سند الكتاب :

ينابيع النصيحة في العقيدة الصحيحة ، مشهور في الأوساط العلمية بأن مؤلفه الأمير الحسين. وأنا أروي الينابيع عن شيخي الوالد العلامة السيد / محمد ابن محمد بن إسماعيل بن عبد الرحمن بن إسماعيل المنصور بن مطهّر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين ـ صاحب الغاية بن الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد. قراءة عليه ، وقد أجازني في ينابيع النصيحة ، وفي جميع مقروءاته من المعقول والمنقول عن مشايخه الأعلام. ولا أخفي عجبي ببراعة الوالد المنصور ، وهو يتلاعب بالألفاظ ، ويتفنن في العبارات حتى يزيل غموض المباحث المشكلة ويزرع في القلب برد اليقين رضي الله عنه ، ومدّ في عمره.

ومن طريق مفتي الجمهورية الوالد العلامة النحرير السيد أحمد بن محمد زبارة ـ ولي منه إجازة عامة عن والده محمد بن محمد زبارة عن الإمام المتوكل على الله يحيى بن محمد حميد الدين ، عن محمد عبد الله بن علي الغالبي ، عن أبيه ، عن السيد أحمد بن يوسف زبارة ، عن أخيه الحسين بن يوسف ، عن أبيه يوسف بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن أحمد بن صلاح زبارة ، عن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم ، عن أبيه الإمام القاسم بن محمد.

وأروي بالسند المتقدم إلى أحمد بن يوسف زبارة عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة ، عن السيد عبد الله بن عامر الشهيد ، عن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري ، عن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم ، عن أبيه الإمام القاسم بن محمد. وأيضا بالسند المتقدم إلى الحسين بن أحمد زبارة ، عن القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرجال ، عن القاضي أحمد بن سعد الدين المسوري ، عن الإمام المؤيد بالله محمد بن القاسم ، عن أبيه الإمام القاسم بن محمد. وأيضا عن عبد الله بن علي الغالبي عن أحمد بن زيد الكبسي ، عن محمد بن عبد الرب بن محمد بن زيد بن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم ، عن عمه إسماعيل بن محمد بن زيد ، عن أبيه محمد بن زيد ، عن أبيه زيد بن المتوكل على الله إسماعيل ، عن المتوكل على الله إسماعيل ، عن أبيه الإمام القاسم بن محمد.

وعن الوالد الزاهد التقي الولي السيد حمود بن عباس المؤيد نائب المفتي ، عن القاضي عبد الواسع بن يحيى الواسعي ، عن القاضي العلامة محمد بن عبد الله الغالبي عن أبيه عبد الله بن علي الغالبي بإسناده المتقدم.

والقاضي العلامة شيخي المحقق عبد الحميد بن أحمد معياد.

والقاضي العلامة محمد بن أحمد بن أحمد الجرافي ، عن عبد الله بن عبد الكريم الجرافي عن الحسين بن علي العمري ، عن عبد الملك بن حسين الآنسي ، عن عبد الله بن علي الغالبي بإسناده المتقدم.

ومن علماء صعدة أرويها عن عالم اليمن خاتمة المحققين السيد الوالد مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي ، وهو يرويها عن المؤلف بسندين : ـ

الأول : عن أبيه عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم الحوثي عن الإمام محمد بن عبد الله الوزير ، عن أحمد بن زيد الكبسي ، وأحمد بن يوسف زبارة ، ويحيى بن عبد الله الوزير ، عن الحسين بن يوسف زبارة ، عن أبيه يوسف ابن الحسن ، عن أبيه السيد الإمام الحافظ الحسين بن أحمد ، عن السيد عامر بن عبد الله ، عن الإمام المؤيد بالله ، عن أبيه القاسم بن محمد.

الثاني : عن أبيه محمد بن منصور ، عن محمد بن القاسم الحوثي ، عن السيد محمد بن محمد بن عبد الله الكبسي ، وأحمد بن زيد الكبسي ، عن محمد ابن عبد الرب ، عن عمه إسماعيل بن محمد ، عن أبيه محمد بن زيد عن أبيه زيد ابن الإمام المتوكل على الله إسماعيل ، عن أبيه ، عن أبيه الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد.

والإمام المنصور بالله القاسم بن محمد يرويها عن أمير الدين بن عبد الله ، وعن السيد إبراهيم بن المهدي القاسمي ، وعن السيد صلاح بن أحمد ابن عبد الله الوزير ، ثلاثتهم عن الإمام يحيى شرف الدين ، عن الإمام محمد بن علي السراجي ، عن الإمام عز الدين بن الحسن ، عن الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان ، عن الإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى

المرتضى ، عن الإمام محمد بن سليمان ، عن الإمام الواثق بالله المطهر ، عن والده المهدي لدين الله محمد ، عن والده الإمام (المظل بالغمام) المطهر بن يحيى ، عن المؤلف الحسين بن بدر الدين.

وعن الوالد العالم المحقق المجاهد السيد بدر الدين بن أمير الدين الحوثي. وقد أجازني إجازة عامة.

كلمة عن الكتاب :

من المعروف أن المذهب الزيدي يتربّع على قمة المذاهب والمدارس الإسلامية المتسامحة والمنفتحة ، وهو المذهب الفاتح لباب الاجتهاد ، رغم إغلاقه في العصور المظلمة ، بل هو الموجب للاجتهاد على كل قادر عليه ، وهو مذهب يحافظ على حرية الفكر والبحث في الحدود التي سمح بها الإسلام ، أي في المسائل التي لها دليل أو شبهة دليل. وها هي عبارة الإمام المهدي في مقدمة الأزهار تقول :

التقليد في المسائل الفرعية العلمية الظنية والقطعية جائز لغير المجتهد لا له ، ولو وقف على نص أعلم منه ، ولا في عملي يترتب على علمي كالموالاة والمعاداة.

ومما يميز علماء الزيدية عن غيرهم خصوصيتهم بأئمة آل البيت وحفظ تراثهم وعدم إغفالهم آراء واجتهادات أئمة المذاهب المشهورة ، وغيرهم من سلف الأمة وخلفها. وقد استوعبت خزائن كتبهم مؤلفات العلماء المشهورين قاطبة ؛ لكن تراث الزيدية وكنوز مخطوطاتهم لم يتيسر لعلماء المسلمين الاطّلاع عليه ، إلا القليل النادر ؛ للأسباب التالية : ـ

١ ـ ملاحقة أئمة المذهب الزيدي وشيعتهم من قبل الدولة الأموية ثم العباسية بسبب مناهضتهم للانحراف ، وخروجهم على الظلمة ؛ فتسبب ذلك في قتلهم وتشريدهم واختفائهم ، وصاروا جبهة معارضة يكرهها الملوك ، ويرونها خطرا عليهم ، وتنغيصا للذاتهم ، وكبحا لجماع شهواتهم ؛ فتعاملوا مع الزيدية بقسوة ووحشية ، ونفّروا العامة عنهم ، ورسّخوا في أذهانهم كراهة هؤلاء حتى وإن

كانوا أولاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشاهد على ذلك ما جرى لسلفهم : عليّ في مجزرة صفين مع معاوية ، والحسين بن علي ومذبحة كربلاء بعناية يزيد (١) ، وزيد بن علي وصلبه وتحريقه (٢) ، بأمر هشام بن عبد الملك بن مروان ، وقتل ولده يحيى ، بأمر الوليد بن يزيد (٣). ومصرع العشرات من كبار أئمة بيت النبوة كالنفس الزكية وإخوانه قتلا بسيف أبي جعفر المنصور العباسي (٤) ، وخنقا في سراديب تحت الأرض (٥). يروى أن هارون الرشيد كان لا يطيق سماع رجل لامع من أولاد علي (ع) فتتبعهم حتى كاد يفنيهم.

٢ ـ انحصار وانحسار المذهب الزيدي في جبال اليمن الشاهقة وشعابه البعيدة حتى كأنّ أبناء هذا المذهب خلف سد ذي القرنين أو في جزر واق الواق.

٣ ـ مقاومة اليمنيين للغزاة من الأكراد والأتراك الذين كانوا يدينون ويتقربون إلى الله بقتل الزيدية ، وظلّ هذا الصراع قرونا.

٤ ـ الفقر المدقع الذي ابتليت به اليمن أسهم في تأخير نشر التراث الثمين.

٥ ـ بعد ١٩٦٢ م دخلت اليمن في حرب أهليّة ، لكن المؤسف حقا أن يعامل الفكر والتراث الزيدي من قبل الثوار معاملة النظام الذي قامت عليه الثورة ، علما أن الثورة استمدت شرعيتها من المذهب الزيدي القائل بالخروج على الظالم ، والثوار زيدية في الغالب ، وكان المنطق يقتضي بأن يعترف رجال الثورة بعظمة مذهبهم لا أن يقلبوا له ظهر المجن!

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٩٥ ـ ١٢٢. وتاريخ الطبري ٥ / ٤٠٠ ـ ٤٦٧.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ١٤٣ ، ١٤٤. وتاريخ الطبري ٧ / ١٨٨.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ١٥٧ ، ١٥٨. والطبري ٧ / ٢٣٠.

(٤) مقاتل الطالبيين ص ٢٦٠ ـ ٢٧٦ ، في أمر محمد بن عبد الله ، وأما إخوته وأبناء عمه الذي قتلهم أبي جعفر فانظر ص ٢٧٨ من نفس المصدر.

(٥) مقاتل الطالبيين ص ١٧٩ ـ ٢٠١

أما قضية الإمامة وحصرها في أولاد الحسن والحسين بشروط بعيدة المنال ، فليست الزيدية وحدهم تكلموا في هذا ، فالمذهب الجعفري يحصرها في اثني عشر ، وأهل الحديث يحصرونها في قريش. وفي العصر الحديث ، نرى اليابان تجعل أسرة الامبراطور آلهة. وفي الدول الملكية يحصرون الملك في أسر معينة ، وينتظرون الطفل في بطن أمه ، ولا يجوز الخروج عن الأسرة التي حددها الدستور.

فلما ذا لا يحترم المذهب الزيدي في رأيه ، ولا سيما وهو بصدد حصر الإمامة في أسرة عريقة في الإسلام ، وقدمت خدمات أجل من أن توصف بل هي أسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم إنا نعرف أن النظريات غير الواقع ، فما عرف التأريخ إلا منطق الغلبة والقوة منذ وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اليوم. والمستبعد هم آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الغالب ، وليس لهم حظ سوى في عقائد بعض الفرق كالزيدية ، أفلا نترك هذه الفرقة العظيمة لتحمل الذكريات على الأقل.

وإذا كان هناك ما يستدعي التعديل حسب المنطق الثوري ، وهو مسألة حصر الإمامة في البطنين فقد حسمها الدستور حيث ساوى بين اليمنين في الحقوق والواجبات ، لكن غرابة المذهب الزيدي وضياعه في داره لم يكن فقط في إدخاله في قفص الاتهام بجوار آل حميد الدين ونبز من يدرسه بالملكي والرجعي والإمامي! وما شابه ذلك ، إنما الغرابة في إزالته من المناهج الدراسية الابتدائية والاعدادية والثانوية والجامعة ، وأصبح مألوفا تدريس الجبر والتشبيه والتجسيم ، وصار بطل الساحة في الدراسات الإسلامية هو ابن تيمية! ولم يعد للإمام الشهيد زيد بن علي عليه‌السلام مكان! ولا للإمام العادل يحيى بن الحسين محل! ، وقد نجد المدرّس في الجامعة يشير في بحثه إلى الظاهرية والخوارج وابن القيم ، ولا يخطر المذهب الزيدي له ببال ولو من باب الوطنية! وبعضهم ممن لا تلتقي بذمه الشفتان استحقارا له ، يشتم المذهب وينتقصه ، ولو وجد من الطلاب من يحثي في أفواه مثل هؤلاء المرضى والمعقدين لما تجرءوا على التطاول على مذهب العدل والاجتهاد والحرية.

وهكذا توالت المحن على الزيدية في كل نواحي حياتهم. واليوم ونحن في عصر الذرة والكمبيوتر والفضاء لا تزال كتب هذا المذهب العظيم أو ما تبقى منها حبيسة تلاحقها عصابات تهريب المخطوطات وتتلفها دابة الأرض.

تنبيهات :

١ ـ ربما وردت الآيات على قراءة نافع حسب اختيار المؤلف ؛ فأثبتناها على قراءة حفص. ٢ ـ قد نكمل شيئا من الآية لا بد منه كأن يكون كلمة أو حرف.

٣ ـ الأحاديث أبقيناها بدون تعديل ؛ لجواز اختلاف اللفظ في الحديث مع اتحاد المعنى وقد أشرنا لما في كتب الحديث بالهامش.

٤ ـ قد توجد في الكتاب كلمة عليهما‌السلام أو عليهم‌السلام أو عليها‌السلام فنجعلها (ع) للاختصار ، وأيضا قد توجد كلمة رضي الله عنهما أو رضي الله عنهم أو رضي الله عنها فنجعلها (رض).

٥ ـ الأحاديث الواردة في كتاب الينابيع متفاوتة شأنها شأن أي كتاب فمنها الأحاديث المتواترة ، ومنها الصحيحة ، ومنها الحسنة ... إلى آخر الدرجات.

وقد حاولنا إسنادها إلى المصادر الحديثية من طرق أئمة آل البيت (ع) وغيرهم من أئمة الحديث ، غير أن أمزجة الناس مختلفة ولا سيما في باب الفضائل.

فالمحبون لأهل البيت لا يتسرعون في رد الروايات الواردة في فضلهم ، والمنحرفون عنهم يتمحلون تضعيف المتواتر ؛ ولهذا سأترك المطّلع الكريم ليقرر بنفسه ما يراه براءة لذمته ، إلا أن أئمة الزيدية وضعوا للأحاديث معيارا للقبول صار ما يتلخص فيما يلي : ١ ـ وجوب العرض على القرآن فلا يقبل ما ناقضه وعارضه مطلقا ، ٢ ـ وأن يقبله العقل. ٣ ـ أن يكون مجمعا على صحته ، وقبله أئمة أهل البيت ، أو تلقته الأمة بالقبول. وقد استطاعوا بهذه القاعدة الصارمة قاعدة العرض على القرآن والعقل أن يكشفوا الأحاديث التي دسها الزنادقة

ومجسمة اليهود التي تصور الله سبحانه بأنه جسم ذو أعضاء! ومن الغريب أن ينبري شيخ من كبار المحدثين لتصنيف كتاب في توحيد الله سبحانه ، أو بالأحرى في تشريح الله سبحانه! ولم يتورع أن يكثر من العناوين المسيئة لله عزوجل : باب إثبات الوجه لله والعين واليد والرجل ولم يبق سوى اللحية والعورة! كما قيل عن بعضهم : سلوني عما شئتم يقصد من أعضاء الله سبحانه ما عدا اللحية والعورة!

إنها للأسف سوءة فكرية وعورة اعتقادية أظهرتها سذاجة التفكير وشؤم الجمود والتقليد ، أما إذا حكى لنا القرآن أن آدم لمّا أخطأ ؛ قال : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) ولما أخطأ إبليس ؛ قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) ويأتي من أمة محمد من يزعم أن الله هو الذي خلق المعاصي في عباده ، فهذا شيء عجب ، والأعجب من ذاك أن يعذبهم عليها! والأعجب من ذلك أن تروى أحاديث لدعم هذا الهراء في كتب شتى ، حتى أن البخاري صنف كتابا في خلق الأفعال! ثم يطلب من الأمة أن تصدق أن مذهب إبليس أصبح مذهبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن خلق الأفعال يعني خلق الغواية فيكون إبليس صادقا في دعواه! حقّا لقد أعجز هؤلاء حب التسليم وأصابهم الجبر بالشلل وقعد بهم التوكل.

هذه القضايا الخطيرة وأمثالها ناقشها علماء الزيدية وقدموا حلولا لاشكالاتها ، وأحراهم إن وصلت كتبهم إلى العامة وسلمت من حملات التشويه أن يحملوهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم ، ورحم الله امرأ تجرد للحق وعمل بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها» ، والرجوع إلى الحق فضيلة.

تنويه : هناك تعقيبات لاحظها العلماء ، ومآخذ يسيرة على الكتاب لا تقلل من قيمته العلمية ، وقد أشار الوالد الفاضل مجد الدين المؤيدي إليها كقصة البساط ، والمنجنيق ، وقتل عامر بن الطفيل ، وأن عليّا عليه‌السلام قتل (٦٧) رجلا يوم بدر ... ونبهنا عليها في مواضعها.

وفي الأخير أسأل الله العلي القدير أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم إنه على ما يشاء قدير ، ولا ندعي الكمال فجلّ من لا يسهو.

وإن تجد عيبا فسد الخللا

فجل من لا عيب فيه وعلا

وأقدم شكري للجنود المجهولين الذين لهم الفضل في إخراج هذا الكتاب ، وهم فريق التحقيق بالمركز ، وفي مقدمتهم السيد عبد الله الشريف ، وكذا الطباعين. والحمد لله رب العالمين. وصلّى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ...

المرتضى بن زيد بن زيد بن علي المحطوري

٢٧ / رجب سنة ١٤١٩ ه‍ ـ ١٦ / ١١ / ١٩٩٨ م

* * *

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القادر العليم ، الفاطر الحي القديم ، الذي خلق العالم بغير تعليم وسلك به في منهج الحكمة المستقيم.

الظاهر لعقول ذوي المعرفة ، الباطن عن أوهام ذوي التّيه والسفه ، الذي كفّت لهيبته كفّ كيف ، وقطعت شبه التصوير له براهين التوحيد بالسيف ؛ فلا يجوز عليه الكيف ، ولا الأين ، ولا الحيث ، ولا البين. تنزّه عن المشاركة في الصّمديّة ، فاختصّ بالوحدانيّة والإلهيّة ، لا يعرف بالحواس ؛ فترشقه قوس الآفات بالانتقاص ، ولا يقاس بالناس فينتظم في سلك العامّة والخواص (١) ، لا يعرفه المكلفون بالعيان ، فتحويه الجهة والمكان ، ولكن يعرفه أهل الإيمان بما ابتدعه من خلقه وأبان ، وجعله على ذاته أعظم برهان ، الغنيّ فلا تجوز عليه الفاقة ، والمكلّف لعباده دون الطاقة ، العدل الحكيم فلا يجوز ، ولا يقضي بالفساد في أمر من الأمور ، يكره القبيح ولا يريده ، ويتعالى عن أن ينسب إليه شيء ممّا يفعله عبيده ، المختصّ للمكلّفين منهم بهداه ، من أطاعه ومن عصاه ؛ كما قال عز وعلا فيمن أطاع : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] (٢) وقال فيمن عصى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧].

لا يضلّ المؤمنين بعقابه ، ولا يهدي المجرمين بتوفيقه وثوابه ، ركّب العقول في قلوب المكلفين لإقامة حججه ، وأرسل الرّسل لإيضاح الدين ومنهجه ، (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء : ١٦٥].

__________________

(١) في (ب) : الخاص.

(٢) في (ب) : فيمن أطاع وعصى فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبده ورسوله ، ابتعثه على حين فترة من الرّسل ، وانقطاع من السّبل ، وطموس من الهدى ، وظهور من الكفر والردى ، فقام بنصر الحقّ وحزبه ، وأعلن بإهانة الباطل وسبّه ، وجاهد في الله حقّ جهاده ، وبلّغ ما أمره الله بتبليغه إلى عباده ؛ (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢] ؛ فبان الحقّ وظهر ، وتلألأ نور شموسه وانتشر ، وصار حندس (١) الكفر زائلا ، ونجم الضلالة بعد طلوعه (٢) آفلا ، وقدم الإسلام لقمّة الكفر عاليا (٣). وخصّنا باتّباعه ومحبّته ، كما اختصّنا بولادته (٤) وبنوّته (٥).

شهادة ثابتة الأعماد ، راسية الأوتاد ، باقية إلى يوم التناد ، صحيحة في القول والعمل والاعتقاد.

ولمّا قبض الله محمّدا عليه‌السلام وعلى الأئمة من ولده الكرام ـ ختم النبوة بالإمامة ، وجعلها عوضا منها إلى يوم القيامة ؛ فجعل الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا ، واجتباه أخا ووليّا ، واصطفاه وزيرا ووصيّا. شهد بذلك خبر

__________________

(١) الحندس ـ بكسر الحاء والدال ـ : الليل المظلم. القاموس ص ٦٩٥.

(٢) عبارة الإمام رحمه‌الله في قوله : ونجم الضلالة جرى على غير المشهور ؛ إذ الضلالة تناسبها الظلمة ، تمّت من هامش الأصل.

(٣) في (ب) : وربع الدين عن أهليه خاليا. وهو ساقط في الأصل. ولهذا لم نثبته.

(٤) في هامش (ب) تعليق هذا نصّه : بولايته ، وقال : كذا في نسخة ، وهي الأصح ؛ لأنه لا يستقيم بولادته ، إلا ويكون الضمير لآل محمد صلّى الله عليهم ، وهو لا يستقيم مع قوله : وخصنا باتّباعه ومحبته ، إذ الضمير فيه للأمة ؛ فتأمل والله ولي التوفيق. تمّت.

(٥) في (ب) : بالوجهين وبنويته ، وبولايته ونبوته.

الولاية يوم الغدير (١) ، كما لا ينكره الطّبّ البصير. وما خبر المنزلة بمغمور ، بل هو عند جميع الرّواة مشهور. وهل يعتري الشكّ فيمن شهدت له آية الولاية في التنزيل. وخدمه في قصّة السطل جبريل. وردّت له الشمس بعد المغيب. وقتل الجنّ في وسط القليب. أين يتاه بالعقول عمن زوّج في السماء بفاطمة الزهراء. وحملته الريح وصحبه (٢) في الهواء ، وكلّمته دونهم الموتى. وليتأمل الناظر ما في سورة هل أتى ، ولا يكن ممن عاند وعتى. وليتبين ما في قصّة الراية ، إن عرف تلك الرواية ؛ فإن لم ؛ فليسأل أهل المعرفة والدراية ؛ إن كان يطلب الهداية. وأين أنت أيها السامع عما أخبر به ربّ الأرباب في مباهلة أهل الكتاب. وابحث عن قصة سورة البراءة (٣) ، ومن خصّ دون الخلق بالتبليغ لها والقراءة ، وهكذا خبر تحية الرحمن الغني ، وما في خبر القطف يغني.

كم ذا أعدّد من مناقب حيدر

ربّ الفضائل والمقام الأكبر

ما إن أتيت بعشر عشر عشيرها

قولا صحيحا لست فيه بمفتري

ونصّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إمامة الحسن والحسين ، وعصمتهما وأبويهما من السفه والشّين ، شهدت بذلك آية التطهير ، في تنزيل اللطيف الخبير ، فكان النص على إمامتهما من الرسول نصا جليا غير مجهول ، صلوات الله عليهم أجمعين وعلى أبنائهم الأكرمين. وأشهد أن الإمامة في أولاد (٤) الحسن والحسين محصورة ، وعلى من سواهم ما بقي التكليف محظورة ، والمخصوص بذلك من

__________________

(١) جاء في المقدمة فضائل جمة. وسيأتي تخريجها في مكانها.

(٢) صحبة لا توجد في (ب).

(٣) في (ب) : براءة.

(٤) في (ب) : ولد.

عترتهما من سار بسيرتهما (١) وانتمى بأبيه إليهما ، متى جمع شرائط الإمامة ، وكان ضليعا [قويّا] بحمل أثقال الزّعامة.

وأشهد لمبدئ الخلق ومعيده ، بصدقه في وعده ووعيده.

أما بعد : فقد سألني بعض من زكت محاتده (٢) وعناصره ، وسمت على العيّوق (٣) مناقبه ومفاخره ـ أن أرسم له في العقيدة زبدا كافية ، ونتفا (٤) من البراهين شافية ، وأن أورد من الأدلة الشرعية ما يكون مؤكّدا للأدلة العقليّة ، وأن أذكر جملة من متشابه الأخبار والآيات ، التي تعلّق بظاهرها أهل الجهالات ، وأبيّن ما صحّحه العلماء من معانيها ، ووجوهها التي تجوز فيها ، وأشير له إلى جملة من فروض الخمس الصلوات ، وتمييزها مما يتخللها من السنن والهيئات ، مجرّدة عن ذكر جميع الأدلة والخلافات.

فأجبته إلى ما سأل ، رغبة في ثواب الله عزوجل ، وسأقصد في ذلك عين محبوبه ، وأقف على حد مطلوبه ، فإنّ تعدّي المراد مملول ، والاقتصار على الغرض مقبول ، بمشيئة الله ذي الجلال ، وتوفيقه في جميع الأحوال. وقد جعلت ما أوردته من الأخبار ، وذكرته من الآثار ، مما سمعته بالأسانيد الصحيحة (٥) ، وقصدت بذلك باب الهداية والنصيحة ، واتبعت في ذلك قول

__________________

(١) في (ب) : سيرتهما.

(٢) المحتد : الأصل والطبع. ينظر القاموس ٣٥٢.

(٣) نجم بعيد في السماء.

(٤) النتفة ما تنتفه بإصبعك من النبت وغيره ، والجمع كصرد وهمز : من ينتف من العلم شيئا ولا يستقصيه. القاموس ص ١١٠٤. وفي (ب) : نثفا ، وليس لها معنى.

(٥) يحمل هذا على ما ورد في العقيدة ، أما أحاديث الفضائل ففي بعضها تسامح ؛ ولعل المؤلف اكتفى بنقلها من كتب الحديث ، وبعضها من أصول الكافي وعمدة ابن البطريق بدون تمحيص ، فالعهدة على القارئ.

الله تعالى : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الزمر : ١٧ ، ١٨] وقول أبينا ونبيّنا صلّى الله عليه وعلى آله الهداة : «بلغوا عني ولو آية (١)». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كتب العلم لله ، وأراد به صلاح نفسه وصلاح المسلمين ، ولم يرد بذلك عوضا من الدنيا ، فأنا كفيله بالجنّة» (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ولمذاكرة العلم ساعة أحبّ إلى الله تعالى من عبادة عشرين ألف سنة» (٣). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تعلّم بابا من العلم ليعلّم النّاس أعطي ثواب سبعين نبيا (٤)». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من يسأل (٥) عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار (٦)».

__________________

(١) أخرجه المرشد بالله في أماليه الخميسية ١ / ٦٥. والبخاري ٣ / ١٢٧٥ رقم ٣٢٧٤. والترمذي ٥ / ٣٩ رقم ٢٦٦٩. وابن حنبل ٢ / ٥٥٣ رقم ٦٤٩٦ في المسند.

(٢) السفينة ٣ / ٩.

(٣) في السفينة ٣ / ٩. ومسند شمس الأخبار ١ / ٢٢٤ عن ابن مسعود أنه قال : أيّما مؤمن مات وترك أربعين حديثا مما ينتفع به المؤمنون جعل الله مكافأته الجنة ، وكتب له بكل حديث ثواب ألف شهيد. والمؤمن إذا سمع أربعين حديثا وقف يوم القيامة مقام العالم ، وأعطاه الله ثواب اثني عشر شهيدا. والمؤمن والمؤمنة إذا أنفقا درهما أو دانقا في سبيل العلم أعطاهم الله ثواب أجر ستين حجة وعمرة. وتعليم حرف من العلم خير من عبادة ألف سنة. وتفكّر ساعة خير من عبادة ألف سنة».

(٤) سلوة العارفين للموفق بالله ص ١٥٧ ، وفي الترغيب والترهيب ١ / ٩٨ بلفظ : سبعين صديقا ، وعزاه إلى الديلمي في مسند الفردوس.

(٥) في (ب) : من سئل.

(٦) رواه المرشد بالله في أماليه ج ١ ص ٤٦. وأبو طالب في الأمالي ص ١٤٠. وسلوة العارفين ١٥٦ ، وروي بلفظ : «من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار». أحمد ٣ / ٥٨٢ رقم ١٠٦٠٢ ، وأبو داود رقم ٤ / ٦٨ رقم ٣٦٥٨ ، والترمذي ٥ / ٣٠ ، ورقم ٢٦٥١ ، وابن ماجة ١ / ٩٦ رقم ٢٦١.

فشرعت لأجل جميع ما تقدم في الكتابة ، وأنا أسأل الله التوفيق للإصابة. وأنا أقدّم من ذلك ما يجب تقديمه : وهو علم التوحيد والعدل ؛ فإنه يجب تقديمه على الصلوات ؛ لأن بالتوحيد والعدل يعرف الله تعالى ورسوله دون غيرهما من العلوم. وما لم يعرف العابد المعبود لم يصح كونه عابدا له. ولا إشكال في أن العلم بصحة الفروع مبنيّ على تقدم (١) العلم بالأصول ؛ فمن لم يعرف الأصول ـ التي هي التوحيد والعدل ـ كان هالكا لكفره عند أهل العلم والفضل ، وكانت صلاته وصيامه عليه وبالا ، وذهبت سائر عباداته ضلالا ، كما قال تبارك وتعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) [الكهف : ١٠٣ ، ١٠٤] فلهذا المعنى قلنا بوجوب تقديم الكلام في العقيدة ، ثم نتبعه الكلام في العبادة بمشيئة الله. ومنه تعالى نستمد التوفيق والتسديد والإعانة والتأييد ، ونسأله أن يأخذ بأزمّة قلوبنا إلى الهدى ، وأن يعصمنا عن الضلالة والردى ، إنه وليّ ذلك والقادر علي ما هنالك. فنقول وبالله التوفيق : «أما عقيدتنا أهل البيت فنحن نوردها على الوجه الذي يصلح».

فصل : فأوّل ذلك أنّا نعتقد أنّ أوّل ما يجب على البالغ العاقل من الأفعال الواجبات التي لا يعرى عن وجوبها مكلّف ـ هو التفكر في الأدلّة والبراهين الموصلة إلى معرفة ربّ العالمين. والواجب : هو ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم على بعض الوجوه. فإن قيل : دلّوا على أنه واجب ، ثم دلّوا على أنه أول الواجبات. قلنا : الذي يدل على ذلك أنّ العلم بالثواب والعقاب واجب ، والعلم بهما لا يتمّ إلا بعد العلم بالله تعالى ، وسائر المعارف المعبّر

__________________

(١) في (ب) : تقديم.

عنها بأصول الدين. والعلم بالله تعالى وسائر المعارف المذكورة متقدمة على سائر الواجبات سوى التفكر فيما ذكرناه. ومعرفته تعالى ، والعلم بهذه المعارف لا يتمّ إلا بالتفكر فكان واجبا ، وثبت أنه أوّل الواجبات.

فإن قيل : ما الدليل على أنّ العلم بالثواب والعقاب واجب؟ ـ قلنا : الذي يدل على ذلك أنه لطف للمكلفين في القيام (١) بما كلّفوه من الواجبات (٢) ؛ لأن اللّطف هو ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل ما كلّف فعله ، وترك ما كلّف تركه ، أو إلى أحدهما مع تمكنه في الحالين جميعا (٣). وهذا المعنى حاصل في العلم بالثواب والعقاب ؛ فإنّ من علم بأن النفع العظيم وهو الثواب الدائم متعلّق بالطاعة ـ دعاه ذلك إلى فعلها طلبا لملاذّ الثواب. ومن علم بأن الضرر العظيم وهو العقاب الدائم متعلق بالمعصية ـ صرفه ذلك عن فعلها حذرا من ضرر العقاب ، كما أنّ من علم أنّ في التجارة ربحا عظيما ، وفي الطريق خوفا شديدا ، فإنه يكون أقرب إلى التمسك بالتجارة والتجنّب للطريق ممن لم يعلم ذلك. كذلك في مسألتنا. ولا شك أن تحصيل ما هو لطف في الواجب واجب ؛ لأنه يجري مجرى دفع الضرر عن النفس. ومعلوم بضرورة

__________________

(١) في (ب) : بالقيام.

(٢) الظاهر أن هذا يترتب على كون الثواب والعقاب واجبين ، وهو خلاف ما عليه البغدادية ومن تابعهم في كون الواجبات شكرا. فينظر. فالبغدادية تقول : يجب الثواب والعقاب. وقد حكى الإمام يحيى إجماع العدلية على الوجوب ، والبغدادية توجب الأصلح فهم أزيد في الوجوب.

(٣) في هامش نسخة المنصور : فائدة هذا فيه قول بثبوت الألطاف ، وهو الذي ذكره وهو اللطف المطلق. وأما لطف التوفيق فهو ما يفعل عنده الواجب لا محالة. ولطف العصمة ما يترك عنده القبيح لا محالة ، كما ذكر مقرر في مواضعه. تمت إملاء.

العقل أن دفع الضرر عن النفس واجب إذا كان المدفوع به دون المدفوع (١) ؛ فإن العقلاء يسارعون إلى الفصد والحجامة (٢) ليدفعوا بهما (٣) مضارّ هي أعظم منها (٤). وسواء كان الضرر مظنونا أو معلوما ؛ فإنه لا فرق عند العقلاء بين أن يخبرهم مخبر ظاهره العدالة بأنّ في الطعام سمّا ، وبين أن يشاهدوه في أنه يجب عليهم اجتنابه في الحالين جميعا ـ وإن كان خبر الواحد يقتضي الظن ، والمشاهدة توجب العلم ـ فثبت بذلك أن العلم بالثواب والعقاب واجب.

فإن قيل : ولم قلتم بأن العلم بهما لا يتم من دون العلم بهذه المعارف؟ ، قلنا : لأنّ العلم بالثواب والعقاب فرع على العلم بالمثيب والمعاقب ، وعلى كونه قادرا على الثواب والعقاب ، وعالما بمقاديرهما وبكيفية إيصالهما إلى مستحقّهما (٥) ، وعلى جميع هذه المعارف (المعبّر عنها بأصول الدين) ؛ فإذا كان العلم بالثواب والعقاب واجبا بما تقدم تحقيقه ـ وهو لا يتم إلا بمعرفة الله تعالى وبسائر هذه المعارف ـ كانت واجبة لوجوبه ؛ لما نعلمه من مقدّمات قضاء الدّين ، وردّ الوديعة ؛ فإنها واجبة لمّا لم يتم الواجب إلّا بها ، وقد شاركتها هذه المعارف في أنه لا يتم الواجب إلا بها ، فيجب أن تشاركها في الوجوب ، لأن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم ، وإلّا عاد

__________________

(١) يريد أن دفع الهلاك يجوز إذا حصل بضرر أقل. أما دفع الهلاك عن النفس بإهلاك نفس أخرى فلا يجوز.

(٢) معالجة قديمة لإخراج الدم عند ما يتبيّغ بصاحبه.

(٣) في (ب) : بها.

(٤) الضمير عائد إلى الفصد والحجامة. والمعنى أن الفصد والحجامة مضرّان ؛ لكنهما دفعا مضرة أكبر ، وهي تبيّغ الدم وبثر الفم.

(٥) في (ب) : إلى مستحقيهما.

على أصل تلك العلة بالنقض والإبطال.

فإن قيل : ولم قلتم بأنها أول الواجبات سوى التفكر؟. قلنا : لأنا قد دللنا على أن العلم بالثواب والعقاب لطف في واجب ، ومن حق اللطف أن يتقدم على الملطوف فيه ؛ لأنّ الغرض باللطف هو التقرّب من الملطوف فيه ، وقد بيّنا أنّه لا يتمّ من دون هذه المعارف ، وكانت متقدّمة على ما عدا التفكر من الواجبات.

فإن قيل : دلّوا على وجوب التفكر؟. ثمّ دلّوا على أنه أول الأفعال الواجبة التي لا يعرى عن وجوبها مكلّف ليصح ما ذكرتموه؟. قلنا : الذي يدلّ على وجوب التفكر في الأدلة والبراهين الموصلة إلي معرفة ربّ العالمين ، وإلى سائر المعارف المعبّر عنها بأصول الدين ـ أنّه لا طريق للمكلفين إلى العلم بالله تعالى وبهذه المعارف سوى التفكر في الأدلة والبراهين ؛ لأنه تعالى لا يعرفه المكلفون ضرورة (١) مع بقاء التكليف (٢) ؛ إذ لو عرف ضرورة لما اختلف العقلاء فيه (٣) ؛ لأن العقلاء لا يختلفون فيما هذه حاله. ومعلوم أنهم قد اختلفوا فيه ،

__________________

(١) الضرورة : في اللغة الإلجاء ، قال تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) وفي العرف : يستعمل فيما يحصل فينا لا من قبلنا ، بشرط أن يكون جنسه داخلا تحت مقدورنا. وخالف في ذلك أصحاب المعارف كالجاحظ وأبي علي الأسواري ، فقالوا : إنه يعرف ضرورة. ينظر الأصول الخمسة ٥٢ ، وشرح الأساس ١ / ٦٢.

(٢) لأن المحتضر وأهل الآخرة يعرفون الله ضرورة ، وخالف في ذلك أبو القاسم البلخي ، وقال : إنه كما يعرف دلالة في الدنيا فكذلك في دار الآخرة ؛ لأن ما يعرف دلالة لا يعرف إلا دلالة ، كما أن ما يعرف ضرورة لا يعرف إلا ضرورة. ينظر : شرح الأصول الخمسة ٥٢ ، وشرح الأساس ١ / ٦٢.

(٣) ليس نفي من نفى الله سبحانه يدل على أنه تعالى لا يعرف ضرورة ؛ لأن النافي له لا ينفي إلا بلسانه لا بالاعتقاد ، ولا أعظم في النفي له سبحانه من قول عدوه فرعون لعنه الله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) فهذا قوله في الظاهر وهو في الباطن معترف

فإنّ منهم من أثبت الصانع ، ومنهم من نفاه ، ومنهم من وحّده ، ومنهم منّ ثنّاه ، وكذلك الكلام في هذه المعارف.

فإن قيل : ومن أين أنّ التّفكّر طريق إلى العلم بهذه المعارف؟ ، قيل : لأنه موصل إليها ، فإنّ من نظر في دليل إثبات الصانع حصل له العلم بالصانع دون ما عدى ذلك من المسائل متى تكاملت له شروط النّظر ، وهي أربعة : أحدها : أن يكون الناظر عاقلا ؛ لأن من لا عقل له لا يمكنه اكتساب شيء من العلوم أصلا. والثاني : أن يكون عالما بالدليل ؛ لأنّ من لم (١) يعلمه لم يمكنه أن يتوصل بنظره إلى العلم بالمدلول عليه. والثالث : أن يكون عالما بوجه دلالة الدليل ، وهو التعلّق بين الدليل والمدلول عليه ، فيكون الدليل بأن يدلّ عليه أولى من أن يدل على غيره ، وأولى من أن لا يدل ؛ لأن من لم يعلم ذلك لم يحصل له العلم بالمدلول عليه. والرابع : أن يكون مجوّزا غير قاطع ؛ لأن من قطع على صحة شيء أو فساده لم يمكنه أن ينظر فيه.

فثبت أن التفكر في الأدلة والبراهين موصل إلى معرفة رب العالمين ، وإلى العلم بسائر المعارف المعبّر عنها بأصول الدين. ولا شبهة في أنّ ما يوصل إلى الشيء فهو طريق له ، فإن ذلك مما هو معلوم ضرورة ؛ فإذا ثبت كونه طريقا إلى ذلك ؛ فطريق الشيء يتقدمه. وهذا معلوم ضرورة.

فثبت أنّ التفكر أوّل الأفعال الواجبة التي لا يعرى من وجوبها مكلف.

__________________

بالله سبحانه ، وعالم أنه خالقه. ويروى أنه أصاب الناس قحط شديد فدخلوا عليه فقالوا : يا ربّنا أمطرنا ؛ فوعدهم بالمطر إلى غدهم ، ثم خرج في ليلته منفردا إلى البرّية ؛ فعفر خديه في التراب وسأل الله سبحانه أن يمطرهم ؛ فأمطرهم الله سبحانه أ. ه من هامش ه. أقول : وفي أمطارهم تلبية لطلب فرعون إغواء لقومه إن صحت الرواية ، أو فتنة وابتلاء. والله أعلم.

(١) في (ب) : من لا يعلمه.

واحترزنا بقولنا : أوّل الأفعال ، عن التّروك ، فإن وجوب التّرك قد يقارن وجوب النظر في معرفة الله تعالى ، ألا ترى أن المكلف متى توجّه عليه التكليف وهو في زرع الغير ، فكما أنّه يجب عليه التفكّر فإنه يجب عليه الكفّ عن اغتصاب الزرع ، والخروج منه ، وكذلك فإنه قد يجب عليه الكفّ من الكذب (١) والظلم في حال ما يجب عليه النظر في معرفة الله تعالى. واحترزنا بقولنا : التي لا يعرى عن وجوبها مكلف ـ عن ردّ الوديعة وقضاء الدين وشكر المنعم (٢) فإنهما وإن شاركا النظر في كونهما فعلين واجبين. فإنهما يفارقان النظر من حيث إنّ المكلف يعرى عنهما ، بخلاف النظر الذي هو التفكّر ؛ فلهذا قلنا : بأنه (٣) أول الأفعال الواجبة التي لا يعرى عن وجوبها مكلف. وبذلك يثبت الكلام في وجوب التفكر ، وأنه أول الواجبات على الوجه الذي بيّنّاه.

فصل : فيما يلائم ذلك من السّمع :

قال الله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الآية [الروم : ٨]. وقال تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) الآية [ق : ٦]. ونظائرهما في القرآن كثير.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «تفكّروا في آلاء الله ، ولا تتفكّروا في الله» (٤).

__________________

(١) في كل النسخ : من الكذب ، والأوجه : عن الكذب.

(٢) في (ب) : وشكر النعمة.

(٣) في (ب) : أنه.

(٤) مجمع الزوائد ١ / ٨١. وابن كثير في تفسيره ج ٧ ص ٤٤١. وابن عدي في الضعفاء ٧ / ٩٥. والطبراني في الأوسط ٦ / ٢٥٠ برقم : ٦٣١٩. وفي كشف الخفاء للعجلوني أحاديث حول هذا ١ / ٣١٠ برقم ١٠٠٤ وما بعده.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «تفكّروا في المخلوق ، ولا تتفكّروا في الخالق» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تتفكروا في عظمة ربّكم ، ولكن تفكّروا فيما خلق ، فإنّ فيما خلق متفكّرا ؛ فإنّ خلقا من الملائكة يقال له : إسرافيل. زاوية من زوايا العرش على كاهله ، وقدماه في الأرض السّفلى ، وقد مرق رأسه من السماء السّابعة ، ومن سبع سماوات» (٢) ، وألزم الله تعالى معرفته فقال عز قائلا : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩]. وروى ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خمس لا يعذر أن يجهلهنّ أحد : أن يعرف الله ولا يشبّه (٣) به شيئا.

__________________

(١) الدر المنثور ج ٦. وتفسير ابن كثير ج ٧ ص ٤٤٢. وكنز العمال ٣ / ١٠٦ برقم : ٥٧٠٥ ، ٥٧٠٨.

(٢) كنز العمال ٣ / ١٠٧ برقم ٥٧١٤. ولفظه : «لا تفكروا في الله ، وتفكروا في خلق الله ؛ فإن ربنا خلق ملكا ، قدماه في الأرض السابعة السفلى ، ورأسه قد جاوز السماء العلياء. ما بين قدميه إلى كعبيه مسيرة ستمائة عام. والخالق أعظم من المخلوق. وأعجب من هذا ما نسمع من علماء الفلك في هذا العصر الذي توفرت فيه المناظير والتلسكوبات الضخمة والسفن الفضائية والوسائل التي قرّبت وكشفت من عظمة الخالق ما يشيب له العقل ؛ فقد سمعنا أن بعض النجوم أو المجرّات تبعد عنّا مسافة مائة مليون سنة ضوئية علما أنّ الضوء يقطع في الثانية ثلاثمائة ألف كيلومتر أو ١٨٦٠٠٠ ألف ميل. والساعة ثلاثة آلاف وستمائة ثانية ؛ فيقطع الضوء في الساعة الواحدة مليارا وثمانين مليون كيلومتر ؛ فكم في اليوم؟ وكم في الشهر؟ وكم في السنة؟ وكم في مائة مليون سنة؟ إنه فوق مستوى تصور العقول. وصدق الله العظيم إذ يقول : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) حقّا إنّه لعظيم لا يقدر أن يسافر في ملكوته الخيال ؛ فجلّ الكبير المتعال.

(٣) في (ب) : لا يشبهه بشيء. وأمالي أبي طالب ص ٣٣٢ : أن تعرف الله ولا تشبهه بشيء.

ومن شبّه الله بشيء ، أو زعم أنّ الله يشبه شيئا فهو من المشركين (١)» الخبر بطوله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرجل : «هل عرفت ربّك؟ ، فقال : يا رسول الله وكيف أعرفه؟ ، قال : اعرفه ولا تعرّفه بالأعضاء» يعني لا يعتقد أنه جسم ، إلى غير ذلك من الأخبار.

فصل : فإن قيل : فهل يجوز (٢) التقليد في أصول الدين؟ ، قلنا : إن ذلك عندنا لا يجوز. فإن قيل : بيّنوا أوّلا : ما معنى التقليد ، ثم بينوا أنه لا يجوز ، لأنه لا يحسن الكلام في أحكام أمر ولمّا يعرف ذلك الأمر.

قلنا : أما معناه فهو اعتقاد صحة قول الغير من غير اعتماد على حجة ولا بصيرة. والذي يدل على صحة هذا الحدّ أنه يكشف عن معنى المحدود على جهة المطابقة ، ولا يسبق من معنى التقليد سواه ؛ ولهذا يطرد المعنى وينعكس وهذه هي دلائل صحة الحد (٣).

وأما الذي يدل على قبحه فالعقل والسمع : أما العقل فهو أنه ليس مقلّد أولى من مقلّد ، فلم نكن بتقليد أسلافنا في مذاهبنا أولى من تقليد اليهود والنصارى وغيرهم من فرق الكفر لأسلافهم في مذاهبهم ، ولم يكن المقلّد بتقليد المحق أولي من تقليد المبطل ؛ لأن المقلّد لا يفصل بين محقّ ومبطل ، لأنه غير عارف بالحق والباطل ، ولا (٤) يخلو أن يقلّد جميع أهل المذاهب كلها ـ

__________________

(١) في أمالي أبي طالب ص ٣٣٢ : بجهلهن ، وبقية الخبر : «والحبّ في الله والبغض في الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجتناب الظّلم».

(٢) في (ب) : تجوّزون التقليد.

(٣) فنقول : التقليد اعتقاد صحة قول الغير .. إلخ ، ونعكس فنقول : اعتقاد صحة قول الغير .. إلخ ، هو التقليد.

(٤) في (ب) : فلا.

وفي ذلك الوقوع في الكفر والضلال ، والاعتقاد المتعارض (١) الأقوال ـ أو لا يقلّد أحدا منهم وهو الذي نقول ، أو يقلد البعض من دون البعض من غير مخصّص فذلك محال ؛ وبذلك يبطل القول بتقليد الزاهد ، فإن في كل فرقة زاهد ، ويبطل القول بتقليد الأكثر أيضا لأنه يجوز أن يصير الأكثر أقلّ والأقلّ أكثر (٢).

وأما السمع : فالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب فقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ ، قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ) [البقرة : ١٧٠] وقوله تعالى : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ) [الزخرف : ٢٣] وقوله تعالى : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ* وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا ، كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) [البقرة : ١٦٦ ، ١٦٧]. وقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١] وقوله عزوجل : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ

__________________

(١) في (ب) : لمتعارض.

(٢) هذا يشبه السبر والتقسيم في البحث عن الأصلح ، حيث اختبر أكثر من جهة لينظر هل يصح تقليدها أولا ؛ فيعتمد ما يصح ويلغي ما لا يصح.

وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) [الأحزاب : ٦٧ ، ٦٨] «يقرأ بالباء بواحدة من أسفل ، وبثلاث من أعلى» أي كبيرا. إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة : فما أخبرني به والدي وسيدي بدر الدين (١) عماد المحقين شيخ آل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محمد بن أحمد نوّر الله قبره ، بإسناده إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله ، والتّدبّر لكتابه ، والتفهّم لسنتي ـ زالت الرواسي ولم يزل. ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلّدهم فيه ، ذهب به الرجال من يمين إلى شمال ، وكان من دين الله على أعظم زوال» (٢). وكفى بذلك باعثا على التفكّر في الأدلة والبراهين ، وزاجرا عن الدخول في زمرة المقلّدين الهالكين. وعن حذيفة بن اليمان عن النبي صلوات الله عليه وآله أنه قال : «لا تكونوا إمّعة (٣) : تقولوا : إن أحسن الناس أحسنّا ، وإن أساءوا أسأنا ، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساءوا فلا تظلموا» (٤).

__________________

(١) هو محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبد الله ابن الإمام المنتصر بالله محمد ابن الإمام القاسم المختار ابن الإمام الناصر لدين الله أحمد ابن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه‌السلام. ولد ٥٢٩ ه‍. وت ٦١٤ ه‍. وهو أصغر من أخيه يحيى شمس الدين وقرأ هو وأخوه على القاضي جعفر جميع العلوم وحدث عنه. وكان ممن يؤهل للإمامة ، وكان هو وأخوه أفضل أهل زمانهما علما وعملا وورعا وزهدا. وروي أن الإمام عبد الله بن حمزة كان يحثه وأخاه على القيام بالإمامة. وقبره بهجرة قطابر من نواحي صعدة. مشهور مزور. ينظر تراجم رجال الأزهار للجنداري ١ / ٣٢. والتحف شرح الزلف ٢٤١.

(٢) رواه أبو طالب في أماليه ص ١٤٨.

(٣) قال في النهاية [١ / ٦٧] في حديث : «اغد عالما ومتعلما ، ولا تكن إمّعة» : الإمّعة بكسر الهمزة وتشديد الميم : الذي لا رأي له فهو يتابع كل أحد على رأيه. والهاء فيه للمبالغة. وقيل الذي يقول لكل أحد : أنا معك.

(٤) أبو طالب ص ٣٩٥. والترمذي ٤ / ٣٢٠ رقم ٢٠٠٧.

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : «إيّاك والاستنان بالرجال ، يقول الرجل : أصنع ما يصنع فلان وانتهي عمّا ينتهي عنه فلان.

ومما يختصّ إبطال تقليد الأكثر أن يقال : إنّ الكثرة ليست بدلالة للحق ، ولا القلّة علامة للباطل ؛ لما يشهد له الكتاب والسنة.

أما الكتاب : فلأن الله تعالى قد ذمّ الأكثرين عددا ، فقال عزّ قائلا : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) الآية [الأنعام : ١١٦] وقال تعالى : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) [المؤمنون : ٧٠]. وقال : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] وقال تعالى : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ) [المائدة : ٤٩] وقال : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ) [المائدة : ٦٦] إلى غير ذلك من الآيات. ومدح الأقلين فقال في كتابه المبين : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (١) وقال : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وقال : (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) [هود : ٤٠] إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنّة (٢) : فما روي عن الحارث بن حوط ، قال لعلي عليه‌السلام : أترى يا أمير المؤمنين أنّ أهل الشام مع كثرتهم على الباطل؟ ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «إنّه لملبوس عليك ، إن الحق لا يعرف بالرجال ، وإنما الرجال يعرفون بالحقّ ، فاعرف الحقّ تعرف أهله قلّوا أم كثروا ، واعرف الباطل تعرف أهله قلّوا أم كثروا» (٣).

__________________

(١) قبلها قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [ص : ٢٤].

(٢) لم يورد المؤلف حديثا في استدلاله بالسنة وإنما أثرا لعليّ (ع) فلعله تجوّز أو اعتبر كلام الإمام علي في حكم السماع عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) انظر نهج البلاغة ص ٧٤٠. واليعقوبي ٢ / ١١٦ والسؤال فيهما عن أهل الجمل.

ومن جهة النّظر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يؤمن به في أوّل الإسلام سوى علي عليه‌السلام من الرجال ، وخديجة من النساء (١). وهم الأقلّون عددا. فلو كانت القلّة دلالة للباطل لكانوا على الباطل ، وكانت قريش لكثرتها (٢) على الحق ، ومعلوم خلاف ذلك. وقال الله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) [البقرة : ٢١٣] ؛ فدل ذلك (٣) على ما قلناه ، فثبت أن التقليد لا يجوز.

فصل [ما يجب على المكلف التفكر فيه] : فإن قيل : قد دللتم على إبطال التقليد وعلى وجوب التفكر ففيم يتفكر المكلّف؟. قلنا : يتفكر في العالم وما فيه من عجائب التركيب وبدائع الترتيب ، فيحصل له العلم بالمرتّب والمركّب ، وقد قال تعالى : (أَفَلَمْ

__________________

(١) أجمع أهل السير والتواريخ أن عليّا أسلم بعد خديجة بيوم واحد ، وهي يوم الإثنين ، وعليّ يوم الثلاثاء. ينظر المستدرك ٣ / ١٣٣ وصححه الذهبي. وسيرة ابن هشام ١ / ٢٤٥. وطبقات ابن سعد ٣ / ٢١. والإصابة ٢ / ٥٠١. والترمذي ٥ / ٥٩٨ رقم ٣٧٩٨.

ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٣. وأسد الغابة ٤ / ٨٩. والاستيعاب ٣ / ٢٠٠. والطبري ٢ / ٣٠٩ وما بعدها. وابن الأثير ٢ / ٣٧. والمنتظم ٥ / ٦٧. وتاريخ الخلفاء للذهبي ص ٦٢٤. أما كتب الزيدية والإمامية والمعتزلة فبالإجماع أن الإمام علي أول من أسلم بعد خديجة ؛ لكن خصوم علي لم يرقهم ذلك فالتفّوا على هذه المزيّة ، وقالوا : عليّ أول من أسلم من الصبيان ، وزيد بن حارثة من العبيد ، وأبو بكر من الرجال ، وهكذا قسمت فضيلة السبق.

غير أن هذا الالتواء لا يقوى على معارضة المتواتر ، وهو أنه أول المسلمين على الإطلاق ما عدا خديجة ، وما ذا لو فضل الله عليّا فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وأنا لا أستغرب هذا فلو كان بإمكان بني أمية أن ينكروا أن عليّا من المسلمين مطلقا لما ترددوا ؛ ولكن أنّى لهم ذلك ، فالأكف لا تحجب الشمس. والصديق لا يمانع من تقديم علي ولا ضير عليه في ذلك.

(٢) في (ب) ، (ج) : لكثرتهم.

(٣) أي كون الناس كانوا أمة كافرة مجمعة على الكفر.

يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) [ق : ٦] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تفكروا في آلاء الله ، ولا تتفكروا في الله».

فإن قيل : ما العالم؟ ، قلنا : العالم واحد العالمين ، وهم أصناف الخلق (١). هذا هو معناه اللّغوي ، ذكره صاحب ديوان الأدب (٢). وقد قيل : بأن العالم هو النوع ممّا يعقل ، وهم الملائكة والإنس والجن. وقيل : بأن أهل كل زمان عالم. وقيل : هو اسم لما حواه الفلك ، ولفظ الواحد منه عالم ، وإذا جمعت ، قلت : العالمين. وهذا الفرق في اللفظ دون المعنى ؛ لأنّ اللفظين ينبئان عن معنى واحد.

وهو في اصطلاح المتكلمين ينطلق على السموات السبع ، والأرضين السبع ، وما فوقهن وما تحتهن ، وما فيهن من الأعراض التي لا تدخل تحت مقدورات العباد. واختلف العلماء في اشتقاقه ، فمنهم من قال : اشتقاقه من العلم ؛ لأنه اسم يقع على ما يعلم. وقيل : لأنه علم ودليل على صانعه. وقيل : من العلامة ؛ لأنه عند النظر يعلم ويفهم ويدلّ على صانعه ، وهو يعمّ من يعقل وما لا يعقل. وإذ فرغنا (٣) من هذا الفصل فلنتكلم في المسائل مسألة مسألة إن شاء الله تعالى. فنقول :

__________________

(١) قال الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : العالم عالمان كبير هو الفلك بما فيه ، وصغير وهو الإنسان ؛ لأنه على هيئة العالم الكبير ، وفيه كل ما فيه. وإليه أشار القائل :

أتحسب أنك جرم صغي

ر وفيك انطوى العالم الأكبر

ينظر تاج العروس ١٧ / ٤٩٨.

(٢) هو الأديب إسحاق بن إبراهيم بن الحسين الفارابي وهو غير الفيلسوف ، وقد اغترب في اليمن (زبيد) ، وصنف كتابه المذكور ، ووصفه بقوله : هو ميزان اللغة ومعيار الكلام ، وت ٣٥٠ ه‍. ينظر معجم الأدباء ٦ / ٦١. والأعلام ١ / ٢٩٣. وصبح الأعشى ١ / ٥٣٩.

(٣) في (ب) : وإذا قد فرغنا.

المسألة الأولى :

أنّا نعتقد أنّ لهذا العالم صانعا صنعه ومبتدعا ابتدعه

خلافا للفلاسفة والدّهرية (١) وغيرهم من الكفار الجهلة الأشرار. ونحن نستدل عليه تعالى بفعله ؛ لأن كلّ ما لا يدرك بالحواسّ فالطريق إلى معرفته حكمه (٢) أو فعله ، والحكم معلول العلل ، وهو تعالى ليس بعلة على ما نبينه ، فلم يبق إلا أن يكون الطريق فعله ، فنقول وبالله التوفيق :

الذي يدل على ذلك أن الأجسام كلّها قد اشتركت في كونها أجساما متحيّزة موجودة ، ثم افترقت في صورها ، فكان بعضها جبالا ، وبعضها سهولا وبعضها سماء ، وبعضها أرضا ، وبعضها ماء ، وبعضها هواء ، وبعضها نارا ، وبعضها أشجارا ، إلى غير ذلك مما يطول ذكره من الهيئات ، والصور المختلفات ، من أنواع الحيوانات ، وغيرها من المرئيات ؛ فلا يخلو اختلافها وافتراقها في صورها وهيئاتها أن يثبت لأمر أو لا لأمر. باطل أن يثبت ذلك لا لأمر ؛ لأنه لم يكن الماء بأن يكون ماء والهواء هواء أولى من أن لا يختلف أصلا ، وكذلك سائرها. فلم يبق إلا أن يثبت لأمر ، ثم ذلك الأمر لا يخلو (٣) أن يثبت لذواتها كما تقوله

__________________

(١) الدهرية : هم من أهل الغلو ، نفوا الربوبية ، وجحدوا الخالق العالم المدبر القادر ، وزعموا أن العالم لم يزل موجودا كذلك بنفسه لا بصانع ولم يزل الحيوان من النطفة ، والنطفة من الحيوان. كذلك ينكرون النبوة والبعث والحساب. انظر موسوعة الفرق والجماعات ص ٢٢٥. والملل والنحل للإمام المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى ص ٦٢. أو هم القائلون : بقدم العالم. واختلفوا في المؤثر : فمنهم من نفاه مطلقا ، ومنهم من أثبته علة قديمة.

(٢) ينظر تعريف الحكم في الأساس الكبير ١ / ٢٤٦ ، وسأضرب له مثالا فقط فأقول : إذا لاحظت شيئا محكما فإن الإحكام حكم يدل على أن فاعل ذلك الشيء عالم ، ووجوده يدل على أنه قادر. وهكذا ..

(٣) في (ب) : لا يخلو إمّا.

الدهرية ، أولا لذواتها بل لأمر غيرها. باطل أن يثبت لذواتها ؛ ولا لما هي عليه في ذواتها (١) ؛ لأنها مشتركة في ذواتها وما يختصها من الذاتيّات وما يقتضي عنها ، فلم يكن بعضها بأن يكون ماء والآخر نارا أولي من العكس ، وكذلك سائرها ، بل كان يجب أن يكون الماء ماء ونارا وأرضا وسماء وجبالا وأشجارا وهواء إلى غير ذلك من الهيئات والصور ؛ لاشتراكها في الموجب لذلك. ومعلوم خلاف ذلك ، فلم يبق إلا أن يكون اختلافها ثابتا لغيرها ، وذلك الغير لا يخلو أن (٢) يكون مؤثّرا على سبيل الإيجاب وهو العلّة ، أو لا على سبيل الإيجاب ، بل على سبيل الصحة والاختيار وهو الفاعل. ومحال أن يكون اختلافها لعلة أثّرت في ذلك كما يقوله الفلاسفة ، أو طبع أو مادة أو فلك أو هيولى (٣) أو صورة أو عقل أو نفس أو غير ذلك من الموجبات التي يثبتها أهل الجهالات ، لأن ذلك الموجب لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر. ومحال أن يكون واحدا ؛ لأن العلة الواحدة لا يجوز أن تؤثّر في أمور كثيرة ، وإلا وجب أن تكون مماثلة لنفسها إن كانت موجباتها متماثلة ، أو مخالفة لنفسها إن كانت موجباتها مختلفة وذلك محال ؛ لأن المماثلة والمخالفة فرع على الشّبهيّة والغيريّة ، وليس هناك غير شيء واحد ، فلا يجوز أن يكون مماثلا لنفسه

__________________

(١) في (ب) : من ذواتها.

(٢) في (ب) : إما أن.

(٣) الهيولى : لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة ، واصطلاحا الجوهر الذي لا ينقسم ، ويتألف منه الجسم ؛ لأن الجسم يتألف من ستة جواهر : أمام ووراء وفوق وتحت ويمين وشمال. [تاج العروس ١٥ / ٨٢٢]. وقيل : أربعة ، وعند الأشعرية اثنان. وقيل : ما اجتمع فيه : الطول والعرض والعمق ، وإنما يحصل بالثمانية. [مقدمة البحر الزخار ص ١٠٠ ، وإرشاد الجويني ص ٣٩]. والزيدية ترى أن الجوهر غير معقول ولا ثابت وأن العالم ليس إلا جسما أو عرضا [الأساس الكبير ١ / ١٢٢].

ولا مخالفا ، فبطل أن يكون الموجب واحدا. ومحال أن يكون أكثر من واحد ؛ لأنه لا يخلو أن تكون متماثلة أو مختلفة. ومحال أن تكون متماثلة ؛ لأن العلل المتماثلة لا يجوز أن توجب أمورا مختلفة ، وإلا لزم ما تقدم من كونها متماثلة مختلفة معا ؛ لاختلاف موجبها. ومحال أن تكون مختلفة ؛ لأنها حينئذ تكون قد شاركت الأجسام فيما لأجله احتاجت إلى علّة أو علل ، وهو الاختلاف ، فكان يجب أن تحتاج إلى علل أخرى مختلفة. ثم الإلزام ثابت في احتياج هذه العلل إلى علل أخرى حتى يتصل الأمر في ذلك بما لا يتناهى وذلك باطل ؛ لأنه قد وقف وجود هذه المختلفات على وجود ما لا يتناهى. وكلّ ما وقف وجوده على وجود ما لا نهاية له استحال وجوده ؛ وفي علمنا بوجود العالم بما فيه دلالة على خلاف ذلك ؛ فإنّ وجوده معلوم ضرورة ، فبان أنه إنما حصل العالم ووجد بفاعل مختار يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وهو الله رب العالمين. فثبت أن لهذا العالم صانعا صنعه ومبتدعا ابتدعه ، تبارك وتعالى عما يقول المبطلون.

فصل فيما يلائم ذلك ويؤكده من السنة :

روي عن أنس بن مالك أن رجلا قال : يا رسول الله أيّ الأعمال أفضل؟ ، قال : «العلم بالله» (١) ثلاثا ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «التوحيد ثمن الجنة» (٢) وفي بعض الأخبار «ثمر الجنة».

__________________

(١) إتحاف السادة المتقين للزبيدي ١ / ٨٥ ، كما في موسوعة الأطراف ٤ / ١٢٦.

(٢) أخرجه في شمس الأخبار ١ / ٦١. ولفظه : «التوحيد ثمن كل جنة ، والشكر وفاء كل نعمة». وفي أمالي المرشد بالله ١ / ٤٢ ، بلفظ : «التوحيد ثمن الجنة ، والحمد لله وفاء شكر كل نعمة ، وخشية الله مفتاح كل حكمة ، والإخلاص ملاك كل طاعة». ومسند الفردوس ٢ / ٧٤ برقم ٢٤١٥. والدر المنثور ١ / ٣٥.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كفى بالتوحيد عبادة ، وكفى بالجنة ثوابا (١)». وعن ابن عباس أنه قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا نبيّ الله علّمني من غرائب العلم؟ ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وما ذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟» ، فقال الرجل يا رسول الله : وما رأس العلم؟ ، قال : «معرفة الله حقّ معرفته» (٢). الخبر إلى آخره ، وسيأتي ذكر آخره إن شاء الله تعالى (٣).

المسألة الثانية

ونعتقد أنّه تعالى قادر. وفيها فصلان :

أحدهما في معنى القادر : وهو المختصّ بصفة ، لكونه عليها يصحّ منه الفعل مع سلامة الأحوال. وقلنا : مع سلامة الأحوال احترازا من الموانع الثلاثة وهي : الحبس ، والقيد ، وإحداث ضدّ الفعل (٤).

والثاني في الدليل على أنه تعالى قادر : والذي يدلّ على ذلك أنّ الفعل قد صحّ منه ، والفعل لا يصح إلا من قادر ، وإنما قلنا بأن الفعل قد صح منه [والفعل لا يصح إلا من قادر] (٥) ؛ لأنا قد بيّنّا أنه تعالى قد أوجد العالم على سبيل الصحة والاختيار (٦) ؛ بمعنى أنه كان يمكنه قبل إيجاده أن يوجده وأن

__________________

(١) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٤٢.

(٢) رواه أبو طالب ص ١٤٣. وشمس الأخبار عن ابن عباس ١ / ٦١ وعزاه إلى السمان في أماليه.

(٣) سيأتي في آخر المسألة الثانية.

(٤) أي إن وجود أحد هذه الموانع تجعل القادر غير قادر ، مثال : ضد الفعل كالسير قدام ووراء في نفس اللحظة.

(٥) ما بين القوسين محذوف في «ب» و «ج» و «د» وأشار في الأصل إلى أنه زائد في الأم.

(٦) الصحيح هو الذي لا تنافر فيه ولا استحالة ، والمراد بالصحة : هي التي تقابل الإمكان كما صرح به ابن حابس في المصباح ، وكما فسرها الأمير رحمه‌الله بقوله : بمعنى .. إلخ.

لا يوجده ، وأنّه [أي الله] ليس بمؤثّر على سبيل الإيجاب ، وإلا كان يجب ثبوتها [أي الكائنات] في الأزل ، وذلك محال ، وقد ثبت أنه أوجده وأوقعه ، والوقوع فرع على الصحة. وإنما قلنا : بأن من صحّ منه الفعل فهو قادر ؛ لأنا وجدنا في الشاهد رجلين : أحدهما يصح منه المشي الكثير ونقل الشيء العظيم كالصحيح السليم ، والآخر يتعذر عليه ذلك كالمريض المدنف (١) من غير مانع يمنعه من ذلك ، فدلّ ذلك بأن من صحّ منه الفعل لا بد أن يفارق من تعذر عليه ذلك بمفارقة ، وإلا لم يكن أحدهما بأن (٢) يصح منه الفعل أو يتعذر عليه أولى من الآخر ، وتلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه قادرا. فإذا كان الله تعالى قد صح منه ، بل قد وجد ـ والوجود فرع على الصحة ـ وجب أن نصفه بكونه قادرا ؛ لأنّ الدليل يطّرد شاهدا وغائبا.

فصل : فيما يوافق ذلك من جهة الشرع :

قال الله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة ٢٨٤] ، فاقتضى ذلك أنه تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات وأعيانها (٣) ؛ لعموم الخطاب ،

__________________

قال ابن حابس : وليس المراد بالصحة الإمكان الذي هو مقابل الاستحالة ، وإنما المراد بالصحة والاختيار : هي التي تقابل الإيجاب فإنه الصحة الأولى لا تدل على القادرية. اه. والاختيار مقابل العلة والمعلول كالشمس لما كانت علة للضوء فلا يصدر عنها غيره لكن الباري لمّا لم يكن علة للكون بل هو خالق مختار صدر عنه المخلوقات المتنوعة.

(١) الدّنف بفتح الدال والنون المرض الملازم. يقال : مدنف ومدنف «المختار ٢١٢».

(٢) بأن محذوف في (ب) و (ج).

(٣) قال في شرح الأصول الخمسة ١٥٦ : وأما الذي يدل على أنه عزوجل قادر على أجناس المقدورات ، فهو أن أجناس المقدورات لا تخلو ؛ إما أن تدخل تحت مقدورنا أو لا تدخل تحت مقدورنا. فإن لم تدخل تحت مقدورنا وجب أن يختص القديم تعالى بها ، وإلا خرجت عن كونها مقدورة ، وإن دخلت تحت مقدورنا فالله تعالى بأن يكون قادرا عليها أولى ؛ لأن حاله في القدرة على الأجناس إن لم يزد على حالنا لم ينقص عنه.

غير أنّ بعض العدلية قد ذهب إلى أن ذلك مخصوص بدليل العقل (١) ، قال : لأنّ دليل العقل قد دلّ على أنّ أفعال العباد منهم لا منه عزوجل ؛ لأن ذلك يؤدي إلى مقدور بين قادرين. وسيأتي بيانه مفصلا فيما بعد إن شاء الله تعالى. فكان دليل العقل في ذلك مخصّصا للآية ، إلى غير ذلك من الآيات (٢).

__________________

(١) وهو النّظّام فقد قال : إن الله لا يستطيع ولا يقدر على فعل القبيح ؛ لأنه لو كان قادرا عليه لصدر عنه. وأقول : والأولى أن يقال : إنّ الله من ناحية القدرة لا يعجزه شيء ، ومن ناحية الحكمة والعدل لا يفعل القبيح كالوالد الشفيق يقدر على ذبح ولده الصغير لكنه لا يفعل ذلك ، والله أعلم. وقال عبّاد بن سليمان الصّيمري والأشعري من الجبرية : لا يقدر على خلاف معلومه. وأقول : هو يقدر على خلاف معلومه لكن الحكمة تمنع ذلك. وقال البلخي : لا يقدر على مثل مقدور عبده ، وأقول : الأولى أنه يقدر على مقدور عبده ؛ إلّا أنّ الفعل لا يصدر عن فاعلين ؛ لأن الفعل إذا صدر عن العبد فهو مخصوص به ؛ لأنهم قرروا بعدم إمكان فعل بين فاعلين ، وحمل الخشبة من مجموعة من الناس ليس فعلا بين فاعلين ؛ لأن كل واحد يحمل حصته. والمستحيلات هي التي ركبها الله في العقول أنها مستحيلة كخلق جسم لا متحرك ولا ساكن أو لا مجتمع ولا مفترق. وقال أبو هاشم ووالده أبو علي : لا يقدر على عين مقدور العبد. ينظر شرح الأصول الخمسة ٣١٢ ، والمعالم الدينية في العقائد الإلهية ٦١ ، والمغني ٦ / ١٢٧ ، وشرح المواقف للجرجاني ٢ / ٩٢ ، والإلهيات ١ / ١٤٦

(٢) وكون أفعال العباد منهم لا يعني أنه سبحانه غير قادر عليها ؛ لأن قدرتهم على أفعالهم إنما هي بالقدرة التي خلقها الله فيهم ، وتركهم أحرارا في فعلهم ليترتب على ذلك الثواب والعقاب ، وهو قادر على خلق الأفعال فيهم إلا أنه متنزه عن ذلك ، إذ لو فعل لكان أولى باللوم على المعاصي من العباد ، فافهم ولا تنخدع بوسوسة المبطلين الذين يهولون بأن لا خالق إلا الله لأنا نقول : هذا صحيح فيما فيه تمجيد وتبجيل لله ، لكن الزنى والكفر خارج عن هذا ، وقوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) إنما أتى بعد تعداد الآيات الكونية ، فانظر أول سورة الرعد ، والأنعام ٩٤.

ومن السنة : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سأله السائل عن معرفة الله حقّ معرفته ، فقال : «أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه ، وأن تعرفه إلها واحدا عالما قادرا أوّلا آخرا ظاهرا باطنا لا كفؤ له ولا مثل».

المسألة الثالثة

ونعتقد أنه تعالى عالم. وفيها فصلان :

أحدهما في معنى العالم : ومعناه أنه المختصّ بصفة لكونه عليها [أي الصفة] يصحّ منه إيجاد معلومه ، أو ما يجري مجرى معلومه محكما إذا كان مقدورا له ، ولم يكن هناك منع ولا ما يجري مجرى المنع. ونريد بالمعلوم الذوات ، وبما يجري مجرى المعلوم ما عدا الذوات ، ونريد بالمنع ما تقدم ذكره في معنى القادر ، وبما يجري مجراه نحو استحالة الإحكام في الجوهر الفرد (١) وأجناسه [نحو التحيّز].

والفصل الثاني في الدلالة على أنه تعالى عالم :

والذي يدل على ذلك أنّ الفعل المحكم قد صح منه ابتداء ، والفعل المحكم لا يصح ابتداء إلا من عالم.

وإنما قلنا : إنّ الفعل المحكم قد صح منه ابتداء لأنّا قد بيّنا أنّه أوجد العالم ، ولا شك أنّه متقن محكم ، وجميع أجزائه متقنة محكمة ؛ فإنّ فيها من الترتيب

__________________

(١) الجوهر الفرد ليس له حكم فلا يقال هو فوق أو تحت ؛ لأن الجسم يحتاج إلى ست جهات ، والجوهر له جهة واحدة ؛ لأنه أصغر شيء فإذا أضفت له مثله من فوق صار له فوق ثم أضف له من تحت تصير له تحت وفوق ثم أضف يمينا وشمالا ، وهكذا ؛ فالجوهر الفرد ليس له في نفسه جهات حتى يحيط به جواهر يكتمل بها جسما فيكون كل واحد من الجواهر جهة للجوهر الأخر ؛ لأن المراد بالجهات من المواد وليس من الفراغ.

والنظام ما يزيد على كلّ صناعة محكمة في الشاهد : من بناء وكتابة.

ومن نظر في الهواء وما فيه من السّعة والرّقّة والصّفاء ، وكونه مكانا للّطيف والكثيف من الأشياء ، فيحمل الأصوات والروائح الطيبة والخبيثة ، ثم تمحى وتزول ويعود نقيّا ، وتخرج فيه الرياح بالسحاب والتراب والدخان والغبار ، ثم تزول منه بقدرة الواحد القهار ـ علم صحة ما ذكرناه ، وكذلك من نظر فيما يشاهد في السماء الدنيا : من ارتفاعها وصفائها واتساعها وبهائها ، وما فيها من النيّرات التي ملأ ضياؤها ما بين الأرضين والسموات : من الشمس والقمر والنجوم المختلفات ، وكفى في الدلالة خلق الشمس والقمر ، وخلق النور والضياء فيهما ، ودورانهما ، ورفعتهما ، وإمساكهما ، وقربهما ، ومنازلهما ، ومشارقهما ، ومغاربهما ، وزيادة القمر ونقصانه وكسوفهما. قال الكلبي (١) : يضيء وجهها لأهل السموات السبع وظهرها لأهل الأرضين السبع (٢).

وقد ذكر بعض الأئمة الهداة من أسباط الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين (ع) (٣) : «أنّ مثل هذا العالم كمثل بيت قد أعدّ فيه كلّ ما يحتاج إليه ، ووضع كلّ شيء منه في موضعه ، فالسماء (٤) سقفه ، والأرض فراشه ، والشمس والقمر

__________________

(١) محمد بن السائب ، كان عالما بالتفسير وأنساب العرب وأحاديثهم ، جرح بالتشيع توفي سنة ١٤٦ ه‍. تهذيب التهذيب ج ٩ ص ١٨٠. وأعيان الشيعة ج ٩ ص ٣٤٠.

(٢) هذا تفسير قديم ، والواقع حسب العلم المعاصر أنّ القمر كوكب مظلم وإنما يضيء بسبب انعكاس نور الشمس عليه ، فما وقع عليه شعاع الشمس أضاء ؛ لأنه ليس جسما نورانيا أما الشمس فهي تضيء ، ولكن ليس للأرضين السبع والسموات السبع ؛ لأن الفضاء مكتظ بالمجرات ، وكل مجرة فيها مليارات النجوم لا يقاس البعد الشاسع بينها بالأرقام ، وإنما بألوف السنوات الضوئية ، ولعل الشمس تضيء للمجموعة الشمسية. والله أعلم.

(٣) ذكره في حقائق المعرفة المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام. (خ).

(٤) في (د) والسماء.

مثل الشمعتين في البيت ، والنجوم مثل القناديل ، وما أعدّ في الأرض من العيون والفواكه والزرع والمعادن مثل ما يكون في البيت من الآلة والمتاع والذخائر ، والعبد كالمخوّل ذلك البيت وما فيه». هذا آخر كلامه عليه‌السلام. ولا شبهة في كون جميع ذلك محكما.

وكذلك من نظر في خلق الإنسان وفي مبتدئه ومنتهاه ، فأوّله نطفة ، ثم يصير علقة ، ثم مضغة ، ثم يصير عظاما ، ثم تكسى تلك العظام لحما ، ثم يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا ، كما قال تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) [النحل : ٧٨] ، ثم يخرج الولد مع كبره وصغر ما يخرج منه ، فيصير رضيعا ، ثم طفلا ، ثم غلاما ، ثم بالغا ، ثم شابّا ، ثم كهلا ، ثم شيخا ، فيردّ إلى أرذل العمر ، ويتغير شعره وبشره وأعضاؤه وعروقه ، وتسقط أسنانه حتى يصير إلى قريب من حال الطفولية ، بل إلى حال الرضاع فتنبت أسنانه بعد سقوطها (١) ، ويسيل لعابه ، ويختل عقله ، ولا يصبر على الجوع والعطش ، ويبكي إن أصاباه كحال الصغير.

وعند خروجه أوّلا من بطن أمّه يحدث الله له رزقا في ثدي أمه ، لبنا خالصا موافقا للطفل ، يتغذى به حارّا في وقت البرد ، باردا في وقت الحر (٢) ويلقي الله له الرحمة (٣) في قلب أمه وقلب أبيه ، فيصبران لأجلها على القيام

__________________

(١) في (ب) : وتسقط أسنانه بعد ثبوتها. وهو الأظهر ؛ لأن الشيخ الكبير لا تنبت له أسنان ، ولعلّه في الأصل يشير إلى قصة غريبة لأحد المعمّرين وهو نصر بن دهمان الغطفاني جاهلي عاش مائة وتسعين سنة فاسود شعره ، ونبتت أضراسه ، وعاد شابّا ، ولا يعرف في العرب أعجوبة مثله. [ينظر الأعلام للزركلي ٨ / ٢٢].

(٢) أكدّ الأطباء أن حليب الأم يبقى في حالة متوازنة من الحرارة والبرودة ولا يتأثر بالأحوال حرّا وبردا.

(٣) في (ب) : رحمة.

بحاله ، وقد أعدّ الله فيه جميع ما يصلح دينه ودنياه قبل حاجته إليه ، من الجوارح والقدرة ، وجعل كلّ جارحة تصلح لما لا تصلح له الجارحة الأخرى ، فركّب فيه للسماع أذنين ، وللبصر عينين ، وللشم أنفا ، وجعل الفم مشتملا على اللسان والأسنان. وجعل له آلة الذّوق ، والطعام ، والانبعاق (١) في جميع أنواع الكلام ، وسبيلين لإخراج الأذى ، ويدين للبطش واللمس ، ورجلين للمشي ، مع اشتمال جسمه على عروق كثيرة مختلفة المنافع.

وعن جعفر الصادق عليه‌السلام (٢) أنه قال : «جعل الله المرارة في الأذنين ؛ لئلا تدخل الهوامّ في خروقهما إلى الدماغ ، وجعل الملوحة في العينين ؛ لأنهما شحمتان فأمسكهما بالملوحة ؛ لئلا تذوبا ، وجعل الرطوبة في المنخرين ؛ لأن يجد بهما الإنسان ريح الأشياء ، فلو لا رطوبتهما كانا كسائر جسده ، وجعل الحلاوة في اللسان والشفتين ؛ لأن يجد به الإنسان طعم الأشياء ، وجعل بطن الراحة لا شعر فيه ؛ ليحسّ اللمس» (٣) ، ثم قال الصادق : أخبرني بهذا أبي عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فانظر إلى هذه الحكمة البالغة.

__________________

(١) بعق في الحديث انصبّ فيه بشدة. وفي الحديث : «إنّ الله يكره الانبعاق في الكلام ، فرحم الله عبدا. أوجز في كلامه» ، [مختار الصحاح ص ٥٨].

(٢) جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، ولد سنة ٨٠ ه‍ وقيل ٨٣ ه‍ وتوفي ١٤٨ ه‍ ، سادس الأئمة الاثني عشر عند الإمامية ، وإليه ينتسب المذهب الجعفري الإمامي ، وله منزلة رفيعة في العلم. أخذ عنه أبو حنيفة ومالك ، وقال فيه : ما رأت عيني أفضل منه فضلا وعلما وورعا. وهو أشهر من نار على علم. ينظر أعيان الشيعة ج ١ ص ٦٦٠.

(٣) ربما ذكر هذا في كتابه : خلق الإنسان وتركيبه.

وكذلك من نظر في خلق الطاوس وحده اكتفى ، وقد وصفها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في بعض خطبه (١) بما فيه كفاية ، ومن جملته قوله فيها : «فإذا تصفحت شعرة من شعره أرتك حمرة وردية ، وتارة خضرة زبرجدية ، وأحيانا تريك (٢) صفرة عسجدية».

وعلى الجملة فمن نظر في أقل قليل من خلق العالم علم أنّه محكم غاية الإحكام ، ومتقن نهاية الإتقان ، على حدّ يعجز عنه الخلق كلّهم. فثبت أنه قد صح منه الفعل المحكم. ولا شبهة في كونه ابتداء ؛ لأنه خالق الفاعلين ، وإله الأوّلين والآخرين.

وإنما قلنا : بأن الفعل المحكم لا يصح ابتداء إلا من عالم ؛ بدليل أنّ من صح منه ذلك لا بد أن يفارق من تعذّر عليه بمفارقة لو لا ها لما صح منه ما تعذر على الآخر ، على نحو ما تقدم. وتلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه عالما ، وقد بيّنا أنه تعالى أوجد العالم على نهاية الإحكام ؛ فوجب وصفه بأنه عالم ، لأنّ الدليل يطّرد شاهدا وغائبا.

فصل فيما يوافق ذلك ويؤكده من الشرع :

قال الله تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن : ١١] ، وهذا يقتضي أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، لأنّ الخطاب عامّ لا تخصيص فيه ، وقال تعالى في صفة نفسه : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، وقال تعالى : (يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر : ١٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) رقم الخطبة : ١٦٣. ص ٣٩٨. من نهج البلاغة. وبعض النسخ رقم ١٦٥.

(٢) لا توجد (تريك) في لفظ النهج.

وَلا فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٣٨] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدّمنا طرفا من السنة في ذلك.

المسألة الرابعة

ونعتقد أنه تعالى حي. وفيه فصلان :

أحدهما في معنى الحي : وهو المختصّ بصفة ؛ لاختصاصه بها يصحّ أن يقدر ويعلم. والثاني في الدلالة على أنه حي : والذي يدلّ على ذلك أنه قادر عالم. والقادر العالم لا يكون إلا حيّا. وإنما قلنا : بأنه قادر عالم لما تقدم بيانه من الدلالة.

وإنما قلنا : بأنّ القادر العالم لا يكون إلا حيّا ، لأنّ من صح أن يقدر ويعلم لا بد أن يفارق من استحال عليه ذلك ـ كالميت والجماد ـ بمفارقة لولاها لما صح منه ما استحال على غيره ، وتلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه حيّا.

فصل فيما يؤكّد ذلك من جهة الشرع :

قال الله تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [غافر : ٦٥] إلى غير ذلك. وذلك ظاهر من جهة السّنة ، وبه كان يدين النبي الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين.

المسألة الخامسة

ونعتقد أنّه تعالى قديم. وفيه فصلان :

أحدهما في معنى القديم : وله معنيان : لغويّ واصطلاحي. أما اللّغوي : فهو ما تقادم وجوده. يقال : بناء قديم ، ورسم قديم. وعليه يحمل قوله تعالى : (حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس : ٣٩] والعرجون هو شماريخ

النخل ؛ لأنه إذا يبس قوّس. وأما الاصطلاحي : فهو في اصطلاح المتكلمين : الموجود الذي لا أوّل لوجوده (١).

الفصل الثاني في الدلالة على أنه تعالى قديم :

والذي يدل على ذلك : إما أنّه تعالى موجود وهو جنس الحد (٢).

فالذي يدل على ذلك أنّ عدم القدرة على الفعل تمنع من وجود الفعل من الواحد منّا مع وجود ذاته (٣) ، وثبوت علمه وحياته على ما تقدم. وعدم ذات الفاعل أولى بالمنع من ذلك (٤) ؛ من حيث إن حاجتها (٥) إليه هي حاجة الأثر إلى مؤثّره ، وهو أقوى من حاجتها إلى القدرة ، ولأنّ الفعل يدلّ بنفسه على وجود فاعله ؛ لأنه لا بد من تعلّق بين الفعل وفاعله على ما هو ظاهر عند العقلاء ، والتعلّق يحيل العدم ، وقد دللنا على أنّ الأفعال قد وجدت منه تعالى ، ووجودها فرع على وجود ذاته عزوجل ؛ فثبت أنه تعالى موجود.

وإمّا أنّه لا أوّل لوجوده وهو فصل الحد ؛ فلأنه لو كان لوجوده أوّل لكان محدثا ، فإن ذلك هو معنى المحدث ، ولو كان محدثا لاحتاج إلى محدث ، لأنّ المحدث متعلق في العقل بمحدثه كما كانت الكتابة متعلقة بكاتبها ، والنظم بناظمه ، والبناء ببانيه ؛ إذ لا يجوز في العقل وجود أثر لا مؤثّر له ، ولا وجود كتابة لا كاتب لها ، ولا نظم لا ناظم له ، ولا بناء لا باني له. فثبت أنّه لو كان

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة ١٨١.

(٢) جنس الحد ما يدخل فيه المحدود وغيره مثل موجود يدخل كل الموجودات أما الفصل فهو ما يميز المحدود عن غيره وهو هنا قوله لا أوّل لوجوده الذي ذكره في قوله وإمّا الثانية.

(٣) أي الواحد.

(٤) أي من وجود الفعل.

(٥) أي القدرة.

محدثا لاحتاج إلى محدث ، وكذلك يحتاج هذا المحدث الثاني إلى محدث ، ثم كذلك حتى يتسلسل إلى ما لا يتناهى من المحدثين. ومعلوم خلاف ذلك.

فثبت أنه تعالى لا أول لوجوده ، وثبت بذلك أنه تعالى قديم.

فصل فيما يوافق ذلك من جهة الشرع :

قال الله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) [الحديد ٣] ، وقال تعالى : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [غافر : ٦٥]. والحي لا يكون إلا موجودا كما بيّنّاه أوّلا. فثبت أنه موجود لا أوّل لوجوده ولا آخر لوجوده ، وذلك ظاهر من جهة السّنة.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحقّ هذه الصفات ؛ فعندنا أنه يستحقها لذاته ، على معنى أنه لا يحتاج في ثبوتها إلى غيره من فاعل أو علّة (١).

والذي يبطل ثبوتها له بالفاعل : أنّه تعالى قديم ، والقديم لا فاعل له. ولأنّ القديم لو استحقها بالفاعل لكان الكلام في ذلك الفاعل كالكلام في الله تعالى ، فيحتاج في ثبوتها له إلى فاعل ، والفاعل إلى فاعل ، حتى يؤدي ذلك إلى القول بما لا يتناهى من الفاعلين ، وذلك محال ، فبطل أن يستحقّ القديم هذه الصفات بالفاعل ، ولا يجوز أن يستحقّها لعلة واحدة ولا لعلل ؛ لأنها لا تخلو إما (٢) أن تكون موجودة أو معدومة ، ومحال ثبوتها لعلل معدومة ؛ لأنّ

__________________

(١) والكون مفعول للفاعل وليس معلول للعلة كالضوء معلول للشمس التي هي علته ؛ لأن العلة يصدر عنها معلول واحد كالحرارة والضوء من الشمس فلو كان الله علة لما تنوعت الكائنات.

(٢) إمّا ساقطة في (ب) ، وغيرها ما عدا الأصل.

العدم مقطعة الاختصاص (١) ، والعلة (٢) لا توجب [المعلول] إلا بشرط الاختصاص ؛ ولأنّ في تصحيحها إبطالها ، وكلّ ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل ، ولأنّه لو استحقها لعل معدومة لوجب في جميع الذوات أن تكون مستحقّة لمثل ما استحقه من هذه الصفات ؛ لأنّ العدم لا اختصاص له ببعض الذوات دون البعض الآخر ، بل هو مع الكل منها على سواء. وفي علمنا باختصاص بعض الذوات بذلك دون بعض دلالة على أنه لا يجوز ثبوتها له لعلل معدومة ، ولا يجوز ثبوتها له تعالى لعلل قديمة كما تقوله الصفاتية من الأشعرية (٣) ، فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى حي بحياة ، وقادر بقدرة ، وعالم بعلم ،

__________________

(١) أي أن العدم لا يوصف بشيء. والاختصاصات عندهم خمسة أنواع : الأول : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يحله فيوجب له ؛ كاختصاص الكون بالجوهر. الثاني : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يحل محل بعضه ؛ فيوجب لجملته كاختصاص القدرة والعلم ونحوهما بالواحد منا. الثالث : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يوجد على حد وجوده ؛ فيوجب له أو ينفيه ، كاختصاص الإرادة بالباري تعالى ، واختصاص الفناء بالجوهر ، وقد عدّ الإمام يحيى بن حمزة هذا الاختصاص اختصاصين. الرابع : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يحله فيلتبس به ؛ كاختصاص الكون بمحله. الخامس : اختصاص الشيء بالشيء ، بأن يوجد في محله فينفيه ؛ كاختصاص السواد بالبياض ، وكذا جميع المتضادات الباقية المراجعة إلى المحل. اه معراج ، وبعض الأمثلة إنما تصح على رأي المعتزلة البصرية. اه تمت السيد عبد الرحمن شائم.

(٢) كالنار فهي علة للحرارة. إنك عند ما تحاول أن تختبر صحة التعليل ينكشف من المقدمات البطلان.

(٣) هم الذين يثبتون لله صفات زائدة على ذاته سبحانه ، ويقولون بأنها قديمة أزلية ولا يؤلون ما ورد في حق الله من الوجه واليد ونحو ذلك ، حتى وإن أدى إلى التجسيم والتشبيه. ينظر : شرح المواقف ٣ / ٦٨. وفي مقابل هؤلاء الزيدية والمعتزلة ونحوهم ، وهم الذي يقولون : صفة الله عين ذاته مبررين قولهم بأن القول بزيادة الصفة مشكل ؛ لأن معنى زيادة الصفة على الذات أنها غيرها ، وبالتالي فلا بد أن تحل في الذات وهنا محذور الحلول والظرف والمظروف ، كما يقال : إن الصفات الزائدة لا بد وأن تكون متقدمة على الذات أو مقارنة أو متأخرة وكل ذلك محال ويؤدي إلى الكفر ؛ لأن تقدم الصفة معناه أن الذات

وسميع بسمع ، وبصير ببصر ، ومريد بإرادة ، ومتكلم بكلام (١). وكلّ ذلك معان قديمة عندهم ، وقالوا : لا هي هو ولا هي غيره ، ولا هي بعضه ، ولا هي كلّه. وقالوا : لو لا هذه المعاني لما كان على هذه الصفات. والذي يدل على إبطال قولهم وجوه :

أحدها : أنّ في تصحيحها إبطالها ، وكلّ ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل.

وإنما قلنا : إنّ في تصحيحها إبطالها من حيث إنها قديمة عندهم ، فكان يجب ثبوت هذه الصفات في الأزل ؛ لثبوت موجبها في الأزل ، وهو العلل القديمة ، وإذا كانت ثابتة [أي الصفات] في الأزل كانت ثابتة على سبيل الوجوب (٢) ؛ لأنه لا حالة قبل ذلك فتكون فيها جائزة ثم تجب ، وإذا كانت ثابتة له تعالى على سبيل الوجوب استغنت بوجوبها عن العلل القديمة ؛ فثبت أنه يكون في تصحيحها إبطالها ، وإنما قلنا بأنّ كلّ ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل فذلك ظاهر لا يجهله عاقل.

__________________

محدثة ، ومقارنتها يعني تعدد القدماء ، وتأخرها يعني أن الله كان ضعيفا ثم قوي وجاهلا ثم علم وهكذا .. تعالى الله ، فقول الزيدية صفته ذاته تفسير سليم وموفق مع أنهم يوصفون بالمعطلة وليسوا معطلة وإنما فسروا الصفات تفسيرا يليق بجلال الله ويخرج المسلمين من المحاذير المذكورة مع الاتفاق أن لله صفات ورد بها الكتاب السنة ولا يمكن إمكان ذلك ، فافهم.

(١) انظر : رسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري ص ٤ ـ ٢١.

(٢) لأنّ القديم واجب الوجود بسبب قدمه ، وإلا فهو محدث ، والقديم لا يحتاج لعلة ولا غيرها ؛ لأنه لم يسبق بشيء. ولتوضيح ذلك نقول : سلّمنا بأنّ العلل القديمة هي التي أوجدت الصفات لله ، وحينئذ فيجب أن تكون الصفات قديمة ؛ لأن الذي أوجدها قديم ، ثم نقول : ما دامت الصفات قديمة فلا تحتاج لمن يوجدها ؛ لأن القديم بطبعه واجب الوجود بدون شيء ، ولا يصح أن يسبقه شيء وإلا فليس بقديم فانتقض الا دعاء وبطل زعمهم بأن صفات الله لمعان قديمة ؛ لأنّا حاولنا تصحيحها فبطلت كالثوب المهلهل إذا رقعته انفتق ، والعلة كالشمس يصدر عنها المعلول وهو الضوء.

الوجه الثاني : أنه لا طريق إلى إثبات هذه المعاني القديمة ، وكلّ ما لا طريق إليه وجب نفيه.

وإنما قلنا : إنّه لا طريق إلى إثباتها ؛ لأنه لا يدل شيء من أدلة العقول على إثباتها ، وقد دلّ العقل على أنه قادر ، وموجود ، ودلّ الإحكام في الصنع والإتقان على أنه عالم ، ودلّ الدليل المتقدم على أنه لا يكون قادرا عالما إلا وهو حي ، ودلّ على أنّه قديم ، وكذلك سائر الصفات على ما مضى بيانه في بعضها.

والباقي سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى ، وليس في شيء من هذه الأدلة ما يدل على المعاني التي ذكروها ، فثبت أنه لا طريق إلى إثباتها.

وإنما قلنا : بأنّ كل ما لا طريق إليه وجب نفيه ؛ لأنّ إثباتها بغير دلالة يفتح باب كل جهالة.

الوجه الثالث : أنّ تلك المعاني لا تخلو أن تحلّ في الله تعالى أو لا تحلّ. باطل أن لا تحلّ فيه تعالى وتوجب له ؛ لعدم الاختصاص به تعالى ، فكان يجب أن لا توجب له لعدم الاختصاص به.

ثم لو سلمنا أنّها توجب مع فقد الاختصاص فلم تكن بأن توجب له أولى من أن لا توجب له وأولى من أن توجب هذه الصفات لغيره لعدم الاختصاص ، ألا ترى أنّ أحدنا لمّا كان قادرا بقدرة ، وعالما بعلم ، وحيّا بحياة وجب حلول هذه المعاني فيه ؛ ليكون بها قادرا وعالما وحيّا ، وباطل أن تحلّ فيه تعالى ، لأنّ المحالّ كلّها محدثة ، فإنا لا نعني بالمحال إلا المتحيّزات من الجواهر والأجسام ، وقد دللنا على حدوث جميعها. وهو تعالى قديم ، فلا يجوز حلولها فيه ، فكان لا بدّ من أحد أمرين : إمّا أن يكون محدثا لكونه متحيّزا أو محلّا ، وإمّا أن يكون المتحيّز قديما لاحتياج القديم إلى حلوله (١). وكلا الأمرين محال.

__________________

(١) أي حلول المعنى في الذات لتؤثر كما يقولون.

الوجه الرابع : أنّ تلك المعاني القديمة لم تكن بأن توجب له هذه (١) الصفات أولى من أن يوجب تعالى لها ذلك ، لأنه قد اشترك هو وتلك المعاني القديمة في الوجود فيما لم يزل ، فلا اختصاص للبعض بالإيجاب دون البعض ، وذلك محال.

فأما مقالة الأشعرية في إثبات هذه المعاني السبعة (٢) وأنّها قديمة ، وأن الذات هي الثامنة ، فإنها زائدة على مذهب النصارى الذين قالوا : (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] زيادة بيّنة ؛ لأنّ الثمانية أكثر من الثلاثة.

وقولهم : لا هي الله ، ولا هي غيره ، ولا هي بعضه ، فمن المحالات الظاهرة (٣) ؛ لأنّ المعلوم عند كل منصف أنها إذا لم تكن هي الله فقد صارت غيره ، وإذا لم تكن هي غيره فهي هو. فأما البعض فهو غير جائز عليه سبحانه بلا خلاف بيننا وبينهم ، فبطل بذلك قول الصفاتية ، وثبت أنه تعالى لا يستحق هذه الصفات لمعان قديمة.

ولا تجوز له لمعان محدثة ؛ لأنه كان يجب أن يحتاج في حدوثها إلى محدث قادر عالم حيّ ، وذلك لا يجوز.

وإنما قلنا : بأنّه كان يجب أنه يحتاج في حدوثها إلى محدث قادر عالم حي. أمّا أنها تحتاج إلى محدث قادر فلما بينا فيما تقدم أنّ كل محدث يحتاج إلى محدث قادر.

وأمّا أنه يجب أن يكون حيّا فلما بيّنا أنّ كلّ قادر فهو حيّ ، وأمّا أنه يجب

__________________

(١) هذه : ساقطة من (ب) ، (ج).

(٢) المعاني السبعة هي قولهم : حي بحياة ، وقادر بقدرة ، وعالم بعلم ، وسميع بسمع ، وبصير ببصر ، ومريد بإرادة ، ومتكلم بكلام.

(٣) الظاهرة : محذوفة في (ب) ، (ج).

أن يكون عالما ؛ فلأن من جملة هذه المعاني العلم ؛ إذ ذلك هو مذهب الصفاتية القائلين بأنه تعالى عالم بعلم ، والعلم لا يصح وجوده إلا من عالم ، بدليل أنّ الواحد منا إنما يتوصّل إلى تحصيل العلم بما لا يعلمه بعلم ما يعلمه قبل ذلك ، فيتوصّل بالدليل أو بغيره من تذكّر النظر وما أشبهه إلى أن يعلم ما يريد أن يعلمه ؛ ولهذا فإن الصبي والمجنون يتعذر عليهما تحصيل العلوم والمعارف ؛ لأنّ علوم العقل التي هي مبادئ الأدلة والبراهين وأصولها لم تتكامل في حقهما ـ وإن كانا قد يعلمان كثيرا من المعلومات ـ ويصح ذلك من العاقل لتكامل عقله.

فالحكم الذي هو صحة إحداث العلم يثبت بثبوت كونه عالما وينتفي بانتفائه ، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى ، فلا بد من تعلّق ، وأدنى درجات التعلق هو تعلّق الشرط بالمشروط ، فيكون كونه عالما شرطا في صحة إحداثه للعلم ، فثبت أنه تعالى لو استحقها لعلل محدثة لوجب أن تحتاج تلك (١) العلل في حدوثها إلى محدث قادر عالم حيّ.

وإنما قلنا : بأنّ ذلك لا يجوز ؛ لأنه لا يخلو أن يكون هو الله أو غيره. فالأول باطل ؛ لأنه لا يصح منه إحداثها حتى يكون على هذه الصفات فيكون قادرا عالما حيّا ؛ لما تقدم بيانه ، وهو لا يكون على هذه الصفات حتى يحدثها فيقف كلّ واحد من الأمرين على الآخر ، فلا يحصلان ، ولا واحد منهما.

ولا يجوز أن يحدثها غيره ؛ لأنّ ذلك الغير كان يجب أن يكون قبل إحداثها مختصا بهذه الصفات ؛ فكان يجب أن يحتاج في ثبوتها له إلى علل أخرى محدثة ، ثم كذلك حتى يؤدي إلى القول بما لا يتناهى من الفاعلين والعلل ، وذلك محال ، أو إلى ثبوت بعضها دون بعض وذلك باطل ؛ لعدم

__________________

(١) تلك : ساقطة من (ب).

المخصّص ، فيجب نفي المقدّر المفروض ، والاقتصار على المحقّق المعلوم ، والقضاء بأنّ الله تعالى يستحقّ هذه الصفات لذاته دون أن يستحقّها لعلة ولا لعلل ، بحمد الله تعالى.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحق هذه الصفات لذاته ـ ثبت أنه عالم بجميع المعلومات على كل الوجوه التي تصح أن تعلم عليها ؛ لأنه لا اختصاص لذاته ولا لما هو عليه في ذاته من صفاته الواجبة الثابتة لذاته ببعض المعلومات دون بعض. فإمّا أن يعلمها على العموم فهو الذي نقول ، أو لا يعلم شيئا منها انتقض القول بكونه عالما ، وقد ثبت أنه تعالى عالم.

وإمّا أن يعلم بعضها دون بعض من دون مخصص ؛ فذلك لا يجوز ؛ لأنّ فيه إثبات الأحكام بغير دلالة ، وذلك يفتح باب كل جهالة ، وقد قال تعالى : (وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التغابن : ١١] ، وهذه آية عامة لم يخصّها شيء من الأدلة السمعية ولا العقلية ، وإنما المخصّص لكون الواحد منّا عالما هو العلم ، فإنّ الواحد منا عالم بعلم. والعلم الواحد لا يتعلق على سبيل التفصيل بأزيد من معلوم واحد ، وإلا تعدى إلى أكثر من ذلك ، وذلك محال.

يبين ذلك ويوضحه أنّ العلم الواحد لو تعلق بمعلومين أو ثلاثة فصاعدا ثم تعلّق الجهل بأحدهما لم يخل أن ينفي ذلك العلم الواحد الذي تعلق بجميعها فهذا محال ؛ لأنه يؤدي إلى أنّ الجهل بكون زيد في الدار يضاد العلم بكون عمرو في المسجد أو لا ينفيه ، وذلك أيضا محال ؛ لما بينها من التضاد ، أو ينفيه من وجه دون وجه وذلك محال لأنه يكون موجودا معدوما في حالة واحدة ، فثبت أن ذلك لا يجوز.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحق هذه الصفات لذاته ـ وجب أن يكون قادرا على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس ، في كل وقت ،

على ما لا نهاية له ؛ لأنّه لا اختصاص لذاته ولا لما هو عليه في ذاته من صفاته الواجبة بجنس من المقدورات دون جنس ، ولا بقدر من الأجناس دون قدر على نحو ما مضى بيانه في كونه عالما.

وإنّما المخصّص لكون الواحد منّا قادرا على البعض دون البعض هو القدرة ، فإن الواحد منّا قادر بقدرة محدثة ، محدثها الله تعالى. والقدرة تحصي (١) مقدورها في الجنس والعدد.

أمّا الجنس فعشرة أجناس : خمسة من أفعال القلوب : وهي الاعتقادات ، والإرادات ، والكراهات ، والظنون ، والأفكار. وخمسة من أفعال الجوارح : وهي الأكوان ، والاعتمادات ، والتأليفات (٢) ، والأصوات ، والآلام.

والذي يدلّ على ذلك أنّ الواحد منّا لو دعاه أوفر داع إلى إيجاد ما عداها من الأعراض لتعذّر عليه إيجاده على كل حال من الأحوال ، وفي كل وقت من الأوقات.

وأما حصرها له في العدد ؛ فلأنّ القدرة لا تتعلق (٣) في الوقت الواحد في

__________________

(١) في (أ) ، (ج) : تحصر. و (د) ، (ب) : يحصر. و (ه) : حصر.

(٢) ينظر الكلام على هذه الأجناس في رياضة الأفهام للإمام المهدي في مقدمة البحر الزخار. الاعتقادات : مثل الجنة حق ونحوه. والإرادات : يريد الشرب ونحوه. والكراهات : كراهة الروائح المنتنة. والظنون : الظن واليقين والوهم والشك. والأفكار : سنحت فكرة. والأكوان : يفعل أو لا يفعل. ينظر أو لا ينظر. والاعتمادات : كالساكن لا يخرج من السكون إلى الحركة إلا بواسطة ؛ لأنه لا يمكن التقاء النقيضين في جزء فيقال فيه : متحرك ساكن ؛ فافترضوا شيئا ينقل الشيء إلى صفة وسموه الاعتماد ، وهذا أوضح وجوه معنى الاعتماد. والتأليفات : الجمع بين شيئين ؛ فكل شيء كان متفرقا ثم اجتمع كذرات الكون.

(٣) في (ب) فلأنّ حدّ القدرة لا يتعلق.

المحل الواحد من الجنس الواحد على الوجه الواحد بأزيد من مقدور واحد ، إذ لو تعدّت ولا حاصر لتعدّت إلى ما لا نهاية له ، ومعلوم خلاف ذلك ؛ لأنّ القول بتعدّيها يزيل التفاضل بين القادرين ، وقد علمنا خلاف ذلك ؛ وقد ثبت أنه تعالى قادر لا بقدرة ، فيجب أن لا ينحصر مقدوره في الجنس ولا في العدد.

وإذ قد ذكرنا (١) أن بعض العدلية قد ذهب إلى أنه تعالى غير قادر على أعيان مقدورات العباد ؛ فلأنّ عين المقدور الواحد يستحيل أن يكون مقدورا لقادرين ، والله تعالى إنّما يوصف بكونه قادرا على ما يصح دون ما يستحيل.

وإنّما قلنا : بأنّه يستحيل مقدور بين قادرين ؛ لأنّه لو كان صحيحا ثم دعى أحدهما داع مكين إلى إيجاد ذلك المقدور ، والآخر صرفه صارف مكين عن إيجاده لم يخل إمّا أن يحصل مراداهما (٢) ، أدى ذلك إلى أن يكون موجودا بحسب داعي أحدهما ، وإلى أن يكون معدوما بحسب صارف الآخر ، فيكون موجودا معدوما وذلك محال. أو لا يحصل مراداهما جميعا وذلك محال ، لأنّه يخرج عن كونه مقدورا لواحد منهما. أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر فذلك محال ؛ لأنّ من حق القادر أن يحصل فعله عند دعاء الداعي المكين ، وأن لا يحصل عند حصول الصارف المكين. وقد أدى إلى هذه المحالات القول بمقدور بين قادرين ، فيجب أن يكون محالا ، وفيه نظر (٣).

__________________

(١) لعله يريد قوله في أول الفصل : أجناس المقدورات ، تعليق على قول بعض العدلية يقال بالنظر إلى قدسيته لا يعجزه شيء ، وبالنظر إلى حكمته لا يفعل مقدورات عباده لئلا يبطل الثواب والعقاب ، ثم إن عين مقدور العبد يستحيل أن يكون فعلا لغيره وهو ما قصده بعض العدلية.

(٢) في بقية النسخ (مرادهما).

(٣) المقدور بين قادرين متفقين لا مختلفين يمكن حصوله وفاقا لأبي الحسين البصري من المعتزلة ، وخالف بعض متأخري الزيدية كالمهدي عليه‌السلام وغيره من الشيعة وجمهور المعتزلة ، فقالوا : إنه محال فلا تتعلق قدرة قادر بعين ما تعلقت به قدرة قادر آخر ،

المسألة السادسة

ونعتقد أنّه تعالى سميع بصير. وفيها فصلان :

أحدهما في معنى السميع البصير : ومعناه أنه حيّ لا آفة به (١). والثاني في الدلالة على أنّه تعالى سميع بصير وإذا أردنا ذلك تكلمنا في مطلبين : أحدهما : في الدلالة على أنه تعالى حي وهذا قد مضى بيانه.

والمطلب الثاني : في الدلالة على أنه تعالى لا آفة به.

وبيانه أنّ معنى الآفات هاهنا : هو فساد تركيب الحواس ، بدليل أنه لا يجوز إثبات ذلك بأحد اللفظين ونفيه باللفظ الآخر ، فلا يجوز أن يقال : بفلان آفة ، وما فسدت له حاسّة ، وعلى العكس من ذلك؟

وقلنا : «هاهنا» احترازا من آفات الزرائع وسائر الجمادات ، والحواسّ بعض من أبعاض الحي ، وجزء من أجزائه. والأبعاض والأجزاء لا تجوز إلا على الأجسام ، وهو تعالى ليس بجسم لما بيّنّاه من حدوث الأجسام وقدمه تعالى.

وإذا ثبت أنّه تعالى حيّ لا آفة به فهو سميع بصير ، لأنّ أهل اللغة يصفون من هذه حاله بأنه سميع بصير ، وإن لم يكن عالما بالمسموعات والمبصرات ،

__________________

بل إنما تتعلق بجنسه. مثال ذلك : الخشبة التي وزنها مائة كيلو فحملها رجلان فهي في الظاهر مقدورة بين قادرين وليس كذلك ؛ لأن كل واحد حمل حصته فقط ، بدليل أن الواحد لم يكن قادرا عليها ، وإنما لم يتميز حصة كل واحد فقط. وقالوا سواء في ذلك القادر بقدرة أو القادر بغير قدرة وهو الله ؛ فلا يقدر عندهم على عين مقدور عبده ؛ لأنه من المستحيل وكأن صاحب الينابيع يرى صحة مقدور بين قادرين كمثال الخشبة. ينظر عدة الأكياس ١ / ٢٢٧.

(١) قال الإمام القاسم بن محمد عليه‌السلام في الأساس ص ٤٠ : جمهور أئمتنا عليهم‌السلام وهما بمعنى عالم. بعض أئمتنا عليهم‌السلام وبعض شيعتهم والبصرية بمعنى حي لا آفة به.

بأن يكون ساهيا أو نائما. ويثبت هذا الوصف بما ذكرناه ، وينتفي بانتفائه على اصطلاحهم ومواضعتهم ؛ ولهذا لا يصفون الأصمّ والأعمى بذلك ـ وإن كانا يعلمان المسموعات والمبصرات قبل أن يصيبهما العمى والصّمم ـ وكذلك من لا يكون حيّا فإنهم لا يصفونه بأنه سميع بصير.

فثبت بذلك ما ذكرناه من أنه تعالى سميع بصير. وقد قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة : ١] ، فصار بذلك مؤكّدا لأدلة العقل.

فكمل بكمال هذه المسألة مسائل الإثبات في التوحيد ، ويلحق بذلك ما تتعلق به الصّفاتية أهل الجهالات من ظواهر الآيات (١) ، من ذلك قول الله تعالى : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [فاطر : ١١] ، قالوا : فقد أثبت العلم لنفسه.

والجواب : أنّ الظاهر لا تعلّق لهم به ؛ من حيث إنّه يقتضي أنّ الوضع كان بعلمه ، والحمل كذلك أيضا ، فيكون العلم آلة للحمل والوضع ؛ لأنّ ذلك هو ما يقتضيه ظاهر اللفظ ، وهذا مما لا خفاء (٢) لفساده ، ولا يقوله الخصم أيضا.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥] (٣) فظاهره يقتضي أن علمه يتبعّض لدخول «من» عليه ، وهي موضوعة في اللغة للتبعيض.

[وقوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٤)

__________________

(١) شرح المواقف ٣ / ١١٣.

(٢) في بقية النسخ لا خفا.

(٣) في (ه) الظاهر أن هنا سقط ، ولعله : ولا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلومه ، ومن ذلك قوله تعالى : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) وظاهره يقتضي .. إلخ.

(٤) ذكر في هامش الأصل وهامش (ب) : الظاهر أنّ هاهنا ساقطا وأن الخصم قد احتج

[النساء : ١٦٦] ومتى عدل الخصم عن ظاهر هذا الخطاب سقط تعلقه ، وإذا سقط تعلقه ، قلنا : إنّ معنى ذلك أنّه تعالى أنزله وهو عالم به ، كما بينا ذلك في «كتاب إرشاد العباد إلى سويّ الاعتقاد» ، وبيّنا الوجوه التي تحتمل ذلك من جهة اللغة ، ثم أبطلنا جميعها إلا ما ذكرناه هاهنا.

[ومن ذلك قوله تعالى : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٤]. والجواب : أنه لا تعلق لهم به من حيث إنّه يقتضي أنه آلة الإنزال ، وهذا مما لا خفى في فساده] (١). ويجوز أن يكون معنى قوله : (بِعِلْمِ اللهِ) يعني وهو عالم أنه لا يقدر أحد على معارضته ، وعالم بوجوهه التي أوقعه عليها.

وبعد : فلفظة العلم مصدر [من] (٢) قولهم : علم يعلم علما ، والمصدر يتردد بين الفاعل والمفعول ، فتارة يراد به الفاعل ، وتارة يراد به المفعول ، يقال : فعلت كذا بعلمي ، أي وأنا عالم به ، ويقال : ليكن جميع ما يفعله فلان بعلمك ، أي لتكن عالما بجميع ما يفعله. ويقال : علم الهادي (٣) إلى الحق عليه‌السلام ، أي معلومه ، وكذلك علم الشافعي وأبي حنيفة.

وإذا كثر استعمال ذلك تارة عن العالم وتارة عن المعلوم ، وجب صرفه في كل موضع إلى ما يليق به من المعنى دون إثبات المعنى الذي هو العرض.

ومن ذلك قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ

__________________

بقوله تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ، أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ). الآية. والله أعلم.

(١) ما بين القوسين ساقط في الأصل. وهو موجود في (ب).

(٢) في (ب) : لا توجد من ، فيكون مصدر مضاف.

(٣) في بقية النسخ : ويقال : هذا علم الهادي.

عَلى عَقِبَيْهِ) الآية ، [البقرة : ١٤٣]. وقوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ) [سبأ : ٢١] الآية ، وقوله عزوجل : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] ، وقوله سبحانه : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، وقوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

فالمخالفون تعلقوا بهذه الآيات ، وقالوا : إنه لم يكن عالما قبل ذلك ، وإنما حدث له العلم ؛ لأنه لا يجوز أن يقول مثل ذلك وهو به عالم.

والجواب : عن ذلك أنّ ما ذكروه لا يصح ؛ لأنّ العلم بحالهم وما كلّفهم لو لم يتقدم لقبح التكليف أصلا ؛ لأنه إنما يحسن من المكلّف أن يأمر (١) بما يعلم حسنه ، وأنّ المكلّف متمكن من فعله على الوجوه التي كلّف. فكيف يصح مع هذا أن يكون علمه بحالهم حادثا بعد التكليف عند فعلهم ما كلّفوا.

على أنه ليس في ظواهر هذه الآيات ما ينبئ عن كونه غير عالم بما سيكون منهم ، وإنما فيه أنهم لا يدخلون الجنة حتى يعلم المجاهدين منهم ، وحتى يعلم من يؤمن. والعالم بالشيء (٢) إنما يكون عالما به إذا علمه على ما هو به.

فالله تعالى إنما يعلم المجاهد مجاهدا إذا جاهد ، ويعلمه مؤمنا إذا آمن ، وليس في ذلك نفي كونه عالما بمن سيؤمن وسيجاهد ، وهذا موضع الخلاف.

فأما معنى هذه الآيات فهو أن أهل اللغة لفصاحتهم ، من عادتهم أن يخبروا عما يريدون الإخبار عنه بأن يعلّقوا الخبر والوصف بما يوجد عند وجوده ، وذلك يختلف : فمن ذلك تسميتهم النبوة رحمة ، في قوله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) [الزخرف : ٣٢] فسمّى النبوة رحمة لمّا كان إيتاؤه إيّاها

__________________

(١) في (ب) : يأمرهم.

(٢) في (ب) : بشيء.

رحمة على العباد (١). ومن ذلك الإخبار عن الشيء بما لا يحصل إلا معه وبه ، كما أخبر عن الوطء بالملامسة تارة (٢) ، وباللمس أخرى (٣) ، وبالمباشرة تارة.

ومن ذلك الإخبار عن الشيء بما ينبئ عنه ويدل عليه أو يقوم مقامه ، نحو تسمية الإشارة الدّالة على صوم مريم قولا لمّا كانت تلك الإشارة في الإخبار عن صومها تقوم مقام القول. ومن ذلك أن يقام الإخبار عما معه يحصل الثاني أو يتعلق به ، نحو قوله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] ، أخبر بذلك عن حفظهما ونصرهما ؛ إذ كان النصر والحفظ قد يقعان عند العلم (٤) لحاجة (٥) الغير إليهما. ومن ذلك الإخبار عن الشيء بما يحصل عند حصوله لا محالة ، وذلك نحو تعليق حصول الشيء بعلم الله تعالى الذي لا بد أن يعلمه كائنا عند كونه ، وذلك نحو قولهم : لم يعلم الله من ذلك قليلا ولا كثيرا ، قصدا لنفي كونه ، فلمّا كان جميع ما يحصل ويكون يعلمه الله (٦) ـ علّق حصوله به على ما بيناه ؛ وإذا كان كذلك فقوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) [آل عمران : ١٤٢] معناه : ولمّا تجاهدوا وتصبروا (٧) ؛ لأنّه لا فرق عند أهل اللغة العربية بين أن يقول : ولمّا تجاهدوا

__________________

(١) في (ب) : للعباد.

(٢) في (ب) بحذف تارة.

(٣) الأظهر بالمس إشارة لقوله سبحانه : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ؛ لأن الملامسة هي اللمس. والملامسة يشير إلى قوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ).

(٤) في (ب) و (ج) عن العلم.

(٥) في (ب) بحاجة وهو الأنسب.

(٦) في (ب) ، (ج) : بعلم الله تعالى.

(٧) في (ب) : يجاهدوا ويصبروا ، بالياء.

وتصبروا (١) ، وبين أن يقول : ولمّا يعلم الله منكم الجهاد والصبر ، بل هما سواء ، لأنّ علم الله تعالى بالجهاد هاهنا عبارة عن حدوث الجهاد ، وعلم الله بالصبر عبارة عن حدوث الصبر نفسه ؛ فمعنى حصول علمه بهما هو حصولهما ؛ لأنهما لا يحصلان إذا حصلا إلا بعلم الله ، فسواء قولك : يكون كذا إن علم الله منك الجهاد والصبر ، وقولك : إن جاهدت وصبرت.

وكذلك قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] ، معناه ليتميز المتّبع من المنقلب ؛ لأنه إذا اتبع هذا وانقلب هذا علمه الله كائنا ، وإن كان قبل ذلك عالما بما سيكون من ذلك ؛ لا أنه لا يعلم كون هذا متّبعا وهذا منقلبا إلا بعد وجود الاتباع والانقلاب منهما ، فسقط تعلّق المخالف بذلك في حدوث العلم ، وصح ووضح أنه إنما علّقه به إخبارا عن حدوث الفعل المعلّق به العلم. وكذلك قوله تعالى : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) [سبأ : ٢١] ، يجب حمله على هذا المعنى فقط ، من حيث إنّ كون (٢) سلطانه عليهم لا يقتضي علمه بالمؤمن والكافر ؛ لأنه ليس بسبب له ولا بعلة موجبة (٣) ، وإنما يقتضي ذلك من حيث ما ذكرناه (٤) ، وهو أنّ بدعوته إياهم يتميّز المؤمن من الكافر ، والمخلص من المرتاب ، فيعلم الله المؤمن حاصلا منه الإيمان والكافر حاصلا منه الكفر ، وإن كان عالما قبل ذلك بما يكون منهما ،

__________________

(١) في الأصل تجاهد وتصبر وهو مخالف للسياق ، ولذلك آثرنا اعتماد نسخة (ب) ، بإثبات واو الجماعة.

(٢) في (ب) : أن يكون.

(٣) في (ب) : توجبه.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) من حيث ذكرناه.

إلا أنه لا يجوز أن يعلمه مؤمنا وهو لم يؤمن بعد ، كما لا يجوز أن يعلمه أسود إلا بعد كونه أسود ، وهذا التفسير مستمر على ما بيناه أوّلا.

وكذلك قوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦] احتجوا لقولهم بأنّ (١) حدوث العلم كان مع حدوث التخفيف ، فكما أنّ التّخفيف حدث الآن فكذلك القول في العلم.

والجواب : أنّ ظاهر اللفظ لا يقتضي ما ادّعوه ؛ لأنّ الواو قد تكون عطفا ، وتكون ابتدائية ، وتكون حالا ، إلى غير ذلك. وليست في هذا الموضع بعطف ؛ لأنها لو كانت عطفا لوجب أن يكون العلم وجد بعد التخفيف عند من يقول : إنّ الواو في العطف تقتضي الترتيب ، أو تقتضي الجمع عند من يقول : إنها لا تقتضيه ، وليس ذلك بقول لأحد ، فسقط قولهم. وعلى أنّ المعلوم أنه تعالى أراد أنّ التخفيف حدث بعد العلم بأنّ فيهم ضعفا ، فإذا صح هذا فالآية توجب أن يكون التخفيف حادثا ، وليست توجب حدوث العلم ، ويكون إنما أوجب التخفيف لأجل حدوث الضعف ، لا لأجل حدوث العلم ؛ لأنّ الضعف لو كان قبل ذلك حادثا لوجب أن يكون العلم به حاصلا ، ولوجب أن يخفّف قبل ذلك [الوقت] (٢) ، فلما فسد ذلك صح أن الضعف حدث الآن ، فإن التخفيف إنما وجد عقيب حدوث الضعف ، وأن العلم بذلك غير حادث ، فإنما علقه على ما بيناه من حيث لا يجوز أن يعلم الضعف ولمّا يحصل ، وإنما يعلم الضعف موجودا عند وجوده على ما بيناه.

ولا يقدح ذلك في كونه عالما بأن الضعف سيوجد ويحصل ولا ينافيه ، لأنه لا ذكر له في الخطاب ، ولا يفهم من صريحه ولا من معناه ولا من إشارته ولا مفهومه ولا من فحواه.

__________________

(١) في (ب) بقولهم أنّ.

(٢) الوقت : تعليقة في (ب).

وكذلك قوله تعالى : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [يونس : ١٤] ، فإنه لا يقتضي أنه لم يكن عالما بذلك ، بل يوجب الإمهال والإنظار ، وقد تضمن ذلك التهديد ، ومعناه لينظر (١) إلى عملكم موجودا فيثيبكم أو يعذبكم على ما يحصل من أعمالكم ؛ لأنه لا يجوز أن يعذبهم على علمه بما سيعلمون ؛ لأنه ليس بعمل لهم قبل فعله (٢).

وكذلك قوله تعالى : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، فإن «لعلّ» في هذا الموضع (٣) توضع موضع لام كي ، وذلك شائع في لغة العرب ، فيجب حملها على هذا المعنى (٤).

ومما تعلقوا به قول الله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [فصلت : ١٥] ، قالوا : فقد أثبت لنفسه القوّة ، وذلك يوجب صحة القول بالصفات (٥).

__________________

(١) في (ب) : لننظر إلى عملكم فنثيبكم ونعذبكم ، وفي (د) : أو نعذبكم.

(٢) ينظر الكشاف ٢ / ٣٣٣.

(٣) في (ب) في مثل هذا الموضع.

(٤) ينظر معاني القرآن للأخفش ٢ / ١٣١ ، والدر المصون ٨ / ٤٣ ، وقال : قوله : لعله «فيه أوجه : أحدها : أن لعل على بابها من الترجي ، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون عليهما‌السلام ، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما في إيمانه ، اذهبا مترجيين طامعين ، وهذا معنى قول الزمخشري ، ولا يستقيم أن يرد ذلك في حق الله تعالى ؛ إذ هو عالم بعواقب الأمور. وعن سيبويه : كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى ؛ فهو من الله واجب ، يعني أنه مستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى. والثاني : أن لعل بمعنى كي ، فتفيد العلة. وهذا قول الأخفش ، قال كما تقول : اعمل لعلك تأخذ أجرك ، أي : كي تأخذ. والثالث : أنها استفهامية ، أي : هل يتذكر أو يخشى؟ وهذا قول ساقط ، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى ، كما يستحيل الترجي ؛ فإذا كان لا بد من التأويل ، فجعل اللفظ على مدلوله باقيا أولى من إخراجه عنه».

(٥) ينظر تفسير الفخر الرازي مج ١٤ ج ٢٧ ص ١١٣ حيث قال : احتج أصحابنا بهذه الآية على إثبات القدرة لله ، فقالوا : القوة لله تعالى.

والجواب : أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون له قوة شديدة ، والشدة إنما هي الصلابة ، ولا يجوز وصف القوى والأعراض بالشدة والصلابة على الحقيقة.

