وصفاته الذاتية) كالعلم والحياة والكلام وهي قديمة بالاتفاق (والفعلية)
أي موصوفا بصفاته الفعلية كالخلق والرزق ونحوهما ، فمذهب الماتريدي أنها قديمة
ومذهب الأشاعرة أنها حادثة والنزاع لفظي عند أرباب التدقيق كما يتبين عند التحقيق
...
وبيانه أن واجب
الوجود لذاته واجب الوجود من جميع جهاته كأسمائه وصفاته والمعنى أنه ليست له صفة
منتظرة ولا حالة متأخرة إذ ليست ذاته محلا للإعراض فإن ذاته كافية في حصول جميع ما
له من الصفات والحالات التي بها تتم الأعراض ، ولأنه لو لم تكن ذاته كافية في حصول
ذلك لكانت محتاجة إلى ظهور الغير هنا لك ، وكل محتاج إلى الغير فهو ممكن الوجود وقد
ثبت أنه واجب الوجود. قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) . أي غنيّ بذاته وصفاته عن ظهور مصنوعاته وهو حميد بنعوته
وأسمائه سواء حمده أو لم يحمده أحد من سواه ، فهو منزّه عن التغيّر والانتقال ، بل
لا يزال في نعوته الفعلية منزّها عن الزوال وفي صفاته الذاتية مستغنيا عن
الاستكمال. ولا يلزم من حدوث متعلقات هذه الصفات حدوث الصفات كالمخلوق والمرزوق
والمسموع والمبصر وسائر الكائنات وجميع المعلومات (أما الذاتية) أي الإجماعية (فالحياة)
وهي صفة أزلية تقتضي صحة العلم لموصوفها ، (والقدرة) أي وكذا القدرة صفة أزلية
تؤثّر في المقدورات عند تعلّقها بها ، والمعنى : أن الله تعالى حيّ بحياته التي هي
صفته الأزلية الأبدية ، وقادر بقدرته التي هي صفته الأزلية السرمدية والمعنى : أنه
إذا قدر على شيء فإنما يقدر عليه بقدرته القديمة لا بالقدرة الحادثة ، كما توجد
للأشياء الممكنة فهو الحيّ القيّوم أي القائم بذاته المقيم لموجوداته ، وأنه يحيي
الموتى من العدم بداية ومن بعد إماتتهم إعادة ، وهو على كل شيء قدير حيث خلق الخلق
وأعطاهم الحياة والقدرة والرزق ومعنى كونه
__________________
والعلم ...
____________________________________
قادرا أن يصح منه
إيجاد العالم وتركه (والعلم) أي من الصفات الذاتية وهي صفة أزلية تنكشف المعلومات
عند تعلقها بها ، فالله تعالى عالم بجميع الموجودات لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في
العلويات والسفليات ، وإنه تعالى يعلم الجهر والسر وما يكون أخفى منه من المغيبات
، بل أحاط بكل شيء علما من الجزئيات والكليات والموجودات والمعدومات والممكنات
والمستحيلات ، فهو بكل شيء عليم من الذوات والصفات بعلم قديم لم يزل موصوفا به على
وجه الكمال لا يعلم حادث حاصل في ذاته بالقبول والانفعال والتغيّر والانتقال تعالى
الله عن ذلك شأنه وتعظّم عما نهاك برهانه.
[قال الإمام عبد
العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي وجليسه في كتابه الذي حكى فيه مناظرته لبشر المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى فقال بشر :
أقول لا يجهل ، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم تقريرا له [وبشر يقول : ولا يجهل
ولا يعترف له أنه عالم بعلم] فقال الإمام عبد العزيز : نفي الجهل لا يكون صفة مدح فإن [قولي]
هذه الأسطوانة لا تجهل [ليس هو إثبات العلم لها] ، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم
لا بنفي الجهل. فمن أثبت العلم نفى الجهل ، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم ، وعلى
الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه وينفوا ما نفاه ، ويمسكوا عما أمسك عنه]
، وقد قال الله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
__________________
والكلام ...
____________________________________
الْخَبِيرُ) . وقال أيضا : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما
تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) . وقال : (وَهُوَ الَّذِي
يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ
يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى) ، ثم في قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ) . إيماء إلى أن المخلوقات ما هو عالم والعلم صفة كمال ،
ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما فهو كما قال الطحاوي : لم يخف عليه شيء قبل أن
يخلقهم وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم ، بل كما قال بعض المحقّقين من أنه سبحانه
وتعالى يعلم ما كان من بدء المخلوقات ، وما يكون من أواخر الموجودات لقوله تعالى :
(إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) . وما لم يكن أن لو كان كيف كان يكون كما قال الله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً
لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) . وكما قال أيضا : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) . وإن كان يعلم أنهم لا يردّون ولكن أخبر أنهم لو ردّوا
لعادوا إليه.
وفي ذلك ردّ على
الرافضة والقدرية الذين قالوا إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده ، (والكلام)
أي من الصفات الذاتية فإنه سبحانه متكلم بكلامه الذي هو صفته الأزلية المعبّر عنها
بالظن المسمّى بالقرآن المركّب من الحروف ، وذلك أن كل من يأمر وينهى ويخبر بخبر
يجد من نفسه معنى ، ثم يدل عليه بالعبارة ، أو بالكتابة ، أو الإشارة وهو غير
العلم إذ قد يخبر الإنسان عمّا لا يعلمه ، بل يعلم خلافه وغير الإرادة لأنه قد
يأمر بما لا يريده كمن أمر عبده قصدا إلى إظهار عصيانه وعدم امتثاله لأوامره ويسمى
هذا الكلام نفسيّا كما أخبر الله عزوجل عن هذا المرام بقوله : (وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) . وفي شعر الأخطل :
__________________
____________________________________
إن الكلام لفي
الفؤاد وإنما
|
|
جعل اللسان على
الفؤاد دليلا
|
وقال عمر رضي الله
عنه : إني زوّرت في نفسي مقالة. والدليل على ثبوت الكلام إجماع الأمة من الأئمة
الأعلام وتواتر النقل عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأن أوحي إليهم بيان
الأحكام إلا أن كلامه ليس من جنس الحروف والأصوات والله تعالى متكلّم آمر ناه
ومخبر بمعنى أن كلامه صفة واحدة وتكثيره إلى الأمر والنهي والخبر باختلاف التعلقات
بالعلم والقدرة وسائر الصفات ، فإنها واحدة والتكثّر والحدوث إنما هو في الإضافات
ويكفي وجود المأمور في علم الآمر.
والحاصل أن هذا
الكلام اللفظي الحادث المؤلف من الأصوات والحروف القائمة بمحالها يسمى كلام الله
والقرآن على معنى أنه عبارة عن ذلك المعنى القديم كما وقع التصريح به في التلويح .
وقال القونوي في
شرح العمدة أهل السّنّة لا يرون تعلّق وجود الأشياء بقوله تعالى كن بل وجودها
متعلق بإيجاده وتكوينه وهو صفته الأزلية وهذا الكلام عبارة عن سرعة حصول المقصود
بإيجاده وكمال قدرته على ذلك وعند الأشعري ومن تابعه وجود الأشياء متعلق بكلامه
الأزلي ، وهذه الكلمة دالّة عليه ، كذا في شرح التأويلات ، وفي تفسير التيسير قوله
تعالى : (إِذا قَضى أَمْراً
فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إنه تعالى لم يرد أنه خاطبه بكلمة كن فيكون بهذا الخطاب
لأنه لو جعل خطابا حقيقة فإمّا أن يكون خطابا
__________________
____________________________________
للمعدوم وبه يوجد
، أو خطابا للموجود بعد ما وجد لا جائز أن يكون للمعدوم لأنه لا شيء ، فكيف يخاطب
ولا جائز أن يكون خطابا للموجود لأنه قد كان فكيف يقال له : كن وهو كائن وإنما هو
بيان أنه إذا شاء ما كونه كان فإن قيل : فإذا حصل الوجود بالإيجاد فما فائدة هذا
الأمر؟ قلت : إظهار العظمة والقدرة كما أنه تعالى يبعث من في القبور ببعثه ، ولكن
بواسطة النفخ في الصور لإظهار العظمة ، أو يقال دلّت الدلائل العقلية على أن
الوجود بالإيجاد ، ووردت النصوص القاطعة النقلية على أنه بهذا الأمر فوجب القول
بموجبها من غير اشتغال فائدة ، كما أن في الآيات المتشابهات وجب الإيمان بها من
غير اشتغال بتأويلها.
وأشار فخر الإسلام
البزدوي في أصوله : أن المراد بقوله تعالى «كن» حقيقة التكلّم بهذه الكلمة مجازا
عن الإيجاد والتكوين موافقا لمذهب الأشعري مختلفا لعامّة أهل السّنّة ، لأن التمسك
بالآية في إثبات المطلوب على هذا القول أظهر ، لأنها أدلّ على أن المراد حقيقة
التكلم لأن الأمر فيها مكرر بخلاف سائر الآيات فقال وهذا عندنا وأراد به نفسه ،
وأجيب بأن مذهبه غير مذهب الأشعرية ، فإن عنده وجود الأشياء بخطاب «كن» لا غير ،
كما أن عند أهل السّنّة بالإيجاد لا غير ، وعند البزدوي وجود الأشياء بالإيجاد
والخطاب ، فكان مذهبا ثالثا والله أعلم بالصواب.
والمعنى إذا كلّم
أحدا من خلقه فإنما يكلّمه بكلامه القديم الذي قد كتب بالحروف والكلمات الدالّة
عليه في اللوح المحفوظ بأمره ولا بكلام حادث ، فإنما الحادث دلائل كلامه وهي
الحروف والكلمات لا حقيقة كلامه القائم بالذات فإن كلام الحق لا يشبه كلام الخلق
كسائر الصفات ، وقد قال الله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ
أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) أي بأن يوحى إليه في الرؤيا كالأنبياء عليهمالسلام ، أو بالإلهام
كالأولياء رحمهمالله ، ومنه الخبر أن الله لينطق على لسان عمر رضي الله عنه ، أو من وراء
__________________
والسمع والبصر
....
____________________________________
حجاب بأن يسمع
كلامه ولا يراه كما وقع لموسى عليهالسلام ، أو يرسل رسولا أي ملكا كجبرائيل عليهالسلام فيوحي أي الرسول إلى المرسل إليه بمعنى أنه يكلمه ويبلغه
بإذنه أي بأمر ربه ما يشاء أي الله من إعلامه.
فكلامه قائم بذاته
خلافا للمعتزلة حيث ذهبوا إلى أنه متكلّم بكلام هو قائم بغيره ، وليس صفة له حيث
قالوا كلامه حروف وأصوات يخلقها في غيره كاللوح وجبرائيل عليهالسلام والرسول عليهالسلام ومبتدعة الحنابلة قالوا : كلامه حروف وأصوات تقوم بذاته
وهو قديم وبالغ بعضهم جهلا حتى قال الجلد والقرطاس قديمان فضلا عن الصحف وهذا قول
باطل بالضرورة ، ومكاثرة للحسّ للإحساس بتقدّم الباء على السين في بسم
الله ونحوه (والسمع والبصر) أي أنهما من الصفات الذاتية ، فإنه تعالى سميع
بالأصوات والحروف والكلمات بسمعه القديم الذي هو نعت له في الأزل وبصير بالأشكال
والألوان بإبصاره القديم الذي هو صفة له في الأزل فلا يحدث له سمع بحدوث مسموع ولا
بصر بحدوث مبصر فهو السميع البصير يسمع ويرى لا يعزب عن سمعه مسموع وإن خفي غاية
السر ولا يغيب عن رؤيته مرئي ، وإن دق في النظر بل يرى دبيب النملة السوداء في
الليلة الظلماء على الصخرة الصمّاء فالسمع صفة تتعلق بالمسموعات والبصر صفة تتعلق
بالمبصرات فيدرك إدراكا تامّا لا على سبيل التخييل والتوهّم ، ولا على طريق تأثير
حاسّة ووصول هواء ولا يلزم من قدمهما قدم المسموعات والمبصرات ، كما لا يلزم من
قدم العلم والقدرة قدم المعلومات والمقدورات لأنها صفات قديمة يحدث لها تعلقات
بالحوادث عند وجودها تعلقا ظاهريّا ، كما كان لها تعلق بها في عالم شهودها تعلقا
غيبيّا فهو أخصّ من صفة العلم وأما قول السيوطي في النقاية من أنهما صفتان يزيد
الانكشاف بهما على الانكشاف بالعلم فإنما يصح بالنسبة إلينا حيث يزيد العلم بهما
لدينا ، وأما بالنسبة إليه سبحانه وتعالى فصفاته كلها كاملات كما أنه كامل في
اللذات فلا تقبل
__________________
والإرادة ، ...
____________________________________
الزيادات (والإرادة)
أي من الصفات الذاتية وهي كالمشيئة صفة تخصص أحد طرفي الشيء من الفعل والترك
بالوقوع في أحد الأوقات مع استواء نسبة القدرة إلى جميع الممكنات ، وفيما ذكر
تنبيه للرد على من زعم أن المشيئة قديمة والإرادة حادثة قائمة بذات الله سبحانه
وتعالى ، وعلى من زعم أن معنى إرادة الله فعله أنه ليس بمكره ولا ساه ولا مغلوب ،
ومعنى إرادته فعل غيره أنه أمر به فإنه تعالى مريد بإرادته القديمة ما كان وما
يكون ، فلا يكون في الدنيا ، ولا في الأخرى صغير أو كبير قليل أو كثير ، خير أو
شرّ ، نفع أو ضرّ ، حلو أو مرّ ، إيمان أو كفر ، عرفان أو نكران ، فوز أو خسران ،
زيادة أو نقصان ، طاعة أو عصيان إلا بإرادته ووفق حكمته وطبق تقديره وقضائه في
خليقته ، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، فهو الفعّال لما يريد كما يريد لا
رادّ لما أراد ولا معقّب لما حكم في العباد ولا مهرب عن معصيته إلا بإرادته
ومعونته ولا مكسب لعبد في طاعته إلا بتوفيقه ومشيئته فلا حول ولا قوة إلا بالله ،
ولا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه.
ولو اجتمع الخلق
على أن يحرّكوا في العالم ذرّة أو يسكنوها مرة بدون إرادته لما قدروا على ذلك ، بل
ولا أرادوا خلاف ما هنا لك كما قال الله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) . فهو سبحانه لم يزل موصوفا بإرادته ومريدا في الأزل وجود
الأشياء في أوقاتها التي قدّرها فوجدت فيها كما علمها وأرادها وقدّرها من غير
تقدّم ولا تأخّر وتبدّل وتغيّر وهذا لا ينافي أن يكون للعبد مشيئة لقوله : (اعملوا
ما شئتم) ، ثم من الدليل على صفة الإرادة والمشيئة قوله تعالى : (يَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ، وفي آية أخرى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
ما يُرِيدُ) وهي المشيئة واحدة عندنا في حق الله تعالى ، أما في جانب
العباد فيفترقان فلو قال رجل لامرأته : أردت طلاقك لا تطلق ، ولو قال لها شئت
طلاقك يقع ، لأن الإرادة مشتقة من الرّود وهو الطلب ، والمشيئة عبارة عن الإيجاد
فكأنه قال : أوجدت طلاقك وبه يقع الطلاق كذا ذكروه.
وقال القونوي فيه
نظر إذ لو كان كذلك لما احتيج إلى النيّة ، والحاصل أن المشيئة عبارة عن الإرادة
التامة التي لا يتخلّف عنها الفعل والإرادة تطلق على التامة وعلى غير التامة
فالأولى هي المرادة في جانب الله تعالى ، والثانية في جانب العباد. انتهى ...
__________________
____________________________________
وفيه نظر فإنه على
هذا كان ينبغي أن يذكر المشيئة في الصفات لا الإرادة ، فإن قيل : إن الله طلب
الإيمان من فرعون وأبي جهل وأمثالهما بالأمر ولم يوجد منهم الإيمان فلو كانت
الإرادة والمشيئة واحدة كما زعمتم لوجد ذلك منهم ، لأن المشيئة هي الإيجاد. قلنا
الطلب من الله تعالى على نوعين طلب من المكلف على وجه الاختيار وهو المسمى بالأمر
، ولا يلزم منه الوجود لتعلّقه باختيار المكلّف وطلب لا تعلق له باختيار المكلّف
وهو المسمى بالمشيئة والإرادة والوجود من لوازمهما ، إذ لو لم يكن يلزم العجز وهو
سبحانه وتعالى منزّه عنه بخلاف العباد ...
ثم الحكمة سواء
كانت بمعنى العلم ، أو إحكام العمل فصفة أزلية عندنا خلافا للأشعري حيث قال : إن
أريد بها العلم ، فهي أزلية ، وإن أريد بها الفعل فلا ، إذ التكوين حادث عنده.
قال القونوي :
القدر هو العلم المفقود ، ثم اختلفت عبارات أصحابنا رحمهمالله في هذه المسألة قال بعضهم نقول : إن جميع الموجودات
والأفعال مراد الله تعالى ، ولا نقول على التفصيل إن القبائح والشرور والمعاصي من
الله كما نقول على الإجمال : إنه خالق لجميع الموجودات ولا نقول على التفصيل إنه
خالق الحيف والقاذورات. وقال بعضهم نقول على التفصيل : ولكن مقرونا بقرينة تليق به
فنقول إنه أراد الكفر من الكافر كسبا له شرّا قبيحا منهيّا عنه ، كما أراد الإيمان
من المؤمن كسبا له خيرا حسنا مأمورا فهو اختيارا للماتريدي ، وبه قال الأشعري هذا
والمحقّقون من أهل السّنّة يقولون : الإرادة في كتاب الله تعالى نوعان : الأولى :
إرادة قدرية كونية خلقية وهي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث لقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ
يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ
ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) . والثانية إرادة دينية أمرية شرعية وهي المتضمنة للمحبة
والرضى كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) . وأمثال ذلك ، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى
فالإمام الأعظم رحمهالله ذكر هذه السبعة من الصفات الذاتية ، ومنها الأحدية في
الذات والواحدية في الصفات والصمدية المستغنية عن الممكنات والعظمة والكبرياء على
ما ورد في الأسماء والصفات. قال البيضاوي
__________________
وأما الفعلية ...
____________________________________
العظيم : نقيض
الحقير والكبير نقيض الصغير أقول والعلي نقيض الدني ، فهذه ألفاظ متقاربة المعنى
في الأسماء الحسنى والقول بأنها ألفاظ مترادفة صدر عن أحوال متكاثفة ، فقد قال حجة
الإسلام ينبغي أن نعتقد تفاوتا بين معنى اللفظين فإنه يصعب علينا وجه الفرق بين
معنييهما في حق الله تعالى ، ولكنّا مع ذلك لا نشك في أصل الافتراق ، ولذلك قال
الله تعالى : «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» ففرّق بينهما فرقا يدل على التفاوت فإن كلّا من الرداء
والإزار زينة للإنسان ، ولكن الرداء أشرف من الإزار ، ولذا جعل مفتاح الصلاة لفظ
الله أكبر ، فهذه السبعة هي الصفات الذاتية الثبوتية ، واختلف في البقاء أنه من
الصفات الثبوتية ، أو من النعوت السلبية فبني على الأول بعضهم وجمعها في بيت فقال:
حياة وعلم قدرة
وإرادة
|
|
كلام وأبصار
وسمع مع البقاء
|
والأظهر أنه من
النعوت السلبية ، فإن المراد به نفي العدم السابق والفناء اللاحق بناء على ما ثبت
قدمه واستحال عدمه. وما يجوز عدمه ممتنع قدمه ، وأما ما وقع في متن العقائد
لمولانا عمر النسفي من قوله : الحيّ القادر العليم السميع البصير الشائي المريد
فقد يوهم أن المشيئة والإرادة متغايران ، وليس كذلك لما سبق الكلام على هذا المقام
، فإن قيل : كيف صحّ إطلاق الموجود والواجب والقديم ونحو ذلك مما لم يرد به الشرع؟
قلنا : بالإجماع وهو من الأدلة الشرعية ، (وأما الفعلية) : أي الصفات الفعلية وهي
التي يتوقف ظهورها على وجود الخلق : اعلم أن الحدّ بين صفات الذات وصفات الفعل
مختلف فيه.
فعند المعتزلة ما
جرى فيه النفي والإثبات فهو من صفات الفعل كما يقال : خلق لفلان ولدا ولم يخلق
لفلان ، ورزق لزيد مالا ولم يرزق لعمرو ، وما لا يجري فيه النفي فهو من صفات الذات
كالعلم والقدرة فلا يقال لم يعلم كذا ولم يقدر على كذا ، فالإرادة والكلام مما
يجري فيه النفي والإثبات. قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ
__________________
____________________________________
بِكُمُ
الْعُسْرَ) . (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) . (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) . فكانا من صفات الفعل ، وكانا حادثين ...
وأما عند الأشعرية
فالفرق بينهما أن ما يلزم من نفيه نقيضه فهو من صفات الذات فإنك لو نفيت الحياة
يلزم الموت ، ولو نفيت القدرة يلزم العجز ، وكذا العلم مع الجهل وما لا يلزم من
نفيه نقيضه فهو من صفات الفعل ، فلو نفيت الإحياء أو الإماتة ، أو الخلق أو الرزق
لم يلزم منه نقيضه فعلى هذا الحد لو نفيت الإرادة لزم منه الجبر والاضطرار ، ولو
نفيت عنه الكلام لزم الخرس والسكوت ، فثبت أنهما من صفات الذات.
وعندنا أن كل ما
وصف به ولا يجوز أن يوصف بضدّه فهو من صفات الذات كالقدرة والعلم والعزّة والعظمة
، وكل ما يجوز أن يوصف به وبضدّه فهو من صفات الفعل كالرأفة والرحمة والسخط والغضب
، ثم شبهة الأشاعرة والمعتزلة في ذلك أن التكوين لو كان أزليّا لتعلق وجود المكوّن
به في الأزل ، ولو تعلق وجوده في الأزل لوجب وجود المكوّن في الأزل لأن القول
بالتكوين ولا مكوّن كالقول بالضرب ، ولا مضروب وأنه محال فلا بد أن يكون التكوين
حادثا.
والجواب أن
التكوين إن حدث بالتكوين فهو تكوين محتاج إلى تكوين فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل ،
أو ينتهي إلى تكوين قديم وهو الذي ندّعيه أولا بتكوين أحد ففيه تعطيل الصانع ،
والحاصل أنّا نقول : التكوين قديم والمتعلق به هو المكوّن وهو حادث ، كما أن العلم
قديم وبعض المعلومات حادث على أنّ التكوين في الأزل لم يكن ليكون العالم به في
الأزل ، بل ليكون وقت وجوده فتكوينه باق أبدا فيتعلق وجود كل موجود بتكوينه الأزلي
بخلاف الضرب لأنه عرض فلا يتصوّر بقاؤه إلى وقت وجود المضروب ، ثم نقول لهم : هل
تعلق وجود العالم بذاته ، أو بصفة من صفاته أم لا؟ فإن قالوا : لا عطلوه ، وإن
قالوا : نعم ، قلنا : فما تعلق به أزلي أم حادث؟ فإن قالوا : حادث ، فهو من العالم
، وكان تعلق حدوث العالم ببعض منه لا به تعالى ، وفيه تعطيله ، وإن قالوا أزلي
قلنا : هل اقتضى ذلك أزلية العالم أم لا؟ فإن قالوا : نعم كفروا ، وإن قالوا : لا
، بطلت
__________________
فالتخليق والترزيق
والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل ...
____________________________________
شبهتهم على أن
تعلق وجود العالم بخطاب «كن» عند الأشعري ، فكان تكوينا وهو أزلي فيكون مناقضا. (فالتخليق
والترزيق) ، وهو خلق الأشياء ورزق الأشياء. (والإنشاء) ، أي الإبداء. (والإبداع)
أي اختراع الأشياء. (والصنع) أي إظهاره بإظهار المصنوعات في حال الابتداء. (وغير
ذلك من صفات الفعل) ، كالإحياء والإفناء والإثبات والإنماء وتصوير الأشياء والكل
داخل تحت صفة التكوين.
فالصفات الأزلية
عندنا ثمانية لا كما زعم الأشعري من أن الصفات الفعلية إضافات ، ولا كما تفرّد به
بعض علماء ما وراء النهر بكون كلّ من الصفات الفعلية صفة حقيقية أزلية فإن فيه
تكثير القدماء جدّا ، وإن لم تكن متغايرة فالأولى أن يقال : إن مرجع الكل إلى
التكوين فإنه إن تعلق بالحياة يسمى إحياء ، وبالموت إماتة وبالصورة تصويرا إلى غير
ذلك ، فالكل تكوين ، وإنما الخصوص بخصوصيات المتعلقات.
ثم المتبادر أن
معنى التخليق والإنشاء والفعل والصنع واحد ، وهو إحداث الشيء بعد أن لم يكن سواء
كان على نهج مثال سابق أو لا ...
والصحيح أن لها
معان متقاربة فإن الإبداع إحداث الشيء بعد أن لم يكن لا على مثال سبق بخلاف
التخليق فإنه أعمّ منه ، أو مقابله في التحقيق والإنشاء يختصّ بأول الأشياء والفعل
كناية عن كل عمل متعدّ يكون في الخير والشرّ والصّنع عمل فيه إحكام وحسن نظام ،
كما أشار إليه قوله سبحانه وتعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) . وأما الترزيق فهو إحداث رزق الشيء وجعله قوتا له.
ثم اعلم أنه لا
موجود في عالم الملك والأشباح ولا في عالم الملكوت والأرواح إلا وهو حادث أحدثه
الله تعالى بتخليقه وفعله وإنشائه وصنعه ، وأنه تعالى خلق الإنس والجن وخلق
أرزاقهما كما قال الله تعالى : (اللهُ الَّذِي
خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) . لما أحب أن يظهر قدرته ورحمته ونعمته وحكمته ويبيّن للخلق
معرفته كما قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) . أي ليعرفون ولعل تخصيصهما بالذكر لأنهم باعتبار جنسهم
يعرفون الله تعالى بصفتي الجلال والجمال ، وفي الحديث القدسي والكلام
__________________
لم يزل ولا يزال
بأسمائه ...
____________________________________
الإنسي «كنت كنزا
مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف» . يعني وليترتب على المعرفة ما أراد لهم من المثوبة والقربة
لا لأنه مفتقر ومحتاج إليهم في مقام اليقين ، فإن الله غنيّ عن العالمين ...
والتحقيق أن
التكوين صفة أزلية لله تعالى لإطباق العقل والنقل على أنه خالق العالم ومكوّن له
وامتناع إطلاق اسم المشتق على الشيء من غير أن يكون مأخذ الاشتقاق وصفا له قائما
به ، فالتكوين ثابت له أزلا وأبدا ، والمكوّن حادث بحدوث التعلق كما في العلم
والقدرة وغيرهما من الصفات القديمة التي لا يلزم من قدمها قدم متعلقاتها لكون
تعلقاتها حادثة ، ثم الإمام الأعظم رحمه الله أتى ببعض الصفات الذاتية والفعلية
دون غيرها من النعوت العليّة ، لأن معرفة هذه الصفات الشهيرة الجليّة تكفي المؤمن
في معرفة وجود الله وصفاته البهيّة هذا ، وقد قال فخر الإسلام على البزدوي رحمهالله في أصول الفقه : وأما الإيمان والإسلام فإن تفسيرهما
التصديق والإقرار بالله سبحانه وتعالى كما هو بصفاته وأسمائه وقبول أحكامه وشرائعه
وهو نوعان : ظاهر ينشئه من المسلمين ، وثبوت حكم إسلامه تبعا لغيره من خير الأبوين
، وثابت بالبيان وأن يصف الله تعالى كما هو إلا أن هذا كما يتعذّر شرطه لأن معرفة
الخلق بأوصاف الحق متفاوتة في مقام التفسير وحال التعبير ، وإنما شرط الكمال بما
لا حرج فيه ولا محال ، وهو أن يثبت التصديق والإقرار بما قلنا إجمالا ، وإن عجز عن
بيانه وتفسيره إكمالا.
ولهذا قلنا : إن
الواجب أن يستوصف المؤمن فيقال : أهو كذا أي الله سبحانه وتعالى يوصف بكذا ونعت
كذا من الصفات الثبوتية والسلبية والنعوت الذاتية والفعلية ، فإن قال : نعم فقد
ظهر كمال إسلامه وتبين غاية مرامه. وأما من استوصف فجهل فليس بمؤمن ، ولذا قال
محمد رحمهالله في الجامع الكبير في صغيرة بين أبوين مسلمين : إذا لم تصف
الإسلام حتى أدركت فلم تصف أنها تبين من زوجها (لم يزل ولا يزال بأسمائه
__________________
وصفاته لم يحدث له
اسم ولا صفة لم يزل عالما بعلمه والعلم صفة في الأزل قادرا بقدرته والقدرة صفة في
الأزل ومتكلّما بكلامه ، والكلام صفة في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفة في
الأزل وفاعلا بفعله ، والفعل صفة في الأزل
____________________________________
وصفاته) ، أي
موصوفا بنعوت الكمال ، ومعروفا بأوصاف الجلال والجمال. (لم يحدث له اسم ولا صفة) ،
يعني أن صفات الله وأسمائه كلها أزلية لا بداية لها ، وأبدية لا نهاية لها ، لم
يتجدّد له تعالى صفة من صفاته ولا اسم من أسمائه ، لأنه سبحانه واجب الوجود لذاته
الكامل في ذاته وصفاته ، فلو حدث له صفة أو زال عنه نعت لكان قبل حدوث تلك الصفة
وبعد زوال ذلك النعت ناقصا عن مقام الكمال ، وهو في حقه سبحانه من المحال فصفاته
تعالى كلها أزلية أبدية.
وهاهنا سؤال مشهور
وهو أنه قد ورد الإخبار في كلامه سبحانه بلفظ المضي كثيرا نحو قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) . وقال موسى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ) . والإخبار بلفظ الماضي عما لم يوجد بعد كذب ، والكذب عليه
محال ، وله جواب مسطور وهو أن إخباره تعالى لا يتّصف أزلا بالماضي ، والحال
والاستقبال لعدم الزمان ، وإنما يتّصف بذلك فيما لا يزال بحسب التعلقات فيقال :
قام بذات الله تعالى إخبار عن إرسال نوح مطلقا ، وذلك الإخبار موجود أزلا باق أبدا
فقبل الإرسال كانت العبارة الدالّة عليه إنّا نرسل وبعد الإرسال إنّا أرسلنا فالتغيير
في لفظ الخبر لا في الإخبار القائم بالذات. وهذا كما تقول في علمه تعالى إنه قائم
بذاته سبحانه وتعالى أزلا العلم بأن نوحا مرسل ، وهذا العلم باق أبدا فقبل وجوده
علم أنه سيوجد ، وبعد وجوده علم بذلك العلم أنه وجد وأرسل والتغيير في المعلوم لا
في العلم (لم يزل عالما بعلمه) ، أي بعلمه الذي هو صفته الأزلية لا بعلم لاحق يلزم
منه جهل سابق وهذا معنى قوله : (والعلم صفة في الأزل) يعني وما ثبت قدمه استحال
عدمه ، فعلمه أزلي أبدي منزّه عن قبول الزيادة والنقصان بخلاف علوم أرباب العرفان (قادرا
بقدرته) أي بقدرته التي هي صفته الأزلية لا بقدرة حادثة في الأمور الكونية ، (والقدرة
صفة في الأزل) وكذا نعته في المستقبل (متكلّما بكلامه) أي الذاتي القدسي (والكلام)
أي النفسي (صفة في الأزل وخالقا بتخليقه والتخليق صفة في الأزل وفاعلا بفعله
والفعل). أي وفعله كما في نسخة (صفة في الأزل) يعني إذا خلق شيئا ابتداء وفعله
فعلا انتهاء فإنما يخلقه ويفعله بفعله الذي هو صفته الأزلية لا بفعل حادث
__________________
والفاعل هو الله
تعالى ، والفعل صفة في الأزل والمفعول مخلوق ، وفعل الله تعالى غير مخلوق ...
____________________________________
ووصف حادث عند
خلقه وفعله إذ لا يحدث له علم ولا قدرة ولا خلق ولا فعل بحدوث المعلوم ، والمقدور
والمخلوق والمفعول وهذا معنى قوله : (والفاعل هو الله تعالى) أي لا شريك له في
فعله وصنعه وحكمه وأمره. (والفعل) أي وفعله كما في نسخة (صفة في الأزل والمفعول
مخلوق) أي حادث عند تعلق فعله سبحانه به. (وفعل الله تعالى غير مخلوق). أي ليس
بحادث بل هو قديم كفعله إذ لا يلزم من كون المفعول مخلوقا كون الفعل مخلوقا.
وفي كلام الإمام
الأعظم إيماء إلى أنه لو كان فعل الله مخلوقا لزم تعدّد الخالق ، وقد ثبت أن الله
سبحانه خالق كل شيء فله سبحانه التوحيد الذاتي والصفاتي والفعلي ، وأغرب ابن
الهمام حيث ذهل عن هذا الكلام فقال : وليس في كلام أبي حنيفة تصريح بأن صفة
التكوين قديمة زائدة على الصفات المتقدمة سوى ما أخذه المتأخرون من قوله : كان
الله تعالى خالقا قبل أن يخلق ، ورازقا قبل أن يرزق هذا.
والأشاعرة يقولون
ليست صفة التكوين سوى صفة القدرة باعتبار تعلقها بمتعلق خاص ، فالتخليق هو القدرة
باعتبار تعلقها بالمخلوق ، وكذا التزريق ... ويقولون : صفات الأفعال حادثة لأنها
عبارة عن تعلقات القدرة والتعلقات حادثة.
قال ابن الهمام رحمهالله تعالى : وما ذكره مشايخ الحنفية في معنى التكوين من أنها
صفات تدل على تأثير لا ينفي قول الأشاعرة ، ولا يوجب كون صفة التكوين على فصولها
صفات أخرى لا ترجع إلى القدرة المتعلقة والإرادة المتعلقة ، بل في كلام أبي حنيفة رحمهالله ما يفيد أن ذلك على ما فهم الأشاعرة من هذه الصفات على ما
نقله الطحاوي عنه حيث قال : وكما كان الله تعالى بصفاته أزليّا كذلك لا يزال عليها
أبديّا ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري
، بل له معنى الربوبية ولا مربوب ، ومعنى الخالقية ولا مخلوق كما أنه محيي الموتى
استحقّ هذا الاسم قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على
كل شيء قدير. انتهى.
فقوله ذلك بأنه
على كل شيء قدير تعليل وبيان لاستحقاق اسم الخالق قبل المخلوق ، فأفاد أن معنى
الخالق قبل الخلق واستحقاق اسم الخلق بسبب قيام قدرته
وصفاته في الأزل
غير محدثة ولا مخلوقة ، فمن قال : إنها مخلوقة أو محدثة ، أو وقف ، أو شك فيهما
فهو كافر بالله تعالى. والقرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب
محفوظ وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام منزّل ، ...
____________________________________
تعالى على الخلق
فاسم الخالق أزلي ولا مخلوق في الأزل لمن له قدرة الخلق في الأزل وهذا ما يقوله
الأشاعرة. انتهى ... وفيه أن المفهوم لا يعارض المنطوق المعلوم. (وصفاته في الأزل
غير محدثة ولا مخلوقة) هو تأكيد وتأييد أي غير محدثة بإحداثه ولا مخلوقة بخلق
غيره. (فمن قال إنها مخلوقة أو محدثة أو وقف فيها) أي بأن لا يحكم بأنها قديمة أو
حادثة ويؤخر طلب معرفتها ولا يقول آمنت بالله وصفاته على وفق مراده (أو شك فيهما)
أي تردد في هذه المسألة ونحوها سواء يستوي طرفاه ، أو يترجح أحدهما (فهو كافر
بالله تعالى) أي ببعض صفاته وهو مكلّف بأن يكون عارفا بذاته وجميع صفاته إلا أن
الجهل والشك الموجبين للكفر مخصوصان بصفات الله المذكورة من النعوت المسطورة
المشهورة. أعني الحياة والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة والتخليق
والترزيق (والقرآن كلام الله تعالى) أي المنعوت بالفرقان المنزل على عين الأعيان
وزين الإنسان إلا أن المراد به هاهنا كلامه النفسي ونعته الأنسي ، وهذا الإطلاق
لأن معناه يفهم بواسطة مبناه ، فالمعنى أن كلامه سبحانه الذي نعته المعظم شأنه (في
المصاحف مكتوب) أي بأيدينا بواسطة نقوش الحروف وأشكال الكلمات (وفي القلوب محفوظ)
أي نستحضره عند تصوّر المغيبات بألفاظه المتخيلات (وعلى الألسن مقروء) أي بحروفه
الملفوظة المسموعة كما هو ظاهر في المشاهدات ، وهذا من قولهم المقروء قديم
والقراءة حادثة ، فإن قيل : لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازا
في النظم المؤلف لصحّ نفيه عنه بأن يقال : ليس النظم الأول المعجز المفصل إلى
السور والآيات كلام الله والإجماع على خلافه.
قلت التحقيق أن
كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم ومعنى الإضافة كونه صفة له
تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات ومعنى الإضافة أنه مخلوق الله
تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ، فلا يصح النفي أصلا ولا يكون الإعجاز والتحدي
إلا في كلام الله تعالى ويتفرع عليه قولنا يحرم للمحدث مسّ القرآن وأمثاله (وعلى
النبي صلىاللهعليهوسلم منزّل) بالتخفيف والتشديد وهو الأولى لنزوله مدرجا. ومكررا
، والمعنى أنه نزل عليه بواسطة الحروف المفردات والمركبات في الحالات المختلفات ،
وهذا معنى قوله سبحانه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ
ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا
ولفظنا بالقرآن
مخلوق وكتابتنا له مخلوقة وقراءتنا له مخلوقة والقرآن غير مخلوق.
____________________________________
اسْتَمَعُوهُ
وَهُمْ يَلْعَبُونَ) . أي محدث في الإنزال ، وإلا فكلامه النفسي منزّه عن
الانتقال (ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا وقراءتنا له مخلوق) ، وهذا كالتأكيد
لقوله : لفظنا ولا يبعد أن يراد بالقراءة تصوّر مبانيه وتقرّر معانيه من غير
التلفّظ بها فيه ، ولعله لهذا المعنى لم يقل وحفظنا له مخلوق وذلك لأنها كلها من
أفعالنا وفعل المخلوق مخلوق ، (والقرآن) أي كلامه النفسي ونعته القدسي (غير مخلوق)
أي ولا حال في المصاحف ولا غيرها وذلك أن كل من يأمر وينهى ويخبر عن ما مضى يجد في
نفسه معنى يدل عليه بالعبارة ، أو يشير إليه بالكتابة ، أو الإشارة.
ثم اعلم أن مذهب
الأشعري أنه يجوز أن يسمع الكلام النفسي أي بطريق خرق العادة كما نبّه عليه
الباقلاني ، ومنعه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني وهو اختيار الشيخ أبي منصور
الماتريدي فمعنى قوله تعالى : (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) . يسمع ما يدل عليه ، فموسى عليه الصلاة والسلام سمع صوتا
دالّا على كلامه سبحانه ، لكن لما كان بلا واسطة الكتابة والملك بل على طريق خرق
العادة خصّ باسم الكليم كما يدل عليه قوله تعالى : (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) . وسيأتي زيادة تحقيق لهذا المرام في كلام الإمام ، وقد قال
الإمام الأعظم في كتابه الوصية نقرّ بأن القرآن كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله
وصفته لا هو ولا غيره ، بل هو صفته على التحقيق مكتوب في المصاحف مقروء بالألسن
محفوظ في الصدور غير حالّ فيها ، والحروف والحركات والكاغد والكتابة كلها مخلوقة ، لأنها أفعال العباد وكلام الله
سبحانه وتعالى غير مخلوق ، لأن الكتابة والحروف والكلمات والآيات كلها آلة القرآن
لحاجة العباد إليها وكلام الله تعالى قائم بذاته ومعناه مفهوم بهذه الأشياء فمن
قال بأن كلام الله تعالى مخلوق ، فهو كافر بالله العظيم والله تعالى معبود ولا
يزال عما كان وكلامه مقروء ومكتوب ومحفوظ من غير مزايلة عنه. انتهى.
وقال فخر الإسلام
: قد صحّ عن أبي يوسف أنه قال : ناظرت أبا حنيفة في مسألة خلق القرآن فاتفق رأيي ورأيه
على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر ، وصحّ هذا القول
__________________
____________________________________
أيضا عن محمد رحمهالله ، وقد ذكر المشايخ رحمهمالله أنه يقال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولا يقال القرآن
غير مخلوق لئلا يسبق إلى الفهم أن المؤلف من الأصوات والحروف قديم كما ذهب إليه
بعض جهلة الحنابلة ، وأما ما في شرح العقائد من أنه عليهالسلام قال : «القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ، ومن قال : إنه
مخلوق فهو كافر بالله العظيم» ، فهو لا أصل له كما بيّنت في تخريج أحاديثه ، ثم تحقيق
الخلاف بيننا وبين المعتزلة يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه ، وإلا فنحن لا
نقول بقدم الألفاظ والحروف ، وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي ، ودليلنا ما مرّ
أنه ثبت بالإجماع وتواتر النقل عن الأنبياء عليهمالسلام أنه متكلم ولا معنى له سوى أنه متّصف بالكلام ، ويمتنع
قيام اللفظ الحادث بذاته الكريم فتعيّن النفسي القديم ، وأما استدلالهم بأن القرآن
متّصف بما هو من صفات المخلوق ، وسمات الحدوث من التأليف والتنظيم والنزول والتنزيل
وكونه عربيّا مسموعا فصيحا معجزا إلى غير ذلك ، فإنما يقوم حجة على الحنابلة لا
علينا لأنّا قائلون بحدوث النظم أيضا ، وإنما الكلام في معنى القديم والمعتزلة
لمّا لم يمكنهم إنكار كونه متكلّما ذهبوا إلى أنه متكلّم بمعنى موجد الأصوات
والحروف في محالها وأشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف
بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وأما إذا كان في
الآية قراءتان فإن كان لكل قراءة معنى غير الأخرى فالله تعالى تكلم بهما جميعا ،
وصارت القراءتان بمنزلة الآيتين. وإن كانت القراءتان معناهما واحد فالله تعالى
تكلم بأحدهما ورخّص بأن يقرأ بهما جميعا كما ذكره الفقيه أبو الليث.
فاعلم أن الصحابة
والتابعين وغيرهم من المجتهدين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين قد أجمعوا على أن كل
صفة من صفات الله تعالى لا هو ولا غيره كذا ذكره الشارح والمعنى أنها لا هو بحسب
المفهوم الذّهني ولا غيره بحسب الوجود الخارجي فإن مفهوم الصفات غير مفهوم الذات
إلا أنها لا تغايرها باعتبار ظهورها في الكائنات.
والحاصل أن كلامه
من صفاته وهو قديم بذاته وصفاته والقديمية مستلزمة للبقائية
__________________
____________________________________
لأن ما ثبت قدمه
يستحيل عدمه كما هي مستفادة من قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ) . أي بلا ابتداء ولا انتهاء ، وأما القديم فليس من الأسماء
الحسنى ، وإن أطلقه عليه علماء الكلام مع أنه أنكره كثير من السلف الكرام وكذا بعض
من الخلف الفخام ، ومنهم ابن حزم ذهابا إلى الجزم بأن القديم في لغة العرب التي نزل به
القرآن هو المتقدم على غيره فيقال : هذا قديم للعتيق ، وهذا حديث للجديد لا القدم
الذي لا يسبقه العدم ، ففي التنزيل قوله تعالى : (عادَ كَالْعُرْجُونِ
الْقَدِيمِ) ، قيل وهو الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني ، فإن
وجد الجديد ، قيل للأول قديم ، وقوله تعالى : (وَإِذْ لَمْ
يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ) . أي متقدّم في الزمان ، ثم لا ريب فيه أنه إذا كان مستعملا
بمعنى المتقدم فمن تقدّم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدّم من غيره لكن أسماء
الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به والتقدّم في اللغة
مطلق لا يختص بالتقدّم على الحوادث كلها فلا يكون من الأسماء الحسنى ، وجاء الشرع
باسمه الأول وهو أحسن من القديم لأنه يشعر بأن ما بعده آئل إليه متابع له بخلاف
القديم. إلا أنه لما كان الله سبحانه وتعالى هو الفرد الأكمل في معنى القديم
المتناول للأول فأطلقه المتكلمون عليه فتأمل.
ثم القيوم يدل على
معنى الأزلية والأبدية ما لا يدلّ عليه لفظ القديم ، ويدلّ أيضا على كونه موجودا
بنفسه وهو معنى كونه واجب الوجود ، ولهذا المبنى المشتمل على حقائق المعنى قيل ،
الحيّ القيّوم هو الاسم الأعمّ ، ويؤيده ما صحّ عنه صلىاللهعليهوسلم أن قوله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) . أعظم آية في القرآن ، ويقوّيه أن هذين الاسمين مدار
الأسماء الحسنى كلها وإليهما يرجع جميع معانيها فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات
الكمال ، فلا يتخلّف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة ، فإذا كانت حياته أكمل حياة
وأتمّها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاهيه كمال الحياة ، وأما القيّوم فهو متضمن
كمال غناء وكمال قدرته وافتقار غيره إليه في ذاته وصفاته إيجادا وإمدادا فإنه
__________________
وما ذكر الله
تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعن
فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى إخبارا عنهم ، وكلام الله تعالى غير
مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين ....
____________________________________
القائم بنفسه فلا
يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته فانتظم
هذان الاسمان صفات الكمال على الوجه الأتم فلا يبعد أن يكونا الاسم الأعظم والله
سبحانه أعلم. (وما ذكر الله تعالى في القرآن) أي المنزل والفرقان المكمل (حكاية
موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي إخبارا منهم أو حكاية عنهم (وعن
فرعون وإبليس) أي ونحوهما من الأعداء الأغبياء.
وفي تخصيص موسى
عليه الصلاة والسلام إيماء إلى أنه صاحب التكليم والكلام ، وفي تقديم فرعون إشعار
بأنه في مقام التلبيس أقوى من إبليس ، وفيه ردّ على ابن العربي ومن تبعه كالجلال الدواني ، وقد ألّفت رسالة مستقلة في تحقيق هذه المسألة وبيّنت ما
وقع لهم من الوهم في المواضع المشكلة وأتيت بوضوح الأدلة المستجمعة من الكتاب
والسّنّة ونصوص الأئمة (فإن ذلك) أي ما ذكر من النوعين (كله) على ما في نسخة أي
جميعه (كلام الله تعالى) أي القديم (إخبارا عنهم) أي وفق ما قد كتب من الكلمات
الدالّة عليه في اللوح المحفوظ قبل خلق السماء والأرض والروح لا بكلام حادث حصل
بعد علم حادث عند سمعه من موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
ومن فرعون وإبليس وهامان وقارون وسائر الأعداء ، فإذا لا فرق بين إخبار الله تعالى
عن أخبارهم وأحوالهم وأسراهم ، كسورة تبّت وآية القتال ونحوها وبين إظهار الله
تعالى من صفات ذاته وأفعاله وخلق مصنوعاته كآية الكرسي ، وسورة الإخلاص ، وأمثالها
، وبين الآيات الآفاقية والأنفسية في كون كلّ منها كلامه وصفته الأقدسية الأنفسية
ومجمل الكلام قوله : على ما في نسخة : (وكلام الله تعالى) أي ما ينسب إليه سبحانه (غير
مخلوق) ، أي ولا حادث (وكلام موسى) أي ولو كان مع ربّه (وغيره) أي وكذا كلام غيره (من
المخلوقين) أي كسائر الأنبياء والمرسلين والملائكة
__________________
مخلوق والقرآن
كلام الله تعالى فهو قديم لا كلامهم ...
____________________________________
المقربين (مخلوق)
أي حادث بعد كونهم مخلوقين (والقرآن كلام الله تعالى) أي بالحقيقة كما قال الطحاوي
رحمهالله لا بالمجاز كما قال غيره ، لأن ما كان مجازا يصحّ نفيه ،
وهنا لا يصحّ ، وأجيب بأن الشرع إذا ورد بإطلاقه فيما يجب اعتقاده لا يصحّ نفيه (فهو
قديم) كذاته (لا كلامهم) فإنه حادث مثلهم إذ النعت تابع لمنعوته وإنما يقال
المنظوم العبراني الذي هو التوراة والمنظوم العربي الذي هو القرآن كلامه سبحانه
لأن كلماتهما وآياتهما أدلة كلامه وعلامات مرامه ، ولأن مبدأ نظمهما من الله تعالى
ألا ترى أنك إذا قرأت حديثا من الأحاديث قلت : هذا الذي قرأته وذكرته ليس قولي ،
بل قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، لأن مبدأ نظم ذلك القول من الرسول عليه الصلاة والسلام ،
ومنه قوله تعالى :(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) . وقوله عزوجل : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) . واعلم أن ما جاء في كلام الإمام الأعظم وغيره من علماء
الأنام من تكفير القائل بخلق القرآن فمحمول على كفران النعمة لا كفر الخروج من
الملّة بخلاف المعتزلة في هذه المسألة ، بل التحقيق أن لا نزاع في هذه القضية إذ
لا خلاف لأهل السّنّة في حدوث الكلام اللفظي ، ولا نزاع للمعتزلة في قدم الكلام
النفسي لو ثبت عندهم بالدليل القطعي ، وأما حديث : «من قال : إن القرآن مخلوق فقد
كفر» فغير ثابت مع أنه من الآحاد وقابل للتأويل في بيان المراد ، والقول بأن
المراد بالمخلوق المختلق بمعنى المفتري ، ومع هذا لا يجوز لأحد أن يقول القرآن
اللفظي مخلوق لما فيه من الإبهام المؤدّي إلى الكفر ، وإن كان صحيحا في نفس الأمر
باعتبار بعد إطلاقات القرآن فإنه يطلق على القراءة كقرآن الفجر ، ويطلق على المصحف
كحديث : «لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو» . ويطلق على المقروء خاصة وهو كلامه القديم
__________________
وسمع موسى عليهالسلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). وقد كان الله تعالى متكلّما ولم يكن كلّم موسى عليهالسلام وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق ....
____________________________________
قال الله تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) . أي كلام الله فإذا ذكر مع قرينة تدل على الحدوث كتحريم
مسّ القرآن للمحدث ، فهو محمول على المصحف والقراءة ، فإذا ذكر مطلقا يحمل على
الصفة الأزلية ، فلا يجوز أن يقال : القرآن مخلوق على الإطلاق ، (وسمع موسى كلام
الله تعالى كما قال الله تعالى : وكلم الله موسى تكليما) أتي بالمصدر المؤكد لدفع
حمل الكلام على المجاز ، أي كلّمه الله تكليما محقّقا وأوقع له سماعا مصدقا ،
والمعنى أن موسى عليه الصلاة والسلام سمع كلام ربّ الأرباب بلا واسطة إلا أنه من
وراء الحجاب ، ولذا قال : (رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ) . في هذا الباب قال شارح : وكان يسمع الكلام من باطن الغمام
الذي هو كالعمود ، وقد يغشاه الغمام وربما كان يسمع كلامه تعالى من باطن النار ،
أو بإرسال جبريل أو غيره من الملائكة. انتهى.
وفي الأخيرين نظر
إذ لا يحصل بهما خصوصية له ولا مزية غلى غيره وأما ما قبله فلعله وقع له الكلام في
الأوقات المتعددة والأحوال المختلفة ، وإلا فالكلام الذي وقع له أولا إنما كان كما
أخبر سبحانه بأنه نودي من الشجرة المباركة التي ظنها أنها نار ، وإنما كانت معدن
أنوار ومنبع أسرار ونتيجة أثمار وأسمار في أشجار (وقد كان الله تعالى متكلما) أي
في الأزل. (ولم يكن كلّم موسى) أي والحال أنه لم يكن كلّم موسى ، بل ولا خلق أصل
موسى وعيسى (وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق) جملة حالية
والمعنى : أن الحق كان خالقا قبل خلق الخلق ، وفي نسخة : وكان الله خالقنا قبل أن
يخلق الخلق حقيقة بمعنى أن هذا النعت فيه محقّق لا مجاز كما قال ابن أبي شريف : أنه كان خالقا بالقوة فإنه يوهم أنه تحت الإمكان واحتمال
الوقوع واللّاوقوع في الأزمان ، وليس الأمر كذلك ، فإنه كان خالقا متحقّق الوقوع
في وقت أراد فيه الشروع
__________________
وليس كمثله شيء
وهو السميع البصير. فلما كلّم الله موسى كلّمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل
....
____________________________________
فتأخر متعلّق
الكلام والخلق من موسى وسائر الأنام لا يوجب نفي صحة الكلام ، وتحقّق الخلق عن
الحق عند العلماء الأعلام لأن كل شيء يكون في القوة ثم يصير إلى الفعل فهو حادث إذ
كل ممكن الوجود حادث كما صرّحوا به وأيضا فرق واضح وبون لائح بين من هو قادر على
الكتابة إلا أنه يؤخّرها إلى وقت الإرادة ، وبيّن الكاتب بالقوة وحيث أنه عاجز في
الحالة الراهنة وتحت الاحتمال في الأزمنة الآتية.
والحاصل أنه
سبحانه كما قال الطحاوي رحمهالله ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق ، ولا بإحداثه البرية
استفاد اسم الباري ، فله معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالقية ولا مخلوق ، وكما
أنه محيي الموتى بعد ما أحيى استحق هذا الاسم قبل إحيائهم ، وكذلك استحق اسم
الخالق قبل إنشائهم ذلك بأنه على كل شيء قدير وإليه كل شيء فقير ، وكل أمر عليه
يسير (وليس كمثله شيء) أي كذاته وصفاته. (وهو السميع البصير) فقوله : ليس كمثله
شيء زد على المشبهة. وقوله : وهو السميع البصير ردّ على المعطلة.
وقد قال نعيم بن
حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبّهه الله بخلقه أي ذاتا وصفة فقد كفر ، ومن جحد
ما وصف الله به نفسه أي من صفاته الذاتية والفعلية فقد كفر. وقال الطحاوي : ومن لم
يتوقّ النفي والتشبيه زلّ ولم يصب التنزيه.
ثم من جملة ما
قالوا في قوله : ليس كمثله شيء إنه أما أريد به المبالغة ، أي ليس لمثله مثل لو
فرض المثل كيف ولا مثل له ، وقد علمت بالأدلة الشرعية والعقلية استحالة قيام
الحوادث بذات الله الأزلية الأبدية ، فكلامه قديم وكذا صفة خلقه ، وأما متعلقاتهما
فحادث في وقت تعلق الإرادة بوقوعها وفي نسخة : وقد كان الله متكلما متأخرا عن قوله
، وقد كان الله تعالى خالقا وعلى تقدير فالجملة المتعلقة بالخلق اعتراضية للإشعار
بأن خلق موسى حادث في أثناء خلق الأنام فكيف مقامه في مرام الكلام (فلما كلّم) أي
الله كما في نسخة (موسى) والمعنى أراد تكليمه إياه (كلّمه بكلامه الذي هو له صفة)
أي قديمة وفي نسخة هو صفة له وفي نسخة هو من صفاته (في الأزل) يعني أنه كلّمه
بمضمون كلامه القديم الأزلي الأقدس كما نقش الكلمات الدالّة عليه ، في اللوح
المحفوظ الأنفس قبل خلق السموات والأرض والأنفس فكلّمه على وفق تلك الكلمات
المسطورة ، فتلك الكلمات المزبورة والكلمات التي سمعها موسى عليهالسلام من الشجرة المشهورة حادثة مخلوقة إلا أنها أدلة كلامه الذي
هو صفته الأزلية الحقيقية ...
____________________________________
وقال شارح عقيدة
الطحاوي : قول الإمام الأعظم ، فلما كلّم موسى كلّمه بكلامه الذي هو من صفاته يعلم أنه حين جاء
كلّمه لا أنه لم يزل ولا يزال أزلا وأبدا يقول : يا موسى كما يفهم ذلك من قوله
تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى
لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) . ففهم منه الردّ على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم
بالنفس لا يتصوّر أن يسمع ، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء كما قاله أبو منصور
الماتريدي ...
وقول الإمام
الأعظم الذي هو من صفاته ردّ على من يقول إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن
متكلّما ، وبالجملة فكلّ ما يحتجّ به المعتزلة مما يدلّ على كلام متعلق بمشيئته وقدرته وإنه متكلّم إذا شاء ، وإنه يتكلم شيئا بعد شيء فهو حق يجب قوله وما
يقول به من يقول إن كلام الله قائم بذاته وإنه صفة له ، والصفة لا تقوم إلا
بالموصوف فهو حق يجب قبوله والقول به فيجب الأخذ بما في قول كلّ من الطائفتين من
الصواب والعدول عمّا يردّه الشرع والعقل من قول كلّ منهما وهذا فصل الخطاب.
وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «أعوذ بكلمات الله» . وهو عليه الصلاة والسلام لم يتعوّذ بمخلوق بل هو كقوله : «أعوذ
برضاك» ، ....
__________________
____________________________________
وقوله : «أعوذ
بعزّة الله وقدرته» وكثير من متأخّري الحنفية على أنه معنى واحد والتعدّد
والتكثّر والتجزّي والتبعّض حاصل في الدلالات لا في المدلول ، وهذه العبارات
مخلوقة وسمّيت كلام الله لدلالتها عليه وتأديته فإن عبّر بالعربية فهو قرآن ، وإن
عبّر بالعبرانية فهو توراة فاختلفت العبارات لا الكلام ، قالوا : وتسمى هذه
العبارات كلام الله مجازا ، وهذا كلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) . هو معنى قوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) . ومعنى آية الكرسي هو معنى آية المداينة ، ومعنى سورة
الإخلاص هو معنى سورة تبّت يدا ، ثم قال : ومن قال إن المكتوب في المصاحف عبارة عن
كلام الله ، أو حكاية كلام الله ، وليس كلام الله فقد خالف الكتاب والسّنّة وسلف
الأمة .
__________________
وصفاته كلها بخلاف
صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا ويسمع لا كسمعنا
...
____________________________________
وكلام الطحاوي
يردّ قول من قال إنه معنى واحد لا يتصوّر سماعه منه ، وأن المسموع المنزل المقروء
المكتوب ليس بكلام الله ، وإنما هو عبارة عنه ، فإن الطحاوي يقول : كلام الله منه
بدأ بلا كيفية أي لا نعرف كيفية تكلّمه به ، وكذا قال غيره من السلف منه بدأ وإليه
يعود ، وإنما قالوا منه بدأ لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون : إنه
خلق الكلام في محل ، فقدّر الكلام في ذلك المحل فقال السلف منه بدأ أي هو المتكلم
به فمنه بدأ أي لا من بعض المخلوقات كما قال الله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، ومعنى قولهم : وإليه يعود أنه يرفع من الصدور والمصاحف
كما ورد في الأحاديث. انتهى ...
والأظهر عندي أن
معنى وإليه يعود يرجع إليه علم تفصيل كيفية كلامه وكنه حقيقة مرامه فإن سمع موسى
كلامه لا يتصوّر أن يقال سمعه كله أو بعضه (وصفاته) ، وفي نسخة لم يزل صفاته (كلها)
أي ونعوت الباري جميعها واقعة في الأزل (بخلاف صفات المخلوقين) أي لا تشابه نعوتهم
وإن وقع الاشتراك الاسمي في صفات الحق ونعت الخلق من العلم والقدرة والرؤية
والكلام والسمع ونحوه كما بيّنه بقوله : (يعلم) أي الله تعالى كما في نسخة (لا
كعلمنا) أي معشر الخلق فإنّا نعلم الأشياء بآلات وتصوّر صور حاصلات في أذهاننا
بقدر أفهامنا وإعلامنا والله تعالى يعلم حقائق الأشياء كلها وجزئيها ظاهرها
ومخفيها بعلم ذاتي صمدي أزلي أبدي ، (ويقدّر) أي الله سبحانه. (لا كقدرتنا) لأن
قدرته تعالى قديمة لا بآلة ولا بمشاركة وهو على كل شيء قدير ، ونحن لا نقدر إلا
على بعض الأشياء بالأقدار ، وذلك المقدار أيضا بالآلات والأعوان والأنصار ، وأما
هو سبحانه وتعالى ففاعل مختار وقادر حكيم مدبّر بقدرة واختيار (ويرى) أي هو سبحانه
لقوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللهَ يَرى) (لا كرؤيتنا ويسمع
لا كسمعنا) فإنّا نرى الأشكال والألوان المختلفة ونسمع الأصوات والكلمات المؤتلفة
بالآلات المخلوقة في الأعضاء المركبة على وفق إبصاره لا بأبصارنا وإسماعه لا
أسماعنا كما ورد في الدعاء : اللهمّ متّعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا والله
سبحانه يرى الأشكال والألوان والهيئات المختلفة
__________________
ويتكلم لا
ككلامنا. ونحن نتكلم بالآلات والحروف والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف والحروف
مخلوقة وكلام الله تعالى غير مخلوق ...
____________________________________
بإبصاره الذي هو
صفته على نعت اقتداره ويسمع الأصوات والكلمات المفردات والمركبات بسمعه الذي هو
نعته لا بآلة من الآلات ولا بمشاركة غيره من الكائنات ، وأن رؤيته للمرئيات وسمعه
للمسموعات قديمة بالذات ، وإن كان المرئي والمسموع من الحادثات على ما سبق بيانه
في سائر الصفات من أن تأخر المتعلق الحادث لا ينافي تقدّم المتعلق القديم ، ألا
ترى أنك ترى في حالة نومك بقوى بطون دماغك في حالة رؤياك أشكالا وألوانا ، وتسمع
أصواتا وأفنانا ولا شكل ولا لون بحاصل ولا حاضر ، وبعد زمان غابر ترى تلك الألوان
والأشكال وتسمع تلك الأصوات والأقوال في حال يقظتك على منوال ما رأيتها وسمعتها في
تلك الحالة بلا زيادة ولا نقصان في المآل ، ومع هذا تتعجب من الله الملك المتعال
الموصوف بنعوت الكمال أنه كيف يرى الألوان والأشكال قبل وجودها وكيف يسمع الأصوات
والكلمات قبل وقوعها وهو الذي يريك الأشكال والألوان في حالة نومك بدون حضورها
ويسمعك الأصوات والكلمات قبل صدورها (ويتكلم لا ككلامنا) كما بيّنه بقوله : (ونحن
نتكلم بالآلات) أي من الحلق واللسان والشفة والأسنان. (والحروف) أي الأصوات
المعتمدة على المخارج المعهودات بالهيئات المعروفات (والله تعالى يتكلم بلا آلة
ولا حروف) أي لكمالات الذات والصفات (والحروف مخلوقة) أي كالآلات. (وكلام الله
تعالى غير مخلوق) بل قديم بالذات. قال الطحاوي : فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد
كفر وقد ذمّه الله وأوعده بسقر حيث قال الله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) . فلما أوعد الله بسقر لمن قال : إن هذا إلا قول البشر
علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ، ولا يشبه قول البشر . انتهى.
وقال شارحه قد
افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال :
أحدها
: أن كلام الله
تعالى هو ما يفيض على النفوس من المعاني إما من العقل الفعّال عند بعضهم ، أو من
غيره ، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها
: أنه مخلوق خلقه
الله منفصلا عنه ، وهذا قول المعتزلة.
وثالثها
: أنه معنى واحد
قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار إن عبّر
__________________
____________________________________
عنه بالعربية كان
قرآنا وإن عبّر عنه بالعبرية كان توراة ، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري
وغيره.
ورابعها
: أنه حروف وأصوات
أزلية مجتمعة في الأزل ، وهذا قول طائفة من أهل الكلام والحديث .
وخامسها
: أنه حروف وأصوات
لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلّما وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها
: أن كلامه يرجع إلى
ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر ، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية.
وسابعها
: أن كلامه يتضمن
معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره ، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
وثامنها
: أنه مشترك بين
المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات ، وهذا قول أبي
المعالي ومن تبعه ...
قلت : والأظهر أن
المعنى الأول حقيقة والثاني مجاز.
وتاسعها
: أنه تعالى لم يزل
متكلّما إذا شاء ومتى شاء ، وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وإن نوع الكلام
قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديما .
__________________
____________________________________
قلت وهذا يؤيده ما
قدّمناه وهو المأثور عن أئمة الحديث والسّنّة. ولعل تكرار هذه المسألة في تأليف
الإمام لكمال الاهتمام في مقام المرام.
ثم اعلم أن عباد
العجل مع كفرهم بالله أعرف من المعتزلة لأنه لما قال لهم موسى : (أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) . لم يجيبوا بأن ربك لا يتكلم أيضا فعلم أن نفي التكلّم نقص
يستدل به على عدم ألوهية العجل وغاية شبهتهم أنهم يقولون : يلزم منه التشبيه
والتجسيم ، فيقال لهم : إذا قلنا أنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم
ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء أحد السبعة من القرّاء : أريد أن تقرأ : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى) . بنصب اسم الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله سبحانه ،
فقال له أبو عمرو : هب إني قرأت هذه الآية كذا ، فكيف تصنع بقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) فبهت المعتزلي .
ثم أفضل نعيم
الجنة رؤية وجهه وسماع كلامه فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة الذي ما طابت لأهلها إلا
به كما أن أشد العذاب للكفار عدم تكليمه لهم ووقوع الحجاب كما أخبر عنهم بقوله
تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ
اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) . أي تكليم تكريم ، وقال في آية أخرى لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) . وبقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ
عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . وأما استدلالهم بقوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
والقرآن شيء فيكون
داخلا في عموم كل شيء ، فيكون مخلوقا ، فمن أعجب العجب ...
وذلك أن أفعال
العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى ، وإنما يخلقها العباد
__________________
____________________________________
جميعها لا يخلقها
الله تعالى فأخرجوها من عموم كل وأدخلوا كلام الله في عمومه مع أنه صفة من صفات
الله به تكون الأشياء المخلوقة إذ بأمره تكون كل المخلوقات. قال الله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ
مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) . ففرّق بين الخلق والأمر وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته
تعالى مخلوقة كالعلم والقدرة وغيرهما فذلك صريح كفر فإن علمه شيء وقدرته شيء
وحياته شيء فيدخل ذلك في عموم كل فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن تعالى الله عما
يقولون علوّا كبيرا وكيف يصح أن يكون متكلما بكلام يقوم بغيره ، ولو صحّ للزم أن
يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات والحيوانات كلامه ولا يفرّق بين نطق وأنطق الله
وإنما قالت الجلود (أنطقنا الله) ، ولم تقل نطق الله بل يلزم أن يكون متكلّما بكل
كلام خلقه في غيره زورا كان أو كذبا ، أو كفرا أو هذيانا تعالى الله عن ذلك ، قال
القونوي : وقد طرد ذلك الاتحادية فقال ابن عربي :
وكل كلام في
الوجود كلامه
|
|
سواء علينا نثره
ونظامه !!
|
وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشر المريسي بين يدي المأمون بعد
أن تكلم معه ملتزما أن لا يخرج عن نص التنزيل وألزمه الحجة ، فقال بشر يا أمير
المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره ، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه
ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
قال عبد العزيز :
تسألني أو أسألك؟ فقال بشر : أنت وطمع فيّ قال : فقلت له : يلزمك
واحدة من ثلاث لا بدّ منها إما أن تقول إن الله خلق القرآن في نفسه أو خلقه
__________________
____________________________________
قائما بذاته ونفسه
أو خلقه في غيره؟ قال أقول : خلقه كما خلق الأشياء كلها وحاد عن الجواب ، فقال
المأمون : اشرح أنت هذه المسألة ودع بشرا فقد انقطع ، فقال عبد العزيز : إن قال
خلق كلامه في نفسه فهذا محال لأن الله لا يكون محلّا للحوادث ولا يكون منه شيئا مخلوقا ، وإن قال خلقه في غيره فيلزمه
في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه ، وإن قال : خلقه قائما
بنفسه وذاته ، فهذا محال لأن الكلام لا يكون إلا من متكلم كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ، ولا العلم
إلا من عالم ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته ، فلما استحال من هذه الجهات أن
يكون مخلوقا علم أنه صفة لله ، هذا مختصر من كلام عبد العزيز في [الحيدة] .
قال القونوي : وما
أفسد استدلالهم بقوله تعالى : (فِي الْبُقْعَةِ
الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ) . على أن الكلام خلقه الله في الشجرة فسمعه موسى منها وعموا
عما قبل هذه الكلمة فإنه تعالى قال : (فَلَمَّا أَتاها
نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) . والنداء هو الكلام من بعد فسمع موسى عليه الصلاة والسلام
النداء من حافة الوادي ، ثم قال في البقعة المباركة من الشجرة أي النداء كان من
البقعة المباركة من عند الشجرة ، كما تقول سمعت كلام زيد من البيت يكون البيت
لابتداء الغاية لا أن البيت هو المتكلم ، ولو كان الكلام مخلوقا في الشجرة لكانت
الشجرة هي القائلة : (يا مُوسى إِنِّي
أَنَا اللهُ) . ولو كان هذا الكلام بدأ من غير الله لكان قول فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) . صدقا إذ كلّ من الكلامين عندهم مخلوق ، وقد قاله غير الله
وقد فرّقوا بين الكلامين على أصلهم الفاسد أن ذلك كلام خلقه الله في الشجرة ، وهذا
كلام خلقه فرعون ، فحرّفوا وبدّلوا واعتقدوا خالقا غير الله ، وقد قال الله تعالى
: (هَلْ مِنْ خالِقٍ
غَيْرُ اللهِ) . فإن قيل : قال
__________________
____________________________________
الله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) . وهذا يدل على أن الرسول أحدثه إما جبريل عليه الصلاة
والسلام ، أو محمد صلىاللهعليهوسلم قيل : ذكر الرسول معرّفا لأنه مبلغ عن مرسله ، لأنه لم يقل
إنه قول ملك ، أو نبي فعلم أنه بلغه عمّن أرسله به لا أنه أنشأه من جهة نفسه.
وأيضا فالرسول في
إحدى الآيتين جبريل عليه الصلاة والسلام وفي الأخرى محمد صلىاللهعليهوسلم فإضافته إلى كلّ منهما تبيّن أن الإضافة للتبليغ ، إذ لو
أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر ، وأيضا فإن الله تعالى قد كفّر من جعله قول البشر
فمن جعله قول محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم بمعنى أنه أنشأه فقد كفر ،
ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جنّ أو ملك ، إذ الكلام كلام من قاله مبتدئا
لا من قاله مبلغا أما ترى أن من سمع قائلا يقول :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال : هذا شعر امرئ
القيس ، وإن سمعه يقول : إنما الأعمال بالنيّات ، قال : هذا كلام الرسول ، وإن سمعه يقول : الحمد لله رب
العالمين ، وقل هو الله أحد قال : هذا كلام الله.
__________________
وهو شيء لا
كالأشياء ....
____________________________________
وبالجملة فأهل
السّنّة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن القرآن
غير مخلوق ، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم
بالذات ، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بعد أن لم يكن متكلما ، أو أنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى
شاء وكيف شاء ، وأن نوع الكلام قديم وهو مختار الإمام الطحاوي ، والنزاع بين أهل القبلة
إنما هو في كونه مخلوقا خلقه الله أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته (وهو شيء
لا كالأشياء) هذا فذلكة الكلام ومجملة المرام ، فإنه سبحانه شيء أي موجود بذاته
وصفاته إلا أنه ليس كالأشياء المخلوقة ذاتا وصفة كما يشير إليه قوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . سواء يقال الكاف زائدة للتأكيد والمبالغة كقول العرب مثلك
لا يبخل وهم يريدون نفيه عن نفسه ، وأنهم إذا نفوه عن مثله فقد نفوه عنه بأبلغ وجه
منه فالكناية أبلغ في باب الرعاية والتلويح أولى من التصريح ، أو يقال : الكاف
ثابتة والمراد بمثله ذاته أو صفاته.
والحاصل كما قاله
العارف الكامل ما خطر ببالك فالله سوى ذلك ، وقد قال الله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) . والعجز عن درك الإدراك إدراك ، وقد صح عنه عليه الصلاة
والسلام قوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت ، كما أثنيت على نفسك» ، ويعلم من قوله شيء لا كالأشياء أنه سبحانه ليس في مكان
من الأمكنة ولا في الزمان من الأزمنة ، لأن المكان والزمان من جملة المخلوقات وهو
سبحانه كان موجودا في الأزل ولم يكن معه شيء من الموجودات ، ثم اعلم أن الشيء في
أصله مصدر قد يستعمل بمعنى المفعول كما في قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . وبهذا المعنى لا يجوز
__________________
ومعنى الشيء
إثباته بلا جسم ولا جوهر ولا عرض ، ولا حدّ له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا مثل له
...
____________________________________
إطلاقه على الله
تعالى ، وبمعنى الفاعل كقوله سبحانه : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً ، قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) . وحينئذ يجوز إطلاقه عليه سبحانه ، وقد يراد به مطلق
الموجود إلا أنه فرّق بين المعبود الموصوف بأنه واجب الوجود وبين الممكن الموجود
الذي يستوي وجوده وعدمه في مقام المقصود ، فبهذا الاعتبار إطلاق لفظ الشيء عليه
سبحانه أحق من إطلاقه على غيره. (ومعنى الشيء) أي : معنى كونه شيئا لا كالأشياء (إثباته)
أي إثبات وجود ذاته (بلا جسم ولا جوهر ولا عرض) أي في اعتبار صفاته لأن الجسم
متركب ومتحيّز وذلك إمارة الحدوث والجوهر متحيّز وجزء لا يتجزأ من الجسم والعرض كل
موجود يحدث في الجواهر والأجسام وهو قائم بغيره لا بذاته كالألوان والأكوان من
الاجتماع والافتراق والحركة والسكون وكالطعوم والروائح والله تعالى منزّه عن ذلك.
وحاصله أن العالم
أعيان وأعراض فالأعيان ما له قيام بذاته ، وهو إما مركب ، وهو الجسم ، أو غير مركب
كالجوهر وهو الذي لا يتجزّأ والله سبحانه منزّه عن ذلك كله ، وما أحسن قول الرازي رحمهالله : المجسم ما عبد الله قطّ لأنه يعبد ما تصوّره في وهمه من
الصورة والله تعالى منزّه عن ذلك ، ونقل أن أبا حنيفة رحمهالله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام فقال : لعن الله عمرو
بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا. (ولا حد له) أي ليس له حد ولا نهاية. (ولا
ضدّ له) أي ليس له منازع وممانع أبدا لا في البداية ولا في النهاية (ولا ندّ له)
أي لا شبيه له ولا شريك له ، كما قال الله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً) . أي (بالأصنام) وغيرها من الأنام. (ولا مثل له) أي لا شبيه
له ولا كفؤ ولا نوع له حيث لا جنس له ...
واقتتلت طائفتان
في باب الصفات فطائفة غلت في النفي ، وطائفة غلت في الإثبات ، ونحن صرنا إلى
الطريق المتوسط بين الغلو والتقصير فأثبتنا صفات الكمال ونفينا المماثلة من جميع
الأحوال بقي أنه يتوهم من قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) أن هذه الصفة لا تكون إلا مخصوصة بحضرته تعالى لأن
الاختصاص ينتقض بالعدم ، إذ العدم من حيث هو عدم ليس كمثله شيء ، فقوله تعالى : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، دفع لهذا الوهم والخيال والإشكال فإن من المحال أن يكون
العدم سميعا بصيرا ، ويسمى مثل ذلك
__________________
وله يد ووجه ونفس
كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه
واليد والنفس ...
____________________________________
في الكلام احتراسا
، ومجمل الكلام وزبدة المرام أن الواجب لا يشبه الممكن ، ولا الممكن يشبه الواجب ،
فليس بمحدود ولا معدود ولا متصوّر ولا متبعّض ولا متحيّر ، ولا متركّب ، ولا متناه
ولا يوصف بالمائية والماهية ، ولا بالكيفية من اللون والطعم والرائحة والحرارة
والبرودة واليبوسة ، وغير ذلك مما هو من صفات الأجسام ، ولا متمكّن في مكان لا علو
ولا سفل ولا غيرهما ، ولا يجري عليه زمان كما يتوهمه المشبهة والمجسمة والحلولية ،
وليس حالّا ولا محلا (ولا) أي لله سبحانه (يد ووجه ونفس كما ذكره الله تعالى في
القرآن) أي كما يليق بذاته وصفاته : (فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه)
أي كقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) . وقوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) . وقوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ) . وقوله تعالى : (إِلَّا ابْتِغاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) . (واليد) أي كقوله تعالى : (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) . وقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) .
وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ
كُلِّ شَيْءٍ) (والنفس) أي كقوله
تعالى حكاية عن عيسى : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) . وأما ما قيل من أن إطلاق النفس عليه سبحانه من باب
المشاكلة فمدفوع حيث ورد من غير المقابلة كما في حديث «أنت كما أثنيت على نفسك» ، والتحقيق أن النفس باعتبار مأخذه من النفس بالتحريك لا
يصحّ إطلاقه عليه سبحانه ، وإما باعتبار أخذه من النفس فيجوز إطلاقه عليه سبحانه ،
لأنه سبحانه أنفس الأشياء ، وأعزّها ، وكذا العين في قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) . وكذا بصيغة الجمع في قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
__________________
فهو له صفات بلا
كيف ولا يقال : إن يده قدرته أو نعمته ، لأن فيه إبطال الصفة. وهو قول أهل القدر
والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف ...
____________________________________
فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنا) . وقوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) .
وكذا قوله تعالى :
(الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) . (فهو) أي جميع ما ذكر (له) أي للحق سبحانه (صفات) أي
متشابهات. (بلا كيف) أي مجهول الكيفيات ، وفي نسخة : وله يد ووجه ونفس كما ذكره
الله تعالى في القرآن إلى آخره (ولا يقال) أي في مقام التأويل كما عليه بعض الخلف
مخالفين للسلف (إن يده قدرته) أي بطريق الكناية (أو نعمته) أي بناء على أن اليد
تطلق على النعمة ومنه قول الشاطبي :
إليك يدي منك الأيادي تمدّها
قال شارحه المراد
باليد هنا الجارحة ، والأيادي جمع يد بمعنى النعمة فالمعنى الأيادي الفائضة من
حضرتك حملتني على مدّ يدي إليك في طلب المسئول وبغية المأمول ، وكذا لا يقال أن
وجهه ذاته وعينه بصره واستواءه على العرش استيلاؤه (لأن فيه) أي في تأويله (إبطال
الصفة) أي في الجهلة لأنه تعالى حيث أطلق اليد ، ولم يذكر القدرة والنعمة بدلها
فالظاهر أنه أراد بها غير معنييهما (وهو) أي إبطال الصفة من أصلها وبأسرها (قول أهل
القدر) أي عموما (والاعتزال) أي خصوصا بناء على توهّم لزوم تعدّد القدماء ؛ فإن
صفة القديم لا يكون إلا قديما ، وإلا فليلزم أن تكون ذاته محلا للحوادث هنالك وهو
منزّه عن ذلك وقد علمت أن صفاته سبحانه ليست عين ذاته ولا غيرها فلا يلزم تعدّد
القدماء ثم أكد القضية بقوله : (ولكن يده صفته بلا كيف) أي بلا معرفة كيفيته
__________________
وغضبه ورضاه صفتان
من صفاته تعالى بلا كيف ...
____________________________________
كعجزنا عن معرفة
كنه بقية صفاته فضلا عن معرفة كنه ذاته (وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف) أي
بلا تفصيل أنهما من صفات أفعاله ، أو من نعوت ذاته.
والمعنى وصف غضب
الله ورضاه ليس كوصف ما سواه من الخلق ، فهما من الصفات المتشابهات في حق الحق على
ما ذهب إليه الإمام تبعا لجمهور السلف واقتدى به جمع من الحلف ، فلا يؤولان بأن
المراد بغضبه ورضاه إرادة الانتقام ، ومشيئة الإنعام ، والمراد بهما غايتهما من
النقمة والنعمة ... قال فخر الإسلام إثبات اليد والوجه حق عندنا لكنه معلوم بأصله
متشابه بوصفه ، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن الوصف بالكيف ، وإنما ضلّت
المعتزلة من هذا الوجه فإنهم ردّوا الأصول لجهلهم بالصفات على الوجه المعقول
فصاروا معطلة ، وكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي ، ثم قال : وأهل السّنّة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم
بالنص ، أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية وتوقفوا فيما هو المتشابه وهو
الكيفية ولم يجوّزوا الاشتغال بطلب ذلك كما وصف الله به الراسخين في العلم فقال : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) انتهى.
وكذا ما ورد في
الأحاديث المرويّات من العبارات المتشابهات كقوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض» وعجنت
بالمياه المختلفة وسوّاه ونفخ فيه الرّوح فصار حيوانا حسّاسا بعد أن كان جمادا» . الحديث. وكقوله عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم : «إن
قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلب واحد يصرّفه كيف يشاء» . وكقوله عليه الصلاة والسلام : «لا تزال جهنم تقول
__________________
____________________________________
هل من مزيد حتى
يضع فيها ربّ العزة قدمه فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قطّ قطّ» . الحديث.
وكقوله عليه
الصلاة والسلام : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» . كما رواه مسلم. وكقوله عليه الصلاة والسلام : «الحجر
الأسود يمين الله في أرضه يصافح بها عباده» . وروى ابن ماجة نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعا ولفظه : «من
فاوض الحجر الأسود فإنما يفاوض يد الرحمن» . وقد سئل أبو حنيفة رحمهالله عمّا ورد من أنه سبحانه ينزل من السماء فقال : ينزل بلا
كيف ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله خلق آدم على صورته» . وفي رواية على صورة الرحمن وأمثاله ، فيجب أن يجري على
ظاهره ،
__________________
____________________________________
ويفوّض أمر علمه
إلى قائله وينزّه الباري عن الجارحة ومشابهة الصفات المحدثات.
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : نقرّ بأن الله على العرش استوى من غير
أن يكون له حاجة إليه واستقرار عليه ، وهو الحافظ للعرش وغير العرش : فلو كان
محتاجا لما قدر على إيجاد العالم وتدبيره كالمخلوق ، ولو صار محتاجا إلى الجلوس
والقرار فقبل خلق العرش أين كان الله تعالى فهو منزّه عن ذلك علوّا كبيرا. انتهى.