وبعد فالقوى إنما تستعمل في الأجسام ذوات الجوارح والمحتملة للأعراض ، فيقال : فلان ذو قوة ، وإنه لذو قوة شديدة إذا كانت جوارحه متينة مكبّدة (١) ، صلبة الأعصاب (٢) ، غير رخوة ، وكل ذلك ما لا يقولون به ، وعلى أن ظاهر الآية يقتضي أن يكونوا يعلمون أنه أشدّ منهم قوة من حيث علموا أنه خلقهم. فالواجب أن ينظروا ، فإن كان خلقه إياهم يقتضي أنّ له قوة ويدل عليه قضي به ، وإن لم يدل عليه ودل على غيره مما يمكن صرف الآية إليه مما هو مجاز وجب رده إليه. ومعنى ذلك أنه تعالى أقوى منهم ، أي أقدر (٣) ، وذلك شائع في اللغة العربية ، فإنّ ذلك يجري مجرى قول القائل : فلان أشدّ من فلان بأسا وقوة ، فلا يخطر ببال أحد من أهل اللغة أن هناك معاني ، بها صار أقوى ؛ لأنهم لا يعرفون المعاني التي أثبتها المتكلمون ، وإنما يقصدون به أنه أقدر منه على الأمور وأقوى ، فأراد الإخبار عن كونه قادرا على حدّ لا يساويه قادر في ذلك ، فيجب حمل كلامه على المعنى اللغوي ؛ لأنه نزل على اللغة العربية ، فقال تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) [الشعراء : ١٩٥] ، فيجب حمله على ذلك دون ما ذكروه من الأعراض.

__________________

(١) الكبد ـ بفتح الكاف والباء : الاستواء والاستقامة. وفي حديث الخندق : «فعرضت كبدة شديدة» بسكون الباء. وهي القطعة الصلبة من الأرض. [تاج العروس ٥ / ١٢١٨].

(٢) في (ب) مؤكدة صلبة الأعضاء وفي هامش (ب) مبنية مؤكدة. وفي هامشها أيضا : مكينة قال نسخة.

(٣) أنظر الكشاف للزمخشري ٤ / ١٩٣.

وبعد : فإن صحة السمع موقوفة على أنه عالم بقبح القبيح ، وغنيّ عن فعله ، وعالم باستغنائه عنه ، لئلا يفعل (١) الكذب والتلبيس والتغرير ، وذلك فرع على أنه عالم بجميع المعلومات ، ولا (٢) يصح ذلك إلا متى كان عالما لذاته ، دون ما قالوه : من أنه عالم بعلم. فصحة العلم إذن مبنية على هذه المسألة (٣) ، وبطلان مذهبهم فيها ، واستدلالهم بالسمع على ذلك هو استدلال على الأمر بما لا يصح إلا بعد بطلانه.

المسألة السابعة

ونعتقد أنه تعالى لا يشبه الأشياء

والذي يدل على ذلك أنه لو أشبهها لوجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا ، وذلك لا يجوز.

وإنما قلنا : بأنه كان يجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا ؛ لأنّ القسمة في ذلك صحيحة ؛ لترددها بين النفي والإثبات.

وبيان ذلك أن الشيء لا يخلو أن يثبت له صفة الوجود أم لا. إن لم تثبت له صفة الوجود ؛ فهو المعدوم : وهو المعلوم الذي ليس بموجود ، هذا عند القائلين (٤) بأن المعدوم شيء وذات يعلم بانفراده.

__________________

(١) في (ج) لأنه لا يفعل.

(٢) في (ب) فلا.

(٣) في هامش (ب) : على صحة هذه المسألة.

(٤) هو رأي الجمهور من المتكلمين كما ذكر ذلك حميد في الوسيط [خ ٢٢] ، وخالف في ذلك الأشعرية وبعض المعتزلة. ينظر البحر الزخار ١ / ٩٩ ، والمعالم الدينية للإمام يحيى ابن حمزة ٦٥.

وإن تثبت له صفة الوجود فلا يخلو أن يكون لوجوده أوّل ، أو لا ، إن لم يكن لوجوده أوّل فهو القديم تعالى ، وإن كان لوجوده أوّل فهو المحدث. ثم هو لا يخلو أن يشغل الحيّز عند وجوده ، أو لا. إن لم يشغل الحيّز فهو العرض. وإن شغل الحيز عند وجوده ، فلا يخلو أن يقبل التّجزّؤ والانقسام ، أو لا. إن لم يقبل التجزؤ والانقسام فهو الجوهر ، وهو المتحيز الذي لا يقبل التجزؤ ، وإن قبل : التجزؤ والانقسام ؛ فلا يخلو أن يقبله في الامتدادات الثلاثة ـ وهي الطول والعرض والعمق ـ أو لا. إن قبله فيها جميعا فهو الجسم ، وهو مشتمل على ثمانية جواهر.

والجسم هو الجواهر المؤتلفة طولا وعرضا وعمقا ، فإن لم يقبله في جميعها فلا يخلو أن يقبله في امتدادين منها أو لا ، بل في امتداد واحد. إن قبله في امتدادين منها فهو الجواهر المؤتلفة طولا وعرضا ، وقد يعبّر عنه بالسطح وبالصفيحة ، وإن قبله في امتداد واحد فهو الجواهر المؤتلفة طولا ، وهو المعبر عنه بالخط. فثبت أنه تعالى لو أشبهها لوجب أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا.

وأما الأصل الثاني : وهو أنه ليس بواحد منها.

أمّا أنه تعالى ليس بجسم فلوجوه ثلاثة : منها أنه لو كان جسما لكان محدثا كما ثبت بالحدوث (١) في سائر الأجسام من السماء والأرض ونحوهما ؛ لأنّ المثل يجوز عليه ما يجوز على مثله ، وقد ثبت أنه تعالى قديم ، لو لا ذلك لاحتاج إلى محدث آخر إلى غير غاية ، وهذا محال.

ومنها أنه لو كان جسما لوجب أن لا يصح منه فعل الأجسام [خلقها] ، كما لا يصح فعل شيء منها من سائر الأجسام ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على أنه ليس بجسم.

__________________

(١) في بقية النسخ الحدوث.

ومنها أنه لو كان جسما لكان يجب أن لا ينفكّ عن الهيئة والصورة ، وذلك يحوجه إلى مصوّر ومقدّر ، وقد ثبت قدمه.

وأمّا أنه تعالى ليس بجوهر فنفصّل الكلام فيه ، فنقول : إمّا أنه ليس تعالى بجوهر على الاصطلاح اللّغوي ، وهو أصل الشيء وسنخه (١). يقال : جوهر هذا الثوب جيد ، وجوهر هذا الثوب رديء ؛ أي أصله ، فهذا لا يجوز على الله تعالى ؛ لأن أصل الشيء من جنس ذلك الشيء. والله تعالى ليس بجسم على ما تقدم بيانه.

وأمّا أنه ليس بجوهر على اصطلاح المتكلمين وهو المتحيّز الذي لا يتجزأ ولا يتبعّض. فالذي يدل على أنه تعالى ليس بجوهر على هذا المعنى ، أنّا قد بيّنّا أن الله تعالى قد أوجد العالم وفعله ، وبيّنّا أن الفعل لا يصح إلا من حي قادر ، والجوهر ليس بحي ولا قادر ، ولأنّ الجوهر محدث كائن في الجهات ، فلو كان الله تعالى جوهرا بهذا المعنى لجاز عليه ما يجوز على الجوهر من الأكوان والحالات ، ولما انفك عن الحوادث الجاريات ، وهذا لا يجوز عليه ؛ لأنا قد بيّنّا حدوث ما هذه حاله ، وبينا أنه تعالى قديم ، فلا يجوز أن يكون جوهرا بهذا المعنى. وأمّا أنه ليس بجوهر على اصطلاح الفلسفيين وهو الموجود لا في موضع (٢) فإن هذا المعنى وإن كان ثابتا في الله تعالى فإنّ وصفه به لا يجوز ؛ لأنّ لفظة الجوهر متى أطلقت لم يسبق إلى أفهام الأصوليين إلا ما ذكرناه في اصطلاحهم ، وإلى أفهام اللّغويين ما ذكرنا ثبوته في لغتهم ، وكلاهما لا يجوزان على الله تعالى ؛ فلهذا قلنا : إنه لا يجوز وصفه تعالى بأنه جوهر.

__________________

(١) في (ب) وشبحه.

(٢) في الأصل موضوع ، وكتب بالهامش موضع ليطابق كل النسخ ، ولعل كلمة موضوع سبق قلم ، إذ لا معنى لها ، ولذلك لم نثبتها.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ، لم يجز أن يكون محلّا لشيء من الحوادث أصلا ، خلافا للكرّاميّة (١).

والذي يدل على ذلك وجهان : أحدهما أنه لو كان محلّا لشيء منها لوجب أن يكون متحيّزا ؛ لأنّ الحلول لا يصح إلا في المتحيّزات ، ولو كان متحيّزا لكان محدّثا لما بينا أنّ جميع المتحيزات محدثة. وقد ثبت قدمه تعالى ، فاستحال أن يكون محلّا.

الوجه الثاني : أنه لو كان محلّا لشيء من الحوادث لأدّى إلى أحد باطلين : إمّا أن يكون محدثا ؛ لحدوث الحوادث الحالّة فيه.

الثاني أن تكون الحوادث قديمة ؛ لكون المحل قديما ، وكلا الأمرين محال ، فما أدى إلى المحال وجب أن يكون محالا. فثبت أنه تعالى ليس بمحلّ.

وأما أنه تعال ليس بعرض ، فلأنه إن أريد بذلك ما يفيده لفظ العرض في اللغة ، وهو ما يعرض في الوجود ويقلّ لبثه ، كما قال تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤] أي قليل البقاء ، وكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدّنيا عرض حاضر ، يأكل منها البرّ والفاجر» (٢) ، أي قليلة البقاء. فهذا لا يجوز على الله تعالى ، لأنه تعالى قديم كما تقدم بيانه.

__________________

(١) ينظر تجريد الاعتقاد ١٨٠ ، والإرشاد للجويني ٦١ ، ٦٣. الكرامية : نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرّام السجستاني الزاهد. كان من عباد المرجئة ت ٢٥٥ ه‍. وهم فرقة جمعوا بين الجبر والتشبيه ، ومنعوا تكليف ما لا يطاق ومقارنة القدرة والمقدور. ينظر جامع الفرق ١٥٩.

(٢) تفسير القرطبي ٥ / ٢١٨ ، والعرض ـ بسكون الراء ـ ما سوى الدنانير والدراهم. فكل عرض عرض وليس كل عرض عرضا. أما العرض ـ بفتح الراء ـ فهو الألوان ونحوها. والهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ١٨٨ بلفظ : «أيها الناس إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر».

والقديم واجب الوجود في كل حال ، من حيث إنه موجود لذاته كما تقدم بيانه ، والموجود للذات يجب أن يكون موجودا في جميع الحالات ؛ لأنه لا اختصاص لذاته بحال دون حال.

فإمّا أن يجب وجوده في جميع الأحوال أزلا وأبدا ، فهو الذي نقول. وإما أن لا يجب وجوده في حال من الأحوال فهذا باطل ؛ لأنه يؤدي إلى إبطال كونه قديما ، وقد ثبت قدمه. وإمّا أن يجب وجوده في حال دون حال فهذا لا يجوز ؛ لعدم المخصص لبعض الأحوال دون بعض. فثبت أنه تعالى واجب الوجود في كل حال ، وبذلك يثبت أنه تعالى باق دائم ؛ لأن الباقي هو : الموجود الذي لا يتجدد وجوده الآن ، والدائم هو : الموجود الذي لم يتبع وجوده عدم.

وقد ثبت أنه تعالى لا يجوز تجدّد وجوده ، ولا يجوز عدمه لما ثبت من أنه واجب الوجود في كل حال. وإن أريد بالعرض ما هو المفهوم في اصطلاح المتكلمين ، وهو : المحدث الذي لا يشغل الحيز ، فهذا لا يجوز وصف الله تعالى به ؛ لأنّ الله تعالى قديم ، والعرض محدث ، فلا يجوز أن يكون عرضا بهذا المعنى ، ولأنّ الله تعالى حيّ قادر ، والعرض ليس بحيّ ولا قادر ، ولأنّ العرض يجوز عليه العدم والتّجدّد والبطلان ، والله تعالى قديم واجب الوجود في كل حال ، فلا يجوز عدمه.

فصل : وإذا ثبت أنه تعالى ليس بعرض ، فلا يجوز عليه شيء من خصائص الأعراض نحو التجدد والبطلان. وقد دلّلنا على ذلك. ونحو الحلول في المحالّ خلافا للصوفية الجهّال ؛ فإنهم يقولون : إنه تعالى حالّ في الصّور الحسنة (١). والذي يدل على أنه تعالى غير حالّ في شيء من المحالّ وجهان : أحدهما :

__________________

(١) من الصوفية أهل سنة ، وبعضهم يقول بالحلول والاتحاد ؛ فهم فرقة من المتصوفة المبطلة ، قالوا : الله يحل في الأجسام والصور الجميلة. موسوعة الفرق ص ١٩٣ وص ٢٨٠.

أنه لو كان حالّا في الصور الحسنة لم يكن بأن يحل في بعضها أولى من أن يحل في البعض الآخر ، لعدم المخصص ، فيكون حالّا وغير حالّ ؛ لأنّ الشّواهة والحسن مختلفان بحسب اختلاف الشهوة والنّفار. فإن الزنجي يستحسن الزنجية ، والعربي لا يستحسنها. وكذلك التركية والتركي. والهندي ، والحبشي ، وغير ذلك.

الوجه الثاني : أنه تعالى لو كان حالّا في شيء من المحالّ لم يخل أن يكون حالّا على سبيل الوجوب أولا ؛ بل على سبيل الجواز.

والأول باطل ؛ لأنه كان يجب أن يكون حالّا في الأزل ، وفي ذلك قدم المحالّ ، وقد ثبت حدوثها ، إذ لا يعني بالمحال غير المتحيّزات. ولا يجوز أن يكون حالّا على سبيل الجواز ؛ لأنه لا يخلو أن يكون حالّا بالفاعل أو لعلّة ، والأول باطل من حيث إنه تعالى لا فاعل له من حيث إنه قديم. والمفعول محدث.

ولا يجوز أن يكون لعلّة ؛ لأنها لا تخلو أن تكون حالّة أو غير حالّة ، والأول باطل ؛ لأنها تكون قد شاركته فيما لأجله احتاج إلى علة ، وهو كونه حالّا ، فكان يجب أن تحتاج كل علة إلى علّة فيتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية له ، وذلك محال. ولا يجوز أن يكون حالّا لعلّة غير حالّة ؛ لأنها قبل إيجابها الحلول له قد اختصت به غاية الممكن من الاختصاص ، وهو أنها وجدت على حدّ وجوده ، ولكن عند إيجابها له الحلول يبطل اختصاصها به ؛ لأن ما ليس بحالّ لا يختص بما هو في محل ، إلا بأن يكون أحدهما حالّا في الآخر. وإذا بطل اختصاصها به بطل إيجابها له ، فتكون مختصّة به وغير مختصة ، وموجبة له وغير موجبة ، ويكون حالّا وغير حالّ في حالة واحدة ، وذلك محال.

فصل : وقد اعترضت المشبّهة بآيات متشابهة وأخبار واستدلوا بها على التشبيه. والجواب عنها من وجهين :

أحدهما : أنه لا يصح الاستدلال بالسمع على هذه المسألة ؛ لأن صحة السمع موقوفة على العلم بعدله وحكمته. لأنا ما لم نعلم أنه لا يجوز عليه الكذب ولا التلبيس ولا غير ذلك من القبيح لم يصح منا الاستدلال بكلامه سبحانه ، ولا بكلام رسوله عليه‌السلام على حكم من الأحكام ، وذلك لا يصح إلا أن يكون تعالى عالما بقبح القبيح وغنيّا عن فعله ، حتى لا يفعل شيئا منها. ولا يستقر كونه عالما بقبح القبيح حتى يكون عالما لذاته ، فيعلم كلّ المعلومات على كل الوجوه التي يصح أن تعلم عليها ، والمعتقد لكونه جسما يبطل ذلك ؛ لأنّ (١) الجسم يستحيل أن يكون عالما لذاته ، وإلا وجب ذلك في جميع الأجسام. [وكذلك فلو كان جسما لصحت عليه الحاجة كسائر الأجسام] (٢).

الوجه الثاني : أنا نعارضهم من الكتاب والسنة بما ينفي الجسمية ، ويبطل مذهبهم ، فلا يصح تعلّقهم بما يوردونه في ذلك ؛ لأنهم ليسوا بالاستدلال أولى منا ، بل نحن بذلك أولى لموافقة أدلتنا لمحكم القرآن وأدلة العقول. فنقول وبالله التوفيق :

فصل فيما يؤكد ذلك من أدلة السمع

فمن ذلك قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وقوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] وقوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥].

ومن السنة : ما روي عن ابن مسعود أنه قال : سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ أيّ

__________________

(١) في بقية النسخ : لكون.

(٢) ما بين الحاصرتين زائد في (ب) ، (ج) ، (د) ، (ه).

الذّنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندّا وهو خلقك» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خمس لا يعذر بجهلهن أحد : معرفة الله سبحانه لا يشبّه بشيء ، ومن شبّه الله بشيء ، أو زعم أنّ الله يشبه شيئا فهو من المشركين ...» الخبر بطوله. وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١]. وسمع عليّ عليه‌السلام رجلا يقول : والذي احتجب بسبع سماوات ، فعلاه بالدّرّة (٢) ، وقال : «ويحك ، إن الله لا يحتجب بسبع سماوات» ، فقال الرجل : أكفّر عن يميني؟ فقال : «لا. إنك حلفت بغير الله» (٣).

ونتبع ذلك بالآيات المتشابهات ونبيّن فيها ما ذكره علماء أهل التفسير. فمن ذلك قول الله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) ، [طه : ٥] وقوله : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ). [الأعراف : ٥٤ ، يونس : ٣] قالت المشبّهة : فدلّ ذلك على أنه كائن على العرش ومستقر عليه (٤). [الرد على المشبهة فى استدلالهم بالمتشابه] وإذا أردنا الكلام عليهم تكلمنا في ثلاثة

__________________

(١) أبو طالب ٣٩٢. والبخاري ٦ / ٢٤٦٠ رقم ٦٣٠٥. مسلم ١ / ٩٠ رقم ٨٦. والنسائي مج ٤ ج ٧ ص ٨٩ رقم ٤٠١٣ ، ٤٠١٤.

(٢) الدّرة ـ بالكسر : التي يضرب بها ، وبالضم : اللؤلؤة. وبالفتح : درّ اللبن. ومنه : «لا تقطعوا درّة أخيكم» مختار الصحاح ص ٢٠٢.

(٣) الغارات ١ / ٦٩ ، وروي عن محمد بن الهادي عليه‌السلام أنه قال : لا كفارة لمثل هذه اليمين. ينظر التحرير لأبي طالب ٢ / ٤٦٨.

(٤) وهو قول أهل الحديث وغيرهم من المشبهة ، ينظر : التوحيد لابن خزيمة ١٠١ ، ٣٠٧ ، وينظر في الرد عليهم كتاب مفاتيح الغيب للرازي مج ٧ / ٢٩ / ١٢٢. وقال الرازي عن ابن خزيمة وكتابه التوحيد : واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ، وهو في الحقيقة كتاب الشرك واعترض عليها. ينظر مفاتيح الغيب مج ١٤ / ٢٧ / ١٥٠.

مواضع : أحدهما : في بيان معاني العرش في اللغة. والثاني : في بيان معانى الاستواء في اللغة. والثالث : في بيان معنى الآية.

أما الموضع الأول : وهو في ذكر معاني العرش في اللغة (١)

فهي أمور (٢) : أحدها السرير (٣). قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) [غافر : ٧] وقال تعالى : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل : ٢٣] يريد بذلك السرير. وذكر المفسرون في سرير بلقيس أنه سرير ضخم حسن ، كان مقدّمه من ذهب ، مرصع بالياقوت الأحمر ، والزمرد الأخضر ، ومؤخّره من فضة ، مكلل بألوان الجواهر. وقيل : كان ثلاثين ذراعا في مثلها ، وارتفاعه من الأرض مثلها (٤). وثانيها : البناء (٥) ، قال الله تعالى : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج : ٤٥]. قال بعض المفسرين : خالية عن أهلها على ما فيها من البناء. وثالثها : كلّ ما يستظل به. يقال : خيّم القوم وعرّشوا. ومنه العرش عرش الكرم [العنب] (٦). قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ) [الأنعام : ١٤١]. ومنه يقال للبناء المبني : عريش ، قال تعالى : (وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) ، [الأعراف : ١٣٧]. أي يسقفون من القصور والبيوت وغيرها.

ورابعها : أنه ينطلق اسم العرش على السقف. قال تعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ

__________________

(١) تاج العروس ٩ / ١٣٧ وما بعدها.

(٢) في (ب) : فهو أمور.

(٣) ينظر الدر المنثور ٥ / ١٩٩. وتفسير الماوردي ٤ / ٢٠٤. ومجمع البيان ٧ / ٣٧٧.

(٤) ينظر الطبرسي ٧ / ٣٧٧.

(٥) الدر المنثور : ٤ / ٦٥٨ ، الفخر الرازي مج ١٢ ج ٢٣ ص ٤٥.

(٦) معاني القرآن للفراء ١ / ٣٥٨.

قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) [الحج : ٤٥] أي على سقوفها. وخامسها : السلطان والملك ، قال زهير (١) :

تداركتما الأحلاف قد ثلّ عرشها

وذبيان إذ زلّت بأقدامها النعل

وفي كتاب العين (٢) : إذا زال قوام الرجل (٣) قيل : قد ثلّ عرشه. قال الشاعر :

ولو هلكت تركت الناس في وهل (٤) * بعد الجميع وصار العرش أكسارا

أما الموضع الثاني : وهو في بيان معاني الاستواء ،

فله معان ثمانية : أحدها الركوب ، قال تعالى : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) [المؤمنون : ٢٨]. ومنها الاستقرار (٥) ، قال تعالى : (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٥] وهو جبل بالموصل (٦). وثانيها : انتصاب الساق ، قال تعالى : (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) [الفتح : ٢٩]. وثالثها : القصد ، قال تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [البقرة : ٢٩]. قال ابن عباس : يعني قصد إلى خلقها. ورابعها : تمام الشباب وانتهاؤه ، قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) [القصص : ١٤]. وخامسها : الاعتدال. يقال : استوى كذا وكذا ، أي اعتدلا. قال الشاعر :

__________________

(١) ينظر ديوانه ص ٤٢.

(٢) للخليل بن أحمد الفراهيدي ٨ / ٢١٦ مادة ثل. ١ / ٢٤٩ مادة عرش.

(٣) في (ب) : قوام أمر الرجل.

(٤) الضعف والفزع. القاموس ص ١٣٨١.

(٥) الدر المنثور : ٣ / ٦٠٥.

(٦) يوجد بالعراق ينظر الدر المنثور ٣ / ٦٠٦.

فاستوى ظالم العشيرة والمظ

لوم في حفظه بدعوى ابتلال

وسادسها : تساوي الأجزاء المؤلّفة. يقال : استوى الحائط والخشبة. وهذا من الاعتدال إذا تأكّدت على وجه مخصوص. وسابعها : ما يكون بمعنى الانتصاب. يقال : استوى فلان جالسا ، واستوى قائما ، أي انتصب. وثامنها : ما يكون بمعنى الاستيلاء. قال الشاعر : قد استوى بشر على العراق (١).

وأما الموضع الثالث : وهو في معنى الآية ؛

فاعلم أنه لا يجوز أن يكون استواء الله تعالى على العرش بمعنى الاستقرار عليه ، وبمعنى أنه كائن فيه ؛ لأن ذلك من خصائص الأجسام والمتحيّزات ، وقد ثبت أن الله تعالى ليس بجسم ، فلا يجوز عليه شيء من خصائص الجسم والمتحيّز (٢) ، فلا يجوز عليه الكون في الأماكن ، ولا التنقل في الجهات ، ولا النزول ولا الصعود ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون شاغلا لجهة ، ولو كان شاغلا لكان إمّا جسما ، وإمّا جوهرا ، وهو تعالى ليس بجسم ولا جوهر على ما تقدم بيانه. وإذا بطل ذلك فمعنى قوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [السجدة : ٤] أي استولى ، من القدرة ، كما قال الشاعر ـ وهو البعيث (٣) ـ في بشر ابن مروان (٤) :

__________________

(١) ينظر الحاكم الجشمي ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥. قال : لا يجوز حمل الاستواء على أنه استقر على العرش ؛ لأن ذلك من صفات الأجسام. ومتشابه القرآن ١ / ٧٣. وشرح الأصول الخمسة ٢٢٦.

(٢) في (ج) : المتحيزات.

(٣) هو خداش بن بشر بن خالد ، خطيب شاعر مجيد ، كان بينه وبين جرير مهاجاة دامت نحو أربعين سنة. ت : ١٣٤ ه‍. الأعلام ٢ / ٣٠٢ ، معجم الأدباء مج ٦ ج ١١ ص ٥٥.

(٤) أخو عبد الملك بن مروان ، ولي لأخيه إمرة العراقين ، وكان يجيز على الشعر بألوف وقد امتدحه الفرزدق والأخطل ، توفي سنة ٧٥ ه‍. ينظر الأعلام ٢ / ٥٥.

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

فالحمد للمهيمن الخلاق

وكما قال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

وهذا هو قول بعض المفسرين. وقال بعضهم : استوى على العرش ، بمعنى قصد إلى العرش فخلقه (١) كقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] أي قصد إلى خلقها ، وتكون (٢) على بمعنى إلى ؛ لأنها من حروف الصفات (٣) ، وحروف الصفات تبدّل بعضها عن بعض. ذكره أبو عبيدة (٤). وقال بعضهم : (اسْتَوى) ، بمعنى استولى. والعرش : هو الملك كما تقدم بيانه ، والاحتجاج عليه بقول زهير. وكما قال الشاعر :

إذا ما بنو مروان ثلّت عروشهم

وأودوا كما أودت إياد وحمير

المعنى : أنه تعالى لمّا خلق السموات والأرض استولى (٥) على ملكه وخلقه بالقدرة. وقيل : استولى على بناء الأشياء. وقد قدّمنا أن العرش قد (٦) ينطلق على البناء ، وأنشد بعضهم في هذا المعنى :

وقول إلهي في الكتاب قد استوى

على العرش ربّ كان للعرش بانيا

فهذا كقولي للأمير قد استوى

على المدن والأمصار قد صار واليا

__________________

(١) ينظر القرطبي مج ٤ ج ٧ ص ١٤١.

(٢) في (ب) : يكون.

(٣) أي حروف الجر.

(٤) في (ب) : أبو عبيد. فيكون أبا القاسم بن سلام المتوفي سنة ٢٢٤ ه‍ ، أو أبا عبيدة معمر بن المثنى المتوفي ٢٠٩ ه‍. والله أعلم.

(٥) في (ب) : استوى.

(٦) في (ب) بحذف قد.

يراد به سلطانه واعتلاؤه

وذلك شيء ليس في القول خافيا

فإن قيل : فما وجه تخصيص العرش بالذكر؟ قلنا : لأنه أعظم خلق الله. قال تعالى : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة : ١٢٩]. فإن قيل : فما الفائدة في خلقه؟ قلنا : فيه فوائد : منها أنه سقف الجنة. ومنها أنه قبلة دعاء المؤمنين ، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. ومنها أنه مطاف الملائكة الكرام. قال الله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) [الزمر : ٧٥] إلى غير ذلك من الفوائد.

واحتجّت المجسمة بأن قالوا : إنا لا نجد في الشاهد فاعلا إلا وهو جسم ، فالقديم إذا كان فاعلا فهو جسم.

والجواب : أنّ ما ذكروه اعتماد منهم على مجرد الوجود ، ومجرّد الوجود لا يدل على حقيقة ولا مجاز ، ولا يتعلق به حكم من الأحكام ؛ ولأنه ليس هناك علّة رابطة بين الشاهد والغائب في هذا الباب ، ولا طريقة جامعة ، فبطل ما ذكروه. وبعد فإنه يلزمهم على قود ما ذكروه أن يكون تعالى مركّبا من لحم ودم ، تجوز عليه الصحة والسقم (١) ، والوجود والعدم ، والموت والحياة ؛ لأنا لا نجد فاعلا في الشاهد إلا كذلك ، وهذا مما لا يقولون به. وبمثل ذلك نبطل (٢) ما يوردونه من الشبه العقلية.

ومما يتعلق به المخالفون واستدلوا به على إجازة المجيء والإتيان على الواحد المنّان قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة : ٢١٠]. وقوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

__________________

(١) السّقم والسّقم مثل حزن وحزن.

(٢) في (ب) و (ج) : يبطل.

فهذا (١) يدل على إجازة المجيء والإتيان عليه تعالى. والجواب أنّ الظاهر لا تعلّق لهم فيه (٢) ؛ لأنه ليس بإيجاب. إنما قال : (هَلْ يَنْظُرُونَ) [البقرة : ٢١٠]. أي هل ينتظرون شيئا سوى ذلك. ثم لو اقتضى ظاهره (٣) ما قالوه للزمهم أن يكون تعالى أصغر من الظّلل ؛ فيكون محدودا ، وأن يكون هو والملائكة في الظلل ، وهم لا يقولون بذلك. ومتى تأوّلوه فقد سوّغوا للخصوم مثله. وبعد فإن القول بذلك يوجب كونه تعالى جسما وجوهرا يجيء ويذهب ويقرب ويبعد ويظهر ويخفى ، وهذه صفة المحدثات ، وقد ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ، فلا يجوز عليه شيء من خصائصهما على نحو ما تقدم. ولا يجوز عليه تعالى الزيادة والنقصان ولا شيء من الأعضاء والآلات ، لأنها من قبيل الأجسام والمتحيّزات ، وهو تعالى ليس بجسم ولا بجوهر على ما تقدم تحقيقه. وقد أكد الشرع ذلك ، فقال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، وذلك معلوم من سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة. فبطل ما ذهبوا إليه وتعلقوا به.

وأما معاني هذه الآيات فاعلم أنّ الله تعالى خاطب بلغة العرب ، وهم يخاطبون بالمجاز. وهو عندهم على ضربين ؛ مجاز بالحذف ، ومجاز بالزيادة. فالمجاز بالحذف نحو قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها) [يوسف : ٨٢]. يريد أهل القرية ويريد القافلة ؛ لأن المعلوم ضرورة استحالة النطق على القرية وعلى العير (٤) ، والمجاز بالزيادة نحو قوله تعالى (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) [الحديد : ٢٩] أي لأن يعلم ، ولا زائدة (٥) وذلك

__________________

(١) في (ب) : قالوا ، (ج) : فهذا.

(٢) في (ب) : به.

(٣) في (ب) : ظاهرها.

(٤) الدر المصون ٦ / ٥٤٤.

(٥) يقال لها في القرآن : صلة وتوكيد ، تأدّبا مع كلام الله. الدر المصون ١٠ / ٢٥٨.

معروف في لغة العرب (١) ، لو لا الميل إلى الاختصار لذكرنا مثاله. وإذا ثبت ذلك فلا بد أن يجري الله في خطابه للعرب على طريقتهم من استعمال المجاز لفصاحته ، وإلا لم يكن مخاطبا بلغتهم ، وكذلك فإنّ من المشهور في لغة العرب أنّ الواحد منهم يقيم نفسه في خطابه مقام غيره في كثير من المواضع مع حذف المعنيّ (٢) ، فكذلك جرى الله في خطابه لهم على طريقتهم ؛ فإنه أقام نفسه مقام غيره في كثير من المواضع وحذف المعنيّ ، نحو قوله تعالى : (فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) ... الآية [النحل : ٢٦].

ونحو قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [البقرة. ٢١] ، أي عذابه ، وكذلك قوله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] أي أمر ربك (٣) ، وذلك من المجاز بالحذف والنقصان على ما تقدم ذكره. فإذا كان الحذف جائزا إذا كان هناك مانع عن الجري على الظاهر ، أو يستحيل الجري على الظاهر نحو ما ذكرنا في القرية ، فكذلك لمّا

__________________

(١) والقرآن عربي مبين وهذا موجود في لغة العرب ، والعرب تأتي ب «لا» في كلامها وهي لا تريدها ، وتطرحها وهي تريدها. مثل : (فَلا أُقْسِمُ) ، (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ).

(٢) في الأصل : وحذف المعنى ، وفي هامش (ب) : مع صدق المعنى. ظ.

(٣) هكذا فسرها أحمد بن حنبل ينظر دفع شبه التشبيه ص ١٤١ ، وهو قول الحسن وأبو علي كما في الطبرسي ١٠ / ٣٥٣. وانظر الحاكم الجشمي ص ٢٩٤ ، ومتشابه القرآن للقاضي عبد الجبار ٢ / ٦٨٩ ؛ حيث قال ـ بعد قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) : لا يدل على صحة ما يتعلق المشبهة في أنه تعالى كالواحد منا. في أنه يجيء ويذهب ، ولو كان كذلك لكان محدثا مدبّرا مصوّرا ، والمراد بذلك : وجاء أمر ربك ، أو : متحملو أمر ربك للمحاسبة والفصل. على ما يقال في اللغة عند التنازع في الأمر الذي يرجع فيه إلى بعض الكتب : إذا جاء الشافعي فقد كفانا ، ويريدون بذلك كتابه. وإذا جاء الخليل في العروض انقطع الكلام ، والمراد به كلامه في ذلك. وينظر في ذلك الجامع للقرطبي مج ١٦ / ٣١ / ١٧٤. والفخر الرازي ١٦ / ٣١ / ١٧٤.

استحال المجيء والإتيان والانتقال على الله تعالى بدلالة ، يجب أن نقضي بتعليق المجيء والإتيان بغيره تعالى ، وهو أمره وعذابه. وقد فسّر عبد الله بن العباس رحمه‌الله قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) الآية. قال : أراد إتيانه إليهم بوعده ووعيده ، فإنّ الله يكشف لهم من أمره ما كان مستورا عنهم (١).

وروي عن الحسن في قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) قال : عنى به وجاء وعد ربك بالحكم بالثواب والعقاب (٢). ومثله مروي عن الضحاك. وقال الضحاك في قوله تعالى : (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) قال : إذا نزل أهل السموات إلى الأرض يوم القيامة كانوا تسعة صفوف محيطين بالأرض ومن فيها (٣). وكذلك قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] لا يدل على أنه تعالى مشبه للواحد منّا في كونه مشتغلا ؛ فإن قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ورد مورد التهديد كما ، يقول الواحد منا أنا أفرغ لك وإن لم يكن معه شغل ، والمعنى سنقصد إلى جزائكم أيّه الثقلان (٤). الثقلان : الجنّ ، والإنس (٥).

ومما تعلقوا به في أنه تعالى كائن في السماء قول الله تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ* أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) [الملك : ١٦ ـ ١٧] (٦).

__________________

(١) وينظر في معناه الطبرسي ٢ / ٦٠. والكشاف ١ / ٢٥٣. ومتشابه القرآن ١ / ١٢٠.

(٢) ينظر الخارن مع البغوي ٦ / ٤٢٦.

(٣) في الدر المنثور عن أبي حاتم عن الضحاك قال : جاء أهل السموات كل سماء صفّا. ٦ / ٥٨٧. والخازن البغوي ٢٦ / ٤٢٦. وجامع البيان ١٥ / ٢٣٥.

(٤) في (ب) : بحذف الثقلان الثانية.

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٤٤٨.

(٦) ينظر كتاب التوحيد لابن خزيمة ١١٠ ، وكتاب الشريعة لمحمد بن الحسين الآجري ٣٠٣.

والجواب أنّ ظاهر الآية لا يقتضي ذلك ؛ لأنه لم يبيّن المقصود بأنّه في السماء ، ومن المخوّف منه ، فسقط قولهم. فيجوز أن يكون عنى به من في السموات سلطانه ، ويجوز أن يكون عنى به الملائكة الذين أهلك الله تعالى من أهلك على أيديهم ، وإنهم نزلوا بعذاب أولئك القرون ، واستأصلوهم (١). فالتعلق به ساقط. فإن قيل : ولم وحّد ذكر الملائكة؟ قلنا : إن لفظة من تقع على الواحد والجمع ، فمتى حملت على اللفظ وحّدت ، ومتى حملت على المعنى جمعت. وقد ورد بكل ذلك الكتاب والشّعر : أما الكتاب فنحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] إلى غير ذلك من الآيات. وأما الشعر فقول زهير :

ومن يتعظّم بالكبائر يتّضع

ومن يتواضع خشية الله يعظم (٢)

ومن ذلك قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٦]. قالوا : وكذلك فقد انعقد الإجماع بين المسلمين في أنه تعالى في كل مكان. والجواب عن ذلك أن المراد به أنّه تعالى محيط بكلّ مكان علما وقدرة ، فكأنّ ذاته في كل مكان. ومتى كانت هذه الآية وما شابهها محتملة لما ذكرناه من التأويل ، ومطابقة في ذلك دلالة العقول ، ومحكم الآيات ، غير خارجة عن اللغة العربية ، والقرآن ـ نزّل عليها ، فيجب أن تحمل على ذلك لتتّفق الأدلة ، وينزّه الصانع عن صفات النقص.

ومن جملة ما تعلقوا به في المكان قوله تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي مج ١٥ ص ٧١ ..

(٢) مجموع المتون ص ٧٩٦. معلقته.

مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] قالوا : (١) فهذا يوجب كونه في مكان (٢). والجواب أنه يريد به الرفعة والمنزلة العالية ، كما يقال : فلان عندي بالمنزلة الخطيرة ، ولفلان عندي جاه عريض ، وهو عندي بالمنزل الأعلى والدرجة العالية. ويدل على ذلك قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [السجدة : ١٢] ، ولا خلاف بين الأمة أنّ المجرمين لا يكونون عند الله على جهة المكان ، وإنما هو وصف أحوالهم. وكذلك قوله تعالى : (وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [الزخرف : ٨٥] فإنه ليس المراد به (٣) أنّ علم الساعة في مكان ، وإنما أراد أنّه عالم به. وكذلك قوله تعالى : (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤] ليس يريد به إلا أنّه القادر عليه ، المالك له. ويقال : عند الهادي إلى الحق عليه‌السلام في المسألة كذا ، وعند القاسم عليه‌السلام فيها كذا. أي مذهبهما (٤). قال الشاعر (٥) :

__________________

(١) في (ب) فقالوا : هذا.

(٢) قال الحاكم الجشمي في هذه الآية كما في منهجه في التفسير للدكتور عدنان زرزور ص ٢٩٢ : أي موضوع قعود صدق ، قيل : مجلس حق لا لغو فيه ، وهو الجنة. وقيل : وصف المكان بالصدق ؛ لكونه يدوم وغيره يزول. ومعنى (عِنْدَ مَلِيكٍ) : أي في علم الله صائرون إلى ذلك الموضع ، كما قال أبو علي. وقيل : ذلك المقعد مقعد صدق عنده ؛ لما هو عليه من دوام النعم. وقال الحاكم : وقد فسرت المشبهة الكاذبة على الله هذه الآية بتفسير لا يشهد له ظاهرها ولا لهم عليه دليل في العقل والشرع ، فذكروا في قوله : (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) : إنهم يحيون مع الجبار ، وأنه يقعدهم معه على سريره ، ويروون أن أهل الجنة يدخلون عليه كل يوم مرتين يقرءون عليه القرآن ثم ينصرفون إلى رحالهم ناعمين .. إلى غير ذلك من الصورة والأعضاء والذهاب والمجيء ، وأنه يحتجب أحيانا ويظهر أحيانا بصورة ملك ، تعالى الله عن ذلك. وقد بينا أنه ليس بجسم وأنه لا يجوز عليه المكان ولا شيء من صفات الأجسام.

(٣) في (ب) بحذف به.

(٤) في (ب) : أي في مذهبهما.

(٥) هو قيس بن الخطيم ، أحد شعراء الجاهلية.

نحن بما عندنا وأنت بما عن

دك راض والرأي مختلف

وليس يذهب في ذلك إلى مكان. وإذا ثبت ذلك قلنا : إنّ كلّ لفظة تتصرف على وجوه من المعاني (١) ، فليس لأحد أن يقتصر منها دون سائر ما تحتمله إلّا بدليل ، وقد دلّت الأدلة من الكتاب والعقل وإجماع المسلمين على أنّ الله تعالى ليس في مكان فبطل ما ذهبوا إليه. وهكذا الجواب عما يعترضون به في قوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٧٦] وكذلك قوله تعالى : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل : ٩٦] وأمثال ذلك من الآيات. ويدل على ذلك من السنة ما روي عن قتادة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء عند الدعاء ، لينتهنّ أو لتخطّفنّ أبصارهم» (٢).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عند لسان كلّ قائل (٣)» ، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فيما رواه محمد بن يزيد المبرّد (٤) : أنّ رجلا قال : يا أمير المؤمنين أين كان ربّنا قبل خلق السموات والأرض؟ فقال علي عليه‌السلام أين : سؤال عن

__________________

(١) في هامش الأصل ، و (ه) : بعد من المعاني على معنى. وفي (ه) : أو شيء.

(٢) البخاري ١ / ٢٦١ برقم ٧١٧ ، باب رفع البصر إلى السماء في الصلاة ، ومسند أحمد ٤ / ٢٢٥ رقم ١٢١٠٥ ، وسنن أبي داود رقم ٩١٣ ج ١ ص ٥٦١ ، وسنن النسائي ٣ / ٧. رقم ١١٩٣ ، ونص الحديث : ما بال أقوام يرفعون أبصارهم في صلاتهم ، فاسند قوله : في ذلك ، حتى قال : لينتهن عن ذلك أو لتخطفنّ أبصارهم.

(٣) تاريخ الخطيب للبغدادي : ٩ / ٣٢٩. تمامه : فلينظر عبد ما ذا يقول.

(٤) ولد بالبصرة ١٢٠ ه‍ ، إمام العربية ببغداد في زمانه ، وأحد أئمة الأدب والأخبار ، توفي ٢٨٦ ه‍ ، وله مؤلفات كثيرة منها : الكامل ، والمقتضب وغيرهما. ينظر الأعلام ٧ / ١٤٤ ، ووفيات الأعيان ١ / ٤٨٤.

مكان ، وكان الله ولا مكان (١)؟. وسمع عليّ عليه‌السلام رجلا يقول : والذي احتجب بسبع سماوات ، فعلاه بالدّرّة ، وقال (٢) : ويحك إنّ الله لا يحتجب بشيء ، فقال الرجل : أكفّر عن يميني؟ ، قال (٣) : «لا ؛ لأنّك حلفت بغير الله».

ومما روي عنه عليه‌السلام أنه قال في بعض خطبه في وصفه لربه عزوجل : «بعد في العلوّ فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدّنوّ فلا شيء أدنا منه» (٤).

ومن كلامه عليه‌السلام في ربه عزوجل : «من وصف الله تعالى فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثناه فقد جزّأه ، ومن جزأه فقد جهله (٥) ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حده فقد عدّه ، ومن قال فيم فقد ضمّنه ، ومن قال علام فقد أخلى منه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير كل شيء لا عن مزائلة (٦). ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال ، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال» (٧).

وسئل أبو جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام أين كان ربّنا؟ فقال عليه‌السلام : كان الله ولا مكان ، ويكون ولا مكان وهو خالق المكان مستغن عن المكان (٨).

ومما يبطل قولهم : إن الله فوق العرش ، وقول بعضهم : إنه في السماء ـ أن

__________________

(١) المبرد في الكامل ١ / ١٣٠.

(٢) في الأصل : فقال ، وفي (ب) : وقال ، وهو المناسب ولذلك أثبتناه.

(٣) في (ب) : فقال.

(٤) في هامش الأصل : أقرب ، وقال.

(٥) في النهج بعد هذه الفقرة : ومن جهلة فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدة. إلخ.

(٦) في النهج : وغير كل شيء لا بمزايلة.

(٧) النهج ١٧١ بلفظ : سبق في العلو فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه.

(٨) ينظر نهج البلاغة ٨٦ ـ ٨٧.

يقال لهم : أين كان الله قبل خلق العرش؟ وأين كان قبل خلق السماء؟ وأين كان قبل خلق الأماكن؟ فإنّا قد دللنا على قدمه تعالى وحدوث الأماكن ، وأين يكون تعالى بعد فناء الأماكن؟ فإنه لا بدّ من فناء كل شيء ، لقوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي إلا ذاته ، فأين يكون بعد فناء الأماكن؟ وكلّ ذلك يبطل احتياجه إلى الأماكن ، أو يوجب قدم الأماكن ، وأنّها لا تفنى. وقد دللنا على حدوثها وفنائها ، فلم يبق إلا أنه تعالى غير محتاج إليها ، فبطل بذلك قولهم.

فصل : في إيراد طرف مما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبطال القول بأنه تعالى جسم وطرف مما روي عن الصحابة (رض). عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : صف لنا ربّك ، فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجّبا مما سألوه وانتظارا لأمر الله فيهم ، فقالوا : كنّا نصف من تعظيم ربنا أنّ الله تعالى يضع السموات يوم القيامة على إصبع ، والبحار على إصبع ، وسائر الأشياء على اصبع ، ويده الأخرى فارغة. فأنزل الله تعالى قبل أن يقوموا تكذيبا لهم وردّا عليهم ، (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) [الزمر : ٦٧] (١) أي ما

__________________

(١) البخاري رقم ٤٥٣٣ ، ولفظه : جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أنّ الله يجعل السموات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلائق على إصبع ، فيقول : أنا الملك ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بدت نواجذه ، تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ). الآية. ومسلم رقم ٢٧٨٦ بزيادة : ثم يهزهن. وفي الطبري مج ١٢ ج ٢٤ ص ٣٣ ساق عدة روايات ، وكل ما روي في هذا يؤكد بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضحك تصديقا له. والدر المنثور ٥ / ٦٢٧ ؛ لكن مؤلف الينابيع يرى أن ضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعجبا وتكذيبا ؛ لأن الله ليس له إصبع ، قال ابن حجر في فتح الباري ١٣ / ٣٩٨ : وأما من زاد «وتصديقا له» فليست بشيء ، فإنها من قول الراوي وهي باطلة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصدق المحال ، وهذه الأوصاف في حق الله محال. غير أن الأحاديث يمكن تأويل الإصبع فيها بالقوة والقدرة وسهولة سيطرة الله على المخلوقات العظام.

عظّموه حق عظمته ، (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] يعني في ملكوته (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧] أي في ملكه سبحانه وتعالى عما يقولون ، حيث وصفوا ربهم بالأعضاء والصورة ، والأنامل. قل لهؤلاء الذين سألوك : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هو الصمد الذي يصمد إليه في الحوائج» وهو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يدل عليه قول الشاعر :

علوته بحسام ثم قلت له :

خذها إليك فأنت السّيّد الصّمد (١)

وقال غيره (٢) :

الا بكّر الناعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد (٣)

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلّم أن قوما من الأمم الخالية أتوا نبيا لهم ليعنتوه فسألوه عن ربه ما هو ؛ ومن أي شيء هو؟ نور ، (٤) أم جوهر ، أم ذهب ، أم فضة؟ فسكت ، فأرسل الله صاعقة من السماء فأهلكتهم (٥). فذلك قوله تعالى : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) [الرعد : ١٣]. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يخرج عنق من النار (٦) له عينان تبصران ، وأذنان تسمعان ، ولسان ينطق ، وهو يقول : إني

__________________

(١) الطبري مج ١٥ ج ٣٠ ص ٤٤٦ بما يوافق ذلك ، أسباب النزول للواحدي ص ٣٨٠.

(٢) هو سبرة بن عمرو الأسدي. وقد استشهد به ابن عباس كما في تفسير الآية في متشابه القرآن ٢ / ٧٠٦.

(٣) الدر المصون ١١ / ١٥١. ومجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٤٨٣. والماوردي ٦ / ٣٧٠.

(٤) في (ب) أنور.

(٥) أسباب النزول للواحدي ص ٢٢٨ ، ومجمع البيان مج ١٠ ص ٤٨٥ بما يقارب ذلك.

(٦) في (ب) عنق يوم القيامة.

وكّلت بكل جبار عنيد ، ومن ادّعى مع الله إلها آخر ، وبالمصورين» (١).

وعن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : اللهم إني أوحّدك ولا أحدّك ، وأعبدك ولا أمثّلك ، وأعرفك ولا أصوّرك ، وأعبدك ولا أكيّفك ، وأشاهدك ولا أشبّهك (٢). وسئل عن التوحيد ما هو؟ فقال عليه‌السلام : استقامة القلب بإثبات (٣) مفارقة التعطيل ، وإنكار التشبيه. وعنه عليه‌السلام أنه قال : اتّقوا أن تمثّلوا الرب بشيء ، لا مثل له ، أو تشبّهوه بشيء من خلقه ، فإنّ لمن فعل ذلك نارا لا تطفأ أبدا. وعن وهب بن منبه (٤) وعكرمة قالا : جاء نجدة الحروري (٥) إلى عبد الله بن العباس رضى الله عنه فقال : يا ابن عباس كيف معرفتك بربك؟ فإنّ من قبلنا اختلفوا علينا فقال : أعرفه بما عرّف به نفسه من غير رؤية ، وأصفه بما وصف به نفسه من غير صورة. لا يعرف بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس ، معروف بغير شبيه ، متدان في بعده بلا نظير ، لا تدرك ديمومته ، ولا يمثّل بخليقته .. إلى آخر كلامه (٦).

__________________

(١) أحمد بن حنبل ٣ / ٢٣٥ برقم ٨٤٣٨ ، ٤ / ٨٠ برقم ١١٣٥٤.

(٢) أخرج في النهج ص ٤٣٩ رقم ١٨٤ : ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إياه عني من شبّهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه.

(٣) في (ب) : بإيثار.

(٤) الأنباوي الصنعاني ، ولد بصنعاء سنة ٣٤ ه‍ ، مؤرخ كثير الأخبار ، ولا سيما في الإسرائيليات ، ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء صنعاء ، توفي سنة ١١٤ ه‍ وقيل غير ذلك. وله ذكر الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم ، وقصص الأنبياء ، وقصص الأخيار. ينظر الأعلام ٨ / ١٢٦.

(٥) ابن عامر الحنفي ، ولد سنة ٣٦ ه‍ ، من رءوس الخوارج ، وكان من أصحاب نافع بن الأزرق ثم تركه وبايعه أصحابه ، توفي سنة ٦٩ ه‍ ، وإليه تنسب النجدية. ينظر الأعلام ٨ / ١٠.

(٦) النهج ص ٤٢٦. رقم ١٨٠. بما يوافق كلام ابن عباس.

وفي كلام له آخر في قوله تعالى : (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦] قال : يشبّهون الله بخلقه فأشركوا من حيث لا يعلمون (١). وعن ابن مسعود أنه قال : (ما عرف الله من شبّهه بخلقه). والأخبار في هذا الجنس كثير. وفي هذا كفاية إن شاء الله تعالى.

فصل فيما يتعلّق به المشبّهة من الآيات التي فيها ذكر الأعضاء من ذلك قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] وما يجانسها من الآيات التي فيها ذكر النّفس. ونحن نذكر أوّلا معاني النفس في اللغة (٢) ، ثم نذكر معنى الآية ، وما تحتمل من المعاني ، ويجوز حملها عليه ، ونبطل أن يكون ما عدا ذلك مرادا بالآية. فنقول : أما النّفس فإنها تقع على معان : منها الدّم ؛ ولذلك سمّيت المرأة نفساء ، ونفست بخروج الدم عنها عقيب الولادة. وثانيها معنى الروح قال الله تعالى : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ١٩٣] أي : أرواحكم. وثالثها الأنفة ، يقال : لفلان نفس ، أي أنفة. ورابعها بمعنى الإرادة والشهوة. يقال : نفسه في كذا ، أي إرادته وشهوته. وخامسها بمعنى العين التي تصيب الإنسان. يقال : أصابت فلانا نفس ، أي عين. وسادسها مقدار الدّبغة يقال : جعلت في هذا الأديم نفسا أو نفسين من الدباغ. وسابعها نفس الإنسان وغيره الذي يكون به الحياة. قال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥]. وثامنها أن تكون إخبارا عن ذات الشيء وعينه فيقال : نفس الرأي ، وعين الرأي ، أي ذاته ، ويكون ذلك

__________________

(١) غريب القرآن للإمام زيد بن علي عليه‌السلام ص ١٦٥. والكشاف ٢ / ٥٠٨. والرازي مج ٩ ج ١٨ ص ٢٢٨.

(٢) ينظر في معنى النفس في اللغة : التاج ٩ / ١٤ ، والعين ٧ / ٢٧٠ ، واللسان ٦ / ٢٣٣.

تأكيدا وتحقيقا للكلام وذكرا عائدا على ما تقدم. قال الخليل (١) في كتابه : نفس كلّ شيء عينه وذاته (٢). وقال الفراء : النّفس تأتي على وجه الذّكر العائد لما تقدم ؛ لأنك إذا قلت : أهلك زيد نفسه ، وأضر بنفسه ، فإنما هو ذكر عائد على زيد ، وليس النفس بشيء غير زيد ، وإنما أردت الإخبار عن الفاعل والمفعول به بشيء واحد ، وأعدت الكلام وذكرتها بدلا منه. ومثل ذلك قوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] فأخبر أنّ وبال خداعهم راجع إليهم دون غيرهم ، وذكر أنفسهم ليعلم أن الخادع والمخدوع شيء واحد. قال الفراء : العرب إذا أوقعت فعل شيء على نفسه تكنّي فيه عن الاسم ـ قالوا (٣) في الأفعال التامة غير ما يقولون في الناقصة ، فيقال للرجل : قتلت نفسك وأحسنت إلى نفسك ، ولا تقول قتلتك وأحسنت إليك.

وكذلك قال الله تعالى : (اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٦٦] ، وقال : (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [هود : ١٠١] ، فإذا كان الفعل ناقصا مثل حسبت وظننت ، قال قائلهم : أحسبني خارجا ، وأظنني خارجا ، ومتى أك (٤) خارجا. ولم يقل قائلهم : متى ترى نفسك ، ولا متى تظن نفسك ، وذلك لأنهم

__________________

(١) الخليل بن أحمد الفراهيدي ولد سنة ١٠٠ ه‍ بالبصرة أحد أئمة اللغة والأدب وواضع علم العروض ومات سنة ١٧٠ ه‍ وله كتاب العين في اللغة ومعاني الحروف جملة آلات العرب وكتاب العروض والنقط والشكل ، أنظر الأعلام ٢ / ٣١٤.

(٢) في العين : وكل شيء بعينه نفس.

(٣) في (ب) قال. وفي (ج) ويقولون.

(٤) في (ب) و (ج) تراك. وفي هامش (ب) قاعدة نحوية ص ٥٢ ، جعل المصنف عليه‌السلام أفعال القلوب من الأفعال الناقصة باعتبار اللغة لا باعتبار اصطلاح النحويين ، فلا يشكل عليك.

أرادوا الفرق بين الفعل الذي يجوز إلغاؤه ، وبين الفعل الذي لا يجوز إلغاؤه. ألا ترى أنك إذا قلت : أنا أظن خارجا فيبطل الظن ويعمل (١) في الاسم فعله وقد قال تعالى : (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦] ولم يقل أن رأى نفسه (٢).

وإذ (٣) قد بينا معاني النفس في اللغة ، فلنذكر معنى الآية فتقول : قد بيّنا ما يحتمله لفظ النفس في اللغة ، ولا خلاف (٤) بين المسلمين أنه لا يصح أن يراد بها في الآية الدم ، ولا العين ، ولا الدبغة ، ولا الإرادة والشهوة ، ولا الروح ، ولا يجوز أن يراد بها الجسد ؛ لأنا قد أبطلنا أن يكون الله تعالى جسما ؛ إذ الأجسام محدثة ، وهو تعالى قديم ، فلا يجوز أن يكون محدثا على ما تقدم بيانه. وإذا بطل جميع ذلك فهي إذن تأكيد وتخصيص ، وذكر عائد على ما تقدم ، نحو ما بيّنا. فيكون المعنى تعلم ما في نفسي أي في ضميري ، ولا أعلم ما في نفسك أي ما في حقيقة علمك من علم الغيب. وقيل : تعلم ما أخفى في نفسي ، ولا أعلم ما تخفى ، وذكر النفس لمزاوجة اللفظ.

وقد فسّر جماعة من الصحابة والتابعين هذه الآية بما يوافق قولنا ؛ فروي عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦] قال : تعلم ما في غيبي (وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] أي

__________________

(١) في (ج) فتبطل الظن وتعمل. وفي (ه) فيبطل الظن ولا يعمل.

(٢) في بقية النسخ : ولم يقل : رأى.

(٣) في (ب) وإذا.

(٤) في (ب) : فلا خلاف.

ولا أعلم ما في غيبك (١). ومثل ذلك روي عن مجاهد ، وفسّره جماعة من الصحابة ، منهم ابن عباس بأن معنى (٢) ذلك تعلم ما في سري ولا أعلم ما في سرك (٣). وهذا القول ليس ببعيد عن الصحة ؛ فإن السر وإن لم يكن يسمّى نفسا ـ فإنما ذهب المفسرون إلى معنى ما في قوله ولا أعلم ما في نفسك ؛ لأن الذي يقع على غير النفس ، والذي في النفس شيئان : أحدهما الأعضاء الباطنة ، والآخر ما يعتقده الإنسان في قلب (٤) وهو السر. فلمّا لم يرد الأعضاء الباطنة علم أن المراد به السّرّ والعرف جرى عليه ، وذلك لأنه لما كثر قولهم أخفى في نفسه شيئا ، وأضمر في نفسه شيئا ، ولا أعلم ما في نفسه ، وكثر استعمالهم له ـ صارت هذه اللفظة عبارة عن السر والغيب لكثرة الاستعمال. وهذا المعنى هو الذي يقتضيه نمط الآية ؛ لأنه [عيسى] لمّا أراد بذلك البراءة مما تقوّل عليه من جعله إلها بيّن أنه لو قال ذلك لعلمه الله ؛ لأنه يعلم سره ، فكيف لو جهر به.

ومما تعلقوا به قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) [آل عمران : ٢٨]

__________________

(١) المارودي ٢ / ٨٨. والكشاف ١ / ٦٩٤. والرازي مج ٦ ج ١٢ ص ١٤٣. حيث قال : المسألة الثانية ـ تمسكت المجسمة بهذه الآية ، وقالوا : النفس هو الشخص ، وذلك يقتضي كونه تعالى جسما ، والجواب من وجهين : الأول ـ النفس عبارة عن الذات يقال : نفس الشيء وذاته بمعنى واحد. والثاني ـ أن المراد تعلم معلومي ولا أعلم معلومك ، ولكنه ذكر هذه الكلام على طريق المطابقة والمشاكلة. وهو فصيح. وينظر القرطبي ٦ / ٢٤٢.

(٢) في (ب) أن معنى.

(٣) الدر المصون للحلبي ٤ / ٥١٤.

(٤) في (ب) : في قلبه ، ولعل الهاء ملحقة.

قالوا : فأثبت له نفسا فدل ذلك على مشابهته لنا. والجواب : أنا قد أبطلنا فيما تقدم ما ذهبوا إليه من أنه تعالى يشبه الأجسام ، وبيّنا أنه لا مثل له ولا نظير ، ودللنا على ذلك بأدلة العقول ، وأوردنا أدلّة الشرع على جهة التأكيد ؛ لذلك فلا يجوز حمل الآية على ما يخالف جميع ذلك ، ونقول : إنّ قوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ذكر عائد (١) على المحذّر ، وهذا كقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) [آل عمران : ٥٠] ، وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] ، واليوم لا يتّقى ، وإنما يتّقى ما يقع فيه ، وذات الله لا تتّقى ، وإنما يتّقى فعل (٢) منه. والعرف قائم يدل على أن المراد به العقاب الذي يفعله المحذّر ، وإن لم تكن العقوبة تسمّى نفسا في اللغة. ومثل ذلك مرويّ عن ابن عباس فإنه قال في قوله تعالى : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، قال : عقوبته. وعن الحسن قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، قال : عقابه ونقمته (٣). وأما قوله تعالى : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه : ٤١] ، فمعناه لديني. وقيل : لإرادتي (٤). وقوله تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) [الأنعام : ١٥٤] فإنه ذكر عائد على الرب ، وعلى التاء في قوله : (وَاصْطَنَعْتُكَ).

__________________

(١) المعنى : أن كلمة «نفسه» لا تدل على أن لله تعالى نفسا ، وإنما هي ذكر عائد ، أي ضمير عائد على الله ، فهي تشبه (فَاتَّقُوا اللهَ) ، كأنه قال : «ويحذركم الله الله». وإعراب «ذكر» بالضم خبر إنّ ، وهو مضاف إلى عائد ، وفي بعض النسخ «ذكر» بالتنوين خبر أيضا وعائد بالضم والتنوين صفة لعائد ، والأول أدق.

(٢) في (ج) : بحذف فعل.

(٣) تفسير الرازي مج ٤ ج ٨ ص ١٥. وتفسير الألوسي ٣ / ٢٠٢ عن ابن عباس. ولم يذكر الحسن. والدر المصون ٤ / ١١٣.

(٤) الخازن مع البغوي ٤ / ٢٥٣.

وهذا نحو قولهم : اخترت كذا لنفسي ، وفعلته بنفسي (١) ، ليس يخطر ببال أحد أنّ النّفس في مثال ذلك شيء غير القائل ، وإنما أرادوا بذلك التمكن من الإخبار بأنّ الفاعل والمفعول واحد على ما بيّنّاه.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ). الآية [الزمر : ٦٧]. قالوا : فدلّ على أنه قابض على الأرض ، وأنّ السموات بيمينه. وذلك يدل على الأعضاء (٢).

والجواب أنا قد دللنا على أنه ليس بجسم ، ولا يجوز عليه الأعضاء ، بأدلة العقل ومحكم القرآن ؛ فأما معنى ذلك فقوله (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، أي ما عظّموه حقّ عظمته. وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، أي يقدر عليها كما يقدر من الشيء في قبضته على ذلك الشيء. وعن ابن عباس قال في قوله تعالى : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) ، قال : في ملكه وقدرته. ومثله روي عن مجاهد (٣).

وأما قوله : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، فقد ذكرنا أنّ الوجوه التي تحتملها اليمين في اللغة وتنطلق عليها خمسة. وفصّلنا ذلك في كتاب الإرشاد ، فلا نطول بذكره هاهنا ، بل نقصد معنى الآية ، فقوله : (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، أي في قدرته يفعل ما يشاء بقوّته ، وذلك لأنّ معناه أن السموات تطوى أي ترفع أعمادها بقدرته التامّة ، وقوّته الخفية ، وكذلك قوله : (لَأَخَذْنا

__________________

(١) في (ب) : لنفسي.

(٢) ينظر في ذلك البخاري كتاب التفسير رقم ٤٥٣٣ ، و ٤٥٣٤.

(٣) ينظر القرطبي ١٥ / ١٨١ ، قال : إن معناها القدرة والإحاطة ، وهو منزه عن الجارحة والأعضاء.

مِنْهُ بِالْيَمِينِ) [الحاقة ٤٥] معناه بجد وصرامة ، قال الشاعر :

إذا ما راية نصبت (١) لمجد

تلقّاها عرابة باليمين

أي بجدّ وصرامة. ويجوز أن يكون معنى قوله باليمين ، أي بقدرته وقوته ، وهو مروي عن ابن عباس (٢). ومن جملة ما تعلقوا به آيات الوجه نحو قوله تعالى : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥] ، وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، ونحو قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] ، وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠].

قالت المشبّهة : وكلّ ذلك يدل على ثبوت وجه الله تعالى (٣) ، فدل ذلك على أنه جسم. والجواب أنّ الدلالة العقلية قد دلت على أنه ليس بجسم ، وكذلك الدلالة الشرعية ؛ فبطل ما ذهبوا إليه. ومما يزيد ذلك صحة أنّ هذه الآيات لا تقتضي جارحة مخصوصة ؛ لأنه متى علّق اللفظ بجارحة مخصوصة فسد معاني هذه الآيات ؛ لأن قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) متى حمل على جارحة مخصوصة فإنه يقتضي أن يهلك سائره ويبقى وجهه ، فيهلك ما سوى الوجه من يد ورجل وغيرهما ، وهذا مما لا يقولون به. ولا خلاف في أنه كفر من قائله. وكذلك قوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) وسائر ما تقدم ذكره يقتضي أن يكون مقصد القوم في طاعته إلى وجهه دون سائر أبعاضه ، وأنه لا يقبل عمل عامل إلا أن يبتغي وجهه دون سائره ، وهذا مما

__________________

(١) في (ب) رفعت ، ونصبت. وفي (ج) : رفعت.

(٢) القرطبي ١٨ / ١٧٨. والخازن مع البغوي ٦ / ٢٧٢.

(٣) التوحيد لابن خزيمة ١٠.

لا يقول به أحد. وكذلك قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) يوجب أن يكون وجهه حيث يتوجه الإنسان ، ويوجب أن يكون بجميع النواحي في الحالة الواحدة ؛ لتوجّه الناس إليه من كل وجهة ، وهذا مما لا يطلقه مسلم. والإجماع يرده ، والكفر لا يفارق قائله. فإذا تقرر ذلك بطل تعلقهم بالظاهر. على أنّ ذلك يؤدي إلى مناقضة القرآن ، وإيجاب التجسيم ؛ لأنه ينفي الوحدة ، ويوجب التكثير. والعقل يقضي بفساده. وقد بينا في كتاب الإرشاد ما تحتمله لفظة الوجه من المعاني اللغوية. والغرض الاختصار هاهنا. فلنتكلم في معنى لفظة الوجه في هذه الآيات ، فنقول : بأن معنى قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) أي فان ألّا وجهه أي إلّا هو (١). عن مجاهد. وقيل : دينه ، عن الصادق عليه‌السلام. وقيل : إلا ما أريد به وجهه ، عن أبي العالية (٢). وكذلك قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] أي يبقى هو. كما يقال : هذا وجه الرأي ووجه الصواب ، أي هو الرأي وهو الصواب (٣).

وروي عن ابن عباس في قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] أنه قال : يفنى كل شيء ويبقى الله وحده. ومعنى قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) روي عن مجاهد (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي قبلة الله ، وعن الحسن (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : وجه الله الذي وجهكم إليه. وقيل : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أي رضوان الله (٤).

__________________

(١) ينظر الكشاف ٣ / ٤٣٧.

(٢) ينظر في كل ذلك القرطبي ١٣ / ٢١٣. والخازن مع البغوي ٥ / ٣٩. والطبري مج ١١ ج ٢٠ ص ١٥٥. وقال في الكشاف ٣ / ٤٣٧ : إلا إياه ، والوجه يعبّر به عن الذات.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ٧ / ٤٦٥. والكشاف ٤ / ٤٤٦ ، قال : ذاته.

(٤) تفسير القرطبي ١٧ / ١٠٨.

ومعنى قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] ، وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ٢٠] ، وقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩] ، وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف : ٢٨] ، وما أشبه ذلك ، وقوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) [الروم : ٣٨] أي يريدون ابتغاء مرضاته وثوابه. وكذلك : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) أي طلب ثوابه ومرضاته. وقوله : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) [الليل : ١٩ ـ ٢٠] أي طلب رضى ربه الأعلى. والأعلى هو الأجل عما لا يجوز عليه. وقوله (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) قيل : لله وطلب رضاه ، لا للرياء والسمعة ، ولا لطلب عوض ، وقيل : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) أي لله وأمره وإيجابه.

قوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، أي احبس نفسك مع أصحابك المؤمنين ، ثم وصفهم فقال تعالى : (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) ، قيل : يصلون الصلاة على الدوام. وقيل : يذكرون الله. قوله : (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) ، أي تعظيمه ورضاه ، يريدون بالعبادة رضاه.

ومن ذلك آية الجنب وهي قوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر ٥٦] ، قالوا : فقد أثبت لنفسه جنبا. والجواب : أن الآية غير محتملة لما ذكروه ؛ لأنه إن أريد بالجنب العضو المعلوم لم يكن للآية فائدة ؛ إذ التفريط في الجنب الذي هو العضو غير معقول. والكلام على هذا الوجه كلام غير مفهوم. وأدلة العقول ومحكم القرآن تمنع من ذلك كما تقدم. فأما معنى

الآية فمعنى قوله : (عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) أي في أمر الله ، لا يدفع ذلك دافع من عقل ولا من لغة من إجماع. وعليه يدل قول الشاعر :

خليليّ كفّا واذكرا الله في جنبي

فقد نلتما (١) في غير إثم ولا ذنب

ومثله مروي عن علماء التفسير (٢) فإن بعضهم قال : معنى قوله تعالى : (ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) ، قال المراد في (٣) طاعة الله (٤) ، كما يقال : ما نالني في جنب فلان فهو راحة.

وعن ابن عباس أن معناه في ذات الله وأمره وحقه ، وهذا المعنى حسن عندنا (٥). وقد قال : من يوثق بمعرفته من الشعراء وهو ابن دريد الشاعر (٦) ما يلائم ذلك ، حيث قال :

فكلّما لاقيته مغتفر

في جنب ما أسأره شحط (٧) النوى (٨)

__________________

(١) في (ب) و (ه) : قلتما.

(٢) ينظر القرطبي ١٥ / ١٧٦. وجامع البيان مج ١٢ ج ٢٤. ص ٢٤. وأبو السعود ٧ / ٢٦٠. والماوردي ٥ / ١٣٢. والخازن مع البغوي ٥ / ٣٢٠. والكشاف ٤ / ١٣٧. والدر المنثور ٥ / ٦٢٤. والرازي مج ٧ ج ١٤ ص ٧. والدر المصون ٩ / ٤٣٥. والبحر المحيط ٧ / ٤٣٥. وروح المعاني مج ١٣ ج ٢٤ ص ٢٧. كلهم فسر في جنب الله : ذكر الله. أمر الله. طاعة الله ، ونحو ذلك على الاستعارة. وأنشدوا قول سابق البربري من شعراء الحماسة :

أما تتّقين الله في جنب وامق

له كبد حرّى عليك تقطّع

(٣) «في» ساقطة من (ب) ..

(٤) تفسير ابن عباس ص ٣٩٠.

(٥) قال الإمام زيد عليه‌السلام في غريب القرآن ص ٢٧٤ : يوم القيامة. وجنب الله : علي بن أبي طالب ، وموالاة أهل بيته عليهم‌السلام. وقال : في أمر الله.

(٦) هو محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية الأزدي ، أبو بكر أديب شاعر نحوي لغوي نسابة ، ت ٣٢١ ه‍ له عدة مؤلفات. ينظر معجم المؤلفين لكحالة ٣ / ١١٨.

(٧) أسأره : أبقاه. وشحط : بعد. شرح مقصورته ص ٤.

(٨) معناه : أن كل ما لاقاه من محبوبه من جفا مغتفر قياسا بما سببه البعد من أذى. مثل قوله :

ذنب الجفى عند ذنب البين مغتفر

فليت من ودّعوا عادوا وإن هجروا

وليس هناك عضو يتصوّر. ويقال : هذا ما أصابني في جنب فلان أي في ذاته وحقه ، وهذا ظاهر.

وعن مجاهد قال : (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في أمر الله. وقيل : (فِي جَنْبِ اللهِ) أي في قربه وجواره وهو الجنة. ومنه : (الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) [النساء : ٣٦] أي بالقرب. وقيل : في طريق الله التي أمر بها (١). وعلى هذا ، الجنب الجانب [أي الجانب] (٢) الذي يؤدي إلى رضى الله تعالى. وقد بيّنّا ما تحتمله لفظة الجنب في اللغة من الوجوه في كتاب الإرشاد ، وأبطلنا أن يكون المراد شيئا منها سوى ما ذكرناه (٣) هاهنا.

ومن ذلك آية الإذن (٤) نحو قوله تعالى : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [إبراهيم : ١١] وقد دللنا بأدلة العقول على أنه تعالى ليس بذي أعضاء ، وأنه لا يشبه الأشياء وأكدنا ذلك بمحكم الكتاب.

__________________

(١) القرطبي ١٥ / ١٧٦. والطبري مج ١٢ ج ٢٤ ص ٢٤.

(٢) ما بين القوسين زائد في (ب) و (ج) و (د) و (ه) و (ز).

(٣) في (ب) : سوى فيما ذكرناه.

(٤) في (ب) تعليقة جاء فيها : أما آية الإذن فإن كان استدل بها مستدل من المشبّهة فهو دليل على جهله وعدم معرفته باللغة ، لأن الإذن بكسر الهمزة ليس من معانيها الجارحة. ومثله لا يستحق أن يجاب عليه ، والشبهة في هذه الآية ونحوها للمجبرة ، وقد أجاب عليهم أئمتنا عليهم‌السلام : منهم الإمام الناصر الأطروش عليه‌السلام في البساط ص ١٥٤. كتبه المفتقر إلى الله مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي. حيث فسروا الإذن بالإرادة في قوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بالإرادة والمشيئة ، وأجاب عليهم العدلية بأن معنى الإذن في الآية العلم وهو من معانيها العربية كما ذكر ذلك الإمام الناصر في البساط ، وقد أشرت إليه في سيرته في شرح الزلف. وأما الجارحة فهي الأذن ـ بضم الهمزة ـ كما ورد في الكتاب العزيز : (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ). والله تعالى الموفق. وفي هامش الأصل : أما آيات الإذن فلا ظاهر لها حتى يتعلق به المخالف لوجهين : لفظي ومعنوي ، أما اللفظي فالإذن بكسر الهمزة لا تطلق على الجارحة وإنما هي بضم الهمزة ، قال الله تعالى : (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ). وأما المعنوي فلا معنى ؛ لأن تراد الجارحة في شيء من الآيات الثلاث لو فرضنا صحة إطلاق اللفظ عليها ، وهو ممنوع. أ. ه

وأما معنى الآية ، فمعنى قوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي بأمره وعلمه وتدبيره ، وهو شائع في اللغة العربية (١) ، لا ينكر ذلك من له أدنى معرفة بها.

وكذلك قوله تعالى : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) [إبراهيم : ١] ، أي بأمر ربهم وتوفيقه إياهم ، وهو من له لطف (٢). وكذلك قوله : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] ، أي بأمري. وقوله : «فيكون طائرا بإذني» أي بفعلي له (٣) ، وكذلك سائر الآيات التي تجري هذا المجرى.

[اليد في القرآن]

ومن جملة ما تعلقوا به آية اليد وهي قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ، قالوا : وهذا يدل على أن له جارحتين كالواحد منا (٤).

والجواب : أنا قد دللنا بأدلة العقول على إبطال مذهبهم ، وأكّدنا ذلك بما ذكرناه من محكم القرآن نحو قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وغير ذلك. فإذا ثبت ذلك ؛ فاليد تنصرف [في اللغة] على ثمانية معان (٥)

__________________

(١) ينظر تاج العروس ١٨ / ١١.

(٢) ربما أراد أن التوفيق لمن له لطف من الله. ينظر القرطبي ٩ / ٢٢٢.

(٣) الماوردي ٢ / ٨٠.

(٤) الرازي مج ٦ ج ١٢ ص ٤٥ ، وقال : اختلفت الأمة في تفسير يد الله تعالى ؛ فقالت المجسمة : إنها عضو جسماني كما في حق كل أحد. وقال بذلك ابن خزيمة في كتاب التوحيد ص ٥٦.

(٥) عبارة اليد تطلق على وجوه : أحدها الجارحة. ثانيها النعمة ، نحو لفلان عندي يد. وثالثها القوة ، نحو أولي الأيدي. رابعها الملك ، نحو الضيعة في يد فلان. خامسها شدة العناية والاختصاص ، نحو لما خلقت بيدي. فذهب الناس في تفسيرها إلى مذاهب : مذهب المجسمة وقد أثبتوا الجارحة لله. مذهب المفوضة وهم بعض السلف حيث قالوا : تحتمل الجارحة وعدمها ؛ فلا نجزم بأيهما ونفوض الأمر لله. مذهب العدلية وهو ينفي التجسيم نفيا قاطعا كما ذكر المؤلف. ينظر تفسير الرازي مج ٦ ج ١٢ ص ٤٤.

قد (١) بيناها في كتاب الإرشاد ودللنا على ثبوتها في اللغة (٢). وإذا ثبت ذلك تكلمنا في معنى الآية ؛ لأنه المطلوب دون ما عداه ، فنورد الآية من أولها ، ونذكر معناها الذي ذكره المفسرون فنقول : روي أن الله تعالى كان قد بسط على اليهود ، وأكثر الخصب عليهم ، فلما عصوا النبي عليه‌السلام قبض الله عليهم في الرزق ، فقالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ، كما حكى الله في قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] وقيل : اسم القائل فنحاص (٣). ومعنى مغلولة : أي مقبوضة عن العطاء (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) أي ألزموا البخل ؛ فلهذا لا تجد ألأم منهم ولا أبخل. وقيل : غلّت في نار جهنم ، أي شدّت إلى أعناقهم. قوله تعالى : (وَلُعِنُوا بِما قالُوا) اللعنة من الله الإبعاد من الخير. واللعنة من غيره الدعاء باللعن. قوله (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] أي نعمتاه : نعمة الدنيا ونعمة الآخرة ، وعلى هذا يقول قائل أهل اللغة : عندي لفلان يد ، وشكرت يدك عندي ، معناه النعمة. وتقول لفلان : عندي يد بيضاء (٤). وقال الأعشى (٥) يخاطب ناقته :

متى ما تناخي عند باب ابن هاشم

تريحي وتلقي من فواضله يدا

وأنشد الفرّاء :

__________________

(١) في بقية النسخ : تنصرف في اللغة على ثمانية معان ، وقد.

(٢) ينظر في الطبرسي ٣ / ٣٧٥.

(٣) ينظر الطبرسي ٣ / ٣٧٥ ، والبحر المحيط ٣ / ٥٢٣ ، والدر المنثور ٢ / ٢٢٥.

(٤) الطبري مج ٤ ج ٦ ص ٤٠٦. والقرطبي ٦ / ١٥٥.

(٥) الأعشى : ميمون بن قيس بن جندل ، يقال : الأعشى الكبير ، من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية ، وأحد أصحاب المعلقات ، أدرك الإسلام ولم يسلم ، وتوفي سنة ٧ ه‍. ينظر الأعلام ٧ / ٣٣١.

ويدان بيضاوان عند محلّم

قد يصنعا لك بينهم أن تهضما (١)

وتعلقوا بقوله تعالى : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) [يس : ٧١] ومعناه : مما خلقنا ؛ لأنه لا خلاف بين الأمة أن خالق الأنعام هو الله ، سواء أثبتت له يد أو لم تثبت (٢) ، فبطل قولهم. وكذلك (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أي بقوتي. وقيل : بنعمتيّ : نعمة الدنيا ونعمة الآخرة. وقيل : لما (٣) خلقت أنا ، واليدين (٤) صلة. وكذلك قوله : (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) [الذاريات ٤٧] ، أي بقوة عن ابن عباس (٥). واليد في اللغة بمعنى القوة ، يقال : ما لي بكذا يد ، وما لي به يدان ، أي ما لي به قوة. قال الشاعر وهو عروة (٦) :

فقالوا : هداك الله والله ما لنا

بما خضبت (٧) منك الضلوع يدان

__________________

(١) الموجود في شواهد النحو : قد يمنعانك أن تضام وتهضما وهو الأصح. وفي البيت زيادة ونقص. فانظر تاج العروس ٢٠ / ٣٥٣ ، ولسان العرب ١٥ / ٤٢٠. أما يصنعا في الأصل فهو ملحون لحذف النون بدون ناصب ولا جازم. والبيت في عمدة الحفاظ ٤ / ٤٠٧ ، ولفظه :

يديان بيضاوان عند محلم

قد يمنعانك أن تضام وتظهرا

(٢) في (ب) : أثبتّ يدا أو لم تثبت.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) اليدين على الحكاية ، وإلا «واليدان» بالألف مبتدأ.

(٥) ينظر الطبري مج ١٣ ج ٢٧ ص ١١. والقرطبي ١٧ / ٣٦. وتفسير ابن عباس ص ٤٤٢.

(٦) عروة بن حزام بن مهاصر ، أحد بني ضبه ، شاعر إسلامي ، أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى ، لا يعرف له شعر إلا في عفراء ابنة عمه ، توفي في أيام عثمان ، وقيل : أيام معاوية. الأغاني ٢٤ / ٢٣٣ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٢٢ ، والأعلام ٤ / ٢٢٧.

(٧) في هامش (ب) : حملت. وهو كما في الشعر والشعراء لابن قتيبة ٢ / ٦٢٤ ، وفي الأغاني ٢٤ / ٢٨٢ ضمنت منك. وفي بعض النسخ : حضنت.

وقال الغنوي (١) :

فإذا رأيت المرء يشعب (٢) أمره

شعب العصا ويلجّ في العصيان

فاعمد لما يعلو فمالك بالذي

لا تستطيع من الأمور يدان

يعني بقوة. والمعنى في ذلك : أنه أمره بأن يتكلف من الأمور ما يطيق.

[العين في القرآن]

ومن جملة ما تعلقوا به آيات العين نحو قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] قالوا : فدل على أن له أعينا ، وذلك يدل على الأعضاء (٣).

والجواب عن ذلك من وجوه ثلاثة : أحدها : أنه لا يصح الاستدلال بالسمع في إثبات التجسيم ، ما لم يعلم كونه عدلا حكيما ، كما تقدم تفصيل ذلك. والثاني : أنا نعارضهم بما تقدم من أدلة العقول وأدلة السمع المحكمة. والثالث : أن نبين معنى هذه الآية وما شابهها من الآيات المتشابهة فنبطل ما ذهبوا إليه ، وقد ذكرنا في كتاب الإرشاد أن لفظة العين تنصرف في اللغة على ثلاثة عشر معنى (٤) ، فلنذكر ما يوافق الآية منها دون ما عداه إذ قد أبطلنا عند تعديدها أن يكون المراد بذكر العين في كتاب الله تعالى أو ذكر الأعين شيئا مما توهّم المخالف. فقوله تعالى : (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي

__________________

(١) هو طفيل بن عوف بن كعب الغنوي شاعر جاهلي من قيس غيلان كان شجاعا ت ١٣ قبل الهجرة. الأعلام ٣ / ٢٢٨.

(٢) يشعب : يتفرق.

(٣) ينظر الإبانة للأشعري ص ١٢٠. وابن خزيمة ص ٤٢. وأقاويل الثقات ص ١٤٥ ، يقولون : له عين بلا كيف ، ووجه ويد بلا كيف.

(٤) تطلق العين على : الجارحة ، والإنسان ، والجاسوس ، وجريان الماء ، والجماعة ، والحاضر من كل شيء ، وخيار الشيء ، والدينار ، والذهب ، وذات الشيء ، والربا ، والشمس ، والسحاب. وله معان أخرى كثيرة. ينظر تاج العروس ١٨ / ٢٠٤. والقاموس ص ١٥٧٢.

بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٣ ـ ١٤] ، المراد تجري بعلمنا. وعن الحسن أنه قال : (بِأَعْيُنِنا) أي بأمرنا (١). وقيل : تجري بأعين أوليائنا الموكّلين بها. وقيل : بحفظنا وحراستنا لها. وقيل : بأعيننا التي أجرينا في الأرض وكذلك قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] فإن قوله : (عَلى عَيْنِي) أي لتربّى بأمري ، عن ابن عباس (٢). وروي في معناه عن الحسن لتغذّى بعلمي. وكذلك قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] أي بعلمنا وحفظنا لك من قومك ، ووحينا على ما علّمناك من الصّنعة فيها. قال ابن عبّاس : بتعليمنا ووحينا ، قال : فهبط جبريل فعلّم نوحا كيف يعمل طولها وعرضها وسمكها [سقفها] وذنبها (٣).

وكذلك روي عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] ، قال في كلاءتنا وحفظنا (٤) ، وهو مشاكل لنمط الآية ، أي لأنك محافظ عليك ومراعى أمرك. وقيل : بعلمنا تتقلب ، عن مجاهد ، قال : وهو قوله : (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) [الشعراء : ٢١٨ ، ٢١٩] ، وقوله تعالى : (يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) [محمد : ١٩] ، والأول أصح وأوجه.

__________________

(١) ينظر تفسير الإمام زيد ص ٣١٢. وتفسير جامع البيان للطبري مج ١٣ جزء ٢٧ ص ١٢٥. والقرطبي ١٧ / ٨٧. والدر المصون ١٠ / ١٣٥. والأعقم ص ٦٩١. والمنتخب في تفسير القرآن ص ١٨٧. والطبرسي ٩ / ٣١٥. والمارودي ٥ / ٤١٢. وفتح القدير للشوكاني ٥ / ١٢٣. والميزان ١٩ / ٦٨. والخازن مع البغوي ٦ / ٦٥

(٢) ينظر تفسير ابن عباس ص ٢٦١.

(٣) ينظر الدر المنثور : ١ / ٥٩٣.

(٤) غريب القرآن للإمام زيد ص ٣٠٨. وجميع التفاسير السابقة تفسر كذلك. قال في تفسير ابن عباس : بمنظر منّا.

واعلم أنّ ظاهر هذه الآيات يقتضي ما لا يجيزه مسلم ولا يطلقه أحد من الأمة. ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) [طه : ٣٩] يوجب أن يكون صنع المخاطب وهو موسى عليه‌السلام على عين الله تعالى ، وكذلك قوله : (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) [الطور : ٤٨] يقتضي أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأعينه تعالى فتكون أعينه مكانا له. وكذلك قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧] ، وقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [القمر : ١٤] ، والقوم لا يقولون بذلك. ويقتضي أيضا أن يكون له تعالى أكثر من عينين ، وذلك مما لا يصح القول به. فإذا منع الدليل من الجريان على الظاهر ، ورجعوا إلى التأويل ، فنحن أولى منهم بذلك لما تقدم من الدلالة ، وهكذا نسلك معهم هذا المسلك في جميع الآيات والله الهادي.

ومما تعلقت به الحشويّة المشبهة قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢] قالت الحشوية وذلك أن ربّهم يأتيهم يوم القيامة في غير صورته التي يعرفون ، فيقول : أنا ربكم فيهمّون أن يبطشوا به ، فيكشف عن ساقه ، فيخرّون سجّدا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا (١).

والجواب : عن ذلك أن نقول ليس لهم في ظاهر الآية تعلّق ؛ لأنه تعالى لم يقل لهم : إنّه يكشف عن ساقه ، ولا أنبأهم من الذي يكشف عن ساقه ، وإنما أخبر عن لفظ المجهول ، فذكر ساقا منكّرا غير معرّف (٢) ولا دلالة في ظاهر الآية

__________________

(١) رواه البخاري ٦ / ٢٧٠٦ رقم ٧٠٠١ ، ومتن الحديث ظاهر النكارة يعرف ذلك من تأمله من غير تعصب وهو أيضا مروي برقم ٤٣٠٥ ، ٧٠٠٠. وفي مسلم ١ / ١٦٧ ، ١٦٣ ، في باب الرؤية. وينظر الصفات لابن خزيمة ص ٩٠. وأقاويل الثقات ص ١٧٣. وتفسير ابن كثير ٤ / ٤٠٧.

(٢) في (ب) ، (ج) : معروف.

فسقط تعلّقهم بها. فأمّا هذا الخبر فخبر ضعيف (١) معارض للعقل ومحكم القرآن والسّنّة المعلومة وإجماع المسلمين من الصحابة والتابعين فوجب سقوطه. والساق له معان أربعة في لغة العرب (٢) وقد ذكرناها في كتاب الإرشاد. والذي يختص (٣) الآية من تلك المعان هو المعنى الرابع وهو شدّة الأمر في يوم القيامة. وهذا المعنى ثابت في اللغة ، فإن الساق قد يراد به شدّة الأمر ، ومنه ساق الحرب ، يقال : قد قامت الحرب على ساق. وكشفت الحرب عن ساقها إذا ظهرت شدّتها. قال الشاعر (٤) :

كشفت لهم عن ساقها

وبدا من القوم الصّراح

وقال غيره :

وشرّ ما فوقك ضرب الأعناق

قد قامت الحرب بنا على ساق (٥)

__________________

(١) هامش في (ب) : بل موضوع يشهد لكذبه المعقول والمسموع ، تمت كاتبه. والكاتب السيد محمد أحمد علي شمس الدين.

(٢) في كتب اللغة معان هي : ١ ـ ساق القدم. ٢ ـ عبارة عن الشدة ، ٣ ـ ساق الشجرة. ٤ ـ ساق الحمام. أنظر تاج العروس ١٣ / ٢٢٦.

(٣) في (ج) : يخص.

(٤) الشاعر هو جدّ أبي طرفة بن العبد. واسمه سعد بن مالك أحد سادات بكر بن وائل وفرسانها والبيت من قصيده قالها في حرب البسوس وشطر البيت الأخر :

وبدا من الشر الصّراح

كما في ديوان الحماسة لأبي تمام ١ / ١٩٢ ـ ١٩٣. وشرح المفصل ٥ / ٧٢.

(٥) في الدر المنثور ٦ / ٣٩٨ : سئل ابن عباس عن قوله : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) ، قال : إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب ، أما سمعتهم قول الشاعر :

وقد ورد (١) هذا التفسير عن الصحابة والتابعين (٢) ، روي عن ابن عباس أنه قال : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) [القلم : ٤٢]. قال : عن أمر شديد ، قال : وهو أشدّ ساعة في القيامة ، وعن سعيد بن المسيب قال : إنما يعني شدة الأمر.

ومن ذلك قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) .. الآية [النور : ٣٥] قالوا : فالنور جسم فلمّا صرّح تعالى بأنه نور صرّح بأنه جسم (٣).

__________________

اصبر عناق إنه شر باق

قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق

وقامت الحرب بنا على ساق

أنظر الدر المنثور ٦ / ٣٩٧. في الدر المصون ١٠ / ٤١٨. والبحر المحيط ٨ / ٣١٦ :

صبرا أمام إنه شر باق

وقامت الحرب بنا على ساق

وقول الشاعر حاتم :

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها

وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

وكذلك :

قد شمّرت عن ساقها فشدّوا

وجدّت الحرب بكم فجدّوا

وفي رواية : كشفت.

(١) في (ب) : روي. وفوقها تعليقة : ورد.

(٢) ينظر حول هذا : الكشاف ٤ / ٥٩٣ ، والمصابيح ١ / ٤١٣. والبحر المحيط ٨ / ٣١٦. والطبرسي ١٠ / ٩٥. والطبري مج ١٢ ج ٢٩ ص ٥٢. والدر المصون ١٠ / ٤١٦. والدر المنثور ٦ / ٣٩٧. وتفسير الماوردي ٦ / ٧٠. وكل تفاسير القرآن تفسر بما فسّره المؤلف. وكلها تؤكد أن الساق غير الجارحة. ومن فسره بالجارحه فقد خالف العقل واللغة ، وحمل القرآن على روايات هزيلة مكذوبة.

(٣) هو قول الغزالي في كتابه مشكاة الأنوار كما نقله عنه الفخر الرازي في تفسيره وقال إنه قال : إن الله نور في الحقيقة ، بل ليس النور إلا هو. ينظر تفسير الرازي مج ١٢ ج ٢٣ ص ٢٢٥ ، وهو قول المجسمة ومنهم الجواليقي نقله الشوكاني في تفسيره ، فتح القدير ٤ / ٣٢. أما إمام الحرمين الجويني فقال : لا يستجيز منهم منتم إلى الإسلام القول بأن نور السموات والأرض هو الإله. والمقصود من الآية ضرب الامثال. والمعنى : الله هادي أهل السموات والأرض. ينظر الإرشاد ص ١٤٨. وفي أقاويل الثقات ص ١٩٥ : الصحيح عندنا أنه نور لا كالأنوار. وتفسير ابن كثير ٣ / ٢٩٠.

والجواب : أنا نمنعهم من التعلّق بظاهر الآية بوجوه ثم نبين معناها (١) فأما الوجوه المانعة من التعلق بظاهرها : فمنها أنه لم يقل : نور على الإطلاق بل قيد ، فلو كان نورا على الحقيقة لم يكن لذلك فائدة ؛ لأن ما كان نورا على الحقيقة فهو نور لأيّ شيء كان ، فلا وجه لإضافته إلى السموات والأرض وهذا هو الوجه الأول.

وثانيها : أنه لو أراد أنه نورهما على معنى الضياء ، لوجب أن لا يكون في شيء من السموات والأرض ظلمة بحال لأنه دائم لا يزول ، ولم يقل : إنه نورهما في وقت دون وقت. وإن جوّزوا عليه التّغيير لزمهم أن يكون نورا لهما في حال دون حال.

وثالثها : أنه لو كان المراد به الضياء ، لوجب أن يقع به الاستضاءة دون الشمس ، والمشاهدة قاضية بخلافه.

ورابعها : أنه يؤدّي إلى مناقضة القرآن قال الله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] ، فكيف يكون نورا مع كون النور مخلوقا ، ولفظة النّور عامّة لوجهين : أحدهما عند بعض العلماء ، وهو أنها لفظة جنس معرّفة بالألف واللّام ، وذلك عندهم يقتضي العموم. والثاني : وهو أنها عامة بعلّة الخلقيّة والجعليّة ، ولا يجوز مناقضة القرآن لقوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) [ق : ٢٩] ، وقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، وقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

وخامسها : أنّ قولهم : النور جسم ، غلط ؛ لأن النور هو الضياء وهو عرض

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : معانيها.

وإنّما الجسم الذي يقوم به النّور دون ذات النور ، هذا عند بعض العلماء وعند بعضهم أنّ النور جسم ؛ لأن النور عندهم هو الأجسام الصقيلة الرقيقة النّيرة كأشعة الشمس والقمر وغير ذلك. والظلمة عندهم هي الأجسام الرقيقة المنبثّة المختصّة بالسواد كالهواء الذي لا شعاع فيه ، وعلى الوجهين جميعا فقولهم باطل ؛ لأنّا قد دللنا فيما تقدم على حدوث الأجسام والأعراض ، وعلى قدمه تعالى. فبطل ما ذكروه.

وسادسها : أن ذلك تحقيق قول الثنوية في زعمهم بالأصلين : النور والظلمة وغير ذلك من الوجوه التي ذكرناها في كتاب الإرشاد.

وأما معنى الآية فقراءة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : الله نور السموات والارض [النور : ٣٥] أي هادي أهل السموات والأرض (١) ، وهي (٢) قراءة ابن مسعود ، وقيل : نور بمعنى منوّر السموات (٣) ؛ لأنه خلق النور (٤). قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) قيل : هدايته للمؤمن (٥). وقيل الهاء في نوره راجعة إلى غير مذكور (٦) وهو المؤمن ، يعني مثل نور المؤمن الذي في قلبه. وقرأ أبيّ : مثل نور من آمن به (٧).

__________________

(١) ينظر تفسير الرازي مج ١٢ ج ٢٣ ص ٢٣١ حيث فسر بهذا. وكتاب الإرشاد للجويني ص ١٤٨. والماوردي ٤ / ١٠٢. والدر المنثور : ٢ / ٨٧.

(٢) كل النسخ : وهو ، ما عدا (ب) فقد أصلحها «وهي» ، ولذلك أثبتناه لأنه الأولى.

(٣) رواها صاحب الدر المصون ٨ / ٤٠٣. وذكر أن قراءة زيد بن علي ، وأبي جعفر المنصور ، وعبد العزيز المكي شيخ الحرم المكي. وينظر غريب القرآن للإمام زيد ٢٢٤.

(٤) في بقية النسخ : خالق النور.

(٥) في (ج) : للمؤمنين.

(٦) في (ب) : المذكور

(٧) الجامع للقرطبي ١٢ / ١٧٢.

واعلم أن أصل النور ما أبان لك الشيء ، ولذلك سمّي الضياء نورا ؛ لأنه يتبين به الأشياء فتدرك ، وقد جعل الله كلّ ما يقع به الاهتداء من القرآن ، والنبي ، والإسلام نورا ؛ لأن ذلك يبيّن الحقّ من الباطل ، فقال في القرآن : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن : ٨]. وقال في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٦].

ووصف الهداية في الإسلام بأنها نور ؛ فقال : (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [المائدة : ١٦] ووصف الله تعالى نفسه بأنه نور السموات والأرض ؛ لأنّ كلّ من فيهما يهتدي به وبكلامه وهدايته ودلالته ، فهو نور القلب لا نور العين ، وهو هادي أهل السموات وأهل الأرض.

المسألة الثامنة

ونعتقد أنه تعالى غنيّ. وفيها فصلان :

أحدهما : في معنى الغني. والثاني : في الدلالة على أنه تعالى غني.

أما الأول : فالغنيّ هو : الحيّ الذي ليس بمحتاج ، فلا غنيّ على الحقيقة إلا الله تعالى ؛ لأن الواحد منا وإن لم يكن محتاجا إلى غيره من الخلق فهو محتاج إلى الله تعالى ، وإلى ما في يده وقبضته من الأموال وغيرها ، فإذن الحاجة لا تكون زائلة عن أحد من الأحياء على الإطلاق إلّا عن الله تعالى.

وأما الفصل الثاني : وهو في الدلالة على أنه تعالى غنيّ :

أمّا أنّه حيّ وهو جنس الحدّ فقد تقدم بيانه ، وأمّا أنه ليس بمحتاج وهو فصل الحدّ. فالذي يدل على ذلك أنّ الحاجة هي الدواعي الداعية إلى جلب نفع أو دفع ضرر ، والمنفعة والمضرة لا تجوزان إلّا على من جازت عليه اللّذة والسرور والغمّ والألم ؛ لأن المنفعة هي اللذة والسرور وما أدى إليهما أو إلى

أحدهما ، والمضرّة هي الغمّ والألم وما أدى إليهما أو إلى أحدهما ، واللّذة والسرور والغم والألم لا تجوز إلّا على من كان مشتهيا أو نافرا ؛ لأنّ اللّذة تستعمل في معنيين : ـ

أحدهما : إدراك الشيء مع اقتران الشهوة به ؛ كإدراك أحدنا للقمة العسل. والثاني : المعنى الحادث المدرك بمحل الحياة في محل الحياة مع اقتران الشهوة به ، نحو ما يحصل مع الجرب عند حكّه للجرب الذي فيه.

والألم يستعمل في معنيين ـ أحدهما : إدراك الشيء مع اقتران النّفرة به ؛ كإدراك أحدنا للقمة الحنظل والصّبر. والثاني : المعنى الحادث المدرك بمحل الحياة في محل الحياة مع اقتران النّفرة به ، نحو ما يحصل مع الجرب عقيب حكّ (١) الجرب الذي فيه من الألم. فإذا كانت اللذة والسرور والغم والألم لا تجوز إلا على من كان مشتهيا أو نافرا فيلتذّ بإدراك ما يشتهيه ويستر به ، ويتألم بإدراك ما ينفر عنه ويغتم به. فإن الشهوة والنّفار لا يجوزان إلا على من جازت عليه الزيادة والنّقصان. والزيادة والنقصان مستحيلان على الله تعالى في كل حال من الأحوال ، وإذا استحالت عليه الشهوة والنّفار في كل حال استحالت عليه الحاجة في كل حال ، وإذا استحالت عليه الحاجة في كل حال ثبت أنه غنيّ في جميع الأحوال عن كل حسن وقبيح من الأفعال.

وممّا يؤكّد ذلك من جهة السّمع

قول الله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) [محمد ٣٨] ، وقوله : (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [التغابن ٦] ، إلى غير ذلك.

__________________

(١) في بقية النسخ : حكه للجرب.

المسألة التاسعة :

ونعتقد أن الله تعالى لا يرى بالأبصار في الدنيا ولا في الآخرة

والكلام فيها يقع في ثلاثة مواضع : أحدها : في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثاني : في الدّلالة على صحّة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالف. وثالثها : في إيراد ما يتعلّق به المخالفون من الآيات والأخبار المتشابهة ، وبيان ما يصحّ من معانيها (١).

__________________

(١) لم أكن متحمّسا للتعليق على مسألة الرؤية ؛ لأنها متعلقة برؤية الله أو عدم رؤيته يوم القيامة ، ومع ذلك فالخصام حولها شديد. المانعون من الرؤية يتّهمون المجيزين لها بأنهم مشبهة ومجسّمة ؛ لأن المرئي لا بد أن يكون جسما أو عرضا ؛ وهذا كفر ؛ لأن الله ليس كمثله شيء ؛ والرؤية تؤدي إلى مناقضة القرآن ؛ لأن النص القرآني الواضح المحكم ينفي الرؤية ، قال سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، [الأنعام : ١٠٣].

والمجيزون للرؤية استدلوا بقوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ونحوها ، وما رواه البخاري فقد أورد حديثين رقم «٧٠٠٠» ، «٧٠٠١» ذكر فيها أن الله يأتي إلى أمة محمد يوم القيامة وفيها المؤمن والمنافق فينكرون أنه الله ؛ فيأتي مرة ثانية في صورة قد عرفوها. وفي الحديث الثاني كذلك إلا أنه يقول : هل بينكم وبينه علامة؟ فيقولون : الساق ؛ فيكشف عن ساقه.

وهذا لا إشكال فيه عند من يثبت الجسم لله والأعضاء ، ويقول بالخروج من النار ، ولا مفر منه عند من يجمد فوق النصوص.

أما المانع من رؤية الله فلهم نظر في تفسير الآيات والاحاديث الواردة حول الرؤية ، وقد وجهوا هذه الأسئلة والإشكالات على ما رواه البخاري وغيره :

أولا : أن في رواية أبي هريرة أن المنافقين من جملة من يرى الله ، في حين أن الرؤية عند من يقول بها إنما هي تكريم للمؤمنين فكيف ثبتت هنا للمنافقين؟!.

ثانيا : الرؤية في الحديثين في المحشر ، وهم يفسرون الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) ؛ [يونس ٢٦] ؛ بأنها رؤية في الجنة.

ثالثا : إن الأمة قد أنكرت الله أوّلا ولم تعرفه ، ثم عرفته ثانيا فمتى رأته وأثبتت صورته حتى تقر وتنكر؟ هل تمت رؤيته في الدنيا؟ أو كيف جاز أن ينكروه ثم يعرفوه؟ إن هذا عجب!!.

__________________

رابعا : كيف يجوز على الله أن يأتي بوجه ثم بعد ذلك يعود بوجه آخر هل هذا يشبه التمثيل؟ ، وهل لا مانع من القول بأن الله متغير.

خامسا : ما هي العلامة التي في الساق؟ ـ كما في رواية أبي سعيد «٧٠٠١» من البخاري ـ هل هي لافتة أو عنوان؟! أو كما يقال : إن في الساق جرحا من آثر السهم الذي أطلقه النمروذ أو فرعون ليقتل الله؟.

سادسا : المسائل الاعتقادية لا يعمل فيها بأخبار الآحاد. ولا سيما إذا تعارضت مع القرآن الكريم.

وأريد أن أنبه إلى أن الكلام طويل ، والبحث واسع وأنصح بالآتي :

أولا : إذا كان بين المانعين للرؤية أئمة آل البيت ولا سيما الإمام علي وأولاده حتى آخر القرن الثالث الهجري على الأقل فإنا نجدهم مجمعين قطعا على أن الله لا يرى قطعا ، وهؤلاء هم الذين نص الأثر النبوي الشريف على اتباعهم ، حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب وعترتي أهل بيتي» [مسلم برقم ٢٤٠٨]. فها هم أهل البيت يقولون بعدم الرؤية ؛ فلما ذا لا نلتفت إلى رأيهم؟.

ثانيا : إذا جاز إطلاق العذر لمن أدى به اجتهاده إلى جواز الرؤية فهل يجوز تكفيره؟ أنا شخصيا أرى أن نفرق بين المعاند ، والمقلد البليد ، وبين الباحث الجاد ؛ فأرى التوقف إزاء الفريق الثاني ، ولا أرى تكفير ولا تفسيق من بحث وطلب وتعب وليس في قلبه أدنى معاندة ، ولا زال مستعدّا لقبول الحق ، فعسى الله أن يعذره. أما من يعاند ويذهب إلى رمي المانعين من الرؤية بالكفر أو الزندقة فهو مجازف ليس له ورع. وليس القائل بالرؤية أولى بالحق من المانع منها.

ثالثا : عند ما نبحث المسائل ينبغي أن نستحضر عظمة الله وجلاله ، وأن لا نتعامل مع الله وكأننا في قسم التشريح ؛ لأن الله أجل وأعظم من أن تحيط به الأوهام ، أو تتخيله الظنون سبحانه سبحانه.

رابعا : لما ذا يتعمد البعض تدريس هذه المسألة وأمثالها في المساجد التي لا تقول بالرؤية طلبا للفتنة ، وبحثا عن الشبهات ، وإثارة المشاكل وإلهاء المسلمين عن مصيرهم المهدد في قضايا قد أكل الدهر عليها وشرب. وإذا كانت قابلة للبحث والمناظرة أيام قوة المسلمين ؛ فإن الحال قد تغير ويجب تقديم الأهم مثل جهاد اليهود ، وتحرير المسجد الأقصى ، وبناء بلاد المسلمين ، وتحسين معيشتهم ، ونحو ذلك. وعلى المسلمين أن ينافسوا غيرهم في البر والبحر والجو ، وكم أتمنّى أن أصفع من لا عقل له حين تسلم عليه وما يكاد يرد عليك السّلام حتى يقول : هل الله يرى؟ هل القرآن مخلوق؟ هل الله فوق العرش؟ هل قراءة يس حرام؟ هكذا تحس أنك أمام شريط كاست أو مخلوق محنّط يسرد لك الأسئلة الباردة المكررة التي لا فائدة منها سوى تفريق وتمزيق المسلمين ، وإيغار الصدور.

أما الموضع الأول : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف

فذهب المسلمون كافّة إلى أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة (١). والخلاف في ذلك مع المشبّهة ، والأشعرية (٢) ، وضرار بن عمرو الكندي (٣) ، والحسن بن أبي بشر الأشعري (٤) ، وسنفصّل قول كلّ مخالف منهم عند الكلام عليهم إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) ينظر المغني ٤٢٩.

(٢) ينظر المواقف في علم الكلام ٢٩٩.

(٣) ضرار بن عمرو الغطفاني : وهو قاض من كبار المعتزلة طمع برئاستهم في بلده فلم يدركها فخالفهم فكفروه وطردوه. وصنف نحو ثلاثين كتابا ، وفيها مقالات خبيثة شهد عليه أحمد بن حنبل عن القاضي سعيد الجمحي فأفتى بضرب عنقه فهرب ، وقيل : أخفاه يحيى بن خالد البرمكي. ت ١٩٠ ه‍. ينظر الأعلام ٣ / ٢١٥. أما الحاكم الجشمي فقال : من عدّه من المعتزلة فقد أخطأ ؛ لأنا نتبرأ منه فهو من المجبرة ، وكذلك ما ذكره الإمام أحمد بن محمد الشرفي في الأساس الكبير ١ / ٤٣٥.

(٤) كنيته : أبو الحسن ، واسمه : علي بن إسماعيل بن أبي بشر بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري. وإليه تنسب الطائفة الأشعرية في العقائد. كان من المعتزلة قرأ على أبي علي الجبائي فانقلب إلى أشد خصومهم وأظهر القول بالجبر. ولد ٢٧٠ ه‍ أو ٢٦٠ ه‍ وتوفي ٣٣٠ ونيف ، وقيل ٣٢٤ ه‍. ينظر ١ / ٢٢٦ من وفيات الأعيان لابن خلكان. والأساس ١ / ١٦٠ وذكر أن الأشعري بعد انقلابه على المعتزلة لم ينقل أنه اتصل بأحد من الأئمة ولا بفرقة من فرق المسلمين فمذهبه في الكلام منقطع الإسناد ؛ لأن دراسته على مشايخ المعتزلة قد تنكر لها ولم يثبت أنه درس على شيخ معروف بل أحيا مذهب جهم بعد أن اندرس بقتله. وبعض المؤرخين يشكك في نسبته إلى أبي موسى الأشعري. ينظر مقدمة الإبانة ص ٩ بتحقيق نوفية حسين محمود ، اختلفوا في عدد مؤلفاته فمنها الإبانة ، ورسالة إلى أهل الثغر ، ورسالة في استحباب الخوض في الكلام ، ومقالات الإسلاميين ، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ، ينظر مقدمة الإبانة ص ٣٨.

وأما الموضع الثاني :

وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب المخالفون إليه

فالذي يدلّ على ذلك وجهان : أحدهما : أن نفصّل قول كلّ فرقة من المخالفين ونتكلم على بطلان قولها على التعيين. والثاني : أن نستدل على أنه تعالى لا يرى في حال من الأحوال ، وبذلك يتم غرضنا في هذا الموضع.

أما الوجه الأول فنقول وبالله التوفيق : أما المشبّهة فالخلاف بيننا وبينهم في كونه مشبها للأشياء ، وأنه تعالى صورة فوق العرش ، وله أعضاء وجوارح. والخلاف لا يتحقق بيننا وبينهم في الرؤية ، فإنهم لا يخالفوننا في أنه تعالى لو لم يكن جسما لما صحت رؤيته ، ونحن لا نخالفهم في أنه لو كان جسما لصحّت رؤيته. فالخلاف بيننا وبينهم يعود إلى إثبات التشبيه ونفيه ، وقد دللنا على أنه تعالى لا يشبه الأشياء ، فبطل قولهم بالرؤية ؛ إذ القول بالرؤية فرع على كونه جسما ومشبها لما يرى ؛ فإذا بطل الأصل وهو التشبيه بطل الفرع وهو الرؤية.

وأما قول الأشعرية (١) فقالوا : بأنه تعالى يرى لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا خلف ولا أمام ولا كلّه ولا بعضه ولا يصح أن يشير إليه من يراه ، قالوا : وليس بمتلوّن ولا بمضيء ونراه ، وليس هو في ضياء ولا بيننا وبينه ظلمة. وقولهم خروج عن المعقول. وفيه فتح لأبواب الجهالات ؛ لأن المعقول من الرؤية كون المرئيّ في مقابلة الرائي على هيئة وصورة أو هو حالّ في هيئة وصورة ، والله تعالى يتقدس عن الهيئة والصّورة وأن يكون حالّا في هيئة وصورة بالإجماع بيننا وبينهم ، فقولهم بالرؤية تجاهل عظيم لا يقبله ذو عقل

__________________

(١) ينظر المواقف ٣١٠.

سليم ، ولا يتصوّر ثبوته عليم.

وأما قول الحسن بن أبي بشر الأشعري فإنه ذهب إلى أنه تعالى يرى. وأضاف إلى القول بالرؤية القول بأنه تعالى يدرك بجميع الحواس فأجاز أن يسمع ويشم ويذاق ، وربّما لم يتجاسر على التلفّظ بذلك ، وإن كان المعنى عنده ثابتا. وهذا القول خارج عن قول الأمّة ، ولم يتجاسر عليه أحد سواه لشناعته وفساده.

وروي عن كافي الكفاة الصاحب الكافي (١) نفعه الله بصالح عمله أنه قال :

__________________

(١) هو إسماعيل بن عبّاد بن العباس بن عباد الطالقاني الملقب بالصاحب. ولد في ذي القعدة سنة ٣٢٦ ه‍ ، ت : ٣٨٥ ه‍. وشهرته تغني عن تفصيل أمره ، وكان واحد عصره ، ونسيج وحده ، لو وجد سبيلا إلى انتزاع الضلال عن دين الإسلام بفوات روحه لهان عنده ، اختلف في مذهبه فقيل : إمامي ، وقيل : معتزلي حنفي ، وقيل : زيدي وهو الأصح. وقد ذكر أنه من الزيدية الإمام عبد الله بن حمزة عليه‌السلام عند ذكر آل بويه وذكر الصاحب ، ثم قال : وهؤلاء مذهبهم في الأصول مذهب الزيدية ، وإن خالفوا أصلهم بالفعل في خدمة بني العباس للميل إلى الدنيا. وأقول : وخير دليل على زيديته قوله بالخروج على الظلمة ـ كما هو واضح في مرثاته للإمام زيد التي منها :

لما رأى أن حق الدين مطرح

وقد تقسمه نهب وتمحيق

قام الإمام بحق الله تنهضه

محبة الدين إن الدين موموق

يدعو إلى ما دعا آباؤه زمنا

إليه وهو بعين الله مرموق

ابن النبي نعم وابن الوصي نعم

وابن الشهيد نعم والقول تحقيق

لم يشفهم قتله حتى تعاوره

قتل وصلب وإحراق وتغريق

مؤلفاته : الوقف والابتداء. ومختصر أسماء الله تعالى وصفاته. ونهج السبيل في الأصول. والإمامة. وجوهرة الجمهرة في اللغة. وله ديوان شعر ، وغيرها. ينظر : الأعلام للزركلي ١ / ٣١٦. والزيدية للدكتور أحمد محمود صبحي ص ٢٠٥. وأعيان الشيعة ٣ / ٣٢٩. ومعجم المؤلفين ١ / ٣٦٧. والحدائق الوردية ١ / ١٥١. والشافي ١ / ١٤٠.

ذهب أبو موسى الأشعريّ بثلث الإسلام يوم التّحكيم ؛ لأنّه خلع الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه بمكيدة عمرو بن العاص ... ، وذهب ولده الحسن بن أبي بشر الأشعرى ... بثلثي الإسلام (١) ؛ لقوله بأن الله تعالى يدرك بالحواس (٢) ؛ لأن الحسن بن أبي بشر من ذرية أبي موسى الأشعري. والذي يدلّ على إبطال قوله إجماع المسلمين على بطلانه من الصحابة والتابعين وعلماء أهل البيت أجمعين عليهم سلام رب العالمين.

ويدل على ذلك أيضا أنه تعالى لو كان محسوسا بالحواسّ ومدركا بجميعها لما اختلف العقلاء في رؤيته مع ثبوت حواسّهم وصحّتها ، ولوجب أن يكون العلم بذلك ضروريا ؛ لأن العلم الحسي ضروري ، لا ينتفي عن النّفس بشك ولا شبهة ، وفي علمنا باختلافهم في رؤيته : فإن منهم من أثبتها ، ومنهم من نفاها ؛ بل في اثبات ذاته تعالى : فإنّ من الناس من يثبته ، ومنهم من ينفيه ، ومنهم من يوحده ، ومنهم من يثنّيه ـ دلالة (٣) على أنه تعالى غير محسوس بالحواسّ ولا يدرك بها أصلا.

وأما الضرارية (٤) فإنهم يقولون : إن الواحد منا يدرك الله بحاسّة سادسة يخلقها له يوم القيامة. والذي يبطل ذلك أن تلك الحاسة : لا تخلو أن تكون صحيحة أو سقيمة ، فإن كانت سقيمة صح أن نراه بحواسنا السّقيمة ، وإن

__________________

(١) ينظر الملل والنحل للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى ص ١١٧.

(٢) هو القول بالرؤية وإثبات الأعضاء ، وقول قائلهم : بلا كيف لا تنفع.

(٣) مبتدأ مؤخر خبره قوله : وفي علمنا.

(٤) الضرارية هم أصحاب ضرار بن عمرو. ومن أصحابه حفص القرد وإليهما تنسب كل ما يخص الضرارية. وهي من فرق المجبرة ، يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وأن الاستطاعة قبل الفعل وهي بعض المستطيع إلى غير ذلك.

كانت حاسّة صحيحة فلا تخلو أن تكون مما يصلح للرؤية أو لا ؛ فإن كانت مما لا يصلح للرؤية جاز أن نراه بحواسنا التي لا تصلح للرؤية ، وإن كانت مما يصلح للرؤية فلا تخلو أن تكون مماثلة لحواسنا أو مخالفة ، وإن كانت مماثلة لحواسنا جاز أن نراه بها ، وإن كانت مخالفة لحواسنا جاز أن نراه بحواسنا أيضا ؛ لأن مخالفتها لحواسنا ليست بأزيد من اختلاف حواسنا في ذات بينها ، ومخالفته تعالى للمرئيات ليست بأزيد من اختلاف المرئيات في أنفسها ، فإنّ في حواسنا الأحول ، والأدعج ، والأشهل ، والأزرق ، وغير ذلك. وفي المرئيات المتماثل والمختلف والمتضاد ، فكان يجوز أن نراه بحواسنا ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على إبطال قول ضرار. فهذا هو الذي يدل على إبطال قولهم على التعيين ، وهو الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد قولهم على العموم فيدلّ على ذلك العقل والسمع ونحن نقتصر على السمع إذ صحته غير موقوفة على العلم بهذه المسألة (١).

والذي يدل على أنه تعالى لا يرى وجهان : أحدهما قول الله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] لمّا قال له موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (٢) [الأعراف : ١٤٣]. ووجه الاستدلال بالآية أنّ لفظة لن موضوعة في لغة العرب لاستغراق النفي كقوله تعالى : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) [الحج : ٧٣] فهي

__________________

(١) خلاصة دليل العقل أنّ المرئيات لا بد أن تكون أجساما أو أعراضا ، ولا يتصور العقل رؤية غير ذلك ، وجمهور الأمة لا يتجرءون على القول بتجسيم الله ، ولذلك تستّر القائلون بالرؤية بقولهم : يرى بلا كيف ، وهو كلام غير مفهوم. أما المجسمة فليست لهم عقول يستحقون معها أن يناقشوا فهم والبهائم سواء بل هم أضل. والله أعلم وهو حسبنا.

(٢) ينظر في تفسير هذه الآية المغني ٩ / ١٦١.

عامة في نفي رؤية موسى له تعالى من دون تخصيص لوقت دون وقت. وذلك يدل على أن موسى لا يراه أبدا في الدنيا ولا في الآخرة ؛ ولأن لفظة لن موضوعة في اللغة لتأبيد النفي حقيقة ، وإذا استعملت في غير ذلك فعلى وجه المجاز ، فكأنه قال لموسى : لن تراني أبدا ، وإذا لم يره موسى ، فمن دونه أحرى بأن لا يراه. يزيد ذلك وضوحا أنه علّق الرؤية في المستقبل بشرط استقرار الجبل عند تحريكه ، وهذا الشرط لم يحصل فلا تحصل الرؤية في المستقبل ، ولأنه علّق الرؤية بشرط مستحيل وهو استقرار الجبل في حال تحريكه وتدكدكه وهو لم يستقر (١) في تلك الحال كما قال تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) [الأعراف : ١٤٣] وإذا علّق تعالى رؤيته بشرط مستحيل وجب أن تستحيل رؤيته أيضا ، وهذه طريقة العرب فيما يريدون به التبعيد وتأكيد التأبيد كما قال شاعرهم :

وأقسم المجد حقّا لا يحالفهم

حتى يحالف بطن الراحة الشّعر (٢)

وإذا ثبت ذلك قلنا : إن موسى لم يسأل الرؤية لنفسه ، بل هو عالم بأنه تعالى لا يرى ، وإنما سأل الرؤية عن قومه وجعل السؤال لنفسه ليعلم قومه أنه إذا منع الرؤية فهم أولى بالمنع ، يصدّقه قول الله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء : ١٥٣] وهذه الآية شاهدة بتنزيه الله تعالى عن الرؤية ؛ لأن إنزال الصاعقة بهم يدلّ على عظيم (٣) جرمهم في

__________________

(١) في (ب) : لا يستقر.

(٢) وأيضا قول الشاعر :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

(٣) في (ب) (ج) : عظم.

سؤالهم الرؤية ، ولو كانت الرؤية جائزة عليه تعالى لما صعقوا ، كما لو سألوا رزقا وولدا فإنه لا ينزّل بهم العذاب لأجل ذلك. فإن قيل : لم تاب موسى؟ قلنا : حيث سأل الله تعالى بغير إذن في ذلك ، وكان بمحضر القوم فغشي على موسى محنة له ، وأنزل الله الصاعقة بقومه عقوبة. وقد قال موسى لما سمع الدّكدكة ، ورأى ما نزل : (أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) [الأعراف : ١٥٥] فأضاف ذلك إلى السفهاء. فإن قيل : إن المراد بذلك عبادة العجل ، قلنا : غير مسلّم ، فإن عبادة العجل كانت بعد ذلك ، بدلالة قوله تعالى : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) [النساء : ١٥٣] ، إلى غير ذلك. فإن قيل : لو كان هذا السؤال لأمر مستحيل لردّه عليهم موسى ، كما أنهم لمّا قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] ، فردّه عليهم ولم يسأل ربّه.

فالجواب : عن ذلك من وجهين : أحدهما أنه لا يمتنع أن يكون جوابه في هذه المسألة لا يقنعهم ، بخلاف تلك المسألة ؛ فأراد أن يكون الجواب من الله تعالى ؛ لكونه أبلغ في الزّجر والرّدع والنكير. الوجه الثاني أن هذه المسألة طريقها العقل والسمع فأراد عليه‌السلام أن ترد (١) في ذلك دلالة سمعية على أنه تعالى لا يرى ، وهو قوله : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف : ١٤٣] وفي تلك المسألة (٢) طريقها العقل فحسب ؛ فردها عليهم لأنّ ما يكون مجعولا مفعولا لا يكون إلها معبودا ، فثبت أنه تعالى لا يرى في حال من الأحوال.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : يرد.

(٢) قولهم : اجعل لنا إلها.

الوجه الثاني : قول الله سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣]. ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه تمدّحا راجعا إلى ذاته. وإدراك الأبصار هو رؤيتها (١). وكل ما تمدّح الله تعالى بنفيه فإثباته نقص ، والنقص لا يجوز عليه في حال من الأحوال. فثبت أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. وإنما قلنا : بأن الله تعالى تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه ؛ لأنّ ذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ ولأنه متوسّط بين أوصاف المدح ؛ فإن الله تعالى قال : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠١ ـ ١٠٣] ، فأول الآية مدح وآخرها مدح فيجب أن يكون قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) مدحا أيضا ؛ لأنه لا يجوز أن يتوسط بين أوصاف المدح ما ليس بمدح ، بل يكون ذلك مستهجنا عند الفصحاء ، معيبا عند البلغاء. وكلام الله تعالى يجب أن ينزل من الفصاحة أعلاها.

فثبت أنه تمدّح بنفي إدراك الأبصار عن نفسه. وإنما قلنا : بأن التمدّح راجع إلى ذاته ؛ لأنه تعالى بيّن بذلك أنّ ذاته لا تدرك ؛ ولأنه لو كان راجعا إلى غيره (٢) لم يعقل إلا نفي فعل من الأفعال ، وذلك لا يتحقق إلا في الإدراك لو

__________________

(١) في (ب) : رؤيتهما.

(٢) قال الأمير رحمه‌الله : ولأنه لو كان راجعا إلى غيره لم يعقل إلا نفي فعل ...

كان معنى. والإدراك ليس بمعنى ، بدليل أنه لو كان معنى لجاز أن يكون الواحد منّا حيّا لا آفة به ، والمدركات موجودة والموانع مرتفعة ، ولا يدرك المدركات بأن لا يحصل ذلك المعنى الذي هو الإدراك ، وفي ذلك إلحاق البصراء صحاح الحواسّ بالعميان ، ومعلوم خلاف ذلك ، فلم يبق إلا أن يكون التّمدّح راجعا إلى ذاته تعالى (١). وإنما قلنا : بأن إدراك الأبصار هو رؤيتها ، لأن الإدراك وإن كان مستعملا في أربعة معان : هي اللّحوق ، والبلوغ ، ونضج

__________________

عنى رحمه‌الله : لو كان التمدح راجعا إلى غير ذاته تعالى لم يعقل إلا نفي فعل ، وقد أوضح هذا في شرح الأصول الخمسة ص ٢٣٨ ، فقال : فإن قيل : فلم قلتم أن المدح يرجع إلى الفعل. وما يرجع إلى الذات فعلى قسمين : أحدهما يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا : قادر عالم حي سميع بصير. والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا : لا يحتاج ولا يتحرك ولا يسكن. وأما ما يرجع إلى الفعل ، فعلى ضربين أيضا : أحدهما يرجع إلى الإثبات ، نحو قولنا : رازق ومحسن ومتفضل ، والثاني : يرجع إلى النفي ، وذلك نحو قولنا : لا يظلم ولا يكذب. إذا ثبت هذا ؛ فالواجب أن ننظر في قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) من أي القبيلين هو. لا يجوز أن يكون هذا من قبيل ما يرجع إلى الفعل ؛ لأنه تعالى لم يفعل فعلا حتى لا يرى ، وليس يجب في الشيء إذا لم يرى أن يحصل منه فعل حتى لا يرى فإن كثيرا من الأشياء لا ترى وإن لم تفعل أمرا من الأمور كالمعدودات وككثير من الأعراض ، والشيء إذا لم يرى فإنما لم يرى لما هو عليه في ذاته ، لا لأنه يفعل أمرا من الأمور ، وإذا كان الأمر كذلك صح أن هذا التمدح راجع إلى ذاته.

(١) فنفي الرؤية متوجه إلى ذاته وليس إلى أفعاله.

الفاكهة وإيناعها ، والإحساس بالحواس ؛ فإنه متى قرن [الإدراك] بالبصر لم يفهم منه إلا الرؤية بدليل أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى بالآخر ، فلا يجوز أن تقول (١) : أدركت ببصري شخصا وما رأيته بعيني ، ولا أن يقال : رأيته بعيني وما أدركته ببصري ، بل يعدّ من قال ذلك مناقضا في كلامه ، جاريا في المعنى مجرى من يقول رأيته وما رأيته وأدركته وما أدركته. فثبت أنّ إدراك الأبصار هو رؤيتها. وإنما قلنا : بأنّ كلّما تمدّح الله تعالى بنفيه فإثباته نقص ؛ لأنه لا يخلو أن يكون كمالا أولا ، بل يكون نقصا ، أو لا نقصا ولا كمالا ، ولا يجوز أن يكون لا كمالا ولا نقصا ؛ لأنه يكون عبثا لا فائدة فيه. ومثله لا يرد في خطاب الحكيم تعالى. ولا يجوز أن يكون كمالا (٢) ؛ لأن الحكيم لا يتمدح بنفي الكمال عن نفسه ، فلم يبق إلا أن يكون نقصا. وإنما قلنا : بأن النقص لا يجوز عليه تعالى في الدنيا ولا في الآخرة ؛ لأن ذلك مما أجمع عليه المسلمون ، ودان به المؤمنون. والحقّ ما أجمعت عليه الأمّة. فثبت أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة ، وبطل ما ذهب إليه المخالفون بحمد الله ومنّه.

وأما الموضع الثالث : وهو في إيراد ما يتعلق به المخالفون من الآيات والأخبار المتشابهة في القول بالرؤية لله تعالى فاحتجوا على أنه (٣) تعالى يرى ـ بأشياء : منها : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (د) : أن يقال.

(٢) نفي الإدراك.

(٣) في (ب) و (ج) : بأنه.

ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، قالوا : وهذا يدل على أنه تعالى يرى في الآخرة (١). ومنها قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ* ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) [المطففين : ١٥ ـ ١٦] ، وهذا يدل على الرؤية ؛ لأن المؤمن لو حجب عن رؤية ربه لاستوى حاله وحال الكافر (٢).

ومنها قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ، قالوا : وتلك الزيادة هي النظر إليه ، والرؤية له (٣).

ومنها قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] (٤).

ومنها ما رواه قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنكم سترون ربّكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» (٥). قالوا : وهذا نص صريح يقتضي إثبات رؤية الخلق له يوم القيامة.

__________________

(١) معالم أصول الدين ص ٥٤.

(٢) تفسير الطبري مج ١٥ ج ٣٠ ص ١٢٥ نقل أن هذا رأي ، والرأي الأخر محجبون عن كرامته ، وهو رأي قتادة. مفاتيح الغيب مج ١٦ / ٣١ / ٩٦.

(٣) تفسير الطبري مج ٧ ج ١١ ص ١٣٧. والإبانة ص ٣٥. والقرطبي ١٩ / ٧٠. وتفسير ابن كثير ٤ / ٤٥٠. ومعالم أصول الدين ص ٥٥.

(٤) معالم أصول الدين ص ٥٤.

(٥) البخاري : ١ / ٢٠٣ رقم ٥٢٩. ومسلم ١ / ٤٣٩ برقم ٦٣٣. وتضامّون ـ بفتح التاء وضم الميم وتشديدها ـ معناه : لا ينضم بعضكم إلى بعض ولا يقول : أرنيه ، بل كلّ ينفرد برؤيته. وروي تضامون ـ بضم التاء وضم الميم بدون تشديد ـ والمعنى : لا يظلم بعضكم بعدم رؤيته ، بل كلكم يراه. وهذا التفسير على قول من يجيز الرؤية.

والجواب عن ذلك من وجهين : أحدهما : أنه قد ورد في القرآن الكريم ما يبطل قولهم في الرؤية وهو ما قدمنا ذكره قبل هذا الموضع ، فإنه يدل على أنه تعالى لا يرى ، وليسوا بأن يتمسكوا بما ظنوا كونه حجة لهم على صحة قولهم أولى من أن يتمسكوا بما يشهد ببطلانه ؛ إذ القرآن كله واجب الاتباع ، وهكذا القول في السّنة ؛ لأنها قد وردت بما يشهد ببطلان التشبيه ، كما وردت بما ذكروه وتوهموا كونه دليلا على الرؤية ، فليسوا بأن يتمسكوا ببعض ذلك أولى من البعض. ونحن نورد بعضا مما يدل على أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة من كلام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ومن كلام الصحابة ، ومن كلام أهل البيت (ع) ؛ ليتضح بذلك صحّة ما ذكرناه. فمن ذلك ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ أحدا لا يرى ربّه في الدنيا ولا في الآخرة» (١).

وعن سمرة بن جندب قال : سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل نرى ربنا في الآخرة؟ قال : فانتفض ثم سقط فلصق بالأرض ، وقال : «لا يراه أحد ، ولا ينبغي لأحد أن يراه». وعن ابن عباس أنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعائه في الوتر : «اللهمّ إنك ترى ولن ترى» ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وروي من كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في بعض خطبه : الحمد لله الذي يعلم خفيّات الأمور ، ودلت عليه أعلام الظّهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من أثبته تبصره ، ولا قلب من لم يره ينكره (٢). ومن كلام له وقد سئل : كيف عرفت ربّك؟ فقال : أعرفه بما عرّف به نفسه من غير رؤية ، لا يدرك

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة ص ٢٧٠. والمغني ٤ / ٢٢٩.

(٢) النهج ١٧١.

بالحواس ، ولا يقاس بالناس. وعن ابن عباس أن عليا عليه‌السلام مرّ برجل رافع يديه إلى السماء ، شاخص ببصره ، فقال عليه‌السلام : يا عبد الله اكفف من يدك ، واغضض من بصرك فإنك لن تراه ولن تناله. فقال : يا أمير المؤمنين إن لم أره في الدنيا فسأراه في الآخرة ، فقال : كذبت بل لا تراه في الدنيا (١) ، ولا في الآخرة ، أو ما سمعت قول الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، إن أهل الجنة ينظرون إلى الله تعالى كما ينظر إليه أهل الدنيا ، ينتظرون ما يأتيهم من خيره وإحسانه.

ومن كلام ولده الحسن بن علي عليه‌السلام قال (٢) لنافع بن الأزرق وقد سأل (٣) عن صفة الله تعالى ، فقال : أصفه بما وصف به نفسه وأعرّفه بما عرّف به نفسه : لا يعرف بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، إلى آخر كلامه. ومن كلام زين العابدين علي بن الحسين عليه‌السلام وقد سئل : أرأيت ربك؟! فقال : لم أكن لأعبد شيئا لم أره. قيل : كيف رأيته؟ قال : لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان ، لا يدرك بالحواسّ ، ولا يقاس بالناس (٤) ، إلى آخر كلامه.

وعن عبد الله بن العباس رحمه‌الله أنه قال في وصفه (٥) لله تعالى : لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس. ذكره في جوابه لنجدة الحروري. وروي أن مسروقا (٦) أتى عائشة ، فقال : يا أم المؤمنين أرأى محمّد ربّه؟! فقالت : سبحان

__________________

(١) في (ب) : لن تراه في الدنيا. وبحذف كذبت.

(٢) في (ب) : أنه قال.

(٣) في (ب) : سئل.

(٤) ينظر أمالي المرتضى ١ / ١٥٠ ، ونسبه إلى ابنه الباقر عليه‌السلام.

(٥) في (ب) : في صفة الله.

(٦) مسروق بن الأجدع بن مالك بن أمية الهمداني الكوفي تابعي ، عدّ في المخضرمين الذي أسلموا في حياة النبي ولم يره. أنظر سير أعلام النبلاء ٣٤ / ٦٣ ، والتاريخ الكبير ٨ / ٣٥.

الله العظيم لقد قفّ (١) شعري ممّا قلت ، ثم قالت : ثلاث من حدّثك بهنّ فقد كذب : من حدّثك (٢) أنّ محمّدا رأى ربّه فقد كذب ، ثم تلت قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) الآية. وقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١]. ومن حدّثك أنّ أحدا يعلم ما في غد فقد كذب ، ثم تلت قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ). الآية. [لقمان ٣٤]. ومن حدّثك أنّ محمّدا كتم شيئا من الوحي فقد كذب ، ثم تلت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) الآية (٣) [المائدة : ٦٧]. فقال مسروق : يا أمّ المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، أرأيت قول الله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) [النجم : ١٣] ، قالت عائشة : ذلك جبريل لم يره رسول الله في صورته التي خلق فيها إلا مرتين (٤). تعني أنّ إحداهما عند سدرة المنتهى.

كما روي عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : رأيت جبريل عند السّدرة وعليه ستّمائة جناح (٥) ، ينتثر من ريشه الدّرّ والياقوت (٦). والثانية منهبطا من السماء إلى الأرض. وعن طاوس عن ابن عمر قال : لو رأيت من

__________________

(١) قفّ شعره : قام من الفزع.

(٢) في (ب) : من زعم. وهي رواية مسلم ، والذي في الأم لفظ البخاري.

(٣) قراءة نافع. و (رِسالَتَهُ) لحفص.

(٤) البخاري ٤ / ١٨٤٠ رقم ٤٥٧٤. ومسلم ١ / ١٥٩ ، ١٦٠ رقم ١٧٧. باختلاف يسير في اللفظ.

(٥) البخاري ٣ / ١١٨٠ رقم ٣٠٦٠. ومسلم ١ / ١٥٨.

(٦) أخرجه في الدر المنثور ٦ / ١٦٠.

يزعم أنه يرى الله لاستعديت عليه (١). وسئل أبو العالية : هل رأى محمد ربّه؟ فقال : لا (٢). وعن الحسن البصري أنه قال : لا يرى الله أحد في الدنيا ولا في الآخرة. وعلى الجملة فذلك مما انعقد عليه إجماع الصحابة. وهو مذهب جميع علماء أهل البيت المطهّرين. وهو قول جميع العلماء الراشدين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فهذا هو الوجه الأول.

والوجه الثاني : أن نتكلم في معاني ما استدلوا به من الآيات والسّنّة ، فإنّ ظاهر ذلك يخالف دليل العقل ومحكم القرآن ؛ فلو دلّ على صحّة قولهم لوجب تأويله على ما يوافق الأدلّة ، كيف وبعضه لا يدلّ على ذلك بوجه من الوجوه ، وبعضه لا يصح الاستدلال به ، ونحن نوردها شيئا شيئا ، ونتكلم عليها ، ونبيّن صحّة الصحيح من معانيها ، وفساد الفساد بمنّ الله وعونه ، فنقول : أما قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، فقد تكلّمنا فيها في كتاب الإرشاد في ثلاثة مطالب : أحدها في معنى النظر في اللغة وأقسامه ، وثانيها في الدلالة على أنّه لا يجوز أن يكون حقيقة في الرؤية. وثالثها في بيان معنى النظر في الآية وذكر ما ورد فيه عن علماء الصحابة والتابعين (رض) أجمعين.

والغرض الاختصار هاهنا فلنقصد إلى الغرض من ذلك وهو المطلب الثالث بعد ذكر طرف مما يدل على أنه لا يجوز حمله على الرؤية. فأما الذي يدل على أنه لا يجوز حمل النظر هاهنا على الرؤية فوجوه : منها أنّه مخالف لدليل

__________________

(١) المغني ٤ / ٢٢٩.

(٢) أخرج الطبرسي في مجمع البيان مج ٩ ج ٢٧ ص ٢٩١ ، عن أبي العالية قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل رأيت ربّك ليلة المعراج؟ قال : لا. رأيت نهرا ، ورأيت وراء النهر حجابا ، ورأيت وراء الحجاب نورا ، ولم أر غير ذلك.

العقل ؛ لأن القول برؤيته تعالى يوجب (١) كونه محدودا في محاذاة ما ؛ إذ الرؤية لا تصحّ إلا على متحيّز. أو قائم بمتحيّز ، مثل الكون لا ينطبق إلا على جسم متحيز ، وقد ثبت حدوث المتحيزات وقدمه تعالى ؛ فلا يجوز القول بخلافه. ومنها أنّ القول بجواز رؤيته تعالى يؤدي إلى مناقضة القرآن ، نحو قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وذلك عموم لا تخصيص فيه. وقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) ، فنفى نفيا عامّا. وإذا كان القول بمناقضة القرآن محالا كان ما أدّى إليه محالا ، وهو القول برؤيته تعالى ؛ لأن ما أدى إلى المحال فهو محال. ومنها أنّ نمط الآية لا ينبئ عن الرؤية بل يبطلها ؛ لأنه تعالى قال في نقيضه : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ* تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [القيامة : ٢٤ ـ ٢٥] فلمّا أوجب للكفار خوف العقاب دون المنع من الرؤية ـ وجب أن يكون ما وعد به المؤمنين انتظارا للثواب دون الفوز بالرؤية. (٢) ومنها أنّ الوجه لا يرى ولا يكون رائيا على الحقيقة ، فلا يجوز حمل قوله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢ ـ ٢٣] ، على الرؤية ، وذلك شائع في اللغة ، قال حسان بن ثابت :

__________________

(١) في (ج) : توجب ويوجب ، وفي الأصل : توجب ، وفي (ب) : يوجب وهو الأظهر ، ولذلك أثبتناه.

(٢) يقال في علم البلاغة إن في الآيات مقابلة ، وهي لون من ألوان البديع فقابل بين وجوه ناضرة أي مشرقة جميلة بقوله : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي قبيحة كالحة ، وناظرة بمعنى منتظرة لرحمة الله قابلها بقوله في أهل النار : (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ)! أي تتوقع البوار كما تنتظر تلك النعيم ، هذا هو النّسق العالي للقرآن ، ولا معنى للرؤية هنا مطلقا ؛ لأن نظم القرآن سيكون شاذّا بشعا إذا قلنا : وجوه جميلة ترى الله ، ووجوه قبيحة تتوقع الهلاك ، ولهذا فلا يجوز تحميل القرآن ما لا يحتمل.

وجوه يوم بدر ناظرات

إلى الرحمن يأتي بالخلاص

أي منتظرة ، وذلك يبطل قول من قال : إنّ النّظر إذا علّق بالوجه لم يكن بمعنى الانتظار ، ومما يبطل ذلك أيضا قول البعيث :

وجوه بها ليل (١) الحجاز على النّوى

إلى ملك ركن المعارف ناظرة (٢)

أي منتظرة لمعروفه على النوى وهو البعد. وإذا ثبت ذلك قلنا في الصحيح من معنى الآية : إنّ قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) : يومئذ يعني يوم القيامة ، ناضرة ، أي مشرقة حسنة جميلة ، (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) : يعني ناظرة إلى ثواب ربها ، ومنتظرة لما يأتي منه (٣) ، وعليه يدلّ قول الله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل : ٣٥] ، أي منتظرة. وقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) أي عابسة مكتئبة ، (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) أي داهية عظيمة.

[المروي عن الصحابة] (٤)

وأما المروي عن الصحابة. فروي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام أنّ معنى قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، قال : إلى ثواب ربها. ومثله عن السدي ، وعن سعيد

__________________

(١) البهلول : السيد الجامع لكل خير. [القاموس ١٢٥٣].

(٢) وجوه مبتدأ ، وناظرة خبره ، وركن خبر مبتدإ محذوف تقديره هو ركن المعارف ، والجملة من المبتدإ والخبر صفة لملك. ويعاب على هذا البيت بالتعقيد المعنوي.

(٣) غريب القرآن ص ٣٥٩. والكشاف ٤ / ٦٦٢ ، وتمثل بقول الشاعر :

وإذا نظرت إليك من ملك

والبحر دونك زدتني نعما

والطبرسي مج ١٠ ج ٢٩ ص ١٩٨. والدر المصون ١٠ / ٥٧٦.

(٤) المغني ٤ / ٢٢٩.

ابن المسيب أنه قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ) قال : ناضرة من النعيم (١). (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بمعنى تنتظر ثواب ربها ، ولا يرى الله أحد ، وهو المروي عن عبد الله بن العباس فإنه قال في قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، أي منتظرة لما يأتيها من ثواب ربها ، فأمّا الله تعالى فلم يره أحد ولا يراه أحد ، ومثله عن مجاهد (٢) ، ومثله عن الحسن (٣). قال أبو هاشم [الجبّائي] والمعنيان مراد (٤) بالآية فكأنه قال : تنظر إلى ثواب الله وتنتظر ثوابا ، فتكون فيه زيادة النعمة والرحمة. وروي عن الضحاك : أنّ عبد الله بن العباس رحمه‌الله خرج ذات يوم فإذا هو برجل يدعو ربّه شاخصا إلى السماء رافعا يده فوق رأسه ، فقال ابن عباس : ادع بإصبعك اليمنى ، وشدّ بيدك اليسرى ، واخفض بصرك ، واكفف يدك لن تراه ولن تناله. فقال الرجل : ولا في الآخرة؟ قال : نعم ، ولا في الآخرة. قال الرجل : فما قول الله : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فقال ابن عباس : أليس يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، ثم قال : إنّ أولياء الله تنضر (٥) وجوههم يوم القيامة ، وهو الإشراق ، ثم ينظرون إلى ربهم ، معناه ينتظرون متى يأذن (٦) لهم في دخول الجنة بعد الفراغ من الحساب. ثم قال : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) يعني كالحة ، (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) قال : يتوقعون العذاب بعد العذاب ، كذلك قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ينتظر أهل الجنة الثواب بعد

__________________

(١) الطبرسي ١٠ / ١٨٩.

(٢) تفسير الماوردي ٦ / ١٥٦. والدر المنثور ٦ / ٤٧٦. والطبري مج ١٤ ج ٢٩ ص ٢٣٩.

(٣) انظر المارودي ٦ / ٤٧٦.

(٤) في (ب) : مرادان ، وهو الأولى ليطابق المبتدأ.

(٥) أي تحسن ، وفي (ب) : تنضّر أي تنعّم.

(٦) في (ب) : يؤذن.

الثواب ، والكرامة بعد الكرامة (١).

وأما قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ١٥] ، فهذا لا تعلّق لهم به (٢) ، فإن معناه أنهم مبعدون عن رحمة الله وثوابه. وروي عن قتادة أنه قال : معناه أنّ الله تعالى لا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم (٣) ولهم عذاب أليم. أجرى الله تعالى ذلك كما جرت به العادة من الإخبار عن سوء حال الغير عند السلطان ، ومن يجري مجراه ، ولهذا يقال فيمن غضب عليه السلطان وسخط عليه : أبعده عنه وأقصاه وحجبه ، وأنه لا ينظر إليه ، أي لا يرحمه ولا يكلّمه إلى نحو ذلك ، وهو شائع في لغة العرب ، وما قدّمنا من الأدلة يعضد هذا التأويل ، ويكون موافقا لأدلة العقول ، ولئلّا يؤدي إلى مناقضة السمع.

وأما قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] ،

__________________

(١) ينظر تفسير الطبري مج ١٤ ج ٢٩ ص ٢٣٩.

(٢) قال القاضي عبد الجبار في متشابهه ٢ / ٦٨٣ في تفسير هذه الآية : لا تدل على ما تقوله الحشوية في أنه تعالى يرى يوم القيامة بأن يرفع عنه الحجب للمؤمنين فيروه ، ويحتجب عن غيرهم فيمنعون من رؤيته ؛ لأن هذا القول يوجب أن يكون تعالى جسما محدودا في مكان مخصوص ، ويجوز عليه الستر والحجاب ، ويراه قوم دون قوم ، ومن حيث يظهر في جهة دون جهة. والمراد بالآية : أنهم ممنوعون من رحمة الله ؛ لأن الحجب هو المنع ولذلك يقال فيمن يمنع الوصول إلى الأمير : إنه حاجب له ، وإن كان الممنوع مشاهدا له ، وقال أهل الفرائض في الأخوة : إنهم يحجبون الأم من الثلث ؛ إذا منعوها ، وإن لم يكن هناك ستر في الحقيقة ؛ فثبت بذلك أنه تعالى لم يمنعهم بذلك من رحمته وسعة فضله ، ليبعث السامع بذلك على التمسك بطاعة الله ، فيكون يوم القيامة من أهل الرحمة ، لا من المحجوبين عنها.

(٣) ينظر البغوي ٦ / ٣٨٦. والكشاف ٤ / ٧٢٣. وذكر أنه قول ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة.

وقولهم إنّ الزيادة هي الرؤية (١). فالجواب : أنّ قولهم باطل بما تقدّم ذكره من الأدلة. وبعد فإنّ الزيادة في اللغة لا يعقل منها الرؤية ، ولا يجوز أن يخاطبنا الله تعالى بما ليس في اللغة إلا أن يريد شيئا في اللغة مع البيان ، وإنما يصح ذلك في الشرع من حيث إنه لم يكن لما أمر به من الحقائق الشرعية معنى معروف على الوجه الذي ورد به الشرع في أصل اللغة ، ولا اسم (٢) موضوع [في أصل اللغة] وليس كذلك الرؤية. مع أنّه لا بيان هاهنا ، فبطل قولهم.

وأما معنى الآية فالمروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : الزيادة غرفة من لؤلؤ ، لها أربعة أبواب (٣). فالغرفة هي زيادة الثواب (٤). وروي عن ابن عباس أنه قال (٥) : الحسنة بالحسنة ، والزيادة التّسع. إنّه تعالى يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠].

وأما قوله (٦) : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) [الكهف : ١١٠] ، وقولهم : إنّه وعد من عمل صالحا بلقائه ورؤيته (٧). فالجواب عن ذلك أنّ اللقاء ليس من الرؤية في شيء على نحو ما تقدم من الدلالة على أنّ

__________________

(١) قول أبي بكر الصديق ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي موسى الأشعري. الماوردي ٢ / ٤٣٢. وتفسير الطبري مج ٧ ج ١١ ص ١٣٧.

(٢) في (ب) : ولا اسم ، وفي الأصل تعليقة : ولا اسم. ظ. وهو الأصح.

(٣) تفسير الطبري مج ٧ ج ١١ ص ١٤١.

(٤) تفسير الدر المنثور ٣ / ٥٤٨.

(٥) أنظر المارودي ٢ / ٤٣٣ ، والدر المنثور ٣ / ٥٤٩.

(٦) في (ب) : قولهم.

(٧) قال الرازي في مفاتيح الغيب مج ١١ ج ٢١ ص ١٧٨ : وأصحابنا حملوا لقاء الرب على رؤيته ، والمعتزلة حملوه على ثوابه.

الزيادة ليس هي الرؤية ، يزيد ذلك بيانا ما روى عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من لقي الله يشرك به شيئا دخل النار» (١). وعن ابن مسعود عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من حلف على يمين كاذبة ليقطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان» (٢) ، فلو كان اللقاء حقيقة في الرؤية لكان ذلك دليلا على جواز رؤية المشركين والمجرمين لله رب العالمين ، والقوم لا يقولون به ، فبطل قولهم.

وأمّا معنى اللقاء في الآية فهو اللقاء لأمر الله ، والرجوع إلى الموضع الذي يقع فيه الحكم له ، ولقاء جزائه على ما ذكره المفسرون (٣)

وأما استدلالهم بالخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : «إنّكم سترون ربّكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» ، وقولهم : إنه يدل على الرؤية.

فالجواب عن ذلك من وجوه : منها أن هذا الخبر من أخبار الآحاد ، وهي لا توصل إلّا إلى الظن فقط متى تكاملت شرائطها. ومسألة الرؤية من مسائل أصول الدّين فلا يجوز أن يؤخذ فيها بأخبار الآحاد ؛ لأن الواجب في مسائل أصول الدين هو المصير إلى العلم من حيث إن مدارها على الاعتقاد الذي لا يحسن إلّا متى كان علما مقتضيا لسكون النّفس ، وخبر الواحد لا يوجب العلم فلم يجز الأخذ به. ومنها أنّ الصحابة أجمعت على اطّراح أخبار الآحاد متى عارضت الكتاب والسنة المعلومة ؛ ولهذا فإنّ فاطمة ابنة قيس لمّا طلّقها

__________________

(١) ينظر أحمد بن حنبل ٥ / ١٦٩ برقم ١٥٠٢٠.

(٢) رواه الإمام القاسم في الاعتصام ٤ / ٢٧٧ ، والبخاري ٢ / ٨٣١ برقم ٢٢٢٩ ، أخرجه مسلم في الإيمان ١ / ١٢٣ برقم ١٣٨.

(٣) ينظر المارودي ٣ / ٣٥٠. وغريب القرآن للإمام زيد ص ١٩٨. ومجمع البيان للطبرسي مج ٦ ج ١٦ ص ٣٩٥. والطبري مج ٩ ج ١٦ ص ٥٠.

زوجها طلاقا بائنا ـ وروت أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقض لها بنفقة ولا سكنى ـ ردّ عمر بن الخطاب خبرها بمحضر من الصحابة ، وقال : لا ندع كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا لخبر امرأة (١). والأمر في ذلك ظاهر ولا شبهة في كون هذا الخبر معارضا لكتاب الله تعالى وهو قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) ، وقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي). ومنها أنّ هذا الخبر معارض لسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنها قاضية بأنه تعالى لا يرى وقد قدّمنا طرفا منها. وهو معارض أيضا لأدلّة العقول القاضية بأنه تعالى لا يرى. وهو معارض أيضا لإجماع العترة ؛ فإنّهم مجمعون على أنه تعالى لا يرى. وهو معارض لإجماع المسلمين من الصحابة والتابعين وإجماعهم حجّة (٢). فيجب فيما عارض هذه الأدلة مما هو مظنون أن يطرح ويلغى حكمه ، إلا أن يمكن تأويله على الوجه المطابق لهذه الأدلة ، فذلك هو الواجب حفظا لكلام الرسول عليه‌السلام عن الإهمال (٣) وإبطال الفائدة فيه. ومنها أنّ أخبار الآحاد لا يجوز الأخذ بها (٤) والعمل عليها إلا متى تكاملت شرائطها وهي ثلاث : إحداها أن يكون الراوي عدلا ضابطا ؛ لأنّ رواية غير العدل

__________________

(١) أخرجه مسلم ٢ / ١١١٨ كتاب الطلاق رقم ٤٦. والترمذي ٣ / ٤٨٤ رقم ١١٨٠. وأبو داود ٢ / ٧١٨ برقم ٢٢٩١. والنسائي ٦ / ٢٠٩.

(٢) في دعوى الإجماع نظر فإن كان المراد بالرؤية في الدنيا فيصح دعوى الإجماع ، ولا عبرة بالقول الشاذ في تجويز الرؤية في الدنيا ، وأما في الآخرة فالاختلاف بين المسلمين من قديم الزمان طويل عريض ، فيمكن الاحتجاج لنفي الرؤية بالعقل ومحكم القرآن ، وإجماع العترة ، ولا سيما في الثلاثة القرون الأوّل ، وكون أحاديث الرؤية ظنية ، أما لو وجد إجماع لما وجد خلاف ، والله أعلم.

(٣) في (ب) : من الإهمال.

(٤) في (ب) : ولا.

الضابط مردودة بلا خلاف ، وهذا الخبر لم يسلم من ذلك ؛ فإنّه ينتهى إلى قيس ابن أبي حازم (١) ، وهو مطعون في روايته من وجوه : أحدها أنه كان متولّيا من بني أمية ومعينا لهم على أمرهم ، ولا شبهة في كون ذلك فسقا إن لم يبلغ الكفر ؛ لأنهم عندنا كفّار (٢).

ومنها أنه كان قد خولط في عقله وكان يلعب به الصبيان كما يلعبون بسائر المجانين ، وقال لصديق له أعطني درهما أشتري بها (٣) عصا ، قال : ما تفعل بها؟ قال : أطرد بها كلاب المدينة. وروي أنه أدخل في بيت وكان في بابه

__________________

(١) قال ابن حجر في تهذيب التهذيب [٨ / ٣٨٨] : كان يحمل على علي. وكذلك قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء [٤ / ١٩٩ ـ ٢٠١] ، وقال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال : كبر سنه وذهب عقله قال : فاشتروا له جارية سوداء أعجمية قال : وجعل في عنقها قلائد من عهن وودع وأجراس من نحاس فجعلت معه في منزله وأغلق عليه الباب ، قال : وكنا نطلع عليه من وراء الباب وهو معها قال : فيأخذ تلك القلائد بيده فيحركها ويعجب منها ويضحك في وجهها. ورواها أيضا الخطيب في تاريخه [١٢ / ٤٥٥]. وفي طبقات المعتزلة ص ١٢٥ في المناظرة التي جرت بين أحمد بن أبي دؤاد وأحمد بن حنبل في الرؤية فقال : هذا يزعم أن الله تعالى يرى ، والرؤية لا تقع إلّا على محدود ، فروى له ـ أي أحمد بن حنبل ـ حديث قيس بن أبي حازم ، فقال ابن أبي دؤاد : تحتج بحديث قيس بن أبي حازم وهو أعرابي بوال على عقبيه!!. ونحن نقول كما قال. ت ٩٨ ه‍.

(٢) حجّة المؤلف في تكفيرهم ما رواه البخاري ١ / ٢٧ رقم ٤٨ عن عبد الله بن مسعود عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر». وقد تكرر برقم ٥٦٩٧ و ٦٦٦٥. ومسلم ١ / ٨١ رقم ١١٦ بلفظ البخاري. أقول : ومن المعلوم قطعا أن بني أمية بدأ بمعاوية قد استحلوا قتال علي والصحابة ، وقتل بسيوفهم عشرات الألوف ، ولعنوا آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنابر زمنا طويلا.

(٣) في (ب) : ما تفعل به. وأشتري بالياء في كل النسخ ، والأظهر حذف الياء ؛ لأن الفاء إذا سقطت بعد الطلب وقصد به الجزاء جزم.

جلاجل فإذا دقّ الباب من خلفه ضحك. ومنها أنه كان مبغضا لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام (١) وحكي أنه قال [أي قيس] : منذ سمعته يقول [أي علي] على منبر الكوفة (٢) : انفروا إلى بقية الأحزاب ـ دخل بغضه في قلبي ، يعني عليا عليه‌السلام ، ومن دخل بغض عليّ في قلبه فلا شبهة في فسقه ـ إن لم يكن كافرا ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «لا يحبّك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق (٣)» ، ولقوله : «اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» (٤) ، ثم إنّ الخبر

__________________

(١) قال الوالد العلامة مجد الدين المؤيدي بهامش (ب) : إن الأمير الحسين عليه‌السلام ـ مؤلف الينابيع ـ لا يجيز قبول خبر المبغض لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام وبالأولى المحارب ، مع أنه صرّح في شفاء الأوام بقبول فاسق التأويل ، وهذا يدل على أنّهم عنده غير متأولين وهو الواقع ، وأنه يذهب إلى أنهم فساق تصريح ، وكذا الإمام المؤيد بالله عليه‌السلام فقد صرح برد رواية مبعض أمير المؤمنين عليه‌السلام ومحاربه وهو يقبل المتأولين كما ذكره في شرح التجريد ، ما ذاك إلا لأنهم عندهم غير متأولين فتدبر والله ورسوله ولي التوفيق.

(٢) في هامش الأصل : مخاطبا لأصحابه.

(٣) روي بألفاظ كثيرة. ففي مسلم ١ / ٨٦ رقم ١٣١ كتاب الأيمان قال عليّ : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليّ أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق. أنظر المرشد بالله ١ / ١٣٥. وابن حجر في الإصابة ٢ / ٥٣. والاستيعاب ٣ / ٥٠٣. ومصنف ابن أبي شيبة ٦ / ٣٦٥ رقم ٣٢٠٦. وتذكرة الحفاظ للذهبي ١ / ١٠. أحمد بن حنبل ١ / ١٨٣ برقم ٦٤٢ ، وفتح الباري ١ / ٦٣. والبداية والنهاية ٧ / ٣٩١ ، والنسائى ٨ / ١١٦ برقم ٥٠١٩. والخطيب في تاريخ بغداد ٨ / ٤١٧ ، والترمذي ٥ / ٥٩٤ رقم ٣٧١٧. وغيرهم.

(٤) هذا حديث متواتر ، قال المقبلي في الأبحاث المسددة ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤ : بعد ذكر رواته وهو متواتر فإن كان مثل هذا معلوما وإلا ما في الدنيا معلوم وقد ورد بألفاظ كثيرة من مراجع عدة نذكر منها : أمالي أحمد بن عيسى ١ / ٣٨. والمرشد بالله الشجري ١ / ٤٢. والإمام المؤيد بالله في الأمالي الصغرى ، ص ٩٠ ، ١٠٢. وأبو طالب في أماليه ص ٤٨. والإمام القاسم بن محمد في الاعتصام ٥ / ٣٧٧ ـ ٣٧٩ ، وعلي بن موسى الرضى في صحيفته ص ٤٥٧. والإمام الهادي في الأحكام ١ / ٣٧ ، ومسند أحمد ج ١ ص ١٨٢ رقم ٦٤١ ورقم ٩٥٠ ورقم ٩٦٤ ورقم ١٣١٠ مسند علي وقد رواه من أربعين طريقة ،

ينتهى إلى جرير بن عبد الله. وجرير بن عبد الله هذا ، هو الذي لحق بمعاوية وأحرق عليّ عليه‌السلام داره ، فثبت أن راويه ليس بعدل ولا ضابط ، إذ لم يسلم إسناده عن المطاعن ، ولا كان راويه وهو جرير بن عبد الله عدلا لأنه خالف الحقّ وخرج على أمير المؤمنين عليه‌السلام ولحق بمعاوية ...

وثانيها : أن لا يعارض أدلة العقول ولا محكم الكتاب ولا السنة المعلومة ، وقد دللنا على معارضته لهذه الأدلة فوجب سقوطه. وثالثها : أن لا يرد في أصول الدّين ولا فيما لا يؤخذ فيه إلا بالأدلة العلميّة ، وهذا الخبر ورد في أصول الدّين فوجب سقوطه ؛ فإذا كانت هذه الشرائط تعتبر في باب العمل بأخبار الآحاد حيث (١) لا يجب العمل بها إلا مع تكامل هذه الشرائط فكيف يصحّ العمل (٢) به مع فقد هذه الشّرائط؟ ثم كيف يسوغ الأخذ به وإلغاء حكم أدلة العقول وأدلّة الشرع المقتضية للعلم؟ ، فبطل ما ذكره المخالفون من الاحتجاج بهذا الخبر ؛ فمتى رجعوا إلى التأويل فليسوا بالتأويل أولى ، فنحمله إذا صح عن الرسول عليه‌السلام على أنّ المراد به العلم ؛ لأن الرّؤية تستعمل بمعنى العلم في اللغة ،

__________________

ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٣ وما بعدها ، بروايات عديدة. وتاريخ الإسلام عهد الخلفاء للذهبي ص ٦٣١ ـ ٦٣٣. وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٠. والمستدرك ج ٣ ص ١٣٤. وينظر مختصر زوائد مسند البزار ج ٢ ص ٣٠٣ وما بعدها رقم ١٩٠٠ وساق روايات من طرق متعددة. والبداية والنهاية لابن كثير مج ٤ ج ٧ ص ٣٨٣ وما بعدها. وقد جمع محمد بن جرير الطبري فيه مجلدين كما ذكره الذهبي في طبقاته ٢ / ٢٥٤. وقال في السير ٨ / ٣٣٥ : إنه متواتر. وقد صنف الشيخ عبد الحسين الأميني موسوعة بحالها في شأن حديث الغدير هذا سمّاه «الغدير في الكتاب والسنة والأدب» خصّص الجزء الأوّل لطرق حديث الغدير ، ثم ظل يلاحق الغدير في الشعر والنثر حسب الطبقات ـ طبع في ١١ مجلدا ـ الطبعة الرابعة ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م.

(١) في ب ، ج : بحيث

(٢) في (ب) ، (ج) : الأخذ.

قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) [الفيل ١] ، وقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) [الفجر : ٦] ، أي ألم تعلم ، وقال الشاعر (١) :

رأيت الله إذ سمّى نزارا

وأسكنهم بمكة قاطنينا

أي علمت الله ، بل حمله على المعرفة بالله أولى لمطابقته لأدلة العقول ومحكم الكتاب والسنّة المعلومة ، ولأنه قال : لا تضامّون في رؤيته ، يريد بذلك زوال الشكّ ، فكأنه قال : لا تشكّون في معرفته ، ويكون فائدة التخصيص بيوم القيامة ؛ لأنّ الخلق كلّهم يعرفونه حلّ وعزّ ذلك اليوم ، وإنما مثّل ذلك برؤية القمر ليلة البدر ؛ لأنّ العلم به يحصل يوم القيامة لكافة المؤمنين والفاسقين والكافرين جميعا ، كما يحصل العلم بالقمر ليلة البدر لكل من شاهد (٢) ، فيكون العلم به يوم القيامة ضروريّا ، فلا يحتاجون فيه إلى نظر واستدلال. فهو في الجلاء والظهور بمنزلة علمهم بالقمر ليلة البدر. فبطل قولهم في هذه المسألة من كل وجه ، وصح أنه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة.

__________________

(١) الكميت بن زيد الأسدي. ينظر شرح الهاشميات ص ٢٦٣. بتحقيق الأستاذ أحمد الجاسر بلفظ :

وجدت الله إذ سمى نزارا

وأنزلهم بمكة قاطنينا

(٢) في (ب) : يشاهد.

المسألة العاشرة :

ونعتقد أنّه تعالى واحد

والكلام فيه يقع في أربعة مواضع : أحدها في معنى الواحد. والثاني في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثالث في الدلالة على فساد ما ذهب إليه المخالفون. والرابع فيما يؤكد أدلة العقل من أدلة (١) السمع على صحّة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون.

أما الموضع الأول وهو في معنى الواحد : فالواحد يستعمل في معنيين : أحدهما ما لا يتجزّأ ولا يتبعّض ، وهذا لا يكون مدحا بانفراده في حقه تعالى ؛ لأن الجوهر الفرد (٢) لا يتجزأ ولا يتبعض ، وكذلك العرض القائم به ، وإنما يكون مدحا بانضمامه إلى كونه حيّا ؛ لأن كلّ حيّ سواه ذو أجزاء وأبعاض ، وهو تعالى حيّ (٣) لا يتجزّأ ولا يتبعّض. الثاني (٤) : هو المتفرّد بصفات الكمال إثباتا ونفيا ، فلا يشاركه فيها أحد على الحدّ الذي استحقّها عليه ، وهذا هو مراد المتكلمين ؛ لأنهم يوردون ذلك مورد المدح. ويريدون به التفرّد بصفات الكمال والتعالي عن الأشكال والأمثال ، ونريد بقولنا على الحدّ الذي استحقها عليه ؛ لأنها ثابتة له على سبيل الوجوب. والواحد منا وإن شاركه في بعض صفاته جنسا أو قبيلا أو نوعا فليست بثابتة للواحد منا على سبيل الوجوب بل على سبيل الجواز.

__________________

(١) في (ب) : من السمع

(٢) أصغر جسم وهو الذي لا يقبل الانقسام ويسمى بالذرة التي لا تتجزأ.

(٣) في (ب) : بحذف حي.

(٤) في (ب) ، و (ج) : والثاني.

وأما الموضع الثاني : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف :

فمذهبنا أنه تعالى واحد لا ثاني له يشاركه في القدم ولا في الإلهية ، وهذا هو قول المسلمين كافة. وأثبت قوم أكثر من قديم واحد. فالصّفاتية من الأشعرية أثبتت قدما (١) ، وزعمت أنها قائمة بذات الباري ، وهي القدرة والعلم والحياة والسمع والبصر والإرادة والكلام فبها يكون قادرا وعالما وحيّا وسميعا وبصيرا ومريدا ومتكلّما. قالوا : ولو لاها لما كان كذلك ، قالوا : وليست هي الله ولا هي غيره ولا بعضه ، وكلّ واحد منها ليس بالآخر ولا غيره ولا بعضه. والثّنوية أثبتت اثنين قديمين فاعلين مختلفين لا يقوم أحدهما بذات الآخر : أحدهما نور والآخر ظلمة. قالوا : وكلّ خير فمن النّور ، وكل شرّ فمن الظلمة. والمانوية (٢) فرقة منهم تقول (٣) : إنّ النور حيّ بحياة يقال لها : نسيم ، والظلمة حيّة بحياة ، يقال لها : همامة. والمجوس أثبتت قدم الشيطان مع الله تعالى ، وعبّرت عن الله تعالى بيزدان. وقالوا : ما حصل من خير فهو منه ، وعبّرت عن الشيطان بأهرمن ، وقالوا : هو جسم ، وقالوا : ما حصل من شرّ فهو منه. ومنهم من يثبت حدوث الشيطان ، ولهم ترّهات لا فائدة في ذكرها. والنصارى تقول بثلاثة أقنوم (٤) : الأبّ وهو ذات الباري عندهم ، وأقنوم الابن

__________________

(١) في (د) : قدماء.

(٢) نسبة إلى الحكيم السرياني : ماني بن واني أو ابن فاتك ، الذي ظهر في زمن سابور ابن اردشير ، ادعى النبوة فخالفته المجوس ، فأشاروا بقتله ؛ فقتله بهرام بن هرمز بن سابور «بعد عيسى عليه‌السلام». ينظر في المانوية الملل والنحل للإمام المهدي ٦٨ ، والملل والنحل للشهرستاني ٦ / ١٩٤ بهامش ابن حزم.

(٣) في (ب) ، و (ج) : يقولون.

(٤) الأقنوم : اسم سرياني وهو عند النصارى الشيء المتفرد بالعدد ، والأقانيم عندهم ثلاثة : أقنوم الأب وهو ذات الباري ، وأقنوم الابن وهو الكلمة ، وأقنوم روح القدس وهو الحياة. ينظر الأساس ١ / ١٥٣.

وهو الكلام ، وربما رجعوا به إلى العلم. قالوا : ولم يزل متولّدا عن الأب كتولّد الضياء عن الشمس ، وأقنوم روح القدس وهو الحياة ، ويقولون : بأن الله تعالى جوهر واحد على الحقيقة ، وثلاثة أقانيم في الحقيقة ، ولهم تفاصيل تطول مع تناقضها.

وأما الموضع الثالث :

وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون

فلنا في ذلك مطلبان : أحدهما أن نتكلّم على قول كل فرقة من هؤلاء المخالفين بما يبطله على التعيين. والثاني : أن نستدلّ على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه على العموم.

أما المطلب الأول : فنقول وبالله التوفيق : أمّا قول الصفاتية فقد قدّمنا النّقض عليهم في فصل الكيفية ؛ فإنا دللنا هناك (١) بأربعة أدلة على إبطال قولهم على التعيين ، فلا نطوّل بإعادتها.

وأما قول الثنوية بقدم النور والظلمة فهو باطل ؛ لأن فرسان الكلام مختلفون فيهما. فعند بعضهم أن النور والظلمة عرضان ، وعند الآخرين أنّهما جسمان ، وقد دللنا على حدوث الأجسام والأعراض فيما تقدم ، فبطل كونهما قديمين. وقولهم مبنيّ على أنّ النّور ـ وهو فاعل الخير والحسن ـ لا يفعل (٢) الشرّ والقبيح ، والظلمة لا تفعل الخير والحسن بل تفعل الشرّ والقبيح ، وهو باطل ؛ لأن ضوء النهار قد يكون سببا لوجدان الضالّة ، وقد يكون سببا لظفر العدو بالإنسان ، وكذلك الظّلمة قد تكون سببا لستره من العدو ، وقضاء كثير من حوائجه التي يحبّها ويشتهيها ، كما قال الشاعر :

__________________

(١) في المسألة الخامسة في فصل : وإذا ثبت أنه تعالى يستحق هذه الصفات .. إلخ.

(٢) في الأصل و (د) ، (ه) : ولا يفعل ، وبقية النسخ بحذف الواو ، وهو الأظهر.

وكم لسواد الليل عندي من يد

تخبّر أن المانوية تكذب (١)

وكذلك فقد تكون الظّلمة سببا لوقوعه أو وقوع غيره في الآبار والنّيار (٢) ونحو ذلك من المضارّ ، فقد وقع الخير والشرّ من النور جميعا ، ووقعا من الظلمة جميعا. فبطل قولهم.

وأما قول المجوس فظاهر البطلان ؛ لأنّ الشيطان متى كان جسما استحال قدمه لما بيّنّا أنّ الأجسام محدثة ، ومتى كان محدثا فلا بدّ له من محدث ؛ لما قدّمنا من حاجة كلّ محدث إلى محدث ، ولو لم يحتج إلى محدث لكان العالم لا يحتاج إلى محدث ، ولكانت الشرور المحدثة لا تحتاج إلى محدث ، وفي ذلك الاستغناء عن الشيطان. وإذا قالوا : بأن محدثه هو الله تعالى ، لم يخل إمّا أن يقرّوا بعدله وحكمته أم لا ؛ فإن أقرّوا بعدله وحكمته فليس من الحكمة أن يخلق ما يغالبه ، وإن لم يكن حكيما جاز أن تضاف إليه هذه الشرور لخروجه عن حدّ الحكمة ، وفي ذلك الاستغناء عن الشيطان.

وأما قول النصارى : إنه تعالى جوهر واحد على الحقيقة وثلاثة أقانيم على الحقيقة فهو فاسد غير معقول أصلا ؛ فإنّ ما يكون واحدا لا يكون ثلاثة ، وما يكون ثلاثة لا يكون واحدا ، بل ذلك فاسد في العقول ، ويكفي في فساده وإبطاله كونه غير معقول ؛ فإنّ ما لا يكون معقولا لا يمكن اعتقاده ، وهذا لا يمكن اعتقاده ، ولا يصح جعله مذهبا (٣) ؛ وذلك لأنّ ما يصح جعله مذهبا هو ما يمكن اعتقاده ، ويمكن اشتراك العقلاء فيه ، ويصحّ اعتقاد خلافه. فأمّا ما لا يكون كذلك فلا يصح كونه مذهبا ، ولا يمكن إيراد الدلالة عليه ، فاتضح

__________________

(١) ديوان المتنبي ٤٦٦ : وكم لظلام الليل ...

(٢) النيار : كأنها جمع نار ، وفي (ب) : والتبار ، وهو الهلاك كما ذكره في الهامش.

(٣) في (ب) : مذهبا لهم.

بذلك بطلان مذهبهم على التفصيل ، وهو المطلب الأول.

وأما المطلب الثاني : وهو في الدلالة على صحة ما ذهب إليه المسلمون ، وإبطال مذاهب المخالفين على العموم فإذا أردنا ذلك تكلمنا في موضعين : أحدهما في الدلالة على أنه لا ثاني له يشاركه في القدم. والثاني في الدلالة على أنه لا ثاني له يشاركه في الإلهية.

أما الموضع الأول : وهو في الدّلالة على أنه لا ثاني له يشاركه في القدم فالذي يدل على ذلك أنّه لا طريق إلى إثباته ، وكل ما لا طريق إلى إثباته فهو باطل. وتحقيق ذلك أنّ هذه الدلالة مبنية على أصلين :

أحدهما أنه لا طريق إلى إثبات قديم ثان فما زاد عليه. والثاني أنّ كلّ ما لا طريق إلى إثباته فهو باطل.

أما الأصل الأول : وهو أنه لا طريق إلى إثبات قديم ثان فما زاد عليه ؛ فالذي يدل عليه أنه لو كان هناك قديم ثان فما زاد عليه ؛ لما دلّ عليه إلّا الفعل لمجرده (١) ، ومعلوم أنه ليس هناك فعلان يتميّز أحدهما عن الآخر ، فيقال :

بأنهما يدلان على فاعلين قديمين ، فلو جاز أن يقال : بأن العالم بما فيه دليل على قديمين ـ لجاز أن يقال : بأنه يدل على ما لا نهاية له من القدماء وذلك محال. وبعد فإنّ دلالة إثبات الصانع على النّسق الذي ذكره المتكلمون لا يدلّ إلا على واحد ؛ لأنّهم قالوا : بأن العالم محدث ودلّوا على ذلك بما لا نطوّل بذكره ، ثم قالوا : وكلّ محدث يحتاج إلى محدث ودلوا على ذلك بطريقة التّقسيم : وهي أنّه إذا كان العالم موجودا على سبيل الجواز فلا بدّ من أمر يؤثّر فيه ، وأنّ ذلك الأمر لا يخلو أن يكون مؤثّرا على سبيل الإيجاب وهو العلّة ، أو

__________________

(١) في (ب) : بمجرده.

لا على سبيل الإيجاب بل على سبيل الصّحّة والاختيار. ثم أبطلوا العلل كلّها من المعدومة والموجودة ، ومن القديمة والمحدثة ، فبقي أنه فاعل ، فلو جاز مع ذلك أن يقال : بأنهم فاعلون قدماء مع كون الدّلالة قد دلّت على هذا الوجه لجوّزنا في كلّ دليل أن يكون إنما دلّ على مدلولات كثيرة ، وذلك ينفي العلوم الضرورية بتعلق (١) الفعل بفاعله ؛ لأنه يجوز (٢) أن يقال بأنه يدلّ (٣) عليه وعلى تأثير غيره معه فيجوز في أفعال غيرنا أن تكون الحركة الواحدة منها تدل على فاعلين كثير (٤) ، مع أنها إنّما دلت على أنه لا بدّ من مؤثّر فيها فحسب ، وهذا يزيل التّفرقة بين ما هو من فعلنا وبين ما هو من فعل غيرنا فينا ، مع أنّ حصول التّفرقة في ذلك ضروريّ ؛ فثبت أنّ العالم إنما يدل على إثبات قديم واحد لا ثاني له ، وصح أنه لا طريق إلى إثبات قديم ثان فما زاد عليه.

وأما الأصل الثاني : وهو أن كل ما لا طريق إلى إثباته فهو باطل ؛ فلأنّ ذلك يؤدّي إلى فتح باب الجهالات ، وما أدى إلى ذلك وجب نفيه ، وإنّما قلنا : إنه يؤدي إلى فتح باب الجهالات ، لأنا متى جوّزنا ثبوت ما لا يصحّ أن يعلم بنفسه ولا بطريق ـ أدّى ذلك إلى إبطال العلوم الضرورية والاستدلالية. أما الضرورية فأن (٥) يجوّز العقلاء أن يكون بحضرتهم مياه عظيمة ، ونيران متأجّجة ، وبحار زاخرة ، مع أنهم لا يعلمونها ؛ لتجويزهم أن يكون هناك مانع من مشاهدة ذلك سوى الموانع المعقولة ، ولا طريق لهم إلى العلم بها ـ فيكون

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : لتعلق.

(٢) في (ب) : لأنه لا يجوز بأن. وفي (د) : لا يجوز أن بأنه دل.

(٣) في (ب) و (ج) : دلّ.

(٤) في (ب) و (د) : كثيرين. والأولى كثير ، مثل (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ).

(٥) في (ب) : إن شرطية جوابها «فيكون» ، وكان المفترض أن يجزم ، والأصح أن.

تصرّفهم كتصرّف الضّرير والمعتوه. وأما الاستدلالية فبأن يجوّزوا أنّ ما دلّ الدليل على نفيه فهو ثابت بدليل آخر لا يعلمونه ولا طريق لهم إلى العلم به ، ومتى جوّزوا ذلك لم يصح منهم أن يعلموا إثبات علّة لمعلول ، ولا ضدّ لمضادّ ولا فعل لفاعل ، إلى غير ذلك من الجهالات ، وإنما قلنا : بأن كلما أدى إلى ذلك وجب نفيه ؛ لأنه متى لم يجز في العلوم الضرورية والاستدلالية أن تكون جهالات محضة ـ لم يجز إثبات ما دلّ على ذلك ووجب نفيه ؛ فثبت بذلك الموضع الأول وهو في الدلالة على أنه تعالى لا ثاني له في القدم.

وأما الموضع الثاني : وهو في الدلالة على أنه تعالى لا ثاني له يشاركه في الإلهية ؛ فالذي يدل على أنّه لا ثاني له يشاركه في القدم يدلّ أيضا على أنّه لا ثاني له في الإلهية ، ويدل على ذلك أيضا أنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون قادرا على جميع أجناس المقدورات ، عالما بجميع المعلومات ، غنيا عن كل شيء من المقبّحات والمحسّنات ، وذلك لا يجوز. وإنما قلنا : بأنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون قادرا عالما غنيّا على الحد الذي ذكرناه ؛ لأن الإله من تحقّ له العبادة ، ولا تحقّ له العبادة إلا بأن يكون على هذه الأوصاف ، وإنما قلنا : بأنّ الإله من تحقّ له العبادة ، بدليل أنّه لا يجوز أن يثبت ذلك بأحد اللفظين وينفى بالآخر ، فلا يصح أن يقال : هو إله ولا تحقّ له العبادة ، أو تحقّ له العبادة وليس بإله ، بل يعدّ من قال ذلك مناقضا ، وعلى هذا لمّا اعتقد الكفّار من أهل اللغة أنّ الأصنام تحقّ لها العبادة وصفوها بأنّها آلهة ، واعتقادهم هذا وإن كان فاسدا فإنه لا يمنع من صحّة التّسمية ؛ لأنهم أهل اللغة ، وقد وضعوا هذا الاسم لما تحقّ له العبادة. فوضعهم الاسم صحيح (١) ، ولا عبرة باعتقادهم ؛

__________________

(١) ينظر مختار الصحاح ص ٢٣. ولسان العرب ١٣ / ٤٦٧. والتاج ١٩ / ٧.

لأنّ الغرض أن تؤخذ عنهم الألفاظ دون المعاني والاعتقادات ؛ لأنّ ذلك لا يخصّهم ، بل يتبع العقول والحجج ، ولا يصح قول من قال : إنّ الإله هو من يستحقّ العبادة ؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن لا يكون إلها في الأزل ، وذلك محال ؛ فثبت أن الإله من تحقّ له العبادة ، وإنما قلنا : إنّه لا تحقّ له العبادة إلا بأن يكون على هذه الأوصاف ؛ لأن العبادة هي غاية التذلّل والخضوع والتعظيم للمعبود ، فيجب أن لا تستحقّ إلا على أصول النعم وأجلّها ؛ لأن التعظيم يتزايد بحسب تزايد أسبابه ؛ ولهذا لا يحسن منّا أن نعظم الأبناء على حد تعظيم الآباء ، ولا الآباء على حد تعظيم العلماء ، ولا العلماء على حد تعظيم الأئمة ، ولا الأئمة على حد تعظيم الأنبياء ، فإذا كان التعظيم يتزايد بحسب تزايد أسبابه ، وثبت أن العبادة غاية التذلّل والخضوع للمعبود ـ ثبت أنها لا تستحقّ إلّا على أصول النعم وأجلّها ، وهو إيجاد المعدوم ، وجعله حيّا ، وخلق حياته (١) ، وخلق شهوته ، وتمكينه من المشتهى (٢) ، وإكمال عقله الذي يميّز به بين الحسن والقبيح ، وذلك لا يصحّ إلا ممن كان قادرا على جميع أجناس المقدورات عالما بجميع المعلومات ، ولا تكون نعما إلا متى قصد بها وجه الإحسان ، ولا نعلم أنه قصد بها وجه الإحسان إلا متى علمنا كونه عدلا ، ولا نعلم كونه عدلا إلا متى علمنا كونه غنيا ، فثبت ما قلناه من أنه لو كان معه إله ثان لوجب أن يكون عالما بجميع المعلومات ، قادرا على جميع أجناس المقدورات ، غنيا عن كل شيء وإنما قلنا بأن ذلك لا يجوز لوجهين :

أحدهما : أن ذلك يؤدّي إلى مقدور بين قادرين ؛ لأنّا لا نعني بمقدور بين

__________________

(١) المراد الحياة المدركة المتحركة.

(٢) في (ب) ، و (ج) : المشتهيات.

قادرين إلا أنه يصح من كلّ واحد منهما (١) إيجاد ما يصح من الآخر إيجاده ، ولا شك أنّهما على القول بإثباتهما جميعا قد اشتركا في أنّ كل واحد منهما قادر لذاته ، فلا اختصاص لذاته بمقدور دون مقدور على ما تقدم تفصيله ، فثبت أنه يؤدى إلى مقدور بين قادرين ، وإنما قلنا بأن مقدورا بين قادرين محال ؛ لما قدمنا ذكره والدلالة عليه أوّلا.

الوجه الثاني : أن ذلك يؤدى إلى القول بوجوب صحة التمانع بينهما ، ولا يجوز أن يصح بينهما التمانع ، وإنما قلنا : بأنه يؤدي إلى وجوب صحة التمانع ؛ لأنّ كل قادرين يصحّ بينهما التمانع والاختلاف ؛ لأنا لا نعنى بصحة التمانع إلا أنه يصحّ من كل واحد منهما إيجاد ضدّ ما يصحّ من الآخر إيجاده ، وقد ثبت أنّ كل واحد من القادرين يتعلق كونه قادرا بالضّدّين كالحركة والسكون ونحو ذلك ، على ما نبيّنه إن شاء الله تعالى في فصل الاستطاعة ، فوجب أن يصحّ من كل واحد من القادرين إيجاد كل واحد من الضّدّين بدلا عن صاحبه ؛ لاشتراكهما في الصفات التي قدمنا ذكرها ، وإلا بطل كونه قادرا عليه ، ولم ينفصل حاله عن حال العاجز ، بل هذه القضية ألزم في القديمين والإلهين ، إذ كلّ واحد منهما قادر على جميع أجناس المقدورات ، ومن كل جنس ، في كل وقت ، على ما لا نهاية له ، فيجب أن يصحّ من كل واحد منهما إحداث ضدّ ما يصحّ من الآخر إحداثه ؛ لأنّ المتضادات داخلة في جميع أجناس المقدورات ، ولسنا نعنى بإمكان التمانع بينهما إلا ذلك. وإنما قلنا : بأنه لا يجوز أن يصحّ بينهما التمانع ؛ لأنّا لو قدّرنا وقوع هذا الممكن وهو أن أحدهما أراد تحريك جسم في حال ما يريد الآخر تسكينه لم يخل الحال من أمور ثلاثة :

__________________

(١) في (ب) : من كل قادر منهما.

إمّا أن يوجد ما أراده جميعا فيكون محتركا ساكنا في حالة واحدة ، وذلك محال. وإمّا أن لا يوجد مرادهما جميعا فذلك لا يجوز ؛ لأنه يؤدي إلى عجزهما جميعا وخروجهما عن كونهما قديمين في حالة واحدة وذلك محال. وإما أن يوجد مراد أحدهما دون الآخر فهذا باطل ؛ لأنهما على هذا القول قد اشتركا في صفات الذّات فلا مخصّص بذلك لأحدهما دون الآخر. وقد أدى إلى هذه المحالات القول بصحة التّمانع ، وأدّى إلى القول بصحة التمانع القول بالقديم الثاني والإله الثاني ، أو بأكثر من ذلك ؛ فيجب أن يكون محالا ، فلم يبق إلا أنه تعالى واحد لا ثاني له في القدم ولا في الإلهية.

وأما الموضع الرابع : وهو فيما يؤكد ذلك من أدلة السمع ؛ فعلى ذلك أدلة ـ منها : أن المعلوم ضرورة من دين نبينا محمد الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين أنّ الإله واحد لا ثاني له ، ولا قديم غيره. بل هو المعلوم من دين جميع الأنبياء المرسلين (١) ضرورة ، فلا يجوز القول بخلافه. ومنها : ما نبّه الله تعالى عليه من دليل التّمانع ، وهو قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] تنبيه على الممانعة والمغالبة التي ذكرناها وبيّنّا وجهها ، وكذلك قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ؛ فإنه تنبيه على ما ذكرنا من التمانع. ومنها : قوله تعالى : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) ، وقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد : ١٩] وقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إلى أخر السورة ، وقول الله تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [البقرة : ٢٥٥] وقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ،

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : والمرسلين.

وقوله تعالى : (إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [الأنبياء : ١٠٨].

فثبت أنه تعالى واحد لا ثاني له يشاركه في القدم ولا في الإلهية ، وبطل ما ذكره المخالفون ، فثبت بجميع ما تقدم أنه تعالى لا يخرج عن صفة من الصفات بل يجب اختصاصه دائما بالنفي منها والإثبات ؛ لما ثبت بما تقدّم من أنّه لا فاعل له يجعله على هذه الصفات ، ولا علّة تؤثّر فيه في حالة من الحالات ، فكانت واجبة لله تعالى ، واستغنى بقدمه عن كل مؤثّر من فاعل وعلة ، ولزم ثبوتها في جميع الأحوال ؛ لأنه لا مخصّص يخصّص ثبوتها في حال دون حال ؛ فلزم ثبوتها في جميع الأحوال ، وقد قال تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة : ٢٩] ، وقال تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة : ١٢٠].

وخرجت أيها المسترشد باعتقاد ما تقدّم عن اعتقادات الباطنية ، والمشبّهة ، والكرّامية ، والأشعرية ، والهشامية (١) ، والضرارية ، وسائر الصفاتية ، وزايلت المجوس ، والثّنوية ، والنصارى : النسطورية (٢) ، واليعقوبية (٣) ، والملكية (٤) ، وبتمام الكلام في هذه المسائل كملت مسائل التوحيد ، فلنتكلم في مسائل العدل وما يتفرع عليها فنقول وبالله التوفيق :

__________________

(١) أصحاب هشام بن الحكم المتوفي ٢٧٩ ه‍ ، من متكلمي الشيعة الإمامية ، وجرت بينه وبين أبي الهذيل مناظرات في علم الكلام.

(٢) أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمن المأمون ، وتصرف في الإنجيل بحكم رأيه. الملل والنحل ٢ / ٦٤ بهامش ابن حزم.

(٣) اليعقوبية : نسبة إلى يعقوب ، وهي فرقة من النصارى قالوا بالأقاليم الثلاثة إلا أنهم قالوا انقلبت الكلمة لحما ودما ، فصار الإله والمسيح ، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ١٦ بهامش ابن حزم.

(٤) الملكائية : أصحاب ملكا الذي ظهر بالروم ، واستولى عليها ومعظم الروم ملكائية. ينظر الملل والنحل ٢ / ٦٢ بهامش ابن حزم.

فصل :

نعتقد أن الله عدل حكيم.

والكلام في ذلك يقع في ستّة فصول :

أحدها : في معنى العدل. والثاني : في تعيين الأفعال وقسمتها وحصرها. والثالث : أنّ في الأفعال ما لو فعله الله تعالى لكان قبيحا. والرابع : أنّه تعالى قادر على فعل القبيح. والخامس : أنّه تعالى لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب ، وأفعاله كلها حسنة. والسادس : فيما يلائم ذلك من الأدلة الشرعية.

أما الفصل الأول : وهو في معنى العدل

فهو في أصل اللغة : مصدر من عدل يعدل عدلا ، وهو إنصاف الغير بفعل ما يجب له أو يستحقّ ، وترك ما لا يستحقّ عليه ، مع القدرة على ذلك.

وهو في عرف اللغة : المكثر من فعل العدل ، يقال : فلان عدل إذا أكثر من فعل العدل ، قال زهير :

متى يشتجر قوم يقل سرواتهم

هم بيننا فهم رضى وهم عدل (١)

وهو في عرف الشّرعيين : المستمرّ على فعل الواجبات ، والكافّ عن المقبّحات والمباحات المسخّفات (٢) ، صحيح الاعتقاد ، والمراد بذلك كلّه في ظاهر الحال ؛ لأنا لم نتعبّد بباطنه. واشترطنا صحة الاعتقاد في الظاهر ؛ لأنّ

__________________

(١) ديوانه ص ٤٠. والمعنى : إذا اختلف قوم في أمر رضوا بحكم هؤلاء لما عرف من عدلهم.

(٢) في (ب) و (ج) : المستخفّات ، وما في الأصل أظهر.

العدالة هي صحة الاعتقاد ، والعمل بمقتضاه (١).

وهو في اصطلاح المتكلمين : الذي لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وأفعاله كلّها حسنة.

وأما الفصل الثاني :

وهو في تعيين الأفعال الداخلة في أبواب العدل ومعانيها ، وقسمتها ، وحصرها.

أمّا تعيينها فهي القبيح والحسن. والحسن يشتمل على : الواجب والمندوب والمكروه والمباح.

وأما معانيها فالقبيح : هو ما ليس للقادر عليه ، المتمكّن من الاحتراز منه أن يفعله. والحسن : هو ما للقادر عليه أن يفعله. والواجب : هو ما ليس للقادر عليه الاخلال به على بعض الوجوه. والمندوب : هو ما عرّف فاعله أو دلّ على أنه يستحقّ بفعله المدح. والمكروه : هو ما عرف فاعله أو دلّ على أنه يترجّح تركه على فعله ، وهذا يخص الشرعيات دون العقليات ؛ فإنه لا مكروه في العقل إلا القبيح دون الحسن. وأما المباح : فهو الذي لا يترجّح تركه على فعله ، ولا فعله على تركه.

وأما قسمتها وحصرها فالفعل لا يخلو أن يكون للقادر عليه المتمكّن من الاحتراز منه أن يفعله أم لا ، إن لم يكن فهو القبيح. وهو على ضربين : عقلي وشرعي ؛ فالعقلي كالظّلم وكفر النعمة ونحو ذلك. والشرعي كالربا والزنا وشرب الخمر ونحو ذلك. وإن كان للمتمكّن من الاحتراز منه أن يفعله فهو الحسن. ثم لا يخلو أن يكون للإخلال به مدخل في استحقاق الذّمّ أو لا ؛

__________________

(١) ينظر حول ذلك كتابنا عدالة الرواة والشهود ص ٢٠ وما بعدها.

فإن كان للإخلال به مدخل في استحقاق الذّمّ فهو الواجب ، وله ثلاث قسم باعتبار أحكامه :

القسمة الأولى : أنه ينقسم إلى مطلق كالحج ، وإلى مقيّد بوقت. وهو على ضربين : أحدهما يتّسع للفعل ولا يزيد عليه ، وذلك كاليوم في الصوم. والثاني يتّسع للفعل ولغيره ، وهو على ضربين : موسّع كالصلاة في أوّل وقتها ، ومضيّق كالصلاة في آخر وقتها.

القسمة الثانية : ينقسم إلى معيّن كالواجبات على الأعيان نحو الصلوات الخمس وما أشبهها ، وإلى غير معيّن كالواجبات على الكفاية نحو صلاة الجنازة وما أشبهها.

القسمة الثالثة : أنه ينقسم إلى ما لا بدل له ، وإلى ما له بدل ؛ فالذي لا بدل له نحو معرفة الله وما أشبهها. والذي له بدل ضربان : أحدهما له بدل مرتّب ، وهذا كالتيمم في كونه بدلا عن الوضوء. والثاني له بدل غير مرتّب وهو الواجبات المخيّرات ، وهو على ثلاثة أقسام :

أحدها : أن يكون التخيير بين أمور متضادّة ، وهذا كالأمر بالصلاة في بقاع المسجد ؛ فإنها متضادّة لتغاير الجهات. والثاني : أن يكون التخيير بين أمور مختلفة ، نحو التخيير بين الكفارات الثلاث ونحو ذلك. والثالث : أن يكون التخيير بين أمور متماثلة ، نحو الأمر بإخراج جزء معيّن من المال ، نحو العشر أو نصف العشر في الزكاة ؛ فإنه مخيّر بين إخراج أي الأقسام العشرة شاء ونحو ذلك ، وإن لم يكن للإخلال به مدخل في استحقاق الذم فلا يخلو أن يستحق (١) بفعله المدح أم لا ، إن استحق بفعله المدح فهو كالتفضل (٢)

__________________

(١) يجوز البناء للفاعل والمفعول.

(٢) في (ب) : فهو التفضل.

والإحسان في العقل ، وهو المندوب شرعا ، وقد يسمى سنّة إذا أكثر من فعله النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإن لم يداوم عليه ولا أكثر من فعله سمّي تطوعا. وإن لم يستحقّ بفعله المدح فلا يخلو أن يترجّح تركه على فعله أم لا ؛ فإن ترجّح تركه على فعله فهو المكروه شرعا نحو الأكل بالشّمال ، وقد ذكرنا أنه لا مثال له في العقل ، وإن لم يترجّح تركه على فعله على الإطلاق فهو المباح. فمثال الواجب من فعل الله تعالى التمكين واللّطف. ومثال المندوب العفو والتفضّل والإنعام. ومثال ما هو من جنس المباح العقاب والذمّ.

وأما الفصل الثالث :

وهو أن في الأفعال ما لو فعله الله تعالى لكان قبيحا (١)

فالذي يدل على ذلك أن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها ، فمن أيّ فاعل وجدت على بعض تلك الوجوه وجب كونها قبيحة ، وإنما قلنا بأن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها ؛ لأن القبح ثابت في الأفعال خلافا للفلاسفة الضّلال ومن وافقهم من متأخري الأشعرية الجهّال ؛ فإنهم يذهبون إلى نفي الحسن والقبح عن الأفعال (٢) ، ويقولون : إنّ ما يستنكر من ذلك من باب المشهورات والمقبولات والمتخيّلات ، ممّا (٣) يؤيّدها نفور النفس والإلف والعادة. وذهبت الجبرية القدريّة إلى أن الأفعال تقبح منّا لكوننا منهيين ، أو مملوكين ، أو مربوبين ، أو محدثين. وإذا أردنا ذلك (٤) تكلمنا في موضعين : أحدهما في الدلالة على إثبات القبح في الأفعال ؛ والذي يدل على ذلك أن العقلاء يعلمون بعقولهم

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : قبحا.

(٢) ينظر الإرشاد للجويني ص ٢٢٨. ورسالة إلى أهل الثغر ص ٢٤٦.

(٣) في (ب) : بما.

(٤) في (ب) : وإذا أردنا إبطال ذلك.

التفرقة بين المحسن وبين المسيء ؛ فإن التفرقة بين من اصطفى الأموال وسفك الدماء ، وبين من أرشد الضّال ، وأطعم الجائع ، وهدى إلى السبيل ، وأمّن الطريق ، وتفضّل على المحتاجين بالأموال ـ معلومة ضرورة ، يشترك (١) في معرفة ذلك العقلاء كلّهم من أقرّ بالصّانع واعترف بالشرائع ، ومن لم يقرّ بشيء من ذلك بل جحده كالملاحدة فإنها تعرف ذلك ، وهي معرفة ظاهرة مع اشتراك الفعلين والفاعلين في اللذة والألم ، وكون الفاعلين مشتركين في كونهما منهيّين ، ومملوكين ، ومربوبين ، ومحدثين ، فلم يبق إلا أن تكون (٢) التفرقة الحاصلة بين الفعلين هي غير ذلك ، وهي الحسن والقبح. وكما يعلمون ذلك باضطرار ، فإنهم يعلمون التفرقة بين من قطع يده لا لغرض ، وبين من قطعها من خوف أن تسري إليها الجراحة فتؤدي إلى هلاكه ، ويفرّقون بين الفعلين فرقا ظاهرا حاصلا بفطرة العقل ، ويعلمون أنه ممدوح على قطع يده لغرض ، وغير ممدوح بل مذموم على قطعها لغير غرض ، مع اشتراك الفعلين في نفور النّفس والإلف والعادة وسائر الوجوه التي ذكرناها ، وليس ذلك إلا لعلمهم بالقبح في أحدهما دون الآخر ، وهذا أمر لا يمكن دفعه ولا يردّه إلا مكابر لعقله أو من هو معتوه لا عقل له ، فبطل بذلك قول الفلاسفة والأشعرية والقدرية.

والموضع الثاني (٣) ـ في الدلالة على أن القبيح يقبح لوجوه يقع عليها. فالذي (٤) يدل على ذلك أن العقلاء يعلمون باضطرار أن الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها من كونها ظلما أو كذبا أو تكليفا لما لا يطاق ، أو تكليفا لما لا

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : ويشترك.

(٢) في (ب) : يكون.

(٣) في (ب) و (ج) : وأما الموضع الثاني. وفي (ب) بزيادة وهو في الدلالة.

(٤) في (ب) ، (ج) : والذي.

يعلم ؛ ولهذا فإنّ الواحد منا متى علم وقوع الفعل على بعض هذه الوجوه علم كونه قبيحا ، وإن فقد كلّ أمر يشار إليه مما سوى ذلك ، بدليل أنّ الحكم يثبت بثبوت ذلك ، وينتفي بانتفائه ، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى ، فثبت ما ذكرناه من أنّ الأفعال تقبح لوجوه تقع عليها. وإنما قلنا : بأن أيّ فاعل وجدت منه على أحد (١) تلك الوجوه وجب كونها قبيحة ؛ لأنّ وجه القبح مع القبح جار مجرى العلة مع المعلول ؛ فكما لا يجوز ثبوت العلّة بدون معلولها ، كذلك لا يجوز ثبوت القبح مع انتفاء القبح.

وأما الفصل الرابع :

وهو أنه تعالى قادر على فعل القبيح

فالذي يدلّ على ذلك أنه قادر على جميع أجناس المقدورات على ما تقدم. والقبائح من جملة المقدورات ؛ ولهذا فإنه يصح منا إيجادها. فلو لم تكن من جملة المقدورات لما صحّ منا إيجادها.

وأما الفصل الخامس :

وهو أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخلّ بالواجب ، وأفعاله كلّها حسنة

فنحن نتكلم في كل واحد منها ليصحّ قولنا : إنّه تعالى عدل حكيم. أمّا أنّه تعالى لا يفعل القبيح فلأنه تعالى عالم بقبح القبيح ، وغنيّ عن فعله ، وعالم باستغنائه عنه ، وكلّ من كان كذلك فإنه لا يفعله. وإنما قلنا : بأنه تعالى عالم بقبح القبيح ، فلما بيّنا بأنّه (٢) تعالى عالم بجميع المعلومات. والقبائح من جملة المعلومات ؛ فيجب أن يعلمها.

__________________

(١) في (ب) : حد.

(٢) في (ب) : أنّه.

وأمّا أنه تعالى غنيّ عن فعلها فلما بينّا أنه تعالى غني ، وأن الحاجة لا تجوز عليه في حال من الأحوال ، وقلنا : إنّه تعالى عالم باستغنائه عنه ، لما بينا أنه تعالى عالم بجميع أجناس (١) المعلومات. وأجلّ المعلومات (٢) ذاته تعالى ، فيجب أن يعلمها على ما هي عليه من صفات الكمال. ومن جملة صفات الكمال كونه غنيا عن القبائح ، فيجب أن يعلم ذاته كذلك. وإنما قلنا : بأن كلّ من كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح ؛ لأنّ علمه بقبحه يصرفه عن فعله من جهة الحكمة ، وعلمه باستغنائه عنه يقتضي أنه لا داعي له إليه من جهة الحاجة. وكلّ من خلص صارفه عن الفعل ، وفقد داعيه إليه فإنه لا يفعله ؛ فثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح.

وأما أنه تعالى لا يخلّ بما يجب عليه من (٣) الحكمة ، فينبغي أن نبين أولا ذلك الواجب ، ثم نتكلم في أنه تعالى لا يخل به. أمّا الذي يجب عليه تعالى فستّة أمور : وهي التمكين للمكلفين ، والبيان للمخاطبين ، واللطف للمتعبّدين ، وقبول توبة التائبين ، والثواب للمطيعين ، والعوض للمؤلمين.

والذي يدل على وجوبها على الله تعالى يدخل في اثناء المسائل فلا نطوّل بذكره هاهنا. والذي يدل على أنه تعالى لا يخل بشيء من هذه الأمور أنه تعالى عالم بقبح الإخلال ، وعالم باستغنائه عن الإخلال بها ، على نحو ما تقدم ، وكلّ من كانت هذه حاله فإنه لا يخل بشيء منها على ما تقدّم تحقيقه ، حيث بيّنا أنه تعالى لا يفعل القبيح.

وأمّا أن أفعاله كلّها حسنة فلأنه تعالى عالم بما يفعله من الأفعال ، فلا

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (د) : بحذف أجناس.

(٢) في (ب) و (ج) : وأحد المعلومان.

(٣) في (ب) و (ج) : في.

يخلو أن يكون قبيحا أو حسنا. باطل أن يكون قبيحا لما بيّنّا أنه تعالى لا يفعل القبيح ولم يبق (١) إلا أن يكون حسنا ؛ فثبت أنّ أفعاله كلّها حسنة.

وأما الفصل السادس :

وهو فيما يلائم ذلك من الأدلة الشرعية ؛ فيدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع :

أما الكتاب : فمن ذلك قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل : ٩٠] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] ، وقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت : ٤٠] ، وقوله تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩] ، وقوله تعالى (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) [هود : ١١٧] ، وقوله تعالى : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) [الكهف : ٤٩] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) .. الآية ، [النساء : ٤٠] ، ونظائرها في القرآن كثير.

وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله عزوجل : إني حرّمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرّما ، فلا تظالموا يا عبادي» (٢).

__________________

(١) في (ب) و (ج) : فلم يبق.

(٢) أمالي أبي طالب ٣٩٧. وسنن البيهقي ٦ / ٦٣. وأحمد رقم ٢١٤٧٧ بالمعنى.

وروي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال «سبق العلم ، وجفّ القلم ، وتمّ القضاء بتحقيق الكتاب ، وتصديق الرّسل ، والسّعادة من الله لمن آمن به ، والشقاء لمن كذّب وكفر. وبالولاية من الله للمؤمنين ، والبراءة منه للمشركين ، وبالتوبة لهم إن تابوا وآمنوا كما أمرهم الله» (١) إلى غير ذلك من السنة. والمعلوم ضرورة ، من دين نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح ، ولا يخلّ بالواجب وأنّ أفعاله كلّها حسنة.

وأما الإجماع : بين المسلمين فذلك ظاهر لا يدفعه إلا مكابر.

فصل : ونعتقد أنّا فاعلون لتصرفاتنا

والكلام في ذلك يقع في خمسة مواضع : أحدها : في حقائق هذه الأمور التي تضمّنها الكلام بيننا وبين المخالفين ، وهي الفعل والفاعل والكسب والمباشر والمتولّد. والثاني : في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثالث : في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون. والرابع : فيما يلائم ذلك ويدل عليه من جهة السمع. والخامس : فيما يستدل به المخالفون من الآيات المتشابهة ، وبيان معانيها التي تجوز فيها.

أما الموضع الأول : وهو في حقائق الأمور التي ذكرناها. فالفعل : هو ما وجد من جهة من كان قادرا عليه. وقولنا : كان ؛ لئلا يبطل بالمسبّب الذي يوجد بعد خروج فاعله عن كونه قادرا. والفاعل : هو الذي وجد من جهته بعض ما كان قادرا عليه. وقلنا : «بعض» ؛ لأنّ الفاعل يكون فاعلا وإن لم توجد منه جميع مقدوراته. وقلنا : كان ، احترازا عما تقدم في الفعل.

وأما الكسب : فالمعقول منه عند أهل اللغة هو إحداث الفعل لطلب نفع

__________________

(١) أخرجه أحمد بن عيسى في الأمالي ٣ / ٣٣٠.

يعود إلى الفاعل ، أو لدفع ضرر عنه ، وعلى هذا لا يجوز تسمية القديم تعالى مكتسبا لاستحالة المنافع والمضارّ عليه كما تقدم في فصل غنيّ أنّه لا يجوز عليه المنفعة والمضرة. وأما المباشر (١) : فهو الفعل الذي يوجد بالقدرة في محلها ابتداء. وأمّا المتولّد : فهو الفعل الذي وجد بحسب فعل آخر على جهة الإيجاب.

وأما الموضع الثاني : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف. فذهب المسلمون إلى أنّ العبد فاعل لتصرفاته دون الله تعالى ، وهذا هو مذهب جميع النبيين وصحابتهم أجمعين. والخلاف في ذلك مع القدرية. فذهبت الجهمية منهم (٢) إلى أنها من الله تعالى مبتدأة كانت أو متولّدة. وذهبت الأشعرية إلى أنّها من الله تعالى ، والعباد مكتسبون لها (٣). وذهب ضرار ابن عمرو (٤) إلى القول بالكسب ، إلا أنه يقول : إنّ العباد مكتسبون للمبتدإ منها دون المتولد. وذهبت المطرّفيّة (٥) إلى أن العباد فاعلون لكل ما لا يتعدى من أفعالهم ، ويطلقون على ما هذه حاله أنه فعل العبد ،

__________________

(١) المباشر مثل رمي الحجر. والمتولد ما تولد منه الفعل ، وهو الأثر الذي يحدثه الحجر.

(٢) الجهمية : هم أصحاب جهم بن صفوان قالوا : بأن الإنسان وعمله من فعل الله كشجرة في مهب الريح وقلم في يد كاتب وهم المجبرة الخلّص. ينظر الملل والنحل للشهرستاني ٢ / ٨٦. ورسائل العدل والتوحيد ص ٣٤٨. والقضاء والقدر للرازي ص ٣١. وعدالة الرواة والشهود للمحقق ص ١٧٢.

(٣) ينظر القضاء والقدر ص ٣٢.

(٤) ضرار بن عمرو : وإليه تنسب الضرارية ، كان ظهوره في أيام واصل بن عطاء ، وله كتاب اسمه التحريش.

(٥) «المطرّفيّة» هم أصحاب مطرّف بن شهاب ، فارقوا الزيدية بمقالات في أصول الدين ، مثل قولهم : إن كثيرا من أفعال الله ليس بحكمة ولا صواب ونحوها. كفّرهم كثير من الزيدية بها. وقد انقرضت هذه الفرقة بسيف الإمام المنصور عبد الله بن حمزة عليه‌السلام عام ٦١١ ه‍. ينظر ١ / ١٣٨ من الأساس الكبير للسيد أحمد الشرفي.

ويقولون : إنّ كلّ ما يتعدى من أفعالهم إلى غيرهم وهي (١) المتولّدات والمسبّبات فإن الله فاعلها ، وهو الذي يسمونه انفعالا. ومن الظاهر الجلي أنّهم يقولون : بأن فعل العبد لا يعدوه ولا يوجد في غيره.

وأما الموضع الثالث :

وهو في الدليل على صحّة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالفون.

فاعلم أنّ كون العبد فاعلا لتصرفاته أمر معلوم بالاضطرار ، لا يقدح في ثبوته الإنكار ؛ فمنكره كمنكر كون دجلة في الأنهار ، ونافيه كنا في ظلمة الليل وضياء النهار. وما هذه حاله لا يحتاج فيه إلى نصب دلالة ؛ لأن الدّلالة تؤدى إلى علم استدلاليّ ، وهو مما يجوز انتفاؤه (٢) عن النّفس بالشك والشّبهة. والضروريّ لا يجوز انتفاؤه (٣) عن النفس بشك ولا شبهة. وقد ألهم الله تعالى البهائم ضربا من الإلهام يميّزون (٤) به بين الفاعلين للأفعال ؛ فإن فاعلين لو أحسن أحدهما إلى بعض الكلاب بالطعام ونحوه. والفاعل الآخر لا يطعمه الطعام ، ويرميه بالحجارة ونحو ذلك من الإساءات لميّز الكلب بين المحسن والمسيء في ذلك ، ولفرّق بينهما. يبيّن ذلك ويوضحه أنّ الكلب يأنس بمن يطعمه الطعام ، وإذا رآه أتى إليه ، وتبصبص بذنبه ، بخلاف من يسيء إليه ، فإنه لا يأنس إليه (٥) ، بل يهرّ عليه إذا رآه ، فإن (٦) قدر عليه هرشه ، وإن لم يقدر عليه شرد منه.

__________________

(١) في (ب) : وهو.

(٢) في (ب) : ابتعاده.

(٣) في (ب) : ابتعاده.

(٤) في (ب) : تميز.

(٥) في (ب) ، و (ج) : لا يأنس به.

(٦) في (ب) : وإن.

فالعجب من هؤلاء الجهّال كيف نفوا الضروريات ، واعتمدوا على التخيّلات والوهميّات. ثمّ يقال لهم على جهة التنبيه : إنّ هذه الأفعال التي نقول بأنها أفعالنا يتعلق بها المدح ، والذمّ ، والتهديد ، والنّهي ، والأمر ، والردع ، والزجر ، والوعد ، والوعيد ، على ما ذلك معلوم ضرورة. فكل (١) ما هذه حاله فهو فعلنا بدليل أنها لو لم تكن فعلنا لجرت مجرى أفعال الله فينا ، نحو ألواننا وصورنا ، فكما أنه لا يتعلّق بها شيء من هذه الأمور ، كذلك كان يجب في أفعالنا ؛ ولأنها تحصل بحسب قصودنا ودواعينا وقدرنا وعلومنا وإرادتنا وأسبابنا ، وتنتفي بحسب كراهتنا وصارفنا مع سلامة الأحوال ، وارتفاع الموانع ، إما محقّقا نحو فعل العالم بفعله ، وإمّا مقدّرا نحو فعل الساهي والنائم ، فلو لا أنها أفعالنا لما حصلت بحسب ذلك ، كما لا تحصل بحسبه أفعال غيرنا فينا ، نحو ما تقدم ذكره من الألوان والصّور والشّواهة والحسن والقصر والطّول.

واعلم أن مذاهب هؤلاء الجهال القدريّة الضّلال يؤدي إلى زوال الفائدة ببعثة الأنبياء ، وإرسال الرّسل الأصفياء ، وإلى زوال التفرقة بين الأعداء والأولياء ، بل يسدّون على أنفسهم باب معرفة الله تعالى لأنهم لا يقولون بالفاعل المختار في الشّاهد ، ولا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا فعله (٢) ، فلا طريق إذن. وكفى بذلك جهالة وغواية وضلالة.

وأما الكسب فهو غير معقول في نفسه فنحتجّ على فساده ، بل يكفي

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : وكل.

(٢) على قول من يقول : لا طريق إلى معرفة الله إلا بالقياس على الشاهد ؛ أي أنه لا بد لكل فعل من فاعل ، بل صرح أبو هاشم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا القياس على الشاهد.

في فساده في نفسه كونه غير معقول (١).

وأما الموضع الرابع : وهو فيما يلائم ذلك من أدلة الشرع :

فالذي يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب ـ فقول الله سبحانه : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ* فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) [الشعراء : ١٤٩ ـ ١٥٠] وقول الله تعالى : (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) [الشعراء : ١٢٨ ـ ١٣٠] إلى غير ذلك من الآيات التي أضاف فيها إلى العباد أفعالهم فقال : تفعلون ، وتكسبون ، وتخلقون إفكا.

ونظائر ذلك كثير في كتاب الله تعالى.

وأما السنة ـ فكثير نحو ما روينا عن أبي ذر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو أنّ جميع أمّة محمد اشتركوا في دم رجل مؤمن لكان حقّا على الله أن

__________________

(١) حتى عند الأشعرية أنفسهم فقد خبطوا في حقيقته. وقد أنشد المقبلي في الأرواح النوافخ ص ٢٨٣ هذه الأبيات :

إنّ سين الكسب ذال

كذبوا من غير نيّة

هكذا قالوا ، وعندي

غير ذا للأشعرية

جحدوا عقلا وشرعا

وافتروه عن رويّة

صدقوني أو فقولوا :

ليست الشمس مضيّة

من يناضلني؟ أناضل

بالطروس الأحوذيّة

أو يباهلني؟ أباهل

بالسّمات الأحمديّة

فعلام اللوم؟ قل لي

ليس في الدين دنيّة

داهن القوم لعمري

ندموا عند المنيّة

غير سخط الله سهل

إنّما تلك الرزيّة

وعلى الله توكل

ت فلا أخشى البليّة

يدخلهم النّار» (١) ، وروينا عن الحسن أنه قال : «لو اجتمع أهل السماء وأهل الأرض على دم رجل واحد مؤمن لكبّهم الله جميعا في النّار على وجوههم» (٢) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من رمى بسهم في سبيل الله بلغ أو قصر كان له عتق رقبة» (٣) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله يدخل بالسّهم الواحد ثلاثة الجنّة : عامله وحامله والرّامي به في سبيل الله» (٤) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «يا ابن آدم بفضل نعمتي قويت على معصيتي ، وبعظمتي وعزّتي أدّيت إليّ فرائضي ، وأنت أولى بذنبك (٥) منّى. والشّرّ منك إليّ بما جنيت ، فلي الحجّة عليك» (٦).

وأما الإجماع ـ فذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين.

وأما الموضع الخامس :

وهو في إيراد ما يستدلّ به المخالفون من الآيات المتشابهة ، وبيان معانيها المذكورة عن علماء التفسير : فمن ذلك قول الله سبحانه : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] ، قالوا : فأخبر أنه فاعل للتسيير (٧) ، وذلك

__________________

(١) رأب الصدع تخريج أمالي أحمد بن عيسى ٣ / ١٤٥٥ برقم ٢٤٧١ ، والبيهقي ٨ / ٢٢ الجنايات ، والترمذي ٤ / ١١ رقم ١٣٩٨ بألفاظ متقاربة.

(٢) الطبراني في الأوسط ٢ / ١١٢ برقم ١٤٢١. وج ٩ ص ٩٩ برقم ٩٢٤٢. والترمذي ٤ / ١١ رقم ١٣٩٨.

(٣) المعجم الكبير للطبراني ٨ / ١٣٤ برقم ٧٦١٠. والبيهقي ٩ / ١٦٢.

(٤) أخرجه أحمد بن حنبل ٦ / ١١٩ برقم ١٧٣٠١. والدارمي ٢ / ٢٠٤ ،.

(٥) في (ب) : بذلك.

(٦) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية للعاملي ص ٢٤٩ عن علي بن الحسين.

(٧) في (ب) ، (ج) : فاعل التسيير.

يوضح أن لا فعل للعبد. والجواب : أنّ علماء التفسير ما ذكروا شيئا من ذلك ، بل منهم من قال : معنى (يُسَيِّرُكُمْ) ، أي يحملكم بالأمر على السّير (١). وقيل : سبب تسييركم في البر على الظهور ، وفي البحر على السفن. وقيل : تسخير الجمال في البر ، والرياح في البحر ، وذلك شايع في اللّغة كما يقول الرجل : سيّرت الدابّة ، وسيّر الملك عسكره.

ومن ذلك قول الله سبحانه : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) [الأنفال : ١٧] قالت : الحشويّة القدرية : فأضاف قتلهم ورميهم إلى نفسه ، وبيّن أنّهم لم يقتلوهم ، ولم يرم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما رمى الله تعالى (٢).

والجواب : أن الظاهر يقتضي ما لا يقول به مسلم ، وذلك يوجب في كل قتيل أن يكون الله قتله دون القاتل ، وذلك يوجب قتله ، وهذا يبطل كثرة ما عاب الله تعالى الكفار بقتل الأنبياء والمؤمنين (٣) ، ويوجب أن يطلق القول بأنّ أحدا لم يقتل أحدا ، وهذا خروج من الدّين ، والإجماع ، وإبطال كثير من الآيات. ويوجب ظاهر لفظ الآية أنّه متناقض ؛ لأنه قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] ، فنفى بالأول الرّمي عنه ، وأثبته له بالرّمي الثاني. وإذا كان الجري على الظاهر يؤدي إلى ما قلناه سقط التعلّق به. وإذا وجب الرجوع إلى التأويل قلنا : إنّ قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) خطاب للمؤمنين يعني : أيّها المؤمنون لم تقتلوا المشركين بحولكم وقوّتكم (وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) حيث سبّب في قتلهم بنصركم وخذلانهم ، وقوّى قلوبكم ، وألقى في قلوبهم

__________________

(١) الرازي مج ٩ ج ١٧ ص ٧٠. والكشاف ج ٢ / ٣٣٨.

(٢) متشابه القرآن ق ١ / ٣١٧ مسألة ٢٧٧. وتفسير الطبري مج ٦ ج ٩ ص ٢٦٩ وما بعدها. والألوسي مج ٦ ص ٢٦٧ وما بعدها.

(٣) متشابه القرآن ق ١ ص ٣١٨.

الرّعب وأمدّكم بالملائكة (١).

وقيل : كانت الرياح تحمل السهام ، وتوقعها في مقاتل الكفار. وقيل : فلم تميتوهم ؛ لأنّ الموت لا يقدر عليه غير الله ، وأنتم جرحتموهم فقط. وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ) أيّها النبي (إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) اختلفوا في الرّمية ؛ فقيل : قبضة من تراب ، قال لعلي عليه‌السلام : ائتني بكفّ من بطحاء ، فأتاه بكفّ من تراب ، فرمى بها فلم يبق مشرك إلا وأدخل في عينيه ومنخريه منها شيء ، وكانت تلك الرّمية سبب الهزيمة ، وذلك في يوم بدر ، رمى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : شاهت الوجوه ، فقسمها الله على أبصارهم حتى شغلهم بأنفسهم. وهو قول أكثر المفسّرين (٢).

وقيل : سهم رمى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر على باب خيبر فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه (٣). وقيل : نزلت يوم أحد في شأن أبيّ بن خلف وأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رماه بحربة فكسر ضلعا من أضلاعه فمات (٤). والأصحّ أنها نازلة في يوم بدر ، وهو قول أكثر المفسرين ، وعليه يدل ما رويناه في سيرته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومغازيه وحروبه ، فإنها قاضية بذلك. وإذا ثبت

__________________

(١) غريب القرآن للإمام زيد ص ١٤٧ ، (وَما رَمَيْتَ ..) ، معناه : أن الله هو الذي أيدك ونصرك.

(٢) ينظر مجمع البيان للطبرسي مج ٤ ج ٩ ص ٤٤٥. والدر المنثور ٣ / ٣١٧. والماوردي في النكت والعيون ٢ / ٣٠٤. والطبري مج ٦ ج ٩ ص ٢٦٩. والزمخشري ٢ / ٢٠٧. ومتشابه القرآن ١ / ٣١٩ ، وهو قول ابن عباس وأنس والسدي.

(٣) الدر المنثور ٣ / ٣١٨ ، وهو قول سعيد بن المسيب ، والزهري.

(٤) الدر المنثور ٣ / ٣١٧. وذكر الفخر الرازي في المفاتيح مج ٨ ج ١٥ ص ١٤٥ ، فقال : في سبب نزول هذه الآية أقول : الأول ـ وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر وذكر ذلك كما ذكره المصنف (عليه‌السلام).

ذلك فقوله : (وَما رَمَيْتَ) أي ما بلغت رميتك حيث بلغت بك ، ولكنّ الله بلّغ وملأ بها عيون الكفار.

وقيل : ولكنّ الله وفّقك وسدّد رميتك. وقيل : وما أصبت إذ أصبت ولكنّ الله أصاب ، وذلك ثابت في لغة العرب ؛ فإنهم يصفون الإصابة بلفظ الرّمي ؛ ولذلك قالوا في المثل : «ربّ رمية من غير رام». ومعلوم أنّ الرّمي لا يكون إلا من رام ، وإنما أرادوا إصابة من غير حاذق بالرمي. فمعنى ذلك أنّك لم تصبهم حيث رميت ولكن الله رماهم أي أصابهم. والإصابة من الله ، والرمي من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإذا ثبت ذلك كانت الآية على خلاف مذهبهم أولى بالدلالة منها على موافقة مذهبهم ؛ لأن المعلوم أنّ الصحابة (رض) هم الذين قتلوا الكفّار في يوم بدر. والمعلوم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي (١) رمى ؛ ولهذا أضاف الله تعالى الرمي إلى نبيّه بقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) [الأنفال : ١٧] ولهذا يضاف إلى السيّد ما يفعله غلامه ، فبطل قولهم.

ومما تعلقوا به قول الله سبحانه حكاية عن ابراهيم عليه‌السلام : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ـ ٩٦] ، قالوا : فأخبر أنّه خلقهم وخلق أعمالهم مع كونها كفرا ومعصية (٢). والجواب : أنّ معناها (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أيها القوم (وَما تَعْمَلُونَ) أي وما تعملون فيه ، وهو الأصنام ، ولم يرد أعمالهم وهي حركاتهم المعدومة ؛ لأن المعبود هو الخشب المنحوتة دون عملهم ؛ لأنّه احتجّ عليهم ، فلا يجوز أن يورد لهم حجة عليه ؛

__________________

(١) الذي محذوفة من (ب).

(٢) ينظر الرازي ١٣ / ١٥٠. وجامع البيان مج ١٢ ج ٢٣ ص ٨٩.

ولأنّه أضاف إليهم فعلهم وهو النّحت. ومثل هذا موجود في اللغة ؛ فإنّ قائل أهل اللغة يقول : فلان يعمل بابا ، والمراد به يعمل عملا في الباب ؛ فأطلق اسم العمل على المعمول فيه ، وعلى هذا نزّل قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧] يعني العصيّ والحبال المأفوكة دون نفس الإفك. ونمط الآية هو قوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) يعني المنحوت. كذلك قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يريد المعمول. ومثل ذلك قوله تعالى : (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) [طه : ٦٩] وإنما تلقف المصنوع. فإنّ فعلهم وهو الحركة قد صار معدوما ؛ ولأنّه لو حمل قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) على أنّ المراد به العمل لأدّى ذلك إلى تناقض الآية في نفسها ، بل إلى تناقض القرآن فإنّ إبراهيم عليه‌السلام بيّن في الآية أنّهم نحتوها ، فلو أراد أن الله خلق نحتهم كما قالته الجبرية كان بذلك مناقضا. وقد ثبت أن القرآن لا يتناقض ولا يتعارض ، ولا يدخله الباطل (١).

وتعلّقوا بقوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢) [الفرقان : ٢]. والجواب : أن هذه خاصة في أفعاله تعالى وهي الأجسام والأعراض التي لا يقدر عليها سواه ، كالحرارة والبرودة والطعوم والألوان ونحو ذلك ، فأمّا الفواحش والمخازي والظلم والكذب فأيّ تقدير فيه ، أو أيّ حكمة في فعله؟ بل فاعله مذموم. ولو قيل للقدري : يا سارق أو يا كاذب أو يا ظالم أو يا زاني ـ لأنف على نفسه واغتمّ ، فكيف يرضى بإضافة ذلك إلى ربه تعالى أو يحسّنه عقله؟ ـ لو لا الزيغ العظيم والضلال البعيد ـ فبطل قول الجبرية. وعلى قود هذا الكلام يجري الكلام في سائر ما يتعلقون به في ذلك.

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٥١. ومتشابه القرآن ٢٥ / ٥٨٠. والألوسي مج ١٣ ج ٢٣ ص ١٨١. وجامع البيان مج ١٢ ج ٢٣ ص ٨٩. والطبرسي مج ٨ ج ٢٣ ص ٣١٨.

(٢) ذكر الرازي في تفسيره مج ١٢ ج ٢٤ ص ٤٧ أنه تعالى خالق لأفعال العباد.

فصل : في القضاء والقدر

والكلام فيه يقع في خمسة مواضع : الأول : في حكاية المذهب ، وذكر الخلاف. والثاني : في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالفون. والثالث : في إيراد طرف مما يلائم مذهبنا من أدلة الشرع ، وما يحكى في ذلك عن الصحابة ، وعن أهل البيت المطهرين رضوان الله عليهم أجمعين. والرابع : في إيراد طرف مما يحتجّ به المخالفون من متشابه الآيات ، وبيان ما يجوز فيها من المعاني الصحيحة. والخامس : في تعيين القدرية وبيان طرف مما جاء في ذمّهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن صحابته الأبرار (رض).

أما الموضع الأول : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف

فاعلم أنّ الجبرية تطلق القول بأنّ تصرف العباد بقضاء الله تعالى وقدره. وعندنا أنه لا يجوز إطلاق القول بذلك من غير تقييد في النفي ولا في الإثبات ممّن لم تثبت حكمته ، أو تظهر عصمته. وإنما يجوز القول بأنها بقضاء الله وقدره ، وأنّها ليست بقضاء الله تعالى وقدره مع التقييد بما يزيل الإشكال ، ويرفع الإيهام ، وهذه عقيدتنا أهل البيت.

وأما الموضع الثاني :

وهو في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون

فالذي يدل على ذلك أن القضاء والقدر لفظتان مشتركتان بين معان : بعضها صحيح في هذه المسألة وبعضها فاسد. وكلّ لفظة هذه حالها فإنّه لا يجوز إطلاقها في النفي ولا في الاثبات من غير تقييد بما يزيل الإشكال ، ويرفع الإيهام ممن لم تثبت حكمته. وإنما قلنا : بأن لفظة القضاء ، ولفظة القدر مشتركتان بين معان بعضها صحيح في هذه المسألة ، وبعضها فاسد ؛ لما نبينه

في ذلك ، وذلك بأن نتكلم في ثلاثة مطالب : أحدها في بيان معاني القضاء والقدر واستعمالهما فيها. والثاني في الدلالة على اقتضائهما لتلك المعاني. والثالث في بيان الصحيح من ذلك والفاسد.

أمّا المطلب الأول : وهو في بيان معاني لفظة القضاء والقدر واستعمالهما فيها. فالقضاء (١) على وجوه خمسة : أحدها الخلق والتّمام يحكيه قول الله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] أي خلقهنّ وأتمّهن (٢). وثانيها الأمر والإلزام ، يحكيه قول الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] معناه أمر وألزم (٣). وثالثها الإخبار والإعلام ، يحكيه قول الله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً) [الإسراء : ٤] أي أعلمنا وأخبرنا (٤). ورابعها بمعنى الفراغ من الشيء يحكيه قوله (٥) تعالى : (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِ) [هود : ٤٤] أي فرغ منه. وقوله تعالى : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف : ٤١] ، وقوله تعالى : (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩] يعني لما فرغ من ذلك. وخامسها بمعنى الحكم (٦) ، يحكيه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [يونس : ٩٣] ، ومنه سمّي القاضي قاضيا ، أي حاكما وفاصلا

__________________

(١) في (ب) : فالقضاء يطلق.

(٢) فتح الباري : ٨ / ٣٨٩.

(٣) فتح الباري ٨ / ٣٨٩. وتفسير الماوردي ٣ / ٢٢٨.

(٤) أنظر غريب القرآن ١٨٤ ، وفتح الباري ٨ / ٣٨٩ ، وتفسير الأعقم للآنسي ٣٥١.

(٥) في (ب) : قول الله.

(٦) في الأم : الحكم بحكمه يحكيه ، ولا معنى لكلمة بحكمه.

يحكم ويفصل. والقدر يستعمل في ثلاثة معان : أحدها بمعنى الخلق ، يحكيه قول الله تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠] أي خلق. وثانيها بمعنى العلم يحكيه قوله تعالى : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) [النمل : ٥٧] أي علمنا ذلك من حالها. وثالثها بمعنى الكتابة يحكيه قول العجّاج (١) :

واعلم بأنّ ذا الجلال قد قدر

في الصّحف الأولى التي كان سطر

أمرك هذا فاجتنب منه التّبر

قوله : قد قدر ، أي قد كتب ذلك في الصّحف. التّبر ما يهلك ، وقد ينطلق (٢) على الهلاك.

وأما المطلب الثاني : وهو في الدلالة على اقتضائها لهذه المعاني التي ذكرنا ؛ فالذي يدل على ذلك أنّ القضاء والقدر متى نسبا إلى الله تعالى مطلقا لم يسبق إلى الأفهام معنى من هذه المعاني دون غيره ، بل يبقى الفهم مترددا بينها ، لا ترى (٣) ترجيحا لبعضها على بعض ، وذلك هو أمارة اللفظة المشتركة بين المعاني.

وأما المطلب الثالث : وهو أن بعضها صحيح في أفعال العباد في الله (٤) وبعضها فاسد ؛ لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنّ أفعال العباد بقضاء من الله

__________________

(١) هو عبد الله بن رؤبة بن لبيد بن صخر السعدي التميمي ، العجاج شاعر وراجز مجيد ، ولد في الجاهلية ، وقال الشعر فيها ثم أسلم. توفي نحو سنة ٩٠ ه‍. وله ديوان طبع في مجلدين. ينظر الأعلام ٣٤ / ٨٦.

(٢) في (ب) : يطلق.

(٣) في (ب) : لا يرى.

(٤) في (ب) : نظّر على كلمه الله.

وقدر بمعنى الخلق (١) ؛ لما بيّنا في المسألة الأولى أنّا فاعلون لتصرّفاتنا. ومما يدل على ذلك أنّ المعاصي لو كانت بقضاء من الله تعالى وقدر بمعنى الخلق لوجب علينا الرضى بها ؛ لأنه لا خلاف بين المسلمين أنّ الرضى بقضاء الله سبحانه وقدره بهذا المعنى واجب. ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكيا عن ربه تعالى : «من لم يرض بقضائي ، ويصبر على بلائي ، ويشكر (٢) نعمائي فليتّخذ ربّا سواي (٣)». ومعلوم أنه لا يجوز الرضى بالمعاصي ؛ فإنه لا خلاف بين المسلمين في أنه لا يجوز الرضى بالمعاصي. ولا مخلص من المناقضة بين الإجماعين إلا القول بأنّ المعاصي ليست بقضاء الله تعالى وقدره ، بمعنى الخلق لها ، ولا بمعنى الأمر بها ؛ لأنّ في أفعال العباد القبائح ، وهو تعالى لا يأمر بها ؛ لأن الأمر بالقبيح قبيح. وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم بيانه. وقد قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا

__________________

(١) قال المقبلي في العلم الشامخ ص ٢٨٠ في بحث خلق الأفعال : ولا أدري كيف غرسه الشيطان ونماه حتى جار على الأفاضل الأمة [عنده] وصيروه من مهمات الدين ، ولم يتكلم أحد بمثل ما ذكرت لك الآن ، بل شمر كل لنصرة ما طرق خلده أول مرة ووجد قلبه خاليا فتمكن وهو على غرة :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا خاليا فتمكّنا

حتى صنف البخاري كتابا في خلق الأفعال وذكر في الصحيح شيئا من ذلك [أي إن الله خلق أفعال عباده] وليته صان تلك المكرمة التي فاز بها في الحديث ، ولكنه أتى بما لا يزيد العاقل عند سماعه على التسبيح ، وفعل غيره من أفاضل الأمة ونحوه ، كل ينصر ما اتفق له ، آيات بينات ، على أن هذا النوع مع تكريمه (أَسْفَلَ سافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ* فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ).

(٢) في (ب) ، و (ج) و (د) : ويشكر على.

(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط ٧ / ٢٠٣ رقم ٧٢٧٣ ، ٨ / ١٩٢ برقم ٨٣٧٠.

يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف : ٢٨] وإنما يجوز القول بأنها بقضائه وقدره مع التقييد بأنّ معنى ذلك أنّه علمها ، وأعلم بها ملائكته ، وكتبها في اللوح المحفوظ ، من غير جارحة يكتب بها ؛ إذ الجوارح لا تجوز عليه تعالى كما تقدم بيانه.

فثبت قولنا : إنهما لفظتان مشتركتان بين معان : بعضها صحيح في أفعال العباد ، وبعضها فاسد. وإنما قلنا : بأن كلّ لفظة هذه حالها فإنه لا يجوز إطلاقها ممن لم تثبت حكمته إلا مع التقييد بما يزيل الإشكال ؛ لأنّ في ذلك إيهام الخطإ ، وإيهام الخطإ لا يجوز. وإنما يجوز إطلاقها في النفي والإثبات ممن تثبت (١) حكمته ، فيجوز ذلك من الله تعالى أو من رسله ؛ لأنّ الحكيم لا يريد بذلك إلا المعنى الصحيح ، دون المعنى الفاسد ، ويزول له بذلك الإشكال ، ويرتفع الإيهام ، فثبت الموضع الثاني.

وأما الموضع الثالث :

وهو في ذكر طرف مما يلائم ذلك من أدلّة الشرع

وما يحكى في ذلك عن الصحابة والتابعين وأهل البيت المطهرين رضى الله عنهم أجمعين.

فالشرع قاض بذلك. فمن ذلك ما روي عن عائشة أنها قالت : كنت أصبّ الماء على يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسقط الإناء من يدي وكسر ، فقلت : الأمر مفروغ منه ، فغضب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : إن كان الأمر مفروغا منه فلأيّ شيء بعثت ولأي شيء بعث الأنبياء من قبلي.

وروي عن الحسن البصرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لن يلقى الله

__________________

(١) في (ب) : ثبتت.

العبد بذنب أعظم من الإشراك بالله ، وأن يعمل معصية ثم يزعم أنّها من الله» (١). إلى غير ذلك من الأخبار. وهو معلوم عن الصحابة والتابعين ، فإن الأقوال متظاهرة عنهم بنفي هذه المعاصى عن الله سبحانه وإضافتها إلى العباد.

فمن ذلك ما روي أن الحجاج بن يوسف لعنه الله كتب إلى أربعة من العلماء : وهم الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه‌الله ، وواصل بن عطاء (٢) ، وعمرو بن عبيد (٣) ، وعامر الشعبي رحمهم‌الله ، يسألهم عن القضاء والقدر ، يعنى بمعنى الخلق لأفعال العباد ؛ فأجابه أحدهم لا أعرف فيه إلا ما قاله (٤) أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، وهو قوله عليه‌السلام : أتظنّ الذي نهاك دهاك ، إنما دهاك أسفلك وأعلاك ، وربك بريء (٥) من ذاك. وأجابه الثاني فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وهو قوله عليه‌السلام : أتظنّ

__________________

(١) الشافي ٢ / ١٦١.

(٢) هو أبو حذيفة رأس المعتزلة من أئمة البلغاء المتكلمين سمي أصحابه بالمعتزلة ؛ لاعتزالهم الدنيا ، وإما لاعتزالهم حلقة الحسن البصري عند ما جرى ذكر حكم الفاسق حيث إنه عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين الكفر والإيمان فلا هو كافر ولا هو مؤمن. نشر مذهب الاعتزال في الآفاق ـ ولد سنة ٨٠ ه‍ بالمدينة كان يلثغ بالراء فيجعلها غنيا فتجنب الراء في خطابه. بايع لمحمد بن عبد الله بن الحسن (النفس الزكية) ، في قيامه على أهل الجور ، توفي سنة ١٣١ ه‍. له من التصانيف : أصناف المرجئة ، والمنزلة بين المنزلتين ، ومعاني القرآن ، طبقات أهل العلم والجهل ، والسبيل. الأعلام ٨ / ١٠٨.

(٣) ولد سنة ٨٠ ه‍ ، من العلماء الزّهّاد ، شيخ المعتزلة في عصره ، قال فيه أبو جعفر المنصور : كلهم طالب صيد ، غير عمرو بن عبيد ، توفي سنة ١٤٤ ه‍ ، وله رسائل وخطب وكتب منها : التفسير ، والرد على القدرية. ينظر الأعلام ٥ / ٨١.

(٤) في (ب) ، (ج) : قال في كل الرواية.

(٥) في (ب) ، (ج) : والله بريء.

الذي فسح لك الطريق لزم عليك المضيق. وأجابه الثالث فقال : لا أعرف (١) إلا ما قاله علي عليه‌السلام ، وهو قوله كرم الله وجهه : إذا كانت المعصية حتما كانت العقوبة ظلما. وأجابه الرابع فقال : لا أعرف فيه إلا ما قاله علي عليه‌السلام ، وهو قوله كرم الله وجهه : ما حمدت الله عليه فهو منه ، وما استغفرت الله منه فهو منك. فلما بلغ ذلك الحجاج بن يوسف قال : قاتلهم الله لقد أخذوها عن (٢) عين صافية (٣).

وعن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر لعلم الأنبياء عن علي عليه‌السلام أنّ رجلا سأله ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ فقال : بحر عميق فلا تلجه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر ، قال : بيت مظلم فلا تدخله ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر؟ قال : أمّا إذا أبيت فهو أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض (٤).

__________________

(١) في (ب) : فيه.

(٢) في (ب) : من.

(٣) خلاصة الفوائد لجعفر ص ٨٣. وميزان الطباطبائي ١ / ١٠٤ ، وعزاه إلى الطرائف.

(٤) ينظر نهج البلاغة ٧٤٦ ، بلفظ : طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وبيت الله فلا تتكلفوه. قال الإمام الناصر الأطروش في البساط ص ١٦٩ : وأما قولهم : ولا تفويض ـ فإن كثيرا من الناس قد غلطوا واختلفوا في تأويل ذلك والله المستعان. ومعنى قولهم : ولا تفويض ـ لا إهمال كما أهملت البهائم ، وفوض إليها أعمالها ، لم يمتحنها الله ولم يأمرها ولم ينهها ؛ لأن الله سبحانه قد أظهر حكمته بما كان من بلواه ومحنته لعباده بالأمر والنهي بعد التمكين ، والوعد والوعيد والجنة والنار ، والإباحة والحظر ، فهذا هو المنزلة بين المنزلتين التي أراده آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قولهم : لا إجبار ولا إهمال ، تكلموا بذلك موجزا مختصرا لمن عقل منزلة المحنة والاختبار ، بين التفويض الذي هو الإهمال وبين الاضطرار ... وفي هامش (ب) : يعني لم يجبرهم الله ، ولم يفوضهم ـ أي لم يكل الأمر إليهم ـ سيابا بغير أمر ونهي ، بل أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلفهم يسيرا ، فهم غير مضطرين بل مخيرون.

وروى عن علي بن عبد الله بن العباس (١) قال : (٢) كنت جالسا عند أبي فقال له رجل : إنّ هاهنا قوما يزعمون أنهم أتوا من قبل الله وأنّ الله جبرهم (٣) على المعاصي ، فقال : لو أعلم أنّ هاهنا أحدا منهم لقبضت على حلقه (٤).

وعن أبي بكر أنه قال في الفتوى أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وهو وفقنى ، وإن كان خطأ فمنّى ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان (٥). وروي عن عمر بن الخطاب أنه أتي بسارق فقال له : ما حملك على ذلك؟ فقال : قضاء الله وقدره يا أمير المؤمنين ، فقطع يده وضربه عشرين درّة أو ثلاثين ، وقال : قطعت يدك بسرقتك ، وضربتك لكذبك على الله. ثم قال : لكذبه على الله شرّ من سرقته (٦). وروي عن عثمان بن عفان أنه لما حصر في الدار كان القوم يرمونه ويقولون : الله يرميك ، فيقول : كذبتم لو رماني ما أخطأني (٧).

وروى أنّ عبيد الله بن زياد لعنه الله قال لعلي بن الحسين يعنى زين العابدين عليه‌السلام لمّا حمل إليه زين العابدين بعد قتل أبيه الشهيد الحسين السبط : ألم يقتل الله عليّ بن الحسين؟ فقال زين العابدين : قد كان أخي يسمّى عليّا ، وكان أكبر منى ، وإنما قتله الناس لا الله. قال : بل الله قتله. قال

__________________

(١) السجاد أبو الملوك من بني العباس ، كان عالما عاملا جسيما وسيما طوالا مهيبا. ذكر أنه كان يسجد كل يوم ألف سجدة. ولد عام قتل الإمام علي فسمّي باسمه. سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٥٢ ..

(٢) في (ب) : أنه قال.

(٣) في (د) : أجبرهم.

(٤) طبقات المعتزلة للإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى ص ١٣.

(٥) طبقات المعتزلة ص ١١ ، وذلك عند ما سئل عن الكلالة ، والدر المنثور ٢ / ٤٤٣ ، وخلاصة الفوائد ص ٧٦.

(٦) طبقات المعتزلة ص ١١ ، ورسائل العدل والتوحيد ص ٢٤٣ ، وخلاصة الفوائد ١٢٧.

(٧) طبقات المعتزلة ص ١١ ، وخلاصة الفوائد ٨٧.

علي بن الحسين : فالله إذن قتل عثمان بن عفان. فانقطع اللعين عبيد الله بن زياد (١). وروي أنّ الصادق عليه‌السلام سئل عن القدر قال : ما استطعت أن تلوم العبد عليه فهو فعله ، وما لم تستطع فهو فعل الله ، يقول الله : لم عصيت؟ ولا يقول : لم مرضت؟ (٢).

وروى أنّ أبا حنيفة سأل موسى الكاظم (٣) بن جعفر الصادق (ع) عن القدر ، فقال : لا بدّ أن تكون المعاصي من الله أو من العبد أو بينهما جميعا ؛ فإن كانت من الله فهو أعدل من أن يأخذ عبده بشيء فعله هو ، وإن كانت بينهما جميعا فهو شريكه ، والقويّ أقوى بإنصاف عبده الضعيف ، وإن كانت من العبد فعليه وقع الأمر. قال أبو حنيفة : فقلت : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران : ٣٤] (٤).

والمشهور عن أهل البيت (ع) من أولهم إلى آخرهم خلاف مذهب الجبرية في ذلك. ولو لا خشية التطويل لذكرتهم إماما إماما من لدن علي بن أبي طالب

__________________

(١) طبقات المعتزلة ص ١٦ ، خلاصة الفوائد ص ٨٧.

(٢) طبقات المعتزلة ص ٣٤. والميزان ١ / ١٠٤. وفي نهاية الخبر : ولم قصرت ، ولم ابيضت ، ولم اسودت ؛ لأنه من فعل الله.

(٣) هو موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام. ولد في الأبواء ٢٨ / صفر سنة ١٢٨ ه‍ وهو سابع الأئمة عند الإمامية وأحد العباد والأجواد. قيل : إنه كان يخرج في الليل وفي كمه صرة من الدراهم فيعطي من لقيه ومن أراد برّه. حبسه الرشيد عند الفضل بن أبي يحيى فسلمه إلى السندي ؛ فأمر الرشيد بقتله فسمّه السندي ، سنة ١٨٣ ه‍ ، انظر عمدة الطالب ص ٢٢٦ ، أعيان الشيعة ج ٢ ص ١٢٥.

(٤) أمالي المرتضى ١ / ١٥٢. وأخرجه ابن شعبه في تحف العقول ص ٣٠٣. وابن شهر أشوب في مناقبه ٤ / ٣٢٩ بتصرف. والتحفة العسجدية للهادي القاسمي ص ٦٤.

عليه‌السلام إلى وقتى هذا وهي سنة ثلاث وثلاثين وستمائة سنة (١). ومن الأمثال السائرة عند العلماء : العدل هاشمي ، والجبر أموي (٢). وما ذكرناه عن أهل البيت (ع) هو المشهور عن التابعين وتابعي التابعين وسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين.

وأما الموضع الرابع :

وهو في إيراد طرف مما يحتج به المخالفون من متشابه الآيات.

فمن ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤] ، قالوا : فبيّن أنه تعالى قضى بذلك ، بمعنى الفعل.

والجواب : أنّ ما ذكروه لا يصح ؛ لأنه قال : (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ، فكيف يفعل ما هو مفعول لغيره ؛ لأنه لا يكون مفعولا لغيره إلا بعد أن يفعله ذلك الغير ، وإذا قد فعله فقد خرج من العدم إلى الوجود فلا يصح فعله ثانيا.

وأما معنى الآية فإن الله تعالى قلّل المشركين في أعين المسلمين وقلّل المسلمين في أعين المشركين لأن يجسر بعضهم على بعض. قال ابن مسعود قلّوا في أعيننا حتى قلت لرجل بجنبي : تراهم سبعين؟ (٣) قال : أراهم مائة. فأسرنا

__________________

(١) وهو عصر الإمام عبد الله بن حمزة عليه‌السلام.

(٢) ينظر الشافي ١ / ١٤٠ حيث قال : والقول بالعدل والتوحيد هو مذهب أهل البيت عليهم‌السلام عموما إلّا من خرج من بني العباس لما ضعفوا تودّدا. والجبر أموي إلا من سعد بقبول الحق ؛ فأما الذين قالوا بالعدل من خلفاء بني أمية : معاوية بن يزيد المكنى أبا ليلى ، ويزيد بن الوليد الملقب بالناقص ، وعبد العزيز بن مروان ، وعمر بن عبد العزيز.

(٣) في (ب) : أراهم.

رجلا منهم فقلنا له : كم كنتم ؛ قال : ألفا (١). فقلّل بعضهم في أعين البعض الآخر ليقضي ما قضى من هزيمتهم. وهذا خلاف مذهب الحشوية ؛ لأن ترك التحفّظ والاستعداد من الكفار لمحاربة المسلمين غير قبيح ولا معصية عقلا وشرعا.

أما من جهة العقل فلأنه قلّل المسلمين في أعينهم فلم يخشوا ضررا (٢) يجب عليهم دفعه عقلا.

وأما الشرع فلأن قتلهم واستئصال شأفتهم مباح من جهة الشرع ، فإذا فعل الله معهم ما لأجله تركوا الاستعداد والتحفظ ، وهو تقليل المسلمين في أعينهم فليس ذلك بأعظم من إباحة قتلهم ، وإيجاب قتلهم في بعض الأحوال ، وهذا واضح ، فبطل قولهم.

ومنها قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] قالوا : فدلّ على أن القتل بقضائه وقدره ، وهو فعله. والجواب : أنّ الكتب لم يأت في اللّغة ولا في القرآن بمعنى القضاء والقدر فسقط تعلقهم بذلك. ثم نقول : إن الكتب يأتي في اللغة والقرآن على وجوه أربعة : أحدها بمعنى الفرض والإيجاب كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) [البقرة : ١٨٣] أي فرض. وثانيها بمعنى الحكم كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج : ٤] أي حكم عليه به. وثالثها بمعنى الإخبار كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] أي أخبرنا

__________________

(١) أخرجه في الدر المنثور ٣ / ٣٤٢ ، والطبري في تفسيره مج ٦ ج ١٠ ص ١٩ ، والزمخشري في كشافه ٢ / ٢٢٤. والقرطبي مج ٤ ج ٨ ص ١٦.

(٢) في (ب) : إضرارا.

بذلك وحكمنا. ورابعها بمعنى العلم كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] وإذا ثبت ذلك قلنا : معنى الكتب في الآية لا يجوز أن يكون بمعنى الفرض ؛ لأن القتل لا يفرض على المقتول ظلما ، ولا بمعنى الحكم ؛ لأن ذلك إنما يكون على سبيل الوجوب ، والمظلوم غير مستحقّ للقتل ، فلم يبق إلا أن يكون بمعنى الخبر ، وبمعنى العلم ؛ فيكون معناها أنّ من أخبر الله تعالى أنه يقتل ، أو من علم أنه سيقتل ؛ فإنّ مخبره يكون على ما أخبر وعلم إلا أنّ خبره وعلمه لا يؤثّر في المخبر عنه ، ولا في المعلوم على ما يأتي بيانه مفصّلا إن شاء الله تعالى في التكاليف. وعلى هذا النّسق يجري الكلام في سائر ما يتعلقون به من ذلك.

وأما الموضع الخامس : وهو في تعيين القدرية وبيان طرف مما جاء في

ذمهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعن صحابته (رض).

فاعلم أنّ القدرية هم المجبرة الضالّة الغوية دون الفرقة العدلية. والذي يدل على ذلك وجوه :

منها ما روي عن أنس بن مالك وحذيفة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «صنفان من أمّتي لن تنالهما شفاعتي ، لعنهما الله على لسان سبعين نبيّا : القدرية والمرجئة». قيل : يا رسول الله من القدرية؟ قال : «الّذين يعملون بالمعاصي ويقولون : هي من قبل الله». قيل : فمن المرجئة؟ قال : «الّذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل» (١). ومنها ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قيل : يا رسول الله ومن القدرية؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قوم يعملون بالمعاصي» ثمّ يقولون : إن الله

__________________

(١) أخرجه القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السّلام في خلاصة الفوائد ص ٢٩ ، ورسائل العدل والتوحيد ص ٢٧٦.

قدّرها عليهم (١). وهذه هي مقالة الجبرية دون العدلية على ما تقدم.

ومنها ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ثمّ يقولون : هذا بقضاء الله وقدره ، الرادّ عليهم كالمشرع سيفه في سبيل الله». ومنها ما رواه جابر بن عبد الله أيضا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : مثل الحديث الأوّل ؛ إلا أنه قال : الرادّ عليهم كالشاهر سيفه في سبيل الله (٢).

وأما ما ورد في الشرع من الذّمّ للقدرية فنحو ما روي عن أبي هريرة وابن عمر وجابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القدريّة مجوس هذه الأمة ، إن مرضو فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ، ولا تصلّوا عليهم ، وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم ؛ فإنّهم شيعة الدّجّال ، وحقّ على الله أن يلحقهم به (٣)». ونحو ما روي عن جابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وحذيفة كلهم يروي (٤) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لعنت القدرية على لسان سبعين نبيّا (٥)».