ونعم ما قال
الإمام مالك رحمهالله حيث سئل عن ذلك الاستواء فقال : الاستواء معلوم ، والكيف
مجهول ، والسؤال عنه بدعة والإيمان به واجب ، وهذه طريقة السلف وهي أسلم والله
أعلم ، وقد سبق تأويلات بعض الخلف ، وقد قيل : إنه أحكم لكنه نقل بعض الشافعية أن
إمام الحرمين كان يتأوّل أولا ، ثم رجع في آخر عمره وحرم التأويل ، ونقل إجماع
السلف على منعه كما بيّن ذلك في الرسالة النظامية ، وهو موافق لما عليه من أصحابنا
الماتريدية وتوسط ابن دقيق العيد فقال : يقبل التأويل إذا كان المعنى الذي أوّل به قريبا
مفهوما من تخاطب العرب ويتوقف فيه إذا كان بعيدا ، وجرى ابن الهمام على التوسّط
بين أن تدعو الحاجة إلى التأويل لخلل في فهم العوام وبين أن لا تدعو الحاجة لذلك
المرام بحسب اختلاف المقام.
قال شارح العقيدة
الطحاوية : ولا يقال إن الرضى إرادة الإكرام والغضب إرادة الانتقام ، فإن هذا نفي
للصفة ، وقد اتفق أهل السّنّة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا
يريده ولا يشاءه وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه [ويغضب] على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده فقد يحب [عندهم] ويرضى ما لا يريده ويكرهه ويسخط ويغضب لما أراده ، ويقال لمن تأول الغضب [والرضى] بإرادة [الانتقام
__________________
____________________________________
والرضى ، بإرادة
الإنعام والإكراه] لم تأوّلت ذلك [الكلام] ، فلا بدّ أن يقول : لأن الغضب غليان [دم] القلب والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى ،
فيقال له [غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنه هو الغضب
ويقال له أيضا] : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحيّ إلى الشيء ،
أو إلى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحيّ منّا مائل إلى ما يجلب له منفعة ، أو يدفع عنه مضرّة وهو محتاج
إلى ما يريده ومفتقر إليه يزداد بوجوده وينقص بعدمه فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ
كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذلك ، فإن قال : الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة
التي يوصف بها العبد ، وإن كان كلّ منهما حقيقة قيل له : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به
العبد ، وإن كان كلّ منهما حقيقة فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في
هذه الصفات لم يتعيّن التأويل ، بل يجب تركه لأنك تسلم من التناقض وتسلم أيضا من
تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب ، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته
بغير موجب حرام [ولا يكون الموجب للصرف ما دلّه عليه عقله ، إذ العقول مختلفة فكلّ
يقول : إن عقله دلّه على خلاف ما يقوله الآخر] ، وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله [تعالى] لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بدّ أن يثبت شيئا
لله [تعالى] على خلاف ما يعهده حتى في صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما
يليق به ووجود الباري [تعالى] كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود
المخلوق لا
__________________
خلق الله تعالى
الأشياء لا من شيء ، وكان الله تعالى عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها وهو الذي
قدّر الأشياء وقضاها ، ....
____________________________________
يستحيل عليه العدم
فما سمّى به الربّ نفسه وسمّى به مخلوقاته مثل الحيّ والقيوم والعليم والقدير [أو سمّى به بعض صفاته كالغضب والرضى] ، أو سمى به بعض صفات عباده فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه
الأسماء في حق الله وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضا معاني هذه الأسماء في حق
المخلوق ونعقل بين المعنيين قدرا مشتركا ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج
مشتركا ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركا إلا في الأذهان ولا يوجد في
الخارج إلا معينا مختصّا فيثبت في كلّ منهما كما يليق به (خلق الله تعالى
الأشياء) من الذّوات والحالات كالسكون والحركات والأنوار والظلمات والشرور
والخيرات والعلويات والسفليات (لا من شيء) أي لا من مادة سابقة على المخلوقات
لقوله تعالى : (فاطِرِ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) . أي مبدعهما ومخترعهما من غير مثال سبق له فيهما حال
ابتدائهما وإنشائهما ولا ينافيه أن خلق بعض الأشياء من بعض المواد على وفق ما أراد
فإن أصول تلك المواد خلقت من غير وجود شيء في عالم الكون والفساد ولو تصوّر وجود
الشيء السابق فهو تحت خلق الخالق لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) .
ولأنه سبحانه كان
ولم يكن معه شيء بل في نظر العارفين هو الآن على ما كان فهو منزّه على أن يكون له
شريك في الخلق والفعل والمادة ولو في إيجاده ذرّة أو إمدادها بسكون أو حركة (وكان
الله عالما في الأزل بالأشياء قبل كونها) أي قبل وجود الأشياء وتحقّقها في عالم
الإبداع ، وهذا معنى قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً) . وما ثبت قدمه استحال عدمه فلا يحتاج إلى أن يقال كان
زائدة أو رابطة (وهو الذي قدر الأشياء وقضاها). أي والحال أنه قدّر الأشياء على
طبق إرادته ، وحكم وفق حكمته في
__________________
____________________________________
الإنشاء ، وفيه
إيماء إلى مضمون قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ) . أي ألا يعلم قبل الإنشاء من خلق الأشياء ، فعلمه قديم
وبعض متعلقاته حادث ، وقد قال الله تعالى : (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ
مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) . وقال صلىاللهعليهوسلم : «أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب ، فقال القلم :ما
ذا أكتب يا رب؟ فقال الله تعالى : أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» . وفي هذا التحقيق دلالة على ما قاله أهل الحق من أن حقائق الأشياء
ثابتة ...
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : ثم نقرّ بأن تقدير الخير والشرّ كله من
الله تعالى لقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) ومن زعم أن تقدير الخير والشر من عند غير الله كان كافرا
بالله وبطل توحيده لو كان له التوحيد. انتهى ... وقد قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) . وردّ فخر الإسلام في أصوله قول من قال المراد بهذا القول
سرعة الإيجاد وتحقيق ما أراد حيث أفاد أن هذا عندنا محمول على أنه أريد به التكلّم
بهذه الكلمة على الحقيقة لا على المجاز عن سرعة الإيجاد ، بل هو كلام وارد على
حقيقته من غير تشبيه ولا تعطيل في نعته ، وكذا ذكره شمس الأئمة السرخسي في أصوله
حيث قال ردّا على من قال إن ذلك القول مجاز عن التكوين : أما الكتاب فقوله تعالى :
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ
تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) . فالمراد حقيقة هذه الكلمة عندنا لا أن يكون مجازا عن
التكوين كما زعم بعضهم يعني أبا منصور الماتريدي ، وأكثر المفسرين : فإنّا نستدلّ
به على أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق ، لأنه سابق على المحدثات أجمع ، وحرّف
الفاء للتعقيب أي في قوله تعالى :
__________________
ولا يكون في
الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه وقضائه وقدره وكتابته في اللوح
المحفوظ ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم ، ...
____________________________________
«فيكون». والمعنى
فيحدث الشيء بعد الأمر بقوله : «كن» وهو كلامه النفسي القديم ونعته القدسي الكريم
فتحقّق أنه سبحانه خلق الأشياء لا من شيء حادث سبق عليها ، ولا من آلة وعدّة وأهبة
حاصلة لديها وهو لا ينافي أنه أوجدها بأمر «كن» فإنه ليس داخلا تحت الشيء في قوله
تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) . وكلامه سبحانه لا عينه ولا غيره ، ثم في تحقّق الأشياء كما هو مشاهد في الأرض والسماء ردّ
على السوفسطائية ومن تبعهم من أهل الأهواء حيث ينكرون حقائق الأشياء
ويزعمون أنها أوهام وخيالات كالأحلام ويقرّب منه الوجود [كالإلحادية] والحلولية وأمثالهم من جهلة الصوفية (ولا يكون في الدنيا
ولا في الآخرة شيء) أي موجود حادث في الأحوال جميعها (إلا بمشيئته) أي مقرونا
بإرادته (وعلمه وقضائه) أي حكمه وأمره (وقدره) أي بتقديره بقدر قدره (وكتبه) بفتح
الكاف وسكون التاء أي (وكتابته في اللوح المحفوظ) أي قبل ظهور أمره وأغرب شارح حيث
قال : وكتبه عطف تفسير لقدره. انتهى.
ووجه الغرابة أن
ثبوت تقديره وتقريره مقدّم على تحريره وتصويره على أن التقدير صفة المنعوت بالقدم
والكتابة حادثة بعد إحداث القلم (ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم) أي كتب الله في حق
كل شيء بأنه سيكون كذا وكذا لم يكتب بأنه ليكن كذا وكذا وتوضيحه أن وقت الكتابة لم
تكن الأشياء موجودة فكتب في اللوح المحفوظ على وجه الوصف أنه ستكون الأشياء على
وفق القضاء لا على وجه الأمر بأنه ليكن ، لأنه لو قال : ليكن لكانت الأشياء كلها
موجودة حينئذ لعدم تصوّر تخلّف المخلوق عن الأمر الإيجادي للخالق
__________________
والقضاء والقدر
والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف ...
____________________________________
وقال الإمام
الأعظم في كتابه الوصية : نقرّ بأن الله تعالى أمر القلم بأن يكتب وفي نسخة بأن
اكتب فقال القلم : ما ذا أكتب يا ربّ؟ فقال الله تعالى : اكتب ما هو كائن إلى يوم
القيامة ، لقوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ
فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) . انتهى. يعني الحديث مقتبس من القرآن لأنه صلىاللهعليهوسلم كان في معرض التبيان ومجمل الأمر أن القدر وهو ما يقع من
العبد المقدّر في الأزل من خيره وشرّه وحلوه ومرّه كائن منه سبحانه وتعالى بخلقه
وإرادته ما شاء كان وما لا فلا ، (والقضاء والقدر) المراد بأحدهما الحكم الإجمالي
وبالآخر التفصيلي ، وأما قول المعتزلة : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب الرضا
به ، لأن الرضا بالقضاء واجب ، واللازم باطل ، لأن الرضا بالكفر كفر ، فثبت أن
الكفر ليس بقضاء الله ، فلم تكن جميع أفعال العباد بقضاء الله تعالى على ما ذهب
إليه أهل السّنّة والجماعة فمدفوع بأن الكفر مقضى لا قضاء ، والرضى إنما يجب
بالقضاء دون المقضى ، وتوضيحه : أن الكفر له نسبة إليه سبحانه وهي كونه خلقه على
مقتضى حكمته ولا اعتراض عليه في مشيئته فإنه مالك الملك يتصرّف فيه كيف يشاء لا
يتضرّر بشيء كما لا ينتفع به ، وله نسبة أخرى إلى المكلف وهي وقوعه صفة له بكسبه
واختياره والاعتراض واقع عليه في فعله لأنه أسخط مولاه واستحق العقوبة الدائمة في
عقباه.
هذا ومن رضي بكفر
نفسه فقد كفر اتفاقا ، ومن رضي بكفر غيره ففيه اختلاف المشايخ ، والأصح أنه لا
يكفر بالرضا بكفر الغير إن كان لا يحب الكفر ، ولكن يتمنى أن يسلب الله عنه
الإيمان حتى ينتقم منه على ظلمه وإيذائه ، كذا في التاتارخانية ويؤيده قوله تعالى حكاية عن موسى : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) . (والمشيئة) أي الإرادة المتعلقة بهما (صفاته في الأزل بلا
كيف) أي بلا وصف لذلك العمل والمعنى : أن هذه الثلاث المذكورة صفات في الأزل ثابتة
بالكتاب والسّنّة إلا أنها متشابهة الصفة مجهولة الكيفية كسائر صفاته العلية حيث
__________________
____________________________________
حقيقتها خفيّة عن
البريّة فيجب على المؤمن أن يؤمن بها ويعتقد أن موجب العقل باطل في وصفها إذ ليس
من مجرد شأنه أن يدركها ، وكذلك يقول : كل راسخ في العلم عند حكمها.
قال شمس الأئمة رحمهالله : وهذا لأن المؤمنين فريقان مبتلي بالإمعان في الطلب لضرب
من الجهل به ، ومبتلي بالوقوف عن الطلب لكونه مكرما بنوع من العلم فيه ، ومعنى
الابتلاء من هذا الوجه ربما يزيد على معنى الابتلاء في الوجه الأول ، فإن الابتلاء
بمجرد الاعتقاد مع التوقف في طلب المراد بيان أن العقل لا يوجب شيئا ، ولا يدفع
شيئا فإنه يلزمه اعتقاد الحقيّة فيما لا مجال للعقل فيه ليعرف أن الحكم لله يفعل
ما يشاء ويحكم ما يريد. انتهى.
وحاصله أن الوجه
الثاني هو الأقوى فإنه إيمان بالأمر الغيبي اللّاريبي الذي لا حظّ للعقل فيه ، ولا
لذة للطبع ، بل مجرد اتّباع الحق على ما ورد به السمع من جانب الشرع بخلاف الأول
حيث اعتمد على عقله وعوّل على فهمه ، وبهذا يظهر أن الانقياد في العبادات
التعبديّة أفضل وأكمل من غيرها إذ لا حظّ للنفس فيها ، بل محض متابعة أمر الحق في
تحصيله ، ومن ثم قال الله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ، وورد لا أدري نصف العلم ، وقيل : العجز عن درك الإدراك
إدراك ، وقد سئل عليّ رضي الله عنه عن مسألة فقال : لا أدري ، وهو على المنبر ،
فقيل له : كيف تطلع فوق هذا المقام الأنور ، وتقول : لا أدري في جواب السؤال
الأزهر؟ فقال : إني صعدت بقدر علمي بالأشياء ، ولو طلعت بمقدار جهلي لبلغت السماء.
وقد وقع لأبي يوسف
رحمهالله مثل هذا السؤال وأجاب بذلك المقال ، فقيل له : إنك تأخذ
كذا وكذا من بيت المال وتعجز عن تحقيق هذا الحال ، قال : نعم أنا آخذ المال على
قدر علمي ، ولو أخذت على قدر جهلي لاستوعبت جميع الأموال ، وقد كرر الإمام الأعظم رحمهالله ذكر الإرادة هنا تحقيقا لكونها صفة قديمة لله تعالى تخصّص
المكوّنات بوجه دون وجه في وقت دون وقت وردّا على الكرامية وبعض المعتزلة من أن
إرادته حادثة ، وأما جمهورهم فأنكروا إرادته للشرور والقبائح حتى يقولوا : إنه
سبحانه وتعالى أراد من الكافر والفاسق إيمانه وطاعته لا كفره ومعصيته زعما منهم أن
إرادة القبيح
__________________
____________________________________
قبيحة كخلقه
وإيجاده وهو ممنوع ومدفوع بأن القبيح هو كسبه والاتّصاف به فعندهم يكون أكثر ما
يقع من أفعال الخلق على خلاف ما أراد الله في البلاد وهذا شنيع جدّا حيث لا يصبر
على ذلك رئيس قرية من العباد.
وإذا عرفت ذلك
فللعباد أفعال اختيارية يثابون عليها إن كانت طاعة ويعاقبون عليها إن كانت معصية
لا كما زعمت الجبرية أن لا فعل للعبد أصلا كسبا ولا خلقا ، وأن حركاته بمنزلة
حركات الجمادات لا قدرة له عليها لا مؤثرة ولا كاسبة في مقام الاعتبار ولا قصد ولا
إرادة ولا اختيار ، وهذا باطل لأنّا نفرّق بين حركة البطش وحركة الرعش ، ونعلم أن
الأول باختياره دون الثاني لاضطراره ، فإن قيل بعد تعلّق علم الله وإرادته : الجبر
لازم قطعا لأنهما أما أن يتعلقا بوجود العقل فيجب ، أو بعدمه فيمتنع لامتناع
انقلاب علمه سبحانه جهلا ، وامتناع تخلّف مراده عن إرادته أصلا وحينئذ لا اختيار
مع الوجوب والامتناع قطعا ، فالجواب أنه سبحانه يعلم ويريد أن العبد يفعله أو
يتركه باختياره فلا إشكال في هذا المقال ، وتحقيقه أن صرف العبد قدرته أو إرادته
إلى الفعل كسب وإيجاد الله تعالى الفعل عقيب ذلك خلق فالله تعالى خالق والعبد كاسب
ومن أضلّ ممّن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والطاعة من الفاجر والكافر شاء
الكفر ، والفاجر شاء الفجور فغلبت مشيئتهما مشيئة الله سبحانه ، فإن قيل يشكل على
هذا قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ) الآية. وقوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، وقوله تعالى : (لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ
ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) . أي يكذبون أو يظنون ويتوهّمون فقد ذمّهم الله تعالى حيث
جعلوا الشرك كائنا منهم لمشيئة الله وكذلك ذمّ إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله
تعالى إذ قال : (رَبِّ بِما
أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) . والجواب أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته على
رضاه ومحبته ، وقالوا : لو كره ذلك وسخط لما شاء فجعلوا مشيئة الله دليل رضاه ،
فردّ الله عليهم ذلك فلا ينافي قوله تعالى :
__________________
____________________________________
(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) . وقوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا
وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) . والحديث الصحيح الذي اتفق عليه السلف والخلف : «أن ما شاء
الله كان وما لم يشأ لم يكن» . ولقد أحسن القائل :
فما شئت كان وإن
لم أشأ
|
|
وما شئت إن لم
تشأ لم يكن
|
وقد أجيب بأنه
أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله تعالى دليل على أمره به أو أنكر عليهم معارضة
شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره فجعلوا المشيئة العامة
دافعة للأمر فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد ، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره
دافعين بها لشرعه كفعل الزنادقة وجهّال الملاحدة إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر
، وقد احتجّ سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر ، قال : فأنا أقطع يدك بقضاء الله
وقدره ويشهد لذلك قوله تعالى : (كَذلِكَ كَذَّبَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ
عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا تَخْرُصُونَ) . والحاصل أن قولهم كلمة حق أريد بها الباطل ، وأما قول
إبليس ربّ بما أغويتني فإنما ذمّ على احتجاجه بالقدر لاعترافه بالقدر وإثباته له ،
ولهذا قالوا : إنه أعرف بالله من المعتزلي لمطابقة قوله سبحانه وتعالى : (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) . أي عدلا. (وَيَهْدِي مَنْ
يَشاءُ) أي فضلا. وقوله تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ
فَهُوَ الْمُهْتَدِي) . وقوله تعالى : (وَمَنْ يُضْلِلِ
اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) . وأما قول آدم عليه الصلاة والسلام في جواب موسى عليه
الصلاة والسلام : «أفتلومني على أن عملت عملا قد كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن
يخلقني
__________________
____________________________________
بأربعين سنة» فمبني على أن لا اعتراض على العاصي بعد توبته ورجوعه إلى
طاعته ، وأن له حينئذ أن يتعلق بالقضاء والقدر ، بل يحتاج أن يعتقد أن معصيته كانت
مقدّرة قبل خلقه.
وليس له حين
مباشرته قبل تحقّق توبته أن يتشبث بالقضاء والقدر في قضيته فإنه حينئذ كالمعارض
لنهيه سبحانه عن معصيته وأمره بطاعته ، ولا رادّ لقضائه ولا معقّب لحكمه ولا غالب
لأمره ...
وعن وهب بن منبه أنه قال : نظرت في القدر فتحيّرت ، ثم نظرت فيه فتحيّرت ،
ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفّهم عنه ، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : «وإذا ذكر القدر
فأمسكوا» . يعني عن بيان حقيّته لا عن الإيمان به وحقيقته ، وأما
قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ
حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ
يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) الآية. فالأصح أن المراد بالحسنة هنا النعمة وبالسيئة
البليّة
__________________
____________________________________
فلا حجة لنا ولا علينا
، وقيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية ، ومع هذا فليس للقدرية أن يحتجّوا
بقوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ
سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) . فإنهم يقولون إن فعل العبد حسنة كانت أو سيئة فهو من الله
، والقرآن قد فرّق بينهما ، وهم لا يفرّقون ، ولأنه سبحانه قال : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فجعل الحسنات من عند الله كما جعل السيئات من عند الله ،
وهم لا يقولون بذلك في الأعمال ، بل في الجزاء وأما على المعنى الأول ففرّق سبحانه
بين الحسنات التي هي النّعم وبين السيئات التي هي المصائب والنقم ، فجعل هذه من
الله وهذه من نفس الإنسان لأن الحسنة مضافة إلى الله إذ هو أحسن بها من كل وجه ،
وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه ، فإن الربّ
سبحانه لا يفعل سيئة قطّ ، بل فعله كله حسن وخير ، وبهذا ورد حديث «الخير كله
بيديك ، والشر ليس إليك» أي فإنك لا تخلق شرّا محضا ، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة
باعتبارها يكون خيرا ، ولكن قد يكون شرّا لبعض الناس فهذا شرّ جزئي إضافي فإما شرّ
كلّي أو شرّ مطلق ، فالرب تعالى منزّه عن ذلك ومن هاهنا قال أبو مدين المغربي :
لا تنكر الباطل
في طوره
|
|
فإنه بعض
ظهوراته
|
ولهذا لا يضاف
الشرّ إليه مفردا قطّ ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات كقوله
__________________
____________________________________
سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) . وإما أن يضاف إلى السبب كقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) . وإما أن يحذف فاعله كقوله تعالى : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ
بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ، فإن قيل : كيف وجه الجمع بين قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وبين قوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) أجيب بأن الخصب والجدب والنصرة والهزيمة كلها من عند الله (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ) أي محنة وبليّة فبذنب نفسك عقوبة لك وكفّارة لك ، كما قال
الله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) وهذا على المعنى الأول الذي هو المعوّل ، وأما على المعنى
الثاني فالطاعة تنسب إلى الله تعالى ، لأنها محض خير ، والسيئة لا تنسب إلى الله
تأدّبا لكونها في صورة الشرّ والكل من عند الله خلقا فخلق الطاعة فضل وخلق المعصية
عدل : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) . ثم في قوله تعالى : (فَمِنْ نَفْسِكَ) من الفوائد أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها فإن
الشرّ كائن فيها لا يجيء إلا منها ولا يشتغل بكلام الناس ولا ذمّهم إذا أساءوا
إليه ، فإن ذلك من السيئات التي أصابته وهي إنما أصابته بذنوبه فيرجع إلى الله
ويستعيذ بالله من شرّ نفسه وسيئات عمله ، ويسأل الله أن يعينه على طاعته فبذلك
يحصل له كل خير ويندفع عنه كل شرّ ، ولهذا كان أنفع الدعاء طلب الهداية فإنها
الإعانة على الطاعة وترك المعصية.
هذا وقد قيل : كل
عام يخص كما خصّ قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) بما شاءه ليخرج ذاته وصفاته وما لم يشأ من مخلوقاته وما
يكون من المحال وقوعه في كائناته.
__________________
يعلم الله تعالى
المعدوم في حال عدمه معدوما ، ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ، ويعلم الله تعالى
الموجود في حال وجوده موجودا ، ويعلم أنه كيف يكون فناؤه ، ويعلم الله تعالى
القائم في حال قيامه قائما ، وإذا قعد علمه قاعدا في حال قعوده من غير أن يتغيّر
علمه أو يحدث له علم ، ولكن التغيّر والاختلاف يحدث في المخلوقين. خلق الله تعالى
الخلق سليما من الكفر والإيمان ، ....
____________________________________
والحاصل أن كل شيء
تعلقت به مشيئته تعلقت به قدرته ، وإلا فلا يقال هو قادر على المحال لعدم وقوعه ،
ولزوم كذبه ، ولا يقال غير قادر عليه تعظيما لأدبه من ربه ، ثم هذا العام مخصوص
بقوله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فإنه باق على العموم وشامل للموجود والمعدوم ، والمحال
والموهوم كما بيّنه الإمام الأعظم رحمهالله بقوله : (يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما) أي
بوصف المعدومية (ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده) أي في عالم الربوبية ، بل ويعلم أن
شيئا لا يكون ولو كان كيف يكون (ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا).
أي بعد علمه في حال عدمه معدوما ، (ويعلم الله أنه كيف يكون فناؤه) أي إذا أراد أن
يجعله معدوما بعد أن علمه في حال وجوده موجودا من غير تغيّر علمه في مراتب كونه
معلوما قائما (ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما) أي مثلا ، وإلا فكذا في
حال حياته وصلاته وصيامه وسائر مقاماته (فإذا قعد) أي تغيّر عن حاله الأول (علمه
قاعدا في حال قعوده) أي انتقاله من حالة إلى حالة علما تنجيزيّا ظاهريّا بعد ما
كان يعلم أنه سيقعد إلا أن ذلك العلم كان ذهنيّا وباطنيّا كما حقّق في تفسير قوله
: (إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) . (من غير أن يتغير علمه) وزيد في نسخة أو صفته والظاهر أن
الثاني وجد في نسخة بدل علمه فألحقه به وما أبدله فحصل بسبب الجمع بعض خلل (أو
يحدث له علم) أي في ثاني حاله ما لم يكن في أزله (ولكن التغيّر) أي الانتقال (واختلاف
الأحوال) أي من القيام والقعود وأمثالهما من الأفعال (يحدث في المخلوقين) مع تنزّه
الملك المتعال عن قبول الانفعال وحصول التغيّر والانتقال ، فإن علمه قديم بالأشياء
فإذا أوجد شيئا أو أفناه فإنما يوجده أو يفنيه على وفق ما علمه وطبق ما قدّره
وقضاه فإذا لا يتغيّر علمه ولا يختلف حكمه. ولا يحدث له علم بتغيّر الموجود
والمعدوم واختلافه وحدوثه (خلق) أي الله تعالى كما في نسخة (الخلق) أي المخلوقين (سليما
من الكفر والإيمان) أي سالما من
__________________
ثم خاطبهم وأمرهم
ونهاهم فكفر من كفر بفعله وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه وآمن من آمن
بفعله وإقراره وتصديقه بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له. أخرج ذريّة آدم من صلبه
على صور الذرّ فجعلهم عقلاء فخاطبهم ...
____________________________________
آثار الكفران
وأنوار الإيمان بأن جعلهم قابلين لأن يقع منهم العصيان والإحسان كما قال الله
تعالى : (هُوَ الَّذِي
خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) . أي في عالم الظهور والبيان ، (ثم خاطبهم) أي في وقت
التكليف بالعبادة على لسان أرباب الرسالة وأصحاب السعادة (وأمرهم) أي بالإيمان
والطاعة (ونهاهم) أي عن الكفر والمعصية (فكفر من كفر بفعله) أي باختياره (وإنكاره)
أي مع جهله وإصراره (وجحوده) أي مع عناده واستكباره (بخذلان الله تعالى) أي بترك
نصرته سبحانه (إياه) وعدم توفيقه لما يرضاه وهو مقتضى عدله كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ
شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) . (وآمن من آمن بفعله) أي بانقياده وإذعانه (وإقراره) أي
بلسانه (وتصديقه) أي بجنانه على وفق أمر الله ومراده (بتوفيق الله تعالى إياه
ونصرته له) أي فيما قدّره وقضاه بمقتضى فضله كما قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) .
وهذا لا ينافي
كونهما كافرا ومؤمنا في علم الله تعالى بحديث خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وخلقت
هؤلاء للنار ولا أبالي ، وحديث فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير
، فإن الحديث الجامع المانع قوله عليه الصلاة والسلام : «اعملوا فكلّ ميسّر لما
خلق له» . (أخرج ذرية آدم) عليهالسلام أي طبقة بعد طبقة إلى يوم القيامة (من صلبه) أي أولا ثم
أخرج من أصلاب أبنائه وترائب بناته نسلهم (على صور الذر) أي على هيئة النمل الصغير
بعضها بيض وبعضها سود ، وانتشروا إلى يمين آدم ويساره (فجعلهم عقلاء فخاطبهم) أي
حين أشهدهم على أنفسهم بقوله تعالى : ألست بربكم قالوا
__________________
وأمرهم بالإيمان
ونهاهم عن الكفر فأقرّوا له بالربوبية ، فكان ذلك منهم إيمانا فهم يولدون على تلك
الفطرة ، ومن كفر بعد ذلك فقد بدّل وغيّر ، ومن آمن ...
____________________________________
بلى (وأمرهم) أي
بالإيمان والإحسان (ونهاهم) أي عن الكفر والكفران (فأقروا له بالربوبية) أي
ولأنفسهم بالعبودية حيث قالوا بلى (فكان ذلك منهم) أي قولهم بلى الذي صدر عنهم (إيمانا)
أي حقيقيا أو حكميّا (فهم يولدون على تلك الفطرة) يعني كما قال الله سبحانه : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْها) . وكما قال صلىاللهعليهوسلم : «كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهوّدانه ، أو
ينصّرانه ، أو يمجّسانه حتى يعرب عنه لسانه» . (إِمَّا شاكِراً
وَإِمَّا كَفُوراً) . وهذا معنى قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).
والحاصل أن عهد
الميثاق ثابت بالكتاب وهو قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ
رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) . الآية ، وبالسّنّة وهو الحديث الثابت المروي في المصابيح
وغيره وتحقيقهما في كتب التفسير وشروح الحديث المنير على ما بيّنّاه في محلهما
خلافا للمعتزلة ، حيث حملوا الآية ، والحديث على المعنى المجازي كما دفعناه في
موضعهما هذا.
وقال شارح : ظهر
من هذه المسألة وما يتعلق بها من الأدلة أن القول بأن أطفال المشركين في النار
متروك فكيف لا وقد جعل الشرع البالغ الجاهل بالله ممّن لم تبلغه الدعوة معذورا
يعني بقوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . وأما الأحاديث فمتعارضة في هذا الباب ، وقد جمعنا بينها
في شرح المشكاة على ما ظهر لنا من طريق الصواب ، وقد قال فخر الإسلام : وكذا نقول
في الذي لم تبلغه الدعوة أنه غير مكلف بمجرد العقل ، وأنه إذا لم يصف إيمانا ولا
كفرا ولم يعتقد على شيء أي مما يكون منافيا للإيمان ولا موافقا للعصيان كان معذورا
، وإذا وصف الكفر وعقده أو عقده ولم يصفه لم يكن معذورا وكان من أهل النار مخلدا (ومن
كفر بعد ذلك) أي الإيمان الميثاقي (فقد بدّل وغيّر) أي إيمانه الفطري الوهبي
بالكفر الطارئ الكسبي (ومن آمن) أي
__________________
وصدق فقد ثبت عليه
ودام ...
____________________________________
أظهر إيمانه (وصدق)
أي في إظهاره بأن يكون إيمانه اللساني مطابقا لتصديق الجنان (فقد ثبت عليه) أي على
دينه كما في نسخة والمعنى على دينه الأصلي وفطرته الأولى (ودام) أي على الإسلام
وهو تأكيد لما قبله وفي نسخة وداوم أي واستمر عليه ولم يتزلزل لديه.
قال القونوي رحمهالله في تفسير الآية الكريمة قولان : أحدهما قول أهل التفسير
وعليه جمع من أكابر الأئمة وأكثر أهل السّنّة والجماعة ، وهو ما روي أن عمر رضي
الله عنه سئل عن هذه الآية فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن الله تعالى خلق آدم ، ثم مسح ظهره بيمينه
فاستخرج منه ذريّة فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، ويعملون عمل أهل الجنة ، ثم مسح ظهره
بشماله فاستخرج منه ذرية فقال : خلقت هؤلاء للنار ، ويعملون عمل أهل النار ، فقال
رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن الله تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة
حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة ، وكذلك إذا خلق الله العبد
للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به
النار» .
__________________
____________________________________
وأخذ بظاهره
الجبرية فقالوا : إن الله تعالى خلق المؤمنين مؤمنين وخلق الكافرين كافرين ،
وإبليس لم يزل كافرا وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما كانا مؤمنين قبل الإسلام
والأنبياء عليهمالسلام كانوا أنبياء قبل الوحي ، وكذا إخوة يوسف كانوا أنبياء وقت
الكبائر.
وقال أهل السّنّة
والجماعة : صاروا أنبياء بعد ذلك وإبليس صار كافرا وهذا لا ينافي كونه كافرا عند
الله باعتبار تعلق علمه بأنه سيصير كافرا بعلمه ، ولو كان جبرا محضا لما صدر من
إبليس طاعة ، ولا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما معصية ، فبطل قولهم أن الكفار
مجبورون على الكفر والمعصية والمؤمنين مجبورون على الإيمان والطاعة بل نقول : إن
العبد مختار مستطيع على الطاعة والمعصية ، وليس بمجبور والتوفيق من الله تعالى كما
يدل عليه قوله سبحانه : (آمِنُوا بِاللهِ
وَرَسُولِهِ) ، فلو كانوا مؤمنين لما أمرهم بالإيمان ولما خاطبهم بقوله
تعالى : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قالُوا بَلى) . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال في تفسير هذه الآية : أخذ الله تعالى الميثاق من
ظهر آدم عليهالسلام فأخرج من ظهره كل ذريته فنشرها بين يديه جميعا وصوّرهم
وجعل لهم عقولا يعلمون بها وألسنا ينطقون بها ، ثم كلّمهم قبلا أي عيانا يعاينهم
آدم عليهالسلام ، وقال : ألست بربكم قالوا : بلى شهدنا ، وتلاها إلى قوله
تعالى : (الْمُبْطِلُونَ) فإن قيل فما وجه إلزام الحجة بهذه الآية ونحن لا نذكر هذا
الميثاق وإن
__________________
____________________________________
تفكّرنا وجهدنا
جهدنا في ذلك بالاتفاق؟ أجيب : بأن الله سبحانه وتعالى أنسانا ذلك ابتلاء لأن
الدنيا دار ابتلاء وعلينا الإيمان بالغيب ابتداء ولو تذكرنا ذلك لزال الابتلاء وما
احتجنا إلى تذكير الأنبياء عليهم الصلاة واللام وليس كل ما ينسى بالمرة تزول به
الحجة وتثبت به المعذرة. قال الله تعالى في حق أعمالنا : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) . وأخبر أنه سيثيبنا ويجازينا.
والثاني قول أرباب
النظر وأصحاب المعقول وهو : أنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم
وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ،
ثم مضغة حتى جعلهم بشرا سويّا وخلقا كاملا أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من
دلائل الوحدانية فبالإشهاد بالدلالة صاروا كأنهم قالوا بلى قيل : وهذا القول لا
ينافي الأول إذ الجمع بينهما ممكن فتأمل ، وأما المعتزلة فقد أطبقوا على أنه لا
يجوز تفسير الآية بالوجه الأول ومالوا إلى الوجه الثاني ، وجعلوه من باب التمثيل ،
وهذا منهم بناء على أن كل ما لا يدركه العقل لا يجوز القول به لما عرف من أصلهم من
تقديم العقل على الفعل ، ثم الآية تدل على أن الله تعالى خلق الأرواح مع الأجساد
أو قبلها وهو الصحيح لخبر أن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بخمسمائة ألف سنة
وأن
__________________
ولم يجبر أحدا من
خلقه على الكفر ولا على الإيمان ولا خلقهم مؤمنا ولا كافرا ، ولكن خلقهم أشخاصا
والإيمان والكفر فعل العباد ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره كافرا فإذا آمن
بعد ذلك علمه في مؤمنا حال إيمانه من غير أن يتغيّر علمه وصفته ...
____________________________________
الخطاب والجواب
كان للأرواح والأجساد كما يبعثون بهما في المعاد (ولم يجبر) بضم الياء وكسر الباء
أي لم يقهر الله (أحدا من خلقه على الكفر ولا على الإيمان).
وفي نسخة ولا على
الإيمان ، والمعنى أن الله تعالى لا يخلق الطاعة والمعصية في قلب العبد بطريق
الجبر والغلبة بل بخلقهما في قلبه مقرونا باختيار العبد وكسبه فإن المكره على عمل
هو الذي عمل ذلك العمل يكرهه في الأصل ، وكان المختار عنده أن لا يعلمه فإنه عنده
كالذليل كالمؤمن إذا أكره على إجراء كلمة الكفر فأجراها بظاهر البيان وقلبه مطمئن
بالإيمان وكالمنافق حيث يجري الإيمان على اللسان وقلبه مشحون بالكفر ، فليس الكافر
في كفره معذورا ولا المؤمن في إيمانه مجبورا ، بل الإيمان محبوب للمؤمنين ، كما أن
الكفر مطلوب للكافرين ، وهذا معنى قوله تعالى : (كُلُّ حِزْبٍ بِما
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) غاية الأمر أن الله تعالى بفضله حبّب إلينا الإيمان وزيّن
في قلوبنا الإحسان وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان. والحمد لله الذي هدانا لهذا
وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله وبعدله ترك هداية أهل الكفر ، والكفران وحبّب
إليهم العصيان وكرّه لديهم الإيمان فسبحانه سبحانه يضلّ الله من يشاء ويهدي من
يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد ومن يهد الله فما له من مضلّ وهذا من أسرار
القضاء والقدر بحكم الأزل لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.
(ولا خلقهم مؤمنا
ولا كافرا) أي بالجبر والإكراه (ولكن خلقهم أشخاصا) أي قابلة لقبول الإيمان إخلاصا
ولاختيار الكفر على توهم كونه لهم خلاصا (والإيمان والكفر فعل العباد) أي بحسب
اختيارهم لا على وجه اضطرارهم وسبحان من أقام العباد فيما أراد (ويعلم الله تعالى
من يكفر في حال كفره كافرا) أي وأبغضه كما في نسخة (فإذا آمن بعد ذلك) أي ارتكاب
كفره (علمه مؤمنا في حال إيمانه) أي وأحبه كما في نسخة (من غاير أن يتغيّر علمه)
أي بتغير كفر عبده وإيمانه (وصفته) أي ومن غير أن يتغيّر نعته الأزلي من الغضب
والرضا المتعلقين بالكفر والإيمان ، وإنما التغيّر في متعلقهما باختلاف الزمان ،
بل وقد علم بإيمان بعض وكفر آخرين قبل وجودهم في عالم شهودهم إلا أنه سبحانه من
__________________
وجميع أفعال
العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها ...
____________________________________
فضله وكرمه لا
يعمل بمجرد تعلّق علمه بل لا بدّ من إظهار اختيار العبد وحصول عمله ليترتب عليه
الحساب ويتفرّع عليه الثواب أو العقاب والله أعلم بالصواب.
(وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون) أي على
أيّ وجه يكون من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان (كسبهم على الحقيقة) أي لا على
طريق المجاز في النسبة ، ولا على سبيل الإكراه والغلبة ، بل باختيارهم في فعلهم
بحسب اختلاف أهوائهم وميل أنفسهم فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، لا كما زعمت
المعتزلة أن العبد خلق لأفعاله الاختيارية من الضرب والشتم وغير ذلك ، ولا كما
زعمت الجبرية القائلون بنفي الكسب والاختيار بالكلية ففي قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) . رد على الطائفتين في هذه القضية.
والحاصل أن الفرق
بين الكسب والخلق هو أن الكسب أمر لا يستقل به الكاسب والخلق أمر يستقل به الخالق
، وقيل : ما وقع بآلة فهو كسب ، وما وقع لا بآلة فهو خلق ، ثم ما أوجده سبحانه من
غير اقتران قدرة الله تعالى بقدرة العبد وإرادته يكون صفة له ، ولا يكن فعلا له
كحركة المرتعش ، وما أوجده مقارنا لإيجاد قدرته واختياره فيوصف بكونه صفة وفعلا ،
وكسبا للعبد كالحركات الاختيارية ، ثم المتولدات كالألم في المضروب والانكسار في
الزجاج بخلق الله ، وعند المعتزلة بخلق العبد (والله تعالى خالقها) أي موجد أفعال
العباد وفق ما أراد لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) أي ممكن بدلالة العقل وفعل العبد شيء ولقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) . أي الذي يصدر منه حقيقة الخلق ليس كمن لا يصدر منه ذلك في
شيء ، وهذا في مقام التمدّح بالخالقية وكونها سببا لاستحقاق العبادة ولقوله تعالى
: (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ) . أي وعملكم أو معمولكم.
وبه احتج أبو
حنيفة رحمهالله على عمرو بن عبيد ، وفي حديث رواه الحاكم
__________________
____________________________________
وصححه البيهقي من
حديث حذيفة مرفوعا : «إن الله صانع كل صانع وصنعته» . ولذا وبّخهم سبحانه بقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) . أي ما تعملون من الأصنام وبقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) ولأن العبد لو كان خالقا لأفعاله لكان عالما بتفاصيلها كما
يشير إليه سبحانه بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ) . وقول علي كرّم الله تعالى وجهه : عرفت الله بفسخ العزائم
، ولقد أغرب المعتزلة حيث صرفوا قوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) إلى صفة الله حتى قالوا : إن كلامه مخلوق ولم يصرفوه إلى
صفات الخلق حتى قالوا : إن أفعال العباد غير مخلوقة له ، وأما قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللهَ رَمى) . فمعناه ما رميت خلقا إذ رميت كسبا ، ولكن الله رمى بخلق
كسب الرمي في المصطفى صلىاللهعليهوسلم.
قال الإمام الأعظم
في كتابه الوصية : نقرّ بأن العبد مع جميع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق ، فلما
كان الفاعل مخلوقا فأفعاله أولى أن تكون مخلوقة انتهى ... وبيانه على وجه يظهر
برهانه هو أن علة افتقار الأشياء في وجودها إلى الخالق هي إمكانه ، وكل ما يدخل في
الوجود جوهرا كان أو عرضا فهو ممكن في عالم الشهود ، فإذا كان العبد القائم بذاته
لإمكانه يستفيد الوجود في شأنه من الخالق عزّ شأنه فأفعاله القائمة به أولى أن
تستفيد الوجود من خالق ، وهذا معنى قوله تعالى والله الغني أي بذاته وصفاته عن
جميع مصنوعاته وأنتم الفقراء أي المحتاجون بذواتكم وصفاتكم وأعمالكم وأحوالكم إلى
الله أي إلى إيجاده في الابتداء ، وإمداده في الأثناء قبل الانتهاء.
ثم اعلم أن إرادة
العبد التي تقارن فعله وقدرته عليه حال صنعه مخلوقتان مع الفعل لا قبله ولا بعده ،
قال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : نقرّ بأن الاستطاعة مع الفعل لا
__________________
____________________________________
قبل الفعل ولا بعد
الفعل ، لأنه لو كان قبل الفعل لكان العبد مستغنيا عن الله سبحانه وقت الفعل ،
وهذا خلاف النص أي خلاف حكم النص كما في نسخة لقوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) ، ولو كان بعد الفعل لكان من المحال حصول الفعل بلا
استطاعة ولا طاقة. انتهى.
والمعنى أن حصول
الفعل بلا استطاعة من قبل الله تعالى ولا طاقة لمخلوق فيما لم يقارن الاستطاعة
الإلهية بفعله بناء على مقتضى ضعف البشرية وقوة الربوبية ، وهذا معنى قوله عليه
الصلاة والسلام : «لا حول ولا قوة إلا بالله» . أي لا حول عن معصيته إلا بعصمته ولا قوة على طاعته إلا
بإعانته ، وقال الإمام الأعظم في كتابه الوصية : ثم نقرّ بأن الله تعالى خالق
الخلق ورازقهم ولم يكن لهم طاقة لأنهم ضعفاء عاجزون محدثون ، والله تعالى خالقهم
ورازقهم لقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَكُمْ
ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) . والكسب من الحلال حلال وجمع المال من الحرام حرام ،
والخلق على ثلاثة أصناف : المؤمن المخلص في إيمانه ، والكافر الجاحد في كفره ،
والمنافق المداهن في نفاقه ، والله تعالى فرض على المؤمن العمل وعلى الكافر
الإيمان ، وعلى المنافق الإخلاص بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) . ومعناه : يا أيها المؤمنون أطيعوا الله ، ويا أيها الكافرون
آمنوا بالله ، ويا أيها المنافقون أخلصوا لله. انتهى. وإذا تحقق أن الله خالق
الخلق علم أنه لا يجب لهم شيء على الحق فإنه سبحانه لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون
، وكان القياس أن يقال القائل يكون العبد خالقا لأفعاله يكون من المشركين دون
الموحدين كما يشير إليه حديث : «القدري مجوس هذه الأمة» ، حيث ذهبوا إلى أن للعالم فاعلين أحدهما : الله سبحانه
وتعالى وهو فاعل
__________________
____________________________________
الخير ، والثاني
الشيطان ، وهو فاعل الشر ، قال : ولذا بالغ مشايخ ما وراء النهر مبالغة كبيرة في
تضليل المعتزلة حتى قالوا : إنهم أقبح من المجوس حيث لم يثبتوا إلا شريكا واحدا ،
المعتزلة أثبتوا شركاء لا تحصى ، ولكن المحققين على أن المعتزلة من طوائف الإسلام
، وحملوا ما ذكر على الزجر للأنام لأنهم لم يجعلوا العبد خالقا بالاستقلال ، بل
يقولون بأنه سبحانه خالق بالذات والعبد خالق بواسطة الأسباب والآلات التي خلقها
الله تعالى في العبد ، ولم يثبتوا الإشراك بالحقيقة وهو إثبات الشريك في الألوهية
كالمجوس ، ولا بمعنى استحقاق العبادة كعبدة الأصنام.
وأما قول المعتزلة
: لو كان الله خالقا لأفعال العباد لكان هو القائم والقاعد والآكل والشارب والزاني
والسارق ، وهذا جهل عظيم مدفوع بأن المتّصف بالشيء من قام به ذلك الشيء لا من
أوجده إذ لا يرون أن الله تعالى هو الخالق للسواد والبياض وسائر الصفات في الأجسام
فالإيجاد هو فعل الله والموجود وهو الحركة فعل العبد ، وهو موصوف به حتى يشتق له
منه اسم المتحرك ولا يتّصف الله بذلك ، وأما قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) . بصيغة الجمع وقوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ
الطِّينِ) بإضافة الخلق إلى عيسى فجوابه أن الخلق هاهنا بمعنى :
التقدير والتصوير ، فإن العبد بقدر طاق البشرية له بعض التدبير إن وافق التقدير ،
ثم اعلم أن تحقيق المرام ما ذكره ابن الهمام في هذا المقام حيث قال : فإن قيل : لا
شك أنه تعالى خلق للعبد قدرة على الأفعال ، ولذا ندرك تفرقة بين الحركة المقدورة وهي
الاختيارية ، وبين الرعدة الضرورية والقدرة ليست خاصيتها إلا التأثير أي إيجاد
المقدور فإن القدرة صفة تؤثّر على وفق الإرادة ويستحيل اجتماع مؤثرين مستقلين على
أثر واحد فوجب تخصيص عمومات النصوص السابقة بما سوى أفعال العباد الاختيارية
فيكونون مستقلين بإيجاد أفعالهم الاختيارية بقدرتهم الحادثة بخلق الله تعالى كما
هو
__________________
وهي
____________________________________
رأي المعتزلة ،
وإلا [كان] جبرا محضا فيبطل الأمر والنهي ، فالجواب أن الحركة مثلا
كما أنها وصف للعباد ومخلوق للرب لها نسبة إلى قدرة العبد فسميت تلك الحركة
باعتبار تلك النسبة كسبا بمعنى أنها مكسوبة للعبد ، ولم يلزم الجبر المحض إذ كانت
متعلق قدرة العبد داخلة في اختياره ، وهذا التعلّق هو المسمى عندنا بالكسب. انتهى
...
وأما ما سبق من
استحالة اجتماع مؤثّرين على أثر واحد فالجواب عنه أن دخول مقدور تحت قدرتين
إحداهما قدرة الاختراع ، والأخرى قدرة الاكتساب جائز ، وإنما المحال اجتماع
مؤثّرين مستقلين على أثر واحد ، وفي شرح العقائد تعريف القدرة الحادثة في العبد
بأنها صفة يخلقها الله تعالى في العبد عند قصده اكتساب الفعل مع سلامة الأسباب
والآلات ، وبهذا يظهر أن مناط التكليف بعد خلق الاختيار للعبد هو قصده الفعل قصدا
مصمّما طاعة كان أو معصية ، وإن لم تؤثر قدرته في وجود الفعل المانع هو تعلّق قدرة
الله التي لا يقاومها شيء في إيجاد ذلك ، ومن هنا قال ابن الهمام رحمهالله : إن لزوم الجبر يندفع بتخصيص النصوص بإخراج فعل واحد قلبي
وهو العزم المصمم ، لكن فيه أن ذلك العزم المصمّم داخل تحت الحكم المعمّم والله
سبحانه أعلم ثم ما اختاره هو قول الباقلاني رحمهالله من أئمة أهل السّنّة أن قدرة الله تعالى تتعلق بأصل الفعل
وقدرة العبد تتعلق بوصفه من كونه طاعة أو معصية ، فمتعلق تأثير القدرتين مختلف كما
في لطم اليتيم تأديبا وإيذاء ، فإذ ذات اللطم واقعة بقدرة الله تعالى وتأثيره
وكونه طاعة على الأول ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره لتعلّق ذلك بعزمه
المصمم.
ولقد أنصف الإمام
الرازي في تفسيره الكبير حيث قال : الإنسان مجبور في صورة مختار ، وهو أنهى ما
يمكن أن ينتهي إليه فهم البشر ، قلت : وذلك لوقوع فعل العبد على وفق اختياره من
غير تأثير لقدرته المقارنة له ويؤيده قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ
ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا
يُشْرِكُونَ) . ولذا قال بعض العارفين : لا تختر فإن كنت لا بدّ أن تختار
اختر أن لا تختار (وهي) أي أفعال العباد
__________________
كلها بمشيئته
وعلمه وقضائه وقدره والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضاه
وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته لا
بمحبته ولا برضائه ولا بأمره.
____________________________________
(كلها) أي جميعها
من خيرها وشرها ، وإن كانت مكاسبهم (بمشيئته) أي بإرادته (وعلمه) أي بتعلق علمه (وقضائه
وقدره) أي على وفق حكمه وطبق قدر تقديره ، فهو مريد لما يسميه شرّا من كفر ومعصية
كما هو مريد للخير من إيمان وطاعة (والطاعات كلها) أي جنسها بجميع أفرادها الشامل
لواجبها وندبها (ما كانت) أي قليلة أو كثيرة (واجبة) أي ثابتة (بأمر الله تعالى)
أي بإقامتها في الجملة حيث قال الله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) . (وبمحبته) أي لقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ
يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (وَاللهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ) (وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ) . (وبرضائه) أي لقوله تعالى في حق المؤمنين (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (وعلمه) أي لتعلق
علمه سابقا في عالم الشهود وتحققه لاحقا في عالم الوجود (ومشيئته) أي بإرادته (وقضائه)
أي حكمه (وتقديره) أي بمقدار قدره أولا وكتبه في اللوح المحفوظ وحرّره ثانيا
وأظهره في عالم الكون وقرّره ثالثا ثم يجزيه جزاء وافيا في عالم العقبى رابعا (والمعاصي
كلها) أي صغيرها وكبيرها (بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته) إذ لو لم يردها لما وقعت (لا
بمحبته) أي لقوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ لا
يُحِبُّ الْكافِرِينَ) (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ) (ولا برضائه) أي
لقوله تعالى : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ولأن الكفر يوجب المقت الذي أشد الغضب وهو ينافي رضى الرب
المتعلق بالإيمان وحسن الأدب (ولا بأمره) أي لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) . فالنهي ضد الأمر فلا يتصور أن يكون الكفر بالأمر وهذا
__________________
____________________________________
القول هو المعروف
عن السلف ، وقد اتفقوا على جواز إسناد الكل إليه سبحانه جملة ، فيقال : جميع
الكائنات مرادة لله ، ومنهم من منع التفصيل فقال لا يقال إنه يريد الكفر والظلم
والفسق لإيهامه الكفر ، ولرعاية الأدب معه سبحانه ، كما يقال خلق الأشياء ولا يقال
: خالق القاذورات ، ثم أعلم أن شارحا حلّ عبارة الإمام على أن الطاعات والمعاصي
مفعولات ليخلق ، وأن قوله واجبة خبر ما كانت مندوبة ، والأولى ما قررنا وعلى عموم
معنى الأمر حرّرنا.
والمسألة مبسوطة
في الوصية حيث قال : نقرّ بأن الأعمال ثلاثة : فريضة أي اعتقادا وعملا ، أي أو
عملا لا اعتقادا ليشمل الواجب ، وفضيلة أي سنّة أو مستحبة ، أو نافلة ومعصية أي
حرام ، أو مكروه ، فالفريضة بأمر الله تعالى ومشيئته ومحبته ورضاه وقضائه وتقديره
، وإرادته وتوفيقه ، وتخليقه أي خلق فعله وفق حكمه فهو تفسير لما قبله.
وأما قوله وحكمه
وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ فظاهر العبارة هو التفرقة بين المشيئة والإرادة ،
فالمشيئة أزلية في المرتبة الشهودية والإرادة تعلقها بالفعل في الحال الوجودية هذا
ما سنح لي في هذا المقام والله تعالى أعلم بمرام الإمام.
وكذا الحكم يظهر
أنه مستدرك لأنه أما أن يراد به الحكم الأزلي فهو بمعنى القضاء الأوّلي ، أو يراد
به الأمر الكوني في عالم الظهور الخلقي فقد تقدّم ذكر الأمر بهذا المعنى اللهمّ
إلّا أن يقال أنهما كالتأكيد والتأييد في المبنى ، ثم قوله : والفضيلة ليست بأمر
الله تعالى أي بالأمر الموجب قطعا ، أو ظنّا وإلا فهي داخلة في ذلك الأمر المقتضي
استحسانا ، وكذا مندرج في قوله : ولكن بمشيئته ومحبته ورضائه وقضائه وتقديره
وتوفيقه وتخليقه وإرادته وحكمه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ فنؤمن باللوح
والقلم وبجميع ما فيه والمعصية ليست بأمر الله ولكن بمشيئته لا بمحبته وبقضائه لا
برضائه وبتقديره وتخليقه لا بتوفيقه وبخذلانه وعلمه وكتابته في اللوح المحفوظ.
انتهى.
وأما ما ذكره ابن
الهمام في المسايرة من أنه نقل عن أبي حنيفة ما يدل على جعل الإرادة من جنس
الرضى والمحبة لا المشيئة لما روي عنه من قال لامرأته : شئت
__________________
____________________________________
طلاقك ونواه طلّقت
، ولو قال : أردته أو أحببته ، أو رضيته ونواه لا يقع على تفرقة هذه الصفات في
العباد فليس كما قال أنه مخالف لما عليه أكثر أهل السّنّة ، وقد ثبت عنه عليه
الصلاة والسلام ما أجمع عليه السلف من قوله : «ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن»
، وقد خالفت المعتزلة في هذين الأصلين فأنكروا إرادة الله للشر مستدلّين على
زعمه بقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعِبادِ) ، وإن الله (لا يَرْضى لِعِبادِهِ
الْكُفْرَ) ، (إِنَّ اللهَ لا
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ
الْفَسادَ) . وهذا منهم بناء على تلازم الإرادة والمحبة والرضا والأمر
عندهم ، وقالوا : إنه سبحانه أراد من الكافر الإيمان لا الكفر ، ومن العاصي الطاعة
لا المعصية زعما منهم أن إرادة القبيح قبيحة فعندهم يكون أكثر ما يقع من أفعال
العباد على خلاف إرادة الله سبحانه ، وقد دلّت الآيات الواضحات على خلاف قولهم
كقوله تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ
يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) . وقوله : (لَوْ يَشاءُ اللهُ
لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) ، (وَلَوْ شِئْنا
لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) .
وروى البيهقي
بسنده أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه : «لو أراد الله أن لا يعصى ما
خلق إبليس» . ثم قول المعتزلة : إرادة القبيح قبيحة هو بالنسبة إلينا
أما
__________________
____________________________________
بالنسبة إلى الله
سبحانه فليست كذلك فإنها قد تكون مقرونة بحكمة ، تقتضي هنالك مع أنه مالك الأمور
على الإطلاق كما قال الله تعالى : (وَيَفْعَلُ اللهُ ما
يَشاءُ) . وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ
ما يُرِيدُ) . وقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) . وحكي أن القاضي الجبار الهمداني أحد شيوخ المعتزلة دخل
على الصاحب بن عباد وعنده الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني أحد أئمة أهل السّنّة
فلما رأى الأستاذ قال : سبحان من تنزّه عن الفحشاء فقال الأستاذ فورا سبحان من لا
يقع في ملكه إلا ما يشاء ، فقال القاضي : أيشاء ربنا أن يعصى؟ قال الأستاذ : أيعصى
ربّنا قهرا؟ فقال القاضي : أرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالرديء أحسن إليّ أم
أساء ، فقال الأستاذ : إن منعك ما هو لك فقد أساء ، وإن منعك ما هو له ، فهو يختص
برحمته من يشاء فبهت القاضي .
ومجمل الكلام في
تحصيل المرام أن الحسن من أفعال العباد ، وهو ما يكون متعلق المدحة في الدنيا
والمثوبة في العقبى برضاء الله تعالى وإرادته وقضائه ، والقبيح منها وهو ما يكون
متعلق المذمّة في العاجل والعقوبة في الآجل ليس برضائه ، بل بإرادته وقضائه لقوله
سبحانه : (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) . فالإرادة والمشيئة والتقدير تتعلق بالكل والرضاء والمحبة
والأمر لا تتعلق إلا بالحسن دون القبيح من الفعل حيث أمرهم بالإيمان مع تقرّر علمه
بأنهم يموتون على الكفر.
ثم اعلم أن الطاعة
بحسب الطاقة كما قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) . أي قدرتها وقدرة العبد التي يصير بها أهلا لتكليف الطاعة
هي سلامة الآلة
__________________
____________________________________
التي بها يؤدي ما
يجب عليه من المعرفة والعبادة ، فلذا لا يكلّف الصبي والمجنون بالإيمان ولا الأخرس
بالإقرار باللسان ولا المريض العاجز عن القيام بالقيام في مقام الإحسان فكان أبو
جهل غير مسلوب العقل ، ولم يكن له أن يقول : لا أقدر على أن أصدق وأعترف ، وكذا
المؤمن الصحيح التارك للصلاة ليس له أن يقول : لا أقدر أن أصلي.
والحاصل أن العبد
ليس له أن يعتذر ويتعلق بالقضاء والقدر ، وفيه إشكال مشهور ذكرناه في تفسير قوله
تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) . حيث نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم علم الله منهم أنهم
لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، ووجه الإشكال ظاهر حيث أمرهم بالإيمان مع
تقرير علمه بأنهم يموتون على الكفر ، والجواب أن إيمانهم ليس محالا لذاته ، بل
لغيره حيث تعلق علم الله بعدمه فهم في عدم إيمانهم عاصون من وجه ، وطائعون من وجه
، ولعل هذا المعنى يستفاد من قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) . أي انقاد في ما أراد ربّ العباد وسرّ القدر مخفيّ على
البشر في الدنيا ، بل في العقبى فتدبّر ، قال الله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ
فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) . والحاصل أن الاستطاعة صفة يخلقها الله عند اكتساب الفعل
بعد سلامة الأسباب والآلات ، فإن قصد العبد فعل الخير خلق الله تعالى قدرة فعل
الخير ، وإن قصد العبد فعل الشر خلق الله قدرة فعل الشر ، فكان العبد هو المضيّع
لقدرة فعل الخير ، فيستحق الذمّ والعقاب ، ولذا ذمّ الله الكافرين بأنهم لا
يستطيعون السمع أي لا يقصدون استماع كلام الرسول على وجه التأمل وطلب الحق حتى
يعلموا ويعملوا به ، بل يستمعون على وجه الإنكار ، وقد يقع لفظ الاستطاعة على
سلامة الأسباب والآلات والجوارح كما في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً) . وصحة التكليف تعتمد على هذه الاستطاعة التي هي سلامة
الأسباب والآلات لا الاستطاعة بالمعنى الأول ، فتأمل مع أن القدرة صالحة للضدّين
عند أبي حنيفة رحمهالله حتى أن القدرة المصروفة إلى الكفر هي بعينها القدرة التي
تصرف إلى الإيمان لا اختلاف إلا في التعلّق وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة ،
فالكافر
__________________
والأنبياء عليهم
الصلاة والسلام كلهم ...
____________________________________
قادر على الإيمان
المكلّف به إلا أنه صرف قدرته إلى الكفر وضيّع باختياره صرفها إلى الإيمان فاستحق
الذمّ والعقاب من هذا الباب ، وأما ما يمتنع بالغير بناء على أن الله تعالى علم
خلافه ، أو أراد خلافه كإيمان الكافر وطاعة العاصي فلا نزاع في وقوع التكليف به
لكونه مقدور المكلّف بالنظر إلى نفسه ، فليس التكليف به تكليفا بما ليس في وسع
البشر نظرا إلى ذاته ، ومن قال : إنه تكليف بما ليس في الوسع فقد نظر إلى ما عرض
له من تعلّق علمه تعالى وإرادته سبحانه بخلافه.
وبالجملة لو لم
يكلّف العبد به لم يكن تارك المأمور عاصيا ، فلذا عدّ مثل إيمان الكافر وطاعة
الفاسق من قبيل المحال بناء على تعلق علمه وإرادته بخلافه ، وهو عندنا من قبيل ما
لا يطاق بناء على صحة تعلّق القدرة الحادثة في نفسه ، وإن لم يوجد عقيبه ، وهذا
نزاع لفظي عند أرباب التحقيق ، والله وليّ التوفيق.
ثم اعلم أن مراتب
ما ليس في وسع البشر إتيانه ثلاث : أقصاها أن يمتنع بنفس مفهومه كجمع الضدّين وقلب
الحقائق وإعدام القديم ، وهذا لا يدخل تحت القدرة القديمة فضلا عن الحادثة.
وأوسطها أن لا
تتعلق بها القدرة الحادثة أصلا ، كخلق الأجسام. أو عادة كحمل الجبل والصعود إلى
السماء.
وأدناها أن يمتنع
لتعلق علمه سبحانه وإرادته بعدم وقوعه ، وفي جواز التكليف بالمرتبة الثالثة تردّد
ولا نزاع في عدم الوقوع ، وجواز الثانية مختلف فيه ولا خلاف في عدم الوقوع ووقوع
الثالثة متّفق عليه فضلا عن جوازها (والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم) أي
جميعهم الشامل لرسلهم ومشاهيرهم وغيرهم أولهم آدم عليه الصلاة والسلام على ما ثبت
بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة فما نقل عن بعض من إنكار ثبوته يكون كفرا ، وقد ورد
أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقال : «مائة
ألف وأربعة وعشرون ألفا ، وفي رواية مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفا» إلا أن
__________________
منزّهون عن
الصغائر والكبائر والكفر والقبائح ...
____________________________________
الأولى أن لا
يقتصر على عدد فيهم (منزّهون) أي معصومون (عن الصغائر والكبائر) أي من جميع
المعاصي (والكفر) خصّ لأنه أكبر الكبائر ولكونه سبحانه : (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) . (والقبائح) وفي نسخة والفواحش وهي أخصّ من الكبائر في
مقام التغاير كما يدل عليه قوله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) والمراد بها نحو القتل والزنى واللواطة والسرقة وقذف
المحصنة والسحر والفرار من الزحف والنميمة وأكل الربا ومال اليتيم ، وظلم العباد
وقصد الفساد في البلاد.
وقال سعيد بن جبير
: إن رجلا قال لابن عباس رضي الله عنهما : كم الكبائر ، أسبع هي؟ قال : إلى
سبعمائة أقرب منها إلى سبع غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ، ولا صغيرة مع الإصرار.
واختلفوا في حدّ
الكبيرة فقال ابن سيرين رضي الله عنه : كل ما نهى الله عنه فهو كبير ويؤيده ظاهر
قوله سبحانه : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية.
وقال الحسن وسعيد
بن جبير والضحاك وغيرهم : ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة ،
وهذا هو الأظهر فتدبّر.
ثم اعلم أن ترك
الفرض أو الواجب ولو مرة بلا عذر كبيرة ، وكذا ارتكاب الحرام وترك السّنّة مرة بلا
عذر تساهلا وتكاسلا عنها صغيرة ، وكذا ارتكاب الكراهة والإصرار على ترك السّنّة ،
أو ارتكاب الكراهة كبيرة إلا أنها كبيرة دون كبيرة ، لأن الكبير والصغير من الأمور
الإضافية والأحوال النسبية ، ولذا قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، قال شارح
عقيدة الطحاوي ، «وثم أمر ينبغي التفطّن له وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء
والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر ، وقد يقترن بالصغيرة من قلّة الحياء
وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها
__________________
وقد كانت منهم
زلّات وخطيئات ، ...
____________________________________
بالكبائر ، وهذا
أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب هو قدر زائد على مجرد الفعل ، والإنسان يعرف ذلك من
نفسه وغيره ، وأيضا فإنه قد [يعفى] لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره من الذنب الجسيم ، ثم هذه العصمة ثابتة للأنبياء قبل
النبوّة وبعدها على الأصح وهم مؤيّدون بالمعجزات الباهرات والآيات الظاهرات ، وقد
ورد في مسند أحمد رحمهالله أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن عدد الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام فقال : مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والرّسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر
أولهم آدم عليه الصلاة والسلام وآخرهم محمد صلىاللهعليهوسلم ، وهو لا ينافي قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ
نَقْصُصْ عَلَيْكَ) . فإن ثبوت الإجمال لا ينافي تفصيل الأحوال نعم الأولى أن
لا يقتصر على الأعداد فإن الآحاد لا تفيد الاعتماد في الاعتقاد ، بل يجب كما قال
الله تعالى : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) . أن يؤمن إيمانا إجماليّا من غير تعرّض لتعدّد الصفات وعدد
الملائكة والكتب والأنبياء وأرباب الرسالة من الأصفياء (وقد كانت منهم) أي من بعض
الأنبياء قبل ظهور مراتب النبوّة أو بعد ثبوت مناقب الرسالة (زلّات) أي تقصيرات (وخطيئات)
أي عثرات بالنسبة إلى ما لهم من عليّ المقامات وسنيّ الحالات كما وقع لآدم عليه
الصلاة والسلام في أكله من الشجرة على وجه النسيان ، أو ترك العزيمة واختيار
الرخصة ظنّا منه أن المراد بالشجرة المنهيّة المشار إليها بقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) . هي الشخصية لا الجنسية فأكل من الجنس لا من الشخص بناء
على الحكمة الإلهيّة ليظهر ضعف قدر البشرية وقوة اقتضاء مغفرة الربوبية ، ولذا ورد
حديث : «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم» ، وبسط هذا يطول فنعطف عن هذا القول ، وهذا ما
__________________
____________________________________
عليه أكثر العلماء
خلافا لجماعة من الصوفية ، وطائفة من المتكلمين حيث منعوا السهو والنسيان والغفلة
، وأما قوله صلىاللهعليهوسلم «إنه ليغان على
قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» ، فقال الرازي في التفسير الكبير : اعلم أن الغين يغشى
القلب فيغطيه بعض التغطية وهو كالغيم الرقيق الذي يعرض في الهواء ، فلا يحجب عين
الشمس ، ولكن يمنع كمال ضوئها ، ثم ذكروا لهذا الحديث تأويلات.
أولها
: أن الله تعالى
أطلع نبيّه صلىاللهعليهوسلم على ما يكون في أمته من بعده من الخلاف وما يصيبهم ، فكان
إذا ذكر ذلك وجد غنيا في قلبه فاستغفر لأمته ، قلت : وفيه بعد ظاهر في الإفهام من
جهة دوام تذكّر ذلك المقام مع أنه عليه الصلاة والسلام كان في مرتبة عالية من
المرام.
ثانيها
: أنه عليه الصلاة
والسلام كان ينتقل من حالة إلى أخرى أرفع من الأولى فكان الاستغفار لذلك يعني
لتوقفه وظنه أنه الحالة الأعلى ، وهذا المعنى هو الأولى لمطابقة قوله تعالى : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ
الْأُولى) .
وثالثها
: أن الغين عبارة عن
السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيا على نفسه بالكليّة ، فإذا عاد
إلى الصحو كان الاستغفار من ذلك الصحو ، وهو تأويل أرباب الحقيقة قلت : ويؤيده
حديث «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب أي جبرائيل المقدس ، أو نبي مرسل» أي نفسه الأنفس ، إلا أنه قد يقال الاستغفار ليس من الصحو
، بل من المحو لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام : «وإنه ليغان على قلبي حتى يمنعني
عن شهود ربي في مقام جمع الجمع الذي لا يحجب الكثرة عن الوحدة ولا يمنع
__________________
____________________________________
الوحدة عن الكثرة»
. لا سيما وهو في منصب الرسالة وفي مقام تبليغ الدعوة والدلالة ، فكلّ ما
يمنعه عن المقام الأكمل فنسبة الاستغفار إليه أمثل ، وقد يقال : الغين كناية عن
الغير من ملاحظة الخلائق ومرابطة العلائق ومضايقة العوائق ، كما أن الغين كناية عن
مراقبة الذات ومشاهدة الصفات وهو عين العلم والإيمان ، وزيّن العمل والإحسان كما
يشير إليه حديث «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» ، أي أن تكون في مقام العبودية لله بحيث لا يخطر ببالك ما
سواه ، والخواطر لا تنفك عن السرائر ، فكلما خطر بباله سوى الله قال : استغفر الله
كما أشار شيخ مشايخنا أو الحسن البكري في حزبه إلى هذا المقام السري ، والحال السري ، وأومى إليه
العارف ابن الفارض أيضا بقوله :
ولو خطرت لي في
سواك إرادة
|
|
على خاطري سهوا
حكمت بردّتي
|
ومن هذه العبارات
يفهم مضمون كلام من قال من أهل الإشارات حسنات الأبرار سيئات المقرّبين الأحرار.
ورابعها
: وهو تأويل أهل
الظاهر أن القلب لا ينفك عن الخطرات وخواطر الشهوات وأنواع الميل والإرادات ، وكان
يستعين بالرب في دفع تلك الخواطر قلت :
وخامسها
: تبعا لأرباب الظاهر
أنه عليه الصلاة والسلام كان استغفاره من رؤية العبادات ، أو من تقصيره في الطاعات
، أو عجزه عن شكر النّعم في الحالات ، ولذا كان
__________________
____________________________________
يستغفر إذا فرغ من
الصلاة ، وكذا إذا خرج من قضاء الحاجات ومن هذا القبيل قول رابعة العدوية :
استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير ، وله معنيان أحدهما : أصدق من الآخر فتأمل
وتدبّر فلنعطف من هذا المقام إلى ما كنّا في صدده من الكلام.
فذكر القاضي أبو
زيد في أصول الفقه أن أفعال النبي صلىاللهعليهوسلم عن قصد على أربعة أقسام : واجب ومستحبّ ومباح وزلّة ، فأما
ما كان يقع من غير قصد كما يكون من النائم والمخطئ ونحوهما فلا عبرة بها ، لأنها
غير داخلة تحت الخطاب ، ثم الزلة لا تخلو عن القرآن ببيان أنها زلّة إما من الفاعل
من نفسه كقول موسى حين قتل القبطي بوكزته هذا من عمل الشيطان وإما من الله سبحانه
كما قال الله تعالى في حق آدم عليهالسلام : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ
فَغَوى) . مع أنه قيل زلّته كانت قبل نبوّته لقوله تعالى : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ
عَلَيْهِ وَهَدى) . وإذا لم تخل الزلّة عن البيان لم يشكل على أحد أنما غير
صالحة للاقتداء بها فتلقّى العبرة للأنواع الثلاثة.
وقد ذكر شمس الأئمة
أيضا نحوه ، وفي شرح العقائد أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الكذب
خصوصا فيما يتعلق بأمر الشرع وتبليغ الأحكام وإرشاد الأمة أما عمدا فبالإجماع ،
وإما سهوا فعند الأكثرين وفي عصمتهم عن سائر الذنوب تفصيل وهو أنهم معصومون عن
الكفر قبل الوحي وبعده بالإجماع ، وكذا عن تعمّد الكبائر عند الجمهور خلافا
للحشوية ، وأما سهوا فجوّزه الأكثرون ، وأما الصغائر فتجوز عمدا
عند الجمهور خلافا للجبائي وأتباعه ، وتجوز سهوا بالاتفاق إلا ما يدل على الخسّة
كسرقة لقمة وتطفيف حبة ، لكن المحقّقين اشترطوا أن ينبّهوا عليه فينتهوا عنه هكذا
كله بعد الوحي ، وأما قبله فلا دليل على امتناع صدور الكبيرة خلافا للمعتزلة ومنع
الشيعة صدور الصغيرة والكبيرة قبل الوحي وبعده ، لكنهم جوّزوا إظهار الكفر تقية فما نقل
__________________
ومحمد عليه الصلاة
والسلام نبيه ...
____________________________________
عن الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام مما يشعر بكذب وبمعصية بطرق ثابتة فمصروف عن ظاهره إن أمكن ، وإلا
فمحمول على ترك الأولى ، أو كونه قبل البعثة .
وقال ابن الهمام
والمختار أي : عند جمهور أهل السّنّة العصمة عنها أي عن الكبائر لا الصغائر غير
المنفردة خطأ أو سهوا ، ومن أهل السّنّة من منع السهو عليه والأصح جواز السهو في
الأفعال ، والحاصل : أن أحدا من أهل السّنّة لم يجوز ارتكاب المنهي منهم عن قصد ،
ولكن بطريق السهو والنسيان ويسمى ذلك زلّة.
قال القونوي :
واختلف الناس في كيفية العصمة ، فقال بعضهم : هي محض فضل الله تعالى بحيث لا
اختيار للعبد فيه وذلك إما بخلقهم على طبع يخالف غيرهم بحيث لا يميلون إلى المعصية
ولا ينفرون عن الطاعة كطبع الملائكة ، وإما يصرف همّتهم عن السيئات وجذبهم إلى
الطاعات جبرا من الله تعالى بعد أن أودع في طبائعهم ما في طبائع البشر.
وقال بعضهم :
العصمة فضل من الله ولطف منه ، ولكن على وجه يبقى اختيارهم بعد العصمة في الإقدام
على الطاعة والامتناع عن المعصية وإليه مال الشيخ أبو منصور الماتريدي حيث قال :
العصمة لا تزيل المحنة أي الابتلاء والامتحان يعني لا تجبره على الطاعة ولا تعجزه
عن المعصية ، بل هي لطف من الله تعالى يحمله على فعل الخير ويزجره عن الشر مع بقاء
الاختيار تحقيقا للابتلاء والاختيار (ومحمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم) أي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن
خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان هذا القدر من نسبه عليه
الصلاة والسلام لم يختلف فيه أحد من العلماء الأعلام ، وقد روي من أخبار الآحاد
عنه عليه الصلاة والسلام أنه نسب نفسه كذلك إلى نزار بن معدّ بن عدنان (نبيّه) وفي نسخة
__________________
وعبده ورسوله ...
____________________________________
حبيبه (وعبده) أي
المختص به لأنه المفرد الأكمل عند إطلاقه (ورسوله) وناسخ أديان من قبله فقد قال
عليه الصلاة والسلام : «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ، وقولوا عبد الله ورسوله»
. وقدّم العبودية لتقدّمها وجودا على الرسالة وللدلالة على عدم استنكافه عن
ذلك المقام ، بل للإشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام مفتخر بذلك المرام ولله درّ
القائل بنظم هذا النظام :
لا تدعني إلا
بيا عبدها
|
|
فإنه أشرف
أسمائي
|
ثم في تقديم
النبوّة على الرسالة إشعار بما هو مطابق في الوجود من عالم الشهود ، وإيماء إلى ما
هو الأشهر في الفرق بينهما من المنقول بأن النبي أعمّ من الرسول إذ الرسول من أمر
بالتبليغ والنبي من أوحي إليه أعمّ من أن يؤمر بالتبليغ أم لا ، قال القاضي عياض : والصحيح الذي عليه الجمهور أن كل رسول نبي من غير
عكس ، وهو أقرب من نقل غيره الإجماع عليه لنقل غير واحد الخلاف فيه فقيل : النبي
مختص بمن لا يؤمر ، وقيل : هنا مترادفان واختاره ابن الهمام والأظهر أنهما
متغايران لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) الآية. ولبعض الأحاديث الواردة في عدد الأنبياء والرّسل عليهالسلام ، وأما هو صلىاللهعليهوسلم فخوطب بيا أيها النبي ويا أيها الرسول لكونه موصوفا بجميع
أوصاف المرسلين ، وفي قوله تعالى : (وَلكِنْ رَسُولَ
اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) . إيماء إلى ما ورد في بعض أحاديث الإسراء «جعلتك أول
النبيين خلقا وآخرهم بعثا» كما رواه البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
__________________
____________________________________
قال الإمام فخر
الدين الرازي : الحق أن محمدا صلىاللهعليهوسلم قبل الرسالة ما كان على شرع نبي من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام وهو المختار عند المحقّقين من الحنفية لأنه لم يكن من أمة نبي قطّ ، لكنه
كان في مقام النبوّة قبل الرسالة وكان يعمل بما هو الحق الذي ظهر عليه في مقام
نبوّته بالوحي الخفي والكشوف الصادقة من شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام
وغيرها.
كذا نقله القونوي
في شرح عمدة النسفي وفيه دلالة على أن نبوّته لم تكن منحصرة فيما بعد الأربعين كما
قال جماعة : بل إشارة إلى أنه من يوم ولادته متّصف بنعت ثبوته ، بل يدل حديث : «كنت
نبيّا وآدم بن الروح والجسد» على أنه متّصف بوصف النبوّة في عالم الأرواح قبل خلق
الأشباح ، وهذا وصف خاص له لا أنه محمول على خلقه للنبوّة واستعداده للرسالة كما
يفهم من كلام الإمام حجة الإسلام ، فإنه حينئذ لا يتميز عن غيره حتى يصلح أن يكون
ممدوحا بهذا النعت بين الأنام ثم نبوّته ورسالته عليه الصلاة والسلام ثابتة
بالمعجزات ، بل هو معجزة في حدّ الذات والصفات كما قال صاحب البردة :
كفاك بالعلم في
الأميّ معجزة
|
|
في الجاهلية
والتأديب في اليتم
|
وما أحسن قول حسان
رضي الله تعالى عنه :
لو لم يكن فيه
آيات مبيّنة
|
|
كانت بديهته
تأتيك بالخبر
|
وبيانه أن ما من
أحد ادّعى النبوّة من الكذابين إلا وقد ظهر عنه من الجهل والكذب لمن له أدنى تمييز
بل وقد قيل : ما أسرّ أحد سريرة إلّا أظهرها الله على صفحات وجهه
__________________
وصفيّه ونقيّه ولم
يعبد الصنم ولم يشرك بالله تعالى طرفة عين قطّ ولم يرتكب صغيرة ولا كبيرة قطّ.
وأفضل الناس بعد النبيّين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ، ...
____________________________________
وفلتات لسانه
ويزيده قوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما
كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) . (وصفيّه ونقيّه) أي مصطفاه بأنواع من الكرامات وحقائق
المقامات الدنيوية والأخروية وفي نسخة بزيادة ومنتقاه أي مختاره ومجتباه من بين
مخلوقاته كما يشير إليه قول القائل :
لولاه لم تخرج الدنيا من العدم
(ولم يعبد الصنم)
أي ولا غيره لقوله : (ولم يشرك بالله طرفة عين قطّ) أي لا قبل النبوة ولا بعدها
فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن الكفر مطلقا بالإجماع ، وإن جوّز
بعضهم صدور الصغيرة بل الكبيرة قبل النبوّة بل وبعدها أيضا في مقام النزاع ، وأما
هو صلىاللهعليهوسلم فكما قال الإمام الأعظم رحمهالله (ولم يرتكب صغيرة
ولا كبيرة قطّ) وأما قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) الآية. وكذا قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) الآية. فمحمول على ترك الأولى بالنسبة إلى مقامه الأعلى (وأفضل
الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام) أي بعد وجوده لأنه خاتم النبيين حال
شهوده ، وأما عيسى فقد وجد قبله ، وإن كان يقع نزوله بعده ولا يبعد أن يقال : أراد
الإمام الأعظم البعدية الزمانية ففي شرح المقاصد ذهب العظماء من العلماء إلى أن
أربعة من الأنبياء في زمرة الأحياء الخضر وإلياس في الأرض وعيسى وإدريس في السماء .
والحاصل : أن أفضل
الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (أبو بكر الصديق)
__________________
____________________________________
(رضي الله عنه)
كان اسمه في الجاهلية عدن الكعبة ، فسمّاه رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الله واسم أبيه أبو قحافة عثمان بن عامر بن كعب بن سعد
بن تيم بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر القرشي الصديق التيمي وهو الصديق
لكثرة صدقه ، وتحقيقه وقوة تصديقه وسبق توفيقه فهو أفضل الأولياء من الأولين
والآخرين.
وقد حكى الإجماع
على ذلك ولا عبرة بمخالفة الروافض هنا لك وقد استخلفه عليه الصلاة والسلام في
الصلاة فكان هو الخليفة حقّا وصدقا وفي الصحيحين عن عائشة رضي
الله عنها أنها قالت : دخل عليّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم في اليوم الذي بدئ فيه فقال : «ادعي إليّ أباك وأخاك حتى
أكتب لأبي بكر كتابا ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر» . وأما قول عمر : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني
أبا بكر رضي الله عنه ، وإن لا أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني يعني النبي صلىاللهعليهوسلم فلعل مراده لم يستخلف بعهد مكتوب ، ولو كتب عهدا لكتبه
لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ، ثم تركه وقال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر.
فكان هذا أبلغ من مجرد العهد ، فإنه دلّ المسلمين على استخلاف أبي بكر بالفعل
والقول واختاره لخلافته اختيار راض بذلك وعزم على أن يكتب بذلك عهدا هنالك ثم علم
أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتابة
__________________
____________________________________
اكتفاء بإرادة
الله تعالى ، واختيار الأمة ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، فلما حصل لبعضهم
شك هل ذلك القول من جهة المرضع أو هو قول يجب اتّباعه ترك الكتابة اكتفاء بما سبق فلو كان التعيين مما يشتبه على
الأمة لبيّنه بيانا قاطعا للمعذرة ، لكن لما دلّهم دلالات متعددة على أن أبا بكر
هو المتعيّن وفهموا ذلك حصل المقصود هنا لك ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر إلا
سعد بن عبادة لكونه هو الذي كان يطلب الولاية لنفسه ، ولذا لما بايع عمر وأبو
عبيدة ومن حضر من الأنصار ، قال قائل : قتلتم سعدا فقال عمر : قتله الله ولم يقل أحد من الصحابة رضي الله عنه أن النبي صلىاللهعليهوسلم نصّ على
__________________
ثم عمر بن الخطاب
، ثم عثمان بن عفان ذو النورين ، ....