ونحو ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «صنفان من أمّتي ليس لهما (٦) في الإسلام سهم (٧) : المرجئة والقدرية» ، ونحو ما روي عن أنس بن مالك أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مجوس العرب ـ وإن صلّوا وصاموا ـ القدريّة (٨)».

__________________

(١) رسائل العدل والتوحيد إنقاذ البشر للشريف المرتضى ص ٢١٥.

(٢) رسائل العدل والتوحيد ص ٢٤٣.

(٣) أخرجه القاضي جعفر في خلاصة الفوائد ص ٣٠ ، والحاكم ١ / ٨٥ ، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأبو داود في سننه ٥ / ٦٧ برقم ٤٦٩٢ ،

(٤) في (ب) : رووا.

(٥) رسائل العدل والتوحيد ص ٢٧٩. والعلل المتناهية ١ / ١٥٠.

(٦) في (ب) ، و (ج) : لهم.

(٧) في الأصل : نصيب.

(٨) في (ب) : وإن صلوا وإن صاموا. أخرجه أبو نعيم في الحلية ٣ / ٧٠ عن أنس.

ونحو ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لا تجالسوا أهل القدر ، ولا تفاتحوهم الكلام» (١). وعن ابن عباس أنه قال : لأن يمتلئ بيتي قردة وخنازير (٢) أحبّ إليّ من أن يمتلئ قدرية». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القدرية شهود إبليس وخصماء الرحمن» (٣).

وروينا عن السيد الإمام أبي طالب عليه‌السلام أنه روى بإسناده عن الحسن رضي الله عنه أنه قال : إذا كان يوم القيامة دعي إبليس وقال (٤) له : ما حملك على أن لا تسجد لآدم؟ فيقول : يا رب أنت حلت بيني وبين ذلك ، فيقال (٥) له : كذبت. فيقول : إنّ لي شهودا ، فينادي أين القدرية شهود إبليس وخصماء الرحمن؟ فيقوم طوائف من هذه الأمة ، فيخرج من أفواههم دخان أسود ، فيطبّق وجوههم فتسودّ (٦).

وذلك قول الله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠]. وإذا تبيّن ذلك قلنا : إن القدرية هم المجبرة المستحقّون لما تضمنته هذه الأخبار من الذم والنار ؛ لما قدمنا من الدلالة على أنّ القدرية هي المجبرة ؛ ولأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصف القدرية بوصفين لا يوجدان إلا في المجبرة : أحدهما : أنه قال : هم مجوس هذه الأمة ، وقد بينا في كتاب إرشاد

__________________

(١) أخرجه الحاكم ١ / ١٥٩ ، أبو داود في السنن ٥ / ٨٤ برقم ٤٧١٠ ، أحمد بن حنبل ١ / ٧٣ برقم ٢٠٦ ، والبيهقي في السنن ١٠ / ٢٠٤.

(٢) في (ب) : خنازير وقردة.

(٣) الشافي ج ٢ ص ٣. والقرطبي ١٠ / ١٩٨.

(٤) في (ب) : وقيل ، وفي (ج) : يقال :

(٥) في (ب) : فيقول.

(٦) البالغ المدرك ص ١٠٠. ورواه الهيثمي ٧ / ٢٠٦ بألفاظ مقاربة.

العباد الوجوه التي وقعت بها المضاهاة بينهم وبين المجوس (١) ؛ فصح بذلك ما ذكرناه. الوصف الثاني : أنه وصفهم بأنهم شهود إبليس وخصماء الرحمن وهذا لا يوجد إلا في المجبرة ؛ لأنهم يحملون أوزارهم على الله ، ويشهدون أنها فعله. يوضّح ذلك ما روي عن الحسن البصري أنّه قدم رجل من فارس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال (٢) : رأيتهم ينكحون أمهاتهم وأخواتهم وبناتهم ، فإذا قيل لهم : لم تفعلون هذا؟ قالوا : قضاء الله وقدره. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما إنه سيكون في أمتي قوم يقولون مثله. أولئك مجوس هذه الأمة» (٣). ولا شك أنّ ذلك مذهب المجبرة.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : السّعيد من سعد بعمله ، والشقيّ من شقي بعمله» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما هلكت أمّة حتى يكون الجبر قولهم». وروي عن الحسن البصري أنه تلى قوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر : ٦٠] ، فقال : هم المجوس واليهود والنصارى وناس من هذه الأمة زعموا أنّ الله قدّر عليهم المعاصي ، وعذّبهم عليها ، والله يسوّد وجوههم لذلك (٥).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إذا كان يوم القيامة يجمع الله الخلائق في صعيد واحد ، فينادى مناد من بطنان (٦) العرش ، ألا كلّ من برّأ الله من ذنبه ، وألزمه نفسه ، فليدخل الجنّة آمنا غير خائف.

__________________

(١) لأن المجوس ينكحون بناتهم وأمهاتهم ، ويقولون : إنه بقضاء الله وقدره. الشافي ٢ / ٣.

(٢) في (ب) : قال.

(٣) أخرجه جعفر بن أحمد بن عبد السّلام في خلاصة الفوائد : ٣٢.

(٤) ثم السعيد من يسعد بقضاء الله وفي بطن أمه». في الأوسط للطبراني ٨ / ٢٢٣.

(٥) الخلاصة للقاضي جعفر ص ١٢٨.

(٦) بطنان الشيء وسطه. القاموس ص ١٥٢٤.

ومما يدل على أن القدرية هم المجبرة إجماع الصحابة (رض) على ذلك ، وإجماعهم حجة. ولو لم يكن في ذلك إلّا ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام لكفى ، فإنه روي أنه عليه‌السلام لمّا انصرف من صفّين قام إليه شيخ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا هذا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره؟ فقال : والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ما قطعنا واديا ولا علونا تلعة ولا وطئنا موطئا إلا بقضاء من الله تعالى وقدر. فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ومسيري ، والله ما أرى لي من الأجر شيئا ، فقال : بلى قد عظّم الله لكم الأجر على مسيركم وأنتم سائرون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين. فقال الشيخ : وكيف يكون ذلك والقضاء والقدر اللذان ساقانا ، وعنهما كان مسيرنا؟ فقال أمير المؤمنين : لعلّك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما؟ لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والأمر من الله والنّهي ، ولما كانت تأتي من الله لائمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولما كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المسيء ، ولا المذنب كان أولى بعقوبة الذّنب من المحسن. تلك مقالة إخوان الشياطين (١) ، وعبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وشهود الزور ، وأهل العمى والفجور ، وهم قدرية هذه الأمّة ، ومجوسها. إنّ الله تعالى أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا ، وكلف يسيرا ، ولم (٢) يكلّف مجبرا ، ولا بعث الأنبياء عبثا ، ولا أرى عجائب الآيات باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص ٢٧]. فقال الشيخ : ما القضاء والقدر اللّذان ما وطئنا موطئا إلا بهما؟ فقال علي عليه‌السلام : الأمر من الله والحكم ، ثم تلى قول الله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ

__________________

(١) في (ب) ، (ج) و (د) : الشيطان.

(٢) في (أ) : لم.

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجوا بطاعته

يوم النشور من الرّحمن رضوانا (١)

أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا

جزاك ربّك عنّا فيه إحسانا

نفسي الفداء لخير الناس كلّهم

بعد الرسول عليّ الخير مولانا

نفى الشّكوك مقال منك متّضح

وزاد ذا العلم والإيمان إيمانا

فليس معذرة في فعل فاحشة

لوما (٢) لراكبها بغيا وعدوانا

لا لا ولا قائل ناهيه أوقعه

فيها عبدت إذن يا قوم شيطانا (٣)

والمعلوم لمن عرف الأخبار ، وبحث عن السّير والآثار أنّ الصحابة مجمعون على أنّ القدرية هم الذي يقولون : إنّ المعاصي بقضاء من الله تعالى وقدر ، بمعنى أنّه فعلها فيهم ، ولم يمكّنهم من التخلص منها في حال من الأحوال ، وعاقبهم عليها. وممّا يوضّح أنّ القدرية هم المجبرة ـ أنّ القدرية إنّما سمّوا بذلك لكثرة ذكرهم للقدر ولهجهم به ؛ لأنهم يقولون في كل فعل يفعلونه : قدّره الله عليهم ، وإنما قلنا ذلك ؛ لأنّ من أكثر من شيء ـ نسب إليه ، مثل من أكثر من رواية النّحو نسب إليه ، فقيل : نحويّ. ومن أكثر من رواية اللغة ، قيل : لغويّ. كذلك من أكثر من ذكر القدر ـ فقال في كل فعل يفعله : قدّره الله

__________________

(١) في (ب) : وهو يقول شعرا ، وبعده :

أخو النبيّ ومولى المؤمنين معا

وأوّل الناس تصديقا وإيمانا

وبعل بنت رسول الله سيدنا

أكرم به وبها سرا وإعلانا

قال في أم هذه النسخة ما لفظه : قوله : أخو النبي ... البيت ، والبيت الذي بعده زائدان على نسخة الأم ثابت في نسخة غيرها ، تمت والله أعلم.

(٢) في (ب) ، (ج) ، (د) : يوما.

(٣) روى كلام الإمام علي (ع) القاضي جعفر في ص ٢٩ ، ١٢٥ ، والأبيات في ص ١٢٦ من خلاصته. ورسائل العدل والتوحيد ص ٢٤٣. والنهج ٤٨١ رقم ٧٨.

عليه ـ قيل : قدريّ. والقياس مطرد ؛ فإن قيل : إنا ننسب العدلية إلى ذلك لقولهم بالقدرة ، فيجب أن يكونوا هم القدرية ـ قلنا : إنّ ذلك لا يصح من طريق اللّغة ، فإنّ النّسبة إلى القدرة قدريّ ـ بضم القاف ، وسكون الدّال ـ بخلاف النّسبة إلى القدر فإنها بفتح القاف والدال ، فوجب أن يكونوا بذلك أولى.

فإن قيل : إنّ العدلية بذلك أولى ؛ لأنهم يقولون : إنهم يقدّرون أفعالهم ـ قلنا : إن ذلك لا يصح ، فإن الله تعالى قد وصف بعض خلقه بمثل مذهب العدلية ، فقال تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ* فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ* ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) [المدثر : ١٨ ـ ٢٠] ، وهو تعالى لا يكذب ؛ لأنّ الكذب قبيح ، وهو لا يفعل القبيح على ما مضى. والموصوف بهذه الآية هو الوليد بن المغيرة (١). فقوله : (فَكَّرَ) أي نظر ، (وَقَدَّرَ) ما يقول في القرآن (فَقُتِلَ) أي عذّب ولعن. وكرّر ذلك لكثرة تقديرات الوليد لعنه الله. ثم إنّا نقول : لو كان هذا الاسم يلزم العدلية لقولهم : بأنّهم يقدّرون أفعالهم ـ لوجب اطّراد ذلك ، فكان يلزم أن يقال في الله تعالى : مثل ذلك ؛ لأنه تعالى وصف أفعاله بمثل ما وصفت به العدلية أفعالهم ، قال تعالى : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها) [فصلت : ١٠] أي خلق. ومعلوم خلاف ذلك.

فبطل بذلك جميع ما تعترض به الجبرية الحشوية ، وصحّ أنهم القدرية دون العدلية ، والحمد لله وحده ، وثبت بذلك الفصل الأول وهو في القضاء والقدر.

__________________

(١) من بني مخزوم ، ولد سنة ٩٥ قبل الهجرة وهو من زعماء قريش أدرك الإسلام وهو شيخ هرم ، فعاداه ، وقال : إن الناس يأتونكم في الحج فيسألونكم عن محمد فتختلف أقوالكم فيه ، فيقول : هذا كاهن ، ويقول : هذا شاعر ، ويقول : هذا مجنون ، وليس يشبه واحدا مما تقولون ، ولكن أصلح ما قيل فيه : ساحر ؛ لأنه يفرق بين المرء وأخيه ، والزوج وزوجه. وهو والد خالد بن الوليد مات كافرا في السنة الأولى من الهجرة. ينظر الأعلام : ٨ / ١٢٢.

وأما الموضع الثاني :

وهو في الهدى والضّلال. ففيه فصلان :

أحدهما في الهدى. والثاني في الضلال.

أما الفصل الأول ـ وهو في الهدى

فالكلام فيه يقع في موضعين : أحدهما في تعيين معانيه. والثاني في كيفية إضافته إلى الله تعالى ، وكيفية حمل ما في القرآن من ذلك.

أما الموضع الأول : وهو في تعيين معانيه ؛ فله معان خمسة : أحدها الهدى بمعنى البيان ، والدلالة ، يحكيه قول الله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ) [البقرة : ١٨٥] أي دلالة. وثانيها الهدى بمعنى الفوز والنجاة والثواب ، يحكيه قوله تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٥] أي ينجيهم ويثيبهم. وثالثها بمعنى زيادة التوفيق والتسديد ، يحكيه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) [محمد : ١٧] ، أي زادهم توفيقا وتسديدا بشرح صدورهم ، وهو اللطف. ورابعها الهدى بمعنى خلق العلوم الضرورية ، يقال : جعله مهتديا إذا خلق فيه الهداية ، وهي خلق العلوم الضرورية ، كما يقال : جعله متحركا إذا خلق فيه الحركة. وخامسها الهدى بمعنى الحكم والتسمية ، يحكيه قوله تعالى : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) [النساء : ٨٨] ، وعليه يدل قول شاعر الخوارج في علي عليه‌السلام :

ما زال يهدي قومه ويضلّنا

جهلا وينسبنا إلى الكفّار

وكما قال الكميت بن زيد رحمه‌الله في أهل البيت (ع) (١) :

وطائفة قد أكفروني بحبكم

وطائفة قالوا : مسيء ومذنب

أي سمّوني كافرا وحكموا عليّ بذلك. فثبت الموضع الأول وهو في تعيين معاني الهدى.

وأما الموضع الثاني : وهو في كيفية إضافته إلى الله تعالى ، وكيفية

حمل ما في القرآن من ذلك.

أمّا كيفية إضافته إلى الله تعالى ، فالهدى بمعنى الدلالة والبيان ، وخلق العلوم الضرورية ـ يجب أن يفعله الله تعالى لجميع المكلفين (٢) سواء كانوا عاصين أو مطيعين ؛ لأنّ تكليفهم من دون ذلك يكون تكليفا لما لا يعلم ، وهو قبيح بالإجماع ، ويكون تكليفا لما لا يطاق وهو قبيح أيضا ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم تحقيقه ، وما عدا ذلك من معاني الهدى لا يجوز أن يفعله الله تعالى إلا للمؤمنين دون غيرهم من المكلّفين ـ وهو الهدى بمعنى الثواب ، وبمعنى زيادة التوفيق ـ لأن المجازاة بالثواب لمن لا يستحقّه تكون

__________________

(١) هو الكميت بن زيد الأسدي الكوفي ، ابن أخت الفرزدق. ولد سنة ٦٠ ه‍. شاعر عارف بآداب العرب ولغاتها وأخبارها وأنسابها له الهاشميات في مدح بني هاشم وأهل البيت ، خطيب بني أسد ، وفقيه الشيعة ، كان فارسا شجاعا سخيّا راميا لم يكن في قومه أرمى منه. اجتمعت فيه خصال لم تجتمع في شاعر ؛ لو لا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان ، ولو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم ـ وأنا أقول : لو لم يكن لدى الشيعة شاعر غير الكميت لكفاهم. وشعره أكثر من خمسة آلاف بيت ، وأشهر شعره الهاشميات في مدح بني هاشم مطلعها :

طربت وما شوقا إلى البيض أطرب

ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب

وقد ترجمت إلى اللغة الألمانية. توفي سنة ١٢٦ ه‍. أنظر معجم المؤلفين ٢ / ٦٧١.

والأعلام ٥ / ٢٣٣. والغدير ٢ / ١٩٥. والروضة المختارة شرح القصائد ص ٢٩.

(٢) في (ب) : لكل المكلفين.

قبيحة على ما يأتي بيانه ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم ، وكذلك الهدى بمعنى الحكم والتّسمية لا يجوز أن يحكم بالهدى إلّا للمؤمنين الذين قد اهتدوا بالهداية الأصلية ، ولا يسمّي بذلك إلا المهتدين وهم المؤمنون دون غيرهم.

وأما كيفية حمل ما في القرآن من ذلك ، فإذا ثبت ذلك قلنا : إنّ كتاب الله تعالى لا يدخله التناقض والاختلاف ؛ لقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، ولقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ؛ فيجب أن ينزّه عن التعارض والتناقض والفساد ، وذلك لا يتمّ إلا بحمل الألفاظ المتشابهة على أدلة العقول ، ومحكم القرآن ، فمتى أضاف الله تعالى في القرآن الهدى إلى جميع المكلفين ؛ فالمراد به البيان والدّلالة ، وخلق العلوم الضرورية كما قال : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) [الإسراء : ٩٤] ومتى أضافه إلى بعض المكلفين بطريقة الإثبات ، وهم المؤمنون ، فالمراد به ما يجوز أن يفعله لهم من الألطاف والثواب كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) [محمد : ١٧] ، وقال تعالى : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) [محمد : ٥] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) [يونس : ٩] ، وقال تعالى : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن : ١١] ، وقال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) [الأنعام : ١٥٢] أي يوفّقه بالخواطر التي معها ينشرح صدره للإسلام ، أي لأجل الإسلام.

وما كان مضافا إلى بعض المكلفين على جهة الإثبات وهو المجرمون ، فالمراد به هدى الدلالة ، والبيان ، وخلق العلوم الضرورية.

وما كان مضافا إليهم بطريقة النّفي ؛ فالمراد منه (١) ما لا يجوز أن يفعله لهم ، كما قال تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [التوبة : ٨٠] ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [التوبة : ٣٧] ونحو ذلك ، أي لا ينجّيهم ولا يثيبهم.

وإذا كان مضافا إلى نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريقة الإثبات فالمراد به ما يدخل (٢) تحت مقدوره ، وهو الهدى بمعنى الدلالة والبيان ، كقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢] ومتى أضافه إليه بطريقة النفي فالمراد به ما لا يدخل تحت مقدوره ، وهو الهدى بمعنى الفوز والنّجاة والثواب ، كما قال تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] أي لا تنجي ولا تثيب. فثبت الفصل الأول وهو في الهدى.

وأما الفصل الثاني :

وهو في الكلام في الضّلال فالكلام فيه يقع في موضعين :

أحدهما في تعيين معانيه. والثاني في كيفية إضافته إلى الله تعالى ، وكيفية حمل ما في القرآن من ذلك.

أما الموضع الأول : وهو في تعيين معانيه ؛ فله ثمانية معان : أحدها الضلال بمعنى العقاب والجزاء ، يحكيه قول الله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ* يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر : ٤٧ ـ ٤٨] أي في عقاب ومجازاة على ضلالتهم. والشيء قد يسمّى باسم

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : فالمراد به.

(٢) في (ب) : فالمراد ما يدخله ، وفي (ج) : فالمراد ما يدخل.

ما يجازى به عليه ، وباسم (١) ما يؤدّي إليه ، كما قال تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، والجزاء لا يكون سيئة وإنما جرى في ذلك على عادة العرب. قال عمرو بن كلثوم (٢) :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا (٣)

فسمّى الجزاء على الجهل جهلا وافتخر به. والجهل نقص ، والعاقل لا يتمدّح بالنقص ، فثبت أن الشيء يسمّى باسم ما يجازى به عليه. وأمّا أنّه يسمّى باسم ما يؤدي إليه ، فدليله قول الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] ، فسمّاه نارا لمّا كان يؤدي إلى النار ، وإن كان في الدنيا شهيّا لذيذا.

وثانيها : الضلال بمعنى الهلاك ، والذهاب ، ومنه قوله تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] معناه هلكنا وذهبنا وتقطّعنا.

وثالثها : بمعنى الإبطال ، ومنه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ٤] أي فلن يبطل أعمالهم ، وكذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] أي أبطلها.

__________________

(١) في (ب) : ويسمى باسم.

(٢) عمر بن كلثوم التغلبي أحد أصحاب المعلقات السبع المشهورة. التي مطلعها :

ألا هبّي بصحنك فاصبحينا ... إلخ وآخرها :

إذا بلغ الرّضيع لنا فطاما

تخر له الجبابر ساجدينا

ت ٤٠ ق ه ، وقيل : ١٤٠ ق ه. ينظر الأعلام : ٥ / ٨٤. ومجموع مهمات المتون ٨٠٦.

(٣) أنظر ديوانه ص ٤٠.

ورابعها : بمعنى التلبيس والتزيين للباطل ، والإشارة إلى خلاف الحقّ ، والاستدعاء إلى الكفر ، والأمر به ، يحكيه قول الله تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) [طه : ٧٩] ، (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) [طه : ٨٥] ، وقوله : (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) [الشعراء : ٩٩]. وقوله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) [سبأ : ٥٠] ، إلى غير ذلك.

وخامسها : بمعنى الحكم والتسمية ، يقال : أضلّه إذا سمّاه ضالّا وحكم عليه بالضلال. وعليه يدل قول الكميت ، وقول الخارجي وقد تقدم (١). ومثل ذلك قول طرفة بن العبد :

وما زال شربي الراح حتى أشرّني

صديقي وحتى ساءني بعد ذلكا (٢)

أي سمّاني شرّيرا.

وسادسها : أنّ الضلال قد يستعمل بمعنى الوجدان ، يقال : حطناه فما أضللناه ، أي فما وجدناه ضالّا. كما قال عمرو بن معدي : قاتلنا بني سليم فما أجبناهم ، وجاودناهم فما أبخلناهم ، وهاجيناهم فما أفحمناهم ، أي ما وجدناهم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين.

__________________

(١) ص ١٨٢.

(٢) طرفة بن العبد البكري الوائلي : شاعر جاهلي أحد أصحاب المعلقات السبع المشهورة ، مطلع معلّقته :

لخولة أطلال ببرقة ثهمد

تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

وفي ختامها :

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا

ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

ينظر خزانة الأدب : ٢ / ٤١٩. الأعلام / ٢٢٥. ومجموع مهمات المتون ص ٧٨٨.

وسابعها : أن الضلال قد يكون بمعنى ضلّ عنده (١) ، كما يقال : أضلّ إذا وقع الضلال عند الذي ينسب الإضلال إليه ، قال تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦] أي ضلّ عندهن كثير. ومنه قوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] أي ازدادوا عندها كفرا إلى كفرهم (٢) ، وذلك أنّهم كفروا بالسورة الأولى ، ثم كفروا بهذه السورة. وقيل : إثما إلى إثمهم (٣). وقيل : شكّا إلى شكّهم (٤) ، ونفاقا إلى نفاقهم. وإنّما أضاف ذلك إلى السورة لأنهم كفروا عند نزولها ، وكقولهم : وما زادتك موعظتي إلّا شرّا.

وثامنها : بمعنى ضلّ يقال : أضلّ فلان إذا ضلّ بعيره عنه. ويقال : أمات إذا ماتت راحلته. وأعطش إذا عطشت إبله. قال الشاعر :

هبوني امرأ منكم أضلّ بعيره

له ذمّة إنّ الذّمام كثير

فهذا هو الموضع الأول : في (٥) تعيين معاني الضلال.

__________________

(١) في الأصل : عنده وعبده ، وفي (ب) : عنده بكسر العين ونقط الباء من تحت والنون من فوق ، وكذلك (ج). وهو الأصح.

(٢) قاله قطرب ، كما في النكت والعيون للماوردي ٢ / ٤١٦.

(٣) قاله مقاتل ، كما ذكر ذلك الماوردي ٢ / ٤١٦.

(٤) قاله الكلبي ، ينظر نكت الماوردي ٢ / ٤١٦. والدر المنثور ٣ / ٥٢٢ عن السّدّيّ.

(٥) في (ب) ، (ج) : وهو في.

وأما الموضع الثاني :

وهو في كيفية إضافته إلى الله تعالى وكيفية حمل ما في القرآن من ذلك فاعلم أنّ الضلال على ضروب :

منها ما يصح أن يفعله الله تعالى بالجميع ، وهو الضلال بمعنى الهلاك والذهاب والتقطيع ؛ فإنه لا بدّ من إماتة كل مخلوق لقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ، ولا بدّ بعد ذلك من الذهاب والتقطيع والعدم لقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أي كل شيء فان إلّا ذاته (١). ولأنّ ذلك معلوم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة.

ومنها ما يفعله الله تعالى ببعض المكلفين دون بعض ، وهو الضلال بمعنى العقاب وما أشبهه ؛ فإنه تعالى إنما يفعل ذلك ؛ بمن يستحقه من العصاة دون من لا يستحقه ؛ لأن العقاب لمن لا يستحقه يكون قبيحا على ما يأتي بيانه ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما مضى بيانه. ومن ذلك قوله تعالى : (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) [إبراهيم : ٢٧]. (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦]. ونحو ذلك (٢).

__________________

(١) غريب القرآن للإمام زيد ص ٢٤٤ ، وقال : معناه إلا هو ، ويقال : ما أريد به وجهه من الأعمال الصالحة ، وهو قول مجاهد كما في الدر المنثور ٥ / ٢٦٧. والكشاف ٣ / ٤٣٧.

(٢) أول الآية : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ ...) الآية ، قال الزمخشري : وإسناد الضلال إلى الله تعالى إسناد الفعل إلى السبب ؛ لأنه لمّا ضرب المثل فضل به قوم واهتدى به قوم ـ تسبّب في ضلالهم وهداهم. أقول : هذا هو تفسير العلماء الراسخين فلله أم أنجبت مثل الزمخشري. [الكشاف ١ / ١١٨] أما قراءة الإمام زيد يضلّ بفتح الياء فلا إشكال فيها. [الكشاف ١ / ١١٩] ، وسماها في الدر

ومنها ما لا يصح أن يفعله الله تعالى بأحد من المكلفين ؛ وهو ما تقدم ذكره من التّزيين للباطل ، والتلبيس للحق ونحو ذلك ، لأنّ ذلك قبيح ، وقد ثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح. ولا يصح أن يقال : إنّ من جملة معاني الضلال هو خلق الكفر والجهل في الناس حتّى يكونوا بذلك ضالّين ؛ لأنّ ذلك لم يوجد في اللغة العربية. وعلى أنه لو وجد فيها فإنه تعالى لا يصحّ أن يفعل ذلك ، من حيث إنّ ذلك قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم بيانه. فهذا هو كيفية إضافته إلى الله تعالى (١).

وأما كيفية حمل ما في القرآن من ذلك ـ فاعلم أنه يجب حمل ما في القرآن من ذلك ومن جميع الآيات المتشابهة على ما يوافق أدلة العقول ، ومحكم القرآن ؛ لأن الأصل هو دلالة العقل ، ولو لا ها لما عرف كون القرآن حجّة يجب اتّباعها ، بل لا يعرف الصانع تعالى إلا بدلالة العقل ؛ كيف بمعرفة فعل من أفعاله وهو القرآن ، فكذلك يجب حمل ما فيه على موافقة أدلة العقول ، فيجب حمل ما في القرآن منسوبا إلى الله تعالى على الهلاك والعقاب للكفار والفساق ، وبمعنى التّسمية والحكم ، كما قال تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

وكما قال تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥] معناه من يرد الله أن يعاقبه جزاء على عمله للمعاصي يجعل صدره ضيّقا بما يورد عليه من الأسباب والأحوال الموجبة لضيق صدره حتى يصير من ضيقه ممتنعا من الصبر لشدة الضيق ، (كَأَنَّما يَصَّعَّدُ

__________________

المصون قراءة القدرية والمعتزلة [١ / ٢٢٣]. والرازي مج ١ ج ٢ ص ١٥٣ وما بعدها. أقول : ولو كان الإضلال من الله لعباده لكان الله سبحانه أولى باللوم من العبد الذي لا حول له تعالى الله عن ذلك.

(١) ينظر الرازي مج ١ ج ٢ ص ١٥٢ فقد أتى بما يشفي ، ومتشابه القرآن ق ١ ص ٦٦.

فِي السَّماءِ) ، أي يطلع في السماء من عظم المشقة ، أو بمعنى أنّه فعل ما وقع منهم الضلال عنده (١) نحو ما قدمناه في قوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] ؛ لأن ذلك هو الموافق لأدلة العقول ومحكم القرآن دون ما لا يصح فيه ومعنى قوله : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [فاطر : ٨] أي يهلك ويعاقب من يشاء ، وهم المستحقون للعقوبة ، ويثيب من يشاء وهم المستحقون الثواب (٢) ؛ لأن ما عدا ذلك لا يجوز ، على ما تقدم. وعلى نحو ذلك يحمل ما في القرآن من الضلال والهدى

[فصل : الطّبع نعوذ بالله منه]

وعلى نحو ذلك يحمل ما في القرآن الحكيم من الطّبع والختم والفتنة ونحو ذلك. ونحن نورد طرفا من الآيات التي فيها ذكر الطّبع والختم والفتنة وما أشبه ذلك ، ونبين معانيها لتحصل الفائدة بمعرفة تلك المعاني (٣).

__________________

(١) ينظر متشابه القرآن ١ / ٢٦٢ ـ ٢٦٥. وقال الإمام الهادي يحيى بن الحسين عليه‌السلام في تفسير الآية : الشرح من الله هو التوفيق والتسديد والتبصير والتنبيه ، وأن معنى قوله جل جلاله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥] هو بما يدارك عليه الأمر والدعاء ، أمر به عبده ورسوله ، ونزل عليه ، فكلما زاد الله في إقامة الحجة عليهم والدعاء لهم ، وإظهار الحق لديهم ازدادوا طغيانا وإثما وتماديا وعمى ، فخذلهم الله لذلك وأرداهم وأذلهم وأشقاهم ، فعادت صدورهم لما فيها من الشك والبلاء ، وما يخافون من ظهور الحق عليهم ، والهدى ضيقة حرجة ، كأنما تصعد في السماء ، وإنما مثل الله صفتها بالتصعيد في السماء ؛ لأن التصعيد أشد وأعظم البلاء. رسائل العدل ص ١٧٤.

(٢) في (ب) ، (ج) : للثواب.

(٣) ينظر البساط للإمام الناصر الأطروش ص ١٣٦.

فمن ذلك قوله تعالى (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٧] الختم نكتة سوداء يجعلها في قلب من يعلم أنه لا يؤمن علامة للملائكة. وقيل : تشبيه بمن ختم عليه كقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] وكما قال الشاعر :

أصمّ عمّا ساءه سميع.

وقال :

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ومعناه أنّ الكفر تمكّن في قلوبهم فصارت كالمختوم عليها (١). وقيل :(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي حكم عليهم وشهد بأنّ قلوبهم لا تقبل الحق. وهو ثابت في اللغة ، ومن ذلك ختمت عليك أنّك لا تفلح ، أي شهدت عليك (٢) ، وهو شائع في اللغة. فإن أهل اللغة قد يحذفون ألف الاستفهام كما قال شاعرهم (٣) :

[فو الله ما أدري وإني لحاسب]

بسبع رمين الجمر أم بثمان

ومن ذلك قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] معناه في قلوبهم شكّ فزادهم الله بما أنزل من الآيات والحجج شكّا

__________________

(١) مجمع البيان مج ١ ج ١ ص ٩٦.

(٢) في (ب) : وقيل : استفهام بحذف ألف الاستفهام وهو شائع في اللغة. وقال في هامش الأصل : هنا ساقط قدر نصف سطر ويمكن أن يكون ما لفظه : وقيل : وهو على حذف أداة تمت. كأنه يريد أداة الاستفهام يؤيده ما هو ثابت في (ب). ينظر متشابه القرآن ١ / ٥١.

(٣) هو عمر بن أبي ربيعة ، فقد ذكر عجز البيت وفيه رميت. ديوانه ٧٣.

فشكّوا عند ذلك (١). وقيل : بما أنزل من الفرائض والحدود (٢). وإنما أضاف الله الشّكّ إليه ـ وإن كان منهم ـ لأنه وجد عند حصول فعله وهو نزول الآيات ، وما زاده من الحجج ، كما ذكرنا في قوله تعالى : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) ودللنا على ذلك. ومثل ذلك قول نوح عليه‌السلام : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٦] وقيل : معنى قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي غمّ بتمكين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزوله بالمدينة ، وما فتح الله عليه ، وظهور المسلمين ، وكثرة الفتوح (٣) (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أي غمّا بما زاده من القوة والتّمكين وبما أمده من النصر والتأييد.

ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن إبليس لعنه الله (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦] قيل : أغويتني : معناه خيّبتني من رحمتك وجنّتك (٤). والإغواء : التّخييب. وقيل : جعلتني في العذاب بمصيري إليه بحكمك. وقيل : أغويتني أي حكمت بغوايتي. فيكون بمعنى الحكم والتّسمية. كما يقال : أضللتني أي حكمت بضلالتي ، وسمّيتني ضالّا على ما تقدم تحقيقه. وقيل : مذهب إبليس الجبر. والمجبرة أتباعه. وقد رد الله

__________________

(١) وبه قال ابن عباس كما ذكره الماوردي ١ / ٧٤ ، وابن مسعود كما ذكره السيوطي في الدر المنثور ١ / ٦٧.

(٢) انظر الماوردي : ١ / ٧٤.

(٣) انظر الماوردي ١ / ٧٤.

(٤) الماوردي ٢ / ٢٠٦ ، ومنه قول الشاعر :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي ومن يخب. وينظر المتشابه ج ١ ص ٢٧٥. والبيت للمرقش.

عليه قوله حين لعنه ، وأوجب عليه العذاب ، حيث يقول : (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) [الأعراف : ١٨] مذءوم قيل : هو الاحتقار. وقيل : بمعنى مذموم. والمدحور هو المبعد من رحمة الله. وقال تعالى في الآية الأخرى : (وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [ص : ٧٨]. ومن ذلك قوله تعالى : (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة : ٨٧].

روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنّ الطّبع نكتة سوداء في قلوبهم جعلت علامة لقلب الكافر يعلم به أنّه لا يفلح أبدا. وقيل : على وجه التشبيه والذّم لها ؛ فكأنها كالمطبوع (١) ؛ فلا يدخلها خير ، ولا ينتفي عنها شر. وقيل : استفهام بحذف ألف الاستفهام كما في الختم. ومن ذلك قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ* وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [يس : ٨ ـ ٩] نزلت هذه الآية في أبي جهل وأصحابه ، حلف إن رأى محمدا يصلي ليرضخ رأسه بحجر فرآه فحمل حجرا فلزق بيده فعاد إلى أصحابه ، فقام رجل من بني مخزوم فقال : أنا أقتله بهذا (٢) الحجر فأعمى الله بصره (٣) ، وعليه يدل قوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ). فأما قوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) .. الآية. فقيل : هو في الدنيا. شبّه الكفّار بمن هو كذلك في تركهم الإيمان. وقيل : يكون الكفّار كذلك في الآخرة وهو حقيقة.

__________________

(١) في (ب) : كالمطبوع عليها. انظر الماوردي ١ / ٥٤٢.

(٢) في (ب) : بهذه.

(٣) انظر الدر المنثور ٥ / ٤٨٥. والكشاف للزمخشري ٤ / ٦.

ومن ذلك قوله تعالى حاكيا عن موسى عليه‌السلام : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) [الأعراف : ١٥٥] ، فمعنى قوله : (فِتْنَتُكَ) أي امتحانك وبليّتك (١) ؛ لأنهم كلّفوا الصبر. وقيل : (فِتْنَتُكَ) عذابك (٢) ، وهو الرّجفة في قوله تعالى : (فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) [الأعراف ١٥٥] الرجفة. قيل : هي الموت (٣) ، وقيل : رعدة شديدة رجفت لها قلوبهم فماتوا فبقي موسى يبكي ويقول : يا رب لو شئت أهلكتهم من قبل خروجهم معي فأخشى أن يتّهمني بنو إسرائيل بهلاكهم ، إلى غير ذلك ، فأحياهم الله تعالى. وعلى هذا النسق يجري الكلام في بيان معاني الآيات الجارية هذا المجرى.

مسألة :

ونعتقد أنّ الله تعالى لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعمله

وهذه هي عقيدة جميع المسلمين. والكلام منها (٤) يقع في خمسة مواضع : أحدها : في حقيقة التعذيب. والثاني : في حقيقة (٥) المذهب وذكر الخلاف. والثالث : في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه

__________________

(١) ينظر متشابه القرآن ١ / ٢٩٨. والكشاف ٢ / ١٦٤. والماوردي ٢ / ٢٦٦. والرازي مج ٨ ج ١٥ ص ٢٠. والخازن والبغوي ٢ / ٥٩٢. والقرطبي ٧ / ١٨٨. والألوسي مج ٦ ج ٩ ص ١١٠ ، علّل الامتحان بأن الله لمّا أسمعهم كلامه طلبوا رؤيته.

(٢) الطبرسي في مجمع البيان ٤ / ٤٦٩. والماوردي ٢ / ٢٦٦ ، وبه قال قتادة.

(٣) الرازي في التفسير مج ٨ ج ١٥ ص ٢٠.

(٤) في (ب) : فيها.

(٥) في (ب) ، (ج) : حكاية.

المخالفون من أدلة العقل. الرابع (١) : فيما يؤكد صحة مذهبنا ، ويبين (٢) فساد مذاهب المخالفين من أدلة الشرع. والخامس : في إيراد طرف مما يتعلق به المخالفون من الآيات والأخبار المتشابهة ، وبيان ما يجوز فيه (٣) من المعاني الصحيحة.

أما الموضع الأول : وهو في حقيقة التّعذيب

فالتعذيب هو إيصال الضّرر المحض إلى المعذّب. فقولنا : إيصال الضرر المحض ؛ لأنه لو لم يكن ضررا محضا لم يكن تعذيبا. ولو كان ضررا غير محض نحو أن يكون فيه نفع أو دفع ضرر أعظم منه لم يعدّ تعذيبا. فيدخل في ذلك المضارّ المستحقّة ، وهو ما يحسن من التعذيب. والمضارّ التي لا تستحقّ وهو ما يقبح من التعذيب. وقولنا إلى المعذّب أدخلنا في ذلك تعذيب الواحد منّا لنفسه بالمضارّ ، وتعذيبه لغيره ، فإنّ ذلك يعدّ تعذيبا في الوجهين جميعا.

ولا يشترط في التعذيب أن يكون على جهة الاستحقاق ؛ لأنّ الحاسد لو حرّق المحسود لعدّ معذّبا له ، وإن كان يعتقد عظم منزلته وعلوّ درجته ، فإنه قد يحسده لذلك وأشباهه ويعذبه عليه ، فثبت الموضع الأول.

وأما الموضع الثاني : وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف

فمذهبنا أهل البيت أنّ الله تعالى لا يعاقب أحدا إلّا بذنبه ، ولا يثيبه إلا بعمله ، وهو قول العدلية جميعا. وذهب قوم من الجبرية والحشوية (٤) إلى أن الله

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : والرابع.

(٢) في (ب) : وتبيين فساد مذهب ، و (ج) : وتبيين فساد مذاهب.

(٣) في (ب) ، (ج) : فيها.

(٤) الحشوية لا مذهب لهم منفرد أجمعوا على الجبر والتشبيه وجسموا وصوروا وقالوا : بالأعضاء وقدم القرآن. قال الحاكم : منهم أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وداود ابن محمد الكرابيسي ومن متأخريهم محمد بن إسحاق بن خزيمة.

تعالى يعذب أطفال المشركين في النّار بذنوب آبائهم (١). ويتفرع على أصول جميع الجبرية التي تقدم ذكرها أنّه يحسن من الله تعالى أن يعذب الأنبياء في نار جهنم. وأن يثيب الفراعنة ، وأن يخلق حيوانا في نار جهنم ليعذبه فيها أبدا.

وأما الموضع الثالث : وهو في صحة الدلالة (٢) على ما ذهبنا إليه. وفساد ما ذهب إليه المخالفون من أدلة العقل ؛ فالذي يدل على ذلك أنّ المجازاة بالثواب والعقاب لمن لا يستحق ذلك تكون قبيحة والله تعالى لا يفعل القبيح. وإنّما قلنا : بأنّ المجازاة بالثواب والعقاب لمن لا يستحق ذلك تكون قبيحة. أمّا أنّ المجازاة بالعقاب لمن لا يستحقّ تكون قبيحة ـ فلأنها ظلم ، والظّلم قبيح. وإنما قلنا : إن المجازاة بالعقاب لمن لا يستحقّه تكون ظلما ؛ فلأنّ الظّلم هو الضّرر الذي يوصله الفاعل إلى غيره لا لنفع يصل إلى ذلك الغير ، ولا لدفع ضرر عنه ، ولا لاستحقاق ، ولا للظّن لأحد الوجهين المتقدّمين ، ولا يكون في الحكم كأنّه من جهة غير فاعل الضّرر سواء كان هو المضرور أو غيره (٣).

__________________

(١) ينظر الإبانة ص ٣٣ ، فإنه ذكر أنهم يعتقدون في أطفال المشركين أن الله تعالى يؤجج لهم في الآخرة نارا ثم يقول لهم اقتحموها. وقد رد عليهم القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن ٢ / ٦٧١ حيث قال في قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) : يدل على بطلان القول بأنه تعالى يعذب أطفال المشركين ؛ لأنه أورد ذلك منبها على أنه لا ذنب لها ، وأن الذنب للوائد. ولو كان تعالى يعذبها أبدا لم يكن لهذا معنى ؛ لأن التعذيب الدائم أعظم من قتل الوائد لها ، فلئن جاز أن تعذب ، ولا ذنب لها ؛ ليجوزون القتل المتقدم ، وإن لم يكن لها ذنب ، ويدل على ذلك أن الكافر لم يخلق كفره فيه ؛ لأنه لو كان كذلك لكان حاله حال الموؤدة في أنه لا ذنب له ، من حيث أدخل في الكفر على وجه لا يمكنه اختيار خلافه.

(٢) في (ب) : في الدلالة على صحة.

(٣) سيأتي مثاله فيمن يقتل معتديا فإن القتل كأنه من غير القاتل ؛ لأن الذي دعى إليه هو العدوان.

قلنا : الضّرر جنس الحدّ يشترك فيه جميع المضارّ الحسنة والقبيحة ، وينفصل بذلك عن المنافع المحضة ، فإنها (١) لا تعد ظلما. وقلنا : الذي يوصله الفاعل إلى غيره احترزنا بذلك عما يوصله إلى نفسه من المضارّ ؛ فإنه لا يعد ظلما على جهة الحقيقة ـ وإن جاز أن يجرى عليه ذلك مجازا ـ وذلك لأنّ قولنا : ظلم يستدعي ظالما ومظلوما وهما غيران ، والغيران هما كل شيئين ليس أحدهما هو الآخر ، ولا جملة يدخل تحتها الآخر. قلنا : ولا جملة يدخل تحتها الآخر احترازا عن مثل يد الإنسان فإنها (٢) لا تكون غيرا له لمّا كان الإنسان جملة تدخل تحتها يده. وقلنا : في حدّ الظّلم لا لنفع يصل إلى ذلك الغير ، ولا لدفع ضرر عنه احترزنا (٣) بذلك عمّا يكون فيه نفع كتأديب المؤدّبين للصبيان ؛ لأن يصلوا إلى المنازل الشريفة ، وعما يكون مفعولا لدفع ضرر أعظم منه ، نحو قطع اليد المستأكلة ، فإنّ جميع ذلك لا يعدّ ظلما. وقلنا : ولا لاستحقاق ؛ لأنّ ما يكون من المضارّ مستحقا لا يكون ظلما نحو الحدود وشبهها. قلنا : ولا للظّن لأحد الوجهين المتقدمين احترزنا بذلك عن المضار المفعولة لظنّ النفع ، أو لظنّ اندفاع الضرر بها ، نحو ما ذكرناه من تأديب المؤدّبين ، وقطع اليد المستأكلة ونحو ذلك ؛ فإن ذلك لا يكون ظلما وإن لم يوصل الى منفعة ، ولا اندفعت به مضرة متى كان مفعولا للظن لأحد هذين الوجهين (٤).

__________________

(١) في (ب) : وإنها.

(٢) في (ب) : فإنه.

(٣) في (ب) : احترازا ، وكذلك مثلها احترازا بعد خمسة أسطر.

(٤) في (ب) ، (ج) : لأحد الوجهين.

قلنا : ولا يكون في الحكم كأنّه من جهة غير فاعل الضرر سواء كان هو المضرور أو غيره ؛ لأنه متى كان ذلك (١) لم يكن ظلما ؛ ولهذا فإن من بطش بغيره بغير حق ولم يندفع ضرره إلّا بقتله جاز قتله دفعا للضّرر الحادث منه. ولا يكون قتله ظلما لمّا كان في الحكم كأنّه من جهة غير فاعل الضرر ، بل من جهة المضرور ، كذلك فإنّ من رمى بصبي في النار فاحترق فإنّ الاحتراق من الله تعالى ، وليس بظلم لمّا كان في الحكم كأنّه من جهة غيره بل من جهة الطّارح للصبي في النار. والذي يدلّ على صحة هذا الحد أنه يكشف عن معنى المحدود على جهة المطابقة ؛ ولذلك يطّرد المعنى فيه وينعكس ، وذلك من دلائل صحّة الحد ؛ فثبت أنّ العقاب لمن لا يستحقه يكون ظلما. وإنما قلنا بأن الظلم قبيح لما تقدم بيانه في أوّل مسائل العدل. وأما أنّ المجازاة بالثواب لمن لا يستحقه تكون قبيحة ؛ فلأنها تتضمن التعظيم لمن لا يستحقه. وتعظيم من لا يستحقّ التعظيم قبيح. وإنما قلنا : بأنها تتضمن التعظيم لمن لا يستحقه ؛ لأنّ الثواب هو المنافع العظيمة الخالصة الدائمة المفعولة على جهة الإجلال والتعظيم على ما يأتي بيانه في الوعد والوعيد إن شاء الله تعالى. وإنما قلنا : بأنّ تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح ؛ لأنه يقبح السجود للجمادات. وقبح ذلك معلوم بفطرة العقل ، وإنّما قبح ذلك لكونه تعظيما لمن لا يستحق التعظيم بدليل أن الحكم الذي هو القبح يثبت بثبوت ذلك ، نحو السجود للأصنام ، وينتفي بانتفائه ، نحو السجود لله تعالى. وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى. وقد شاركه المجازاة بالثواب لمن لا يستحقه في كونها تعظيما لمن لا يستحق التعظيم فيحب

__________________

(١) في الأصل : كذلك ، تعليقة كأنه من باب الظن.

أن يشاركه في القبح ؛ لان الاشتراك في العلة توجب (١) الاشتراك في الحكم وإلا عاد على أصل التعليل بالنقض والإبطال. فثبت أنّ المجازاة بالعقاب والثواب لمن لا يستحق ذلك تكون قبيحة. وإنما قلنا : بان الله تعالى لا يفعل القبيح لما قد حقّقناه وأوضحناه بحمد الله تعالى ، وبذلك يثبت الموضع الثالث.

وأما الموضع الرابع : وهو فيما يؤكد صحة مذهبنا ، ويوضح فساد

مذاهب (٢) المخالفين من أدلة الشرع.

فالذي يدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب : فكتاب الله تعالى ناطق بذلك نحو قوله تعالى : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠].

وقوله تعالى : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) [النجم : ٣٨ ـ ٤١] ، وقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) [المدثر : ٣٨] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [يونس : ٤٤] ، ولا ظلم أعظم من تعذيب من لا جرم له ، وقوله تعالى : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النمل : ٩٠] ، وقوله تعالى : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [النمل : ٩٠] ، فأوجب تعالى أنهم لا يحملون من خطايا الغير شيئا ، وقوله تعالى : (وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها) [الأنعام : ١٦٤] وقوله تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) [سبأ : ٥٠] ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [الجاثية : ١٥] وقوله تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) [البقرة : ٢٨٦] وأشباه

__________________

(١) في (ج) : يوجب.

(٢) في (ب) : مذهب.

ذلك مما صرّح فيه بأنه لا يؤاخذ أحدا بجرم غيره ، وأنه لا يثيبه إلا بعمله ، وأنه يعاقبه على عمله ، إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة : فكثير نحو ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أتدرون من اللّاهون من أمّتي؟» قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «نعم أولاد المشركين لم يذنبوا فيعذّبوا ، ولم يعملوا حسنة فيثابوا ، فهم خدم أهل الجنة» (١). ونحو ما روي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن أطفال المشركين؟ فقال : «لم تكن (٢) لهم حسنات فيجازوا بها فيكونوا من ملوك الجنة ، ولم يكن لهم ذنوب فيعاقبوا بها فيكونوا من أهل النار ، فهم خدم أهل الجنة (٣)». ونحو ما روي عن الأسود بن يزيد أنه قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرية فأسرعوا (٤) في القتل حتى أصابوا الولدان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألم أنهكم عن قتل الولدان؟» قالوا : إنّما هم من أولاد المشركين يا رسول الله! قال : «أو ليس خياركم أولاد المشركين»؟ ثمّ أمر مناديه فنادى ألا إنّ كلّ مولود يولد على الفطرة. وفي بعض الأخبار : «حتى يعرب عنها لسانها إما شاكرا وإمّا كفورا» (٥).

وروي عن ابن عباس أنه قال : أطفال المشركين في الجنة ؛ فمن زعم أنهم في النار فقد كذب (٦) ؛ لقول الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ

__________________

(١) روي أنهم خدم أهل الجنة. الطبراني في الأوسط ٥ / ٢٩٤ رقم ٥٣٥٥. وكشف الخفاء ١ / ١٣٦ رقم ٣٩٣.

(٢) في (ب) : لم يكن.

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره ج ١٤ / ص ٢١ وعزاه الى يحيى بن سلام.

(٤) في هامش الأصل : فأسرفوا ، ورمز ب ظ ، أي إنه ظن.

(٥) رواه مسلم ٤ / ٢٠٤٨. باختلاف يسير.

(٦) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٦ / ص ٥٢٦. بزيادة بل هم في الجنة.

قُتِلَتْ) [التكوير : ٧ ـ ٨] ، ومعنى قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) الموءودة كانت : إذا ولدت للجاهلية أنثى دفنوها حية مخافة العار والحاجة. وسؤالها توبيخ لقاتلها ؛ لأنها تقول : قتلت بغير ذنب. وأما الإجماع : فذلك لا خلاف فيه (١) بين المسلمين ثبت الموضع الرابع.

وأما الموضع الخامس : وهو في إيراد طرف مما يتعلق به المخالفون

من الآيات والأخبار المتشابهة ، وبيان ما يجوز فيها من المعاني الصحيحة ، فتعلقوا في ذلك بما رووه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ خديجة رضي الله عنها سألته عن أطفال كانوا لها في الجاهلية ، فقال : لو شئت لأسمعتك ضغاءهم في النار (٢).

والجواب : أنّ هذا الخبر من أخبار الآحاد فلا يصحّ التعلق به في هذه المسألة على ما تقدم بيانه. على أنّه إن صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمكن حمله على موافقة اللغة ، وذلك أنّ المراد بالاطفال البالغون فسمتهم أطفالا لقرب عهدهم بالطفوليّة قال الشاعر :

عرضت لعامر والخيل تردي

بأطفال (٣) الحروب مشمّرات (٤)

__________________

(١) فيه ساقطة في (ب) ، وفي هامشها فثبت ظ ، وهو الأصوب ..

(٢) في النهاية في غريب الحديث ٣ / ٩٢. والطبراني في الأوسط ٢ / ٣٠٢ برقم ٢٠٤٥ ؛ أنه قال لعائشة عن أولاد المشركين : إن شئت دعوت الله تعالى أن يسمعك تضاغيهم في النار» أي صياحهم. القاموس ص ١٦٨٣.

(٣) كأن الباء زائدة لإصلاح الوزن ، والأصل : تردي أطفال ؛ لأن الفعل يتعدى بنفسه.

(٤) في هامش الأصل : أو وجه أقرب من هذا ، وهو أنهم قد كانوا بلغوا الإدراك وكملت لهم علوم العقل ـ وإن لم يحصل البلوغ ؛ فإن البلوغ جعل مناطا للأحكام الشرعية من صحة المعاملة ونحوها ، وارتفاع الولاية عليه. على أن الإمام القاسم بن محمد رحمه‌الله صحّح ممّن كمل تمييزه كلّما يصح من البالغ ، واحتج بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ) ؛ فأما الأمور العقلية فإنه يخاطب بها إذا كمل تمييزه اتفاقا. ويروى أن رجلا

وتعلّقوا بقول الله تعالى : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) [النساء : ٥٦]. قالوا : فبيّن أنه يعذّب الجلود المبدّلة التي لم تكن حالة المعصية. والجواب : عن ذلك أنّ الظاهر لا تعلّق لهم به (١) لأنه تعالى لم يذكر أنه يعذّب الجلد وهو موضع تعلّق الخصم. وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنه يعيد جلودهم المعيّنة. ومعنى تجدّدها هو أن يزيل ما فيها من الاحتراق ، ويعيدها إلى ما كانت عليه. وقد يقال لما هذه حاله بأنه غيّر وبأنه بدّل. وقوله تعالى : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) ، أي ليجدوا ألم العذاب. وإنما سمّاه ذوقا ؛ لأن أجسامهم تتجدّد (٢) في كل وقت كإحساس الذائق في تجديد الوجدان من غير نقصان في الإحساس. وهو المروي عن الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين عليه‌السلام فإنّ في التفسير المضاف إليه أنّ معنى قول تعالى : (بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها). أي رددناها كما كانت أوّلا عند مماتها ودخولها في أجداثها. فكانت من قبل قد تمزقت وبليت وفنيت ، ثمّ ردّت ، على هيئتها وصورتها فأحرقت وعذّبت ثم أعيدت بعينها على هيئتها وصورتها الأولى فعذّبت أيضا ، فهي المعذّبة على الحقيقة ، والمعادة للعذاب على الدوام بعينها لا سواها. ولا يصحّ أن يقال إنّ المعاقب هو جلود غيرها لم تعص الله تعالى بذنب ؛ لأنّ الله تعالى يقول : (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)

__________________

قال للمنصور الدوانيقي : إنّ الطفل إذا حصل له بعض الإدراك رفع حوائجه إلى أمه ظنّا منه أنها منتهى النفع والضرر ؛ فإذا زاد إدراكه رفعها إلى أبيه ، فإن كبر يسيرا رفعها إلى والي بلده ، ثم إلى إمامه ، ثم إلى الله تعالى ، وإني قد رفعت حاجتي إلى والي بلدي فلم يصنع شيئا ، وها أنا قد رفعتها إليك فإن لم تنصفني فإني رافعها إلى المرتبة الثالثة [بعد والي البلد] فأشكاه المنصور. والمراد بيان ترقي الإدراك ، والله أعلم. تمّت.

(١) في (ب) ، (ج) : فيه.

(٢) في الأصل تعليقة : تجد

[النجم : ٣٨] وإنّما الجلود التي تبدّل هي الجلود التي عصت ، وفي النار أوّلا حرّقت. فهذا هو تفسيره عليه‌السلام. وفي ذلك قول آخر وهو أنّ الله تعالى يجدّد لهم جلودا غير جلودهم الأولى ، وهو الذي يقتضيه ظاهر التّلاوة. قال الحسن : ينضجهم في اليوم سبعين ألف مرة (١). وقال معاذ رحمه‌الله وقد سمع رجلا يقرأ هذه الآية بحضرة عمر تبدّل في ساعة (٢) مائة مرة : فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وذهب أهل هذين القولين جميعا سوى الهادى إلى الحق عليه‌السلام فلم يذكره بنفي ولا إثبات إلى أنّ الجلد لا يلحقه العذاب لوجهين : أحدهما أنه ليس في ظاهر الآية أن الله تعالى يعذب الجلد ؛ لأنه لم يذكر أنه يعذّب الجلد. والثاني ـ أن الجلد لا حياة فيه ولا يتألم بانفراده ، بل المتألّم الجملة التي يكون بها الإنسان هو ما هو ، دون الفضلات والسّمن والجلد والشّعر (٤). وإنما قلنا ذلك ؛ لأن الإنسان يلحقه حكم أفعاله في حال سمنه وهزاله ، وقبل نبات شعره وبعد زواله ؛ فالذم والمدح والأمر والنهي وغير ذلك يتعلق بالجملة دون الفضلات ؛ فدلّ ذلك على أن الإنسان هو غير هذه الفضلات ، وهو الجملة التي يكون بها الإنسان هو ما هو ، وهو الذي يعصي ويطيع ، وإليه يتوجه الثواب والعقاب دون الفضلات ، فهو المتألم بما يقع من الألم دون الفضلات ، ولهذا لو قطعت منه قطعة من جلده أو لحمه فأزيلت عنه لم يتألّم إلّا هو دونها ، فدلّ ذلك على أنه لا حياة فيها ، وإلا وجب أن تتألم (٥) عند الانفصال. ومعلوم أنه

__________________

(١) الدرّ المنثور ٢ / ٣١١.

(٢) في هامش الأصل : الساعة ، ظ.

(٣) الدر المنثور ٢ / ٣١١ ، والطبراني في الأوسط ٥ / ٧ برقم ٤٥١٧.

(٤) ينظر الماوردي ١ / ٤٩٧. بمعنى مقارب.

(٥) في (ب) : يتألم.

يتألم قبل انفصالها عنه وبعده فيشتبه (١) الحال عند اتصالها. والمتألم على الحقيقة هو الإنسان دونها.

وإذا ثبت ذلك لم يلحق العذاب الجلود ، بل يلحق الجملة التي يكون بها الإنسان هو ما هو ، وهو الذي يتعلق به الإعادة دون الفضلات ، وإذا كان كذلك سقط تعلّقهم بالآية. وسيأتي في ذلك مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى في باب الوعد والوعيد.

ومن ذلك قوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩]. قالوا : فبيّن أنه يؤاخذ بجرم الغير. والجواب : أن المعنى أنه أراد أن تبوء بإثمي يعنى بإثمك في قتلي ، وأضاف الإثم إلى نفسه ليميّز بين الإثمين. وقد ثبت عند أهل اللغة جواز إضافة الفعل إلى المفعول به ، كقولهم : ظلم زيد ، يعنى ظلمك لزيد ، وكقولهم : قتل زيد يعني قتلك لزيد ، فلما كان لهذا القاتل وهو قابيل إثم ؛ لأجله لم يقبل قربانه ، وإثم في قتله لأخيه هابيل ـ ميّز بينهما بأن أضاف أحدهما إلى قابيل وهو إثمه المانع من قبول قربانه ، وأضاف الإثم الأخر إلى نفسه ، أعني نفس هابيل ، ويدلّ على ذلك أنه جعل امتناعه عن قتله سببا ليبوأ بالإثمين ؛ لأنه لمّا امتنع من مقاتلته استحق القاتل وهو قابيل العقوبة على قتله لهابيل ، مع استحقاقه للإثم الأوّل الذي هو سبب ترك قبول قربانه. وهذا واضح بحمد الله (٢).

ومن ذلك قوله تعالى : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) [النحل : ٢٥]. قالوا : فأخبر تعالى أنه يحمّلهم أوزار غيرهم ، وأنّه يعذبهم لأجل فعل سواهم.

__________________

(١) في (ب) : فيشبه.

(٢) ينظر في معناه الكشاف ١ / ٦٢٤.

والجواب : أن ما ذكروه فاسد لدلالة العقل والكتاب والإجماع :

أما العقل : فقد دللنا على أنه سبحانه لا يجوز أن يفعل ما هو ظلم. والأخذ بجرم الغير ظلم ؛ فهو غير فاعل له.

وأما الكتاب ـ فقوله تعالى : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ١٢] ؛ فبيّن أنهم لا يحملون من خطايا الغير شيئا.

وقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤] إلى غير ذلك مما تقدم ذكره.

وأما الإجماع : فهو أن المتعارف أنّ من حمل من ثقل غيره فإن ذلك يكون تخفيفا عنه ، وكذلك من حمل عين (١) وزره سقط عنه. والإجماع منعقد بين الأمة على خلاف ذلك ؛ وإذ قد دللنا على فساد تأويلهم فلنبيّن معنى الآية فنقول : إنّ معناها أنهم يحملون مثل أوزار أتباعهم ؛ لإغوائهم إيّاهم وإضلالهم لهم ، وذلك لأنّهم فعلوا فعلين : أحدهما ضلالهم في أنفسهم ، والآخر إغواؤهم لأتباعهم ؛ فاستحقّوا قسطين من العذاب ، وتحمّلوا حملين من الوزر. وأما إضافة ذلك إلى الأتباع بقوله : (وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] فإنّما فعل ذلك ؛ للتمييز بين ما يحملونه من الوزر في أنفسهم ، وبين ما يحملون لإضلالهم إيّاهم ، ولو أضاف إليهم لم يكن بين الأمرين فرق. وذلك شبيه بقوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) [المائدة : ٢٩] ، على ما تقدم تفسيره. ومثل ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ومن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من وزرهم شيء (٢)». وروي : «ومثل وزر من عمل

__________________

(١) في (ب) : غيره ، وبناء عليه فتضبط من حمّل غيره وزره. وهو واضح.

(٢) أخرجه أحمد بن حنبل ٧ / ٥٦ برقم ١٩١٧٧ عن جرير عن أبيه ، ومجمع الزوائد ١ / ١٦٧ ، وابن ماجة ١ / ٧٤ رقم ٢٠٤ ، ٧٥ ، ٢٠٧. بلفظ : من أوزارهم.

بها» (١) ، ولهذا قال علماؤنا : تعظم المعصية لأجل ما يقارنها من التّأسّي في المستقبل وغير ذلك ، وكذلك الطاعة. والشيء قد يسمّى باسم الشيء إذا كان مثله عند أهل اللّغة ، كقول القائل : صغ هذا الخاتم صياغة فلان ، أي مثل صياغته. وقال الشاعر :

فلست مسلّما ما دمت حيّا

على زيد بتسليم الأمير

أي مثل تسليم الأمير ، ومثل ذلك قول الله تعالى : (فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) [الواقعة : ٥٥] يعني مثل شربها. والهيم الإبل العطاش. فسقط قولهم.

ومن ذلك قول الله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] وهذا يدل على أنه يحمّلهم أثقال غيرهم ؛ ويدلّ على أنه يؤاخذهم بجريرة غيرهم. والجواب عن ذلك أنّ تفسيرهم هذا فاسد ؛ لدلالة العقل والقرآن والإجماع ، على ما تقدم تحقيقه ، ولوجه آخر وهو أنّ ظاهر الآية لا تعلّق لهم فيه ، وذلك لأنه تعالى ابتدأ فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ١٢]. ثم قال : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) فقد صرح تعالى بأنهم يحملون أثقالهم ، وقوله : (وَأَثْقالاً) كلام مبهم ليس فيه أنه من أثقال غيرهم ؛ إذ لو كان كذلك لكان مناقضا لقوله في أوّل الآية (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ).

وعلى الجملة فالحمل هو التّحمّل لشيء له ثقل. والوزر في أصل اللغة أصله الثّقل (٢) فمتى جعلوا الحمل والوزر على غير ذلك كان تركا للظاهر

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ١ / ٧٤ رقم ٢٠٣ ، ورقم ٢٠٥ ، ٢٠٦.

(٢) مختار الصحاح ٧١٩.

بإجماع ؛ ولأنّ من حمل من ثقل غيره فقد خفّف عنه من ذلك. والإجماع منعقد على أنّه لا يخفّف عن المحمول عنهم من أوزارهم ؛ لأنّهم يقولون : إنّ هؤلاء يحملون من أوزارهم من غير أن يخفّف عنهم ، وهذا خلاف الظاهر ، وإذا كان كذلك سقط تعلّقهم بالآية.

وأما معنى الآية فقوله تعالى : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) يعني فيما اكتسبوه (١) من الكفر والعصيان ، وقوله : (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ). الأولى وهي على ما أضافوه إليها ثانيا من استغوائهم للمؤمنين ، ودعائهم إياهم إلى الكفر ، وضمانهم عنهم حمل أوزارهم وعلى هذا التفسير لا يتناقض أول الآية وآخرها. وهو أيضا موافق لدلالة العقل والقرآن والإجماع ؛ فبطل قولهم من كل وجه ، وصحّ مذهبنا بحمد الله تعالى. وعلى هذا النسق يجرى الكلام فيما يتعلقون به.

مسألة في الاستطاعة : والكلام منها (٢) يقع في موضعين :

أحدهما في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثاني في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون.

أما الموضع الأول ـ وهو في حكاية المذهب وذكر الخلاف :

فاعلم أنّا نعتقد أن الله تعالى كلّف عباده ما يطيقون ، وأنه تعالى قد أقدرهم على ما كلّفهم ، وأنّ قدر العباد متقدّمة على مقدوراتهم ، وغير موجبة لها ، بل هي تمكين لهم : فإن شاءوا فعلوها ، وإن شاءوا تركوها ، وليسوا بمضطرّين إلى فعلها ، بل هم مختارون في الفعل والترك. وهذا قول جميع العدلية. وذهبت المجبرة القدرية إلى النقيض مما تقدم.

__________________

(١) في (ب) : اكتسبوا.

(٢) في (د) : فيها ، وهو الأظهر.

وأما الموضع الثاني ـ وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالفون. فإذا أردنا ذلك تكلّمنا في ستة مواضع : أحدها في أنّ العباد قادرون. والثاني أنّ كونهم قادرين إنّما يثبت لهم لمعان تحلّ فيهم وهي القدر.

والثالث في أنّ القدر من الأعراض الباقيات ، وأنّها متعلقة بالضّدّين ؛ فالقدرة على الحركة قدرة على السكون. والقدرة على السكون قدرة على الحركة ، وكذلك سائر الأفعال المتضادّة كالعلم والجهل ، والإرادة ، والكراهة ونحوها ، بمعنى أنّه يمكن إيجاد كلّ واحد من الضّدّين بدلا عن صاحبه. والرابع أنّها متقدمة على المقدورات ، وغير موجبة لها. والخامس في بيان طرف ممّا يؤكد ذلك من أدلة الشرع. والسادس فيما يتعلقون به من الآيات المتشابهة وبيان معانيها.

أما الموضع الأول ـ وهو (١) أنّ العباد قادرون. فالذي يدلّ على ذلك أنّا قد بيّنّا أنّ العباد هم المحدثون لأفعالهم وتصرفاتهم ، بمعنى أنه كان يمكنهم قبل إحداثها أن يحدثوها وأن لا يحدثوها ، وأن العلم بذلك على سبيل الجملة ضروري ، وهو أحد علوم العقل. وبيّنّا في بيان الصفات أن كل من صحّ منه الفعل يجب أن يفارق من تعذّر عليه ذلك بمفارقة لو لا ها لما صحّ منه ما تعذّر على الآخر ، وأنّ تلك المفارقة هي التي عبّر عنها أهل اللغة بكونه قادرا.

وأما الموضع الثاني ـ وهو أنّ كونهم قادرين إنما يثبت لمعان تحلّ فيهم وهي القدر والذي يدلّ على ذلك أنه قد ثبت كون الواحد منّا قادرا ، فلا يخلو أن يكون قادرا لذاته كما يقول النّظّام ومن تابعه ، أو لا لذاته. باطل أن

__________________

(١) في (ب) : وهو في.

يكون قادرا لذاته ، ولا لما هو عليه في ذاته ؛ لأنّه لو كان كذلك لما صحّ خروجه عنها ما دامت ذاته ، وما دام موجودا. ومعلوم خلاف ذلك. وإذا كان قادرا لغيره فلا يخلو أن يكون قادرا بالفاعل أو لعلّة. باطل أن يكون قادرا بالفاعل ؛ لأنه كان يجب أن يصحّ الفعل بكل جزء من أجزاء الفاعل ؛ لأن الصفة بالفاعل ترجع إلى الأجزاء دون الجمل ، ولو كان كذلك لكان يجب أن يكون الواحد منا بمنزلة قادرين ؛ لرجوع هذه الصفة إلى كل جزء من أجزائه.

ومعلوم خلاف ذلك فلم يبق إلا أن يكون قادرا لعلة ثم لا تخلو (١) أن تكون موجودة أو معدومة ، والموجودة لا تخلو أن تكون قديمة أو محدثة. باطل أن يكون قادرا بقدرة معدومة أو قديمة ؛ لأنه يكون في تصحيحها إبطالها ، وكل ما كان في تصحيحه إبطاله فهو باطل على ما تقدم بيان ذلك كلّه ، فلم يبق إلا كون العباد قادرين لمعان تحلّ في أبعاضهم وهي القدر.

وأما الموضع الثالث ـ وهو أن القدر من الأعراض الباقيات وأنها متعلقة بالضدين على الوجه الذي ذكرناه. أمّا إنها من قبل الباقيات فلأنّ من طولب برد الوديعة التي عنده ثم مضى من الوقت مقدار ما يقطع به تلك المسافة ولم يردّها ـ فإن العقلاء يذمّونه على ذلك ، ويعلمون بضرورة العقل حسن ذمّه على الإخلال بردها بعد ذلك ، فلو لا أنّ قدرته حالة المطالبة بردها باقية إلى مضيّ الوقت الذي يمكنه قطع المسافة لما صحّ أن يذمّه العقلاء على الإخلال بردها ؛ لأنه يكون ذمّا للغير على ما لا يقدر عليه ، وذلك قبيح بلا خلاف. وسائر ما يدلّ به على أنها متعلقة بالضدين يدلّ على أنها باقية ، والذي يدل على أنها متعلقة بالضدين أن القول بأنها غير متعلقة بالضدين يؤدي إلى المحال ، وما أدى

__________________

(١) في (ب) : يخلو.

إلى المحال فهو محال. وإنّما قلنا : بأنّ القول بأنها غير متعلقة بالضدين يؤدّي إلى المحال ؛ لأنه كان يجوز أن يكون بعض الناس قادرا على نقل عشرين ألف رطل من حديد إلى جهة يمنة ، ولا يكون قادرا على نقل ريشة إلى جهة يسرة ، وأن يكون بعض الناس قادرا على مشي مائتي فرسخ في جهة يمنة ، ولا يقدر على مشي خطوة واحدة في جهة يسرة ، بأن تحصل فيه القدرة على أحد الضدين ولا تحصل القدرة للآخر ، ومعلوم ضرورة استحالة ذلك وبطلانه ، فثبت أنه يؤدّي إلى المحال. وإنّما قلنا : بأنّ ما أدى إلى المحال فهو محال فلأنّ في صحته صحة المحال وفي ثبوته ثبوت المحال ، فثبت أنّ القدرة متعلقة بالضدين.

وأما الموضع الرابع ـ وهو أن القدرة متقدمة على المقدورات ، وغير موجبة لمقدوراتها فالذي يدل على ذلك أنها لو كانت موجبة لمقدورها وغير متقدمة عليه لما كلّف الله الكافر الإيمان. ومعلوم أنّه قد كلّفه الإيمان فثبت أنها متقدمة على المقدور ، وغير موجبة له. وإنّما قلنا : إنها لو كانت موجبة لمقدورها وغير متقدمة عليه لما كلّف الله الكافر الإيمان. فالذي يدل على ذلك أنّ تكليف ذلك ـ والحال هذه ـ تكليف ما لا يطاق وهو قبيح. وإنّما قلنا : إنه يكون تكليفا لما لا يطاق ؛ لأنه متى لم يمكنه الانفكاك عن الكفر لمكان (١) القدرة الموجبة له أو لغيرها من المعاني كما يذهب إليه المتأخرون من الجبرية ، ولم تخلق فيه قدرة الإيمان في حال كفره على قولهم ـ كان تكليفه بالإيمان والانفكاك من الكفر ـ والحال هذه ـ تكليفا لما لا يطاق لا محالة ؛ لأنّا لا نعني بتكليف ما لا يطاق إلا تكليف ما لا يمكن ولا قدرة عليه ، إذ الطاقة هي القدرة والاستطاعة. وإنّما قلنا : بأنّ تكليف ما لا يطاق قبيح ، ونريد بذلك أنّ

__________________

(١) في (ب) : لما كانت.

البعث بالأمر والنهي على ما لا يمكن قبيح جريا على قول المجبرة : إن التكليف هو الأمر والنهي ، ومخالفة لمن أجاز منهم تكليف ما لا يطاق بهذا المعنى الذي ذكرناه (١).

والذي يدل على قبح تكليف ما لا يطاق بهذا المعنى أنّه يعلم باضطرار قبح تكليف الأعمى بنقط المصاحف ، ومن لا جناح له بالطيران ونحو ذلك ؛ ولهذا يشترك العقلاء في العلم بقبح ذلك ، ويعدّون من طلب ذلك من الغير أو أمر به (٢) ضعيف العقل ويذمّونه على ذلك ، وليس ذلك إلّا لعلمهم بقبح ما ذكرناه ، وإنما قبح ذلك لكونه تكليفا لما لا يطاق ، بدليل أنّ الحكم الذي هو القبح يثبت بثبوت ما ذكرناه ، وينتفي بانتفائه وليس هناك (٣) ما تعليق الحكم به أولى. وقد شاركه تكليف الكافر الإيمان ـ والحال هذه ـ في كونه تكليفا لما لا يطاق كما تقدم ، فيجب أن يشاركه في كونه قبيحا ؛ لأنّ الاشتراك في العلّة يوجب الاشتراك في الحكم. وقد بيّنّا في ما تقدم أنه لا يجوز ثبوت وجه القبح مع انتفاء القبح ، وبيّنّا أنّ القبيح يقبح (٤) من أي فاعل وقع منه. وقد ثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح ، فثبت أنّ القدرة لو كانت موجبة لمقدورها وغير متقدّمة عليه لما كلّف الله تعالى الكافر الإيمان.

__________________

(١) في (ب) : ذكرنا.

(٢) في (ب) : وأمر به.

(٣) في (ب) هنالك.

(٤) في (ب) : أن القبح يقبح.

وأما الأصل الثاني : وهو أنّ الله تعالى كلّف الكافر الإيمان فذلك ظاهر ؛

فإنا نعلم من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة أنّ الكفار مكلفون بالإيمان ؛ ولذلك نسب من لم يؤمن إلى الجحود والكفر والتكذيب ، وألحق بهم الوعيد الشديد ، فلا يكون هذا إلّا مع التكليف.

وأما الموضع الخامس :

وهو في إيراد طرف مما يؤكّد ذلك من أدلة الشرع

فيدل عليه قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة : ٢٨٦] ، والوسع دون الطاقة. قال الشاعر :

كلفتها الوسع في سيري لها أصلا

والوسع منها دوين الجهد والوخد (١)

وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) [الطلاق : ٧] ، وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] ، وقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، وقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] ، والحرج هو الضيق.

وقد أخبر الله تعالى أنّ المنافقين أخبروا عن أنفسهم بنفي استطاعتهم للخروج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحلفهم بأنهم لو استطاعوا ، لخرجوا وكذّبهم (٢) تبارك وتعالى في ذلك. فقال عز قائلا : (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [التوبة : ٤٢] فلو كانت القدرة موجبة لمقدورها لكانوا صادقين في قولهم : (لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا

__________________

(١) يتحدث عن الناقة ، والوخد نوع من السير. وفي (ب) : دون ، وهو يزحف البيت.

(٢) في (ب) : وأكذبهم.

مَعَكُمْ) ؛ لأنّ المستطيع للشيء فاعل له لا محالة على هذا القول. فلمّا أكذبهم الله تعالى في ذلك دلّ على أنهم كانوا مستطيعين للخروج ، وقد يستطيعون الخروج ـ وإن لم يخرجوا ـ وذلك يقضي بتقدم القدرة على مقدورها ، وأنها غير موجبة له ، وأنها قد توجد بدونه ، إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة : فكثير ، نحو ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : سأل موسى ربّه أيّ عبادك أعزّ؟ قال : الذي إذا قدر غفر (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال حاكيا عن ربه عزوجل : يا ابن آدم أنا أولى بإحسانك منك ، وأنت أولى بذنبك منّي ، لم أدع تحذيرك ، ولم آخذك على غرّتك ، ولم أكلّفك فوق طاقتك (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «عليكم من الأعمال بما تطيقون» (٣) ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤) إذا أمرتم بأمر فأتوا به ما استطعتم» (٥). وعن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيعجز أحدكم أن يعمل كلّ يوم مثل أحد؟ قالوا : ومن يستطيع ذلك يا رسول الله؟ قال : «كلّكم يستطيعه. قالوا : ما ذا يا رسول الله؟ قال : «سبحان الله أعظم من أحد. لا إله إلا الله أعظم من أحد. الحمد لله أعظم من أحد. والله أكبر أعظم من أحد» (٦). وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال في خطبته الغرّاء في

__________________

(١) أخرجه الحر العاملي في الجواهر السنية ص ٦٤ عن الباقر (ع) قال : مكتوب في التوراة فيما ناجى الله موسى (ع) : يا موسى أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكفّ عنك غضبي. قال موسى : يا رب أي عبادك أعز عليك؟ قال : الذي إذا قدر عفا.

(٢) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية ص ٢٧٩.

(٣) مسلم ١ / ٥٤٢ برقم ٧٨٥ ، وأحمد بن حنبل ١٠ / ٣١ برقم ٢٥٨٣٠.

(٤) في (ب) : بزيادة «أنه قال».

(٥) الدار قطني مج ١ ج ٢ ٢٨١. وفتح الباري ١٣ / ٢٦١ باختلاف يسير.

(٦) أخرجه الطبراني ١٨ / ١٧٤ رقم ٣٨٩. والبزار ٢ / ٤٠٠ رقم ٢٠٩٣ و ٢٠٩٤.

موضع العدل منها بعد ذكر الخلق وبيان التوحيد : ثمّ أمر بتربيته إلى كمال تقويته ، وأسبغ عليه النّعم ، ووضع عليه القلم عند حال البلوغ ، فلم يكلّفه ما لا يطيق ، أنظره بالأمر ، ومدّ له في العمر ، ثمّ كلّفه دون الجهد ، ووضع عنه ما دون العمد. وقد أطلقه للفكر ، وحثّه على النّظر ، بعد وصفه له للأدلّة ، وإزاحته له كلّ علة. إلى غير ذلك من السنة.

وأما الإجماع : فذلك ممّا لا خلاف فيه بين الصحابة والتابعين وهو قول أهل البيت المطهرين (ع).

وأما الموضع السادس :

وهو فيما يتعلقون به من الآيات المتشابهة ، وبيان معانيها

فمن ذلك قوله تعالى : (أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ) [هود : ٢١] وقوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) [الكهف : ١٠١] ، قالوا : فأخبر أنهم لم يكونوا يستطيعون السمع وكانوا مع ذلك مكلفين (١).

والجواب أنّ الظاهر لا تعلّق لهم فيه ؛ لأنّ الظاهر يقتضي نفي استطاعتهم السمع. والسّمع ليس بفعل للعبد في الحقيقة ، ولا يصح أن تكون (٢) له قدرة

__________________

ولفظه : أما يستطيع أحدكم أن يعمل كل يوم مثل أحد عملا؟» قالوا : يا رسول الله ومن يستطيع أن يعمل كل يوم مثل أحد عملا؟ قال : «كلكم يستطيعه» ، قالوا : يا رسول الله ما ذا؟ قال : «سبحان الله أعظم من أحد ، ولا إله إلا الله أعظم من أحد ، والحمد لله أعظم من أحد». قال في مجمع الزوائد ١٠ / ٩٠ بعد ما عزاه إليهما : ورجالها رجال صحيح.

(١) يتظر الرازي مج ١١ ج ٢١ ص ١٧٤.

(٢) في (ب) ، (ج) : يكون.

عليه ، فلو ذمّهم الله تعالى على ذلك لكان قبيحا جاريا مجرى ذمّ الأعمى على كونه أعمى. وإذا كان كذلك وجب صرف ذلك إلى ما هو من فعلهم ، وهو استثقالهم الاستماع ، وإعراضهم عنه ، وتركهم للتّفكّر فيه ، وأخبر تعالى عن ذلك بنفي الاستطاعة مبالغة في الوصف. ومن ذلك قوله تعالى : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٤٨].

والجواب : أن معنى ذلك أنّ حيل المشركين ضلّت ، فلم يقدروا أن يحتالوا له حيلة إلّا قولهم إنه ساحر مجنون.

مسألة : ونعتقد أنّه تعالى مريد وكاره وفيها ثلاثة فصول :

أحدها في الدلالة على أنه تعالى مريد وكاره. والثاني في الدلالة على أنه تعالى لا يريد الظّلم ولا يرضى الكفر ولا يحبّ الفساد. والثالث في إيراد ما يتعلّق به المخالف وإبطاله ممّا حمل عليه الآيات المتشابهة :

أما الفصل الأول ـ وهو في الدلالة على أنه تعالى مريد وكاره

فالذي يدل على ذلك أنه آمر وناه ومتهدّد ، وكل من كان كذلك فإنه يجب كونه مريدا وكارها ، وإنما قلنا : بأنه آمر وناه ومتهدد ؛ لأنّ ذلك ممّا أجمع عليه المسلمون ، وعلم من ضرورة الدّين ، ونطق به القرآن المبين. وإنّما قلنا : بأنه لا يكون كذلك إلا وهو مريد وكاره ؛ لأنّ كونه مريدا وكارها داخل في حقائق هذه الأمور ، وإذا كان داخلا في حقائقها وجب أن يكون مريدا وكارها.

وإنّما قلنا : بأن كونه مريدا وكارها داخل في حقائق هذه الأمور بدليل أنّ الأمر هو قول القائل (١) لغيره افعل أو ليفعل ، أو ما يجري مجراهما على جهة

__________________

(١) في (ب) : أن الآمر هو القائل.

الاستعلاء دون الخضوع ، مع كون المورد للصيغة مريدا لما تناولته. قلنا : هو قول القائل لغيره ؛ لأنه لا يكون آمرا لنفسه. قلنا : افعل ؛ لينفصل عن النهي ، ويكون أمرا للحاضر. قلنا : أو ليفعل ؛ لئلّا يخرج عنه أمر الغائب.

قلنا : أو ما يجري مجراهما نريد بذلك الأمر بصيغة تصلح للاثنين والجماعة والمؤنث والمذكّر غير الواحد. قلنا : على جهة الاستعلاء دون الخضوع احترازا (١) من السؤال والدعاء ؛ فإنه وإن كان بهذه الصيغة ؛ فإنه ليس على جهة الاستعلاء فلا يكون أمرا. قلنا : مع كونه مريدا لما تناولته الصيغة لينفصل بذلك عن التهديد بصيغة الأمر فإن التهديد بصيغة الأمر قول القائل لغيره : افعل أو ليفعل أو ما يجري مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كونه كارها لما تناولته الصيغة ، نحو قول المعلّم للصبيان : العبوا ، وهو لا يريد اللّعب لهم ، بل يكرهه منهم.

وأما النهي : فهو قول القائل لغيره : لا تفعل أو لا يفعل أو ما يجري مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كونه كارها لما تناولته الصيغة. والاحترازات فيه على نحو ما تقدم. إلّا أنّ قولنا : لا تفعل أو لا يفعل فصل له عن الأمر وعن التهديد بصيغة الأمر. وقلنا : مع كونه كارها لما تناولته الصيغة فصلا له عن التهديد بصيغة النهي ؛ فإنّ التهديد بصيغة النهي هو قول القائل لغيره : لا تفعل أو لا يفعل أو ما يجري مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كونه مريدا لما تناولته الصيغة نحو قول المعلم للصبيان : لا تقرءوا. وهو يريد القراءة. وقد دخلت حقيقة التهديد في الأمر والنهي لمّا كان منقسما قسمين : تهديد بصيغة الأمر ، وتهديد بصيغة النهي. فثبت أنّ كونه

__________________

(١) في (ب) : احتراز. على تقدير مبتدأ. أي هذا احتراز. والنصب مفعول لأجله ، وهو أولى.

مريدا وكارها داخل في حقيقة كونه آمرا وناهيا ومتهددا.

وإنّما قلنا : بأنه متى كان كذلك لم يجز أن يكون آمرا وناهيا ومتهددا إلّا وهو مريد وكاره ؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لعاد على ما علم من حقيقة الأمر والنهي والتهديد بالنقض والإبطال ، وذلك محال. يبيّن ذلك ويوضّحه أنّ قوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] تهديد بلا خلاف ، وقوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) [سبأ : ١٣] أمر بلا خلاف ، وهما على سواء في كونهما صيغتي أمر. فلو لا أنّه مريد لما تناولته إحداهما ، وكاره لما تناولته الأخرى لما كان بينهما فرق. ولكانا أمرين معا أو تهديدين معا ، وذلك محال. فثبت أنه تعالى مريد وكاره. وإذا ثبت ذلك فإنه تعالى يريد جميع أفعاله سوى الإرادة والكراهة عند القائلين بأنه تعالى مريد بإرادة هي غير المراد من فعله تعالى.

فأما عند النّافين للفصل بين الإرادة والمراد فعندهم أنه تعالى مريد لجميع أفعاله ، فحصل من ذلك إجماع المسلمين على أنه تعالى مريد لأفعاله على التفصيل الذي فصّلناه. وقد ذهبت المطرّفية إلى أنه تعالى لا يريد أكثر أفعاله ، ولا يقصدها ، بل وقع كثير منها من غير أن يريده ولا يقصده. وقولهم خارج عمّا عليه أهل الإسلام فلا عبرة به.

وأما أفعال غير الله تعالى فإنه يريد منها الطاعات دون ما عداها من المعاصي وسواها ؛ لأنّه أمر بالطاعات ولا يكون آمرا إلا مع كونه مريدا كما تقدم بيانه. ولا يجوز أن يريد المعاصي ؛ لأن في كونه مريدا لها إدخال النقص عليه كما تقدم بيانه ، حيث بيّنّا أنّه تعالى لا يريد القبائح والحمد لله تعالى.

وأما الفصل الثاني وهو أنه تعالى لا يريد الظلم ، ولا يرضى الكفر ، ولا يحب الفساد

فهذه عقيدتنا أهل البيت ، وهي عقيدة العدليّة جميعا. والخلاف في ذلك مع المجبرة القدرية ؛ فإنهم ذهبوا إلى أن الله تعالى مريد لكل ما يحدث في العالم من أفعال المخلوقين ، سواء كان حسنا أو قبيحا ، وأنّه ما أراد ما لم يحدث سواء كان إيمانا أو غيره. وصرّح الحسن بن أبي بشر الأشعري بأنه تعالى رضي الكفر وأحبّه ، وهو مذهب أتباعه (١). والذي يدلّ على صحّة ما ذهبنا إليه يتّضح بأن نتكلّم في أربعة مواضع : أحدها : أنّ الرضى والمحبّة والإرادة ألفاظ مترادفة على معنى واحد. والثاني : أنّ إرادة القبيح قبيحة. والثالث : أنّه تعالى لا يريد القبيح. والرابع : في إيراد ما يتعلق به المخالفون وإبطاله ، ويدخل في ذلك طرف مما يذكرونه من الآيات المتشابهة.

أما الموضع الأول :

وهو في أنّ الرضى والمحبة والإرادة ألفاظ مترادفة (٢) على معنى واحد.

فالذي يدلّ على ذلك أنه لا يجوز أن يثبت بأحد اللفظين وينفى باللفظ

__________________

(١) الإبانة ص ١٨٢. والإرشاد للجويني ص ٢١١ حيث قال : ومن أئمتنا من يطلق ذلك عاما ولا يطلقه تفصيلا ، وإذا سئل عن كون الكفر مرادا لله تعالى ، لم يخصص في الجواب ذكر تعلق الإرادة به ، وإن كان يعتقده ، ولكنه يجتنب إطلاقه لما فيه من إيهام الزلل ؛ إذ قد يتوهم كثير من الناس أن ما يريده الله تعالى يأمر به ، ويحرض عليه تعالى الله عن ذلك. قلت : ولله القائل :

وكيف نهانا عنه وهو يريده

مقالة أفاك يقول ولا يدري

(٢) في دعوى ترادف المحبة والإرادة نظر ؛ فإنه يجوز أن يخلق الله تعالى فينا إرادة لما لا داعي إليه كدخول النار فإنها تسمى إرادة ولا تسمى محبة. تمت السيد عبد الرحمن شائم.

الآخر ، فلا يجوز أن تقول : أحبّ أن تأكل طعامي ولا أريد ذلك ولا أرضاه ، ولا أن تقول أريد ذلك ولا أحبّه ولا أرضاه ؛ بل يعدّ من قال ذلك مناقضا لكلامه ، جاريا مجرى من قال : أريد ذلك ولا أريده ، [وأرضاه] (١) ولا أرضاه ، وأحبه ولا أحبه. فصحّ أنّ معنى هذه الالفاظ واحد.

وأما الموضع الثاني : وهو أنّ إرادة القبيح قبيحة

فالذي يدل على ذلك أنه لو كان مريدا للقبائح لكان حاصلا على صفة من صفات النقص ؛ وذلك لا يجوز. وإنّما قلنا : بأنه لو كان مريدا للقبائح ؛ لكان حاصلا على صفة من صفات النقص. فالذي يدل على ذلك أنا متى اعتقدنا في شخص من الأشخاص أنه من أهل الفضل والدين ، وكنا نركن إليه في أمورنا ، ونعتمد عليه في أحوالنا ، ثم حكى لنا من نفسه أنه يريد القبائح نحو ما يجري في الأرض من الظلم والجور والفساد ، فإن منزلته تسقط عندنا ، كما تسقط لو فعل ذلك ، وليس ذلك إلا لأنه أتى قبيحا ، وهي (٢) إرادته للقبائح ، وهذه قضية ظاهرة ؛ فإنّ العقلاء يعلمون ذلك بعقولهم ، فإذا كان الله تعالى مريدا للقبائح على قولهم كان حاصلا على صفة من صفات النقص. وهذا أمر لا خفى به. وإنّما قلنا : بأن ذلك لا يجوز على الله تعالى لما تقدم ذكره في فصل الرؤية من أنّ النقائص لا تجوز عليه تعالى.

وأما الموضع الثالث : وهو في الدلالة على أنه تعالى لا يريد القبائح.

فيدل على ذلك وجوه : منها قول الله سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ

__________________

(١) ما بين القوسين محذوفة في (ب).

(٢) في (ب) ، (ج) : وهو.

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ، وفي هذه الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد المعاصي من وجوه خمسة : أحدها أن الله تعالى حكى صريح مذهب المجبرة عن المشركين ، وردّ عليهم ، وكذّبهم بقوله : (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). الثاني قوله تعالى : (حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) والبأس هو العذاب ، والعذاب لا يستحقّ إلا على الباطل. والثالث قوله : (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) ، وهذا مما لا يقال إلا للمبطل ؛ لأنّ المبطل يقول ما لا يعلمه. والرابع قوله تعالى : (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) ، ولا شك أنّ هذا ذم لهم على اتّباع الظن الذي لا يغني من (١) الحق شيئا. والخامس قوله تعالى : (وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ـ أي تكذبون. يدل عليه قوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠] ـ أي لعن الكذابون (٢). فكان ذلك دليلا على عظم خطإ من يقول بهذه المقالة.

ومنها قوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] ، فنفى إرادة الكفر والفساد عن نفسه ؛ لأنّ الرضى والمحبة راجعان إلى الإرادة كما تقدم بيانه حيث بيّنّا أنّها ألفاظ مترادفة على معنى واحد. ومنها : قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١]. ومنها : قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ١٠٨] ، فالله تعالى نفى عن نفسه إرادة كلّ ظلم على العموم ، وإثبات ما نفاه الله تعالى عن نفسه لا يجوز ؛ لأنه يكون تكذيبا للصادق وذلك لا يجوز ، ولأنّ إثبات ما نفاه الله تعالى عن نفسه يكون نقصا

__________________

(١) في (ب) : عن.

(٢) في (ب) : الكاذبون.

على ما تقدم بيانه. والنقائص لا تجوز عليه تعالى بإجماع المسلمين.

ومنها : قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً* وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً* كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) [الإسراء : ٣٦ ـ ٣٨]. ولن تكون مكروهة له تعالى إلّا وهو كاره لها. وقال تعالى : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) [التوبة : ٤٦] ، وإذا كان تعالى كارها للمعاصي لم يكن مريدا لها. ولا خلاف بين العدلية في أنّ إرادته تعالى محدّثة ، وكذلك كراهته ، بل هم مجمعون على أنّ إرادته محدثه ، وكذلك كراهته ، وأنّ الإرادة والكراهة فعل من أفعاله وإن اختلفوا (١) ؛ فمنهم من جعل الإرادة غير المراد ، والكراهة غير المكروه ، ومنهم من قال : إنّ إرادته لفعله هي مراده ، فمعنى وصفه لله تعالى بأنّه مريد أنّه فعل ما فعله وهو عالم به ، وغير ساه عنه ، ولا مغلوب عليه ، فلم يمتنع أن يكون مريدا لأفعاله كلّها على هذا المعنى ؛ فليس هذا مما يجب معرفة تفصيله على كلّ أحد ، فبطل بذلك قول المجبرة القدرية.

وأما الموضع الرابع : وهو في إيراد ما يتعلّق به المخالف وإبطاله

ويدخل في ذلك طرف مما يتعلّق به المخالف من الآيات المتشابهة. فاحتجّ المخالف لقوله بأن قال : لو وقع في ملك الله ما لا يريده لكان ضعيفا عاجزا. والجواب ـ أنّ ما ذكره المخالف لا يصحّ ؛ لأنّا نقول له : إنما يدلّ على عجزه وضعفه لو وقع على سبيل المغالبة. ولا شك أنّ الله تعالى قادر على منع العصاة من القبيح ؛ لكن لو منعهم بالقهر لبطل التكليف ؛ ولأن الله تعالى قد

__________________

(١) يظهر من الأمير الحسين (ع) ـ المؤلف ـ الميل إلى التوقف في معنى الإرادة كما هو المروي عن أخيه الإمام الحسن بن بدر الدين والإمام المنصور محمد بن المطهر (ع).

أمر بالطاعة ، ونهى عن المعصية ، فوجد في ملكه ما نهى عنه ، ولم يوجد ما أمر به ، فكما أنّ ذلك لا يدل على ضعفه وعجزه فكذلك في مسألتنا.

وتعلّقوا بقول الله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] ، وبقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) ، وبقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [يونس : ٩٩] ، وبقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) [البقرة : ٢٥٣] ، إلى قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [البقرة : ٢٥٣]. قالوا : فأعلمنا أنه لو شاء أن لا تكون هذه المعاصي لما كانت ، فدلّ على أنه قد شاء كونها وفعلها (١).

والجواب : أنه لا تعلّق لهم بالظاهر لأنه ليس فيه أكثر من أنّه تعالى لو شاء ألّا يفعلوا ذلك لما فعلوه. وهذا مما لا خلاف فيه ، ولكن من أين أنّه يدل على أنه قد شاء ما فعلوه ، وليس في الآية منه ذكر ، وهو موضع (٢) الخلاف. وإنما الآية تفيد نفي العجز عن الله تعالى ، وأنّه لو شاء لقهر العباد فلم يفعلوا ما يكره ؛ لكن لو منعهم عن ذلك لبطل التكليف ؛ لأنّ من شرائط حسن التكليف زوال الإلجاء والمنع على ما يأتي بيانه. وهذا المعنى ثابت في اللغة. فإنّ قائل أهل اللغة لو قال لغيره : لو شئت لمنعتك مما فعلت ، ولو أردت لم تفعل كذا وكذا. فهذه الألفاظ لا تفيد إرادة القائل لما يفعله ذلك الغير ، ولا تستعمل في ذلك حقيقة ولا مجازا ، وإنما تفيد نفي العجز عن قائله في منعه منه وهذا ظاهر.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي مج ٧ ج ١٣ ص ١٦٤ ، وقال : وأصحابنا يحتجون به على أن الكفر والإيمان بإرادة الله تعالى ، والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. والطبري مج ٧ ج ١١ ص ٢٢٤.

(٢) في (ب) و (ج) : ذكر موضع.

وتعلّقوا بقوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) [الإنسان : ٣٠] قالوا : فبيّن تعالى أنّ ما شاء العبد من طاعة أو معصية فإنّ الله تعالى يشاؤها (٢).

والجواب : أنّ قولهم باطل ؛ لأنّ ذلك مذكور في كتاب الله تعالى في مواضع محصورة : منها قوله تعالى في المدثر ٥٦ : (وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). ومنها : قوله في هل أتى [٢٩ ـ ٣٠] : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ). ومنها : قوله تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [في سورة التكوير : ١٢٨ ـ ٢٩] ، وهذا كلّه قاض بخلاف قولهم ؛ لأنه تعالى بيّن أنّهم لا يشاءون الذّكر ، ولا اتخاذ السبيل ، ولا الاستقامة ، إلّا أن يشاء الله ، وقد شاء الله ذلك ، وأذن به ، فقال : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] ، فجعل المشيّة في ذلك متعلقة بالمكلفين ، وفوّض الأمر إليهم ، وتوعّدهم على فعل المعاصي ، ونهاهم عن فعلها. وإذا ثبت ذلك فمشيئتهم متعلقة بهذه الأمور ، وجميع ذلك في الطاعات. ولا خلاف أنّ الطاعات كلّها بمشيئة الله تعالى ، وأنّ العبد لا يشاء شيئا من ذلك ما لم يشإ الله ذلك ؛ لأنه ما لم يؤته الاستطاعة لذلك ، ولم يمكّنه منه ، ولم يشأه منه ، ولم يهده إليه ، ولم يرده منه ، ولم يأمره به لم يمكنه أن يأتي بذلك ، ولا يكون ذلك طاعة إلّا بأمره ومشيئته وترغيبه ، فالآية حجة لنا عليهم والحمد لله تعالى.

وهكذا يكون الجواب في كل ما يوردونه من ذلك. ويدل على مذهبنا من

__________________

(١) تتمة الآية : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) [البقرة : ١٥٣].

(٢) ينظر الفخر الرازي مج ١٦ ج ٣١ ص ٧٦.

جهة السنة ما روي عن جابر (١) أن رجلا قال : يا رسول الله! أيّ الإسلام أفضل؟ قال : «أن تهجر ما كره ربّك» (٢). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله كره لكم العبث في الصلاة ، والرّفث في الصّيام ، والضّحك بين المقابر» (٣). فإذا كان الله تعالى يكره هذه الأفعال لم يجز أن ينسب إلى الله تعالى إرادة قتل الأنبياء ، وسائر الفواحش ، فبطل قول القدرية.

مسألة في التكليف

والكلام منها يقع في خمسة مواضع : أحدها في حدّ التكليف والمكلّف والمكلّف. والثاني في الدلالة على حسن التكليف على العموم. والثالث في الدلالة على حسن تكليف من المعلوم من حاله أنّه يرد النار. والرابع في إيراد طرف من شبههم التي يتعلقون بها في قبح تكليف من علم الله تعالى من حاله أنه يرد النار. والخامس في شروط حسن التكليف.

أما الموضع الأول ـ فالتكليف له معنيان : لغويّ واصطلاحي.

أما اللّغوي فهو البعث على ما يشقّ من فعل أو ترك ؛ لأنّ التكليف مأخوذ من الكلفة. وأما الاصطلاحىّ فهو في اصطلاح المتكلمين : إعلام الغير بوجوب بعض الأفعال عليه وقبح بعضها منه ، وأنّ الأولى به أن يفعل بعضها ، وأنّ الأولى به أن لا يفعل البعض ، مع مشقة تلحقه في ذلك ، أو في سببه ، أو ما

__________________

(١) في (ب) : جابر بن عبد الله.

(٢) البيهقي في السنن ١٠ / ٢٤٣. بلفظ : أيّ الهجرة أفضل. الحديث.

(٣) الجامع الكبير للسيوطي ٢ / ٢٨٤ رقم ٥٤١٦ بلفظ : «إن الله تعالى كره لكم ستّا : العبث في الصلاة ، والمن في الصدقة ، والرفث في الصيام ، والضحك عند القبور ، ودخول المساجد وأنتم جنب ، وإدخال العيون البيوت [النظر إلى الداخل] بغير إذن».

يتصل به ، ما لم يبلغ ذلك حدّ الإلجاء. قلنا : إعلام الغير ، والإعلام على ضربين : خلق العلوم الضرورية بقبح بعض الأفعال ، ووجوب بعضها ، وكون بعضها مندوبا إلى فعله ، وكون الآخر مندوبا إلى أن لا يفعل. والثاني نصب الأدلة التي بالنظر فيها يتوصّل (١) إلى العلم بما ذكرناه أيضا. وقلنا : مع مشقة احترازا مما لا مشقة فيه ؛ فإنه لا يكون تكليفا ؛ لأن التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة ؛ فلأنّ الغرض بالتكليف إنما هو التّعريض للثواب ، وذلك لا يتم إلا مع المشقة على ما يأتي بيانه. فلو لم نذكر ذلك في حدّ التكليف لانتقض بالإعلام بوجوب بعض الأفعال عليه ، وقبح بعضها منه مع الإغناء (٢) بالحسن عن القبيح ؛ فإنّه لا يكون تكليفا. وقلنا في ذلك : نريد به أن تكون الأفعال التي يتناولها المكلف (٣) شاقة. وقلنا : أو في سببه احترازا مما لا يشقّ فعله مما يتناوله التكليف ـ وإن كان سببه شاقّا نحو العلم بالله تعالى وبصفاته ـ فإنّه وإن لم يكن شاقّا في نفسه ، بكونه مما يستروح إليه ، فإنه لا يحصل إلّا بعد المشقّة في فعل سببه وهو النظر.

وقلنا : أو ما يتصل به احترزنا به مما يفعله المنتبه من رقدته من المعرفة بالله تعالى فإنّه وإن لم يكن شاقّا في نفسه ، ولا في سببه فإنه يلزم توطين النّفس على دفع ما يرد عليه من الشّبه (٤) في ذلك وفي هذا المشقّة الظاهرة.

وقلنا : ما لم يكن ملجأ إلى شيء من ذلك ، احترازا عما يكون معه إلجاء

__________________

(١) في (ب) : يتوصل بها.

(٢) في (ب) : الاغتناء.

(٣) في (ب) : التكليف.

(٤) في (ب) و (ج) : الشبهة.

فإنّه لا يكون تكليفا ؛ لأنّ التكليف تعريض للثواب ، والملجأ غير معرّض للثواب ؛ لأنه لا يستحق الثواب إلا بأن يفعل الواجب لوجوبه ، والحسن لحسنه ، ويترك القبيح لقبحه ، والملجأ إنّما يكون منه ذلك لمكان الإلجاء فقط ، فهذا هو حد التكليف.

وأمّا المكلّف فهو فاعل التكليف. والمكلّف هو من أعلم بوجوب بعض الأفعال عليه ، وقبح بعضها منه ، وأنّ الأولى به أن يفعل بعضها ، وأنّ الأولى به أن لا يفعل بعضها ، مع مشقة تلحقه في ذلك ، أو في سببه ، أو ما يتصل به ، ما لم يكن ملجأ إلى شيء من ذلك. والذي يدل على صحة هذه الحدود أنه لا يسبق إلى الأفهام من قولنا : تكليف ومكلّف ومكلّف سوى ذلك ؛ ولذلك يطّرد المعنى فيه وينعكس ، وذلك أمارة صحة الحدّ. فثبت بذلك الموضع الأول ، وهو في حقيقة التكليف والمكلّف والمكلّف.

وأما الموضع الثاني

وهو في الدلالة على حسن التكليف على العموم ؛

فالذي يدل على ذلك أن التكليف تعريض لنفع عظيم لا ينال إلا به مع تعرّيه عن سائر وجوه القبح. وكلّ تعريض لنفع عظيم لا ينال إلا به مع تعريه عن سائر وجوه القبح فهو حسن.

وإنّما قلنا : إنّه تعريض لنفع عظيم لا ينال إلّا به مع تعرّيه عن سائر وجوه القبح. فالذي يدل على ذلك أنه تعالى إذا خلقنا ، وأحيانا ، وأكمل عقولنا ، وخلق فينا شهوة القبيح ، ونفرة الحسن ؛ فلا بدّ أن يكون له في ذلك غرض ؛ لأن تعرّيه عن الغرض يكشف عن كونه عبثا. والحكيم لا يفعل العبث كما تقدم.

والغرض في ذلك لا يجوز أن يرجع إليه تعالى ؛ لأنه لا يجوز أن يفعل فعلا لغرض يرجع إليه تعالى ؛ لاستحالة المنافع والمضارّ عليه ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك الغرض راجعا إلينا ، ولا يجوز أن يكون غرضه سبحانه بذلك استدراجنا إلى الهلاك أو إغراءنا (١) بالقبيح ؛ لأنّ ذلك قبيح.

وقد بيّنّا أنه تعالى لا يجوز أن يفعل القبيح فلم يبق إلا أن يكون غرضه بذلك تعريضنا بالتكليف إلى منزلة لا تنال إلا بالتكليف ، وهي المنزلة التي لا شيء أعلى منها في المنافع ، وهي التي نقول : إنها منزلة الثواب ، وهي المنافع الدائمة الخالصة المفعولة على وجه الإجلال والتعظيم ، ولو لا التكليف لما صحّ من المكلّف أن ينال ذلك ، ولا حسن من القديم تعالى أن يرقّيه إلى هذه الرتبة ؛ لأن الابتداء بمثل ذلك لا يحسن ؛ لأن من حقه أن يفعل على وجهه الإجلال والتعظيم ، وهما لا يحسنان إلّا مع الاستحقاق كما تقدم بيانه.

ومعلوم أنّه لو لم يطع المكلّف لم يستحق المدح والتعظيم اللذين يستحقّهما المثاب ؛ فإذن لا يستحقّ هذا المدح والتعظيم إلا مع الطاعة ، ولا تكون الطاعة طاعة إلّا وقد بعث الله تعالى عليها لنفعل (٢). وهذا هو التكليف ؛ فإذن لا سبيل إلى استحقاق الثواب إلا بالتكليف.

ومعنى كون التكليف تعريضا للثواب هو أنه تعالى أعلمنا بوجوب الواجبات وسائر ما ذكرناه في حد التكليف ؛ لنفعل ما يشقّ فعله من ذلك ، ونترك ما يشقّ تركه ؛ لنستحقّ بذلك الثواب ، ومكننا من جميع ذلك مع علمه

__________________

(١) في (ب) : وإغراءنا.

(٢) في (ج) : ليفعل.

تعالى بأنا متى أطعناه في ذلك فإنّه سبحانه يوصلنا إلى الثواب لا محالة ؛ فثبت أن التكليف تعريض لمنافع لا تتم إلا به.

وقلنا : مع تعرّيه عن سائر وجوه القبح ؛ لأنه لو كان فيه وجه من وجوه القبح لما فعله الله تعالى لما ثبت من عدله وحكمته ؛ ولأنّ وجوه القبح محصورة ولا شيء منها في التكليف. أمّا كونه ظلما فلا يتصور في التكليف ؛ لأنه ليس بمضرّة (١). فأما اقتران المشقّة ففي مقابلتها منافع الثواب العلية. وأمّا كونه عبثا فقد بيّنّا أن فيه فائدة عظمى ، وهي كونه تعريضا للثواب. وأمّا كونه تكليفا لما لا يطاق فليس يتصور ذلك إلّا في تكليف الكافر على ما تذهب إليه المجبرة عليهم لعنة الله (٢). وقد بيّنّا في مسألة الاستطاعة أن الكافر قادر على ما كلّفه من الإيمان في حال كفره. وأما كونه كذبا فلا يتصور ذلك فيه ؛ لأن حقيقة التكليف مباينة لحقيقة الكذب. وأمّا كونه مفسدة فليس يتصور ذلك إلا في تكليفين : يكون أحدهما داعيا للمكلّف إلى ترك ما تناوله التّكليف الآخر ، أو يكون تكليف أحد الشخصين مفسدة في تكليف الشخص الثاني ، ولو كان كذلك لما فعله القديم تعالى ؛ لأن المفسدة قبيحة ، وقد ثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح.

وإنّما قلنا : بأن كان ما كان تعريضا لنفع عظيم لا ينال إلا به مع تعريه عن سائر وجوه القبح فإنه حسن. فالذي يدل على ذلك ما نعلمه في الشاهد من أنّ كل من عرّض غيره لمنافع عظيمة فقد أحسن إليه ؛ ولذلك يحسن من

__________________

(١) في هامش (ب) : أي مضرة عارية عن جلب نفع كما هي حقيقة الظلم.

(٢) ينظر : الإرشاد ٢٠٤. المجبرة مثل إبليس لعنه الله قال : رب بما أغويتني؟ وهم قالوا : إن الله أجبرهم على فعل المعاصي ، فهم مستحقون للعنة.

الواحد منا تعريض أولاده ، ومن يدبّر أمره للمنازل الرفيعة ، والمنافع العظيمة بالتعلم والتأدب ، وإن كان ذلك شاقّا على الطّباع لمّا كان تعريضا لنفع لا يتم إلا به. وإذا كانت هذه العلة حاصلة في حال التكليف وجب القضاء بأنه حسن. بل هذه العلة في التكليف أقوى من تعريض الواحد (١) لولده ؛ لأن تعريض القديم تعالى لنا بالتكليف تعريض نفعه خالص لنا ؛ لاستحالة المنافع والمضار عليه (٢) ولأن المنافع الأخروية وهي منافع الثواب متيقّنة الحصول ، بخلاف المنافع الدنيوية في تعريض الواحد منا لولده فإنها مظنونة فقط ؛ ولأن المنافع الأخروية دائمة البقاء بخلاف المنافع الدنيوية فإنها زائلة لا محالة بعد الحصول ؛ ولأنّ المنافع الأخروية يقترن بها التعظيم والإجلال بخلاف الدنيوية. فإذا كانت (٣) علّة الحسن في التكليف (٤) أقوى وجب القضاء بكونه حسنا.

وأما الموضع الثالث :

وهو في الدلالة على حسن تكليف من المعلوم من حاله أنه يرد النار فعندنا أنه حسن ، وهو قول العدلية جميعا. وذهبت المجبرة إلى أنه قبيح. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه ، وفساد ما ذهب إليه المخالفون ـ أنّ التكليف داخل في زمرة أفعاله تعالى ، وأفعاله كلها حسنة ، يبيّن ذلك ويوضحه أنّ العلم بأنه تعالى عدل حكيم لا يفعل القبيح غير واقف على العلم بهذا التكليف ولا بحالته ، وإنما يقف على العلم بكونه تعالى عالما وغنيّا ؛ فمتى علمنا ذلك ، وتوصلنا

__________________

(١) في (ه) : الواحد منا لولده.

(٢) في (ب) : المنافع عليه والمضار.

(٣) في (ب) : كان.

(٤) في (ب) ، (ج) : علة الحسن والتكليف.

إلى العلم بعدله وحكمته تعالى ، وصحّ (١) لنا أنّ أفعاله كلها حسنة ، ثمّ علمنا أن هذا التكليف من فعله ـ علمنا يقينا أنّه حسن ، وإن لم نعلم (٢) وجه الحكمة فيه. ولو ورد علينا الالتباس عند الاستكشاف عن وجه حسنه لوجب أن لا يزيلنا ذلك عن العلم بحسنه مع ثبوت الأصلين الأوّلين : وهما أنه من فعل الله تعالى ، وأفعاله كلّها حسنه. كما أنه قد يرد علينا الالتباس في المشاهدات (٣) ، وإن لم يكن مزيلا عن العلم بالمشاهدات رأسا. كذلك في مسألتنا.

دليل ثان ـ وهو أن الوجه الذي حسن لأجله تكليف من المعلوم أنّه يؤمن ثابت في من المعلوم أنّه يكفر ، وذلك لأنّ الأوّل إنّما حسن لكونه تعريضا للمكلّف للثواب على ما تقدم ، وهذا بعينه قائم في تكليف من المعلوم أنه يكفر. وإنّما يفترقان من حيث أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه ، وأجاب داعي عقله فآمن. ولم يحسن الكافر الاختيار لنفسه ، ولا أجاب داعي عقله ، بل أجاب داعي شهوته فلم يؤمن ؛ وذلك لا يخرج القديم من أن يكون متفضلا عليهما على سواء ، وصارت الحال في ذلك كالحال فيمن قدّم الطعام إلى جائعين قد أشرفا على الهلاك لمكان الجوع ؛ فتناول أحدهما من ذلك الطعام فلم يمت ، ولم يتناول الأخر فمات وهلك. فكما أنّ المقدّم للطعام يكون منعما عليهما جميعا ، ولا يقال : إنه منعم على الذي قبل دون من لم يقبل. كذلك الحال في مسألتنا.

__________________

(١) في (ب) : وضح ، بناء على أنها جواب متى لأن جواب متى : علمنا. والأصح ما في الأصل.

(٢) في (ب) : وإن لم نعقل.

(٣) يعني ما في الأرض والسموات من مخلوقات لا نعلم الحكمة منها كالحشرات والحيات والسباع كريهة المنظر وغيرها.

وعلى هذه الطريقة تجري الحال فيمن أدلى حبله إلى غريقين ليتشبّثا به فينجوا من الغرق فتشبّث به أحدهما فنجا. ولم يتشبث به الآخر فهلك ؛ فإنه منعم عليهما جميعا (١) ، فكذلك ما نحن فيه ، فيجب أن يكون التكليفان جميعا حسنين وإحسانين إلى المكلّفين ، وإن قبل أحدهما فآمن ولم يقبل الآخر فكفر.

وأما الموضع الرابع :

وهو في إيراد طرف من شبههم التي يتعلقون بها في قبح تكليف من علم الله أنه لا يؤمن. وذكر الجواب عما يذكرونه من ذلك. فمنها قولهم : إنه إنّما قبح تكليف الكافر ؛ لأنّه تعالى قد علم من حاله أنه يكفر ، أو لأنّه تعالى لم يعلم من حاله أنه يؤمن. بخلاف المؤمن فإنه قد علم من حاله أنه يؤمن فيصل إلى الثواب (٢).

والجواب عن ذلك : أنّ العلم لا يؤثّر في المعلوم ، وإنما يتعلّق به على ما هو به. وأنّ القدرة على خلاف المعلوم صحيحة غير مستحيلة كما تقدم ، فلا يجوز أن يؤثّر في القبح ولا في الحسن ؛ ولأنه لو صح ما ذكروه لقبح من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو الكفار إلى الدّين الذي (٣) قد أعلمه الله تعالى بأنهم لا يؤمنون كأبي

__________________

(١) هذان التشبيهان غير واضحين لعدم مساوات ما نحن فيه. وإنما التشبيه الصحيح أن يقال : كمن أعطى غيره شاة وسكينا ليذبحها فقتل بها نفسه ، فالتكليف بمنزلة إعطاء السكين ، وما يراد به ويقصد من الثواب والمنافع كالشاة. هذا هو المثال المناسب كما هو المقرر في مواضعه فينظر. تمت من هامش النسخة ه.

(٢) ينظر الإرشاد ص ٢٠٣. والرازي مج ٤ ج ٧ ص ١٥٢.

(٣) الأولى : الّذين لأنه صفة للكفار وهم جمع.

جهل بن هشام وغيره ، ومعلوم خلاف ذلك. وقد اعترضوا بوجهين (١) : أحدهما ـ أن قالوا : إن هذا التكليف عبث فيجب أن يكون قبيحا. والجواب أنّا قد قدمنا أنه فعل لغرض ، وأنّ فيه فائدة عظمى فبطل قولهم : إنه عبث.

الوجه الثاني أن قالوا : إنّ الكافر لا يقدر على الإيمان ، فتكليفه الإيمان في حال كفره يكون تكليفا بما لا يطاق. والجواب أنّا قد بينا في مسألة الاستطاعة أنّ الكافر قادر على الإيمان في حال كفره. فبطل قولهم : إنه يكون تكليف ما لا يطاق. وعلى هذا النّسق يكون الجواب لهم عما يعترضون به.

واما الموضع الخامس : وهو في شروط حسن التكليف

فله شروط : منها ما يرجع إلى التكليف في نفسه وهو شرطان : أحدهما أن لا يكون مفسدة ؛ لأن المفسدة قبيحة. وهو تعالى لا يفعل القبيح. والثاني أن يتقدم التكليف على وقت الفعل بأوقات يتمكّن المكلّف فيها من الإتيان بالفعل ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان التكليف به تكليفا لما لا يمكن وهو قبيح. وهو تعالى لا يفعله كما تقدم. ومنها شرطان يرجعان إلى ما يتناوله التكليف : أحدهما لا يكون مستحيلا في نفسه ؛ لأن التكليف بما هذه حاله قبيح من حيث إنه تكليف لما لا يمكن ، وهو تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم. والثاني ما يتناوله التكليف على صفة الوجوب أو الندب (٢) إن كان فعلا. وإن كان تركا وجب أن يكون الفعل قبيحا. أو الأولى (٣) أن لا يفعل لما بيّنّاه من الدلالة على حسن التّكليف على العموم. ومنها ما يرجع إلى المكلّف

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : بوجهين آخرين.

(٢) في هامش (ب) : بعد لفظ الندب ، وهو أن يكون حسنا ، ورمز بظن. والظاهر أنه مناسب لمقابلة قبيحا الآتية.

(٣) في (ب) و (ج) : والأولى.

وذلك أمور : منها ما يجب تقدمه (١) على الفعل ، وهو أن يكون المكلّف متمكنا من الفعل بالقدرة والآلة التي تكون موصلة إلى الفعل (٢) ، وليست محلّا له ولا جارية مجرى المحل ؛ كالقوس في الإصابة فإنها ليست محلّا للإصابة ، ولا جارية مجرى المحل.

والذي يدل على ذلك أنه لو لم يكن قادرا على الفعل ، ولا متمكنا منه بالآلة لم يصح منه إيجاده ؛ ومتى لم يصح منه إيجاده لم يصح تكليفه بذلك الفعل ؛ لأن تكليفه بذلك فرع على كونه مقدورا له ؛ لأن ما ليس بمقدور يستحيل أن يوصف بالوجوب أو القبح (٣). فمتى لم يكن مقدورا له لم تثبت هذه الأحكام ، فلا يصح إعلام المكلّف بها ؛ لأن العلم تابع للمعلوم.

وإذا لم يصح المعلوم ثبت ما قلناه : من أن التمكين شرط في حسن التكليف ؛ بل في صحته في نفسه. وقد بينا أن القدرة متقدمة على مقدورها ، ولا شكّ أنّ حكم الآلات التي ذكرنا ـ حكمها ؛ فإنه لا يصح الفعل إلا بها ، فيجب تقديمها كالقدرة.

ومنها ما يجب مقارنته للفعل وهو أمور : منها أن لا يكون ممنوعا مما

__________________

(١) في (ب) و (ج) : تقديمه.

(٢) قال السيد مانكديم في شرح الأصول الخمسة ٤٠٩ : إن الآلات تنقسم : فمنها ما يجب تقدمها ولا يجب مقارنتها وذلك كلما يكون وصلة إلى الفعل ، نحو القوس وما يجري مجراها ، فإنها لا بد أن تكون متقدمة على الإصابة حتى يصح استعمالها فيها ، ولهذا يصح أن تنكسر ولمّا وقعت الإصابة بعد. ومنها ما يجب تقدمها ومقارنتها جميعا ، وذلك كلما يكون محلا للفعل وما يجري مجراها ، نحو اللسان ، فإنه يجب تقدمه حتى يكون معينا على الكلام ، ويجب مقارنته حتى يكون محلا. وأما ما يجري مجراه فكالسكين فإنه يجب تقدمه حتى يحصل به الذبح ، ويجب مقارنته لأن الذبح إنما يحصل بأن يتخلل السكين في المحل المفري. ومنها ما يجب مقارنتها ولا يجوز فيها التقدم ، وذلك كصلابة الأرض في التصرف فإنها ينبغي أن تكون ثابتة في الحال ولا يجب تقدمها.

(٣) في (ب) ، (ج) : أو القبيح.

كلّف ؛ لما بيناه من وجوب (١) اعتبار التمكين. ومنها أن يكون له شهوة في القبيح وفيما الأولى أن لا يفعل ، وما يجري مجرى الشهوة. وأن يكون له نفار عن الواجب ، أو ما الأولى أن يفعله ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما شق عليه الإقدام والإحجام. ومن حقّ التكليف حصول المشقة. وقد تقوم الشبهة مقام الشهوة في ذلك ، فإن عبادة النصارى للصليب وإن لم يتعلق به شهوة ، فقد تعلقت به شبهة وهي مترتبة على الشهوة ، فإن النصراني لو لم يتصور في العاقبة وصوله إلى ما يشتهيه لم تصح (٢) أن تدعوه الشبهة إلى هذه العبادة.

ومنها أن يكون المكلف ذا أبعاض وجوارح يلحقها اختلال ، ووهى (٣) بالأفعال التي يكلّف فعلها لتناله المشقة بسبب ذلك. ومنها ما يجب تقدّمه ومقارنته وهو أمور : منها أن يكون المكلف عاقلا ؛ لأنه لو لم يكن عاقلا لم يكن عالما بأحكام الأفعال ، ومتى لم يكن عالما لم يكن مكلفا ؛ إذ التكليف بما لا يعلم قبيح ، وهو تعالى لا يفعله. ومنها أن يكون عالما بصفة ما كلّف (٤) وبكيفية إيقاعه على الوجه الذي كلّف إيقاعه عليه ؛ لأنا قد بينا أن التكليف هو الإعلام بما ذكرناه ، فمتى لم يكن عالما بصفة ما كلّف (٥) وبكيفية إيقاعه على الوجه الذي كلّف لم يصح منه إيقاعه كذلك. ولو لم يصح منه إيقاعه على ما كلّف لم يتعلق به الثواب ؛ فينتقض الغرض بالتكليف. ومنها اشتراط الآلات التي تكون وصلة إلى الفعل ومحلّا له : نحو اللسان في الكلام والرّجل

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : وجوه.

(٢) في (ب) : لم يصح أن يدعوه. وفي (ج) : لم يصح أن تدعوه.

(٣) في (ب). و (ج) : اختلال وهي.

(٤) في (ب) كلف به. ظ.

(٥) في (ب) كلف به.

في المشي ، أو تكون جارية مجرى المحل ، مع كونها وصلة إلى الفعل ، نحو السكين في القطع ؛ فإنه لا بد من مداخلتها لأجزاء المقطوع وإن لم تكن محلّا لذلك الفعل. والذي يدل على اشتراطها ما قدمناه من أنه لا يجوز تكليف الفعل مع عدم ما يحتاج إليه. ومنها أن يزول عنه الإلجاء والاستغناء بالحسن عن القبيح ؛ ليكون متردّد الدواعي فيما كلّف ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لما فعل الفعل لوجوبه ؛ بل لكونه ملجأ إليه ، ولما ترك القبيح لقبحه ؛ بل للإلجاء إلى تركه ، ولما شقّ عليه ترك القبيح لكونه مستغنيا عنه بالحسن. ولو كان كذلك لما استحقّ على ما يفعله من ذلك مدحا ولا ثوابا. وذلك ينقض الغرض بالتكليف ، وذلك محال.

ومن شرائط حسن التكليف ما يرجع إلى المكلّف الحكيم وهي أربعة أمور : أحدها أن يعلم المكلّف الحكيم ما ذكرناه من أحوال المكلّف والتكليف ، والفعل ، والترك ، الذي تناوله التكليف. وثانيها أن يكون غرضه نفع المكلّف ، وليس ذلك إلا بأن يريد منه الطاعات ويكره المعاصي. وثالثها أن يكون منعما على المكلّف بما معه يستحق العبادة ، وذلك بأن ينعم عليه بأصول النعم (١) التي لا تتبع غيرها ـ وإن تبعها غيرها. وتكون هذه النّعم بالغة في العظم مبلغا لا مزيد عليه فيما توجبه الحكمة ـ وإن كان تصح الزيادة عليها من جهة الأجزاء والأعداد. ورابعها أن يكون عالما أنه سيثيبه إن أطاعه ، وذلك لأنّ (٢) الغرض بالتكليف هو التعريض للثواب ، فلو لم يكن عالما بما ذكرناه من حال التكليف والمكلّف والفعل والتّرك الذي يتناوله التكليف ، وعالما بأنه

__________________

(١) أصول النعم : هي : ١) خلق الحي. ٢) خلق حياته. ٣) خلق قدرته. ٤) خلق شهوته. ٥) تمكينه من المشتهيات. ٦) استكمال عقله.

(٢) في (ب) : أنّ.

سيثيبه ـ لانتقض الغرض بالتكليف. وقد ثبت أنه تعالى مريد لما كلّفنا فعله وكاره لما كلّفنا تركه.

فأمّا وجوب اشتراط كونه منعما بما ذكرناه فلأنه لو لم يكن منعما بما ذكرناه لم يستحق العبادة لما قدمناه في مسألة الوحدانية ، ولو لم يستحق العبادة لما صح أن يعلمنا وجوب شيء علينا ؛ لأنّ العلم تابع للمعلوم. فمتى لم يجب علينا له شيء لفقد الإنعام لم يصح الإعلام بأنه واجب ، فضلا عن أن يحسن ذلك. فصح أنه لا بد من اشتراط ما ذكرنا. ولا شك أن هذه الشروط بمجموعها حاصلة في تكليف الله تعالى لعباده ، فيجب أن يكون حسنا. وإذا ثبت ذلك فقد تعلّق المخالفون بآيات : منها قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الأعراف : ١٧٩]. والجواب : أنّ اللام في جهنّم لام العاقبة ؛ ومعنى ذلك أن الله تعالى خلقهم للجنة والثواب ؛ ولكن عاقبتهم المصير إلى جهنم لكفرهم وعصيانهم. ولام العاقبة معروفة في لغة العرب. قال شاعرهم :

لدوا للموت وابنوا للخراب

فكلهم يصير إلى ذهاب (١)

وإنما يولد للنفع ويبنى للمنفعة ، ولكن ذكر الخراب والموت ؛ لأن عاقبة الولد للموت وعاقبة البناء للخراب ، وقال آخر :

أموالنا لذوي الميراث نجمعها

ودورنا لخراب الدهر نبنيها (٢)

وقال غيره :

__________________

(١) للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام. ينظر هامش الدر المصون ٤ / ٦٤٧.

(٢) هذا البيت للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام [ديوانه ١٠٤] ، في قصيدة أولها :

النفس تبكي على الدنيا وقد علمت

أن السلامة فيها ترك ما فيها

وللموت تغذوا الوالدات سخالها

كما لخراب الدّهر تبنى المساكن (١)

يريد بذلك أن عاقبة الأولاد للموت ، والأموال للورثة ، والدّور للخراب. وعلى ذلك يدل قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) [القصص : ٨] ، وإنما التقطوه ليكون لهم ولدا ينفعهم ، فلما كان عاقبة أمره (٢) أن يكون لهم عدوّا وحزنا أخبر به كذلك. وممّا تعلقوا به آيات أيضا في تكليف ما لا يطاق ، فاستدلّوا بها على حسن تكليف ما لا يطاق. وقد ذكرناها في مسألة الاستطاعة ، وبيّنّا ما هو الصحيح فيها.

مسألة في الألطاف

ونحن نتكلم فيما يختص ذلك شيئا شيئا إن شاء الله تعالى. والكلام فيها على الجملة يقع في ثلاثة مواضع : أحدها في حقيقة اللطف. والثاني في قسمته. والثالث هو الكلام في حكم كل قسم منها على التعيين.

أما الموضع الأول : وهو في حقيقة اللّطف

فله معنيان : لغويّ ، واصطلاحي. أما اللغوي : فهو كلما قرّب من نيل الغرض وإدراك المقصود. ولهذا قال شاعرهم

ما زلت آخذ حاجاتي بتلطيف

حتى تركت رقاب الجلح في الطيف (٣)

__________________

(١) وقول الآخر أيضا :

ألا كل مولود فللموت يولد

ولست أرى حيّا لحيّ يخلّد

وأيضا :

وأمّ سماك فلا تجزعي

فللموت ما تلد الوالدة

(٢) في (ب) وغيرها : عاقبة أمره.

(٣) الأظهر : كالطيف ، الجلح جمع أجلح ، وهو الرجل الذكي الشديد. والمعنى : أنه ما زال يتلطف حتى ترك رقاب أعدائه عدما ووهما وكأنها طيف وخيال ،

وأما الاصطلاحي فهو في عرف المتكلمين ما يدعوا المكلّف إلى فعل ما كلّف فعله ، وترك ما كلّف تركه ، أو إلى أحدهما مع تمكنه في الحالين. والذي يدل على صحته أنه يكشف عن معناه على جهة المطابقة ؛ ولهذا يطّرد المعنى فيه وينعكس. وهو أمارة صحة الحد.

وأما الموضع الثاني : وهو في قسمته

فله قسمتان : قسمة باعتبار فاعله ، فهو باعتبارها على ضربين : أحدهما من فعل الله سبحانه وتعالى. والثاني من فعل غيره. فالذي من فعل الله تعالى : منه ما يكون متقدما على التكليف. ومنه ما يكون مقارنا له. ومنه ما يكون متأخرا عنه. أمّا ما كان متقدما على التكليف ؛ فإنه لا يجب على الله تعالى ؛ لأنه إذا لم يجب عليه التكليف لم يجب عليه ما هو من توابعه. وأما ما كان متأخرا عن التكليف ؛ فإنه متى كان حسنا فإنه تعالى يفعله لا محالة من حيث إن في تركه مفسدة ، وفي الإخلال به ترك إزالة العلة ، وكلّ ذلك قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما تقدم بيانه.

وأما اللطف الذي هو من فعل غير الله سبحانه فهو على ضربين : أحدهما ما يكون من فعل العاقل ، فهذا يجب على العاقل فعله ؛ لانه يجرى مجرى دفع الضرر عن النفس. ودفع الضرر عن النفس واجب إذا كان المدفوع به دون المدفوع ، سواء كان الضرر مظنونا أو معلوما كما تقدم تحقيقه. وإن كان من فعل غير العاقل لم يجب عليه فعله ؛ لانه جار مجرى جلب النفع إلى النفس ، وذلك

__________________

ومثله قول الشاعر :

لو سار ألف مدجج في حاجة

ما نالها إلا الذي يتلطف

وقول آخر :

قد ينال الحليم بالرفق ما لي

س ينال الكمي يوم الجلاد

لا يجب وإنما يحسن. فهذه القسمة الأولى ، وهي قسمة اللطف باعتبار فاعله. وأما قسمته باعتبار جنسه ونوعه فهو ينقسم إلى قسمين : مضارّ ومنافع. فالمضارّ كالأمراض والغلاء. والمنافع كالرّخص والرزق ونحو ذلك ، أما الأمراض فالكلام فيها يقع في ثلاثة مواضع : أحدها أنها (١) من فعل الله تعالى. والثاني أنها حسنة. والثالث في وجه حسنها.

أما الموضع الأول : فإنا نعتقد أنها من فعل الله تعالى

وهذا هو قول المسلمين عن يد. والخلاف في ذلك عن الملاحدة ، والمطرّفية ، والثّنوية ، والمجوس ، والطبائعية. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أنّها محدثة ؛ لأنها من جملة الأعراض. وقد بيّنّا أن الأعراض محدثة. فبطل قول الملاحدة بقدمها. وإذا ثبت حدوثها فلا بدّ لها من محدث لما بينا أنّ كل محدث لا بد له من محدث وفاعل ؛ فبطل قول الطبائعية في إضافتها إلى الطبائع ؛ لأنّ المحدث يجب أن يكون حيا قادرا. ولو لم تكن من فعله تعالى لكانت من فعل القادرين بقدرة ؛ لما بيّنّا أنه لا قادر إلا القادر لذاته وهو الله تعالى ، أو (٢) القادر بقدرة وهو الواحد منا. ويبطل بذلك قول الثنوية. ولا يجوز أن تكون (٣) من فعل القادرين بقدرة ؛ لأنها لو كانت من أفعالهم لكانت توجد بحسب قصودهم ودواعيهم ، وتنتفي بحسب كراهتهم وصوارفهم. ومعلوم حصولها وإن كرهوا حصولها ، وانتفاؤها وإن أرادوا حصولها. فلم يبق إلّا أن تكون (٤) من فعل الله سبحانه.

__________________

(١) في (ب) : أنه.

(٢) في (ب) و (د) : والقادر.

(٣) في (ب). و (ج) : يكون.

(٤) في (ب). و (ج) : يكون.

وأما الموضع الثاني : وهو أنها حسنة

فهذا هو اعتقادنا وهو (١) اعتقاد جميع المسلمين ، والخلاف في ذلك مع الملاحدة والثنوية والطبائعية والمجوس والمطرّفية ؛ فإنهم ذهبوا إلى أنها قبيحة وإن اختلفوا في وجه قبحها. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون أنّها من جملة أفعال الله تعالى على ما تقدم. وقد دللنا فيما تقدم على أنّ أفعاله كلها حسنة.

وأما الموضع الثالث : وهو في وجه حسنها ؛ فهي على ضربين :

أحدهما الأمراض والآلام الحاصلة مع المؤمنين وغيرهم من المخلوقين غير المكلفين. وما هذه حاله فإنّا نعتقد أنه يحسن ؛ للعوض والاعتبار ؛ لأنها لو خلت عن العوض لكانت ظلما ؛ لأن حقيقة الظلم ثابتة فيها على ما تقدم بيانه. والظلم قبيح على ما تقدم. ولو خلت عن الاعتبار لكانت عبثا ؛ لأنه يحسن من الله تعالى الابتداء بجنس العوض ؛ إذ لا وجه يقتضي قبحه. وهو مقدور لله تعالى فجاز الابتداء به ، وإذا حسن (٢) الابتداء به وخلت الأمراض وسائر الآلام من الاعتبار ـ ثبت كونها عبثا لا فائدة فيها وذلك لا يقع في فعل الحكيم.

فصل في الاعتبار

والاعتبار : هو ما يدعو المكلّف إلى فعل الطاعة وترك المعصية ، أو إلى أحدهما. ويدل على ثبوته قول الله سبحانه : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الم السجدة : ٢١] والرجوع لا يكون إلا في حال الدنيا. وقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ

__________________

(١) في (ب) : بحذف هو.

(٢) مراده : أن عوض الأمراض يمكن أن يتفضل الله به بدون الابتلاء بالمرض فيبقى المرض عبثا ؛ لأن الله قد جاد بالعوض بدون مقابل ؛ ولذلك قلنا : إن المرض إما للعوض أو للاعتبار.

الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) ، [الأعراف : ١٣٠]. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن إذا أصابه السّقم ثم عافاه الله كان كفارة لما مضى من ذنوبه ، وموعظة فيما يستقبل. وإنّ المنافق إذا مرض ثم عوفي منه كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه ، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه»؟ (١).

فثبت أنّ ذلك إنما يفعل للاعتبار. ويدل على ثبوته قول الله سبحانه وتعالى : (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) ، [التوبة : ١٢٦].

والفتنة وإن كانت مستعملة في عشرة معان (٢) : أحدها الامتحان ، نحو ما ذكرناه ، ومثل قول الله سبحانه : (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، [العنكبوت : ١ ، ٢] أي يمتحنون. ومثله قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) ، [الأعراف : ١٥٥] أي محنتك. وثانيها الشّرك ، ومنه قوله تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، [البقرة : ١٩٣] أي شرك. ونحو ذلك. وثالثها القتل ، نحو قوله تعالى : (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، [النساء : ١٠١] ، أي يقتلوكم وقوله تعالى : (عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ) [يونس : ٨٣] ـ أي أن يقتلهم. ورابعها بمعنى الضلال. ومنه قوله : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ* إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) ، [الصافّات : ١٦٢ ، ١٦٣] أي مضلّين ونحو ذلك. وخامسها بمعنى المعذرة.

ومنه قوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا) [الأنعام : ٢٣] معناه معذرتهم (إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣]. وسادسها

__________________

(١) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٤٢٦. وأبو داود في سننه ٣ / ٤٦٩ رقم ٣٠٨٩.

(٢) ينظر في معانيها عمدة الحفاظ ٣ / ٢٤١.

بمعنى العذاب ، نحو قوله تعالى : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] أي في الآخرة. ونظيرها قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) [النحل : ١١٠] يعني من بعد ما عذّبوا في الدنيا. وسابعها بمعنى الصّدّ ، ومنه قوله تعالى : (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ) ، [المائدة : ٤٩] معناه أن يصدّوك ،. ومنه قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) ، [الإسراء : ١١٤] أي ليصدّونك. وثامنها العذاب والتّحريق ، يحكيه قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) ، [الذاريات : ١٣] أي يعذّبون ويحرّقون ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، [البروج : ١٠] ، معناه حرّقوهم.

وتاسعها بمعنى الكفر. نحو قوله تعالى : (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) [التوبة ٤٩] يعني الكفر ، وقوله : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) ، [النور : ٦٣] يعني كفر. وقوله : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) [الحديد : ١٤] أي كفرتم وشبّهتم على أنفسكم. وعاشرها بمعنى الإغواء عن الدين ، يحكيه قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] معناه لا يغوينّكم عن الدّين ؛ فإنه لا يجوز أن يكون معنى (١) الفتنة في الآية التي ذكرناها وهي الأولى شيئا من هذه المعاني سوى الامتحانات. فثبت بذلك أنها لا تحسن إلا للعوض ، والاعتبار جميعا. وسنفرد للعوض فصلا يشتمل على مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى.

الضرب الثاني (٢) : هو أمراض (٣) الكفار والفساق. واختلف العلماء في

__________________

(١) في (ب) و (د) معناه : الفتنة.

(٢) في (ب) ، (ج) : والضرب الثاني.

(٣) في (ب) : مرض.

ذلك على قولين : منهم من منع من كونها عقابا لهم ، وأجراها مجرى أمراض المؤمنين في جميع ما تقدم. وهذا هو قول الشيخ أبي هاشم (١) ومن تابعه. وذهب الشيخ أبو علي الجبّائي (٢) إلى أنه يجوز أن يكون عقوبة لهم.

وهو قول الأئمة الفضلاء : القاسم بن ابراهيم (٣). والهادي إلى الحق يحيى

__________________

(١) عبد السّلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبّائي نسبة إلى جبّى. ولد سنة ٢٧٧ ه‍ معتزلي متكلم ، وإليه تنسب البهشمية ، توفي سنة ٣٢١ ه‍. من آثاره : كتاب الجامع الكبير ، وكتاب المسائل العسكرية ، والنقض على أرسطاليس في الكون والفساد والطبائع والنقض على القائلين بها ، والاجتهاد والإنسان ، والجامع الصغير ، والأبواب الصغير ، والأبواب الكبير. ينظر الفهرست لابن النديم ص ٢٤٧. والخطيب في تاريخه ١١ / ٥٥. ومعجم المؤلفين ٢ / ١٥٠. والذهبي في السير ١٥ / ٦٣. والجنداري في تراجم رجال شرح الأزهار ١ / ٢٢. وتوضيح المشتبه ٢ / ١٤٠.

(٢) محمد بن عبد الوهاب الجبائي ـ والد أبي هاشم ـ ولد سنة ٢٣٥ هو من متكلمي المعتزلة ، وإليه تنسب الطائفة الجبائية توفي سنة ٣٠٣ ه‍. له عناية في الرد على الفلاسفة والملحدة وتقرير العدل والتوحيد ، وله تفسير القرآن مائة جزء ، وشرح على مسند ابن أبي شيبة ، وجملة مصنفات أبي علي مائة ألف ورقة وخمسين ألف ورقة. ينظر طبقات المعتزلة ١٥٦ ، والأعلام للزركلي ٦ / ٢٥٦ ، وتراجم رجال شرح الأزهار للجنداري ١ / ٣٥. وتوضيح المشتبه ٢ / ١٤٠.

(٣) هو الإمام أبي محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، الملقب بالرسي لتمركزه في جبل الرس. وهو من أقمار العترة الرضية ، انتهت إليه الرئاسة في عصره وتميز بالفضل على أبناء دهره ، ولد سنة ١٧٠ ه‍. ودعا إلى الخلافة سنة ١٩٩ ه‍ ، ولبث في دعاء الخلق إلى الله إلى أن توفي في جبل الرس. توفي سنة ٢٤٦ ه‍ ، وفيه يقول الشاعر :

ولو أنه نادى المنادي بمكة

ببطن منى فيمن تضم المواسم

من السيد السباق في كل غاية؟

لقال جميع الناس : لا شك قاسم

إمام من أبناء الأئمة قدمت

له الشرف المعروف والمجد هاشم

أبوه علي ذو الفضائل والنهى

وآباؤه والأمهات الفواطم

بنات رسول الله أكرم نسوة

على الأرض والاباء شمّ خضارم ـ

ابن الحسين (ع) (١) ، والمرتضى لدين الله أبي القاسم محمد بن الهادى (٢)

__________________

ـ وله عليه‌السلام العلم العجيب ، والتصانيف الرائقة في علم الكلام ، وغيره من الفنون. فمنها كتاب الدليل الكبير. والدليل الصغير ، والعدل والتوحيد الكبير. والرد على ابن المقفع. والرد على النصارى. والمسترشد ، والرد على المجبرة ، وتأويل العرش والكرسي على المشبهة. وكتاب المسألة التي نقلت عنه في محاورة الملحد ، والناسخ والمنسوخ ، والمكنون في الآداب والحكم. ينظر التحف شرح الزلف ص ١٤٥. والشافي ١ / ٢٦٢. والأعلام ٥ / ١٧١. والحدائق الوردية ٢ / ٢.

(١) هو الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم الرسي عليهم‌السلام ، ولد بالمدينة سنة ٢٤٥ ه‍ بين مولده ووفاة جده القاسم سنة كاملة. وهو الإمام الأعظم طود العترة الأشم ، المشابه للوصي في خلقه وخلقه وشجاعته ونصرته للإسلام وعلمه وبراعته. خرج إلى اليمن مرتين الأولى سنة ٢٨٠ ه‍ حتى بلغ موضعا يقال له الشرفة بالقرب من صنعاء ، وأذعن له الناس فأقام فيهم مدة يسيرة ، ثم إنهم خذلوه ، وانصرف منهم حتى صار إلى الحجاز ، وشمل أهل اليمن من بعده البلاء ووقعت بينهم الفتن وبعد ذلك كتبوا إلى الإمام الهادي عليه‌السلام يسألونه النهوض إليهم ويعلنون بتوبتهم ؛ فخرج للمرة الثانية سنة ٢٨٤ ه‍ واليمن مدين له بخلاصهم من القرامطة وخاض معهم نيف وسبعون وقعة كانت له الانتصارات عليهم ولم يزل مجاهدا حتى توفي سنة ٢٩٨ ه‍ بمدينة صعدة وقبره فيها في جامعه ، مشهور ومزور تفوح منه رائحة عطرة.

ومن آثاره : الأحكام ، والمنتخب ، والفنون ، والمسائل ، ومسائل محمد بن سعيد ، والتوحيد ، والقياس ، والمسترشد ، والرد على أهل الزيغ ، والإرادة والمشيئة ، والرضاع ، والمزارعة ، وأمهات الأولاد ، والعهد ، وتفسير القرآن ستة أجزاء ، ومعاني القرآن تسعة أجزاء ، والفوائد جزءان ، ومسائل الرازي جزءان ، والسنة ، والرد على ابن الحنفية ، وتفسير خطايا الأنبياء ، وأبناء الدنيا ، والولاء ، ومسائل الحسين بن عبد الله الطبري ، ومسائل ابن أسعد ، وجواب مسائل نصارى نجران ، وبوار القرامطة ، وأصول الدين ، والإمامة وإثبات النبوة والوصاية ، ومسائل أبي الحسن ، والرد على الإمامية ، والرد على أهل صنعاء ، والرد على سليمان بن جرير ، والبالغ المدرك في الأصول شرحه الإمام أبو طالب ، والمنزلة بين المنزلتين ، قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة : وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتابا كراهة التطويل ، وهي عندنا معروفة موجودة. ينظر سيرة الهادي لعلي بن محمد العباسي ، والمصابيح لأبي العباس ، والشافي ١ / ٣٠٣ ، والحدائق (خ). والتحف ص ١٦٧ ، والأعلام ٨ / ١٤١ ، ومصادر الفكر العربي في اليمن للحبشي ص ٥٠٦.

(٢) هو الإمام أبو القاسم محمد [المرتضى] بن يحيى [الهادي] ولد سنة ٢٧٨ ه‍. كان عالما ورعا ، أصوليّا مفسّرا فقيها شجاعا دعا إلى الله بعد وفاة أبيه سنة ٢٩٨ ه‍ ، واستمر

يحيى بن الحسين (ع). وهو قول الملاحمي (١) وهو الصحيح.

واحتج المانعون من كونها عقوبة بأن قالوا : لو كانت عقوبة لما وجب الرضى بها ـ وفي علمنا بأنه يجب الرضى بها ـ دلالة على أنها ليست بعقوبة. والجواب أن ما ذكروه غير مسلّم ؛ فإنّ العقاب متى كان من فعل الله تعالى وجب الرضى به ؛ لأن أفعاله تعالى كلّها عدل وحكمة سواء كانت عقابا أو لا. والفعل الذي وقع فيه النزاع ، إن كان في الغير وجب الرضى به بالإجماع بين المسلمين ، وإن كان في نفس الواحد منا وجب أن يرضى به أيضا. وقياسهم على أهل النار غير صحيح ؛ لأنّ أهل النار مضطرّون غير مختارين فلوا أمكنهم الهرب لفعلوا.

ووجه آخر وهو أنّ أهل النار غير مكلّفين ، بخلاف المعاقب في الدنيا فإنه مكلّف. ومن جملة التكليف أنه يجب عليه الرضى بفعل الله تعالى سواء كان عقابا أو غيره ، وسواء حلّ به أو بغيره. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكيا عن الله تعالى :

__________________

نحو ستة أشهر ثم سلم الولاية لأخيه أحمد الناصر عليهما‌السلام ، وتوفي بصعدة سنة ٣١٠ ه‍ ودفن إلى جنب أبيه وقبره مشهور مزور.

ومن آثاره : كتاب الأصول في التوحيد والعدل ، والإيضاح في الفقه ، والنوازل ، وجواب مسائل المغفلي ، وجواب مسائل مهدي ، والنبوة ، والإرادة ، والمشيئة ، والتوبة ، والرد على الروافض ، وفي فضائل أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، والرد على القرامطة ، والشرح والبيان ، والرضاع ، ومسائل القدميين ، ومسائل الحائرين ، وتفسير القرآن ، ومسائل الطبريين ، ومسائل المهدي ، ومسائل ابن الناصر ، ومسائل البيوع ، ومسائل عبد الله بن سليمان ، وجواب علي بن الفضل القرمطي ، وفصل المرتضى ، والنهي. ينظر الحدائق ٢ / ٤١. والتحف ص ١٩٠. والأعلام للزركلي ٧ / ١٣٥. والشافي ١ / ٣١٩.

(١) هو محمود بن محمد بن الملاحمي. تلميذ أبي الحسين البصري صاحب المعتمد في أصول الفقه. وقد تابعهما خلق كثير من العلماء المتأخرين كالإمام يحيى بن حمزة ، وأكثر الإمامية ، والفخر الرازي. واعتمد على رأيه في اللطيف وغيره توفي ٥٣٢ ه‍ وله المعتمد الأكبر. ينظر طبقات المعتزلة للإمام المهدي ص ١١٩. وهامش شرح الأساس ١ / ٢٤٣.

«من لم يرض بقضائي ، ويصبر على بلائي ، ويشكر على نعمائي ، فليتّخذ ربّا سواي» (١). وهذا يوضّح ما ذكرناه. فهلمّ الدلالة على أنه لا يجب عليه ذلك ؛ بل قد ثبت كون الجزية عقوبة على من فرضت عليه من كفرة العجم ، وهي مع ذلك واجبة عليهم ، ولا خلاف بين المسلمين في وجوب الرضى بالواجب ؛ فسقط بذلك قولهم : إنه لا يجب الرضى بالعقوبة ؛ فإن قيل : ما وجه وجوبها من جهة العقل؟ قلنا : كونها دفعا للضرر. وبيان ذلك أن الكافر مدفوع إلى ضررين : أحدهما القتل. والثاني الجزية ، فيجب عليه دفع أعظم الضررين بأخفّهما. فإن قيل : إذا كان أداؤها واجبا على الذمي كانت عبادة فلا يصح أداؤها منه ـ قلنا : إن الواجب قد يجب ـ وإن لم يكن عبادة ـ كشكر النعمة (٢) وقضاء الدين ورد الوديعة ، فإن جميع ذلك واجب ـ وإن لم يكن عبادة. ولا خلاف أنّ الجزية يجزى أخذها مع الكفر ، فسقط القول بكونها عبادة. واحتجوا بأنه لو كان عقابا لوجب أن يقترن بهذه المضرة الاستخفاف والإهانة ؛ وذلك لا يصح إلا مع الإعلام للمعاقب بذلك ؛ فلمّا لم يعلمه الله تعالى بأنّ ما أنزله به عقاب قطعنا أنه ليس بعقاب.

والجواب ـ أن ذلك لا يصح ؛ لأنّ لقائل أن يقول : ما الذي يدل على أنه لا يجوز انفصال الاستخفاف والإهانة عن المضرة فهما جزاءان مختلفان ، وقد أجزتم ما هو أعظم من ذلك وهو الثواب ؛ فإنه حق مستحقّ على الله تعالى وقد أجزتم انفصال التعظيم والإجلال عن المنفعة ، وقلتم : بأنه يجوز أن يكون تعظيم المؤمن في الدنيا وإجلاله من جملة الثواب ـ وإن تأخرت المنفعة.

وقطع بعض علماء التفسير على أنّ نصر المؤمنين في يوم بدر كان ثوابا

__________________

(١) الطبراني في الأوسط ٧ / ٢٠٣ رقم ٧٢٧٣.

(٢) في (ب) : المنعم.

لهم. وقد ذكره أيضا أبو على الجبّائي. فإذا جوّزتم هذا في الواجب على الله تعالى فهلّا جوّزتموه في حقه الذي لا يجب عليه فعله ، والذي يقضى العقل بحسن إسقاطه ، والعفو عنه ـ لو لا ما توعّد به من إنفاذه في المجرمين ، وتخليدهم فيه في الآخرة دون الدنيا. واحتجوا بأن ذلك تعريض لاعتقاد الجهل ، وهو قبيح ، فثبت أنه ليس بعقاب.

والجواب : أن ذلك لا يصح ؛ لأنه إنما يكون تعريضا لاعتقاد الجهل ، متى دلّ دليل قطعي على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة. فأما إذا لم يكن هناك دليل قطعي : فالعقل يجوّز أن يكون عقوبة ، ويجوّز أن يكون مصلحة يقع معها الاعتبار ، ويجوّز أن يكون عقوبة لمن هو به ومصلحة لغيره.

وإذا لم يكن هناك دلالة قطعية على المنع من كونه عقوبة ، بل ذلك باق على التجويز العقلي ـ لم يكن المكلّف معرّضا لاعتقاد الجهل. ثم يجوز أن يعلم أنه لا يجوز أن يكون عقوبة بأن يعلم قطعا أنه مؤمن كما أشار إليه المرتضى لدين الله عليه‌السلام.

وهذا مبني على أن المرء يمكنه أن يعلم ذلك من نفسه ، وهو الأصوب ؛ فإنه يعلم قطعا بالعقل والشرع أن التائب لا عقاب عليه ، ويمكنه أن يعلم قطعا أنه تائب ، نحو من لا يكون عليه تبعات للآدميين أصلا ؛ فإنه متى تاب إلى الله تعالى على الجملة والتفصيل الممكن له ـ علم قطعا أنه تائب ، فيعلم قطعا أنه في تلك الحال مؤمن غير معاقب أصلا. ولا يلزم على هذا أن يقال : فيجب إذا تاب العاصي هذه التوبة أن يزول مرضه لأنا نقول : يجب أن يزول مرضه بلا إشكال إذا لم يكن في إنزاله وجه سوى كونه عقوبة. وأما إذا كان مفعولا لوجهين : أحدهما كونه عقوبة. والثاني كونه مصلحة فإنه لا يستمر إلّا لكونه مصلحة فقط ، ولا يجوز أن يقال : إن نفس ما يستحق به الاستخفاف

هو عين (١) ما لا يستحق به الاستخفاف ؛ لأنا نقول : إنها آلام متجددة. فالمستمر غير الماضي ؛ ولهذا لو تاب المحدود في أثناء الحد لكان ما قبل التوبة عقابا عند الجميع منا ومنهم. وعليه يدل قوله تعالى في الزانيين : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النور : ٢ وما بعد التوبة مصلحة للمحدود ، وامتحان عند الجميع أيضا يستحق عليه العوض ، فكذلك ما نحن فيه فقد ورد الشرع بما ذكرناه. كما رواه عبد الله بن المغفل (٢) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه جاءه رجل ووجهه يسيل دما ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لك؟ وما أهلكك؟ فقال : خرجت يا رسول الله من منزلي فإذا أنا بامرأة فأتبعتها بصري فأصابني ما ترى. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله إذا أراد بعبد خيرا عجّل له عقوبة ذنبه في الدنيا ، وإذا أراد به شرا أمسك عليه بذنبه حتى يوافي يوم القيامة كأنه عير» (٣). ووجه الدليل من الخبر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرنا ـ وخبره صدق بأن الله سبحانه قد يعاقب في الدنيا ؛ فاقتضى ذلك ما قلناه : من أنه يجوز العقاب في الدنيا.

ويدل على ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أذنب ذنبا فعوقب به في الدّنيا فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده» (٤) ، وقولهم : بأن ذلك يحمل على الحدود لا يلزم ؛ لأن ذلك خلاف ما يقتضيه الظاهر ، وهو عمل على التأويل

__________________

(١) في (ب) غير ، والصواب : ما أثبتناه بدليل ما بعده.

(٢) عبد الله بن مغفل هكذا ذكره الذهبي وأيضا الحاكم ، هو صحابي من أهل بيعة الرضوان ، توفي سنة ٦٠ ه‍. ينظر سير أعلام النبلاء ٢ / ٤٨٣.

(٣) أخرجه الحاكم ١ / ٣٤٩ و ٤ / ٣٧٧ عنه. والمعجم الكبير للطبراني ١١ / ٣١٣ برقم ١١٨٤٢ ، عن عكرمة عن ابن عباس. في هامش (ه) ما خلاصته : أن التكفير للذنب يستقيم في الصغائر ، أما الكبائر فلا تسقطها إلا التوبة.

(٤) أحمد بن حنبل ١ / ٢١٣ رقم ٧٧٥. عن علي عليه‌السلام. والحاكم ٤ / ٣٨٨.

على موافقة المذهب فقط ، فثبت ما قلناه والله الهادي.

ويدل على ذلك قوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [التوبة : ٥٥] يعني بالسّبي والغنيمة للأموال ، فلا تعجبك إذا كان ذلك عاقبته. ذكره المفسرون (١). وكذلك قوله : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [التوبة : ٧٤] ، ففي الدنيا بالقتل والأسر ، وفي الآخرة عذاب النار. وكذلك قوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) [التوبة : ١٠١] : إحدى المرّتين في الدنيا ، والثانية في القبر. والعذاب العظيم في نار جهنم.

ويدل على ذلك قول الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩] فقوله : ما أصابك من حسنة ، يعني نعم الدنيا والدين ، فيدخل (٢) فيها الطاعات.

وإنما أضافها إلى الله تعالى ـ وإن كانت فعلا للعبد على ما تقدم بيانه ـ فلأنه أمر ببعضها ، وندب إلى بعضها ، وهدى إليها ، ومكّن منها ، وزيّنها ، وحبّبها ، ووعد بالثواب على فعلها ، وأوعد بالعقاب على ترك ما افترض منها. فمن هذا المعنى جاز أن يضاف إليه ، وقوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يريد ما أصابك بسبب معاصيك فمن نفسك ؛ لأن المعاصي فعلك فهي عقاب لك.

وروي أن هذه الآية لمّا نزلت قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يصيب رجلا خدش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما

__________________

(١) ينظر الكشاف ٢ / ٢٨٠. وفي مجمع البيان ج ٥ ص ٧٠.

(٢) في (ب) و (ج) : ويدخل.

يعفو الله أكثر» (١) ، فجرى ذلك مجرى التفسير للآية. وكلّ ذلك يدل على صحة ما قلناه والله الهادي.

ومما يدل على ذلك قوله تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) [الروم : ٤١] ، فإن قيل : وما تلك العقوبة؟ قلنا : كالقحط والغلاء والأمراض ، وما ينالهم من المحن والشدائد ؛ ولأن المتعارف أن الظلم إذا كثر انقطعت البركات وأسبابها ويخلّي الله بين عباده. ومتى قيل : أيكون ذلك عقوبة أو محنة؟ قلنا : كلاهما جائز. وقد قيل : بالعدل ينبت الله الزرع ، ويدرّ الضّرع ، وبالظّلم يكون القحط وضيق الرزق وإمساك المطر.

فصل في العوض والكلام فيه يقع في خمسة مواضع :

أحدها في معناه. والثاني في حكمه في الدوام والانقطاع. والثالث في مقداره. والرابع في أن الله تعالى ينتصف للمظلومين من الظالمين. والخامس في كيفية الانتصاف.

أما الموضع الأول : وهو في معناه فالعوض هو المنافع العظيمة المستحقّة المفعولة على وجه الجزاء عارية عن المدح والتعظيم. قلنا : المنافع العظيمة ، جنس الحد. قلنا : المستحقة ، فصلناه عن التّفضّل. قلنا : المفعولة على وجه الجزاء ، فصلناه عن الألطاف التي يستحقها العباد على الله تعالى. قلنا : عارية عن المدح والتعظيم ، فصلناه عن الثواب. والذي يدل على صحة هذا الحد أنه يكشف عن معنى المحدود ، ولهذا يطرّد المعنى فيه وينعكس وهو أمارة صحة الحد.

وأما الموضع الثاني : وهو في حكمه في الدوام والانقطاع ، فذهب أبو

__________________

(١) شعب الإيمان بلفظ : لا يصيب ابن آدم ٧ / ١٥٣ برقم ٩٨١٥. والدر المنثور ٥ / ٧٠٦.

هاشم إلى أنه منقطع (١). وهو قول كثير من العدلية ، خلافا للشيخ أبي الهذيل ؛ فإنه ذهب إلى دوام العوض ، وأنه غير منقطع ، وإلى ذلك ذهب أبو علي أولا وهو قول الحسين بن القاسم (٢) بن علي بن محمد بن القاسم الرسي عليه‌السلام. والذي يدل على أنه منقطع أن أروش الجنايات منقطعة بلا خلاف ، وإنما كانت منقطعة ؛ لكونها جبرا لنقص من جهة الجابر يقلّ بقلته ويكثر بكثرته ؛ بدليل أن الحكم يثبت بثبوت ذلك ، وينتفي بانتفائه ، وليس هناك ما تعليق الحكم به أولى. وقد شاركها العوض في هذه العلة ، فإنه جبر لنقص وهو الألم من جهة الجابر يقل بقلته ويكثر بكثرته ، فيجب أن يشاركه في الحكم الذي هو الانقطاع ؛ لأن الاشتراك في العلة يوجب الاشتراك في الحكم ، وإلا عاد على أصل التعليل بالنقض والإبطال. هذه هي حجة القائلين بانقطاع العوض ، ولم يفصلوا بين أن يكون العوض مستحقّا على الله تعالى أو على غيره ، إلا أنّ لقائل أن يقول : إن هذا الدليل إنّما يصح في العوض المستحق على غير الله تعالى. فأما فيما يستحق على الله تعالى فإنه لا يصح ؛ لأن العلة وهي كونه جبر النقص من جهة الجابر تقل بقلته وتكثر بكثرته ـ غير موجودة في العوض

__________________

(١) ينظر شرح الأصول الخمسة ٤٩٤.

(٢) هو الحسين بن القاسم العياني. ولد سنة ٣٧٦ ، وكان من كبار علماء الآل ومشهورا بالزهد والعبادة. ادعى الإمامة سنة ٣٩٣ ، ولم يزل داعيا إلى الصدق كابتا لأرباب الإجرام ، معليا كعب الإسلام حتى قتل في وادي عرار [بلدة من ناحية ريدة البون شمالي صنعاء على بعد ٤٩ كم]. سنة ٤٠٤ ه‍. له مؤلفات كثيرة قيل إنها بلغت ٧٣ مؤلفا. منها : المعجز ، وتفسير غرائب القرآن ، ومختصر الأحكام ، الإمامة ، والرد على أهل النفاق ، وشواهد الصنع ، ونبأ الحكمة ، والرد على الدعي ، والتوفيق والتسديد. وغيرها. ينظر الحدائق ٢ / ٦٠. والتحف ٢٠٢. ومصادر الفكر للحبشي ص ٥٢٦.

المستحق على الله تعالى ؛ فإنه لا يقل بقلة (١) الألم ، بل يجب أن يبلغ مبلغا عظيما على ما يأتي بيانه. فإن كانت معهم دلالة تدلّ على انقطاعه غير هذه ـ وإلا وجب بقاؤه على التجويز العقلي : فيجوز أن يكون دائما ، ويجوز أن يكون منقطعا ، دون العوض المستحق على غير الله تعالى ؛ فإنه يجب أن يكون منقطعا للدلالة التي ذكروها. والله الهادي.

وأما الموضع الثالث : وهو في مقدار العوض فالعوض على ضربين : أحدهما المستحق على الله تعالى وهذا يجب أن يكون بالغا مبلغا عظيما وأن يزيد أضعافا مضاعفة ، بحيث لو خيّر المؤلّم بين الألم وبين الترك ؛ لاختار الألم على الترك ؛ لما في مقابلته من العوض الزائد المرغوب فيه ؛ وذلك لأن (٢) الله تعالى آلمه من غير مراضاة (٣) ؛ فيجب أن يبلغ (٤) العوض ذلك المبلغ ، وإلا كان ظلما قبيحا.

وقد وردت السّنة بثبوت العوض ، وأنّ ما يستحق منه على الله تعالى يجب أن يكون بالغا مبلغا عظيما نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يتمنى أهل البلاء في الآخرة لو كان الله تعالى زادهم بلاء لعظم ما أعد لهم في الآخرة». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من وعك ليلة كفّرت عنه ذنوب سنة» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله عزوجل : إني إذا وجّهت إلى عبد من عبادي

__________________

(١) في (ب) بقلته.

(٢) في (ب) وذلك أن الله تعالى.

(٣) في (ب) : مراضاته.

(٤) في (ب) و (د) أن يبلغ ذلك العوض.

(٥) قال في أطراف الحديث ج ٨ ص ٥٩٩ : أخرجه صاحب الأحكام النبوية في الصناعة الطبية للكحال ، طبعة الحلبي بلفظ فيه اختلاف.

مصيبة في بدنه أو ماله فاستقبل ذلك بصبر جميل ـ استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزانا ، أو أنشر له ديوانا» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الجنّة شجرة يقال لها شجرة البلوى ، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة ، فلا ينشر لهم ديوان ، ولا ينصب لهم ميزان ، يصبّ عليهم الأجر صبّا» (٢) ، ثم قال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [الزمر : ١٠] (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ المؤمن يشدّد عليه وبكلّ وجع وجعه خطيئة تحطّ عنه ، وحسنة تكتب ، ودرجة ترفع» (٤). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يقول الله تعالى : إذا ابتليت عبدا من عبادي مؤمنا ، فحمدني وصبر على ما ابتليته فإنه يقوم من مضجعه ذلك اليوم كيوم ولدته أمه من الخطايا ، ويقول الربّ للحفظة : أنا قيّدت عبدي هذا وابتليته ، فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر» وهو صحيح (٥). والأخبار في ذلك كثير (٦). فهذا هو الكلام في العوض المستحق على الله تعالى وهو الضرب الأول.

وأما الضرب الثاني : فهو العوض المستحق على غير الله تعالى ؛ فإنه يجب أن يكون موازنا للألم ؛ لأنه لو زاد العوض على الألم لخرج الألم عن كونه

__________________

(١) أخرجه في شمس الأخبار ٢ / ٣١٧ وعزاه إلى الشهاب الشافعي ، وقال المخرج : أخرجه الحكيم عن أنس.

(٢) في الأصل : صبّ والأصح ما أثبتناه من مصادره.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير ٣ / ٩٣ رقم ٢٧٦٥ بلفظ : إنّ في الجنة ... الحديث ، عن الإمام الحسن بن علي (ع). والدر المنثور ٥ / ٦٠٦.

(٤) ذكر ما يقارب ذلك في طبقات ابن سعد والحاكم في المستدرك ١ / ٣٤٦.

(٥) أخرجه في شمس الأخبار ٢ / ٣١٠ ، وعزاه إلى السمان. وأخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء ٩ / ٣٢٢ رقم ١٤٠١٥ ، عن شداد بن أوس.

(٦) في (ب) كثيرة.

قبيحا ، ولكان (١) حسنا وفي علمنا بقبحه دلالة على أنه لا يزيد عليه ؛ ولأنه جار مجرى أروش الجنايات ، وقيم المتلفات كما تقدم تحقيقه ، فكما أن ذلك لا يكون إلا بمقدارها من غير زيادة ولا نقصان كذلك هذا. فثبت بذلك ما ذكرناه ، وبذلك يثبت الموضع الثالث ، وهو في مقدار العوض.

وأما الموضع الرابع : وهو في أن الله تعالى ينتصف للمظلومين من الظالمين فهذا هو الذي نعتقده. والذي يدل على ذلك : العقل والكتاب والسنة والإجماع. أما العقل فهو أن الله تعالى مكن الظالمين من المظلومين وخلى بينهم مع أن الكل عبيده ، وفي دار مملكته ، وكل ذلك حسن ؛ لأنا قد بيّنّا أن أفعاله كلها حسنة فيجب أن ينتصف للمظلومين من الظالمين وإلا كان التمكين قبيحا ، وهو تعالى لا يفعل القبيح. وأما الكتاب فقوله تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] ، وقوله تعالى : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير : ٥] ، ولا فائدة في حشرها إلا توفير أعواضها عليها لأنها ليست من أهل الثواب فتثاب ولا من أهل العقاب فتعاقب. إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله ينتصف للجمّا من ذات القرنين» (٢) ، ويروى : «للجمّا من القرناء». وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا كان يوم القيامة

__________________

(١) في (ب) وكان.

(٢) أخرج مسلم ٤ / ١٩٩٧ ، والترمذي ٢٤٢٠ بلفظ : لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاه الجلحاء من الشاة القرناء. وأحمد ٣ / ٢٨٩ رقم ٨٧٦٤ بلفظ : إن الله يقتص للخلق بعضهم من بعض حتى للجماء من القرناء ، وحتى الذرة من الذرة.

نادى مناد : أنا الملك الديّان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وعليه لأحد من أهل النار مظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعليه لأحد من أهل الجنة مظلمة» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن العصفور ليأتي يوم القيامة له دويّ تحت العرش ، فيقول : رب سل فلانا بم قتلني» (٢) ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما الإجماع فذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ، وثبت بذلك الموضع الرابع وهو في (٣) أن الله تعالى ينتصف للمظلومين من الظالمين.

وأما الموضع الخامس : وهو في كيفية الانتصاف فذهبت العدلية إلى أن المقاصّة تكون بالأعواض المستحقة على الآلام وهو الصحيح. وذهبت المجبرة إلى أن المقاصة تكون بالثواب إن كان للظالم ثوابا أعطي المظلوم منه ، وإن لم يكن أخذ من عقاب المظلوم فجعل على الظالم وعوقب به. وقولهم باطل أما ما ذكروه من توفير ثواب الظالم على المظلوم فغير صحيح ؛ لأن الثواب إنما يستحق على فعل ما كلف المكلف فعله ، أو ترك ما كلف تركه ، فلا يجوز أن يوفر ثواب الطاعات على من لم يفعلها ؛ ولقول الله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩].

وأما ما ذكروه من نقل عقاب المظلوم إلى الظالم فغير صحيح أيضا لما بينا أنه تعالى لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ، وما فعله الظالم بالمظلوم من الظلم يجب فيه

__________________

(١) أحمد بن حنبل ٢ / ٤٢٩ رقم ١٦٠٤٢ بما يوافق ذلك.

(٢) أخرجه النسائي ٧ / ٢٣٩ برقم ٤٤٤٦ بلفظ : «من قتل عصفورا عبثا عجّ إلى الله عزوجل يوم القيامة يقول : يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة». وابن حبان في صحيحه ٧ / ٥٥٦. والطبراني في الكبير ٧ / ٣١٧ رقم ٧٢٤٥ ، ٧٢٤٦. وأحمد بن حنبل ٧ / ١٢٠ رقم ١٩٤٨٧ ، عن الشريد بن سويد الثقفي. وفي (ب) يا رب.

(٣) في (ب) و (ه) بدون في.

حقان : أحدهما لله تعالى وهو العقاب ؛ لمكان قبح الظلم ، كما يجب ذلك في كل فعل قبيح. والثاني : للمظلوم وهو العوض ؛ لئلا يبطل حق المظلوم ، ولئلا تقبح التخلية بينه وبين الظالم ، ولقول الله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ، وقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت : ٤٠] ، وقد قدمنا في فصل المجازاة ما يكفي في ذلك ، ولأنه لو نقل عقاب المظلوم عنه لكان قد وقع التخفيف عنه ، وذلك لا يجوز لقوله تعالى : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] ، وقوله تعالى : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) [البقرة : ١٦٢]. ولا يجوز أن يجبر الله تعالى ذلك من جهته تفضلا من دون أن يكون من جهة الظالم ؛ لأن للمتفضل أن يتفضل وأن لا يتفضل ، وما يستحقه المظلوم يجب أن يفعل ؛ فلا يجوز أن يقوم أحدهما مقام الأخر ؛ ولأن الله تعالى لو جبر ذلك منه تعالى لكان في ذلك نهاية الإغراء بفعل الظلم ؛ فإنه إذا علم الظالم أن الله تعالى يتفضل بالقضاء عنه وأنه لا يأخذ من أعواضه شيئا دعاه ذلك إلى فعل الظلم والإغراء بالظلم قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح فلم يبق إلا أن الانتصاف إنما هو بأن يوفر على المظلومين من أعواض الظالمين التي استحقوها على ما نزل لهم (١) من الآلام والغموم بقدر ما وصل إلى المظلومين من الظالمين إذ لا يعقل من الانتصاف سوى ذلك.

فصل : في الآجال (٢)

الأجل هو : الوقت المضروب لحدوث أمر في المستقبل. وهو عامّ فيقال : أجل الدّين وأجل الثّمن وأجل الحياة وأجل الموت إلى غير ذلك. وأجل الحياة

__________________

(١) بهم في بقية النسخة.

(٢) ينظر مجموع رسائل الإمام الهادي ٣٠٥ وما بعدها ، والمغني ١١ / ٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٠.

هو مدّة الحياة ، وأجل الموت هو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة الحيّ فيه. وهو على ضربين أجل محتوم ، وأجل مخروم (١). فالمحتوم من الله تعالى يفعله كما شاء ومتى شاء وكيفما شاء (٢). قال تعالى : (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) [الواقعة : ٦٠] وقال عزوجل : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥]. والمخروم هو ما كان من فعل العباد ، نحو ما يجب فيه القصاص والدية ، أو الدية ، أو كان قصاصا أو حدّا ، أو نحو ذلك ، فهذا الأجل من فعل العباد. ولا يجوز نسبته إلى الله تعالى ، والقتل فيه موت. وإنما قلنا : بأن في القتل موتا (٣) ؛ لأن في القتل ثلاثة أشياء : انتقاض البنية بالجرح ، وهو فعل العبد ، وفيه القصاص والدية والكفارة على بعض الوجوه. والثاني خروج الروح وهو النّفس المتفرق في الأعضاء ، المتردّد في مخارق الحي ، وذلك مفوض إلى الملك ، وقد أعطاه الله آلة يتمكن بها من إخراج ذلك من بدن الإنسان. والثالث الموت وهو فعل الله تعالى لا يقدر عليه غيره ، وهو معنى من جملة المعاني كالحياة ، وعليه يدلّ قول الله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الملك : ٢] وقد بيّنا فيما تقدم أنّ العباد فاعلون لتصرفاتهم ، وأنها ليست بقضاء من الله وقدر بمعنى الخلق ؛ فبطل بذلك قول المجبرة ، واختلف الناس في الأجل المخروم. مثاله : المقتول إذا قتل هل كان يجوز أن يحيى ، ويجوز أن يموت؟ على أقوال ثلاثة : فمنهم من قطع على (٤) أنه لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة. وهذا هو قول

__________________

(١) هو الذي يقتل فيه المقتول ، وسمي خرما ؛ لأن القاتل خرم عمره أي قطعه بما مكنه الله من قدرة ، ولم يمنعه بل خلى بينه وبينه ؛ لمصلحة الابتلاء والتمكين.

(٢) في (ب) و (ج) : وكيف شاء.

(٣) في (ب) : بأن القتل موت.

(٤) في (ب) بحذف على.

البغدادية من المعتزلة (١). ومنهم من قطع على أنه لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ، وهذا هو قول الشيخ أبي الهذيل ومن تابعه من المعتزلة ، وهو قول الحشوية (٢). ومنهم من توقف في ذلك فلم يقطع على واحد من الأمرين ، وجوّزهما جميعا ، وهذا هو قول الشيخين أبي علي وأبي هاشم ومن تابعهما من البصريين (٣) ، وهو الظاهر من قول جماهير الزيدية وهو الصحيح. وينبغي أن نورد ما يحتج به كل واحد من الفريقين على صحة ما قطع عليه ، ونتكلم على ذلك ؛ لأن ذلك هو حال المتوقف. وبتمام ذلك يتم غرضنا من أن الصحيح في هذه المسألة هو التوقف : أمّا من قطع على أنه لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة ، فاحتجوا في ذلك بقول الله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] قالوا : فدلّ على أن المقتول قصاصا لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة (٤).

والجواب ـ إن هذا عدول عن الظاهر ؛ لأنه لا خلاف فيه بين العلماء ، وليس فيه ذكر لما يدّعونه ، لا بإثبات ولا بإبطال ؛ لأن الآية دلّت على حياة منكّرة ما ، وإذا سقط تعلقهم بظاهر الآية فهو المطلوب. ويجوز أن تكون تلك الحياة المنكّرة هي أنّ من عزم على قتل الغير ثم علم بثبوت القصاص ، وأنه إذا قتله قتل به لم يقدم على قتله خوفا للقصاص ؛ فيكون في علمه بثبوت القصاص حياة له من حيث صرفه علمه ، وكان لطفا له في ترك القبيح ، ثم

__________________

(١) المغني ١١ / ٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٣.

(٢) المغني ١١ / ٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٣.

(٣) المغني ١١ / ٤.

(٤) في هامش الأصل : ليس احتجاج البغدادية على الوجه الذي ذكره رحمه‌الله. وقد احتج بالآية الإمام القاسم بن محمد رحمه‌الله في الأساس على الوجه الآخر الذي ذكره.

يقال لهم : إنكم إذا رجعتم إلى التأويل فقد خرجتم عن الاستدلال بالظاهر ، وفي ذلك ما نرومه ، ثم لستم بالتأويل للآية على مذهبكم أولى من غيركم ، ويكون المرجع في ذلك إلى دلائل غير الآية هذه. واحتجوا بأنه قد يقتل في الساعة الواحدة ألوف كثيرة ، قالوا : ولم تجر العادة بموت مثلهم في حالة واحدة ، فلو لم نقل بأنهم لو لم يقتلوا لحيوا لا محالة ـ لأدّى ذلك إلى القول بنقض العادة ، وهو أن يموت في الساعة الواحدة (١) ألوف كثيرة. وانتقاض العادة لا يجوز إلا في زمان نبي. الاعتراض على ذلك هو أن يقال لهم : إنه لا يمتنع أن يموت في الساعة الواحدة ألوف كثيرة في جهات متباعدة ، وبلاد قاصية في أطراف الأرضين وغير ذلك ، ولا يكون ذلك نقض عادة. ويجوز أيضا في العدد الكثير والجمّ الغفير أن يموتوا في ساعة واحدة بالغرق والهدم ، ونحو ذلك ولا يكون في ذلك نقض عادة (٢). ثم يقال لهم : إنه يجوز انتقاض العادة في غير زمان الأنبياء (ع) ؛ لأنه لو لم يجز انتقاضها لخرجت عن كونها عادات ، ولحقت بالموجبات (٣) ، وذلك يفسد عليهم أصولا كثيرة. ثم نقول : إنه قد وقع نقض العادات في غير زمان نبيّ ، والوقوع فرع على الصحة على ما نبينه إن شاء الله تعالى [في مسألة النبوة] (٤) فبطل ما ذهبت (٥) إليه البغدادية (٦) من كل وجه.

__________________

(١) في (ب) بحذف الواحدة.

(٢) في هامش (ه) وأيضا فلا مانع من أن يكون أجله عندنا هو ذلك الوقت ولا دليل يمنع من ذلك الدليل ، ولذلك يحسن التأويل المذكور.

(٣) والموجب هو الذي لا يتخلف.

(٤) ما بين المعقوفتين غير موجود في الأصل.

(٥) في (ب) : ذهب.

(٦) هم أصحاب أبي سهل بشر بن المعتمر الهلالي قيل : هو من أهل بغداد كان زاهدا عابدا ، وقيل : دخيل من أهل الكوفة ؛ ولعله كان كوفيا ، انتقل إلى بغداد وهو رئيس

وأما الشيخ أبو الهذيل (١) والحشوية فهم يتعلقون في ذلك بآيات من كتاب الله تعالى : منها : قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] قالوا : فجعل لكل نفس أجلا لا يصح (٢) أن تموت قبله ولا بعده ، ولا يقتل قبله ولا متأخرا عنه. وجعلوا الأجل كالموجب للموت والقتل. والجواب عن ذلك أن ظاهر الآية يقتضي أنّ عند حصول الأجل لا يصح وقوع التقديم والتأخير فيه ، وذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين. فأمّا قبل حصول الأجل فلم ينف (٣) أن يقع هناك ما يقطع عن بلوغه من قتل ونحوه ، ولم يذكره تعالى لا بإبطال ولا بإثبات وهو موضع النزاع. وإذا كان كذلك سقط تعلّقهم بظاهر الآية. ومنها قوله تعالى : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] قالت الحشوية : فبيّن أن القتل يقع بقضائه ، وأنه لا يقع في ذلك تقديم ولا تأخير.

والجواب : عن ذلك أنّ الكتب يأتي على وجوه ، ولم يأت فيها شيء بمعنى القضاء ، لا في القرآن ولا في لغة العرب. وتلك الوجوه : أحدها بمعنى

__________________

معتزلة بغداد. وتسمى أيضا البشرية ، وهو صاحب الأراجيز المعروفة ، وله أربعون ألف بيت في مذهبه. حبسه الرشيد ثم أطلقه. توفي سنة ٢١٠ ه‍. ينظر الشافي ١ / ١٣٧.

وموسوعة الفرق ص ١٠٣. والموسوعة الإسلامية للأمين ٥ / ٧٠.

(١) أبو الهذيل : هو محمد بن الهذيل العبدي ، ولد ١٣٥ ه‍ أو ١٣٤ ه‍. وهو شيخ معتزلة البصرة ، توفى سنة ٢٢٧ ه‍ ، وقيل : غير ذلك ، وله مؤلفات كثيرة منها : مناظرة أبي الهذيل لمجنون أهل الدير ، ميلاس ، اسم مجوسي أسلم على يده. ينظر الأعلام ٧ / ١٣١.

ووفيات الأعيان ١ / ٤٨٠. ومعجم المؤلفين ٣ / ٧٦٠.

(٢) أما الصحة فيصح ؛ لكن المراد بعدم الصحة عدم تخلف ما علمه الله.

(٣) في (ب) : ينتف.

الفرض والإيجاب. قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [البقرة : ١٨٣] أي فرض عليكم ، وكذلك : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) الآية [المائدة : ٤٥] ، أي فرضنا. وثانيها بمعنى الحكم بالشيء ، كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) [الحج : ٤] أي حكم عليه به. وثالثها : الإخبار كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] أي أخبرنا بذلك. ورابعها بمعنى العلم كقوله تعالى : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] أي علم. وعليه يحمل ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : بينا أنا جالس عند النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أتاه رجل من الأنصار فقال : «يا رسول الله ، إنا نصيب سبيا ونحبّ الأثمان (١) فكيف ترى في العزل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا عليكم ألّا تفعلوا ذلك ، فإنّها ليست نسمة كتب الله عزوجل أن تخرج إلا وهي خارجة» (٢) أي علم. وإذا كان كذلك ؛ لم يخل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) [آل عمران : ١٥٤] ، من أحد هذه الوجوه. ولا يحوز أن يكون بمعنى الفرض والإيجاب ؛ لأن القتل لا يفرض على المقتول ، خصوصا فيمن قتل مظلوما ؛ بل يكون ذلك قبيحا ، ولا يجوز أن يكون بمعنى الحكم ؛ لأن ذلك إنما يكون على سبيل الوجوب. وليس من يقتل من غير استحقاق محكوما عليه بالقتل ؛ بل ذلك يكون ظلما ؛ لعدم الاستحقاق. وإنما يكون معنى قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ) بمعنى الخبر والعلم ، ويكون معناه من أخبر الله تعالى أنه يقتل أو علم ذلك من حاله ، فإنه يكون كذلك ،

__________________

(١) المعنى : أنهم لا يريدون أن يحملن من الوطء لئلا ينقص الثمن.

(٢) أخرجه البخاري ٢ / ٧٧٧ رقم ٢١١٦ ، وقد تكرر.

ولا يلزم أن يكون علمه وخبره قضاء ولا جبرا ، ولا علمه وخبره أيضا يوجبان الأفعال إذ لو كانا يوجبان الأفعال ، فهو تعالى يعلم أفعاله ، فكان يجب أن يفعل ما أخبر به وعلمه من أفعال نفسه ، وذلك محال ؛ لأنه يؤدي إلى أمور كلها باطلة. منها : أنه كان يجب حصول الثواب في دار التكليف وقد علمنا أنه لا يجوز حصوله لما بينه وبين التكليف من التنافي ؛ لأن التكليف يتضمن المشاق كما تقدم بيانه. والثواب ينافي ذلك ولحصول الدلالة على دوام الثواب وحصول الدلالة على انقطاع التكليف بالموت والفناء. ومنها : أنه كان يلزم حصول سائر معلوماته تعالى ولو حصلت لأدى إلى خروجه تعالى عن كونه فاعلا مختارا وذلك محال. ومنها : أنه يعلم أنه يعاقب المجرمين في نار جهنم وأنه يقيم القيامة ، فكان يلزم حصول ذلك في الحال ، وذلك يبطل التكليف ؛ لأنهم يصيرون ملجئين إلى فعل الطاعة ، واجتناب المعصية ، والإلجاء ينافي التكليف كما تقدم ، إلى غير ذلك من الجهالات. والذي يدل على أن العلم لا يؤثر في المعلوم وجوه كثيرة منها : أن العلم بالمعلوم يتبع المعلوم ، ولا يتبع المعلوم العلم ؛ لأن علم زيد بكون بكر في الدار يتبع كونه في الدار في أنه يجب أن يعلم أن كونه في الدار حتى يكون علما ، وكونه في الدار لم يحصل من حيث علم كونه في الدار ، وعلم زيد بكون بكر في الدار لم يوجب كونه ، بل كونه في الدار كالموجب ؛ لكونه عالما به أن يعلمه وعلمه صحيح وهذا واضح. ومنها : أنه كان يجب إذا أخبرنا أو دلّلنا أو علمنا أوصاف القديم تعالى أن نكون قد جعلناه على ما هو عليه بالخبر أو بالدلالة أو بالعلم على أنه يجب أن لا يكون العلم بأن يوجب كون المعلوم بأولى من أن يكون المعلوم موجبا للعلم ؛ لأنه كما يجب أن يكون المعلوم على ما يتناوله العلم ، كذلك العلم إنما يكون علما لوقوع المعلوم على الحد الذي تناوله وهذا ظاهر الفساد.

ومنها : أنا نعلم المعدومات فكان يجب أن نؤثر فيها ؛ لأجل علمنا بها إلى غير ذلك من الأدلة ، وهي ظاهرة إلا أن القدرية كابروا في ذلك. ومما يتعلقون به قول الله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥] قالوا فأخبر أنه لا يموت أحد إلا بإذنه فاتضح أن موت الجميع بأجل معلوم جعله الله له فلا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه سواء كان قتلا أو لا. والجواب : أنه لا خلاف أن الإنسان يموت بأجله ؛ بمعنى أنه يموت عند الوقت الذي علم الله أنه يموت فيه ، وليس في الآية ما يدل على أنّ أحدا لا يقدر أن يقتله قبل. ولا فيها ذكر ، لذلك لا بإثبات ولا بإبطال ، وهو موضع النزاع ؛ فسقط تعلقهم بظاهر الآية. ثم يقال لهم : إن الإذن في اللغة على ثلاثة وجوه لا غير : أحدها بمعنى الأمر كما قال الله تعالى : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧] أي بأمره. وثانيها بمعنى الإباحة والإطلاق ، كقوله تعالى : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) [النساء : ٢٥] أي بإطلاقهم. وقوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) [النور : ٥٨]. وقوله : (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) [النور : ٦٢]. وثالثها بمعنى العلم كقول الحارث بن حلّزة (١) :

آذنتنا ببينها أسماء

ربّ ثاو يملّ منه الثّواء

آذنتنا ببينها ثمّ ولّت

ليت شعري متى يكون اللّقاء (٢)

ولا يجوز أن يكون المراد به الأمر ، والإباحة ؛ لأن الموت ليس إلى الإنسان فيكون مأمورا به ، ولا مباحا له ؛ لأنه ليس من فعله فلم يبق إلا أن يريد بقوله :

__________________

(١) هو شاعر جاهلي ، من أهل بادية العراق من آثاره معلقته ، جمع بها كثيرا من أخبار العرب توفي ٥٠ ق. ه. ينظر معجم المؤلفين ١ / ٥١٨. والأعلام للزركلي ٢ / ١٥٤. والأغاني ١١ / ٤٢ ـ ٥١.

(٢) أنظر ديوانه ص ٣٧.

(إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٤٥] ، أي بعلمه. وقد ثبت أن القتل غير الموت. تصديقه قوله تعالى (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] ؛ فلو كان القتل هو الموت لكان تقدير الكلام أفإن مات أو مات. وهذا خطل من القول لا يجوز أن يتكلّم به الحكيم تعالى ، فبطل ما ذهبوا إليه في ذلك.

ومما يتعلقون به قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) [الأنعام : ٢] ، قالوا : فذكر أن للإنسان أجلين ، وأنه يجوز أن يقطع القاتل على المقتول أحدهما (١). والجواب أنّ هذا منهم تجاهل عظيم ؛ لوجهين : أحدهما أن ظاهر الآية يوجب أنه تعالى : قضى أجلا ، وأنّ عنده أجلا مسمّى. ولم يبيّن أنّ كلا الأجلين في الدّنيا ؛ ولا ذكر ذلك بإثبات ولا بإبطال وهو موضع النزاع. والمراد بذلك أنه قضى الآجال في الدّنيا ؛ لأنه لا أحد إلّا وله وقت قد علم الله تعالى أنه يموت فيه. وقوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) أراد به يوم القيامة ؛ ولذلك أضافه إلى نفسه ، فقال (عِنْدَهُ).

الوجه الثاني : يقال لهم : وكيف يجوز أو يتصوّر أن يكون للإنسان أجلان في الدنيا ، وليس يبلغ إلّا أحدهما ؛ فإن بلغ الأخير بطل كون الأول أجلا له ، وإن لم يبلغ الأخير بطل كونه أجلا له على أيّ وجه قيل.

وممّا يتعلقون به قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) [الأعراف : ٣٤] ، قالوا : وهذا يدل على أنه لا يجوز أن يتقدّمه ولا أن يتأخر عنه ، وذلك يوجب

__________________

(١) في الأصل : أحدهما بالضم ، والذي يظهر لي أنه مفعول به ليقطع ، والفاعل القاتل ، والله أعلم.

أنّ القدرة على خلاف المعلوم لا تصح. والجواب أن الأجل هو الوقت المضروب لحدوث أمر في المستقبل على ما تقدم ، وإن كان قد غلب من جهة الاستعمال على أوقات الحياة والموت ؛ فإذا صحّ ذلك فكلّ وقت علم الله تعالى أن العبد يموت فيه أو أخبر بذلك ، أو حكم فيه بالموت ـ فقد جعله أجلا لموته ، ولا يجوز أن يتقدّم موته ذلك الوقت ولا يتأخر عنه ، لا لأنه لا يقدر على خلافه من حيث علم أن ذلك لا يقع ؛ إذ هو تعالى قادر على خلاف ما علمه ؛ فإنه تعالى قادر على أنه (١) يقيم القيامة الآن ، مع علمه بأنه لا يقيمها الآن (٢). والواحد منّا قادر على أن يعاقب عبده مع عفوه عنه وإضرابه عن عقابه ، فلو لم يكن قادرا على عقابه مع عفوه لما حسن مدحه على العفو ، فقد قدر على خلاف ما علمه الله تعالى ؛ فإنه قد علم أنه يعفو مع قدرته على العقاب لعبده وهذا واضح.

ومما يلزم الشيخ أبا الهذيل على (٣) هذه المقالة ـ وهي أن المقتول لو لم يقتل لمات لا محالة. ويلزم أيضا من وافقه فيها من المعتزلة والحشوية أمران : أحدهما سقوط القصاص ؛ إذ المقتول لو لم يقتل لمات لا محالة على قولهم. كما أن القصاص يسقط عمن قتل بأمر الله ، أو بإباحته ، وكذلك الإثم.

والثاني سقوط الضمان فيكون من ذبح مواشي الغير بغير إذن مالكها ، ولا بإباحة الشرع ـ لا يلزمه ضمانها ؛ بل يكون منعما على مالكها بذبحها ؛ لأنه لو لا ذبحه لها لماتت ولما انتفع بها ؛ لكونها ميتة ؛ فكان على هذا القول يجب شكره على المالك على صنيعه إليه. وعلى قول الحشوية أيضا لمثل ما ذكرناه.

__________________

(١) في (ب) : أن.

(٢) في (ب) : مع علمه أنه لا يقع الآن.

(٣) في (ب) : عن

ولوجه آخر يخصهم دون أبي الهذيل ومن طابقه من المعتزلة ، وهو (١) أن ذبحه لها على قولهم بقضاء من الله تعالى وقدر ، وهما موجبان ؛ فسقط عنه الضمان والإثم والذم ؛ لأن ذلك فعل الله عندهم. وفي علمنا بكون الفاعل لذلك عاصيا وظالما ومستحقّا للذّم ، ومأخوذا بالدية في الانسان الحر ، أو القصاص. وبالقيمة في الأموال ـ دلالة على بطلان مقالتهم جميعا ؛ فسقط قول كلّ واحد من الفريقين بحمد الله ومنّه ، ولم يبق إلا التوقف ، والقضاء بما دل عليه الدليل ، وهو أن المقتول يقتل بأجله ، على معنى أنه يقتل في الوقت الذي علم الله تعالى أنه يقتل فيه ، ولا نقطع (٢) على أنه لو لم يقتل لبقي حيّا لا محالة ، ولا على أنه لو لم يقتل لمات في ذلك الوقت لا محالة ؛ بل نقول : بأن حياته وموته ممكنان من جهة العقل ، وليس في الشرع ما يدل على القطع على أحد الأمرين ؛ فلذلك وجب التوقف في هذه المسألة.

مسألة : في الأرزاق وفيها خمسة فصول :

أحدها في معنى الرزق وهو ما مكّن (٣) من الانتفاع به ، ولم يكن لأحد منعه من الانتفاع به ولا نهيه عن الانتفاع به ، على بعض الوجوه. وثانيها في تعيين فاعلها وهو الله تعالى لأنها من قبيل الأجسام. وقد بينا فيما تقدم أنه تعالى فاعل الأجسام ولا فاعل لها غيره. وثالثها في حسن اكتسابها ونحن نعتقد أن اكتساب الرزق حسن غير قبيح. والخلاف في ذلك مع الصوفية الضالّة الغوية (٤) ؛ فإنهم ذهبوا أنه لا يحسن اكتسابها. والذي يدل على صحة

__________________

(١) في (ب) : وهو على أنّ.

(٢) في (ب) ، (ج) : ولا يقطع.

(٣) في (ب) : ما أمكن.

(٤) يراد بهم بعض الفرق الصوفية التي لا تلتزم الكتاب والسنة وآداب الزهد.

ما ذهبنا إليه وإبطال قولهم دليل العقل والكتاب والسنة والإجماع. أما دليل العقل : فهو أن العقلاء يعلمون بعقولهم ضرورة حسن اكتساب المنافع ، كما يعلمون ضرورة حسن دفع المضار. والأمر في ذلك ظاهر. وأما الكتاب ؛ فقوله تعالى : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) [الجمعة : ١٠] ، وقوله تعالى : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ) [النساء : ٢٩].

وأما السنة : فما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «التّاجر الصّدوق مع النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين ، وحسن أولئك رفيقا» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تسعة أعشار الرّزق في التجارة» (٢). ولما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان برهة من دهره تاجرا وكان يسافر للتجارة. وروي أنه باع واشترى حاضرا حتى قال المشركون : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ، فأوحى الله إليه : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠]. وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من طلب الدنيا حلالا سعيا على أهله وتعطّفا على جاره ، واستعفافا عن المسألة لقي الله ونور وجهه كالقمر ليلة البدر» (٣). وعن ابن عباس أنه قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوم بموضع يقال له : قبا بالمدينة ، فمنهم من يصلي ، ومنهم من يتذاكر العلم ،

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٣ / ٥١٥ رقم ١٢٠٩. والدارمي ٢ / ٢٤٧.

(٢) أخرجه الهندي في كنز العمال ٤ / ٣٠ برقم ٩٣٤٢ عن نعيم بن عبد الرحمن الأزدي ويحيى بن جابر مرسلا.

(٣) أخرجه المرشد بالله في أماليه ٢ / ١٧٣. وفي الحلية ٨ / ٢٣٥ برقم ١١٩٩٩. بلفظ : «من طلب الدنيا حلالا واستعفافا عن المسألة وسعيا على أهله ، وتعاطفا على جاره بعثه الله يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر. ومن طلبها حلالا مكاثرا لها مفاخرا لقي الله وهو عليه غضبان» وأقول : إن الغضب بسبب التكاثر والتفاخر حتى وإن كان الطلب من حلال. وشعب الإيمان ٧ / ٢٩٨ برقم ١٠٣٧٤ بلفظ مقارب.

ومنهم من يتدارس القرآن ، فوقف عندهم ساعة ، ثم قال : من أنتم؟ قالوا : يا رسول الله نحن قوم قرأنا القرآن فمررنا بقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق : ٢ ـ ٣] ، وتوكّلنا على الله (١) فهو حسبنا ونحن المتوكلون. فقال : يا قوم قوموا وتفرّقوا واكتسبوا وابتغوا من فضل ربكم ؛ فإن الله لم يأمر بهذا. قال الله تعالى في أسفل الآية : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق : ٣] ، يعني لكل أمة رزقا وحرفة وكسبا وأنتم المتأكّلون على الناس ، إنما المتوكل على الله الذي يصلّي الخمس في جماعة ، ويبتغي من فضل ربه. قال ابن عباس : فما برح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تفرقوا وصاروا بعد ذلك أصحاب التّجارات (٢). وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بقوم ، فقال : من أنتم؟ قالوا : نحن المتوكلون. قال : كذبتم بل أنتم المتأكّلون. إنما المتوكل رجل ألقى الحبّ وهو ينتظر الغيث (٣). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب الحلال فريضة بعد الفريضة (٤). إلى غير ذلك من الأخبار. وأما الإجماع : فلا خلاف بين المسلمين في أنه يحسن اكتساب الحلال.

ورابعها في حكم الأرزاق ونحن نعتقد أن الحلال يكون رزقا سواء كان في أيدي العصاة أو المطيعين ، وأن الحرام لا يكون رزقا سواء كان في أيدي العصاة أو المطيعين. وهذا هو قول جميع المسلمين (٥).

__________________

(١) في (ب) : وتوكلنا على الله فنحن المتوكلون على الله. وفي (ج) : وتوكلنا على الله ، ونحن المتوكلون.

(٢) أخرجه في فروع الكافي ٥ / ٨٦ بما يوافق هذه الرواية.

(٣) ربيع الأبرار ٤ / ٣٠٢.

(٤) أخرجه في كنز العمال ٤ / ٥ رقم ٩٢٠٣ عن ابن مسعود.

(٥) ينظر رسائل الإمام الهادي عليه‌السلام ٣١٣ ، وشرح الأصول الخمسة ٧٨٧ ، والمغني ١١ / ٣٥.

وذهبت المجبرة إلى أن ما كان في أيدي الناس من حلال أو حرام فإنه يكون رزقا لهم (١). وقولهم بعضه صحيح وبعضه فاسد. فأما الصحيح : فهو أنّ الحلال رزق ؛ ولهذا مدح الله المنفقين من الحلال. فقال (٢) سبحانه : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) [البقرة : ٣] وأباح الأكل منه ؛ فقال : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧]. وما شاكل ذلك من الآيات. وأمّا الفاسد من قولهم ، فهو أنّ الحرام رزق فهذا فاسد ؛ لأنه لو كان ما في يد الغاصب رزقا له ، وكذلك السارق ، وقطّاع الطريق من المحاربين والمتغلّبين ـ لما كانوا غاصبين بأخذه ، ولما وجب على الإمام قتل المحاربين الذين ينهبون في طرق المسلمين ، ولما وجب عليه قطع يد السارق متى سرق من حرز ما يسوى عشرة دراهم (قفلة (٣)) ، ولما وجب عليه أن يسترجع من الغاصب ما غصبه على المسلمين ؛ لأنه لو جعله رزقا لهم ثم أمر بإجراء هذه الأحكام عليهم (٤) لكان ذلك قبيحا وهو لا يفعل القبيح كما تقدم بيانه. يبيّن ذلك ويوضّحه أنّ السلطان لو رزق جنده مالا ثم حظر عليهم الانتفاع به وعاقبهم على الانتفاع به لكان ذلك قبيحا.

وكذلك لو ملّكهم مالا ثم منعهم من الانتفاع به لاستقبح العقلاء هذا الصنيع منه. ولأنه لو كان رزقا للغاصب كما أنه رزق للمغصوب منه أو ملك

__________________

(١) قال عبد الملك الجويني في كتابه الإرشاد ص ٣٠٧ : والذي صح عندنا في معنى الرزق ، أن كل ما انتفع به منتفع فهو رزقه ، فلا فرق بين أن يكون متعديا بانتفاعه وبين أن لا يكون متعديا. والفخر الرازي مج ٦ ج ١٢ ص ٧٧.

(٢) في (ب) : قال.

(٣) القفلة : ما له وزن من الدرهم. القاموس ١٣٥٦.

(٤) في (ب) بحذف عليهم.

ـ للزم إذا ترافعا إلى إمام أو حاكم من حكّام المسلمين أن لا يكون بأن يقضي للغاصب على المغصوب أولى من خلافه ، وأن لا يكون هذا الشيء بأن يجعل ثابتا في يد الغاصب ؛ لأنّه رزقه أولى من أن ينتزع من يده إلى المغصوب منه (١) ؛ لأنه ملكه ، ولا يتأتّى أن يجعل ـ والحال هذه ـ رزقا لهما ؛ لأنّه كان يجب أن يجري مجرى مال بين شريكين ؛ فيكون لكل واحد منهما مثل ما لصاحبه ؛ ولأنه لو جاز أن يجعل رزقا لهما معا لجاز أن يجعل ملكا لهما جميعا ؛ ولأنه لو كان رزقا للغاصب ومن أشبهه لما لزمه عند إتلافه ضمان وغرم ؛ لأن (٢) من أكل من رزق نفسه لا تجب الغرامة عليه. ولم نذكر خلاف المطرّفية في الرزق ، إذ قد أبطلنا في كتاب الرد عليهم ما (٣) ذهبوا إليه في ذلك (٤).

وخامسها في ذكر طرف مما جاء في الكسب الحرام قال الله سبحانه : (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة : ٤٢]. وعن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «كسب المغنّية سحت ، وكسب الزّانية سحت ، وكسب المغنّي سحت ، وحقّ على الله أن لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت» (٥). وعن ابن عباس : لا يقبل (٦) الله صلاة امرئ ، في جوفه حرام. وعن النبي

__________________

(١) في (ب) و (ج) : إلى يد المغصوب منه.

(٢) في (ب) : لأنه.

(٣) في (ب) في ما.

(٤) ذهبوا إلى أن ما جازه العاصي وقبضه فهو مغتصب له ؛ لأن الله لم يأذن له في تناول شيء من رزقه. والظاهر أنه لا فرق بين حلال وحرام فالمهم أن يملكه العاصي وردوا عليهم بإجماع الأمة على أن العاصي يملك ما كسبه من الحلال وأنه يحرم اغتصابه إلا بحق. ينظر عدة الأكياس ج ١ ص ٣١٢.

(٥) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٤٠٠. وكنز العمال ١٥ / ٢٢٦ رقم ٤٠٦٨٩.

(٦) في (ب) و (ج) : أنه قال : لا يقبل.

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من اكتسب مالا من حرام لم يقبل الله منه صدقة ، ولا عتاقا ، ولا حجّا ، ولا اعتمارا ، وكتب الله له بقدر ذلك أوزارا ، وما بقي منه بعد موته كان زاده إلى النّار» (١). وعن ابن عمر أنه قال : لو أن رجلا كانت له تسعة دراهم من حلال فضمّ إليها درهما من حرام ؛ فاشترى بها ثوبا ، لم يقبل الله منه فيه صلاة. فقيل له : سمعت (٢) هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : سمعته من رسول الله ثلاث مرات (٣). وفي بعض الأخبار أنه قال : صمّت أذناي إن لم أكن سمعته من رسول الله ثلاث مرات إلى غير ذلك من الأخبار ؛ فإنّ باب ذلك واسع وفيما ذكرناه تنبيه على ما لم نذكره

فصل في الألطاف التي من أفعال العباد

وهي على ضربين : أحدهما يعلمون بعقولهم أنّها ألطاف لهم جارية مجرى دفع الضرر عن النفس ، وهذا كالعلم بالله تعالى وصفاته وعدله وما يتفرع على ذلك من مسائل أصول الدين على ما تقدم بيانه في أول هذا (٤) الكتاب. والضرب الثاني : لا يعلمون بعقولهم كونه لطفا لهم ، بل إنّما يعلمون ذلك من قبل الشرع فيجب أن يعرفوا صدق الأنبياء (ع) حتى يعلموا ما يؤدّونه إليهم من ألطافهم.

__________________

(١) نظام الفوائد (خ). وإتحاف السادة المتقين (٦ : ١٠) ، والمغني عن حمل الأسفار للعراقي (٢ : ٩١) بلفظ مقارب كما في موسوعة أطراف الحديث.

(٢) في (ب) : أسمعت.

(٣) شرح التجريد ١ / ١٣٦ ، مسألة الصلاة في المغصوب. والاعتصام ١ / ٣٥٠ نقلا عنه.

(٤) في (ب) بحذف هذا.

فصل : في جواز نسخ الشرائع ، ووقوعه

والكلام فيه يقع في موضعين : أحدهما في حكاية المذهب وذكر الخلاف. والثلاني في الدلالة على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالف.

أما الموضع الأول : فذهب أهل الإسلام كافة إلى جواز نسخ الشرائع. والخلاف في ذلك مع اليهود. وذهب قوم ممن يعتزي إلى الإسلام إلى أن النسخ في شريعتنا لا يجوز (١). وقال بجوازه في الشرائع المتقدمة ووقوعه.

وأما الموضع الثاني : وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالف : فالذي يدل على ذلك وجهان : أحدهما أن النسخ في الشرائع قد وقع. والوقوع فرع علي الجواز. وإنما قلنا : بأن النسخ في الشرائع قد وقع ، لما نعلمه أنه كان في شريعة آدم عليه‌السلام جواز تزويج الأخ لأخته التي لم تولد معه. وكان في شريعة يعقوب عليه‌السلام جواز الجمع بين الأختين ، ثم صار ذلك محرما في شريعة موسى عليه‌السلام.

وروي في التوراة أن الله تعالى قال لنوح عليه‌السلام عند خروجه من الفلك : إني قد جعلت كل دابة حية مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم ، كتبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه. وقال الله تعالى في قصة عيسى عليه‌السلام حكاية عن عيسى (٢) : (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) [آل عمران : ٥٠] ، فدل جميع ذلك على وقوع النسخ في الشرائع المتقدمة (٣). فأما في شريعتنا

__________________

(١) وهم غلاة الإمامية والتناسخية كما في معيار العقول ص ٤٢٩. المعتمد عند الإمامية أن نسخ القرآن بالقرآن جائز ونسخ القرآن بالسنة القطعية جائز. ينظر مجمع البيان ج ١ ص ٣٤٢. وأصول الفقه للشيخ محمد آل المظفر ص ٣٢٢.

(٢) في (ب) حكاية عن عيسى محذوفة.

(٣) قال في منهاج الوصول إلى معيار العقول ص ٤٢٩ : والإجماع منعقد على جواز النسخ الذي هو رفع الأحكام بعد ثبوتها ، إلا ما روي عن جماعة شذوا ، وأظن أكثرهم =

فالمخالف في ذلك دافع للضرورة ، لأنا نعلم بالاضطرار أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتوجه في أول الإسلام إلى بيت المقدس مستقبلا له في صلاته هو ومن قد آمن به ، وأمرهم الله تعالى بذلك ثم نسخه بقوله تعالى : (فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) [البقرة : ١٤٤]. ونحو نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول في قوله : (إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر) [المجادلة : ١٢]. ثم نسخها بقوله تعالى : (فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم * ءأفقتهم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) [المجادلة : ١٢ ـ ١٣] ونحو نسخ إمساك النساء الزواني في البيوت في قوله : (فأمسكوهن في البيوت) [النساء : ١٥] ، نسخ الله ذلك بآية الجلد. ونحو نسخ عدة المتوفى عنها زوجها في قوله : (متاعا إلى الحول) [البقرة : ٢٤٠] ، نسخ ذلك بقوله : (يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) [البقرة : ٢٣٤] ، إلى غير ذلك. وهذا كله في القران ، وهو معلوم بالاضطرار.

وإنما قلنا : بأن الوقوع فرع على الجواز ، لأنه لو لم يكن جائزا لكان قبيحا ، ولو كان قبيحا لما فعله الحكيم سبحانه ، لما ثبت أنه تعالى لا يفعل القبيح فلا يبق إلا أن يكون جائزا وحسنا.

__________________

من الرافضة ، فإنهم منعوا من جواز أن يأمر الله بشيء ثم ينهى عنه ، أو يحرمه ثم يبيحه. قلت : ولقد وقفت في بعض التفاسير على رواية جعفر بن محمد عليه السلام أنه نفى أن يكون نكاح الأخت جائزا في شريعة آدم ، قال : ولكن الله أنزل لابن آدم حورا ينكحها فجازات ابنتها لابن أخيه من حوى أخرى ، ثم تناسلوا بعد ذلك لا عن نكاح الأخوات ، وهذه الرواية إن صحت تدل على أن جعفر كان ممن يمنع النسخ في الشرائع ، لكنها رواية مغمورة غير ظاهرة إلا في الباطنية ، وإن صحت فلعل خلافه في الوقوع دون الجواز كما هو رأي أبي مسلم بن يحيى الأصفهاني ، وهو معتزلي العقيدة.

الوجه الثاني أن الشرائع مصالح. والمصالح (١) يجوز اختلافها في الأزمنة والأمكنة وأعيان المكلفين ، وإذا جاز اختلافها جاز ورود النسخ عليها.

وإنما قلنا : بأنها مصالح ، لأنها لو لم تكن مصالح لما حسنت ولا وجبت ، ولا حسن من الله تكليفنا إباها.

وإنما قلنا : بأن المصالحك يجوز اختلافها في الأزمنة والأمكنة وأعيان المكلفين لما نعلمه في الشاهد أن الطبيب العارف بالطب قد يأمر المريض بأن يستعمل في وقت ومكان ما ينهاه عن استعمال مثله في وقت آخر ، ومكان آخر ، ويأمره في وقت ومكان بأن يستعمل من الأدوية ما ينهى غيره من المرضى والأععلاء عن استعماله في ذلك الوقت ، وفي ذلك المكان. والأمر في ذلك ظاهر.

وإنما قلنا بأنه إذا جاز اختلافها جاز ورود النسخ عليها ، لأنا لا نعني بجواز ورود النسخ عليها إلا ذلك ، لأن التعبد بالشرائع فرع على ثبوت المصلحة فمتى اختلفت المصلحة جاز اختلاف التعبد وهذا واضح. وقد أكد الشرع ذلك فيما رويناه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال عن الله تعالى : إنه سبحانه يقول : «إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا السقم ، ولو أصححته لأفسده ذلك. وإن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك. إني أدبر أمر عبادي لعلمي بقلوبهم. إني عليم خبير» (٢). فثبت أن ذلك تابع للمصلحة.

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : بحذف «والمصالح».

(٢) أخرجه في تهذيب تاريخ دمشق ٢ / ٢٤٨ ، كما ذكره في موسوعة أطراف الأحاديث النبوية ص ٤٣٨. والأولياء لابن أبي الدينا ص ٢٨ ، ومجمع الزوائد ٢ / ٢٤٨ ، وعزاه إلى الطبراني في الكبير.

مسألة في النبوءات والكلام فيها يقع في سبعة مواضع :

أحدها في معنى قولنا : رسول الله ونبيّ الله. وثانيها في حسن إرسال الله تعالى للرسل. وثالثها في بيان صفة المرسل. ورابعها هو الكلام في المعجز الدال على نبوة الأنبياء (ع). وخامسها هو الكلام في نبوة نبينا محمد المختار وغيره من الأنبياء (ع). وسادسها في ذكر نبذة من الأخبار الدالة على كون نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأنبياء (ع) وأكرمهم على الله تعالى. وسابعها في جواز نسخ الشرائع.

أما الموضع الأول وهو في معنى قولنا : رسول الله ، ونبيّ الله :

فالرسول : يفيد في أصل اللغة أن مرسلا أرسله إلى غيره (١) برسالة قد تحملها وقام بقبولها وأدائها. وفي عرف الشرع لا فرق بين قولنا : رسول الله وبين الرسول مطلقا. وهو المتحمل للرسالة عن الله بغير واسطة آدمي.

وقولنا : نبي الله بغير همز لفظة نبيّ يفيد الرّفعة لما شهد له اللغة في النّباوة التي يراد بها الرفعة. فإذا قلنا : نبيّ الله بغير همز أفاد كونه عظيم المنزلة عند الله تعالى لما تحمّل عن الله تعالى من الرسالة بغير واسطة آدمي. وإذا همزت لفظة نبيء كانت من الإنباء وهو الإخبار ، ولا يفيد الرفعة بنفسه ، بل لا بد من واسطة وهو أن يكون الله تعالى قد أخبره بمصالح أمته لا بواسطة آدمي ، ولا يخبره بذلك إلا على طريق إرساله إليهم فيستحق الرفعة لذلك ؛ فلهذا المعنى صار معنى الرسول والنبي في الشريعة واحدا. وقد أجراهما الله تعالى في كتابه مجرى واحدا فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ). وقال : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) في (ب) : أنه مرسل ، والتغير واضح على اللفظة.

الرَّسُولُ). وكذلك معنى النبوة والرسالة قد (١) صار في الشرع واحدا.

وأما الموضع الثاني وهو في حسن إرسال الله تعالى للرسل

فإنا نعتقد كون ذلك حسنا ، والذي يدل على ذلك أن العقل يجوّز أن يكون فيه فائدة ، وأن يتعرّى عن سائر وجوه القبح ، وكلّ ما هذا حاله فإن العقل يجوّز حسنه. وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على أصلين : أحدهما : أن العقل يجوّز أن يكون في إرسال الله تعالى للرسل فائدة ، وأن يتعرّى عن سائر وجوه القبح. والثاني : أن كل ما هذه حاله فإن العقل يجوّز حسنه.

أما الأصل الأول : فالذي يدل عليه إمّا أنه يجوز أن يكون فيه فائدة ؛ فلأنه يجوز أن يكون مصلحة للمكلفين بأن يحثّهم على ما في عقولهم فيكونون مع ذلك أقرب إلى الإتيان بذلك ، كما ثبت أنّ لأمر الزهاد ووعظ الوعاظ هذه المزية مع تجويز الخطأ عليهم ، فكيف بمن يظهر عليهم المعجز. وهذه فائدة عظيمة كافية في ذلك. ثم نقول : وفيه فائدة أخرى وهي : أن يرد الوعيد على سبيل القطع فيكون المكلفون مع ذلك أقرب إلى الانزجار عن القبائح العقلية ويصرفهم عن فعل القبائح العقلية التي لم يبلغ العقل إلى معرفة تفصيلها ، كما أن الطبيب العارف يعرّف المريض من المصالح النافعة له ما لم يكن يعرف بعقله تفصيله. وإذا جاز أن يخفى على بعضنا من المصالح النافعة ما لم يعرفه (٢) البعض الآخر ـ جاز أن يخفى علينا منّ مصالحنا ما يعلمه علام الغيوب ، وإذا جاز ذلك جاز أن يبيّنه تعالى لنا على ألسنة الرسل. وإمّا أنه ليس فيه وجه من وجوه القبح ؛ فلأنّ وجوه القبح محصورة ، والعقل يقطع على انتفاء

__________________

(١) في (ب) : فقد.

(٢) في (ب) : يعرف. وقال في الهامش : الأولى ما لم يخف على البعض وذلك ظاهر.

كثير منها عن إرسال الرّسل. ولا سبيل للمخالف إلى القطع على واحد (١) منها في ذلك. فهذا هو الأصل الأول.

وأما الأصل الثاني : وهو أنّ كلما هذه حاله فإنّ العقل يجوّز حسنه. فالذي يدل على ذلك ما قدمنا من أنّ الحسن هو ما كانت فيه فائدة ، وتعرّى (٢) عن سائر وجوه القبح.

وأما الموضع الثالث ـ وهو في صفة المرسل :

فالمرسل يجب أن يكون من جنس من أرسل إليهم. وقد نبّه الله تعالى على ذلك بقوله : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٥]. ويجب أن يكون في غاية الكمال من العقل والتمييز وحسن الرأي ، وأن لا يكون على صورة منفّرة (٣) ، نحو صورة القردة والخنازير ، ولا يجوز أن يكون أجذم ، ولا أبرص ، ولا أن يكون به سلس البول ، ونحو ذلك مما تقع النّفرة عنه لأجله. ويجوز أن يكون صغير السّن إذا كان كامل العقل نحو عيسى ويحيى (ع).

ويجوز أن يكون أعمى أو أصم (٤) ما لم يتعلق أداء الشريعة بهما. فهذا ما يتعلق من الأوصاف بالخلقة ، ولا يظهر خلاف بين العلماء في اشتراطها. ومن الأوصاف ما يتعلق بشرعه. والذي يجب أن ينفى عنه في ذلك الكتمان ، والنسيان ، والزيادة ، والنقصان ، والخطأ في ذلك ، والتغيير ، والتبديل ، وترك الصبر على العوارض دون الأداء ، وما أشبه ذلك.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : على حصول واحد.

(٢) في (ب) و (ج) : ويعرى.

(٣) في (ب) : منفردة ، وصوّبها في الهامش على ما في الأصل.

(٤) في (ب) : أعمى وأصم. والظاهر ما في الأصل.

ومنها ما لا يتعلق بشرعه. ثم منها ما يتعلق بمعجزته ، وذلك أنه يعصم عن الإحسان (١) لجنسها والإتيان به ؛ لأن ذلك يؤثّر في سكون النفس إلى معجزته ، وكونه يحسن جنس معجزته يوهن أمرها ؛ فيجب أن يعصم عن ذلك. ومنها ما لا يتعلق بمعجزته ، وهو أشياء : منها ما يرجع إلى أخلاقه. ومنها ما يرجع إلى غيرها ممّا يتعلق بفعله ومما لا يتعلق بفعله ؛ فيجب أن يعصم عن الفظاظة والغلظة على المؤمنين ، ويعصم عن سوء الأخلاق. ويجب أن لا يكون ولد زنا ، ولا يكون لقيطا ، ولا حجّاما ، ولا حمّاميّا ، ونحو ذلك من الخدم التي يستنكرها (٢) القوم الذين يرسل إليهم ، ويسترذلونها. ويجب أن يعصم عن الكبائر قبل النبوة وبعدها ، وعن الكذب صغيرا كان أو كبيرا ، وعن الصغائر المسخّفة المنفّرة كالأكل على الطرقات. خلافا للحشوية والكرّامية فإنهم يجوّزون على الأنبياء الكبائر قبل النبوة وبعدها. وعندنا أنهم لا يأتون بشيء من الصغائر إلا على سبيل التأويل دون العمد (٣).

والذي يدل على اعتبار ما تقدم أن الغرض بالبعثة للرسول هو الأخذ عنه والقبول ؛ لتنزاح به علّة المكلّفين. فكما أنه يجب في الحكمة أن يمكّنه الله من الأداء والتبليغ ؛ لئلّا يكون ذلك مفوّتا لمصالح المكلّفين ـ كذلك يجب في الحكمة أن يعصمه عن كل منفّر ليكون المكلّف أقرب إلى القبول ؛ لأن اللطف ينبغي أن يفعل على أبلغ الوجوه.

__________________

(١) في هامش (ب) : حاشية نصها : ينظر والذي ظهر من قوله عن الإحسان ، في سياق الكلام أنه يشترط أن لا يحسن النبيّ أن يأتي بمثل معجزته من ذات نفسه ؛ لأنه يكون توهينا لشأن المعجزة ، وتلبيسا للمعجز بغيره ، فلا وجه للنظر على كلام الأمير فهو مستقيم ؛ فتأمل ، تمت كاتبها. والخلاصة أن النبي يجب أن لا يحسن جنس معجزته.

(٢) في (ب) و (ج) : يستكرهها.

(٣) ينظر الفخر الرازي مج ٢ ج ٣ ص ٩.

واعلم أيها المسترشد أن الأنبياء (ع) بشر من الناس كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، وهم مركّبون على الخطإ والنسيان إلا فيما أمروا بتبليغه فإنهم معصومون عن ذلك كما تقدم بيانه. وقد قال الله تعالى في نبينا عليه‌السلام : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) [الأعلى : ٦] فثبت أنه يعصمه عن نسيان ما أمر بتبليغه.

وأما في غير ذلك فجائز عليهم النسيان. قال الله تعالى في آدم عليه‌السلام : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) [طه : ١١٥]. ومعنى قوله : (فَنَسِيَ) أي نسي النظر ، وهو فعله لا فعل الله تعالى. وقيل : النسيان هاهنا بمعنى التّرك أي ترك النظر. ومعنى قوله (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ، قيل : عزما على المعصية في المستقبل. وقال تعالى حاكيا عن موسى في اعتذاره إلى العالم عليهما جميعا السّلام : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) [الكهف : ٧٣].

وروينا أن النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى بجماعة الظّهر خمس ركعات ساهيا فلما أعلموه بذلك استقبل القبلة وهو جالس ، وسجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع وسلّم (١). وروي أنه سها عن التشهد الأوسط فلم يعد له ، ثم سجد سجدتي السهو بعد التسليم (٢). وكذلك فإنهم غير معصومين عن الشهوات ، بل هم مركّبون على شهوة القبائح والمعاصي ؛ لأنهم لو لم يكونوا كذلك لم يكن للواحد منهم ثواب في لزم نفسه وقمعها عن القبائح ، ولما كان محمودا على ترك اتّباع الشهوات ؛ ولكنهم أقوى على لزم أنفسهم عن

__________________

(١) المجموع للإمام زيد ١٢٣ ، وفي البخاري ١ / ٤١١ رقم ١١٦٨. ومسلم ١ / ٤٠٢. قبل التسليم.

(٢) البخاري ١ / ٤١١ رقم ١١٦٧. ومسلم ١ / ٣٩٩ رقم ٥٧٠. قبل التسليم والغرض الاستدلال على سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المحرمات ؛ لما شاهدوه من الدلائل والمعجزات.

ويجوز أن يصرف الله عنهم بالتوفيق والعصمة كثيرا من المحظورات ، كما قال تعالى حاكيا عن يوسف : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) [يوسف : ٣٣]. ثم قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [يوسف : ٣٤].

وأما الموضع الرابع :

وهو الكلام في المعجز الدالّ على نبوة الأنبياء (ع)

فالكلام فيه يقع في موضعين : أحدهما في حقيقة المعجز ، وبيان صحة الشروط الداخلة في حقيقته. وثانيهما في جواز ظهور جنس المعجز على غير نبي ، نحو أن يكون إكراما لوليّ ، أو تكذيبا لعدوّ ، أو إرهاصا لنبوة نبي.

أما الموضع الأول فالمعجز في اصطلاح المتكلمين هو الفعل الناقض للعادة الحاصلة من فعل الله تعالى ، وما يجري مجرى فعله المتعلّق بدعوى المدّعي للنبوة. والذي يدل على صحة هذا الحد أنه يكشف عن معنى المحدود على وجه المطابقة ، ولا يفهم في اصطلاح المتكلمين سوى ذلك ؛ ولهذا يطرد المعنى فيه وينعكس. وكلّ ذلك من دلائل صحة الحد.

وإنما اشترطنا في المعجز أن يكون ناقضا للعادة ؛ لأنّ ما هو معتاد لا يكون دلالة على نبوة أحد ؛ إذ نسبته إلى صدق المدعي كنسبته إلى كذبه لعدم الاختصاص به. واشترطنا أن يكون من فعل الله تعالى ، نحو قلب العصا حيّة ، وإخراج النّاقة من جبل ، ونحو ذلك. أو جاريا مجرى فعله بأن يكون بإقداره وتمكينه نحو إقدار المدّعي للنبوة على المشي على الهواء أو على الماء ونحو ذلك ؛ لأن الله تعالى هو الدالّ بالمعجز على صدق رسله فلم يكن بدّ من

أن يكون له تعلّق ، وليس ذلك إلا بأن يكون على ما قلنا ؛ فيكون (١) نسبته إليه أولى من نسبته إلى غيره. واشترطنا أن يكون متعلقا بدعوى المدّعي.

والمراد بذلك أن يكون مطابقا لها ، وعقيبها ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن بأن يدلّ على نبوته أولى من أن يدلّ على نبوة غيره ، ولا بأن يدل على صدقه أولى من أن يدل على كذبه. فما كان على هذه الأوصاف فهو معجز ، ومتى اختل شيء منها فليس بمعجز.

وأما الموضع الثاني وهو في ظهور جنس المعجز على غير نبي نحو أن يكون إكراما لوليّ أو تكذيبا لعدو ، أو إرهاصا لنبوة نبيّ فنحن نعتقد جواز ذلك. وهو قول أهل البيت (ع) ، وهو قول سائر الزيدية.

والذي يدل على ذلك أنه قد وقع ، فلو كان قبيحا لما وقع. وإنما قلنا : بأنه قد وقع لما رواه العلماء نحو ما رواه صاحب الإكليل (٢) : وهو ما أنزله الله تعالى على أعين الناس من التّراب الذي يشبه الطحين من نواحي زبيد (٣) إلى صنعاء إلى الجوف إلى مأرب (٤). وكذلك الظلمة العظيمة الحادثة في زبيد على وجه لا يمكّنهم التصرف بالنهار إلا على المصابيح. قال : وهذان أمران ظاهران حادثان في الزمان القريب.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : ويكون.

(٢) في (ب) و (ج) : صاحب كتاب الإكليل. وهو الحسن بن أحمد الهمداني ، ويعرف بابن الحائك ، ولد بصنعاء سنة ٢٨٠ ه‍ ، عالم ، أديب ، مؤرخ ، مشارك في أنواع من العلوم ، توفي سنة ٣٣٤ ه‍ ، وقيل : بل عاش بعدها ، ورجح الشامي أنه توفي سنة ٣٤٠ ه‍. وله الإكليل في مفاخر اليمن ، والقصيدة الدامغة وشرحها ، وكتاب الجوهرتين العتيقتين في الكيمياء وغيرها. ينظر في ترجمته : تاريخ اليمن الفكري ١ / ١٨٢.

(٣) اسم مدينة بتهامة اليمن تبعد جنوبا يمن بحوالي ١٠٠ ك. بنيت أيام المأمون.

(٤) الجوف ومأرب محافظتان يمنيّتان ناحية الشرق من صنعاء على بعد ١٥٠ ك.

ونحو ما نقلته أرباب السّير والأخبار أنّ السحاب كان يظلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل نبوته (١). وأن الملائكة نزلت عليه في حال صغره ، وشقّوا صدره ، وغسلوا قلبه (٢). وأنّ الحجارة كانت تسلّم عليه. ونحو قصة الفيل وشبهها ، مما جعله البصريون معجزا بزعمهم لنبيّ في ذلك الزمان اسمه خالد بن سنان (٣) لم ينزل بذكره كتاب ولا وردت به سنة ، ولا قامت على نبوته دلالة.

__________________

(١) أنظر السيرة النبوية لابن كثير ١ / ٢٢٨ : عن ابن عباس قال : خرجت حليمة تطلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد وجدت البهم تقيل ، فوجدته مع أخته ، فقالت : في هذا الحر ، فقالت أخته : يا أمه ما وجد أخي حرّا ، رأيت غمامة تظلل عليه إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت ، حتى انتهى إلى هذا الموضع.

(٢) ابن كثير في سيرته ١ / ٢٢٩.

(٣) خالد بن سنان العبسي : حكيم ، واختلف هل هو نبي أم لا ، فقد قال بعضهم : إنه لم يكن نبيا ، قال المجلسي : الأخبار الدالة على نبوته أقوى ، كان في أرض بني عبس ، يدعو الناس إلى دين عيسى. قيل : إنه كان بعد المسيح بثلاثمائة سنة ، قال ابن الأثير : معجزته أن نارا ظهرت بأرض العرب فافتتنوا فيها وكادوا يدينون بالمجوسية ، فأخذ خالد عصا ، فضربها وهو يقول : بدّا بدّا ، كل هدي مؤدّى ، لأدخلنها وهي تلظى ، ولأخرجن منها وثيابي تندى ، وطفئت وهو في وسطها. وقد روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال عند ما وفدت إليه ابنته فبسط رداءه وأجلسها عليه ، قال : «ابنة نبي ضيّعه أهله» [كنز العمال ١٢ / ١٤٨ رقم ٣٤٤٢٩] ، وفي حديث : قال لها «مرحبا يا ابنة أخي» ، وقال في شرح نهج البلاغة : إن خالدا لم يكن يقرأ كتابا ولا يدعي شريعة وإنما كانت نبوته مشابهة لنبوة جماعة من أنبياء بني إسرائيل الذين لم تكن لهم كتب إنما ينهون على الشرك ويأمرون بالتوحيد ، وقد أنكر الصادق عليه‌السلام أن يكون نبيّا كما ذكر ذلك صاحب الاحتجاج ٢ / ٣٤٦ قال عليه‌السلام في أسئلة الزنديق ، منها : أخبرني عن المجوس هل بعث إليهم خالد بن سنان؟ قال عليه‌السلام : إن خالدا كان عربيّا بدويّا ، وما كان نبيّا ، وإنما ذلك شيء يقوله الناس. وهو كما يظهر رأي الأمير. ينظر الأعلام ٢ / ٢٩٦. وميزان الحكمة ٤ / ٣١٨٢. والنور المبين للجزائري ص ٦٠١. والطبقات الكبرى لابن سعد ١ / ٢٩٦.

ونحو كرامات أهل البيت (ع) (١)

ونحن نورد طرفا من كراماتهم ليتضح به الأمر.

[كرامات الإمام الحسين عليه‌السلام]

فمن ذلك أن الحسين السبط بن علي الوصي أمير المؤمنين (ع) لمّا قتل بكربلاء بكت عليه الأرض والسماء ، وقطرت ـ كما رويناه بالنقل الصحيح ـ دما (٢).

[كرامات الإمام زيد بن علي (ع)]

ومن ذلك كرامات زيد بن علي السجّاد بن الحسين الشهيد (ع). ونحن نذكر من كراماته وهو مصلوب على الخشبة طرفا دون ما عداها من كراماته.

__________________

(١) الكرامات عند الزيدية مقبولة. وأما المعتزلة فأنكروها. الشافي ٤ / ٤. وقال إمام الحرمين في كتاب الإرشاد ٢٦٦ ، فالذي صار إليه أهل الحق جواز انحراف العادات في حق الأولياء. والفخر الرازي في تفسيره مج ٤ ج ٨ ص ٣٣ في سياق الآية ٣٧ من سورة مريم : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) ، قال : هذا دليل جواز الكرامات.

(٢) ذكره الشهيد المحلي في الحدائق الوردية ١ / ١٢٤ ـ ١٢٨. وأبو نعيم في دلائل النبوة ص ٥٨٢. والمحب الطبري في ذخائر العقبى ص ١٤٥ عن نضرة الأزدية. وتهذيب التهذيب لابن حجر ٢ / ٣٥٤. والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٩٦. والسيوطي في الدر المنثور في تفسير الآية : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا) في سورة مريم ٤ / ٤٧٥. وأيضا في تفسير سورة الدخان في الآية : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ج ٥ / ص ٧٤٩.

فمنها : ما رواه سعيد بن خثيم (١) ، قال : حدثني شبيب بن غرقدة (٢) قال : دخلنا الكنّاس (٣) ليلا فلما أن كنا بالقرب من خشبة زيد بن علي (ع) ـ وهو مصلوب عليها ـ أضاء لنا الليل فلم نزل نسير قريبا من خشبته فنفحت رائحة المسك ، قال : فقلت لصاحبي : هكذا توجد رائحة المصلّبين؟ قال : فهتف بي هاتف : هكذا توجد رائحة أولاد النبيين الذين يقضون بالحق وبه يعدلون (٤). ومنها : عنه أيضا (٥) ، قال : حدثني غير واحد لا أحصي من سمعت منه هذا الحديث أنّ زيدا عليه‌السلام كان يوجّه بوجهه ناحية الفرات ، فيصبح وقد دارت خشبته ناحية القبلة مرارا (٦). وصلبوه عريانا فعلت العنكبوت حتى نسجت على عورته (٧). ومنها : ما رويناه عن يوسف بن زفر وكان قد أدرك زيد بن علي (ع) ، قال : صلب زيد بن علي عريانا ؛ فلم يمس حتى سقطت سرّته على عورته فسترته (٨). ومنها : ما رويناه عن سماعة بن موسى قال : رأيت زيد بن علي (ع) مصلوبا بالكناسة ، فما رأى أحد له عورة ، استرسل جلد من بطنه من

__________________

(١) ابن رشد الهلالي كوفي ، قال فيه يحيى بن معين : شيعي ثقة ، وقدري ثقة. تهذيب الكمال ١٠ / ٤١٣.

(٢) السلمي ، ويقال البارقي الكوفي ، تابعي وثقه أحمد ويحيى بن معين والنسائي وذكره ابن حبان في الثقات ، روى له الجماعة. تهذيب الكمال ١٢ / ٣٧٠ ، وتهذيب التهذيب ٤ / ٢٨١.

(٣) الكناس : موضع بالكوفة صلب فيه الإمام زيد عليه‌السلام.

(٤) الحدائق الوردية ١ / ١٤٩.

(٥) بحذف أيضا في (ب).

(٦) ابن عساكر ١٩ / ٤٧٩.

(٧) الحدائق الوردية ١ / ١٤٨. وعمدة الطالب ٢٨٩. وتاريخ ابن عساكر ١٩ / ٤٧٩. وحياة الحيوان للدميري ٢ / ٢٦٦. مادة العنكبوت عنه.

(٨) مقاتل الطالبين ص ١٤٤.

قدّامه وخلفه ، حتّى ستر عورته.

ومنها ما رويناه عن (١) فاطمة امرأة من بني سلامة لمّا مرّت بزيد وهو مصلوب بغير لحاف حلّت خمارها عن رأسها ثمّ رمت به على عورته ؛ فاستدار الخمار حتى انعقد في وسطه ، وهم ينظرون فصعدوا فحلوه ؛ فاسترخت سرّته حتى غطّت عورته ؛ فمضوا يعني الحرس إلى يوسف بن عمر (٢) والي هشام بن عبد الملك ـ لعنهم الله ـ فأخبروه فقال : امضوا فأحرقوه ؛ فإذا صار مادا فاذروه في الفرات (٣) إلى غير ذلك من كراماته. وقد ذكرنا طرفا منها في كتاب الإرشاد.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : ما روينا أنّ.

(٢) هو يوسف بن عمر بن محمد بن الحكم أبو يعقوب ، الثقفي أمير من جبابرة الولاة في العهد الأموي. كانت منازل أهله في البلقاء بشرقي الأردن ، وولي اليمن لهشام بن عبد الملك سنة ١٠٦ ه‍ ثم نقله هشام إلى ولاية العراق سنة ١٢١ ه‍ ، وأضاف إليه إمرة خراسان ؛ فاستخلف ابنه الصلت على اليمن ، ودخل العراق ، وعاصمته يومئذ الكوفة فقام بها ثم قتل سلفه في الإمارة خالد بن عبد الله القسري تحت العذاب. واستمر إلى أيام يزيد ابن الوليد فعزله يزيد في أواخر سنة ١٢٦ ه‍ ، وقبض عليه وحبسه في دمشق إلى أن أرسل إليه يزيد بن خالد القسري من قتله في السجن بثأر أبيه سنة ١٢٧ ه‍. وكان يسلك سبيل الحجاج في الأخذ بالشدة والعنف ، وكان يضرب به المثل في التيه والحمق ، يقال : أتيه من أحمق ثقيف ، قال الذهبي : كان مهيبا جبارا ظلوما. ينظر الأعلام ٨ / ٢٤٣ ، وسير أعلام النبلاء ٥ / ٤٤٢.

(٣) أنظر الطبري ٧ / ١٨٩. ومقاتل الطالبيين ص ١٤٤. وما رواه ابن عساكر ١٩ / ٤٧١ قال : بعث هشام إليه فقتلوه فقال الموكل بخشبته : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم وقد وقف على الخشبة ، وقال : هكذا تصنعون بولدي من بعدي ، يا بني ، يا زيد ، قتلوك قتلهم الله ، صلبوك صلبهم الله ، فخرج هذا في الناس ، وكتب يوسف بن عمر إلى هشام أن عجل إلى العراق فقد فتنهم ، فكتب إليه : أحرقه بالنار ، فأحرقه. وفي المقاتل ص ١٤٣ : فلما ظهر يحيى بن زيد كتب الوليد إلى يوسف : أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر عجل أهل العراق فاحرقه وانسفه في اليم نسفا.

[كرامات الإمام القاسم الرسي عليه‌السلام]

ونحو كرامات الإمام العالم ترجمان الدين أبي محمد القاسم بن إبراهيم (ع) فإنه دعا إلى الله في مخمصة فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به صاحب سليمان بن داود فجاءه العرش قبل ارتداد الطّرف ؛ فتهدّل البيت رطبا على القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع). وروينا أنه عليه‌السلام دعا الله تعالى في ليلة مظلمة ، فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي إذا دعيت به أجبت فامتلأ البيت نورا إلى غير ذلك من كراماته (١) [عليه‌السلام].

[كرامات الإمام الهادي عليه‌السلام]

ونحو كرامات الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الحافظ بن القاسم بن إبراهيم (ع) (٢). ويكفي في ذلك طيب رائحته عند الموت. وكان يقول لولده الإمام المرتضى لدين الله محمد بن الهادي (ع) : يا بنيّ هذا يوم ألقى الله فيه ، ولقد رجوت أن يبلغني الله الأمل في جهاد الظالمين ، ومنابذة الفاسقين ، والله غالب على أمره. قال المرتضى لدين الله وهو عليه‌السلام مع ذلك جالس لم تتغير

__________________

(١) أنظر الحدائق الوردية ٢ / ٤. ومقاتل الطالبيين للأصفهاني ٥٥٦. قال أبو الفرح : وأخبرنا أحمد بن سعيد عن محمد بن منصور ، قال : سمعت القاسم بن إبراهيم يقول : أعرف رجلا دعا في ليلة وهو في بيت ، فقال : اللهم إني أسألك بالاسم الذي دعاك به صاحب سليمان فجاءه السرير ؛ فتهدل البيت عليه رطبا قال : وسمعت القاسم بن إبراهيم يقول : أعرف رجلا دعا الله تعالى : اللهم إني أسألك بالاسم الذي من دعاك به أجبته ـ وهو في ظلمة ـ فامتلأ البيت نورا ، قال محمد : عنى به نفسه.

(٢) الإمام الهادي أعظم مصلح عرفه التاريخ اليمني ؛ فقد بذل نفسه ودمه وماله في سبيل الدعاء إلى الله ورسوله ، وتطبيق الشريعة المطهرة ؛ ليعم الخير والصلاح ، حتى قضى نحبه شهيدا بالسم وتوفي سنة «٢٩٨ ه‍».

جلسته غير أن الصّفرة تعتليه قليلا قليلا ، وهو يذكر الله ويمجده ثم أدنى برأسه ، وخفي صوته ، قال المرتضى لدين الله : فأضجعته فإذا هو قد فارق الدنيا (١).

[كرامات الإمام الناصر للحق عليه‌السلام]

ونحو كرامات الإمام الناصر للحق عليه‌السلام (٢) ؛ فإنّ رجلا كان في بلد (٣) الدّيلم متلصّصا يقطع الطريق بين الغياض ، ويقتل الناس ، ومعه كلب له قد ضرّاه يأكل الناس ؛ فكان يعمد من الرجل إلى مذاكيره فيقطعها فمرّ به الناصر عليه‌السلام فأغرى الرجل به الكلب فلم يطعه بل بصبص (٤) بالناصر ، فلما قرب من الناصر أغراه الناصر بمالكه. وقال له : يا كلب كله ؛ فافترس الكلب حينئذ مولاه وقتله ، وبقي بعد ذلك مع الناصر للحق عليه‌السلام (٥). ونحو النور الذي رئي يضيء

__________________

(١) درر الأحاديث النبوية ص ٢٠٢.

(٢) من أئمة الزيدية في الجيل والديلم ولد سنة ٢٢٥ ه‍ أثنى عنه الكثير سواء وافقوه في اعتقاده الزيدي أم لا. فها هو الطبري في تاريخه يقول : ولم ير الناس مثل عدل الناصر الأطروش وحسن سيرته ، وإقامته الحق. أسلم على يده مليون نسمة من أهل الجيل والديلم ت ٣٠٤ ه‍. وقبره مشهور مزور. وله البساط ـ طبع ـ والمغني. والباهر ، جمعه أبو القاسم إسماعيل البستي. وكتاب التفسير الذي يشتمل على ألف بيت من ألف قصيدة ، وغيرها. قيل : إن مؤلفاته تزيد على ثلاثمائة. ينظر التحف شرح الزلف ص ١٨٤. والشافي ١ / ٣٠٨. تراجم رجال شرح الأزهار للجنداري ص ١١. ومعجم المؤلفين ١ / ٥٦٧. والفلك الدوار ص ٣٨. والطبري ١٠ / ١٤٩ في حوادث سنة ٣٠٢ ه‍. والحدائق الوردية ٢ / ٢٨. وأخبار أئمة الزيدية ص ٨٥.

(٣) في (ب) ، (ج) : بلاد.

(٤) في الأصل ، نضنض. في القاموس ص ٧٩١ بصبص الكلب : حرّك ذنبه ، وهو الصحيح.

(٥) أنظر الحدائق الوردية ٢ / ٣٤. وأخبار الأئمة الزيدية في الديلم ٢٢٣.

من دار الناصر قبل موته وهو يصعد إلى السماء ، فما زال كذلك حتى فارق الدنيا ، فلما مات انقطع ذلك الضوء. ونحو أمره للضفدع بأكل الحنش فأكلته (١). ونحو قصة الكلب ؛ وهو أنّ رجلا صنع له طعاما وجعل فيه سمّا ، ثم أدخله عليه وكان مع الناصر عليه‌السلام الكلب الذي تقدم ذكره الذي أغرى به صاحبه أوّلا فأكله ، فلمّا أدخل الناصر على الطعام نبح الكلب نباحا مستنكرا ، وأتاهم إلى موضع الطعام فتركه فأكل منه قبل الناصر عليه‌السلام ؛ فأكل منه ومات إلى غير ذلك من كراماته (٢) ؛ فإنها كثيرة.

[كرامات الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان] (٣)

ونحو كرامات الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان من ولد الهادي (ع) فإنه روي أن رجلا من المطرفية الأنجاس كان واقفا مع جماعة من الزيدية بمسجد حوث (٤) ؛ فتذاكروا الإمام المتوكل على الله فسبّه المطرفي ولعنه فنهاه أهل المسجد فنزل ثعبان من سقف المسجد فالتوى بحلق المطرّفي ، وهو يخنقه

__________________

(١) ينظر أخبار الأئمة الزيدية ٢٢٤. والحدائق الوردية ج ٢ ص ٣٤.

(٢) انظر أخبار الأئمة الزيدية في الديلم ٢٢٣.

(٣) الإمام المتوكل على الله : هو أبو الحسن أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر بن علي بن الناصر أحمد بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين ، ولد سنة ٥٠٠ ه‍ ، من أكابر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، كان من العباد الزهاد المجاهدين ، بويع له سنة ٥٣٢ ه‍ ، واستفاض على جميع اليمن ، وخطب له بينبع والنخيل ، وانقادت لأحكامه الجيل والديلم ، وتوفي عليه ٥٦٦ ه‍ ، وقبره بحيدان مشهور مزور ، وله مؤلفات منها : أصول الأحكام ، وحقائق المعرفة ، ورسالة عامة ، وكتاب المطاعن ، وكتاب الهاشمة لأنف الضلال ، وشرحها العمدة ، والمدخل في أصول الفقه. ينظر التحف ٢٣١ ، وطبقات الزيدية ١ / ١٣٤.

(٤) حوث : مدينة شمال صنعاء بحوالي ١٥٠ ك.

خنقا عظيما حتى كاد أن يهلكه ثم أفلته ؛ فتاب المطرفي بعد ذلك وأناب. ومن كراماته ما رواه الإمام المنصور بالله عليه‌السلام وهو أمور : منها أنه أتاه شيخ كبير فشكى عليه الصمم فنفث في أذنيه ودعا له فبرئ من الصمم بلطف الله تعالى.

ومنها أنه مسح على رجل أعمى فارتدّ بصيرا يرى ويبصر بلطف الله تعالى. ومنها أنه في بعض مخارجه لحق أصحابه وعسكره العطش الكثير حتى أشفوا (١) على الهلاك ، وهم في موضع لا ماء فيه ؛ فقام عليه‌السلام فعلم لهم فيه ثلاثة أمكنة ، وقال : احفروا ؛ فحفروا موضعين ، فلحقوا الماء على قامة وبسطة ؛ فشرب الناس كلهم ، وسقوا بهائمهم ، وملئوا مزادهم (٢) وجميع أسقيتهم ، وطهروا واستقوا وأمسوا إلى الصبح. ثم طهروا وصلوا صلاة الفجر وارتحلوا ، فلما فصلوا من الماء وصاروا في بعض الطريق ، رجع منهم قوم لشيء نسوه من أدواتهم فأتوا وليس للماء أثر ، ولا بقي منه شيء. فلحقوا بالناس وأعلموهم. وكانوا من أهل الصدق والثقة والدين ، فعجب الناس من ذلك وزادهم ذلك يقينا. وقال بعض شعرائهم (٣) في المتوكل على الله عليه‌السلام من جملة أبيات (٤) :

__________________

(١) في (ج) : أشرفوا.

(٢) في (ب) : مزاودهم.

(٣) هو القاضي محمد بن عبد الله الحميري وكان من أولياء المتوكل ، وله فيه مدائح ذكر بعضها صاحب الحدائق ج ٢ ص ١٣٠ ..

(٤) مطلعها :

يا ابن بنت النبي كلّ لسان

مادح ما يكون مدح لساني؟!

غير أن الولي لله لا تن

كر فيه خصائص الرحمن

ظهرت فيك معجزات كبار

لم نخلها تكون في إنسان

لم نخبّر عنها سماعا ولكن

نا رأينا يقينها بالعيان

تبرئ الأكمه البصير (١)

وتشفي

بشفى الله أعين العميان

وتسوق الحيا (٢)

إلى حيث ما كن

ت وتجري الأنهار في الغيطان (٣)

ومنها أن رجلا من مذحج يقال له : دهمش ، وكان غلاما ريّسا شجاعا شابّا جاهد بين يديه في بلاد يام (٤) فاستشهد صابرا محتسبا ، وتاب عند القتال ، وكان قبل ذلك مسترسلا في المعاصي كما يسترسل الشبان ، فبقي أهله يتأسّفون عليه من النار ، فرضخت صبيّة صغيرة بنت ثلاث سنين ، فبينا هي تجود بنفسها إذ قالت : لا تقبروني مع الكبار أهل النار ، واقبروني مع الصغار أهل الجنة ، وإنّ دهمشا من أهل الجنة ، وعليه صيام شهر رمضان ، وهي لا تعرف دهمشا ولا تعرف ما عليه.

ونحو ذلك من كراماته عليه‌السلام كقصة تراب التيمم (٥). وقصة السيل يوم صعدة. وقصة ورقة الذرة المكتوب فيها خلقة من الله تعالى : «لا إله إلا الله محمد رسول الله أحمد بن سليمان المتوكل على الله حجة الله» (٦) ؛ فما تقدم

__________________

أنظر الشافي ١ / ٣٤٥. وهامش (ب).

(١) في الشافي ١ / ٣٤٥ : العليل. وهو الأصح.

(٢) الحيا : المطر.

(٣) الغيط ـ بغين معجمة ومثناة تحتية وطاء مهملة هو : البستان.

(٤) مخلاف شرق صنعاء.

(٥) حيث يسّر الله له ترابا جافّا رغم أن الأرض مبلولة بالمطر. ينظر الشافي ١ / ٣٤٤.

(٦) أنظر الحدائق الوردية ٢ / ١٢٥.

رواه الإمام المنصور بالله عليه‌السلام (١) إلا قصة ورقة الذرة فأنا أرويها عن بعض العلماء.

[كرامات الإمام عبد الله بن حمزة عليه‌السلام] (٢)

ونحو كرامات الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ع) (٣) ؛ فإنا روينا أنه كتب كتاب (٤) بركة الصبي قد ابيضت عينه (٥) فما كان إلا أن تعلّق الكتاب وأبصر في الحال وعوفي.

ومن كراماته : النور الذي وقع على مدينة شبام (٦) وقد أقبل الإمام (٧) المنصور بالله متوجها إلى بلدهم في أوّل الليل في آخر شهر ، حتى ظنه بعضهم ضوء القمر ، فلما أظهر ظنّه وقال هو ضوء القمر عرّف بغلطه. وقيل : إنك في

__________________

(١) أنظر الشافي ١ / ٣٤٢ ـ ٣٤٦.

(٢) هو إمام الجهاد والاجتهاد ، ولد سنة ٥٦١ ه‍ ، ودعى إلى الله سنة ٥٩٤ ه‍ ، ومكث يجاهد بلسانه وسنانه فرق البغي حتى توفي بكوكبان ، ثم نقل إلى بكر ، ثم إلى ظفار ، وقبره مشهور مزور ، وله مؤلفات شهيرة. ينظر في ترجمته التحف ٢٤١ ، واللطائف السنية ٧٥ ، والسيرة المنصورية لأبي فراس دعثم ، تحقيق الدكتور عبد الغني محمود عبد العاطي.

(٣) لو اقتصرنا في كراماته على ما شيده في ظفار وكيف استطاع عمّار تلك الصخور الضخمة في ذلك العلو الشاهق الذي لا تصل إليه إلا الطيور ، أن يبنوها أو حتى يرسبوها فقد زرت ظفارا ولم أستطع الوقوف على الجدران لأن تحتها هواء سحيق. وقد كان الإمام يقلب الحجار بنفسه ـ لكان أعظم كرامته وأجمل فضيلة تدل على همة فوق السحاب. المحقق.

(٤) في (ب) : كتابا. بركة /

(٥) في (ب) : عيناه.

(٦) شبام كوكبان : شمال غرب صنعاء ب ٥٦ ك م. وهناك أربع مناطق يمنية يطلق عليها شبام.

(٧) الإمام محذوفة في (ب).

أخر الشهر. وهي قصة ظاهرة ، وكرامة شاهرة (١). ومنها ما روي من الراية الخضراء الرابعة لراياته الثلاث. ومنها فتحه باب غمدان بصنعاء بشصّة من نشابة من غير تعب (٢) وكان لا ينفتح بمفتاحه إلا بعد علاج شديد.

ومنها الطيور البيض التي رآها الشيخ أحمد بن الحسن الرّصّاص (٣) رحمه‌الله ، وهي قدر ثمانية مظلّة على رأس المنصور بالله عند دخوله مدينة صنعاء. إلى غير ذلك من كراماته (٤) فإنّها كثير. (٥)

[كرامات الأمير شمس الدين يحيى بن أحمد]

ونحو كرامات الأمير شمس الدين الداعي إلى الحق شيخ العترة يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الناصر بن الحسن بن عبد الله المعتضد بالله بن الإمام المنتصر لدين الله أبي القاسم محمد بن الإمام المختار لدين الله أبي محمد القاسم بن الإمام الناصر لدين الله أحمد بن الإمام الهادي إلى الحق (ع) فإنه عليه‌السلام مضى في طريق في بلاد خولان (٦). وفيها شجرة عظيمة فأصابته

__________________

(١) التحف شرح الزلف ص ١٦٦.