____________________________________
غير أبي بكر رضي
الله عنه من علي وعباس وغيرهما رضي الله عنهم ولو كان لأظهراه وروى ابن بطة
بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن البصري فقال : هل كان النبي صلىاللهعليهوسلم استخلف أبا بكر فقال : أو في شكّ صاحبك؟ نعم والله الذي لا
إله إلا هو استخلفه لهو كان أنقى لله من أن يتوثب عليها والتقييد بالناس لأن خواص الملائكة كجبرائيل وميكائيل
وإسرافيل وعزرائيل وحملة العرش والكروبيين من الملائكة المقرّبين أفضل من عوامّ المؤمنين ، وإن كانوا
دون مرتبة الأنبياء والمرسلين على الأصح من أقوال المجتهدين مع أنه لا ضرورة إلى
هذه المسألة في أمر الدين على وجه اليقين ، (ثم عمر بن الخطاب) أي ابن نفيل بن عبد
العزى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن دراج بن عدي بن كعب القرشي العدوي وهو
الفاروق كما في نسخة أي المبالغ في الفرق بين الخلق والباطل لقوله عليه الصلاة
والسلام : «إن الحق يجري على لسان عمر) . أو بين المنافق والموافق لما نزل في حقه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) . الآيات. وقد أجمعوا على فضيلته وحقيّة خلافته ، وقصة قتل
عمر بن الخطاب والمبايعة لعثمان مذكورة في صحيح البخاري بطولها (ثم عثمان بن عفان ذو النورين) أي ابن العاص بن
أمية بن
__________________
ثم عليّ بن أبي
طالب المرتضى ...
____________________________________
عبد شمس بن عبد
مناف بن قصي القرشي الأموي ، وهو ذو النورين كما في نسخة لأنه تزوج بنتي النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : «لو كانت إليّ أخرى لزوّجتها
إياه» ، ويقال : لم يجمع بين بنتي نبي من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى قيام
الساعة إلا عثمان بن عفان رضي الله عنه وقيل : إنما لقّب به لأنه عليه الصلاة
والسلام دعا لأبي بكر رضي الله عنه بدعوة ولعثمان بدعوتين (ثم عليّ بن أبي طالب)
أي ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي القرشي الهاشمي (المرتضى) وهو
المرتضى زوج فاطمة الزهراء ، وابن عمّ المصطفى والعالم في الدرجة العليا والمعضلات
التي سأله كبار الصحابة عنها ورجعوا إلى فتواه فيها كثيرة شهيرة تحقّق قوله عليه
الصلاة والسلام : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» . وقوله عليه الصلاة
__________________
رضوان الله تعالى
عليهم أجمعين ...
____________________________________
والسلام : أقضاكم
عليّ (رضوان الله تعالى
عليهم أجمعين) وفضائلهم في كتب الحديث مسطورة وشمائلهم على ألسنة العلماء مشهورة ،
وقد بيّنّا طرفا منها في المرقاة شرح المشكاة وأولى ما يستدل به على أفضلية
الصدّيق في مقام التحقيق نصبه عليه الصلاة والسلام لإمامة الأنام مدة مرضه في
الليالي والأيام ولذا قال : أكابر الصحابة رضيه صلىاللهعليهوسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ، ثم إجماع جمهورهم على نصبه
للخلافة ومتابعة غيرهم أيضا في آخر أمرهم ففي الخلاصة رجلان في الفقه والصلاح سواء إلا أن أحدهما أقرأ فقدّم أهل
المسجد الآخر فقد أساءوا وكذا لو قلّد القضاء رجلا وهو من أهله وغيره أفضل منه.
انتهى.
وتفضيل أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما متّفق عليه بين أهل السّنّة ، وهذا الترتيب بين عثمان وعلي
رضي الله عنهما هو ما عليه أكثر أهل السّنّة ، خلافا لما روي عن بعض أهل الكوفة
والبصرة من عكس القضية.
ثم اعلم أن جميع
الروافض وأكثر المعتزلة يفضّلون عليّا على أبي بكر رضي الله عنه ، وروي عن أبي
حنيفة رضي الله عنه تفضيل عليّ على عثمان رضي الله عنه ، والصحيح ما عليه جمهور
أهل السّنّة وهو الظاهر من قول أبي حنيفة رضي الله عنه على ما رتبه هنا وفق مراتب
الخلافة.
وفي شرح العقائد
على هذا الترتيب وجدنا السلف ، والظاهر أنه لو لم يكن لهم
__________________
____________________________________
دليل هنالك لما حكموا بذلك. وكأن السلف كانوا متوقفين في تفضيل عثمان
على عليّ رضي الله عنه حيث جعلوا من علامات السّنّة والجماعة تفضيل الشيخين ومحبة
الحسنين والإنصاف أنه إن أريد بالأفضلية كثرة الثواب فللتوقف جهة ، وإن أريد كثرة
ما يعدّه ذوو العقول من الفضائل فلا . انتهى. ومراده بالأفضلية أفضلية عثمان على عليّ رضي الله
عنه بقرينة ما قبله من ذكر التوقّف فيما بينهما إلا الأفضلية بين الأربعة كما فهم
أكثر المحشين حيث قال بعضهم بعد قوله : فلا لأن فضائل كل واحد منهم كانت
معلومة لأهل زمانه ، وقد نقل إلينا سيرهم وكمالاتهم فلم يكن التوقّف بعد ذلك وجه
سوى المكابرة وتكذيب العقل فيما يحكم ببداهته قال : والمنقول عن بعض المتأخرين أنه
لا جزم بالأفضلية بهذا المعنى أيضا إذ ما من فضيلة تروى لأحدهم إلّا ولغيره مشاركة
فيها وبتقدير اختصاصها به حقيقة فقد يوجد لغيره أيضا اختصاصه بغيرها على أنه يمكن
أن يكون فضيلة واحدة أرجح من فضائل كثيرة ، إما لشرفها في نفسها ، أو لزيادة
كميتها ، وقال : محش آخر أي فلا جهة للتوقف ، بل يجب أن يجزم بأفضلية عليّ رضي
الله عنه إذ قد تواتر في حقه ما يدل على عموم مناقبه ووفور فضائله واتّصافه
بالكمالات واختصاصه بالكرامات هذا هو المفهوم من سوق كلامه ، ولذا قيل : فيه رائحة
من الرفض لكنه فرية بلا مرية ، إذ كثرت فضائل عليّ رضي الله عنه وكمالاته العليّة.
وتواتر النقل فيه
معنى بحيث لا يمكن لأحد إنكاره ، ولو كان هذا رفضا وتركا للسّنّة لم يوجد من أهل
الرواية والدراية سنّيّ أصلا فإياك والتعصّب في الدين والتجنّب عن الحق اليقين.
انتهى. ولا يخفى أن تقديم عليّ رضي الله عنه على الشيخين مخالف لمذهب أهل السّنّة
والجماعة على ما عليه جميع السّلف ، وإنما ذهب بعض الخلف إلى تفضيل عليّ رضي الله
عنه على عثمان رضي الله عنه ، ومنهم أبو الطفيل من الصحابة رضي الله عنهم هذا
والذي أعتقده ، وفي دين الله اعتمده أن تفضيل أبي بكر رضي الله عنه قطعي حيث أمره صلىاللهعليهوسلم بالإمامة على طريق النيابة مع أن المعلوم من الدين أن
الأولى بالإمامة أفضل ، وقد كان عليّ كرّم الله وجهه حاضرا في المدينة ، وكذا غيره
من أكابر الصحابة رضي الله عنهم وعيّنه عليه الصلاة والسلام لما علم أنه أفضل
الأنام في تلك
__________________
عابدين ثابتين على
الحق ومع الحق نتولاهم جميعا ...
____________________________________
الأيام حتى أنه
تأخر مرة وتقدّم عمر رضي الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام : «أبى الله والمؤمنون
إلا أبا بكر» وقضية معارضة عائشة رضي الله عنها في حق أبيها معروفة وهذه الإمامة كانت إشارة إلى نصب الخلافة ، ولذا قالت
الصحابة رضي الله عنهم : رضية صلىاللهعليهوسلم لديننا أو ما نرضى به في أمر دنيانا ، وثبت عن علي رضي
الله عنه أن من فضله على أبي بكر وعمر جلده جلد المفتري (عابدين ثابتين على الحق)
وزيد في نسخة (ومع الحق) أي باقين عليه ومعه دائمين (كما كانوا) في الماضي من غير
تغيّر حالهم ونقصان في كمالهم وفيه ردّ على الروافض حيث يقولون في حق الثلاثة : إنهم
تغيّروا عمّا كانوا عليه في زمنه صلىاللهعليهوسلم حيث نزل في حقهم الآيات الدالّة على فضائلهم ، وورد في
شأنهم الأحاديث المشعرة عن حسن شمائلهم وعلى الخوارج حيث يقولون : بكفر علي ومن
تابعه ، وكفر معاوية ومن شايعه حيث ارتكبوا قتل المؤمن وهو عندهم كبيرة مخرجة عن
حدّ الإيمان (نتولّاهم) أي نحبهم (جميعا) أي ولا نسبّ منهم أحدا لقوله عليه الصلاة
والسلام : لا تسبوا أصحابي ، ولورود قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) . إلى أن قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) . وبالإجماع إن هؤلاء الأربعة من سابقي المهاجرة فيدخلون في
رضي الله سبحانه دخولا أوّليّا ، وهذه الآية قطعية الدلالة على تعيّن إيمانهم
وتحسين مقامهم وعلوّ شأنهم فلا يعارضه إلّا دليل قطعي نقلا أو عقلا ، ولا يوجد
قطعا عند من يحطّ عليهم ويسيء الأدب إليهم ولا يحفظ حرمة الصحبة الثابتة لديهم فقد
أجمعوا على أن من أنكر صحبة أبي بكر الصديق كفر بخلاف إنكار صحبة غيره لورود النص
في حقه حيث قال الله تعالى : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ
فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ
هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَ
__________________
ولا نذكر أحدا من
أصحاب رسول الله إلا بخير ....
____________________________________
اللهَ
مَعَنا) . فاتفق المفسرون على أن المراد بصاحبه هو أبو بكر الصدّيق
رضي الله عنه وفيه إيماء إلى أنه الفرد الأكمل من أصحابه حيث يحمل الإطلاق على
بابه (ولا نذكر أحدا من أصحاب رسول الله) أي مجتمعين ومنفردين وفي نسخة : ولا نذكر
أحدا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم (إلا بخير) يعني
وإن صدر من بعضهم بعض ما هو في الصورة شرّ فإنه إما كان عن اجتهاد ولم يكن على وجه
فساد من إصرار وعناد ، بل كان رجوعهم عنه إلى خير معاد بناء على حسن الظن بهم
ولقوله عليه الصلاة والسلام : «خير القرون قرني» ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا ذكر أصحابي فأمسكوا» .
ولذلك ذهب جمهور
العلماء إلى أن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول قبل فتنة عثمان وكذا بعدها.
ولقوله عليه الصلاة والسلام : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» . رواه الدارمي وابن عديّ وغيرهما ، وقال ابن دقيق العيد في
عقيدته : وما
__________________
ولا نكفر مسلما بذنب
من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم يستحلّها ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسمّيه مؤمنا
حقيقة ، ويجوز أن يكون مؤمنا فاسقا غير كافر ....
____________________________________
نقل فيما شجر
بينهم واختلفوا فيه فمنه ما هو باطل وكذب فلا يلتفت إليه وما كان صحيحا أوّلناه
تأويلا حسنا لأن الثناء عليهم من الله سابق ، وما نقل من الكلام اللاحق محتمل
للتأويل والمشكوك والموهوم لا يبطل المحقّق والمعلوم.
هذا وقال الشافعي رحمهالله : تلك دماء طهّر الله أيدينا منها فلا نلوّث ألسنتنا بها
... وسئل أحمد عن أمر عليّ وعائشة رضي الله عنه فقال : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت
ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون.
وقال أبو حنيفة
رضي الله عنه : لو لا عليّ لم نعرف السيرة في الخوارج (ولا نكفّر) بضم النون وكسر
الفاء مخفّفا أو مشدّدا أي لا ننسب إلى الكفر (مسلما بذنب من الذنوب) أي بارتكاب
معصية ، (وإن كانت كبيرة) أي كما يكفّر الخوارج مرتكب الكبيرة (إذا لم يستحلّها)
أي لكن إذا لم يكن يعتقد حلّها لأن من استحلّ معصية قد ثبتت حرمتها بدليل قطعي فهو
كافر (ولا نزيل عنه اسم الإيمان) أي ولا نسقط عن المسلم بسبب ارتكاب كبيرة وصف
الإيمان ، كما يقوله المعتزلة حيث ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة يخرج عن الإيمان ولا
يدخل في الكفر فيثبتون المنزلة بين الكفر والإيمان مع اتفاقهم على أن صاحب الكبيرة
مخلد في النار ، وأما ما روي عن أبي حنيفة رحمهالله أنه قال لجهم : اخرج عني يا كافر فمحمول على التشبيه ، ثم
في بسط الإمام الكلام على نفي تكفير أرباب الآثام من أهل القبلة ولو من أهل البدعة
(ونسمّيه) أي مرتكب الكبيرة (مؤمنا حقيقة) أي لا مجازا لأن الإيمان هو التصديق
بالجنان والإقرار باللسان ، وأما العمل بالأركان فهو من كمال الإيمان وجمال
الإحسان عند أهل السّنّة والجماعة وشرط ، أو شطر عند الخوارج والمعتزلة ، فهذا
منشأ الخلاف في المسألة (ويجوز أن يكون) أي الشخص (مؤمنا) أي بتصديقه وإقراره (فاسقا)
أي بعصيانه وإصراره (غير كافر) أي لثباته في مقام اعتباره.
__________________
____________________________________
وأصل هذه المنازعة
أن رئيس المعتزلة واصل بن عطاء اعتزل مجلس الحسن البصري رضي الله عنه يقرّر أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر ،
وأثبت المنزلة بين المنزلتين ، فقال الحسن رضي الله عنه : قد اعتزل عنّا فسمّوا
المعتزلة وهم سمّوا أنفسهم أصحاب العدل والتوحيد لقولهم بوجوب ثواب المطيع وعقاب
العاصي على الله سبحانه ، ونفي الصفات القديمة عنه ، ثم أنهم توغلوا في علم الكلام
وتشبثوا بأذيال الفلاسفة في كثير من الأصول ، وشاع مذهبهم فيما بين الناس إلى أن
قال الشيخ أبو الحسن الأشعري لأستاذه أبي علي الجبائي : ما تقول في ثلاثة إخوة مات أحدهم مطيعا والآخر عاصيا
والثالث صغيرا؟ فقال : الأول : يثاب بالجنة ، والثاني : يعاقب بالنار ، والثالث :
لا يعاقب ولا يثاب ، قال الأشعري : فإن قال الثالث : يا رب لم أمتّني صغيرا ، وما
أبقيتني إلى أن أكبر فأومن بك وأطيعك فأدخل الجنة ، فقال : يقول الربّ : إني كنت
أعلم منك أنك لو كبرت لعصيت فدخلت النار ، فكان الأصلح لك أن تموت صغيرا. قال
الأشعري : فإن قال الثاني : يا ربّ لم لم تمتني صغيرا لئلا أعصي فلا أدخل النار ما
ذا يقول الربّ؟ فبهت الجبائي وترك الأشعري مذهبه واشتغل هو ومن تبعه بإبطال رأي
المعتزلة وإثبات ما وردت به السّنّة ومضى عليه الجماعة فسمّوا أهل السّنّة
والجماعة ، ثم لما نقلت الفلسفة إلى العربية وخاض فيها الطبقة الإسلامية حاولوا
الردّ على الفلاسفة والحكماء الطبيعية فيما خالفوا فيها الشريعة الحنيفية ، فخلطوا
بعلم الكلام كثيرا من الفلسفة في مقام المرام ليتحقّقوا مقاصدها فيتمكّنوا من
إبطالها وردّها وهلمّ جرّا إلى أن أدرجوا فيه معظم الطبيعيات والإلهيات والرياضيات
حتى كاد لا يتميز عن الفلسفيات لو لا اشتماله على السمعيات فصار بهذا الاعتبار مذموما عند العلماء بالكتاب والسّنّة
الذين يكتفى بهما في أمر الدين من النقليات والعقليات.
__________________
____________________________________
ثم اعلم أن
القونوي ذكر أن أبا حنيفة رحمهالله كان يسمى مرجئا لتأخيره أمر صاحب الكبيرة إلى مشيئة الله
تعالى والإرجاء التأخير وكان يقول : إني لأرجو لصاحب الذنب الكبير والصغير وأخاف
عليهما ، وأنا أرجو لصاحب الذنب الصغير وأخاف على صاحب الذنب الكبير انتهى. وأما
ما وقع في الغنية للشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه عند ذكر الفرق الغير الناجية حيث قال : ومنهم
القدرية وذكر أصنافا منهم ، ثم قال : ومنهم الحنفية وهم أصحاب أبي حنيفة نعمان بن
ثابت رحمهالله زعم أن الإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله وبما جاء
من عنده جملة على ما ذكره البرهوني في كتاب الشجرة ، وهو اعتقاد فاسد ، وقول كاسد
مخالف لاعتقاده في الفقه الأكبر وما نقله أصحابه أنه يقول : الإيمان هو مجرد
التصديق دون الإقرار فإنه شرط عنده لإجراء أحكام الإسلام ومناقض لسائر كتب العقائد
الموضوعة للخلاف بين أهل السّنّة والجماعة وبين المعتزلة وأهل البدعة مع أن
الإيمان هو المعرفة والإقرار هو المذهب المختار ، بل هو أولى من أن يقال الإيمان
هو التصديق والإقرار ، لأن التصديق الناشئ عن التقليد دون التحقيق مختلف في قبوله
بخلاف المعرفة الناشئة عن الدلالة مع الإقرار وبالإقرار فإنه إيمان بالإجماع ،
وأما الاكتفاء بالمعرفة دون الإقرار وبالإقرار دون المعرفة فهو في محل النزاع كما
قاله بعض أهل الابتداع ، ثم المرجئة المذمومة من المبتدعة ليسوا من القدرية بل هم
طائفة قالوا لا يضرّ مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، فزعموا أنه
أحدا من المسلمين لا يعاقب على شيء من الكبائر فأين هذه الأرجاء ثم قول أبي حنيفة رحمهالله مطابق لنص القرآن وهو قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) . بخلاف المرجئة حيث لا يجعلون الذنوب مما عدا الكفر تحت
المشيئة وبخلافه المعتزلة حيث يوجبون العقوبة على الكبيرة ، وبخلاف الخوارج حيث
يخرجون صاحب الكبيرة والصغيرة عن الإيمان.
ثم اعلم أن مذهب
المرجئة أن أهل النار إذا دخلوا النار فإنهم يكونون في النار بلا عذاب كالحوت في
الماء إلا أن الفرق بين الكافر والمؤمن أن للمؤمن استمتاعا في الجنة
__________________
____________________________________
يأكل ويشرب وأهل
النار في النار ليس لهم استمتاع أكل وشرب ، وهذا القول باطل بالكتاب والسّنّة
وإجماع الأمة من أهل السّنّة والجماعة وسائر المبتدعة كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها) . وقوله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ) . وقوله تعالى : (وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) . وقوله تعالى : (فَذُوقُوا فَلَنْ
نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) . وغير ذلك من الآيات والأحاديث البيّنات ، وأما ما روي عنه
صلىاللهعليهوسلم من أنه «سيأتي على جهنم يوم تصفّق الريح أبوابها وليس فيها
أحد» ، واستدل به الجهمية وهم
__________________
____________________________________
المرجئة الصرفة
على فناء أهل النار ففيه أن الحديث على تقدير صحته لا يعارض النصوص القاطعة مع أنه
مؤوّل بأن المراد بجهنم طبقة من طبقاتها المختصّة بعصاة المؤمنين فإنهم إذا خرجوا
منها وذهبوا إلى الجنة تبقى صحراء ليس أحد فيها.
__________________
والمسح على
الخفّين سنّة ، والتراويح في ليالي شهر رمضان سنّة ....
____________________________________
فصل
(والمسح على
الخفّين) أي للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها (سنّة) أي ثابت
بالسّنّة التي كادت أن تكون متواترة ولا يبعد أن يؤخذ ثبوته من الكتاب أيضا لأن
قوله تعالى : (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى
الْكَعْبَيْنِ) قرئ بالنصب في السبعة الأظهر في الغسل والجر الأظهر في
المسح وهما متعارضان وبحسب الحكم مبهمان فبينهما فعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث مسحهما حال لبس الخفّين وغسلهما عند كشف الرجلين (والتراويح)
أي صلاتها (في شهر رمضان) أي في لياليها (سنّة) أي بأصلها لما ثبت عنه عليه الصلاة
والسلام أنه صلّاها في ليال ، ثم تركها شفقة على الأمة لئلا تجب وعلى العامة أن
يحسبوها أنها واجبة ، وأما قول عمر رضي الله عنه في حقها نعمت البدعة إنما هو باعتبار إحيائها ، أو سبب الإجماع عليها بعد ما
كان الناس ينفردون بها مع أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين» . ثم خصّ أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : اقتدوا
بالذين من بعدي ، وفيه وفيما قبله ردّ على الروافض ، وكذا في قوله
__________________
والصلاة خلف كل
برّ وفاجر من المؤمنين جائزة ...
____________________________________
رحمهالله تعالى (والصلاة خلف كل برّ وفاجر) أي صالح وطالح (من
المؤمنين جائزة) أي لقوله صلىاللهعليهوسلم : «صلّوا خلف كل برّ وفاجر». أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة
رضي الله عنه ، وكذا البيهقي وزاد قوله : «صلوا على كل برّ وفاجر وجاهدوا مع كل
برّ وفاجر» . فمن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند
أكثر العلماء ، والصحيح أنه يصلّيها ولا يعيدها.
وكان ابن مسعود
وغيره يصلّون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر حتى أنه صلى بهم
الصبح مرة أربعا ، ثم قال : أزيدكم ، فقال ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في
زيادة ، وفي المنتقى سئل أبو حنيفة رحمهالله عن مذهب أهل السّنّة والجماعة ، فقال : أن تفضل الشيخين أي
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وتحب الختنين أي عثمان وعليّا رضي الله عنهما ، وأن
ترى المسح على الخفّين وتصلّي خلف كل برّ وفاجر .
__________________
____________________________________
فصل
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : ثم نقرّ بأن أفضل هذه الأمة يعني وهم
خير الأمم بعد نبيّنا محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أبو بكر ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عليّ رضي الله عنهم
أجمعين لقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) . وكلّ من كان أسبق أي في الخلافة من هؤلاء فهو أفضل ويحبهم
كل مؤمن تقي ويبغضهم كل منافق شقي.
ثم قال الإمام
الأعظم فيه : نقرّ بأن المسح على الخفّين جائز للمقيم يوما وليلة ، وللمسافر ثلاثة
أيام ولياليها ، لأن الحديث قد ورد هكذا كما قلنا ، ومن أنكر هذا فإنه
يخشى عليه الكفر لأنه قريب من الخبر المتواتر أي اللفظي ، وإلا فهو المتواتر
المعنوي ، ثم قال فيه : والقصر والإفطار رخصة في حالة السفر بنص الكتاب ، ففي
القصر قوله تعالى : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) ، وفي
__________________
ولا نقول : إن
المؤمن لا تضرّه الذنوب ولا نقول إنه لا يدخل النار ولا نقول : إنه يخلد فيها ،
وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا ، ...
____________________________________
الإفطار قوله
تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) . انتهى. والرخص في الآية الأولى واجبة العمل لقوله عليه
الصلاة والسلام : «صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . ولهذا لو صلى المسافر أربعا يكون مسيئا وأما الرخصة في
الآية الثانية غير ظاهرة بحسب الدلالة بل الظاهرية ذهبوا إلى وجوب ترك الصوم هنالك وقضائه بعد ذلك ، وإنما
الرخصة مستفادة من قوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) . ومن الأخبار التي تثبت جواز الإفطار في الأسفار (ولا نقول)
أي بحسب الاعتقاد (إن المؤمن لا تضرّه الذنوب) أي ارتكاب المعصية بعد حصول الإيمان
والمعرفة (وأنه) أي المؤمن المذنب (لا يدخل النار) كما يقوله المرجئة والملاحدة
والإباحية (ولا أنه) أي ولا نقول إن المؤمن المذنب (يخلد فيها وإن كان فاسقا) أي
ارتكاب الكبائر جميعها (بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا) أي مقرونا بحسن الخاتمة
خلافا لما يقوله المعتزلة ، وذلك لأن صاحب المعصية تحت المشيئة عند أهل السّنّة
والجماعة لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) من غير توبة وإلا فهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويغفر
بها الشرك وغيره بمقتضى وعده وإخباره خلافا للمعتزلة حيث يقولون : يجب على الله
تعالى عقاب العاصي وثواب المطيع وقبول التوبة وأمثالها.
__________________
ولا نقول : إن
حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة. ولكن نقول : من عمل حسنة بجميع
شرائطها خالية عن العيوب المفسدة والمعاني المبطلة ...
____________________________________
وأما قول
التفتازاني رحمهالله في شرح العقائد عند قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) من الصغائر والكبائر مع التوبة ، أو بدونها خلافا للمعتزلة
ففيه أن قوله مع التوبة سهو قلم ليس في محله من جهتين حيث خالف الطائفتين لأن
المشيئة بدون التوبة محل خلاف للمعتزلة ، وأما معها فلا خلاف في المسألة كما صرّح
في شرح المقاصد بأنهم أجمعوا على أن لا عذاب على التائب كما صحّ في حديث التائب من
الذنب كمن لا ذنب له ، وكقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) . ثم لا نزاع في أن من المعاصي ما جعله الشارع إمارة
التكذيب وعلم كونه كذلك بالأدلة الشرعية كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات
والتلفّظ بكلمة الكفر ، ونحو ذلك مما يثبت بالأدلة أنه كفر وبهذا يندفع ما يقال إن
الإيمان إذا كان عبارة عن التصديق والإقرار فينبغي أن لا يصبر المقرّ باللسان
المصدق بالجانّ كافرا بشيء من أفعال الكفر وألفاظه ما لم يتحقّق منه التكذيب أو
الشك ، وأما احتجاج المعتزلة بأن الأمة بعد اتفاقهم على أن مرتكب الكبيرة فاسق ،
اختلفوا في أنه مؤمن ، وهو مذهب أهل السّنّة والجماعة ، أو كافر. وهو قول الخوارج
، أو منافق ، وهو قول الحسن البصري رحمهالله ، فأخذنا بالمتفق عليه وتركنا المختلف فيه ، وقلنا : هو
فاسق ليس بمؤمن ولا كافر ولا منافق فمدفوع بأن هذا إحداث للقول المخالف لما أجمع
عليه السلف من عدم المنزلة بين المنزلتين فيكون باطلا على أن الحسن البصري رحمهالله رجع عنه آخرا كما صرّح به في البداية.
والحاصل أن
المعتزلة والخوارج خوارج عمّا انعقد عليه الإجماع فلا اعتداد بهم (ولا نقول إن
حسناتنا مقبولة) أي مبرورة (وسيئاتنا مغفورة) أي البتّة (كقول المرجئة) بالهمز
والياء (ولكن نقول) أي بل نعتقد المسألة مبينة مفصلة كما أوضحه بقوله : (من عمل
حسنة شرائطها) أي بجميع شرائطها كما في نسخة ، أي واقعة بجميع مصححاتها في
الابتداء (خالية عن العيوب المفسدة) أي الظاهرية (والمعاني المبطلة) أي الباطنية
في الانتهاء كالكفر والعجب والرياء لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) . وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) الآية ، وأما قول الشارح وكالأخلاق السيئة وغيرها من
المعصية فغير جار على مذهب أهل السّنّة
__________________
ولم يبطلها بالكفر
والردّة حتى خرج من الدنيا مؤمنا فإن الله تعالى لا يضيعها ، بل يقبلها منه ويثيبه
عليها. وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب عنها صاحبها حتى مات مؤمنا
فإنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذّبه بالنار ، وإن شاء عفا عنه ولم يعذّبه
بالنار أصلا ...
____________________________________
والجماعة ، بل
مبني على قواعد المعتزلة ، ثم ما ورد من نحو قوله عليه الصلاة والسلام : «الحسد
يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» . فمؤوّل بأن الحسد غالبا يحمل الحاسد على ارتكاب سيئات
بالنسبة إلى المحسود فيعطي له من حسنات يعملها الحاسد في اليوم الموعود (ولم
يبطلها) تأكيد لما قبلها وتأييد لتعلّق ما بعدها (حتى خرج من الدنيا) وفيه إيماء
إلى أنه ما دام فيها فهو في خطر من إبطال الطاعة وإفسادها (فإن الله تعالى لا
يضيعها) بتخفيف الياء وتشديدها وذلك لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) . وفي آية أخرى : (أَنَّ اللهَ لا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) . (بل يقبلها منه) أي بفضله وكرمه (ويثيبه عليها) أي بمقتضى
وعده وحكمه (وما كان من السيئات) أي المعاصي جميعها (دون الشرك) أي الإشراك خصوصا (والكفر)
أي عموما (ولم يتب عنها) أي عن السيئات صغيرها وكبيرها دون ما استثنى منها (حتى
مات مؤمنا) أي غير تائب (فإنه في مشيئة الله تعالى) أي تحت تعلّق إرادته سبحانه
بعذابه عليها أو عفوه عنها كما بيّنه بقوله : (إن شاء عذبه) أي بعدله على قدر
استحقاق عقابه ، (وإن شاء عفا عنه) أي بفضله ولو وقع شفاعة في بابه (ولم يعذبه
بالنار أصلا) بل يدخله الجنة ويجعله فيها مخلّدا.
__________________
والرياء إذا وقع
في عمل من الأعمال فإنه يبطل أجره ...
____________________________________
فصل
(والرياء) وفي
معناه السمعة ، وقد توسّع في إطلاق أحدهما وإرادة كلّ منهما لمآل أمرهما إلى عدم
الإخلاص حيث المرائي يظهر العمل ليراه الناس ويستحسنوه في مقام الإيناس والمسمع
بفعل الفعل ليسمعه الخلق ، وليس في غرضه رضى الحق (إذا وقع في عمل من الأعمال) أي
في ابتدائه أو أثنائه قبل الإكمال (فإنه يبطل أجره) أي أجر ذلك العمل ، بل يثبت
وزره حيث ظلم نفسه بوضع الشيء في غير موضعه قال الله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) . أي لا شركا جليّا ولا خفيّا ، وفيه إيماء إلى أنه إذا قصد
الرياء والسمعة وقصد الطاعة والعبادة جميعا يوصف بالشركة مطلقا لغلبة أحدهما على
الآخر أو التسوية بينهما ، فإنه يبطل أجره ويثبت وزره لعموم حديث : «من كان أشرك
أحدا في عمل عمله لله فليطلب ثوابه مما سواه فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك» ، وكذا حديث «لا يقبل الله عملا فيه مقدار ذرّة
__________________
وكذلك العجب .....
____________________________________
من الرياء» . (وكذلك العجب) أي وكذا حكم العجب في أنه يبطل أجر العمل
الذي وقع فيه العجب ، وفي اقتصار حكم الإمام الأعظم رحمهالله على الرياء والعجب دون سائر الأنام إشعار بأن باقي السيئات
لا تبطل الحسنات ، بل قال الله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) . وذلك للحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي» وقد خالفه شارح حيث قال : وكذا غيرهما من الأخلاق السيئة
يبطل أجور الأعمال الحسنة ، واستدلّ بقوله عليه الصلاة والسلام : «خمس يفطرن
الصائم الغيبة والكذب والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة» . ولم يعرف تأويل الحديث بأن المراد به أنه يفطر كمال الصوم
، ويبطل جماله لا أصله ، فإن النظر بشهوة صغيرة وهو لا يبطل العمل لا عند أهل
السّنّة ، ولا عند المعتزلة.
وأما استدلاله
بقوله عليه الصلاة والسلام : «سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل» . فمدفوع لأن الحديث مؤوّل بأن سوء خلقه من ريائه وعجبه
يفسد ثواب
__________________
والآيات ثابتة
للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكرامات للأولياء حق ، ...
____________________________________
عمله جمعا بين
الأدلة كما هو مقتضى مذهب أهل السّنّة والجماعة (والآيات) أي خوارق العادات
المسمّاة بالمعجزات (ثابتة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام والكرامات للأولياء حق)
أي ثابت بالكتاب والسّنّة ، ولا عبرة بمخالفة المعتزلة وأهل البدعة في إنكار
الكرامة ، والفرق بينهما أن المعجزة أمر خارق للعادة كإحياء ميت ، وإعدام جبل على
وفق التحدي ، وهو دعوى الرسالة ، فخرج غير الخارق كطلوع الشمس من مشرقها كل يوم
والخارق على خلافه بأن يدّعي نطق طفل بتصديقه فينطق بتكذيبه كما يقع للدجّال
والكرامة خارق للعادة ، إلا أنها غير مقرونة بالتحدّي ، وهي كرامة للولي وعلامة
لصدق النبي ، فإن كرامة التابع كرامة المتبوع ، والولي هو العارف بالله وصفاته
بقدر ما يمكن له المواظب على الطاعات المجتنب عن السيئات المعرض عن الانهماك في
اللذات والشهوات والغفلات واللهوات ، وذلك كما وقع من جريان النيل بكتاب عمر رضي الله عنه ورؤيته على المنبر بالمدينة جيشه
بنهاوند حتى قال لأمير الجيش : يا سارية الجبل الجبل ، محذّرا له من وراء الجبل لكمن العدو هنالك وسماع سارية
كلامه وذلك مع
__________________
____________________________________
بعد المسافة ،
وكشرب خالد السمّ من غير تضرّر به.
وكذا ما وقع لغيره
من الصحابة ومن عداهم من أهل السّنّة والجماعة وخالفهم المعتزلة حيث لم يشاهدوا
فيما بينهم هذه المنزلة ، وأما الشيعة فخصّوا الكرامات بالأئمة الاثني عشر من غير
دلالة الخصوصية.
ثم ظاهر كلام
الإمام الأعظم رحمهالله في هذا المقام موافق لما عليه جمهور العلماء الأعلام من أن
كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي لا فارق بينهما إلا التحدّي
خلافا للقشيري ومن تبعه كابن السبكي حيث قالا : إلا نحو ولد ودون والد ، وقلب جماد
بهيمة فلا يكون كرامة ، هذا والكتاب ينطق بظهور الكرامة من مريم ومن صاحب سليمان ،
وأما ما قيل من أن الأول إرهاص لنبوّة عيسى ، أو معجزة لزكريا عليهماالسلام ، والثاني معجزة لسليمان عليه الصلاة والسلام فمدفوع بأنّا
لا ندّعي إلا جواز الخارق لبعض الصالحين غير مقرون بدعوى النبوّة ، ولا يضرّنا
تسميته إرهاصا أو معجزة لنبي هو من أمته سابقا أو لاحقا ، وسياق القصص يدل على أنه
لم يكن هناك دعوى النبوة ، بل ولم يكن لزكريا علم بتلك القضية وإلا لما سأل عن
الكيفية.
والحاصل أن الأمر
الخارق للعادة هو بالنسبة إلى النبي معجزة سواء ظهر من قبله ، أو من قبل أمته
لدلالته على صدق نبوّته وحقيّة رسالته فبهذا الاعتبار جعل معجزة له ، وإلا فحقيقة
المعجزة أن تكون مقارنة للتحدّي على يد المدّعي وبالنسبة إلى الولي كرامة.
__________________
____________________________________
قال أبو علي الجوزجاني رحمهالله : كن طالبا للاستقامة لا طالبا للكرامة فإن نفسك متحرّكة
في طلب الكرامة وربك يطلب منك الاستقامة ، قال الشيخ السهروردي رحمهالله في عوارفه : وهذا أصل كبير في اللباب فإن كثيرا من المجتهدين
المتعبدين سمعوا سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا [به] من الكرامات وخوارق العادات فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء
من ذلك ويحبون أن يرزقوا شيئا منه ، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متّهما لنفسه في
صحة عمله حيث لم يحصل له خارق ، ولو علموا سرّ ذلك لهان عليهم الأمر فيعلم أن الله يفتح على بعض
المجاهدين الصادقين من ذلك بابا ، والحكمة فيه أن يزداد مما يرى من خوارق العادات
وآثار القدرة يقينا فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا والخروج من دواعي الهوى فسبيل
الصادق مطالبة النفس بالاستقامة ، فهي كالكرامة. انتهى.
والحاصل أن كشف
العلم بالأمور الشرعية خير من كشف العلم بالأمور الكونية مع أن عدم الأول ونقصانه
مضرّة في الدين بخلاف عدم الثاني ، بل ربما يكون عدمه أنفع له ... ثم اعلم أنه قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله». ثم قرأ قوله
تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) . أي المتفرّسين رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الفراسة
ثلاثة أنواع :
__________________
وأما التي تكون
لأعدائه مثل إبليس وفرعون والدجّال ...
____________________________________
فراسة إيمانية :
وسببها نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب
ويثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنها اشتقاقها وهذه الفراسة على حسب قوة
الإيمان ، فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة ، قال أبو سليمان الداراني رحمهالله : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات
الإيمان. انتهى.
وفراسة رياضية :
وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجرّدت عن العوائق والعلائق
بالخلائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجرّدها. وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن
والكافر ولا تدل على إيمان ولا على ولاية ولا تكشف عن حق نافع ولا عن طريق مستقيم
، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم.
وفراسة خلقية :
وهي التي صنّف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخلق على الخلق لما بينهما من
الارتباط الذي اقتضته حكم الله كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر
العقل وبكبره على كبره وبسعة الصدر على سعة الخلق ، وبضيقه على ضيقه وبجمود
العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك (وأما التي تكون)
أي الخوارق للعادة التي توجد (لأعدائه) أي لأعداء الله سبحانه (مثل إبليس) أي في
طيّ الأرض له حتى يوسوس لمن في المشرق والمغرب وفي جريه مجرى الدم من بني آدم ونحو
ذلك (وفرعون) أي حيث كان يأمر النيل فيجري على وفق حكمه ، كما أشار إليه سبحانه
حكاية عنه بقوله تعالى : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ
مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) وحيث حكي عنه أنه كان إذا أراد أن يصعد قصره وينزل عنه
راكبا كانت تطول قدما فرسه وتقصران على وفق غرضه (والدجال) أي حيث ورد أنه يقتل
شخصا
__________________
مما روي في
الأخبار أنه كان ويكون لهم لا نسمّيها آيات ولا كرامات ، ولكن نسمّيها قضاء حاجات
لهم ، وذلك لأن الله تعالى يقضي حاجات أعدائه استدراجا لهم وعقوبة لهم فيغترّون به
ويزدادون طغيانا وكفرا وذلك كله جائز وممكن ...
____________________________________
ويحييه (مما روي
في الأخبار) أي الأحاديث والآثار (أنه كان) أي بعض الخوارق (يكون لهم) أي
ولأمثالهم وفي نسخة ويكون لهم نظرا إلى أن خرق العادة للدجّال إنما يكون في حال
الاستقبال (فلا نسمّيها) أي تلك الخوارق (آيات) أي معجزات لأنها مختصّة بالأنبياء
عليهم الصلاة والسلام (ولا كرامات) أي لاختصاصها بالأصفياء ، (ولكن نسمّيها قضاء
حاجات لهم) أي للأعداء من الأغبياء أعمّ من الكفّار والفجار (وذلك) أي ما ذكر من
أن خوارق العادات قد تكون للأعداء على وفق قضاء الحاجات (لأن الله تعالى) لعموم
كرمه وجوده في عباده (يقضي حاجات أعدائه استدراجا) أي مكرّا بهم في الدنيا (وعقوبة
لهم) في العقبى ، كما قال الله تعالى : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) . أي سنستدنيهم وسنقرّبهم إلى العقوبة والنقمة والعذاب
والهلاك قليلا قليلا بإكثار النعمة وإطالة المدة ليتوهموا أن ذلك تقريب من الله
وإحسان ، وإنما هو تبعيد وخذلان ففي الحديث : إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب من
النعمة وهو مقيم على المعصية ، فإنما ذلك استدراج ، ثم تلا هذه الآية : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) . أي من أنواع النّعم استدراجا لهم وامتحانا لهم : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا
أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) أي متحيّرون آيسون من كل خير لأن العقوبة فجأة في حال
النعمة أشد منها في العقوبة فتكون كثرة نعمتهم الصورية موجبة لنقمتهم الأخروية.
وأصل الاستدراج
الاستصعاد والاستنزال درجة بعد درجة (فيغترّون به) أي من حيث يحسبونه إحسانا (ويزدادون
طغيانا) أي إن كانوا فجّارا (وكفرا) أي إن كانوا كفّارا فأو للتنويع ، وفي نسخة :
ويزدادون كفرا وطغيانا يعني كما وقع لفرعون حيث عاش في الدنيا أربعمائة سنة ، ولم
ينكسر في مطبخه قصعة (وذلك كله جائز) أي وقوعه من الله أو ثابت نقلا (وممكن) أي
عقلا كما في قضية إبليس ودعوته بقوله أنظرني إلى يوم يبعثون ، وإجابته بقوله
سبحانه : (فَإِنَّكَ مِنَ
الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ
__________________
____________________________________
الْمَعْلُومِ) . ففي الجملة استجبت دعاءه حيث أريد إغواءه فإنه رئيس أرباب الضلالة كما أن نبيّنا صلىاللهعليهوسلم رئيس أصحاب الهداية ، فالأول من مظاهر الجلال ، والثاني من
مظاهر الجمال ، ولا بدّ منهما لظهور نور نعت الكمال ، ولذا قال الشيخ أبو مدين
المغربي رضي الله عنه :
لا ينكر الباطل
في طوره
|
|
فإنه بعض
ظهوراته
|
يعني باعتبار
تجليات صفاته في مرأى مصنوعاته ، وإنما جمع الإمام الأعظم رحمهالله بين إبليس وفرعون ذي التلبيس ، لما روي عن الساعدي رضي
الله عنه : بلغنا أن جبرائيل عليهالسلام قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما أبغضت عبدا من عباد الله ما أبغضت عبدين أحدهما من
الجن ، والآخر من الإنس ، أما الذي من الجن فإبليس حين أبى أن يسجد لآدم عليهالسلام ، وأما الذي من الإنس ففرعون حين قال : أنا ربكم الأعلى ، وأقول بل فرعون أشد من إبليس بوجهين. أحدهما : أنه من
نسل الإنسان ، وظهر منه هذا الطغيان ، وإبليس من الجنّ ولا يبعد منهم ظهور
العصيان. وثانيهما : أن إبليس ترك السجدة لغير الله استحقارا وفرعون ادّعى
الربوبية استكبارا ، ومن الغريب أن الشيطان يغوي الإنسان بعبادة غير الرحمن ، ولم
يأمر بعبادة نفسه في زمان الطغيان ، ولعل ذلك لكمال تنفّره عن قلوب الإنسان ،
ولكونه عارفا إلا أنه بوعد من مقام الإحسان.
ومن اللطائف
الملحقة بالظرائف أن إبليس دقّ باب قصر فرعون حيث لم يكن عنده أحد من أصحاب العون
فقال : من هذا على الباب؟ فضحك وقال في الجواب : الضرطة في ذقن من يدّعي الإلهية
والربوبية ، ولم يدر من يقف على بابه من الرعية وأرباب العبودية ، هذا وقد يكون
خرق العادة إهانة بأن يقع على خلاف الإرادة ، كما نقل أن مسيلمة الكذاب ، دعا
للأعور أن تصير عينه العوراء سليمة فصارت عينه الصحيحة عوراء سقيمة.
واعلم أن ظهور خرق
العادة بطريق الموافقة على يد المتألّه جائز دون المتنبي ، لأن
__________________
وكان الله تعالى
خالقا قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق. والله تعالى يرى في الآخرة
____________________________________
ظهوره على يد
المتنبي يوجب انسداد باب معرفة النبي فأما ظهوره على يد المتألّه فلا يوجب انسداد
باب معرفة الإله لأن كل عاقل يعرف أن المدّعي المشتمل على دلالات الحدوث وسمات
القصور لا يكون إلها ، وإن رأى منه ألف خارق للعادة ، ثم الناقض للعادة كما يكون
فعلا غير معتاد يكون تعجيزا عن الفعل المعتاد كمنع زكريا عليه الصلاة والسلام ، إذ
المنع عن المعتاد نقض العادة أيضا إذا لم يكن عن علة ، ولذا كان سكوته إلا رمزا
آية دالّة على تحقّق الولد ويسمى معجزة ، (وكان الله خالقا قبل أن يخلق) أي يحدث
المخلوق (ورازقا قبل أن يرزق) أي يوجد المرزوق فهما من قبيل إطلاق المشتق قبل وجود
المعنى المشتق منه.
ولعل الإمام
الأعظم رحمهالله كرّر هذا المرام للأنام للإعلام بأن هذا هو المعتقد الصحيح
الذي يجب أن يعتمده الخواص والعوام.
وقال الزركشي : إطلاق نحو الخالق والرازق في وصفه سبحانه قبل وجود الخلق
والرزق حقيقة ، وإن قلنا صفات الفعل حادثة ، وأيضا لو كان مجازا لصحّ نفيه ،
والحال أن القول بأنه ليس خالقا ورازقا وقادرا في الأزل أمر مستهجن لا يقال مثله
ولا يصحّ دفعه بأنه لا يقال. أوجد المخلوق في الأزل حقيقة ، لأنه يؤدي إلى قدم
المخلوق فإن الفرق بينهما بين بل قوله : أوجد المخلوق إلى آخره بنفسه دليل بيّن
حيث يشير إلى حدوثه إلا أنه غير واقع في محله (والله تعالى يرى) بصيغة المجهول أي
ينظر إليه بعين البصر (في الآخرة) أي يوم القيامة لقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي يوم القيامة (ناضرة) أي حسنة منعمة بهية مشرقة متهلّلة (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) . أي تراه عيانا بلا كيفية ولا جهة ولا ثبوت مسافة ومن يرى
ربه لا يلتفت إلى غيره ولقوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ) أي الكفّار (عَنْ رَبِّهِمْ) أي عن رؤية ربهم فلا يرونه أو عن رحمة ربهم وكرامة ربهم (يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) . أي لممنوعون أي بخلاف الأبرار والمؤمنين فإنهم في نظر
ربهم مقرّبون ولقوله صلىاللهعليهوسلم كما في الصحيحين وغيرهما : «إنكم سترون ربكم [كما] ترون القمر ليلة
__________________
ويراه المؤمنون ،
وهم في الجنة بأعين رءوسهم بلا تشبيه ولا كمية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة ....
____________________________________
البدر لا تضامون
في رؤيته» . وفي رواية : لا تضارون وهو حديث مشهور في الصحيحين
وغيرهما مذكور ، وقد رواه أحد وعشرون من أكابر الصحابة (ويراه المؤمنون
وهم في الجنة بأعين رءوسهم) لقوله عليه الصلاة والسلام على ما رواه مسلم : «إذا
دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم فيقولون : ألم
تبيض وجوهنا ، أم تدخلنا الجنة ، وتنجينا من النار! قال : فيرفع الحجاب أي عن وجوه
أهل الجنة فينظرون إلى وجه الله سبحانه فما أعطوا شيئا أحبّ إليهم من النظر إلى
ربهم» . ثم تلا قوله تعالى : (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى) أي الجن العليا (وَزِيادَةٌ) أي النظر إلى وجه المولى ، وهو قول الأكثر من السلف (بلا
تشبيه) أي رؤية مقرونة بتنزيه لا مكنونة بتشبيه (ولا كيفية) أي في الصورة (ولا
كمية) أي في الهيئة المنظورة (ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة) أي لا في غاية من
القرب ، ولا في نهاية من البعد ، ولا يوصف بالاتصال ولا بنعت الانفصال ، ولا
بالحلول والاتحاد كما يقوله الوجودية المائلون إلى الاتحاد فذات رؤيته ثابت
بالكتاب والسّنّة إلا أنها متشابهة من حيث الجهة والكمية والكيفية فنثبت ما أثبته
النقل وننفي عنه ما نزّهه العقل ، كما أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) أي لا تحيط به الأبصار في مقام الأبصار فإن الإدراك أخصّ
من الرؤية والتشابه فيما يرجع إلى الوصف الذي يمنعه العقل لا يقدح في العلم
بالأصل المطابق للنقل.
__________________
____________________________________
فصل
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية ولقاء الله تعالى لأهل الجنة بلا كيف ولا
تشبيه ، ولا جهة حق. انتهى. والمعنى : أنه يحصل النظر بأن ينكشف انكشافا تامّا
بالبصر منزّها عن المقابلة والجهة والهيئة فهي أمر زائد على صفة العلم ، فإنّا إذا
نظرنا إلى البدر مثلا بعين البصر ، ثم غمضنا العين عن النظر فلا خفاء في أنه وإن
كان منكشفا لدينا في الحالين لكن انكشافه حال النظر إليه أتم وأكمل ، وهذا معنى
قوله صلىاللهعليهوسلم : «ليس الخبر كالمعاينة» . وقول إبراهيم عليهالسلام : ولكن ليطمئن قلبي فإن عين اليقين رتبة فوق علم اليقين ،
ومن هنا قال موسى عليهالسلام : ربّ أرني أنظر إليك ...
والحاصل أن رؤيته
تكون على وجه خارق للعادة من غير اعتبار المقابلة لهذه الحاسة كما روي عنه صلىاللهعليهوسلم : «أتمّوا صفوفكم فإني أراكم من وراء ظهري» . على ما رواه الشيخان ، وكما يرانا الله تعالى اتفاقا فإن
الرؤية نسبة خاصة بين طرفي الرائي والمرئي ومتعلقي رؤيتهما.
قال الفخر الرازي
: مذهبنا في هذه المسألة ما اختاره الشيخ أبو منصور الماتريدي
__________________
____________________________________
أن نتمسك بالدلائل
السمعية في إثبات مذهبنا فإنه أسرع في إلزام الخصوم وأظهر في تفهيم العوامّ ، وإذا
ذكر الخصوم شبهتهم على هذه الدلائل الثقيلة نعارضهم بالمعقول على وجه الدفع والردّ
هذا وذهبت طائفة من مثبتي الرؤية استحالة رؤية الله تعالى في المنام منهم الشيخ
أبو منصور الماتريدي ، قيل : وعليه المحقّقون واحتجوا بأن ما يرى في المنام خيال
ومثال والله تعالى ينزّه عن ذلك وجوّزها بعض أصحابنا لكن بلا كيفية وجهة ومقابلة
وخيال ومثال متمسكين بالمحكي عن السلف ، كما روي عن أبي يزيد قال : رأيت ربي في
المنام فقلت : كيف الطريق إليك؟ فقال : اترك نفسك وتعال ، وقيل : رأى أحمد بن حنبل ربه في المنام ، فقال : يا أحمد
كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد ، فإنه يطلبني ، ولعل سببه أنه قيل لأبي يزيد ما تريد؟ فقال : أريد أن لا
أريد ، وروي عن حمزة الزيّات وأبي الفوارس شاه بن شجاع الكرماني ، ومحمد بن علي الحكيم الترمذي
والعلّامة شمس الأئمة الكردي أنهم رأوه في المنام ، وسيأتي بعض ما يتعلق بهذه المسألة
على وجه التكملة ، وأما قول قاضي خان أن ترك الكلام في هذه المسألة حسن فغير مستحسن لأن ترك الكلام لا يفيد تحقيق المرام وتثبيت
الأحكام.
ثم اعلم أنه وقع
بحث طويل بمقتضى أدلة العقل بين الإمام نور الدين الصابوني وبين الشيخ رشيد الدين في أن المعدوم مرئي ، أو ليس بمرئي
، وقد رجع الشيخ إلى قول الإمام في آخر الكلام لأنه كان مؤيدا بالنقل ، فقد أفتى
أئمة سمرقند وبخارى على أنه غير
__________________
____________________________________
مرئي ، وقد ذكر
الإمام الزاهد الصفار في آخر كتاب التلخيص : أن المعدوم مستحيل الرؤية ، وكذا
المفسّرون ذكروا أن المعدوم لا يصلح أن يكون مرئي الله تعالى ، وكذا قول السلف من
الأشعرية والماتريدية أن الوجود علة جواز الرؤية مع الاتفاق على أن المعدوم الذي
يستحيل وجوده لا يتعلق برؤيته سبحانه.
واختلف في المعدوم
أنه شيء أم لا ، فقالت المعتزلة : هو شيء لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . فإن كل شيء مقدور بهذا النص ، والموجود ليس بمقدور أصلا
لاستحالة إيجاد الموجود فتعيّن أن يكون المراد منه المعدوم ولقوله تعالى : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ) . سمّى الزلزلة قبل وجودها شيئا وعندنا المعدوم ليس بشيء
لقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ
قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) . فالله تعالى أخبر أنه لم يكن شيئا قبل الوجود ، وهذا لا
يحتمل التدويل ، فكيف يكون المعدوم شيئا فتسمية الشيء في الآيتين السابقتين
باعتبار المال. والله أعلم بالحال ، وسيأتي زيادة تحقيق لذلك.
ثم اعلم أن إضافة
النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بإلى الصريحة في نظر العين
وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أنه تعالى أراد بذلك
نظر العين التي في الوجه إلى الربّ جلّ جلاله ، فإن النظر له عدّة استعمالات بحسب
صلاته واختلاف متعلقاته وتعديته بنفيه فإنه إن عدّي بنفسه فمعناه التوقيف
والانتظار كقوله تعالى : (انْظُرُونا
نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) . وقوله تعالى : (لا تَقُولُوا راعِنا
وَقُولُوا انْظُرْنا) . وإن عدّي نفي فمعناه التفكّر والاعتبار كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا
فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وإن عدّي بإلى فمعناه المعاينة بالأبصار ، كقوله تعالى : (انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ) . فكيف إذا أضيف إلى الوجه
__________________
والإيمان هو
الإقرار والتصديق ....
____________________________________
الذي هو محل
البصر.
قال الحسن البصري
: نظرت أيّ الوجوه إلى ربّها فنظرت بنوره ولا يلزم من الرؤية الإدراك والإحاطة فلا
ينافي قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء وهو قدر زائد على الرؤية
كما قال الله تعالى : (فَلَمَّا تَراءَا
الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا) . فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الإدراك فالربّ تعالى يرى
ولا يدرك كما يعلم ولا يحاط به علما ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من
إدراكها على ما هي من حقيقة ذاتها ، وقد تواترت أحاديث إثبات الرؤية تواترا معنويا
، فيجب قبولها نقلا ولا يلتفت إلى ما يتوهمه أهل البدعة عقلا ، ولقد أخطأ شارح
عقيدة الطحاوي في هذه المسألة حيث قال : فهل يعقل رؤية بلا مقابلة ، وفيه دليل على
علوّه على خلقه . انتهى.
وكأنه قائل بالجهة
العلوية لربّه ومذهب أهل السّنّة والجماعة أنه سبحانه لا يرى في جهة ، وقوله عليه
الصلاة والسلام : «سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر» . تشبيه للرؤية بالرؤية في الجملة لا تشبيه المرئي بالمرئي
من جميع الوجوه (والإيمان هو الإقرار) أي بلسانه بالتحقيق (والتصديق) أي بالجنان
وفق التوفيق وتقديم الإقرار للإشعار بأنه الأول في مقام الإظهار ، وإن كان الثاني
هو المبدوء به في حال الاعتبار ، ولأن الشارع اكتفى بمجرد الإقرار ، ولم يفرّق في
الحكم بين المرافق والمنافق وبين الأبرار والفجار.
وقال الإمام
الأعظم في كتابه الوصية : الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان
__________________
____________________________________
والإقرار وحده لا
يكون إيمانا ، لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين ، وكذلك المعرفة
وحدها أي مجرد التصديق لا يكون إيمانا لأنها لو كانت إيمانا لكان أهل الكتاب كلهم
مؤمنين قال الله تعالى في حق المنافقين : (وَاللهُ يَشْهَدُ
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) . أي في دعواهم الإيمان حيث لا تصديق لهم وقال الله تعالى
في حق أهل الكتاب : (الَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) انتهى.
والمعنى أن مجرد
معرفة أهل الكتاب بالله ورسوله لا ينفعهم حيث ما أقرّوا بنبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ورسالته إليهم وإلى الخلق كافّة فإنهم كانوا يزعمون أنه صلىاللهعليهوسلم مبعوث إلى العرب خاصة فإقرارهم بهذا الطريق لا يكون خالصا
ثم التصديق ركن حسن لعينه لا يحتمل السقوط في حال من الأحوال بخلاف الإقرار فإنه
شرط أو شطر وركن حسن لغيره ، ولهذا يسقط في حال الإكراه ، وحصول الأعذار ، وهذا لأن
اللسان ترجمان الجنان ، فيكون دليل التصديق وجودا وعدما فإذا بدّله بغيره في وقت
يكون متمكّنا من إظهاره كان كافرا ، وأما إذا زال تمكّنه من الإظهار بالإكراه لم
يصر كافرا لأن سبب الخوف على نفسه دليل ظاهر على بقاء التصديق في قلبه ، وأن
الحامل له على هذا التبديل حاجته إلى دفع المهلكة عن نفسه لا تبديل الاعتقاد في
حقه ، كما أشار إليه قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ
مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ
وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ
عَذابٌ عَظِيمٌ) .
فأما تبديله في
وقت تمكّنه دليل على تبديل اعتقاده ، فكان ركن الإيمان وجودا وعدما كما صرّح به
شمس الأئمة السرخسي ، إلا أن صاحب العمدة وهو أبو البركات عبد الله بن أحمد بن
محمود النسفي رحمهالله صرّح بأن الإقرار شرط إجراء الأحكام ، وهو مختار الأشاعرة
، وعليه أبو منصور الماتريدي ، ثم في حذف المؤمن به في كلام الإمام الأعظم إشعار
بأن الإيمان الإجمالي كاف في مقام المرام فالتحقيق أن
__________________
____________________________________
الإيمان هو تصديق
النبي صلىاللهعليهوسلم بالقلب في جميع ما علم بالضرورة مجيئه به من عند الله
إجمالا وأنا كاف في الخروج عن عهدة الإيمان ولا تنحط درجته عن الإيمان التفصيلي
كذا في شرح العقائد إلا أن الأولى أن يقال إجمالا : إن لوحظ إجمالا وتفصيلا إن
لوحظ إجمالا وتفصيلا فإنه يشترط التفصيل فيما لوحظ تفصيلا حتى لو لم يصدق بوجوب
الصلاة وحرمة الخمر عند السؤال كان كافرا ، ثم المراد من المعلوم ضرورة كونه من
الدين بحيث يعلمه العامّة من غير افتقار إلى النظر والاستدلال كوحدة الصانع ووجوب
الصلاة وحرمة الخمر ونحوها ، وإنما قيّد بها لأن منكر الاجتهاديات لا يكفّر إجماعا
، وأما من يؤوّل النصوص الواردة في حشر الأجساد وحدوث العالم وعلم الباري
بالجزئيات ، فإنه يكفّر لما علم قطعا من الدين أنها على ظواهرها بخلاف ما ورد في
عدم خلود أهل الكبائر في النار لتعارض الأدلة في حقهم.
والحاصل أن عدم
انحطاط الإيمان الإجمالي عن التفصيلي إنما هو في الاتّصاف بأصل الإيمان ، وإلا
فليس الإجمال كالتفصيل في مقام كمال العرفان وجمال الإحسان ، ثم اعتبار الإقرار في
مفهوم الإيمان مذهب بعض العلماء وهو اختيار الإمام شمس الأئمة الحلواني وفخر
الإسلام من أن الإقرار ركن إلا أنه قد يحتمل السقوط كما في حالة الإكراه ، وذهب
جمهور المحقّقين إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب ، وإنما الإقرار شرط لإجراء
الأحكام في الدنيا لمّا أن تصديق القلب أمر باطني لا بدّ له من علامة فمن صدّق
بقلبه ولم يقرّ بلسانه فهو مؤمن من عند الله تعالى ، وإن لم يكن مؤمنا في أحكام
الدنيا ، ومن أقرّ بلسانه ولم يصدّق بقلبه كالمنافق ، فهو بالعكس ، وهذا هو اختيار
الشيخ أبي منصور الماتريدي رحمهالله.
والنصوص موافقة
لذلك كقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) الآية. وقوله تعالى : (وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) . وقوله تعالى : (وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) . وقوله عليه الصلاة والسلام لأسامة حين قتل من قال لا إله
إلّا الله : «هلّا شققت قلبه فنظرت أصادق هو أم كاذب» . على ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود
__________________
وإيمان أهل السماء
والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق
....
____________________________________
والترمذي والنسائي
وابن ماجة وغيرهم.
وقال في شرح
المقاصد : الإقرار إذا جعل شرط إجراء الأحكام لا بدّ أن يكون على وجه الإعلان على
الإمام وغيره من أهل الإسلام بخلاف ما إذا جعل ركنا له ، فإنه يكفي له مجرد
التكلّم مرة ، وإن لم يظهر لغيره ، والظاهر أن التزام الشرعيات يقوم مقام ذلك
الإعلان كما لا يخفى على الأعيان ، ثم الاجتماع منعقد على إيمان من صدق بقلبه وقصد
الإقرار بلسانه ومنعه مانع من خرس ونحوه.
فظهر أن حقيقة
الإيمان ليست مجرد كلمتي الشهادة على ما زعمت الكرامية (وإيمان أهل السماء) أي من
الملائكة وأهل الجنة (والأرض) أي من الأنبياء والأولياء وسائر المؤمنين من الأبرار
والفجّار (لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق).
نفسه لأن التصديق إذا لم يكن على وجه التحقيق يكون في مرتبة الظن والترديد والظن
غير مفيد في مقام الاعتقاد عند أرباب التأييد قال الله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً) . فالتحقيق أن الإيمان كما قال الإمام الرازي لا يقبل
الزيادة والنقصان من حيثية أصل التصديق لا من جهة اليقين فإن مراتب أهلها مختلفة
في كمال الدين كما أشار إليه سبحانه بقوله : (وَإِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . فإن مرتبة عين اليقين فوق مرتبة علم اليقين ، وكذا ورد
ليس الخبر كالمعاينة ، وإن قال بعضهم : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا يعني أصل
اليقين لمطابقة علم اليقين في ذلك الحين وهو لا ينافي زيادة اليقين عند الرؤية كما
هو مشاهد لمن له علم بالكعبة في الغيبة ، ثم حصل له المشاهدة في عالم الحضرة.
وعلى هذا فالمراد
بالزيادة والنقصان القوة والضعف فإن التصديق بطلوع الشمس أقوى من التصديق بحدوث
العالم ، وإن كانا متساويين في أصل تصديق المؤمن به ، ونحن نعلم قطعا أن إيمان
آحاد الأمة ليس كإيمان النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا كإيمان أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه باعتبار هذا
التحقيق ، وهذا معنى ما ورد : «لو وزن إيمان أبي بكر
__________________
____________________________________
الصدّيق رضي الله
عنه بإيمان جميع المؤمنين لرجح إيمانه» . يعني لرجحان إبقائه ووقار جنانه وثبات إتقانه وتحقيق
عرفانه لا من جهة ثمرات الإيمان من زيادات الإحسان لتفاوت أفراد الإنسان من أهل
الإيمان في كثرة الطاعات ، وقلة العصيان ، وعكسه في مرتبة النقصان مع بقاء أصل وصف
الإيمان في حق كلّ منهما بنعت الإيقان ، فالخلاف لفظي بين أرباب العرفان.
ومن هنا قال
الإمام محمد رحمهالله على ما ذكره في الخلاصة عنه : أكره أن يقول إيماني كإيمان
جبرائيل عليهالسلام ، ولكن : يقول آمنت بما آمن به جبرائيل عليهالسلام. انتهى.
وذلك أن الأول
يوهم أن إيمانه كإيمان جبرائيل عليهالسلام من جميع الوجوه ، وليس الأمر كذلك لما هو الفرق البيّن
بينهما هنا لك.
قال الإمام الأعظم
رحمهالله في كتابه الوصية : ثم الإيمان لا يزيد ولا ينقص لأنه لا
يتصوّر زيادة الإيمان إلا بنقصان الكفر ولا يتصوّر نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر
، فكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا والمؤمن مؤمن حقّا ،
__________________
والمؤمنون مستوون
في الإيمان والتوحيد ....
____________________________________
وليس في إيمان
المؤمن شك كما أنه ليس في كفر الكافر شك لقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) . أي في موضع (أُولئِكَ هُمُ
الْكافِرُونَ حَقًّا) . أي في محل آخر والعاصون من أمة محمد صلىاللهعليهوسلم كلهم مؤمنون حقّا وليسوا بكافرين أيّ حقّا. انتهى ، فأشار
الإمام الأعظم رحمهالله بهذا الكلام إلى أن العصيان لا ينافي الإيمان كما هو مذهب
أهل السّنّة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة فإنهما عندهم لا يجتمعان ، ونحن
نحمل هذا الحال على مقام الكمال فإن نفي المعصية بالكلية من المؤمن كالمحال ، وأما
نحو قوله تعالى : (وَإِذا تُلِيَتْ
عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) . فمعناه إيقانا أو مؤوّل بأن المراد زيادة الإيمان بزيادة
المؤمن به أي القرآن ، وأما قوله صلىاللهعليهوسلم لمّا سئل أن الإيمان يزيد وينقص : «نعم ، يزيد حتى يدخل
صاحبه الجنة ، وينقص حتى يدخل صاحبه النار» . فمعناه أنه يزيد باعتبار أعماله الحسنة حتى يدخل صاحبه
الجنة دخولا أوّليّا وينقص بارتكاب أعماله السيئة حتى يدخل صاحبه النار أولا ، ثم
يدخل الجنة بإيمانه آخرا كما هو مقتضى مذهب أهل السّنّة والجماعة على أن التصديق
من الكيفيات النفسية للإنسان وهي تقبل الزيادة والنقصان باعتبار القوة والضعف في
مراتب الإيقان ، ثم الطاعة والعبادة ثمرة الإيمان ونتيجة الإيقان ، وتنوّر القلب
بنور العرفان بخلاف المعصية فإنها تسود القلب وتضعف محبة الرب ، وربما يجرّه
مداومة العصيان إلى ظلمات الكفران ، فإن الصغيرة تجرّ إلى الكبيرة والكبيرة إلى
الكفر ، فنسأل الله العافية وحسن الخاتمة (والمؤمنون مستوون) أي متساوون (في
الإيمان) أي في أصله (والتوحيد) أي في نفسه ، وإنما قيّدنا بهما فإن الكفر مع
الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم
الأخفش : والأعشى ومن يرى الخط الثخين دون الرقيق إلا بزجاجة ونحوها ومن يرى
عن قرب زائد على العادة وآخر بضدّه.
__________________
____________________________________
ومن هنا قال محمد رحمهالله على ما تقدّم : أكره أن يقول إيماني كإيمان جبرائيل عليهالسلام ، بل يقول : آمنت بما آمن به جبرائيل عليهالسلام. انتهى. وكذا لا يجوز أن يقول أحد : إيماني كإيمان
الأنبياء عليهمالسلام ، بل ولا ينبغي أن يقول : إيماني كإيمان أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما وأمثالهما ، فإن تفاوت نور كلمة التوحيد في قلوب أهلها لا يحصيه إلا
الله سبحانه ، فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس ، ومنهم كالقمر ومنهم كالوكب
الدرّيّ ومنهم كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج الضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام : «وذلك
أضعف الإيمان» . وقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن القوي أحبّ إلى الله
من المؤمن الضعيف . والقوة تشمل القوة الظاهرية العملية والقوة الباطنية
العلمية ، وهو على منوال هذه الأنوار في الدنيا تظهر أنوار علومهم وأعمالهم
وأحوالهم في العقبى ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظمت مرتبتها أحرق من الشبهات
والشهوات بحسب قوّتها بحيث ربما وصل إلى حلّ لا يصادف شبهة ولا شهوة ولا ذنبا ولا
سيئة إلا أحرقها ، بل تقول النار : جز يا مؤمن ، فإن نورك أطفأ لهبي ، ومن عرف هذا عرف معنى قوله صلىاللهعليهوسلم : «إن الله تعالى حرّم على النار من قال لا إله إلا الله
يبتغي بذلك وجه الله» ، وقوله عليهالسلام : «لا يدخل النار من قال لا إله إلا الله» . وأمثال ذلك مما
__________________
متفاضلون في
الأعمال ...
____________________________________
أشكل على كثير من
الناس حتى ظنها بعضهم منسوخة وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفّار وأوّل بعضهم
الدخول بالخلود فإن الشّارع لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط وتأمّل حديث البطاقة
فإن من المعلوم أن كل موحّد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار (متفاضلون
في الأعمال) أي باختلاف الأحوال.
__________________
والإسلام هو
التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى فمن طريق اللغة فرق بين الإيمان والإسلام
ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام ، ....
____________________________________
فصل
قال الإمام الأعظم
رحمهالله في كتابه الوصية : ثم العمل غير الإيمان والإيمان غير
العمل بدليل أن كثيرا من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ، ولا يجوز أن يقال :
يرتفع عنه الإيمان فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة ، ولا يجوز أن يقال : يرتفع عنها
الإيمان ، أو أمر لها بترك الإيمان ، وقد قال لها الشارع : دعي الصوم ثم اقضيه ،
ولا يصحّ أن يقال : دعي الإيمان ، ثم اقضيه ، ويجوز أن يقال : ليس على الفقير زكاة
، ولا يجوز أن يقال ليس على الفقير الإيمان. انتهى.
وحاصله أن العمل
مغاير للإيمان عند أهل السّنّة والجماعة لا أنه جزء منه ، وركن له من الأركان كما
يقوله المعتزلة ، لما يدل عليه العطف الذي هو في الأصل مغايرة بين المعطوف
والمعطوف عليه حيث جاء في القرآن من نحو قوله تعالى : (آمَنُوا وَعَمِلُوا) (والإسلام هو
التسليم) أي باطنا (والانقياد لأوامر الله تعالى) أي ظاهرا (فمن طريق اللغة) وفي
نسخة ، ومن طريق اللغة (فرق بين الإيمان والإسلام) فإن الإيمان في اللغة هو
التصديق كما قال الله تعالى : (وَما أَنْتَ
بِمُؤْمِنٍ لَنا) . أي بمصدّق لنا في هذه القصة والإسلام مطلق الانقياد ومنه
قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ) أي انقاد (مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ طَوْعاً) . أي الملائكة والمسلمون (وَكَرْهاً) أي الكفرة حين البأس فالإيمان مختص بالانقياد الباطني
والإسلام مختص بالانقياد الظاهري كما يشير إليه قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي
قُلُوبِكُمْ) . وكما يدلّ عليه حديث جبرائيل عليهالسلام حيث فرّق بين الإيمان والإسلام بأن جعل الإيمان محض التصديق والإسلام هو القيام بالإقرار
، وعمل الأبرار في مقام التوفيق (ولكن لا يكون) أي لا يوجد في اعتبار الشريعة (إيمان
بلا إسلام) أي انقياد باطني بلا انقياد ظاهري ، كما أن لأهل الكتاب ، وكما وجد
لأبي طالب حال
__________________
ولا يوجد إسلام
بلا إيمان فهما كالظهر مع البطن. والدين اسم واقع على الإيمان والإسلام والشرائع
كلها ....
____________________________________
الخطاب ، وكما صدر
لإبليس حال العتاب فلا بدّ من جمعهما في صوب الصواب (ولا إسلام بلا إيمان) تأكيد
لما قبله وإشارة إلى أنه يستوي تقدّم الإسلام على تحقّق الإيمان وعكسه في مقام
الإيقان ، إذ ربما يتقدم التصديق الباطني ويتأخر الانقياد الظاهري كمؤمني أهل
الكتاب وربما يتقدّم الإسلام ظاهرا ثم يوجد التصديق باطنا كما وقع لبعض المنافقين
حيث سلكوا في الآخر طريق المؤمنين ، ولعل هذا وجه الحكمة في قضية المؤلّفة (فهما)
أي الإسلام والإيمان كشيء واحد حيث هما لا ينفكّان (كالظهر مع البطن) أي للإنسان ،
فإنه لا يتحقّق وجود أحدهما بدون الآخر ، وهذا تمثيل للمعقول بالمحسوس فتدبّر ،
وقد ورد الإسلام علانية والإيمان سرّا أي مبني على نيّته.
والحاصل أن
الإيمان محله القلب والإسلام موضعه القالب والجسد الكامل منهما يتركّب (والدين اسم
واقع على الإيمان والإسلام والشرائع كلها) أي الأحكام جميعها ، والمعنى : أن الدين
إذا أطلق فالمراد به التصديق والإقرار. وقبول الأحكام للأنبياء عليهم الصلاة
والسلام ، كما يستفاد من قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) . وقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) . وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) . وقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الْإِسْلامَ دِيناً) .
وليس مراد الإمام
الأعظم أن الدين يطلق على كل واحد من الإيمان والإسلام والشرائع بانفرادها كما
توهم شارح في هذا المقام ، لأنه خارج عن نظام المرام.
وفي عقيدة الطحاوي
ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو بين الغلو والتقصير ، وبين التشبيه
والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن واليأس ، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه مرفوعا : «إنّا معاشر الأنبياء ديننا واحد»
__________________
نعرف الله تعالى
حق معرفته كما وصف الله نفسه في كتابه بجميع صفاته ، ...
____________________________________
يعني أصله وهو
التوحيد وما يتعلق به لكن الشرائع متنوعة لقوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهاجاً) (نعرف الله تعالى
حق معرفته) أي لا باعتبار كنه ذاته وإحاطة صفاته ، بل بحسب مقدور العبد وطاقته في
جميع حالاته (كما وصف) أي الله سبحانه (نفسه في كتابه بجميع صفاته) أي بذاته ،
وفيه دليل على جواز إطلاق النفس على ذاته تعالى ، وأما إطلاق الذات فأكثر العلماء
في العبارات جمعوا بين الذات والصفات ، وقد ورد تفكّروا في كل شيء ، ولا تفكّروا
في ذات الله ، وأما ما ذكره السيوطي من أنه قد ورد إطلاق الذات عليه سبحانه في
البخاري في قصة خبيب وهو قوله : وذلك في ذات الإله ففيه بحث من
وجهين أما أولا فلأنه كلام صحابي ، وأما ثانيا فلأنه ليس نصّا في المدّعى ، بل
الظاهر أنه أراد في سبيل الله ، وذلك لأن الكفّار لمّا خرجوا به من الحرم ليقتلوه
قال : دعوني أصلّي ركعتين ، ثم أنشأ يقول :
فلست أبالي حين
أقتل مسلما
|
|
على أيّ شقّ كان
في الله مصرعي
|
وذلك في ذات
الإله وإن يشأ
|
|
يبارك على أوصال
شلو ممزع
|
أي : أعضاء جسد
مقطع ، وأما إطلاق الحقيقة كما قال ابن السبكي في جمع الجوامع : حقيقته مخالفة لسائر الحقائق فأنكر عليه
ابن الزملكاني حيث قال : يمتنع إطلاق لفظ الحقيقة على الله تعالى ، قال
ابن جماعة : لأنه لم يرد في كتابه أي في
__________________
وليس يقدر أحد أن
يعبد الله تعالى حقّ عبادته كما هو أهل له ، ....
____________________________________
مواضع من آياته
بجميع صفاته أي الثبوتية والسلبية كسورة الإخلاص وكقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . وسائر الآيات الدالّة على تحقّق الذات ومراتب الصفات ،
ولعل هذا الكلام من الإمام الهمام مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص في حقيقة
الإيقان ، وإن الإيمان الإجمالي كاف في مرام الإحسان فللمؤمن أن يقول عرفته ، وأما
قول من قال : ما عرفناك حق معرفتك فمبني على أن إدراك الذات ، والإحاطة بكنه
الصفات ليس في قدرة المخلوقات لقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) ، ولقوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ
عِلْماً) فاختلاف القضية بتفاوت الحيثية.
ومن هنا قال
الإمام الشافعي رحمهالله تعالى : من انتهض لطلب مدبّره فانتهى إلى موجود ينتهي إلى
فكره فهو مشبّه ، وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطّل ، وإن اطمأن إلى موجود
فاعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحّد ، ومن ثم لمّا سئل عليّ رضي الله تعالى عنه عن
التوحيد ما معناه؟ فقال : أن تعلم أن ما خطر ببالك ، أو توهمته في خيالك أو
تصوّرته في حال من أحوالك فالله تعالى وراء ذلك.
ويرجع إلى هذا
المعنى قول الجنيد رحمهالله تعالى : التوحيد إفراد القدم من الحدوث إذ لا يخطر ببالك
إلا حادث ، فإفراد القدم أن لا تحكم على الله بمشابهة شيء من الموجودات في الذات
ولا في الصفات بوجه من الوجوه فإنه لا تشبه ذاته ذات ، ولا صفاته صفات قال الله
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) بل جاء من إطلاق العالم والقادر والموجود وغير ذلك على
القديم والحادث فهو اشتراك لفظي فقط ، (وليس يقدر أحد أن يعبد الله تعالى حقّ عبادته
كما هو أهل له) أي في استحقاق طاعته من حيث إن العبد عاجز عن مداومة ذكره ومواظبة
شكره كما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) . أي لا تطيقوا عدّها فضلا عن القيام بشكرها وصرفها إلى
طاعة ربّها ، ولهذا المعنى قيل : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) .
__________________
ولكنه يعبده بأمره
كما أمر بكتابه وسنّة رسوله ...
____________________________________
منسوخ بقوله تعالى
: (فَاتَّقُوا اللهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ) . لأن حق التقوى يعجز عنه الأصفياء ، كما فسّره سيد
الأنبياء صلوات الله تعالى عليه وعليهم وسلامه بقوله : «هو أن يطاع فلا يعصى ،
ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى» . والتحقيق أن المعرقة إذا تحقّقت استمر حكمها في جميع
أحوال العبادة بخلاف العبادة ، فإنها تجب على العبد في كل لحظة ولمحة ، وهو عاجز
عن استمرار هذه الحالة لضعف البشرية عن القيام بالعبودية ، كما تقتضيه الربوبية
فلا أقل من أنه يقع منه الغفلة والغيبة عن الحضرة ، وهو كفر عند أرباب الحقيقة ،
وأصحاب الطريقة ، وإن رفع عن العامّة على لسان صاحب الشريعة رحمة على
الأمة من حيث إنه كاشف الغمّة.
وقد أشار سبحانه
وتعالى إلى هذه التبصرة بقوله تعالى : (هُوَ أَهْلُ
التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) . فليس لأحد أن يقول : عبدت الله حق عبادته (ولكنه) أي
الشأن (يعبده) أي عبده (بأمره كما أمر بكتابه وسنّة رسوله) أي وفق حكمه بوصف العجز
عن أداء حقه ، ولهذا قال بعض العارفين : لو لا أمره سبحانه بقراءة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ) . لما قرأته لعدم قيامي في مقام حقيقة الإخلاص في العبودية
وتخصيص الاستعانة في العبادة وغيرها من الحضرة الربوبية ، ولعله عليه الصلاة والسلام في نحو هذا المقام قال : «لا
__________________
ويستوي المؤمنون
كلهم في المعرفة واليقين والتوكّل والمحبة والرضى والخوف والرجاء ...
____________________________________
أحصي ثناء عليك
أنت كما أثنيت على نفسك» ، وكان عليه الصلاة والسلام يستغفر بعد فراغ العبادة إيماء
إلى أنه مقصّر في أداء حق الطاعة ، كما يشير إليه قوله تعالى : (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) . ويتفرّع على هذا التحقيق قول الإمام الأعظم على وجه
التدقيق (ويستوي المؤمنون كلهم في المعرفة) أي في نفسها (واليقين) أي في أمر الدين
(والتوكّل) أي على الله تعالى دون غيره (والمحبة) أي لله ورسوله (والرضى) أي
بالتقدير والقضاء (والخوف) أي من غضبه وعقوبته (والرجاء) أي لرضائه ومثوبته.
__________________
____________________________________
اعلم أنه يجب على
العبد أن يكون خائفا راجيا لقوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ
آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ
رَبِّهِ) ، وقوله تعالى : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفاً وَطَمَعاً) . والتحقيق أن الرجاء يستلزم الخوف ، ولو لا ذلك لكان أمنا
والخوف يستلزم الرجاء ، ولو لا ذلك لكان قنوطا ويأسا ، فالخوف المحمود الصادق ما
حال بين صاحبه وبين محارم الله سبحانه ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط
والرجاء المحمود رجاء عمل بطاعة الله تعالى على نور من ربّه ، فهو راج لمثوبته ،
أو رجل أذنب ذنبا ، ثم تاب منه إلى الله فهو راج لمغفرته.
أما إذا كان الرجل
متماديا في التفريط والخطايا ويرجو رحمة الله تعالى بلا عمل ، فهذا هو الغرور
والتمنّي والرجاء الكاذب.
قال أبو علي
الروذباري رحمهالله الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير ،
وتمّ طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبا صار الطائر في حدّ الموت
، وهذا الذي ذكره الشيخ موافق لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : لو نودي
في المحشر أن واحدا يدخل الجنة لأرجو أن أكون أنا ، وإن قيل : إن واحدا يدخل النار
أخاف أن أكون أنا ، وقال بعضهم : ينبغي أن يكون الرجاء غالبا للحديث القدسي ، «أنا
عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» .