(٢) «من غير تعب» محذوف في (ب).

(٣) هو العلامة أحمد بن الحسن الرصاص من كبار علماء الزيدية ، كان فقيها أصوليا متكلما ، توفي سنة ٦٢١ ه‍ ، وله مؤلفات في الأصولين ، منها : مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم. أعيد طبعه بتحقيقنا. والواسطة في أصول الدين. والشهاب الثاقب في مناقب علي بن أبي طالب ، والخلاصة النافعة. أنظر مطلع البدور (خ) ، وطبقات الزيدية ١ / ١٠٩.

(٤) ينظر الحدائق الوردية ٢ / ١٥٢ ـ ١٥٤.

(٥) في (ب) ، (ج) : كثيرة.

(٦) خولان : قبيلة تقع شمال غرب صعدة ، وهي خولان ابن عامر ، وتوجد قبيلة خولان المشهورة شرق صنعاء وتسمى خولان الطّيال.

فدعا عليها فاقتلعها الله تعالى من أصلها في الحال (١).

[كرامات الأمير بدر الدين محمد بن أحمد]

ونحو كرامات أخيه الأمير بدر الدين شيخ العترة الطاهرين ، الداعي إلى الحق المبين والدي [أي والد المؤلف] محمد بن أحمد قدس الله روحه ، فإنه عند ولادته ـ وكانت في الليل ـ ارتفعت سبلة المصباح وطالت حتى بلغت سقف البيت. ومن كراماته رضى الله عنه أنّ شاة آذته بنجس كان فيها فدعا عليها فأماتها الله في الحال ولم يمهلها (٢).

ومنها ما أخبرني به الأمير تاج الدين أحمد بن بدر الدين أدام الله سعادته (٣). قال : حكى لي الثقة العدل المرضي : أنه كان مع الأمير بدر الدين شيخ آل رسول الله صلوات الله عليهم في مخرجه إلى نجران ، فبيناه (٤) يطهّر وكان بطيء الطّهور (٥) جدّا إذ بالمطر قد أقبل فأصابنا فغرقنا جميعا إلّا الأمير

__________________

(١) لا يناسب الدعاء على شجرة تضفي على المكان بهاء وجمالا إلا إذا كانت مزعجة ذات شوك ، وفي الطريق. وفي تقديري أن أئمة الهدى ليسوا بحاجة لمثل هذا ؛ فسيرتهم العاطرة لا تحتاج لشيء آخر ؛ لأن قناعة الناس بهم تعود إلى التزامهم بسيرة جدهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) في (ب) تعليقة للسيد مجد الدين حفظه الله صاحب التحف واللوامع قال فيها : الأولى أن تحذف هذه الكرامة في الطبع وإن كان ذلك جائزا ، ولعل هذه الشاة كانت تأكل النجاسة ، فرأى أن الأولى إزالتها ، ولم ير ذبحها لأنها جلّالة ، ولبعد بعض الأفهام عن المعرفة. تمت

(٣) أخو المؤلف كان معروفا بالعلم والدين والصلاح جامعا لخصال الفضل ، وله تصنيف في أصول الدين ، ولّاه الإمام المنصور على صعدة ونجران بعد استشهاد الأمير مجد الدين. ت ٦٤٤ ه‍ وعمره ٦٣ سنة إلّا ثلاثة شهور ، وقبره بمشهد الإمام الهادي بصعدة. ينظر تراجم رجال الأزهار ص ٣٢. والتحف ص ٢٦١.

(٤) كأن كتابة الكلمة «فبينا هو».

(٥) قال في المغرب ٢ / ٢٨ : الطّهور بالفتح مصدر بمعني التطهر.

بدر الدين فإنّ الله تعالى جعل على مكانه حيث يطّهّر هالة صحو كهالة القمر فما أصابه شيء أصلا مع إبطائه (١) في الطهور ، والمطر مستمر حواليه لا عليه وهو في العرا والصّحا إلى أن فرغ من طهوره سالما. قال الأمير الفاضل تاج الدين طول الله مدته : فعجبت من هذه الحكاية عجبا عظيما ، ثم وقعت مع الأمير بدر الدين رحمة الله عليه في مثل هذه الكرامة ، وذلك أني سلكت معه في طريق القد (٢) حتى انتهينا إلى جبل يسمى عربوصان ، وأصابتنا مطارة عظيمة غزيرة. فالتجأت أنا ورجل معي إلى أصل شجرة بقرب الطريق ، فلم تكنّنا من المطر ، بل غرقنا غرقا عظيما إلى أن وقف معنا بجنبها الأمير الكبير بدر الدين رضوان الله عليه. قال الأمير تاج الدين خلد الله علوّه فأنا أشهد أن المطر حوالينا قاب الرمح أو أكثر كأفواه القرب ، وما زاد أصابنا بعد وقوفه معنا حتى القطرة الواحدة ببركته رضوان الله عليه.

ومن كرامات الأميرين الكبيرين شيخي آل رسول الله شمس الدين وبدره ، ورأس الإسلام وصدره : يحيى ومحمد رضوان الله عليهما ـ ما أخبرني به الشريف الطاهر الفاضل العالم جمال الدين كعبة الشّرعيين علي بن الحسين أدام الله أيامه (٣) ، قال : خرجت ذات ليلة إلى قبريهما لزيارتهما ، وهي في ليلة

__________________

(١) في (ب) : بطائه ، ولعل الهمزة سقطت.

(٢) قرية في جبل رازح.

(٣) اتفقت الزيدية على فضله واعتمدت كتبه وكان متواضعا ، أخذ عنه الأمير الحسين مؤلف الينابيع. وله مؤلفات منها اللمع في الفقه وهو من أجلّ كتب الزيدية في الفقه وهي مأخوذة من التحرير لأبي طالب ، والتجريد للمؤيد بالله ، والكواكب. وله القمر المنير على التحرير ، والدرر في الفرائض ، وقد أذن للإمام أحمد بن الحسين في إصلاحه ، وهداية البرايا والوصايا. توفي سنة ٦٢٧ ه‍ ، ودفن في قطابر ناحية صعدة إلى جنب ابني عمه شمس الدين وبدر الدين. ينظر مطلع البدور (خ). تراجم رجال شرح الأزهار ١ / ٢٤ ، وطبقات الزيدية ٢ / ٧٢٥.

من ليالي رمضان ، قال : وإذا برائحة العود القاقلي قريبا من قبريهما. قال : فداخلني الرعب وولّيت. ثم قلت : لا بد من المعاودة لأتحقّق من أين هذه الرائحة؟ قال : فعدت فإذا بها في قبريهما دون سائر القبور ، وزال ما كان بي من الرّعب. إلى غير ذلك من كرامات أهل البيت (ع).

وجوّزنا نقض العادة إذا كان تكذيبا لعدوّ ؛ لما روي أن مسيلمة الكذاب لمّا حكي له : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تفل في بئر ، فيها ماء قليل فزاد ماؤها ، ودعا لأعور فرد الله بصره. فتفل مسيلمة في بئر فيها ماء فغار ماؤها. ودعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة. وما أشبه ذلك. فثبت قولنا : إنّ ذلك قد وقع. وإنما قلنا : بأنه لو كان قبيحا لما وقع ؛ فالذي يدل على ذلك ما قدمنا من أنه تعالى لا يفعل القبيح.

وأما الموضع الخامس

وهو في الكلام في نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

فالذي يدل على إثبات نبوته وجهان : أحدهما أنه ظهر على يديه المعجز عقيب دعواه للنبوة. وكلّ من ظهر على يديه المعجز عقيب دعواه للنبوة فهو نبي صادق. وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على أصلين : أحدهما أنه ظهر على يديه المعجز عقيب دعواه للنبوة. والثاني : أن من ظهر على يديه المعجز عقيب ادعائه للنبوة فهو نبي صادق.

أما الأصل الأول وهو أنه قد ظهر على يديه المعجز عقيب ادّعائه للنبوة ؛ فذلك ظاهر ؛ فإنّه ادّعى النبوة ، ثم جاء بالقرآن ، وجعله معجزة له. ولا شبهة في كونه أعظم المعجزات. وأعظم إعجازه بلوغه في الفصاحة مبلغا عظيما. قصرت الفصحاء قاطبة عن الإتيان بما يقاربه ويدانيه في ذلك ، مع اشتماله على الحقيقة

والمجاز ، والمحكم والمتشابه ، وكونه مصونا عن الزيادة والنقصان ، وعن الاختلاف والتناقض ، ومشتملا من العلوم على ما لا يحيط به الذّكر ، ومنطويا على قصص المتقدمين ، مختصرة في بعضه ومستوفاة في البعض الآخر بحيث لا ينقض كاملها ناقصها ، ويفيد أحدهما (١) من الفوائد ما لم يفده البعض الآخر. ومنطويا على علم الأوّلين والآخرين.

وكونه معجزة باقية في هذه الأمة إلى يوم الدّين ، ثم تحدّى أهل الفصاحة وقرّعهم بالعجز وادّعى تمييزه (٢) على العرب والعجم لمكانه ، وبيّن أنهم لو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان بمقدار سورة من مثله في فصاحته ونظمه لما قدروا على ذلك ؛ فلما عجزوا عن ذلك عدلوا إلى المحاربة الشّاقّة التي فيها إتلاف الأنفس والأولاد ، وذهاب الطارف من مالهم والتّلاد (٣). وظهر على يديه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات كثيرة ؛ فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بألف معجزة.

وقد رواها العلماء وعدّدوها ، وهي مشهورة عندهم (٤). فمنها ما رووه بطريق التواتر ، ومنها ما رووه بطريق الآحاد. وكلّها محفوظ بحمد الله تعالى :

__________________

(١) في (ب) : أحدها

(٢) في هامش الأصل : تميزه. ظ.

(٣) الطارف : المال الحديث المكتسب. والتّالد ، والتّلاد : المال القديم الأصلي الذي ولد عندك. المختار ٧٨.

(٤) ذكر القاضي عياض في الشفاء ١ / ٤٩٣ : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر الرسل معجزة ، وأبهرهم آية ، وأظهرهم برهانا ، وهي في كثرتها لا يحيط بها ضبط ؛ فإن واحدا منها وهو القرآن لا يحصى عدد معجزاته بألف ولا ألفين ولا أكثر ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تحدى بسورة منه فعجز عنها أهل العلم .... ثم قسم معجزاته إلى قسمين : ١ ـ متواترة قطعية كالقرآن. ٢ ـ ما لم يبلغ مبلغ الضرورة والقطع. وهذا القسم الثاني على نوعين : نوع مشتهر منتشر رواه العدد وشاع الخبر به عند المحدثين ونوع ممن اختص به الواحد والاثنان.

فمن معجزاته كلام الشاة المسمومة له (١) بعد طبخها (٢). ونحو مسير الشجرة إليه وكلامها له (٣). ونحو كلام الحمار اليعفور (٤) ، وكلام الجمل (٥) ، والضب (٦) ، والظبية (٧) ، وتسبيح الحصى في يده (٨) ، وحنين الجذع إليه (٩) ، ونحو مسير الصخرة فوق الماء إليه ، وكلام الصبي في المهد له (١٠) ، ونحو نبوع الماء من بين أصابعه (١١) ونحو إحيائه للموتى (١٢). وغير ذلك مما لا نحصيه لكثرته.

__________________

(١) في (ب) ، (ج) بحذف له.

(٢) إثبات نبوة النبي ص ١٤٤. والقاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٠٧.

(٣) إثبات نبوة النبي ص ١٤٧ ، وقال : إنه تكرر في مواضع : منها مكة ، والمدينة حتى أقبلت إليه تشق الأرض شقّا ، ومرتين في الصحراء حين أراد قضاء الحاجة اجتمعت له شجرتان فاستتر بهما وقضى الحاجة ثم افترقا. ودلائل النبوة لأبي نعيم ٢ / ٣٨٩. والشفاء للقاضي عياض ١ / ٥٧٣ بعدّة روايات.

(٤) أخرج أبو نعيم في دلائل النبوة ٢ / ٣٨٧ : عن معاذ بن جبل قال : أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو بخيبر حمار أسود ، فوقف بين يديه ، فقال له : من أنت؟ ، فقال : أنا عمرو ابن فلان ، كنا سبعة إخوة ، كلنا ركبنا الأنبياء ، وأنا أصغرهم ، كنت لك ، فملكني رجل من اليهود ، فكنت إذا ذكرتك كبأت به فيوجعني ضربا ، فقال النبي له : «فأنت يعفور». وينظر الشفاء للقاضي عياض ١ / ٦٠٤.

(٥) دلائل النبوة ٢ / ٣٨٢ ـ ٣٨٤. والشفاء للقاضي ١ / ٦٠١

(٦) دلائل النبوة لأبي نعيم ٢ / ٢٧٧. والشفاء للقاضي ١ / ٥٩٤.

(٧) رواها أبو نعيم في دلائل النبوة ٢ / ٣٧٥. في (ب) و (ج) : وكلام الذئب. وقد أخرج كلامه القاضي في الشفاء ١ / ٥٩٥.

(٨) أخرجه في دلائل النبوة ٢ / ٤٣٢. والشفاء للقاضي عياض ١ / ٥٨٨.

(٩) رواها الإمام المؤيد بالله في إثبات النبوة ص ١٤٥. والبخاري ٢ / ٧٣٨ رقم ١٩٨٩.

(١٠) أخرجه في دلائل النبوة ج ٦ ص ٥٩.

(١١) رواها الإمام المؤيد بالله في إثبات نبوة النبي ص ١٤٥ ، والبخاري ٥ / ٢١٣٥ رقم ٥٣١٦. والشفاء للقاضي عياض ١ / ٥٥٠. وقال : أما الأحاديث في هذا فكثيرة جدا.

(١٢) أخرجه في الشفاء ص ٦٠٧.

فثبت الأصل الأول وهو أنه ظهر على يديه المعجز عقيب ادّعائه للنبوة ـ وإن كان ثابتا ؛ لأنّه معلوم ضرورة بطريق التواتر ـ إلّا أنّا ذكرناه هكذا على طريقة التّبيين والاستظهار.

وأما الأصل الثاني ـ وهو أنّ كل من جاء بالمعجز عقيب ادعائه للنبوة فهو نبي صادق ؛ فالذي يدل على ذلك أن المعجز تصديق من الله سبحانه لمن ظهر على يديه ؛ لأنه لو قال : الذي يدل على صدقي أنكم لا تحرّكون أيديكم ، أو أن الله تعالى يقلب هذه العصا حيّة ثم فعل الله له ذلك ـ كان (١) ذلك جاريا مجرى أن يقول له : صدقت. دليل ذلك ما نعلمه في الشاهد أن أحدنا لو ادّعى بحضرة السلطان أنه قد ولّاه على الرعية يتصرف كيف شاء ، ثم قال : والذي يدل على صدقي أن السلطان ينزع خاتمه من يده فيجعله في يدي ، أو ينزع تاجه من فوق رأسه فيجعله فوق رأسي ؛ ثم فعل السلطان له ذلك ؛ فإنّ كلّ عاقل يعلم أن ذلك يكون تصديقا له ، وأنه جار مجرى أن يقول له :صدقت فيما ادعيت من الولاية.

فإذا ثبت ذلك وجب أن يكون من ظهر عليه المعجز صادقا ، وإلا وجب أن يكون كاذبا ؛ لكون القسمة في ذلك دائرة بين النفي والإثبات. ولا يجوز أن يكون كاذبا ؛ لأنّ الله تعالى لو صدّقه وهو كاذب كان ذلك قبيحا ؛ لأن تصديق الكاذب قبيح ، والله تعالى لا يفعل القبيح كما تقدم بيانه ؛ فثبت بذلك نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجب تصديقه فيما جاء به من شرائع الإسلام.

الوجه الثاني : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء بالأخبار الكثيرة عن الغيوب الماضية والمستقبلة على سبيل التفصيل ، واستمر ذلك على حدّ لا يمكن البشر الإعلام

__________________

(١) في (ب) و (ج) : لكان.

به إلا بإعلام الله تعالى. وكلّ من جاء بذلك فهو نبيّ صادق. وهذه الدلالة تنبني على أصلين : أحدهما أنه جاء بالأخبار الكثيرة عن الغيوب الماضية والمستقبلة على سبيل التفصيل ، واستمر ذلك على حدّ لا يمكن البشر الاعلام به إلّا بإعلام الله تعالى. والثاني أنّ كل من جاء بذلك فهو نبي صادق.

أما الأصل الأول فذلك ظاهر : أمّا إخباره عن الغيوب الماضية ؛ فنحو إخباره بقصة آدم وحوّاء وأولادهما ، ونوح وقومه ، وأخبار سائر الأنبياء المفصّلة في القرآن ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، ونحو أخبار أهل الكتابين ونشر فضائحهم وأفعالهم.

وأمّا إخباره عن الغيوب المستقبلة ؛ فنحو إخباره بأسرار المنافقين ، وما قد عزموا على فعله في المستقبل ، وإخباره بأن اليهود لا يتمنون الموت في قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] وكان الأمر في ذلك على ما أخبر. ونحو إخباره بهزيمة بدر قبل وقتها ، في قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) [القمر : ٤٥] ؛ وكان الأمر على (١) ما أخبر. ونحو إخباره بقصة ملك الروم وفارس في قوله تعالى : (الم* غُلِبَتِ الرُّومُ* فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) [الروم : ١ ـ ٣]. ونحو قوله للزبير بن العوام : «إنّك تقاتل عليّا وأنت له ظالم» (٢).

__________________

(١) في (ب) : بحذف على.

(٢) أخرجه كنز العمال ١١ / ٣٣٩ رقم ٣١٦٨٩ ورقم ٣١٦٩٠. والبيهقي في الدلائل ٦ / ٤١٤ ، ٤١٥. وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٢٦٨. والطبري ٤ / ٥٠٩. والكامل لابن الأثير ٣ / ١٢٢. وتاريخ الإسلام (عهد الخلفاء) للذهبي ص ٤٨٨ ـ ٤٩٨. والإصابة لابن حجر ١ / ٥٢٧.

وقد ذكّره ذلك أمير المؤمنين (ع) يوم الجمل فعدل عن القتال. ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار بن ياسر رضي الله عنه : «تقتلك الفئة الباغية» (١). ، فقتله أصحاب معاوية .... يوم صفّين. وكان الأمر كما أخبر. ونحو وعده لأصحابه بكنوز كسرى وقيصر. وقوله لسراقة بن جعشم ـ وقد نظر إلى ذراعيه ـ : «كأني بك وقد لبست سواري كسرى». وكان سراقة أشعر الذراعين دقيقهما ، فلما افتتح المسلمون خزائن كسرى على عهد عمر ، وحمل المال فوضع في المسجد فرأى (٢) عمر منظرا لم ير مثله ، والذهب والياقوت والزبرجد واللؤلؤ يتلألأ ، فقال : أين سراقة بن جعشم ؛ فأتي به ، فقال له عمر : البس السوارين وهما سوارى كسرى ففعل سراقة ، فكان ذلك آية ظاهرة إذ وقع الأمر كما أخبر (٣). ونحو قوله لسلمان الفارسي : «سيوضع على رأسك تاج كسرى» ؛ فكان الأمر على ما أخبر. ونحو قوله لعائشة : «ستنبحك كلاب الحوأب» (٤) ، فكان الأمر كما

__________________

(١) البخاري ج ١ ص ١٧٢ رقم ٤٣٦ وج ٣ ص ١٠٣٥ رقم ٢٦٥٧. ومسلم ج ٤ ص ٢٢٣٦ رقم ٢٩١٦. والمستدرك ج ٣ ص ٣٨٦ وساق جملة روايات. والترمذي ج ٥ ص ٦٢٧ رقم ٣٨٠٠ حسن صحيح غريب. وتأريخ الإسلام عهد الخلفاء ص ٥٧٧ ـ ٥٨٢. وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٢٥٢. والمعجم الكبير للطبراني ج ٤ ص ٨٥ رقم ٣٧٢٠. ومجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٤١ ـ ٢٤٢ وج ٩ ص ٢٩٥ ـ ٢٩٧. قال العلامة محمد بن إبراهيم الوزير في القواصم والعواصم ٣ / ١٤٤ بعد ذكر الحديث : فإن الحديث متفق على صحته وشهرته في ذلك العصر ، وإنه ما قدح فيه من القدماء أحد. بل قال الذهبي في ترجمة عمار ١ / ٤٢١ : إنه حديث متواتر.

(٢) في (ب) : حمل الماء فوضع في المسجد فنظر.

(٣) أسد الغابة ٢ / ٤١٤. والرياض المستطابة ص ١١. والإصابة لابن حجر ٢ / ١٨ ، ١٩. وإثبات نبوة النبي للمؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني ص ١٤٨.

(٤) أخرجه المؤيد بالله في إثبات النبوة ص ١٤٠. والبداية والنهاية ٦ / ٢٣٦ وقد ذكره من طرق كثيرة. والطبري ٤ / ٤٥٧.

أخبر. ونحو إخباره للصحابة بأن أويسا القرني رحمه‌الله يرد عليهم بعد وفاته وأن به برصا دعا الله له فبرئ كلّه إلا قدر الدرهم. وكان عمر يسأل عنه ويطلبه حتى ظفر به (١). ونحو نعيه لجعفر بن أبي طالب على بعد منه ، وكان الأمر على ما أخبر (٢).

ونحو قوله لأمير المؤمنين عليه‌السلام : «لتخضبنّ هذه من هذه» (٣) ؛ فقتله ابن ملجم لعنه الله ؛ فكان الأمر على ما أخبر. ونحو قوله : «ستقاتل النّاكثين ، والقاسطين ، والمارقين» (٤) ؛ فقاتل الناكثين : الزبير ، وطلحة ، وأصحاب الجمل. وقاتل القاسطين الجائرين معاوية ، وأهل صفّين. وقاتل المارقين عن الدين وهم الخوارج ، فكان الأمر على ما أخبر. ونحو إخباره لأمير المؤمنين عليه‌السلام بأنه يقتل ذا الثدية ، وهو رجل من الخوارج كان له يد مثل حلمة الثدي ، وعليها شعر مثل شعر الهر ، وكان يختم القرآن في ركعتين ، ولم ينفعه ذلك بل كان ممن قال الله تعالى فيه وفي أشباهه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ* عامِلَةٌ ناصِبَةٌ* تَصْلى ناراً حامِيَةً) [الغاشية : ٢ ـ ٤]. وقتل يوم النّهروان ، وأمرهم علي عليه‌السلام بطلبه وكان آية له ، وعلامة أنه على الحق. وأنّ الخوارج على الباطل فطلبوه فلم يجدوه ، فقال : اطلبوه فو الله ما كذبت ولا كذبت ؛ فأمعنوا في الطلب فوجدوه وأتوا به عليا عليه‌السلام ؛ فكبّر وحمد الله وخرّ الله ساجدا (٥) ومن معه من المسلمين ، وكان الأمر

__________________

(١) أخرجه المؤيد بالله في إثبات النبوة ص ١٤٦. ومسلم ٤ / ١٩٦٨ رقم ٢٥٤٢.

(٢) أسد الغابة ١ / ٥٤٤. والسيرة لابن هشام ج ٤ ص ٢٧. وإثبات نبوة النبي ص ١٤٧.

(٣) الاستيعاب ٣ / ٢١٩. ودلائل النبوة ج ٢ ص ٥٥٢ وفي ذخائر العقبى ص ١١٢.

(٤) رواه أبو طالب في أماليه ص ٦٦. والمستدرك للحاكم ٣ / ١٣٩. وفي ذخائر العقبى ص ١١٠.

(٥) في (ب) ، (ج) : وخرّ ساجدا.

على ما أخبر (١). إلى غير ذلك مما يطول تعداده ، ويسمج إيراده لظهوره واشتهاره ، وكثرته واستمراره ، ولا شبهة في ذلك وفي كون ذلك مما لا يمكن البشر الإعلام به إلّا بإعلام الله تعالى ؛ فثبت الأصل الأوّل.

وأما الأصل الثاني وهو أنّ كل من جاء بذلك فهو نبي صادق. فالذي يدل على ذلك أنه لو لم يكن عالما لما جاز استمرار ذلك على وتيرة واحدة ، وطريقة مستمرة ، وإنما يجوز ذلك على سبيل الاتفاق والشذوذ والنّدور (٢) ، وذلك ظاهر. ولن يكون عالما بذلك على سبيل الاستمرار إلّا وهو نبي صادق ؛ لأنه لا يعلم ذلك إلا بوحي من الله تعالى لما ثبت من أنه لا يعلم الغيب إلا الله سبحانه ، قال تعالى : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) [لقمان : ٣٤].

ولا يجوز أن يظهر الغيب على كاذب ؛ لأن ذلك قبيح لما فيه من التلبيس والتغرير ، وقد بينا (٣) أنه تعالى لا يفعل القبيح ؛ فيجب أن نقضي (٤) أن هذه الأخبار صادرة من قبل الله تعالى ، وأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صادق بما ادّعاه من النبوة ، وأن الله تعالى إنما أعلم بها رسوله تصديقا لقوله وتأييدا لأمره. وهذان الوجهان

__________________

(١) ذكر ذلك أبو طالب في أماليه ص ٢٩ ـ ٣٤. وأحمد بن حنبل ١ / ٢٣٠ رقم ٨٤٨. وص ٢٩٦ رقم ١١٨٨ ، ١١٨٩. وص ٣١٠ رقم ١٢٥٤. والكامل لابن الأثير ٣ / ١٧٥. والبداية والنهاية ٧ / ٣٢٣. والطبري ٥ / ٨٨.

(٢) في الأصل : والندور ، ثم خدشت الواو الراء ، والأظهر ما هو مثبت.

(٣) في (ب) و (ج) : وقد ثبت.

(٤) غير منقوطة في جميع النّسخ ، فيجوز تقضي بالتاء ، ويقضي بالياء ، ونقضي بالنون ، ويقضى مغير صيغة.

كافيان في إثبات (١) نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وبذلك يظهر صدقه فيما أخبر به من نبوة الأنبياء (ع) ، وصدقهم جميعا فيما جاءوا به من الشرائع والأحكام وبذلك ثبت الكلام في الموضع الخامس.

وأما الموضع السادس : وهو في ذكر نبذة من الأخبار الدالة على كون نبيّنا أفضل الأنبياء ، وأكرمهم على الله تعالى (٢).

فهذا باب واسع ، غير أنّا نختصر من ذلك ما يكون منبّها على غيره ممّا لم نذكره. روينا بالإسناد الصحيح إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي : بعثت إلى الأحمر والأسود ، ونصرت بالرّعب على مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلّت لي الغنائم ، ولم تحلّ لنبي قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وإنه ليس نبي إلا وقد سأل شفاعته ، وإني ذخرت شفاعتي فجعلتها لمن لا يشرك بالله شيئا (٣).

وأوحى الله إلى موسى : قل لبني إسرائيل لا ينفعكم إيمانكم بالتوراة وموسى ، وبالإنجيل وعيسى حتى تقرّوا بمحمد ، وهو من القبيلة المباركة بني هاشم. وإنه المبعوث في الأمة المرحومة ، وإنه خطيب من وافى القيامة. وشفيع

__________________

(١) «إثبات» ساقطة في (ب).

(٢) قد لا نجد تخريجا لتفصيل فضله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كل نبي على حدة لكنا نكتفي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» [الحاكم ٢ / ٦٠٤] ، وقد علم أنه أفضلهم وإمامهم وخاتمهم صلّى الله عليهم أجمعين. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متّى» يحمل على التواضع وهضم النفس.

(٣) وأبو طالب في أماليه ص ٤٢. والبخاري ١ / ١٢٨ رقم ٣٢٨. ومشكل الآثار ٢ / ٢٦٣. ومسلم ١ / ٣٧٠ رقم ٥٢١. وأحمد بن حنبل واللفظ له ٧ / ١٧٣ رقم ١٩٧٥٦. والدارمي ٢ / ٢٢٤.

من لم تكن له وسيلة ، وإن دينه خير الأديان ، وشرائعه أسهل الشرائع ، وأتباعه خير أتباع المرسلين ، وإنّ بين كتفيه خاتم النبوة ، وإن شعاره البرّ ، والصدق ، والعدل ، والإنصاف ، ولباسه التقوى ، ودار هجرته طيبة ، وهي يثرب.

ومن جملة ما فضّله الله به أنه قال : قال لي جبريل : يقول الله لك : يا محمد مننت عليك بسبعة أشياء : أولها لم أخلق في السموات والأرضين (١) أكرم عليّ منك. والثاني أنّ مائة ألف وأربعة وعشرين ألف نبي كلهم مشتاقون إليك. والثالث لم أعط أمتك مالا كثيرا حتى لا يطول عليهم الحساب. والرابع لم أطول أعمارهم حتى لا تجتمع عليهم الذنوب كثيرا. والخامس لم أعطهم من القوة كما أعطيت من قبلهم حتى لا يدّعوا الربوبية. والسادس أخرجتهم في آخر الزمان حتى لا يكون مقامهم تحت التراب كثيرا. والسابع لا أعاقب أمتك كما عاقبت بني إسرائيل.

ومن جملة فضائله أن يهوديّا جاء إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أنت أكرم على الله تعالى أم آدم؟ فقال : «أنا وربّ الكعبة» ، فقال اليهودي : كذبت وربّ بيت المقدس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله أعطاني خمسا لم يعط آدم ـ وإن آدم أبي ـ ولكني أعطيت ما لم يعطه ، وأنا أفضل منه ولا فخر ولا عجب». قال اليهودي : وما هذه الخمس؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن آدم لمّا عصى أخرجه الله من الجنة طريدا عطشانا عريانا ، ولو عصى من أمتي أحد لم يمنعه الله من المساجد. والثاني طار عنه الحلي والحلل ولم يسلب من أمتي. والثالث فرّق بينه وبين امرأته ولم يفرق بين أمتي. والرابع أظهر الله خطيئته. والخامس لم يقبل الله توبته حتى بنى البيت المعمور وطاف حوله. وإنّ من أمتي من ذنوبه

__________________

(١) في (ب) و (ج) : والأرض.

أكثر من زبد البحر وقطر المطر فندم عليها واستغفر (١) غفر الله له». قال اليهودي : صدقت يا محمد ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] (٢).

ومنها أن موسى عليه‌السلام سأل ربه : أنا أفضل أم محمّد؟ فقال تعالى : فضل محمد عليك كفضلك على أمتك.

وقد ذكر العلماء رحمهم‌الله تعالى فضل نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنبياء نبيّ نبيّ.

[فضل النّبيّ عليه وآله وسلّم السّلام على آدم عليه‌السلام]

فمنها فضله على آدم ، وقد ذكرنا ما يدل على ذلك فيما تقدم ، وعلى أنه لا خلاف بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أفضل من أبيه آدم عليه‌السلام ، ويدل عليه ما رواه ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «فضّلت على آدم بخصلتين : كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه حتى أسلم ، وكان أزواجي عونا لي على الطاعة. وكان شيطان آدم كافرا ، وزوجته معينة له على خطيئته» (٣).

ومن جملة فضائل آدم أن جعله الله قبلة لسجود الملائكة ، وأعطى محمدا

__________________

(١) في (ب) : واستغفر الله.

(٢) ما بي القوسين زائدة من (ب).

(٣) في هامش (ب) : يعنى أن حوّاء لما جاء إبليس إليها وإلى آدم ، وقال : إن هذه الشجرة هي شجرة الخلد وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ، فبادرت حوّاء ، وداخلها الحرص ، وذكرت ذلك لآدم ، ثم طافت حول السنبلة فأخذت واحدة فأكلتها وادّخرت واحدة ، وهو شيء عجيب ، وحملت خمسا إلى آدم فأكلها وهي سنابل أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل. تمت. وكانت مكتوبة ضمن النسخ في الصلب ونبّه أنها حاشية. والحديث المتقدم ضعّفه ابن الجوزي في العلل وقال : لا يصح. ١ / ١٨١ رقم ٢٨٠.

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثله ؛ فإنه صلّى بالملائكة مرارا. وفضّله الله بأنّ أمر ثلاث مائة وثلاثة عشر رسولا فصلّوا خلفه في بيت المقدس ليلة المعراج (١).

[فضل النّبيّ عليه وآله وسلّم السّلام على إدريس عليه‌السلام]

ومنها فضله على إدريس عليه‌السلام روي عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى صعد المنبر فقال : من أنا؟ قلنا : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال : أنا سيد ولد آدم ولا فخر. وخصّ إدريس عليه‌السلام برفعه إلى السماء ، قال تعالى : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) [مريم : ٥٧] ، ورفع محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوق السموات العلي حتى وصل الحجب فشاهد ما لم يشاهده إدريس ، ثم فضّل محمد برجوعه إلى قومه وإخباره لهم بما شاهد من الآيات بخلاف إدريس فإنه لم يرجع إلى قومه.

[فضل النّبيّ عليه وآله وسلّم السّلام على نوح عليه‌السلام]

ومنها فضله على نوح عليه‌السلام ؛ فإنه الله تعالى خصّ نوحا بجري السفينة على الماء ، وأعطى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جري الحجر على الماء ، وذلك أعجب كما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعا عكرمة بن أبي جهل إلى الإسلام ؛ فقال : لا ، حتى تريني آية ، وكان بين يديه غدير ، فيه ماء ، حوله حجارة (٢) ، فقال له : ايت ذلك الحجر ، فقل له : إنّ محمدا يدعوك فجاءه ، وقال له : فجرى الحجر على وجه الماء حتى انتصب قائما بين يدي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) في سيرة ابن هشام ٢ / ١٠ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجد في بيت المقدس إبراهيم الخليل وموسى وعيسى في نفر من الأنبياء قد جمعوا له فصلى بهم.

(٢) في (ب) : أحجار.

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على إبراهيم عليه‌السلام]

ومنها فضله على إبراهيم الخليل صلوات الله عليه ؛ فإنّ إبراهيم سخّرت له نار الدنيا وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسخير نار الآخرة ؛ لأن الله تعالى أمرها بأن تكون طوعا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكلمته الشاة المسمومة بخيبر فسخرها الله تعالى له ، وفي ذلك زيادة ، وهي كلامها إياه فإنها قالت إني مسمومة. واتّخذ الله إبراهيم خليلا ، واتخذ محمدا حبيبا. والحبيب أفضل ، إلى غير ذلك من الفضائل.

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على يوسف عليه‌السلام]

ومنها فضله على يوسف عليه‌السلام ؛ فإنه أعطي الملك بعد محن كثيرة ، وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملك الدنيا هنيئا مريئا ؛ فافتتح أصحابه (رض) بلاد الروم وفارس وغيرهما من بلاد العجم ، وملكوا جميع جزائر العرب. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زويت لي الأرض مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها (١).

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على موسى عليه‌السلام]

ومنها فضله على موسى عليه‌السلام ؛ فإنه أعطي فلق البحر بعصاه ، وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شقّ القمر بإشارته (٢) ، وهو نور السماء ، فكان أبلغ. قال الله سبحانه : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١] ، اقتربت الساعة قربت القيامة بخروج خاتم الأنبياء وآخر الأمم. وانشق القمر ، انشق بمكة فلقتين :

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه ٢ / ١٣٠٤ رقم ٣٩٥٢.

(٢) أنظر البخاري ٣ / ١٣٣٠ رقم ٣٤٣٧. ومسلم ٤ / ٢١٥٨ رقم ٢٨٠٠. والنسائي في تفسيره ٢ / ٣٦٥. وجامع البيان للطبري مج ١٣ ج ٢٧ ص ١١. والدر المنثور للسيوطي ٦ / ١٧٥.

فلقة فوق الجبل ، وأخرى أسفل من الجبل. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم فاشهد» (١). وأعطي موسى انفجار الماء من الحجر في التّيه ، وأعطي محمد عليه‌السلام انفجار الماء من بين أصابعه ، كما رواه جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر فأصابهم عطش فدعا بتور ماء ، وجعل يده في وسطه ، وجعل الماء ينبع من بين أصابعه حتى استقى العسكر ، ورويت الدوابّ ؛ فقيل لجابر : كم كنتم؟ فقال : ألف وستمائة (٢).

وله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق معجزتان من هذا الجنس : إحداهما أنه أطعم أهل الخندق كلهم من تمر قليل لم يملأ كفّيه ، جعله فوق ثوب ، ثم أمر الصارخ فجمعهم فأكلوا منه جماعة بعد آخرين إلى أن رشدوا (٣) وقاموا وإنه ليسقط من أطراف الثوب لكثرته. والثانية أن جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه‌الله تعالى صنع له شويهة وشيئا قليلا من خبز الشعير وأراد أن يفطر عنده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما جاء الليل وانصرفوا من الخندق أعلم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطلبه أن يفطر عنده ، فقال : نعم ، ثم أمر صارخا فصرخ أن انصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت جابر بن عبد الله ، فقال جابر : فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون. وأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والناس معه ، فجلس وأخرجناها إليه. قال : فبرّك وسمّى ، ثم أكل وتواردها الناس ، كلما فرغ قوم قاموا ، وجاء ناس حتى

__________________

(١) في البخاري ٤ / ١٨٤٣ رقم ٤٥٨٤.

(٢) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٣٧. والبخاري ٥ / ٢١٣٥ رقم ٥٣١٦ ، ذكر فقيل له : كم كنتم؟ فقال : ألفا وأربعمائة.

(٣) الرشيدية : طعام ، ونسمّي في بلادنا طعام المسافر رشادا. المحقق.

صدر أهل الخندق عنها (١). وفي بعض الأخبار أنهم كانوا ثلاثة آلاف نسمة.

وأعطي موسى اليد البيضاء في حال دون حال ، وأعطي محمد نورا كان يضيء عن يمينه. وكلّم الله موسى بطور سيناء ، وكلم الله محمدا في السماء السابعة. وأعطي موسى الغمام ليظلّه ، وأعطى الله ذلك محمدا عليه الصلاة السّلام ، فإن السحاب كان يظلّه. وألقى موسى عصاه فصارت حيّة ، وأعطى محمّدا عليه‌السلام ثعبانين يوم همّ أبو جهل بقتله (٢). وأحيا له الذراع المسمومة يوم خيبر فكلمته (٣). وكذلك كلمه الجذع (٤) ، كما روى جماعة من الصحابة أنه كان يستند إلى جذع في مسجده بالمدينة ويخطب ؛ فلما كثر الناس اتّخذ منبرا ؛ فلما صعد على (٥) المنبر حنّ إليه الجذع حنين الناقة إذا فقدت ولدها ، فدعاه فأقبل يخدّ الأرض ، والناس حوله ينظرون إليه ، فكلّمه ثم أمره بالمعاودة إلى مكانه ، فمرّ حتى صار في مكانه. وروي أنه قال للجذع : إن شئت رددتك على الحائط الذي كنت فيه فتكون كما كنت ، وإن شئت غرستك في الجنة يأكل منك أولياء الله؟ فقال الجذع : بل تغرسني في الجنة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم قد فعلت» (٦).

__________________

(١) روى الحادثة أبو طالب في أماليه ص ٣٣. ومسلم بتصرف ٣ / ١٦١٠ برقم ٢٠٣٩.

(٢) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٢٦.

(٣) سيرة ابن هشام ٣ / ٣٦٧.

(٤) أبو طالب في أماليه ص ٣٢. والنسائي في سننه ٣ / ١٠٢ برقم ١٣٩٦. والبخاري ٢ / ٧٣٨ برقم ١٩٨٩.

(٥) في (ب) : بحذف على.

(٦) قال البوصيري رحمه‌الله :

ويح قوم جفوا نبيّا بأرض

ألفته ضبابها والظّباء

وسلوه وحنّ جذع إليه

وقلوه ووده الغرباء

وخسف الله بقارون بسبب دعاء موسى عليه‌السلام ، وخسف الله بسراقة بن مالك ، بسبب دعاء محمد فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج مهاجرا إلى المدينة جعلت قريش مائة ناقة لمن يرده عليهم (١) ، فتبعه سراقة ليأخذ المائة والحظّ عند قريش فلما دنا من رسول الله وأمكنته الفرصة وأيقن بالظّفر ـ دعا عليه رسول الله وهو في قاع صفصف فصاخت به قوائم فرسه وخسف به الأرض ، فنادى : يا محمد ادع ربك يطلق لي فرسي ، فذمّة (٢) الله عليّ أن لا أدلّ عليك أحدا ؛ فدعا له فوثب جواده ، وانتزع قوائمه من الأرض ، وتبعها دخان كالإعصار (٣).

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على داود عليه‌السلام]

ومنها فضله على داود عليه‌السلام فإن داود قتل جالوت بحجر رماه به ، وقتل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صناديد قريش بكفّ تراب أخذه من الأرض ورماهم به وقال : «شاهت الوجوه» (٤). وليّن الله لداود الحديد. ومسح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرع شاة أمّ معبد وهي يابسة ؛ فتحلّبت لبنا على ما ذلك ظاهر (٥).

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على سليمان عليه‌السلام]

ومنها فضله على سليمان بن داود (ع) ؛ فإنه أعطي الريح مركبا وكان غدوّها شهرا ورواحها شهرا ، وأعطي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البراق فبلّغه في ساعة واحدة سدرة المنتهى.

__________________

(١) في (ب) : إليهم.

(٢) في (ب) و (ج) : وذمة.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ / ١٠٢.

(٤) مسلم ٣ / ١٤٠٢ برقم ١٧٧٧. والمراد بقتلهم التسبب في هزيمتهم وعمى أبصارهم حتى استطاع المسلمون قتلهم في بدر وحنين.

(٥) أبو طالب في أماليه ص ٣٠. والقاضي عياض في الشفاء ١ / ٦٤٣. ودلائل النبوة ٦ ص ٨٤.

وكان البراق على ما رواه ابن عباس رحمه‌الله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) أنّ وجهها كوجه الإنسان ، وآذانها كآذان الفيلة ، وعرفها كعرف الفرس ، وقوائمها كقوائم البعير ، وذنبها كذنب البقر ، وهي فوق الحمار ودون الفرس ، رأسها من ياقوت أحمر ، وصدرها درة بيضاء ، وعليها رحل من رحال الجنة. وفي رواية أخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إنّ جبريل أخذ ضبعي وأخرجني من الباب ، وعلى الباب ميكائيل وإسرافيل ، معهما البراق وهي البيضاء ، لها جناحان ، ووجهها كوجه الإنسان ، عرفها من اللؤلؤ ، منسوج بالمرجان ، وعقائصها من ياقوت أحمر ، وآذانها من زمرد (٢) أخضر ، وعينها (٣) كالزّهرة والمريخ ، وأظلافها كأظلاف البقر من زمرد أخضر مرصّع بالياقوت ، بطنها كالفضة ، وصدرها كالذهب ، لونها كالبرق يلوح (٤) بين السماء والأرض ، خطوها منتهى بصرها ، ولها زمام من لؤلؤ مكلّل بالجوهر ، مزمومة بسلسلة من ذهب ، عليها راحلة الديباج. وفي الروايتين جميعا أنه قال : فاستصعبت عليّ ، فقال جبريل : مهلا يا براق أما تستحيي؟ فو الله ما ركبك أحد منذ كنت (٥) أكرم على الله من محمد ، فارتعش البراق حتى لصق بالأرض وانصبّ عرقها.

وفي الرواية الأخرى قال : فسمعت حشحشة اللّؤلؤ حين مسح عرقها. وكان الذي يمسك ركابها جبريل ، وزمامها ميكائيل. والذي سوّى عليه ثيابه إسرافيل ؛ فركب عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبلغت به سدرة المنتهى وغيرها (٦).

__________________

(١) في هامش الأصل : دابّة. والأولى حذف أنّ.

(٢) بالذال ، وهو كذلك في مختار الصحاح. وهو الزّبرجد. ص ٢٧٤.

(٣) في (ب) : عيناها ـ ظ.

(٤) في (ب) : تلوح.

(٥) في (ب) : مذ ركبت.

(٦) هكذا رويت ، ولعل أحاديث الفضائل مما يتسامح فيها ، ويتساهل ، والله أعلم.

[فضل النّبيّ عليه وآله السّلام على عيسى عليه‌السلام]

ومنها فضله على عيسى عليه‌السلام ؛ فإن عيسى عليه‌السلام كلّم (١) في المهد ، ومحمد عليه‌السلام كلّمه الذئب ، والضب ، والحجر ، والجذع ، وسبّح الحصى في يده ، وغير ذلك.

وروى ابن عباس أن الله تعالى أوحى إلى عيسى : يا عيسى آمن بمحمد ، وأمر من أدركه من قومك أن يؤمنوا به. وأعطي عيسى المائدة ، وأعطى الله محمدا كذلك على ما هو مذكور في أخبار أهل البيت عليهم‌السلام. وقد كلم عيسى في المهد ، وهكذا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءته امرأة بصبي ابن شهرين ؛ فقال الغلام وهو في حجر أمه وهي مكفهرة : السّلام عليك يا رسول الله ، السّلام عليك يا محمد بن عبد الله. قال : وما يدريك أني محمد بن عبد الله ، وأني رسول الله؟ قال : علمنيه ربّ العالمين ، والروح الأمين جبريل ، وهو قائم على رأسك ينظر إليك. فقال : ما اسمك يا غلام؟ قال : سمّوني عبد العزّى ، وأنا به كافر ؛ فسمّني؟ فسماه عبد الله (٢) ، فقال له جبريل : هذا تصديق لك بالنبوة ، ودلالة لكي يؤمن بقية قومك. فقال الصبي : يا رسول الله ادع الله لي يجعلني من خدمك في الجنة ، فقال جبريل : ادع ؛ فدعا ، فقال الغلام : السعيد من آمن بك ، والشقي من كذّبك ، ثم شهق شهقة فمات. فقالت المرأة : قد رأيت ما رأيت فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، ووا أسفي على ما فاتني منك (٣) ، فقال لها : أبشرى ، فو الذي ألهمك الإيمان إني لأنظر إلى حنوطك وكفنك مع الملائكة ، فشهقت شهقة وماتت. فصلّى عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) في (ه) تكلم.

(٢) في (ب) : فسمّاه رسول الله عبد الله.

(٣) «منك» محذوفة في (ب).

ودفنها. وكلّم رسول الله الناقة (١) والحمار والشّجر (٢) وغير ذلك.

وروي عن أم سلمة قالت : أقبل نفر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّموه. فقال الأول : يا محمد زعمت أنك خير من إبراهيم وهو تعالى اتخذه خليلا ؛ فأيّ شيء اتّخذك؟ قال : «اتخذني صفيّا ، والصفيّ أقرب من الخليل. فقال الثاني : زعمت أنك خير من موسى ، وقد كلم الله موسى ، قال : «ويلك كلّم موسى في الأرض ، وأنا كلّمني تحت سرادق عرشه». فقال الثالث : تزعم (٣) أنك خير من عيسى وكان يحيي الموتى ، فأنت متى أحييت؟ قال : فغضب وصفّق بيديه ، وصاح : يا علي (٤) ؛ فإذا علي عليه‌السلام مشتمل بشملة له ، وهو يقول : لبيك لبيك يا رسول الله ، فقال له : من أين؟ قال : كنت في بستان إذ (٥) سمعت صوتك وتصفيقك ، فقال (٦) : ادن مني فو الذي نفس محمد بيده ما ألقى الصوت في مسامعك إلا جبريل ، فدنا علي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ كلّمه بكلمات لم أسمعها ، ثم قال : قم يا حبيبي والبس قميصي هذا ، وانطلق بهم إلى قبر يوسف ابن كعب فأحيه لهم بإذن محيي الموتى (٧) ، قالت أم سلمة فخرجوا أربعة معا ، وأقبلت أنا وهم حتى انتهى بهم إلى بقيع الغرقد ، إلى قبر دارس ، فدنا منه وتكلم بكلمات فتصدّع القبر ، ثم أمره ثانية فتصدع ، ثم أمره ثالثة فتصدع ،

__________________

(١) الشفاء ج ١ ص ٦٠١.

(٢) الشفاء ج ١ ص ٥٧٣.

(٣) في (ب) : زعمت.

(٤) في (ب) : وصاح بأعلى صوته : يا علي.

(٥) في (ب) : إذا.

(٦) في (ب) : قال.

(٧) في (ب) : بإذن الله محيي الموتى.

ثم قال : قم بإذن الله محيي الموتى ؛ فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته ، ويقول : يا أرحم الراحمين. ثم التفت إلى القوم كأنه عارف بهم ، ثم قال : ويلكم أكفر بعد إيمان ؛ أنا يوسف بن كعب صاحب أصحاب الأخدود ، أماتني الله منذ ثلاثمائة وستين عاما حتى السّاعة ، ثم هتف بي هاتف ، وقال : قم صدّق سيد ولد آدم محمدا فقد كذّب. فقال بعضهم لبعض : ارجع بنا لا يعلم بنا صبية قريش فيرجمونا بالحجارة ، وناشدوا عليّا إلّا رددته ؛ فتكلم بكلام لا أفهمه ؛ فإذا الرجل قد رجع إلى قبره وسوّي عليه التراب. ورجع ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ ورجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهذه المعجزة قد وقع مثلها أيضا : كما روي عن أبي عبد الله (١) قال : حدثني أبي عن جدي أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا مجتمعين ذات يوم فتذاكروا الإدام ، فاجتمعوا على أن الإدام خير من اللحم ؛ فرفع النبي رأسه ، وقال : أما إنه لا عهد لي به من كذا وكذا. فتفرق (٢) القوم. وقام رجل من الأنصار إلى امرأته ، وقال : يا فلانة هذه غنيمة باردة قالت : وما هي؟ فقص عليها القصة. قالت : فدونك شاتك فاذبحها ، وكان لهم عناق (٣) يربونها ، فقام إليها فذبحها وشواها ووضعها في مكتل (٤) ، وقنّعها بقناع. وقال لابنه : انطلق بها إلى رسول الله «ص» وأقم عنده تنظر ما يصنع. قال الغلام : فأتيته بها وهو في منزل أم سلمة ؛ فدخلت وهو مستلق على نطع وإحدى رجليه على الأخرى ، فوضعتها بين يديه ، وأخبرته أن أبي بعث بها إليه

__________________

(١) تعليقة في (ب) : الصادق.

(٢) في (ب) ، (ج) ، وتعليقة في الأصل : فبقي والقوم.

(٣) العناق : بالفتح الأنثى من ولد المعز.

(٤) شبه الزنبيل يسع خمسة عشر صاعا.

فسر بها ، وقال يا غلام : ادع لي عليّا. وقال : يا بلال ايتني بسفرة فأتاه بها فوضع العناق عليها ، ثم قال : انظر من في المسجد من المسلمين؟ قال : ثمانية عشر نفرا. قال : أدخلهم ؛ فلما دخلوا قال : كلوا ولا تنهشوا لها عظما ، فأكلوا حتى صدروا ثم نهضوا ؛ فقال (١) : يا بلال ائت به فاطمة ، ثم قسم في نسائه قبضة قبضة ؛ فلما فرغ ضرب وركها (٢) ، وقال : قومي بإذن الله ، فنهضت تبادر الباب ، واتّبعها الغلام فسبقته إلى المنزل فدخل الغلام وأبوه يقول : كأنها عناقنا التي ذبحناها ؛ فقالت امرأته : لعلها لبعض الحي ؛ فقال الغلام : والله ما هي لأحد وإنها لعناقكم صنع بها رسول الله كذا ، إلى غير ذلك من الأخبار القاضية بتفضيله (٣).

فصل : في تعيين اعتقادنا في القرآن

نعتقد أنّ هذا القرآن الذي بيننا هو كلام الله ووحيه وتنزيله وأنه حق لا باطل فيه ، وقد خالفنا في ذلك الأشعرية ، والكلابية (٤) ، والمطرفية ؛ فالأشعرية يقولون : إن هذا الذي بيننا ليس بكلام الله ، وإنما هو عبارة عن كلام الله تعالى. وهو قول الكلابية ، وإن خالفوهم في كلام الواحد منا في الشاهد فإنهم فصلوا بين الشاهد والغائب. والمطرفية تقول : ليس هذا بكلام الله ، وإنما كلام الله تعالى صفة قائمة بقلب ملك يقال له : ميخائيل.

__________________

(١) في (ب) : ثمّ قال.

(٢) الورك ما فوق الفخذ.

(٣) روى هذا صاحب مدينة المعاجز ص ٣١٨. وهو كتاب حافل بالعجائب والغرائب.

(٤) أصحاب عبد الله بن محمد بن كلاب القطان ، من متكلمي البصرة ، ينظر في أقوالهم موسوعة الفرق والجماعات الإسلامية ٣٣٠.

والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدين ويخبر الناس بأن هذا القرآن المتلوّ المعروف هو كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله ، وأنه حق لا باطل فيه ، وهذا معلوم بالاضطرار لمن عرف الأخبار ، وبحث عن الآثار. وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدين إلا بالحق ، ولا يخبر إلا بالصدق ؛ لأنّ ظهور المعجز على يديه قد أمّننا من وقوع الخطإ فيما يدين به ، وظهور الكذب فيما يخبر به ، وقد قال الله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].

ومعلوم بالاضطرار أنّ الذي أسمعه رسول الله صلّى عليه وآله المشركين هو هذا المتلو المعروف ، وقال الله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف : ٢٩ ، ٣٠] ، وقال تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) [الجن : ١ ـ ٢]. والمعلوم أنّ المسموع هو هذا القرآن المشار إليه دون غيره ، وقال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) الآية [فصلت : ٤١ ـ ٤٢] ، فثبت بذلك ما قلنا.

فصل : ونعتقد أنه محدث مخلوق غير قديم

ولا مكذوب ، وهذا هو قول العدلية جميعا (١). وقالت الحشوية : إن هذا الذي بيننا هو قديم ، ويقولون : بأنه كلام الله تعالى. والكرّامية تقول : بأنه كلام الله تعالى وإنه محدث ؛ ولكنه غير مخلوق. والمطرفية تقول : إن هذا القرآن الذي ذكرناه ليس بمحدث ولا قديم. والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهبوا إليه : أمّا أنه محدث ؛ فالذي يدل عليه أن هذا القرآن المتلوّ في

__________________

(١) حدث في هذه المسألة خلاف مرير ؛ بل صراع دام ، بدأ أيام المأمون العباسي ، فقد حمل المأمون الناس على القول بخلق القرآن ؛ بدليل أن ما سوى الله مخلوق ، وعارضه كثير من المحدثين بزعامة أحمد بن حنبل قائلين بأن القرآن كلام الله قديم ، وجرت مناظرات ، وتشدّد المأمون في هذه المسألة ، واعتبر القول بقدم القرآن خطأ يستحق العقاب ؛ ولذلك فقد حبس أحمد وغيره من القائلين بأن القرآن قديم ، وتعرضوا للتعذيب ، وعزلوا من أعمالهم. ولمّا جاء المتوكل العباسي وقف إلى جانب القائلين بأن القرآن قديم ، واتخذ موقفا أشد عنفا ووحشية ضد المعتزلة ، أدى إلى محوهم من الوجود ، ولو لا مبادرة الزيدية إلى حفظ تراث المعتزلة لمحي هو الآخر ، وهذا موقف يشكر لرجال الزيدية.

روي أن الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه‌السلام أرسل القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد بن عبد السّلام رضي الله عنه ، وأمره أن يجلب كتب المعتزلة من العراق إلى اليمن ، ونالت استحسان وعناية المدرسة الزيدية. أما رأي الزيدية في مسألة خلق القرآن فهو نفس رأي المعتزلة. وقد آلمني ما تركه مثل هذا الاختلاف من آثار ضارة ، وبالأخص في علم الجرح والتعديل ، حيث حكم بعض المحدثين ـ بالكفر ـ على القائلين بخلق القرآن ، وقيل في المتوقفين : الواقفة الملعونة. وقد كان السلف رحمهم‌الله في غنى عن هذا ، ونحن كذلك ؛ لأن الله يريد منا العمل بالقرآن والاهتداء بهداه والتأدّب بآدابه. ومثل هذا الاختلاف في مثل هذا مثل قوم اجتمعوا على مائدة عليها أشهى الطعام ولذيذ الشراب ، فقال بعضهم : هذا الطعام صنعته عجوز ، وقال بعضهم : بل صغيرة ، وتعصّب لهذا قوم ، ولهذا قوم ، واشتد النزاع حتى اشتبكوا بالسلاح ، فسالت دماؤهم وفضلاتهم على المائدة ، فلا طعاما أكلوا ، ولا دما حقنوا ـ والأغرب من هذا أنهم فرحون بما صنعوا ، مصرّون على تكرار ما عملوا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. أتمنى لو أن الفرق المعاصرة تتفق على أن القرآن الكريم كلام الله وتسكت هنا.

المحاريب المعروف بين المسلمين قد وجد ونزل على محمد الأمين صلوات الله عليه وعلى آله الأكرمين وهذا معلوم بالاضطرار ، فلا يخلو أن يكون لوجوده أوّل ، أم لا. وهذه قسمة صحيحة لترددها بين النفي والإثبات ، فإن كان لوجوده أوّل فهو محدث ، وإن لم يكن لوجوده أوّل ؛ فهو قديم ؛ فبطل بذلك قول المطرفية ؛ لأنهم خرجوا في حكم واحد عن النفي والإثبات ، وهذا خروج عن قضايا العقول.

وقد تكلمنا في كتاب نظام درر الأقوال النبوية في بيان كفر المطرفية بما فيه كفاية كافية ، وأدلة بتوفيق الله واضحة شافية. ولا يجوز أن يكون قديما لما بيّنّا فيما تقدم أنه لا قديم إلا الله تعالى ، وبذلك يبطل قول الحشوية أنه قديم ؛ ولأن الله تعالى قد أشار إليه فقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) .. الآية. [الحشر : ٢١] ، وقال : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النمل : ٧٦] ، إلى غير ذلك من الإشارات. ولا إشكال في حدوث هذا المشار إليه.

ومما يوضح حدوثه قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) .. الآية [الأنبياء : ٢]. وما شاكلها. والذكر هو القرآن ؛ لقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ، ولقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ؛ ولأنه فعل من أفعال الله تعالى ، والفعل محدث ؛ لأنه لا بد من تقدّم فاعله عليه ، وما تقدم عليه غيره فهو محدث بالضرورة.

ومما يدل على حدوثه قول الله تعالى : (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الأحقاف : ١٢]. وما كان قبله غيره فهو محدث بالضرورة ؛ وإنما قال ذلك عزوجل ردا على الكفار وتكذيبا لهم حيث قالوا : بأنه إفك قديم.

ونظام الآية يشهد بذلك ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ* وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً) [الأحقاف : ١١ ، ١٢] ؛ وخبره تعالى صدق ؛ لأنه لو لم يكن صدقا لكان كذبا ، ولا يجوز أن يكون كذبا ؛ لأن الكذب قبيح ، وهو تعالى لا يفعل القبيح على ما مضى بيانه. يزيد ذلك وضوحا قوله تعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ، فوصفه بأنه منزّل والقديم لا يجوز عليه النزول ، ووصفه بأنه حسن ، والحسن من صفات المحدث ، ووصفه بأنه حديث ، والحديث يناقض القديم ، ووصفه بأنه كتاب ، والكتاب هو المجموع ؛ ولذلك سميت الكتيبة كتيبة ؛ لاجتماعها ، والاجتماع من صفات المحدث.

ومما يدل على أنه محدث أنه مفعول ؛ لأن الله تعالى سمّاه أمرا فقال : (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) [الطلاق : ٥] ، وقال : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [النساء : ٤٧]. والمفعول لا محالة محدث.

وقد دلت السنة على ذلك حيث قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أنزل الله في التّوراة ولا في الزّبور ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثل فاتحة الكتاب ، وهي أم القرآن ، وهي السبع المثاني ، وهي مقسومة بين الله وبين عبده ، ولعبده ما سأل» (١) والقديم لا يوصف بالنزول ؛ فثبت أنه محدث ؛ وإذا ثبت أنه موجود ، وأنّ لوجوده أوّلا ـ فعندنا أنه مخلوق عرفا وشرعا ، فلا يجوز أن يقال بقدمه ؛ إذ هو معجزة لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) أحمد بن حنبل ٨ / ٨ رقم ٢١١٥٢ ، ورقم ٢١٥٣ عن أبي بن كعب. والدارمي في سننه ٢ / ٤٤٦. والترمذي ٥ / ٢٧٨ رقم ٣١٢٥ ، وصححه. والسيوطي في الدر المنثور ١ / ٢١ وذكر كثير ممن أخرج الحديث.

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القرآن موجود في ثلاثة مواضع : في الصحف مكتوب ، وعلى الألسن متلو ، وفي القلوب محفوظ». ويطابق هذا الخبر قول الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ* بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٨].

ولا يقدح في ذلك أن يقال : إذا كان كلاما وجب عدمه في الوقت الثاني ، وإذا قلتم بأنه باق كان متنقلا ، وذلك مما لا يصح في الكلام ؛ لأنا نقول : إن الدلالة قد دلت على أنه باق فيجب الانقياد لها ، والقارئ له يشتمل ما يلفظ به على الحكاية والمحكي ، والتلاوة والمتلو ، والقراءة والمقروء ؛ فالمقروء ، والمتلوّ والمحكي فعل الله تعالى عرفا وشرعا. والتلاوة والحكاية والقراءة فعل القارئ والتالي والحاكي ؛ ولهذا يثاب على ذلك إذا فعله مع الطهارة من الجنابة ، ويعاقب عليه إذا فعله مع فقدها.

وأما الانتقال فإن الأعراض تكون في حكم المنتقلة بانتقال محالها ؛ لأن الزعفران والمسك وغيرهما إذا نقل ذلك من بلد إلى بلد فإنّ ريحه في حكم المنتقل بانتقال محله وهو الزعفران والمسك ونحوهما ، فكذلك نزول القرآن وانتقاله من بلدة إلى أخرى (١).

وأمّا أنه مخلوق ؛ فمعنى وصفنا له بأنه مخلوق أنه مصوّر ، مرتّب ، مقدّر ، منزّل ، على مقدار معلوم ، مطابق للمصلحة ؛ فهذا هو معنى قولنا : إنه مخلوق ، وقد ورد وصف ما هذه حاله بأنه مخلوق لغة وشرعا : أما اللغة فقال زهير في هرم بن سنان الغطفاني (٢) :

__________________

(١) في (ب) : من بلد إلى آخر.

(٢) من أجواد العرب في الجاهلية يضرب به المثل ، وهو ممدوح زهير. توفي نحو ١٥ ق. ه. ينظر الأعلام ٨ / ٨٢.

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

أي إنك تقطع ما قدّرت ، وبعض القوم يقدّر ثم لا يقطع. وقال بعض المتقدمين في اللغة مفتخرا على غيره : لا أعد إلّا وفيت ، ولا أخلق إلا فريت (١) ، أي لا أقدّر إلا وأقطع كما قدّرت ، يعنى أنه لا يخطئ في التقدير ، ولا يعجز عن قطع ما قدره. وهذا هو معنى قولنا : بأن القرآن مخلوق ؛ لأنه مصوّر مرتب مقدر منزل على مقدار معلوم ، مطابق لمصلحة العباد.

وأما الشرع : فقال الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] ؛ أي المصورين.

وقال في عيسى عليه‌السلام : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) [المائدة : ١١٠] ؛ أي تقدّر وتصوّر على مقدار معلوم. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما خلق الله من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من سورة البقرة ، وأعظم ما فيها آية الكرسي» (٢). وقال صلّى الله عليه وعلى آله الأكرمين : «كان الله ولا شيء ، ثم خلق الذّكر» (٣) ، والذّكر هو القرآن كما تقدم.

وروى أنس عن عمر بن الخطاب أنه قال : اقرءوا القرآن ما ائتلفتم ؛ فإذا اختلفتم فكلوه إلى خالقه» ؛ ولأن هذا القرآن لا يخلو أن يكون خالقا أو لا. بل هو مخلوق ، وهذه قسمة صحيحة لترددها بين النفي والإثبات ، ومعلوم أنه ليس بخالق فلم يبق إلا أنه مخلوق ، ومن قال : بأنه مخلوق بمعنى أنه مكذوب فهو كافر برب العالمين ؛ فاعرف ذلك أيها المسترشد.

__________________

(١) هو قول الحجاج كما في التاج ١٣ / ١٢١ بلفظ : ما خلقت إلا فريت ، وما وعدت إلا وفيت.

(٢) الدر المنثور للسيوطي ١ / ٥٧٣ عن ابن مسعود. والبيهقي في الأسماء والصفات. والترمذي في سننه ٥ / ١٤٨ برقم ٢٨٨٤.

(٣) الطبراني في الكبير ١٨ / ٢٠٤ رقم ٤٩٩ عن عمران بن حصين.

فصل في الإمامة : وفيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى في ثبوت إمامة علي عليه‌السلام. والثانية في إمامة الحسن والحسين (ع) ، والثالثة في إثبات الإمامة بعدهما.

المسألة الأولى : ففيها ثلاثة مطالب :

الأول في ثبوت إمامة علي عليه‌السلام. وثانيها في ذكر طرف يسير من فضائله. وثالثها في إيراد ما يحتج به القدرية على إمامة أبي بكر وعمر.

أما المطلب الأول وهو في ثبوت إمامته ؛

فأعلم أنا نعتقد أنه الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ، وأن طريق إمامته هي النص ، وهذا هو قول جميع الزيدية (١). والخلاف في ذلك مع المعتزلة والحشوية فإنهم ذهبوا إلى أن الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي بن أبي طالب ؛ والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه المخالفون الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب : فقول الله سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة : ٥٥] ، والكلام في هذه الآية يقع في موضعين : أحدهما أنها نازلة في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام. والثاني أن ذلك يفيد معنى الإمامة.

أما الموضع الأول : وهو أنها نازلة في علي عليه‌السلام وجهان : أحدهما إجماع أهل النقل على أن المراد بها علي عليه‌السلام ، وأنها نزلت فيه مع تباين أغراضهم إلّا

__________________

(١) ينظر تثبيت الوصية والصفوة للإمام زيد ، وكتاب تثبيت الوصية للإمام الهادي ، وكتاب الدعامة لأبي طالب المطبوع باسم «نصرة مذاهب الزيدية» والمنسوب إلى الصاحب ابن عباد.

من لا يعتد به ، وأجمعوا على أنه المتصدق بخاتمه في ركوعه دون غيره. فإن قيل : أين ذكره المخالفون؟ قلنا : هو مذكور في كتاب الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدري ، فإنه روى أنها نزلت في علي عليه‌السلام ، وأنه المتصدق بخاتمه في حال ركوعه في الصلاة. وهو مذكور في كتاب ابن المغازلي ؛ فإنه ذكر في تفسير هذه الآية ما رواه بإسناده إلى عبد الله بن عباس أنه قال : إن هذه الآية نزلت في علي عليه‌السلام في قوله : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة : ٥٥] ، قال الذين آمنوا علي بن أبي طالب (١).

وروى ابن المغازلي أيضا وهو الفقيه الشافعي أبو الحسن علي بن محمد الطيب المعروف بالمغازلي الواسطي (٢) ما رفعه بإسناده إلى ابن عباس أنه قال : مرّ سائل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي يده خاتم فقال : «من أعطاك هذا الخاتم؟» ، قال : ذلك الراكع ، وكان علي يصلي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد لله الذي جعلها فيّ وفي أهل بيتي (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، وتلى الآية (٣).

وهو مذكور أيضا في تفسير الثعلبي ـ وهو الأستاذ أبو إسحاق أحمد بن

__________________

(١) ص ١٩٣ رقم ٣٥٤ ـ ٣٥٨. وشواهد التنزيل ١ / ١٦١ برقم ٢١٦ إلى رقم ٢٢٠. وذخائر العقبى ص ٨٨. وأسباب النزول للواحدي ص ١٦٨.

(٢) فاضل عالم برجالات واسط وحديثهم ، وكان حريصا على سماع الحديث وطلبه ت ٤٨٠ ه‍ وله كتاب في مناقب الشافعي. والأربعين في فضائل قريش ، والقضاء والشهادات على مذهب الشافعي شرح الجامع الصحيح للبخاري. وكتاب مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. انظر ترجمته في مقدمة المناقب ص ٩.

(٣) ص ١٩٤. وشمس الأخبار ١ / ١٠١ بألفاظ مقاربه. وشواهد التنزيل ١ / ١٦٦ من رقم ٢٢٣ ـ ٢٣٠. وأسباب النزول للواحدي ص ١٦٨. وروح المعاني مج ٤ ج ٦ ص ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

محمد بن إبراهيم الثعلبي (١) فإنه روى فيه ما رفعه بإسناده إلى السّدي (٢) وغالب ابن عبد الله ما لفظه : إنّما عنى بقوله سبحانه وتعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة : ٥٥] ـ عليّ بن أبي طالب ؛ لأنه مرّ به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه (٣).

وروى الثعلبي بإسناده أيضا إلى عبد الله ابن عباس أنه قال : بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل رجل معتم بعمامة [متلثّم] (٤) ؛ فجعل ابن عباس لا يقول : قال رسول الله ، إلا وقال الرجل : قال رسول الله ؛ فقال له ابن عباس : سألتك بالله من أنت؟ فكشف عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا جندب ابن جنادة البدري أبو ذر الغفاري سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلا فصمّتا ، ورأيته بهاتين وإلا فعميتا يقول : «عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله» ، أما أني صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيام

__________________

(١) كان حافظا مفسرا وأحد أوعية العلم ، بصيرا بالعربية ، طويل الباع في الوعظ ، صحيح النقل ، كثير الشيوخ ، كثير الحديث ، موثوق فيه. ت ٤٢٧ ه‍ ، وله التفسير المسمى الكشف والبيان عن تفسير القرآن ، وربيع المذاكرين ، وكتاب العرائس في قصص الأنبياء. ينظر سير أعلام النبلاء ١٧ / ٤٣٥ ، ومعجم الأدباء مج ٣ ج ٥ ص ٣٦. ووفيات الأعيان ١ / ٢٢.

(٢) وعتبه بن أبي حكيم. ساقط من النسخ وأثبتناه من العمدة.

(٣) أنظر العمدة لابن البطريق ١٦٧ وعزاه إلى الثعلبي. والدر المنثور ٢ / ٥١٩. والطبري ٤ / ٣٨٩. والزمخشري ١ / ٦٤٩ ، والفتوحات الإلهية ١٢ / ٥٠٤. والميزان ٦ / ٢١. والقرطبي مج ٣ ج ٦ ص ١٤٤.

(٤) ما بين القوسين زيادة من (ب). وهي بين السطور في الأصل وعليها ظ.

صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء ، وقال : اللهم اشهد أني سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئا ، وكان علي راكعا ؛ فأومأ بخنصره اليمنى ـ وكان يتختم فيها ـ فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فلما فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إن موسى سأل فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي* وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) [طه : ٢٥ ـ ٣٢] ؛ فأنزلت عليه : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) [القصص : ٣٥] ، اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري وأجعل لي وزيرا من أهلي عليا أشدد به ظهري». قال أبو ذر : فما استتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلمة حتى نزل عليه جبريل عليه‌السلام من عند الله تعالى فقال : يا محمد اقرأ ، فقال : وما أقرأ؟ قال اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١) [المائدة : ٥٥] ، فما عذر المخالفين لنا مع شهادة أئمتهم بأنها نازلة في علي عليه‌السلام؟.

واعلم أيها المسترشد أنا قد جعلنا الرواية مضافة إلى هؤلاء الرواة ونسبناها

__________________

(١) الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي ١ / ١٢٢. ٣ / ١٤١. والشبلنجي في نور الأبصار ص ٨٦. والعمدة لابن البطريق ص ١٦٨ ، وكل واحد منهم عزاه إلى الثعلبي في التفسير. وأخرج الطبرسي في مجمع البيان ٣ / ٣٦١ ما يوافق هذه الرواية. أقول : قد أجمع المفسرون على نزول الآية في علي (ع) فلا حاجة لسرد الروايات التي لا تفيد شيئا سوى الحشو وخلط السليم بالسقيم.

إلى كتبهم ؛ لاشتهار كتبهم عندهم ؛ فإن الصحاح مشهورة ، والفقهاء عن يد يعتمدون على ما فيها ، فألزمنا الخصوم قبول رواية أهل مذهبهم وأئمتهم ليكون أبلغ في الاحتجاج ، وتنكّبنا عن (١) طريق رواية أهل البيت (ع) وشيعتهم الهداة الأعلام على اتساع نطاقها ، وثبوت ساقها ؛ ليعلم المستبصر أن طريق الحق واضحة ، وأعلامه لائحة.

فإذا كان المخالفون يروون في كتبهم أن هذه الآية نازلة في علي عليه‌السلام مع رواية سائر الموافقين ـ اتضح بذلك الكلام في الوجه الأول وهو أنها نازلة في علي عليه‌السلام.

الوجه الثاني : أنه لا يجوز أن يكون المراد بها غيره ؛ لأن الله تعالى وصف الوليّ في هذه الآية بصفة لم توجد إلا في علي عليه‌السلام ، وهي الصدقة بخاتمه في حال الركوع ، ولا يقدح في ذلك كون اللفظ لفظ الجمع في قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) إلى أخره ؛ لأنه إنما ورد بلفظ الجمع تفخيما لشأنه وتعظيما لحاله ، وقد قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] ؛ فذكر لفظ الجمع هاهنا في خمسة مواضع ، والمراد الحكيم تعالى وحده ، ومثله كثير في اللغة العربية. وجه ثالث وهو أن المعطوف يقتضي غير المعطوف عليه بالاتفاق بين أهل اللغة العربية ، وبعضه للتفخيم عندنا على خلاف في ذلك مع الإطباق على الأول ، فإذا لم يجز عطف قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) على جميع من أريد بالضمير في قوله : (وَلِيُّكُمُ) (٢) ، وحمل على الغير المتفق عليه ، أو

__________________

(١) في (ب) : بحذف «عن».

(٢) يحقق كلام الأمير هنا : فليس وليكم معطوفا ولا معطوفا عليه ، وإنما المعطوف عليه الله ، والمعطوفان رسوله والذين آمنوا والأولى أن يقال : أفادت أن ثمة مولى ومولى عليه ، وهو ضمير المخاطبين في قوله : (وَلِيُّكُمُ) ، ولا يمكن أن يكون المولى والمولى عليه واحدا ، ولعل هذا هو مقصود الأمير الحسين عليه‌السلام ، فسبق ذهنه إلى العطف سهوا ، والله ولي التوفيق. تمت مولانا مجد الدين.

البعض المختلف فيه ـ فالغير أو البعض المختلف فيه لا يكون إلا أمير المؤمنين عليه‌السلام. ومما يزيد ذلك وضوحا أن الآية أفادت مخاطبا هو الله تعالى ، ومخاطبا هم المؤمنون ، ووليّا هو الله ورسوله وأمير المؤمنين ، وثبت بذلك الموضع الأول وهو في أنها نازلة في أمير المؤمنين.

وأما الموضع الثاني : وهو أن ذلك يفيد معنى الإمامة ؛ فالذي يدل على ذلك أن السابق إلى الأفهام من معنى لفظة وليّ هو المالك للتصرف ، كما يقال : هذا ولي المرأة ، وولي اليتيم ، الذي يملك التصرف عليهما فلما كان الله تعالى مالكا للتصرف في عباده ، وكذلك الرسول ـ وجب مثل ذلك لأمير المؤمنين.

ووجه آخر (١) وهو أنا لو سلّمنا أن لفظة ولي ليست بحقيقة مفردة فيما ذكرناه (٢) بل مشتركة في المالك للتصرف وفي غيره من سائر معانيها ؛ فإنه لا يخلو [إمّا] (٣) أن تحمل على جميع معانيها ـ دخل فيها المالك للتصرف ، وفي ذلك ثبوت الإمامة ، أو لا تحمل على شيء من معانيها وذلك محال ؛ لأنه يلحق كلام الحكيم تعالى بالهذر والعبث [الذي لا فائدة فيه ، أو تحمل على بعض منها معيّن دون بعض من غير مخصّص فهذا لا يجوز ؛ لأنه يكون إثباتا للأحكام] (٤) بغير دلالة. وذلك يفتح باب كل جهالة.

شبهة أوردها الطرثيثي (٥) المعتزلي على الاحتجاج بهذه الآية ، وهي أنه قال ما لفظه : والذي يصحّح ذلك ، يعني أنها لا تدل على الإمامة أنّ قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) ، لا يجوز أن يكون أراد به إمامكم الله.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : وجه.

(٢) في (ب) و (ج) : ذكرنا.

(٣) زيادة من (ب). ظ.

(٤) ما بين القوسين ساقط من (ب).

(٥) الطريثيثي نسبة إلى طريثيث بلدة بناحية نيسابور ، وفي (ب) : الطريقي نسبة إلى علي بن المنذر الطريقي من أئمة الكوفة.

والجواب : أنّ هذا عدول عن الانصاف ، وركوب لمتن الخلاف ، فإن أحدا من الزيدية لم يقل بأنها تفيد لفظ الإمامة فيلزمهم هذا الاعتراض ، وحينئذ لا محيص (١) لهم منه. وإنّما قلنا : بأنه يفيد ملك التصرف الذي هو معنى الإمامة ، ولا مانع من ذلك فكأنه (٢) سبحانه قال : إنما المالك التصرف (٣) عليكم الله ورسوله وعليّ بن أبي طالب فلا يختل معنى الآية ، ولا يفسد نظمها ، وبذلك تزول شبهته ، وتسقط حجته والحمد لله سبحانه.

وأما السنة : فكثير نحو خبر الغدير ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خطب الناس بغدير خمّ : «ألست أولى بكم من أنفسكم»؟ ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : «فمن كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله» ، وقد روى هذا الخبر المخالفون في كتبهم أيضا (٤).

__________________

(١) في (ب) و (ج) : مخلص. كأنها كانت في (أ) مخلص ثم نقط اللام بنقطتين من أسفل بدليل وجود نقطة فوق الخاء. ومعنى مخلص أو محيص متقارب.

(٢) في (ب) : وكأنه.

(٣) في (ب) و (ج) : للتصرف.

(٤) مسند أحمد ج ١ ص ١٨٢ رقم ٦٤١ ورقم ٩٥٠ ورقم ٩٦٤ ورقم ١٣١٠ مسند علي. ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٣ ، ١٠٤ وما بعدها ، بروايات عديدة. وتاريخ الإسلام عهد الخلفاء ص ٦٣١ ـ ٦٣٢. وتذكرة الحفاظ ج ١ ص ١٠. وابن حبّان المذكور رقم ٦٨٩٢. وأمالي أحمد بن عيسى ج ٤ ص ٣١٠. وكنز العمال ج ١١ ص ٣٣٢ رقم ٣١٦٦٢. وقد ساقه في مواضع كثيرة جدا من نفس الجزء ، وأجزاء أخرى. والمستدرك ج ٣ ص ١٣٤. وينظر مختصر زوائد مسند البزار ج ٢ ص ٣٠٢ وما بعدها رقم ١٩٠٠ وساق روايات من طرق متعددة. والمسند لأبي سعيد الشاشي ج ١ ص ١٦٦. والبداية والنهاية لابن كثير مج ٤ ج ٧ ص ٣٨٣ وما بعدها. وهو من المتواتر. وقد صنف الشيخ عبد الحسين الأميني موسوعة بحالها في شأن حديث الغدير هذا سمّاه «الغدير في الكتاب والسنة والأدب» خصص الجزء الأول لطرق حديث الغدير ، ثم ظل يلاحق الغدير في الشعر والنثر حسب الطبقات ـ طبع منه ١١ مجلدا ـ الطبعة الرابعة ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ١٣٩٧ ه‍ ـ ١٩٧٧ م.

فروى ابن المغازلي ما رفعه باسناده إلى الوليد بن صالح عن ابن امرأة زيد بن أرقم قال : أقبل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة في حجة الوداع حتى نزل بغدير الجحفة بين مكة والمدينة ، فأمر بالدّوحات فقمّ ما تحتهن من شوك ، ثم نادى : الصلاة جامعة ، فخرجنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم شديد الحر وإنّ (١) منّا لمن يضع رداءه على رأسه وبعضه (٢) تحت قدميه من شده الحر حتى انتهينا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصلى بنا الظهر ، ثم انصرف إلينا فقال : «الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونؤمن به ونتوكل عليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن أضلّ ولا مضلّ لمن هدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أما بعد : أيها الناس ، فإنّه لم يكن لنبي من العمر إلا نصف ما عمّر من قبله ، وإنّ عيسى بن مريم لبث في قومه أربعين سنة ، وإني قد أشرعت في العشرين ، وإني أوشك أن أفارقكم ، ألا وإني مسئول وأنتم مسئولون فهل بلغتكم؟ فما ذا أنتم قائلون؟».

فقام من كل ناحية من القوم مجيب يقولون : نشهد أنك عبد الله ورسوله قد بلّغت رسالاته وجاهدت في سبيله ، وصدعت بأمره ، وعبدته حتى أتاك اليقين ، جزاك الله عنا خير ما جزى نبيّا عن أمته ؛ فقال : «ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ الجنة حقّ ، وأنّ النار حقّ ، وتؤمنون بالكتاب كلّه؟ ، قالوا : بلى ، قال : أشهد أنّكم قد صدقتم وصدّقتموني ، ألا وإني فرطكم وأنكم تبعي يوشك أن تردوا عليّ الحوض فأسألكم حين تلقوني عن ثقليّ ، كيف خلفتموني فيهما؟» ، قالوا : فاعتلّ (٣) علينا ما ندري ما الثقلان؟.

__________________

(١) في جميع النسخ : إنّ ، وأثبتنا ما في المناقب لابن المغازلي.

(٢) في الأصل و (ب) : ويضعه ، وأثبتنا ما في المناقب و (ج) وهو الأصح.

(٣) في (ج) : فأعيل. وهو كذلك في المناقب.

حتى قام رجل من المهاجرين قال (١) : بأبي وأمي أنت (٢) يا رسول الله ما الثقلان؟ ، فقال : «الأكبر منهما : كتاب الله سبب ؛ طرف بيد الله تعالى ، وطرف بأيديكم ؛ فتمسّكوا به ولا تولّوا فتضلّوا ، والأصغر منهما : عترتي ، من استقبل قبلتي وأجاب دعوتي فلا تقتلوهم ، ولا تقهروهم ، ولا تقصّروا عنهم ، فإني قد سألت لهما (٣) اللطيف الخبير فأعطاني ، ناصرهما لي ناصر ، وخاذلهما لي خاذل ، ووليّهما لي وليّ ، وعدوّهما لي عدوّ ، ألا فإنها (٤) لم تهلك أمّة قبلكم حتى تدين بأهوائها ، وتظاهر على نبوّتها ، وتقتل من قام بالقسط منها» ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ فرفعها ؛ وقال : «من كنت وليّه ؛ فهذا وليّه (٥) ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» (٦). والكلام في هذا الخبر يقع في موضعين : أحدهما : في صحته في نفسه. والثاني : أنه يفيد معنى الإمامة.

أما الموضع الأول : وهو في صحته في نفسه ؛ فالذي يدل على ذلك أنّ هذا التفصيل الأخير الذي رواه ابن المغازلي قد ورد تفصيله في الصحاح ما يختصّ أهل البيت مفردا ، وما يختص بحديث ولاية علي عليه‌السلام وحده أيضا ، ورواه أيضا بطريق أخرى كالأول. وفيه زيادة قول عمر بن الخطاب : بخ بخ (٧) لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة ؛ قال : فأنزل الله

__________________

(١) في (ب) : فقال.

(٢) في (ب) : بأبي أنت وأمي.

(٣) في المناقب : لهم.

(٤) في المناقب : وإنها. وفي (ب) بدون ألا.

(٥) في المناقب : من كنت مولاه فهذا مولاه ، ومن كنت وليه فهذا وليه.

(٦) المناقب ص ٢٩ برقم ٢٣. قالها ثلاثا.

(٧) بخّ : كلمة مدح ، وتكرّر للمبالغة بخ بخ ، وتخفض وتنون للوصل بخ بخ.

تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] (١).

وروى أيضا مثل هذا الخبر رفعه إلى اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم سرد الخبر (٢). ورفع الحديث أيضا مفرّعا إلى مائة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ منهم العشرة ـ ومتن الحديث فيها واحد ، ومعناه واحد ، وفيه زيادات نافعة في أوّل الحديث وآخره ، وسلك فيه (٣) اثني عشرة طريقا ، بعضها يؤدي إلى غير ما أدّى إليه صاحبه من أسماء الرجال المتّصلين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد ذكر محمد بن جرير الطبري (٤) صاحب التاريخ خبر يوم الغدير وطرقه من خمس وسبعين طريقا (٥) ، وأفرد له كتابا سمّاه كتاب الولاية. وذكر أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة خبر يوم الغدير وأفرد له كتابا. وطرقه من مائة طريق وخمس طرق.

ذكر جميع ذلك الإمام المنصور بالله (٦) عليه‌السلام ، وصحّت الرواية في ذلك لنا

__________________

(١) المناقب ص ٣١ برقم ٢٤. والعمدة لابن البطريق ١ / ١٣٩. وأحمد بن حنبل في مسنده ٦ / ٤٠١ برقم ١٨٥٠٦ بطريقين إلى البراء بن عازب ، وبلفظ مقارب. شواهد التنزيل ج ١ ص ١٥٦.

(٢) انظر المناقب لابن المغازلي ص ٣١ ـ ٣٦.

(٣) في (ب) : ويسلك فيه إلى اثني عشر. وما في الأصل أصح.

(٤) محمد بن جرير الطبري محدث ، فقيه ، مقرئ ، مفسر ، مؤرخ ، ولد سنة ٢٢٤ ، وتوفي يوم السبت في شوال سنة ٣١٠. معجم الأدباء ج ١٨ ص ٤٠ ، وله تاريخ الأمم والملوك ، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن.

(٥) قال ياقوت في معجم الأدباء ج ١٨ ص ٨٠ من ترجمته : وله كتاب فضائل الإمام علي ابن أبي طالب عليه‌السلام تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خم ثم تلاه بالفضائل ولم يتم.

(٦) ينظر الشافي : ١ / ١١٧.

عنه. ولا شك ولا إشكال في بلوغه حدّ التواتر وحصول العلم به. والأمّة بين محتجّ به على الإمامة ، ومتأوّل فيه ، إلا من كابر وركب متن العناد. وقد تنكّبنا طريق رواية العترة (ع) ، وشيعتهم الهداة الأعلام لهذا الخبر ؛ لأنا أردنا إلزام الحجة للمخالفين بما رواه علماؤهم ، وشهد بصحته كتب الصحاح ، وإلّا فرواية العترة وشيعتهم فوق ما حكيناه عن غيرهم ؛ لأنهم أهل هذا الشأن ، وهم أهل الجري في هذا الميدان ، فهذا هو الكلام في الموضع الأول وهو الكلام في صحة هذا الخبر في نفسه.

وأما الموضع الثاني : وهو أنّه يفيد معنى الإمامة ، فما ورد في هذا الخبر بلفظ الولي ؛ فالذي يدل على أنه يفيد معنى الإمامة مثل ما قدمناه (١) في لفظ ولي في الآية فلا فائدة في التكرار.

وأما ما ورد بلفظ مولى ، فاعلم أن أكثر ما قيل أو وجد في لفظة مولى : إنها تحتمل عشرة معان (٢) أوّلها : الأولى وذلك ثابت في اللغة لا ينكر ذلك من له أدنى مسكة من معرفة ، وقد ذكر ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى (٣) في تفسير قوله : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الحديد : ١٥] ، قال : معنى مولاكم : أي هي

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : قدمنا.

(٢) ينظر المعنى اللغوي لكلمة (مولى) في اللغة : الأضداد ص ٤٦ للأنباري فقد ذكر جميع ما استشهد به الأمير من الأشعار. والعمدة لابن البطريق ص ١٥٨.

(٣) التيمي بالولاء ، ولد بالبصرة سنة ١١٠. أديب لغوي ، نحوي ، عالم بالبعيد والقريب والأخبار. ت ٢٠٩ ه‍. وله معاني القرآن ، ونقائض جرير والفرزدق ، ومقاتل الفرسان. ينظر في ترجمته تارخ بغداد ١٣ / ٢٥٢. ووفيات الأعيان ٢ / ١٠٥. ومعجم المؤلفين ٣ / ٩٠١.

أولى بكم على ما جاء في التفسير (١) ، واستشهد بقول لبيد (٢) :

فغدت كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها (٣)

معناه : أولى بالمخافة. يريد أن هذه الظبية تحيرت فلم تدر أخلفها أولى بالمخافة أو أمامها (٤)؟. وبقول الأخطل (٥) في عبد الملك بن مروان (٦) :

__________________

(١) غريب القرآن للإمام زيد ص ٣٢٤ ، وأشار بهامشه ابن قتيبة في تفسيره غريب القرآن ص ٤٥٣. ومجمع البيان ج ٩ ص ٣٩٢. والكشاف ٤ / ٤٧٦. والطبري في تفسيره مج ١٣ ج ٢٧ ص ٢٩٦.

(٢) شرح ديوانه ٣١٣. لبيد بن ربيعة بن مالك أبو عقيل العامري أحد الشعراء الفرسان الأشراف في الجاهلية من أهل عالية نجد أدرك الإسلام ووفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويعد من أصحابه ومن المؤلفة قلوبهم وترك الشعر فلم يقل في الإسلام إلا بيتا واحدا ، قيل هو :

ما عاتب المرء الكريم كنفسه

والمرء يصلحه الجليس الصالح

وسكن الكوفة وعاش مائة وسبعة وخمسين سنة وهو أحد أصحاب المعلقات ومطلع معلقته :

عفت الديار محلها فمقامها

بمنى تأبد غولها فرجامها

وكان كريما. جمع بعض شعره في : ديوان صغير ، ترجم إلى الألمانية. ت ٤١ ه‍. ٦٦١ م. ينظر الأعلام ٥ / ٢٤٠. والمعارف ص ٣٣٢.

(٣) مجاز القرآن ؛ لأبي عبيدة ٢ / ٩٠٣.

(٤) حاشية في الكشاف ٤ / ٤٧٦.

(٥) هو غياث بن غوث التغلبي ، شاعر مشهور ولد سنة ١٩ ه‍ ، ومات نصرانيا سنة ٩٠ ه‍ ، وكان مقدما عند خلفاء بني أمية ، لمدحه لهم وانقطاعه إليهم ، ومدح معاوية وابنه يزيد وهجا الأنصار رضي الله عنهم. تهاجى مع جرير والفرزدق وتناقل الرواة شعره. انظر خزانة الأدب ١ / ٤٦١. ومعجم المؤلفين ٢ / ٦٠٥.

(٦) هو أحد جبابرة بني أمية ولد سنة ٢٦ ه‍ استعمله معاوية على المدينة وهو في ١٦ سنة ، تولى الملك بعد أبيه ٢١ سنة ، وبعده أربعة من أولاده. قال الذهبي : أنى له العدالة وقد سفك الدماء وفعل الأفاعيل ، وهو الذي ولى الحجاج العراق والحجاز واليمن. ت ٨٦ ه‍. ينظر ميزان الاعتدال ٢ / ١٥٣ ، وتاريخ بغداد ١٠ / ٣٨٨.

فأصبحت مولاها من الناس كلّهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

فخاطبه بلفظة مولى ، وهو عند نفسه خليفة مطاع الأمر من حيث اختص بالمعنى الذي احتمله ، وليس أبو عبيدة متّهما بالتقصير في علم اللغة ، ولا مظنونا به الميل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام بل هو معدود في جملة الخوارج. وقد شاركه في هذا التفسير ابن قتيبة (١) ، ومعلوم أنه لا ميل له إليه ، بل هو مائل عنه عليه‌السلام ، إلّا أنه لو علم أن الحق في غيره لقاله (٢). وقال الكلبي في قوله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) ؛ قال : هي أولى بكم (٣). وقد حصل من ذلك غرضنا. ويدل على ذلك قول الله تعالى : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٣٣] ، ولا خلاف بين المفسرين أنّ المراد بالموالي من كان أملك بالميراث وأولى بحيازته وأحقّ به. وقال الفرّاء : إن الولي والمولى في لغة العرب واحد ، ومثله ذكر الأنباري (٤) أيضا ، وقرأ عبد الله بن مسعود : إنّما مولاكم الله ورسوله في الآية الأولى مكان (إِنَّما وَلِيُّكُمُ

__________________

(١) أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ولد سنة ٢١٣ ه‍. وله مشاركة في جميع العلوم ت ٢٦٧ ه‍ ، وله غريب القرآن ومعانيه ، وغريب الحديث ، وأدب الكاتب ، والإمامة والسياسة ، والمعارف ، وغيرها. أنظر معجم المؤلفين ٢ / ٢٩٧ ، وفيات الأعيان ١ / ٣١٤. وتاريخ بغداد ١٠ / ١٧٠.

(٢) كما فعل في كتابه الإمامة والسياسة مما جعل الكثير يحاول إنكار نسبته إليه.

(٣) ذكر ذلك الرازي في تفسيره مج ١٥ ج ٢٩ ص ٢٢٨ ، حيث قال الكلبي : يعني أولى بكم ، وهو قول الزجاج ، والفرّاء ، وأبي عبيدة.

(٤) هو أبو بكر محمد بن القاسم بن محمد بن بشار الأنباري صاحب الأضداد. ولد ببغداد عام ٢٧١ ه‍. أحد أعلام الأدب في عصره ، وإمام في النحو واللغة والتفسير ، وكان يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهدا في القرآن ، وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها ت ٣٢٧ ه‍. ومن آثاره الأضداد ، والأمالي ، والسبع الطوال ، وغيرها. ينظر معجم الأدباء ١٨ / ٣٠٦. وتاريخ بغداد ٣ / ١٨١.

اللهُ وَرَسُولُهُ) (١).

وفي الحديث : «أيّما امرأة تزوّجت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل» (٢) ، والمعلوم أنّ المراد وليّها الذي هو أولى الناس بها. وذكر المبرد أن الولي هو الأحقّ والأولى ، قال : ومثله المولى.

والمعنى الثاني : في لفظة (٣) مولى ـ مالك الرّق. قال الله سبحانه : (وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ) [النحل : ٧٦] ، أي مالك رقّه ، وهو ظاهر.

والمعنى الثالث : المعتق ، وهذا واضح. والمعنى الرابع : المعتق ، وهو كذلك أيضا. والمعنى الخامس : ابن العم. قال تعالى : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) [مريم : ٥] يعني بني العم. ومنه قول الفضل بن العباس (٤) العباسي (٥) :

مهلا بني عمّنا مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا (٦)

والمعنى السادس : الناصر ؛ قال الله تعالى : (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم : ٤] ، أي ناصره.

وقال : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١] يريد : لا ناصر لهم.

__________________

(١) الدر المصون ٤ / ٣١٣.

(٢) أخرجه الحاكم ٢ / ١٦٨.

(٣) في (ب) : لفظ.

(٤) في (ب) و (ج) : عباس.

(٥) ليس من بني العباس بل هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب ، شاعر من فصحاء قريش ، كان معاصرا للفرزدق والأحوص ، وله معهما أخبار في مدح عبد الملك بن مروان ، وهو أول هاشمي مدح أمويّا. ت ٩٥ ه‍. ينظر الأعلام للزركلي ٥ / ١٥٠.

(٦) ينظر الجامع لأحكام القرآن القرطبي ١١ / ٥٣.

والمعنى السابع : المتولّي المتضمّن الجريرة ، وتحوز الميراث ، قد ذكره بعض الناس. والمعنى الثامن : الحليف. قال الشاعر (١) :

موالي حلف لا موالي قرابة

وقال آخر :

كانوا موالي حلف يطلبون به

فأدركوه وما ملّوا ولا وهنوا (٢)

والمعنى التاسع : الجار. قال الشاعر : مولى اليمين ومولى الجار والنّسب والمعنى العاشر : الإمام السيد المطاع. قال الإمام المنصور بالله عليه‌السلام (٣) : وهذه الأقسام التسعة بعد الأولى [هو الأول] إذا تؤمّل المعنى فيها وجد راجعا إلى معنى الأولى ؛ لأنّ مالك الرق لمّا كان أولى بتدبير عبده من غيره كان مولاه دون غيره. والمعتق لمّا كان أولى بميراث المعتق من غيره كان لذلك مولاه. والمعتق لمّا كان أولى بمعتقه في تحمل جريرته وألصق به من غيره كان لذلك مولاه. وابن العم لمّا كان أولى بالميراث ممّن بعد عن نسبه وأولى بنصرة ابن عمه من الأجنبي ـ كان مولاه لأجل ذلك. والناصر لمّا اختص بالنصرة فصار بها أولى ـ كان من أجل ذلك مولى. والمتولي المتضمن الجريرة (٤) لمّا ألزم نفسه ما يلزم المعتق كان بذلك أولى ممّن لم يقبل الولى ، وصار به أولى بميراثه فكان لذلك مولى. والحليف لاحق في معناه بالمتولى ؛ فلهذا السبب كان مولى. والجار لمّا كان أولى بنصرة جاره ممن بعد عن داره ، وأولى بالشفعة في عقاره ؛ فلذلك صار مولى. والإمام السيد المطاع لمّا كان بتدبير الرعية ، وملك التصرف

__________________

(١) هو الجعدي. وعجزه : ولكن قطينا يسألون الأتاويا. تاج العروس ٢٠ / ٣١١.

(٢) في الأضداد : ولعبوا.

(٣) الشافي ١ / ١١٩.

(٤) كان في الأصل كما هو مثبت ثم أصلحها : والمتولي ليضمن الجريرة.

عليهم وطاعتهم له ممّا يماثل الواجب بملك الرّق ـ كان لذلك مولى ؛ فصارت جميع هذه المعاني كما ترى ترجع إلى معنى الوجه الأول وتكشف عن صحة معناه على الوجه الذي ذكرناه في حقيقته ، ووصفناه تم كلامه عليه‌السلام.

وإذا ثبت ذلك فإنه يفيد معنى الإمامة ؛ لأنا لا نعني بقولنا : فلان إمام إلا أنه أولى من غيره بالتصرف على الكافة في أمور مخصوصة وبتنفيذ أحكام معلومة.

يزيد ذلك بيانا ما حدثني به أبي وسيدي بدر الدين الداعي إلى الحق المبين عماد المحققين شيخ العترة محمد بن أحمد رضى الله عنه بإسناده إلى الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين قدس الله روحه يرفعه بإسناده إلى الصادق جعفر بن الباقر محمد بن علي (ع) أنه سئل : ما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله لعلي عليه‌السلام : «من كنت مولاه فعليّ مولاه»؟ فقال : سئل عنها والله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي فعليّ مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه» (١). وهذا (٢) تصريح بمعنى الخبر وأن المراد به إثبات الإمامة لعلي عليه‌السلام. وقد بسط علماؤنا رحمهم‌الله الكلام في الاستدلال بهذا الخبر على إمامة علي عليه‌السلام ، كالمنازل الخمس وغيرها بما يشفى غليل الصدور.

ومن جملة الأدلة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام من جهة السنة أيضا (٣) خبر المنزلة وهو مجمع على صحته ، وغير مختلف في ثبوته ، وهو قول النبي

__________________

(١) الأمالي الصغرى ص ١٠٢. رقم ٨.

(٢) في (ب) : هذا.

(٣) في (ب) : بدون أيضا.

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي» (١) ؛ فلمّا استثنى النبوة عرفنا أنه لو لم يستثنها لدخلت في غرضه بالخطاب ؛ فدل على أنه دخل في غرضه كلّ ما عداها. ومن جملة ذلك ملك التصرف على الأمة ؛ فإنه لا خلاف بين الأمة في (٢) أن هارون لو بقي بعد موسى لكان هو المالك للتصرف على أمته ، فيجب ثبوت ذلك لعلي عليه‌السلام وذلك هو معنى الإمامة ، فإنا لا نعنى بقولنا : فلان إمام إلّا أنه يملك التصرف على الكافّة ، كما تقدم في أمور مخصوصة ، وتنفيذ أحكام معلومة ، وهذا واضح.

وجه ثالث : مما يدل على إمامته عليه‌السلام وهو أنّ خبر المنزلة وخبر الغدير جميعا يدل كل واحد منهما على ثبوت عصمته (٣) ، والقطع على مغيّبه ، (٤) ووجوب موالاته ، وتحريم معاداته ، وكونه أفضل الأمّة بعد رسولها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فلهذا قلنا : إن عليّا عليه‌السلام أولى بالإمامة من سائر الصحابة (رض) لوجهين : أحدهما : أنه أفضل الصحابة بمقتضى هذين الخبرين ؛ ولخبر الطير (٥). والإمامة لا تكون (٦) إلا للأفضل ؛ لإجماع الصحابة (رض) على ذلك

__________________

(١) ورد بألفاظ كثيرة. فينظر الأحكام ١ / ٣٨ للهادي. والأمالي الصغرى ص ١٠٤. والبخاري ٣ / ١٣٥٩ رقم ٣٥٠٣ ، ورقم ٤١٥٤. ومسلم ٤ / ١٨٧٠ رقم ٢٤٠٤. والطبراني في الأوسط ٣ / ١٣٨ برقم ٢٧٢٨. ٥ / ٢٨٧ برقم ٥٣٣٥ ، وغيرها. والترمذي ٥ / ٥٩٩ برقم ٣٧٣٠ ـ ٣٧٣١. وأحمد بن حنبل ١ / ٣٩١ رقم ١٦٠٨ ، ١٠ / ٤١٢ رقم ٢٧٥٣٧. وهو متواتر.

(٢) في (ب) : بدون في.

(٣) أي إيمانه وصلاحه في الباطن مثل الظاهر. وهذا هو معنى العصمة.

(٤) في بعض النسخ على تعيينه.

(٥) سيأتي تخريجه في موضعه.

(٦) في (ب) لا تصح.

وإجماعهم حجة. الوجه الثاني : أنه قد ثبت بمقتضى هذين الخبرين وجوب عصمته ، ووجوب موالاته ، وتحريم معاداته ، والقطع على مغيّبه ؛ فوجب أن يكون أولى بالإمامة ؛ لأن الإسلام والعدالة معتبران في الإمامة بالإجماع ، وهما معلومان فيمن ثبتت عصمته دون من لم تثبت عصمته ، فلا يجوز العدول عمن علم إسلامه إلى من لم يعلم ذلك من حاله ، كما لا يجوز العدول إلى الاجتهاد مع وجود النص ، أو الإجماع (١) المعلوم ، فوجب أن يكون أحقّ الخلق بالتصرف في الأمة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومما يدل على أنه أفضل الصحابة طرّا (٢) قول الله سبحانه وتعالى : (وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ٩٥] ، وظاهره يقتضي تفضيله عليهم ؛ إذ المعلوم من حاله أن عناه (٣) في الجهاد كان أعظم من عنايتهم (٤) جميعا ، ولا خلاف أنّ الخلفاء الأربعة أفضل من غيرهم ، إلّا أنّ المعلوم أن غنا أمير المؤمنين لم يكن كغنائهم (٥) ، ولا كان جهادهم كجهاده ، ولا تأثير أبي بكر وعمر كتأثيره في الإسلام ، وكيف ومقاماته في المواقف مشهورة ، وقصة من قتله من الصناديد مذكورة ، نحو قتله

__________________

(١) في (ب) : أو الإيماء ، ولعله يريد إيماء النص. مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليك الكفارة» ، جوابا لمن قال : جامعت أهلي في نهار رمضان ؛ فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقل : من جامع في رمضان عليه الكفارة ؛ لكن النص يؤدي إلى هذا المعنى قطعا.

(٢) في (ب) و (ج) : بدون طرّا.

(٣) تعليقة في الأصل : عنايته. ظ.

(٤) في (ب) : من عنايهم ، وكأنها من عنائهم بالهمز.

(٥) في (ب) عنا .. كعنائهم. وفي هامشها الأولى أن عناءهم لم يكن مثل عنائه كما قال في الجهاد فتأمل.

للفضفاض (١) ، وقتله لمرحب ، وغيرهما من صناديد العرب. ولم يرو مثل ذلك لغيره. فمن ادعى خلاف ذلك فقد كابر ؛ ولأن الناس اختلفوا في التفضيل : فمنهم من فضّل أبا بكر على الجميع ، ومنهم من فضّل عليا على الجميع ، ومنهم من توقف.

والذي يدل على أنه أفضل من أبي بكر وجوه : منها : إجماع الصحابة ؛ فإن أبا بكر قال على المنبر : ولّيتكم ولست بخيركم (٢) ، ولم ينكر عليه منكر ولا ردّ عليه رادّ. ولا شبهة أنّ غير أمير المؤمنين عليه‌السلام من العشرة ليس بأفضل من أبي بكر ؛ فلم يبق إلّا أن عليا عليه‌السلام خير منه. ولا يصح أن يقال : خيرهم نسبا ؛ (٣) لأنه تخصيص من غير دليل. ولا يصح أن يقال : إنه أراد بذلك التواضع وطريقة تبكيت النفس ، وذلك لأن (٤) هذه الأحوال لا توجب إباحة الكذب. ولا يصح أن يقال : إن المراد النّفع ؛ لأنّ الخير في عرف الشرع يراد به الفضل ، فلا يعدل عن الحقيقة لغير دلالة.

ومنها : ما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهدي (٥) إليه طير مشويّ فقال : «اللهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطّير» ؛ فاقبل علي عليه‌السلام وأكل

__________________

(١) لم نجد هذا الاسم ضمن من قتلهم الإمام علي ، إلا إذا كان من ألقاب عمرو بن ود العامري فالله أعلم.

(٢) ابن سعد في الطبقات ٣ / ١٨٢. والعقد الفريد ٤ / ٥٩ ، وعيون الأخبار لابن قتيبة ٢ / ٦٢٥.

(٣) يعنى قول أبي بكر : لست بخيركم في النّسب ؛ لأن نفي الخيرية عن النسب دون غيره تخصيص بغير دليل.

(٤) في (ب) وذلك أنّ.

(٥) في (ب) : ما روي عن النبي (ص) أنه أهدي إليه.

معه (١) ... الخبر بطوله. وهذا الخبر مما احتج به أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم الشورى بمحضر الصحابة ولم ينكر عليه منهم منكر. وقوله : أحبّ خلقك إليك المراد به أعظمهم ثوابا ، وأكرمهم وهو الأفضل. ولا يصح أن يقال : إنه يدخل فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنه مستثنى بوجهين : أحدهما أنه لا يدخل في الخطاب إذ هو المخاطب. والثاني أنه مخصوص بدلالة الإجماع وغيره من الأدلة (٢).

ومنها : أن أمير المؤمنين عليه‌السلام جمع من (٣) خصال الفضل كلّها ؛ فاختص بها على وجوه لم يشاركه فيها أحد فمنها ما سبق به جملة الصحابة (رض) فلم يشاركوه فيه ، وهذا كالإيمان بالله ؛ فإنه أول من آمن ، ثم المؤازرة والمعاضدة له (٤) ، وتحمّل المشاقّ فيه قبل الهجرة ، في الشعب وغيره ، وعند الهجرة وبعدها في مقامات القتال ، وجهاده بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلمه بالأصول والفروع. ومن ذلك اختصاصه بجميع خصال الفضل مع تفرقها في غيره ، وتقدمه عليهم فيما شاركوه فيه (٥) ، كما قال الأول :

__________________

(١) أحمد ابن حنبل في فضائله ٢ / ٥٦٠. والعمدة لابن البطريق ص ٣٠٣ والشافي ج ٣ ص ١٤٦. والطبراني في الكبير ١ / ٢٥٣ رقم ٧٣٠. والأوسط ٢ / ٢٠٦ رقم ١٧٤٤. و ٦ / ٩٠ رقم ٥٨٨٦ ورقم ٦٥٦١. والخطيب ٣ / ١٧١. والحاكم ٣ / ١٣٠ ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والذهبي في تأريخ الخلفاء ص ٦٣٣. ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٢٦. وذخائر العقبى ص ٦١. وابن المغازلي ص ٨٨ رقم ١٥٥ ، وينابيع المودة للقندوري ج ١ ص ٦٦. وقد روى أربعة وعشرون رجلا حديث النظر عن أنس منهم سعيد بن المسيب والسدس وإسماعيل وغيرهم.

(٢) في هامش الأصل : في العبارة تسامح : إذ الخطاب لله عزوجل : والصواب أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خارج بقرينة إذ لا يريد ايتني بنفسي.

(٣) في (أ) : من. وبين تعليقه ظ. وفي (ب) : جمع خصال.

(٤) في (ب) : بحذف له.

(٥) في (ج) : بدون فيه.

تجمع فيه ما تفرق في الورى

فمن لم يعدّده فإني معدّد

(١) وهذا أمر ظاهر. وإذا ثبت أنه أفضلهم كان أولى بالإمامة كما تقدم.

ومن جملة الأدلة على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام إجماع العترة. وتحريره أن العترة (ع) أجمعوا على ذلك ، وإجماعهم حجة. وإنما قلنا : بأن أهل البيت (ع) أجمعوا على ذلك لما هو معلوم لنا وللعارفين أنه لا خلاف بينهم في أن الإمام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بلا فصل هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وأن إمامته طريقها النص ـ وإن اختلفوا في كيفية النص. وإنما قلنا : بأن إجماعهم حجة لما يشهد له الكتاب والسنة :

أما الكتاب : فقوله سبحانه : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨] ؛ فإن قيل : إنّ الآية خطاب لولد إبراهيم جميعا قلنا : لا خلاف في أن إجماع من عدا أولاد الحسن والحسين (ع) من اليهود وغيرهم من قريش وسائر ولد إبراهيم ليس بحجة ، فلم يبق إلا أن يكون ذلك في أهل البيت (ع) ؛ إذ لو بطل ذلك فيهم مع بطلانه في غيرهم لخرج الخطاب عن الفائدة ، وهو خطاب حكيم لا يجوز ذلك فيه. وهذه الآية قد استدل بها الحسن بن علي (ع) على المنبر بمحضر جماعة الصحابة (رض) في وقته فأقروه على ذلك ولم ينكره عليه منهم منكر.

__________________

(١) وقول العلامة الأمير في التحفة العلوية :

كلّ ما للصّحب من مكرمة

فله السّبق تراه الأوّليّا

جمعت فيه وفيهم فرّقت

فلهذا فوقهم صار عليّا

ووجه الاستدلال : بهذه الآية على أن إجماعهم حجة ظاهر ؛ فإن الله تعالى اختارهم له شهودا بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) ؛ فإنّ الاجتباء : هو الاختيار ، وهو لا يختار له شهداء إلا العدول الذين لا يجمعون على ضلالة ولا خطإ ولا يشهدون إلا بالحق ؛ لأنه لو اختار للشهادة من (١) ليس بعدل لكان ذلك قبيحا ، وقد أجمعوا على أن متابعتهم واجبة ، ومخالفتهم قبيحة ؛ فوجب أن يكون ذلك حقا ، وذلك هو معنى قولنا : إن إجماعهم حجة. وقد ذكرنا تحقيق هذه الدلالة في «كتاب الإرشاد إلى سوي الاعتقاد».

دليل آخر : ويدل على ذلك من (٢) الكتاب قول الله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣]. ووجه الاستدلال : بهذه الآية أن الله تعالى أذهب عنهم الرجس المتعلق بالأفعال وهو رجس الذنوب (٣) ، وذلك يقتضي عصمة جماعتهم عن جميع الذنوب. وإذا (٤) ثبت ذلك وجب القضاء بأن ما أجمعوا عليه فهو حق لا باطل فيه ، وقد أجمعوا على أنّ متابعتهم واجبة ، ومخالفتهم محظورة ، فوجب أن يكون ذلك حقا ، وذلك هو معنى قولنا : إن إجماعهم حجة. وتحقيق هذه الدلالة مذكور في «كتاب الإرشاد» وفي كتابنا الموسوم ب «نظام درر الأقوال النبوية».

__________________

(١) في (ب) : من كان ليس.

(٢) في (ب) ، (ج) : من قبل.

(٣) فتح القدير ج ٤ ص ٢٧٨.

(٤) في (ب) : فإذا.

وأما السنة فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الخبر المشهور : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (١) ، ولا شبهة في كون هذا الخبر متواترا. ووجه الاستدلال به : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمّننا من الضلال إذا تمسّكنا بعترته ، كما أمّننا من الضلال إذا تمسّكنا بالكتاب. وعترة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هم ولده وولد ولده.

والمراد بالتمسك بهم الاتّباع لهم والاقتداء بهم ، وقد ثبت أن المتمسك بالكتاب لا يضل فكذلك المتمسك بالعترة. وإذا ثبت ذلك وجب في إجماعهم أن يكون حجة. وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على خمسة أصول قد حققناها في «كتاب النظام» ودللنا على كل أصل منها.

دليل ثان من السنة على أن إجماعهم حجة وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق

__________________

(١) رواه الإمام زيد بن علي عن آبائه في المجموع ص ٤٠٤. وعلي بن موسى الرضى عن آبائه في صحيفته ص ٤٦٤. ومسلم عن زيد بن أرقم ٤ / ١٨٧٣ رقم ٢٤٠٨ ، عن جابر. والترمذي عن جعفر بن محمد عن أبيه ٥ / ٦٢١ رقم ٣٧٨٦ ، وقال : حديث حسن غريب. وقال : وفي الباب عن أبي ذر وأبي سعيد وزيد بن أرقم وحذيفة بن أسيد ، وقال : حسن غريب من هذا الوجه ، ورواه برقم ٣٧٨٨ عن زيد بن أرقم ، وقال : حسن غريب. والطبراني في الكبير عن زيد ٥ / ١٨٦ رقم ٥٤٠. ومسند أحمد عن أبي سعيد ٤ / ٣٠ رقم ١١٠٤. وج ٧ / ٨٤ رقم ١٩٣٣٢ عن زيد بن أرقم. وج ٨ / ١٣٨ رقم ٢١٦٣٤ عن زيد بن ثابت. وابن كثير في البداية النهاية ٥ / ٢٢٨. وقال : قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي : وهذا حديث صحيح.

وهوى» (١). ولا شبهة في كون معناه (٢) متواترا.

ووجه الاستدلال به ظاهر فإنه لا شبهة أيضا في أنه لم ينج من أمة نوح عليه‌السلام سوى من ركب في السفينة ، فكذلك لا ينجو من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلا من تمسك بأهل بيته ، وإلا بطل التشبيه بسفينة نوح عليه‌السلام وذلك لا يجوز ؛ لأنه كلام نبيّ صادق لا يدين إلا بالحق ، ولا يخبر إلا بالصدق ، فثبت بذلك الكلام في المطلب الأول ، وهو في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأما المطلب الثاني :

وهو في ذكر طرف يسير من فضائله ومناقبه ؛

فله فضائل كثيرة ، ومناقب شهيرة ، وهي مدونة في الكتب المشهورات (٣) ، كالصحاح وغيرها مما رواه المخالفون والمؤالفون ، وهي أكثر من أن نأتي على جميعها في كتابنا هذا ؛ فلنقصر على ذكر طرف يسير مما رواه المخالفون من فضائله عليه‌السلام ونضيفه إلى كتبهم ؛ لأنها كالشاهدة عليهم ، وشهادة الخصم لخصمه من أقوى الشهادات ؛ لأنها لا تحتاج إلى عدد ولا تفتقر إلى

__________________

(١) أخرجه الهادي في الأحكام ١ / ٤٠. والإمام علي بن موسى الرضى عن آبائه في صحيفته ص ٤٦٤ بلفظ : «أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها زج في النار». والمرشد بالله في أماليه ١ / ١٥٢. وأبو طالب في أماليه ١٣٦. والحاكم ٢ / ٣٤٣ ، عن أبي حنش الكناني قال : سمعت أبا ذر يقول وهو آخذ باب الكعبة : أيها الناس من عرفني فأنا من عرفتم ، ومن أنكر فأنا أبو ذر ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى» ، وقال : حديث صحيح على شرط مسلم ، وأخرجه أيضا في ٣ / ١٥٠. وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه. والطبراني في الأوسط ج ٥ برقم ٥٣٩٠. والكبير ٣ / ٤٥ برقم ٢٦٣٦. والبزار ٢ / ٣٣٤ رقم ١٩٦٧ من مختصر زوائده لابن حجر.

(٢) في (ب) ، (ج) : معناها.

(٣) في (ب) ، (ج) : المشهورة.

تعديل ، ولا تردّ يجرح ، ولا يقدح فيها الرجوع بعد ثبوتها.

وأما ما رواه آباؤنا الأئمة الأعلام عليهم أفضل الصلاة والسّلام ، أو رواه أتباعهم من علماء أهل الإسلام فهذا باب واسع ، ولو ذكرنا طرفا منه لخرجنا عن الغرض في هذا الكتاب ، ولدخلنا في الإسهاب والإطناب. فلنذكر طرفا مما رواه المخالفون فقط ، ونورد ذلك فضيلة فضيلة ونضيفها إلى الكتاب (١) المذكورة فيه. فنقول وبالله التوفيق إلى واضح الطريق :

فضيلة تبليغ سورة براءة

روينا بالإسناد الموثوق به أنّ سورة براءة لمّا نزلت في سنة تسع أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر إلى مكة ليحج بالناس ، ودفعها إليه ليقرأها عليهم ، فلما مضى بها أبو بكر وبلغ ذا الحليفة نزل جبريل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمره بدفع براءة إلى علي عليه‌السلام ليقرأها على الناس ، فخرج عليّ عليه‌السلام على ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العضباء حتى أدرك أبا بكر بذي الحليفة فأخذها منه ، فرجع أبو بكر وقال : يا رسول الله هل نزل فيّ شيء؟ قال : «لا ، ولكن لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل مني. فسار أبو بكر مع علي عليه‌السلام ؛ فلما كان يوم النحر قام علي عليه‌السلام فأذّن في الناس وقرأ سورة براءة. وقيل : قرأها يوم عرفة ، وكان ينادي : لا يطوف بالبيت عريان. ومن كان له عهد عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعهده إلى مدته ، ومن لم يكن له عهد فعهده أربعة أشهر. ولا تدخل (٢) الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك ؛ [فقالت قريش : نبرأ من عهدك وعهد ابن

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : الكتب.

(٢) في (ب) ، (ج) : يدخل.

عمك] (١). وهذا رويناه من كتاب التهذيب في التفسير (٢) ، ولم يكن صاحبه زيديّا في أوله بل كان معتزليّا ؛ فإذا منع الله ورسوله أبا بكر من تبليغ سورة براءة ، وجعلا ذلك مقصورا على علي عليه‌السلام ـ كيف تجوّز الأمة تقديمه على علي عليه‌السلام في الإمامة ، واختصاصه بالزعامة ، واتخاذه بالقيام بأمور الإسلام العامّة.

فضائل الرّاية والمنزلة والمباهلة

روينا بالإسناد الموثوق به إلى الإمام المنصور بالله عليه‌السلام ما رفعه بإسناده إلى عامر بن سعد أن معاوية بن أبي سفيان أمر إليه (٣) ما منعك من سب أبي تراب؟ فقال : أمّا ما ذكرت له ثلاثا ، قالهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلن أسبّه ؛ لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ (٤) إلي من حمر النعم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) ما بين المعقوفتين فيه نظر ؛ لأن قريشا قد أسلمت وعاملها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتكرم والصفح وكثير منهم حسن إسلامه ، ولا يصدر مثل هذا الكلام دون أن يؤدبهم الرسول ؛ لأنه نقض للعهد وردة ، والله أعلم.

(٢) التهذيب أهم مرجع استند إليه الزمخشري ، بل قيل : إن تفسير الكشاف منه. وهو تأليف العلامة : أبي سعيد محسن بن كرامة الحاكم الجشمي الزيدي ويقع في تسعة مجلدات ، فإنه يذكر الآيات جميعها أولا ، ثم اللغة ، ثم الإعراب وما يشكل في إعراب الآية ، يبين معاني الآية ، ثم الأحكام ويبين ما يستنبط من الأحكام الشرعية ، وعلى هذا جرى في القرآن جميعا. ويذكر ضمن المعنى أقوال المفسرين باختصار ، وهو ما زال مخطوطا لم ير النور. وهناك رسالة دكتوراه : الحاكم الجشمي ومنهجه في التفسير ؛ للدكتور عدنان زرزور.

(٣) لفظ الشافي ١ / ١٢٧ قال : عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية سعدا فقال : ما منعك أن تسبّ أبا تراب. وقد صلّحها في الأصل : أمر إلى أبيه. وفي هامش (ب) قال له.

(٤) أحبّ مرفوع خبر للمصدر المنسبك من أن وتكون أي كون واحدة لي أحبّ ، ولي خبر تكون ، وواحدة اسمها.

يقول : وقد خلّفه في بعض مغازيه ، فقال علي : يا رسول الله خلّفتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي». وسمعته يقول يوم خيبر : لأعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله» ؛ فتطاولنا (١) لها ، فقال : «ادعوا لي عليّا» فأتي به أرمد العين (٢) ؛ فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله على يديه.

ولمّا نزلت هذه الآية : (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) [آل عمران : ٦١] دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين ، وقال : «اللهم هؤلاء أهل بيتي» (٣).

وهذه الفضائل الثلاث : خبر المنزلة ، وخبر الراية ، وخبر المباهلة مذكورة بهذا اللفظ من غير زيادة ولا نقصان في أول الجزء الرابع من صحيح مسلم من أوله في مناقب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهي مذكورة أيضا في صحيح البخاري بما معناه معنى ذلك (٤) ، وإن اختلف لفظه.

وذكر أيضا في صحيح مسلم في الجزء الرابع بإسناده إلى عمر بن الخطاب بعد قتل عامر (٥) أرسلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى علي بن أبي طالب

__________________

(١) في (ب) : قال : فتطاولنا.

(٢) في (ب) : العينين. وفي الأصل رمد العين.

(٣) مسلم ٤ / ١٨٧١ في فضائل الإمام علي. والترمذي ٥ / ٥٩٦ رقم ٣٧٢٤. وأحمد بن حنبل ١ / ٣٩١ رقم ١٦٠٨. والنسائي في خصائصه ص ٣٢ رقم ٩. وص ٧٠ رقم ٧٢. والحاكم ٣ / ١٠٨.

(٤) البخاري أخرج حديث الراية في ج ٣ ص ١٣٥٧ برقم ٣٤٩٨ ، ٣٤٩٩ ، ص ١٣٥٨ رقم ٣٥٠٠. وحديث المنزلة في ج ٣ ص ١٣٥٩ رقم ٣٥١٣.

(٥) يعني بعامر : عامر بن الأكوع. صح هكذا في الأصل.

وهو أرمد وقال : «لأعطينّ الرّاية رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله» ، قال : فأتيت عليا فجئت به أقوده فبصق في عينيه فبرأ وأعطاه (١) الراية. وخرج مرحب فقال :

قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الحروب أقبلت تلهّب

فقال علي عليه‌السلام :

أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره

كليث غابات كريه المنظرة

أو فيهم بالصاع كيل السّندره (٢)

قال : فضرب رأس مرحب فقتله ، ثم كان الفتح على يديه ، ثم ذكر أيضا هذا الخبر بطوله ، ورفعه باسناد آخر إلى عكرمة بن عمار ، ورفعه أيضا في هذا الكتاب إلى عبد الله بن عباس.

ومن تفسير القرآن للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في معنى قوله : (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [الفتح : ٢٠] ، قال : وذلك في فتح خيبر (٣). ثم روى بإسناده ، قال : حاصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل خيبر حتى أصابتنا مخمصة شديدة [مجاعة] فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اللواء (٤) عمر بن الخطاب ونهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر وأصحابه ورجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجبّنه أصحابه ويجبّنهم ، وكان رسول

__________________

(١) في (ب) : فأعطاه.

(٢) مسلم ٣ / ١٤٤١. والنسائي في خصائصه ص ٣٧ رقم ١٤ ، ص ٤٨ رقم ١٥. والاستيعاب ٢ / ١١٢ ، في ترجمة عامر بن الأكوع. أحمد بن حنبل ٥ / ٥٥٦ رقم ١٦٥٣٨. وابن المغازلي في مناقبه ١٣٥.

(٣) العمدة لابن البطريق ص ١٩٨ وعزاه إلى الثعلبي.

(٤) في (ب) : الراية.

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخذته الشقيقة (١) فلم يخرج إلى الناس ، فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم نهض يقاتل ، ثم رجع ، فأخذها عمر فقاتل ثم رجع فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : «أما والله لأعطيّن الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله يأخذها عنوة [قهرا] ، وليس ثمّ عليّ فلمّا كان الغد تطاول لها أبو بكر وعمر ورجال من قريش ، رجا كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ؛ فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن الأكوع إلى علي فدعاه فجاءه على بعير له حتى أناخ قريبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو أرمد وقد عصب عينيه (٢) بشقة برد قطريّ ، قال سلمة [بن الأكوع] : فجئت به أقوده ، قال المنصور بالله عليه‌السلام : ولفظ هذا الحديث يدل على أن عمر قاده بعض المسافة ، وسلمة بن الأكوع بعضها ـ قال سلمة : فأتيت به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مالك؟ قال : رمدت. قال : «ادن منّي» ، فدنا منه فتفل في عينيه ، فما شكا وجعهما بعد ، حتى مضى لسبيله ، ثم أعطاه الراية ؛ فنهض بالراية وعليه خلعة أرجوان حمراء ـ وقد أخرج كميها ـ فأتى مدينة خيبر ، فخرج (٣) مرحب وعليه مغفر مصفر ، وحجر قد نقبه مثل البيضة ، وهو يرتجز ، وهو يقول :

قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

أطعن أحيانا وحينا أضرب

إذا (٤) الحروب أقبلت تلهّب

كان حماي كالحمى لا يقرب

فبرز علي صلوات الله عليه ، وهو يقول :

__________________

(١) نوع من صداع يعرض في مقدّم الرأس ، وإلى أحد جانبيه. النهاية ٤ / ٢١٢.

(٢) في (ب) : عينه.

(٣) في (ب) : وخرج.

(٤) في (ب) و (ج) : إذ.

أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره

كليث غابات شديد قسوره

أكليكم بالسيف كيل السندرة

فاختلفا ضربتين ، فبدره عليّ بضربته فقدّ الحجر والمغفر وفلق رأسه حتى وقع السيف في الأضراس ، فأخذ المدينة وكان الفتح على يديه (١).

وقد رواه ابن المغازلي الفقيه الشافعي في مناقب علي عليه‌السلام بأسانيد كثيرة ، وطرق جمّة ، وذكر في بعضها أنّ أمّ علي عليه‌السلام فاطمة بنت أسد لمّا ولدته سمّته أسدا ، فلما قدم أبو طالب كره ذلك ، وسمّاه عليا ، فلما ارتجز علي عليه‌السلام ذكر ما سمّته به أمّه ، وحيدرة من أسماء الأسد ، وكذلك القسورة (٢). والسّندرة شجر (٣) يعمل منها القسيّ. قال المنصور بالله عليه‌السلام : يحتمل أن يكون يعمل منها مكاييل جائرة ، أو تكون السندرة امرأة تكيل كيلا وافيا فمثّل به ، وقد قيل : نشارة العيدان. وخبر الراية مذكور أيضا في صحيح الترمذي مثل هذا الخبر بطوله (٤). قال المنصور بالله عليه‌السلام : وقد قلت في ذلك أبياتا ؛ لأنّ راية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّت مهزومة حتى كاد من لا بصيرة له ييأس من الفتح ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما قال في الخبر ، والأبيات هي هذه :

قد عرّفوا طرق التعريف لو عرفوا

لكنهم جهلوا ، والجهل ضرّار

ساروا برايته فاسترجعوا هربا

والخيل تعثر والأبطال فرّار

حتى إذا انسدّ وجه الفتح واختلجت

خواطر من بني الدنيا وأفكار

__________________

(١) ذكره الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في الشافي ٣ / ١٩٨ ، وعزاه إلى الثعلبي في تفسيره. وابن البطريق في العمدة ص ١٩٨.

(٢) في (ب) : قسوة.

(٣) في (ب) : شجرة.

(٤) الترمذي ٥ / ٥٩٦ رقم ٣٧٢٤ في الحديث المروي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية ... إلخ ، فقال : ما منعني أن أسب أبا تراب ، فقال : أما ما ذكرت له ثلاثا ، قالهن رسول الله ... وذكر خبر الراية.

نادى أبا حسن موفي مواعده

صبحا وقد شخصت في ذاك أبصار

فجاء كالليث يمشي خلف قائده

إذ كان في عينه ضرّ وعوّار

فمجّ فيها بريق طعمه عسل

وريحه المسك لم يفضضه عطّار

وقال : خذها وصمّم يا أبا حسن

فكان فتح وباقي الجيش صدّار (١)

فضيلة الوزارة

ذكرها ابن حنبل (٢) في مسنده ورفعه (٣) بإسناده إلى أسماء بنت عميس أنها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول : اللهم إني أقول كما قال أخي موسى : اللهم اجعل لي وزيرا من أهلي ، عليّا أخي ، أشدد به أزري ، وأشركه في أمري ، كي نسبّحك كثيرا ، ونذكرك كثيرا ، إنك كنت بنا بصيرا.

فضيلة حديث العهد وغيره

مذكور في مناقب الفقيه ابن المغازلي الشافعي رفعه بإسناده إلى ابن عباس رضي الله عنه (٤) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «أيها الناس من آذى عليا فقد آذاني ، وإنّ عليا أوّلكم إيمانا ، وأوفاكم بعهد الله. يا أيها الناس من آذى عليا بعث يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا» ، فقال جابر بن عبد الله

__________________

(١) ذكر هذه الأبيات حميد المحلي في الحدائق الوردية ٢ / ١٤٥ ، وعزاه إلى الإمام المنصور عبد الله بن حمزة في الرسالة النافعة بالأدلة القاطعة (خ). ديوان.

(٢) في (ب) ، (ج) : ذكر ابن حنبل. فضائل الصحابة ٢ / ٨٤٤ رقم ١١٥٩.

(٣) في (ب) : رفعه.

(٤) أوّله : قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا أقبل علي بن أبي طالب غضبان ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أغضبك؟ قال : آذوني فيك بنو عمك! فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مغضبا فقال : يا أيها الناس. إلخ ص ٥٢ رقم ٧٦. قلت : قوله آذوني على لغة أكلوني البراغيث حيث جمع بين ضمير الجماعة ، ثم ذكر الفاعل وهو بنو. وجاء في المستدرك ج ٣ ص ١٢١ عن أم سلمة رضي الله عنها حين دخل عليها أبو عبد الله الجدلي ، ورواية أخرى شبيب بن ربعي : فقالت : أيسبّ رسول الله فيكم أو في ناديكم؟ فقالوا : معاذ الله .. قالت : فعلي بن أبي طالب : قالوا : إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا. قالت : فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من سب عليا فقد سبني ومن سبني فقد سب الله تعالى».

الأنصاري : يا رسول الله وإن شهد أن لا إله إلا الله وأنّك محمد رسول الله ، فقال : «يا جابر كلمة يحتجزون بها أن لا تسفك دماؤهم وأموالهم وأن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» (١).

فصل : قال المنصور بالله عليه‌السلام : وقد تواترت الأخبار أنه عليه‌السلام أوّل الصحابة إيمانا كما ذكره في هذا الخبر. وصرّح في الخبر هذا أنّه أوفاهم بعهد الله ، فكان ذلك إشارة إلى أنه أولى بالامامة ؛ لأن الله سبحانه قد ذكرها بلفظ العهد في قوله تعالى لإبراهيم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ؛ فجعل الإمامة عهدا ؛ فهو أوفى بأمانة الله. وتضمّن الخبر أنّ من آذى عليا فقد آذاه ، وقد ثبت أنّ أذاه [أي النبي] كفر بالإجماع. وقد صرّح في الخبر بأنه يحشر يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا ، ولا يحشر بهذه الصفة إلا المشركون ؛ فما ظنّك بمن حاربه وأجرى سبّه على المنابر وفي محاريب المساجد ما يكون اسمه غدا عند الله تعالى بعد خبر الصادق المصدوق؟!.

فضيلة حديث الإمارة

رواه ابن المغازلي الشافعي بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول يوم الحديبية وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب عليه‌السلام : هذا أمير البررة ، وقاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله» (٢).

__________________

(١) أي إنّ الشهادتين مع أذية علي لا تمنع الموذين إلا من سفك الدماء وأخذ الأموال وإعطاء الجزية ، وما عدا ذلك لا تنفع في شيء كالمنافق ، ويشهد لذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» المناقب لمحمد بن سليمان الكوفي ١ / ٥٤٨ رقم ٤٨٩.

(٢) المناقب ص ٧٢ رقم ١٢٥. والحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٩ ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. والخطيب في تاريخه ٤ / ٢١٩. والطبرسي ٣ / ٣٦١.

فضيلة حديث باب مدينة العلم

ذكر ابن المغازلي بإسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : وقد مدّ صوته : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها ؛ فمن أراد العلم فليأت الباب» (١).

فصل : وقد نهى الله تعالى عن إتيان البيوت من ظهورها ، وأمر بإتيانها من أبوابها ، فأفاد ذلك أنّ المتّصل بالرسول من غير علي أمير المؤمنين قد أتى البيوت من حيث نهي عن إتيانها ، وذلك إشارة إلى أنه الامام بلا فصل.

فضيلة حديث قل هو الله أحد

رواه ابن المغازلي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنما مثل علي في هذه الأمة مثل قل هو الله أحد» (٢).

فصل : فشبّهه بقل هو الله أحد ، وهي سورة الإخلاص ؛ فإذن الاخلاص بودّه. وفيها معنى التوحيد ولفظه ؛ فكانت الامامة له وحده دون غيره ، وفيها معنى الصّمد ، وهو يفيد معنى الإمامة ؛ لأن الصّمد هو السيد المطاع. قال الشاعر :

__________________

(١) المناقب ص ٧١ ـ ٧٣ ، رقم ١٢٠ ـ ١٢٦. والحاكم في مستدركه ٣ / ١٢٦. والخطيب في تاريخه ٤ / ٣٤٨ عن ابن عباس. ٧ / ١٧٣. ١١ / ٤٨. ٢ / ٣٧٧ عن جابر وقد سئل عنه يحيى بن معين ، فقال : صحيح ، كما ذكر ذلك الشوكاني في الفوائد المجموعة ص ٣٤٩. والمحب الطبري في ذخائره ص ٧٧. والكنجي في كفايته ص ٢٢٠. وابن عبد البر في الاستيعاب. وقد ذكره الأميني في الغدير ٦ / ٦١ ، وما بعدها ، وذكره من مائة وثلاثة وأربعين مصدرا.

(٢) المناقب ص ٦٢ رقم ١٠٠.

علوته بحسام ثم قلت له

خذها إليك فأنت السيد الصمد

وقال آخر :

ألا بكّر الناعي بخير بني أسدّ

بعمر بن مسعود وبالسيد الصمد

فضيلة حديث الولاية

وهو مذكور في كتاب الفردوس لابن شيرويه الديلمي (١) ، ذكره في قافية الواو ، ورفعه باسناده إلى أبي سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات : ٢٤] عن ولاية علي بن أبي طالب (٢).

فضيلة حديث مصاحبة الحق له

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم أدر الحقّ مع عليّ حيث دار» (٣) ، وهذا الخبر معناه يقرب أن يكون متواترا (٤) ؛ فلهذا لا يحتاج فيه إلى ذكر إسناد ، ولا إضافة إلى كتاب ؛ لأنها قد وردت أخبار كثيرة في هذا المعنى ، ونحن نورد طرفا منها بعون الله. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ مع الحق ، والحقّ معه» (٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «إن

__________________

(١) مسند الفردوس هو تأليف شيرويه بن شهردار بن شيرويه الهمذاني محدث ومؤرخ توفي سنة ٥٠٩. ومن مؤلفاته تاريخ همذان ، وفردوس الأخبار وقد أخرجه ابنه شهراد ، والأنس لعقلاء الإنس في معرفة أحوال النبي وتاريخ الخلفاء بعده والكتاب لم يتيسر لنا. ينظر معجم المؤلفين ١ / ٨٢٠ ـ ٨٢٣.

(٢) أخرجه المرشد بالله ١ / ١٤٤. والحافظ محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٥٦ رقم ٧٥. وشواهد التنزيل ٢ / ١٠٦. وتفسير فرات الكوفي ص ٣٥٥. ومجمع البيان ج ٨ ص ٣٠١. والماوردي ج ٥ ص ٤٤.

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٢٤ ، وقال : حديث صحيح. والترمذي ج ٥ ص ٥٩١ برقم ٣٧١٤.

(٤) كأن المؤلف رحمه‌الله يريد تواتر المعنى.

(٥) أخرجه ابن المغازلي في المناقب ص ٩١ ، والشافي ج ٣ ص ١٥٨.

الله سيهدي قلبك ويثبّت لسانك» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام : «إنّه يؤدّي عنّي ولا يؤدّي عنّي غيره». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «إنّك تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» (٢). وقال : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» (٣). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون من بعدي فتن ؛ فإذا كان كذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ؛ فإنه أوّل من يراني يوم القيامة ، وأوّل من يصافحني. وهو الصّدّيق الأكبر ، وهو فاروق هذه الأمّة ، وهو يعسوب المؤمنين» (٤) ، إلى غير ذلك. ولا يجوز أن تشتهر هذه الأخبار إلا وفي جملتها ما هو صحيح ، ويجري الكلام في ذلك مجرى العلم بشجاعة عنترة وكرم حاتم ، فإن ذلك اشتهر بأخبار الآحاد الكثيرة ، فقطعنا على أنه لا بد أن يكون في جملتها ما هو صحيح ؛ والعلة الرابطة بين ذلك تطابق الأخبار من جهة الآحاد على معنى واحد ؛ فوجب كون ذلك المعنى صحيحا ، ويقرب أن يكون متواترا. وإذا ثبت ذلك وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد قال : «اللهم أدر الحقّ مع علي حيث دار» ؛ فقد علمنا إجابة دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن قول علي عليه‌السلام ـ أنه الامام بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل ؛ فيجب أن يكون ذلك حقّا ؛ فلا يجوز تعدّيه إلى غيره ، وهذا الخبر

__________________

(١) الاستيعاب ج ٣ ص ٢٠٤. والذهبي في تأريخ الخلفاء ص ٦٣٧. وطبقات ابن سعد ج ٢ ص ٣٣٧. وأحمد بن حنبل ج ١ ص ١٨٢. رقم ٦٣٦ ، والحاكم ج ٣ ص ١٣٥ بلفظ مقارب ، والترمذي ج ٥ ص ٥٩٤ بلفظ مقارب.

(٢) كتاب الشافي ج ٣ ص ١٥٧. والذهبي ص ٦٤٢ عهد الخلفاء ، والبداية والنهاية ج ٦ ص ٢٤٣ ، ودلائل النبوة ص ٤٣٦.

(٣) سبق تخريجه. والشافي ج ٣ ص ١٥٨. والمصنف لابن أبي شيبة ج ٦ ص ٣٦٦. رقم ٣٢٠٧١.

(٤) أخرجه الكنجي في كفاية الطالب ص ١٨٧. والمعجم الكبير للطبراني ج ٦ ص ٢٦٩ رقم ٦١٨٥ ، ومختصر مسند البزار ج ٢ ص ٣٠١ رقم ١٨٩٨. ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٠٢.

قد رواه ابن المغازلي أيضا (١). ومما رواه أيضا فضيلة حديث الجواز ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنّة إلا من جاء بجواز من علي بن أبي طالب» (٢).

فصل : وإذا كان هذا هكذا كان تقديمه واجبا ، واعتقاد ولايته على هذه الأمة بعد رسولها فرضا لازبا (٣).

ومما رواه أيضا فضيلة حديث الوالد ، وهو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما مثل عليّ في هذه الأمّة مثل الوالد» (٤).

فصل : وحق الوالد عظيم قال تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] ، وقال تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) [العنكبوت : ٨](إِحْساناً) [الأحقاف : ١٥] وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رضى الرّبّ في رضا الوالدين ، وسخط الربّ في سخط الوالدين» (٥) ؛ فاقتضى ذلك أن طاعة علي عليه‌السلام واجبة على جميع الصحابة (رض).

فضيلة المباهلة :

في قوله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] ، أطبق أهل النقل كافة مع اختلاف أغراضهم واعتقاداتهم ، وأجمع عليه المخالف في إمامته والمؤالف ، وإذا كان كذلك فلنذكر اللفظ الذي رواه المخالفون ليكون ألزم للحجة ، وهو ما ذكره الثعلبي ؛ فإنه روى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج محتضنا للحسين ، وآخذا بيد الحسن ، وفاطمة تمشي خلفه ، وعلي

__________________

(١) ص ٩١ رقم ١٥٤.

(٢) ص ٩٣ رقم ١٥٦ ، وتأريخ بغداد ج ١٠ ص ٣٥٧.

(٣) في (ب) : لازما.

(٤) المناقب ٤٩ رقم ٧٠ بلفظ : «حق عليّ على المسلمين كحق الوالد على ولده».

(٥) الترمذي ٤ / ٢٧٤ رقم ١٨٩٩. والحاكم في المستدرك ٤ / ١٥٢.

خلفهما ، وهو يقول لهم : «إذا دعوت فأمّنوا» ؛ فقال أسقف النصارى : إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله ؛ فلا تبتهلوا : فلا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، ونثبت على ديننا وأنت على دينك ، وأعطوه الصلح في كل عام ألفي حلّة : نصف في رجب ، ونصف في صفر. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده إنّ العذاب قد تدلّى على أهل نجران ، ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ، ولاضطرم الوادي عليهم نارا ، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله حتى الطير على الشجر ، ولما حال الحول على النصارى كلّهم حتى هلكوا» فقال الله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١) [آل عمران : ٦٢].

فصل : قال الإمام المنصور بالله عليه‌السلام : وهذا الخبر مفيد جدا ؛ لأنه أثبت أنّ ولدي عليّ وهما الحسن والحسين ولدان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذلك ثابت في ظاهر قوله : (نَدْعُ أَبْناءَنا) ؛ فكان الحسن والحسين (ع). وأثبت الخبر أنّ المراد بقوله في الآية : (نِساءَنا) فاطمة ، فخرجت زوجاته عن مقتضى الآية والخبر.

ولا خلاف بين الأمة أنه لم يدع أحدا من زوجاته ، ولا دعا أحدا من النساء غير فاطمة (ع) ، وأن المراد بقوله تعالى : (وَأَنْفُسَنا) محمد وعلي صلوات الله عليهما (٢). فكيف يجوز لنفس أن تتقدم على نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكيف يعتري الشكّ في كونه أفضل الصحابة (رض) ، وكم من آية يمرون

__________________

(١) ابن البطريق في العمدة ص ٢٤٠ وعزاه إلى الثعلبي في التفسير ؛ وقد سبق تخريجه.

(٢) في هامش (ب) الأولى أن يقال : وإن المراد بأنفسنا علي ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه فإذن تكون نفس علي نفس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتدبر. والله ولي التوفيق ..

عليها وهم عنها معرضون ، ويتلونها وهم عنها عمون ، وما يعقلها إلا العالمون.

فضيلة سد الأبواب التي كانت إلى المسجد

فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوما : «سدّوا هذه الأبواب إلّا باب عليّ» ؛ فتكلم في ذلك ناس ، قال : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : «أما بعد فإني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي» ، فقال فيه قائلكم ، والله ما سددت شيئا ولا فتحته ، ولكني أمرت بشيء فاتّبعته» ، ذكره الثعلبي في كتابه ، ثم كرره بأسانيده ثلاثا أو أربعا ، وفي بعضه زيادات من قول أبي بكر وعمر والعباس ، وكلّ شيء من ذلك دليل على مزية الاختصاص فوجب الإقرار بالتقديم له (١) في الإمامة ؛ لأنه لا ينبغي للأمة أن تخرج من أدخله الله ورسوله ، وميّزه على الكافة من خلاصة الصحابة (رض) (٢).

__________________

(١) في (ب) : الإقرار له بالتقديم.

(٢) اخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٤٢. والترمذي ٥ / ٥٩٩ رقم ٣٧٣٣. واحمد بن حنبل ٧ / ٧٩ رقم ١٩٣٠٧. والنسائى في الخصائص. والحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٥. وتاريخ بغداد ٧ / ٢٠٥. وحلية الأولياء ٤ / ١٦٨. والعمدة لابن البطريق ص ٢٢٥ من عدة طرق. وابن أبي شيبة ٦ / ٣٧٠ رقم ٣٢٠٩٩. وابن حجر فتح الباري ٧ / ١٤ ـ ١٥ في سياق رواية : «سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر» ، وقال : إن الأمر بسد الأبواب إلا باب علي صحيح لا نطعن فيه ، وقال : إن ظاهره يعارض سد الأبواب إلا باب أبي بكر ، وبما أن الحديث في علي أصح وأرجح فقد وفّق بينهما بأن حمل باب أبي بكر على الخوخة أي النافذة ، أمّا علي فبابه على الحقيقة وكان يمر وهو جنب ، وساق رواية عن الترمذي [٥ / ٥٩٧ رقم ٣٧٢٧] عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك». ولعل الرواية في أبي بكر (رض) يراد بها معارضة الفضيلة التي اختصها الله بعلي كما هو معروف ؛ فإن فضائل علي لا تكاد تسلم من الغمز واللمز مع أن حديث ترك باب علي والسماح له بالمرور جنبا يعضده القرآن وهو قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] فعلي طاهر مطهر. والله أعلم.

فضيلة المشابهة :

رواه ابن المغازلي بإسناده إلى علي بن ثابت قال : «خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسجد فقال : «إنّ الله أوحى إلى نبيّه موسى أن ابن لي مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا موسى وهارون وابنا هارون. وإنّ الله أوحى إليّ أن ابن مسجدا طاهرا لا يسكنه إلّا أنا وعليّ وابنا عليّ» (١).

فانظر أيها المسترشد إلى هذه الفضيلة بالمشابهة بين علي وهارون ، وابني هارون وابني علي في هذا الخبر ، وإلى الفضيلة بسكنى المسجد دون سائر البشر فانظر كيف أحلّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث حلّ وأدخله حيث دخل ، وباهل به إذ باهل ، وقرنه بنفسه في المؤاخاة ، وهذا دليل على القطع على مغيّبه وعلى صلاح الباطن والظاهر فمن أولى منه بالأمر لو لا العصبية والحمية ودفع الأدلة الجليّة؟!.

فضيلة المؤاخاة :

رواه عبد الملك بن هشام عن محمد بن إسحاق بن يسار المطّلبي في كتاب سيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ممن يقول بفضل الشيخين وتقديمهما ، روينا عنه ما رواه بإسناده أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه : «تآخوا في الله أخوين أخوين ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فقال : «هذا أخي» فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ بن أبي طالب أخوين ، وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعمّ رسول الله وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخوين ، وإليه

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٥٦٦ ، في تفسير الآية ٨٧ من سورة يونس. وابن المغازلي في المناقب ١ / ١٦٤ رقم ٣٠١ ، ص ١٨٧ رقم ٣٤٣ ، وأخرجه أيضا السيوطي في الخصائص.

أوصى حمزة يوم أحد. وجعفر الطيار في الجنة بن أبي طالب ومعاذ بن جبل أخوين. وكان أبو بكر بن أبي قحافة وخارجة بن زيد أخوين ، وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين ، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين ، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين ، والزبير بن العوام وسلامة بن وقش أخوين. ويقال : أخو الزبير عبد الله بن مسعود ، وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت بن المنذر أخوين (١) ثم كذلك (٢) ذكر سائرهم والغرض الاختصار.

فصل : وذكر بعض المعتزلة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا آخى بين الصحابة جعل عمر وأبا بكر أخوين ، وعثمان وعبد الرحمن أخوين (٣).

وذكر الحاكم في شرح العيون (٤) : ولا خلاف بين أهل النقل أنه جعل نفسه

__________________

(١) أنظر سيرة ابن هشام ٢ / ١١٨ ، ١١٩. والبداية والنهاية لابن كثير ٣ / ٢٧٧ ، وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ٢٢. قال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين آخى بين أصحابه وضع يده على منكب علي ثم قال : أنت أخي ، ترثني وأرثك .. والإصابة ج ٢ ص ٥٠١ ، والاستيعاب ج ٣ ص ٢٠٢. وابن أبي شيبة ج ٦ ص ٣٧٥. رقم ٣٢١٤١.

(٢) في (ب) : بحذف كذلك.

(٣) أخرج الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤ ، عن ابن عمر قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخى بين أصحابه ، فآخى بين أبي بكر وعمر ، وبين طلحة والزبير ، وبين عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف. فقال علي عليه‌السلام : يا رسول الله إنك قد آخيت بين أصحابك فمن أخي؟ ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أما ترضى يا علي أن أكون أخاك؟ قال ابن عمر : وكان علي رضي الله عنه جلدا شجاعا ، فقال علي : بلى يا رسول الله ، فقال رسول الله (ص) : «أنت أخي في الدنيا والآخرة» وسكت عنه الذهبي ومحمد بن سليمان في المناقب ١ / ٣٢٥ رقم ٢٤٦.

(٤) ترجم فيه لجماعة من رجال الزيدية وضمنه كتاب شيخه عبد الجبار «طبقات المعتزلة» وأضاف إليه.

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين أخوين ، وإذا ثبت ذلك فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا علم بأن عليا عليه‌السلام يليه في الفضل ولا يساويه أحد في ذلك آخى بينه وبين نفسه ، ويؤيد ذلك أنه عليه‌السلام كان يقول بمحضر الصحابة (رض) : «أنا عبد الله وأخو رسول الله لا يقولها بعدي ولا قبلي إلا كذّاب» (١) ؛ فيقرّونه على ذلك ولا ينكرونه ، فكان ذلك دليلا على فضله.

فضيلة السرية :

روى ابن حنبل في مسنده ما نذكره بلفظه ومعناه بإسناد رفعه إلى عمران ابن حصين قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرية وأمر عليا فأحدث شيئا في سفره ، قال عمران : فتعاقد أربعة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكروا أمره لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال عمران : وكنا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلمنا عليه ، فدخلوا عليه ، فقام رجل منهم فقال : يا رسول الله إنّ عليّا فعل كذا وكذا فأعرض عنه ، ثم قام الثاني فقال كذلك ، فأعرض عنه ، ثم قام الثالث ، فأعرض عنه ، ثم قام الرابع ، فقال : يا رسول الله إنّ عليا فعل كذا وكذا. قال : فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد تغير وجهه فقال : «دعوا عليّا ؛ إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعدي» (٢).

__________________

(١) أخرجه الإمام زيد بن علي في مجموعه ص ٤٠٨. وابن ماجه ١ / ٤٤ رقم ١٢٠. والنسائي في خصائصه ص ٢٩ رقم ٦. والحاكم في المستدرك ٣ / ١١٢. وابن أبي شيبة ٦ / ٣٦٧ رقم ٣٢٠٧٩. وابن عساكر ١ / ١٣٦. ومحمد بن سليمان في المناقب ١ / ٣٠٨ برقم ٢٢٧. والاستيعاب ج ٣ ص ٢٠٢.

(٢) المسند ٧ / ٢١٥ برقم ١٩٩٤٨ ، عن عمران بن حصين. وأخرجه الإمام المرشد بالله في أماليه الخميسية ١ / ١٣٤. وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٣٨١. والترمذي بلفظ : ما تريدون من علي ٥ / ٥٩٠ ، رقم ٣٧١٢. والنسائي في الخصائص ص ٧٧ برقم ٦٥ ، ص ٩٢ رقم ٨٦ وإسناده صحيح. والحاكم في المستدرك ٣ / ١١٠ ، وقال على شرط البخاري ومسلم وسكت عنه الذهبي.

فضيلة الأداء

من مسند ابن حنبل روى بإسناده إلى حبشي بن جنادة السلولي قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عليّ مني وأنا منه ، ولا يؤدّي عنّي إلّا أنا أو عليّ» (١).

فضيلة النور

من مسند ابن حنبل أيضا ، روى بطرقه ورجاله ما رفعه بإسناده إلى سلمان الفارسي قال : سمعت حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «كنت أنا وعليّ نورا بين يدي الله عزوجل قبل أن يخلق الله آدم بأربعة عشر ألف عام ؛ فلمّا خلق الله آدم قسم ذلك النور جزءين : فجزء أنا ، وجزء عليّ» ، وقد ذكر من طريق ابن المغازلي رفعه بإسناده مثل لفظ هذا الخبر ، وزاد فيه : «حتّى افترقنا من صلب عبد المطلب : ففيّ النّبوّة ، وفي عليّ الخلافة» ، ومثله سواء ذكره في كتاب الفردوس لابن شيرويه الديلمي بغير زيادة ولا نقصان (٢).

__________________

(١) هذا الحديث ورد بألفاظ كثيرة وقد أخرجه بعض المحدثين والمفسرين ؛ لأنه مختص بتبليغ سورة براءة ؛ فقد ذكر المفسرون أن الرسول بعث أبا بكر ليبلغها عنه ، ثم أمر عليّا أن يأخذها منه ويبلغها عنه ، وسنورد بعض من ذكر ذلك :

المسند ١ / ١٨ رقم ٤ ، ص ٣١٨ برقم ١٢٩٦ ، ٦ / ١٦٣ رقم ١٧٥١٨ ، رقم ١٧٥١٩ ، ١٧٥٢٠. والترمذي ٥ / ٥٩٤ رقم ٣٧١٩. والنسائي في الخصائص ص ٨٢. والطبري في تفسيره مج ٦ ج ١٠ ص ٨٤. والكشاف ٢ / ٢٤٣. والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣٧٨ ، ٣٧٩. وابن أبي شيبة ٦ / ٣٦٦ ، رقم ٣٢٠٧١. والمحب الطبري في ذخائر العقبى ص ٦٩. والحاكم في المستدرك ٣ / ٥١. وابن ماجة في سننه ١ / ٤٤ برقم ١١٩. والرازي في تفسيره مفاتيح الغيب مج ٨ ج ٥١٥ ص ٢٢٦ ، والكوفي في المناقب ١ / ٤٦٢ رقم ٣٦٤. وغيرها.

(٢) المناقب ص ٧٤ رقم ١٣٠ من قبل آدم بألف عام ص ٧٥ رقم ١٣٢. وميزان الاعتدال ١ / ٢٣٥. ولسان الميزان ٢ / ٢٢٩ ، والرياض النضرة ٢ / ١٦٤. وكفاية الطالب ص ٣١٥.

فضيلة البساط (١)

روى ذلك ابن المغازلي الفقيه الشافعي الواسطي في مناقبه روى ما رفعه بإسناده إلى أنس بن مالك قال : أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بساط من بهندف (٢) ؛ فقال لي : يا أنس ابسطه فبسطته ، ثم قال : ادع العشرة فدعوتهم فلما دخلوا أمرهم بالجلوس على البساط ، ثم دعا عليّا فناجاه طويلا ، ثم رجع عليّ فجلس على البساط ، ثم قال : يا ريح احملينا ؛ فحملتنا الريح قال : فإذا البساط يدفّ بنا دفّا ، ثم قال : «يا ريح ضعينا ؛ ثم قال : تدرون في أي مكان أنتم؟ قلنا : لا ، قال : هذا موضع أصحاب الكهف والرقيم ؛ فقوموا فسلّموا على إخوانكم. قال : فقمنا رجلا رجلا ؛ فسلّمنا عليهم ؛ فلم يردوا علينا السّلام ، فقام علي فقال : السّلام عليكم معشر الصّدّيقين والشهداء ؛ فقالوا : عليك السّلام ورحمة الله وبركاته. قال : فقلت : ما بالهم ردّوا عليك ولم يردوا علينا؟ فقال لهم علي : ما بالكم لم تردّوا على أصحابي؟ فقالوا : إنا معشر (٣) الصديقين والشهداء لا نكلّم بعد الموت إلا نبيا أو وصيا. قال : يا ريح احملينا ؛ فحملتنا تدفّ دفّا. ثم قال : يا ريح ضعينا ؛ فوضعتنا فإذا نحن بالحرّة.

قال : فقال علي عليه‌السلام : ندرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في آخر ركعة ، فطوينا وأتينا وإذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في آخر ركعة : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ

__________________

(١) قال السيد العلامة الوالد مجد الدين المؤيدي حفظه الله : إن كتاب ينابيع النصيحة من نفائس مؤلفات العترة الأطهار .. لو لا أنه يتساهل في نقل بعض الروايات كقصة البساط ، والمنجنيق في غزوة ذات السلاسل ، وأن أمير المؤمنين عليه‌السلام قتل يوم بدر سبعة وستين رجلا. ينظر لوامع الأنوار ١ / ٥٤٥.

(٢) قرية في آخر النهروان في العراق ، وقد جاءت بلفظ : حندف وخندف.

(٣) في المناقب لابن المغازلي : معاشر.

وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) (١) [الكهف : ٩].

فصل : وفي هذا الخبر دلالة على فضائل لأمير المؤمنين عليه‌السلام من وجوه : أحدها رفع البساط إلى الهواء كما كان لسليمان بن داود (ع). وثانيها بلوغهم إلى الكهف في اليوم الواحد وعودهم كما كان لسليمان عليه‌السلام : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢]. وثالثها سلامته وأصحابه (٢) عند النزول كسلامتهم عند الصعود. ورابعها المشي في الهواء على الريح. وخامسها إحياء الموتى ؛ لأجل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وإخبارهم عن حالهم مثل ما كان لعيسى بن مريم عليه‌السلام. وسادسها كلام أهل الكهف له بأنه وصي ؛ لقولهم : إنهم لا يكلّمون إلا نبيا أو وصيّا ، وقد علمنا أنه ليس بنبي ؛ فثبت كونه وصيّا. فانظر أيها المسترشد ، كيف انتهت هذه الفضائل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، لو لاه لما كان شيء من ذلك ؛ فكفى بذلك دلالة على فضله ، ولكن عميت القلوب والأبصار ، واستولت العصبية على كثير من النّظّار.

فضيلة السطل

روى ابن المغازلي بإسناده إلى أنس بن مالك قال : قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر وعمر : امضيا إلى عليّ حتى يحدثكما ما كان منه في ليلته ، وأنا على إثركما ، قال أنس : فمضيا ومضيت معهما ، فاستأذن أبو بكر وعمر على عليّ

__________________

(١) أنظر مناقبه ص ١٥٥ ، رقم ٢٨٠. والعمدة لابن البطريق ص ٤٣٣ ثم قال : وقد ذكر خبر البساط الثعلبي. ومحمد بن سليمان الكوفي ١ / ٥٥٢ رقم ٤٩١.

(٢) في (ب) : هو وأصحابه.

فخرج إليهما ؛ فقال : يا أبا بكر (١) حدث شيء؟ قال : لا ، قال : وما حدث إلا خير ، قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولعمر : امضيا إلى عليّ يحدّثكما ما كان منه في ليلته. وجاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : يا عليّ ، حدّثهما ما كان منك في ليلتك قال : أستحي يا رسول الله ، فقال : حدثهما إنّ الله لا يستحيي من الحق ، فقال علي : أردت الماء للطهارة ، وأصبحت وخفت أن تفوتني الصلاة ؛ فوجهت الحسن في طريق ، والحسين في طريق في طلب الماء ؛ فأبطآ عليّ ، فأحزنني ذلك ؛ فرأيت السقف قد انشقّ ونزل عليّ سطل مغطّى بمنديل ، فلما صار في الأرض نحّيت المنديل عنه ، وإذا فيه ماء ، فتطهرت للصلاة واغتسلت وصليت ، ثم ارتفع السطل والمنديل والتأم السقف ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «أمّا السّطل فمن الجنة ، وأما الماء فمن نهر الكوثر ، وأما المنديل فمن استبرق الجنة. من مثلك يا عليّ ، وجبريل يخدمه (٢).

فضيلة ردّ الشمس

من هذا الكتاب أيضا رفعه بإسناده إلى فاطمة بنت الحسين عن أسماء بنت عميس قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوحى إليه ـ ورأسه في حجر علي فلم يصلّ العصر حتّى غربت الشمس ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اللهم إنّ عليا كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس ؛ فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت.

__________________

(١) في الأصل : فقال أبو بكر ، وليس بصحيح ؛ لأن المتكلم علي ، ولعله سبق قلم. وفي المناقب : يا أبا بكر ، كما أثبتناه.

(٢) ابن المغازلي ص ٧٩ رقم ١٣٩. وابن البطريق ص ٤٣٦. والمناقب للكوفي ١ / ٥٥١ رقم ٤٩٠. وكفاية الطالب ص ٢٨٩ الباب ٧٢.

وقد روي هذا الحديث بطرق : منها ما رفع إلى أبي رافع وغيره وذكر في آخر الحديث ما لفظه : فقام عليّ فصلّى العصر ؛ فلمّا قضى صلاته غابت الشّمس ؛ فإذا النجوم مشتبكة (١).

__________________

(١) حديث رد الشمس : أخرجه القاضي عياض في الشفاء ١ / ٥٤٨. وابن المغازلي ص ٨٠ رقم ١٤٠ ، ١٤١. وكفاية الطالب ٣٨٤. وهو حديث صحيح وقد كثرت طرقه مما جعل أكثر الحفاظ قد يقطع بصحته ، بل إن جماعة من الحفاظ أفرد له كتابا كما ذكرهم محمد باقر المحمودي في تحقيقه لترجمة الإمام علي عليه‌السلام لابن عساكر ٢ / ٢٨٣. ومنهم السيوطي فقد صنف رسالة سماها : «كشف اللبس عن حديث رد الشمس» أورد طرقه بأسانيد كثيرة ، وصححه بما لا مزيد عليه ، وهي موجودة في دار الكتب المصرية. قال القاضي عياض بعد ما عزاه إلى الطحاوي في مشكل الآثار من طريقين : وهذان الحديثان ثابتان ، ورواتهما ثقات. وحكى الطحاوي أن أحمد بن صالح كان يقول : لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلف عن حفظ حديث الشمس ؛ لأنه من علامات النبوة. وكذلك العلامة محمد بن إسماعيل الأمير في شرح التحفة العلوية ص ١٤٨ ، وذكر ما يؤكد صحته ؛ فليراجع. وقال ابن حجر في شرح همزية البوصيري ص ١٢١ في شق القمر : ويناسب هذه المعجزة ردّ الشمس له بعد ما غابت حقيقة ... إلى قوله : فردت ليصلي علي. وقد تكلم الأميني في الحديث مصادره في الغدير ٣ / ١٢٦ ـ ١٤١ ؛ فليراجع. ومما يؤكد ذلك قول الإمام الشافعي وغيره كل ما أوتي نبي معجزة إلا أوتي نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظيرها أو أبلغ منها وقد صح أن الشمس حبست على يوشع ليالي قاتل الجبارين فلا بد أن يكون لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فكانت هذه القصة والله أعلم. وقال الصاحب ابن عباد مخاطبا أمير المؤمنين علي (عليه‌السلام) :

 كان النبي مدينة العلم التي

حوت الكماة وكنت أفضل باب

ردت عليه الشمس وهي فضيلة

بهرت فلم تستر بلفّ نقاب

فضيلة القضيب

من هذا الكتاب أيضا رويناه عنه ، ورفعه بإسناده إلى ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أن يتمسّك (١) بالقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله في جنّة عدن فليستمسك بحبّ عليّ بن أبي طالب» (٢).

فضيلة الوصية

رويناه عنه ورفعه أيضا بإسناده إلى عمار قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «أوصي من آمن بي وصدّقني بولاية عليّ بن أبي طالب ؛ فمن تولّاه فقد تولّاني ، ومن تولّاني فقد تولّى الله عزوجل ، ومن أحبّه فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومن أبغضه فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله عزوجل» (٣). فانظر أيها المسترشد : هل كان معاوية أحبه وتولاه أم أبغضه وعاداه.

__________________

(١) في (ب) : يتمسك. وكذلك في المناقب. وفي الأصل : يستمسك.

(٢) فضائل الصحابة لأحمد ٢ / ٨٢٧ ، وابن المغازلي ص ١٤٨ رقم ٢٦٠. إلى ص ١٥٠ رقم ٢٦٤. وفي الكبير للطبراني ٥ / ١٩٤ رقم ٥٠٦٧ : «من أحب أن يحيا حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنة الخلد التي وعدني ربي عزوجل ؛ فإن ربي عزوجل غرس قضبانها بيده ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب ؛ فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة». وحلية الأولياء ١ / ١٢٧ رقم ٢٦٧. وأمالي المرشد بالله ١ / ١٤٤. ولسان الميزان ٢ / ٣٤.

(٣) ابن المغازلي ص ١٥٣ رقم ٢٧٧ إلى رقم ٢٧٩. والمرشد بالله في أماليه الخميسية ١ / ١٣٤. ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٨ رقم ٣٥٣. والمناقب للكوفي بما يوافقه ١ / ٢٢١ رقم ١٤٠.

فضيلة حديث الكوكب

روينا عنه أيضا ما رواه بإسناده إلى ثابت بن أنس ، قال : انقضّ كوكب على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انظروا إلى هذا الكوكب فمن انقضّ في داره فهو الخليفة من بعدي» ؛ فنظروا فإذا هو قد انقضّ في منزل عليّ ؛ فأنزل الله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى * وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (١) [النجم : ١ ـ ٤].

فضيلة حديث الحائط

روينا من مسند أبي عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل الشيباني عنه ، ورواه بإسناده إلى عبد المؤمن عن أبي المغيرة عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : طلبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجدني في حائط نائما ؛ فضربني برجله فقال : «قم والله لأرضينّك أنت أخي ، وأبو ولدي ، تقاتل على سنّتي ، من مات على عهدي فهو في كنز الله ، ومن مات على عهدك فقد قضى نحبه ، ومن مات بحبّك بعد موتك يختم الله له بالأمن والأمان ما طلعت شمس أو غربت» (٢).

فضيلة اللواء

روى أيضا في هذا الكتاب بطريق ذكر فيها سليمان بن الربيع إلى رسول الله مثل ذلك وزاد فيه : «عليّ أخي وصاحب لوائي». وإذا ثبت ذلك فهذه الأخبار التي رويناها في فضل علي أمير المؤمنين عليه‌السلام هي مجّة من لجّة ، وقطرة

__________________

(١) ابن المغازلي ص ١٧٢ رقم ٣١٣. والمناقب للكوفي ١ / ٥٥٦ رقم ٤٩٣ ـ ٤٩٥ عن ابن عباس. وشواهد التنزيل ٢ / ٢٠١ رقم ٩١٠.

(٢) فضائل الصحابة ٢ / ٨١٥ رقم ١١١٨.

من مطرة من مناقبه التي رواها المخالفون ، وذكرها أئمتهم وعلماؤهم في جملة مناقبه عليه‌السلام التي رووها وذكروها.

فلمّا صح لنا سماعها عنهم من كتبهم التي هي صحيح مسلم (١) ، وصحيح البخاري (٢) ، ومن كتاب الجمع بين الصحيحين لأبي عبد الله محمد بن نصر الحميدي (٣) ، ومن كتاب الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدري (٤) ، والسنن (٥) لأبي داود السجستاني (٦) ، وصحيح الترمذي (٧) ، ومن صحيح النسائي (٨) ، ومن جمع البدري (٩) ، ومن مسند ابن حنبل ، وتفسير الثعلبي (١٠).

__________________

(١) هو أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري. ولد سنة ٢٠٦. ت ٢٦١ ه‍.

(٢) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. ولد سنة ١٩٤. ت : ٢٥٦ ه

(٣) سير أعلام النبلاء ١٩ / ١٢٠. ومعجم الأدباء ١٨ / ٢٨٤ ، وهو ظاهري المذهب ، تلميذ ابن حزم وصاحبه. ت ٤٨٨ ه‍.

(٤) مؤرخ محدث ت ٥٣٥ ه‍. له التجريد بين الصحاح الستة.

(٥) في (ب) ، (ج) : ومن السنن.

(٦) هو سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي ولد سنة ٢٠٢ ، وت ٢٧٥ ه‍.

(٧) هو أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة ولد سنة ٢٠٩ ه‍. وتوفي ٢٩٧ ه‍.

(٨) أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي ولد سنة ٢١٤ أو ٢١٥ ه‍. وكان سبب وفاته أنه خرج من مصر سنة ٣٠٢ ه‍ إلى دمشق فسأله أصحاب معاوية من أهل الشام عما يرويه لمعاوية من فضائل ، فقال : ما أعرف له إلا لا أشبع الله بطنه ، فما زال أهل الشام يضربونه في خصيتيه بأرجلهم حتى أخرجوه من المسجد ثم حمل إلى مكة ومات بها سنة ٣٠٣ ه‍.

(٩) في هامش (ب) : الظاهر المنذري.

(١٠) «وهي النقطة الأولى معجمة بثلاث من أعلى ، والثانية بواحدة من أسفل هذا في الأخبار. وأما في اللغة فالأولى معجمة باثنتين من أعلا ، والثانية بواحدة من أسفل ، وفي الأولى العين غير معجمة ، وهو راوي الأخبار ، وفي الثاني العين معجمة بواحدة من أعلا وهو المذكور في اللغة» ما ذكر مكتوب في صلب (أ). والظاهر أنه حاشية أدرجها الناسخ ؛ لأنها لا توجد في بقية النسخ.

[خاتمة عن الفضائل]

ومما رواه ابن المغازلي الواسطي فلنقتصر عليها ليكون ذلك أقوى للحجة ، وأبلغ في إيضاح المحجة ، وتنكّبنا طريق رواية الشيعة لفضائله عليه‌السلام ؛ لكون أهل جهتك أيها الطالب مائلين إلى فقهاء العامّة ، ومعتمدين على أئمتهم في الفقه ؛ فألزمناهم ما رواه أئمتهم ، وإلا فرواية الشيعة كثيرة ، ولهم في فضائله كتب جليلة خطيرة. تشتمل على ألوف أحاديث ، وكذلك تركنا ما اختصّ بروايته آباؤنا الأئمة الكرام عليهم أفضل الصلاة والسّلام مع اتّساع نطاقها ، وثبوت ساقها ؛ لهذه العلة التي ذكرناها ؛ فهل بقي معذرة لمرتاد الرّشاد ، أو حجة يدفع بها يوم المعاد؟ بعد أن أوضحنا الأدلة ، وجعلناها منيرة كالأهلّة ثم نقول : إنه لا خلاف في أنّ عليا عليه‌السلام له فضل الجهاد كما تقدّم ؛ فلا يشاركه فيه مشارك ، وهو المالك لزمام العلم فلا يملكه من الصحابة عليه مالك (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : ٣٥] ؛ فثبت المطلب الثاني وهو : ذكر طرف يسير من فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وأما المطلب الثالث

وهو ما تحتج به المجبرة القدريّة على إمامة أبي بكر وعمر

فاحتجوا على ذلك بوجوه ، واعتقدوا كونها أدلة. وهي على الحقيقة شبهة واهية. ونحن نوردها شبهة شبهة ، ونجيب عن كل واحدة منها بمنّ الله تعالى وعونه.

الشبهة الاولى : أن يقال : إن أبا بكر سماه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صدّيقا ، والصدّيق يجب أن يكون إماما. والجواب : عن ذلك أن لفظة الصّدّيق لا تفيد الإمامة لا بلفظها ، ولا بمعناها ، ولا بصريحها ، ولا بمفهومها ، ولا بفحواها. ولا تكشف عن شيء من ذلك لا في اللغة ، ولا في العرف ، ولا في الشرع ، وبذلك يبطل قولهم. وبعد فإن الله تعالى قد أشرك جميع المؤمنين في هذا الاسم بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ) [الحديد : ١٩] ؛ فلو كان اسم الصديق يفيد الإمامة للزم في كل من آمن بالله ورسله (١) أن يكون إماما ، وفي ذلك من الوهى والفساد ما لا خفاء به ؛ فإنه كان يجب أن يكون مؤتمّا في حال كونه إماما ، وذلك خطل من القول.

وبعد فإنا روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال ـ حاكيا عن ربه عزوجل ـ : «يا محمّد إني انتجبتك لرسالتي ، واصطفيتك لنفسي ، وأنت نبيّي وخيرتي من خلقي. ثمّ الصّدّيق الأكبر ، الطّاهر المطهّر ، الّذي خلقته من طينتك ، وجعلته وزيرك ، وأبا سبطيك ، السّيّدين الشّهيدين الطّاهرين المطهّرين ،

__________________

(١) في (ب) : ورسوله.

سيّدي شباب أهل الجنّة. وزوجته خير نساء العالمين. أنت شجرة ، وعليّ أغصانها ، وفاطمة ورقها (١) ، والحسن والحسين ثمارها ، خلقتهما من طينة علّيّين ، وخلقت شيعتكم منكم ، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسّيوف لم يزدادوا لكم إلّا حبّا» ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قلت : «يا ربّ! ومن الصّدّيق الأكبر؟» قال : «أخوك عليّ بن أبي طالب».

وروينا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال ما معناه : بشّرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك قبل الهجرة بثلاثة أحوال. وهذا الخبر من عيون الأخبار ، وغرر الآثار ؛ لأنه مؤرخ قبل الهجرة بثلاثة أحوال (٢) ، فهو قبل نكاح علي بفاطمة (ع) ؛ لأنه تزوج بها بعد (٣) الهجرة بسنة كاملة على ما ذكره صاحب كتاب المصابيح فهو من أخبار الغيوب المستقبلة ، فكان الأمر فيه على ما أخبر رسول الله (٤) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فإذا ثبت ذلك لم يشارك أحد من الصديقين ـ وهم جميع من آمن بالله ورسله

__________________

(١) في (ب) : ورقتها.

(٢) أخرجه الإمام زيد بن علي من مجموعه ص ٤٠٥ ، قال السيد مجد الدين في لوامع الأنوار ١ / ١٤٣ بعد تمام هذا الخبر ، وعلى فصوله شواهد لا تحصى ونظائر لا تستقصى.

(٣) في (ب) : تزوجها قبل. وهو وهم ؛ فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله زوّجها من علي بعد أحد وبنى بها بعد تزوجه بسبعة أشهر ونصف ، وقيل بعد زواج عائشة بأربعة أشهر. والبناء بعائشة تم بعد غزوة بدر في شوال سنة ٢ ه‍. وقيل : في شوال على رأس ١٨ شهرا من هجرته وعمرها تسع سنوات. ينظر تهذيب الكمال ٣٥ / ٢٢٧ رقم ٧٨٨٥. وفي تاريخ الطبري ٢ / ٣٩٨ قيل بعد ٨ أشهر من هجرته في ذي القعدة ، وبعضهم في شوال لسبعة أشهر من الهجرة. وأما الزواج بعائشة فقد وقع في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين. المنتظم ٣ / ٦٩.

(٤) في (ب) ، (ج) : أخبر صلّى الله. إلخ. أسد الغابة ٧ / ٢١٦ رقم ٧١٨٣. وتهذيب الكمال ٣٥ / ٢٤٧ رقم ٧٨٩٩. وفي سيرة ابن كثير في صفر سنة ٢ ه‍ ج ٥ ص ٣٣٠.

ـ عليّا عليه‌السلام في مقتضى الخبر هذا. فيكون له خاصّة دونهم ، وقد شاركهم أيضا في مقتضى الآية الأولى التي شهدت لكل من آمن بالله ورسله بكونه صدّيقا ، فإنه لا خلاف في أنّ عليّا عليه‌السلام لم يعبد شيئا من دون الله تعالى بخلاف أبي بكر وعمر فإنهما عبدا الأصنام من دون الله سبحانه ، ثم أسلما بعد ذلك ؛ فاختص أمير المؤمنين عليه‌السلام بذلك. واختص بأنه الصّدّيق الاكبر ؛ لمقتضى الخبر الذي ذكرناه ، ولما رواه الباقر محمد بن علي السجاد عن آبائه (ع) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه : «خذوا بحجزة هذا الأنزع ـ يعني عليا عليه‌السلام ـ فإنّه الصديق الأكبر والهادي لمن اتّبعه ، ومن اعتصم به أخذ بحبل الله ، ومن تركه مرق من دين الله تعالى ، ومن تخلّف عنه محقه الله ، ومن ترك ولايته أضلّه الله ، ومن أخذ بولايته هداه الله» (١).

ثم اختصّ علي (٢) عليه‌السلام بالعصمة كما تقدم تحقيقه (٣) ؛ فلم يعص الله عزوجل بمعصية كبيرة. فكم بين صدّيق قد سمّاه الصادق المصدوق (٤) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه الصديق الأكبر ، وهو مع ذلك معصوم عن الفحشاء والمنكر ـ وبين أبي بكر الذي قد كفر بالله تعالى وعبد الأصنام ، ثم رجع ودخل في الإسلام بلا خلاف في ذلك بين المسلمين ، وقد قال الله سبحانه : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا

__________________

(١) قال في لوامع الأنوار ٢ / ٤٩٢ : قال في تفريج الكروب : على فصوله شواهد. أقول : إن شواهده مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علي مع الحق. وحبه إيمان. وتركت فيكم. واللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه. وأهل بيتي كسفينة نوح. المحقق.

(٢) في (ب) : عليّا.

(٣) في (ب) : بحقيقته.

(٤) في (ب) : المصدّق.

السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [الجاثية : ٢١].

شبهة أخرى في إمامة عمر خاصة :

وهي أن يقال : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمّى عمر بن الخطاب الفاروق ، ومعناه هو : الذي يفرق بين الحق والباطل ، وذلك يفيد معنى الإمامة ؛ فإن الحاجة إلى الإمام لتعريف الأحكام وإنفاذها على الأنام ، والتمييز بين الحلال والحرام ، وذلك هو عمر الفاروق.

والجواب : عن ذلك أنّ ذلك لا يفيد معنى الإمامة فإنّ عبد الله بن العباس رضي الله عنه كان يفرق بين الحق والباطل ، وكذلك عبد الله بن مسعود رحمه‌الله وغيرهما من علماء الصحابة ولم يقل أحد بأنهم أئمة لأجل ذلك.

وبعد فإنه لا خلاف بين علماء المسلمين المخالفين في إمامة علي عليه‌السلام والموافقين في أنّ عليّا عليه‌السلام كان أعلم من عمر ؛ فيجب كونه أولى بالإمامة منه. ولا شبهة في أنّ الصحابة من عمر فمن دونه كانوا يرجعون إلى علي عليه‌السلام في العلم ولا يرجع إليهم ، وكان عمر يخطئ في المسائل فيردّه علي عليه‌السلام ، نحو ما روي أنّ امرأة زنت فحملت عن الزنا فأمر عمر بن الخطاب برجمها وهي حبلى فقال له علي عليه‌السلام : هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ فترك عمر رجمها ، وقال : لو لا عليّ لهلك عمر (١). وغير ذلك مما حكم به عمر وهو غير صواب فيرده علي عليه‌السلام ، حتى قال : لا أبقاني الله لمعضلة ليس فيها ابن أبي طالب (٢). وقال في بعضها : لا أراني الله معضلة في الدين لا يكون عليّ

__________________

(١) ينظر الأحكام للهادي ٢ / ٢٢٠. والمجموع للإمام زيد ٣٣٥. وفرائد السمطين ١ / ٣٥١. والمحب في الرياض النضرة ٢ / ١٩٤ ، وقد ذكر الأميني في الغدير ٦ / ٨٣ أمثلة كثيرة حول الموضوع.

(٢) فرائد السمطين ١١ / ٣٤٨. والفخر الرازي في تفسير سورة التين مج ١٦ ج ٣٢ ص ١١. وذخائر العقبى ص ٨٢ ، وقال أخرجه أحمد وأبو عمر. وابن عساكر ٣ / ٥٠ وذكر

بجنبي. وكلّ ذلك اعتراف من عمر بكون أمير المؤمنين عليه‌السلام أعلم منه.

وقد ذكر العلماء (رض) رجوع عمر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام في ثلاث وعشرين حكومة.

وذكره أيضا أبو القاسم البستي (١) رحمه‌الله. وكيف يقاس عمر بعلي عليه‌السلام ، ولعمر في الجدّ والجدّة سبعون قضية (٢) ، ثم يقول : يا ليتني سألت رسول الله عن حكم الجدّة. وقد شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام بأنه أعلم الصحابة ؛ فقال [صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : «عليّ أعلمكم علما وأقدمكم سلما».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقضاكم عليّ» (٣) ؛ ولا يكون المرء قاضيا إلا وهو من أهل الاجتهاد. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي عليه‌السلام : هو عيبة (٤) علمي ، ولو أنّ رجلا عبد الله ألف سنة حتى صار كالحنايا ، وصام حتى صار كالوتر ، وعبد الله بين الرّكن والمقام ، ثم لقي الله وفي قلبه بغض عليّ لكبّه الله على وجهه».

قال أبو القاسم البستي : قال قاضي القضاة رحمة الله عليهما جميعا :

__________________

في هامشه ما يدل على تواتره.

(١) هو إسماعيل بن علي بن أحمد البستي. أحد أساطين الشيعة ، حافظ المذهب وشيخ الزيدية في العراق ، من أصحاب المؤيد بالله ، أخذ على القاضي عبد الجبار متكلم. ناظر أبا بكر الباقلاني فقطعه ، وكان القاضي يعظمه توفي في حدود العشرين. وله الموجز وكتاب التحقيق في التكفير والتفسيق مجلد ، والمراتب في مناقب أهل البيت ، والباهر على مذهب الناصر. ينظر مطلع البدور (خ). وتراجم الرجال ص ٧.

(٢) أخرجه البيهقي ٦ / ٢٤٥ عن عبيده قال : إني لأحفظ عن عمر في الجد مائة قضية كلها ينقض بعضها بعضا ، وقال الزمخشري : وكان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه ويفتي بضده وخلافه ، وقضى في الجد مع الأخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال : من أراد أن يقتحم جهنم فليقل في الجد برأيه.

(٣) في البخاري في كتاب التفسير في قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ..) ٤ / ١٦٢٨ برقم ٤٢١١ عن عمر قال : أقرؤنا أبيّ ، وأقضانا عليّ .. والمستدرك ٣ / ٣٠٥.

(٤) وعاء من جلد يوضع فيه الثياب. ومن الرجل موضع سرّه. القاموس ص ١٥٢.

وهذا الخبر كما يدل على فضله عليه‌السلام فإنه يدل على أن الكبائر تحبط الأعمال ، وعلى أنّ بغض أمير المؤمنين كبيرة. ولمّا أخرجه إلى اليمن قال : يا رسول الله تخرجني (١) إلى قوم هم أسنّ مني فكيف أقضي بينهم؟ قال : فضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على صدره وقال : «اللهمّ ثبّته وسدّده ولقّنه فصل الحكم (٢)» ، قال علي عليه‌السلام : فما شككت في قضاء بين اثنين بعد ذلك اليوم. (٣) وقد بيّنّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ» (٤) مع ما أضفناه (٥) إليه من الأخبار المطابقة له في معناه. وهو عليه‌السلام الذي خطب على المنبر بحضرة المهاجرين والأنصار ثم أشار إلى بطنه كنيف (٦) ملئ علما لو وجدت له طالبا ، فو الله لو كسرت أو قال : ثنيت لي وساد (٧) لحكمت لأهل التوراة بتوراتهم ، ولأهل الإنجيل بإنجيلهم ، ولأهل القرآن بقرآنهم حتى ينادي كلّ كتاب بأن هذا حكم الله فيّ ، وو الله ما نزلت آية في ليل ولا نهار ولا سهل ولا جبل ولا سفر

__________________

(١) في (ب) : أتخرجني.

(٢) في (ب) : فصل الخطاب.

(٣) وهو حديث صحيح لكثرة طرقه. أخرجه ابن ماجة ٢ / ٧٧٤ برقم ٢٣١٠. والحاكم في مستدركه ٣ / ١٣٥ ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأحمد بن حنبل ١ / ١٨٢ رقم ٦٣٦. والنسائي في الخصائص ٥٠ ـ ٥٤ برقم ٣١ ـ ٣٦. وأبو داود ٤ / ١١ برقم ٣٥٨٢. والبيهقي في سننه من طرق كثيرة ١٠ / ٨٦.

(٤) أمالي أبي طالب ص ٥٥. ومجمع الزوائد ٧ / ٢٣٥. وتأريخ البغدادي ج ١٤ ص ٣٢١ ، وزاد : «ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة» عن أم سلمة. والبزار ٢ / ١٧٣ برقم ١٦٣٨ عن سعد بن أبي وقاص.

(٥) في (ب) : أضفنا.

(٦) وعاء. القاموس ١٠٩٩. وفي بعض النسخ كيف.

(٧) في (ب) : وسادة.

ولا حضر إلّا عرفت متى نزلت ، وفيمن نزلت ، وعرفت ناسخها ، ومنسوخها ، ومحكمها ، ومتشابهها ، ومفصّلها ، ومجملها (١). فأين هذا من أبي بكر الذي قال في نفسه على المنبر : أقيلوني فإني ولّيتكم ولست بخيركم (٢).

وقال أيضا : أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تظلّني إذا قلت في القرآن برأيي؟ (٣) ومعلوم أن المجتهد عند تعارض الآيات والسّنن ودلالة الشرع يجب أن يكون له في القرآن رأي.

ومن الظاهر الجلي عند الحشوية أنهم يدّعون أنّ أبا بكر كان أعلم من عمر ، ويروون إنكار عمر لموت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو كما قالوه ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا مات قام عمر بن الخطاب فقال : إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ، وإنّ رسول الله ما مات ولكنه ذهب إلى ربه. والله (٤) ليرجعنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات. وأقبل أبو بكر فنظر إلى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أكبّ عليه وقبّله ثم قال : بأبي أنت وأمي أمّا الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها ، ثمّ ردّ الثوب على وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم خرج ـ وعمر يكلم الناس ـ فقال : على رسلك يا عمر فأنصت ؛ فأبى إلّا يتكلّم فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس فلمّا سمع الناس كلامه ، أقبلوا عليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

__________________

(١) القرطبي ١ / ٢٧.

(٢) سيرة ابن هشام ج ٤ ص ٣١٨.

(٣) ينظر الطبراني مج ١ ج ١ ص ٥٥.

(٤) في (ب) ، (ج) : وو الله.

أيها (١) الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلى قول الله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ..) [آل عمران : ١٤٤] إلى آخر الآية.

قال الراوي : فو الله لكأنّ الناس لم يعلموا أنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، وأخذها الناس عن أبي بكر وإنما هي في أفواههم. قال عمر : فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعثرت حتى وقعت الأرض ما تحلمني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات.

روى ذلك الطبري في تاريخه (٢) ، وهو كالمائل عن أهل البيت (ع). فكيف يقاس علم عمر بعلم أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن ولّيتم عليّا تجدوه هاديا مهديّا» (٣) ؛ فكونه هاديا منقبة في العلم ليست إلّا له ، وكونه مهديّا معلّما معرّفا للحقّ منقبة أخرى. وفي أمير المؤمنين عليه‌السلام قال الفقيه محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة : لو لا عليّ لما عرفنا حكم أهل البغي (٤).

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : يا أيها.

(٢) في (ب) ، (ج) : روى جميع ذلك الطبري في تاريخه. ٣ / ٢٠١.

(٣) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٢٣٢ رقم ٨٥٩. والإصابة ٢ / ٣٥٠٣. والاستيعاب ٣ / ٢١٢. وأمالي المرشد بالله ١ / ١٤٣.

(٤) قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في «إيثار الحق على الخلق ص ٤٥٨» : وكذلك أجمعت الأمة على الاحتجاج بسيرة علي (ع) في قتالهم (البغاة).

قال أبو القاسم البستي رحمه‌الله : ولمحمد بن الحسن (١) كتاب يشتمل على ثلاثة آلاف مسئلة في قتال أهل البغي بناها على فعل أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثم مما يدل على أنه أعلم ـ إجماع العترة (ع) ؛ فإنهم أجمعوا على أنّ عليّا عليه‌السلام أعلم الأمة ، وإجماعهم حجّة كما تقدم بيانه.

وقصة الجاثليق ظاهرة في قدومه على عمر وسؤاله عمّا عجز عن جوابه ؛ فلما لم يعرف الجواب تقدم به عمر إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وأمر الجاثليق بسؤاله ، فسأله الجاثليق عن جميع مسائله ؛ فأجابه بأحسن جواب ، فلما فرغ قال الجاثليق : إنما أنت خليفة رسول الله لا عمر. فأسلم وحسن إسلامه.

وروى أن عمر بن الخطاب حكم بحكم فغلط فيه فرده معاذ بن جبل فرجع ، وقال : لو لا معاذ لهلك عمر (٢). وروي أنه حكم بحكم آخر فغلط فيه أيضا فردّت عليه امرأة من نساء المسلمين حكمه فرجع عن خطئه حتى قال

__________________

(١) هو محمد بن الحسن بن فرقد من موالي بني شيبان ولد سنة ١٣١ ه‍. ومات سنة ١٨٩ ه‍ إمام بالفقه والأصول. قال الشافعي : لو أشاء أن أقول نزل القرآن بلغته لقلت ؛ لفصاحته. وكان يقول أنا على مذهب زيد إن آمنت على نفسي وإن لم فأنا على مذهب أبي حنيفة. تولى القضاء بالرقة ثم عزل. وله الموقف الذي قام لله عزوجل بين يدي هارون الرشيد لما أراد الغدر بالإمام يحيى بن عبد الله (ع) ، وأراه كتاب الأمان الذي كان أنفذه إلى الديلم فرأوا الكتاب وعرفوا صحته ولم يتجاسر أحد بالكلام ، فقال محمد بن الحسن : هذا أمان لا يجوز نقضه ، ومن نقضه فعليه لعنة الله. فغضب هارون وضربه بالدواة فشجه شجة خفيفة. ولمحمد بن الحسن أصحاب ، ومن أصحابه وكتبه انتشر علم أبي حنيفة ومنهم زفر. توفي سنة ١٩٢ ه‍. وله كتب كثيرة في الفقه والأصول منها الجامع الصغير ، والكبير ، والزيادات ، والآثار ، والسير ، والموطأ ، والأمالي ، والمخارج في الحيل ، والأصل ، والحجة على أهل المدينة ، وكلا من هذه قد طبع. والزيادات ، والمبسوط. ينظر : الشافي ١ / ١٤٩. والأعلام ٦ / ٨٠. والفلك الدوار ص ٥٥. وتراجم رجال شرح الأزهار ص ٣٣ ، وتاريخ بغداد ٢ / ١٧٢.

(٢) سنن البيهقي ٧ / ٤٤٣.

للناس : كلّكم أفقه من عمر ، حتى المخدّرات في البيوت (١). أين عمر ممن قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب» ؛ فحظر على كل سائل في أمر دينه أن يسأل غيره.

وقال الله سبحانه : (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) [البقرة : ١٨٩] ؛ فكان سؤال غير علي عليه‌السلام مخالفة لله تعالى ولرسوله.

وروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه لمّا نزل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] ؛ جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا ، والقصة معروفة. ونحن نقصد الغرض منها وهو أنه دعاهم فقال : «إنّ الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين ، وأنتم عشيرتي الأقربون ، وإن الله تعالى لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووصيا ووارثا ، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي ، ووزيري ، ووارثي دون أهلي ، ووصيي ، وخليفتي في أهلي ، وهو منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبيّ بعدي» ؛ فسكت القوم فقال : ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ في غيركم ؛ فقام علي عليه‌السلام وهم ينظرون إليه كلّهم فبايعه وأجابه إلى ما دعاه إليه ، فقال : ادن منّي وافتح فاك ، فدنا منه وفتح فاه فمجّ فيه من ريقه ، وتفل بين كتفيه وبين يديه. فقال أبو لهب : بئس ما حبوت به ابن

__________________

(١) أخرجه الزمخشري في الكشاف ١ / ٤٩١ بلفظ : أنه قام خطيبا فقال : أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء ... فقامت إليه امرأة فقالت له : يا أمير المؤمنين لم تمنعنا حقنا جعله الله لنا والله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : كل أحد أعلم من عمر ، ثم قال لأصحابه : تسمعوني أقول مثل هذا القول قد تنكرونه علي حتى ترد علي امرأة ليست من أعلم الناس. والقرطبي ٥ / ٦٦. والخازن ٢ / ٣٨ فيهما أيضا : أصابت امرأة وأخطأ عمر. ذكر الرازي في الأربعين ص ٤٦٧ كما في الغدير ٦ / ٩٨. وفي غيره : حتى ربات الحجال.

عمك أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا (١) ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل ملأته حلما [وعلما] (٢) وحكما وفهما (٣).

وروينا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لفاطمة (رض) : «زوّجتك أعظمهم حلما ، وأقدمهم سلما ، وأكثرهم علما» (٤). وروينا عن أبي ذر رحمه‌الله الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر» (٥) ـ أنّه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي عليه‌السلام : «أنت الصّدّيق الأكبر ، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحقّ والباطل ، وأنت يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب الكافرين» (٦).

__________________

(١) في (ب) : بزقا.

(٢) ما بي القوسين محذوفة من (ب) ، و (ج).

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٤٢٠ رقم ٥٨٠. والطبري في تفسيره مج ١١ ج ١٩ ص ١٤٩. والنسائي بما يوافق ذلك في الخصائص ص ٧٦ رقم ٦٣. وابن عساكر في ترجمته ١ / ٩٧ ، ٩٨ وأحمد بن حنبل ١ / ٢٣٦ برقم ٨٨٣. والبداية النهاية ج ٣ ص ٥٣. والسيوطي في الدر المنثور ٥ / ١٨١. دلائل النبوة للبيهقي ٢ / ١٧٨. وقد ورد لنا في كتب التأريخ وغيرها بهذا اللفظ : «فأيكم يؤازرني على هذا الأمر ، ويكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم» ، فأحجم القوم عنها جميعا ، وأنا أحدثهم سنا فقلت : يا رسول الله أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ثم قال : «هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» إلى نهاية القصة. الطبري ج ٢ ص ٣٢١. وجامع البيان للطبري مج ١١ ج ١٩ ص ١٤٩. وتفسير الخازن ٦ / ٥٠٧. والشافي ١ / ٥٦.

(٤) أخرجه الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي ١ / ١٩٥. وابن أبي شيبة ٦ / ٣٧٤ برقم ٣٢١٣١. وأحمد بن حنبل ٧ / ٢٨٨ رقم ٢٠٣٢٩. وكنز العمال ١١ / ٦٠٥ رقم ٣٢٩٢٤ ـ ٣٢٩٢٧. ومجمع الزوائد ٩ / ص ١١٤.

(٥) الترمذي ٥ / ٦٢٨ برقم ٣٨٠١ ، ورقم ٣٨٠٢. وابن ماجة ١ / ٥٥ برقم ١٥٦. وأحمد بن حنبل ٢ / ٥٦٠ رقم ٦٥٢٩.

(٦) رواه المرشد بالله في أماليه ١ / ١٤٤. وفرائد السمطين ١ / ١٣٩. وتاريخ دمشق ١ / ٨٧. والحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٧. والخطيب في تاريخه ١١ / ١١٢. ومجمع الزوائد ٩ / ١٠٢.

وفي خبر آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي عليه‌السلام : اليعسوب أمير النّحل ، وأنت أمير المؤمنين ؛ فهذا كله تصريح بتصحيح ما قلناه : من أنه عليه‌السلام هو الفاروق تسمية ومعنى لا عمر بن الخطاب.

شبهة ثالثة : في إمامة أبي بكر

ربّما يحتجون بقول الله تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] ، وهذا يفيد الإمامة ؛ لأنه إشارة إليها.

والجواب : عن ذلك أنّا نقول : لا علاقة بذلك في باب الإمامة على نحو ما تقدم بيانه في لفظة الصّدّيق ؛ فإن تعلّقوا بذلك في فضله فصّلنا القول فيه بعون الله ، فقلنا : أمّا قوله : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) فما من اثنين إلا ويجوز أن يضاف أحدهما إلى الآخر. تصديقه ، قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) [المجادلة : ٧] ؛ فإنه يدخل فيه المسلم والكافر والبرّ (١) والفاجر ؛ فلم يدل ذلك على الفضل ، مع كون الله تعالى رابع الثلاثة ، وسادس الخمسة ، إلى غير ذلك ؛ لقوله : (وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا) ؛ فكذلك لا يدل كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانيا لأبي بكر ـ على فضل أبي بكر.

وأما قوله تعالى : (إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ) ؛ فإن لفظ (٢) الصاحب لا يدل على الفضل أصلا ؛ بل يدخل فيه المؤمن والكافر. تصديقه قول الله سبحانه : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ

__________________

(١) في (ب) : البار.

(٢) في (ب) : لفظة.

ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً) [الكهف : ٣٧] ؛ فأطلق عليه سبحانه لفظ (١) الصاحب وهو كافر بالله تعالى ولم يدل ذلك على فضله ، بل لم يدل على كونه مسلما. وقد كان من جملة الصحابة عبد الله بن أبي وهو منافق ولم يدل ذلك على فضله.

وأما قوله : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) فما نهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا عن مكروه ، إلا أن يقول المخالفون : إن أبا بكر نهى رسول الله عن الحزن فغير مسلّم وغير صحيح بإجماع علماء التفسير ، ثم لو سلّمنا ذلك تسليم جدل لما كان لأبي بكر أن يقول مثل ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعد فإن الله اختص نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرحمة والتأييد دون أبي بكر كما في سياق الآية. قال الله تعالى : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) [التوبة : ٤٠] ، يريد بذلك محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا خلاف ، فهلّا أشرك أبا بكر في السكينة كما أشرك أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن وقف معه يوم حنين في السكينة ، في قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) [التوبة : ٢٦] ؛ فدلّت هذه الآية على نقيض ما ادّعوه من الفضل لأبي بكر.

شبهة رابعة في إمامة أبي بكر خاصة :

احتجوا بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره أن يصلي بالناس فكان ذلك تنبيها على إمامته. والجواب : عن ذلك أنّ روايتهم في ذلك مأخوذة عن عائشة ؛ لأنها قالت لبلال : امر (٢) أبا بكر فليصلّ بالناس حكاية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فانظر أيها المسترشد كيف انتهت دلالتهم إلى امرأة ، وهي بنصف شاهد ، ثم لو صح

__________________

(١) في (ب) : لفظة.

(٢) في (ب) : مر.

ذلك ففي تمام الخبر ما يهدم ما ادّعوه من الفضل ؛ فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه جبريل عليه‌السلام وأمره بالخروج ليصلي بهم فتمسّح وتوضّأ ، وخرج يتهادى بين عليّ والفضل بن العباس وقدماه تخطّان في الأرض حتى دخل المسجد (١).

وروي أنه لمّا سمع قراءة أبي بكر ، وعرف أنّ ذلك من عائشة أنكر عليها ، وقال : «إنّكنّ صويحبات يوسف». ثم لمّا وصل المسجد نحّى أبا بكر عن القبلة وصلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس وأزاح أبا بكر عن المحراب. فلو سلمنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر عائشة بتقديمه في الصلاة ؛ فقد روينا وروى المخالفون لنا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخّر أبا بكر عن المحراب ؛ فيجب أن يكون ذلك نقصا لأبي بكر وليس بفضل ، ولئن كان التقديم تولية ؛ فالتأخير له أعظم عزل. فأما ما ادّعاه بعضهم من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان متقدما على أبي بكر ، وأبو بكر صفّ وحده متقدم (٢) على الناس ، فلو صح فهو غير دليل على الإمامة إنّما مثله مثل الصفّ الأول في الصلاة ، وحكمه حكمهم ، وهذا مما لا يختص به أبو بكر دون سائر صفوف المؤمنين المتقدمة في الصلاة.

وأمّا قولهم : إنه كان يرفع صوته بالتكبير في الصلاة ليسمع الناس فليس بدليل على الفضل أيضا ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حال ضعفه وعلته أقوى من قويّهم في حال شدته وصحته ، وإذا كان كذلك فلا حاجة إلى رفع أبي بكر صوته بالتكبير.

وبعد فقد نهى الله عن رفع الاصوات فوق صوت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد أتى أبو بكر بالمنهيّ عنه وذلك نقص فيه وليس بفضل. وتصديق ذلك ما رواه الإمام

__________________

(١) ما يقارب ذلك في طبقات ابن سعد ٢ / ٢١٨. والبخاري من رقم ٦٣٣ إلى ٦٥١.

(٢) في (ب) ، (ج) : صفّا وحده متقدما ؛ والنصب على أنه خبر كان ، وأبو بكر اسمها ، وحذفت لدلالة الأولى عليها ، والله أعلم ، المحقق.

الناصر عليه‌السلام في كتاب البساط ؛ فإنه روى أنّ أبا بكر وعمر لما استشارهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن يرأّس على بني تميم من وفدهم ـ اختلفا واختصما حتى علت أصواتهما فحظر الله رفع الصوت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى كان عمر بعد ذلك إذا حدّثه بشيء كان كالسرار من خفض صوته (١). فإن قيل : ومتى نهى الله عن رفع الصوت فوق صوت النبي؟ قلنا : قال الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) [الحجرات : ٢]. وبعد فلو سلّمنا لهم تسليم جدل أن أبا بكر صلّى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمسلمين ـ لما كان ذلك دليلا على الإمامة ؛ لأن إمامة الصلاة ليست من الإمامة العامّة في شيء ، ولا صلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف أبي بكر تدل على الإمامة العامّة أيضا ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى في صحّته خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة من الصبح ، وصلّى خلف عتّاب بن أسيد وهو أميره على مكة والمتولي للقضاء من جهته فيها. ولم يكن في ذلك حجة على إمامتهما ، مع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعزلهما عن الصلاة ، وقد عزل أبا بكر عن الصلاة. وبعد فقد ولى على الصلاة من لا تصحّ إمامته عندنا وعندهم ، فإنّه استعمل في غزوة أحد ابن أمّ مكتوم على المدينة ليصلي بالناس وهو أعمى (٢).

وهكذا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرا بن العاص على المسلمين في غزاة (٣) ذات

__________________

(١) في (ب) : الصوت. أخرجه في البساط ص ٥٦. والبخاري ٤ / ١٨٣٣ رقم ٤٥٦٤.

(٢) سنن أبي داود ١ / ٣٩٨ رقم ٥٩٥.

(٣) في (ب) ، (ج) : غزوة.

السلاسل ، وفيهم أبو بكر مأمورا (١) غير أمير ، وكان عمرو بن العاص يؤمّ بهم في الصلاة ويأتمّ به أبو بكر ، فصلّى بهم ذات يوم وهو جنب لم يغتسل ، فهلا دلّ ذلك على فضل عمرو وإمامته ، ولم يقدّم عليه أبو بكر ، وادّعي كونه إماما. وإنما حملهم على ذلك الميل عن واضحات الأدلة واتّباع الشبه (٢) المضلة.

شبهة يحتجون بها على فضل الشيخين :

وربّما يحتج بها جهّالهم على الإمامة ، وهي قولهم : إن أبا بكر وعمر ضجيعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبره.

والجواب : أن هذا ليس من الإمامة في شيء. فأمّا ما يتعلقون به من إثبات الفضل فغير مسلّم وغير صحيح ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبر في بيته بالإجماع ، ولا خلاف أنه لم يقبر في بيت أبي بكر ولا في بيت عمر ، وإذا ثبت ذلك فقد قال الله تعالى : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) [الأحزاب : ٥٣]. وهما لم يستأذنا في ذلك رسول الله ، ولا ادّعاه لهما مدّع ، ولا روي ذلك في خبر ولا أثر ، لا من أتباعهما ، ولا من مخالفيهما ؛ فيكف يكون الفضل بفعل ما نهى الله عنه! لا يكون أبدا. وإنّما تسنّم المخالفون سنام العناد ، وتنكبوا طريق الرشاد ؛ فحملهم ذلك على الاعتماد على ما لا دلالة فيه.

شبهة أخرى لهم في مثل ذلك

واحتجوا أيضا بكون الشيخين من السابقين الأولين وقد رضي الله عنهم.

__________________

(١) في (ب) : مأمور. والرفع على أنه مبتدأ ، «وفيهم» متعلق بالخبر ، والنصب على الحال. والله أعلم. المحقق.

(٢) في (ب) : الشبهة. ذكر ذلك ابن كثير في سيرته ٣ / ٥١٨. وأبو داود في سننه ١ / ٢٣٨ برقم ٣٣٤ ، ٣٣٥. والواقدي في سيرته ٢ / ٧٧٣. والطبري ٣ / ٣٢ ، ولم يذكر أنه جنب. وكذلك ابن الأثير في الكامل ٢ / ١٥٦.

فأمّا تعلقهم به في الإمامة فغير صحيح ؛ فإنّه لا يدل على ذلك كما لم يدل على إمامة غيرهم من السابقين. وأما تعلّقهم بلفظ الرّضى وأن ذلك يدل على الاستمرار على الرضى عنهم فغير مسلّم ، بل هو إخبار عن الحال ، ولا يمتنع تغييره بفعل معصية في وقت آخر.

كما ورد مثل ذلك في آية أخرى وهي قوله (١) تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨] ؛ فإن الرضى في الآيتين جميعا قد عمّ جميع المبايعين وسمّاهم الله بالمؤمنين ، ثم قال في آخر الآية الثانية : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) [الفتح : ١٠] ؛ فبان بذلك أنه لا يقطع على استمرار الرضى من الله تعالى.

شبهة أخرى

احتجوا بها على أن العشرة من أهل الجنة على سبيل القطع وذلك ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «عشرة في الجنة : أبو بكر في الجنة ، عمر في الجنة ، عثمان في الجنة ، عليّ في الجنة ، طلحة في الجنة ، الزبير في الجنة ، سعد بن مالك في الجنة ، عبد الرحمن بن عوف في الجنة ، سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة» (٢) ، قالوا : فيجب القطع على أنهم من أهل الجنة.

والجواب عن ذلك : أن هذا الخبر يدل على فضلهم فقط ، وهو إخبار عن الحال لا عن المآل ، ولن يتمّ الفضل ودخول الجنة إلا بالخواتم الحسنة. والكلام

__________________

(١) في (ب) : وهي قول الله.

(٢) أبي داود ٥ / ٣٩ رقم ٤٦٤٩. والترمذي ٥ / ٦٠٦ رقم ٣٧٤٨. والحاكم في المستدرك ٣ / ٣١٦. وقد جمعهم الشاعر :

عليّ والثلاثة وابن عوف

وسعد منهم وكذا سعيد

كذاك أبو عبيدة فهو منهم

وطلحة والزّبير ولا مزيد

في هذا الخبر كالكلام في الآية الأولى. وبعد فإنّ من جملة العشرة عمر وعثمان وقد انهزما يوم أحد وتركا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونكثا بيعة الرضوان (١) ، وفي ذلك اليوم ثبت علي عليه‌السلام ثباتا عظيما ، وقتل يوم أحد سبعة من أصحاب رايات الكفار من بيت واحد. وفي ذلك (٢) اليوم ورود ذي الفقار (٣) ، وفيه نادى جبريل عليه‌السلام : لا فتى إلّا عليّ ، ولا سيف إلّا ذو الفقار.

وفيه قال جبريل (ع) للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذا هو المواساة ، فقال : «من أولى بها منه ، وهو منّي وأنا منه كهارون من موسى» (٤). ولا خلاف بين الرواة في هرب عمر وعثمان ، وفي أبي بكر خلاف : هل هرب أو لا؟ ولا خلاف أنه (٥) لم يقاتل بنفسه ولم يخدش في ذلك اليوم كافرا. وكذلك فإنّ من العشرة الزبير وطلحة

__________________

(١) بيعة الرضوان وقعت بعد أحد ، ولعل الانهزام وقع أيضا في معركة حنين.

(٢) في (ب) : في ذلك ، بحذف الواو.

(٣) كأن العبارة : وفي ذلك اليوم ورد في ذي الفقار قول جبريل (ع) : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. وذو الفقار من السيوف المشهورة ، كان للعاصي ابن منبّه فلما قتل مع المشركين يوم بدر صار إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي لكن ساعد علي وبسالته وشجاعته النادرة شهرت السيف وصار مضرب الأمثال.

(٤) أخرج ابن المغازلي في المناقب ص ١٤٠ رقم ٢٣٤. والطبري في تاريخه ٢ / ٥١٤ ، قال : لما قتل علي بن أبي طالب أصحاب الألوية أبصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، ففرّق جماعتهم ، وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر ابن لؤي فقال جبريل : يا رسول الله إن هذه للمواساة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنه مني وأنا منه. فقال جبريل : وأنا منكما قال : فسمعوا صوتا :

لا سيف إلا ذو الفقار

ولا فتى إلّا علي

والمحب الطبري في ذخائره ص ٧٤ قال : عن أبي جعفر محمد بن علي قال : نادى ملك من السماء يوم بدر يقال له رضوان أن : لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. ينظر ابن أبي الحديد في الشرح عن الواقدي وكذلك غيرهم.

(٥) في (ب) : في أنه.

وقد فسقا بخروجهما يوم الجمل (١) علي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ونكثهما بيعته ، سواء قيل : إنهما تابا أم لا (٢). فثبت ما ذكرناه أنّ الخبر إن صح فإنه إخبار عن الحال فقط لا عن المآل (٣). ولنقتصر على هذا القدر من احتجاجاتهم الواهية ،

__________________

(١) معركة الجمل وقعت بسبب أن طلحة والزبير نكثا بيعة علي ، وذهبا إلى مكة فأخذا عائشة وفلول بني أمية والمنحرفين عن علي وتوجهوا إلى العراق ونزلوا بالبصرة ، وأحدثوا أحداثا ؛ فتوجّه علي واستنفر أهل الكوفة ، وطلب مقابلة الزبير وذكّره حديثا مفاده أنّ عليا دخل المسجد والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس ومعه الزبير فقام الزبير فاعتنقه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتحبه يا زبير؟ فقال : كيف لا وهو ابن خالي؟ فقال : أما إنك ستقاتله وأنت له ظالم. فقال الزبير : ذكرتني ما أنسانيه الدهر. فرجع نادما. فقتله ابن جرموز غدرا بوادي السباع. وجاء برأسه إلى علي (ع) فهز علي سيف الزبير وعيناه تدمعان وقال : سيف طالما جلى الكرب عن وجه رسول الله فقال ابن جرموز : الجائزة. فقال علي : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : بشر قاتل ابن صفية بالنار. فقتل ابن جرموز نفسه ، وقيل : قتل مع الخوارج. وكانت عائشة على جمل اتخذه جيشها بمثابة الراية واستمر الموت حوله. وسمي بيوم الجمل ، وقتل أكثر من ثلاثين ألف ، وانتصر عليهم الإمام علي فعاملهم معاملة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للطلقاء يوم فتح مكة.

(٢) في (ب) ، (ج) : أولا. والأصح ما في الأصل. أرجو أن يكون طلحة والزبير وعائشة قد تابوا.

(٣) إن صح الحديث فهو إخبار عن الحال ؛ لأن بعض المبشرين بالجنة في الحديث صدر منهم أمور تحير العقلاء ؛ فعثمان أنكر عليه الصحابة أشياء تسببت في قتله ، والذي لم يشترك في قتله منهم لم ينصره. وطلحة والزبير نكثا بيعة الإمام علي (ع) بدون مبرر وتسببا مع عائشة في قتل ثلاثين ألف أو أكثر في معركة الجمل ، وهذا الفعل من عظائم الأمور. ثم إن الحديث أحادي ظني ، رواه الترمذي رقم ٣٧٤٧ رغم ما أثير حوله من خلاف ، كما أن الترتيب فيه بين الصحابة يوحي بالصنعة ، وهو ما حمل كثيرا من علماء الزيدية وأئمة أهل البيت على رده ؛ لأن الله سبحانه ـ وهو الحكيم ـ لا يخبر أحدا أنه من أهل الجنة إلا إذا علم أنه لا يفعل كبيرة ، وإلا كان إغراء له على القبيح. وقد أجمعت الأمة على تفسيق من قاتل إمام حق ونكث بيعته وشق عصى المسلمين ، فكيف بالخلاف على من حكمه حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا في النبوة؟ ومن حبه إيمان وبغضه نفاق؟ وهذا دليل قاطع بعدم صحة الحديث. وهذا بخلاف العمومات الدالة على رضي الله عن أهل بيعة الرضوان وغيرهم التي تقبل التقييد في قوله تعالى : (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) ؛ فالعموم يتناول من استمر على صلاحه إلى الموت ، والتقييد يخرج من انقلب. نسأل الله التوبة وحسن الخاتمة آمين.

ولم نوردها طلبا لنقص (١) الشيخين أبي بكر وعمر ، ولا للوضع من حقهما ، ولا للتتبع لعثراتهما (٢) ، معاذ الله أن نقصد شيئا من ذلك فهما صاحبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد جاهدا معه ، وقاما بنصرته ، وأبليا في الإسلام بلاء حسنا ، إلّا أنّا نعرف أنّ عليا أفضل منهما وأولى بالإمامة. وأردنا أن نبيّن أنّ ما احتج به هؤلاء القوم على إمامتهما وكونهما أفضل من علي عليه‌السلام غير صحيح ، وأن ما اعتمدوا عليه ليس بدليل ، بل هو قول باطل ، وعن الصراط السوي عادل.

فصل :

وقد غلا قوم في خالد بن الوليد وقالوا : هو سيف الله ، وهذا اسم لأمير المؤمنين عليه‌السلام فسلبوه اسمه وسمّوا به خالدا. ولا شبهة في أنّ عليا سيف الله سلّه على المشركين والمنافقين ، استأصل به صناديد قريش ؛ فسبق بالجهاد جميع الصحابة (رض). كما روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخرج من بيته ـ وأحداث العرب يرمونه بالحجارة حتى أورموا كعبيه وعرقوبيه ـ فخرج عليهم عليّ كالأسد فطردهم. قال الراوي : سألت من هذا وهؤلاء وهذا الفتى؟ قالوا : محمد (٣) يدّعي النبوة ، وهؤلاء أحداث قريش يؤذونه ، وهذا علي بن أبي طالب ابن عمه يحامي عنه ؛ فنزل فيه وفيهم : (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ* فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ) [المدثر : ٥٠ ـ ٥١] شبّهه بالأسد ، وشبّههم بحمر (٤) الوحش (٥).

__________________

(١) في (ب) : للنّقص من.

(٢) في (ب) : لعثرتهما.

(٣) في (ب) ، (ج) : هذا محمد.

(٤) في (ب) : حمير ، وما في الأصل أشهر.

(٥) لم نجد هذه الرواية في أي مصدر لا في كتب أهل البيت ولا في كتب غيرهم فيما تيسر لنا. والله أعلم.

ومن مقاماته المشهورة :

قتل أسد بن غويلم فاتك العرب ؛ فإنه خرج وسأل البراز ؛ فأحجم الناس ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عليّ اخرج ولك الإمامة بعدي» ؛ فخرج فضربه على مفرق رأسه ، فذهب السيف في بدنه حتى خرّ بنصفين ؛ فخرج علي عليه‌السلام وهو يقول :

ضربته بالسيف وسط الهامة

أنا عليّ صاحب الصمصامة

أخو نبي الله ذي العلامة

قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت الذي بعدي له الامامة (١)

[أنت أخي ومعدن الكرامة] (٢)

ذكره أهل التفسير (على هذا الوجه) (٣). وكفى له بليلة الغار ؛ فإنه أمسى على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باذلا لمهجته واقيا له بنفسه تحت ظلال أربعمائة سيف (٤) قد تبايعوا على قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أربعمائة قبيلة ليصير دمه هدرا. فكانوا يرمونه بالحجارة وهو يصبر لا يقوم ، فقال قائل : هو محمد ، وقال قائل : ليس بمحمد ؛ فإنه يتضوّر ـ ومحمد لا يتضوّر يعني يتحرك بنفسه ويجمع أطرافه لألم الحجارة ، وبات جبريل وميكائيل (ع) أحدهما عند رأسه ، والآخر عند رجليه ، وهما يقولان : بخ بخ يا علي من مثلك ـ والله يباهي بك الملائكة (٥). روينا ذلك مسندا ؛ فأنزل الله فيه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ

__________________

(١) في (ب) : لك.

(٢) الشافي ٣ / ٢٠٠ ، عن الناصر للحق. ولم نجدها في مصادر أخرى متيسرة لنا.

(٣) ما بين المعقوفتين في (ب).

(٤) المعروف أنهم أربعون شابا ، وليسوا أربعمائة ، ولم تكن قبائل قريش قد بلغت أربعمائة قبيلة ، وفي السيرة الحلبية ١ / ٣٠٦ تفاوت العدد ولم نجدها في مصادر أخرى متيسرة لنا وما بين المعقوفتين زيادة من الشافي.

(٥) روي في قصة المبيت زيادة مدسوسة جاءت في ابن هشام ٢٢ / ٩٦ وسيرة ابن كثير ٢ / ٢٢٩ ، وهي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام : نم على الفراش فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه». والغرض من هذه الرواية سرقة هذه الفضيلة. وهكذا يفعل الحسد لأولي الفضل فقاتل الله الحسد والحاسدين.

ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) [البقرة : ٢٠٧] (١).

قال ابن عباس نزلت هذه الآية في علي حين بات على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام سبعين رجلا من صناديد قريش.

وذكر الشيخ أبو القاسم البستي رحمه‌الله في كتاب المراتب في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قتل يوم بدر سبعة وستّين رجلا بحضرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) في ذلك اليوم ، قال الشيخ : وليس في العادة أن يقوى بنو جنسنا على هذه العدة من القتل ، قال : فهو كالمعجز. وروى علماء

__________________

(١) انظر شواهد التنزيل ١ / ٩٦. وأسد الغابة ٤ / ٩٨ نقلا عن الثعلبي. وتفسير الألوسي ٢ / ١٤٦. ومجمع البيان للطبرسي ج ٢ ص ٥٦. وتفسير القرطبي مج ٢ ج ٣ / ١٦. والأعقم ٤٥. وتفسير الرازي ٣ / ٢٢٢ ..

(٢) المشهور أنه عليه‌السلام قتل ثلاثة وعشرين رجلا ، وشارك في آخرين ، وقتلى المشركين كلهم سبعون. وقد علق الوالد : مجد الدين المؤيدي حفظه الله في هامش نسخته التي رمزنا إليها بالحرف (ب) قائلا : لم يكن القتلى يوم بدر كلهم إلا نحو هذا العدد ، فما الذي بقي لحمزة بن عبد المطلب ولعبيدة بن الحارث ولسائر الأبطال من المهاجرين والأنصار ، ويا ليت الأمير الحسين نزه كتابه هذا العظيم عن أمثال هذه الروايات السخيفة التي هي من روايات القصاص الذين لا يبالون ما يروون ، وفي فضائل أمير المؤمنين (ع) المعلومة الصحة ما يغني ويكفي ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ومثل هذا قصة البساط ، والمنجنيق وقتل عامر ابن الطفيل وغير ذلك مما لا أصل له ولا صحة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، ولأن مكن الله من نسخ هذا الكتاب المفيد الفريد وطبعه لأزيلن منه ما لا أصل له من أمثال هذه الروايات التي لا أصل لها والله ولي التوفيق. انتهى كلامه بلفظه.

أقول : ولم يمنعنا من حذف مثل هذا إلا أمانة النقل ، ولا يخلو كتاب من هفوات ونحن في المدرسة الزيدية العظيمة تستند في الحكم على صحة الروايات على كتاب الله وعلى العقل ثم ما تواتر وصح ورواه الأئمة العدول ، علما بأن أحاديث الفضائل غالبا ما تسرد على وجه التسامح ، وقد اجتهدنا في إسناد كل شاردة وواردة خدمة للقرآن العظيم وإبرازا لالتزام علماء الزيدية خاصة بالإنصاف والتقيد بالحق لا تأخذهم في الله لومة لائم ، والله من وراء القصد.

التفسير في مقاماته يوم بدر ، قالوا : وهي أول حرب شهدها أحصي له فيها خمس وأربعون من الجراح والقتل ، وقيل : بل سبعون. فسأل عنه (١) أبو جهل عبد الله بن مسعود ، فقال : هو علي بن أبي طالب ، فقال أبو جهل : هو الذي فعل الأفاعيل.

ومن مقاماته : أن المسلمين جعلوه في المنجنيق ورموا به إلى حصن ذات السلاسل ونزل على حائط الحصن ، وكان الحصن قد شدّ على حيطانه سلاسل ، فيها غرائر من تبن وقطن حتى لا يعمل فيه المنجنيق إذا رمي إليها الحجر فمرّ علي عليه‌السلام في الهواء والتّرس تحت قدمه ، ونزل على الحائط ، وضرب السلاسل ضربة واحدة فقطعها وسقطت الغرائر وفتح الحصن. وقد قال في ذلك علماء شيعتنا إنّ عليا عليه‌السلام شارك إبراهيم الخليل صلّى الله عليه (٢) في الرمي من المنجنيق إلا أنّ إبراهيم عليه‌السلام رمي به مشدودا مكرها إلى النار ، ورمي بعلي ـ عليه‌السلام ـ وهو مختار إلى السيوف ، وسلما جميعا صلوات الله عليهما. إلى غير ذلك من مقاماته نحو قتله لعامر بن الطفيل ، أحد الشياطين فأدرك منه ثأر المسلمين ، ونحو قتله الثقفي داهية العرب وشجاعها ، وسبيه لامرأته وأخذه لماله ، وقصته ظاهره (٣). وإحصاء مقاماته مما يكثر وهو مذكور في الكتب المبسوطة في هذا الشأن.

__________________

(١) في (ب) : منه.

(٢) في (ب) : صلوات الله عليهما.

(٣) كثيرا ما تنسج الخيالات والأساطير حول الأبطال ، ويطلق القصّاص أقلامهم حول سيرتهم ، والإمام علي من عجائب الزمان ولعل قصة رميه بالمنجنيق وقتله لعامر بن الطفيل والثقفي من هذا الباب ؛ لأنه لم يرم به ولا قتل عامرا ولا الثقفي ، مع أن الإمام المنصور عبد الله بن حمزة روى في الشافي ٣ / ١٩٩ أن عليّا عليه‌السلام قتل أسد بن عويلم يوم الصوح. لكني لم أجد فيما تيسر من المراجع هذا الاسم ولا هذا اليوم والعلم لله وحده.

[موقفه يوم الأحزاب]

وله يوم الأحزاب مع شدته كما حكى الله تعالى في قوله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا* هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) [الأحزاب : ١٠ ـ ١١]. وكفى الله المؤمنين القتال بقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام لعمرو بن عبد ودّ.

وروينا أنّ عمرا خرج معلما ليرى مكانه فلما وقف وخيله قال : من يبارز؟ فبرز له علي بن أبي طالب ، فقال له : يا عمرو إنك قد كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين (١) إلا أخذتها منه ، قال له : أجل. فقال له علي عليه‌السلام : إني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لي بذلك ، قال : فإني أدعوك إلى البراز ، فقال له : لم يا ابن أخي؟ فو الله ما أحبّ أن أقتلك ، قال له علي : ولكني والله أحبّ أن أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي فتنازلا (٢) وتجاولا فقتله علي ، وخرجت خيل عمرو منهزمة هاربة ، فقال علي عليه‌السلام :

نصر الحجارة من سفاهة رأيه

ونصرت ربّ محمد بصواب

فصددت حين تركته متجدّلا

كالجذع بين دكادك وروابي

__________________

(١) ينظر المستدرك ٣ / ٣٢ ويروى أنها ثلاث خلال والمعنى أن عمرا ألزم نفسه بإجابة من دعاه ثلاث مرات ، فحاول علي رضي الله عنه أن يستفيد من عمرو كسبا للإسلام فدعاه إلى الإسلام لكنه رفض ثم دعاه إلى الرجوع بمن معه لعل الله يهديهم مستقبلا فرفض فلم يجد بدا من الثالثة وهو دعوته للمبارزة وهذا يدل على شجاعة وثبات وعقل وفهم للإسلام وتواضع من جانب علي (ع) فلله مدرسة تخرّج منها ومعه كرام المهاجرين والأنصار!.

(٢) في (ب) : فتبارزا.

وعففت عن أثوابه ولو أنّني

كنت المقطّر بزّني أثوابي

لا تحسبنّ الله خاذل دينه

ونبيّه يا معشر الأحزاب (١)

وروي أنّ عمرا لما ضربه عليّ سبّه فولى عنه حتى برد غيظه ثم قتله فنزل جبريل عليه‌السلام إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره بذلك وقال : لو وزن بها إيمان العالمين لرجح ، يعني ثواب علي عليه‌السلام على ذلك. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : لقتال عليّ مع عمرو بن عبد ود أفضل من أعمال أمتي إلى يوم القيامة». رواه أهل التفسير.

موقفه يوم خيبر

وله في يوم خيبر ما هو ظاهر من قتل مرّة وعنتر ومرحب قدّه من قرنه إلى أضراسه. وقدّ الحجر والبيضة ، وقيل : قدّه إلى قربوس سرجه بضربة واحدة (٢).

ومن مقاماته

قتله لسبعة من بيت واحد وهم أصحاب الرايات وهم بنو طلحة

__________________

(١) ينظر في سيرة ابن هشام ٣ / ٢٤٨. والحاكم ولم يذكر هذه الأبيات ، وإنما ذكر أبياتا أخرى وهي جواب علي على رجز عمرو الذي جاء فيه :

ولقد بححت من الندا

ء بجمعكم هل من مبارز

إلى آخرها. فأجابه علي عليه‌السلام بأبيات منها :

لا تعجلنّ فقد أتا

ك مجيب صوتك غير عاجز

إلى آخرها ... وابن كثير في البداية ٣ / ٢٠٣. والواقدي ٢ / ٤٧٠ ولم يذكر الأبيات. وقال الرازي في تفسيره مج ٣ ج ٦ ص ٢١٣ ، كما روي أنه قال بعد محاربة على لعمرو : كيف وجدت نفسك يا علي؟ قال : وجدتها لو كان أهل المدينة في جانب وأنا في جانب لقدرت عليهم. فقال : تأهب فإنه يخرج من هذا الوادي فتى يقاتلك. والحديث مشهور.

(٢) من أجمل فضائل الإمام علي عليه‌السلام أن الزحف الإسلامي تعثر بقيادة أكابر الصحابة ؛ فاستدعى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا بعد أن قال : «لأعطين الراية .. إلخ» ، فأخذها علي وافتتح الحصون قبل أن يتكامل الجيش معه ، وهذه هي الفضائل.

يوم أحد (١) ذكره البستي رحمه‌الله ، قال : وقد رواه الناصر الكبير عليه‌السلام.

وقد اختلف في سيفه ذي الفقار فقال قوم : هو من السماء أنزل في يوم أحد ؛ فأعطاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام. وتأولوا عليه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥] ، وقال قوم : كان سعفة نخل فأعطاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام ونفث فيه ، فأخذه عليّ وهزّه فصار سيفا فكان ذلك معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢). وله في يوم أحد شهادة جبريل عليه‌السلام حيث قال : «هذا (٣) هو المواساة» (٤) ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أولى بها منه! وهو مني وأنا منه ، وهو مني بمنزلة هارون من موسى ، اللهم اشدد به أزري».

[قلعه باب خيبر]

وهزّ حصن خيبر حتى قالت صفية زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كنت قد أجلست على طاق كما تجلس العروس فوقعت على وجهي فظننت الزّلزلة فقيل لي (٥) : هذا عليّ هزّ الحصن يريد أن يقلع الباب ، ثم قلع الباب الحديد بطوله وثقله ثم أمسكه على يده حتى عبر عليه عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال البستي : لم يقو على حمل الباب ثمانون رجلا.

__________________

(١) ينظر سيرة ابن هشام ج ٣ / ١٤٢.

(٢) يروى أنه سيف منبه بن الحجاج ، والسيف الخشبي أعطاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي دجانة. والعبرة بالساعد الذي حمل السيف.

(٣) في (ب) : هذه المواساة.

(٤) أخرجه الطبري في تأريخه ٢ / ٥١٤ بلفظ : إن هذه للمواساة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنه مني وأنا منه» فقال جبريل : «وأنا منكما».

(٥) في (ب) : فقيل لي : لا.

[موقفه يوم حنين]

ثم وقوفه عليه‌السلام يوم حنين في وسط الكفار يحمي ويحمل عليهم ويقاتل أربعة وعشرين ألفا إلى أن أنزل الملائكة مددا وهزم القوم. وهو الذي أقسم الله تعالى بدابّته في قوله : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (١) [العاديات : ١]. رواه الزجاج في معانيه فإنه روي أن ذلك أنزل في علي عليه‌السلام حين صبّح بني زهرة ، إلى غير ذلك من مقاماته المشهورة المحمودة ، كليلة الهرير فإنه كبّر فيها ستمائة تكبيرة وأسقط بكل تكبيرة عدوا من أعداء الله (٢) ، فهذا هو سيف الله الذي لا يخطي.

كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يا عليّ أنت فارس العرب وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين ، وأنت أخي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة من بعدي ، وأنت سيف الله الذي لا يخطئ وأنت رفيقي في الجنة».

وروى الشيخ أبو القاسم البستي رحمه‌الله ما هو ظاهر ، وهو نداء جبريل في يوم (٣) أحد من السماء : لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار. وذكر أنّ الخبر بذلك متواتر. وما ذكره أبو القاسم البستي رحمه‌الله فهو خبر صحيح ، وقد نظمه فيما ذكر حسان بن ثابت فقال في بعض أشعاره :

ولقد سمعت مناديا من فوقنا

نادى فأسمع كلّ أهل المحفل

لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى

في النّاس طرّا كلّهم إلا علي

__________________

(١) مجمع البيان ج ١٠ ص ٤٢٢.

(٢) أنظر وقعة صفين للمنقري ص ٤٧٩ قال : قتل ٥٠٠ قتيلا. والمسعودي في المروج ٢ / ٣٨٩ وذكر أنه قتل ٥٢٣ رجلا في تلك الليلة.

(٣) في (ب) : يوم أحد بدون في.

وروى الناصر للحق عليه‌السلام أنّ أبا أيوب رحمه‌الله بعد قتال أهل البصرة دخل عليه جماعة من الصحابة ، فيهم عمار بن ياسر رحمه‌الله ، فقال أبو أيوب : لا ترونا أنّا سفكنا الدماء واستحللنا الأموال ـ يعني المأخوذة من البغاة ـ بغير أمر أمرنا به ؛ فنحن إذن لا على شيء ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بقتال ثلاثة : النّاكثين والقاسطين والمارقين ؛ فأما الناكثون فقد كفاناهم الله ؛ طلحة والزبير وأشياعهما. وأما القاسطون فقد أوجهنا إليهم إن شاء الله : معاوية وأهل الشام ؛ وأما المارقون فو الله ما رأيتهم بعد ، ولكنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حدثنا أنّ قوما يخرجون بطرقات أرض يقال لها : النهروان ، فقلت : يا رسول الله أمرتنا أن نقاتل هؤلاء مع من؟ قال : مع علي بن أبي طالب ، فسرنا هذا المسير بأمر الله وأمر رسوله (١). وروينا عن الحاكم رحمه‌الله ما رفعه بإسناده إلى سعيد بن جبير رحمه‌الله أنه قال : كان مع علي عليه‌السلام يوم صفين ثمانمائة من الأنصار وتسعمائة ممن بايع تحت الشجرة. وروينا عن الحاكم رحمه‌الله ما رفعه بإسناده إلى الحكم بن عتيبة (٢) أنه قال : شهد مع علي عليه‌السلام يوم صفين ثمانون بدريّا ، وكان معه سيد التابعين أويس القرني (٣). وروى أن عسكر علي عليه‌السلام في صفين كانوا تسعين ألفا ، وكان عسكر معاوية مائة وعشرين ألفا.

__________________

(١) أخرج الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٠ عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي بن أبي طالب : تقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بالطرقات والنهروانات وبالشعفات ، قال أبو أيوب : قلت : مع من يا رسول الله نقاتل هؤلاء؟ قال : مع علي بن أبي طالب.

(٢) هو عالم أهل الكوفة ، ولد نحو سنة ٤٦ ه‍. ومات سنة ١٥. سير النبلاء ٥ / ٢٠٨.

(٣) ابن الأثير ٣ / ١٦٥. وسير أعلام النبلاء ٤ / ٣٢ ذكر أنه قتل مع علي في صفين.

وروينا عن المنصور بالله عليه‌السلام بطريق روايتنا لكتابه الشافي أنّ جملة القتلى في صفين سبعون ألفا من أصحاب علي عليه‌السلام خمسة وعشرون ألفا ، ومن أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفا ، وأن جملة القتلى في حرب الجمل ثلاثون ألفا. وما رويناه عن المنصور بالله مذكور في الجزء الرابع من كتاب الشافي ص ٢٩. وعليّ عليه‌السلام لم يكن على ظهره جوشن حديد فسئل عن ذلك فقال : إنّما يحتاج إليه من يهرب من عدوه ليحفظ ظهره وأنا لا أهرب. وقيل له : لم لا تقاتل على الفرس؟ فقال : إنّ الفرس يحتاج إليه من يهرب من العدو أو يهرب العدو منه فيلحقه ، وأنا لا أهرب ولا أترك العدو يهرب. وقيل : قال في حرب البغاة : إني لا أفرّ ولا أكرّ على من يفرّ ؛ فالبغل والفرس سواء ؛ فثبت بما ذكرناه أن عليا عليه‌السلام هو سيف الله الذي لا يخطي. فأما خالد بن الوليد فقد عمل في بني جذيمة ما لم يرض به الله (١) ولا رسوله ؛ فإنه بعث داعيا ولم يبعث مقاتلا ؛ فلما وطئ بني جذيمة أخذوا السلاح ليحاربوه ، فقال : دعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا فلما وضعوا السلاح أمر بهم فأوثقوا كتافا (٢) ثم ضرب أعناقهم إلا من أراد تركه ، وسبى ذراريهم ؛ فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع يديه إلى السماء بعد أن قام مستقبل القبلة ثم قال : «اللهمّ إني أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد» (٣) ، ثم بعث عليّا عليه‌السلام بمال فوداهم حتى إنه ليدي ميلغة الكلب. وفضل معه مال ، قيل : خمسمائة. وقيل : أكثر. فقال : هذا لكم فيما

__________________

(١) في (ب) : يرض الله.

(٢) في (ب) : فأوثقوا أكتافا.

(٣) الطبري ج ٣ ص ٦٥ ، البخاري ج ٤ ص ١٥٧٧ رقم ٤٠٨٤ ، النسائي ج ٨ ص ٢٣٧.

لا يعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا تعلمون». وروي أنه قال : هذا لكم بروعات (١) النساء والصبيان ؛ فأحلّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وروى الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش عليه‌السلام أن خالد بن الوليد قتل مالك بن نويرة وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وجعل رأسه أثفية القدر ، وبنى بامرأته من ليلته ، ولم يستبرها حتى أنكر ذلك عمر بن الخطاب. وروى الطبري في تأريخه (٢) : أن خالدا قتل مالك بن نويرة وأصحابه وهم مسلمون وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأن أبا قتادة الحارث بن ربعي الانصاري كان يحدّث أن خالدا لما غشيهم تحت الليل أخذوا السلاح ، وكان أبو قتادة مع خالد في تلك السرية قال : فقلنا : إنا المسلمون ، فقالوا (٣) : ونحن مسلمون ، قلنا : فما بال السلاح؟ قالوا : فما بال السلاح معكم؟ قلنا : فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، فوضعوها وصلّينا وصلّوا ثم قدّم خالد مالك بن نويرة فضرب عنقه وأعناق أصحابه ، فانكسر (٤) أبو قتادة وفارق خالدا ، وعاهد الله أن لا يشهد مع خالد حربا بعدها ، وأنكر عمر بن الخطاب أشدّ الإنكار ، وتكلم عند أبي بكر ، وقال : عدو الله عدى على مسلم فقتله ، ثم نزل (٥) على امرأته. وأقبل خالد حتى دخل المسجد معمّما (٦) بالعمامة قد غرز

__________________

(١) في (ب) : تروعات ، وفي الأصل بغير نقط ، وأثبتنا ما في (ج) لظهوره. والمعنى : بترويع.

(٢) ج ٣ ص ٢٨٠.

(٣) في (ب) : قالوا.

(٤) في (ب) : فأنكر.

(٥) في (ج) : نزى. وهو الأظهر.

(٦) في (ب) : متعمم.

فيها أسهما ، فقام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ، ثم قال : قتلت امرأ مسلما ، ثم نزوت على امرأته؟ : والله لأرجمنك بأحجارك ؛ فلم يكلّمه خالد ، ودخل إلى أبي بكر فاعتذر إليه فقبل عذره ، فخرج خالد ـ وعمر جالس في المسجد ، فقال : هلم إليّ يا ابن أم شملة ، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عن خالد ، فقام عمر فدخل بيته. وقال لأبي بكر : إن في سيف خالد رهقا ، فقال (١) أبو بكر : لم أكن لأشيم (٢) سيفا سلّه الله على الكافرين. وقدم متمم بن نويرة أخو مالك ينشد أبا بكر دم مالك ، ويطلب إليه في سبيهم. فقال عمر : إنّ في سيف خالد رهقا ؛ فإن يكن هذا حقا حقّ عليه أن يقيده. وأكثر عليه في ذلك ، ولم يكن أبو بكر يقيد من عمّاله ، ولم يقبل من عمر. وودى مالكا. وأمر بردّ سبيهم. وهذا كله في تأريخ الطبري ، وهو ممن يرى تفضيل الشّيخين ويقدمهما (٣) ؛ فيجب القضاء بأن خالدا ليس بسيف الله ؛ لأنه يخطي ، وإنما سيف الله أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ لأنه كان (٤) لا يخطئ ولا يفعل إلا ما أمر به رسول الله عن جبريل عن الله. وبذلك يثبت (٥) الكلام في المطلب الثالث. وبثبوته يثبت الكلام في إمامة علي عليه‌السلام وهي المسألة الأولى من مسائل الإمامة.

__________________

(١) في (ب) : قال.

(٢) شام السيف : أدخله الغمد.

(٣) في (ب) وتقديمها.

(٤) في (ب) : بحذف كان.

(٥) في (ب) : ثبت.

وأما المسألة الثانية :

وهي في إمامة الحسن والحسين (ع)

فالكلام فيها يقع في ثلاثة فصول : أحدها في الدلالة على إمامتهما. والثاني ـ في ذكر طرف يسير من فضائلهما. والثالث في الإشارة إلى طرف يسير من مثالب معاوية وولده يزيد ؛ ليتضح بذلك أيها المسترشد ـ الحقّ من الباطل ، والناقص من الكامل.

أما الفصل الاول :

وهو في إمامة الحسن والحسين (ع) فالذي يدل على ثبوتها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب : فقول الله سبحانه في إبراهيم عليه‌السلام : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤].

ولا خلاف بين علماء الاسلام في إجابة دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، وأنّ قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) استثناء أخرج به الظالمين بعد إجابة الدعوة عن استحقاق الإمامة. وإذا ثبت ذلك فقد جعل الله الإمامة فيمن لم ينتظم (١) في سلك الظالمين من ولد إبراهيم عليه‌السلام (٢) ، ولم تقع العصمة فيمن علمنا من ولد إبراهيم عليه‌السلام إلا في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) ، فثبت بذلك إمامتهما على القطع ، ويدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى : (الَّذِينَ إِنْ

__________________

(١) في (ب) : ينضم.

(٢) في هذه الآية لا يستقيم الكلام إلا كذا ؛ فإن الأنبياء من ولد إبراهيم عليهم‌السلام معصومون قطعا ، أولهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب. تمت من الوالد مجد الدين.

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) ... الآية [الحج : ٤١].

وهما بلا إشكال بهذه الصفة ، بخلاف معاوية وولده يزيد ؛ فإنهما لم يكونا بهذه الصفة ، فوجب كون الحسن والحسين (ع) إمامين ، ولزم القضاء بكونهما أولى بالامامة وأجدر بفضيلة الزعامة.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) الآية [الطور : ٢١] ، وهما سلام الله عليهما ممن آمن أهلهما واتّبعاهم بإيمان ، وقفياهم بإحسان فلحقا بهم ، وقد استحق أبواهما محمد وعلي (ع) الإمامة ، وقد شرك الحسن والحسين (ع) في شروط استحقاق أبويهما (ع) الإمامة فوجب أن يلحقا بهما في استحقاقها والقيام بها.

وأما السنة : فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، وأبو هما خير منهما» (١) ، ولا شبهة في كون هذا الخبر مما تلقته الأمة بالقبول ، وبلغ حد التواتر (٢) ؛ فصح الاحتجاج به ، وهو نص صريح في إمامتهما ، وإشارة قوية إلى إمامة أبيهما أمير المؤمنين عليه‌السلام ؛ إذ لا يكون أحد من الرعية خيرا من الإمام بالإجماع ؛ فإذن لا يكون خيرا من الإمام إلّا إمام.

__________________

(١) حديث متلقى بالقبول عند آل محمد عليهم‌السلام وقد أجمعوا على صحته كما ذكره في لوامع الأنوار ٣ / ٣٧. ومجموع رسائل الإمام الهادي ١٩٥ ، وأخرجه المؤلف في شفاء الأوام ٣ / ٤٩٧ ، والإمام عبد الله بن حمزة في الشافي ٣ / ١٥١ ، ٤ / ٧٩. والطبرسي في مجمع البيان ٢ / ٣١١. وعلل الشرائع للصدوق ١ / ٢٤٨ وساق سنده إلى الحسن بن علي (ع).

(٢) لعله يريد بالتواتر : اشتهاره على ألسنة أهل البيت عليهم‌السلام حتى لا يحتاج إلى نظر فيمن رواه. والله أعلم.

وأما الإجماع : فلا خلاف بين المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعيهم من المؤمنين في كونهما إمامين ، ولم يخالف في ذلك إلا جماعة الحشوية ، وهي فرقة خارجة من الإسلام ، فلا يعتدّ بخلافهم (١).

وبعد فإن أهل البيت (ع) أجمعوا على ثبوت إمامتهما ، وإجماعهم حجة كما تقدم بيانه. وبعد فإن كل واحد منهما قام ودعا إلى الإمامة مع تكامل شروط الإمامة فيه ، وبايعه (٢) أهل الحل والعقد. وكل من كانت هذه حاله فهو إمام. وبعد فإنه لا خلاف في كونهما أفضل الأمة في وقتهما وفي وقت قيامهما وطلبهما الإمامة ، وهذا إجماع معلوم على فضلهما ، وأنهما أفضل الأمة عند طلبهما للإمامة ؛ والأفضل هو الأولى والأحق بالإمامة بإجماع الصحابة (رض) على ما فصّلنا ذلك في غير هذا الموضع ؛ فثبت بذلك إمامتهما ، وثبت بذلك (٣) الفصل الاول.

وأما الفصل الثاني : وهو في ذكر طرف يسير من فضائلهما.

فمن ذلك اختصاصهما بأبوة الرسول ، وولادة البتول : أما اختصاصهما بأبوة الرسول فيدل عليه الكتاب والسنة والإجماع :

أما الكتاب : فقول الله سبحانه في آية المباهلة : (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران : ٦١] ، فأجمعت الأمة على أنّ من دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عليّا وفاطمة والحسن والحسين (ع) ، فكانت الأبناء الحسن

__________________

(١) يحمل الحكم بالخروج من الإسلام على من تعمّد رد قطعي أجمعت عليه الأمة.

(٢) في (ب) و (ج) : وتابعه.

(٣) بذلك محذوفة في «ب».

والحسين (ع) ، وكانت النساء فاطمة (ع) دون زوجات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانت الأنفس (١) محمدا وعليا (ع) وهذا أمر معلوم (٢).

ويدل على كونهما من ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ* وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٦] ؛ فجعل عيسى من ذرية نوح ، وإنما هو ابن ابنته ؛ وهذا أمر معلوم ، فيجب في أولاد فاطمة أن يكونوا من ذريته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وليس المراد بقوله : (وَأَنْفُسَنا) نفس محمد ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه بل المراد به غيره وأجمعوا على أن ذلك الغير كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ؛ فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد. والمراد أنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه وترك العمل بهذا العموم في حق النبوة.

(٢) أنظر الدر المنثور للسيوطي ٢ / ٦٨. والكشاف ١ / ٣٦٩ ـ ٣٧٠ ، وتيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير ١ / ٢٧٩ ، ومجمع البيان ٢ / ٣١٠. وأسباب النزول للواحدي ٥٨ ، ٥٩. وأحكام القرآن لابن العربي ١ / ٢٧٤ ، وتفسير القرطبي ٤ / ٦٧. وتفسير الطبري مج ٣ ج ٣ ص ٤٠٩ ـ ٤١٠. وقال الفخر الرازي في تفسيره مج ٤ ج ٨ ص ٩٠ : هذه الآية دالة على أن الحسن والحسين عليهما‌السلام كانا ابني رسول الله ، وعد أن يدعو أبناءه ؛ فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن يكونا ابنيه. ومما يؤكد هذا قوله تعالى في سورة الأنعام : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ ...) إلى قوله : (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى) ومعلوم أن عيسى عليه‌السلام إنما انتسب إلى إبراهيم عليه‌السلام بالأم لا بالأب ، فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابنا. والله أعلم.

وأما السنة : فقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما» (١). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين ابناي» (٢). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله جعل ذرّيّة كلّ نبي من صلبه ، وإنّ الله جعل ذرّيّتي في صلب علي بن أبي طالب» (٣).

وهذا يوجب أن يكون جميع ولد علي عليه‌السلام ذرية لرسول الله ، إلا أنّ من عدا أولاد فاطمة (ع) مخصوصون بالإجماع ؛ فإنه لا خلاف في أنّ من عدا أولاد فاطمة (ع) ليسوا من ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كلّ أولاد أنثى ، أبوهم عصبتهم إلا أولاد فاطمة فأنا أبوهم وعصبتهم» (٤). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكل بني أنثى عصبة ينتمون إليه إلا ابني فاطمة فأنا وليّهم وعصبتهم» (٥). وروينا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا رأى الحسن والحسين يمشيان وقد تهلّل لهما التفت إلى أصحابه وقال : «أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض» (٦).

وأما الاجماع : فلا خلاف في أن الصحابة (رض) كانوا يقولون للحسن والحسين : هما ابنا رسول الله ويعلنون بذلك في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد وفاته ، وهذا أمر معلوم لمن عرف أخبارهم واقتص آثارهم. وأما اختصاصهما بولادة البتول فاطمة الزهراء صلوات الله عليهم فهو معلوم ضرورة.

__________________

(١) درر الأحاديث النبوية ص ٥٢ ، والطبراني في الكبير ج ٣ ص ٤٤ رقم ٢٦٣١ ومجمع الزوائد ج ٩ ص ١٧٣.

(٢) المرشد بالله في أماليه ١ / ١٥٢. وكنز العمال بلفظ : ابناي هذان الحسن والحسين» ج ١٢ ص ١١٢.

(٣) الطبراني في الكبير ٣ / ٤٤ رقم ٢٦٣٠.

(٤) الخطيب في تاريخه ١١ / ٢٨٥.

(٥) الطبراني في الكبير ٣ / ٤٤ برقم ٢٦٣٢. والحاكم في مستدركه ٣ / ١٦٤. واللفظ له.

(٦) تنبيه الغافلين ١٤٨.

ومن فضائلهما :

ما رويناه عن ابن مسعود رحمه‌الله أنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره فإذا أرادوا منعهما أشار إليهم : دعوهما ؛ فلما انصرف من صلاته وضعهما في حجره وقال : «من أحبّني فليحبّ هذين» (١). فقال في ذلك المنصور بالله عليه‌السلام :

ألم يكن والدي هبلت إذا

صلّى لديه امتطى على صلبه

ثم يشير اتركوه لا تركت

لك الرزايا مالا لمنتهبه (٢)

ومن جملة (٣) ذلك حمله لهما يوم الحديقة يوم فقدتهما أمّهما فاطمة الزهراء وبكت فقال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا بنية لا تبكي فإنّ لهما ربا هو أحفظ لهما (٤) ، وأرأف بهما منّي ومنك». ثم نزل عليه جبريل عليه‌السلام فأخبره بهما وسرّي عنه وهو يضحك حتى بدت نواجذه (٥) وقال : «هذا حبيبي جبريل

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير ٣ / ٤٧ رقم ٢٦٤٤. والبيهقي في السنن ٢ / ٢٦٣. وابن خزيمة في صحيحة ٢ / ٤٨ رقم ٨٨٧. والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٧٩ ، وقال : رجال ثقات. والبزار ٢ / ٣٣٩ رقم ١٩٧٨. والطبراني في الأوسط ٥ / ١٠٢ رقم ٤٨٩٥ عن أبي هريرة : «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني ، ومن أبغضهما فقد أبغضني».