وقال بعضهم :
الأولى أن يكون الخوف غالبا عند الشباب والصحة والرجاء حال الكبر والمرض لقوله
عليه الصلاة والسلام قبل موته بثلاث : «لا يموتنّ أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بربه» ، وهذا وكل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله تعالى فإنك إذا
خفته
__________________
____________________________________
هربت إليه ،
فالخائف هارب من ربّه إلى ربّه كما يشير إليه قوله تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) وقوله عليه الصلاة والسلام : «لا ملجأ ولا منجا منك إلا
إليك» . وقال بعضهم : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحّد ، وأما
كلام صاحب المنازل أن الرجاء أضعف منازل المريد فهو بالإضافة إلى مقام الحب الذي هو حال المريد ، بل قال
المحقّق الرازي : إن لم يعبد الله إلا لخوف ناره ، أو طمع في جنته فليس بمؤمن لأنه
سبحانه يستحق أن يعبد ويطاع لذاته ، وهذا معنى ما ورد : «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم
__________________
والإيمان في ذلك
ويتفاوتون فيما دون الإيمان في ذلك كله ....
____________________________________
يعصه» . ومن ثم لمّا قيل له صلىاللهعليهوسلم عند ما قام من الليل حتى تورمت قدماه أتفعل هذا وقد غفر
الله ذنبك ما تقدّم وما تأخّر. قال : «أفلا أكون عبدا شكورا» . وعن عليّ كرّم الله وجهه إن قوما عبدوا رغبة فتلك عبادة
التجّار ، وإن قوما عبدوا رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإن قوما عبدوا شكرا فتلك
عبادة الأحرار ، كذا نقله عنه صاحب ربيع الأبرار (والإيمان في ذلك)
أي الإيقان بثبوت ذاته ، وتحقّق صفاته وهو معطوف على قوله والرجاء (ويتفاوتون) أي
المؤمنون (فيما دون الإيمان) أي في غير التصديق والإقرار بحسب تفاوت الأبرار في
القيام بالأركان واختلاف الفجّار في مراتب العصيان (وفي ذلك كله) أي يتفاوتون أيضا
فيما ذكر من المقامات العليّة والحالات السّنيّة لاختلاف منازل الصوفية رحمهمالله تعالى.
قال الطحاوي رحمهالله تعالى : والإيمان واحد وأهله في أصله سواء والتفاضل [بينهم]
بالخشية والتّقى ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى ، هذا وذهب شارح في هذا المقام إلى أن تقدير الكلام استواء
أهل الإسلام في كونهم مكلّفين بهذه الأحكام ولا يخفى أن ما اخترناه أدقّ في نظام
المرام.
ثم تحقيق هذه
المقامات العليّة محل بسطها كتب السادة الصوفية وقد بيّنّا طرفا منها
__________________
والله تعالى
متفضّل على عباده عادل قد يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه العبد تفضّلا منه ، وقد
يعاقب على الذنب عدلا منه وقد يعفو فضلا منه ...
____________________________________
في التفسير
والشروح الحديثية (والله تعالى متفضّل على عباده) أي عامل بفضله على بعضهم (وعادل)
أي عامل بعدله في بعضهم كما قال الله تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا
إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) . وفي الحدث القدسي : «خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي وخلقت
هؤلاء للنّار ولا أبالي» . وهذا باعتبار توفيق الإيمان وتحقيق الخذلان ويترتب عليه
قوله (قد يعطي) أي الله سبحانه (من الثواب) أي الأجر على الطاعة في الدنيا والآخرة
(أضعاف ما يستوجبه العبد) أي يستحق (تفضّلا منه) أي في الزيادة كما قال الله تعالى
: (وَاللهُ يُضاعِفُ
لِمَنْ يَشاءُ) . أي ما يشاء من الدرجات في المثوبة ومقام القربة بحسب
الإخلاص ، (وقد يعاقب على الذنب) أي بقدر ما يستحقه العبد بلا زيادة عقوبة (عدلا
منه) كما أخبر عنهما في كتابه بقوله تعالى : (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى
إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) . أي بنقص ثواب ، أو بزيادة عقاب (وقد يعفو) أي عن السيئة (فضلا
منه) سواء يكون بواسطة شفاعة أو بدونها لقوله سبحانه وتعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) . ولقوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ
ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) . أي ما دون الشرك صغيرا أو كبيرا لمن يريد غفرانه تفضّلا.
والحاصل أن زيادة
العشرة عامّة ، وأما الزيادة عليها فخاصة والكل فضل محض ورحمة خالصة ، وربما تكون
الزيادة بسبب اختلاف مقامات أصحاب العبادة ، أو بحسب تعلّق مجرد الإرادة بما سبق
لهم من عناية السعادة ، وأما قول شارح : فليس له أن يعطى من الثواب أحد المتساويين
في العبادة واليقين أكثر مما يعطى الآخر ، أو يعفو عن أحد
__________________
وشفاعة الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام حق وشفاعة نبيّنا عليه الصلاة والسلام للمؤمنين المذنبين
ولأهل الكبائر منهم المستوجبين العقاب حق ثابت ....
____________________________________
المتساويين في
الذنب دون الآخر لأنه لا تفاوت في فضله وعده فخطأ فاحش مخالف للكاتب والسّنّة
وتحكّم على الله تعالى في مقام الإرادة والمشيئة ، وقد قال الله تعالى : (أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشاءُ) . وحاصل المرام في هذا المقام أن أمره سبحانه بالنسبة إلى
عباده لا يخلو عن عدله وفضله على وفق مراده ، مع أنه قد ورد في حديث روي موقوفا
ومرفوعا : «لو أن الله عذّب أهل سماواته ، وأهل أرضه عذّبهم وهو غير ظالم لهم ولو
رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم» . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة رضي الله تعالى عنهم ، (وشفاعة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام) أي عموما في المقصود (وشفاعة نبيّنا صلىاللهعليهوسلم) أي خصوصا في المقام المحمود واللواء الممدود والحوض
المورود (للمؤمنين المذنبين) أي من أهل الصغائر المستحقين للعقاب (ولأهل الكبائر
منهم المستوجبين العقاب حق ثابت) فقد ورد : «شفاعتي لأهل الكبائر في أمتي» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، وابن حبان ، والحاكم عن
أنس والترمذي ، وابن ماجة ، وابن حبّان ، والحاكم عن جابر والطبراني ، عن ابن عباس
، والخطيب ، عن ابن عمر ، وعن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنهم ، فهو حديث مشهور
في المبنى ، بل الأحاديث في باب الشفاعة متواترة ، المعنى ومن الأدلة على تحقيق
الشفاعة قوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ
لِذَنْبِكَ
__________________
ووزن الأعمال
بالميزان يوم القيامة حق ، ...
____________________________________
وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) . ومنه قوله سبحانه وتعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) إذ مفهومه أنها تنفع المؤمنين ، وكذا شفاعة الملائكة لقوله
تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ
الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ
الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) . وكذا شفاعة العلماء والأولياء والشهداء والفقراء ، وأطفال
المؤمنين الصابرين على البلاء.
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله تعالى في كتابه الوصية : وشفاعة محمد صلىاللهعليهوسلم حقّ لكل من هو من أهل الجنة ، وإن كان صاحب كبيرة انتهى ...
وظاهره أن هذه الشفاعة ليست مختصّة بأهل الكبائر من هذه الأمة فإنه عليه الصلاة
والسلام بالنسبة إلى جميع الأمم كاشف الغمّة ، ونبيّ الرحمة ، وقد ثبت أن له عليه
الصلاة والسلام أنواعا من الشفاعة ليس هذا مقام بسطها ، وفي العقائد النسفية والشفاعة ثابتة [للرسل] ، والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار ، وفي
المسألة خلاف المعتزلة إلا في نوع الشفاعة لرفع الدرجة (ووزن الأعمال) أي المجسّمة
أو صحفها المرسمة (بالميزان) أي الذي له لسان وكفّتان (يوم القيامة حق) لقوله
تعالى : (وَالْوَزْنُ
يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما
كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) . إظهارا لكمال الفضل وجمال العدل كما قال الله سبحانه
وتعالى : (وَنَضَعُ
الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ
كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) .
وقال الغزالي
والقرطبي رحمهماالله تعالى : لا يكون الميزان في حق كل أحد فالسبعون ألفا الذين
يدخلون الجنة بغير حساب لا يرفع لهم الميزان ، ولا يأخذون صحفا
__________________
____________________________________
وهو بظاهره يخالف
تقسيم القرآن ، وأما ما ذكره القونوي رحمهالله تعالى من أن الشيخ الإمام علي بن سعيد الرستغني رضي الله
تعالى عنه سئل أن الميزان يكون للكفّار ، فقال : لا فمردود ، بقوله تعالى : (وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) . والمؤمن لا يخلد في النار ، وأما ما سئل عنه مرة أخرى
فقال ؛ قد روي أن لهم ميزانا إلا أنه ليس المراد من ميزانهم ترجيح إحدى الكفّتين
على الأخرى ، لكن المعنى به تمييزهم إذ الكفار متفاوتون في العذاب ، كما قال الله
تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) . وقال الله عزوجل : (أَدْخِلُوا آلَ
فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) ففيه أن الرواية المذكورة لا أصل لها والميزان ما وضع
لتمييز المراتب في الكفر والإيمان ، وإلا فكما أن المشركين والكفّار لهم دركات
كذلك للمسلمين الأبرار درجات.
فالصواب أن آية
الميزان والكتاب وأكثر ما وقع في القرآن المجيد من الوعد والوعيد فهو مختص
بالكفّار والأبرار ، وما ذكر فيه حال العصاة والفجّار ليكونوا بين الخوف والرجاء
في تلك الدار بين المقام في دار القرار ، وفي دار البوار ، نعم قد ورد أن من استوت
حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف فيتأخر دخوله في الجنة عن أهل المعرفة والإنصاف
والمجاهدين في المصاف والقائمين بأنواع الطاعة من الصلاة والطواف والاعتكاف ، وأما
قوله تعالى : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ
يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) أي مقدارا ولا اعتبارا عند الله ، ثم ذكر الموازين بلفظ
الجمع ، والحال أن الميزان واحد نظرا إلى كثرة الخلق على سبيل المقابلة الجمع
بالجمع أو لأجل كبر ذلك الميزان عبر عنه بلفظ الجمع في ميدان البيان ، أو جمع
موزون ، ولا شك في جمعه ، وأما قول القونوي : أن الموزون هو العمل الذي له وزن
وخطر عنده سبحانه فليس على إطلاقه ، بل الموزون أعمّ من الطاعة والمعصية حتى يظهر
الثقل والخفّة بحسب ما تعلقت به الإرادة والمشيئة ويتوقف فيه على بيان كيفيته سواء
يقال : بوزن صحائف الأعمال أو بتجسيم الأقوال والأفعال ، والحكمة فيه ظهور حال
الأولياء من الأعداء فيكون للأوّلين أعظم السرور وللآخرين أعظم الشرور وفي الحقيقة
إظهار الفضل والعدل في يوم الفصل.
__________________
____________________________________
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : والميزان حق بقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ
لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) الآية. وقراءة الكتاب حق بقوله تعالى : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ
الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) . انتهى ، وفي هذا الاستدلال إيماء إلى أن الحكمة في وضع
الميزان للعباد حال المعاد ، إنما هو معرفة بيان مقادير أعمالهم ليتبيّن لهم
الثواب والعقاب بحسب اختلاف أعمالهم ، وفيه إشعار بأن إعطاء كتاب الأعمال في أيدي
العمال حق أيضا لقوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) . أي سهلا لا يناقش فيه ، وهو أن يجازى على الحسنات ويتجاوز
عن السيئات : (وَيَنْقَلِبُ إِلى
أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي مما في الجنة من الحور العين والآدميات أو إلى عشيرته
المؤمنين أو إلى فريق المؤمنين : (وَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) . أي بشماله من وراء ظهره. (فَسَوْفَ يَدْعُوا
ثُبُوراً) . أي هلاكا يقول يا ثبوراه : (وَيَصْلى سَعِيراً) أي يدخل النار (إِنَّهُ كانَ فِي
أَهْلِهِ) أي في الدنيا (مَسْرُوراً) أي باتّباع هواه وبدنياه في الكفر بطرا بالمال والجاه
فارغا عن الآخرة. فبيّن الإمام الأعظم رحمهالله أن الحساب وإعطاء الكتاب متقاربان فكان حكمهما واحدا حيث
لا ينفكّان فلم يذكره الإمام على حدة لابتغاء الاكتفاء ، والظاهر أن إعطاء الكتاب
قبل ميزان الحساب لقوله تعالى : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً) فتفسيره ورد في السّنّة أن من نوقش في الحساب يوم القيامة
عذب .
وقد أنكر المعتزلة
الميزان والحساب والكتاب بعقولهم الناقصة مع وجود الأدلة
__________________
والقصاص فيما بين
الخصوم بالحسنات يوم القيامة حق وإن لم تكن لهم الحسنات فطرح السيئات عليهم حق
جائز ....
____________________________________
القاطعة في كلّ من
هذه الأبواب ، وأما ما وقع في العمدة من أن كتاب الكافر يعطى بشماله أو من وراء
ظهره فيوهم أنه شكّ ومتردّد في أمره ، وليس كذلك بل ذكره بأو لاختلاف ما جاء في
الآيتين ، وهو إما محمول على الجمع بينهما كما أشرنا إليها ، وإما للتنويع فبعضهم
يعطى بشماله وهو القريب من الإسلام ، وبعضهم يعطى من وراء ظهره وهو المدبّر
بالكليّة عن قبول الأحكام ، وهي كتب كتبها الحفظة أيام حياتهم إلى حين مماتهم كما
قال الله تعالى : (أَمْ يَحْسَبُونَ
أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ) . أي ما يخفونه من الغير وما يتكلمون به فيما بينهم (بلى)
أي نسمعهما (ورسلنا) أي الحفظة (لديهم يكتبون) أي جميع أفعالهم وأحوالهم وفيه ردّ
على من زعم أن الملائكة ليس لهم اطّلاع على بواطن الخلق (والقصاص) أي المعاقبة
بالمماثلة (فيما بين الخصوم) أي من نوع الإنسان والعباد (بالحسنات يوم القيامة) أي
بالحسنات كما في نسخة حق أي ثابت يعني بأخذ حسنات الظالم وإعطائها للخصوم في
مقابلة المظالم ، إذ ليس هناك الدنانير والدراهم (حق وإن لم تكن لهم) أي للظّلمة (الحسنات)
أي بأن لم يوجد لهم الطاعات ، أو فنيت لكثرة السيئات (طرح) وفي نسخ فطرح (السيئات)
أي وضع سيئات المظلومين (عليهم) أي على رقبة الظالمين (جائز وحق) ، وفي نسخة حق
جائز وكلاهما للتأكيد ، ومعناهما ثابت وجائز عقلا ووارد نقلا ، فيجب الاعتماد على
هذا الاعتقاد لما ورد من أنه عليه الصلاة والسلام قال : «من كانت له مظلمة لأخيه
فليتحلّله منذ اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه
بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» . وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه الكرام : «أتدرون من
المفلس؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ، ولا متاع ، فقال عليه الصلاة والسلام
: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وصدقة ، وقد شتم هذا ، وقذف هذا ،
وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته ، وهذا من حسناته فإن
فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار» . ثم هذا في حق
__________________
وحوض النبي صلىاللهعليهوسلم حق ....
____________________________________
العباد وقد ورد في
خصومه الحيوانات أنه سبحانه يقتصّ للشاة الجماء من القرناء ثم يقول لها : كوني
ترابا وحينئذ يقول الكافر الظالم الفاجر يا ليتني كنت ترابا (وحوض النبي صلىاللهعليهوسلم حق) لقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ
الْكَوْثَرَ) وفسّره الجمهور بحوضه أو نهره ، ولا تنافي بينهما لأن نهره
في الجنة وحوضه في موقف القيامة على خلاف في أنه قبل الصراط ، أو بعده ، وهو
الأقرب والأنسب.
وقال القرطبي :
وهما حوضان أحدهما قبل الصراط ، وقبل الميزان على الأصح ، فإن الناس يخرجون عطاشا
من قبورهم فيردّونه قبل الميزان والصراط الثاني في الجنة وكلاهما يسمى كوثرا.
انتهى. وروى الترمذي وحسّنه أنه صلىاللهعليهوسلم قال : إن لكل نبي حوضا وأنهم يتباهون أيّهم أكثر واردة ،
وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة ، هذا ونقل القرطبي أن من خالف جماعة المسلمين كالخوارج
والروافض والمعتزلة وكذا الظّلمة والفسقة المعلنة يطردون عن الحوض لما وقع بينهم
من [إنكار] الحوض وحديث الحوض . رواه من الصحابة بضع وثلاثون ، وكان أن يكون متواترا ، وقد ورد حديث : «حوضي
__________________
والجنة والنار
مخلوقتان اليوم ...
____________________________________
في الجنة مسيرة
شهر وزواياه سواء ماؤه أبيض من اللبن ، وريحه أطيب من المسك ، وطعمه ألذ وأحلى من
العسل ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، وحافّتاه من الزبرجد وأوانيه من الفضة
وكيزانه كنجوم السماء من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدا» . وعن أكثر السلف : هو الخير الكثير وفي الأحاديث الصحاح هو نهر في الجنة عليه خير كثير ترد
عليه أمتي يوم القيامة ، وقيل : هو النبوّة والقرآن (والجنة والنار
مخلوقتان اليوم) أي موجودتان الآن قبل يوم القيامة لقوله تعالى : في نعت الجنة (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). وفي وصف النار : (أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ) ، وللحديث القدسي : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ، ولحديث الإسراء : أدخلت الجنّة وأريت النار». وهذه الصيغة موضوعة للمضي
حقيقة فلا وجه للعدول عنها إلى المجاز إلا بصريح آية ، أو صحيح دلالة وفي المسألة خلاف
للمعتزلة.
ثم الأصح أن الجنة
في السماء ويدل عليه قوله تعالى : (عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) . وقوله عليه الصلاة والسلام «سقف الجنة عرش الرحمن» . وقيل :
__________________
____________________________________
في الأرض ، وقيل :
بالوقف حيث لا يعلمه إلا الله تعالى ، واختاره شارح المقاصد ، وأما النار ، فقيل :
تحت الأرضين السبع وقيل : فوقها. وقيل : بالتوقّف أيضا في حقها.
ووقع في أصل شارح
هنا زيادة والصراط حق ، وليس في المتون وكأنه ملحق ، ولكن محله قبل ذكر الجنة
والنار أليق وهو ثابت بالكتاب والسّنّة فقال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) . قال النووي في شرح الصحيح : أن المراد في الآية المرور
على الصراط. انتهى. وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ، وجمهور المفسرين
، وقد روي مرفوعا أيضا وورد في صحيح مسلم : «أن الصراط جسر ممدود على ظهر جهنم
أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف» ، وورد أيضا أنه يكون على بعض أهل النار أدق من الشعر ،
وعلى بعض مثل الوادي الواسع وفي رواية : ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم ، وأكون أول
من يجوّز من الرّسل بأمته ولا يتكلم يومئذ إلا الرّسل ، وكلام الرّسل يومئذ اللهمّ
سلّم سلّم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس
بأعمالهم فمنهم من يوثق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو الحديث ؛ وفي رواية : فيمرّ
المؤمنون كطرفة العين وكالبرق الخاطف وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم
ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم ، وفي هذه المسألة خلاف أكثر المعتزلة.
وأما قوله تعالى :
(وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) فقيل : المراد بهم الكفّار ، فالمراد بالورود الدخول
والخلود والأكثرون على العموم كما يفيد الحصر فقيل : معنى الورود هو العبور على
متن جهنم وظهرها ، ويتميّزون حال ممرّها ، وقيل : معنى الورود الدخول إلا أنهم
مختلفو الحال في الوصول لما روي عن جابر رضي الله عنه أنه صلى الله تعالى عليه
وسلم سئل عن هذه الآية فقال : الورود الدخول لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها ،
فتكون على المؤمن بردا وسلاما ، كما كانت على إبراهيم عليهالسلام حتى إن للنار ضجيجا من
__________________
____________________________________
[بردهم] ، وفي رواية : تقول النار للمؤمن : جز فإن نورك أطفأ لهبي ، وعن جابر رضي الله عنه أيضا أنه عليه الصلاة والسلام سئل
عن ذلك فقال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أنّا
نرد النار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة فلا ينافي قوله تعالى : (أُولئِكَ عَنْها
مُبْعَدُونَ) . لأن المراد عن عذابها ، وعن مجاهد رضي الله عنه : ورود
المؤمن النار هو مسّ الحمى جسده في الدنيا لقوله صلىاللهعليهوسلم : «الحمى من فيح جهنم» . وهو محمول على أن المؤمن تكفّر ذنوبه في الدنيا بالحمى
ونحوها لئلا يحسّ بألم النار عند ورودها لا أنه لا يراها في العقبى ، وقيل :
المراد بالورود جثوهم حولها كما يشير إليه قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) . هكذا ذكره صاحب الكشاف وهو من دسائس المعتزلة حيث أنكروا الصراط ، وإلا فليس في
الآية دلالة على جثوهم حولها بل قوله : (وَنَذَرُ
الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا). يدل على خلافه.
ثم من العقائد أن
إنطاق الجوارح حق كما قال الله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ، وقال الله تعالى : (حَتَّى إِذا ما
جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) الآيتين ، وعند المعتزلة لا يجوز ذلك ، بل تلك الشهادة من
الله تعالى في الحقيقة إلا أنه سبحانه أضافها إلى الجوارح ، توسعا قلنا : نحن نقول
كذلك : لأنه سبحانه يظهر هذا على طريق خرق العادة ، كما خلق الكلام في
__________________
لا تفنيان أبدا
ولا تموت الحور العين أبدا ولا يفنى عقاب الله تعالى وثوابه سرمدا ....
____________________________________
الشجرة ، أو يخلق فيها الفهم والقدرة على النطق ، وأما القول بأنه
يظهر في تلك الأعضاء أحوال تدلّ على صدور تلك الأعمال ، وتلك الأمارات تسمى شهادات
كما يشهد هذا العالم بتغيّرات أحواله على حدوثها كما قال القونوي فمردود بأنه
موافق لمذهب المعتزلة ، مع أن حمل الآية على المجاز مع إمكان الحقيقة لا يجوز على
أنه مخالف لظاهر النص وهو قوله تعالى : (قالُوا أَنْطَقَنَا
اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) . (لا تفنيان) أي ذواتهما وما فيهما من أهلهما (أبدا) وفي
نسخة (ولا تموت الحور العين أبدا ولا يفنى عقاب الله ولا ثوابه سرمدا) ، وفي نسخة
: ولا يفنى ثواب الله ولا عقابه سرمدا.
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : والجنة والنار حق وهما مخلوقتان ولا
فناء لهما ولا لأهلهما لقوله تعالى في حق أهل الجنة : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وفي حق أهل النار : (أُعِدَّتْ
لِلْكافِرِينَ). خلقهما الله تعالى للثواب والعقاب ، وقال أيضا في الوصية
: وأهل الجنة في الجنة خالدون ، وأهل النار في النار خالدون ، لقوله تعالى في حق
المؤمنين : (أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) . وفي حق الكفار : (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) انتهى.
وذهب الجهمية وهم
الجبرية الخالصة إلى أنهما تفنيان ويفنى أهلهما وهو باطل بلا
__________________
والله تعالى يهدي
من يشاء فضلا منه ، ويضلّ من يشاء عدلا منه وإضلاله خذلانه ، وتفسير الخذلان أن لا
يوفّق العبد إلى ما يرضاه منه وهو عدل منه ، وكذا عقوبة المخذول على المعصية. ولا
يجوز أن نقول : إن الشيطان يسلب الإيمان من العبد المؤمن قهرا وجبرا ، ولكن نقول
العبد يدع الإيمان فحينئذ يسلبه منه الشيطان ...
____________________________________
شبهة ، لأنه مخالف
للكتاب والسّنّة وإجماع الأمة (والله تعالى يهدي من يشاء) أي إلى الإيمان والطاعة (فضلا
منه) أي يجعله مظهر جماله ومحل ثوابه (ويضلّ من يشاء) أي بالكفر والمعصية (عدلا
منه) أي يجعله مظهر جلاله وموضع عقابه ، ثم هدايته توفيقه وإحسانه ، وهذه جملة
مطويّة معلومة القضية ، ولذا لم يتعرّض له الإمام واكتفى بذكر ما فيه من اختلاف
بعض الأنام حيث قال (وإضلاله خذلانه) أي عدم نصرته في مقام تحقيقه ومرام تصديقه (وتفسير
الخذلان أن لا يوفّق العبد) أي لا يحمله (إلى ما يرضاه عنه) أي على ما يحبه من
الإيمان والإحسان ، ويكون سببا لرضى الربّ عن العبد (وهو) أي الخذلان وعدم رضاه
عنه (عدل منه) إذ لا يجب عليه شيء لغيره ، وقد وضع الشيء في موضعه كما قال الله
تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ
أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) . أي يوسع قلبه وينوّره للتوحيد وعلامته الإنابة إلى دار
الخلود والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل نزوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) .
(وكذا عقوبة
المخذول على المعصية) أي عدل منه في نظر أرباب العقول وأصحاب النقول ، وفي المسألة
خلاف المعتزلة (ولا نقول) وفي نسخة ولا يجوز أن نقول : (إن الشيطان يسلب الإيمان
من العبد المؤمن قهرا وجبرا) أي لقوله تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) . أي حجة وتسلط على إغواء أحد من المخلصين (ولكن نقول العبد
يدع الإيمان) أي بتركه باختياره واقتداره سواء يكون بسبب إغواء الشيطان ، أو هوى
نفسه فإذا تركه (فحينئذ يسلبه منه الشيطان) أي يجعله تابعا له في الخذلان ، فيكون
له عليه السلطان ، وهذا معنى قوله : (إِلَّا مَنِ
اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) . وقوله تعالى : (لَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ) .
__________________
وسؤال منكر ونكير
في القبر حق كائن ...
____________________________________
(وسؤال منكر ونكير)
أي حيث يقولان من ربك وما دينك ومن نبيّك (في القبر) أي في قبره ، أو مستقره (حق
كائن) أي واقع ، وإخباره عليه الصلاة والسلام بعذابه صدق ، ففي الصحيحين : «عذاب القبر حق» ومرّ عليه الصلاة والسلام على قبرين فقال : «إنهما
ليعذّبان» ، وقد نزل فيه قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي
الْآخِرَةِ) . أي في القبر كما في الصحيحين وغيرهما ، واستثنى من عموم سؤال القبر الأنبياء عليهمالسلام والأطفال والشهداء. ففي صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام
سئل عن ذلك فقال : «كفى ببارقة السيوف شاهدا» ففي الكفاية أن لا سؤال للأنبياء عليهمالسلام.
وقال السيد أبو
شجاع من علماء الحنفية : إن للصبيان سؤالا ، وكذا للأنبياء عند البعض ، وقال بعضهم
: صبيان المسلمين مغفور لهم قطعا والسؤال لحكمة لم يطّلع
__________________
وإعادة الروح إلى
جسد العبد في قبره حق ، وضغطة القبر ...
____________________________________
عليها وتوقّف
الإمام الأعظم رحمهالله في سؤال أطفال الكفرة ودخولهم الجنة وغيره حكم بذلك
فيكونون خدم أهل الجنة (وإعادة الروح) أي ردّها ، أو تعلقها (إلى العبد) أي جسده
بجميع أجزائه ، أو ببعضها مجتمعة أو متفرّقة (في حق قبره) والواو لمجرد الجمعية
فلا ينافي أن السؤال بعد إعادة الروح وكمال الحال فيقول المؤمن : «ربي الله وديني
الإسلام ، ونبيي محمد صلىاللهعليهوسلم ، ويقول الكافر هاه هاه لا أدري» ، رواه أبو داود وأصله في الصحيحين ، وفي المسألة خلاف المعتزلة وبعض الرافضة ، وقد وردت
الأحاديث المتظاهرة في المبنى المتواترة في المعنى في تحقيق أحوال البرزخ والعقبى
قد استوفاها شيخ مشايخنا الجلال السيوطي في كتابه المسمى بشرح الصدور في أحوال
القبور ، وفي كتابه الآخر المسمى بالبدور السافرة في أحوال الآخرة ، فعليك بهما إن
كنت تريد الاطّلاع وارتفاع النزاع عن الطباع ، ومن جملة الأدلة قوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا
وَعَشِيًّا) أي صباحا ومساء قبل القيامة وذلك في القبر بدليل قوله
تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ
السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ) . ومعنى عرضهم على النار إحراقهم بها إلى يوم القيامة ،
وذلك لأرواحهم. وكذا قوله سبحانه : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) أي عذاب الآخرة ، وكذا قوله تعالى : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) أي عن اتّباع القرآن فلم يؤمن به (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً). أي ضيقة في الدنيا ، أو في الآخرة : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) . الآيات. وكأنها أيضا مأخذ قول الإمام الأعظم رحمهالله (وضغطة القبر) أي
تضييقه (حق) حتى للمؤمن الكامل لحديث ، لو كان أحد نجا منها لنجا سعد بن معاذ الذي
__________________
وعذابه حق كائن
للكفّار كلهم أجمعين ولبعض عصاة المسلمين ...
____________________________________
اهتزّ عرش الرحمن
لموته وهي أخذ أرض القبر وضيّقه أولا عليه ، ثم الله سبحانه يفسح ويوسع المكان مدّ
نظره إليه قيل : وضغطته بالنسبة إلى المؤمن على هيئة معانقة الأم الشفيقة إذا قدم
عليها ولدها من السفرة العميقة (وعذابه) أي إيلامه (حق كان للكفّار كلهم أجمعين
ولبعض المسلمين) أي عصاة المسلمين كما في نسخة ، وكذا تنعيم بعض المؤمنين حق ، فقد
ورد أن «القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النيران» . رواه الترمذي والطبراني رحمهماالله. وفي الحديث : أن القبر أول منازل الآخرة ، فإن نجا منه
فما بعده أيسر منه ، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه . رواه الترمذي والنسائي ، والحاكم بسند صحيح عن عثمان بن
عفان رضي الله عنه.
واعلم أن أهل الحق
اتفقوا على أن الله تعالى يخلق في الميت نوع حياة في القبر قدر ما يتألم ، أو
يتلذّذ ، ولكن اختلفوا في أنه هل يعاد الروح إليه ، والمنقول عن أبي حنيفة رحمهالله التوقّف إلا أن كلامه هنا يدل على إعادة الروح ، إذ جواب
الملكين فعل اختياري فلا يتصوّر بدون الروح وقيل : قد يتصوّر ألا ترى أن النائم
يخرج روحه ، ويكون روحه متصلا بجسده حتى يتألم في المنام ويتنعّم ، وقد روي عنه
عليه الصلاة والسلام أنه سئل كيف يوجع اللحم في القبور ، ولم يكن فيه الروح ، فقال
صلىاللهعليهوسلم : «كما يوجع سنّك وليس فيه الروح» .
وأما ما قاله
الشيخ أبو المعين في أصوله على ما نقله عنه القونوي من أن عذاب القبر حق سواء كان
مؤمنا أو كافرا أو مطيعا ، أو فاسقا ، ولكن إذا كان كافرا فعذابه يدوم
__________________
____________________________________
في القبر إلى يوم
القيامة ويرفع عنه العذاب يوم الجمعة وشهر رمضان بحرمة النبي صلىاللهعليهوسلم لأنه ما دام في الأحياء لا يعذّبهم الله تعالى بحرمته
فكذلك في القبر يرفع عنهم العذاب يوم الجمعة ، وكل رمضان بحرمته ففيه بحث لأنه
يحتاج إلى نقل صحيح ، أو دليل صريح ، فالصواب ما قاله القونوي : من أن المؤمن إن
كان مطيعا لا يكون له عذاب القبر ، ويكون له ضغطة فيجد هول ذلك وخوفه لما أنه كان
يتنعّم بنعم الله سبحانه ولم يشكر الإنعام حقه قال : ويدلّ عليه ما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها : «كيف حالك عند ضغطة القبر
وسؤال منكر ونكير»؟ ثم قال : «يا حميراء! إن ضغطة القبر للمؤمن كغمز الأم رجل
ولدها ، وسؤال منكر ونكير للمؤمن كالإثمد للعين ، إذا رمدت» .
وكذا روي عن النبي
صلىاللهعليهوسلم أنه قال لعمر رضي الله عنه : «كيف حالك إذا أتاك فتانا
القبر»؟ فقال عمر : أفأكون في مثل هذه الحالة ، ويكون عقلي معي؟ قال عليه الصلاة
والسلام : «نعم» ، قال عمر : إذا لا أبالي .
وقال القونوي :
وإن كان عاصيا يكون له عذاب القبر وضغطة القبر ، لكن ينقطع عنه عذاب القبر يوم
الجمعة وليلة الجمعة ، ولا يعود العذاب إلى يوم القيامة ، وإن مات يوم الجمعة أو
ليلة الجمعة يكون له العذاب ساعة واحدة وضغطة القبر ، ثم ينقطع عنه العذاب ، ولا
يعود إلى يوم القيامة. انتهى. فلا يخفى أن المعتبر في العقائد هو الأدلة اليقينية
وأحاديث الآحاد لو ثبتت إنما تكون ظنيّة. اللهمّ إلّا إذا تعدّد طرقه بحيث صار
متواترا معنويّا فحينئذ قد يكون قطعيّا ، نعم ثبت في الجملة أن من مات يوم الجمعة
أو ليلة الجمعة يرفع العذاب عنه إلا أن لا يعود إليه إلى يوم القيامة ، فلا أعرف
له أصلا ، وكذا رفع العذاب يوم الجمعة وليلتها مطلقا عن كل عاص ، ثم لا يعود إلى
يوم القيامة فإنه باطل قطعا.
ثم من الأدلة على
إنعام أهل الطاعة وإيلام أهل المعصية قوله سبحانه : (وَلا
__________________
____________________________________
تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) . وقوله تعالى : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ
أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) . فإن الأصل في وضع الفاء للتعقيب ، واختلف في أنه بالروح
أو بالبدن ، أو بهما وهو الأصح منهما إلّا أنّا نؤمن بصحته ولا نشتغل بكيفيته ،
واختلف في حقيقة الروح فقيل : إنه جسم لطيف شابك الجسد مشابكة الماء بالعود الأخضر
، أجرى الله تعالى العادة بأن يخلق الحياة ما استمرت هي في الجسد ، فإذا فارقته
توفّت الموت الحياة ، وقالوا : الحياة للروح بمنزلة الشعاع للشمس ، فإن الله تعالى
أجرى العادة بأن يخلق النور والضياء في العالم ما دامت الشمس طالعة ، كذلك يخلق
الحياة للبدن ما دامت الروح فيه ثابتة ، وإلى هذا القول مال المشايخ الصوفية.
وقال جماعة من أهل
السّنّة والجماعة : الروح جوهر سارية في البدن كسريان ماء الورد في الورد. انتهى ،
وهو لا يغاير القول الأول إلا في اختلافهم أنه جوهر ، أو جسم لطيف ، والأخير هو
الصحيح بدليل ما ورد من أن الروح إذا خرجت من الجسد ، وإذا دخلت وأمثال ذلك من
العرج إلى عليّين ومن النزول إلى سجّين ، وهذا الكلام في تحقيق المرام ما ينافي
قوله سبحانه : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) . فإن الأمر كله لله تعالى ، أو لأن الروح خلق بالأمر
التنجيزي كبعض المخلوقات ، وأكثر الكائنات خلقوا بالوصف التدريجي ، ولذا قال الله
تعالى : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ) مع أن الكلام في جنسه على طريق الإجمال هو من العلم القليل
استثنى الله تعالى بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) . على أن أولى الأقاويل وأقواها أن يفوّض علمه إلى الله
تعالى ، وهو قول جمهور أهل السّنّة والجماعة.
وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : نقرّ بالله تعالى يحيي هذه النفوس بعد
الموت يبعثهم الله يوما كان مقداره خمسين ألف سنة للجزاء والثواب ، وأداء الحقوق
لقوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ
يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) . انتهى. وقوله تعالى : (وَحَشَرْناهُمْ)
__________________
____________________________________
أي أحيينا جميع
الخلق. (فَلَمْ نُغادِرْ) أي لم نترك (مِنْهُمْ أَحَداً) . وقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ
حُشِرَتْ) . أي جمعت وقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ). وقوله تعالى : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) . أي نعيد أول الخلق في الآخرة مثل الذي بدأناه في أول
الخلق في الدنيا حين كونهما إيجادا عن العدم وقوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
تُبْعَثُونَ) . أي للجزاء ففي هذه الآيات ردّ على الفلاسفة حيث أنكروا
حشر الأجساد.
وقد ذكر الإمام
الرازي على طريق إرخاء العنان مع الخصم في ميدان البيان حيث قال : فإنّا إذا آمنّا
بالبعث وتأهبنا له ، فإن كان حقّا فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلا لا
يضرّنا هذا الاعتقاد غاية ما في الباب أن تفوتنا هذه اللذّات الجسمانية ، والواجب
على العاقل أن لا يبالي بفواتها لكونها في غاية الخساسة إذ هي مشتركة بين الخنافس
والديدان والكلاب ، ولأنها منقطعة سريعة الزوال والفناء فثبت أن الاحتياط في
الإيمان بالمعاد ، ولهذا قال الشاعر :
قال المنجم
والطبيب كلاهما
|
|
لن يحشر الأموات
قلت إليكما
|
إن صحّ قولكما
فلست بخاسر
|
|
أو صحّ قولي
فالخسار عليكما
|
انتهى كلامه. ونقل
البيتان عن عليّ كرّم الله تعالى وجهه ، ووجهه أنه من قبيل قوله تعالى : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً
أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) . لأن الاعتقاد بالمعاد على وجه الاحتياط صحيح في مقام
الاعتماد ، لأن العلم اليقيني لا بدّ للمجتهد والحكم الجزمي للمقلّد من الأدلة
اليقينية الحاصلة من الأدلة النقلية والعقلية ، كقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) . ثم من المعقول في المسألة أن الحكمة تقتضي الفصل بين
المحقّ والمبطل على وجه يضطر المبطل إلى معرفة حاله في البطلان لئلا يبقى له ريبة
في
__________________
وكل شيء ذكره
العلماء بالفارسية من صفات الله تعالى عزّ اسمه فجاز القول به سوى اليد بالفارسية
، ويجوز أن يقال : بروي خداى عزوجل بلا تشبيه ولا كيفية. وليس قرب الله ولا بعده ...
____________________________________
ذلك الشأن ، وليست
الدنيا بدار هذا الاضطرار لأنها خلقت للابتلاء والاختبار ، فلا بدّ من دار يقع
فيها هذا الأمر المختار ، ولذا قال الله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ
الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً). ولأن الحكمة تقتضي جزاء كل عامل على حسب عمله ، وقد ينعم
على العاصي ويبتلي المطيع في دار الدنيا للابتلاء فلا بدّ من دار الجزاء ، ولأن
جزاء العمل الصالح نعمة لا يشوبها نقمة وجزاء العمل السيئ نقمة لا يشوبها نعمة ،
ونعم الدنيا مشوبة بالنقم ونقمها بالنّعم فلا بدّ من دار يحصل فيها كمال الجزاء ،
ولأنه قد يموت المحسن والمسيء قبل أن يصل إليهما ثواب ، أو عقاب فلولا حشر ونشر
يصل بهما الثواب إلى المحسن والعقاب إلى المسيء لكانت هذه الحياة عبثا ، وقد قال
الله سبحانه : (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ
مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) . (وكل ما) وفي نسخة وكل شيء (ذكره العلماء بالفارسية) أي
بغير العبارة العربية (من صفات الله تعالى) أي المتشابهة كالوجه والقدم والعين ،
وفي نسخة من صفات الباري (عزّت أسماؤه) أي غلبت على الأفهام (وتعالت صفاته) أي
ارتفعت عن الأوهام (فجاز القول به) أي بأن نتبعهم في التعبير عن أسمائه وصفاته حسب
ما ذكره العلماء باختلاف لغاته (سوى اليد بالفارسية) أي فإنه لا يجوز تعبيرها
بالفارسية ، كما في نسخة أي بغير عبارة وردت في الكتاب والسّنّة ، ومفهومه : أنه
يجوز للعلماء وغيرهم أن يعبّروا في صفته ونعته بذكر اليد ونحوها على وفق ما ورد
بها كما يقال بيده أزمة التحقيق ، والله وليّ التوفيق ، ويتفرّع على الحصر المذكور
بالوجه المسطور قوله : (ويجوز أن يقال : بروي خداى عزوجل) بضم الراء وسكون الواو أي وجه الله (بلا تشبيه ولا كيفية)
أي مقرونا بنفي التشبيه والكيفية من الهيئة والكمية كما يقتضيه التنزيه ، وإذا كان
القول مقرونا بالتنزيه ونفي التشبيه فالفرق بين اليد والوجه تدقيق يحتاج إلى تحقيق
، ثم رأيت السلف أجمعوا على عدم تأويل اليد وتبعهم الأشعري في ذلك بخلاف سائر
الصفات فإن فيها خلافا عنهم بين التأويل والتفويض.
(وليس قرب الله
تعالى) أي من أرباب الطاعة (ولا بعده) أي من أصحاب المعصية
__________________
من طريق طول
المسافة وقصرها ، ولكن على معنى الكرامة والهوان والمطيع قريب منه بلا كيف ،
والعاصي بعيد عنه بلا كيف ، والقرب والبعد والإقبال يقع على المناجي. وكذلك
____________________________________
كما في الحديث «أن السخي قريب من الله والبخيل
بعيد من الله» (من طريق طول
المسافة) أي الحسّيّة المعبر عنها بالمساحة (وقصرها) بل المراد بهما القرب والبعد
المعنوي ، كما يستفاد من منطوق قوله سبحانه : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) . المفهوم منه أنه بعيد من المسيئين (ولا على معنى الكرامة
والهوان) أي وليسا محمولين على معنى الكرامة والإحسان والذلّة والهوان ، فإن هذا
التأويل في مقام أهل العرفان.
والإمام الأعظم رحمهالله تعالى جعلهما من باب المتشابه في مقام الإيقان ولذا قال : (ولكن
المطيع قريب منه بلا كيف) أي من غير التشبيه (والعاصي بعيد عنه بلا كيف) أي بوصف
التنزيه (والقرب والبعد والإقبال) أي وضدّه وهو الإعراض (يقع على المناجي) أي يطلق
أيضا على العبد المتضرّع إلى الله المتذلّل لديه طالبا لرضاه كما في قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) . أي اسجد لله وتقرّب إلى رضاه ، وقيل دم على السجود
والتقرّب إلى الله حيث شئت ، وفي الحديث : «أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد»
. لكنه بلا كيف كما يدل عليه تقييد ما قبله وما بعده به حيث قال : (وكذلك
__________________
جواره في الجنة
والوقوف بين يديه بلا كيف ....
____________________________________
جواره) بكسر الجيم
أي مجاورة العبد لله (في الجنة) أي في مقام القربة (والوقوف) أي في القيامة (بين
يديه بلا كيف) أي من غير وصف وبيان كشف كما في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) . وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ
مَقامَ رَبِّهِ) الآية.
وقد أبعد شارح هنا
حيث قال : القرب والبعد يقع على المناجي لا على الله ، ألا ترى أن القرب والبعد
كان على معنى الكرامة والهوان وأن الله تعالى أقرب إلى العبد من حبل الوريد ،
انتهى. ولا يخفى ما في كلامه من التناقض حيث يفهم من عمله أن القرب والبعد يقع على
حقيقته بطريق المسافة على المناجي دون الله سبحانه ، ثم حملهما على معنى الكرامة
والهوان الذي هو نص في المعنى المجازي ، ثم قوله : إن الله تعالى أقرب إلى العبد
من حبل الوريد حيث أثبت له القرب من العبد ، مع أن نسبة القرب والبعد متساوية في
الربّ والعبد فالتحقيق في مقام التوفيق أن مختار الإمام أن قرب الحق من الخلق ،
وقرب الخلق من الحق وصف بلا كيف ونعت بلا كشف ، والجمهور يؤوّلونهما ويحملونهما
على قرب رحمته بطاعته وبعد نعمته بمعصيته ، هذا وبلسان أرباب العبارات وأصحاب
الإشارات معنى القرب إلى الربّ أن ترى نعمته وتشاهد منّته في جميع حالاتك وتغيب
فيها عن رؤية أفعالك ومجاهداتك.
وقد قال بعض
العلماء في قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) . إنه سبحانه وتعالى لفرط قربه منك لا تراه ، ولغاية بعدك
عنه لا ترى شيئا سواه ، وهذا تمام لمن يطلب معرفة مولاه ولا يصحّ الطلب إلا لمن
خالف هواه.
__________________
والقرآن منزّل على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في المصاحف مكتوب وآيات القرآن في معنى الكلام كلها
مستوية في الفضيلة والعظمة ، إلا أن لبعضها فضيلة الذكر ، وفضيلة المذكور مثل آية
الكرسي لأن المذكور فيها جلال الله تعالى وعظمته وصفاته فاجتمعت فيها فضيلتان
فضيلة الذكر وفضيلة المذكور ولبعضها فضيلة الذكر فحسب مثل قصة الكفار ، وليس
للمذكور فيها فضل وهم الكفّار ، وكذلك الأسماء والصفات كلها مستوية في العظمة
والفضل لا تفاوت بينهما .....
____________________________________
(والقرآن منزّل)
بالتشديد أي نزل منجّما (على رسول الله صلىاللهعليهوسلم) أي في ثلاثة وعشرين عاما (وهو في المصاحف) أي في جنسه ،
وفي نسخة في المصاحف (مكتوب) أي مزبور ومسطور وفيه إيماء إلى أن ما بين الدفّتين
كلام الله تعالى على ما هو المشهور (وآيات القرآن) أي جميعها (في معنى الكلام كلها)
أي في مقام المرام سواء يكون في رحمة الله ومدح أوليائه ، أو في غضب الله وذمّ
أعدائه وسائر الأحكام المتعلقة بحكم ابتلائه (مستوية في الفضيلة) أي اللفظية (والعظمة)
أي المعنوية (إلا أن لبعضها فضيلة الذكر) أي باعتبار مبناها (وفضيلة المذكور) أي
باعتبار معناها (مثل آية الكرسي لأن المذكور فيها جلال الله) أي هيبته (وعظمته
وصفاته) أي نعته الخاص بذاته (فاجتمعت فيها فضيلتان فضيلة الذكر وفضيلة المذكور)
ومثلها سورة الإخلاص فإنها مختصّة بنعوت الاختصاص ، (وفي صفة الكفّار) أي كسورة «تبّت»
ونحوها من أحوال الفجّار (فضيلة الذكر فحسب) بسكون السين أي فقط (وليس في المذكور
وهم الكفار فضيلة) تأكيد لما قبله وتصريح بما علم ضمنا من مفهومه بما ورد في فضائل
القرآن وسور منه وآيات منه محمول على ما ذكرنا جميعا بين اختلاف الروايات ، (وكذلك
الأسماء) أي نحو : الله الأحد الصمد الملك الواحد الفرد (والصفات) أي نحو له الملك
، وله الحمد وله الكبرياء والمجد (كلها مستوية في العظمة) أي بحسب المبنى (والفضل)
أي باعتبار المعنى (لا تفاوت بينهما) أي من حيث إطلاقها على ذاته وصفاته كليهما ،
وهو لا ينافي أن يكون بعض الأسماء وبعض الصفات أعظم من بعضها على ما ثبت في
الأحاديث الواردة في فضل الاسم الأعظم والله تعالى أعلم.
وقد روى الحاكم
الشهيد في المنتفى عن أبي حنيفة رحمهالله أنه قال : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق
السموات والأرض وخلق نفسه ، وعنه رحمه
__________________
____________________________________
الله أيضا أنه قال
: لو لم يبعث الله رسولا لوجب على الخلق معرفته بعقولهم ، فالفرق بيننا وبين
المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليين ما ذكره الأستاذ أبو منصور الماتريدي
وعامّة مشايخ سمرقند رحمهمالله تعالى : أن العقل عندهم إذا أدرك الحسن والقبح يوجب بنفسه
على الله وعلى العباد مقتضاهما ، وعندنا الموجب هو الله تعالى يوجبه على عباده ،
ولا يجب عليه سبحانه شيء باتفاق أهل السّنّة والجماعة.
والعقل عندنا آلة
يعرف بها ذلك الحكم بواسطة اطّلاع الله تعالى على الحسن والقبح الكائنين في الفعل
، والفرق بيننا وبين الأشاعرة أنهم قائلون بأنه لا يعرف حكم من أحكام الله إلا بعد
بعثة نبي ، ونحن نقول : قد يعرف بعض الأحكام قبل البعثة بخلق الله تعالى العلم به
إما بلا كسب كوجوب تصديق النبي وحرمة الكذب الضارّ ، وإما مع كسب بالنظر والفكر
وقد لا يعرف إلا بالكتاب والنبي عليهالسلام كأكثر الأحكام ، وقال أئمة بخارى : عندنا لا يجب إيمان ،
ولا يحرم كفر قبل البعثة كقول الأشاعرة وحملوا المرويّ عن أبي حنيفة رحمهالله على ما بعد البعثة.
قال ابن الهمام :
وهذا الحمل ممكن في العبارة الأولى دون الثانية ، إلا أنه قدر في تحريره أنه يجب حمل الوجوب في قوله لوجب عليهم معرفة الله بعقولهم
على معنى ينبغي فحمل الوجوب على المعنى العرفي ، وهو الأليق والأولى ، لأن تسمية
الأفعال طاعة ومعصية قبل البعثة تجوّز إذ هما فرع الأمر والنهي فإطلاق الطاعة
والمعصية قبل ورود أمر ونهي مجاز من قبيل إطلاق الشيء على ما يؤول إليه ، فكيف
يتحقّق طاعة أو معصية قبل ورود أمر ونهي.
قال ابن الهمام :
بل يجوز العقل بذكر اسمه شكرا فلولا أنه سبحانه أطلق بفضله ذكر اسمه سمعا ووعد
عليه أجرا حيث قال سبحانه : (فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ) . ونحوه لخاف من اتّضح لعقله عظمة كبريائه وجلاله من أن
يسمّيه تعالى بلسانه في جميع أحواله إذ يرى أنه أحقر من ذلك ، فسبحان من تقرّب إلى
خلقه بفضله وعظيم برّه. انتهى.
__________________
____________________________________
وقد يجمع بين
القولين بأنه لا يلزم من الوجوب ما يترتب على تركه العقاب فلا ينافي قوله تعالى في
الكتاب : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . ولا يحتاج حينئذ إلى تقييد العذاب بالدنيا ، ولا إلى
تعميم الرسول للعقل والنقل.
قال ابن الهمام :
وثمرة هذا الخلاف تظهر فيمن لم تبلغه دعوة رسول فلم يؤمن حتى مات فهو مخلد في
النار عند المعتزلة ، والفريق الأول من الحنفية دون الفريق الثاني منهم. والأشاعرة
وإذا لم يكن مخاطبا بالإسلام عند هؤلاء فأسلم أي وحّد هل يصلح إسلامه؟ بأنه يثاب
في الآخرة عند الحنفية ، نعم كاسلام الصبي الذي يعقل معنى الإسلام والتكليف ، وذكر
بعض المشايخ الحنفية أنه سمع أبا الخطاب من المشايخ الشافعية يقول : لا يصحّ إيمان
من لم تبلغه دعوة كإيمان الصبي عندهم أي على القول المرجح من مذهبهم. خلافا للأئمة
الثلاثة لأن النبي صلىاللهعليهوسلم دعا عليّا إلى الإسلام ، فأجابه مع الإجماع على أن عباداته من صلاة وصوم ونحوهما
صحيحة ، وأما ما نقله البيهقي من أن الأحكام إنما علقت بالبلوغ بعد الهجرة عام
الخندق ، وأما قبل ذلك فكانت منوطة بالتمييز فيحتاج إلى بيان ذلك وكيفية وقوعه
هنالك على أن أمور الإسلام في تكاليف الأحكام كانت تدريجية من الأهون إلى الأصعب
لا بالعكس ، ولذا كان التكليف أولا بالتوحيد ثم زيد الصلاة والزكاة ونحوهما كما هو
مقتضى حكمة الحكيم المجيد.
ثم من فروع هذا
الأصل ما ذكره حجة الإسلام حيث قال : يجوز لله أن يكلّف عباده ما لا يطيقونه خلافا
للمعتزلة إذ لو لم يجز لاستحال سؤال دفعه ، وقد سألوا ذلك فقالوا : ربّنا لا تحمّلنا
ما لا طاقة لنا به ، ولأنه سبحانه أخبر أن أبا جهل لا يصدقه عليه الصلاة والسلام ،
ثم أمره أن يصدق بجميع أقواله عليه الصلاة والسلام ، ومن جملتها أنه لا يصدقه عليه
الصلاة والسلام ، فكيف يصدقه عليه الصلاة والسلام في أنه لا يصدقه هذا محال.
انتهى.
وذكره غيره إلا
أنه قال أبو لهب بدل أبي جهل ، وهو أنسب.
__________________
ورسول الله صلىاللهعليهوسلم مات على الإيمان ....
____________________________________
قال ابن الهمام :
ولا يخفى أن الدليل الأول ليس في محل النزاع وهو التكليف إذ عند القائلين بامتناعه
يجوز أن يحمله جيلا فيموت ، وأما عند المعتزلة فبناء على جواز أنواع الإيلام بقصد
العوض وجوبا ، وأما عند الحنفية المانعين منه أيضا فتفضّلا بحكم وعده على المصائب
، ولا يجوز أن يكلفه أن يحمل جبل بحيث إذا لم يفعل يعاقب وجوّزه الأشاعرة ، كما
قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) .
وعن هذا النص ذهب
المحقّقون ممّن جوّزه عقلا من الأشاعرة إلى امتناعه سمعا ، وإن جاز عقلا أي وإلا
لزم وقوع خلاف خبره سبحانه ، أما الفعل المستحيل باعتبار سبق العلم الأولى بعدم
وقوعه لعدم امتثاله مختارا ، وهو مما يدخل تحت قدرة العبد عادة فلا خلاف في وقوعه
كتكليف أبي جهل وغيره من الكفرة بالإيمان مع العلم بعدم إيمانه والإخبار به ، لمّا
تقدم من أنه لا أثر للعلم في سلب قدر المكلّف ، وفي جبره على المخالفة.
قال : ومن فروعه
أيضا وهو أن لله إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ولا ثواب لاحق خلافا
للمعتزل حيث لم يجوّزوا ذلك إلا بعوض ، أو جرم ، وإلا لكان جرما غير لائق بالحكمة
، ولذا أوجبوا أن يقتصّ لبعض الحيوانات من بعض. انتهى.
وقد سبق أن الظلم
في حقه تعالى محال ، وأنه سبحانه لا يجب عليه شيء بحال ، ففعله إما عدل ، وإما
فضل.
وفي نسخة زيد قوله
: (ورسول الله صلىاللهعليهوسلم مات على الإيمان) وليس هذا في أصل
__________________
____________________________________
شارح تصدّر لهذا
الميدان لكونه ظاهرا في معرض البيان ، ولا يحتاج إلى ذكره لعلوّه صلىاللهعليهوسلم في هذا الشأن ، ولعل مرام الإمام على تقدير صحة ورود هذا
الكلام أنه صلىاللهعليهوسلم من حيث كونه نبيّا من الأنبياء عليهمالسلام ، وهم كلهم معصومون عن الكفر في الابتداء والانتهاء نعتقد
أنه مات على الإيمان ، وأما غيره من الأولياء والعلماء والأصفياء بالأعيان فلا
نجزم بموتهم على الإيمان ، وإن ظهر منهم خوارق العادات وكمال الحالات ، وجمال
أنواع الطاعات فإن مبنى أمره على العيان وهو مستور عن أفراد الإنسان ، ولهذا كانت
العشرة المبشّرة وأمثالهم خائفين من انقلاب أحوالهم وسوء آمالهم في مآلهم.
واعلم أن للسلف رحمهمالله في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال :
أحدها : أن لا
يشهد لأحد إلا للأنبياء عليهمالسلام ، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية والأوزاعي ، وهذا أمر قطعي
لا نزاع فيه.
والثاني : أن يشهد
لكل مؤمن جاء نص في حقه ، وهذا قول كثير من العلماء لكنه حكم ظنّيّ.
والثالث : أن يشهد
أيضا لمن شهد له المؤمنون كما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام مرّ بجنازة
فأثنوا عليها بخير ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «وجبت» ، ومرّ بأخرى فأثنى عليها بشرّ فقال عليه الصلاة
والسلام : «وجبت». فقال عمر رضي الله تعالى عنه : يا رسول الله ما وجبت؟ فقال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم : هذا أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه
شرّا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض» . وهذا أمر ظاهري غالبي ، والله تعالى أعلم بالصواب .
__________________
وأبو طالب عمّه صلىاللهعليهوسلم وأبو علي رضي الله عنه مات كافرا وقاسم وطاهر وإبراهيم
كانوا بني رسول الله صلىاللهعليهوسلم ...
____________________________________
(وأبو طالب عمّه)
أي عمّ النبي (صلىاللهعليهوسلم وأبو عليّ رضي الله عنه مات كافرا) ولم يؤمن به ، فقد ورد
أنه لما حضر أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فوجد عنده أبا جهل وأضرابه ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «يا عمّ قل كلمة أحاجّ لك بها عند الله» ، فقال أبو جهل
: أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟ وتكرر هذا الكلام في ذلك المقام حتى قال أبو طالب في
آخر المرام : أنا على ملّة عبد المطّلب ، وأبى أن يقول لا إله إلّا الله ، فقال صلىاللهعليهوسلم : «والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» ، فأنزل الله تعالى
: (ما كانَ لِلنَّبِيِّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي
قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). أي بأن ماتوا على الكفر ، وأنزل الله في حق أبي طالب حين
عرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم الإيمان عليه حين موته فأبى ورد : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ
وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) . رواه البخاري ومسلم .
(وقاسم وطاهر
وإبراهيم كانوا بني رسول الله صلىاللهعليهوسلم) أي أبناءه أما القاسم فهو أول ولد ولد له عليه الصلاة
والسلام قبل النبوّة ، وبه كان يكنّى وعاش حتى مشى ، وقيل : عاش سنتين ، وقيل :
بلغ ركوب الدابّة ، والأصح أنه عاش سبعة عشر شهرا ، ومات قبل البعثة وفي مستدرك
الفريابي ما يدل على أنه توفي في الإسلام وهو أول من مات من أولاده
عليه الصلاة والسلام ، وأما طاهر فقال الزبير بن بكار : كان له عليه الصلاة
والسلام سوى القاسم وإبراهيم عبد الله مات صغيرا بمكة ، ويقال له : الطيب ،
والطاهر ثلاثة أسماء ، وهو قول أكثر أهل النسب ، كما قاله أبو عمرو ، وقال
الدارقطني : هو الأثبت ، ويسمى عبد الله بالطيب والطاهر لأنه ولد بعد النبوّة وقيل
: عبد الله غير الطيب والطاهر ، كما حكاه الدارقطني وغيره.
وقيل : كان له
عليه الصلاة والسلام الطيب والمطيب ولدا في بطن ، والطاهر
__________________
وفاطمة ورقية
وزينب وأم كلثوم كنّ جميعا بنات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهنّ ....
____________________________________
والمطهر ولدا في
بطن ، كما ذكر صاحب الصفوة ، وأما إبراهيم فولد من الجارية القبطية ، وقد قال عليه
الصلاة والسلام بعد موته : «القلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الربّ وإنّا
على فراقك يا إبراهيم لمحزونون» . وتوفي وله سبعون يوما أو أكثر ، وصلى عليه النبي صلىاللهعليهوسلم بالبقيع ، وقال : ندفنه عند فرطنا عثمان بن مظعون أخوه عليه الصلاة
والسلام في الرضاعة.
(وفاطمة وزينب
ورقية وأم كلثوم كنّ جميعا بنات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضي الله عنهنّ) ، وفي نسخة تقديم رقية على زينب بناء على
اختلاف في أن زينب أكبر بناته عليه الصلاة والسلام ، وعليه أكثرهم أو رقية كما ذهب
إليه بعضهم.
فعند [ابن] إسحاق أن زينب ولدت في سنة ثلاثين من مولد النبي صلىاللهعليهوسلم وأدركت الإسلام وهاجرت وماتت سنة ثمان من الهجرة عند زوجها
وابن خالتها أبي العاص لقيط ، وقد ولدت له عليّا مات صغيرا قد ناهز الحلم ، وكان
رديف رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ناقته يوم الفتح ، وولدت له أيضا أمامة التي حملها صلىاللهعليهوسلم في صلاة الصبح على عاتقه ، وكان إذا
__________________
____________________________________
ركع وضعها وإذا
رفع رأسه من السجود أعادها وتزوّجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد موت فاطمة رضي
الله عنها.
وأما فاطمة
الزهراء البتول فولدت سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صلىاللهعليهوسلم فتقديمها على زينب لتقدمها بحسب الرتبة فقد ورد مرفوعا : «إنما
سمّيت فاطمة لأن الله تعالى قد فطمها وذريّتها عن النار يوم القيامة» ، أخرجه الحافظ الدمشقي ، وروى النسائي مرفوعا : «إنما
سمّيت فاطمة لأن الله تعالى فطمها ومحبّيها عن النار وسمّيت بتولا لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا
ونسبا ، وقيل : لانقطاعها عن الدنيا ، وتزوّجت بعليّ بن أبي طالب في السنة الثالثة
، وكان تزويجها بأمر الله ووحيه ، وكانت أحب أهله إليه ، وإذ أراد سفرا يكون آخر عهده بها
، وإذا قدم كان أول ما يدخل عليها ، وقال عليه الصلاة والسلام : «فاطمة بضعة مني
فمن أبغضها أبغضني» . ورواه البخاري ، وفي رواية مسلم قال لها : أو ما ترضين أن
تكوني سيدة نساء المؤمنين» .
وفي رواية أحمد
أفضل نساء أهل الجنة وتوفيت بعده عليه الصلاة والسلام بستة أشهر وهي ابنة تسع
وعشرين سنة ، وقد ولدت لعليّ حسنا وحسينا سيّدا شباب أهل
__________________
____________________________________
الجنة ، كما ثبت
في السّنّة ومحسنا مات محسن صغيرا ، وأم كلثوم وزينب لم يكن لرسول
الله صلىاللهعليهوسلم عقب إلا من ابنته فاطمة رضي الله عنها فانتشر نسله الشريف
منها فقط من جهة السبطين أعني الحسنين ، وأما رقية فولدت سنة ثلاث وثلاثين من
مولده عليه الصلاة والسلام وكانت تحت عتبة بن أبي لهب وأختها أم كلثوم تحت أخيه
عتيبة بالتصغير ، فلما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ) قال لهما أبو لهب : رأسي من رأسكما حرام إن لم تفارقا
ابنتي محمد ففارقاهما ، ولم يكونا دخلا بهما فتزوّج عثمان بن عفّان رقية بمكة ،
وهاجر بها الهجرتين ، وتوفيت والنبي صلىاللهعليهوسلم ببدر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لما عزّي صلىاللهعليهوسلم بها قال : الحمد لله دفن البنات من المكرمات ، وأما أم كلثوم فقد ورد أنه لمّا توفيت رقية خطب عثمان
بنت عمر حفصة فردّه فبلغ ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال : «يا عمر أدلّك على خير لك من عثمان ، وأدلّ عثمان
على خير له منك»؟ قال : نعم يا رسول الله. قال : «زوّجني ابنتك ، وأزوّج عثمان
ابنتي» أخرجه الخجندي ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال له : «والذي
نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت يمتن ، واحدة بعد واحدة زوّجتك أخرى هذا جبرائيل عليهالسلام أخبرني أن الله يأمرني أن أزوّجكها» . رواه الفضائلي ، ولم يذكر الإمام الأعظم رحمهالله أزواج النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأنا أذكرهنّ إجمالا في مقام المرام.
فأمّهات المؤمنين
خديجة وسودة وعائشة وحفصة وأم سلمة ، وأم حبيبة ، وزينب
__________________
وإذا أشكل على
الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فإنه ينبغي له أن يعتقد في الحال ما هو الصواب
عند الله تعالى إلى أن يجد عالما فيسأله ولا يسعه تأخير الطلب ولا يعذر بالوقف فيه
، ويكفر ....
____________________________________
بنت جحش ، وزينب
بنت خزيمة ، وميمونة وجويرية ، وصفية رضي الله تعالى عنهنّ ، فهنّ إحدى عشرة من
أزواجه عليه الصلاة والسلام التي دخل بهنّ لا خلاف بين أهل السّير والعلم بالأثر
في حقّهنّ ، وقد ذكر أنه عليه الصلاة والسلام تزوّج نسوة من غيرهنّ.
هذا وقال الإمام
الأعظم رحمهالله في كتابه الوصية : وعائشة رضي الله عنهما بعد خديجة الكبرى
رضي الله عنها أفضل نساء العالمين ، وهي أم المؤمنين ومطهرة من الزنا وبريئة مما
قال الروافض ، فمن شهد عليها بالزنا فهو ولد الزنا. انتهى.
ولا يخفى أن من
قذفها بالزنا فهو كافر بالآيات القرآنية الواردة في براءة ساحتها مما نسب إليها من
الأمور النفسانية ، وأما من سبّها بسبب محاربتها ومخالفتها لعليّ رضي الله عنه فهو
ضالّ مبتدع غال فاجر ، والله تعالى أعلم بالسرائر ، وأما قوله : إنها أفضل نساء العالمين
فيحتمل أنها أفضل نساء عالمي زمانها ، أو نساء العالمين جميعها ، وهل يدخل فيهنّ
خديجة وفاطمة ومريم رضي الله عنهنّ على اختلاف ورد في حقّهنّ بحسب تفاوت الأحاديث
الثابتة في فضلهنّ ، وسيأتي تفصيل تفضيل بعضهنّ في المحال الأليق بهنّ.
ثم قول الإمام الأعظم
رحمهالله في الوصية : فهو ولد الزنا لا يخلو عن غرابة في مقام
المرام كما لا يخفى على ذوي الأفهام بالأحكام ، ولعله محمول على التشبيه البليغ
والمعنى ، فهو كولد الزنا في كونه شرّ الثلاثة كما ورد يعني بحكم غلبة الواقعة.
(وإذا أشكل) أي
التبس (على الإنسان) أي من أهل الإيمان (شيء من دقائق علم التوحيد) أي ولم يتحقق
عنده حقائق مقام التفريد ومرام التمجيد (فينبغي له) أي يجب عليه أن يعتقد في الحال
ما هو الصواب عند الله تعالى) أي بطريق الإجمال (إلى أن يجد عالما) أي عارفا
بحقيقة الأحوال (فيسأله) أي ليعلم العلم التفصيلي على وجه الكمال (ولا يسعه تأخير
الطلب) أي عند تردّده في صفة من صفات الجلال ، أو نعوت الجمال (ولا يعذر بالوقف
فيه) أي يتوقفه في معرفة هذه الأحوال وعدم تفحّصه بالسؤال (ويكفر) أي
__________________
إن وقف. وخبر
المعراج حق فمن ردّه فهو ضالّ مبتدع ، ....
____________________________________
في الحال (إن وقف)
أي بأن توقف على بيان الأمر في الاستقبال ، لأن التوقّف موجب للشك ، وهو فيما
يفترض اعتقاده كالإنكار ، ولذا أبطلوا قول الثلجي من أصحابنا حيث قال : أقول بالمتفق وهو أنه كلامه تعالى
ولا أقول مخلوق ، أو قديم ، هذا والمراد بدقائق علم التوحيد أشياء يكون الشك
والشّبهة فيها منافيا للإيمان ومناقضا للإيقان بذات الله تعالى وصفته ومعرفة كيفية
المؤمن به بأحوال آخرته فلا ينافي أن الإمام توقف في بعض الأحكام لأنها في شرائع
الإسلام فالاختلاف في علم الأحكام رحمة ، والاختلاف في علم التوحيد والإسلام ضلالة
وبدعة ، والخطأ في علم الأحكام مغفور ، بل صاحبه فيه مأجور بخلاف الخطأ في علم
الكلام ، فإنه كفر وزور ، وصاحبه مأزور.
(وخبر المعراج) أي
بجسد المصطفى صلىاللهعليهوسلم يقظة إلى السماء ، ثم إلى ما شاء الله تعالى من المقامات
العلى (حق) أي حديثه ثابت بطرق متعددة (فمن ردّه) أي ذلك الخبر ولم يؤمن بمقتضى
ذلك الأثر (فهو ضالّ مبتدع) أي جامع بين الضلالة والبدعة.
وفي كتاب الخلاصة
: من أنكر المعراج ينظر إن أنكر الإسراء من مكة إلى بيت المقدس فهو كافر ، ولو
أنكر المعراج من بيت المقدس لا يكفر ، وذلك لأن الإسراء من الحرم إلى الحرم ثابت
بالآية ، وهي قطعية الدلالة ، والمعراج من بيت المقدس إلى السماء ثبت بالسّنّة وهي
ظنيّة الرواية والدراية ، وقد أفردت هذه المسألة المصوّرة رسالة مختصرة وسمّيتها
بالمنهاج العلوي في المعراج النبوي ، وقد أغرب شارح العقائد في تأويل قول عائشة
رضي الله تعالى عنها ما فقد جسد محمد صلىاللهعليهوسلم ليلة المعراج حيث قال : معناه ما فقد جسده عن الروح ، بل كان معه روحه . انتهى. وغرابته لا تخفى ، والتأويل الصحيح أن المعراج كان بمكة في أوائل البعثة
حين لم تولد عائشة رضي الله عنها ، أو يقال : القضية كانت متعددة ، ولذا اختلف في
الانتهاء فقيل : إلى الجنة ، وقيل : إلى العرش ، وقيل : إلى ما فوقه وهو مقام (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) . ولا يلزم من تعدّد الواقعة فرض الصلاة كل مرة كما
__________________
وخروج الدجّال
ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى عليهالسلام من السماء ، ....
____________________________________
توهّم ابن القيّم
معترضا .
(وخروج الدجّال ويأجوج ومأجوج) كما قال الله
تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ
يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) . أي يسرعون (وطلوع الشمس من مغربها) كما قال الله تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا
يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمانِها خَيْراً) . أي لا ينفع الكافر إيمانه في ذلك الحين أي طلوع الشمس من
المغرب ، ولا الفاسق الذي ما كسب خيرا في إيمانه ، أو توبته يعني لا ينفع نفسا
إيمانها ولا كسبها الإيمان إن لم تكن آمنت من قبل ، أو كسبت خيرا. (ونزول عيسى عليهالسلام من السماء) كما قال الله تعالى : (وَإِنَّهُ) أي عيسى (لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) أي علامة القيامة ، وقال الله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا
لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي قبل موت عيسى عليهالسلام بعد نزوله عند قيام الساعة فتصير الملل واحدة وهي ملّة
الإسلام الحقيقة.
وفي نسخة : قدّم
طلوع الشمس على البقية وعلى كل تقدير فالواو لمطلق الجمعية ،
__________________
____________________________________
وإلا فترتيب
القضية أن المهدي عليهالسلام يظهر أولا في الحرمين الشريفين ، ثم يأتي بيت المقدس فيأتي الدجال ويحضره في ذلك الحال
فينزل عيسى عليهالسلام من المنارة الشرقية في دمشق الشام ويجيء إلى قتال الدجّال
فيقتله بضربة في الحال ، فإنه يذوب كالملح في الماء عند نزول عيسى عليهالسلام من السماء ، فيجتمع عيسى عليهالسلام بالمهدي رضي الله عنه ، وقد أقيمت الصلاة فيشير المهدي
لعيسى بالتقدّم ، فيمتنع معلّلا بأن هذه الصلاة أقيمت لك ، فأنت أولى بأن تكون الإمام في هذا المقام ويقتدي به
ليظهر متابعته لنبيّنا صلىاللهعليهوسلم كما أشار إلى هذا المعنى صلىاللهعليهوسلم بقوله : «لو كان عيسى حيّا ما وسعه إلا اتّباعي» .
وقد بيّنت وجه ذلك
عند قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ
مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
رَسُولٌ) . الآية. في شرح الشفاء وغيره ، وقد ورد أنه يبقى في الأرض
أربعين سنة ، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ، ويدفنونه على ما رواه الطيالسي في مسنده ، وروى غيره أنه يدفن بين
النبي صلىاللهعليهوسلم والصدّيق رضي الله عنه ،
__________________
وسائر علامات يوم
القيامة على ما وردت به الأخبار الصحيحة حق كائن ، والله ....
____________________________________
وروي أنه يدفن بين
الشيخين فهنيئا للشيخين ، حيث اكتنفا بالنبيين ، وفي رواية أنه
يمكث سبع سنين قيل : وهي الأصح ، والمراد بالأربعين في الرواية الأولى
مدة مكثه قبل الرفع وبعده ، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة ، وفي شرح العقائد
الأصح أن عيسى عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس ، ويؤمّهم ويقتدي به المهدي ، لأنه
أفضل وإمامته أولى. انتهى.
ولا ينافي ما
قدّمناه كما لا يخفى ، ثم يظهر يأجوج ومأجوج فيهلكهم الله أجمعين ببركة دعائه
عليهم ، ثم يموت المؤمنون وتطلع الشمس من مغربها ، ويرفع القرآن كما روى ابن ماجة من
حديث حذيفة يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ، أي أطرافه حتى لا يدري صيام ولا
صلاة ولا نسك ولا صدقة ، ويسري على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله عنه
قال : اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع ، قالوا : هذه
المصاحف ترفع فكيف ما في الصدور؟ قال : يغدي عليهم ليلا فيرفع من صدورهم فيصبحون
يقولون : لكنّا نعلم شيئا ثم يقعون في الشعر.
وقال القرطبي :
وهذا إنما يكون بعد موت عيسى عليه الصلاة والسلام ، وبعد هدم الحبشة الكعبة ،
وتفاصيل هذه الأحوال ليس هذا المحل محل بيان بسطها ، وكذا ما أبهم الإمام الأعظم رحمهالله بقوله : (وسائر علامات يوم القيامة) إذ يكفي الإيمان
الإجمالي بما في الكتاب والسّنّة (على ما وردت) أي على وفق ما جاءت (به الأخبار
الصحيحة) ، بل الآيات الصريحة بالنسبة إلى بعض شرائطها (حق كائن) أي ثابت وأمر
قويم (والله
__________________
تعالى يهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم.
____________________________________
(تعالى يهدي من
يشاء إلى صراط مستقيم) أي من جمال فضله ، وإن كان سبحانه كما قال : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ). عموم الأنام بمقتضى عدله ، فختم الإمام الأعظم معتقده
بالهداية الخاصة الخالصة فنفتدي به في طلب حسن الخاتمة باستمرار حالة البداية إلى
مقام النهاية مقرونا بعين العناية ، وزين الحماية عمّا يؤدّي إلى الضلالة والغواية
، فنسأل الله العفو والعافية ودوام الرعاية.
____________________________________
فصل
ثم اعلم أن الإمام
الأعظم رحمهالله صنّف الفقه الأكبر في حال الحياة والوصية عند الممات ، وقد
ذكرت عبارتهما مستوفاة وهنا مسائل ملحقات لا بدّ من ذكرها في إتيان الاعتقادات ،
ولو كانت من الأمور الخلافيات لتتم بها المقاصد وتكمل بها العقائد.
وذلك لأن حدّ أصول
الدين علم يبحث فيه عما يجب الاعتقاد ، وهو قسمان : قسم يقدح الجهل به في الإيمان
كمعرفة الله تعالى وصفاته الثبوتية والسلبية ، والرسال والنبوّة وأمور الآخرة ،
وقسم لا يضرّ كتفضيل الأنبياء على الملائكة فقد ذكره السبكي في تأليف له لو مكث
الإنسان مدة عمره لم يخطر بباله تفضيل النبي على الملك لم يسأله الله عنه. انتهى.
وعرف صاحب المقاصد
علم الكلام : بأنه العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية ، فالقسم الثاني من
الملحقات فمن شاء على ما قدّمناه ومن شاء زيادة الفائدة منها فليتعلق بما ألحقناه (فمنها)
تفضيل بعض الأنبياء على بعضهم وهو قطعي بحسب الحكم الإجمالي. حيث قال الله تعالى :
(تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) . وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا
بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) . أي بمزيد العلم اللدني لا بوفور المال الدنيّ ، وأما بحسب
الحكم التفصيلي فالأمر ظني ، والمعتقد المعتمد أن أفضل الخلق نبيّنا حبيب الحق ،
وقد ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك ، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه : إن الله فضّل
محمدا على أهل السماء ، وعلى الأنبياء ، وفي حديث مسلم والترمذي عن أنس رضي الله عنه : «أنا سيد
ولد آدم يوم القيامة ولا فخر» . زاد
__________________
____________________________________
أحمد والترمذي
وابن ماجة عن أبي سعيد «وبيدي لواء الحمد ولا فخر ، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه
إلا تحت لوائي ، وأنا أول من تنشقّ عنه الأرض ، ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأول
مشفع ، ولا فخر» .
وروى الترمذي عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ولفظه : «أنا أول من تنشقّ عنه الأرض فأكسى حلّة من
حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش ، وليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري» . وأما ما ورد من حديث : فلا تخيّروني على موسى عليه الصلاة والسلام ، ولا تفضلوا بين الأنبياء وما ينبغي للعبد أن يقول : أنا خير من يونس ابن متّى ، فمؤوّل بما بينّاه في المرقاة شرح المشكاة ، ومجمله. أن
المنع إنما هو مخصوص بما يجرّ إلى المنقصة أو الخصومة ، وأما ما ذكره النووي في شرح مسلم
__________________
____________________________________
من أنه ورد قبل
العلم ، أو محمول على التواضع فما استحسنه الجمهور.
قال شارح عقيدة
الطحاوي : وأما حديث لا تفضلوني على يونس بن متّى فقال بعض الشيوخ : لا أفسّره حتى
أعطى مالا جزيلا فلما أعطوه فسّره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقرب
محمد من الله تعالى ليلة المعراج وعدّوا هذا تفسيرا عظيما ، وهذا يدلّ على جهلهم
بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم إلى أن قال : وهل يقول مؤمن إن مقام الذي أسري به إلى ربّه
وهو معظّم كريم كمقام الذي ألقي في بطن الحوت ، وهو مليم وأين المكرّم المقرّب من
الممتحن المؤدّب ، فهذا في غاية التقريب ، وهذا في غاية التأديب ، وهل يقام هذا
الدليل على نفي علوّ الله تعالى على خلقه بإثبات الأدلة الصحيحة القطعية الصريحة
التي تزيد على ألف . انتهى.
ولا يخفى أنه لا
مرية في أن مقام الإسراء أعلى وأغلى من ميقات موسى فضلا عن مقام يونس بن متّى عليه
الصلاة والسلام ، وإنما الكلام على أن قربه سبحانه يستوي بكلّ منهم في كل حال
ومقام كما يدلّ عليه قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ) . وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) . وأما علوّه تعالى على خلقه المستفاد من نحو قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) . فعلوّ مكانة ومرتبة لا علوّ مكان كما
__________________
____________________________________
هو مقرّر عند أهل
السّنّة والجماعة ، بل وسائر طوائف الإسلام من المعتزلة والخوارج وسائر أهل البدعة
إلا طائفة من المجسّمة وجهلة من الحنابلة القائلين بالجهة تعالى الله عن ذلك علوّا
كبيرا.
وقد أغرب الشارح
حيث قال : في قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) في ذلك إثبات صف العلو لله تعالى. انتهى. وغرابته لا تخفى
إذ النزول والتنزيل تعديتهما بعلى ، والمراد بنزوله هاهنا من جهة السماء على أن
الكلام في علوّ الكلام على قلب الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ولا نزاع في هذا المقام ولا يلزم من ذلك علوّ المكان
للملك العلّام ، وأما قوله : وكلام السّلف في إثبات صفة العلوّ كثير جدّا بعد ما
ذكر بعض الآيات والأحاديث الدالّة على صفة الفوقية ، ونعت العلويّة فمسلم إلا أنه
مؤوّل كله بعلو المكانة ، ثم قال : ومنه ما روي عن أبي مطيع البلخي رحمهالله أنه سأل أبا حنيفة رحمهالله عمّن قال لا أعرف ربّي في السماء هو أم في الأرض ، فقال :
قد كفر لأن الله تعالى يقول : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) . وعرشه فوق سبع سماوات.
قلت : فإن قال إنه
على العرش ، ولكن لا أدري العرش في السماء ، أم في الأرض ، قال : هو كافر لأنه
أنكر كونه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر لأن الله تعالى في أعلى
علّيّين ، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل . انتهى.
__________________
____________________________________
والجواب أنه ذكر
الشيخ الإمام ابن عبد السلام في كتاب حلّ الرموز أنه قال : «الإمام أبو حنيفة رحمهالله : من قال لا أعرف الله تعالى في السماء هو ، أم في الأرض
كفر ، لأن هذا القول يوهم أن للحق مكانا ، ومن توهّم أن للحق مكانا فهو مشبّه» انتهى. ولا شك أن ابن عبد السلام من أجلّ العلماء وأوثقهم
فيجب الاعتماد على نقله لا على ما نقله الشارح مع أن أبا مطيع رجل وضّاع عند أهل
الحديث ، كما صرّح به غير واحد.
والحاصل أن الشارح
يقول بعلو المكان مع نفي التشبيه وتبع فيه طائفة من أهل البدعة ، وقد تقدم عن أبي
حنيفة رحمهالله أنه يؤمن بالصفات المتشابهات ، ويعرض عن تأويلها وينزّه الله
تعالى عن ظواهرها ويكل علمها إلى عالمها كما هو طريقة السّلف ، وكثير من الخلف
ومذهبهم أسلم وأعلم وأحكم ، ولقد أغرب حيث قال : المكانة تأنيث المكان ، وأراد أنهما واحد في المعنى ، ولم يفرّق بين المنزلة
المعنوية وبين المرتبة الحسّيّة مع أنه أورد ما جاء في الأثر إذ أحبّ أحدكم أن
يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله فيه؟ فإن الله ينزل العبد من
نفسه حيث أنزله العبد من قلبه ، ثم قال : وهو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته
وتعظيمه وغير ذلك. انتهى. فهو من قبيل ما ورد في قوله عليه الصلاة والسلام : حبّك
الشيء يعمي ويصمّ ، وقد ثبت عن إمام الحرمين في نفي صفة العلوّ قوله كان
الله ولا عرش وهو الآن على ما كان ، ومما
__________________
____________________________________
ينقض القول
بالعلوّ المكاني وضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض إجماعا ، وأما قول
بشر المريسي في حال سجوده سبحان ربّي الأعلى والأسفل ، فهو زندقة وإلحاد في أسمائه
تعالى ، ومن الغريب أنه استدلّ على مذهبه الباطل برفع الأيدي في الدعاء إلى السماء
، وهو مردود لأن السماء قبلة الدعاء بمعنى أنها محل نزول الرحمة التي هي سبب
أنواع النعمة ، وهو موجب دفع أصناف النقمة ، ولو كان الأمر كما قال هذا القائل في
مدعاه الباطل لوقع التوجّه بالوجه إلى السماء ، وقد نهانا الشارع عن ذلك حال
الدعاء لئلا يتوهّم أن يكون المدعو في السماء كما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) . وقوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) . وقد ذكر الشيخ أبو معين النسفي إمام هذا الفن في التمهيد
له من أن المحقّقين قرّروا أن رفع الأيدي إلى السماء في حال الدعاء تعبّد محض ،
قال الشارح العلّامة السغناقي : هذا جواب عمّا تمسك به غلاة الروافض واليهود
والكرامية ، وجميع المجسّمة في أن الله تعالى على العرش هذا ، وقيل : إن العرش جعل
قبلة للقلوب عند الدعاء ، كما جعلت الكعبة قبلة للأبدان في حال الصلاة ، وقد سبق
أن هذا مما لا وجه له ، فإنه مأمورا باستقبال القبلة أيضا حال الدعاء وبرفع الأيدي
إلى السماء ، وبعدم رفع الوجه إلى جهة العلو ، فالوجه ما قدّمناه مع أن التوجّه
الحقيقي إنما يكون بالقلب إلى خالق السماء ، نعم نكتة رفع الأيدي إلى السماء أنها
خزائن أرزاق العباد ، كما قال الله تعالى : (وَفِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ) الآية. مع أن الإنسان مجبول على الميل إلى التوجّه
__________________
____________________________________
إلى جهة يتوقع
منها حصول مقصوده كالسلطان إذا وعد العسكر بالأرزاق فإنهم يميلون إلى التوجّه نحو
جنوب الخزينة ، وإن تيقنوا أن السلطان ليس فيها.
ثم جدّه عليه
الصلاة والسلام إبراهيم أفضل بعده ، ففي الصحيح خير البريّة إبراهيم عليهالسلام فخصّ منه نبيّنا صلىاللهعليهوسلم بقوله على ما رواه الترمذي أن إبراهيم خليل الله ألا وأنا
حبيب الله فبقي الباقي على عمومه.
واعلم أن الخلّة
كمال المحبة وأنكر الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين زعما منهم أن المحبة لا تكون
إلا لمناسبة بين المحبّ والمحبوب ، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة
، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية ، فضحّى به خالد بن عبد الله
القسري أمير العراق والمشرق
__________________
____________________________________
بواسط خطب الناس
يوم الأضحى ، فقال : يا أيها الناس! ضحّوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحّ بالجعد بن
درهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا [ولم يكلم موسى تكليما] ، ثم نزل فذبحه ، وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء الدين ، والمعتقد أن
محبة الله وخلّته كما يليق به كسائر صفاته ، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك ، ثم نوح
وموسى وعيسى عليهمالسلام أفضل من سائر الأنبياء والخمسة هم أولو العزم من الرّسل
عند جمهور العلماء ، وقد جمعهم الله تعالى في موضعين من كتابه حيث قال الله تعالى
: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ
الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا
بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى) . أي ابن مريم فبدأ بنوح عليهالسلام لأنه أول المرسلين ، ثم نبيّنا صلىاللهعليهوسلم لأنه خاتم النبيّين ، ثم ذكر ما بينهما من الثلاثة ،
والظاهر أن نوحا عليهالسلام أفضل ، ثم موسى عليهالسلام ، ثم عيسى عليهالسلام لما سبق من تخصيص إبراهيم الخليل عليهالسلام.
وقال شيخ مشايخنا
الجلال السيوطي رحمهالله : لم أقف على نقل أي الثلاثة أفضل. انتهى. وقال الله عزوجل في موضع آخر : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ
النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ) . بترتيب الأربعة وفق الوجود ، وقدّم نبيّنا صلىاللهعليهوسلم لتقدّم رتبته في عالم الشهود. ثم إنه صلىاللهعليهوسلم مبعوث إلى كافّة الأنام كما ينته في غير هذا المقام.
ومن جملة الأدلة
قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي
نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ
__________________
____________________________________
نَذِيراً) . وقوله سبحانه : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ
إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) . والله تعالى أعلم. وحديث مسلم : بعثت إلى الخلق كافّة فإن قيل : ما معنى قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً
لِلْعالَمِينَ) . وقد جاء عليهالسلام بالسيف للمعاندين والظالمين ، فالجواب : ما قال الزمخشري
على وجه المثال : أنه سبحانه فجّر عينا غديقة فيسقي ناس مواشيهم وزروعهم بمائها
فيفلحون ويبقى ناس مفرطون عن السقي فيضيعون فالعين في نفسها نعمة من الله ورحمة
للفريقين ، لكن الكسلان جعلها محنة على نفسه حيث حرمها ولم ينفعها هذا ، وفي شرح
العقائد أن الاستدلال بقوله عليه الصلاة والسلام : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر ضعيف لأنه لا يدلّ على كونه أفضل من آدم عليهالسلام ، بل من أولاده. انتهى ، وفيه أن من أولاده من هو أفضل منه
كإبراهيم عليهالسلام فيكون نبيّنا أفضل منه بلا نزاع مع أنه قد يراد بولد آدم
الجنس الإنساني ، كما ورد «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني» الحديث القدسي ، وقد جاء في أول حديث الشفاعة «أنا سيد
الناس يوم القيامة» . كما ذكره القونوي ، ثم قال : بل الأولى أن يستدل بقوله
تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) انتهى. ولا يخفى عدم قوة هذا
__________________
____________________________________
الاستدلال بالنسبة
إلى ما قدّمناه من الأقوال ثم بيانه أنه لمّا كانت أمته عليه الصلاة والسلام خير
الأمم كان هو خير الأنبياء ، كما أشار إليه صاحب البردة إلا أنه عكس القضية في
محصول الزبدة حيث قال :
لمّا دعا الله
داعينا لطاعته
|
|
بأكرم الرّسل
كنّا أكرم الأمم
|
وهذا من جهة
المنقول ، وأما من جهة المعقول فكما أفاده العلّامة القونوي في شرح عمدة النسفي من
أن الإنسان إما أن يكون ناقصا كالعوامّ من الجهلاء ، أو كاملا غير قادر على
التكميل كالأولياء ، أو كاملا مكمّلا كالأنبياء عليهمالسلام ، وهذا الكمال والتكميل في القوّتين النظرية والعملية ورأس
الكمالات في القوة النظرية معرفة الله تعالى ، وفي القوّة العملية طاعة الله تعالى
، ومن كانت مرتبته في كمالات هاتين المرتبتين أعلى كانت ولايته أكمل ، ومن كانت
درجته في تكميله الغير في هاتين المرتبتين أعلى كانت نبوّته أكمل ، فإذا ثبت هذا.
فنقول : عند مقدم
محمد صلىاللهعليهوسلم كانت الشرائع بأسرها مندرسة والحكم بأجمعها منطمسة وآثار
الظلم بادية وأعلام الجور باقية والكفر قد طبق الأرض بأكنافها والباطل ملأها
بأطرافها فالعرب اتخذوا الأصنام آلهة ووأد البنات شريعة لازمة والسعي في الأرض
بالفساد عادة دائمة ، وسفك الدماء طبيعة فاسحة والنهب والإغارة تجارة رابحة والفرس
اشتغلوا بعبادة النيران ووطئ الأمهات والروم مثابرون على تخريب البلاد وتعذيب من
ظفروا به من العباد ومواظبون على الركض في أطراف الأرض من الطول إلى العرض دينهم
عبادة الأصنام ودأبهم ظلم الأنام وجمهور الهند لا يعرفون إلّا عبادة الأوثان
وإحراق أنفسهم بالنيران واليهود مشتغلون بالتحريف والتشبيه وتكذيب المسيح والنصارى
بالحلول والتثليث ، فلما بعث رسول الحق الصادق المصدّق المؤيد بالأعلام الباهرة ،
والمعجزات الظاهرة والملّة الغرّاء والحجة البيضاء والدين القويم والصراط المستقيم
داعيا إلى ما يقتضيه العقل الصريح من التوحيد المحض الصحيح والعبادات الخالصة
والسّنن العادلة والسياسات الفاضلة ، ورفض الرسوم الجائرة والعادات الفاسدة زالت
هذه الجهالات الفاحشة والضلالات الباطلة ، وصارت الملّة الحنفية لائحة المنار
باقية الآثار كثيرة الأعيان قوية الأركان في عامّة البلدان ، وانطلقت الألسنة
بتوحيد الملك العلّام ، واستنارت العقول بمعرفة خالق الأنام ، ورجع الخلق من حبّ
الدنيا إلى حبّ المولى ، ولما لم يكن معنى النبوّة إلا تكميل الناقص في القوة
العملية والعملية ، وهذا بسبب
____________________________________
مقدمه صلىاللهعليهوسلم كان أكمل وأظهر وأشمل وأكثر وأشهر مما كان لموسى وعيسى
وغيرهما ، فدعوة موسى مقصورة على بني إسرائيل وهم بالنسبة إلينا كالقطرة إلى البحر
، وما آمن بعيسى إلا شر ذمة قليلون علمنا أنه صلىاللهعليهوسلم أفضل الأنبياء وسيّد الأصفياء ، وسند الأولياء .
ثم قال ونبي واحد
أفضل من جميع الأولياء. وقد ضلّ أقوام بتفضيل الولي على النبي حيث أمر موسى
بالتعلّم من الخضر ، وهو وليّ قلنا : الخضر كان نبيّا وإن لم يكن كما زعم البعض
فهو ابتلاء في حق موسى على أن أهل الكتاب يقولون : إن موسى هذا ليس بموسى بن عمران
، إنما هو موسى بن متان ، ومن المحال أن يكون الولي وليّا بإيمانه بالنبي ، ثم
يكون النبي دون الولي ولا غضاضة في طلب موسى العلم ، لأن الزيادة في العلم مطلوبة.
ومنها : تفضيل
الملائكة فخواصّهم أفضل بعد الأنبياء عليهمالسلام من عموم الأولياء والعلماء رحمهمالله وأفضلهم جبريل عليهالسلام كما في حديث رواه الطبراني : «وعامة الملائكة أفضل من
عامّة المؤمنين لكونهم مجرمين ، والملائكة معصومون» ، وفي المسألة خلاف المعتزلة حيث قالوا : «الملائكة أفضل
من الأنبياء ، ووافقهم من الأشاعرة بعض العلماء ، وتوقف جمع في هذه المسألة ومنهم
الإمام رحمهالله على ما ذكره في آمالي الفتاوى أنه لم يقطع فيها بجواب ،
قلت : فلتكن المسألة ظنيّة لا قطعية ، وهو كذلك بلا شبهة ، فإن قيل : أليس قد كفر
إبليس ، وكان من الملائكة بدلالة أن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا فالجواب :
أنه كما قال الله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِّ
فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) .
وأما هاروت وماروت
فالأصح أنهما ملكان لم يصدر عنهما كفر ولا كبيرة وتعذيبهما إنما هو على وجه
المعاتبة كما يعاتب الأنبياء عليهمالسلام على السهو والزلّة مع أن المشهور أنهما لمّا عابا على بني
آدم صدر عنهم من المعاصي وفق ما جرى به القلم ، وادّعيا أنهما لو ركب فيهما ما ركب
في الإنسان من مقتضيات البشرية لم يرتكبا شيئا من الأمور المنهيّة فركب فيهما
فخرجا عن ماهيّة الملكية وهيئة العصمة الإلهية.
__________________
____________________________________
ثم لا كفر في
تعلّم السحر ، بل في اعتقاد ترتّب الأثر عليه بمعنى جعله مستند إليه ، وفي العمل
به كذا في شرح العقائد. وقال صاحب الروضة : ويحرم فعل السحر بالإجماع ، وأما تعليمه وتعلّمه ففيه
ثلاثة أقوال :
الأول
: الصحيح الذي قطع
به الجمهور أنهما حرامان.
والثاني
: أنهما مكروهان.
والثالث
: أنهما مباحان.
انتهى.
وأما ما ذكره
التفتازاني في شرح الكشاف من أنه لا يروي خلاف في كون العمل به كفرا فيخالفه هذا
الخلاف مع أن بين كلاميه تناقض وتناف ، وفي شرح القونوي : قال بعض أهل السّنّة :
جملة بني آدم أفضل من جملة الملائكة فإن عندنا صاحب الكبيرة كامل الإيمان ، ثم هو
مبتلي بالإيمان بالغيب ، فكان أحقّ من الملائكة. انتهى. ولا يخفى فساده لأن صاحب
الكبيرة الذي هو فاسق بالإجماع كيف يكون أفضل من المعصوم بلا نزاع ، ولعلّ وجهه
أنه من جهة إيمانه الغيبي أفضل من الإيمان الشهودي الحاصل للملائكة ، فتكون
الأفضلية من هذه الحيثية مع ما فيه من المنافاة بأن الإيمان يزيد بالإتقان
والاطمئنان ، وإن الخبر ليس كالعيان والله المستعان.
وأما ما أجابه
القونوي عما تشبث به المعتزلة في تفضيل الملائكة وهو قوله سبحانه وتعالى : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ
يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) . فإن هذا يقتضي أن تكون الملائكة أفضل من المسيح ، أي : لن
يرتفع عيسى عليهالسلام عن العبودية ، ولا من هو أرفع درجة منه بقوله : إن محمدا صلىاللهعليهوسلم أفضل من المسيح عليهالسلام ، ولا يلزم من كون الملائكة أفضل من المسيح عليهالسلام كونهم أفضل من محمد صلىاللهعليهوسلم ، ففيه أنه ينتقض بما تقدّم من أن خواص البشر أفضل من خواص
الملائكة ، فالجواب : الصواب أن الملائكة صيغة جمع ، فيفيد أن جميع الملائكة أفضل
من المسيح ، ولا يقتضي أن يكون كل واحد منهم أفضل من المسيح عليهالسلام ، وإنما فيه الكلام ، والله تعالى أعلم بحقيقة المرام.
__________________
____________________________________
ومنها : تفضيل
سائر الصحابة بعد الأربعة رضي الله عنهم ، فقال أبو منصور البغدادي من أكابر أئمة الشافعية : أجمع أهل السّنّة والجماعة على
أن أفضل الصحابة أبو بكر فعمر فعثمان فعليّ ، فبقية العشرة المبشرة بالجنة ، فأهل
بدر فباقي أهل أحد فباقي أهل بيعة الرضوان بالحديبية ، فباقي الصحابة رضي الله
عنهم. انتهى.
ولعله أراد
بالإجماع إجماع أكثر أهل السّنّة والجماعة لأن الاختلاف واقع بين علي وعثمان رضي
الله عنهم عند بعض أهل السّنّة ، وإن كان الجمهور على الترتيب المذكور هذا ، وقد
روى أصحاب السّنن وصحّحه الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : عشرة في الجنة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير
وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعد بن وقّاص وسعيد بن زيد رضي الله عنهم ، وقد ورد أن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة والحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة ، وأما عدّة أهل بدر فثلاثمائة وبضعة عشر ، وقد روى ابن
ماجة عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال : جاء جبريل ، أو ملك إلى النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : ما تعدّون من شهد بدرا فيكم؟ قال : خيارنا. قال :
كذلك هم عندنا خيار الملائكة ، وروى أبو داود والترمذي وصحّحه أنه صلىاللهعليهوسلم قال : لا يدخل النار أحد ممّن بايع تحت الشجرة .
وبالجملة
فالسابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار أفضل من غيرهم لقوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ
مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ
أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى).
__________________
____________________________________
ومنها تفضيل
التابعين رضي الله عنهم ، فقد قال شيخ الإسلام محمد بن خفيف الشيرازي. واختلف
الناس في أفضل التابعين ، فأهل المدينة يقولون سعيد بن المسيب رضي الله عنه ، وأهل
البصرة يقولون : الحسن البصري رضي الله عنه ، وأهل الكوفة يقولون : أويس القرني
رضي الله عنه ، وقال بعض المتأخرين : الصحيح بل الصواب ما ذهب إليه أهل الكوفة لما
روي من مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن خير التابعين رجل يقال له : أويس» الحديث.
والحاصل أن
التابعين أفضل الأمة بعد الصحابة لقوله عليه الصلاة والسلام : خير القرون قرني ،
ثم الذين يلونهم» .
فنعتقد أن الإمام
الأعظم والهمام الأقدم أبو حنيفة رضي الله عنه أفضل الأئمة المجتهدين ، وأكمل
الفقهاء في علوم الدين ، ثم الإمام مالك رضي الله عنه فإنه من أتباع التابعين ، ثم
الإمام الشافعي رضي الله عنه لكونه تلميذ الإمام مالك رضي الله عنه ، بل تلميذ
الإمام مالك رضي الله عنه ، بل تلميذ الإمام محمد رضي الله عنه ، ثم الإمام أحمد
بن حنبل رضي الله عنه فإنه كالتلميذ للشافعي رحمهالله.
__________________
____________________________________
ومنها : تفضيل
النساء ، فروى الترمذي وصحّحه ، وحسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت
خويلد ، وفاطمة بنت محمد صلىاللهعليهوسلم ، وآسية امرأة فرعون ، رضي الله تعالى عنهنّ ، وفي الصحيحين من حديث علي ، رضي
الله عنه ، خير نسائها مريم بنت عمران ، وخير نسائها خديجة بنت خويلد .
وروى الترمذي ،
موصولا من حديث عليّ رضي الله عنه بلفظ : خير نسائها مريم ، وخير نسائها فاطمة ، رضي الله عنها.
وروى الحارث بن
أسامة في مسنده بسند صحيح لكنه مرسل : «مريم خير نساء عالمها ، وفاطمة خير نساء
عالمها» .
وفي الصحيح ،
فاطمة سيدة نساء هذه الأمة.
وفي رواية النسائي
: «سيدة نساء أهل الجنة» .
لكن أخرج ابن أبي
شيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «فاطمة سيّدة نساء العالمين بعد مريم بنت عمران» . ويؤيده أنه قال بعضهم بنبوّتها ، لكن حكى الإمام
والبيضاوي وغيرهما الإجماع على عدم نبوّتها ، وكذا حديث ابن عساكر عن ابن عباس ،
رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سيدة نساء أهل الجنة مريم بنت عمران ، ثم فاطمة ، ثم
خديجة ، ثم آسية امرأة فرعون» . فهذا في
__________________
____________________________________
الترتيب صريح لو
وجد له سند صحيح.
وعن ابن العماد أن
خديجة إنما فضلت على فاطمة باعتبار الأمومة لا السيادة العمومية ، وقد سئل ابن
داود : أيّ أفضل هي أم أمها؟ قال : فاطمة بضعة النبي صلىاللهعليهوسلم ، فلا نعدل بها أحدا ، يعني من هذه الحيثية لا بالكليّة.
وسئل السبكي فقال : الذي نختاره وندين الله تعالى به أن فاطمة بنت محمد
صلىاللهعليهوسلم أفضل ، ثم أمها خديجة ، ثم عائشة ، وقد صحّح ابن العماد
أيضا أن خديجة أفضل من عائشة لما ثبت أنه صلىاللهعليهوسلم قال لعائشة حين قالت قد رزقك الله خيرا منها ، فقال عليه
الصلاة والسلام لها : «لا والله ما رزقني الله خيرا منها ، آمنت بي حين كذّبني
الناس ، وأعطتني مالها حين حرمني الناس» . ويؤيده أن عائشة أقرأها النبي صلىاللهعليهوسلم السلام من جبريل عليهالسلام ، وخديجة أقرأها السلام جبرائيل من ربها ، إلّا أن حديث كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء
ولا مريم ، وآسية ، وخديجة ، وفضل عائشة على النساء ،
__________________
____________________________________
كفضل الثريد على
سائر الطعام ، على ما ذكره السيوطي في النقاية ، ولفظه : في الجامع الصغير
على ما رواه أحمد ، والشيخان ، والترمذي ، وابن ماجة ، عن أبي موسى ، رضي الله
تعالى عنهم ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران ، الحديث
ظاهر في أن عائشة أفضل أفراد النساء على ما اختاره إمام الفقهاء ، وأما حمله على
العهد بأن المراد بهنّ الأزواج الطاهرات ، ففي مقام البعد ، ثم تقييدهنّ بما عدا
خديجة في غاية من التكلّف والتعسّف ، ولعلّ في وجه التشبيه إشعار بوجه الأفضلية
المشعرة بالجامعية بين أوصاف الأكملية من الفضائل العلمية والشمائل العلمية ، وقال
السيوطي : وفي التفضيل بين خديجة وعائشة ، رضي الله تعالى عنهما ، أقوال : ثالثها
الوقف هذا ، وقد ورد كما رواه الطبراني عن أم سلمة ، رضي الله عنها ، قلت : يا
رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : نساء الدنيا أفضل من الحور
العين كفضل الظهارة على البطانة ، قلت : يا رسول الله وبم ذلك؟ قال : «لصلاتهنّ
وصيامهنّ وعبادتهنّ لله تعالى» .
ومنها القول
بتفضيل أولاد الصحابة ، رضي الله عنهم ، فقال بعضهم : لا نفضل بين الصحابة ، رضي
الله عنهم ، أحدا إلا بالعلم والتقوى والأصح أن فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم
إلا أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها ، فإنهم يفضلون على أولاد أبي بكر وعمر
وعثمان ، رضي الله عنهم لقربهم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهم العترة الطاهرة والذريّة الطيبة الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهّرهم تطهيرا ، كذا في الكفاية.
ومنها : أن الولي
لا يبلغ درجة النبي لأن الأنبياء عليهمالسلام معصومون مأمونون
عن خوف الخاتمة مكرمون بالوحي حتى في المنام وبمشاهدة الملائكة الكرام مأمورون
بتبليغ الأحكام وإرشاد الأنام بعد الإنصاف بكمالات الأولياء العظام ، فما نقل عن
بعض الكرامية من جواز كون الولي أفضل من النبي كفر وضلالة وإلحاد وجهالة ، نعم قد
يقع تردّد في أن مرتبة النبوّة أفضل أم مرتبة الولاية بعد القطع بأن النبي متّصف
بالمرتبتين ، وأنه أفضل من الولي الذي ليس بنبي ، فمنهم من قال بالأول بناء على أن
النبوّة تكميل
__________________
____________________________________
للغير ، وهو بعد
الكمال وفوقه في الجمال ، ويؤيده حديث «فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم» .
ومنهم من قال
بالثاني زعما بأن الولاية عبارة عن العرفان بالله تعالى وصفاته وقرب منه وكرامة
عنده ، والنبوّة عبارة عن سفارة بينه وبين عبده ، وتبليغ أحكامه إليه والقيام
بخدمة متعلقة بمصلحة العبد ، وقاسوا الغائب على الشاهد والخلق على المخلوق فإنهم
شبّهوا الولي بمجالس الملك والنبي بالوزير في قيام أمر الملك ، ولم يعرفوا أن مقام
جمع الجمع حاصل للأنبياء ، ولكلّ أتباعهم من الأصفياء وهو أن لا تحجبهم الكثرة عن
الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة ، وهو فوق مرتبة التوحيد الصرف ، الذي هو مقام عموم
الأولياء ، فقول بعض الصوفية : إن الولاية أفضل من النبوّة معناه أن ولاية النبي أفضل من نبوّته إذ عرفت أن النبوّة
والرسالة أكمل في علو درجته ، وهذا الا ينافي إجماع العلماء على أن الأنبياء أفضل
من الأولياء.
وأما قول بعض
الصوفية أن بداية الولاية نهاية النبوّة فمعناه أن الولاية ما تتحقّق إلا بعد قيام صاحبها بجميع ما
تقرر من عند صاحب النبوّة ، فإن الولي من واظب على الطاعات ولم يرتكب شيئا من
المحرّمات ، فما دام عليه امتثال أمر واجتناب زجر فلا يطلق عليه اسم الولي العرفي
، وإن كان يقال لكل مؤمن : إنه الولي اللغوي ، وأما ما حكي عن ابن العربي من خلاف
ذلك فحسن الظن به أنه من المفتريات عليه المنسوبات إليه .
__________________
____________________________________
ومنها : أن العبد
ما دام عاقلا بالغا لا يصل إلى مقام يسقط عنه الأمر والنهي لقوله تعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ
الْيَقِينُ) . فقد أجمع المفسّرون على أن المراد به الموت ، وذهب بعض
أهل الإباحة إلى أن العبد إذا بلغ غاية المحبة وصفا قلبه من الغفلة واختار الإيمان
على الكفر والنكران سقط عنه الأمر والنهي ، ولا يدخله الله النار بارتكاب الكبائر
، وذهب بعضهم إلى أنه تسقط عنه العبادات الظاهرة وتكون عباداته التفكّر وتحسين
الأخلاق الباطنة ، وهذا كفر وزندقة وضلالة وجهالة ، فقد قال حجة الإسلام : إن قتل
هذا أولى من مائة كافر ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «إذا أحبّ الله عبدا لم
يضرّه ذنب» . فمعناه أنه عصمه من الذنوب ، فلم يلحقه ضرر العيوب ، أو
وافقه للتوبة بعد الحوبة ومفهوم هذا الحديث أن من أبغضه الله فلا تنفعه طاعة حيث
لا يصدر عنه عبادة صالحة ونيّة صادقة. ولذا قيل :
من لم يكن
للوصال أهلا
|
|
فكلّ طاعاته
ذنوب
|
وأما ما نقل عن
بعض الصوفية من أن العبد السالك إذا بلغ مقام المعرفة سقط عنه تكليف العبادة فوجهه
بعض المحقّقين منهم بأن التكليف مأخوذ من الكلفة بمعنى المشقّة والعارف تصدر عنه
العبادة بلا كلفة ومشقّة ، بل يتلذّذ بالعبادة وينشرح قلبه بالطاعة ، ويزداد شوقه
ونشاطه بالزيادة علما بأنها سبب السعادة ، ولذا قال بعض المشايخ : الدنيا أفضل من
الآخرة لأنها دار الخدمة ، والآخرة دار النعمة ومقام الخدمة أولى من مرتبة النعمة .
وقد حكي عن عليّ
كرّم الله تعالى وجهه أنه قال : لو خيّرت بين المسجد والجنة لاخترت المسجد لأنه حق
الله سبحانه ، والجنة حظّ النفس ، ومن ثم اختار بعض الأولياء طول البقاء في الدنيا
على الموت مع وجود اللقاء في العقبى ، والحاصل أن الترقّي فوق التوقف فإنه
كالتدلّي .
__________________
____________________________________
ومنها : أن النصوص
من الكتاب والسّنّة تحمل على ظواهرها ما لم تكن من قبيل المتشابهات فإن فيه خلافا
مشهورا بين السّلف والخلف في منع التأويل وجوازه ، وأما العدول عن ظواهرها إلى
معان يدّعيها الملاحدة والباطنية فزندقة بخلاف ما ذهب إليه بعض الصوفية رحمهمالله تعالى من أن النصوص على ظواهر العبارات إلا أن فيها بعض
الإشارات فهو من كمال الإيمان ، وجمال العرفان كما نقل عن الإمام حجة الإسلام أن
في قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب» . إشارة إلى أن رحمة الله لا تدخل قلبا ارتسخ فيه صفات
سبعية .
ومنها : هل يجوز
رؤية الله تعالى في الدنيا بعين البصر للأولياء؟ فقد جاءني سؤال واقعة حال فيمن
ادّعى ذلك من بعض الأغبياء فكتبت الجواب بحسب ما ظهر لي وجه الصواب وهو إجماع
الأئمة من أهل السّنّة والجماعة على أن رؤيته تعالى بعين البصر جائزة في الدنيا
والآخرة عقلا وواقعة وثابتة في العقبى سمعا ونقلا. واختلفوا في جوازها في الدنيا
شرعا فأثبتها أكثرون ونفاها آخرون ، ثم الذين أثبتوها في الدنيا خصّوا وقوعها له صلىاللهعليهوسلم في ليلة الإسراء على خلاف في ذلك بين السّلف والخلف من
العلماء والأولياء ، والصحيح أنه صلىاللهعليهوسلم إنما رأى ربه بفؤاده لا بعينه كما في شرح العقائد وغيره ، فالقائل بأني أرى الله في
الدنيا بعين بصرية إن أراد به رؤيته في المنام ففي جوازه خلاف مشهور بين علماء
الأنام مع أن الرؤية المنامية لا تكون بالحاسّة البصرية ، بل بالتصوّرات المثالية
أو التمثّلات الخيالية ، وإن أراد بها حال اليقظة فإن قصد به حذف
__________________
____________________________________
المضاف وأراد أنه
يرى أنوار صفاته ويشاهد آثار مصنوعاته ، فهذا جائز بلا مرية كما ورد عن بعض
الصوفية ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله ، أو بعده أو فيه ، أو معه ، وأما من ادّعى هذا المعنى لنفسه من غير تأويل في المبنى
فهو في اعتقاد فاسد ، وزعم كاسد ، وفي حضيض ضلالة وتضليل ، وفي مطعن وبيل بعيد عن
سواء السبيل.
فقد قال صاحب
التعرّف وهو كتاب لم يصنّف
مثله في التصوّف أطبق المشايخ كلهم عن تضليل من قال ذلك ، وتكذيب من ادّعاه هنالك
وصنّفوا في ذلك كتبا ورسائل منهم أبو سعيد الخزاز والجنيد ، وصرّحوا بأن من قال ذلك المقال لم يعرف الله الملك
المتعال ، وأقرّه الشيخ علاء الدين القونوي في شرحه ، وقال : إن صحّ عن أحد دعوى
نحوه فيمكن تأويله بأن غلبة الأحوال تجعل الغائب كالشاهد حتى إذا كثر اشتغال السرّ
بشيء واستحضاره له يصير كأنه حضر بين يديه . انتهى.
ويؤيده حديث
الإحسان : «أن تعبد الله كأنك تراه» . وكذا حديث عبد الله بن عمر حال الطواف : كنّا نتراءى الله
، وقال صاحب عوارف المعارف في كتابه أعلام الهدى وعقيدة أرباب التّقى : أن رؤية
العيان متعذّرة في هذه الدار لأنها دار الفناء ، والآخرة هي دار البقاء فلقوم من
العلماء نصيب من علم اليقين في الدنيا وللآخرة أعلى منهم مرتبة نصيب من عين اليقين
، كما قال قائلهم رأى قلبي ربي. انتهى.
__________________
____________________________________
والحاصل أن الأمة
قد اتفقت على أنه تعالى لا يراه أحد في الدنيا بعينه ، ولم يتنازعوا في ذلك إلا
لنبيّنا صلىاللهعليهوسلم حال عروجه على ما صرّح به في شرح عقيدة الطحاوي ، ثم هذا القائل إن قبل التأويل السابق فيها فبها وإلّا
فإن كان مصمّما على مقوله ولم يرجع بالمنقول عن معقوله فيجب تعزيره وتشهيره بما
يراه الحاكم الشرعي كما يقتضيه تقريره ، فإنه لا يخلو من أن يدّعي ادّعاء مطلقا في
بيانه أو منزّها عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه ، فيكون ممّن افترى على الله كذبا
وهو من أكبر الكبائر ، بل عدّ بعض العلماء الكذب على النبي صلىاللهعليهوسلم كفرا ، فمن أظلم
ممّن كذب على الله أو ادّعى ادّعاء معينا مشتملا على إثبات المكان والهيئة والجهة
من مقابلة وثبوت مسافة وأمثال تلك الحالة ، فيصير كافرا لا محالة ، وهذا مجمل مقال
بعض أرباب العقائد المنظومة :
ومن قال في
الدنيا يراه بعينه
|
|
فذلك زنديق طغا
وتمرّدا
|
وخالف كتب الله
والرّسل كلها
|
|
وزاغ عن الشرع
الشريف وأبعدا
|
وذلك مما قال
فيه إلهنا
|
|
يرى وجهه يوم
القيامة أسودا
|
إشارة إلى قوله
تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ
تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) . وقد نقل جماعة الإجماع على أن رؤية الله تعالى لا تحصل
للأولياء في الدنيا ، وقد قال ابن صلاح وأبو شامة : إنه لا يصدق مدّعي الرؤية في الدنيا حال اليقظة فإنها
شيء منع منه كليم الله موسى عليهالسلام ، واختلف في حصول هذا المرام لنبيّنا صلىاللهعليهوسلم في ذلك المقام ، فكيف يسمع لمن لم يصل إلى مقامهما ، وقال
الكواشي في تفسير سورة النجم ومعتقد رؤية الله تعالى هنا بالعين
لغير محمد صلىاللهعليهوسلم غير مسلم وقال الأردبيلي في كتابه الأنوار : ولو قال إني أرى الله تعالى عيانا في
__________________
____________________________________
الدنيا ، أو
يكلّمني شفاها كفر. انتهى.
لكن الإقدام على
التكفير بمجرد دعوى الرؤية من الصعب الخطير فإن الخطأ في إبقاء ألف كافر أهون من
الخطأ في إفناء مسلم في الفرض ، والتقدير : فالصواب ما قدّمناه من الجواب أنه إن
انضم مع الدعوى ما يخرج به عن عقيدة أهل التّقى فيحكم عليه بأنه من أهل الضلالة
والرّدى والسلام على من اتّبع الهدى.
ومنها : رؤية الله
سبحانه وتعالى في المنام فالأكثرون على جوازها من غير كيفية وجهة وهيئة في هذا
المرام ، فقد نقل أن الإمام أبا حنيفة قال : رأيت ربّ العزّة في المنام تسعا
وتسعين مرة ، ثم رآه مرة أخرى تمام المائة ، وقصتها طويلة لا يسعها هذا المقام.
ونقل عن الإمام
أحمد رضي الله عنه أنه قال : رأيت ربّ العزّة في المنام ، فقلت : يا رب! بم يتقرّب
المتقربون إليك؟ قال : بكلامي يا أحمد. قلت : يا رب! بفهم أو بغير فهم؟ قال : بفهم
وبغير فهم ، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «رأيت ربي في
المنام» . وقد روي عن كثير من السلف في هذا المقام وهو نوع مشاهدة
يكون بالقلب للكرام فلا وجه للمنع عن هذا المرام مع أنه ليس باختيار أحد من الأنام
، وقد ورد عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «رأيت ربي في أحسن صورة» . وفي رواية في صورة شاب ، فقال الإمام الرازي في تأسيس التقديس ، يجوز أن يرى
النبي ربه في المنام في صورة مخصوصة من الأنام ، لأن الرؤيا من تصرفات الخيال ،
وهو غير منفك عن الصور المتخيلة في عالم المثال. انتهى.
وقد قال بعض
مشايخنا : إن الله تعالى سبحانه تجليات صورية في العقبى ، وبه
__________________
____________________________________
تزول كثير من
الإشكالات على ما لا يخفى ، وأما ما ذكره قاضي خان من منع هذا المنام وشدّد في هذا المقام وقوّاه بنقله عن
بعض العلماء الفخام فقد بيّنت جوابه وعيّنت صوابه في المرقاة شرح المشكاة.
ومنها : أن
المقتول ميت بأجله ووقته المقدّر لموته فقد قال الله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا
يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) . وزعم بعض المعتزلة أن الله قد قطع عليه أجله ، كذا عبارة شرح العقائد والصواب
ما في شرح المقاصد من أن القاتل قطع عليه الأجل ، لأن قتل المقتول عندهم فعل
القاتل ، واستدلّوا بالأحاديث الواردة في أن بعض الطاعات يزيد في العمر ، وبأنه لو
كان ميتا بأجله لما استحق القاتل ذمّا ولا عقابا ولا دية ولا قصاصا ، وأجيب عن
الأول بأن الله تعالى كان يعلم أنه لو لم يفعل هذه الطاعة لكان عمره أربعين سنة ،
لكنه علم أنه يفعلها ويكون عمره سبعين سنة فنسبت هذه الزيادة إلى تلك الطاعة
والعبادة بناء على علم الله سبحانه أنه لولاها لما كانت تلك الزيادة ، كذا في شرح
العقائد ، وفيه أنه يعود إلى القول بتعدّد الأجل كما زعم الكعبي من المعتزلة ، والمذهب أنه واحد فالأوجه أن يقال : المراد
بالزيادة والنقصان بحسب الخير والبركة ، أو بالنسبة إلى ما في اللوح المحفوظ مطلق
وهو في علم الله مقيد ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) . (ولا يتوهم) من قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى
عِنْدَهُ) . أنه قدّر أجلان لأن الأجل الحقيقي واحد مآلا ، وأجيب عن
الثاني أن وجوب العقاب والضمان على القاتل تعبّدي لارتكابه المنهي عنه وكسبه الفعل
الذي يخلق الله عقيبه الموت بطريق جري العادة ، فإن القتل فعل القاتل كسبا ، وإن
لم يكن له خلفا ، والموت قائم بالميت ومخلوق الله تعالى لا صنع فيه للعبد تخليقا
ولا اكتسابا ، كذا وقع في شرح العقائد ذكر التعبّد ومعناه إظهار العبودية
__________________
____________________________________
ووجوب التفويض
والتسليم إلى أمر الربوبية ، وفيه أن التعبّد إنما يكون فيما هو غير معقول المعنى
، وما نحن فيه ليس من ذلك المبنى ، ولذا ترك التعبّد في شرح المقاصد.
ثم اعلم أنه
سبحانه قدّر للخلق أقدارا وضرب لهم آجالا. قال الله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) . وقال الله تعالى أيضا : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ
خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) . وفي صحيح مسلم عن ابن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا : أنه عليه الصلاة والسلام قال : قدّر
الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه
على الماء ، وقال الله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) . وقال الله تعالى : (وَما كانَ لِنَفْسٍ
أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قالت أم
حبيبة : اللهمّ متّعني بزوجي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية ، قال : فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : قد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة
لن يعجل شيئا قبل حلّه ، ولن يؤخّر شيئا عن محله ولو كنت سألت الله أن يعيذك من
عذاب النار ، وعذاب القبر كان خيرا وأفضل» .
فالمقتول ميت
بأجله وقد علم الله تعالى وقدّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض ، وهذا يموت بسبب
القتل ، وهذا بالهدم ، وهذا بالهرم ، وهذا بالغرق ، وهذا بالحرق ، وهذا بالقبض ،
وهذا بالإسهال ، وهذا بالسّمّ ، وهذا بالغمّ والله سبحانه خلق الموت والحياة وخلق
أسبابهما ، ولهذا كان أحمد بن حنبل رحمهالله يكره أن يدعى له بطول العمر ، ويقول : هذا أمر قد فرغ منه
، وقد علم من حديث أم حبيبة رضي الله عنها
__________________
____________________________________
أن الدعاء يكون
مشروعا نافعا في بعض الأشياء وإن كان الكل تحت التقدير والقضاء.
ثم اعلم أن الروح
محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة ، وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام أن العالم
محدث ومضى على هذا الصحاب والتابعون حتى نبغت نابغة ممّن قصر فهمه في الكتاب
والسّنّ فزعم أنها قديمة ، واحتجّ بأنها روح من أمر الله تعالى ، وأمره غير مخلوق
وبأن الله تعالى أضافها إليه بقوله : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبِّي) . وبقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) . كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعته وبصره ويده وتوقف آخرون
واتفق أهل السّنّة والجماعة على أنها مخلوقة ، وممّن نقل الإجماع على ذلك محمد بن
نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما رحمهمالله ، واختلف الناس هل تموت الروح أم لا ، فقالت طائفة : تموت
لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، وقال آخرون : لا تموت فإنها خلقت للبقاء وإنما
تموت الأبدان ، وقد دلّ على ذلك الأحاديث الواردة في نعيم الأرواح وعذابها بعد
المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها.
ثم اعلم أن الروح
لها بالبدن خمسة أنواع من التعلّق متغايرة الأحكام ، الأول : تعلقها به في بطن
الأم جنينا ، والثاني : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض ، والثالث : تعلّقها به
في حال النوم فلها به تعلّق من وجه ومفارقة من وجه. والرابع : تعلقها به في البرزخ
فإنها وإن فارقته وتجرّدت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليّا بحيث لا يبقى لها إليه
التفات البتّة فإنه ورد ردّها إليه وقت سلام المسلم عليه ، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه وهذا الرد إعادة خاصة لا توجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
والخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلّقها [بالبدن ولا نسبة لما
قبله
__________________
____________________________________
من أنواع التعلّق
إليه] . إذ [هو تعليق] لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا شيئا من الفساد وليس السؤال في البرزخ للروح وحدها ، كما قال ابن حزم وغيره ، وأفسد منه قول من
قال : إنه للبدن بلا روح ، والأحاديث الصحيحة تردّ القولين .
والحاصل أن أحكام
الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها ، وأحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع
لها ، وأحكام الحشر والنشر على الأرواح والأجساد جميعا.
ومنها : أن الكافر
منعم عليه في الدنيا على رأي القاضي أبي بكر الباقلاني منّا وجماعة من أكابر
المعتزلة حيث خوّله قوى ظاهرة وباطنة ، وجعل له أموالا ممتدة ، كما يشير إليه قوله
تعالى : (فَاذْكُرُوا آلاءَ
اللهِ) ويدلّ عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «الدّنيا سجن
المؤمن وجنّة الكافر» . إلا أن الأشعري قال : إذا كان الأمر الذي ناله في الدنيا
قد حجبه عن الله تعالى فليس بنعمة ، بل هو نقمة ويدلّ عليه قوله تعالى : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ
مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) . والخلاف لفظي فإنها نعمة دنيوية ونقمة أخروية ، ولذا قال
ابن الهمام : الخلق أنها في نفسها نعم ، وإن كانت سبب نقم.
ومنها : أنه لا
يجب على الله شيء من رعاية الأصلح للعباد وغيرها خلافا للمعتزلة ، فقد قال حجّة
الإسلام : لا شك أن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة ، فأما أن يخلقهم في دار
البلاء ويعرّضهم للخطايا ، ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب ، فما في ذلك
عظة لأولي الألباب. انتهى. وأما ما نقل عن معتزلة بغداد من أنهم قالوا الأصلح
تخليد الكفّار في النار ، كما نقل عنهم صاحب الإرشاد
__________________
____________________________________
فغاية في المكابرة
ونهاية في العناد.
ومنها : أن الحرام
رزق لأن الرزق اسم لما يسوقه الله تعالى إلى الحيوان فيتناوله وينتفع به وذلك قد
يكون حلالا ، وقد يكون حراما ، وهذا أولى من تفسيره بما يتغذى به الحيوان لخلوّه
عن معنى الإضافة إلى الله تعالى مع أنه معتبر في مفهوم الرزق ، وذهب المعتزلة إلى
أن الحرام ليس برزق لأنهم فسّروه تارة بمملوك يأكله الملك وأخرى بما لم يمنعه
الشّارع من الانتفاع به ، وذل لا يكون إلّا حلالا ويردّ عليهم أنه يلزم على الأول
أن لا يكون ما يأكله الدواب ، بل العبيد والإماء رزقا وعلى الوجهين الأخيرين من
أكل الحرام طول عمره لم يرزقه الله تعالى أصلا ، ويردّ الوجوه الثلاثة قوله تعالى
: (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) . إذ هو يقتضي أن يستوفي كل رزق نفسه حلالا كان أو حراما
ولا يتصوّر أن لا يأكل إنسان رزقه ، أو يأكل غيره رزقه لأن ما قدّره الله تعالى
غذاء لشخص يجب أن يأكله ويمتنع أن يأكله غيره ، وأما الرزق بمعنى الملك فلا يمتنع
أن يأكله غيره ، ومنه قوله تعالى : (وَمِمَّا
رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) والشيخ أبو الحسن الرستغني وأبو إسحاق الأسفرائيني ما
حقّقنا الخلاف في هذه المسألة ، وقالا : الخلاف لفظي لا حقيقي قيل : وهو الصواب.
ومنها : أن الله
تعالى يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، بمعنى أنه يخلق الضلالة والهداية لأنه الخالق
وحده في الحقيقة لكن قد تضاف الهداية إلى النبي صلىاللهعليهوسلم مجازا بطريق التسبيب كما في قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ
مُسْتَقِيمٍ) . كما تستند إلى القرآن كما في قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي
هِيَ أَقْوَمُ) . وقد يسند الإضلال إلى الشيطان مجازا ، ومنه قوله تعالى : (لَأُغْوِيَنَّهُمْ) . كما يسند الإضلال إلى الأصنام في قوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ) . وإلى غيرها كقوله تعالى :
__________________
____________________________________
(وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُ) وفسّر المعتزلة الهداية ببيان طريق الصواب وهو باطل بقوله
تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ) . الآية ، مع أنه عليه الصلاة والسلام بيّن طريق الإسلام ،
ودعا إلى الهداية جميع الأنام قيل ، والمشهور عند المعتزلة أن الهداية هي الدلالة
الموصلة إلى المطلوب ، فينبغي بقوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) .
ومنها : أن ما هو
أصلح للعبد فليس بواجب على الله سبحانه ، وإلّا لما خلق الكافر الفقير المعذّب في
الدنيا والأخرى ، فإن العدم أصلح له من الوجود في عالم الشهود ، ولمّا كان له
سبحانه منّة على العباد ، وقد قال الله تعالى : (بَلِ اللهُ يَمُنُّ
عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) . ولمّا كان امتنانه على نحو موسى عليهالسلام فوق امتنانه على نحو فرعون ، إذ فعل لكلّ منهما غاية
مقدورة من الأصلح له ، ولمّا كان لسؤال العصمة والتوفيق وكشف الضرّاء والبأساء
والبسط في الخصب والرخاء معنى لأن ما يفعله في حق كل أحد فهو مفسدة له يجب على
الله تركها ، ولعمري أن مفاسد هذا الأصل وهو وجوب الأصلح ، بل أكثر أصول المعتزلة
أظهر من أن تخفى ، وأكثر من أن تحصى ، وذلك لقصور نظرهم في المعارف الإلهية
والعلوم المتعلقة بذاته وصفاته الثبوتية والسلبية ورسوخ قياس الغائب على الشاهد في
طباعهم الدّنيّة القاصرة عن إدراك الحقائق الغيبية ، ثم ليت شعري ما معنى وجوب
الشيء على الله سبحانه ، إذ ليس معناه استحقاق تاركه الذم والعقاب وهو ظاهر لأن
الألوهية تنافي الوجوب في مقام الربوبية ، فإن الوجوب حكم من الأحكام ، والحكم لا
يثبت إلا بالشرع ولا شارع على الشارع فتمّ المرام في أحسن النظام.
ومنها : أن خلف
الوعيد كرم فيجوز من الله تعالى والمحقّقون على خلافه كيف وهو تبديل القول ، وقد
قال الله تعالى : (ما يُبَدَّلُ
الْقَوْلُ لَدَيَ) . أي بوقوع الخلف فيه يعني لا تبديل ولا خلف لقولي فلا [تطمعوا]
أن أبدل وعيدي ، وقد أفردت في المسألة رسالة مستقلة سمّيتها (بالقول السديد
في منع خلف الوعيد).
__________________
____________________________________
ومنها : تجويز
العقاب على الصغيرة سواء اجتنب مرتكبها الكبيرة أم لا لدخولها تحت قوله تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) . ولقوله تعالى : (لا يُغادِرُ
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) . أي عدّها وحصرها والإحصاء إنما يكون للسؤال والجزاء ،
وذهب بعض المعتزلة إلى أنه إذا اجتنب الكبائر لم يجز تعذيبه لا بمعنى أنه يمتنع
عقلا ، بل بمعنى أنه لا يجوز أن يقع لقيام الأدلة السمعية على أنه لا يقع كقوله
تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا
كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) . وأجيب بأن الكبيرة المطلقة هي الكفر لأنه الكامل وجمع الاسم
بالنظر إلى أنواع الكفر ، وإن كانت الكاملة واحدة في الحكم أو إلى إفراده القائمة
على ما تمهّد من قاعدة أن مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد بالآحاد كقولنا
: ركب القوم دوابّهم ولبسوا ثيابهم كذا حقّقه العلّامة في شرح العقائد ، فيكون
التقدير على التقرير الأول : أن تجتنبوا أنواع الكف وفيه أنه يلزم حينئذ أن لا
يجوز العقاب على ما عدا الكفر صغيرة كانت أو كبيرة : اللهمّ إلّا أن يقال : المعنى
نكفّر عنكم سيئاتكم المكتسبة قبل اجتناب الكفر ، فيكون الخطاب للكفرة ، وقيل : يقدّر
فيه الاستثناء بالمشيئة أي نكفّر عنكم سيئاتكم إن شئنا ، وقال شيخنا ومولانا عبد
الله السندي رحمهالله تعالى على ما وجدنا بخطه : إن تقدير الاستثناء يغني عن حمل
الكبائر على الكفر قلت : ما قدّر الاستثناء إلا لتصحيح حمل الكبائر على الكفر دفعا
للزوم المتقدّم إذ لو حمل الكبائر على عمومها لما صحّ الاستثناء للزوم انحصار
الصغيرة تحت المشيئة ، وخروج الكبيرة وهو خلاف نص قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ) الآية. وأيضا يلزم كون الصغيرة تحت المشيئة بشرط اجتناب
الكبائر وليس كذلك ، بل قد تكفّر الصغيرة بمكفّر ، أو بعفو من الله ، ولو كان
صاحبها مرتكب الكبيرة وقال العلّامة مولانا عصام الدين في معنى الآية : أن المعلّق
عليه لتكفير السيئات هو اجتناب عن الكفر ، فيدخل في التكفير الكبائر أيضا ، ولا
خلاف أنها لا تكفّر بمجرد الاجتناب ، فالمغفرة والتكفير لا بدّ له من تعليق آخر
وهو المشيئة عندنا مطلقا والتوبة في الكبائر عند
__________________
____________________________________
المعتزلة ، فالآية
ليست على ظاهرها بالاتفاق فلا تكون تامّة في الدلالة على مطلوبهم ، ولا يخفى أن
حمل (كبائر ما تنهون عنه) على الكفر على كلّ من الوجهين المذكورين في غاية البعد
إذ البلاغة تقتضي أن تجتنبوا الكفر لو جازته وموافقته لعرف البيان ، فالحق أن مدلول
الآية تكفير الصغائر بمجرد الاجتناب عن الكبائر ، وتعليق المغفرة بالمشيئة في آية
أخرى مخصوص بما عدا ما اجتنب معه الكبائر. انتهى. ولا يخفى أن هذا مذهب ثالث مخالف
للمذهبين المسمى بالملفّق ، فكيف يحكم بكونه الحق على الوجه المطلق ، ثم الأظهر أن
الخطاب في الآية للمؤمنين ، وأن الكبائر على معناها المتعارف مما عدا كفر الكافرين
كما يشير إليه قوله تعالى : (كَبائِرَ ما
تُنْهَوْنَ عَنْهُ) والمعنى : إن تجتنبوا كبائر المنهيّات (نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئاتِكُمْ) بالطاعات كما يدلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ
السَّيِّئاتِ) . وسائر الأحاديث الواردة في باب المكفّرات.
ومنها : أن دعاء
الأحياء للأموات وصدقتهم عنه نفع لهم في علوّ الحالات خلافا للمعتزلة تمسّكا بأن
القضاء لا يتبدل ، وكل نفس مرهونة بما كسبت والمرء مجزي بعمله لا بعمل غيره ، وأجيب
بأن عدم تبدّل القضاء بالنسبة إلى الموتى لا ينافي نفع دعاء الأحياء لهم ، فإن ذلك
النفع بالدعاء يجوز أن يكون بالقضاء ، وإن توفيق الأحياء للدعاء لهم يجوز أن يكون
بكسبهم عملا في الدنيا يستحق به مثل ذلك الجزاء فيكون مجزيّا بعمله في الآخرة ،
على أنه قد ورد في الأحاديث الصحيحة من الدعاء للأموات خصوصا في صلاة الجنازة ،
وقد توارثه السّلف وأجمع عليه الخلف فلو لم يكن للأموات فيه نفع لكان عبثا ، بل
جاء في القرآن آيات كثيرة متضمّنة للدعوات للأموات كقوله سبحانه : (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي
صَغِيراً) . وقوله تعالى : (رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِناتِ) . وقوله تعالى : (رَبَّنَا اغْفِرْ
لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) . وعن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه أنه قال : يا رسول
الله! إن أم سعد ماتت ، فأيّ الصدقة أفضل؟ قال عليه الصلاة والسلام : «الماء» فحفر
بئرا وقال :
__________________
____________________________________
هذا لأم سعد . أخرجه أبو داود والنسائي رحمهماالله ، وأما ما ذكر في شرح العقائد من حديث : إن العالم
والمتعلّم إذا مرّا على قرية فإن الله تعالى يرفع العذاب عن مقبرة تلك القرية
أربعين يوما ، فقد صرّح الجلال السيوطي أنه لا أصل له.
قال القونوي : رحمهالله : والأصل في ذلك عند أهل السّنّة أن للإنسان أن يجعل ثواب
عمله لغيره صلاة أو صوما أو حجّا أو صدقة أو غيرها ، والشافعي رحمهالله جوّز هذا في الصدقة والعبادة المالية وجوّزه في الحج ،
وإذا قرئ على القبر فللميت أجر المستمع ، ومنع وصول ثواب القرآن إلى الموتى وثواب
الصلاة والصوم وجميع الطاعات والعبادات غير المالية ، وعند أبي حنيفة رحمهالله وأصحابه : يجوز ذلك وثوابه إلى الميت وتمسّك المانع من ذلك
بقوله تعالى : (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) . وبقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا مات ابن آدم انقطع
عمله» . الحديث. والجواب أن الآية حجة لنا لأن الذي أهدى ثواب عمله لغيره سعى في
إيصال الثواب إلى ذلك الغير ، فيكون له ما سعى بهذه الآية ، ولا يكون له ما سعى
إلا بوصول الثواب إليه فكانت الآية حجّة لنا لا علينا ، وأما الحديث فيدلّ على
انقطاع عمله ، ونحن نقول به ، وإنما الكلام في وصول ثواب غيره إليه والموصل الثواب
إلى الميت هو الله تعالى سبحانه ، لأن الميت لا يسمع بنفسه والقرب والبعد سواء في
قدرة الحق سبحانه ، هذا وقد قال الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ) . وفيه ورد لما قاله بعض المعتزلة إن الدعاء لا تأثير له في
تغيير القضاء ، والجواب أن الدعاء يردّ البلاء إذا كان على وفق القضاء ، والحاصل
أن القضاء المعلّق يتغيّر بخلاف المبرم والله تعالى أعلم.
وأما الدعاء فمخّ
العبادة سواء طابق القضاء أم لا ، فربما يخفّف البلاء ، واختلف في الأفضل هل هو
الدعاء ، أو السكوت والرضاء فقيل : الأول لأنه عبادة في نفسه وهو مطلوب ومأمور
بفعله ، وقيل : السكوت والرضاء والخمود تحت جريان الحكم أتمّ
__________________
____________________________________
رضاء ، ولا يبعد
أن يقال : الأتم هو أن يجمع بينهما بأن يدعو باللسان ، ويكون حامدا في الجنان تحت
الجريان بحكم الحنّان المنّان ، وقيل : الأولى أن يقال إن الأوقات مختلفة ففي
بعضها الدعاء أفضل ، وفي بعضها السكوت أفضل ، والفاصل بينهما الإشارة فمن وجد في
قلبه إشارة إلى الدعاء فهو وقته كما ورد من فتح له أبواب الدعاء فتحت له أبواب
الإجابة ، أو الرحمة ، أو الجنة روايات ، ومن وجد في قلبه إشارة إلى السكوت فهو
وقته كما جاء عن إبراهيم عليهالسلام لمّا قال له جبريل عليهالسلام : ألك حاجة؟ قال : أما إليك فلا ، قال : فسل ربّك ، قال :
حسبي من سؤالي علمه بحالي ، فلم يحترق منه إلّا وثاقه ببركة هذا القول ، وكان في
النار سبعة أيام ، وقيل أربعين يوما. وهو ابن ستة عشر سنة حين ألقي في النار ،
ويجوز أن يقال : ما كان للعباد فيه نصيب ، أو لله تعالى فيه حق. فالدعاء به أولى ،
وما كان فيه حظّ نفس للداعي فالسكوت عنه أولى ، وهذا أعلى وأغلى.
وقال شارح عقيدة
الطحاوي : اتفق أهل السّنّة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين أحدهما ما
تسبّب فيه الميت في حياته ، والثاني : دعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة
والحج على نزاع فيما يصل من ثواب الحج ، فعن محمد بن الحسن رحمهالله : إنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحج للحاج ، وعند
عامّة العلماء ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح ، واختلف في العبادات البدنية
كالصوم وقراءة القرآن والذكر.
فذهب أبو حنيفة رحمهالله وأحمد وجمهور السّلف رحمهمالله إلى وصولها ، والمشهور من مذهب الشافعي رحمهالله ومالك عدم وصولها ، وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى
عدم وصول شيء البتّة لا الدعاء ولا غيره ، وقوله : مردود بالكتاب والسّنّة ، واستدلاله بقوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما
سَعى) . مدفوع بأنه لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره ، وإنما نفي
ملكه بغير سعيه وبين الأمرين فرق بيّن ، فأخبر الله تعالى أنه لا يملك إلا سعيه
وما سعى غيره ، فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبذله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه
وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى ، ومن الأدلة
__________________
____________________________________
الدالّة على وصول
ثواب العبادة المالية حديث جابر رضي الله عنه قال : صلّيت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم عبد الأضحى فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال عليه الصلاة
والسلام : «بسم الله والله أكبر : اللهمّ هذا عني ، وعمّن لم يضحّ من أمتي» . رواه أبو داود والترمذي ، وحديث الكبشين الذين قال عليه
الصلاة والسلام في أحدهما : اللهمّ هذا عن أمتي جميعا ، وفي الآخر : اللهمّ هذا عن
محمد وآل محمد ، رواه أحمد.
والقربة في
الأضحية إراقة الدم ، وقد جعلها لغيره قال : وكذا عبادة الحج بدنية ، وليس المال ركنا فيه ، وإنما هو
وسيلة ، ألا يرى أن المكّي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط
المال ، وهذا هو الأظهر أعني أن الحج غير مركّب من مال وبدن بل بدني محض ، كما قد
نصّ عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين قلت : هذا غير صحيح إذ صحة البدن شرط لوجوب الأداء ، ولهذا
يجب عليه الإحجاج
__________________
____________________________________
أو الإيصاء ، ثم
قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعا بغير أجرة تصل إليه ، وأما لو أوصى بأن يعطي شيء
من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره ، فالوصية باطلة لأنه في معنى الأجرة كذا في
الاختيار . وهذا مبني على عدم جواز الاستئجار على الطاعات ، لكن إذا
أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلّمه ويتعلّمه معونة لأهل القرآن على ذلك كان هذا من جنس
الصدقة عنه فيجوز.
ثم القراءة عند
القبور مكروهة عند أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهمالله في رواية لأنه محدث لم ترد به السّنّة ، وقال محمد بن
الحسن وأحمد في رواية : لا يكره لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى أن يقرأ
على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومنها : أنه لا
يجوز أن يقال يستجاب دعاء الكافر على ما ذهب إليه الجمهور لقوله تعالى : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) . أي في ضياع وخسار لا منفعة فيه ، وفيه أن مورده خاص
بالعقبى فلا ينافي أن يستجاب دعاؤه في أمر الدنيا كما يدل عليه دعاء إبليس وإجابته
سبحانه له في الإمهال ، ويؤيده حديث إن دعوة المظلوم تستجاب ، وإن كان كافرا وإلى
جوازه ذهب أبو القاسم الحكيم وأبو نصر الدبوسي ، قال الصدر الشهيد : وبه يفتى وأما
ما استدلّ به في شرح العقائد بأن الكافر لا يدعو الله تعالى لأنه لا يعرفه ففيه
أنه قد ورد في حقهم قوله تعالى : (دَعَوُا اللهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ
مُقْتَصِدٌ) الآية ، قال أبو حنيفة رحمهالله ، وصاحباه : يكره أن يقول الرجل : أسألك بحق فلان ، أو بحق
أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، ونحو ذلك إذ ليس لأحد على
الله حق ، وكره أبو حنيفة ومحمد رحمهماالله تعالى أن يقول : الدّاعي اللهمّ إني أسألك بمقعد العز من
عرشك ، وأجازه أبو يوسف لما بلغه الأثر فيه قلت قد ورد أيضا : اللهمّ إني أسألك
بحق السائلين عليك ، وبحق ممشاي إليك ،
__________________
____________________________________
فالمراد بالحق
الحرمة ، أو الحق الذي وعده بمقتضى الرحمة .
ومنها : أن الجنيّ
الكافر يعذّب بالنار اتفاقا لقوله تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ
جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) . والمسلم منهم يثاب بالجنة عند أبي يوسف ومحمد رحمهمالله ووافقهما بقية أهل السّنّة والجماعة ويؤيّدهم ما ورد في
سورة الرحمن عند تعداد نعيم الجنان ومنه قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) الآيات. وأبو حنيفة رحمهالله توقف في كيفية ثوابهم لقوله تعالى : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) . من غير أن يقرن به قوله ، ويثبكم بثواب مقيم فقيل : لا
ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا.
وظاهر مذهب أبي
حنيفة رحمهالله التوقّف في كيفية ثوابهم حيث قيل : ليس لهم أكل ولا شرب ،
وإنما لهم شمّ ، ولكنه ليس بصحيح لما ورد التصريح بخلاف ذلك في الأحاديث الكثيرة
ولا توقف له في استحقاقهم الجنة كالملائكة لأن الله تعالى لم يبيّن في القرآن
ثوابهم ، ونحن نعلم يقينا أن الله تعالى لا يضيع إيمانهم فيعطيهم ما شاء مما يناسب
شأنهم هذا ، وتوقعه لعدم الدليل القطعي لا ينافي ترجيح أحد الطرفين بالدليل الظني
، ونقل القونوي أنه سأل الرستغني عن الملائكة هل لهم ثواب وعقاب؟ فقال : نعم لهم
ثواب وعقاب إلا أن عقابهم كعقاب الآدميين وثوابهم ليس كثواب الآدمين ، لأن ثوابهم
التلذّذ بالشمّ ، ثم إن الله تعالى جعل الدنيا وشهواتنا في الدنيا من المأكول
والمشروب ونحوهما ، فكذلك يجعل ثوابنا في الدار الآخرة ، وأما الملائكة فإن الله
تعالى جعل لذّتهم وشهوتهم في الدنيا في طاعتهم لله تعالى وبذلك طابت أنفسهم ، وبها
شبعهم وريّهم ، فكذلك في الآخرة استدلالا بالشاهد فغير مقبول لأن عقاب الملائكة
مخالف لإجماع أهل الملّة ، وأما كون ثوابهم بقاؤهم على لذة طاعتهم فظاهر ، وأما
قصر ثوابنا على اللذّة الظاهرية فممنوع لأن في الجنة يحصل لأهلها التلذّذ بالذكر
والشكر وأنواع المعرفة وأصناف الزلفة والقربة التي نهايتها الرؤية مما ينسى بجنبها
التلذّذ بالشهوات الحسّيّة واللذات النفسية.
__________________
____________________________________
ومنها : أن
الشياطين لهم تصرّف في بني آدم خلافا للمعتزلة حيث يقولون : لا يمكنهم أن يوسوسوا
، وإنما نفس الإنسان توسوسه وهو مردود بقوله تعالى : (الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) وقوله تعالى : (إِنَّ الشَّيْطانَ
لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا
مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) . ولمّا صحّ عنه صلىاللهعليهوسلم أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، ثم الحكمة في أنهم يرونا ، ونحن لا نراهم أنهم خلقوا على
صورة قبيحة ، فلو رأيناهم لم نقدر على تناول الطعام والشراب فستروا عنّا رحمة
علينا في هذا الباب والملائكة خلقوا من النور فلو رأيناهم لطارت أرواحنا لديهم
وأعيننا إليهم ، وأما قول القونوي من أن الجن خلقوا من الريح وأصل الريح أن لا يرى
، فكذا ما خلق منه فغير صحيح لقوله تعالى : (وَالْجَانَّ
خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) .
ومنها : أن ما
أخبر الله تعالى من الجور والقصور والأنهار والأشجار والأثمار لأهل الجنة ، ومن
الزقوم والحميم والسلاسل والأغلال لأهل النار حق خلافا للباطنية والعدول عن ظواهر
النصوص إلى معان يدّعيها أهل الباطن إلحاد ...
ومنها : أن
المجتهد في العقليات والشرعيات الأصلية والفرعية قد يخطئ ، وقد يصيب وذهب بعض
الأشاعرة والمعتزلة إلى أن كل مجتهد في المسائل الشرعية الفرعية التي لا قاطع فيها
مصيب ، والتحقيق أن في المسألة الاجتهادية احتمالات أربعة : الأول أن ليس لله فيها
حكم معين قبل الاجتهاد ، بل الحكم فيها ما أدّى إليه رأي المجتهد ، فعلى هذا قد
تتعدّد الأحكام الحقّة في حادثة واحدة ، ويكون كل مجتهد مصيبا ، والثاني : أن
الحكم معين ولا دليل عليه منه سبحانه ، بل العثور عليه كالعثور على دفينة ،
والثالث أن الحكم معين وله دليل قطعي ، والرابع : أن الحكم معين ، وله دليل ظنّي ،
وقد ذهب إلى كل احتمال جماعة ، والمختار أن الحكم معين وعليه دليل ظنّي إن وجده
المجتهد أصاب ، وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلّف بإصابته كما ذهب بعضهم ممّن ذهب
إلى
__________________
____________________________________
الاحتمالات الثلاث
، وذلك لغموضه وخفائه ، فلذلك كان المخطئ معذورا فلمن أصاب أجران ، ولمن أخطأ أجر
واحد ، كما ورد في حديث آخر إذا أصبت فلك عشر حسنات ، وإن أخطأت فلك حسنة ، ثم الدليل على أن المجتهد قد يخطئ. قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) . أي دون داود إذ الضمير راجع إلى الحكومة أو الفتيا ولو
كان كلّ من الاجتهادين صوابا لما كان لتخصيص سليمان بالذكر فائدة ، وتوضيحه : أن
داود حكم بالغنم لصاحب الحرث بدل إفساده ، وبالحرث لصاحب الغنم ، وحكم سليمان بأن
يكون الغنم لصاحب الحرث فينتفع بها أي بدرّها ونسلها وشعرها وصوفها ، وحكم بدفع
الحرث لصاحب الغنم ، فيقوم صاحب الغنم على الحرث حتى يرجع ويعود كما كان فإذا صار
الحرث كما كان فيرجع ويأخذ كل واحد منهما ملكه وماله ، وهذا كان في شريعتهم ، وأما
في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة رحمهالله وأصحابه سواء كان بالليل أو بالنهار ، إلا أن يكون مع
البهيمة سائق ، أو قائد ، وعند الشافعي رحمهالله يجب ضمان المتلف بالليل إذ المعتاد ضبط الدواب ليلا ، وكان
حكم داود وسليمان عليهمالسلام بالاجتهاد دون الوحي ، وإلا لما جاز لسليمان عليهالسلام خلافه ولا لداود عليهالسلام الرجوع عنه ولو كان كلّ من الاجتهادين حقّا لكان كلّ منهما
قد أصاب الحكم وفهمه ، ولم يكن لتخصيص سليمان عليهالسلام بالذكر وجه ، فإنه وإن لم يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه
دلالة كلية لكنه يدلّ عليه في هذا الموضع بمعونة المقام كما لا يخفى على من له
معرفة بأفانين الكلام ، وهذا مبني على جواز اجتهاد الأنبياء عليهمالسلام وتجويز وقوعهم في الخطأ لكن بشرط أن ينبّهوا حتى ينتبهوا
وقد يجاب بأن المعنى من قوله : ففهمناها سليمان أي الفتوى والحكومة التي هي أحقّ ،
وأولى بدليل قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا
حُكْماً وَعِلْماً) الآية ، فإنه يفهم منه إصابتهما في فصل الخصومات والعلم
بأمر
__________________
____________________________________
الدين ، وبدليل
قول سليمان عليهالسلام غير هذا أوفق للفريقين ، أو أرفق كأنه قال هذا حق وغيره
أحق ، وفيه إيماء إلى أن ترك الأولى من الأنبياء عليهمالسلام بمنزلة الخطأ من العلماء ، فإن حسنات الأبرار سيئات
المقرّبين ولا يخفى أنه لا يتم على من قال باستواء الحكمين ، ثم اعلم أن للأنبياء عليهمالسلام أن يجتهدوا مطلقا وعليه الأكثر ، أو بعد انتظار الوحي
وعليه الحنفية واختاره ابن الهمام في التحرير وإذا اجتهدوا فلا بدّ من إصابتهم
ابتداء ، وانتهاء كما في المسايرة.
ومنها : أن
الإيمان لا يزيد ولا ينقص فإن حقيقة الإيمان وهو التصديق القلبي الذي بلغ حدّ
الجزم والإذعان كما هو المشهور عند الجمهور ، وإن مال شارح العقائد وصاحب المواقف
إلى اعتبار الغالب الذي لا يخطر معه احتمال النقيض ، فهو أيضا لا يتصوّر فيه زيادة
ونقصان حتى أن من حصل له حقيقة التصديق فسواء أتى بالطاعات ، أو ارتكب السيئات
فتصديقه باق على حاله لا تغيّر فيه أصلا ، والآيات الدالّة على زيادة الإيمان
محمولة على ما ذكره الإمام أبو حنيفة رحمهالله أنهم كانوا آمنوا في الجملة ، ثم يأتي فرض بعد فرض ،
فكانوا يؤمنون بكل فرض خاص ، وهذا التأويل بعينه مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما
ففي الكشاف عنه أن أول ما أتاهم به النبي صلىاللهعليهوسلم التوحيد ، فلما آمنوا بالله وحده أنزل الصلاة والزكاة ، ثم
الحج ، ثم الجهاد وازداد إيمانا إلى إيمانهم. انتهى.
وتقديم الحج على
الجهاد سبق قلم من صاحب الكشاف إذ الجهاد فرض قبل الحج بلا خلاف ، وحاصل كلام
الإمام أن الإيمان كان يزيد بزيادة ما يجب الإيمان به ، وهذا مما لا يتصوّر في غير
عصر النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال شارح العقائد
: وفيه نظر ، لأن الاطّلاع على تفاصيل الفرائض ممكن في غير عصر النبي صلىاللهعليهوسلم ، والجواب أن تلك التفاصيل لمّا كان الإيمان بها برمّتها
إجمالا فبالاطّلاع عليها لم ينقلب الإيمان من النقصان إلى الزيادة ، بل من الإجمال
إلى التفصيل فقط بخلاف ما في عصره عليه الصلاة والسلام فإن الإيمان لمّا كان عبارة
عن التصديق بكل ما جاء به النبي صلىاللهعليهوسلم من عند الله ، فكلما ازدادت تلك الجملة ازداد التصديق
المتعلق به لا محالة ، وأما قوله : ولا خفاء في أن التفصيلي أزيد بل أكمل فكونه
أزيد ممنوع ، وأما كونه أكمل فمسلّم إلا أنه غير مفيد ، وأما ما نقل عن إمام
الحرمين كما في شرح المقاصد من أن الثبات والدوام على الإيمان زيادة عليه في كل
ساعة ، وحاصله أنه يزيد بزياد الأزمان لمّا أنه عرض لا يبقى إلا بتجدّد الأمثال
فأجاب عنه شارح العقائد بأن حصول
____________________________________
المثل بعد انعدام
الشيء لا يكون من الزيادة في شيء كما في سواد الجسم مثلا انتهى.
وقد يجاب بأنه
يلزم منه أن من هو أطول عمرا من الأنبياء والأولياء يكون إيمانه أزيد وأكمل من
غيره ولا قائل به مع أن ابن الهمام نقل أن القول بعدم الزيادة والنقصان اختاره من
الأشاعرة إمام الحرمين ، وجمع كثير ، وقيل المراد زيادة ثمرته وبهائه وإشراق نوره
وضيائه في القلب وصفائه ، فإنه يزيد بالأعمال وينقص بالمعاصي ، وفيه نظر ، لأن
كثيرا من الناس تكثر منه الأعمال ولا يحصل له مزيد الأحوال ، وقد توجد المعاصي مع
كمال الإيمان وتحقّق الإيقان لبعض أرباب الكمال ، ولذا لمّا سئل الجنيد أيزني
العارف قال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ
قَدَراً مَقْدُوراً) . وقال بعض المحقّقين : كالقاضي عضد الدين لا نسلّم أن حقيقة التصديق لا تقبل الزيادة والنقصان ، بل
تتفاوت قوة وضعفا للقطع بأن تصديق آحاد الأمة ليس كتصديق النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . ونوقش بأن هذا مسلّم لكن لا طائل تحته إذ النزاع إنما هو
في تفاوت الإيمان بحسب الكمية أي القلة والكثرة فإن الزيادة والنقصان كثيرا ما
تستعمل في الأعداد وأما التفاوت في الكيفية أي القوة والضعف فخارج عن محل النزاع.
ولذا ذهب الإمام
الرازي وكثير من المتكلمين إلى أن هذا الخلاف لفظي راجع إلى تفسير الإيمان ، فإن
قلنا هو التصديق فلا يقبلهما لأن الواجب هو اليقين ، وأنه لا يقبل التفاوت ، وإن
قلنا هو الأعمال أيضا فيقبلهما فهذا هو التحقيق الذي يجب أن يعوّل عليه ، نعم إذا
قيل : الواجب في التصديق ما نعم اليقيني والاعتقاد الجازم المطابق ، وإن كان غير
ثابت حيث يمكن أن يزول بالتشكيك فإن أيمان أكثر العوام من هذا القبيل فإنه حينئذ
يقبل التفاوت في مراتب الإيمان دون مناقب الإيقان ، إلا باختلاف مرتبة علم اليقين
فإنها دون مرتبة عين اليقين ، كما أشار إليه قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) . فإن التصديق بحدوث العالم ليس كالتصديق بطلوع الشمس ،
ولذا ورد في الخبر ليس الخبر كالمعاينة ، وأما قول عليّ كرّم الله وجهه لو كشف الغطاء ما ازددت
__________________
____________________________________
يقينا ، فمحمول
على أصل اليقين فإن مقام العيان فوق مرتبة البيان عند جميع الأعيان ، بل فوقهما
مقام يسمى حق اليقين فالإيمان الغيبي محله الدنيا والعيني في مواقف العقبي والحقي
عند دخول جنة المأوى ، وتحقيق رؤية المولى.
هذا وذكر ابن
الهمام أن الحنفية ومعهم إمام الحرمين لا يمنعون الزيادة والنقصان باعتبار جهات هي
غير نفس ذات التصديق ، بل يتفاوت المؤمن به عند الحنفية ومن وافقهم لا بسبب تفاوت
ذات التصديق ، وروي عن أبي حنيفة رحمهالله أنه قال : إيماني كإيمان جبرائيل عليه الصلاة والسلام ،
ولا أقول : مثل إيمان جبرائيل عليه الصلاة والسلام لأن المثلية تقتضي المساواة في
كل الصفات والتشبيه لا يقتضيه ، بل يكفي لإطلاقه المساواة في بعضه فلا أحد يساوي
بين إيمان آحاد الناس ، وإيمان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام من كل
وجه.
اعلم أن الحديث
المشهور أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص ، والإيمان لا يزيد ولا ينقص كله غير صحيح على ما ذكره
الفيروزآبادي في الصراط المستقيم ، وقد روى ابن ماجة بسنده إلى علي رضي
الله عنه رفعة الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان ، لكن حكم عليه ابن الجوزي بالوضع ، وأما ما رواه الفقيه
أبو الليث السمرقندي في تفسيره عند هذه الآية وهي قوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ
آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ
كافِرُونَ) . فقال الفقيه : حدّثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم [السّاباذي] قالا : حدّثنا فارس بن مردويه ، قال : حدّثنا محمد بن
الفضل بن [العابد] ، قال : حدّثنا يحيى بن عيسى قال : حدّثنا أبو مطيع عن
__________________
____________________________________
حماد بن سلمة عن
أبي [المهزّم] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاء وفد ثقيف إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، فقالوا : يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص ، فقال عليه
الصلاة والسلام : لا الإيمان مكمّل في القلب زيادته ونقصانه كفر ، فقال شارح عقيدة الطحاوي سئل شيخنا الشيخ عماد الدين بن
كثير عن هذا الحديث فأجاب بأن الإسناد من أبي الليث إلى أبي مطيع مجهولون ولا
يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة ، وأما أبو مطيع فهو الحكم بن عبد الله بن
مسلمة البلخي ضعّفه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وعمر بن علي [الفلاس] والبخاري ، وأبو داود والنسائي ، وأبو حاتم الرازي ، وأبو
حاتم محمد بن حبان البستي ، والعقيلي ، وابن عدي والدارقطني ، وغيرهم رحمهالله تعالى ، وأما أبو [المهزّم] الراوي عن أبي هريرة رضي الله
عنه فقد تصحف على الكاتب ، واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة
بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال : لو أعطوه فلسين
لحدّثهم سبعين حديثا .
ومنها : أن
الإيمان والإسلام واحد لأن الإسلام هو الخضوع والانقياد بمعنى قبول الأحكام
الشرعية ، وذلك حقيقة التصديق على ما مرّ ، كذا في شرح العقائد ، وفيه بحث لأن الانقياد
الباطني هو التصديق والانقياد الظاهري هو الإقرار ، والتغاير بينهما حاصل في
الاعتبار ، وأما قوله يؤيده قوله تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ
كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ) . ففيه أن ذلك لا يقتضي إلا صدق المؤمن والمسلم على من تبعه
، وذلك لا يقتضي اتحاد مفهوميهما لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة [و] عدم تغايرهما بمعنى أنه لا ينفك أحدهما عن الآخر في اعتبار
حكمهما لا باعتبار مفهوميهما ، ولهذا لا يصحّ أن يحكم على أحد بأنه مؤمن ، وليس
بمسلم ، أو
__________________
____________________________________
مسلم وليس بمؤمن
لأن الناس كانوا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ثلاث فرق مؤمن ومنافق وكافر ليس فيهم رابع ، فالمؤمن
من أيّ الفرق كالحشوية والظاهرية لا يصحّ أن يقال إنه من الكافرين للإجماع على خلافه
، ولقوله سبحانه : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ
إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الآية ، فإن قالوا : إنه من المؤمنين تركوا مذهبهم ، وإن
قالوا من المنافقين فيكون الإسلام هو النفاق عندهم فينبغي أن لا يقبل غير النفاق
لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ
الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) . وكذا يجب أن يكون مرضيا لقوله تعالى : (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، وأما قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) . فظاهر في التغاير بينهما باعتبار اختلاف اللغة في
مفهوميهما وحاصلهما أن الإسلام المعتبر في الشرع لا يوجد بدون الإيمان وهو في
الآية بمعنى الانقياد الظاهر من غير انقياد الباطن بمنزلة المتلفّظ بكلمة الشهادة
من غير تصديق معتبر في حق الإيمان ، وأما قوله صلىاللهعليهوسلم في جواب جبرائيل عليهالسلام الإسلام : أن تشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول
الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت الحديث ، فدليل على مغايرته للإيمان المفسّر في ذلك الحديث
بقوله عليه الصلاة والسلام : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلخ ... وفق
الاستعمال اللغوي ، وهو لا يخالف الاصطلاح الشرعي من اعتبار جمعهما غايته أن
الإيمان هو التصديق القلبي من الانقياد الباطني ، والإسلام هو إظهار ذلك الانقياد
الباطني بالإقرار اللساني والإذعان للأحكام الإسلامية فلا يشكل بإدخال إقامة
الصلاة وإيتاء الزكاة في مفهوم الإسلام على ما عليه أهل السّنّة والجماعة من أن
عمل الطاعات خارج عن حقيقة الإيمان والإسلام ، نعم ظاهر الحديث يؤيد قول الجمهور
من أن الإقرار شرط الإيمان لا أنه شطر وركن من الإيمان وأنه يحتمل السقوط في بعض
الأحيان على أن القائلين بعدم اعتبار الإقرار اتفقوا على أن يعتقد أنه متى طولب به
أتى به ، فإن طولب به فلم يقرّ فهو كفر عناد ، وهذا معنى ما قالوا : ترك العناد
شرط وفسّروه به كما حقّقه ابن الهمام.
والحاصل أنه لا
بدّ من وجودهما حتى يحكم على أحد بأنه من أهل الإيمان ،
__________________
____________________________________
ولهذا عبّر
الشّارع بالإيمان عن الإسلام تارة وبالإسلام عن الإيمان أخرى كما في قوله عليه
الصلاة والسلام لقوم وفدوا عليه : أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا : الله ورسوله
أعلم. قال عليه الصلاة والسلام شهادة أن لا إله إلّا الله ، وأن محمدا رسول الله
أي عبده ورسوله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ، وفي قوله عليه الصلاة والسلام : «الإيمان بضع وسبعون
شعبة أعلاها قول : لا إله إلّا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق الحديث» . وروي لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة .
ومنها : أن العقل آلة للمعرفة ، والموجب هو الله تعالى في
الحقيقة ، ووجوب الإيمان بالعقل مروي عن أبي حنيفة رحمهالله ، فقد ذكر الحاكم الشهيد في المنتقى أن أبا حنيفة رحمهالله قال : لا عذر لأحد في الجهل بخالقه لما يرى من خلق السموات
والأرض وخلق نفسه وغيره ، ويؤيده قوله تعالى : (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي
اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) . وقوله تعالى : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) . وحديث : «كل مولود يولد على فطرة الإسلام فأبواه يهوّدانه
وينصّرانه ويمجّسانه» . قال : وعليه مشايخنا من أهل السّنّة والجماعة حتى قال
الشيخ الإمام أبو منصور الماتريدي في الصبي العاقل : إنه تجب عليه معرفة الله
تعالى ، وهو قول كثير من مشايخ العراق خلافا لكثير من مشايخنا لعموم قوله عليه
الصلاة والسلام : «رفع القلم عن
__________________
____________________________________
ثلاث الصبي حتى
يبلغ أي يحتلم» الحديث. وحمل الشيخ أبو منصور هذا الحديث على الشرائع مع
اتفاقهم على أن إسلام هذا الصبي صحيح ويدعى هو إلى الإسلام كما يدعى البالغ إليه.
وقال الأشعري : لا
يجب لقوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . وأجيب بأن الرسول أعمّ من العقل والنبي وبتخصّص عموم
الآية بالأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلا بالشرع وقيل : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) عذاب الاستئصال في الدنيا.
(حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولاً) والأظهر أن قوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ) لا ينافي الوجوب العقلي الذي لا يترتب على فعله ثواب ولا
على تركه عقاب كما مرّ فتدبّر.
وثمرة الخلاف إنما
تظهر في حق من لم تبلغه الدعوة أصلا بأن كان نشأ على شاهق جبل ولم يسمع رسولا ،
ومات ولم يؤمن بالله فيعذّب عندنا لا عندهم ، ولا يعذّب المجنون الدائم المطبق ،
وكذا الأطفال مطلقا ، وكذا من مات في أيام الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة
والسلام ولم يؤمن بالله فعندنا يعذّب وعندهم لا يعذّب.
ومنها : أنه لا
يوصف الله تعالى بالقدرة على الظلم لأن المحال لا يدخل تحت القدرة ، وعند المعتزلة
يقدر أنه ولكن لا يفعل.
ومنها : أن العبد
إذا وجد منه التصديق والإقرار صحّ له أن يقول : أنا مؤمن حقّا لتحقّق الإيمان ،
ولا ينبغي أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله لأنه إن كان للشك فهو كفر لا محالة ،
وإن كان للتأدّب وإحالة الأمور إلى مشيئة الله تعالى أو للشك في العاقبة والمآل لا
في الآن ، والحال أو للتبرّك بذكر الله والتبرّي عن تزكية نفسه والإعجاب بحاله
فالأولى تركه لما أنه يوهم الشك على ما ذكره شارح العقائد ، فإن صاحب التمهيد والكفاية وغيرهما من العلماء الحنفية كفّروا القائل به ، وحكموا
ببطلان قولهم : أنا مؤمن إن شاء الله تعالى ، وقالوا ذلك لا يصحّ كما لا يصحّ قول
القائل : أنا حيّ إن شاء الله تعالى ، وأنا
__________________
____________________________________
رجل إن شاء الله
تعالى ، وقال صاحب التعديل : فإن لم يثبت الكفر فلا أقل من أن يكون التلفّظ به حراما
أنه صريح في الشك في الحال ، وهو لا يستعمل في المحقّق في الحال حيث لا يقال : أنا
شاب إن شاء الله تعالى ، وفيه أنه وجه الكفر والكذب ، فإن بعضهم ذهبوا إلى الوجوب
، وكثير من السلف حتى الصحابة والتابعين ذهبوا إلى الجواز وهو المحكي عن الشافعي رحمهالله وأتباعه ، وقالوا : إن من شهد لنفسه بهذه الشهادة ينبغي أن
يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحالة ، وفيه أنه لا محظور في هذه المقالة فقد
منعه الأكثرون ، وعليه أبو حنيفة رحمهالله وأصحابه مع أن هذا ليس من قبيل قول القائل : أنا طويل إن
شاء الله تعالى ، بل نظير قولك : أنا زاهد أنا متّق أنا تائب إن شاء الله تعالى ،
إما قاصدا هضم النفس والتواضع ، وهذا إنما يتصوّر في حق الأنبياء أو قاصدا جهله
بحقيقة وجود شروطه ، وهذه الأشياء في الحال ، أو نظرا إلى مشيئة الله تعالى من
احتمال تغيّر الحال في الاستقبال والعياذ بالله من سوء المآل ، ولذا لمّا سئل أبو
يزيد البسطامي رحمهالله تعالى : هل لحيتك أفضل ، أم ذنب الكلب؟ فقال : إن متّ على
الإسلام فلحيتي خير ، وإلا فذنبه أحسن فبهذا تبيّن أن من يقول : أنا مؤمن حقّا أو
قيل له أنت من أهل الجنة حقّا لم يقدر أن يقول نعم ، فإنه من الأمر المبهم والله
تعالى أعلم.
وأما القول
بالتبرّك فمع أنه ظاهر في التشكيك والترديد فبعيد عن الطريق السديد ، وأما ما ذكره
في شرح المقاصد أنه للتأدّب بإحالة الأمور إلى مشيئة الله ، وهذا ليس فيه معنى
للشك أصلا ، وإنما هو كقوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) الآية. وكقوله عليه الصلاة والسلام تعليما : «إذا دخل
المقابر السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» . فمع المناقضة بين كلاميه تلفيق بين الأقوال
__________________
____________________________________
المختلفة ، فإن
الاستثناء في الآية لا يصحّ أن يكون من قبيل إحالة الأمور إلى المشيئة ، بل قيل :
إنه للتبرّك بذكر اسمه سبحانه أو للمبالغة في باب الاستثناء في الأخبار حتى في
متحقّق الوقوع على أنه قد يقال : التقدير لندخلنّ جميعكم إن شاء الله لتأخّر بعض
المخاطبين من أهل الحديبية حيّا أو ميتا عن فتح مكة ، أو معنى إن شاء الله إذا شاء
الله ، وهو تأويل لطيف يردّ ما فيه من إشكال ضعيف ، أو الاستثناء عائد إلى الأمن
لا إلى الدخول ، أو تعليم للعباد ، وكذا الاستثناء في الحديث لا يصحّ أن يكون من
باب إحالة الأمور إلى المشيئة ، فإن اللحوق بالأموات محقّق بلا شبهة بل هو محمول
على تعليم الأمة لاحتمال تغيّرهم في المآل ، أو على أن المراد بقوله عليه الصلاة
والسلام بكم خصوص أهل البقيع مثلا في البلاد ، وقال حجة الإسلام الغزالي : الحاصل
للعبد هو حقيقة التصديق الذي يخرج به عن الكفر ، لكن التصديق في نفسه قابل للشدّة
والضعف ، وحصول التصديق الكامل المنجي المشار إليه بقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) . إنما هو في مشيئة الله سبحانه ، وحاصله أن التصديق
المصحّح لإجراء أحكام الإيمان على العبد في الدنيا حاصل ، والمرء جازم به ، لكن
التصديق الكامل المنوط به النجاة في العقبى أمر خفي له معارضات كثيرة خفيّة من
الهوى والشيطان ، فعلى تقدير حصوله ، والجزم به لا يأمن المؤمن أن يشوبه شيء من
منافاة النجاة من غير علمه بذل فيفوّض علمه إلى مشيئة الله سبحانه ، ولذا قيل :
ينبغي للمؤمن أن يتعوّذ بهذا الدعاء صباحا ومساء : اللهمّ إني أعوذ بك أن أشرك بك
شيئا ، وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم أنك أنت علّام الغيب ، قال ابن الهمام : ولا خلاف في أنه لا يقال إن شاء الله
للشك في ثبوت الإيمان للحال ، وإلا لكان الإيمان منفيّا بل ثبوته في الحال مجزوم
به غير أن بقاءه إلى الوفاة وهو المسمى بإيمان الموافاة غير معلوم ولما كان ذلك هو
المعتبر في النجاة كان هو الملحوظ عند المتكلم في ربطه بالمشيئة ، وهو أمر مستقبل
فالاستثناء فيه اتّباع لقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي
__________________
____________________________________
فاعِلٌ
ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) . انتهى.
ولا يخفى أن ما
نحن فيه ليس داخلا في عموم مفهوم الآية لأنها في الأمر المستقبل وجودا لا بقاء
والكلام في الاستثناء الموجود حالا على احتمال أنه ربما يعرض له حال يوجب له زوالا
، ولهذا مثّل مشايخنا هذا الاستثناء بقوله : أنا شاب إن شاء الله تعالى حيث يحتمل
أنه يصير شيخا ، وهو ليس تحته طائل وإدخاله تحت قوله سبحانه : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ) لا يقول به قائل هذا ، وقال بعضهم : الإيمان الذي يتعقبه
الكفر فيموت صاحبه كافرا ليس بإيمان كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال ،
والصوم الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، وهذا مأخذ كثير من الكلامية من أهل السّنّة
والجماعة وغيرهم ، وعند هؤلاء إن الله يحب في الأزل من كان كافرا إذا علم منه أنه
يموت مؤمنا فالصحابة رضي الله عنهم ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم وإبليس ، ومن
ارتدّ عن دينه ما زال الله تعالى يبغضه ، وإن كان لم يكفر بعد كذا ، ذكره شارح
عقيدة الطحاوي ، وفيه أن الإيمان إذا تحقّق بشروطه كيف يكون كالصلاة التي أفسدها
صاحبها قبل إكمالها ، والصوم الذي يفطر صاحبه قبل الغروب ، ولما بنوا على هذا
الأساس الواهي صار طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة
يقول صلّيت إن شاء الله تعالى ، ونحو ذلك يعني لقبول الله ، ثم صار كثير منهم يستثنون
في كل شيء فيقول أحدهم : هذا ثوب إن شاء الله تعالى ، هذا حبل إن شاء الله تعالى ،
فإذا قيل لهم : هذا لا شك فيه يقولون : نعم لكن إذا شاء أن يغيّره غيره ، وسيأتي
مزيد تحقيق لذلك ، وأما ما أجاب الزمخشري عن قوله : (لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ) من أنه قد يكون الملك قد قاله فأثبت قرآنا أو أن الرسول
قاله فكلاهما باطل لأنه جعل من القرآن ما هو غير كلام الله فيدخل في وعيد من قال :
(إِنْ هذا إِلَّا
قَوْلُ الْبَشَرِ) . والحاصل أن المستثنى إذا أراد الشك في أصل إيمانه منع من
الاستثناء ، وهذا لا خلاف فيه ، وأما إن أراد أنه مؤمن كامل ، أو ممّن يموت على
الإيمان فالاستثناء حينئذ جائز إلا أن الأولى تركه باللسان وملاحظته بالجنان.
ومنها : ما يتفرّع
على هذه المسألة (وهو ما نقل عن بعض الأشاعرة) أنه يصح أن يقول : أنا مؤمن إن شاء
الله تعالى بناء على أن العبرة في الإيمان والكفر والسعادة
__________________
____________________________________
والشقاوة بالخاتمة
حتى أن المؤمن السعيد من مات على الإيمان ، وإن كان طول عمره على الكفر والعصيان
والكافر الشقي من مات على الكفر ، وإن كان طول عمره على التصديق والشكر كما يدلّ
عليه حديث : «إنّ أحدكم ليعمل عمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع ،
فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل عمل أهل النار
حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها
، وإنّما الأعمال بالخواتيم» ، وكما يشير إليه قوله سبحانه وتعالى في حق إبليس : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) حيث دلّت الآية على أن إبليس لم يزل كافرا مع صحة إيمانه
وكثرة طاعاته قبل خلق آدم عليهالسلام حتى عدّ من الملائكة الكرام ، فظهر أن المعتبر هو إيمان
الموافاة الواصل إلى آخر الحياة ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام : «السعيد من سعد
في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه» . فإن المراد بالسعادة فيه السعادة المعتدّ بها لمن علم
الله تعالى أن يختم له بالسعادة ، وكذا في جانب الشقاوة ، ولذا قال أرباب العقائد
: السعيد وهو المتّصف بسعادة الإيمان بظاهر الحال قد يشقى بأن يرتدّ في المآل ،
والشقي قد يسعد في المقال والأفعال ، والتغيّر قد يكون على السعادة والشقاوة دون
الإسعاد والإشقاء ، فإنهما من صفات الله سبحانه وتعالى لأن الإسعاد تكوين السعادة
والإشقاء تكوين الشقاوة ، ولا تغيّر على الله تعالى ولا على صفاته فلا يلزم من
تغيرهما أن يكون علم الله تعالى متغيّرا ، فإن القديم لا يكون محلا للحوادث فعلى
هذا يصحّ أن يقال في قوله تعالى : (وَكانَ مِنَ
الْكافِرِينَ) . أي صار منهم مع أن العارفين قالوا الارتداد علامة عدم
الإسعاد ، فمن رجع فإنما رجع عن الطريق فإن السعيد الحقيقي لم يزل عن التحقيق
وإليه الإشارة بقوله سبحانه : (فَمَنْ يَكْفُرْ
بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا
انْفِصامَ لَها) . أي لا انقطاع لوصلها ، ومن حكم شيخ مشايخنا أبي الحسن
البكري : إذا دخل الإيمان القلب أمن السلب.
__________________
____________________________________
وقال القونوي :
فإن قيل : إنما يجوز الاستثناء للخاتمة ، قلنا : هذا واجب عندنا لكن لا كلام فيه
إنما الكلام في الإيمان ، وإن كفر بعد ذلك أي بعد الإيمان لا يتبيّن أنه لم يكن
مؤمنا قبل الكفر كإبليس ، فالسعيد قد يشقى والشقي قد يسعد ، وعند الأشعري العبرة
للختم ، ولا عبرة لإيمان من وجد منه التصديق في الحال ، ولا كفر من وجد منه
التكذيب للحال فإن كان في علم الله سبحانه ، إن هذا الشخص المعيّن يختم له
بالإيمان فهو للحال مؤمن ، وإن كان كافرا بالله ورسوله ، وإن كان في علمه أنه يختم
له بالكفر يكون للحال كافرا ، وإن كان مصدّقا لله ورسوله وقالوا : إن إبليس حين
كان معلّما للملائكة كان كافرا ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ). أي وكان في سابق علم الله منهم وأجيب عن الآية بأن معناه
وصار من الكافرين.
قال شارح العقائد
: والحق أنه لا خلاف في المعنى يعني بل الخلاف في المبنى ، فإنه إن أريد بالإيمان
والسعادة مجرد حصول المعنى أي الإذعان وقبول العبادة ، فهو حاصل في الحال ، وإن
أريد ما يترتب عليه النجاة والثمرات في المآل فهو في مشيئة الله تعالى لا قطع
بحصوله في الحال ، فمن قطع بالحصول أراد الأول ، ومن فوّض إلى المشيئة أراد الثاني
انتهى. وهو غاية التحقيق ونهاية التدقيق والله تعالى وليّ التوفيق.
ومنها : أن تكليف
ما لا يطاق غير جائز خلافا للأشعري لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) . أي طاقتها واختلف أصحابه في وقوعه ، والأصح عدم الوقوع ،
ثم تكليف ما لا يطاق هو التكليف بما هو خارج عن مقدور البشر كتكليف الأعمى
بالأبصار ، والزمن بالمشي بحيث لو أتي به يثاب ، ولو تركه يعاقب ، وأما التكليف
بما هو ممتنع لغيره كإيمان من علم الله أنه لا يؤمن مثل فرعون وأبي جهل ، وأبي لهب
، وسائر الكفّار الذين ماتوا على الكفر فقد اتفق الكل على جوازه ووقوعه شرعا ،
وأما قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) . فاستعاذة عن تحميل ما لا يطاق لا عن تكليفه إذ عندنا يجوز
أن يحمله جبلا لا يطيقه بأن يلقى عليه فيموت ، ولا يجوز أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو
فعل يثاب ، ولو امتنع يعاقب فلا جرم صحّت الاستعاذة منه بقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا) الآية. وإنما ذكر التحميل في هذه الآية ، والحمل في الآية
الأولى لأن الشاقّ يمكن حمله بخلاف ما لا يكون مقدورا.
__________________
____________________________________
ثم التحقيق أن
للعبد مقامين أحدهما قيامه بظاهر الشريعة ، وثانيهما شروعه في مبدأ المكاشفة وذلك
أن يشتغل بمعرفة الله سبحانه وطاعته وشكر نعمته ففي المقام الأول طلب ترك التثاقل
وفي المقام الثاني قال : لا تطلب مني حمدا يليق بجلالك ، ولا شكرا يليق بكمالك ،
ولا معرفة تليق بحضرتك وعظمتك ، فإن ذلك لا يليق بذكري وشكري وفكري ، ولا طاقة لي
بذلك في جوامع أمري ، ولمّا كانت الشريعة مقدّمة على الحقيقة قدّم الجمل السابقة.
ومنها : أن
الإيمان مخلوق ، أو غير مخلوق اختلف فيه المشايخ الحنفية ، فذهب أهل سمرقند إلى
الأول ، وذهب أهل بخارا إلى الثاني مع اتفاقهم على أن أفعال العباد كلها مخلوقة
لله سبحانه ، وبالغ بعض مشايخ بخارا فكفّروا من قال بأن الإيمان مخلوق ، وألزموا
عليه خلق كلام الله تعالى ، ونقلوا عن نوح بن أبي مريم عن أبي حنيفة رحمهالله أن الإيمان غير مخلوق ، لكن نوح عند أهل الحديث غير معتمد
وعلّل هؤلاء كون الإيمان غير مخلوق بأن الإيمان أمر حاصل من الله للعبد لأنه قال :
بكلامه الذي ليس بمخلوق فاعلم أنه لا إله إلّا الله ، وقال الله تعالى ، (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) ، فيكون المتكلم بمجموع ما ذكر قد قام به ما ليس بمخلوق
كما أن من قرأ القرآن كلام الله الذي ليس بمخلوق ، وهذا غاية متمسّكهم ، وقد نسبهم
مشايخ سمرقند إلى الجهل إذ الإيمان بالوفاق هو التصديق بالجنان ، والإقرار باللسان
، وكلّ منهما فعل من أفعال العباد وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى باتفاق أهل
السّنّة والجماعة.
قال ابن الهمام :
في المسايرة ونص كلام أبي حنيفة رحمهالله صلىاللهعليهوسلم في كتابه التوصية صريح في خلق الإيمان حيث قال : نقرّ بأن
العبد مع جميع أعماله وإقراره ومعرفته مخلوق ، فلما كان الفاعل مخلوقا فأولى أن
يكون فعله مخلوقا. انتهى.
هذا وقد نقل بعض
أهل السّنّة والجماعة أنهم منعوا من إطلاق القول بحلول كلامه سبحانه في لسان ، أو
قلب ، أو مصحف ، وإن أريد به اللفظي رعاية للأدب مع الرب لئلا يتوهّم إرادة النفسي
القديم ، وقد حكى الأشعري أن ممّن ذهب إلى أن الإيمان مخلوق حادث حارث المحاسبي
وجعفر بن حرب وعبد الله بن كلاب ، وعبد العزيز المكّي وغيرهم من أهل النظر ، ثم
قال : وذكر عن أحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أنهم يقولون : إن الإيمان غير
مخلوق.
قال صاحب المسايرة
: ومال إليه الأشعري ووجهه بما حاصله أن إطلاق الإيمان في
____________________________________
قول من قال : إن
الإيمان غير مخلوق ينطبق على الإيمان الذي هو من صفات الله تعالى من أسمائه الحسنى
: المؤمن كما نطق به الكتاب العزيز ، وإيمانه هو تصديقه في الأزل بكلامه القديم
وإخباره الأزلي بوحدانيته كما دلّ عليه قوله تعالى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) . ولا يقال : إن تصديقه محدث ولا مخلوق تعالى الله أن يقوم
به حادث انتهى ، ولا يخفى أن الكلام ليس في هذا المرام إذ أجمعوا على أن ذاته وصفاته
تعالى أزلية قديمة ، وإن اعتبر هذا المبنى لا يصحّ أن يقال الصبر والشكر ونحوهما
مخلوق حيث وردت معانيها في أسماء الله تعالى الحسنى. بل السمع والبصر والحياة
والقدرة وأمثالها ، ولا أظن أن أحدا قال بهذا العموم ، وأوجب الكفر بهذا المفهوم
الموهوم لأن صفاته سبحانه مستثناة عقلا ونقلا.
ومنها : أن
الإيمان باق مع النوم والغفلة والإغماء والموت وإن كان كلّ منهما يضادّ التصديق
والمعرفة حقيقة ، لأن الشرع حكم ببقاء حكمهما إلى أن يقصد صاحبهما إلى إبطالهما
باكتساب أمر حكم الشرع بمنافاته لهما فيرتفع ذلك الحكم خلافا للمعتزلة في قولهم :
إن النوم والموت يضادّان المعرفة فلا يوصف النائم ولا الميت بأنه مؤمن ، كذا ذكره
ابن الهمام ، لكنه مخالف لما في المواقف عنهم أنهم قالوا : لو كان الإيمان هو
التصديق لما كان المرء مؤمنا حين لا يكون مصدّقا كالنائم حال نومه والغافل حين
غفلته وأنه خلاف الإجماع انتهى. فارتفع النزاع.
ومنها : أن إيمان المقلد الذي لا دليل معه صحيح ، قال أبو حنيفة رحمهالله ، وسفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وعامّة
الفقهاء وأهل الحديث رحمهمالله تعالى صحّ إيمانه ، ولكنه عاص بترك الاستدلال ، بل نقل
بعضهم الإجماع على ذلك ، وعند الأشعري لا بدّ أن يعرف ذلك بدلالة العقل وعند
المعتزلة ما لم يعرف كل مسألة بدلالة العقل على وجه يمكنه دفع الشبهة لا يكون
مؤمنا.
قال القونوي : عند
المعتزلة إنما يحكم بإيمانه إذا عرف ما يجب اعتقاده بالدليل العقلي على وجه يمكنه
مجادلة الخصوم وحلّ جميع ما يوردونه عليه من الشبهة حتى إذا عجز عن شيء من ذلك لم
يحكم بإسلامه ، وقال الأشعري : شرط صحة الإيمان أن يعرف كل مسألة من مسائل الأصول
بدليل عقلي غير أن الشرط أن يعرف ذلك بقلبه ، ولا
__________________
____________________________________
يشترط أن يعبّر عن
ذلك بلسانه ، وهذا وإن لم يكن مؤمنا عنده على الإطلاق ، ولكنه ليس بكافر لوجود ما
يضادّ الكفر وهو التصديق فهو عاص بترك النظر والاستدلال ، وهو في مشيئة الله تعالى
كسائر العصاة إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة ، وإن شاء عذّبه بقدر ذنبه وصار
عاقبة أمره إلى الجنة انتهى.
ولا يخفى أن هذا
مناف لما صدّره من كلامه حيث جعله شرط صحة الإيمان فإن أريد به شرط صحة كمال
الإيمان فهو موافق مع الجمهور في هذه المسألة ، ثم الأظهر ما قاله أبو الحسن
الرستغني وأبو عبد الله الحليمي من أنه ليس الشرط أن يعرف كل المسائل بالدليل
العقلي ، ولكن إذا بنى اعتقاده على قول الرسول بعد معرفته بدلالة المعجزة أنه صادق
، فهذا القدر كاف لصحة إيمانه وهذا لا ينافي ما سبق من الجمهور من الحكم بعصيان
تارك الاستدلال فيما يتعلق بالإيمان على حسب الإجمال ، وأما الإيمان وهو التصديق
المأمور به فقد وجد فينال ثواب ما وعد به سواء وجد منه التصديق عن دليل ، أو عن
غير دليل ، وأما ما نقله القونوي من أن أبا حنيفة رحمهالله حين قيل له : ما بال أقوام يقولون بدخول المؤمن النار؟
فقال : لا يدخل النار إلا كل مؤمن ، فقيل له : فالكافر؟ فقال : هم يؤمنون يومئذ ،
كذا ذكره في الفقه الأكبر فليس بموجود في الأصول المعتبرة والنسخ المشتهرة.
ثم قال ومعنى قول
العلماء إن الإيمان عند معاينة العذاب لا يصح أي لا ينفع أقول ، بل لا يصح لأن
الأمر الشرعي هو الإيمان الغيبي ، ثم التحقيق أن الاستدلال ليتوصل به إلى التصديق
في المآل ، فإذا وصل إلى المقصود حصل المطلوب إذ لا عبرة لعدم الذريعة والوسيلة
عند حصول المراد من الفضيلة ، وتحقيقه أن الرسول صلىاللهعليهوسلم عدّ من آمن به وصدقه فيما جاء به من عند الله مؤمنا ولم
يشتغل بتعليمه الدلائل العقلية في المسائل الاعتقادية ، وكذا الصحابة رضي الله
تعالى عنهم حيث قبلوا إيمان الزط والأنباط مع قلة أذهانهم وبلادة أفهامهم ، ولو لم
يكن ذلك إيمانا لفقد شرطه وهو الاستدلال العقلي لاشتغلوا بأحد الأمرين إما
بالإعراض عن قبول إسلامهم ، أو بنصب متكلم حاذق بصير بالأدلة عالم بكيفية المحاجّة
لتعليم صناعة الكلام ، والمناظرة ، ثم بعد ذلك يحكمون بإيمانهم وعند امتناع
الصحابة رضي الله عنهم ، وامتناع كلّ من قام مقامهم إلى يومنا هذا من ذلك ظهر أن
ما ذهبوا إليه باطل لأنه خلاف صنع النبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه العظام رضي الله عنهم وغيرهم من الأئمة الكرام على
أن من أصحابنا من قال : إن المقلّد لا يخلو عن نوع علم فإنه ما لم يقع عنده أن
المخبر صادق لا يصدقه فيما أخبر به وخبر
____________________________________
الواحد ، وإن كان
محتملا للصدق والكذب في ذاته لكن متى ما وقع عنده أنه صادق ولم يخطر بباله احتمال
الكذب ، وكان في الحقيقة صادقا نزل منزلة العالم لأنه بنى اعتقاده على ما يصلح
دليلا في الجملة ، وأما من لم تبلغه الدعوة ورآه مسلم ودعاه إلى الدين وأخبره أن
رسولا لنا بلغ الدين عن الله تعالى ، ودعانا إليه ، وقد ظهرت المعجزات على يديه
وتصدق هذا الإنسان في جميع ذلك فاعتقد الدين من غير تأمّل وتفكّر فيما هنالك ،
فهذا هو المقلّد الذي فيه خلاف بيننا وبين الأشعري بخلاف من نشأ فيما بين المسلمين
من أهل القرى والأمصار من ذوي النّهى والأبصار ، فلا يخلو إيمانهم عن الاستدلال
والاستبصار ، وإن كان لا يهتدي إلى العبارة عن دليل بطريق النظّار فإنه محل الخلاف
بيننا وبين المعتزلة.
والصحيح ما عليه
عامّة أهل العلم فإن الإيمان هو التصديق مطلقا فمن أخبر بخبر فصدقه صحّ أن يقال :
آمن به ، وآمن له ولأن الصحابة كانوا يقلون إيمان عوامّ الأمصار التي فتحوها من
العجم تحت السيف ، أو لموافقة بعضهم بعضا وتجويز حملهم إياهم على الاستدلال لا
سيما في بعض الأحوال ، وهذا الخلاف فيمن نشأ على شاهق الجبل ولم يتفكّر في العالم
، ولا في الصانع عزوجل أصلا ، فأما من نشأ في بلاد المسلمين وسبّح الله تعالى عند
رؤية صنائعه فهو خارج عن حدّ التقليد ، فقد قيل لأعرابي : بم عرفت الله؟ فقال :
البعرة تدلّ على البعير ، وآثار الأقدام تدلّ على المسير ، فهذا الإيوان العلوي ،
والمركز السفلي ألا يدلّان على الصانع الخبير أما إذا اعتقد وجعل ذلك قلادة في عنق
الداعي له إليه على معنى أنه كان حقّا فحقّ وإن كان باطلا فوباله عليه فهذا المقلد
ليس بمؤمن بلا خلاف ، لأنه شاكّ في إيمانه ، وقيل : معرف مسائل الاعتقاد كحدوث
العالم ووجود الباري ، وما يجب له وما يمتنع عليه من أدلتها فرض عين على كل مكلف
فيجب النظر ، ولا يجوز التقليد ، وهذا هو الذي رجحه الإمام الرازي والآمدي ،
والمراد النظر بدليل إجمالي ، وأما النظر بدليل تفصيلي يتمكّن معه من إزالة الشبه
وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين ففرض كفاية وأما من يخشى عليه من الخوض فيه
الوقوع في الشبه فالأوجه أن المنع متوجّه في حقه فقد قال البيهقي : إنما نهى
الشافعي رحمهالله وغيره عن علم الكلام لإشفاقهم على الضّعفة أن لا يبلغوا ما
يريدون منه فيضلّوا عنه.
وفي التاتارخانية
كره جماعة الاشتغال بعلم الكلام وتأويله عندنا أنه كره مع المناظرة والمجادلة لأنه
يؤدي إلى إثارة الفتنة والبدعة وتشويش العقائد الثابتة ، أو يكون المناظر
____________________________________
قليل الفهم ، أو
المعرفة ، أو لا يكون طالبا للحق بل للغلبة ، وأما معرفة الله وتوحيده ومعرفة
النبوّة ، وما يتعلق بها فهو من فروض الكفاية وفي شرح الهداية لابن الهمام ، أما قول أبي يوسف رحمهالله : لا تجوز الصلاة خلف المتكلم. فيجوز أن يريد الذي قرره
أبو حنيفة رحمهالله حين رأى ابنه حمادا يناظر في الكلام ، فنهاه فقال : رأيتك
تناظر في الكلام ، وتنهاني فقال : كنا نناظر وكأن على رءوسنا الطير مخافة أن يزلّ
صاحبنا ، وأنتم تناظرون وتريدون زلّة صاحبكم ومن أراد زلّة صاحبه ، فقد أراد كفره
، ومن أراد كفره فقد كفر هذا هو الخوض المنهي عنه. انتهى.
وفي شرح المواقف
فائدة علم الكلام هو الترقّي من حضيض التقليد إلى ذروة الإيقان قال أيضا تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) . خصّ العلماء الموقنين مع اندراجهم في المؤمنين رفعا لمنزلتهم
كأنه قال : وخصوصا هؤلاء الأعلام منكم بما جمعوا من العلم والعمل.
ومنها : أن السحر
والعين حق عندنا خلافا للمعتزلة لقوله عليه الصلاة والسلام : «العين حق» رواه أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة وزيد
في رواية ، وأن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر ، وجاء في رواية أن السحر حق ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَما أُنْزِلَ عَلَى
الْمَلَكَيْنِ) . وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ
النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) . وأما قوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
مِنْ سِحْرِهِمْ) . فهذا نوع من السحر ، ثم
__________________
____________________________________
قول بعض أصحابنا
أن السحر كفر مؤوّل ، فقد قال الشيخ أبو منصور الماتريدي القول بأن السحر كفر على
الإطلاق خطأ ، بل يجب البحث عنه ، فإن كان ردّ ما لزمه في شرط الإيمان فهو كفر
وإلا فلا ، فلو فعل ما فيه هلاك إنسان ، أو مرضه ، أو تفريق بينه وبين امرأته وهو
غير منكر لشيء من شرائط الإيمان لا يكفر ، لكنه يكون فاسقا ساعيا في الأرض بالفساد
فيقتل الساحر والساحرة لأن علّة القتل السعي في الأرض بالفساد ، وهذه العلة تشمل
الذكر والأنثى ، وأما إذا كان سحرا هو كفر فيقتل الساحر لا الساحرة لأن علّة القتل
الردّة والمرتدّة لا تقتل كذا ذكره صاحب الإرشاد في الإشراق ونقله القونوي.
ومنها : المعدوم
ليس بشيء ثابت في الخارج ، كما يشير إليه قوله سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) . على أن المراد بالحين قبل خلق الماء والطين خلافا
للمعتزلة القائلين بأن المعدوم الممكن الوجود ثابت في الخارج ، والتحقيق أنه إن
أريد بالشيء الثابت المحقّق على ما ذهب إليه المحقّقون من أن الشيئية ترادف الوجود
والثبوت والعدم يرادف النفي ، فهذا حكم ضروري لا ينازع فيه إلا من تقدّم من
المعتزلة ، وإن أريد أن المعدوم لا يسمى شيئا فهو بحث لغوي مبني على تفسير الشيء أنه
الموجود ، كما ذهب إليه الأشاعرة أو المعلوم كما ذهب إليه معتزلة البصرة ، أو ما
صحّ أن يعلم ويخبر عنه على ما وقع في كلام الزمخشري ، ونقل مثله عن سيبويه ،
وبعضهم جعله اسما للجسم ، وبعضهم للقديم ، وبعضهم للحادث فالمرجع إلى نقل الأقوال
وتتبّع موارد الاستعمال.
ومنها : أن اليأس
من رحمة الله تعالى كفر لقوله تعالى : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ
مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) . وكذا الآمن من عقوبته كفر لقوله تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا
الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) . والأنبياء مأمونون لا آمنون بل خائفون منه أكثر من غيرهم
لأنهم أعرف بما له من صفات الجلال وكونهم مأمونين إنما هو من قبله سبحانه تفضلا في
شأنهم وعلوّ مكانهم.
ومنها : أن تصديق الكاهن بما يخبره من الغيب كفر لقوله تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ
__________________
____________________________________
فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : «من أتى كاهنا فصدقه بما
يقول فقد كفر بما أنزل على محمد» ، ثم الكاهن هو الذي يخبر عن الكوائن في مستقبل الزمان ،
ويدّعي معرفة الأسرار في المكان ، وقيل : الكاهن الساحر والمنجّم إذا ادّعى العلم
بالحوادث الآتية فهو مثل الكاهن وفي معناه الرمال.
قال القونوي :
والحديث يشمل الكاهن والعرّاف والمنجّم فلا يجوز اتّباع المنجّم والرمال وغيرهما
كالضارب بالحصى ، وما يعطى هؤلاء حرام بالإجماع كما نقله البغوي ، والقاضي عياض
وغيرهما ولا اتّباع من ادّعى الإلهام فيما يخبر به عن إلهاماته بعد الأنبياء عليهمالسلام ولا اتّباع قول من ادّعى علم الحروف المهجات لأنه في معنى
الكاهن انتهى.
ومن جملة علم
الحروف فأل المصحف حيث يفتحونه وينظرون في أول الصحيفة أيّ حرف وافقه ، وكذا في
سابع الورقة السابعة فإن جاء حرف من الحروف المركّبة من تخلاكم حكموا بأنه غير
مستحسن وفي سائر الحروف بخلاف ذلك ، وقد صرّح ابن العجمي في منسكه وقال : لا يؤخذ الفأل من المصحف ، فإن العلماء
اختلفوا في ذلك فكرهه بعضهم ، وأجازه بعضهم ونصّ المالكية على تحريمه انتهى ، ولعل
من أجاز الفأل أو كرهه اعتمد على المعنى ومن حرّمه اعتبر حروف المبنى فإنه في معنى
الاستقسام بالأزلام ، قال الكرماني : ولا ينبغي أن يكتب على ثلاث ورقات من البياض
، أو غيره افعل لا تفعل أو يكتب الخير والشر ، ونحو ذلك فإنه بدعة انتهى. وذكر في
المدارك ما يدلّ على أنه أي الاستقسام بالأزلام والأقداح حرام بالنص ، لأنه قال في
تفسير قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) . إلى قوله تعالى : (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا
بِالْأَزْلامِ) ، أي قال : كان أحدهم في الجاهلية إذا أراد سفرا أو غيره
من
__________________
____________________________________
الأمور يعمد ،
ويقصد إلى أقداح ثلاثة لا ريش لها ، ولا نصل على واحد منها مكتوب أمرني ربي ومكتوب
على الآخر نهاني ربي. والثالث : غفل لا شيء عليه ، فإن خرج الأمر مضى على ذلك الأمر
، وإن خرج الناهي أمسك وترك أمره سنة ، وإن خرج الغفل أجالها وأعادها ثانيا حتى
يخرج المكتوب ، فنهى الله تعالى عن ذلك وحرّمه.
قال الزجّاج : ولا
فرق بين هذا وبين قول المنجّمين لا تخرج من أجل نجم كذا ، واخرج لطلوع نجم كذا قلت
ولإبطال هذه الأشياء جعل النبي صلىاللهعليهوسلم صلاة الاستخارة وبعدها الدعاء المأثور كما هو المشهور ،
وقد ورد ما خاب من استخار ولا ندم من استشار .
وقال شارح العقيدة
الطحاوية : الواجب على وليّ الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجّمين [الكهّان]
والعرّافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والفألات ومنعهم من الجلوس في
الحوانيت ، أو الطرقات ، أو أن يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك ويكفي من يعلم
تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته مع قدرته على ذلك قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ
فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) ، ولهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب
والسّنّة أنواع.
نوع منهم أهل
تلبيس وكذب وخداع الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له أو يدّعي الحال من أهل المحال
كالمشايخ النصّابين والفقراء الكذابين والطرقية المكّارين فهؤلاء يستحقون العقوبة
البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس ، وقد يكون في هؤلاء من يستحق
القتل كمن يدّعي النبوّة بمثل هذه الخزعبلات أو يطلب [تغيير] شيء من الشريعة ونحو ذلك.
ونوع منهم يتكلم
في هذه الأمور على سبيل الجدّ والحقيقة بأنواع السحر وجمهور العلماء يوجبون قتل
الساحر كما هو مذهب أبي حنيفة رحمهالله ومالك وأحمد رحمهالله تعالى في المنصوص عنه ، وهذا هو المأثور عن الصحابة رضي
الله عنهم كعمر وابنه
__________________
____________________________________
وعثمان وغيرهم ،
ثم اختلف هؤلاء هل يستتاب أم لا وهل يكفر بالسحر أم يقتل لسعيه في الأرض بالفساد ،
وقالت طائفة إن قتل بالسحر وإلا عوقب بدون القتل إذا لم يكن في قوله وعمله كفر ،
وهذا هو المنقول عن الشافعي وهو قول في مذهب أحمد ، وقد تنازع العلماء في حقيقة
السحر وأنواعه والأكثرون يقولون : أنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول
شيء ظاهر إليه ، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل ، واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس
دعوى الكواكب السبعة أو غيرها أو خطابها أو السجود لها والتقرّب إليها بما يناسبها
من اللباس والخواتيم والبخور ونحو ذلك فإنه كفر ، وهو من أعظم أبواب الشرّ واتفقوا
كلهم أيضا على أن كل رقية وتعزيم أو قسم فيه شرك بالله فإنه لا يجوز التكلم به ،
وكذا الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف ،
ولذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا بأس بالرقي ما لم تكن شركا» . ولا تجوز الاستعانة بالجن فقد ذمّ الله الكافرين على ذلك فقال الله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) . قالوا : كان الإنسي في الجاهلية إذا نزل بالوادي في سفره
يقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح ،
فزادوهم يعني الإنس للجنّ باستعاذتهم بهم رهقا أي إثما وطغيانا وجرأة وشرّا
وتكبّرا وإرهابا ، وذلك أنهم قد قالوا : سدنا الجن والإنس ، فالجن تتعاظم في
أنفسها وتزداد كفرا إذا عاملتهم الإنس بهذه المعاملة ، وقال الله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا
مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ
مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ) الآية. فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال
أوامره وأخباره بشيء من المغيبات ، ونحو ذلك واستمتاع الجن بالإنسي تعظيمه إيّاه
واستعانته به ، واستغاثته به وخضوعه له.
ونوع منهم [يتكلم]
بالأحوال الشيطانية والكشوف بالرياضيات النفسانية ومخاطبة رجال الغيب وأن لهم
خوارق تقتضي أنهم أولياء الله ، وكان من هؤلاء من يعين
__________________
____________________________________
المشركين على
المسلمين ويقول : إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين لكون المسلمين قد
عصوا وهؤلاء في الحقيقة أخوان المشركين.
ثم الناس من أهل
العلم في حق رجال الغيب ثلاثة أحزاب : حزب يكذبون بوجود رجال الغيب ، ولكن قد
عاينهم الناس وثبت ذلك ممن عاينهم أو حدّثه الثقات بما رأوه وهؤلاء إذا رأوهم
وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم ، وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر واعتقدوا أن ثمة في
الباطن طريقا إلى الله غير طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحزب ما أمكنهم أن
يجعلوا وليّا خارجا عن دائرة الرسول فقالوا : يكون الرسول هو ممدّا للطائفتين
فهؤلاء معظّمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه ، والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين ،
وأن رجال الغيب هم الجنّ لأن الإنس لا يكون دائما محتجبا عن أبصار الإنس وإنما
يحتجب أحيانا ، فمن ظنّ أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله وسبب الضلال فيهم وافتراق
هذه الأحزاب الثلاثة عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن ، وبالجملة فالعلم بالغيب أمر تفرّد به سبحانه ، ولا سبيل
للعباد إليه إلا بإعلام منه وإلهام بطريق المعجزة ، أو الكرامة ، أو الإرشاد إلى
الاستدلال بالأمارات فيما يمكن فيه ذلك. ولهذا ذكر في الفتاوى أن قول القائل عند
رؤية هالة القمر أي دائرته يكون مطر مدّعيا علم الغيب لا بعلامة كفر.
ومن اللطائف ما
حكاه بعض أرباب الظرائف أن منجّما صلب فقيل له : هل رأيت هذا في نجمك؟ فقال : رأيت
رفعة ، ولكن ما عرفت أنها فوق خشبة.
ثم اعلم أن
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يعلموا المغيبات من الأشياء إلا ما علّمهم الله
تعالى أحيانا.
وذكر الحنفية
تصريحا بالتكفير باعتقاد أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم الغيب لمعارضة قوله
تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) . كذا في المسايرة.
ومنها : ما ذكره
شارح عقيدة الطحاوي عن الشيخ حافظ الدين .....
__________________
____________________________________
النسفي في المنار أن القرآن اسم للنظم ، والمعنى : جميعا ، وكذا
قال غيره من أهل الأصول ، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمهالله ، أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه ، وقال : لا يجوز مع القدرة بغير العربية ، وقال : لو قرأ
بغير العربية فأما أن يكون مجنونا فيداوى ، أو زنديقا فيقتل ، لأن الله تكلم بهذه
اللغة والإعجاز حصل بنظمه ومعناه.
ومنها : إن
استحلال المعصية صغيرة كانت أو كبيرة إذا ثبت كونها معصية بدلالة قطعية ، وكذا
الاستهانة بها كفر بأن يعدّها هيّنة سهلة ويرتكبها من غير مبالاة بها ويجريها مجرى
المباحات في ارتكابها ، وكذا الاستهزاء على الشريعة الغرّاء كفر لأن ذلك من أمارات
تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، قال ابن الهمام : وبالجملة فقد ضمّ إلى
تحقيق الإيمان إثبات أمور الإخلال بها إخلال بالإيمان اتفاقا كترك السجود لصنم ،
وقتل نبي ، أو الاستخفاف به ، أو بالمصحف ، أو الكعبة ، وكذا مخالفة ما أجمع عليه
وإنكاره بعد العلم به يعني من أمور الدين فإن من أنكر جود حاتم ، أو شجاعة عليّ
رضي الله عنه لا يكفر ، قال ابن الهمام : وقد كفّر الحنفية من واظب على ترك سنّة
استخفافا بها بسبب أنها فعلها النبي صلىاللهعليهوسلم زيادة أو استقباحها كمن استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت
حلقه ، أو إخفاء شاربه.
قلت : ولذا روي أن
أبا يوسف رحمهالله ذكر أنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الدباء فقال رجل :
أنا ما أحبّها فحكم بارتداده وعلى هذه الأصول تبتني الفروع التي ذكرت في الفتاوى
من أنه إذا اعتقد الحرام حلالا فإن كان حرمته لعينه ، وقد ثبت بدليل قطعي يكفر ،
وإلا فلا بأن تكون حرمته لغيره ، أو ثبت بدليل ظنّي ، وبعضهم لم يفرّق بين الحرام
لعينه ولغيره ، فقال : من استحلّ حراما ، وقد علم في دين النبي صلىاللهعليهوسلم تحريمه كنكاح ذوي المحارم ، أو شرب الخمر ، أو أكل ميتة ،
أو دم ، أو لحم خنزير من غير
__________________
____________________________________
ضرورة فكافر ، ومن
استحل شرب النبيذ إلى السكر كفر ، أما لو قال لحرام : هذا حلال لترويج السلعة ، أو
بحكم الجهل لا يكفر ولو تمنى أن لا يكون الخمر حراما أو لا يكون صوم رمضان فرضا
لما يشقّ عليه لا يكفر بخلاف ما إذا تمنى أن لا يحرم الزنا ، وقتل النفس بغير حق
فإنه يكفر لأن حرمة هذين ثابتة في جميع الأديان موافقة للحكمة ، ومن أراد الخروج
عن الحكمة ، فقد أراد أن يحكم الله ما ليس بحكمة ، وهذا جهل منه بربه سبحانه ،
وتوضيحه ما قال بعضهم من أن الضابطة هي أن الحرام الذي كان حلالا في شريعة فتمنّى
حلّه ليس كفر ، والذي لم يكن حلالا في شريعة فتمنى حله كفر ، لأن حرمته الأبدية
إنما هي التي اقتضتها الحكمة الأزلية مع قطع النظر عن أحوال الأشخاص الأوّلية
والأخروية ، ثم قال : فإن قلت : كون الحرمة موافقة الحكمة الله تعالى هو المدار في
التكفير فالأمر في حرمة الخمر أيضا ، كذلك لأن تحريمه بالنسبة إلى هذه الأمة ،
إنما هو لاقتضاء الحكمة قلت : لكن هذه الحكمة مقيدة وتلك مطلقة فإرادة الخروج من
الثانية خروج من الحكمة مطلقا ، ومن الأولى ليس كذلك بل هي موافقة للحكمة بوجه ،
وإن كان مخالفة لها أيضا بوجه آخر فافترقا. انتهى.
وفي هذا الفرق نظر
لا يخفى إذ لا يطابق ورود السؤال ، ولا يصحّ جوابا عنه في المآل فإن حرمة الخمر في
هذه الأمة لا يقال أنها موافقة للحكمة من وجه مخالفة لها من وجه هذا ، وفي كون
تمنّي أمثال ذلك كفرا إشكال لكون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تمنّوا أنهم لم
يخلقوا ، وقد يتمنى أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يأكل من الشجرة حتى لم يقع في
الدنيا المتعبة ، وغاية الأمر أن خلاف الحكمة وقوعه محال ، والتمنّي إنما يكون
محله في الحال على أن التمنّي ليس له تعرّض بالحكمة لا نفيا ولا إثباتا ليكون سببا
للكفر.
وذكر الإمام
السرخسي رحمهالله أنه لو استحلّ وطأ امرأته الحائض يكفر ، وفي النوادر عن
محمد رحمهالله لا يكفر ، وهو الصحيح ، وفي استحلال اللواطة بامرأته لا
يكفر على الأصح لأنه مجتهد فيه ، وأما الأول فلأن النص الدّالّ على حرمته قوله
تعالى : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ) ظنّيّ الدلالة مع أن حرمته لغيره وهو مجاورة الأذى ، فهذا
مبني على الخلاف فيمن استحلّ حراما لغيره هل يكفر أم لا.
ومن وصف الله بما
لا يليق به أو سخّر باسم من أسمائه أو بأمر من أوامره ، أو
__________________
____________________________________
أنكر وعده أو
وعيده يكفّر. وكذا لو تمنّى أن لا يكون نبي من الأنبياء على قصد استخفاف أو عداوة
قيل : ينبغي أن لا يقيّد التكفير بذلك بهذا لأن وجود الأنبياء مما اقتضته الحكمة
بلا شبهة فتمنى أن لا يوجد نبي من الأنبياء كفر مطلقا ، وأجيب بأن اقتضاء الحكمة
ذلك إنما هو لتبليغ الأحكام الإلهية إلى عباده ، ويمكن أن تبلغ تلك الأحكام إليهم
بلا واسطة نبي فعدم تكوّن الأنبياء بالتمام لا يستلزم أن لا تثبت تلك الأحكام حتى
يكون تمنّي ذلك موجبا للكفر على أن تمنّي ذلك لغو لا أثر له في الوجود بخلاف تمنّي
حلّ الزنا وأمثاله ، مما يتعلق بأفعال العباد. لأن أمثال ذلك يتضمن الفساد : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) . وفيه بحث من وجوه.
أما أولا ، فلأنه
لا شك أن وساطة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن حكمة خاصة بهم ، وإن كان يمكن
إعلام الأحكام بدونهم.
وأما ثانيا ، فلأن
الفرق غير ظاهر بينهما ، بل تمنّي عدم وجود الأنبياء أعمّ وأتمّ من تمنّي حلّ
الزنا ، وقتل النفس ونحوهما.
وأما ثالثا ، فلأن
الفساد لا يوجب كونه كفرا في البلاد والله رءوف بالعباد. وكذا لو ضحك على وجه الرضا
ممّن تكلم بالكفر ، وأما إذا ضحك لا على وجه الرضى بل بسبب أن كلام الموجب للكفر
عجيبا غريبا يضحك السامع ضرورة فلا يكفر.
وكذا لو جلس على
مكان مرتفع وحوله جماعة يسألونه مسائل ويضحكون ويضربونه بالوسائد يكفرون جميعا
وذلك لأن هذه الجماعة يجعلون ذلك الشخص مثل النبي صلىاللهعليهوسلم وينزلون الغير منزلة أصحابه الكرام في السؤال بالمسائل
والأحكام استهزاء بالنبي صلىاللهعليهوسلم وأصحابه نعوذ بالله من ذلك.
وكذا لو أمر رجلا
أن يكفر بالله ، أو عزم على أن يأمره بالكفر وذلك لأنه رضا بالكفر والرضا بالكفر
كفر سواء كان بكفر نفسه أو بكفر غيره ، وقد سبق زيادة بيان في هذا الكلام وتحقيق
أمره.
وكذا لو قال عند
شرب الخمر أو الزنا بسم الله أي عمدا أو باعتقاد أنهما حلالان. وكذا لو أفتى
لامرأة بالكفر لتبيّن من زوجها ، وذلك بأن يقول المفتي أو القاضي للمرأة
__________________
____________________________________
المطلّقة بالثلاث
مثلا ما حكم الإسلام فتقول : لا أعرف مع أنه لو قيل لها : إذا أسلم أحد هل يجوز
قتله وأخذ ماله فتقول : لا ، فحينئذ يقول هذا المفتي الجاهل أو القاضي المائل
أفتيت بكفرها ، أو حكمت بأنها ما كانت مسلمة من أصلها فنكاحها الأول فاسد ، وهذا
عمل باطل وأمر كاسد.
وكذا لو صلى لغير
القبلة أو بغير طهارة متعمّدا يكفّر ، وإن وافق ذلك القبلة يعني وكذا إن وافق
الطهارة.
وكذا لو أطلق كلمة
الكفر استخفافا لا اعتقادا إلى غير ذلك من الفروع. والجمع بين قولهم لا يكفّر أحد
من أهل القبلة وقولهم يكفّر من قال بخلق القرآن ، أو استحالة الرؤية أو سبّ
الشيخين أو لعنهما ، وأمثال ذلك مشكل كما قال شارح العقائد ، وكذا شارح المواقف إن
جمهور المتكلمين والفقهاء على أنه لا يكفّر أحد من أهل القبلة ، وقد ذكر في كتب
الفتاوى أن سبّ الشيخين كفر ، وكذا إنكار إمامتهما كفر ، ولا شك أن أمثال هذه
المسألة مقبولة بين جمهور المسلمين فالجمع بين القولين المذكورين مشكل. انتهى.
ووجه الإشكال عدم
المطابقة بين المسائل الفرعية والدلائل الأصولية التي من جملتها اتفاق المتكلمين ،
على عدم تكفير أهل القبلة المحمدية ويدفع الإشكال بأن نقل كتاب الفتاوى مع جهالة
قائله وعدم إظهار دلائله ليس بحجة من ناقله إذ مدار الاعتقاد في المسائل الدينية
على الأدلة القطعية على أن في تكفير المسلم قد يترتب مفاسد جليّة وخفيّة فلا يفيد
قول بعضهم إنما ذكروه بناء على الأمور التهديدية والتغليظية.
وقد تصدّى الإمام
ابن الهمام في شرح الهداية للجواب عن هذه الحكاية حيث قال : اعلم أن الحكم بكفر من
ذكرنا من أهل الأهواء مع ما ثبت عن أبي حنيفة رحمهالله والشافعي رحمهالله من عدم تكفير أهل القبلة من المبتدعة كلهم محمله أن ذلك
المعتقد في نفسه كفر فالقائل به قائل بما هو كفر ، وإن لم يكفر بناء على كون قوله
ذلك عن استفراغ وسعه مجتهد في طلب الحق لكن جزمهم ببطلان الصلاة خلفه لا يصحح هذا
الجمع اللهمّ إلا أن يراد بعدم الجواز خلفهم عدم الحلّ أي عدم حلّ أن يفعل وهو لا
ينافي صحة الصلاة وإلا فهو مشكل ؛ انتهى ، ولا يخفى أنه يمكن أن يقال في دفع
الإشكال إن جزمهم ببطلان الصلاة خلفهم احتياطا لا يستلزم جزمهم بكفرهم ألا ترى
أنهم جزموا ببطلان الصلاة مستقبلا إلى الحجر احتياطا مع عدم جزمهم بأنه ليس من
____________________________________
البيت ، بل حكموا
بموجب ظنهم فيه أنه منه فأوجبوا الطواف من ورائه.
ثم اعلم أن المراد
بأهل القبلة الذين اتفقوا على ما هو من ضرورات الدين كحدوث العالم وحشر الأجساد
وعلم الله بالكليّات والجزئيات ، وما أشبه ذلك من المسائل فمن واظب طول عمره على
الطاعات والعبادات مع اعتقاد قدم العالم ، أو نفي الحشر ، أو نفي علمه سبحانه
بالجزئيات لا يكون من أهل القبلة ، وإن المراد بعدم تكفير أحد من أهل القبلة عند
أهل السّنّة أنه لا يكفر ما لم يوجد شيء من أمارات الكفر وعلاماته ولم يصدر عنه
شيء من موجباته ، فإذا عرفت من ذلك فاعلم أن أهل القبلة المتفقون على ما ذكرنا من أصول
العقيدة اختلفوا في أصول أخر كمسألة الصفات وخلق الأعمال ، وعموم الإرادة وقدم
الكلام وجواز الرؤية ونحو ذلك مما لا نزاع في أن الحق فيها واحد واختلفوا أيضا هل
يكفّر المخالف للحق بذلك الاعتقاد والقول به على وجه الاعتماد أم لا فذهب الأشعري
، وأكثر أصحابه إلى أنه ليس بكافر وبه يشعر ما قاله الشافعي رحمهالله لا أردّ شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية لاستحلالهم الكذب.
وفي المنتفى عن
أبي حنيفة رحمهالله لم نكفّر أحدا من أهل القبلة وعليه أكثر الفقهاء ومن
أصحابنا من قال بكفر المخالفين. وقال قدماء المعتزلة : يكفّر القائل بالصفات
القديمة وبخلق الأعمال ، وقال الأستاذ أبو إسحاق : نكفّر من يكفّرنا ومن لا فلا ،
واختار الرازي أن لا يكفّر أحد من أهل القبلة ، وقد أجيب عن الإشكال بأن عدم
التكفير مذهب المتكلمين ، والتكفير مذهب الفقهاء فلا يتّحد القائل بالنقيضين ، فلا
محذور ، ولو سلّم فيجوز أن يكون الثاني للتغليظ في ردّ ما ذهب إليه المخالفون ،
والأول لاحترام شأن أهل القبلة فإنهم في الجملة معنا موافقون.
ومنها : بحث
التوبة اعلم أولا أن قبول التوبة وهو إسقاط عقوبة الذنب عن التائب غير واجب على
الله تعالى عقلا ، بل كان ذلك منه فضلا خلافا للمعتزلة ، فأما وقوع قبولها شرعا
فقيل : هو مرجو غير مقطوع به ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) . علقه بالمشيئة ، ولذا حسن من الله تعالى ومن رسوله تأخير
قبول توبة
__________________
____________________________________
المتخلفين عن
الجهاد مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم مع إخلاص توبتهم ، وكثرة بكائهم ، وشدّة ندامتهم بخلاف
التوبة عن الكفر حيث يقبل قطعا عرفناه بإجماع الصحابة والسلف رضي الله عنهم فإنهم
يرغبون إلى الله تعالى في قبول توبتهم عن الذنوب والمعاصي ، كما في قبول صلاتهم
وسائر أعمالهم ويقطعون بقبول توبة الكافر ، كذا ذكره القونوي ، ويمكن أن يقال : إن
عدم جزمهم بتوبة أنفسهم لكونهم غير جازمين بحصول شرائطها ، إذ هي كثيرة بخلاف
التوبة من الكفر فإن الاعتبار فيه مجرد الإقرار بحسب الظواهر والله أعلم بالسرائر.
ولذا كان السلف
خائفين من قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) . أي حالا ومآلا والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فلا
يرد أنه نزل في حق المنافقين ، وأما قوله تعالى : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى
مَنْ يَشاءُ) . فمعناه يوفّقه للتوبة بقرينة كلمة على لا أنه يقبل توبته
حيث لم يقل عن ، ولقوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) . والآية في المؤمنين وإخبار الله تعالى حق ووعده صدق
فإنكاره كفر ، كما قال به بعضهم ، ولقوله عليه الصلاة والسلام : التائب من الذنب
كمن لا ذنب له». وأما تأخير قبول توبة المخلفين عنه عليه الصلاة والسلام لعدم
اطّلاعه على ما في قلوبهم وللتأدّب مع الله في الاستقلال بالحكم في أمرهم ، وأما
هو سبحانه فلعله أخّر إظهار قبول توبتهم زجرا لهم ولأمثالهم عن عودهم إلى زلّتهم
على أنه لا يبعد أنهم ما أخلصوا في نيّتهم إلا عند نزول قبول توبتهم.
وفي عمدة النسفي :
ومن تاب عن كبيرة صحّت توبته مع الإصرار على كبيرة أخرى ولا يعاقب بها أي على
الكبيرة التي تاب عنها خلافا لأبي هاشم من المعتزلة ، ثم قال : ومن تاب عن الكبائر
لا يستغني عن توبة الصغائر ، ويجوز أن يعاقب بها عند أهل السّنّة والجماعة وعند
الخوارج من عصى صغيرة أو كبيرة فهو كافر مخلد في النار إذا مات من
__________________
____________________________________
غير توبة ، وعند
المعتزلة تفصيل في المسألة فإن كانت كبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر إلا
أنه مخلد في النار ، وإن كانت صغيرة واجتنب الكبائر لا يجوز التعذيب عليها ، وإن
ارتكب الكبائر لا يجوز العفو عنها وردّ عليهم بأجمعهم قوله سبحانه : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ
يَشاءُ) . كما مرّ بيانه في الإثناء وفي الإيماء إلى أنه سبحانه
يعفو عن بعض أرباب الذنوب إلا أنه لا ندري في حق كل واحد على التعيين أنه هل يعفي
عنه أم لا ، وإذا عذّبه فإنه لا يؤيده كما تدلّ عليه الأحاديث منها : «من قال لا
إله إلّا الله دخل الجنة وإن زنى ، وإن سرق» . وهو قول أكثر الصحابة والتابعين وأهل السّنّة والجماعة ،
ثم الفرق لأصحابنا بين الكفر وبين ما دونه من الذنوب في جوار العفو عمّا دون الكفر
وامتناعه فيه ما ذكره الشيخ أبو منصور الماتريدي في التوحيد : أن الكفر مذهب يعتقد
إذ المذاهب تعتقد للأبد فعلى ذلك عقوبته أن يخلد في النار وسائر الكبائر لا تفعل
للأبد ، بل في بعض الأوقات عند غلبة الشهوات فعلى ذلك عقوبتها في بعض الحالات إن
لم يعف عنه ، ولم تتداركه الشفاعات ، وهذا في حق العصاة ، وأما غيرهم فقد قال
الطحاوي : نرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته. انتهى.
وإنما استعمل
الرجاء لظاهر إحسانهم في الحال لا على تحقيق الإيقان في المآل ، ولأن العمل الصالح
ليس بموجب للجزاء ، بل الجزاء بفضل الله وبرحمته ، كما قال صلىاللهعليهوسلم : «لن يدخل أحدكم الجنّة بعمله ، فقيل : ولا أنت يا رسول
الله؟ قال : ولا أنا إلّا أن يتغمدني الله برحمته» ، وهذا لا ينافي ما قال الله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ) فإنه لمّا كان لا يتفضّل بدخول الجنة إلّا على من آمن وعمل
صالحا ، فكأنه
__________________
____________________________________
يدخله بعمله
الصالح ، والحاصل أن الباء للسببية لا للمقابلة والبدلية ، وقد يقال : إن إيمانه
وعمله الصالح قد تحقّق منه بفضل الله تعالى فلا مناقضة بين القول بأنه يدخل الجنة
بفضل الله ورحمته وبين القول بأنه يدخلها بعمله وطاعته وبعضهم قدّر الدرجات مقابلة
للطاعات ، فالتقدير ادخلوا درجات الجنة ، وأما نفس الدخول فبالفضل المجرّد حيث لا
يجب عليه شيء والخلود بالنيّة كما أن دخول الكفّار في النار بمجرد العدل ،
والدركات بحسب اختلاف ما لهم من الحالات والخلود باعتبار النيّات.
ثم لما جاز عندنا
غفران الكبيرة بدون التوبة مع عدم الشفاعة فمع وجود الشفاعة أولى وقد قال صلىاللهعليهوسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» . وهو يحتمل أن يكون قبل دخول النار ، وأن يكون بعده وتقييد
المعتزلة تلك الشفاعة برفع الدرجة يأبى تخصيصه لأهل الكبائر وعندهم لمّا امتنع
العفو فلا فائدة في الشفاعة. واستدلوا بقوله تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ
شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) . مع أن الآية في الكفّار بإجماع المفسرين على أن أصحابنا
استدلّوا بهذه الآية على ثبوت الشفاعة للمؤمنين ، لأنه ذكر ذلك في معرض التهديد
للكفار ، ولو كان لا شفاعة لغير الكفار أيضا لم يكن لتخصيص الكفار بالذكر في حال
تقبيح أمرهم معنى.
ثم اعلم أن الحسنات
يذهبن السيئات كما قال الله تعالى إلا أنها مختصّة بالصغائر ولا تبطل الحسنات بشؤم
المعاصي إلا بالكفر لقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْفُرْ
بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) . والفسق ليس في معنى الكفر فلا يلحق به في الإحباط خلافا
للمعتزلة لا يقال إن قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) . يفيد أن من عمل صالحا وأتى خيرا ثم مات كافرا يرى جزاء
ذلك الخير وهو باطل بالإجماع لأنّا نقول : إن
__________________
____________________________________
معناه يره في
الدنيا ليرد الآخرة ، ولا خير له كما أن المؤمن يرى في الدنيا جزاء ما ارتكبه من
السيئات بأن يصيبه بعض البليّات ليرد الآخرة بريئا من الذنوب نقيّا من العيوب.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا ، أو شرّا إلّا أراه
الله إيّاه فأما المؤمن فيغفر له سيئاته ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته
ويعذّب بسيئاته.
وقال شارح عقيدة
الطحاوي : وهل يجبّ الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن
لم يتب منها أم لا بدّ مع الإسلام من التوبة من غير الشرك حتى لو أسلم وهو مصرّ
على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ، أم
لا بدّ أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ، أو يتوب توبة عامه من كل ذنب؟ وهذا هو
الأصح أنه لا بدّ من التوبة مع الإسلام . انتهى.
ولا يخفى أن هذا
ميل إلى قول من قال : إن الكافر مكلّف بالفروع ، والمذهب الصحيح بخلافه فبعد ما
أسلم لا يحتاج إلى توبة أخرى بعد توبته من الشرك الذي يجبّ ما قبله من الذنوب إلا
بعض ما يتعلق بحقوق العباد ، كما بيّن في محله. نعم يجب عليه أن يكون نادما على
شركه وسائر معاصيه ، وأن يقلع عن مباشرة المناهي وأن يعزم على عدم العود إليها ،
ثم كون التوبة سببا لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة
وليس شيئا يكون سببا لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، كما قال الله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعاً) . وهذا مختصّ بمن تاب من الكفر ، فإن الله لا يغفر أن يشرك
به ، ولذا قال الله تعالى : (لا تَقْنَطُوا) ، وقال بعدها : (وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ) .
ثم اعلم أن التوبة
لغة هي الرجوع ولها مراتب ، توبة عن المعصية وهي توبة العوام ، وتوبة عن الغفلة
وهي للخواص ، وتسمى الأوبة أيضا ومنه قوله تعالى في حق الأنبياء : (إِنَّهُ أَوَّابٌ) ، أي رجّاع إلى الله بالتوبة ، وفي حق الصلحاء : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ
__________________
____________________________________
غَفُوراً) . أي الراجعين عن المعصية إلى الطاعة ، وحديث صلاة
الأوّابين وهي إحياء ما بين العشاءين بالطاعة ، وتوبة عن ملاحظة غير
الله ، وهي للعارفين والموحدين كما قال ابن الفارض رحمهالله تعالى :
ولو خطرت لي في
سواك إرادة
|
|
على خاطري سهوا
حكمت بردّتي
|
وفي الشريعة هي
الندم على المعصية من حيث هي معصية مع عزم ألّا يعود إليها إذا قدر عليها كذا عرفه
المتكلمون فقولهم على معصية لأن الندم على فعل لا يكون معصية ، بل مباحا أو طاعة
لا يسمى توبة ، وقولهم من حيث هي معصية لأن من ندم على شرب الخمر لما فيه من
الصداع وخفة العمل وكثرة النزاع والإخلال بالعرض والمال لم يكن تائبا شرعا ،
وقولهم مع عزم أن لا يعود إليها لأن النادم على الأمر لا يكون إلا كذلك ، ولذا ورد
في الحديث الندم توبة ، كذا في المواقف ، قال شارحه : واعترض
__________________
____________________________________
عليه بأن النادم
على فعل في الماضي قد يريده في الحال ، أو الاستقبال ، فهذا القيد احتراز منه وما
ورد في الحديث محمول على الندم الكامل وهو أن يكون مع العزم على عدم العود أبدا
ورد بأن الندم على المعصية من حيث هي معصية يستلزم ذلك العزم كما لا يخفى. انتهى.
ولا يخفى أن هذا
الاستلزام ممنوع عقلا ونقلا على ما صرّح به علماء الأنام حيث صرّحوا بأن التوبة عن
معصية دون أخرى صحيحة عند أهل السّنّة خلافا للمعتزلة ، وأيضا قد نصّوا على أن
أركان التوبة ثلاثة : الندامة على الماضي ، والإقلاع في الحال ، والعزم على عدم
العود في الاستقبال ، فالأولى أن يقال : معنى الندم توبة أنه عمدة أركانها كقوله
عليه الصلاة والسلام : «الحج عرفة» . ثم هذا إن كانت التوبة فيما بينه وبين الله كشرب الخمر ،
وإن كانت عمّا فرط فيه من حقوق الله كصلاة وصيام وزكاة فتوبته أن يندم على تفريطه
أولا ، ثم يعزم على أن لا يعود أبدا ولو بتأخير صلاة عن وقتها ثم يقضي ما فاته
جميعا ، وإن كانت عما يتعلق بالعباد فإن كانت من مظالم الأموال فتتوقف صحة التوبة
منها مع ما قدّمناه في حقوق الله تعالى على الخروج عن عهدة الأموال وإرضاء الخصم
في الحال والاستقبال بأن يتحلّل منهم ، أو يردّها إليهم أو إلى من يقوم مقامهم من
وكيل ، أو وارث هذا.
__________________
____________________________________
وفي القنية : رجل
عليه ديون لأناس لا يعرفهم من غصوب أو مظالم ، أو جنايات يتصدّق بقدرها على
الفقراء على عزيمة القضاء إن وجدهم مع التوبة إلى الله ولو صرف ذلك المال إلى
الوالدين والمولودين أي الفقراء يصير معذورا ، وفيها أيضا عليه ديون لأناس شتّى
كزيادة في الأخذ ونقص في الدفع فلو تحرّى في ذلك وتصدّق بثوب قوم بذلك يخرج عن
العهدة ، قال : فعرف بهذا أن في هذا لا يشترط التصدّق بجنس ما عليه ، وفي فتاوى
قاضي خان : رجل له حق على خصم فمات ولا وارث له تصدّق عن صاحب الحق بقدر ماله عليه
ليكون وديعة عند الله يوصلها إلى خصمائه يوم القيامة ، وإذا غضب مسلم من ذميّ مالا
أو سرق منه فإنه يعاقب به يوم القيامة لأن الذميّ لا يرجى منه العفو ، فكانت خصومة
الذميّ أشد ثم هل يكفيه أن يقول لك على دين فاجعلني في حلّ أم لا بدّ أن يعيّن
مقداره ، ففي النوازل رجل له على آخر دين وهو لا يعلم بجميع ذلك فقال له المديون :
أبرأني مما لك عليّ فقال الدائن : أبرأتك. قال نصير رحمهالله : لا يبرأ إلا عن مقدار ما يتوهّم أي يظن أنه عليه ، وقال
محمد بن سلمة رحمهالله عن الكل ، قال الفقيه أبو الليث : حكم القضاء ما قاله محمد
بن سلمة وحكم الآخرة ما قاله نصير ، وفي القنية من عليه حقوق فاستحلّ صاحبها ولم
يفصلها فجعله في حلّ يعذر أن علم أنه لو فصله يجعله في حلّ ؛ وإلا فلا ، قال بعضهم
: إنه حسن وإن روي أنه يصير في حلّ مطلقا.
وفي الخلاصة : رجل قال لآخر : حلّلني من كل حق هو لك ، ففعل فأبرأه إن
كان صاحب الحق عالما به برئ حكما بالإجماع ، وإما ديانة فعند محمد رحمهالله لا يبرأ وعند أبي يوسف يبرأ وعليه الفتوى. انتهى. وفيه أن
خلاف ما اختاره أبو الليث ، ولعل قوله مبني على التقوى ، وأما إن كانت المظالم في
الأعراض كالقذف والغيبة فيجب في التوبة فيها مع ما قدّمناه في حقوق الله أن يخبر
أصحابها بما قال من ذلك ويتحلّل منهم ، فإن تعذّر ذلك فليعزم على أنه متى وجدهم
تحلّل منهم فإذا حلّلوه سقط عنه ما وجب عليه لهم من الحق ، فإن عجز عن ذلك كله بأن
كان صاحب الغيبة ميتا أو غائبا مثلا فليستغفر الله ، والمرجو من فضله وكرمه أن
يرضي خصماءه من خزائن إحسانه فإنه جواد كريم رءوف رحيم.
__________________
____________________________________
وفي روضة العلماء : الزاني إذا تاب تاب الله عليه ، وصاحب الغيبة إذا تاب لم
يتب الله عليه حتى يرضى عنه خصمه ، قلت : ولعل هذا معنى ما ورد الغيبة أشد من
الزنا.
وقال الفقيه أبو
الليث : قد تكلم الناس في توبة المغتابين هل تجوز من غير أن يستحل من صاحبه؟ قال
بعضهم : يجوز ، وقال بعضهم : لا يجوز وهو عندنا على وجهين : إحداهما إن كان ذلك
القول قد بلغ إلى الذي اغتابه فتوبته أن يستحلّ منه ، وإن لم يبلغ إليه فليستغفر
الله سبحانه ويضمر ألّا يعود إلى مثله.
وفي روضة العلماء
: سألت أبا محمد رحمهالله ، فقلت له : إذا تاب صاحب الغيبة قبل وصولها إلى المغتاب
عنه هل تنفعه توبة؟ قال : نعم ، فإنه تاب قبل أن يصير الذنب ذنبا أي ذنبا يتعلق به
حق العبد ، لأنها إنما تصير ذنبا إذا بلغت إليه ، قلت : فإن بلغت إليه بعد توبته
قال : لا تبطل توبته ، بل يغفر الله لهما جميعا المغتاب بالتوبة والمغتاب عنه بما
يلحقه من المشقة لأنه كريم ، ولا يجمل من كرمه ردّ توبته بعد قبولها ، بل يعفو
عنهما جميعا. انتهى.
ولا يخفى أنه إنما
علّق الأمر بالكرم لأنه يحتمل أن يكون قبول توبته بشرط عدم علم المغتاب عنه بغيبته
مطلقا ، أما إذا قال بهتانا بأن لم يكن ذلك فيه فإنه يحتاج إلى التوبة في ثلاثة
مواضع : أحدها أن يرجع إلى القوم الذين تكلم بالبهتان عندهم فيقول : إني قد ذكرته
عندكم بكذا وكذا ، فاعلموا إني كنت كاذبا في ذلك ، والثاني أن يذهب إلى الذي قال
عليه البهتان ، ويطلب الرضى عنه حتى يجعل في حلّ منه ، والثالث أن يتوب كما سبق في
حقوق الله تعالى ، فليس شيء من العصيان أعظم من البهتان ، ثم هل يكفيه أن يقول
اغتبتك فاجعلني في حلّ ، أم لا بدّ أن يبيّن ما اغتاب؟ ففي منسك ابن العجمي في الغيبة
لا يعلمه بها إن علم أن إعلامه يثير فتنة ، ويدل عليه أن الإبراء عن الحقوق
المجهولة جائز عندنا لكن سبق أنه هل يكفيه حكومة ، أو ديانة ، ثم يستحب لصاحب
الغيبة إن يبرأه منها ليخلص أخاه عن المعصية ويفوز هو بعظيم التوبة.
__________________
____________________________________
وفي الملتقط إن رجلا له على آخر دين لا يقدر على استيفائه كان إبراؤه
خيرا له من أن يدعه عليه ، وفي القنية : تصافح الخصمين لأجل العذر استحلال.
وعن شرف الأئمة : إذا تشاتما يجب الاستحلال عليهما. انتهى. وفيه ورد على
ما اشتهر بين العوام أن الغيبة فاشية حتى بيّن العلماء الأعلام فكل واحد منهم له
حق في ذمة الآخر منهم فيحصل التقاصّ فيما بينهم. وفي القنية : سلم المؤذي على
المؤذى مرة بعد أخرى وكان يردّ عليهالسلام ويحسن إليه حتى غلب على ظنه أنه قد برئ منه ، ورضي عنه لا
يعذر والاستحلال واجب عليه ، وعن شرف الأئمة المكي : آذاه ولا يستحله للحال لأنه
يقول : هو ممتلئ غضبا فلا يعفو عني لا يعذر في التأخير ، قال الكرماني في منسكه :
ثم إذا تاب توبة صحيحة صارت مقبولة غير مردودة قطعا من غير شك وشبهة بحكم الوعد
بالنص أي : قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الآية. ولا يجوز لأحد أن يقول : إن قبول التوبة الصحيحة في
مشيئة الله تعالى ، فإن ذلك جهل محض ، ويخاف على قائله الكفر لأنه وعد قبول التوبة
قطعا من غير شك في قبول توبته ، وإذا تشكّك التائب في قبول توبته إذا كانت صحيحة
فإنه بتلك التوبة والاعتقاد به يكون مذنبا بذنب أعظم من الأول نعوذ بالله من ذلك
ومن جميع المهالك. انتهى.
وتوضيحه ما ذكره
الإمام الغزالي من أن التوبة إذا استجمعت شرائطها فهي مقبولة لا محالة ، ثم قال :
ومن تاب فإنما يشك في قبول توبته لأنه ليس يستيقن حصول شروطها ، ولو تصوّر أن يعلم
ذلك لتصوّر أن يعلم القبول في حق الشخص المعين ، ولكن هذا الشك في الأعيان لا
يشكّكنا في أن التوبة في نفسها طريق القبول لا محالة انتهى. وهو غاية المنتهى
فلنرجع إلى المدّعي فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية ، ونقول : وقولهم في تعريف
التوبة : إذا قدر لأن من القدرة على الزنا وسلب انقطع طمعه عن عود القدرة إليه إذا
عزم على تركه لم يكن ذلك توبة منه ، كذا في المواقف ، وقال شارحه : وفيه بحث لأن
قوله : إذا قدّر ظرف لترك الفعل المستفاد من قوله : أن لا يعود ، وإنما قيّد به
لأن
__________________
____________________________________
العزم على ترك
الفعل إنما يتصوّر ممّن قدر على ذلك الفعل وتركه في ذلك الوقت ، ففائدة هذا القيد
أن العزم على الترك ليس مطلقا حتى يتصوّر ممّن سلب قدرته وانقطع طمعه ، بل هو مقيد
بكونه على تقدير فرض القدرة وثبوتها فيتصوّر ذلك العزم من المسلوب أيضا. انتهى.
ولا يخفى أنه حينئذ لا يسمى مسلوبا قطعا ، وتحقيق المرام في هذا المقام قول الآمدي
: وإنما قلنا عند كونه أهلا للفعل في المستقبل احترازا عما إذا زنى ، ثم جبّ ، أو
كان مشرفا على الموت فإن العزم على ترك الفعل في المستقبل غير متصوّر منه لعدم
تصوّر صدور الفعل عنه ، ومع ذلك فإنه إذا ندم على ما فعل صحّت توبته بإجماع السلف
، وقال أبو هاشم : الزاني إذا جبّ لا تصحّ توبته لأنه عاجز وهو باطل بما إذا تاب
عن الزنا وغيره ، وهو في مرض مخيف فإن توبته صحيحة بالإجماع وإن كان جازما بعجزه
عن الفعل في المستقبل. انتهى. ولا يخفى أن الإجماع الأول مبني على أن العزم على
ترك الفعل إذا قدّر ركن يسقط عند العذر كما قالوا في إسقاط ركن الإقرار عن نحو
الأخرس.
والإجماع الثاني
مبني على أن المرض المخيف ليس مما يوجب الجزم بالعجز عن الفعل في المستقبل بدليل
قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» يعني فإنه حينئذ يتحقق عدم قدرته مع أن توبته عند العيان
وهو مأمور بإيقاع الإيمان وما يتعلق به في حال غيّب أمور الآخرة فتبين الفرق بين
الزاني إذا جبّ وإذا مرض مرضا مخيفا فلا يصح أن يكون الأول باطلا بالثاني ، لكن مع
هذا يجب على المجبوب أيضا أن يعزم على أن لا يعود إليه على تقدير القدرة ، وأما ما
ذكره صاحب المقاصد من الترديد حيث قال : إن قلنا لا يقبل ندم المجبوب فمن تاب لمرض
مخيف
__________________
____________________________________
فهل يقبل ذلك منه
لوجوب التوبة أم لا؟ لأنه ليس باختياره بل بإلجاء الخوف إليه ، فيكون كالإيمان عند
اليأس أي في ظهور ما يلجئه إليه فإنه غير مقبول إجماعا ، فهو مناف لما نقل الآمدي
من الإجماع على القبول في المسألتين السابقتين.
ثم اعلم أن من
أراد أن يكون مسلما عند جميع طوائف الإسلام فعليه أن يتوب من جميع الآثام صغيرها
وكبيرها سواء يتعلق بالأعمال الظاهرة ، أو بالأخلاق الباطنة ، ثم يجب عليه أن يحفظ
نفسه في الأقوال والأفعال والأحوال من الوقوع في الارتداد نعوذ بالله من ذلك فإنه
مبطل للأعمال ، وسوء خاتمة المآل ، وإن قدر الله عليه وصدر عنه ما يوجب الردّة
فيتوب عنها ويجدّد الشهادة لترجع له السعادة ، هذا وفي الخلاصة إيمان اليأس غير
مقبول وتوبة اليأس المختار أنها مقبولة. انتهى.
ولا يخفى أن هذه
الرواية مخالفة لظاهر الدراية حيث ورد قوله عليه الصلاة والسلام : «إن الله يقبل
توبة العبد ما لم يغرغر ، بل النص الصريح في قوله سبحانه : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي
تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فيجب على كل أحد معرفة الكفريات أقوى من معرفة الاعتقاديات
، فإن الثانية يكفي فيها الإيمان الإجمالي بخلاف الأولى ، فإنه يتعين العلم
التفصيلي لا سيما في مذهب إمامنا الحنفي ، ولذا قيل : الدخول في الإسلام سهل في
تحصيل المرام ، وأما الثبات على الأحكام فصعب على جميع الأنام ويشير إليه قوله تعالى
: (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) الآية ، وقد قالوا : الاستقامة خير من ألف كرامة ، ومن
اللطائف أنه قيل : لو أحد من جيران أبي يزيد [قيل له] أما تسلم ، فقال :
إن كان الإسلام كإسلام أبي يزيد فما أقدر على أن أخرج عن عهدته ، وإن كان الإسلام
كإسلامكم فما تعجبني أحوالكم في أحكامكم ، فإذا تبيّن ذلك لك فاعلم أني أذكر ما
وصل إليّ من قول العلماء في هذا الباب ، واختلاف بعضهم في الجواب وأبين ما يظهر لي
فيه من الصواب.
وقد سبق ذكر بعض
هذه المسائل في هذا الكتاب فلنذكر ما عداها وما يترتب
__________________
____________________________________
عليها ، وفي عمدة
النسفي : واستحلال المعصية كفر.
قال شارحه القونوي
: كأنه أراد والله أعلم بالمعصية ، المعصية الثابتة بالنص القطعي لما في ذلك من
جحود مقتضى الكتاب ، أما المعصية الثابتة بالدليل الظني كخبر الواحد فإنه لا يكفر
مستحلّها ، ولكن يفسق إذا استخفّ بأخبار الآحاد فأما متأوّلا فلا لما عرفت.
وقال القاضي عضد
الدين في المواقف : ولا يكفر أحد من أهل القبلة إلا فيما فيه نفي الصانع القادر
العليم ، أو شرك ، أو إنكار للنبوّة أو ما علم مجيئه بالضرورة ، أو المجمع عليه
كاستحلال المحرّمات ، وأما ما عداه فالقائل به مبتدع لا كافر انتهى. ولا يكفي أن
المراد بقول علمائنا : لا نجوّز تكفير أهل القبلة بذنب ليس مجرد التوجّه إلى
القبلة فإن الغلاة من الروافض الذين يدعون أن جبرائيل عليهالسلام غلط في الوحي فإن الله تعالى أرسله إلى عليّ رضي الله عنه
، وبعضهم قالوا : إنه إله وإن صلّوا إلى القبلة ليسوا بمؤمنين ، وهذا هو المراد
بقوله صلىاللهعليهوسلم «من صلى صلاتنا
واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمّة رسوله ، فلا
تخفروا الله في ذمته» . كذا أورده البخاري في الصحيح.
قال القونوي : ولو
تلفّظ بكلمة الكفر طائعا غير معتقد له يكفر لأنه راض بمباشرته وإن لم يرض بحكمه
كالهازل به فإنه يكفر ، وإن لم يرض بحكمه ولا يعذر بالجهل ، وهذا عند عامّة
العلماء خلافا للبعض.
قال : ولو أنكر
أحد خلافة الشيخين رضي الله عنهم يكفر. أقول ولعل وجهه أنها ثبتت بالإجماع من غير
نزاع ، أو لأن خلافة الصدّيق رضي الله عنه بإشارة صاحب التحقيق وخلافة عمر رضي
الله عنه بنصب الصدّيق من غير تردّد في أمره بخلاف خلافة الختنين ، وأما من أنكر
صحبة أبي بكر فيكفر لكونه إنكارا لنص القرآن حيث قال الله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ
إِنَّ اللهَ مَعَنا) . وإجماع المفسّرين على أنه المراد به.
ونقل عن
التاتارخانية أن من قيل له : افعل هذا لله ، فأجاب لا أفعله كفر. وفيه أن أبرار
المقسم من المستحبات كما ورد في الأحاديث ، فينبغي أن لا يكفر نعم ولو صرّح بأنه
لا أفعله لله تعالى ، فالظاهر أنه يكفر.
__________________
____________________________________
ثم اعلم أن باب
التكفير عظمت فيه المحنة والفتنة وكثر فيه الافتراق والمخالفة وتشتّت فيه الأهواء
والآراء وتعارضت فيه دلائلهم وتناقضت فيه وسائلهم فالناس في جنس تكفير أهل
المقالات الفاسدة والعقائد الكاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله تعالى به رسوله
إلى الخلق على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية ، فطائفة
تقول : لا نكفّر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عامّا مع العلم بأن في
أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسّنّة
وإجماع الأمة ، وفيهم من قد يظهر بعد ذلك حيث يمكنهم وهم يتظاهرون بالشهادتين ،
وأيضا فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة
والمحرّمات الظاهرة المتواترة فإنه يستتاب فإن تاب فيها ، وإلا قتل كافرا مرتدّا والنفاق
والردّة مظنتها البدع والفجور كما ذكر الخلال في كتاب السّنّة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال : إن أسرع الناس ردّة أهل الأهواء وكان يرى هذه
الآية نزلت فيهم : (وَإِذا رَأَيْتَ
الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي
حَدِيثٍ غَيْرِهِ) . ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنّا لا
نكفّر أحدا بذنب ، بل يقال : إنّا لا نكفّرهم بكل ذنب كما يفعله الخوارج ، وفرّق
بين النفي العام ونفي العموم ، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج
الذين يكفرون بكل ذنب ، وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في
الأعمال لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأوّلا فيقولون : يكفر كل من
قال هذا القول ، لا يفرّقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، ويقولون بكفر كل مبتدع ،
وهذا القول يقرب إلى مذهب الخوارج والمعتزلة فمن عيوب أهل البدعة أنه يكفّر بعضهم
بعضا ، ومن ممادح أهل السّنّة والجماعة أنهم يخطئون ولا يكفّرون ، نعم من اعتقد أن
الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، فهو كافر وإن عدّ قائله من أهل البدعة ، وكذا
من قال : بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر
__________________
____________________________________
حيث لم تثبت له
حقيقة الإيمان ، وأما قوله عليه الصلاة والسلام : «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ، كما رواه الشيخان فمحمول على الاستحلال ، أو على قتاله
من حيث إنه مسلم ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد
باء بها أحدهما» ، كما في الصحيحين يحمل على أنه إذا اعتقد ذلك ولم يرد به
إهانة هنالك أو قصد به كفر النعمة ، ونحو ذلك وقوله عليه الصلاة والسلام : «من حلف
بغير الله فقد كفر» كما رواه الحاكم بهذا اللفظ فمعناه كفر دون كفر كما رواه
غيره فقد أشرك أي شركا خفيّا أو يحمل على أنه إذا اعتقد تعظيم غيره سبحانه باليمين
أو استحلّ هذا الأمر المبين.
اعلم أن قدامة بن [مظعون]
شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة وتأوّلوا قوله
__________________
____________________________________
تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الآية. فلما ذكر ذلك لعمر بن الخطاب اتفق هو وعلي بن أبي
طالب وسائر الصحابة رضي الله عنهم على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن
أصرّوا على استحلالها قتلوا ، وقال عمر رضي الله عنه لقدامة : أخطأت استك الحفرة
أما أنك لو اتّقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب
أن الله سبحانه لما حرّم الخمر وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة رضي
الله عنهم : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل التحريم ، وكيف
ببعضنا الذين قتلوا يوم أحد شهداء والخمر في بطونهم؟ فأنزل الله هذه الآية المذكورة ، وبيّن فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم
يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان هو من المؤمنين المتّقين المصلحين ، ثم إن أولئك
الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا وأيسوا من التوبة ، فكتب عمر رضي الله
عنه إلى قدامة يقول له : (حم تَنْزِيلُ
الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ
شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ) ما أدري أيّ ذنبيك أعظم استحلالك المحرّم أولا ، أم يأسك
من رحمة الله ثانيا؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة الكرام ، وهو متّفق عليه بين
أئمة الإسلام.
__________________
____________________________________
وروي عن إبراهيم
بن أدهم أنهم رأوه بالبصرة يوم التروية ورؤي في ذلك اليوم بمكة ، فقال ابن مقاتل :
من اعتقد جوازه كفر ، لأنه من المعجزات لا من الكرامات ، أما أنا فأستجهله ولا أكفّره.
أقول : ينبغي أن
لا يكفّر ولا يستجهل لأنه من الكرامات لا من المعجزات إذ المعجزة لا بدّ فيها من
التحدّي ولا تحدّي هنا فلا معجزة ، وعند أهل السّنّة والجماعة : تجوز الكرامة كذا
في الفصولين ، وأقول التحدّي فرع دعوى النبوّة ودعوى النبوّة بعد نبيّنا صلىاللهعليهوسلم كفر بالإجماع ، فظهور خارق العادات من الاتّباع كرامة من
غير نزاع.
ثم اعلم أنه إذا
تكلم بكلمة الكفر عالما بمعناها ولا يعتقد معناها لكن صدرت عنه من غير إكراه ، بل
مع طواعية في تأديته فإنه يحكم عليه بالكفر بناء على القول المختار عند بعضهم من
أن الإيمان هو مجموع التصديق والإقرار فبإجرائها يتبدّل الإقرار بالإنكار ، أما
إذا تكلم بكلمة ولم يدر أنها كلمة كفر ففي فتاوى قاضي خان حكاية خلاف من غير ترجيح
حيث قال : قيل : لا يكفر لعذره بالجهل ، وقيل : يكفر ، ولا يعذر بالجهل ، أقول :
والأظهر الأول إلا إذا كان من قبيل ما يعلم من الدين بالضرورة فإنه حينئذ يكفر ،
ولا يعذر بالجهل.
ثم اعلم أن المرتد
يعرض عليه الإسلام على سبيل الندب دون الوجوب لأن الدعوة بلغته ، وهو قول مالك
والشافعي وأحمد رحمهمالله تعالى وتكشّف عنه شبهته ، فإن طلب أن يمهل حبس ثلاثة أيام
للمهلة لأنها مدة ضربت لأجل الأعذار فإن تاب فيها وإلا قتل.
وفي النوادر عن أبي حنيف وأبي يوسف رحمهماالله تعالى : يستحبّ أن يمهل ثلاثة أيام طلب ذلك أو لم يطلب ،
وفي أصحّ قولي الشافعي رحمهالله تعالى إن تاب في الحال ، وإلا قتل وهو اختيار ابن المنذر ،
وقال الثوري رحمهالله : يستتاب ما رجي عوده ، وفي المبسوط وإن ارتدّ ثانيا
وثالثا ، فكذلك يستتاب ، وهو قول أكثر أهل العلم ، وقال مالك وأحمد رحمهمالله : لا يستتاب من تكرر منه كالزنديق ، ولنا في الزنديق
روايتان في رواية : لا تقبل توبته كقول مالك رحمهالله ، وفي رواية تقبل وهو قول
__________________
____________________________________
الشافعي رحمهالله ، وهو في حق أحكام الدنيا ، وأما فيما بينه وبين الله
فتقبل بلا خلاف ، وعن أبي يوسف رحمهالله تعالى : إذا تكرر منه الارتداد يقتل من غير عرض الإسلام
أيضا لاستخفافه بالدين.
ثم اعلم أن الشيخ
العلّامة المعروف بالبدر الرشيد رحمهالله تعالى من الأئمة الحنفية جمع أكثر الكلمات الكفرية
بالإشارة الإيمائية فهنا أبين رموزها وأعين كنوزها وأحلّ غموزها وأجلى غموضها.
ففي حاوي الفتاوى : من كفر باللسان وقلبه مطمئن بالإيمان ، فهو كافر ، وليس
بمؤمن عند الله. انتهى. وهو معلوم من مفهوم قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ
إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ
شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ) . وفي خلاصة الفتاوى من خطر بباله ما يوجب الكفر لو تكلم به ولم يتكلم وهو كاره
لذلك ، فذاك محض الإيمان. انتهى ، وقد ورد حديث في هذا المعنى وقال عليه الصلاة
والسلام : «الحمد لله الذي ردّ أمر الشيطان إلى الوسوسة» . وفيه أيضا إن من عزم على الكفر ولو بعد مائة سنة يكفّر في
الحال. انتهى. وقد بيّنت وجهه في ضوء المعالي شرح بدء الأمالي ... وفيه أيضا أن من
ضحك مع الرضاء عمّن تكلم بالكفر كفر. انتهى. ومفهومه أن من ضحك تعجبا من مقالته مع
عدم الرضاء بحالته لا يكفر ، فالمدار على الرضاء ، وإنما قيّد المسألة بالضحك لأن
الغالب أن يكون مع الرضاء ، ولذا أطلق في مجمع الفتاوى ، وقال : من تكلم بكلمة الكفر وضحك به غيره كفر.
ولو تكلم به مذكّر
وقبل القوم ذلك كفروا يعني لو تكلم به واعظ أو مدرّس أو
__________________
____________________________________
مصنّف واعتقده
القوم الذين اطّلعوا عليه كفروا ، ولا عذر لهم فيه إلا إن كان الكفر مختلفا فيه ،
وزاد في المحيط ، وقيل : إذا سكت القوم عن المذكر وجلسوا عنده بعد تكلمه بالكفر
كفروا. انتهى ، وهذا محمول على العلم بكفره ...
وفي المحيط من أنكر الأخبار المتواترة في الشريعة كفر مثل حرمة لبس
الحرير على الرجال ، ومن أنكر أصل الوتر وأصل الأضحية كفر انتهى ، ولا يخفى أنه
قيّده بقوله في الشريعة لأنه لو أنكر متواترا في غير الشريعة كإنكار جود حاتم
وشجاعة علي رضي الله عنه وغيرهما لا يكفر ، ثم اعلم أنه أراد بالتواتر هاهنا
التواتر المعنوي لا اللفظي لعدم ثبوت تحريم لبس الحرير ، وأصل الوتر والأضحية
بالتواتر المصطلح فإن الأخبار المروية عنه صلىاللهعليهوسلم على ثلاث مراتب كما بيّنته في شرح شرح النخبة ونخبته هنا
أنه إما متواتر ، وهو ما رواه جماعة لا يتصوّر تواطؤهم على الكذب ، فمن أنكره كفر
أو مشهور وهو ما رواه واحد عن واحد ، ثم جمع عن جمع لا يتصوّر توافقهم على الكذب
فمن أنكره كفر عند الكل إلا عيسى بن أبان فإن عنده يضلل ولا يكفر وهو الصحيح ، أو
خبر الواحد وهو أن يرويه واحد عن واحد فلا يكفر جاحده غير أنه يأثم بترك القبول
إذا كان صحيحا أو حسنا.
وفي الخلاصة : من
ردّ حديثا قال بعض مشايخنا : يكفر ، وقال المتأخرون إن كان متواترا كفر. أقول :
هذا هو الصحيح إلا إذا كان ردّ حديث الآحاد من الأخبار على وجه الاستخفاف
والاستحقار والإنكار. وفي الفتاوى الظهيرية : من روى عنده عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : ما بين بيتي ومنبري ، أو ما بين قبري ومنبري
روضة من رياض الجنة ، فقال الآخر أرى المنبر والقبر ولا أرى شيئا أنه يكفر وهو
محمول على أنه أراد به الاستهزاء
__________________
____________________________________
والإنكار وليس
مؤمنا بالأمور الغيبية الزائدة على الأحوال العينية الواردة في الأخبار ... وفي
المحيط : من أكره على شتم النبي صلىاللهعليهوسلم أن قال : شتمت ولم يخطر ببالي وأنا غير راض بذلك لا يكفر
وكان كمن أكره على الكفر بالله فتكلم وقلبه مطمئن بالإيمان وإن قال خطر ببالي رجل
من النصارى اسمه محمد فأردته ونويته بالشتم لا يكفر أيضا وإن قال خطر ببالي نصراني
اسمه محمد فأردته ونويته فلم أشتمه وإنما شتمت مع ذلك النبي صلىاللهعليهوسلم يكفر في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى أيضا لأنه شتم
النبي صلىاللهعليهوسلم طائعا لأنه أمكنه الدفع يشتم محمد آخر خطر بباله. انتهى ...
وفيه أنه إذا لم يخطر بباله محمد آخر حينئذ وشتمه مكرها لا يكفر لكن لا بدّ أن
يكون الإكراه بقتل أو ضرب مؤلم ويكون المكره قادرا عليه ولا يمكن للمكره دفعه عنه
بوجه آخر فتدبر ...
وفي الخلاصة روي
عن أبي يوسف رحمهالله أنه قيل له بحضرة الخليفة المأمون إن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحب القرع فقال رجل أنا لا أحبه فأمر أبو يوسف رحمهالله بإحضار النطع والسيف فقال الرجل : أستغفر الله مما ذكرته ،
ومن جميع ما يوجب الكفر أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فتركه
ولم يقتله ، وتأويل هذا أنه قال ذلك بطريق الاستخفاف يعني لأن الكراهة طبيعية ليست
داخلة تحت الأعمال الاختيارية ولا يكلف بها أحد في القواعد الشرعية.
وفي الخلاصة أيضا
: أن في الأجناس عن أبي حنيفة رحمهالله لا يصلى على غير الأنبياء والملائكة ومن صلى على غيرهم إلا
على وجه التبعية فهو غال من الشيعة التي نسمّيها الروافض. انتهى ، ومفهومه أن حكم
الإسلام ليس كذلك ولعل وجهه أن السلام تحية أهل الإسلام ولا فرق بين السلام عليه وعليهالسلام إلا أن قول عليّ عليهالسلام من شهار أهل البدعة فلا يستحسن في مقام المرام.
__________________
____________________________________
فصل في القراءة والصلاة
وفي الفتاوى
الظهيرية : يجب إكفار الذين يقولون : إن القرآن جسم إذا كتب وعرض إذا قرئ انتهى.
وفيه بحث لا يخفى ، وتحقيقه ما تقدّم في مسألة القول بخلق القرآن. وفي الخلاصة :
من قرأ القرآن على ضرب الدفّ والقضيب يكفر ، قلت : ويقرب منه ضرب الدّف والقضيب مع ذكر الله
تعالى ونعت المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، وكذا التصفيق على الذكر.
ثم قال : وكذا من
لم يؤمن بكتاب من كتب الله أو جحد وعدا أو وعيدا مما ذكره الله في القرآن أو كذب
شيئا منه أي من أخباره ، وهذا ظاهر لا مرية في أمره ولا مخالفة لحكمه. وفي جواهر
الفقه من أنكر الأهوال عند النزع والقبر والقيامة والميزان والصراط والجنة والنار كفر.
انتهى.
ولعل الجنة والنار
عطف على الأهوال لتستقيم الأحوال إلا أن المعتزلة لم يقولوا بعذاب القبر ولا
بالميزان والصراط ولا يصحّ إكفارهم في صحيح الأقوال.
وفي فوز النجاة من قال : لا أدري لم ذكر الله تعالى هذا في القرآن كفر
يعني إذا كان بطريق الإنكار ليترتب عليه الإكفار بخلاف ما إذا سأل استفهاما عن
حكمته ... وفي المحيط : سئل الإمام الفضلي عمّن يقرأ الظاء المعجمة مكان الضاد
المعجمة ، أو يقرأ أصحاب الجنة مكان أصحاب النار ، أو على العكس ، فقال : لا تجوز
إمامته ولو تعمّد يكفر قلت : أما كون تعمّده كفرا فلا كلام فيه إذا لم يكن فيه
لغتان : (ففي ضنين الخلاف سامي) ، وأما تبديل الظاء مكان الضاد ففيه تفصيل ، وكذا
تبديل أصحاب الجنة في موضع أصحاب النار وعكسه ، ففيه خلاف وبحث طويل. وفي تتمة
الفتاوى : من استخفّ بالقرآن أو بالمسجد أو بنحوه مما يعظم في الشرع كفر ، ومن وضع
رجله على المصحف حالفا استخفافا كفر انتهى ...
ولا يخفى أن قوله
حالفا قيد واقعي لا مفهوم له. وفي جواهر الفقه من قيل له : ألا تقرأ القرآن أو لا
تكثر قراءته ، فقال : شبعت أو كرهت أو أنكر آية من كتاب الله أو عاب شيئا من
القرآن أو أنكر كون المعوذتين من القرآن غير مؤوّل كفر ، قلت : وقال
__________________
____________________________________
بعض المتأخرين كفر
مطلقا أوّل أو لم يؤوّل ، لكن الأول هو الصحيح المعوّل. وفيه أيضا : ومن جحد
القرآن أي كله أو سورة منه ، أو آية قلت : وكذا كلمة أو قراءة متواترة ، أو زعم
أنها ليست من كلام الله تعالى كفر يعني إذا كان كونه من القرآن مجمعا عليه مثل
البسملة في سورة النمل ، بخلاف البسملة في أوائل السور فإنها ليست من القرآن عند المالكية
على خلاف الشافعية ، وعند المحقّقين من الحنفية أنها آية مستقلة أنزلت للفصل ،
وفيه أيضا من سمع قراءة القرآن فقال : استهزاء بها صوت طرفة كفر أي نغمة عجيبة ،
وإنما يكفر إذا قصد الاستهزاء بالقراءة نفسها بخلاف ما إذا استهزأ بقارئها من
حيثية قبح صوته فيها وغرابة تأديته لها.
وفي الفتاوى
الظهيرية : من قرأ آية من القرآن على وجه الهزل كفر ، قلت : لأنه تعالى قال : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَما هُوَ
بِالْهَزْلِ) . وفي تتمة الفتاوى : من استعمل كلام الله تعالى بدل كلامه
كمن قال في ازدحام الناس : فجمعناهم جمعا كفر ، قلت : هذا إنما يتصوّر إذا كان
قائل هذا الكلام هو جامع الناس بالازدحام ، وإلا فلا مانع من أنه تذكّر في هذا
المقام قوله تعالى : فيما سيكون يوم القيامة فالأظهر في مثال هذا الباب : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ) . إذا قصد هذا المعنى في الخطاب بخلاف ما إذا طابق لفظه نص
الكتاب والله تعالى أعلم بالصواب.
وفي فوز النجاة :
من قال لآخر : اجعل بيته مثل السماء والطارق يكفر لأنه يلعب بالقرآن ، قلت : وكذا
من قال : جعلت بيتي مثل ما ذكر فلا مفهوم لآخر فتدبر. وفي جواهر الفقه من قال لآخر
: ظهر البيت أو فمه مثل والسماء والطارق قلت : إنما ذكره تقوية لما قبله ... وفي
فوز النجاة من قال لآخر : طبخ القدر بقل هو الله أحد كفر. أي لأنه أراد بهذا
السخرية لا التبرّك به وتحسين الطويّة.
وفي [الظهيرية] : من قال سلخت أو سلخ سورة الإخلاص أو قال لمن يكثر قراءة
سورة التنزيل أخذت جيب سورة التنزيل كفر قلت : أراد بالتنزيل التمثيل ولذا قال في
المحيط أو قال : أخذت جيب ألم نشرح لك كفر. أي لقصده الاستهزاء لا المداومة على
قراءته في البلاء والرخاء ... وفي الظهيرية لو قال : فلان أقصر من إنّا أعطيناك
كفر ،
__________________
____________________________________
أي لاستهزائه به ،
أو لمن قال ؛ يقرأ عند المريض سورة يس تلقمها في فم الميت كفر أي لاستخفافه بها.
قال : ومن دعي إلى
جماعة فقال : أصلّي موحّدا أي منفردا فإن الله تعالى قال : الصلاة تنهى كفر ، يعني
استدلّ بقوله تعالى تنهى أنه بمعنى تنها بلغة العجم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام
: «من فسّر القرآن برأيه فقد كفر» . مع أنه بدّل وحرّف وغيّر.
وفي المحيط من قال
لمن يقرأ القرآن ولا يتذكّر كلمة والتفّت الساق بالساق أو ملأ قدحا وجاء به ، وقال
: وكأسا دهاقا ، أو قال : فكانت سرابا بطريق المزاح ، أو قال عند الكيل أو الوزن :
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون يريد به المزاح فهذا كله كفر أي لأن المزاح بالقرآن
كفر كما سبق ...
ومن جمع أهل موضع
وقال : (وَحَشَرْناهُمْ
فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) ، أو قال : (فَجَمَعْناهُمْ
جَمْعاً) ، أو قال : فجمعناهم عندنا كفر. وفيه وجه الكفر في القولين
الأوّلين ظاهر ، لأنه وضع القرآن في موضع كلامه ، وأما القول الأخير فلا يظهر وجه
كفره لأنه ما جاء جمعناهم عندنا في القرآن وبمجرد مشاركة كلمة تكون في القرآن من
جملة أجزاء الكلام لا يخرج من الإسلام باتفاق علماء الأنام فكأن القائل به توهّم
أنه من ألفاظ القرآن ، ثم قال : ومن قال والنازعات نزعا أو نزعا يعني بضم النون
وأراد به الطنز كفر انتهى. والطنز بالطاء والنون والزاي السخرية.
وفي تتمة الفتاوى
قال معلم يوم خلق الله القرآن وضع الخميس كفر ، وفيه أنه إن كان مبنيّا على مسألة
خلق القرآن فهي من الخلافية ، وإن كان مبنيّا على قوله وضع بصيغة الفاعل وأنه
افترى على الله كذبا أنه شرع إعطاء الخميس للفقيه ، فكفره ظاهر بخلاف ما إذا قال :
وضع بصيغة المفعول ، أي المجهول فتأمل فإنه موضع زلل.
ثم قال : ولو قال
خذ أجرة المصحف يكفر ، وفيه بحث لأنه يحتمل صدور هذا
__________________
____________________________________
الكلام منه لفقيه
الكتاب ، أو لكاتب المصحف ، وعلى التقديرين فالمعنى خذ أجرة تعليمه أو كتابته ولا
محذور فيه لا سيما ، والجمهور من المتأخرين جوّزوا تعليم القرآن بالأجرة ، واتفقوا
على جواز أجرة كتابة المصحف ثم قال : ومن قال لما في القدر إذا سئل ما فيه ، أو
قال : لما هو في القدر والباقيات الصالحات كفر يعني ، لأنه إما قاله : مزاحا أو
وضع كلامه سبحانه موضع كلامه كما يدل عليه إتيان الواو في : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) .
وفي الظهيرية
تخاصموا فقال أحدهما : لا حول ولا قوة إلا بالله ، وقال الآخر : لا حول ليس على
أمر ، أو قال ما ذا أفعل بلا حول ولا قوة إلا بالله ، أو قال : لا حول لا يغني من
جوع ، أو لا يغني من الخبز ، أو لا يكفي من الخبز ، أو لا يأتي من لا حول شيء ، أو
قال لا حول لا يثرد في القصعة كفر في الوجوه كلها.
وفي المحيط :
وكذلك إذا قال كله عند التسبيح والتهليل كفر ، وكذلك إذا قال : سبحان الله ، وقال
الآخر : سلخت اسم الله أو إلى كم سبحان الله ، أو تقول سبحان الله كفر لاستخفافه
في الكل باسم الله ، قلت : وهذا تعليل حسن يفيد أنه لو قال إلى كم سبحان الله أو
إلام تقول سبحان الله بطريق الاستفهام لا سيما عند إطالة هذا الكلام لا يكفر ، ثم
قال : وكذلك إذا قال وقت قمار كعبتين بسم الله كفر. انتهى. ولا يخفى أن في معناه
وقت قمار الشطرنج بل وقت لعبه ولو من غير قمار وكذا رمي الرمل وطرح الحصى كما
يفعله أرباب الفأل ، وفي التتمة من قال عند ابتداء شرب الخمر أو الزنا أو أكل
الحرام : بسم الله كفر ، وفيه أنه ينبغي أن يكون محمولا على الحرام المحض المتفق
عليه ، وأن يكون عالما بنسبة التحريم إليه بأن تكون حرمته مما علم من الدين
بالضرورة كشرب الخمر ، ثم قال : ولو قال بعد أكل الحرام : الحمد لله اختلفوا فيه ،
فإن أراد به الحمد على أنه رزق كفر أي رزق الحرام فإنه استحسان له حيث عدّه نعمة
وهو كفر أما لو أراد الحمد على الرزق المطلق من غير أن يخطر بباله الحرام أو
الحلال فلا يكفر بخلاف مذهب المعتزلة ، فإن الحرام ليس رزقا عندهم ، وعندنا الرزق
يشمل الحرام والحلال ، تعالى أعلم بالأحوال.
ثم قال البدر
الرشيد أو صاحب فتاوى التتمة : سمعت عن بعض الأكابر أنه قال موضع الأمر للشيء ، أو
قال : موضع الإجازة بسم الله مثل أن يقول أحد أدخل ، أو أقوم
__________________
____________________________________
أو أصعد أو أسير
أو أتقدم ، فقال المستشار : بسم الله يعني به أدنتك فيما استأذنت كفر يعني حيث وضع
كلام الله موضع مهانة توجب إهانة ، وهذا تصوير مسألة الإجازة ، وأما تصوير مسألة
الأمر للشيء فهو أن صاحب الطعام يقول لمن حضر : بسم الله ، وهذه المسألة كثيرة
الوقوع في هذا الزمان وتكفيرهم حرج في الأديان ، والظاهر المتبادر من صنيعهم هذا
أنه يتأدبون مع المخاطب حيث لا يشافهونه بالأمر ويتباركون بهذه الكلمة مع احتمال
تعلقه بالفعل المقدّر أي كل باسم الله وادخل بسم الله على أن متعلق البسملة في
غالب الأحوال يكون محذوفا من الأفعال ، فلا يقال للمصنّف ، أو القارئ إذا قال بسم
الله أنه أراد وضع كلام الله موضع كلامه ، بل يقال : تقديره أصنّف أو أقرأ أو
أبتدئ كلامي ونحوه بسم الله فالمقصود أنه لا ينبغي للمفتي أن يعتمد على ظاهر هذا
النقل لا سيما وهو مجهول الأصل ، وليس مستندا إلى من يتعيّن علينا تقليده فيجوز
لنا تقييده ، وأما ما نقله البزازي عن مشايخ خوارزم من أن الكيال والوزان يقول في ابتداء
العدّ في مقام أن يقول : واحد بسم الله ويضعه مكان قوله واحد لا يريد به ابتداء
العدّ لأنه لو أراد لقال : بسم الله واحد ، لكنه لا يقول كذلك ، بل يقتصر على بسم
الله يكفر ففيه المناقشة المذكورة هنالك فإنه لا يبعد أنه أراد ابتداء العد كما
تدل عليه البسملة المتعلقة غالبا بابتدئ أو ابتدائي أو ابتدأت المقدّرة أولا أو
آخر فحينئذ يستغنى ، بهذا القدر عن قوله واحد فتدبر ، فإنه إيجاز في الكلام ، وليس
على صاحبه شيء من الملام ونظيره ما يقوله بعض الجهلة عند استلام الحجر الأسود :
اللهمّ صلّ على نبي قبلك فإنه كفر بظاهره إلا أنهم يريدون به الالتفات في الكلام ،
وفي المحيط من قال : القرآن أعجمي كفر يعني لأنه معارضة لقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) . وبوجود كلمة أعجمية فيه معربة لا يخرج عن كونه عربيّا لأن
العبرة للأكثر فتدبر ، وفيه أيضا من رأى الغزاة الذين يخرجون للغزو فقال : فقال :
هؤلاء أكلة الرز ، فقد قيل : يخشى عليه الكفر يعني إن أراد به مجرد إهانتهم من جهة
طاعتهم كفر ، وأما إن قال ذلك نظرا إلى عدم تصحيح نيّتهم وتحسين طويّتهم فلا يكون
كفرا ، وفيه أيضا من صلى الفجر وقال بالفارسية : فجرك وانماز كر دم يعني صليت
الفجر بصيغة التصغير للتحقير ، أو قال : آن دابر سر من دادم كفر يعني أدّيت ما وضع
على مثل ما يضعه الحاكم الظالم على الرعية ، وتسمى الرمية في اللغة العربية ، ومن
قال : والله
__________________
____________________________________
لا أصلي ولا أقرأ
القرآن ، أو قال هو إن صلى أو قرأ أو شدّد الأمر على نفسه ، أو صعب ، أو أطول ، أو
قال : إن الله نقص من مالي ، وأنا أنقص من حقه ولا أصلي انتهى. كذا من غير بيان
حكم ، والظاهر عدم الكفر في الصور الأول والكفر في المسألة الأخيرة ، فتأمل فإن
معارضة الرب من علامة كفر القلب بخلاف القسم على ترك الصلاة فإنه ينبئ عن تعظيم
الله سبحانه في الجملة مع نوع من المخالفة في الطاعة التي لا تخرجه عن الإيمان
والله المستعان ...
وأما قوله وفي
نسخة منسوبة إلى التتمة من قال : لا أصلّي جحودا ، أو استخفافا ، أو على أنه لم
يؤمر أو ليس بواجب انتهى. فلا شك أنه كفر في الكل ، وفي الفتاوى الصغرى ، أو قال للمكتوبة : لا أصلّيها أبدا انتهى ، وظاهر عطفه
بأو على ما قبله أنه يشاركه في حكمه بالكفر ، وفي المسألة الأولى كفره ظاهر إن
أراد به عدم الوجوب بخلاف ما إذا أراد الجواب والله أعلم بالصواب. وبخلاف المسألة
الثانية : اللهمّ إلّا أن يقال الإصرار على الكبيرة كفر حقيقي ، نعم كفر باعتبار
أنه يخشى عليه من الكفر ، فإن المعاصي تزيد الكفر ، وإلا فترك الطاعات بالكلية
وارتكاب السيئات بأسرها لا يخرج المؤمن عن الإيمان عند أهل السّنّة والجماعة بخلاف
الخوارج والمعتزلة.
وفي الخلاصة أو
قال : لو أمرني الله تعالى بعشر صلوات لا أصلّيها ، أو قال : لو كانت القبلة إلى
هذه الجهة لا أصلّي إليها ، وإن كان محالا يعني يكفر مع كونه محالا لأنه معارضة
لأمر الله سبحانه نحو قول إبليس : (لَمْ أَكُنْ
لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) فإنه ما كفر إلا بالمعارضة لا بترك السجدة ، وإلا فهو كآدم
عليهالسلام في مرتبة واحدة حيث خالف بأكل الشجرة ، ثم في نسخة منسوبة
إلى الظهيرية ، أو قال العبد : لا أصلي فإن الثواب يكون للسيد يعني أنه كفر لزعمه
أنه لا ثواب له مع أنه يجب على العبد مطاوعة مولاه سواء يكون له ثواب أم لا على أن
الثواب حاصل للعبد ولمالكه ثواب السببية ، والفضل واسع ، بل قال الإمام الرازي :
من عبد الله لرجاء جنته أو خوف ناره بحيث أنه لو لم يخلق جنة ولا نارا ما كان يعبد
الله سبحانه ، فهو كافر لأنه تعالى يستحق أن يعبد لذاته وطلب مرضاته ، ومن صلى في
__________________
____________________________________
رمضان لا غير فقال
: هذا أيضا كثير ، وهذا يزيد أو زائد لأن كل صلاة بسبعين كفر في الكل أي فيه وفي
ما قبله ، ووجه ما فيه أنه مستكثر هذا المقدار من الطاعة لله تعالى مع أن الواجب
عليه أكثر من ذلك إلا أنه خفّف بشفاعة الرسول هنالك ، وأما تعليله بأن كل صلاة
بسبعين فيستفاد منه أنه يعتقد أن المضاعفة تسقط أصل الطاعة وأعداد العبادة ، وهو
كفر ، ومن قيل له : صلّ فقال : لا أصلّي بأمرك كفر ، وفيه بحث ظاهر نعم في نسخة لا
أصلّي من غير قوله : بأمرك وهو أظهر في كونه كفرا لأنه كالمعارضة لأمر الله سبحانه
حيث أمره صاحبه بالمعروف ، أو لم يره فرضا كفر أيضا ، وهذا واضح جدّا ، أو قال :
يصلي الناس لأجلنا كفر لأجل اعتقاد أن الصلاة المكتوبة فرض كفاية ، أو أراد به
استهزاء. أو سخرية ، وفي فوز النجاة ، أو قال : لا أصلي لأنه لا زوجة له ولا ولد
يعني كفر لأنه اعتقد أنها لا تجب إلا على من له زوجة أو ولد ، أو أراد المعارضة مع
الربّ والمناقضة في مقابلة فعله سبحانه ، وفي الظهيرية : أو قال : كم من هذه
الصلاة فإنه ضاق صدري منها ، أو ملّ أي حصل الملالة منها ، فإنه كفر للاعتراض على
فرضية كمية هذه الصلاة في أكثر الأوقات.
وقال في الجواهر ،
أو قال : شبعت منها ، أو كرهتها ، أو قال : من يقدر على تمشية الأمر ، أو على
إخراجه يعني كفر ، فإنه يدلّ على أنه يعتقد أن الله تعالى كلّفه فوق طاقته ، وقد
قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، أو قال : أصير إلى مجيء شهر رمضان يعني أنه يكفر على
اعتقاد عدم فرضية الصلاة في غيره ، أو لزعمه أن الصلاة في تسدّ عنها في غيره ، أو
قال العقلاء : لا يدخلون في أمر لا يقدرون على أن لا يمضوه إذ فيه ما سبق من
اعتقاد التكليف فوق الطاقة ، أو قال : إني لا أدخل الابتلاء يعني كفر فإنه عدّ
الطاعة ابتلاء مع أن المعصية هي الابتلاء في البلاء ، ولذا كان الشبلي رحمهالله تعالى إذا رأى أحدا من أرباب الدنيا قال : اللهمّ إني
أسألك العافية ، وإن كان مجموع التكليف بالطاعة هو الابتلاء بمعنى الاختبار
والامتحان ليكرم المرء أو يهان ، أو قال : إلى م أي إلى متى أفعل هذه البطالة
والتعطيل ، أو قال : إنها شديدة الثقالة أو شديدة الصعوبة عليّ يعني كفر لأن تسمية
الطاعة تعطيلا وبطالة كفر بلا شبهة ، وأما قوله : شديدة الثقالة ، أو شديدة
الصعوبة عليّ فلا وجه لكفره إلا أن يحمل على أنه أراد الاعتراض على الله سبحانه ،
أو اعتقد أنه كلّفه فوق الطاقة ، أو
__________________
____________________________________
اعترف بما قاله
سبحانه : (وَإِنَّها
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) . أي المؤمنين حقّا لقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) . وفي المحيط ، أو قال : من يقدر على أن يبلغ هذا الأمر إلى
نهايته يعني كفر ووجهه ما تقدّم ، أو قال : لن أصلّي ووالداي كلاهما قد ماتا ، أو
قال : لا أصلّي ووالداي حيّان بعد لم يمت منهما واحد يعني كفر حيث علّق وجوب
الصلاة وأداءها على وجودهما أو على عدمهما ، أو قال للآمر : ما زدت ، أو ما ربحت
من صلاتك يعني كفر ، لأنه اعتقد أن الصلاة لا تزيد في الأجر ، ولا يكون في تجارتها
ربح في الأمر ، أو قال : الصلاة وتركها واحد كفر في الوجود كلها ، وقد تقدّم وجوه
جميعها إلا الأخير فإنه اعتقد أن الطاعة والمعصية حكمهما واحد في الشريعة ،
والحقيقة ، وقد قال الله تعالى : (أَمْ حَسِبَ
الَّذِينَ اجْتَرَحُوا). أي اكتسبوا (السَّيِّئاتِ أَنْ
نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ
وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) . وفي جواهر الفقه : من جحد فرضا مجمعا عليه كالصلاة والصوم
والزكاة والغسل من الجنابة كفر.
قلت : وفي معناه
من أنكر حرمة محرم مجمع عليه كشرب الخمر والزنا ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم
والربا ، ثم قال : ومن قال بعد شهر من إسلامه فصاعدا في ديارنا أي ديار الإسلام
إذا سئل عن خمس صلوات ، أو عن زكاة فقال : لا أعلم أنها فريضة كفر ، قلت : هذا في
الصلاة ظاهر ، وأما في الزكاة فمحل بحث إلا إذا كان ممن تجب عليه الزكاة ، ولو قيل
لفاسق : صلّ حتى تجد حلاوة الإيمان ، فقال : لا أصلي حتى أجد حلاوة الترك كفر يعني
حيث رجّح حلاوة المعصية على حلاوة الطاعة ، وساوى بينهما ، ولو قال : لو أمرني
الله بأكثر من خمس صلوات ، أو بأكثر من صوم شهر رمضان أو بأكثر من ربع العشر في
الزكاة لم أفعل يعني كفر ، ووجهه ما تقدّم.
وفي فوز النجاة أو
قال : ما أحسن أو ما أطيب امرئ لا يصلي كفر ، يعني لاستحسانه المعصية ومرتكبها ،
وفي الفتاوى الصغرى والجواهر : ومن صلى مع الإمام بجماعة بغير طهارة عمدا كفر ،
وفيه أن قيد الجماعة مع الإمام لا يظهر وجهه ، ثم الصلاة بغير طهارة معصية فلا
ينبغي أن يقال بكفره إلا إذا استحلّها ، وكذا قولهما : ومن صلّى
__________________
____________________________________
إلى غير القبلة
عمدا كفر إلا أن يحمل على ما إذا اعتقد جوازها ، أو فعلها استهزاء ، قال : وكذا من
تحوّل عن جهة التحرّي وصلى عمدا كفر يعني لأن جهة التحرّي ظنّا حكمه حكم القبلة
قطعا ، وفيه ما تقدم مع زيادة الشّبهة ، وفي التتمة من سجد أو صلى محدثا رياء كفر
فيه إن قيد الرياء يفيد أنه إن صلى حياء لا يكفر وأما إذا جمع بين الرياء وترك
الطهارة ، فكأنه غلط المعصية ، ومع هذا لا يخلو عن الشبهة لا سيما في السجدة المفردة
حيث يتوهّم كثيرون أنها تجوز من غير طهارة ، وربما يسجدون لغير الله واختلفوا في
كفره.
وأما قوله : ومن
ترك صلاة تهاونا أي استخفافا لا تكاسلا فقد كفر. أقول : وهو أحد تأويلات قوله عليه
الصلاة والسلام : «من ترك صلاة متعمّدا فقد كفر» .
وفي المحيط : من صلى
إلى غير القبلة متعمّدا فوافق ذلك القبلة أي ولو وافقها. قال أبو حنيفة رحمهالله تعالى : هو كافر كالمستخف فيه إشارة إلى أن يكون مستحلّا
كالمستخف ، وبه أخذ الفقيه أبو الليث يعني أفتى به ، وكذا إذا صلى بغير طهارة ، أو
مع الثوب النجس يعني مع القدرة على الثوب الطاهر كفر يعني إذا استحلّ وإلا فلا شك
إنها معصية وإنه كأنه ترك تلك الصلاة وبمجرد تركها لا يكفر.
وفي التتمة بفوت
الصلاة ويقضيها جملة ويقول لمن يعترض عليه : إن كل غريم يجب أداء مديونه حقوقه
جملة واحدة يعني كفر حيث سمّى العبادة غرامة ، ووصف الكريم بنعت الغريم ، أو قال :
لم أغسل رأسي لصلة أو ما غسلت رأسي لصلاة ، أو ما غسلت لصلاة رأسي ، وفيه أن
مؤداهما واحد وكونه كفرا لا يظهر إلا إذا قاله استهزاء بالصلاة ، وهذا معنى ، أو
قال : إن الصلاة ليست بشيء ، وأما قوله : إذا هي غير مؤداة فلا يظهر وجهه بخلاف
قوله : أو خسف بها الأرض ، فإنه لا يشك أنه قال ذلك إهانة لها ، فهذا كله كفر أي
على ما قرّرناه.
__________________
____________________________________
فصل في العلم والعلماء
وفي الخلاصة من
أبغض عالما من غير سبب ظاهر خيف عليه الكفر ، قلت الظاهر أنه يكفر لأنه إذا أبغض
العالم من غير سبب دنيوي ، أو أخروي فيكون بغضه لعلم الشريعة ، ولا شك في كفر من
أنكره فضلا عمّن أبغضه. وفي الظهيرية من قال لفقيه : أخذ شاربه ما أعجب قبحا أو
أشدّ قبحا قصّ الشارب ولفّ طرف العمامة تحت الذقن يكفر لأنه استخفاف بالعلماء يعني
وهو مستلزم لاستخفاف الأنبياء عليهمالسلام ، لأن العلماء ورثة الأنبياء عليهمالسلام ، وقصّ الشارب من سنن الأنبياء عليهمالسلام فتقبيحه كفر بلا اختلاف بين العلماء.
وفي الخلاصة من
قال : قصصت شاربك وألقيت العمامة على العاتق استخفافا يعني بالعالم أو بعلمه فذلك
كفر ، أو قال : ما أقبح امرئ قصّ الشارب ولفّ طرف العمامة على العنق كذا في
الخلاصة للحميدي وفيه إن إعادته للتأكيد.
وفي المحيط من جلس
على مكان مرتفع والناس حوله يسألون منه مسائل بطريق الاستهزاء ثم يضربونه بالوسائد
أي مثلا وهم يضحكون كفروا جميعا أي لاستخفافهم بالشرع ، وكذا لو لم يجلس على
المكان المرتفع.
نقل عن الأستاذ
نجم الدين الكندي بسمرقند أن من تشبّه بالمعلم على وجه السخرية وأخذ الخشبة وشرب
الصبيان كفر يعني لأن معلّم القرآن من جملة علماء الشريعة فالاستهزاء به وبمعلّمه
يكون كفرا.
وفي الظهيرية ولو
جلس مجلس الشرب على مكان مرتفع وذكر مضاحك يستهزىء بالمذكر فضحك وضحكوا كفروا
جميعا يعني لأن المذكر واعظ وهو من جملة العلماء وخليفة الأنبياء عليهمالسلام.
وفي الخلاصة : من
رجع من مجلس العلم فقال آخر : رجع هذا من الكنيسة كفر يعني لأنه جعل موضع الشريعة
ومقرّ الإيمان مكان الكفر والكفران.
وفي الظهيرية من
قيل له : قم نذهب أو اذهب إلى مجلس العلم فقال : من يقدر على الإتيان بما يقولون ،
أو قال : ما لي ومجلس العلم يعني كفر. أما المسألة الأولى : فلما تقدّم من أنه
يلزم من قوله تكليف ما لا يطاق في الشريعة ، وقد قال الله تعالى : (لا
____________________________________
يُكَلِّفُ
اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) . وأما المسألة الثانية : فمحمولة على ما إذا أراد به أيّ
حاجة لي إلى مجلس العلم بخلاف ما إذا أراد به أيّ مناسبة لي ولذلك المجلس.
وفي الجواهر ، أو
قال : من يقدر على أن يعمل بما أمر العلماء به كفر أي لأنه يلزم منه إما تكليف ما
لا يطاق ، أو كذب العلماء على الأنبياء وهو كفر ، وفي التتمة من قال لآخر : لا
تذهب إلى مجلس العلم فإن ذهبت إليه تطلق أو تحرم امرأتك ممازحة أو جدّا كفر.
وفي الفتاوى
الصغرى : من قال لأيّ شيء : أعرف العلم كفر يعني حيث استخفّ بالعلم ، أو اعتقد أنه
لا حاجة إلى العلم ، أو قال : قصعة ثريد خير من العلم كفر ووجهه ظاهر.
وفي الظهيرية :
ومن بيّن وجها شرعيّا فقال خصمه : هذا كون الرجل عالما أو قال : لا تفعل معي
عالميّا لأنه لا ينفذ عندي أي لا يجوز ولا يمضي عليه الكفر.
وفي الخلاصة أو
قال : لما ذا يصلح لي مجلس العلم ووجهه ما تقدم أو ألقى الفتوى على الأرض أي إهانة
كما تشير إليه عبارة الإلقاء ، أو قال : ما ذا الشرع هذا كفر.
وفي المحيط : من
قال إذا أعرف الطلاق والملاق ، أو قال : لا أعرف الطلاق والملاق ينبغي أن تكون
والدة الولد في البيت يعني سواء يقع الطلاق أم لا ، يكفر أي لاستواء الحلال
والحرام عنه ، ولو قالت اللعنة ، أو لعنة الله على الزوج العالم كفرت ، أي لأنها
لعنت نعت العلم وأهانت الشريعة ، ومن قال لعالم : عويلم أو لعلوي عليوي أي بصيغة
التصغير فيهما للتحقير كما قيّده بقوله قاصدا به الاستخفاف كفر ، وأمر الإمام
الفضلي بقتل من قال لفقيه ترك كتابه وذهب تركت المنشار هنا وذهبت
كفرا ، أي لأنه شبّه تعليم علم الشريعة وتعلّمه بصنعة الحرفة والآلة بالآلة
وقيّدنا بعلم الشريعة لأنه لو كان الكتاب في المنطق ونحوه لا يكون كفرا لأنه يجوز
إهانته في الشريعة أيضا حتى أفتى بعض الحنفية ، وكذا بعض الشافعية بجواز الاستنجاء
به إذا كان خاليا عن ذكر الله تعالى مع الاتفاق على عدم جواز الاستنجاء بالورق
الأبيض الخالي عن الكتابة.
__________________
____________________________________
وفي المحيط ذكر أن
فقيها وضع كتابه في دكان وذهب ثم مرّ على ذلك الدكان ، فقال صاحب الدكان : هاهنا
نسيت المنشار فقال الفقيه عندك كتاب لا منشار فقال صاحب الدكان : النجار بالمنشار
يقطع الخشب ، وأنتم تقطعون به حلق الناس ، أو قال حق الناس فشكى الفقيه إلى الإمام
الفضلي يعني الشيخ محمد بن الفضل فأمر بقتل ذلك الرجل لأنه كفر باستخفاف كتاب
الفقه. وفي التتمة من أهان الشريعة أو المسائل التي لا بدّ منها كفر ومن ضحك من
المتيمّم كفر.
ومن قال : لا أعرف
الحلال والحرام كفر يعني : إذا أراد به عدم الفرق في الاستعمال ، أو اعتقاد
الاستحلال بخلاف الاعتراف بأنه من الجهّال. وفي المحيط من قال لفقيه يذكر شيئا من
العلم أو يروي حديثا صحيحا أي ثابتا لا موضوعا : هذا ليس بشيء ، أو قال لأيّ أمر
يصلح هذا الكلام ينبغي أن يكون الدرهم أي يوجد لأن العزّ والحرمة اليوم للدرهم لا
للعلم كفر لأنه معارضة لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ
وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) . وقوله سبحانه : (وَكَلِمَةُ اللهِ
هِيَ الْعُلْيا) . ومن قال لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر : لما ذا أعرف
العلم ، أو لما ذا أعرف الله إني وضعت نفسي للجحيم ، أو قال : أعددت نفسي للجحيم ،
أو قال : وضعت أو ألقيت وسادتي أو مرفقي أو مخدّتي في الجحيم كفر أي لأنه أهان
الشريعة ، أو أيس من الرحمة ، فكلاهما كفر.
وفي الظهيرية من
قال : لا يساوي درهما من لا درهم له كفر أي لعموم عبارته العالم والصالح والمؤمن
وغيرهم لكن له أن يقول : ما أردت به إلا أرباب الدنيا عند أهلها فلا يكفر ، ومن
قال لا أشتغل بالعلم في آخر عمري لأنه من المهد إلى اللحد أي كفر ، ووجهه غير ظاهر
إلا إن أراد به الاستغناء عن علوم الشريعة بالكلية ، فإن منها بعض الفروض العينية
، ومن قال لعابد : مهلا أو اجلس حتى لا تتجاوز الجنة ، أو لا تقع وراء الجنة أي
بزيادة الطاعة والعبادة كفر أي لاستهزائه ، وفي الجواهر من قال : لو كان فلان قبلة
، أو جهة القبلة لم أتوجّه إليه كفر ، لأنه صار كإبليس حيث امتنع عن السجود لآدم عليهالسلام حين جعل كالقبلة ، ومن قال لرجل صالح : لقاؤك عندي كلقاء
الخنزير يخاف عليه الكفر يعني إذا لم يكن بينه وبينه مخاصمة دينية أو دنيوية ، ومن
قال لآخر : اذهب معي إلى الشرع ، فقال الآخر : لا أذهب حتى تأتي بالبيدق أي المحضر
كفر لأنه عاند
__________________
____________________________________
الشرع يعني إذا
كان إباؤه وتعلّله لمعاندة الشرع بخلاف ما إذا أراد دفعه في الجملة عن المخاصمة أو
قصد أنه يصحّح الدعوى فيستحق المطالبة إذا تعلّل أو لأن القاضي ربما لا يكون جالسا
في المحكمة ، فإنه لا يكفر في هذه الوجوه كلها ، وفي المحيط ولو قال إلى القاضي أي
اذهب مسعى إلى القاضي فقال : لا أذهب يعني لا يكفر لما سبق وجهه ، ولأن الامتناع
عن الذهاب إلى القاضي لا يوجب الامتناع عن الذهاب إلى الشرع إذ ربما يكون القاضي
لا يحكم بالشرع ، وليس كما يزعمه الجهلة من قضاة الزمان حيث لا يفرّقون في القضية
بين مكان ومكان ، ومن قال : أي في جوابه لما ذا أعرف الشرع ، أو قال : عندي مقمع
ما ذا أصنع بالشرع؟ كفر ، ومن قال : الشرع وأمثاله لا يفيدني ولا ينفذ عندي كفر ،
وفي الظهيرية لو قال : أين كان الشرع وأمثاله حين أخذت الدرهم؟ كفر يعني إذا عاند
الشرع بخلاف ما إذا أراد توبيخه بأنك حين أخذت ما طلبتني إلى الشرع وحين أطلبك فما
تعطيني إلا بالقضاء فليس هذا من باب الوفاء ، وفي المحيط من ذكره عنده الشرع فتجشأ
أي عمدا أو تكلفا أو صوّت صوتا كريها أي تقذّرا أو تكرّها أو قال : هذا الشر كفر
أي حيث شبّه الشرع بالأمر المكروه في الطبع.
حكي أن في زمن
المأمون الخليفة سئل واحد عمّن قتل جائكا فأجاب فقال : يلزمه غضارة غراء أي جارية
شابة رعناء فسمع المأمون ذلك فأمر بضرب عنق المجيب حتى مات ، وقال : هذا استهزاء
بحكم الشرع والاستهزاء بحكم من أحكام الشرع كفر ، وحكي أن الأمير الكبير تيمور ذات
يوم ملّ وانقبض ولم يجب أحدا فيما سأل فدخل ضحكته فأخذ يقول مضاحكة دخل عليّ قاضي
بلدة كذا وأخذ في شهور رمضان ، فقال : يا حاكم الشرع! فلان أكل صوم رمضان ، ولي
فيها شهود ، فقال ذلك القاضي : ليت آخر يأكل الصلاة لنخلص منهما ليضحك الأمير ،
فقال الأمير : أما وجدتم مضحكا سوى أمر الدين ، فأمر بضربه حتى أثخنه فرحم الله من
عظّم دين الإسلام.
____________________________________
فصل في الكفر صريحا وكناية
وفي المحيط رجل
قال : أنا مؤمن إن شاء الله من غير تأويل كفر ، أي لأنه تردّد في إيمانه عند نفسه
بخلاف ما إذا أراد أنا مؤمن إن تعلقت مشيئته بتحقيق إيماني عنده ... ولو قال لا
أدري هل أخرج من الدنيا مؤمنا أو لا ، لا يكفر أي لأنه لا يعلم الغيب إلا الله ،
فلو قال : إني أدري هل أخرج من الدنيا مؤمنا أو كافرا يكفر أيضا ، وفي الظهيرية
قال الإمام الفضلي رحمهالله : لا ينبغي لرجل أن يستثني في إيمانه فلا يقول : أنا مؤمن
إن شاء الله لأنه مأمور بتحقيق الإيمان أي وهو بالتصديق والإقرار والاستثناء
يضادّه أي يناقضه ظاهرا ، ولأنه مسئول عن الحال فلا وجه للجوب عن الاستقبال ، وهذا
معنى قوله : قال الله تعالى : (قُولُوا آمَنَّا
بِاللهِ) . من غير استثناء ، وقال الله تعالى خبرا عن إبراهيم الخليل
عليه الصلاة والسلام : بلى من غير استثناء حين قال : أو لم تؤمن؟.
وقد ذكر الشيخ عبد
الله السندي في كتاب الكشف في مناقب أبي حنيفة رحمهالله تعالى عن موسى بن أبي بكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه
أخرج شاة لتذبح فمرّ رجل فقال له : أمؤمن أنت؟ فقال : نعم إن شاء الله ، فقال ابن
عمر رضي الله عنه : لا يذبح نسكي من شك في إيمانه ، ثم مرّ آخر فقال له : أمؤمن
أنت؟ فقال : نعم ولم يستثن في إيمانه فأمره بذبح شاته ، فلم يجعل عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما من يستثني في إيمانه مؤمنا انتهى. ولا يخفى أنه يحتمل أن ابن عمر
راعى الأحوط في القضية إذا أجمع السلف والخلف على أنه لا يخرج من الإيمان
باستثنائه إلا إذا كان متردّدا في تصديقه وإيمانه كما يدل عليه قوله ، وفي المحيط
قد صحّ عن بعض السّلف أنهم كانوا يستثنون في إيمانهم والعذر عنهم أنهم ما كانوا
يستثنون لشكّهم في إيمانهم ، بل يستثنون لما جاء في صفة المؤمن في الأخبار كقوله :
المؤمن من أمن الناس من شرّه ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن من أمن جاره
بوائقه» ، وكقوله : عليه الصلاة والسلام : «ليس بمؤمن من بات شبعان
وجاره طاو» أي جيعان ، وكقوله عليه الصلاة والسلام : «المؤمن من
__________________
____________________________________
اجتمع عنده كذا
وكذا خصلة» فمن استثنى من المتقدمين فإنما استثنى على أنه لم يعرف ذلك
من نفسه لا أنه يشك في إيمانه انتهى. وحاصله أن الاستثناء راجع إلى كمال إيمانه
وجمال إحسانه لا إلى تصديقه في جنانه ، أو إقراره بلسانه ، وقد سبق تحقيق البحث مع
برهانه ، وفي الخلاصة كافر قال لمسلم : اعرض عليّ الإسلام ، فقال : اذهب إلى فلان
العالم كفر لأنه رضي ببقائه في الكفر إلى حين ملازم العالم ولقائه أو لجهله بتحقيق
الإيمان لمجرد إقراره بكلمتي الشهادة ، فإن الإيمان الإجمالي صحيح إجماعا.
وقال أبو الليث :
إن بعثه إلى عالم لا يكفر لأن العالم ربما يحسن ما لا يحسن الجاهل فلم يكن راضيا
بكفره ساعة بل كان راضيا بإسلامه أتمّ وأكمل.
وفي الجواهر من
قيل له : ما الإيمان؟ فقال : لا أدري كفر ، وفيه بحث إذ يحتمل السؤال عن حقيقة
الإيمان وحده ، وعن الإجمالي والتفصيلي وليس كل واحد يعلم التفصيلي بل ولا حدّه
الجامع المانع كما أشار إليه سبحانه بقوله لسيد خلقه : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا
الْإِيمانُ) الآية ، مع أن الإجماع على أنه كان مؤمنا ، نعم لو قيل له
: أمؤمن أنت ، أو من صدق بقلبه وشهد بلسانه (أنه لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول
الله) يجوز قتله فقال : لا أدري يكفر ...
ومن قال لمريد
الإسلام لا أدري صفته ، أو اذهب إلى عالم أو إلى فلان يعرض عليك الإسلام أو اصبر
إلى آخر المجلس كفر ، يعني في الصور كلها ، أما في الصورة الأخيرة فالكفر ظاهر ،
وأما فيما قبلها فتقدم الكلام عليها. وفي الظهيرية : كافر. قال لمسلم : أعرض عليّ
الإسلام ، فقال : لا أدري صفته كفر ، لأن الرضاء بكفر نفسه كفر ، وفي أن الرضاء
بكفر غيره أيضا كفر إلا فيما استثنى منه على ما سيأتي ، وإنما الكلام على أنه إذا
قال : لا أدري صفة الإسلام وأراد نعته بالوجه التمام هل يكفر أم لا؟ والظاهر أنه
لا يكفر كما سبق عليه الكلام ، وقال : وفي موضع آخر من الظهيرية : الرضاء بالكفر
كفر عند الحامدي ، وفيه أن المسألة إذا كانت مختلفا فيها لا يجوز تكفير مسلم بها ،
وفي الحاوي من قيل له : أتعرف التوحيد وحده وإنك موحد أم لا؟ فقال : لا فلا وجه
لتكفيره أصلا.
__________________
____________________________________
وفي المحيط من قال
: لا أدري صفة الإسلام فهو كافر ، وقال شمس الأئمة الحلواني فهذا رجل لا دين له
ولا صلاة ولا صيام ولا طاعة ولا نكاح ، وأولاده أولاد الزنا ، وفيه أن الرجل إذا
صدق بجنانه وأقرّ بلسانه فهو مسلم بالإجماع وعدم علمه بصفة الإسلام بعد اتّصافه به
لا يخرجه عن الإسلام من غير نزاع ، ونظيره من أكل شيئا ولم يعرف اسمه ووصفه ، وكذا
إذا صلى وصام بشرائطهما وأركانهما ولم يعرف تفصيلهما ، وقال : لا أدري عند سؤاله
عنهما ، فإنه لا يكفر ، وإلا فلا يبقى مؤمن في الدنيا إلا قليل ممّن يعرف علم
الكلام ، وفيه حرج على أهل الإسلام فمثل هذا السؤال مغلطة للجهّال ، وقد نهى النبي
صلىاللهعليهوسلم عن الأغلوطات .
ثم قوله : وأولاده
أولاد الزنا ليس على إطلاقه لأن أولاده قبل هذا السؤال منه لا شك أنهم أولاد
الحلال ، وإنما الكلام فيما بعد السؤال إن لم يقع منه ما يكون توبة ورجوعا إلى
الإسلام على تقدير فرض كفره عند العلماء الأعلام ، ثم قال : صغيرة نصرانية تحت
مسلم كبرت غير معتوهة ولا مجنونة وهي لا تعرف دينا من الأديان تبين من زوجها ،
وفيه أنها إذا كانت عاقلة فلا شك أنها مقلّدة لآبائها وأمّهاتها ، أو لأهل بلدتها
أو قريتها كما يدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام : «كلّ مولود يولد على فطرة
الإسلام فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». على أنها يوم كانت النصرانية
ثابتة لها بالتبعية ما بانت من زوجها فكيف إذا كانت على الفطرة الأصلية من غير
تلبّس وتدنّس بالنصرانية ، ثم قال : وكذا الصغيرة المسلمة إذا بلغت عاقلة وهي لا
تعرف الإسلام ولا تصفه بانت من زوجها ، وفيه ما سبق من أنه لا يلزم معرفة حكم
الإسلام ولا وصفه تفصيلا وإجمالا في تحقيق إيمانها ، بل يكفيها التصديق والإقرار
مع أنه إذا سئلت من أن من أسلم هل يحرم دمه وماله فتقول : لا ، فلا شك في إيمانها
ومعرفتها لحكم الإسلام إلا أنها جاهلة بمورد الكلام ، وهو لا يضرّها في مقام
المرام.
ثم قال : لأنهما
جاهلتان ليست لهما ملّة مخصوصة وهي شرط النكاح ابتداء وبقاء ، وفيه أن كونهما
جاهلتين بتفاصيل الأحكام مسلم ، أما نفي الملّة المخصوصة عنهما فمدفوع لأن بنت
النصرانية إذا قيل لها : أنت على أيّ ملّة لا شك أنها تقول على ملّة النصرانية ،
فكذا إذا قيل للمسلمة الكبيرة : أنت على أيّ ملّة؟ فلا مرية أنها تقول على ملّة
الإسلام.
__________________
____________________________________
نعم! ولو قيل لهما
: على أيّ ملّة أنتما فقالتا : ما نحن على ملّة أو لا ندري على أيّ ملّة فكفرهما
ظاهر. ثم قال : ومحمد رحمهالله سمى هذه في الكتاب مرتدّة لأنّا حكمنا بإسلامهما بالتبعية
، والآن بكفرهما لفقد التبعية ومعرفة دين فكأنهما مرتدّتان. أقول : قوله ومعرفة
دين عطف على التبعية ، والمعنى لفقد معرفة دين ، وقد تقدّم أنهما إذا كانا لم
يعرفا دينا من الأديان لم يكونا من أهل الإيمان ، وإنما الكلام في تصوّره وتحقّقه
في حقهما.
إنما قال فكأنهما
مرتدّتان لأن الارتداد فرع الإيمان السابق وهو مفقود منهما على ما تصوّر لهما ،
وهذه مسألة كثيرة الوقوع في هذا الزمان خصوصا في بعض البلدان يصدر من قضاء السوء
حيث تقع المرأة مطلّقة بالثلاث مع أنها ديّنة قارئة القرآن مصلية في كل الأزمان
وصائمة في شهر رمضان ، فيقول لها القاضي : ما حكم الإسلام؟ فهي لجهلها بمراتب
الكلام تقول لا أدري فيحكم بكفرها وببطلان نكاحها الأول ، ويجدد لها النكاح الثاني
، وربما يكفر القاضي بهذا الفعل الشنيع حيث رضي بهذا الكفر البديع ، فإن المسكينة
لو وصفت لها المسألة وبيّنت لها القضية لأتت بالجواب الصواب فإن ديانتها أقوى من
قضاة هذا الزمان من جميع الأبواب ، وإنما يتوسلون بمثل هذه الأفعال إلى الرشوة
المحرّمة في جميع الأقوال والعمل في المطلّقة بالثلاث بقول سعيد بن المسيب رضي
الله عنه أولى من قبح هذه الأحوال ، ثم انظر إلى الشيطان الموسوس للزوج المتدنّس
أنه رضي بتكفير امرأته وبتضييع طاعاتها وما يترتب عليه من أن جماعة لها كان حراما
عليه وأمثالها ويستنكف عن العمل بقوله تعالى : (فَإِنْ طَلَّقَها
فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) . وبقوله عليه الصلاة والسلام : «حتى تذوقي عسيلته ويذوق
عسيلتك» . إنما أطنبت في هذا الكلام لأنه موضع زلّة الأقدام ولعزّة
الإقدام
__________________
____________________________________
فيما فيه مضرّة
عظيمة في دين الإسلام. ثم قوله : وهي شرط النكاح ابتداء إنما هو على تقدير صحة
إسلام الزوج وإلا فإذا كان من قبيلها في مقام الجهل فلا شك في صحة نكاحهما أو لا ،
كما في أنكحة الكفّار ابتداء ، وفيه تنبيه على أن الواجب كان على القاضي المكفّر
للمرأة أن يستوصف الرجل أيضا ، فإذا كان مثلها فيحكم بكفره وبطلان طاعاته في جميع
عمره ، ثم يعرض الإسلام عليهما فيتشهدان ويعلمان أحكام الإسلام ، ثم يعقد بينهما
عقد المرام.
ويؤيّد بحثنا في
هذا المقام ما حقّقه الإمام ابن الهمام رحمهالله في كلامهم قالوا : اشترى جارية ، أو تزوج امرأة فاستوصفها
صفة الإسلام فلم تعرفه لا تكون مسلمة حيث قال : المراد من عدم المعرفة ليس ما يظهر
من التوقّف في جواب ما الإيمان ، وما الإسلام ، كما يكون في بعض العوامّ لقصورهم
في التعبير ، بل في قيام الجهل بذلك بالباطل مثلا بأن البعث هل يوجد أو لا ، وأن
إرسال الرّسل وإنزال الكتب عليهم كان أو لا ، فإنه يكون في اعتقاد طرف الأثبات لا
الجهل البسيط ، كمن سئل عن ذلك ، فقال : لا أعرفه ، وقل ما يكون ذلك لمن نشأ في
دار الإسلام. انتهى.
وهو غاية المقصود
في نقل المرام ، ثم رأيت في المضمرات نقلا عن محمد بن الحسن في الجامع الكبير مسألة تدل على ما
ذكرنا وهي أن المرأة إذا لم تعرف صفة الإيمان والإسلام ، قال محمد : يفرق بينها
وبين زوجها ، وبيان ذلك أنه إذا وصف الإيمان والإسلام والدين بين يديها ، فلو قالت
: هكذا آمنت وصدقت فإنها تخرج عن حدّ التقليد ، ويجوز نكاحها ، ولو قالت : لا أدري
أو قالت : ما عرفت لا يجوز نكاحها انتهى كلامه. وفي المضمرات : لو أفتى لامرأة
بالكفر حين تبين من زوجها فقد كفر قبلها وتجبر المرأة على الإسلام ، وتضرب خمسة
وسبعين سوطا ، وليس لها أن تتزوج إلا بزوجها الأول ، هكذا قال أبو بكر رحمهالله ، وكان أبو جعفر رحمهالله يفتي بها ويأخذ بهذا. انتهى.
وقال بعضهم : إن
ردّتها لا تؤثّر في إفساد النكاح ، ولا يؤمر الزوج بتجديد النكاح حسما لهذا الباب
عليهن ، وعامّة علماء بخارى يقولون كفرها يعمل في إفساد النكاح ،
__________________
____________________________________
لكنها تجبر على
النكاح مع زوجها قطعا ، وهذه فرقة بغير طلاق بالإجماع وعليها الفتوى ، وكذا في
منهاج المصلين.
وفي الخلاصة : من
دعى على غيره ، فقال : أخذه الله على الكفر ، كفر ، أي لأنه رضي بنفس الكفر ، ولذا
أتبعه بقوله. وقال الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل : لم يكن الدعاء على الكافر بذلك
كفرا ، وفيه أن القول الأول عامّ ، وهذا جواب خاص يفيد أن الدعاء على المسلم
بالكفر كفر ، والتحقيق أنه إذا أراد الانتقام لا يكفر لا سيما وقرينة الدعاء عليه
شاهدة على المرام ، وسيأتي على هذا مزيد الكلام ...
وفي الجواهر من
قال لمسلم : ليأخذ الله منك الإسلام ، ومن قال له : آمين كفر ، أو أريد كفر فلان
المسلم يكفر أو لا أريد به إلا الكفر ، أو قال : أخرجه أي الله من الدنيا بلا
إيمان ، أو كافرا ، أو أماته بلا إيمان ، أو كافرا ، أو أبّده الله في النار
وأخلده فيها ، ولم يخرجه الله من نار جهنم كفر أي إذا كان مستحسنا للكفر وراضيا به
نفسه إلا إذا أراد انتقام الظالم بالكفر وتعذيبه مخلدا كما يشعر به بعض كلامه.
وفي المحيط : من
رضي بكفر نفسه فقد كفر أي إجماعا ، وبكفر غيره ، اختلف المشايخ ، وذكر شيخ الإسلام
أن الرضا بكفر غيره إنما يكون كفرا إذا كان يستجيزه ويستحسنه ، وأما إذا كان لا
يستجيزه ولا يستحسنه ، ولكن يقول : أحب موت المؤذي الشرّير ، أو قتله على الكفر
حتى ينتقم الله تعالى منه ، فهذا لا يكون كفرا ومن تأمل قول الله عزوجل : (رَبَّنَا اطْمِسْ
عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا
الْعَذابَ الْأَلِيمَ) . يظهر عليه صحة ما ادّعيناه ، وعلى هذا إذا دعا على ظالم
أماتك الله على الكفر ، أو قال : سلب الله عنك الإيمان بسبب ما اجترأ على الله
تعالى ، وكابر في ظلمه ولم يترحّم عليه أدنى ترحّم لا يكون كفرا ، وقد عثرنا على
رواية أبي حنيفة رحمهالله أن الرضاء بكفر الغير كفر من غير تفصيل ، ويحتمل أن هذه
الجملة من صاحب المحيط ، أو الجامع لهذه المسائل ، وعلى كل تقدير فالجواب أن رواية
أبي حنيفة رحمهالله إذا كانت مجملة أو عبارته مطلقة ، قلنا : أن نفصلها
ونقيدها على مقتضى القواعد الحنيفية والأصول الحنفية.
وفي الجواهر من
قال : قتل فلان حلال أو مباح قبل أن يعلم منه ردّة ، أو قتل نفس
__________________
____________________________________
بآلة جارحة عمدا
على غير حق أو يعلم منه زنا بعد إحصان كفر ، أي لأنه جعل الحرام حلالا أو مباحا
وهو كفر إلا أنه لا بدّ أن يزاد ولا يعلم منه قطع طريق وسعي بالفساد في البلاد ،
ومنه الظلم في حق العباد فإن قتلهما حلال أو مباح حينئذ ، وكذلك ترك الصلاة موجب
للقتل عند الشافعي رحمهالله وارتداد عند أحمد رحمهالله ، فترك الصلاة من الخلافية ، فالقول بأن قتله حلال لا يكون
كفرا متّفقا عليه ، ثم قال : ومن قال لهذا القائل صدقت ، أو قال لأمير يقتل بغير
حق ، أو قال لقاتل سارق : جوّدت له ، أو أحسنت يكفر ، أو قال : مال فلان المسلم
حلال قبل تحليل المالك إيّاه ، أو قال : دم فلان حلال ، ومن صدقه كفر الكل أي
بشروطه المعروفة ...
وفي الخلاصة أو
الحاوي بناء على أن رمز الجامع خاء معجمة أو مهملة والنسخ مختلفة ، من قال لآخر :
اللعنة عليك وعلى إسلامك كفر أي بقوله على إسلامك فتدبر ... كافر أسلم فأعطى له
شيئا ، فقال مسلم : ليته كافر فيسلم حتى يعطي شيئا أي كفر لأن شرط الإسلام هو
الاستقامة على الأحكام ، ولذا لو نوى أن يكفر في الاستقبال كفر في الحال ، وفي
المحيط أي زاد فيه ، أو يتمنى ذلك بقلبه كفر أي ولو لم يتلفّظ بلسانه لأن القلب هو
محل التصديق وموضع الإيمان في التحقيق.
وفي الخلاصة من
قال حين مات أبوه على الكفر وترك مالا ليته أي الولد نفسه لم يسلم إلى هذا أي هذا
الوقت ليرث أباه الكافر كفر ، لأنه تمنّى الكفر ، وذلك كفر ، وفي الجواهر : وليتني
لم أسلم حتى أسلم حتى ورثت كفر أي المسلم القائل.
وفي الفتاوى
الصغرى أسلم كافر فقال له مسلم لو لم تسلم حتى ترفع ميراثا أي تأخذه كفر أي المسلم
القائل ... وفي المحيط مسلم رأى نصرانية سمينة وتمنى أن يكون نصرانيّا حتى يتزوجها
كفر ، قلت : وهذا من حماقته إذ يجوز للمسلم أن يتزوج نصرانية مع أن السّمان الحسان
كثيرات في الملّة الحنفية ولكن علة الضم هي الجنسية ، ولذا قال الله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً) . وفي فتاوى قاضي خان أو الفتاوى الصغرى بناء على أن الرمز
قاف أو فاء واختلاف النسخ فيهما من قال : متى جالست الصغار فأنا صغير والكبار فأنا
كبير ، قلت : ولا محظور فيهما ، وإنما هو توطئة لما بعدهما من قوله : وإن جالست
المسلم فأنا مسلم أو النصراني أو اليهودي فأنا
__________________
____________________________________
يهودي كفر أي لأنه
زنديق خارج عن الأديان كلها.
وفي الخلاصة من
قال لمن أسلم : ما ذا ضرّك دينك الذي كنت عليه حتى أسلمت؟ كفر ، وكذا لو قال : هذا
زمان الكفر لا زمان كسب الإسلام أي كفر ، إن أراد به أنه ينبغي في هذا الزمان كسب
الكفر لا كسب الإسلام بخلاف ما إذا أراد أن هذا زمان غلبة أهل الكفر ، والجهل وضعف
كسب الإسلام والعلم.
وفي فتاوي قاضي
خان أو الصغرى لو قيل : لمن كان له شهر من إسلامه : ألست بمسلم فقال : لا ، كفر ،
ولعل وجه التقييد بالشهر إنه إذا كان أقلّ منه ربما يسبق على لسانه جريا على ما
كان عليه أولا.
وفي المحيط
والجواهر أيضا قيل للضارب : ألست بمسلم فقال : عمدا ، لا ، كفر ، وإن قال خطأ لا
يكفر .. وفي التتمّة من قال : لا أسمع كلامك وأفعل اجتراء في جواب من قال : اتق
الله ولا تفعل كفر ... ومن قال لمرتكب حرام خف الله واتّقه فقال : لا أخاف كفر ،
وإن كان في أمر غير حرام وغير مستحب لا يكفر إلا إذا قاله استخفافا فيكفر وتبين
امرأته ...
ومن قيل له في أمر
: ألا تخاف الله؟ فقال : لا ، كفر.
وقال أبو بكر
البلخي رحمهالله : رجل قيل له : ألا تخشى الله؟ فقال : لا في حال غضبه صار
كافرا وبانت امرأته ... وفي المحيط قالت لزوجها : ليس لك حمية ولا دين إذ ترضى
خلوتي مع الأجانب فقال : لا حمية ولا دين كفر ، يعني بقوله لا دين لي فإنه خرج
بهذا عن دين الإسلام باعترافه ، كما دخل فيه أولا بإقراره سواء يكون الإقرار شرطا
أو ركنا ... ومن قال : أنت وثني ، أو مجوسي؟ فقال : مجوسي كفر أو قال : ألست بمسلم؟
فقال : لا ، كفر ، أو قال : أنا كما قلت ، أو قال : لو لم يكن كما قلت لما سكنت
معك ، أو لما أسكنني معك.
وفي الجواهر قال :
لبّيك في جواب من قال يا كافر ، أو يا مجوسي ، أو يا يهودي ، أو يا نصراني! وفي
المحيط أو قال : مكان لبيك هبني كذلك كفر ، أي بقوله هذا ، فإن معناه أعددني
وأحبني مثل ما قلت.
وفي فتاوي قاضي
خان : لو كنت كذلك ففارقني لا يكفر ، وفي المحيط : أو قال : إذا كنت أنا هكذا فلا
تقم معي أو عندي فالأظهر أنه يكفر أي لأن إذا موضوعة لمتحقّق
____________________________________
الوقوع إلا أنها
قد تستعمل بمعنى إن فلو قال : إن أنا كنت كذا فلا تقم لا يكفر ، ومن قال : يا كافر!
فسكت المخاطب. كان الفقيه أبو بكر البلخي يقول : يكفر هذا القاذف أي الشاتم ، وقال
غيره من مشايخ بلخ : لا يكفر ثم جاء إلى بلخ فتاوى بعض أئمة بخارى أنه يكفر فرجع
الكل إلى فتاوى أبي بكر البلخي رحمهالله ، وقالوا : كفر الشاتم انتهى. ولعل فائدة قوله فسكت
المخاطب إن هذا هو الحكم ، ولو سكت المخاطب لئلا يتوهم أن سكوت المخاطب رضا منه أو
إقرار به لاحتمال أن يكون سكوته حلما ، أو غيظا أو تأخيرا للمرافقة في المسألة.
وفي الجواهر من
قال لخصمه : كل ساعة أفعل من الطين مثلك كفر انتهى. وفيه بحث لا يخفى إذ غايته أن
يكون كاذبا في قوله المخالف لفعله ، نعم لو قال : أخلق بدل أفعل فالظاهر أنه يكفر
مع احتمال عدم كفره لقول عيسى عليه الصلاة والسلام (أَنِّي أَخْلُقُ
لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) . ولا يلزم منه التشبيه من جميع الوجوه ، ولذا قال عيسى
عليه الصلاة والسلام : (فَأَنْفُخُ فِيهِ
فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ) .
وفي المحيط : ومن
قال لمن ينازعه أفعل كل يوم مثلك عشرا من الطين ، أو لم يقل من الطين كفر ، ومن
قيل له : يا أحمر! فقال : خلقني الله من سويق التفاح ، وخلقك من الطين ، أو من
الحمأة ، وهي ليست كالسويق. كفر أي لافترائه على الله تعالى مع احتمال أنه لا يكفر
بناء على أنه كذب في دعواه.
وفي فتاوي قاضي
خان من قال لغيره : خلقه الله ثم طرده من عنده قال أكثر المشايخ : إنه يكفر. قلت :
الظاهر أنه لا يكفر لاحتمال أن يكون كاذبا أو صادقا في مقاله ، لكن يشكل بما في
الظهيرية والمحيط أنه كفر عند الكل ، ولعلهما أرادا بالكل الأكثر فتدبر.
وفي الخلاصة من
قال لولده : يا ولد الكافر ، يا ولد المجوسي ، وقال يا ولد الكافر ، قال بعض
العلماء : يكفر. قلت : الأظهر أنه لا يكفر لأنه أراد شتمه وقصد قذفه لا أنه عني
بنفسه أنه مجوسي ، أو كافر واللزوم ممنوع لتحقّق الاحتمال والله تعالى أعلم
بالحال.
__________________
____________________________________
ومن قال لدابته :
يا دابة الكافر ، ويا كافر المالك أي يا ملك الكافر إن كانت نتجت عنده يكفر وإلا
فلا ، أي لاحتمال أن يكون مالكه الأول كافرا ...
وفي فتاوي قاضي
خان ، وهذا الكلام فيما إذا قال لولده أو دابّته ولم ينو شيئا أما إذا نوى نفسه
كفر اتفاقا أي ، لأنه إقرار بكفره ... وفي الظهيرية من قال : لا أعلم الكائن وغير
الكائن كفر ، وفيه بحث اللهمّ إلا إذا أريد بالكائن يوم القيامة فيكفر لنفي علمه
المستلزم منه نفي اعتقاده به.
وفي التتمة من قال
: أنا على اعتقاد فرعون أو إبليس أو اعتقادي كاعتقاد فرعون أو إبليس كفر ، وإن قال
: أنا إبليس أو فرعون لا يكفر أي إذا أراد المشاركة الاسمية ، أو مجرد الشرارة
النفسية لا كفر الفرعونية وإباء الإبليسية.
ومن قال معتذرا أي
عن جهله ببعض الأحكام الشرعية كنت كافرا فأسلمت أي قريبا قيل : يكفر ، وقيل : لا
يكفر ، قلت : وهو الأظهر لأن غايته أن يكون كاذبا في قوله الأول فتأمل.
ومن قال : لا ألعن
أو لست ألعن في جواب من قال : إن الله يلعن على إبليس كفر ، أي لأن ظاهره المعارضة
كما سبق في جواب حديث الدباء وإلا فالامتناع عن لعن إبليس لا يكون معصية فضلا عن
أن يكون كفرا ... ومن صنع صنما كفر أي لأنه رضي به وأراد ترويجه.
وفي فتاوي قاضي
خان من قال : دعني أصر كافرا كفر أي لأنه نوى الكفر ، أو كدت أن أكفر كفر وفيه بحث
إذ لا يلزم من مقاربة الكفر مفارقته اللهمّ إلا أن يريد قصدت الكفر وما كفرت فإنه
يكفر لقصده ونيّته ، وقال : دعني فقد كفرت كفر أي لظاهر كلامه ، وإن احتمل أنه
أراد قاربت الكفر وفيه ما تقدم والله تعالى أعلم ...
وفي المحيط وفتاوى
الصغرى أيضا : من لقن غيره كلمة الكفر ليتكلم بها كفر الملقن ، وإن كان على وجه
اللعب والضحك ، قلت : فما يحكى أن مالكيّا أو شافعيّا رجع إلى بلده بعد تحصيل بعد
الفقه في مذهبه فكل ما سئل عن مسألة فقال فيها وجهان لمالك ، أو قولان للشافعي رحمهالله ، فقال له قائل : أفي الله شك ، فقال : فيه الوجهان ، أو
القولان فكفّروه فيحكم بكفر ملقّنه أيضا حيث رضي بكفره بناء على غلبة ظنه أنه
يتفوّه بقول ما يوجب كفره ...
____________________________________
ومن أمر امرأة بأن
ترتدّ أو أفتى به المستفتية كفر الأمر والمفتي وكفرت المرأة أولا قلت ، وكذا من
رضي بارتدادها فما أقبح فعل بعض العلماء الذين هم خدمة الأمراء حيث يعلّمونهم
الحيلة في الأشياء ، فإذا استحسنوا امرأة متزوجة ولم يطلّقها زوجها أمروها بالردّة
ليتوسلوا بها إلى نكاحها بعد إسلامها ، أو يبقوها على كفرها ويجعلوها في حكم
الأسرى مملوكة ليقدروا على جماعها فوق ما معهم من النساء الأربع.
وفي الخلاصة وكذا
المعلم كفرت المعلمة أو لا أي لأن المعلم يشمل الملقن والمفتي وغيرهما. وفي المحيط
: من أمر أحدا أن يكفر كفر. الآمر كفر المأمور أولا يعني يستوي الحكم في قبول
المأمور وامتناعه. ومن علم الارتداد كفر المعلم ارتدّ الآخر أو لا.
قالوا : هذا إذا
علم ليرتد أما إذا علم لا ليرتدّ بل ليعلم فيتحرّز عنه لا يكفر المعلم ، وقال
الفقيه أبو الليث : إذا علم الارتداد وأمر به كفر ، وإن لم يأمر لا. قلت : الصحيح
قول الجمهور ، فإنه إذا علم طريق الارتداد ليرتدّوا ويؤثروا الفساد فلا شك أنه كفر
لانقلاب نيّته فيما يجب عليه من الاعتقاد فالمدار على قصده وجزمه في عزمه فيفيد
أنه إذا عزم على تعليمه الارتداد كفر بموجب الاعتقاد والله لا يحب الفساد ، ويؤيد
قوله ما نقله بالجامع بقوله. وفي المحيط ومجمع الفتاوى : من عزم على أن يأمر أحدا
بالكفر كان بعزمه كافرا.
وفي الخلاصة من
قال : أنا ملحد كفر أي لأن الملحد أقبح أنواع الكفرة. وفي المحيط والحاوي لأن
الملحد كافر ، ولو قال : ما علمت أنها أي هذه الكلمة كفر لا يعذر بهذا أي في حكم
القضاء الظاهر ، وإن كان بينه وبين الله مسلما لو كان صادقا ... وفي الجواهر من
قال : لو كان كذا غدا وإلّا أكفر كفر من ساعته ... وفي المحيط من قال : فأنا كافر
، أو فأكفر يعني في جزاء الشرطية المبتدأة ومطلقا ، قال أبو القاسم : هو كافر من
ساعته ...
ولو قال أحد
الزوجين لآخر تفعل معي أمورا كل زمان أكفر أو قال : كل زمان أقرب من الكفر كفر ،
أقول : وفي المسألة الأخيرة نظر ظاهر لأنه يمكن حمله على أن الشيطان يوقعني في
الوسوسة النفسية والخطرة الردية بحيث يقربني إلى الكفر ، ولكن يحفظني الله عنه
بألطافه الخفيّة ، أو قال الآخر : أتعبتني حتى أردت أن أكفر قلت : وهذا ظاهر لأن
فيه إرادة الكفر ... وفي الفتاوى الصغرى من قال لآخر : كن إن شئت مسلما ،
____________________________________
وإن شئت يهوديّا
كلاهما عندي سواء كفر لأن هذا رضي بالكفر ، ومن رضي بكفر غيره يكفر انتهى. وتقدّم
الخلاف ولا يبعد أن يقال إنه كفر لإطلاق قوله المستلزم أن تكون الملّة الحنيفية
واليهودية سواء إلا أن سياق الكلام يدل على أن مراده استواء إسلام الخصم وكفره
عنده لعدم مبالاته بأمره.
وفي الخلاصة أو
الحاوي قيل لمسلم قل : لا إله إلا الله فلم يقل كفر. أي لأنه امتنع عن الإقرار وهو
شرط إجراء أحكام الإسلام بخلاف ما لو قال : لا أقول بقولك ، أو أنا معلوم الإسلام
... وفي التتمة فقال : لا أقوله بلا نيّة حضرت أو على نيّة التأييد كفر ، ولو نوى
الآن لا أي لا يكفر. وهو يؤيد ما قرّرناه. وفي الجواهر والمحيط : لو قال ما ربحت
بقول هذه الكلمة حتى أقولها كفر ... وفي المحيط لو قالت : كوني كافرة خير من الكون
معك كفرت ، لأن المقام مع الزوج فرض فقد رجحت الكفر على الفرض ، وفيه بحث لأن
المقام مع الزوج لو كان فرضا لما أبيح الخلع فيمكن حمل كلامها على أن العشرة في
حال الكفر مع قبحها أهون من العشرة في صحبتك ، ومن دعى إلى الصلح فقال : أنا أسجد
للصنم ولا أدخل في هذا الصلح ، قيل : لا يكفر أي لأن غاية كلامه أن دخوله في الصلح
أصعب أو أقبح أو أكره من الكفر مع أنهما قبيحان ، وقال برهان الدين صاحب المحيط :
وفيه نظر ، وعند أنه يكفر ، قلت : ولعل وجه نظره أنه رجح الصلح الذي هو خير كما
قال الله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) . على الكفر الذي هو محض شرّ مع ما يلزمه من تحريم الصلح
ولو فرد منه على أن قوله : أنا أسجد للصنم إقرار بالكفر ، وقوله : ولا أدخل في هذا
الصلح إخبار عن امتناعه فيثبت كفره أولا ولا يمنعه إخباره ثانيا ، وإن كانت الجملة
الثانية حالية.
ولو قال : ما
أمرني فلان ، أي من المشايخ أو العلماء والأمراء افعل ، ولو بكفر أو قال : ولو كان
كلمة كفر كفر أي لأنه نوى الكفر في الاستقبال ، فيكفر في الحال ، ولقوله عليه
الصلاة والسلام : «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» . وهذا رجح
__________________
____________________________________
حكم المخلوق
بالكفر على أمر الخالق بالإيمان ونهيه عن الكفر.
ومن قال أنا بريء
من الإسلام قيل : يكفر ، هكذا في النسخ ، وهو غير صحيح إذ يكفر في هذه الصورة بلا
خلاف ، وإنما الاختلاف فيما إذا قال : أنا بريء من الإسلام إن فعلت كذا. ثم فعله
كما هو مقرر في محله ... وفي الحاوي من مرّ على مؤذّن فقال : كذبت كفر ... وفي
الجواهر أو قال : صوت طرفة حين سمع الأذان أو قراءة القرآن استهزاء كفر ، وقوله :
استهزاء يفيد ما قرّرنا سابقا حيث أطلقه ، وفي التتمة ، أو قال لمؤذن يؤذن استهزاء
بأذانه : من هذا المحروم الذي يؤذن ، وفي المحيط ، أو قال : هذا صوت غير المتعارف
، أو صوت الأجانب كفر في الكل. أقول : فإذا سمع صوت مؤذّن غريب فقال : هذا صوت
أجنبي ، أو غير معروف لا يكفر ، ويؤيد ما قررناه قوله : وإن قال لغير المؤذّن لا
يكفر ، يعني إذا أذّن بغير وقت استهزاء ، فقال له هذه الألفاظ لا يكفر.
وفي الخلاصة من
قال : النصرانية خير من اليهودية ، أو على العكس يكفر ، وينبغي أن يقول : اليهودية
شرّ من النصرانية يعني لأنه لا خير فيهما وأحدهما شر من الآخر منهما ، لكن لو أراد
بخيرية النصرانية قربهم إلى الملة الإسلامية لا يكفر ، قال الله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ
أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) .
وفي الخلاصة من
قال : فلان أكفر مني يكفر. أي إذا أراد به أفعل التفضيل من الكفر لا من الكفر إن
كما قال الله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ
ما أَكْفَرَهُ) . أو قال : ضاق صدري حتى أردت أن أكفر ، كفر أي إن أراد
بأردت قصدت ونويت بخلاف ما إذا أراد به قصدت وقاربت لما تقدّم والله تعالى أعلم ...
وفي الفتاوى الصغرى من تقلنس بقلنسوة المجوس أي لبسها وتشبّه بهم فيها ، أو خاط
خرقة صفراء على العاتق أي وهو من شعارهم ، أو شدّ في الوسط خيطا كفر ، إذا كان
مشابها بخيطهم ، أو ربطهم ، أو سمّاه زنارا وإلا فلا يكفر ، ولو شبّه نفسه باليهود
والنصارى أي صورة أو سيرة على طريق المزاح والهزل ، أي ولو على هذا المنوال كفر.
وفي الخلاصة من
وضع قلنسوة المجوس على رأسه قال بعضهم : يكفر ، وقال بعض المتأخرين : إن كان
لضرورة الرد أو لأن البقرة لا تعطيه اللبن حتى يلبسها لا
__________________
____________________________________
يكفر ، وإلّا كفر
قلت وكذا لبس تاج الرفضة مكروه ، كراهة تحريم ، وإن لم يكن كفرا بناء على عدم
تكفيرهم لقوله عليه الصلاة والسلام : «من تشبّه بقوم فهو منهم» . أما إذا كان في ديارهم ومأمورا بأن يمشي مكرها على آثارهم
فلا يضرّه ، وأما جواب بعض العلماء في مقام الإنكار عليه لبس هذه الكسوة بأن
قلنسوة الأزبكية أيضا بدعة فليس في محله ، فإنّا ممنوعون من التشبيه بالكفر وأهل
البدعة المنكرة في شعارهم لا منهيّون عن كل بدعة ولو كانت مباحة سواء كانت من
أفعال أهل السّنّة ، أو من أفعال الكفر ، وأهل البدعة فالمدار على الشعار.
وفي المحيط ولكن
الصحيح أنه يكفر مطلقا ، وضرورة البرد ليس بشيء لإمكان أن يمزقها ويخرجها عن تلك
الهيئة حتى تصير كقطعة اللبد فتدفع البرد فلا ضرورة إلى لبسها على تلك الهيئة ،
قلت : تتصور الضرورة بأن يكون المسلم أسيرا ، أو مستأمنا أو أعاره الكافر تلك
القلنسوة فليس له أن يغيّرها عن تلك الهيئة على أن تغيير تلك الهيئة قد لا يكون
مانعا من دفع البرد.
ولو شدّ الزنار
على وسطه ، أو وضع الغل على كتفه فقد كفر ، إي إذا لم يكن مكرها في فعله.
وفي الخلاصة ولو
شدّ الزنار قال أبو جعفر الأستروشني : إن فعل لتخليص الأسارى لا يكفر وإلا كفر ،
ومن تزنّر بزنار اليهود أو النصارى ، وإن لم يدخل كنيستهم كفر ، ومن شدّ على وسطه
حبلا وقال : هذا زنار كفر ، وفي الظهيرية وحرم الزوج ، وفي المحيط لأن هذا تصريح
مما هو كفر وإن شدّ المسلم الزنار ودخل دار الحرب للتجارة كفر أي لأنه تلبس بلباس
كفر من غير ضرورة ملجئة ، ولا فائدة مترتبة بخلاف من لبسها لتخليص الأسارى على ما
تقدم ، قال : وكذا قال الأكثر : أي أكثر العلماء في لبس السواد أي على منوال لبسهم
المعتاد.
وفي الملتقط : إذا شدّ الزنار أو أخذ الغل ، أو لبس قلنسوة المجوسي
جادّا أو
__________________
____________________________________
هازلا لا يكفر إلا
إذا فعل خديعة في الحرب ... وفي الظهيرية من وضع قلنسوة المجوسي على رأسه فقيل له
: أي أنكر عليه ، فقال : ينبغي أن يكون القلب سويّا أو مستقيما كفر ، أي لأنه أبطل
حكم ظواهر الشريعة ، ومن قال في غضبه كفر الرجل ، ثم قال : لم أرد به نفسي كفر ،
ولم يصدق أي قضاء لا ديانة.
وفي الخلاصة من
قال : صيرورة المرء كافرا خير من الجناية أفتى أبو القاسم الصفار أنه كفر أي لأنه
رجح المعصية التي هي صغيرة أو كبيرة على الكفر الذي هو أكبر الكبائر إجماعا ، حيث
قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) .
معلم قال :
اليهودي خير من المسلمين يقضون حقوق معلمي صبيانهم كفر ، وفيه أنه يمكن حمله على
أنه أراد الخيرية من هذه الحيثية لا من جميع الوجوه الشرعية ... وفي الظهيرية من
وعظوه ولاموه على العصيان ومخالطة أهل الفسوق وإعلان المعاصي فقال : اكسوا بهذا
اليوم قلنسوة المجوسي ، وإن عني الإقرار أي أراد هذا المعنى مع استقامة القلب كفر
أي ، لأنه وعد بالإخبار عن الإنكار وعد بالإخبار بضدّ الإقرار المعتبر في كونه شرط
الإيمان إلا أنه قد يقال : إنه لا يكفر لاستقامة قلبه وحصول إقراره سابقا غايته
أنه نوى أن يلبس تلك القلنسوة ونيّة المعصية ليست بكفر ، فإن المدار على المعرفة
القلبية.
ومن سرى في مكة
النصارى ورأى جماعة منهم يشربون الخمر ويطربون بالمعازف والقينات فقال : هذه مكة
العشرة ينبغي أن يشدّ الإنسان قطعة الحبل في وسطه ويدخل فيما بينهم ويطيب في هذه
الدنيا كفر ، أي لما سبق ولزيادة إرادة تحليل ما حرّم الله ، فإن هذه العشر
الدنيوية تتصور أيضا في الحالة الإسلامية مع أن تعذيبه سبحانه له جعله تحت المشيئة
في العقوبة الأخروية على أنه لا عيش إلا عيش الآخرة.
وفي الخلاصة من
أهدى بيضة إلى المجوسي يوم النوروز كفر ، أي لأنه أعانه على كفره وإغوائه ، أو
تشبّه بهم في إهدائه ومفهومه أنه لو أهدى شيئا في يوم النوروز إلى المسلم لا يكفر
... وفيه نظر إذ التشبيه موجود اللهمّ إلّا أن وقع اتفاقيّا من غير قصد إلى
النوروزية.
__________________
____________________________________
وفي مجمع النوازل اجتمع المجوس يوم النوروز فقال مسلم : سيرة حسنة وضعوها ،
كفر أي لأنه استحسن وضع الكفر مع تضمّن استقباحه سيرة الإسلام ... وفي الفتاوى
الصغرى : ومن اشترى يوم النوروز شيئا ولم يكن يشتريه قبل ذلك أراد به تعظيم
النوروز كفر ، أي لأنه عظم عيد الكفرة ، وإن اتفق الشراء ولم يعلم أن هذا اليوم
يوم النوروز لا يكفر ... قلت : وكذا إذا علم أن هذا اليوم هو النوروز لكنه اشتراه
بسبب آخر من حدوث ضيافة ونحوها فإنه لا يكفر.
ومن أهدى يوم
النوروز إلى إنسان شيئا وأراد تعظيم النوروز كفر. ولو سأل المعلم النوروزية ولم
يعطه المسئول منه يخشى على المعلم الكفر أي ولو أعطى المسئول منه يخشى أيضا عليه
الكفر.
وفي التتمة من
اشترى يوم النوروز ما لا يشتريه غيره من المسلمين كفر ، حكي عن أبي حفص الكبير
البخاري لو أن رجلا عبد الله خمسين عاما ثم جاء يوم النوروز فأهدى إلى بعض
المشركين يريد تعظيم ذلك اليوم فقد كفر بالله العظيم وحبط عمله خمسين عاما. ومن
خرج إلى السّدّة أي مجتمع أهل الكفر في يوم النيروز كفر ، لأن فيه إعلان الكفر ،
وكأنه أعانهم عليه وعلى قياس مسألة الخروج إلى النيروز المجوسي الموافقة معهم فيما
يفعلون في ذلك اليوم يوجب الكفر.
وفي الجواهر من
قيل له : لا تأكل الحرام ، فقال : ائتني بواحد لا يأكل الحرام ، أو بواحد يأكل
الحلال أو من به أو أسجد له وأعزّزه كفر لأن المؤمن به هو الله وملائكته ورسله
والسجدة حرام لغيره سبحانه وأما التعزيز سواء يكون بزاء ثم راء أو بزاءين فهو
بمعنى التعظيم له فلا وجه لكفره مع أن الإيمان قد يأتي بمعنى الاعتقاد والسجدة
بمعنى الانقياد ، ومن قال : ينبغي أن يوجد المال حلالا كان أو حراما ، أو قال من
الحلال كان أو من احرام ، فهذا القائل إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان أي لأنه بدل
الحلال على أنه يستوي عنده الحرام والحلال إلا أنه لما فرّق بينهما في المقال ما
حكموا بكفره في الحال ، بل قالوا : يخشى عليه من الكفر في المآل.
__________________
____________________________________
وفي الفتاوى
الصغرى : ومن قيل له لم لا تحوم حول الحلال؟ فقال : ما دمت أجد الحرام لا أحوم حول
الحلال ، ولا ألتفت إلى الحلال كفر ، أي في الحال لأنه عكس وضع الشرع الشريف حيث
إنه أباح الحرام عند وجود الحلال ... وفي الظهيرية ومن قيل له : كل من الحلال ،
فقال : الحرام أحبّ إليّ كفر ، أي لأنه خالف وضع الشرع الشريف فأحبّ ما كره الله
ورسوله ، أو قال : يجوز لي الحرام كفر ، أي لكونه صار إباحيّا ، أما إن أراد به
إنه مضطر فيباح له الحرام لا يكفر ...
وفي المحيط قيل
لرجل : حلال واحد أحبّ إليك أم حرامان؟ فقال : أيّهما أسرع وصولا يخاف عليه الكفر
، أي إن لم يكن مضطرا ... ولو قال : نعم أكل الحرام قيل : يكفر ... أقول وهو
الظاهر لقوله تعالى : (قُلْ لا يَسْتَوِي
الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) . حيث اختار ضدّ ما اختاره الله. ومن قال : أعلن الإسلام أو
قال أظهره حين اشتغل بالشرب ، أو قال : ظهر الإسلام.
وفي الخلاصة : ومن
يعصي ويقول : ينبغي أن يكون الإسلام ظاهرا يكفر أي لكونه جعل شرب الخمر والمعصية
ظاهر الإسلام والطاعة فقلب موضوع الشريعة.
وفي المحيط فاسق
قال : في مجلس الشراب لجماعة الصلحاء : تعالوا أيها الكفّار حتى تروا الإسلام كفر
أي إن لم يكن هذا القول منه في حال سكره ... ومن قال : أحب الخمر ولا أصبر عنها ،
قيل : يكفر أي إن أراد بالمحبة الرضاء والحلّ بخلاف ما إذا أراد به المحبة النفسية
والطبعية ، ومن قال : لو صبّ أو أريق من هذا الخمر شيء لرفعة جبرائيل عليهالسلام بجناحه كفر.
قلت : فالعبارات
الميمية الفارضية في قصيدته الخمرية ، وكذا في الأشعار الحافظية والقاسمية
وأمثالهم كلمات كفرية لمن حملها على المعاني الظاهرية كأهل الإلحاد والإباحية ...
وفي الجواهر من
قال : ليت الخمر أو الزنا أو الظلم أو قتل الناس كان حلالا كفر. وفيه بحث إذ غاية
حاله أن تمنّى على الله محالا. ولعل وجه كفره استحسان هذه المعاصي ، لكن إذا لم
يكن على وجه الاستحلال لا يكون كفرا في الحال ...
__________________
____________________________________
وفي الخلاصة : من
تمنى أن لا يكون الله حرّم الزنا أو القتل بغير حق ، أو الظلم ، أو أكل ما لا يكون
حلالا في وقت من الأوقات يكفر. ومن تمنى أن لا يحرم الخمر ولا يفرض عليهم صوم
رمضان لا يكفر.
ولعلّ الفرق أن
الأول من المجمع على حرمته في جميع الكتب ، وعند سائر الرّسل بخلاف الأخيرين فإنه
كان شرب الخمر حلالا وصوم رمضان لم يكن فرضا على غير هذه الأمة ، لكن لم يظهر لي
نتيجة هذا الفرق فإنه لا فرق بين الحكم الإلهي أولا بالعموم وآخرا بالخصوص.
وفي الجواهر : من
أنكر حرمة الحرام المجمع على حرمته ، أو شك فيها أي يستوي الأمر فيها كالخمر
والزنا واللواطة والربا ، أو زعم أن الصغائر والكبائر حلال كفر. أي لزعمه الباطل ،
وهو واضح إلا أن الصغائر معفوّة بعد اجتناب الكبائر عند المعتزلة ومعصية عند أهل
السّنّة والجماعة ولو بعد التوبة عن الكبيرة.
وفي التتمة : من
قال بعد استيقانه بحرمة شيء ، أو بحرمة أمر فعل : هذا حلال كفر ، أي إن كان
استيقانه مطابقا للشرع. ومن أجاز بيع الخمر كفر أي إذا أجاز بيعها لأهل الإسلام
دون أهل الجزية لا يقال أحلّ الله البيع ، لأن اللام للعهد وهو البيع المشروع إذ
لا يجوز بيع الخمر للمسلم إجماعا.
ومن استحلّ حراما
وقد علم تحريمه في الدين أي ضرورة كنكاح المحارم أو شرب الخمر ، أو أكل الميتة
والدم ولحم الخنزير أي في غير حال الاضطرار ، ومن غير إكراه بقتل أو ضرب فظيع لا
يحتمله ، وعن محمد رحمهالله بدون الاستحلال ممّن ارتكب كفر أي في رواية شاذّة عنه ،
ولعلها محمولة على مرتكب نكاح المحارم ، فإن سياق الحال يدلّ على الاستحلال لبقية
المحرّمات والله أعلم بالأحوال.
قال : والفتوى على
الترديد إن استعمل مستحلا كفر ، وإلا فإن ارتكب من غير استحلال فسق ... وفي
الفتاوى الصغرى من قال : الخمر حلال كفر ، أي ولو كان من أهل غزوة بدر ، كما توهمه
بعض الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه.
وفي المحيط : أو
ليس بحرام وهو لا يعلم أنه حرام الجملة حالية لأنه استحلّ الحرام قطعا أي لوروده
نصّا قاطعا ولا يعذر بالجهل.
وفي الخلاصة من
قال لرمضان : جاء هذا الشهر الطويل. وفي المحيط أو الثقيل أو
____________________________________
عند دخول رجب أو
يعقبه وقعنا فيه تهاونا برمضان أو بالموسم أي موسم الخيرات وكرهها طبعا خلاف ما
أمر بحبها شرعا ، كفر ، فإنه صلىاللهعليهوسلم كان إذا دخل رجب يقول : «اللهمّ بارك لنا في رجب وشعبان
وبلّغنا رمضان» .
وفي الظهيرية لو
قال : وقعنا فيه مرة أخرى تهاونا بالشهور المفضّلة شرعا واستقلالا للطاعة أي طبعا
لا قطعا وضعفا ... أو قال عند دخول رجب تفتننّها أندر أفتاديم أي وقعنا في محنتها
وبليّتها كفر ، وإن أريد به تعب النفس لا أي لا يكفر لأنه أمر جبلي لا يدخل تحت
اختيار العبد ، بل الأجر على قدر المشقّة ، وقد ورد أفضل الطاعات أحمزها أي أشدّها
وأصعبها وأحمضها ، أو قال : كم من هذا الصوم أي صوم رمضان فإني مللت أي كرهته ،
فهذا كفر أي بخلاف الملالة بمعنى السآمة ، فإن نفيها مختص بالملائكة حيث قال الله
تعالى : (وَهُمْ لا
يَسْأَمُونَ) أي لا يملّون. وفي المحيط من قال : هذه الطاعات جعلها الله
تعالى عذابا علينا من غير تأويل كفر أي لأن الله تعالى جعلها أسبابا لما يكون في
الآخرة ثوابا ويرفع عنه عقابا وإلا فالله تعالى غني عن العالمين أي عن عبادتهم
وعقابهم وثوابهم في ذهابهم وإيابهم ، وقال : فإن أول مراده بالتعب أي أراد بالعذاب
التعب لا أي لا يكفر.
ومن قال لو لم
يفرضه الله تعالى كان خيرا لنا بلا تأويل كفر ، أي لأن الخير فيما اختاره الله إلا
أن يؤول ويريد بالخير الأهون والأسهل فتأمل ...
وفي الخلاصة رجل
يرتكب صغيرة ، فقال له آخر : تب فقال المرتكب : ما فعلت أي شيء فعلت حتى يحتاج إلى
التوبة ، وفي المحيط ، أو قال : حتى أتوب كفر أي على قواعد أهل السّنّة خلافا
للمعتزلة لما قدّمنا في تحقيق المسألة. وفي التتمة لو قال : لا أتوب حتى يشاء الله
توبته ورآه عذرا كفر أي لأنه لا يجوز للعاصي حال ارتكاب المعصية أن يعتذر بالقضاء
والقدر والمشيئة وإن كان حقّا في نفس الأمر ، ولهذا ذمّ الله الكفار بقوله تعالى :
وقالوا (لَوْ شاءَ اللهُ ما
أَشْرَكْنا) الآية. مع قوله سبحانه : (وَلَوْ شاءَ اللهُ ما
__________________
____________________________________
أَشْرَكُوا) . وإنما تجوز المعذرة بالمشيئة بعد التوبة وهذا معنى قوله صلىاللهعليهوسلم : «حجّ آدم موسى» الحديث.
وفي المحيط
والخلاصة : قيل لفاسق : إنك تصبح وتؤذي الله ، وخلق الله ، آتي بالطيب ، أو نعم ما
أفعل أي كفر إلا إذا أراد بقوله إنه ما يفعل ما يكون سببا لأذى الحق ، والخلق فإنه
لا يكفر. ولو قال العاصي : هذا أيضا طريق ومذهب كفر إن أراد بهما مذهب الشرع ،
وطريق الحق وإلا فلا شك أن المعاصي طرق ومذاهب وسبل سواء يكون كفرا ، أو بدعة
فإنهما طريقان إلى النار ، ومذهبان إلى دار البوار ، ففي التنزيل : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ
وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) .
وفي المحيط : من
تصدّق على فقير بشيء من الحرام يرجو الثواب كفر. وفيه بحث لأن من كان عنده مال
حرام فهو مأمور بالتصدّق به على الفقراء فينبغي أن يكون مأجورا بفعله حيث قام
بطاعة الله وأمره ، فلعل المسألة موضوعة في مال حرام يعرف صاحبه ويعدل عنه إلى
غيره في عطائه لأجل سمعته وريائه ، كما كثر هذا في ظلمة الزمان وأمرائه.
وفي المحيط : ولو
علم الفقير أنه من الحرام ودعا له وأمن المعطى كفرا. وفي الظهيرية دفع إلى فقير
يرجو الثواب كفر ، ولو دعا الفقير بعد العلم بحرمته وأمن من أعطى كفرا جميعا أي
لأن الدعاء والتأمين إنما يكون في ارتكاب الطاعة ومال الحلال دون المعصية وارتكاب
الحرام فتأمل في المقام يظهر لك المرام ، فإن المعطي قد يريد بعطائه هذا تخليصه من
آثام الأنام يوم القيامة.
وفي الخلاصة من
قال : أحسنت لما هو قبيح شرعا ، أو جودت كفر أي كما إذا قتل سارقا أو شاربا. ولد
فاسق شرب الخمر أول مرة وجاء أقرباؤه ، أو من يقرب إليه من أصدقائه ونثروا عليه أي
دنانير أو دراهم ، أو أزهارا ، أو أثمارا كفروا ، ولو لم ينثروا ولكن قالوا : ليكن
أي شربه مباركا كفروا أيضا أي لأن المعصية التي هي شؤم عدّوها
__________________
____________________________________
مباركة ، فكأنهم
جعلوا الحرام حلالا مع زيادة البركة ، وفي معناه أن أنعم حاكم أو أمير على خطيب أو
إمام أو مدرّس ، أو غيرهم لباسا محرما فأتى أصحابه ، وقالوا له : مبارك اللهمّ إلا
أن قصدوا بالمباركة مباركة المنصب لا لبس الخلعة ، قال : وأيضا من قال : حين شرب
الخمر فرح لمن فرح بفرحنا وخسار ونقصان لمن لم يفرح بفرحنا كفر ، أي لأن الفرح فرح
الرضاء والمحبة وهو بالمعصية كفر والخسارة والنقصان لا يكونان إلا بالمعصية لا
بالطاعة ، كما قال الله تعالى : (فَما رَبِحَتْ
تِجارَتُهُمْ) ، وقوله تعالى : (قَدْ خَسِرَ
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) . فلما عكس القضية وقع في نيّة الكفر وحضيض البليّة.
ولو قال : حرمة
الخمر لا تثبت بالقرآن كفر ، أي لأنه عارض نص القرآن ، وأنكر تفسير أهل الفرقان ،
وقد قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) أي القمار بجميع أنواعه (وَالْأَنْصابُ
وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ) أي إثم وسخط (مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) أي الرجس (لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ) . أي بالاجتناب عنه ، وفي الآية : مبالغات عظيمة عند فهوم
سليمة لا تدركها عقول سقيمة.
وفي التتمة : من
أنكر حرمة الخمر في القرآن كفر ، وفي الخلاصة من قال : من لا يشرب مسكرا فليس
بمسلم كفر ، ومن استحلّ شرب نبيذ التمر أي المسكر أي إلى حدّ السكر كفر أي بخلاف
من استحلّ قليله خلافا للشافعي حيث قال : ما أسكر كثيره فقليله حرام أيضا ، ومن
استحل وطئ امرأته حائضا كفر ، واللواطة معها كفر أي سواء حال حيضها وغيرها ، وفي
الأول ، وفي الثاني خلاف لبعض السلف حيث أباحوا له كما ذكره السيوطي في تفسيره
المأثور المسمى بالدرّ المنثور فالأحوط أن لا يحكم بكفره حينئذ.
وفي المحيط :
استحلال الجماع في الحيض كفر ، وقيل : استحلال الجماع في الاستبراء أي من غير حيلة
إسقاط بدعة وضلال وكفر أي لأنه حرام بلا خلاف إلا أنه ثبتت حرمته بالسّنّة لا بنص
الآية ، وسيأتي تفصيل حسن في هذه المسألة ، وفي المحيط مع اعتقاد النهي في
الاستبراء للحرمة إن استحلّها قبل الاستبراء كفر لأنه يصير جاحدا لحكم الكتاب
والإمام شمس الدين السرخسي مال إلى التكفير من غير تفصيل ، وكذا
__________________
____________________________________
عن ابن رستم ، وفي
الفتاوى الصغرى روي عن ابن رستم أنه استحلّها متأوّلا أن النهي ليس للتحريم ، أو
لم يعرف النهي أي لم يبلغه حديث النهي لا يكفر ، ولو استحل مع اعتقاد أن النهي
للحرمة كفر ، وعن ابن رستم في النوازل التكفير مطلقا من غير تفصيل.
وفي التتمة من رأى
أي جوّز وأباح نكاح امرأة أبيه أي عقدها ، أو وطأها صار مرتدّا ومن تمنى عدم حرمة
ما يقبح في العقل كالظلم وقول الزور كفر ، وفيه أنه تقييد ببعض ما تقدّم أنه لا
عبرة في الشرع والنقل بتقبيح العقل ، ومن أنكر حكمة مطر ، أو نفي كفر انتهى. وفيه
نظر لا يخفى.
ومن قال بعد قبلة
أجنبية : هي لي حلال كفر ، ومن تمنى أن لم يحرم الأكل فوق الشبع كفر لأن إباحته لا
تليق بالحكمة أي لأن أكثر المضرّة من التخمة وملأ المعدة كما ثبت في السّنّة وفي
الجواهر من قيل له : لم لا تزكّي؟ فقال : إلى ما أعطي هذه الغرامة كفر ، ولو قيل :
لمن وجبت عليه الزكاة فقال : لا أدري كفر ، والصحيح التفصيل الذي ذكره بقوله ،
وقيل : إذا قال ذلك على وجه الرد أي ردّ حكم الله والجحود أي إنكار وجوبها كفر ،
وإلا لا.
ومن قال لآخر أعني
بحق فقال : كل أحد يعين بحق ، أو على حق ، فأما أنا فأعينك بغير حق ، أو بظلم. قال
بعض العلماء : يكفر أي إن استحل ذلك لقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى
الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) . ومن قال لآخر : رح. أي اذهب إلى فلان ومره بمعروف فقال :
ما ذا ضرّني ، أو قال : بما ذا جفاني حتى آمره بمعروف كفر أي لاعتقاده أن الأمر
ليس بواجب ، وأنه إنما يأمر به من يأمر لعداوة نفسية وخصومة دنيوية.
وفي الظهيرية : من
قيل له ألا تأمر بالمعروف ، فقال : ما فعل لي ، أو قال : أيّ ضرر منه لي ، أو قال
: أنا اخترت العافية ، أو قال : بهذا الفضول ، وفيه إذا قال أيّ ضرر منه لي لا
يكفر لقوله تعالى : (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ
ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) . وكذا إذا قال : أنا اخترت العافية وأراد به السكوت طلبا
للسلامة مما يتوقع فيه الفتنة والآفة لا يكفر ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : «إذا
رأيت شحّا مطاعا وهوى متّبعا ، وإعجاب كل ذي رأي
__________________
____________________________________
برأيه فعليك
بخويصة نفسك ، ودع أمر العامّة» . وأما إذا قال : ما لي بهذا الفضول. وأراد به أنه ليس من
الواجبات المقررة في الأصول على وجه الفضول فيكفر بخلاف ما إذا أراد به أن هذا أمر
يتعلق بالأمراء ، أو بالقضاة ونحوهم من العلماء فإنه لا وجه لكفره.
وفي الخلافة أو
قال لآمري المعروف جئتم بالغوغاء أو بالشغب يخاف عليه الكفر أي إن أراد بنفس الأمر
بالمعروف أنه غوغاء وشغب بخلاف ما يترتب عليه من بلاء وتعب. وفي الفتاوى الصغرى من
قال : إنه مجوسي ، أو بريء من الله إن كنت فعلت كذا ، وهو يعلم أنه قد فعله كفر.
قال الفضلي : وتبين امرأته ، ومن قال : فهو يهودي ، أو نصراني إن فعلت كذا وهو
يعلم بفعله كفر أقول ، والصحيح التفصيل الآتي ، وأما ما في الجواهر إن اعتقد أنه
يكفر إن فعل كفر لأن الإقدام عليه يكون رضا بالكفر فليس له تعلّق بما تقدّم لأنه
مفروض فيما صدر عنه في الماضي والإقدام عليه لا يكون إلا في الحال والاستقبال.
وفي الفتاوى
الصغرى من قال : يعلم الله أني فعلت كذا ، وكان لم يفعل كفر ، أي لأنه كذب على
الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) . ولو قال : الله يعلم أنه هكذا وهو يكذب كفر أقول ، ولعلّ
الفرق بين المسألتين أن الأولى نسبة في الفعل ، والثانية النسبة في القول ، وكذا
لو قال : الله يعلم أنك أحب إليّ من والدي ، وهو كاذب فيه كفر ، قلت : ولا يمكن
صدقه إلا إذا أراد به أنه أحبّ إليه من بعض الوجوه ، وفي المحيط لو قال : الله
يعلم إني لم أزل أذكرك بدعاء الخير ، قال بعضهم : يكفر أي إن أراد به الدوام
الحقيقي ، فإنه لا يتصور وقوعه ، فيكون كاذبا على الله تعالى بخلاف ما إذا أراد به
المبالغة في الكثرة فإنه لا يكفر إلا إذا كان ذكره له نادرا داخلا في حدّ القلّة.
وإذا قال : هو
يهودي ، أو نصراني ، أو مجوسي ، أو بريء من الإسلام وما أشبه ذلك إن فعل كذا على
أمر في المستقبل فهو يمين عندنا ، والمسألة معروفة فإن أتى
__________________
____________________________________
بالشرط وعنده أنه
يكفر كفر ، وإن كان عنده أنه لا يكفر متى أتى بالشرط لا يكفر متى أتى به ، وعليه
كفّارة اليمين أي لا غير ، ويكون قصده بذلك الكلام المبالغة عن امتناعه وتقبيحه
لذلك المرام ، وإن حلف بهذه الألفاظ على أمر في الماضي وعنده أنه لا يكفر كاذبا لا
كفّارة عليه لأنه غموس أي يغمس صاحبه في النار لكونه كبيرة فهل يكفر فهو على ما
ذكرنا. أي كما حرّرنا في الماضي والمستقبل إن كان عنده أنه يكفر كفر ، لأنه رضاء
منه بالكفر والرضاء بالكفر كفر ، وعليه الفتوى ، ولو قال بالله وبروحك ، أو برأسك
قال بعض المشايخ : يكفر حيث عطف غير الله سبحانه عليه وشاركه في تعظيمه لديه. ولو
قال : بالله وبتراب قدمك كفر عند الكل. أي لأن في الأوّلين ما يشعر بتعظيم الله
سبحانه في الجملة ، وفي الأخيرة ما يشير إلى إهانته تعالى حيث قال الرب الخالق
بتراب قدم المخلوق وما للتراب وربّ الأرباب ...
وفي المحيط : قال
علي الرازي رحمهالله : أخاف على من يقول بحياتي وحياتك وما أشبه ذلك الكفر أي
لظاهر قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً) . أي شركاء في العبادة ولقوله عليه الصلاة والسلام : «من
حلف بغير الله فقد أشرك» . ولكن لما كان الحالف أراد مجرد تعظيم نفسه أو نفس مخاطبه
في الجملة لا على وجه المقابلة والمشاركة لم يجزم بكفره ، ويدخل في قوله وما أشبه
ذلك لو حلف بالنبي أو بروح النبي ، أو حياة النبي ، أو بالكعبة ، أو الأمانة
وأمثال ذلك ، ولو لا أن العامّة يقولونه ولا يعلمونه لقلت أنه شرك خفيّ لأنه لا
يمين أي منعقدة إلا بالله تعالى. فإذا حلف بغير الله تعالى فقد أشرك أي ظاهرا ، أو
شابه المشركين.
وقال ابن مسعود
رضي الله عنه : لأن أحلف بغير الله صادقا أشد وأنكر عليّ من أن أحلف بالله كاذبا ،
أو قال : لأن أحلف بالله كاذبا أحبّ إليّ من أن أحلف بغير الله صادقا.
قلت : وهذه
الرواية صريحة في عدم كفر من حلف بغير الله كما لا يخفى ... وفي الفتاوى الصغرى من
قال لآخر بالفارسية : أي بار خاي من عالما بالمعنى وقاصدا به كفر.
وقال أبو القاسم ،
وفي الظهيرية وأكثر المشايخ على أنه يكفر مطلقا علم المعنى أو لم يعلم قصده أو لم
يقصده ... قلت هذا مشكل لأنه إذا سمع كلمة عجيبة ولم يعلم
__________________
____________________________________
معناها واستعملها
استعمال الأعجام في المخلوق وفق مقتضاها كيف يكفر مع أنه لم يقصد ما يقتضي فحواها.
ثم رأيت في منهاج
المصلّين مسائل : منها أن الجاهل إذا تكلم بكلمة الكفر ولم يدر أنها كفر قال بعضهم
: لا يكون كفرا ويعذر بالجهل. وقال بعضهم : يصير كافرا ، ومنها أنه أتى بلفظة
الكفر ، وهو لم يعلم أنها كفر إلا أنه أتى بها على اختيار يكفر عند عامّة العلماء
خلافا للبعض ولا يعذر بالجهل. ومنها أن من اعتقد الحرام حلالا أو على القلب يكفر ،
أما لو قال لحرام : هذا حلال لترويج السلعة ، أو بحكم الجهل لا يكون كفرا انتهى.
ونقل صاحب
المضمرات عن الذخيرة أن في المسألة إذا كان وجوه توجب التكفير ، ووجه واحد يمنع
التكفير فعلى المفتي أن يميل إلى الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم. ثم إن
كان نيّة القائل الوجه الذي يمنع التكفير فهو مسلم ، وإن كان نيّته الوجه الذي
يوجب التكفير لا ينفعه فتوى المفتي ، ويؤمر بالتوبة والرجوع عن ذلك وبتجديد النكاح
بينه وبين امرأته.
ومن قال : عبد
الله ك عبد العزيز ك وما أشبه ذلك ، أي مما أضيف فيه العبد إلى اسم من أسمائه
بإلحاق الكاف في آخره عمدا كفر ، أي لأنه أتى بالتصغير الموضوع للتحقير والمتبادر
أنه راجع إلى المضاف إليه لكن إن أراد به تصغير المضاف لا يكفر لأنه يصير معناه
عبيد الله. وهذا إذا كان عالما ، ولذا قال : وإن كان جاهلا لا يدري ما يقول ولم
يقصد به الكفر لا يقال إنه كفر أي ويحمل إنه أدخل الكاف لغوا وسهوا. سئل الإمام
الفضلي عن الجوازات التي يتخذها الجهّال للقادم فقال : كل ذلك لهو ولعب حرام.
من ذبح شاة في وجه
إنسان في وقت الخلعة أو القدوم ، وما أشبه ذلك من الجوازات ... وفي المحيط : أو
اتخذ جوازات كفر أي إذا لم يسمّ الله في ذبحها ، أو شارك القادم في التسمية ، وأما
بدون ذلك فلا يظهر وجه الكفر في هذه القضية ، وفي الظهيرية : سلطان عطس فقال له
رجل يرحمك الله ، فقال له آخر لا يقال للسلطان هكذا كفر الآخر أي إن أراد بقوله :
لا يقال لا يجوز شرعا بخلاف ما إذا أراد به أنه لا يقال ذلك عرفا ، وكذا إذا قال
رجل للسلطان : السلام عليك ، فقال له آخر : هو لا يقال للسلطان.
ثم قال لواحد من
الجبابرة يا إله أو يا إلهي كفر. أقول : وإنما قيّد بكونه من
____________________________________
الجبابرة لأنه
يكفر مع أنه من أرباب الإكراه فغيّره بالأولى. ومن قال لمخلوق : يا قدّوس أو
القيّوم أو الرحمن ، أو قال : اسما من أسماء الخالق كفر. انتهى. وهو يفيد أنه من
قال لمخلوق : يا عزيز ونحوه يكفر أيضا إلا إن أراد بهما المعنى اللغوي لا الخصوص
الاسمي والأحوط أن يقول : يا عبد العزيز ويا عبد الرحمن ، وأما ما اشتهر من
التسمية بعبد النبي فظاهره كفر إلا إن أراد بالعبد المملوك.
وفي المحيط : ذكر
في واقعات الناطفي إذا قال أهل الحرب لمسلم : اسجد للملك وإلا قتلناك فالأفضل أن
لا يسجد لأن هذا كفر صورة ، والأفضل أن لا يأتي بما هو كفر صورة ، وإن كان في حالة
الإكراه يعني ولا سيما وقع الإكراه من العسكر لا من السلطان ، وفيه خلاف مشهور
سيأتي بيانه ، ومن سجد للسلطان بنيّة العبادة أو لم تحضره فقد كفر.
وفي الخلاصة : ومن
سجد لهم إن أراد به التعظيم إن كتعظيم الله سبحانه كفر ، وإن أراد به التحية اختار
بعض العلماء أنه لا يكفر ... أقول وهذا هو الأظهر.
وفي الظهيرية قال
بعضهم : يكفر مطلقا هذا إذا سجد لأهل الإكراه أي لمن يتأتى منه الإكراه ويتحقّق
منه ذلك بأن أكرهه عليه مثل الملك عند أبي حنيفة رحمهالله ، أو كل قادر على قتل الساجد إن امتنع عند أبي يوسف ومحمد رحمهماالله ، ما إذا سجد بغير الإكراه أي ولو أمر به على القولين يكفر
عندهم بلا خلاف.
وأما تقبيل الأرض
فهو قريب من السجود إلا أن وضع الجبين أو الخد على الأرض أفحش وأقبح من تقبيل
الأرض ... أقول وضع الجبين أقبح من وضع الخد فينبغي أن لا يكفر إلا بوضع الجبين
دون غيره لأن هذه سجدة مختصّة بالله تعالى ، قال : وأما تقبيل اليد فإن كان المحيا
ممّن يحقّ إكرامه شرعا بأن كان ذا علم أي صاحب علم وعمل ، أو شرف أي سيادة ذات
سعادة يرجى له أن ينال الثواب كما فعله زيد بن ثابت بابن عباس رضي الله عنه. وأما
إن فعل ذلك بصاحب الدنيا يفسق أي إذا فعل ذلك لمجرد دنياه ، أو لمنصبه وغناه بخلاف
ما إذا فعل ذلك لإحسان سبق منه ، أو أراد دفع ظلم عنه ، أو عن غيره فإنه لا يكفر ،
لكنه يفسق ، وأصل ذلك حديث : «من تواضع لغني لأجل غناه ذهب ثلثا دينه» . لأن آلة العبادة قلب ولسان وجوارح ، وفي تعظيم الغنى لا
بدّ من استعمال
__________________
____________________________________
اللسان والجوارح ،
كذا قيل : وأقول لا يتصور التعظيم إلا من القلب فكأن القائل به أراد أن هذا إذا
كان تعظيمه باللسان والأركان ظاهرا ولا يكون بالجنان باطنا وإلا فذهب دينه كله هذا
، والحديث رواه البيهقي وغيره بأسانيد ضعيفة ...
وفي رواية للديلمي
لعن الله فقيرا تواضع لغني من أجل ماله من فعل ذلك منهم فقد ذهب ثلثا دينه ... ثم قالا : قال محمد رحمهالله : إذا أكره على الكفر بتلف عضو وما أشبه ذلك أي من ضرب
مؤلم ، أو جراحة أن تلفّظ بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولم يخطر بباله شيء سوى ما
أكره عليه لا يحكم بكفره لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) . وإن خطر بباله أن يخبر عن كفره في الماضي كاذبا ، وقال :
أردت بذلك حين تلفّظت جوابا لكلامهم ، وما أردت كفرا مستقبلا يحكم بكفره قضاء أي
حكومة لا ديانة حتى يفرّق القاضي بينه وبين امرأته لأنه عدل عن إنشاء ما أكره عليه
، وحكي عن كفره في الماضي وهو غير الإنشاء ، وهو غير مكره عليه ، ومن أقرّ بكفر في
الماضي طائعا ، ثم قال أردت الكذب يكفر ولا يصدقه القاضي ، لأن الظاهر هو الصدق
حالة الطواعية ولكن يدين أي يقبل قوله ديانة ولا يكفر لأنه ادّعى محتمل لفظه.
ولو قالت زوجة
أسير لتخلص أنه ارتدّ عن الإسلام وبانت منه فقال الأسير : أكرهني ملكهم بالقتل على
الكفر بالله ففعلته مكرها ، فالقول لها ولا يصدق الأسير إلا بالبيّنة. ولو قالت
للقاضي : سمعت زوجي يقول المسيح ابن الله فقال : إنما قلت حكاية عمّن يقوله فإنه
أقرّ أنه لم يتكلم إلا بهذه الكلمة بانت امرأته ، ولو قال : إني قلت : يقولون
المسيح ابن الله ، أو قال : قلت المسيح ابن الله قول النصارى ، فلم تسمع بعض كلامي
وكذبته ، فالقول : قول الزوج مع يمينه ، وكذا لو قال أظهرت ما سمعت وأبقيت ما بقي
موصولا فالقول قوله. قال محمد رحمهالله : إن شهد الشهود أنهم سمعوه يقول : المسيح ابن الله ، ولم
يقل غير ذلك يفرّق القاضي بينهما ولا يصدقه.
__________________
____________________________________
فصل في المرض والموت والقيامة
من قال : كان الله
ولم يكن شيء أي معه ، أو قبله وسيكون الله ولا يكون شيء كفر ، لأنه قول بفناء
الجنة والنار أي وهما باقيتان لقوله تعالى في حقهما وأهلهما : (خالِدِينَ فِيها
أَبَداً). ولا عبرة بقول الجهمية وخلافهم في هذه القضية ، ومن قال
لمن برأ من مرضه : فلان أرسل الحمار ثانيا ، ومن قال لمن مات بذل روحه لك ، أو قال
للمعمّر ما نقص من روحه ليزيد في روحك يخشى عليه الكفر ، أي إن اعتقد وقوع ذلك
لقوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ
مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) ، ولقوله تعالى : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ
اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها) وإلا فيكون كاذبا في قوله تعالى ، ولو قال : زاد الله في
روحك فهذا خطأ وجهل ومذهب غير أهل السداد قلت : وكذا إذا قال زاد الله في عمرك وأطال
الله عمرك وأبقاك الله ونحو ذلك قال وكذا إذا قال : نقص من روحه ، وزاد في روحك.
ومن قال : فلان
مرد بجان تو سيرد كفر أي لأنه خالف قوله تعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) . والظاهر أن يكون كذبا لا كفرا. ثم اعلم أنه إلى هنا من
كلام الجامع حيث ما نسبه إلى أحد ، ثم قال على ما في نسخة ...
وفي فتاوى قاضي
خان من قال : فلان لا يموت بنفسه يخشى عليه الكفر أي إن أراد أنه لا يموت إلا
بالقتل ، وإلا فكل أحد لا يموت بنفسه ، وإنما يموت بإماتة الله له وقبض ملك الموت
لروحه ، ومن قال أماته الله قبل موته كفر ، أي إذا أراد إخبارا بخلاف ما إذا قصد
دعاء.
ومن قال : كان
ينبغي الميت لله أو لا ينبغي لله كفر ، أي إذا أراد أنه كان يليق وجود الميت ، أو
نفيه لله ، ومن قال لمن مات ابنه : كان ينبغي لله أو لا ينبغي لله أن يقبضه كفر ،
ومن قال : فلان أعطى روحه السيد أو لفلان أو أبقى روحه له ، ومن قال لميت : كان
الله أحوج إليه منكم كفر أي ، لأن الله هو الغني الحميد والصمد المجيد لا يحتاج
إلى أحد ، وكل أحد محتاج إليه.
ثم قال : واعلم أن
من أنكر القيامة أو الجنة أو النار أي وجودهما في الجملة
__________________
____________________________________
لاختلاف المعتزلة
في كونهما موجدتين الآن ، أو الميزان ، أو الصراط ، أو الحساب فيه أن المعتزلة
ينكرون المسائل الثلاثة ، أو الصحائف المكتوبة فيها أعمال العباد يكفر أي لثبوتها
بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة ، ولو أنكر البعث ، فكذلك أي اتفاقا. ومن قال
لمظلوم : أين تجدني في ذلك الازدحام ، أو في ازدحام القيامة يكفر ، أي لأنه نفي
قدرة الخالق على الجمع بينه وبين الخصم.
ومن قيل له : لو
ما تعطني الحق اليوم لأعطيته يوم القيامة كثيرا ، فقال : ما يبقى إلى يوم القيامة
كفر ، لأنه استبعد وقوعه وتحقّقه لا إن أراد طول الزمان بينه وبينه.
ومن قال لمديونه :
أعط دراهمي في الدنيا فإنه لا درهم يوم القيامة يعني يؤخذ من حسناتك فقال زدني
تأخذ في يوم القيامة ، أو طلب في يوم القيامة ، أو قال : زدني أعطيك كله ، أو جملة
في القيامة كفر ، أي لأن ظاهره إنكاره يوم القيامة ، أو نفي خوف العقوبة ، أو
استهزاء بما ثبت في السّنّة من أخذ الحسنة ، قال : كذا أجاب الشيخ الإمام الفضلي
وكثير من أصحابنا.
ومن قال : أعطني
برّا أعطك يوم القيامة شعيرا ، أو قال على العكس كفر أي لأنه صريح في الاستهزاء.
وفي الفتاوى الصغرى أو قاضي خان من قال لدائن : العشرة أعطني عشرة أخرى تأخذ يوم
القيامة عشرين كفر ، ولو قال : ما ذا لي والمحشر ، أو قال : لا أخاف المحشر ، أو
قال : لا أخاف القيامة كفر.
وفي الحاوي من زعم
أن الحيوانات سوى بني آدم لا حشر لها كفر أي لثبوت القصاص بين البهائم بالأحاديث
الثابتة ثم يقال لها كوني ترابا فتصير ترابا ، وعند ذلك يقول الكافر يا ليتني كنت
ترابا ، وإن زعم ذلك أي نفي الحشر كفر أي للدلالة القاطعة ، ومن قال : لا أدري لم
خلقني الله تعالى إذا لم يعطني من الدنيا شيئا قطّ ، أو من لذّاتها شيئا ، قال أبو
حامد : كفر أي لكونه خلق للعبادة والمعرفة ولم يعرف ذلك كما في قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي لأجل العبادة والمعرفة ولاعتراضه على الله سبحانه أيضا
جعله فقيرا ، ولذا قال صلىاللهعليهوسلم : «كاد الفقر أن يكون كفرا» . أو قال : لا أدري لم خلق الله فلانا كفر. أي لأنه أنكر
على الله تعالى خلقه.
__________________
____________________________________
وفي الجواهر : من
قال لو أمرني الله أن أدخل الجنة مع فلان لا أدخلها كفر في الحال لأنه عزم على
مخالفة الأمر في الاستقبال ، ومخالفة الأمر بمعنى نفي قبوله كفر.
وفي الخلاصة : أو
قال إن أعطاني الله الجنة دونك أي دون فلان لا أريدها. أو قال : لا أريدها. مع
فلان ، أو قال : أريد اللقاء ولا أريد الجنة كفر أي للمعارضة في الإرادة.
وفي الظهيرية أو
لا أدخلها دونك ، أو قال : لو أمرت أن أدخل الجنة مع فلان لا أدخلها ، أو قال : لو
أعطاني الله الجنة لأجلك أو لأجل هذا العمل لا أريدها كفر.
وفي الخلاصة : من
قيل له دع الدنيا لتنال الآخرة ، فقال : لا أترك النقد بالسيئة كفر. وفي الظهيرية
ينبغي الخبز في الدنيا فليكن في الآخرة ما شاء وما شاء كفر. وفي المحيط من تلفّظ
بكلمة مستكرهة فقال له آخر : أيّ شيء تصنع قد لزمك الكفر ، وإن لم يكن كفر أي بتلك
الكلمة فقال : أيّ شيء أصنع إذا لزمني الكفر كفر. وفيه بحث لا يخفى.
ومن قال : أنا
بريء من الثواب والعقاب ، أو من الموت والثواب ، فقد قيل : إنه يكفر أي بناء على
إنكاره الأمر المقطوع به من ثبوت الثواب والعقاب ، ووقوع الموت بلا ارتياب ،
والصحيح أنه لا يكفر لأن البراءة عنها كناية عن عدم الالتفات إليها.
وفي الخلاصة : ومن
قال لآخر : أذهب معك إلى حافر جهنم أو إلى بابها ، ولكن لا أدخل كفر. وفيه نظر إذ
معناه إني أوافقك في كل معصية إلّا الكفر ولا محذور فيه إلا الفسق ويدل على ما
قلناه قوله ، ومن قال : إلى جهنم ، أو طريق جهنم يكفر عند البعض ، إلا أنه مع قوله
لكن لا أدخلها كيف يكفر بلا خلاف وبدونه يكفر باختلاف.
وفي الفتاوى
الصغرى : من قال حين اشتد مرضه أو اشتدّت علّته ما شاء الله أمتني
__________________
____________________________________
إن شئت مؤمنا ، أو
إن شئت كافرا كفر ، أي لاستواء الكفر والإيمان عنده ، وإن كان تعلق المشيئة بهما.
ومن قال : حين تصيبه
مصيبات مختلفة يا ربّ أخذت مالي ، أو أخذت كذا وكذا فما ذا تفعل أيضا ، أو قال :
ما تريد أن تفعل ، أو قال ما ذا بقي أن تفعل أو ما أشبه ذلك من الألفاظ فأجاب عبد
الكريم بن محمد رحمهالله إنه يكفر ولا يصدق بقوله أخطأت أي لأن ظاهر كلامه الاعتراض
على فعله الماضي ، والآتي.
وفي الجواهر من
قال ما ذا يقدر أن يفعل في غير السعير ، أو فوق السعير كفر ، أي لحصر قدرته في
تعذيب السعير. ومن قال : إذا أعطي عالم فقيرا درهما يضرب الطبل ، أو يضرب الملائكة
الطبل يوم القيامة ، أو في السموات كفر ، أي لأنه ادّعى علم الغيب وكذب على
الملائكة ونسبهم إلى فعل اللغو ...
وفي الظهيرية
الساحر إذا علم أنه ساحر يقتل ولا يستتاب ولا يقبل قوله أترك السحر وأتوب بل إذا
أقرّ أنه ساحر فقد حلّ دمه ، وكذا إذا شهد الشهود به ، ولو قال : إني كنت ساحرا ،
وقد تركته منذ زمان قبل الأخذ قبل منه ، ولم يقتل وكذا لو ثبت ذلك بالشهود وكذا
الكاهن. قلت وفي كونه كالساحر يقتل محل بحث.
ولو كان لمسلم أم
أو أب ذمّيّ فليس له أن يقودهما إلى البيعة لأن ذهابهما إلى البيعة معصية ولا طاعة
لمخلوق في معصية الخالق ، وأما إيابهما منها إلى منزلهما فأمر مباح فيجوز له أن
يساعدهما ولعله آخر رجوعهما عن البيعة إلى المنزل بتوفيق الله التوبة وبحسن
الخاتمة.
وينبغي أن يتعوّذ
المسلم من الكفر ويذكر هذا الدعاء صباحا ومساء فإنه سبب النجاة من الكفر : (اللهمّ
إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئا وأنا أعلم به وأستغفرك لما لا أعلم به وأنت علّام
الغيوب ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم).
وهذا خاتمة ما
قصدناه وتتمة ما أردناه ، ونسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة ، وأن يختم
لنا بالحسنى ، ويبلغنا المقام الأسنى ، ويحفظنا في هذا المحل ويرزقنا اللقاء
الأعلى فإنه الناصر والمولى والحمد لله تعالى أولا وآخرا ، والسلام على نبيّه محمد
ظاهرا وباطنا آمين يا رب العالمين ، ويرحم الله تعالى عبدا قال آمين. اللهمّ اغفر
وارحم لمؤلّفه ولكاتبه ، ولوالديه ولقارئه ولسامعه يا أرحم الراحمين.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
متن الفقه الأكبر للإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه
أصل التوحيد وما
يصحّ الاعتقاد عليه يجب أن يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت
والقدر خيره وشرّه من الله تعالى ، والحساب والميزان ، والجنة والنار حق كله.
والله تعالى واحد
لا من طريق العدد ولكن من طريق أنه لا شريك له قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. لا يشبه شيئا من الأشياء من خلقه ولا يشبهه شيء من
خلقه لم يزل ولا يزال بأسمائه وصفاته الذاتية والفعلية ، أما الذاتية فالحياة
والقدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والإرادة ، وأما الفعلية فالتخليق والترزيق
والإنشاء والإبداع والصنع وغير ذلك من صفات الفعل.
لم يزل ولا يزال
بأسمائه وصفاته لم يحدث له اسم ولا صفة لم يزل عالما بعلمه والعلم صفة في الأزل
وقادرا بقدرته والقدرة صفة في الأزل ومتكلّما بكلامه ، والكلام صفة في الأزل
وخالقا بتخليقه والتخليق صفة في الأزل وفاعلا بفعله ، والفعل صفة في الأزل والفاعل
هو الله تعالى ، والفعل صفة في الأزل والمفعول مخلوق ، وفعل الله تعالى غير مخلوق
وصفاته في الأزل غير محدثة ولا مخلوقة ، فمن قال : إنها مخلوقة أو محدثة ، أو وقف
، أو شك فيها فهو كافر بالله تعالى.
والقرآن كلام الله
تعالى في المصاحف مكتوب ، وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء ، وعلى النبي عليه
الصلاة والسلام منزّل ، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة وقراءتنا له
مخلوقة والقرآن غير مخلوق.
وما ذكر الله
تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وعن
فرعون وإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى إخبارا عنهم ، وكلام الله تعالى غير
مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق والقرآن كلام الله تعالى فهو قديم لا
كلامهم.
وسمع موسى عليهالسلام كلام الله تعالى كما قال الله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً). وقد كان الله تعالى متكلّما ولم يكن كلّم موسى عليهالسلام وقد كان الله تعالى خالقا في الأزل ولم يخلق الخلق وليس
كمثله شيء وهو السميع البصير.
فلما كلّم الله
موسى كلّمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين يعلم
لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا ويسمع لا كسمعنا ويتكلم لا ككلامنا.
ونحن نتكلم بالآلات والحروف والله تعالى يتكلم بلا آلة ولا حروف والحروف مخلوقة
وكلام الله تعالى غير مخلوق. وهو شيء لا كالأشياء ومعنى الشيء إثباته بلا جسم ولا
جوهر ولا عرض ، ولا حدّ له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا مثل له. وله يد ووجه ونفس
كما ذكره الله تعالى في القرآن ، فما ذكره الله تعالى في القرآن من ذكر الوجه
واليد والنفس فهو له صفات بلا كيف ولا يقال : إن يده قدرته أو نعمته ، لأن فيه
إبطال الصفة. وهو قول أهل القدر والاعتزال ولكن يده صفته بلا كيف وغضبه ورضاه صفتان
من صفاته تعالى بلا كيف.
خلق الله تعالى
الأشياء لا من شيء ، وكان الله تعالى عالما في الأزل بالأشياء قبل كونهما وهو الذي
قدّر الأشياء وقضاها ، ولا يكون في الدنيا ولا في الآخرة شيء إلا بمشيئته وعلمه
وقضائه وقدره وكتبه في اللوح المحفوظ ولكن كتبه بالوصف لا بالحكم ، والقضاء والقدر
والمشيئة صفاته في الأزل بلا كيف يعلم الله تعالى المعدوم في حال عدمه معدوما ،
ويعلم أنه كيف يكون إذا أوجده ، ويعلم الله تعالى الموجود في حال وجوده موجودا ،
ويعلم أنه كيف يكون فناؤه ، ويعلم الله تعالى القائم في حال قيامه قائما ، وإذا قعد
علمه قاعدا في حال قعوده من غير أن يتغيّر علمه أو يحدث له علم ، ولكن التغيّر
والاختلاف يحدث في المخلوقين.
خلق الله تعالى
الخلق سليما من الكفر والإيمان ، ثم خاطبهم وأمرهم ونهاهم فكفر من كفر بفعله
وإنكاره وجحوده الحق بخذلان الله تعالى إياه وآمن من آمن بفعله وإقراره وتصديقه
بتوفيق الله تعالى إياه ونصرته له.
أخرج ذريّة آدم من
صلبه على صور الذرّ فجعلهم عقلاء فخاطبهم وأمرهم بالإيمان ونهاهم عن الكفر فأقرّوا
له بالربوبية ، فكان ذلك منهم إيمانا فهم يولدون على تلك الفطرة ، ومن كفر بعد ذلك
فقد بدّل وغيّر ، ومن آمن وصدق فقد ثبت عليه وداوم. ولم يجبر أحدا من خلقه على
الكفر ولا على الإيمان ولا خلقهم مؤمنا ولا كافرا ، ولكن خلقهم أشخاصا والإيمان
والكفر فعل العباد ويعلم الله تعالى من يكفر في حال كفره كافرا فإذا آمن بعد ذلك
علمه مؤمنا في حال إيمانه وأحبه من غير أن يتغيّر علمه وصفته.
____________________________________
وجميع أفعال
العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها وهي كلها بمشيئته
وعلمه وقضائه وقدره والطاعات كلها كانت واجبة بأمر الله تعالى وبمحبته وبرضاه
وعلمه ومشيئته وقضائه وتقديره والمعاصي كلها بعلمه وقضائه وتقديره ومشيئته لا
بمحبته ولا برضائه ولا بأمره.
والأنبياء عليهم
الصلاة والسلام كلهم منزّهون عن الصغائر والكبائر والكفر والقبائح وقد كانت منهم
زلّات وخطايا ، ومحمد عليه الصلاة والسلام حبيبه وعبده ورسوله ونبيّه وصفيّه
ونقيّه ولم يعبد الصنم ولم يشرك بالله تعالى طرفة عين قطّ ولم يرتكب صغيرة ولا
كبيرة قطّ.
وأفضل الناس بعد
النبيّين عليهم الصلاة والسلام أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب الفاروق ، ثم
عثمان بن عفان ذو النورين ، ثم عليّ بن أبي طالب المرتضى رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين عابدين ثابتين على الحق ومع الحق نتولاهم جميعا.
ولا نذكر أحدا من
أصحاب رسول الله إلا بخير. ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة إذا لم
يستحلّها ولا نزيل عنه اسم الإيمان ونسمّيه مؤمنا حقيقة ، ويجوز أن يكون مؤمنا
فاسقا غير كافر.
والمسح على
الخفّين سنّة ، والتراويح في ليالي شهر رمضان سنّة.
والصلاة خلف كل
برّ وفاجر من المؤمنين جائزة. ولا نقول : إن المؤمن لا تضرّه الذنوب ولا نقول إنه
لا يدخل النار ولا نقول : إنه يخلد فيها ، وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا
مؤمنا ، ولا نقول : إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة. ولكن نقول :
من عمل حسنة بجميع شرائطها خالية عن العيوب المفسدة والمعاني المبطلة ولم يبطلها
بالكفر والردّة حتى خرج من الدنيا مؤمنا فإن الله تعالى لا يضيعها ، بل يقبلها منه
ويثيبه عليها.
وما كان من
السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب عنها صاحبها حتى مات مؤمنا فإنه في مشيئة الله
تعالى إن شاء عذّبه بالنار ، وإن شاء عفا عنه ولم يعذّبه بالنار أصلا. والرياء إذا
وقع في عمل من الأعمال فإنه يبطل أجره وكذلك العجب.
والآيات ثابتة
للأنبياء والكرامات للأولياء حق ، وأما التي تكون لأعدائه مثل إبليس وفرعون
والدجّال مما روي في الأخبار أنه كان ويكون لهم لا نسمّيها آيات ولا كرامات ، ولكن
نسمّيها قضاء حاجات لهم ، وذلك لأن الله تعالى يقضي حاجات أعدائه استدراجا لهم
وعقوبة لهم فيغترّون به ويزدادون طغيانا وكفرا وذلك كله جائز وممكن.
____________________________________
وكان الله تعالى خالقا
قبل أن يخلق ورازقا قبل أن يرزق. والله تعالى يرى في الآخرة ويراه المؤمنون وهم في
الجنة بأعين رءوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة. والإيمان
هو الإقرار والتصديق. وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به
ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق. والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد
متفاضلون في الأعمال. والإسلام هو التسليم والانقياد لأوامر الله تعالى فمن طريق
اللغة فرق بين الإيمان والإسلام ولكن لا يكون إيمان بلا إسلام ، ولا يوجد إسلام
بلا إيمان وهما كالظهر مع البطن.
والدين اسم واقع
على الإيمان والإسلام والشرائع كلها. نعرف الله تعالى حق معرفته كما وصف الله نفسه
في كتابه بجميع صفاته ، وليس يقدر أحد أن يعبد الله تعالى حقّ عبادته كما هو أهل
له ، ولكنه يعبده بأمره كما أمر بكتابه وسنّة رسوله. ويستوي المؤمنون كلهم في
المعرفة واليقين والتوكّل والمحبة والرضى والخوف والرجاء والإيمان في ذلك
ويتفاوتون فيما دون الإيمان في ذلك كله. والله تعالى متفضّل على عباده عادل قد
يعطي من الثواب أضعاف ما يستوجبه العبد تفضّلا منه ، وقد يعاقب على الذنب عدلا منه
وقد يعفو فضلا منه.
وشفاعة الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام حق وشفاعة نبيّنا عليه الصلاة والسلام للمؤمنين المذنبين
ولأهل الكبائر منهم المستوجبين العقاب حق ثابت. ووزن الأعمال بالميزان يوم القيامة
حق ، وحوض النبي عليه الصلاة والسلام حق ، والقصاص فيما بين الخصوم بالحسنات يوم
القيامة حق وإن لم تكن لهم الحسنات فطرح السيئات عليهم حق جائز.
والجنة والنار
مخلوقتان اليوم لا تفنيان أبدا ولا تموت الحور العين أبدا ولا يفنى عقاب الله
تعالى وثوابه سرمدا. والله تعالى يهدي من يشاء فضلا منه ، ويضلّ من يشاء عدلا منه
وإضلاله خذلانه ، وتفسير الخذلان أن لا يوفّق العبد إلى ما يرضاه منه وهو عدل منه
، وكذا عقوبة المخذول على المعصية.
ولا يجوز أن نقول
: إن الشيطان يسلب الإيمان من العبد المؤمن قهرا وجبرا ، ولكن نقول العبد يدع
الإيمان فحينئذ يسلبه منه الشيطان.
وسؤال منكر ونكير
حق كائن في القبر وإعادة الروح إلى جسد العبد في قبره حق ، وضغطة القبر وعذابه حق
كائن للكفّار كلهم ولبعض عصاة المؤمنين. وكل شيء ذكره العلماء بالفارسية من صفات
الله تعالى عزّ اسمه فجائز القول به سوى اليد بالفارسية ، ويجوز أن يقال : به روى
خداى عزوجل بلا تشبيه ولا كيفية. وليس قرب الله ولا بعده
____________________________________
من طريق طول
المسافة وقصرها ، ولكن على معنى الكرامة والهوان والمطيع قريب منه بلا كيف ،
والعاصي بعيد عنه بلا كيف ، والقرب والبعد والإقبال يقع على المناجي.
وكذلك جواره في
الجنة والوقوف بين يديه بلا كيفية. والقرآن منزّل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو في المصاحف مكتوب وآيات القرآن في معنى الكلام كلها
مستوية في الفضيلة والعظمة ، إلا أن لبعضها فضيلة الذكر ، وفضيلة المذكور مثل آية
الكرسي لأن المذكور فيها جلال الله تعالى وعظمته وصفاته فاجتمعت فيها فضيلتان
فضيلة الذكر وفضيلة المذكور ولبعضها فضيلة الذكر فحسب مثل قصة الكفار ، وليس
للمذكور فيها فضل وهم الكفّار ، وكذلك الأسماء والصفات كلها مستوية في العظمة
والفضل لا تفاوت بينهما.
وقاسم وطاهر
وإبراهيم كانوا بني رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفاطمة ورقية وزينب وأم كلثوم كنّ جميعا بنات رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهنّ.
وإذا أشكل على
الإنسان شيء من دقائق علم التوحيد فإنه ينبغي له أن يعتقد في الحال ما هو الصواب
عند الله تعالى إلى أن يجد عالما فيسأله ولا يسعه تأخير الطلب ولا يعذر بالوقف فيه
، ويكفر إن وقف.
وخبر المعراج حق
ومن ردّه فهو مبتدع ضالّ ، وخروج الدجّال ويأجوج ومأجوج ، وطلوع الشمس من مغربها ،
ونزول عيسى عليهالسلام من السماء ، وسائر علامات يوم القيامة على ما وردت به
الأخبار الصحيحة حق كائن ، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
المراجع والمصادر
١ ـ صحيح البخاري ، بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، طبع دار الكتب العلمية.
٢ ـ صحيح مسلم ، بشرح النووي ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، طبع مكتبة
الغزالي ومؤسسة مناهل العرفان.
٣ ـ سنن أبي داود ، تحقيق كمال يوسف الحوت ، طبع مؤسسة الكتب الثقافية.
٤ ـ سنن الترمذي ، بترقيم أحمد شاكر ثم فؤاد عبد الباقي ثم إبراهيم عطوة
عوض. طبع دار إحياء التراث العربي.
٥ ـ سنن النسائي ، جزء وصفحة ، طبع دار الكتب العلمية.
٦ ـ سنن ابن ماجة ، بترقيم فؤاد عبد الباقي ، طبع دار الكتب العلمية.
٧ ـ سنن الدارمي ، جزء وصفحة ، طبع دار الفكر.
٨ ـ مسند الإمام أحمد ، جزء وصفحة ، طبع دار إحياء التراث العربي.
٩ ـ مسند الطيالسي ، بترقيم دار الباز ، طبع دار المعرفة.
١٠ ـ صحيح ابن حبان ، بتحقيق شعيب الأرناءوط ، طبع مؤسسة الرسالة.
١١ ـ مستدرك الحاكم ، جزء وصفحة ، طبع دار المعرفة.
١٢ ـ سنن البيهقي ، طبع دار الكفر.
١٣ ـ موطأ الإمام مالك ، بترقيم فؤاد عبد الباقي ، طبع دار الكتب العلمية.
١٤ ـ مجمع الزوائد ، طبع دار الكتاب العربي.
١٥ ـ مسند الفردوس ، للديلمي طبع دار الكتب العلمية.
١٦ ـ مصنف ابن أبي شيبة ، طبع دار الفكر.
١٧ ـ مسند أبي يعلى
الموصلي ، تحقيق وترقيم
حسين سليم أسد ، طبع دار المأمون للتراث.
١٨ ـ السيرة النبوية ، لابن هشام ، طبع دار ابن كثير.
وهنا لك مراجع
ومصادر حديثية أخرى.
المراجع
اللغوية المعتمدة في هذا
العمل :
١ ـ القاموس المحيط ، طبع مؤسسة الرسالة.
٢ ـ مختار الصحاح ، للرازي ، طبع دار الكتاب العربي.
كتب الرجال
المعتمدة :
١ ـ الجرح والتعديل للرازي : طبع دار إحياء التراث العربي.
٢ ـ الكامل في الضعفاء ، لابن عدي ، طبع دار المعرفة.
٣ ـ الضعفاء والمجروحين ، لابن حبان ، طبع دار الوعي حلب.
٤ ـ ميزان الاعتدال ، للذهبي ، طبع دار المعرفة.
٥ ـ تقريب التهذيب ، لابن حجر ، طبع دار الكتب العلمية.
كتب العقيدة
المعتمدة :
١ ـ شرح العقيدة الطحاوية ، لابن أبي العز الحنفي ، تحقيق شعيب الأرناءوط وعبد الله
التركي ، طبع مؤسسة الرسالة.
٢ ـ شرح العقائد النسفية ، للسعد التفتازاني ، تحقيق محمد عدنان درويش.
٣ ـ تلبيس إبليس ، لابن الجوزي ، طبع دار الكتب العلمية.
٤ ـ الإبانة عن أصول
الديانة ، لأبي الحسن
الأشعري ، تحقيق بشير عيون ، طبع دار البيان.
٥ ـ وصية الإمام الشافعي ، طبع المكتب الإسلامي.
٦ ـ الملل والنّحل ، للشهرستاني ، طبع دار المعرفة.
وغيرها من المصادر
العقيدية.
كتب التراجم
المعتمدة :
١ ـ سير أعلام النبلاء ، للحافظ الذهبي ، طبع دار إحياء التراث.
٢ ـ البداية والنهاية ، لابن كثير ، طبع دار إحياء التراث.
٣ ـ صفة الصفوة ، لابن الجوزي ، طبع دار الكتب العلمية.
٤ ـ الفوائد البهية في
تراجم الحنفية ، للعلّامة اللكنوي ، طبع كراتشي.
٥ ـ كشف الظنون. لحاجي خليفة ، وذيل كشف الظنون ، لإسماعيل باشا البغدادي
، وهدية العارفين ، لإسماعيل باشا البغدادي أيضا ، طبع دار إحياء التراث.
٦ ـ تذكرة الحفاظ ، للحافظ الذهبي ، طبع دار إحياء التراث.
٧ ـ طبقات الشافعية ، للسبكي ، طبع دار صادر.
وغير ذلك من
المراجع والمصادر.
هذا وأسأل الله
السّداد وحسن الختام.
والله وليّ التوفيق
علي محمد دندل
الفهرس
خطبة الكتاب................................................................... ٧
بحث في بيان فضل علم
التوحيد على سائر العلوم.................................... ٧
أصل التوحيد وما يصح
الاعتقاد عليه............................................. ٢٢
يجب على المكلّف أن
يقول آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله......................... ٢٦
بحث في الإيمان بعد
الموت....................................................... ٢٨
بحث في الإيمان
بالقضاء والقدر.................................................. ٢٩
بحث في أن الله تعالى
واحد لا من طريق العدد...................................... ٣٠
بحث في أنه تعالى لا
يشبه شيئا من خلقه.......................................... ٣١
بحث في شرح الصفات
الذاتية وبيان مسمياتها...................................... ٣٣
بحث كلام جليل في صفة
الكلام واختلاف العلماء فيها.............................. ٣٥
بحث في بيان الصفات
الفعلية واختلاف الماتريدية والأشاعرة فيها...................... ٤٣
بحث في أن الباري جل
شأنه موصوف في الأزل بصفات الذات والفعل................ ٤٥
بحث في أن القرآن كلام
الله غير مخلوق ولا حادث.................................. ٤٨
بحث في أن صفات الباري
جل شأنه لا تشابه صفات المخلوقين...................... ٥٧
بحث في أن الباري جل
شأنه له يد ووجه ونفس بلا كيف............................ ٦٦
بحث في أنه سبحانه
أوجد المخلوقات لا من شيء.................................. ٧٢
بحث في القضاء والقدر
وأنهما من صفات الله الأزلية................................. ٧٥
بحث في أنه تعالى خلق
الخلق سليما من الكفر والإيمان فآمن من آمن بفعله وكفر من كفر بفعله ٨٢
بحث في أنه لم يجبر
أحدا من خلقه على الكفر..................................... ٨٨
بحث في أن أفعال العباد
كسبهم وخلق الله تعالى.................................... ٨٩
بحث في أن أفعال
العباد بعلمه تعالى وقضائه وقدره وعلمه........................... ٩٤
بحث في أن الأنبياء
منزّهون عن الكبائر والصغائر................................... ٩٩
بحث في إثبات نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم.................................................. ١٠٥
بحث في أن أفضل الناس بعده عليه الصلاة والسلام الخلفاء الأربعة على ترتيب
خلافتهم ١٠٨
بحث في أن الكبيرة لا
تخرج المؤمن عن الإيمان..................................... ١١٧
بحث في أن المعاصي
تضرّ مرتكبها خلافا لبعض الطوائف.......................... ١١٧
بحث في أن الطاعات
بشروطها مقبولة والمعاصي ما عدا الشرك أمرها إلى مشيئة الله تعالى ١٢٧
بحث في أن خوارق
العادات للأنبياء والكرامات للأولياء حق........................ ١٣٠
بحث فيما يظهر من
الخوارق على أيدي بعض الكفرة والفسّاق...................... ١٣٣
بحث في أنه تعالى يرى
في الآخرة بلا كيف....................................... ١٣٦
بحث في أن الإيمان هو
التصديق والإقرار......................................... ١٤١
بحث في أن الإيمان لا
يزيد ولا ينقص............................................ ١٤٤
بحث في أن المؤمنين
مستوون في الإيمان متفاضلون في الأعمال....................... ١٤٦
بحث في بيان معنى
الإسلام ونسبته إلى الإيمان.................................... ١٤٩
بحث في بيان مسمى
الدين وأنه اسم جامع للشرائع................................ ١٥٠
بحث في أن الشفاعة من
الأنبياء والصالحين حق................................... ١٥٩
بحث في أن وزن الأعمال
يوم القيامة حق......................................... ١٦٠
بحث في الجنة والنار
وأنهما مخلوقتان اليوم خلافا للمعتزلة............................ ١٦٥
بحث في أن عذاب القبر
حق وبيان أن الروح تعاد للميت.......................... ١٧٠
بحث في بيان معنى قرب
الباري من مخلوقاته وبعده عنهم............................ ١٧٦
بحث في بيان أولاده صلىاللهعليهوسلم........................................... ١٨٤
بحث جليل فيما يجب على
المكلّف اعتقاده إذا أشكل عليه شيء من علم التوحيد..... ١٨٨
بحث في أن المعراج حق........................................................ ١٨٩
بحث في أن خروج الدجال
وسائر ما جاءت به السّنّة من أشراط الساعة حق.......... ١٩٠
فصل في مسائل ملحقات
لا بدّ من ذكرها في مسائل الاعتقاديات................... ١٩٤
مسألة في تفضيل بعض
الأنبياء على بعض....................................... ١٩٤
مسألة في أن خواص
البشر أفضل من خواص الملائكة وبيان الخلاف في ذلك......... ٢٠٤
مسألة في بيان أفضلية
الصحابة بعد الخلفاء...................................... ٢٠٥
مسألة في بيان أفضلية
التابعين.................................................. ٢٠٧
مسألة في بيان
أفضلية النساء وذكر مراتبهن في
ذلك.............................. ٢٠٨
مسألة في تفضيل أولاد
الصحابة................................................ ٢١٠
مسألة في أن الولي لا
يبلغ درجة النبي صلىاللهعليهوسلم....................................... ٢١٠
مسألة البالغ ما دام
عاقلا لا يصل إلى درجة يسقط بها عنه التكليف................ ٢١٢
مسألة في جواز رؤية
البارئ جل شأنه في الدنيا.................................... ٢١٣
مسألة في الكلام على
رؤيته في المنام............................................. ٢١٦
مسألة في أن المقتول
ميت بأجله خلافا للمعتزلة................................... ٢١٧
مسألة في بيان أن
الكافر منعم عليه............................................. ٢٢٠
مسألة في أنه لا يجب
على الله شيء من رعاية الصلاح والأصلح.................... ٢٢٠
مسألة في أن الله يضلّ
من يشاء ويهدي من يشاء................................. ٢٢١
مسألة خلف الوعيد كرم
فيجوز عليه تعالى....................................... ٢٢٢
مسألة في جواز العقاب
على الصغيرة وإن اجتنب مرتكبها الكبيرة................... ٢٢٣
مسألة في أن الدعاء
للميت ينفع خلافا للمعتزلة.................................. ٢٢٤
مسألة في أن دعاء
الكافر غير مستجاب......................................... ٢٢٨
مسألة في أن كفار الجن
يعذبون بالنار........................................... ٢٢٩
مسألة في أن الشياطين
لهم تصرف في بني آدم.................................... ٢٣٠
مسألة في أن كل ما ورد
في أوصاف الجنة ونعيمها فهو حق......................... ٢٣٠
مسألة المجتهد في
العقليات يخطئ ويصيب........................................ ٢٣٠
مسألة في أن الإيمان
لا يزيد ولا ينقص.......................................... ٢٣٢
مسألة لا يوصف الباري
سبحانه بالقدرة على الظلم............................... ٢٣٨
مسألة في قول القائل
أنا مؤمن إن شاء الله....................................... ٢٤١
مسألة في أن تكليف ما
لا يطاق غير جائز....................................... ٢٤٣
مسألة في أن الإيمان
مخلوق أو لا............................................... ٢٤٤
مسألة في أن إيمان
المقلّد جائز.................................................. ٢٤٥
مسألة في أن السحر
والعين حق................................................ ٢٤٨
مسألة المعدوم ليس
بشيء..................................................... ٢٤٩
مسألة اليأس من رحمة
الله كفر.................................................. ٢٤٩
مسألة في أن تصديق
الكاهن بما يخبر به من الغيب كفر............................ ٢٤٩
مسألة في أن لفظ
القرآن اسم للنظم والمعنى....................................... ٢٥٤
مسألة استحلال المعصية
ولو صغيرة كفر......................................... ٢٥٤
مسألة في التوبة
وشرائطها وفيها أبحاث جليلة..................................... ٢٥٨
مطلب يجب بمعرفة
المكفّرات لاجتنابها وفيه فروع كثيرة
تتعلق بهذا البحث............. ٢٦٧
مطلب في إيراد
الألفاظ المكفّرة التي
جمعها العلّامة بدر الرشيد من أئمة الحنفية......... ٢٦٩
فصل من ذلك فيما يتعلق
بالقرآن والصلاة....................................... ٢٧٨
فصل من ذلك في العلم
والعلماء................................................ ٢٨٧
فصل في الكفر صريحا
وكناية................................................... ٢٩١
فصل في المرض والموت
والقيامة................................................. ٣١٨
متن الفقه الأكبر............................................................. ٣٢٢
المصادر والمراجع.............................................................. ٣٢٧
|