(٢) ديوانه ص ٢٠٢ ، الشافي ٣ / ٧٥. ويليهما :

أنا ابن من إذا أصابه غضب

يغضب ربّ السماء من غضبه

خليفة الله من بريّته

وهو شريك النبي في نسبه

دون بني هاشم ودون ذوي القر

بى إليه من عبد مطّلبه

والإمام عبد الله بن حمزة أشعر الأئمة بلا نزاع وسنحقق ديوانه إن شاء الله.

(٣) في (ب) : بحذف جملة.

(٤) في (ب) : بهما.

(٥) النواجذ : الأنياب

يخبرني عن الله أنّ ابنيّ : الحسن والحسين في حظيرة لبني النجار ، وقد وكّل الله بهما ملكا من الملائكة جعل أحد جناحيه تحتهما وأظلّهما بالآخر» ، ثم قال لأصحابه : «قوموا ننظر إليهما على هذه الصفة» ؛ فأتاهما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخلها فوجدهما نائمين والملك موكل بهما ، فانكبّ عليهما يقبّلهما وبكى فرحا ممّا رآهما عليه ، ثم أيقظهما فحمل الحسن على عاتقه الايمن والحسين على عاتقه الأيسر ؛ فلما خرج من الحظيرة اعترضه أبو بكر ؛ فقال يا رسول الله : أعطني أحد الغلامين أحمله عنك فقال : «يا أبا بكر نعم الحامل والمحمول ، وأبو هما خير منهما». فاعترضه عمر بمثل قول أبي بكر فأجابه بمثل جوابه ، وقال : «والله لأشرّفنّهما كما شرّفهما الله». والقصة طويلة والغرض الاختصار.

وفي بعض الأخبار «فنعم المطية مطيتهما ، ونعم الراكبان هما ، وأبو هما خير منهما» (١) ، فقال : في ذلك السيد الحميري من قصيدة له في أهل البيت (ع) :

أتى حسنا والحسين الرسو

ل وقد برزا ضحوة يلعبان

فضمّهما وتفدّاهما

وكانا لديه بذاك المكان

ومرّا وتحتهما منكبا

ه فنعم المطية والرّاكبان

ومن فضائلهما : ما رويناه من كتاب المصابيح ، وهو أنّ جبريل عليه‌السلام كان يأتي منزل فاطمة الزهراء صلوات الله عليها فإذا ارتفع ضرب بجناحه فتنافرت (٢) زغب (٣) ريشه فكانت فاطمة (ع) تأخذه فتجمعه وتعجنه بعرق

__________________

(١) أخرجه الطبراني في الكبير ٣ / ٦٥ رقم ٢٦٧٧. وفي ذخائر العقبى ص ١٣٠. ومجمع الزوائد ٩ / ١٨٢.

(٢) في (ب) : فتناثر.

(٣) الزغب : الشعيرات الصّفر على رأس الفرخ. المصباح ص ٢٧٢.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتفوح (١) منه رائحة المسك. ومن غير هذه الطريق فتجعله تمائم للحسن والحسين (ع) تعلّقه عليهما (٢). وقد ذكر أيضا في المصابيح إلى غير ذلك من فضائلهما ؛ فإنها أكثر من أن نأتي على جميعها. وليس غرضنا إلا الإشارة فقط ؛ إذ فضلهما مما لا يحتاج فيه إلى شرح وبرهان لكونه في ظهوره كالمشاهدة بالعيان ، وبذلك ثبت الفصل الثاني وهو : في ذكر طرف يسير من فضائلهما.

وأما الفصل الثالث :

وهو في ذكر طرف يسير من مثالب معاوية بن أبي سفيان

وولده يزيد بن معاوية [....] ففي ذلك مطلبان :

أحدهما : في ذكر معاوية ، والثاني : في ذكر يزيد :

أما المطلب الاول :

وهو في ذكر معاوية وأبيه صخر وولده يزيد الجبار العنيد

أما أبوه صخر فهو قائد الأحزاب ، ومخالف حكم الكتاب ، الذي ركب بعيرا أحمر يوم الأحزاب ، ومعاوية يسوق به ، وعتبة بن صخر أخو معاوية يقود به ، فلعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الجمل والقائد والراكب والسائق (٣). ولعن رسول الله

__________________

(١) في (ب) : فيفوح.

(٢) الطبري في ذخائره ص ١٣٤. والشافي ٤ / ١١٥. ولم يذكر أن فاطمة كانت تعجنه بعرق رسول الله.

(٣) الطبراني ٣ / ٧٢ برقم ٢٦٩٨. مجمع الزوائد للهيثمي ١ / ١١٣ ، وذكر بعده : فقال عمار يوم صفين : والله ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلما رأوا عليه أعوانا أظهروه ٧ / ٢٤٧. وشرح نهج البلاغة ٢ / ٤٦١ في مناشدة الحسن ومعاوية وعمر.

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان ، وهو صخر في سبعة مواطن : لعنه يوم لقيه خارجا من مكة مهاجرا إلى المدينة وأبو سفيان واصل من الشام فوقع فيه وسبّه وكذّبه وأوعده وهمّ أن يبطش به فصدّه الله عنه. ولعنه يوم أحد حين قال أبو سفيان : أعل هبل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله أعلى وأجلّ» ، فقال أبو سفيان : لنا العزّى ولا عزّى لكم ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الله مولانا ولا مولى لكم ، ولعنة الله وملائكته ورسله عليكم. ولعنه يوم بدر. ولعنه يوم الأحزاب. ولعنه يوم حملوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة وهم اثنا عشر رجلا : سبعة من بني أمية وأبو سفيان منهم (١). ولعنه يوم همّ أبو سفيان أن يسلم فنهاه معاوية عن الإسلام (٢) وكتب إليه شعرا يقول فيه :

يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا

بعد الّذين ببدر أصبحوا مزقا

جدي (٣) وخالي (٤) وعمّ الأم (٥) يا لهم

قوما وحنظلة المهدي لنا الأرقا (٦)

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : فيهم.

(٢) ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ٤٦١ ، عن الحسن ولم يذكر السابعة أنه يوم همّ أن يسلم وربما السابعة أنه يوم الجمل في يوم المناشدة. والأميني في الغدير ذكر ما يؤكد ذلك ١٠ / ٨١.

(٣) جده أبو أمه هند : عتبة بن ربيعة الذي قتله عبيدة بن الحارث عبد المطلب رضي الله عنه.

(٤) خاله أخو أمه : الوليد بن عتبة ، قتله الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام. وفي الأصل : وعمي ، والأصح : وخالي.

(٥) عم أمه هو : شيبة بن ربيعة قتله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.

(٦) في شرح النهج الأبيات كلها مع اختلاف في البيتين التاليين :

جدي وخالي وعم الأم ثالثهم

وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا

فالموت أهون من قول العداة لقد

حاد ابن حرب عن العزى لنا فرقا

فالموت أهون من قول السّفاه لقد

خلّى ابن حرب لنا العزّى لنا فرقا

فإن أتيت أبينا ما تريد فلا (١)

نثني عن اللات والعزى لنا عنقا (٢)

ولعنه يوم الهدي معكوفا أن يبلغ محلّه فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يطف بالبيت ، ولم يقض نسكه (٣). وهو الذي نكث البيعة (٤). وهو الذي قال للعباس بن عبد المطلب بعد أن أسلم بزعمه : إنّ ابن أخيك أصبح في ملك عظيم ، فقال له العباس : إنه نبوّة ، فقال صخر : إنّ في نفسي منه شيئا ، وهذا يدل على نفاقه ، وهو الذي قال بعد ما كفّ بصره يوم بويع لعثمان : أرجو أن يعود ديننا كما عاد ملكنا (٥) ، يعني بدينهم عبادة الأصنام.

ثم معاوية أمه هند بنت عتبة آكلة أكباد الشهداء في يوم أحد فإن من قصتها أنها حرّضت على القتال ، وأنشدت الأشعار تحثّ بها الأبطال ، فقالت في بعض قولها :

__________________

(١) في الأصل و (ب) : ولا. والأصح ما ذكر ؛ لأن جواب الشرط مربوطا بالفاء.

(٢) أنظر شرح نهج البلاغة ٢ / ٤٦١. في حديث المناشدة.

(٣) ذكر ذلك ابن أبي الحديد في شرح النهج ٢ / ٤٦٢ ، وهي أحدى السبع. والأميني في الغدير ١٠ / ٨٢. هو يوم الحديبية.

(٤) ربما أراد بيعة الإسلام حيث أظهره وأبطن الكفر.

(٥) روى المقريزي في النزاع والتخاصم ص ٢٠ : دخل أبو سفيان على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال : قد صارت إليكم بعد تيم وعدي ؛ فأدرها كالكرة واجعل أوتادها لبني أمية ، فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. وفي لفظ المسعودي ج ١ : يا بني عبد مناف ؛ تلقفوها تلقف الكرة ؛ فو الذي حلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ، ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة.

ويها بني عبد الدار

ويها حماة الأدبار (١)

ضربا بكل بتّار

وقالت (٢) وهي تضرب بالدف :

نحن بنات طارق

نمشي على النمارق (٣)

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

ثم مثّلت بالشهداء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي والنسوة من قريش ، وكنّ يجدّ عن الآذان والأنف ، حتى اتّخذت هند من أذان الرجال وأنفهم خدما (٤) وقلائد ، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطتها وحشيّا ، عبد جبير بن مطعم ، وهو قاتل حمزة رحمه‌الله ـ وبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها ، ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمّه وبكري

شفيت نفسي وقضيت نذري

شفيت وحشيّ غليل صدري

__________________

(١) في الأصل : الأذمار ، والمحفوظ والمشهور ما ذكر.

(٢) في (ب) : وقالت أيضا.

(٣) في (ب) زيادة بعده : والمسك في المفارق.

(٤) الخدمة ـ محركة : السير الغليظ المحكم مثل الحلقة تشد في رسغ البعير فيشد إليها سرائح نعلها. القاموس ص ١٤٢١. وفي بعض النسخ : خذما والخذم : القطع ، وخضمت الشيء قطعته. مقاييس اللغة ٢٩١.

فشكر وحشيّ عليّ عمري

حتّى ترمّ أعظمي في قبري (١)

وأما معاوية فلم يدخل في الاسلام إلا فرقا ، ولم يقم عليه إلّا نفاقا. ثم من جملة مثالبه منازعته الخلافة لعلي عليه‌السلام ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نازع عليّا الخلافة فهو كافر» (٢) ، فكان ذلك معاوية. وروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قاتل عليّا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان» (٣) ، فكان ذلك معاوية. وروينا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاضربوا عنقه» (٤) ، رواه جماعة

__________________

(١) أنظر سيرة ابن هشام ٣ / ٧٦ ـ ١٠٦ ، وابن كثير في سيرته ٣ / ٣١ ـ ٧٤ ، والمغاري للواقدي ١ / ٢٢٥ وما بعدها إلى نهاية غزوة أحد. والسيرة الحلبية ٢ / ٢٢٥.

(٢) ابن المغازلي ص ٤٨ رقم ٦٨. إذا صح الحديث فيحمل على أنه كافر تأويل ؛ أو كافر نعمة ، ويتوجه الحديث لمن حمل السيف في نزاعه مع علي فهو هالك قطعا سواء سمي فاسقا أو كافرا ؛ لأن حكم علي حكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عدا النبوة. كما وردت بذلك النصوص القاطعة.

(٣) أخرجه المتقي في كنز العمال ١ / ٢٠٩ رقم ١٠٤٦ ، وعزاه إلى الديلمي.

(٤) تأريخ بغداد بلفظ : فاقتلوه ١٢ / ١٨١ عن الحسن. والذهبي في ميزانه وصححه ٢ / ١٢٩ ، وابن حجر في تهذيب التهذيب ٥ / ١١٠ ، ٧ / ٣٢٤ ، والطبري في تاريخه ، والبلاذري في أنساب الأشراف بإسنادين صحيحين ، وابن عدي في الكامل ج ٥ ص ٩٨ ، ١٠٣ بسندين في ترجمة عمر بن عبيد عن الحسن ، وعن أبي سعيد ٦ / ٤٢٢ ، وعنه أيضا بلفظ : فارجموه ٥ / ٢٠٠. وأيضا عنه : «إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه» ، وأيضا عن ابن مسعود ٢ / ١٤٦ ، ٢٠٩ ، وعن أبي سعيد أيضا ٥ / ١٠١ ، ٣١٤. وقد استوفى الأميني في الغدير [١٠ / ١٤٣] ما قيل حول إسناده فليراجع. ويقوي هذا الحديث ما روى : إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الأخر منهما ؛ فهذا الحديث كالصريح في قتل معاوية. وحديث : «من قاتل عليّا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان». والذهبي في تاريخ الإسلام عهد معاوية ص ٣١٢. ومحمد بن سليمان الكوفي ٢ / ٣١٨.

منهم أبو سعيد الخدري وجابر وحذيفة وابن مسعود في آخرين. قال الحسن بن أبي الحسن البصري : فلم يفعلوا فأذلّهم الله (١). وروينا عن محمود بن لبيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ سيريد الأمر بعدي فمن أدركه منكم وهو يريده فليبقر (٢) بطنه» (٣). وروينا عن عبد الله بن عمرو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يطلع عليكم رجل من أهل النار» (٤) ، فاطّلع معاوية. وروينا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يموت معاوية على غير ملتي» (٥) ، فأخبرنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه يموت على غير ملته. وخبره صدق لا كذب فيه. وسئل الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه‌الله : معاوية أفصح أم الحسن بن عليّ؟ فقال : معاوية حمار نهّاق (٦). وروينا أن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) قال لمعاوية في جملة كلام زرى عليه فيه أفعاله ، وذكر مثالبه ثم قال : ومنها أنّ عمر بن الخطاب ولّاك الشام فخنته ، وولّاك عثمان بن عفان فتربصت به ، وقاتلت عليّا على أمر كان

__________________

(١) الخطيب في تاريخه ١٢ / ١٨١.

(٢) بقره كمنعه : شقّه ووسّعه ، القاموس ٤٥٠.

(٣) الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي ٤ / ٤١.

(٤) ينظر المناقب للكوفي ٢ / ٣١٣ في هامش الأصل : ليت هذا الحديث كفّ من عرام عبد الله بن عمرو وأبيه ؛ فإن أصحاب معاوية كلهم لم يقاتل الواحد منهم إلا بسيف واحد ، وقاتل عبد الله بسيفين في صفين.

(٥) أخرجه محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه ١ / ٣١١ ، وفي هامشه : أخرجه البلاذري في أنساب الأشراف بسندين في ترجمة معاوية.

(٦) الشافي ١ / ١٦٠ بلفظ : يا أبا سعيد! أمعاوية كان أحلم أم الحسن ، فقال : وهل كان معاوية إلا حمارا نهاقا ، وأيضا برواية أخرى ١ / ١٦٥ ، أنه لما سئل عنه فقال : هل كان إلا حمارا نهاق وكيف يكون حليما من نازع الأمر أهله وطلب ما ليس له وسب خير خلق الله ، وحارب عترة رسول الله.

أولى به منك عند الله ، فلما بلغ الكتاب أجله صار إلى خير منقلب ، وصرت إلى شر مثوى ، وقد خفّفت عنك من عيوبك (١) ، فأقره معاوية ولم يكذبه وهو في معرض المجادلة.

وكان معاوية كافرا في الباطن مظهرا للإسلام ، فكان من جملة المنافقين ، ثم كان يعمل الأصنام ويأمر بها على وجه التجارة تباع له في بلد الكفار.

ثم لمّا مات الحسن بن علي عليه‌السلام استلحق زياد ابن أبيه ـ هذه تسميته عندهم ـ وقد أجمعت الأمة على صحة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ؛ فاستلحق زيادا وادعى أنه أخوه بالعهر ، وصحّح نسبه بذلك فكان ردا لما علم من دين النبي ضرورة ، والرادّ لما هذه حاله كافر بالإجماع بين المسلمين المتمسكين بشريعة الإسلام ، وكفر (٢) ظاهرا وأظهر ما كان يبطنه من الكفر وقد قال الشاعر في استلحاقه زيادا :

ألا أبلغ (٣) معاوية بن حرب

مغلغلة من الرّجل اليماني

أتغضب أن يقال : أبوك عفّ

وترضى أن يقال : أبوك زان!

فأقسم إنّ إلّك (٤) من زياد

كإلّ الفيل من ولد الأتان (٥)

__________________

(١) معناه : أنه لم يذكر كل عيوبه.

(٢) في (ب) : فكفر.

(٣) في (ب) : بلّغ.

(٤) الإلّ : القرابة.

(٥) هو ليزيد بن مفرغ الحميري. ينظر الشافي ١ / ١٦١. والطبري ٥ / ٣١٨. والأغاني ١٨ / ٤٣٦.

وروي عن الحسن بن أبي الحسن البصري (١) أنه قال : أربع خصال في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن كانت موبقة : خروجه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزّها أمرها بغير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة. واستخلافه يزيد ، وهو سكّير خمّير ، يلبس الحرير ويضرب بالطنابير. وادّعاؤه زيادا وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» (٢). وقتله حجر بن عدي. فيا له من حجر وأصحاب حجر (٣).

__________________

(١) تابعي زاهد مفسر ومحدث ، توفي ١١٠ ه‍. ينظر المعارف ٤٤٠ ، وسير أعلام النبلاء ٤ / ٥٦٣.

(٢) رواه الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي ١ / ١٦١ حيث قال : قد أجمعت الأمة على صحة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الولد للفراش وللعاهر الحجر» ، وعلمنا ضرورة أن معاوية استلحق زيادا ، وادعى أخوته بالقهر ، وصحح نسبه بذلك ؛ فكان ردّا لما علم من دين النبي ضرورة ، والرادّ لما علم من دين النبي ضرورة كافر بإجماع أهل العلم. وأخرج هذه الحديث أبو داود : [٢ / ٧٠٥ رقم ٢٢٧٣]. والنسائي : [٦ / ١٨٠ رقم ٣٤٨٢ ، ٣٤٨٣ ، ٣٤٨٤ ، ٣٤٨٥ ، ٣٤٨٦]. وابن ماجة : [١ / ٦٤٧ رقم ٢٠٠٦ ، ٢٠٠٧]. وأيضا البخاري : [٢ / ٧٧٣ رقم ٢١٠٥ ، ٢ / ٨٥٢ رقم ٢٢٨٩ ، ٣ / ١٠٠٨ رقم ٢٥٩٤. ٤ / ١٥٦٥ رقم ٤٠٥٢ ، ٦٣٦٨ ، ٦ / ٢٤٨٤ رقم ٦٣٨٤ ، ٦ / ٢٤٩٩ رقم ٦٤٣٢ ، ٦ / ٢٦٢٦ رقم ٦٧٦٠]. وأحمد بن حنبل [١ / ٢٢٣ رقم ٨٢٠. ج ٣ ص ٢٨ رقم ٧٢٦٦ ، وغيرها من الروايات. أما قصة الاستلحاق فهي مشهورة متواترة ، ينظر تأريخ الطبري ٥ / ٢١٤. وابن الأثير ٣ / ٢١٩ ـ ٢٢١. والذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥. وابن كثير في البداية والنهاية ٨ / ١٠٢. والشافي ١ / ١٦١. والمسعودي في مروج الذهب ٣ / ٨. قال الإمام عبد الله بن حمزة في الشافي [٣ / ٣٨] : أما أنا وآباؤنا عليهم‌السلام لم نختلف في تكفير معاوية ؛ لخلافه لما علم من دين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة من ادعائه زيادا وهذا لا يمكنه إنكاره ، وإنكار الخبر.

(٣) الطبري ٥ / ٢٧٩. وابن الأثير ٣ / ٢٤٢ بتفاوت يسير. وابن كثير في البداية والنهاية ١ / ١٣٩. والاصابة ١ / ٣١٣ رقم ١٦٢٩ ، وأسد الغابة ١ / ٦٩٨ رقم ١٠٩٣ ، والاستيعاب ١ / ٣٩٠.

ومن مثالب معاوية : أنّه أول من تكلم بالجبر (١) في هذه الامة ، وأول من اختطب به فيمن يعتزي إلى الإسلام ، كما روينا أنه اختطب بالشام فقال : إنما أنا خازن من خزّان الله أعطي من أعطاه الله ، وأمنع من منعه الله ، فقام أبو ذر رحمه‌الله فقال : كذبت يا معاوية إنك لتعطي من منعه الله ، وتمنع من أعطاه الله ، فقال : عبادة بن الصامت رحمه‌الله : صدق أبو ذر ، وقال أبو الدرداء رحمه‌الله : صدق عبادة (٢). وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقنت بلعن خمسة وهم : معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وأبو الأعور السلمي ، وأبو موسى الأشعري ، وبسر بن أرطاة (٣).

__________________

(١) الجبر قول العاصي بأنه مجبر من الله على فعل المعصية ، كقول إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي).

(٢) رواه الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه‌السلام في الشافي ١ / ١٣١ ، ٤ / ١٢٧. وأبو طالب في شرح البالغ المدرك ص ٩٩ ، والاساس ٢ / ٢٨.

(٣) لا شك لدى علماء المسلمين أن عليّا عليه‌السلام خليفة راشد ، وكبير الصحابة ، وله من السابقة والجهاد والزلفة من الله ما يجعله جديرا بالحديث الشريف : «لعنتك من لعنتي» ، مجموع الإمام زيد ٤٠٤ ، فمن لعنه عليّ فكأنما لعنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا مسوغ لاستثناء الصحابة من هذا الحكم فحكم الإسلام جار على الجميع ، ولا شأن لنا بمن يضفي التعديل على جميع الصحابة حتى غير العدول ذهابا إلى سد الطريق أمام الروافض كما يقال : فخيار الأمور أوسطها لئلا نظلم بريئا أو نبرئ ظالما. والله أعلم. وزادوا الوليد بن عقبة ، وكان شديد البغض لعلي عليه‌السلام وهو الفاسق المذكور في الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ ..) الآية ، وأبوه عقبة بن أبي معيط قتله الإمام علي عليه‌السلام في غزوة بدر ، وقد جلد الإمام علي عليه‌السلام الوليد في خلافة عثمان حدّا ، وعزله عثمان عن الكوفة. والضحاك بن قيس. وحبيب بن مسلمة. ومروان بن الحكم. أخرج ذلك الإمام الهادي في الأحكام ١ / ١٠٩. والإمام عبد الله بن حمزة في الشافي ٤ / ٤٨ ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ١ / ٢٨٩ عن نصر بن مزاحم في وقعة صفين ص ٥٥٢. والطبري في تاريخه ٥ / ٧١. وابن كثير في البداية والنهاية ، وذكر أنه لما بلغ ذلك معاوية قنت وكان يلعن عليّا وحسنا وحسينا والأشتر وابن عباس. ينظر ابن الأثير في الكامل ٣ / ١٦٨ ، وهو خبر مشهور.

فصل : في شبه الحشوية التي يحتجون بها :

الشبهة الاولى :

قولهم : إن معاوية كاتب الوحي (١) وذلك يقتضي الفضيلة. وجوابها : أنّ كتابة الوحي لا تدل على فضله ؛ لنقضه لذلك بفعله ؛ إذ قد كتب الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، ولا شك ولا إشكال في كفره ونفاقه. ومن الظاهر عند العلماء أنه كان يكتب الوحي مكان غفور رحيم ، عليم حليم ، فيقول : أمرهما سواء (٢) ، فلمّا أملى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) فلما بلغ آخر الآية تعجّب ابن أبي سرح فقال : تبارك الله أحسن الخالقين ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهكذا أنزل فشكّ ابن أبي سرح وارتد ثم أسلم» (٣). وقيل : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدر (٤) دمه ، فلما كان يوم الفتح شفع فيه عثمان بن عفان فشفّعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وولّاه عثمان في ولايته مصر فأثار الفتنة حتى قتل عثمان. وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الارض لا تقبله ، فلما مات دفن فلفظته الأرض ولم تقبله ، فلو كانت كتابة الوحي دلالة على الفضل على كل

__________________

(١) الصحيح أنه ما كتب الوحي ، وإنما كتب إلى الملوك كما ذكر ذلك ابن أبي الحديد وغيره. ولو سلمنا بكتابة الوحي فذلك أعظم حسرة ، وأكبر حجة على كاتب وحي يرتكب العظائم في حق الإسلام والمسلمين ، فلو فعل ذلك عامر بن الطفيل أو نحوه لهان الأمر.

(٢) أخرج ذلك بن الأثير في أسد الغابة ٣ / ٢٦٠ قال : كان يكتب الوحي لرسول الله ثم ارتد مشركا ، وصار إلى قريش بمكة فقال لهم : إني كنت أصدق محمدا حيث أريد ، كان يملي علي عزيز حكيم ، فأقول : أو عليم حكيم ، فيقول : نعم كل صواب.

(٣) في هامش (ب) ينظر في ذلك. فالذي يظهر أن هذه القصة لا تصح أصلا.

(٤) في (ب) ، و (ج) : نذر. وفي هامش (ب) : هدر.

حال لوجب القضاء بفضل ابن أبي سرح ، وفي علمنا ضرورة بخلاف ذلك دلالة على أنها لا تقتضي الفضل (١).

وقد روينا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر يوما معاوية ليكتب له ، وأرسل إليه رسولا فرجع بغير شيء ، وقال الرسول : هو يأكل ، فأعاد ذلك مرارا كلّ ذلك يقول : هو يأكل ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم لا تشبع بطنه» (٢). وذكر ذلك الحسن بن علي (ع) لمعاوية في جملة الكلام الذي ذكرنا بعضا منه أوّلا ثم قال له : فنشدتك الله (٣) ، ألست تعرف تلك الدعوة في نهمتك وأكلتك ورغبة بطنك؟ (٤). فلم ينكر عليه معاوية قوله ، وأقره عليه في معرض الحجاج والجدال.

الشبهة الثانية :

قولهم : إنّ معاوية من الصحابة (رض) فله حقّ الصحبة ، وهي تقتضي الفضل. جوابها : أن الصاحب قد يكون مؤمنا ، وقد يكون كافرا ، وقد يكون برّا ، وقد يكون فاجرا. قال الله سبحانه : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ) [الكهف : ٣٧] ، وقد كان عبد الله بن أبي بن سلول من جملة من شمله اسم الصحابة ، وكذلك صخر ابن حرب. فصحبة معاوية كصحبتهما ؛ إذ هو من جنسهما ، وحكمه حكمهما.

__________________

(١) في (ب) : لا تقضي بالفضل.

(٢) أخرجه مسلم ٣٤ / ٢٠١٠ برقم ٢٦٠٤ عن ابن عباس. والنسائي ١ / ٥ من مقدمة الحسني ، عند ما قيل له : ألا تخرج فضائل معاوية كما أخرجت فضائل علي؟ قال : أي شيء أخرج؟ اللهم لا تشبع بطنه ، فقتله أهل الشام كما هو مشهور.

(٣) في (ب) بالله.

(٤) ابن أبي الحديد ٢ / ٤٦١ ، عند ما بعث إليه ليكتب كتابا إلى بني خزيمة.

الشبهة الثالثة :

قولهم : إنّه صهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وخال جميع المؤمنين ، وكلّ ذلك دليل على الفضل. جوابها : أن صفية ابنة حيي بن أخطب رحمة الله عليها كانت تحت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضرب عليها الحجاب ، كما كانت أم حبيبة ابنة أبي سفيان تحته ، وكان أخو صفية يهوديّا ، وهو مع ذلك صهر الرسول ، وخال المؤمنين ، فلم تعصمه الصهارة والخؤولة عن النار ، وعن الحكم عليه بالإكفار ، وأوصت له أخته صفية رحمة الله عليها بثلاثين ألفا مع استمراره على اليهودية ، فأجاز وصيتها المسلمون وصار ذلك أصلا في جواز الوصية للكفار المعاهدين ، فكذلك صهارة معاوية وخئولته لن يعصماه من النار ، وعن وخيم القرار.

وبعد فإنّ حال معاوية في القرابة بالصهارة وبكونه خالا للمؤمنين لا يزيد على حال أبي لهب وهو عم الرسول بلا خلاف ، وكان من أهل النار قطعا ؛ ولأنّ ولادة النّبوّة أبلغ في باب الحرمة من خئولة الإيمان ، فلم تعصم ولد نوح عليه‌السلام ولادته لمّا عصى الله عزوجل ، فإذا كان كذلك في أولاد الأنبياء (ع) فبطريقة الأولى أنّ معاوية بذلك أولى. أين معاوية من أمير المؤمنين؟ الذي قال فيه الصادق (١) الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأكرمين : «يا عليّ بحبّك يعرف المؤمنون ، وببغضك يعرف المنافقون. من أحبّك من أمّتي فقد برئ من النّفاق ، ومن أبغضك لقي الله عزوجل منافقا» (٢). وقال فيه أيضا : «أنت أمير المؤمنين ، وخير الوصيين ، وأولى الناس بالنبيين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وقاتل النّاكثين والقاسطين

__________________

(١) في (ب) : بزيادة المصدّق. وكتب فوقها حشو زائد.

(٢) مجموع الإمام زيد ص ٤٠٥.

والمارقين» (١). وعنه عليه‌السلام أنه قال : دخلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضع رأسه في حجر دحية الكلبي (٢) ، فسلمت عليه ، فقال لي دحية : وعليكم السّلام يا أمير المؤمنين ، وفارس المسلمين ، وقائد الغرّ المحجّلين ، وقاتل النّاكثين ، والمارقين ، والقاسطين ، وإمام المتقين ، ثم قال لي : تعال خذ رأس نبيّك في حجرك فأنت أحق بذلك ، فلمّا دنوت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضع رأسه على حجري لم أر دحية ، وفتح الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينه (٣) ، فقال لي : «لم يكن دحية ، وإنما كان جبريل أتاك ليعرّفك أن الله سمّاك بهذه الأسماء» (٤). وفي الحديث أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أصحابه أن يسلموا على عليّ بأمير المؤمنين ، فقال عمر بن الخطاب : هذا رأي رأيته ، أم وحيا (٥) نزل؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل وحي نزل. فقال عمر بن الخطاب : سمعا لله وطاعة. وروينا أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أخي ، ووصيي ، ووارثي ، وخليفتي في أهلي ، ومنجز وعدي ، وقاضي ديني ، عليّ بن أبي طالب». ووضع يده على صدره فقال : «أنا المنذر ولكلّ قوم هاد» ، وأومأ بيده إلى علي ، فقال : «أنت الهادي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ سيد البشر» ، قالت عائشة : أنت يا رسول الله سيد البشر! قال : «أنا سيّد الرّسل ، وعليّ سيد البشر». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ خير البشر فمن أبى

__________________

(١) على فصوله شواهد وقد سبق تخريجها.

(٢) كان جبريل ينزل في صورة دحية بطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن صورته كانت بهية.

(٣) في الأصل : ظنّن عليها. وفي (ب) ، (ج) : ساقطة ولا يصح المعنى إلا بها.

(٤) الحدائق الوردية ١ / ٢٤.

(٥) في (ب) وهامش (أ) : وحي ؛ وكأن المعنى أم هو وحي.

فقد كفر» (١). وعن أبي هريرة أنه قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، فقال : «أنا حرب لمن حاربتم ، سلم لمن سالمتم» (٢).

فليت شعري ما تقول الحشوية والأموية إذا كان معاوية حربا لعلي عليه‌السلام ولأسباطه؟ فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حربه بمقتضى هذا الخبر ، كيف ينجو من حاربه الرسول؟ وكيف يعتقد إمامته أحد من أهل العقول؟ وبذلك ثبت المطلب الأول وهو في ذكر مثالب معاوية.

أما المطلب الثاني : وهو في ذكر يزيد بن معاوية [....]

أما يزيد فلا شبهة في خروجه من الدين وانتظامه في سلك الكفرة المتمردين وهو الذي سفك دماء الذرية جهرا ، وسبى نساءهم قهرا. ولا شبهة عند العارفين أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس ، وتجري مجراه ، وأنّ ذلك من جملة البلاء ، العظيم على الآباء. وتصديق ذلك قول الله تعالى :

__________________

(١) محمد بن سليمان الكوفي ٢ / ٥٢٣. والخطيب في تاريخه ٧ / ٤٢١ .. وابن عساكر ٢ / ٤٤٤ ، عن حذيفة بن اليمان. وص ٤٤٦ عن جابر.

(٢) الترمذي ٥ / ٦٥٦ رقم ٣٨٧٠ عن زيد بن أرقم. قال المقبلي في الأبحاث المسددة ص ٢٤٢ : وحديث : «أنا حرب لمن حاربتم ، وسلم لم سالمتم». قاله لعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. أخرجه أحمد والطبراني ٣ / ٤٠ رقم ٢٦١٩ ، ٢٦٢١ والحاكم. وفي معناه عدة أحاديث. بعضها يعمهم ، وبعضها يخص الحسن والحسين حين خاطبهما وفي بعضها ما يعم أهل البيت في الجملة ، فمجموعها يفيد التواتر المعنوي ، وشواهدها لا تحصى مثل أحاديث قتل الحسين ، وأحاديث ما تلقاه فراخ آل محمد وذريته ، بألفاظ وسياقات يحتمل مجموعها مجلدا ضخما فمن كان قلبه قابلا فهو من أوضح الواضحات في كل كتاب ، ومن ينبو قلبه عنها فلا معنى لمعاناته بالتطويل. انتهى كلام العلامة المقبلي.

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩].

ويزيد الملعون هو الذي قتل من أولاد المهاجرين والأنصار ستة آلاف نسمة محرمة ، وهم قتلى حرّة واقم (١) ، وأمرهم ظاهر عند العلماء. وهو الذي أباح حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وقد حرّمه من عير إلى ثور ، وهما جبلان. وهو الذي نكت بالقضيب فم الحسين عليه‌السلام ، فإنه لمّا قتل وحمل رأسه إليه قرع ثناياه بالقضيب ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّلها ، وتمثل يزيد عند نكته ثناياه بالقضيب بأبيات ابن الزّبعرى :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل (٣)

إلى آخرها ، وزاد فيها :

لأهلّوا واستهلّوا فرحا

ثمّ قالوا يا يزيد لا شلل

لست من عتبة (٤) إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

فقال له بعض القائلين : نحّ قضيبك عن فمه فأشهد لقد رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّل موضع قضيبك منه. وروينا عن ابن عباس أنه قال : اشتد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي مات منه ، فحضرته وقد ضمّ الحسين عليه‌السلام إلى صدره يسيل

__________________

(١) هي بظاهر المدينة المنورة.

(٢) يشير إلى وقعة الحرة وسببها أن أهل المدينة رفضوا بيعة يزيد وبايعوا عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة فأرسل يزيد جيشا أثنى عشر ألفا بقيادة مسلم بن عقبة المري فاستباح الجيش اليزيدي مدينة الرسول ثلاثة أيام يقتلون الناس ويأخذون الأموال ، كان ذلك يوم الأربعاء ٢٨ ذي الحجة ٦٣ ه‍ ينظر الطبري ٥ / ٤٨٢ وما بعدها.

(٣) البداية لابن كثير ٨ / ٢٢٢.

(٤) لعله يشير إلى عتبة بن ربيعة والد أمه.

من عرقه عليه ، وهو يجود بنفسه ويقول : «ما لي وليزيد؟ لا بارك الله فيه ، اللهمّ العن يزيد. ثم غشي طويلا وأفاق فجعل يقبّل الحسين ، وعيناه تذرفان ، ويقول : «أما إنّ لي ولقاتلك مقاما بين يدي الله».

واختلف في سبب موت يزيد ، فقيل : سكر فرقص وسقط فأصاب رأسه الهاون فانصدع. وقيل : اندقت عنقه (١). وفيه يقول الشاعر :

أبني أمية إن آخر ملككم

جسد بحوّارين (٢) ثمّ مقيم

جاءت منيته وعند وساده

زقّ وكوز زاعف مزنوم

ومرنّة تبكي على شنواته

بالصّبح تقعد تارة وتقوم

ومثالبه أكثر من ذلك ، فلنقتصر على هذا القدر منها. وبذلك ثبت الكلام في المسألة الثانية من مسائل الإمامة.

المسألة الثالثة : في إثبات الإمامة بعد الحسن والحسين

في أبنائهما (ع) دون غيرهم : وفيها ثلاثة فصول :

الأول : في إثبات الإمامة فيهم دون غيرهم ما بقي التكليف. والثاني : في ذكر طرف يسير من فضائلهم ومناقبهم. والثالث : في ذكر أتباعهم وفضائلهم.

__________________

(١) ينظر سير أعلام النبلاء ٤ / ٣٧ ، وقال : وعن محمد بن أحمد بن مسمع قال : سكر يزيد فقام يرقص فسقط على رأسه فانشق وبدا دماغه ، وقال : وكان ناصبيا ، فظا غليظا ، جلفا ، يتناول المسكر ، ويفعل المنكر ، افتتح دولته بمقتل الحسين ، واختتمها بواقعة الحرة.

(٢) بلد بجانب حمص.

أما الفصل الأول : وهو في إثبات الإمامة بعدهما في أبنائهما

الطاهرين عليهم صلوات رب العالمين ففيه مبحثان :

أحدهما : في الدلالة على أنها لا تجوز فيمن عداهم. والثاني : في الدلالة على جوازها فيهم ، وبذلك يتم غرضنا من أنها محصورة فيهم.

أما المبحث الأول : وهو في الدلالة على أن الإمامة لا تجوز فيمن عداهم ما بقي التكليف ؛ فالذي يدل على ذلك أن العترة أجمعت على ذلك وإجماعهم حجة على ما بيّنّا ذلك في كتاب الإرشاد ، وفي كتاب النظام فثبت قولنا (١) : أنها لا تجوز فيمن عداهم ما بقي التكليف ، وبذلك ثبت المبحث الأول.

وأما المبحث الثاني : وهو في الدلالة على جوازها فيهم ؛ فالذي يدل على ذلك أن الإمامة شرعية ؛ إذ العقل يقضي بقبحها ؛ لأنها تقتضي التصرف في أمور ضارّة نحو القتل والصلب والجلد ونحو ذلك ، فيجب أن يكون دليلها شرعيا ، وهو إجماع الأمة على جوازها فيهم ، وإجماع العترة على جوازها فيهم لا في غيرهم (٢). وقول الإمامية باطل (٣) ؛ لأن التعبد بالإمامة عامّ ، فلو كان ما ادعوه من النص صحيحا لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا ، ومعلوم أنه غير ظاهر ولا مشهور ؛ فصح قولنا : إنّها جائزة في أهل البيت (ع) ، وإنها فيهم محصورة ، وعلى سواهم ما بقي التكليف محظورة.

فإن قيل : قد دللتم على أنها فيهم محصورة وعلى من سواهم ما بقي التكليف محظورة فما الذي يدل على وجوب الإمامة؟ قلنا : الذي يدل على

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : على أنها.

(٢) ينظر الدعامة ص ١١١. المطبوع تحت عنوان : نصرة مذاهب الزيدية.

(٣) يشير إلى قول الإمامية بأن الأئمة اثنا عشر نصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم بأسمائهم وأوصافهم وتفاصيل حياتهم بدقة فالمؤلف يقول : إن كلامهم لو كان صحيحا لما أستأثر بعلمه الإمامية دون سواهم إذ لا سبب يسوغ ذلك.

ذلك وجهان : أحدهما أن الصحابة (رض) أجمعت على وجوبها وإجماعهم حجة على ما فصلنا ذلك في كتاب النظام.

الوجه الثاني : قول الله سبحانه : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) [النور : ٢] ، وقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ، ونحو ذلك من آيات الحدود ، ووجه الاستدلال بهذه الآيات أن الله تعالى أمرنا بإقامة الحدود على الإطلاق من دون أن يعلّق ذلك بشرط ، والأمر يقتضي الوجوب فكان ذلك واجبا ، وذلك لا يتم إلا بوجوب الإمام فيجب أن تكون الإمامة واجبة.

وتحقيق هذه الدلالة أنها مبنية على خمسة أصول قد فصلناها وأوضحناها في كتاب النظام ، والغرض هاهنا هو الاختصار.

فإن قيل : فهل (١) تعتبرون في الإمامة شروطا مخصوصة أو لا؟ فإن كنتم تعتبرون شيئا من ذلك فبيّنوه ، قلنا : إن للإمامة شروطا : منها أن يكون المدّعي لها حرا ، وأن يكون فاطميا يعتزي بنسبته من قبل أبيه إلى الحسن أو الحسين (ع) ، وأن يكون بالغا. عاقلا. قويا على تدبير الأمر بحيث لا آفة به تمنعه ولا نقص في عقله يوهنه عن النظر في أمور الدين. وأن يكون مؤمنا شديد الغضب لله على المجرمين كثير التّحنّن بالمؤمنين. وأن يكون ورعا في الظاهر ، وتفسيره : أن يكون كافّا عن المحرمات ، قائما بالواجبات ، فيكون عدلا ظاهر العدالة في ظاهر الحال دون باطنه ، وأن يكون شجاعا بحيث لا يجبن عن لقاء أعداء الله تعالى ، ويجب أن يكون له من المواطن المشهورة ما يعلم به شجاعته ، ويستدلّ به على رباطة جأشه ، وثبات قلبه حتى يعدّ شجاعا وإن لم يكثر قتله وقتاله. وأن يكون سخيّا بحيث لا يكون معه بخل يمنعه عن وضع الحقوق في مواضعها ودفعها إلى مستحقيها.

وأن يكون عالما بتوحيد الله تعالى وعدله وما يتفرع عليهما ، وبجميع

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : هل.

أصول الشرائع ، فهما بأوامر القرآن ، والسنة ، ونواهيهما ، وعامّهما ، وخاصّهما ، ومجملهما ، ومبيّنهما ، وناسخهما ، ومنسوخهما ، عارفا بما اشتمل عليه كتاب الله تعالى من اللغة ، وبجملة من النحو إن لم يكن عربي اللسان بصيرا بمواضع الإجماع ، وطرف من الخلاف ، عارفا بجملة من الأخبار ، وبما يوجب العلم منها والعمل ، وبما يوجب العمل منها دون العلم ، وأن يكون عالما بجملة من وجوه الاجتهاديات والمقاييس ؛ ليمكنه رد الفرع إلى أصله ، وما لا بدّ منه في هذا الفن من العلم بأحكام أفعال النبي عليه‌السلام وتقريراته ، وأفعال العترة (ع) ، وتقريراتهم ، وأفعال الأمة وتقريراتهم.

وأن يكون فاضلا بحيث يكون أشهر أهل زمانه بالزيادة على غيره في خصال الإمامة. وأن يكون له من جودة الرأي وحسن التمييز ما يقتضي أن يفزع إليه في المشورة عند التباس الأمور ، ولا يجب أن يكون أسدّ (١) الأمة رأيا ، ولا أن يكون أعلمهم ولا أسخاهم ولا أشجعهم ؛ لأن ذلك ممّا يتعذر العلم به فيكون القول بوجوب اعتباره ساقطا.

والذي يدل على اشتراط هذه الشروط أن الصحابة (رض) أجمعت على وجوب اعتبارها في الإمام ، على ما ذكرناه في كتاب النظام وبيناه ، لا يخرج عن إجماعهم إلا اعتبار كونه فاطميا فلم يجمعوا عليه ، وقد دللنا على وجوب اعتبار كونه فاطميا فيما تقدم ، فلا فائدة في إعادته وبذلك ثبت الكلام في الفصل الأول ، وهو في ثبوت الإمامة في أهل البيت (ع) دون غيرهم ما بقي التكليف (٢).

__________________

(١) في (الأصل) : أشدّ ، وهو خلاف الأظهر.

(٢) قاعدة الحكم عند المسلمين لم تقم أساسا ، فالبعض يجيزها للغاصب والظالم ويوجب طاعته وبعضهم يجيزها بالوصية والوراثة وبعضهم يحصرها في قريش ، والإمامية قصرتها على اثنى عشر من أهل البيت من نسل الحسين ، وبعضهم يجيزها في العرب والعجم ، والزيدية تحصرها في أولاد فاطمة بشروط معروفة ، ويا ليت الشروط اكتملت في الحكام وكانوا من مسلمي الجن.

وأمّا الفصل الثاني :

وهو في ذكر طرف يسير من فضائلهم ومناقبهم

فاعلم أنّ الأخبار في فضائلهم ومناقبهم ، مدونة في الكتب المبسوطة ، ولا يمكن حصرها ولا حصر عشرها في كتابنا هذا ، فإنّا روينا أنّ حيّ الفقيه العالم الزاهد بقية الحفاظ فخر الدين زيد بن الحسن البيهقي الخراساني رحمة الله عليه ورضوانه (١) ما كان أكثر ما دعاه إلى الخروج إلى اليمن إلا الرغبة في زيارة قبر الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين الحافظ (ع) ، وكان يروي فضائل أهل البيت (ع) ومناقبهم بالأسانيد الصحيحة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يوم الخميس ويوم الجمعة كلّما دارا في سنة كاملة ، لم يعد خبرا مما رواه في فضائلهم ومناقبهم إلى أن كملت السّنة (٢) ، ويفيد المسلمين في سائر العلوم في غير هذا الفن من

__________________

(١) هو إمام المعقول والمنقول الزيدي ، اشتهر بنسبته إلى جدّه ، قال القاضي أحمد بن سعد الدين : إنه زيد بن علي بن الحسن بن علي. تتلمذ على يد الحاكم الجشمي وغيره ، كان كثير العبادة والورع ، واسع الهمة ، ممن اتّصل إسناد المجموع بهم ، تخرج عليه الكثير من علماء اليمن والعراق. خرج إلى اليمن سنة ٥٤١ ه‍ وأخذ عليه الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام ، والذي قدم عليه إلى هجرة محبكة ومعه كتب غريبة وعلوم عجيبة فسر به الإمام وتلقاه ، وكان ممن أخذ عليه أيضا القاضي جعفر بن عبد السّلام ، وكان السبب في رجوع الكثير من المطرفية. توفي بتهامة اليمن راجعا إلى العراق عام ٥٥١ ه‍ ، وموضع قبره في جهة الشقيق على بعد يوم من مدينة صبيا المسماة الآن بالثّراء وهو مشهور مزور. ينظر التحف ص ٢٣٥. وتراجم الرجال للجنداري ص ١٤. والفلك الدوار ص ١١٣. والروض النضير ١ / ١٥. ومطلع البدور (خ).

(٢) في هامش (ب) : بل مدة سنتين ونصف ، ذكر ذلك. والجنداري في تراجم رجال شرح الأزهار ص ١٥. ومطلع البدور ٢ / ١٣٥ (خ).

فنون العلم في غير هذين اليومين ، فإذا كان كذلك ـ وهو عالم واحد ـ كيف ممن عداه من سائر العلماء؟ (١).

واعلم أن أهل البيت (ع) على ضربين : منهم من ورد فيه النص معينا باسمه ، أو لقبه أو بهما جميعا ، أو وصف بصفة هي كالإشارة إليه ، وكالتنبيه عليه. ومنهم من شمله ما ورد من الفضائل فيهم عامة. فلنذكر الضرب الأول واحدا واحدا ، ونذكر طرفا مما ورد فيه على الخصوص ، ثم نتبع ذلك بذكر نبذة مما ورد في جماعتهم على وجه العموم فنقول وبالله التوفيق.

أولهم : أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام

وفضائله كثيرة منها : قول الله سبحانه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) [المائدة : ٥٥] ، نزلت في علي عليه‌السلام لما تصدق بخاتمه وهو راكع في الصلاة ، وعلى ذلك إجماع العترة (ع). وإجماعهم حجة (٢) كما تقدم بيانه.

ومنها قوله تعالى : (وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا

__________________

(١) هذا العالم موسوعي ، فعند ما يورد النص يسهب في الاستطراد والاستشهاد ويتعمق في البحث وإثارة دفائن النصوص ومدلولاتها بحيث يمكنه أن يشرح حول النص الواحد شهرا كاملا أو أسبوعا أو نحو ذلك ولا أظن بأنه في هذه المدة يسرد الأحاديث سردا ، ثم إن الحديث إنما هو في يومين في الأسبوع ، ولعله يقتصر على حديث أو اثنين فيذكر الإسناد وأحوال الرجال ويتعرض لشيء من سيرتهم وهكذا ، كما يحتاج للاستشهاد بالقرآن ونحوه ، فلا يظن المطلع أن في كلام المؤلف مجازفة.

(٢) بل وإجماع المفسرين. ينظر الدر المنثور ٢ / ٥١٩ والطبري مج ٤ ج ٦ ص ٣٨٩. وفتح القدير ٥٣ ، وقد سبق تخريجها.

صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف : ٤٦ ـ ٤٧]. روي (١) عن عبد الله بن العباس (رض) أنّ الأعراف موضع عال على الصراط ، عليه العباس وحمزة وعليّ وجعفر (رض) يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ، ومبغضيهم (٢) بسواد الوجوه (٣) ، تمّ كلامه (رض). ومتى قيل : فلم تأخر دخولهم الجنة؟ قلنا : لأنهم تعجلوا اللّذة بالشماتة على الأعداء ، وإن تأخّر دخولهم لظهور فضلهم ، وجلالة موقعهم فيشمتون بأهل النار ، ويهنئون أهل الجنة وهم يطمعون ، وهو طمع يقين كقول إبراهيم عليه‌السلام : (أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي) (٤) [الشعراء : ٨٢].

ومنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ) [المجادلة : ١٢]. ذكر علماء التفسير أن الصحابة كانوا قد أكثروا السؤال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان الأغنياء ربما يتولّون ذلك دون الفقراء ، فأراد الله أن يخفف على نبيه ، ويرفع منزلة الفقراء ، فنزلت آية الصدقة قبل المناجاة ، وهي ما تقدم ذكرها فبخل الأغنياء بمالهم ، فما ناجاه إلّا عليّ عليه‌السلام قدّم دينارا ثم ناجاه ، فما عمل بهذه الآية ، منهم سواه بلا خلاف بين المحصلين من الرواة ، ولهذا قال عليه‌السلام : إنّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ، ولا يعمل بها أحد بعدي (٥). وهو صادق في قوله ؛ لأنّ

__________________

(١) في (ب) : وروي.

(٢) في (ب) : ومبغضهم.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٢٦١ ، وذكر أن الثعلبي ذكره بالإسناد في تفسيره.

(٤) وهو قول الحسن وأبي علي الجبّائي. أنظر مجمع البيان ٤ / ٢٦٢.

(٥) الزمخشري ٤ / ٤٩٤. والقرطبي مج ٩ ج ١٧ ص ١٩٧. وشواهد التنزيل ٢ / ٢٣١ رقم ٩٤٩ ـ ٩٦٢. والدر المنثور ٦ / ٢٧٢. وتفسير الطبري مج ١٤ ج ٢٨ ص ٢٧. ومفاتيح الغيب مج ١٥ ج ٢٩ ص ٢٧٣. ومجمع البيان مج ٩ ج ٢٨ ص ٤١٧.

الله نسخ حكمها بقوله تعالى : (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) .. الآية. [المجادلة : ١٣].

ومنها قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) .. الآية [الحج : ١٩]. روى الإمام الحاكم العالم أبو سعيد المحسن بن كرامة الجشمي رحمه‌الله (١) ، بإسناده إلى قيس بن عباد القيسي (٢) ، قال : سمعت أبا ذر يقسم قسما أن هذه الآية ، وهي قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا). إلى آخرها ، نزلت في الذين برزوا يوم بدر ، الثلاثة والثلاثة : علي وحمزة وعبيدة ، وعتبة

__________________

(١) هو أبو سعيد المحسّن بن كرامة الجشمي البيهقي الحاكم ينتهي نسبه إلى محمد بن الحنفية ، ولد ٤١٤ ه‍ ونشأ نشأة كريمة تليق بمكانة أسرته ، بإقليم خراسان. شهرته تغني عن التعريف به فهو علّامة عصره ، وفريد دهره في علم التفسير والعدل والتوحيد ، وكتبه شاهدة له بالتقديم والتبريز ، كان معتزليا في الأصول وحنفيا في الفروع ، لكنه تحوّل إلى مذهب الزيدية. وتوفي شهيدا بالبلد الحرام على يد المجبرة ٤٩٤ ه‍ ، بسبب تأليف كتابه العجيب «رسالة أبي مرة إلى إخوانه المجبرة». وقيل : اسمها «رسالة إبليس إلى إخوانه المناحيس» وقد اطلعت عليها فبهرتني بأسلوبها الرائع البديع. وله التهذيب في التفسير. قيل : إن الكشاف مأخوذ منه بزيادة تعقيد. وتنبيه الغافلين عن فضائل أمير المؤمنين وخصصه في الآيات التي نزلت في الإمام علي ، وفي سائر أهل البيت ، ثم يذكر الآثار الدالة على أنها نزلت فيهم ، وعيون المسائل وشرحه. والمؤثرات. والإمامة. وتنزيه الأنبياء والأئمة. وجلاء الأبصار في تأويل الأخبار. والسفينة. والرسالة الغراء. وترغيب المبتدئ وتذكرة المنتهي. ونصيحة العامة. والمنتخب في فقه الزيدية. وغيرها. ينظر مطلع البدور. ولوامع الأنوار ١ / ٤٥٤. وللدكتور عدنان زرزور رسالة حول الحاكم ومنهجه في التفسير.

(٢) تابعي من أهل البصرة ، قدم المدينة أيام عمر بن الخطاب ، وكان ثقة ، قليل الحديث ، روى له الجماعة سوى الترمذي ، وهو ترابي ، وخرج مع ابن الأشعث ، قتله الحجاج. ينظر تهذيب الكمال ٢٤ / ٦٤ ، وطبقات ابن سعد ٧ / ١٣١.

وشيبة والوليد (١).

ومنها : ما رواه الحاكم أيضا بإسناده إلى عبد الله بن العباس أنه قال : ما أنزل الله في القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، إلا وعليّ أميرها وشريفها ، ولقد عاتب الله أصحاب محمد في غير آية من كتابه وما ذكر عليا إلا بخير (٢).

ومنها : ما رواه أيضا عن عبد الله بن العباس رضي الله عنه أنه قال : في قوله تعالى : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً) [البقرة : ٢٧٤] ، نزلت في علي بن أبي طالب ، لم يملك من المال إلا أربعة دراهم : تصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرا ، وبدرهم علانية. فقال رسول الله : ما حملك على هذا؟ فقال : حملني عليه أن أستوجب على الله ما وعدني. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا إنّ ذلك لك» ، فأنزل الله هذه الآية (٣).

__________________

(١) تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبين للحاكم ١٦٧ ، والبخاري [٤ / ١٤٥٨ رقم ٣٧٤٧. وص ١٤٥٩ رقم ٣٧٤٨ ، ٣٧٤٩ ، ٣٧٥٠ ، ٣٧٥١]. ومسلم في التفسير باب قوله تعالى : (هذانِ خَصْمانِ ..) ، [٤ / ٢٣٢٣ رقم ٣٠٣٣]. والحاكم في شواهده [١ / ٣٨٦ رقم ٥٣٢ ، ص ٣٩٢ رقم ٥٤٤]. وذكره المزي في ترجمة قيس بن عباد ٢٤ / ٦٩ ، وقال : أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من حديث هشيم ؛ فوقع لنا بدلا عاليا وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة من حديث ابن مهدي عن سفيان عن أبي هاشم ؛ فوقع لنا عاليا بدرجتين ، وليس له عند ابن ماجة غيره.

(٢) الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين ص ٣١ ، والحاكم الحسكاني في شواهده ١ / ٤٩ ـ ٥٤ رقم ٧٠ ـ ٨٢. وحلية الأولياء لأبي نعيم ١ / ١٠٣. وكنز العمال ١١ / ٦٠٤ رقم ٣٢٩٢٠ ، وفي كفاية الطالب ص ١٤٠ ، وقال : هكذا رواه البخاري وقد وقع إلينا عاليا من هذه الطريق. وابن عساكر في تاريخ دمشق بست طرق ٢ / ٤٢٨. رقم ٩٣٥.

(٣) تنبيه الغافلين ٤١ ، والواحدي في أسباب النزول ص ٧٦. والطبراني في الكبير ١١ / ٩٦ رقم ١١١٦٤. وشواهد التنزيل للحسكاني ١ / ١٠٩ رقم ١٥٥. وص ١١٥ رقم ١٦٣. والدر المنثور ١ / ٦٤٢. وأسد الغابة ٤ / ٩٨. وابن عساكر في ترجمته ٢ / ٤١٣ بطريقتين.

ومنها : ما رواه أيضا بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنه قال : لمّا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الغار ، وبات علي على فراشه يقيه بنفسه ـ أهبط الله جبريل على رأسه وميكائيل على جسده ، يقولان : بخ بخ لك ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة. فأنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) .. الآية (١). [البقرة : ٢٠٧].

ومنها : ما رواه أيضا بإسناده عن أنس في قوله تعالى : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) ... الآية. [الزمر : ٩] ، نزلت في علي بن أبي طالب (٢).

ومنها قوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] نزلت في علي بن أبي طالب والوليد بن عقبة لمّا باهاه. رواه الحاكم أيضا عن الحسن بن علي (ع) وعن غيره (٣).

ومنها : ما ذكره محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ، فأومأ بيده إلى علي فقال : «أنت الهادي ، يا عليّ بك يهتدى المهتدون من بعدي» (٤).

__________________

(١) تنبيه الغافلين ٣٨ ، وشواهد التنزيل ١ / ٩٦ رقم ١٣٣ ـ ١٤٢. ومجمع البيان ج ٢ ص ٥٦.

(٢) تنبيه الغافلين ٢٠٤ ، وتفسير فرات الكوفي ص ٣٦٣.

(٣) أخرجه الحاكم الجشمي في تنبيه الغافلين ١٨٩ ، والحاكم الحسكاني ١ / ٤٤٦ برقم ٦١٠ ـ ٦٢٣. وتفسير فرات ص ٣٢٨. والواحدي في أسباب النزول ص ٢٩١. والدر المنثور ٥ / ٣٤١. والطبري مج ١١ ج ٢١ ص ١٢٩.

(٤) الحاكم في شواهد التنزيل ١ / ٢٩٣ رقم ٣٩٨ ـ ٤١٥. والطبري في تفسيره مج ٨ ج ١٣ ص ١٤٢. والدر المنثور ٤ / ٨٧ ، والمستدرك ٣ / ١٢٩. والرازي في تفسيره مج ١٠ ج ١٩ ص ٢٠.

ومنها : قوله تعالى : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ). [الصافات : ٢٤] يعني عن ولاية علي بن أبي طالب. ذكره أبو الأحوص عن أبي (١) إسحاق (٢).

ومنها : ما رويناه عن أبي خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي (ع) أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : في قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم : ٥٠] ، قال : «أنت اللّسان يا عليّ ، بولايتك يهتدي المهتدون» (٣).

ومنها : ما رويناه عن الامام الناصر للحق بإسناده إلى عليّ (ع) أنه قال في قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) [هود : ١٧] قال : على بينة من ربه رسول الله ، ويتلوه شاهد منه أنا ، وفيّ نزلت (٤).

ومنها : ما رواه أيضا بإسناده أنّ قوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ) [التوبة : ١٩] ، نزلت في علي بن أبي طالب (٥). ومنها : قوله تعالى : (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) [الحاقة : ١٢]. روينا

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : ابن ، وهو تصحيف ، والمقصود به أبو إسحاق السبيعي كما في الحاكم الحسكاني.

(٢) انظر شواهد التنزيل ٢ / ١٠٦ ـ ١٠٨ رقم ٧٨٥ ـ ٧٩٠. ومجمع البيان ٨ / ٣٠١.

(٣) شواهد التنزيل ١ / ٣٥٧ رقم ٤٨٨ ذكر أنها نزلت في علي.

(٤) أنظر الحاكم الجشمي ١٤٤ ، وشواهد التنزيل ١ / ٢٧٥ ـ ٢٨٢ من رقم ٣٧٢ ـ ٣٨٧. وتفسير الحبري ص ٢٧٩. وابن المغازلي في المناقب ص ١٧٥ رقم ٣١٨. والطبري في تفسيره مج ٧ ج ١٢ ص ٢٢. والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٥٨٦.

(٥) شواهد التنزيل ١ / ٢٤٤ ـ ٢٥١ رقم ٣٢٨ ـ ٣٣٩. والسيوطي في الدر المنثور ٣ / ٣٩٥. والطبري في تفسيره مج ٦ ج ١٠ ص ١٤٢٦٤. وابن المغازلي في المناقب ص ١٩٨ رقم ٣٦٧ ، ٣٦٨.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : سألت الله أن يجعل ذلك الأذن عليا ففعل (١).

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] يعني أولياء الله نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٢). وتصديق ذلك ما رويناه عن زيد بن علي بإسناده إلى علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من آذى شعرة منك فقد آذاني». الخبر بطوله (٣). ونظيره ما رويناه عن الامام الهادي إلى الحق عليه‌السلام يرفعه بإسناده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أحبّك فقد أحبّني .. إلى آخره (٤).

ومنها : قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] .. الآية ، هو علي عليه‌السلام (٥).

__________________

(١) الحاكم في تنبيه الغافلين ١٢٧ ، والكشاف ج ٤ ص ٦٠٠. والطبري في تفسيره مج ١٤ ج ٢٩ ص ٦٩. والرازي في مفاتيح الغيب مج ١٥ ج ٣٠ ص ١٠٨. والدر المنثور ٦ / ٤٠٧. والقرطبي في تفسيره مج ٩ ج ٧١ ص ١٧١. والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ٢٧٢ ـ ٢٨٤ من رقم ١٠٠٧ ـ ١٠٢٩. والواحدي في أسباب النزول ص ٣٦١. والعمدة لابن البطريق ص ٣٥٢ وعزاه إلى الثعلبي. وحلية الأولياء ١ / ١٠٨.

(٢) شواهد التنزيل ٢ / ٩٣ رقم ٧٧٥ ، وتنبيه الغافلين ١٩٧.

(٣) شواهد التنزيل ٢ / ٩٨ رقم ٧٧٦ ، وتنبيه الغافلين ١٩٧ ، في الحديث المسلسل عن أبي خالد الواسطي : قال : حدثني زيد بن علي وهو آخذ بشعرة قال : حدثني علي بن الحسين وهو آخذ بشعرة قال : حدثني الحسين بن علي ، وهو آخذ بشعرة ، قال : حدثني علي بن أبي طالب وهو آخذ بشعرة ، قال : حدثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بشعرة : «من آذى شعرة منك فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله».

(٤) الأحكام ٢ / ٥٥٥ في باب : القول في فضل من يوالي آل محمد ، والخبر : «يا علي من أحب ولدك فقد أحبك ، ومن أحبك فقد أحبني ، ومن أحبني فقد أحبه الله ، ومن أحبه الله أدخله الجنة. ومن أبغضهم أبغضك ، ومن أبغضك أبغضني ، ومن أبغضني أبغض الله ، ومن أبغض الله كان حقيقا على الله أن يدخله النار». أو درر الأحاديث ص ٥١ للهادي.

(٥) في شواهد التنزيل ١ / ٦٧ رقم ١٠٦ (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) يعني بيانا ونورا للمتقين علي بن أبي طالب الذي لم يشرك بالله طرفة عين.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] ؛ فإنها نزلت في علي عليه‌السلام ، فما مؤمن ولا مؤمنة إلّا وفي قلبه محبة لعلي (١) عليه‌السلام (٢). وأضاف الله المحبة إلى نفسه تعالى من حيث أمر بها ، ولطف فيها. وقيل : من حيث وهب لعليّ من الخصال ما يحبّ لأجلها.

وعن زيد بن علي عليه‌السلام عن علي عليه‌السلام أنه قال : لقيني رجل فقال : يا أبا الحسن أما والله إني لأحبّك في الله ، فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته بقول الرجل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عليّ اصطنعت إليه معروفا؟ قال لا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد لله الذي جعل قلوب المؤمنين تتوق إليك بالمودة» ، قال : فنزلت الآية (٣). وعن عمّار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي : «طوبى لمن أحبّك وصدّق فيك ، وويل لمن أبغضك وكذّب فيك» (٤). وعن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي : «من زعم أنّه يحبّني ويبغضك فقد كذب» (٥). والأخبار كثير في هذا. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي عليه‌السلام : «لا يحبّك إلا مؤمن ،

__________________

(١) في (ب) : لعلي بن أبي طالب.

(٢) أنظر شواهد التنزيل ١ / ٣٥٩ رقم ٤٨٩ ، ص ٢٦٧ رقم ٥٠٩. وابن المغازلي ص ٢٠١ رقم ٣٧٤ ـ ٢٠٢ رقم ٣٧٥. والدر المنثور ٢ / ٥١٢ ، والكشاف ٣ / ٤٧. والطبراني في الأوسط ٥ / ٣٤٨ رقم ٥٥١٦. والثعلبي في تفسيره كما ذكره بن البطريق في العمدة ص ٣٥١. والمناقب للكوفي ١ / ١٩٤.

(٣) أمالي أبي طالب ص ٦٨ ، كفاية الطالب عن زيد بن علي عن آبائه (ع) ص ٢٤٨.

(٤) المرشد بالله في أماليه ١ / ١٤٢. والحاكم في مستدركه ٣ / ١٣٥. وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٣٩١. والخطيب في تاريخه ٩ / ٧٢.

(٥) الاعتصام ١ / ٦٢. والبداية والنهاية لابن كثير ٧ / ٣٩١.

ولا يبغضك إلا منافق» (١) إلى غير ذلك من الآيات فإنها أكثر من أن نحصيه هاهنا. ولم نذكر ما ذكرناه من الآيات النازلة في أمير المؤمنين عليه‌السلام إلا لكونها أقوى في الحجة ، وأبلغ في إيضاح المحجة ، إذ ما يتعلق بالقرآن هو شفاء كلّ سقيم ، وهو الدواء من الداء العقيم. وإذ قد ذكرنا طرفا مما يتعلق بالقرآن فلنذكر طرفا مما يتعلق بالسنة. فمن ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه ، وإلى إبراهيم في حلمه ، وإلى يحيى بن زكريا في زهده ، وإلى موسى بن عمران في بطشه ، فلينظر إلى علي بن أبي طالب» (٢).

ومنها كسره للأصنام : كما فعل إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، قال الله تعالى في إبراهيم : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) [الأنبياء : ٥٨] ، وعن علي عليه‌السلام أنه قال : انطلق بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أتى الكعبة ، فقال لي : اجلس فجلست إلى جنب الكعبة ، فصعد رسول الله صلي الله عليه وآله على منكبي ، ثم قال لي : انهض فنهضت ؛ فلما رأى ضعفي تحته قال لي : اجلس فجلست ، فنزل وقال : يا عليّ اصعد على منكبي فصعدت على منكبه ، ثم نهض بي ، فلمّا نهض خيّل إليّ أني لو شئت نلت أفق السّماء ، فصعدت فوق الكعبة ، وتنحّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ائت صنمهم الأكبر صنم قريش ، وكان من نحاس موتدا بأوتاد حديد إلى

__________________

(١) هو حديث متواتر رواه الأئمة ، رواه المرشد بالله ١ / ١٣٥. وابن المغازلي الشافعي ص ١٣٧ رقم ٢٢٥ ص ١٣٨ رقم ٢٢٩ ـ ٢٣١. والترمذي ٥ / ٦٠١ رقم ٣٧٣٦. أحمد بن حنبل في مسنده ١٠ / ١٧٦ رقم ٢٦٥٦٩. والنسائي في السنن ٨ / ١١٦ رقم ٥٠١٨ في الخصائص بثلاث طرق ص ١٠٢ رقم ٩٩ ، ومسلم بلفظ : «لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ..» ، ١ / ٨٦ رقم ٧٨ ، وغيرهم كثير.

(٢) المرشد بالله في أماليه ١ / ١٣٣ بلفظ : من أراد أن ينظر إلى موسى في بطشه ، ومن أراد أن ينظر إلى نوح في حلمه فلينظر إلى علي بن أبي طالب. وذخائر العقبى ص ٩٣ ، ولوامع الأنوار ٢ / ٦٣٨.

الأرض فقال لي : عالجه وكان يقول : إيه إيه جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا ، فلم أزل أعالجه حتى استمكنت منه ، فقال لي : اقذفه فقذفته وتكسر ، ونزلت من فوق الكعبة فانطلقت أنا والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسعى ، وخشينا أن يرانا أحد من قريش ، أو غيرهم (١).

ومنها : مبيته على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسليما لنفسه. كما فعله إسماعيل عليه‌السلام في تسليمه لنفسه إلى أبيه إبراهيم الخليل عليه‌السلام ليذبحه ، وروينا عن عبد الله بن العباس وغيره قالوا : شرى على نفسه فلبس ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم نام على مكانه قال ابن عباس : وكان المشركون يرمون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء أبو بكر ـ وعليّ نائم ـ وأبو بكر يحسب أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، فقال له علي : إنّ نبيّ الله قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه ، قال فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار ، وجعل عليّ يرمى بالحجارة كما يرمى رسول الله وهو يتضوّر (٢) ، وقد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه ، فلما أصبحوا قام علي عن فراشه فعرف المشركون أنه ليس بالنبي فنزل قول الله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) الآية [الأنفال : ٣٠].

وفي تلك الليلة قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى

ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر

__________________

(١) المستدرك ٢ / ٣٦٦. ومسند أحمد ١ / ١٨٣ رقم ٦٤٤. والخطيب في تاريخه ١٣ / ٣٠٢. والكشاف ٢ / ٦٨٨ في تفسير : (جاءَ الْحَقُّ ..). والمحب الطبري في الذخائر ص ٨٥. وابن أبي شيبة ج ٧ ص ٤٠٣. والمواهب اللدنية ١ / ٣٢١ في فتح مكة. وقال الأمير الصنعاني في الروضة الندية ص ٢٤ : فعلى هذا يكون صعد مرتين قبل الهجرة وبعدها. والمناقب للكوفي ٢ / ٦٠٦. ومجمع الزوائد ٦ / ٢٣ ورجاله ثقات ، وقال في الرواية الأخرى : ورجاله رجال الصحيح.

(٢) التلوّي من الضّرب. القاموس ص ٥٥١.

رسول إله خاف أن يمكروا به

فنجّاه ذو الطّول الإله من المكر

وبات رسول الله في الغار آمنا

موقّى وفي حفظ الإله وفي ستر

وبتّ أراعيهم وما يثبتونني

وقد وطّنت نفسي على القتل والأسر (١)

ومنها : فتحه للقلاع : كما فعل يوشع عليه‌السلام (٢). ومنها : ردّ الشمس عليه كما فعل ليوشع عليه‌السلام (٣). ومنها : أنه قتل بسبب امرأة : وهي قطام ، كما فعل بيحيى بن زكريا عليه‌السلام فإنه ذبح في طست بسبب امرأة ، وهي من بني إسرائيل (٤). وقصة الجميع معروفة ، والغرض الاختصار. ومنها : أنه قتل في الليلة التي رفع فيها عيسى صلوات الله عليه. كما روينا بالإسناد الصحيح أن

__________________

(١) أخرج الحادثة الحاكم في المستدرك ٣ / ٤ ، وقال : صحيح ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. والمناقب للكوفي ١ / ١٢٤. وشواهد التنزيل ١ / ٩٨ رقم ١٣٤ ـ ١٤١.

(٢) يوشع بن نون فتح مدينة الجبارين كما ذكر ذلك ابن الأثير في تاريخه ١ / ١١٣ ـ ١١٤. والطبري في تاريخه ١ / ٤٤٥. وابن كثير في قصص الأنبياء ، وذكر الخلاف هل كان بعد وفاة موسى أم لا.

(٣) ذكر ابن الأثير في تاريخه ١ / ١١٤ أن موسى قدم يوشع إلى أريحاء في بني إسرائيل ، فدخلها وقتل الجبارين ، وبقيت منهم بقية ، وقد قاربت الشمس الغروب ـ فخشى أن يدركهم الليل فيعجزوه فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس ففعل وحبسها حتى استأصلهم ودخلها موسى. وقال الطبري في تاريخه ١ / ٤٤٠ لما غربت الشمس دعا الله فقال للشمس : إنك في طاعة الله وأنا في طاعة الله اللهم اردد عليّ الشمس ، فردت عليه الشمس. أقول : وهذا يقارب ما دعى به نبينا عليه وآله الصلاة والسّلام في حادثة رد الشمس على علي عليه‌السلام وقد تقدم ذكر الحادثة.

(٤) ذكر في قصص الأنبياء ص ٣٦٩ أن أحد حكام فلسطين يقال له : (هيرودس) ، وكانت له بنت أخ يقال لها : (هيروديا) بارعة الجمال ، أراد عمها أن يتزوج منها ، وكانت البنت وأمها تريدان ذلك ، غير أن يحيى عليه‌السلام حرّم هذا الزواج ؛ فحقدت الأم وزينت بيتها فراودها عمها فامتنعت إلا إذا قدم لها رأس يحيى على طيف ففعل. تاريخ ابن الأثير ١ / ١٧٣. وقد ذكر قصة ابن ملجم لعنه الله مع قطام عند ما طلبت رأس علي مهرا لها. الطبري ٥ / ١٤٤ فليراجع.

عليا عليه‌السلام لما مات صعد الحسن بن علي (ع) المنبر فخطب خطبة بليغة ، وكان (١) مما قال : أيها الناس لقد فاتكم رجل ما سبقه الأولون ، ولا يدركه الآخرون ، إلى أن قال : ولقد قبض في الليلة التي قبض فيها يوشع بن نون ، والليلة التي رفع فيها عيسى ، والليلة التي أنزل فيها القرآن (٢). ومنها خبر المنزلة : وقد تقدم ذكره.

ومنها : إخراجه العين حين خرج إلى صفين ، كما فعل عيسى عليه‌السلام ، وذلك أن عليا عليه‌السلام لمّا خرج إلى الأنبار سار إلى برّيّة فأخرج بها عينا بقرب دير ، فسئل الراهب ، فقال : إنما بني هذا الدّير لهذا العين ، وإنها عين راحوماء ، ما استخرجها إلا نبي أو وصيّ نبيّ ، ولقد شرب بها (٣) سبعون نبيا ، وسبعون وصيا فأخبروا بذلك عليا عليه‌السلام (٤).

ومنها : حديث السفرجلة. وهو ما رواه ابن عباس قال : نزل جبريل في بعض الحروب ، وناول عليا سفرجلة ففتقها فإذا في وسطها حريرة خضراء مكتوب عليها تحية الطالب الغالب على علي بن أبي طالب ، فهذا كقصة الرمانة.

__________________

(١) في (ب) : فكان.

(٢) مجمع الزوائد ٩ / ١٤٦. ومقاتل الطالبيين ٥٢. والمغازلي ص ٢٥ رقم ١٥. والطبري في تاريخه ٥ / ١٥٧. والذهبي في تاريخ الإسلام عهد الخلفاء ص ٦٥٢ وأبو نعيم في الحلية ١ / ١٠٥. والمناقب للكوفي ٢ / ٥٧٤. وابن أبي شيبة في المصنف ٦ / ٣٧٠.

(٣) في (ب) : منها.

(٤) المناقب للكوفي ٢ / ٣٦. ونصر بن مزاحم في وقعة صفين ص ١٤٥. والخطيب في تاريخه ١٢ / ٣٠٥.

ومنها : حديث الرمانة. عن ابن عباس قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطوف بالكعبة إذ بدت رمانة من الكعبة فاخضرّ المسجد لحسن خضرتها فمدّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده فتناولها ، ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طوافه ، فلما انقضى طوافه صلّى في المقام ركعتين ، ثم فلق الرمانة قسمين ، فكأنها قدّت فأكل النصف ، وأعطى عليّا عليه‌السلام النّصف ، فرنّحت (١) أشداقهما لعذوبتها ، ثم التفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه ، فقال : «إنّ هذا قطف من قطوف الجنة لا يأكله إلا نبيّ أو وصيّ نبيّ لو لا ذلك لأطعمناكم» (٢) (٣).

ومنها : مشابهته لعيسى عليه‌السلام ، كما رويناه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أنت يا عليّ في أمتي كعيسى بن مريم ، أحبّه قوم فدخلوا النار ، وأبغضه قوم فدخلوا النار. [حاشية] (٤) : الذين أحبوا عيسى هم النصارى فأفرطوا في المحبة ، فقالوا : هو ابن الله ، كما قال تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، فدخلوا النار بذلك ، والذين أبغضوه هم اليهود فأفرطوا في البغض فقالوا : هو ولد زنا ، وقالوا لمريم (ع) : (يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) [مريم : ٢٨] أي زانية فدخلوا النار لذلك (٥). كذلك علي عليه‌السلام أحبه قوم فجعلوه إلها ، وأبغضه قوم فجعلوه كافرا. قال علي عليه‌السلام : يهلك فيّ اثنان : محبّ مفرط يقرّظني [يمدحني] بما ليس فيّ ، ومبغض مفرط يحمله شنآنه على أن يبهتني. ألا وإني لست بنبيّ ، ولا يوحى إليّ ، ولكنني

__________________

(١) رنّح : تمايل من السكر وغيره. مختار الصحاح ٢٥٨.

(٢) في النسخ : أطعمناكم ، ولا بد من اللام ؛ لجواب لو لا ، ولذلك أثبتناه.

(٣) المناقب للكوفي ١ / ٥٤٨ عن ابن عباس.

(٤) هكذا في النسخ.

(٥) لذلك ساقطة في (ب).

أعمل بكتاب الله وسنة نبيه ما استطعت ، فما أمرتكم به من طاعة الله فحقّ عليكم من (١) طاعتي فيما أحببتم وكرهتم ، وما أمرتكم به من معصية الله أنا أو غيري فلا طاعة لأحد في معصية الله ، إنما الطاعة في المعروف (٢).

وروينا أن جماعة جاءوا إلى علي عليه‌السلام وقالوا : هو ربّهم فقال : لا. فاستتابهم فأبوا ؛ فضرب أعناقهم وحرّقهم ، ولمّا همّ بإحراقهم وتوعّدهم بالحريق بالنار ، قالوا : عرفنا أنك ربّنا ؛ لأنه لا يعاقب بالنار إلا الله ، فضرب أعناقهم وحرّقهم (٣). وأنشأ يقول :

إني إذا رأيت أمرا منكرا

أوقدت ناري ودعوت قنبرا (٤)

فأما الذين كفّروه فهم علماء الخوارج.

ومنها : ما رواه أبو ذر ، وجابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد ، قد سبّح الله يمنة العرش قبل أن خلق الله آدم بألفي عام ، فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه. ولقد (٥) سكن آدم الجنة ونحن في صلبه ، ولقد همّ بالخطيئة ونحن في صلبه. ولقد ركب نوح في السفينة ونحن في صلبه ، ولقد قذف إبراهيم في النار ونحن في صلبه ، فلم يزل

__________________

(١) في (ب) : من ، مشطوبة بعد ثبوتها.

(٢) ابن المغازلي ١ / ٦٤ ، رقم ١٠٤. والحاكم في المستدرك ٣ / ١٢٣. والمحب الطبري في ذخائره ص ٩٢. وأحمد بن حنبل ١ / ٣٣٦ رقم ١٧٧٦ ، ورقم ١٣٧٧. وابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٣٩٢. قال محمد بن إسماعيل الأمير :

وبعيسى صح فيه مثل

فسعيدا عدّ منهم وشقيّا

(٣) ذخائر العقبى ص ٩٣. والاعتصام ٥ / ١٣٨. أنه أحرق زنادقه. وكذلك قضاء الإمام علي ص ٢٣٧.

(٤) بعضهم يروي البيت : لمّا رأيت الأمر أمرا منكرا .. إلخ. وقنبر : عبد الإمام علي.

(٥) في (ب) : وقد.

ينقله الله تعالى من أصلاب طاهرة ، إلى أرحام طاهرة حتى انتهى بنا (١) إلى عبد المطلب فقسمنا بنصفين : وجعلني في صلب عبد الله ، وجعل عليا في صلب أبي طالب ، وجعل فيّ النبوة والبركة ، وجعل في عليّ الفصاحة والفروسية ، وشقّ لنا اسمين من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمد ، والله الأعلى وهذا عليّ» (٢). ولنقتصر على هذا القدر من فضائله فإنها أكثر من أن نحصيها في كتابنا هذا.

فاطمة الزهراء (ع)

قال الله سبحانه في آية المباهلة : (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ) [آل عمران : ٦١] ، ولا خلاف بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أنه لم يدع من النساء غير فاطمة ، فكانت هذه الفضيلة لها خاصة دون نساء العالمين ؛ ولأنها خامسة الخمسة المعصومين بإجماع المسلمين ، وبالأدلة المؤدية إلى العلم اليقين كآية التطهير وغيرها (٣) ، وعن ابن عباس قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالسا مع عائشة فدخلت فاطمة فعانقها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبّلها ، وشم شفتيها فقالت عائشة ما أكثر ما تقبّل فاطمة؟ قال : يا حميراء أتدرين لما ذا أقبّلها؟ قالت : لا. قال : «إنه لمّا أسرى بي جبريل إلى السماء وأدخلني الجنة فرأيت على بابها شجرة يقال لها : طوبى ، حملها أصغر من الرمان ، وأكبر من التفاح ، وأحلى من العسل ، وأبيض من اللبن ، وألين من الزّبد ، وأعذب من الشهد ، ليس له عجم ، فناولني جبريل واحدة منها

__________________

(١) في (ب) : انتهينا.

(٢) تنبيه الغافلين للحاكم الجشمي ٣٦ ، وأخرج ما يوافق ذلك ابن عساكر في ترجمته ١ / ص ١٥٢. وابن المغازلي الشافعي ص ٧٤ رقم ١٣٠ ـ ١٣٢. ونهاية هذا يوافق حديث الأشباح الذي ذكره حميد المحلي في الحدائق ١ / ١٤. والله أعلم.

(٣) قال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).

وأكلتها (١) فإذا عند أصل الشجرة عين يقال لها : سلسبيل. أبيض من اللبن ، وأضوأ من الشمس ، فسقاني جبريل من ذلك الماء ، فشربت فلما نزلت إلى (٢) الارض اشتهيت خديجة فواقعتها فحملت بفاطمة فهي حوراء إنسية ليس يخرج منها ما يخرج من النساء عند الحيض ، وإذا اشتهيت رائحة الجنة قبّلتها ، وشممت منها رائحة الجنّة» (٣).

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «فاطمة بضعة مني ، من آذاها فقد آذاني» (٤).

__________________

(١) في (ب) : فأكلتها. وفي المراجع وفي الأصل : وأكلتها.

(٢) في (ب) بحذف إلى.

(٣) الطبراني ٢٢ / ٤٠٠ رقم ١٠٠٠. والمحب في الذخائر ص ٣٦. والمناقب ٢ / ٢٠٦. وهذا الحديث وغيره الذي جاء فيه أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يمص لسانها يحمل على حال صغرها. أما في حال الكبر فلا يصح ، والحديث برمته مشكل ؛ لأن الإسراء والمعراج كان قبل الهجرة بسنة واحدة ، وفاطمة عليها‌السلام ولدت قبل النبوة بخمس سنوات أي إن عمرها الشريف عند الإسراء حول الخمس عشرة سنة. وخديجة الكبرى رضي الله عنها لم تدرك حادثة الإسراء والمعراج ؛ لأنها توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذهب إلى الطائف بعد موتها وموت أبي طالب ، وأسري به بعد رجوعه من الطائف بفترة. كما أن الإسراء ليس إلى الجنة ، وإنما إلى بيت المقدس. ثم المعراج إلى السموات العلى. كما أن الحديث وارد على غير موضوع فالجنة لم تخلق على مذهب الإمام الهادي عليه‌السلام. ينظر حول حادث الإسراء : تاريخ الإسلام سيرة الرسول للذهبي ص ٢٤١. وتاريخ ابن الأثير ٢ / ٣٣. وابن كثير ٢ / ٦٩٣. وحول مولد فاطمة : طبقات ابن سعد ٨ / ١٩. والاستيعاب ٤ / ٤٤٨ ذكر أن مولدها بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإحدى وأربعين سنة. وحول وفاة خديجة : أسد الغابة ٧ / ٨٦. وتاريخ الطبري ٢ / ٣٤٣. وابن الأثير ٢ / ٦٣. وتاريخ الإسلام للذهبي ص ٢٣٦. وطبقات ابن سعد ٨ / ١٨. وسيرة ابن هشام ٢ / ٢٩. وابن كثير ٢ / ١٣٢. وسيرة المصطفى للحسني ص ١٩٩.

(٤) أخرجه البخاري ٥ / ٢٠٠٤ برقم ٤٩٣٢ ، بلفظ : يؤذيني ما أذاها. والترمذي ٥ / ٦٥٦ برقم ٣٨٦٩. وقال : حديث حسن صحيح. والطبراني في الكبير ٢٢ / ٤٠٤ رقم ١٠١٠ ، ١٠١١.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «فاطمة بضعة مني ، يريبني ما أرابها» (١). دل ذلك على فضلها ، وعلو شرفها ونبلها. ومن قال : بأن أبا بكر أفضل منها فقد جهل ؛ لأنها إذا كانت من لحم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصا جليا بقوله : «فاطمة بضعة منّي» ، فلا أحد أفضل من رسول الله ولا جسد أكرم من جسده.

وهذا الخبر مما رواه المخالف والمؤالف ، ولم ينكره لبيب عارف. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «فاطمة حصّنت فرجها من النار (٢) ، فحرّم الله ذرّيّتها من النار» (٣) ، يعني من ولدته بنفسها. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المنبر : «إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوا أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم ، ثمّ لا آذن لهم ، ثم لا آذن لهم ، إلّا أن يحب علي بن أبي طالب أن يطلّق ابنتي وينكح ابنتهم ، فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما أرابها ، ويؤذيني ما آذاها» (٤). وقال لها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) أخرجه البخاري ٤ / ٢٠٠٤ رقم ٤٩٣٢ ،. والترمذي ٥ / ٦٥٥ رقم ٣٨٦٧. وفي أسد الغابة ج ٢ ص ٢١٩ ، عن علي عليه‌السلام أن النبي قال لفاطمة : «إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك».

(٢) لا معنى لذكر النار هنا ، فزيادة «من النار» مخلة ؛ فإنها حصنت جميع جسدها من النار ، ولعله غلط من الكاتب.

(٣) الخطيب في تاريخه ٣ / ٥٤ عن علي بن موسى الرضا بلفظ : «إن فاطمة أحصنت فرجها فحرم الله ذريتها على النار» وقال خاص للحسن والحسين. والحاكم ٣ / ١٥٢. وقال صحيح ، ولم يخرجاه. والمحب الطبري في ذخائره ص ٢٦. وقال : أخرجه الحافظ الدمشقي. وأبو نعيم في الحلية ٤ / ٢٠٩. وكفاية الطالب ٣٦٧.

(٤) البخاري ٥ / ٢٠٠٤. ومسلم ٤ / ١٩٠٢ رقم ٢٤٤٩. أقول : إن عليّا من الطراز النادر في الوفاء ، وإن فاطمة من عيون نساء الدنيا جمالا وكمالا ، ولا يتمنى عليّ زوجا أكرم منها ، ولذلك فأنا أستبعد هذا منه كما أستبعد لو افترضنا رغبة علي في الزواج بامرأة أخرى ـ أن ير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمثل هذه القسوة ؛ لأن دينه يبيح لعلي أن ينكح أربعا ؛ لقوله سبحانه : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) ، ومثل علي فعلى

«إنّ الله تعالى يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «أوتيت ثلاثا لم يؤتهنّ أحد ، ولا أنا : أوتيت صهرا مثلي ، ولم أوت أنا مثلي ، وأوتيت صدّيقة مثل ابنتي ، ولم أوت مثلها زوجة ، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ، ولم أوت مثلهما من صلبي ، ولكنّكم منّي وأنا منكم» (٢).

وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «كأني أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيب من نور ، عن يمينها سبعة آلاف ملك ، وعن يسارها سبعة آلاف ملك ، وبين يديها كذلك ، وخلفها كذلك ، تقود مؤمنات أمتي إلى الجنة». وروينا أنه : إذا كان يوم القيمة ينادى يا أهل الموقف غضّوا أبصاركم حتى تجوز فاطمة (ع) (٣).

وروينا أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من تحت الحجب : يا أهل الجمع ، غضّوا أبصاركم ، ونكّسوا رءوسكم ، هذه فاطمة ابنة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تريد أن تمرّ على الصّراط» (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنما سمّيت ابنتي فاطمة ؛ لأن الله فطمها وفطم منّ

__________________

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع خديجة ؛ فإنه لم يتزوج عليها طيلة حياتها وفاء لها ، ولأنها امرأة كاملة. مع أن تعدد الزوجات قد يكون لأغراض تخدم الإسلام ، والمعان النبيلة فلا علاقة له بالوفاء أو انتقاص الزوجة الأولى ، ولما ذا عارض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه المسألة العائلية من فوق المنبر؟ فالعلم لله وحده.

(١) أسد الغابة ٧ / ٢١٩ عن علي. والإصابة ٤ / ٣٦٦. الحاكم في المستدرك ٣ / ١٥٤ ، وقال : صحيح الإسناد ، والإمام علي بن موسى في صحيفته ص ٤٥٩ ، وكفاية الطالب ص ٣٦٤.

(٢) صحيفة على بن موسى الرضى ص ٤٥٨.

(٣) صحيفة علي بن موسى ٤٦٠ ، وكفاية الطالب ٣٦٤.

(٤) الحاكم ٣ / ١٥٣ ، والمناقب لابن المغازلي ٢٢١ رقم ٤٠٤.

أحبّها من النّار» (١). وعن جعفر الصادق عليه‌السلام أنه قال : لفاطمة ثمانية أسماء : الصديقة ، والزهراء ، والطاهرة ، والزكية ، والرضية ، والمرضية ، والبتول ، وفاطمة.

[زواج علي عليه‌السلام من فاطمة (ع)]

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أنكح إليكم ، وأنكحكم إلا فاطمة» وذلك أن الاخبار المتطابقة على ما معناه أنّ الصحابة اجتمعوا وقالوا : إنّ قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشغول بفاطمة فلا أمّ لها ، ولا مشفق ، فلو أزلنا عن قلبه هذا الشغل ، فقالوا لأبي بكر : اخطبها فجاء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقصّ عليه وخطبها. فقال : إن أمرها إلى الله ، فقيل لعمر فكان هذا جواب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقيل لعثمان فقال : قد تزوجت باثنتين ومضتا وكلتاهما تحتي وأنا استحيي أن أخطبها ، فجاءوا إلى أمير المؤمنين وهو في بستان يسقي ليهودي الماء ، كلّ دلو بتمرة ، وفي البلد قحط فنزع خمسة وعشرين دلوا ، فخاطبوه بذلك وسألوه أن يخطبها. فقال لهم : حبّا وكرامة ومشى معهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخل ووضع التمرات بين يديه ووقف كالمريب مطرق مستحي لا ينظر إلى الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له : ما وراءك يا أبا الحسن؟ فأطرق رأسه ، وقال : غلبني الحياء جئت أخطب فاطمة ، فأطرق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكلمه ، فإذا بجبريل عليه‌السلام قد نزل وقال للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن العليّ الأعلى يقرؤك السّلام ، ويعرّفك أنه أمر راحيل أن يخطب وهو أفصح ملك في السماء ، وجعلني قابلا للنكاح عن علي ، وكان الله تعالى وليّها ، وأحضر حملة العرش للشهادة ، وأمر رضوان أن ينثر من شجرة طوبى زمرّدا ولؤلؤا وزبرجدا ، وينثر الحور العين ، وأمرك أن تزوّجها منه ، فرفع النبي رأسه إلى علي وقال : ما الذي معك؟ قال : درعي ، قال : كم يساوي؟ قال : طلب

__________________

(١) صحيفة علي بن موسى ٤٥٩ ، وكنز العمال ٣٤٢٢٧.

مني بأربع مائة درهم. فدعا بالناس وزوجها منه على ذلك ، وأمر بإحضار طبق من بسر [تمر] ، وقال : انتهبوا النّثار ، ثم أمر عليّا ببيع الدرع ، ويشتري لها قميصا وسراويلا (١) ومقنعة ووقاية وعبا وفروة ومخدّتين ، ويصرف الباقي إلى عطر. فمرّ (٢) عليّ في ذلك. وأمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغسل رأسها ، وألبسها ما حمل عليّ ، وأطعم الهاشميات والأقارب ، ثم قال لهم : انصرفوا ، فانصرفوا إلّا أسماء بنت عميس امرأة جعفر الطيار ، وكانت هي التي ربّت فاطمة ، فوقفت فقال لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم لم تلحقي بأهلك؟ قالت يا رسول الله : إن النساء لا بدّ لهن من امرأة في مثل هذه الليلة يكشفن إليها أسرارهنّ ، وأنا ربيتها ، فلا يطيب لي تركها وحدها ، فدعا لها ، ثم خلط الطيب ودعى بفاطمة وطيّب فرقها وعنقها وبين ثدييها ، وقال لها : على بركة الله ، فلما دخل البيت ، دعا بعليّ واستعمل باقي الطيب فيه ، ووضع يده على ظهره ، وقال : على بركة الله ، فدخل عليّ عليها ، ولم ينظر إلى جانبها حتى صلّى ركعتين وسجد لله شكرا على رزقه إياه مثلها.

وروينا عن ابن المغازلي الشافعي ما رفعه بإسناده في كتابه إلى أنس : أنّ أبا بكر خطب فاطمة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يرد إليه جوابا ، ثم خطبها عمر فلم يرد جوابا ، ثم جمعهم فزوجها علي بن أبي طالب. وقيل : أقبل على أبي بكر وعمر فقال : إن الله عزوجل أمرني أن أزوجها من علي ، ولم يأذن لي في إفشائه إلى هذا الوقت ، ولم أكن لأفشي ما أمرني الله عزوجل به (٣).

__________________

(١) في (ب) : مصلحة سراويل ، وهو الأظهر ؛ لأنه اسم لا ينصرف.

(٢) في (ب) : فمضى.

(٣) المناقب ٢١٧ رقم ٣٩٧ ، وذخائر العقبى ص ٣٠ باختلاف يسير.

وفي حديث آخر أنه لما زوّج الله تبارك وتعالى فاطمة (ع) من علي أمر الملائكة المقربين أن يحدقوا بالعرش وفيهم جبريل وميكائيل وإسرافيل فأحدقوا بالعرش ، وأمر الحور العين أن يتزيّن ، وأمر الجنان أن تزخرف ، فكان الخاطب الله تبارك وتعالى والشهود الملائكة ، ثم أمر الله شجرة طوبى ان تنثر (١) عليهم ، فنثرت اللؤلؤ الرّطب مع الدر الأخضر ، مع الياقوت الأحمر ، مع الدّرّ الأبيض ، فتبادرن الحور (٢) العين يلتقطن من الحلي والحلل ، ويقلن : هذا من نثار فاطمة بنت محمد (ع) (٣).

وفي آخر حديث طويل حذفناه لطوله ، وناوله جبريل قدحا فيه خلوق من الجنة وقال : حبيبي مر فاطمة تلطخ رأسها ويديها (٤) وثديها من هذا الخلوق ، فكانت فاطمة (ع) إذا حكّت رأسها شمّ أهل المدينة رائحة الخلوق (٥).

وفي حديث آخر أنه قال للملائكة : ما الذي أحدركم؟ قالوا : جئنا لنزف فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زوجها علي بن أبي طالب ، فكبّر جبريل ، وكبّر ميكائيل ، وكبّرت الملائكة وكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقع التكبير على العرائس من تلك الليلة.

وفي حديث آخر فلما كانت ليلة الزفاف أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببغلته الشهباء وثنى عليها قطيفة ، وقال لفاطمة اركبي ، وأمر سلمان أن يقودها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) في (ب) : تنتثر.

(٢) فيه جمع بين فاعلين ، وهلي لغة رديئة ، وتسمّى لغة أكلوني البراغيث.

(٣) المناقب ص ٢١٥ رقم ٣٩٥ ، والحدائق الوردية (خ) ١ / ٢٢.

(٤) في بعض النسخ : بدنها.

(٥) الحدائق الوردية ١ / ٢٢.

يسوقها فبينما هو في بعض الطريق إذ سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجبة فإذا هو بجبريل صلّى الله عليه في سبعين ألفا ، وميكائيل صلّى الله عليه في سبعين ألفا. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أهبطكما إلى الأرض؟ قالوا : جئنا نزفّ فاطمة (ع) إلى زوجها علي بن أبي طالب فكبر جبريل ، وكبر ميكائيل ، وكبرت الملائكة ، وكبّر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقع التكبير على العرائس من تلك الليلة.

وأخبار النكاح كثيرة اقتصرنا على هذا القدر منها ، وفيه كفاية ؛ فإنه ما كان في نكاح أحد من الأولين ولا يكون في الآخرين كنكاحها من علي عليه‌السلام ؛ لأن العاقد هو الله تعالى ، والقابل جبريل ، والخاطب راحيل ، والشهود حملة العرش ، ورضوان خازن الجنة صاحب النثار ، وطبق النثار شجرة طوبى ، والنثار الدر والؤلؤ والزمرد والزبرجد ، والذي التقطه حور العين. والعاقد في الأرض رسول الله سيد النبيين وخاتمهم سلام الله عليهم أجمعين ، وهو الذي مشطها بيده الطاهرة ؛ إذ هو الذي طيّبها بخلوق الجنة ، وبخلوق الدنيا ، والملائكة (ع) هم الزّافّون والمكبّرون ، والزوج أمير المؤمنين وسيد الوصيين ويعسوب المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. وأولادهما هم أئمة الخلق ، والهداة إلى الحق إلى يوم القيامة بحكم الله سبحانه.

فهل يعتري الشكّ مرتاد الرشاد في شرفها؟ أو هل يوازي فضل من ارتكب الكبائر التي منها : الشرك وعبادة الأصنام ، ثم تاب ورجع إلى الإسلام ـ فضلها؟ أو هل يقول قائل فيصدق بأنها ارتكبت كبيرة منذ كانت إلى أن ماتت في رحمة الله تعالى؟ لو لا العناد ، وموافقة أهل الفساد وعمي البصيرة في الإصدار والإيراد. وقد علمنا أنّ بعض من في تلك الجهات يفضّل أبا بكر عليها ، وأين الثريا من يد المتناول؟

أليس ممن (١) عبد الاصنام وعكف على الآثام ، ثم أسلم بلا إشكال ، ثم فرّ عن زحف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا إنكار ، وتقدّم على (٢) أمير المؤمنين عليه‌السلام مع قوله على المنبر بإجماع الرواة في بعض كلامه : ولّيتكم ولست بخيركم. فإن كان صادقا فهو كما قال ، وإن كان كاذبا نقّصه ذلك عن درجة الجلال ، وحطّه عما مدّ إليه عنقه من الكمال. يا من طلب الماء في الآل [السّراب] ، أين الهدى من الضلال ، وأين الأجاج من الماء العذب السلسال؟.

تأمل ما ذكرناه في كتابنا هذا بعين البصيرة إن كنت ممن يخشى العالم بالسريرة. وابحث أهل المعرفة بالسيرة ، ألم يقتل خالد بن الوليد ذا التاج؟ وبنى خالد بزوجته تلك الليلة من دون استبراء. وذو التاج هو مالك بن نويرة. ويقال : إنّ خالدا رأى زوجة مالك بن نويرة ففتن بها فقتله لأجلها. وقيل : إنه قتله بعد أن أسره ، وقتل غيره معه لئلا يقال : إنه إنما قتله لأجلها. وإيّاه عنى أبو فراس (٣) بقوله :

وجرّت منايا مالك بن نويرة

عقيلته الحسناء أيّام خالد (٤)

ولما بنى بها من ليلتها من دون استبراء أنكر ذلك العلماء والصلحاء. وروي

__________________

(١) في (ب) : أليس هو ممن.

(٢) في (ب) «على» محذوفة.

(٣) الحمداني ، ولد ٣٢٠ ه‍ ، أديب ، فاضل ، وفارس ، وشاعر ، كان الصاحب يقول : بدئ الشعر بملك وختم بملك ، يعني امرأ القيس ، وأبا فراس الحمداني ، قتل سنة ٣٥٧ ه‍. ينظر :

وفيات الأعيان ١ / ١٢٧.

(٤) ديوانه ١٠٣ ، من قصيدة يذكر أسره وبعض حساده ، ومطلعها :

لمن جاهد الحساد أجر المجاهد

وأعجز ما حاولت إرضاء حاسد

أنّ ممن أنكر ذلك عمر على خالد ، وهو والي أبي بكر وتوعّده بأن يرمى بالحجارة ، فلما دخل إلى أبي بكر وأرضاه بحديثه ، وكان لا يقبل على ولاته فلم يظهر منه عليه إنكار (١). فتأملوا يا أولي الأبصار ، أين الجنة من النار؟ وأين القطرة من البحر التيار.

والمعلوم من السيرة المحمدية ، والأفعال الصحابية ، والسّير الإمامية أنه لا يجوز وطء الأمة المسبية إلا بعد استبرائها ، والحديث ظاهر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا توطأ حامل حتى تضع ، ولا حائل حتى تحيض» (٢). والأمر في ذلك ظاهر.

وهذا مما رواه الإمام الطاهر الحسن بن علي الملقب بالناصر [الأطروش] عليه‌السلام وأنكر ذلك أشد الإنكار من فعل أبي بكر. وذلك مذكور في موضوعاته ، وهو مذكور في كتب التواريخ والسير (٣). أين ذلك من فضل فاطمة الرضية الإنسيّة الحورية الطاهرة الزكية المعصومة من الكبائر المفضلة بلا تناكر. وقد قدمنا طرفا من فضلها. فإن الإتيان على جملته مما ينافي غرضنا في هذا الكتاب من الاختصار. وفيما ذكرنا (٤) كفاية لمن كان له قلب رشيد ، أو ألقى السمع وهو شهيد ممن لم يعم التعصب عين بصيرته ، ولم يذهب الرّان (٥) أنوار معرفته.

__________________

(١) الطبري ٣ / ٢٨٠ ، وخزانة الأدب ٢ / ٣٢. وذكر أن عمر لما أتى عليا ، فقال : إن في حق الله أن يقاد هذا بمالك قتل رجلا مسلما ثم نزا على امرأته كما ينزو الحمار.

(٢) أحمد في المسند ٤ / ١٢٥ رقم ١٥٩٦ ، والبيهقي في السنن ٩ / ٢٤ ، والمستدرك ٢ / ١٦٢ ، وقال : صحيح على شرط مسلم.

(٣) ينظر اليعقوبي ٢ / ١٨ ، وتأريخ دمشق ١٦ / ٢٧٤.

(٤) في بقية النسخ : ذكرناه.

(٥) في (ب) الحسد بدل الرّان.

السبطان الحسنان (ع)

قال الله تعالى : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) [آل عمران : ٦١] أجمع (١) المخالف والمؤالف أنّ من دعا يوم المباهلة كان الحسن والحسين فكانت هذه الفضيلة لهما خاصة دون أبناء العالمين كافّة. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ريحانتاي الحسن والحسين» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحسن والحسين ابناي ، من أحبّهما أحبّني ، ومن أحبّني أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنة. ومن أبغضهما فقد أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه الله ، ومن أبغضه الله أدخله النار على وجهه» (٣).

الحسن السبط عليه‌السلام

قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ابني هذا سيد ، وليصلحنّ الله على يديه بين فئتين من المسلمين عظيمتين» (٤).

__________________

(١) في (ب) : وأجمع.

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ١٣٧١ رقم ٣٥٤٣ و ٥ / ٢٢٣٤ ، رقم ٥٦٤٨ ، عن ابن عمر بلفظ : هما ريحانتاي من الدنيا» ، وأحمد بن حنبل ٢ / ٣٨٦ رقم ٥٧٧٢ ، عن عبد الله ابن عمر رقم ٥٩٤٧ ، ورقم ٦٤١٥. والترمذي ٥ / ٦١٥ رقم ٣٧٧ بلفظ : «إن الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا» ، وغيرهم.

(٣) أخرج الحاكم بلفظه ٣ / ١٦٦ ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، والترمذي ٥ / ٦١٤ رقم ٣٧٦٩ بلفظ : «هذان ابناي وابنا ابنتي ، اللهم إني أحبهما فأحبهما وأحب من يحبهما» والهيثمي ٩ / ١٨١ ، بلفظ : «الحسن والحسين من أحبهما أحببته ومن أحببته أحبه الله ومن أحبه الله أدخله جنات نعيم ومن أبغضهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه الله ومن أبغضه الله أدخله جهنم وله عذاب مقيم» ، وقال : رواه الطبراني.

(٤) البخاري ٣ / ١٣٦٩ رقم ٣٥٣٦ ، ولم يذكر كلمة عظيمتين ، وأبو داود ٥ / ٤٨ رقم ٤٦٦٢ ، والنسائي ٣ / ١٠٧ رقم ١٤١٠ والترمذي ٥ / ٦١٦ رقم ٣٧٧٣.

الحسين السبط عليه‌السلام

قال فيه رسول الله صلي الله عليه وآله : «حسين مني وأنا من حسين ، أحبّ الله من يحبّ حسينا ، حسين سبط من الأسباط» (١).

المعصومون الخمسة صلوات الله عليهم

روينا عن ابن عباس عن رسول الله صلي الله عليه وآله أنه قال : لما أمر الله آدم بالخروج من الجنة رفع طرفه نحو السماء فرأى خمسة أشباح على يمين العرش ، فقال : إلهي خلقت خلقا قبلي؟ فأوحى الله إليه : أما تنظر إلى هذه الأشباح؟ قال : بلى ، قال : هؤلاء الصّفوة من نوري اشتققت أسماءهم من اسمي ، فأنا المحمود وهذا محمد ، وأنا العالي وهذا علي ، وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا المحسن وهذا الحسن ، ولي الأسماء الحسنى وهذا الحسين. قال آدم : فبحقهم اغفر لي. فأوحى الله إليه : قد غفرت لك. قال بعض علماء التفسير : وهي (٢) الكلمات التي قال الله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) [البقرة : ٣٧] (٣).

ولنقتصر على هذا القدر من فضائل الخمسة ، فإنّ فضائلهم أكثر من أن نأتي على عشر عشرها في كتابنا هذا.

__________________

(١) الترمذي ٥ / ٦١٧ رقم ٣٧٧٧.

(٢) في (ب) : وهذا.

(٣) تنبيه الغافلين ٣٦ ، وحميد في الحدائق الوردية ١ / ١٤ ، وعزاه إلى الحاكم في السفينة ، وممن ذكر أن الكلمات التي تلقاها آدم التوسل بحقهم. السيوطي في الدر المنثور ١ / ١١٤ ، والكوفي في المناقب ١ / ٥٤٧ ، وابن المغازلي ٥٩ رقم ٨٩.

زين العابدين علي بن الحسين السبط (ع)

روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «يولد للحسين (١) ابن يقال له : عليّ ، إذا كان يوم القيامة ناد مناد ليقم سيد العابدين» (٢).

الباقر محمد بن علي زين العابدين (ع)

روينا أنّ جابر بن عبد الله الأنصاري رحمه‌الله عاش إلى أن أدرك باقر علم الأنبياء محمد بن علي ، فقال له جابر : يا محمد إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصاني أن أبلّغك عنه السّلام. وجابر يومئذ شيخ كبير أعمى (٣).

أخوه زيد بن علي (ع) (٤)

روينا عن الباقر محمد أنه قال حدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) في (ب) : الحسين بن علي.

(٢) أخرجه الموفق بالله في الاعتبار وسلوة العارفين ٦٣٥ ، وشمس الأخبار ١ / ١١٨.

(٣) دلائل الإمامة ٢١٨ لمحمد بن جرير بن رستم الطبري ، ومدينة المعاجز ٣٢٢.

(٤) هو أبو الحسين إمام الأئمة ، حليف القرآن ، ولد بالمدينة سنة ٧٥ ه‍ على الأصح ، ونشأ بها. ورضع العلم من بيت النبوة على يد والده وأخيه الباقر ، كان من عظماء أهل البيت علما وزهدا ، وشجاعة ودينا وكرما ، وكان قد شاب عصره من الأفكار الدخيلة على الدين فقام بثورته الفكرية ضد القدرية والمجسمة والمشبهة وغيرهم ، فألف الرد على القدرية والجبرية ، والرد على المرجئة ، والصفوة ، وإثبات الوصية ، وإثبات الإمامة ، وغيرها. وبعد ذلك بدأ في ترسيخ أهم مباديه العظيمة «مبدأ الخروج على الظلمة» ودفع من أجله حياته ، وكان قد حاول الأمويون إلغاء هذا المبدأ وأسسوا مبدأ طاعة ملوك الجور حتى وإن جلد ظهرك ، وأخذ مالك ، وهتك عرضك ، وأجروا ذلك على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ففتح باب الجهاد ، وكان قد بايعه من الفقهاء الذين أخذوا عنه أبو حنيفة وأعانه بمال كثير ، وقد انطوى ديوانه على خمسة عشر ألف مقاتل من الكوفة ، وخرج معه من القراء والفقهاء الكثير ، واستشهد في ٢٥ محرم ١٢٢ ه‍.

قال : «يخرج من ولده (١) رجل يقال له : زيد ، يقتل بالكوفة ، ويصلب بالكناسة ، يخرج من قبره نبشا ، تفتح لروحه أبواب السماء ، يبهج أهل السماوات ، يقولون : هؤلاء دعاة الحق» (٢).

وعن الصادق أبي عبد الله جعفر بن الباقر (ع) بإسناده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال للحسين «يخرج من صلبك رجل يقال له : زيد ، يتخطى هو وأصحابه رقاب الناس يوم القيامة غرّا محجّلين ، يدخلون الجنة» (٣).

وعن حذيفة بن اليمان أنه قال : نظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زيد بن حارثة ، فقال : «المقتول في الله ، والمصلوب في أمتي ، والمظلوم من أهل بيتي سمي هذا» ، وأشار بيده إلى زيد بن حارثة. فقال : ادن مني يا زيد ، فقد زادك اسمك عندي حبّا فأنت سمي الحبيب من أهل بيتي» (٤).

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : الشهيد من ذرّيتي ، والقائم بالحق من ولدي المصلوب بكنّاسة كوفان ، إمام المجاهدين (٥) ، وقائد الغرّ المحجّلين ، يأتى يوم القيامة هو وأصحابه تلقاهم الملائكة المقربون ، ينادونهم : ادخلوا الجنّة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون (٦). والأخبار فيه أكثر من أن نحصيها (٧).

__________________

(١) في (ب) : من ولدي.

(٢) شمس الأخبار ١ / ١٢١ بلفظ مقارب. ومقاتل الطالبيين باختلاف يسير ص ١٣١.

(٣) شمس الأخبار ١ / ١٢١ ، وفي تخريج الجلال قال : أخرجه الحاكم في جلاء الأبصار. وأبي الفرج في المقاتل ص ١٣٠ ، وسلوة العارفين ٥٤٥.

(٤) شمس الأخبار ١ / ١١٩ وعزاه إلى الموفق بالله. وابن عساكر في تاريخه ١٩ / ٤٥٨.

(٥) في الأصل فقط إمام المهاجرين.

(٦) أبو طالب في أماليه ص ١٠٥.

(٧) في (ج) : من أن تحصى.

النفس الزكية :

وهو الإمام محمد بن عبد الله العالم بن الإمام الحسن الرضى بن الإمام الحسن السبط ابن الإمام أمير المؤمنين وصي رسول الله صلوات الله عليهم أجمعين.

روينا عن الشيخ أبي القاسم إسماعيل بن أحمد البستى رحمه‌الله أنه روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يقتل من ولدي عند أحجار الزيت رجل اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، وإنّه النفس الزكية» ، فكان ذلك محمد بن عبد الله عليه‌السلام.

وروينا عن الشريف العقيقي (١) مصنف كتاب الأنساب ما مثاله قال : كتب إليّ عباد يخبرني عن يحيى بن حمّاد عن عمر قال : كنت مع محمد بن عبد الله في منزله ، فذكرنا النفس الزكية فخرجنا حتى انتهينا إلى أحجار الزيت ، فقال عليه‌السلام : هاهنا يا أبا حفص يقتل النفس الزكية. وإنما ذكر ذلك لما جاء في الحديث أنّ النفس الزكية يقتل فيسيل دمه إلى أحجار الزيت. لقاتله ثلث عذاب أهل النار (٢).

__________________

(١) يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام السجاد زين العابدين ، أبو الحسين العبيدلي العقيقي ، ولد سنة ٢١٤ ه‍ ، مؤرخ نسابة ، من أهل المدينة ، وهو أول من صنف في أنساب الطالبيين ، كان من أصحاب القاسم بن إبراهيم ، وتلاميذ الحافظ بن عقدة ، توفي سنة ٢٧٧ ه‍ ، وله أنساب الطالبيين ، وأخبار مكة ، ومسائل الإمام القاسم. ينظر الأعلام ٨ / ١٤١ ، وأعلام المؤلفين الزيدية ١٠٩٦.

(٢) الشافي ١ / ١٩٩ ، ومقاتل الطالبين ١٦٧ ، والحدائق الوردية (خ) ١ / ١٦٦ بلفظه ، ورسائل العدل والتوحيد ٢ / ٧٢ / ٧٣.

وروى جماعة من علماء المدينة أنهم أتوا علي بن الحسين عليه‌السلام فذكروا له القيام ، فقال محمد بن عبد الله : أولى بهذا مني ، وذكر حديثا طويلا فقال ، ثم أوقفني عند أحجار الزيت ، فقال : هاهنا يقتل النفس الزكية.

وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : النفس الزكية من ولد الحسن فلما قتل محمد بن عبد الله عند أحجار الزيت عرف أنّه النفس الزكية.

وروي عن محمد بن عبد الله عليه‌السلام أنه قال : آية قتل النفس الزكية أن يسيل الدّم حتى يدخل بيت عاتكة. قال فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل بيت عاتكة؟ فكان يوما مطيرا فسال الدم حتى دخل بيت عاتكة (١). وهذه الأخبار مأخوذة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن جبريل عن الله تعالى ؛ لأنها أخبار (٢) غيوب.

الإمام الحسين [الفخّي]

ابن علي العابد ابن الإمام الحسن الرضى (ع) وعن يحيى بن زيد عن أبيه زيد بن علي (ع) أنه قال : انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى موضع فخّ فصلّى بأصحابه صلاة الجنائز ، ثم قال : «يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين ، ينزّل عليهم بأكفان وحنوط من الجنة ، تسبق أرواحهم أجسادهم». وذكر من فضلهم أشياء لم يحفظها الراوي (٣).

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ١٨٣ ، والحدائق الوردية (خ) ١ / ١٦٦.

(٢) في (ب) : إعلام.

(٣) الشافي ١ / ٢١٧ ـ ٢١٨. ومقاتل الطالبين ٤٣٦ ، والرازي في أخبار فخ ٢٨٠.

وعن الباقر عليه‌السلام أنه قال : مرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفخّ ، فنزل فصلّى ركعة ، فلما صلّى الثانية بكى وهو في صلاته ، فلما رآه الناس يبكي بكوا ، فلما انصرف قال : ما يبكيكم؟ ، قالوا : لمّا رأيناك تبكي بكينا يا رسول الله ، قال : نزل عليّ جبريل لمّا صليت الركعة الأولى ، فقال لي : يا محمد إنّ رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان أجر الشهيد معه أجر شهيدين (١).

وروي أنّ جعفر الصادق بن محمد الباقر (ع) لما انتهى في طريقه من المدينة إلى فخ يريد مكة توضأ وصلّى ثم ركب فسئل : هل هذا شيء من مناسك الحج أو لا؟ قال : لا ، ولكن يقتل رجل من أهل بيتي هاهنا في عصابة من المؤمنين تسبق أرواحهم أجسادهم (٢) إلى الجنة (٣).

وروي مثل ذلك عن عبد الله بن الحسن الرضى (ع) إلا أنه لم يتوضأ ، ولم يصلّ فكان المقتول في هذا الموضع هو الحسين بن علي العابد ، ولذلك سمّي الفخي عليه‌السلام.

الإمام الرضى علي بن موسى الكاظم

ابن جعفر الصادق بن محمد الباقر (ع) : روينا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ستقتل بضعة مني بخراسان ، ما زارها مكروب إلا نفس الله كربته ، ولا مذنب إلا غفر الله ذنبه» (٤). وعن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ستلقى بضعة مني بخراسان لا يزورها مؤمن إلا أوجب الله له الجنة ، وحرم جسده على النار».

__________________

(١) الحدائق الوردية ١ / ١٧٦. ومقاتل الطالبيين ٢٩٠. والشافي ١ / ٢١٨.

(٢) في (ب) : وأبدانهم.

(٣) مقاتل الطالبين ٢٩٠. والشافي ١ / ٢١٨.

(٤) في (ب) : غفر له الله ذنبة.

وعن الباقر عليه‌السلام أنه قال : من زار قبر ابني بطوس غفر الله له ما تقدّم من ذنبه ، وإذا كان يوم القيامة نصب له منبر بحذا منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعن الرضى علي بن موسى (ع) أنه قال : «ألا وإني مقتول بالسم ظلما ، ومدفون في موضع غربة ، من شدّ رحله إلى زيارتي استجيب دعاؤه ، وغفر ذنبه.

وكلّ هذه الأخبار قاضية بفضل علي بن موسى الرضى ، إذ هذه الأمارات كلّها فيه ؛ فإنّ المأمون أنكحه ابنته متحيلا لقتله ، ثم دسّ له السم فقتله به ، ثم أظهر الجزع عليه ، ودفنه بطوس في أرض خراسان ، والأمر فيه ظاهر مشهور وقبره بطوس مزور (١).

الإمام القاسم [الرسي]

ابن إبراهيم الغمر (٢) طباطبا بن إسماعيل الديباج (٣) بن إبراهيم الشّبه ؛ لأنه كان يشبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بن الإمام الحسن الرضى بن الإمام الحسن السبط (ع) : كان عليه‌السلام معروفا بالفضل ، أجمع على فضله المخالف والمؤالف ، ولم ينكره عالم عارف ، وبلغ في الزهد مبلغا عظيما ، وكان بجميع فنون العلم عليما.

__________________

(١) مقاتل الطالبين ٥٦٦. والشافي ١ / ٢٦٥. قد زرته عند ذهابي إلى إيران بدعوة من السيد جواد الشهرستاني ، وكيل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني ، ووجدت الزحام على قبره يشبه الطواف حول الكعبة ، ويسمى عليه‌السلام : بملك خراسان وأكثر عقارات (مشهد) وتلك الديار أوقاف الإمام علي بن موسى لكن قبور أئمة كبار من آل البيت مهجورة مثل الناصر الاطروش والإمام الداعي والمؤيد بالله ، فأرجو أن يلتفت إليها الأخوة في تلك الديار وعلى رأسهم المرشد آية الله الخامنئي والذي أصدر توجيها بعمارة قبر الناصر كما بلغني.

(٢) بالفتح : الكثير المعروف. وسمّي بذلك لجوده.

(٣) سمّي الديباج لجماله.

ونحن نروي أنه دعا الله في مخمصة فتهدّل البيت عليه رطبا ، ودعا الله في ظلمة فأمدّه بالنور في الحال فزالت عنه الظلمة (١). فأما ما ورد فيه من الأخبار فمما هو في أفواه الناس ، ويروونه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لفاطمة (ع) : «يا فاطمة منك هاديها ومهديها ومستلب الرباعيتين». يعني القاسم بن إبراهيم ، هكذا يروونه مفسّرا ، ولم تصح لي فيه الرواية عمن أثق به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونعوذ بالله أن نقول على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يقل ، ثم روى لي من أثق به بإسناده إلى رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لفاطمة (ع) (٢) : «يا فاطمة منك هاديها ومهديها ومسترق الرباعيتين ، لو كان بعدي نبيّ لكان نبيّا».

الإمام الهادي إلى الحق

يحيى بن الحسين الحافظ بن الإمام القاسم بن إبراهيم الغمر (ع) : روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أشار بيده إلى اليمن ، وقال : «سيخرج رجل من ولدي في هذه الجهة اسمه يحيى الهادي ، يحيي الله به الدّين» (٣).

وعن الباقر عليه‌السلام ، أنه قال : إذا قتل أهل مصر كبيرهم ، وظهر اليمانيّ باليمن ، فإنه يملأ الأرض عدلا. فقتل أهل مصر كبيرهم سنة قام الهادي إلى الحق عليه‌السلام (٤).

وعن أبي العباس القيسراني ، أنه قال : صاحب الحقّ حسنيّ ، يظهر باليمن ،

__________________

(١) ذكره في الشافي ١ / ٢٦٤.

(٢) في (ب) : بحذف لفاطمة.

(٣) الحدائق الوردية ٢ / ١٤. والتحف شرح الزلف ص ١٠٠.

(٤) سيرة الهادي ص ٢٩. حيث قتل والي مصر وهو خمارويه بن أحمد بن طولون عام ٢٨٢ ه‍. ينظر الطبري ١٠ / ٤٢. وسيرة الهادي ص ٢٠. وهو نفس العام الذي دخل الهادي عليه‌السلام صنعاء.

اسم أبيه ستّة أحرف (١). وروي أنه لمّا ولد يحيى بن الحسين الهادي عليه‌السلام حمل إلى جده القاسم ، فوضع في حجره المبارك ، وعوّذه ودعا له ، ثم سأل أباه الحسين ما سمّاه؟ قال : يحيى ، فبكى القاسم عليه‌السلام ، وقال : هو والله يحيى صاحب اليمن. وإنما قال ذلك لأخبار رويت فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢). فمنها ما تقدم ، ومنها قول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : تكون فتن بين الثمانين والمائتين ، فيخرج من عترتي رجل اسمه اسم نبيّ يميّز بين الحق والباطل ، ويؤلّف الله تعالى قلوب المؤمنين على يديه (٣).

ومنها قول الصادق عليه‌السلام : أوّل ما يأتيكم الفرج من اليمن. إلى غير ذلك من الأخبار ، فإنها مما لا يمكننا (٤) حصرها في كتابنا هذا.

الإمام الناصر للحق الحسن

ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر الأشرف بن علي زين العابدين (ع). وهو المعروف بالأطروش.

روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ويده اليمنى علي كتفي : «يا عليّ يكون من أولادك رجل يدعى بزيد المظلوم ، يأتي يوم القيامة مع أصحابه على نجب من نور ، يعبر على رءوس الخلائق كالبرق اللامع يقدمهم زيد ، وفي أعقابهم رجل يدعى بناصر الحق ، يقفون على باب الجنة فتستقبلهم الحور العين ، وتجذب بأعنّة نجبهم إلى أبواب قصورهم».

__________________

(١) سيرة الهادي ص ٣٠ ، قال عن أبي عباس الفرياني.

(٢) الحدائق الوردية ٢ / ١٣. والتحف شرح الزلف ص ١٦٧.

(٣) سيرة الهادي ص ٣١ ، والحدائق الوردية ٢ / ١٤. والتحف شرح الزلف ص ١٦٨.

(٤) في (ب) : يمكن.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه خطب خطبة بليغة بالكوفة اشتملت على أمور كثيرة وذكر فيها خروج الشيخ ، وأنه يخرج نحو الديلم من جبال طبرستان (١).

وروينا من خطبته عليه‌السلام يوم النهروان قوله : وظهر العلم الأحمر ، والراية الصفراء من أرض جيلان ، والشيخ الأصمّ مع أقوام مستضعفين. ثم قال : تلك راية يسير بها رجل من ولدي اسمه اسم ابني يظهر الحق. وإنما أراد بقوله : اسم ابني يعني : الحسن بن علي (ع). وإنما قال : الأصم ؛ لأنّ أعداء الله تعالى هجموا عليه في داره وقد ظهر عليهم أنّه يريد الخروج عليهم وأنه قد أجابه قوم ، فقبضوه وسألوه عمن قد أجابه ، ووعدوه التخلية عن سبيله إن هو أخبرهم بمن قد أجابه ، فأبى أن يخبرهم فضربوه ثلاثمائة سوط ، بعد أن ضربوه خمسين سوطا قبل ذلك ، وهو لا يخبرهم مع ذلك حتى سقط كالميت ، والدّم يخرج من إحدى أذنيه ، ويدخل إلى الأخرى ، فتجمّد فيها ، فأصابه الطّرش لذلك مع أنه كان يسمع إذا جهر له ، ويجيب المتعلمين والسائلين عن مسائلهم.

ومن جملة ما ورد من البشارات بالناصر للحق عليه‌السلام ما أنزل الله تعالى في كتاب دانيال (٢) ، فإنّ فيه : أنّ الشيخ الأصمّ يخرج في بلد يقال لها : ديلمان ، ويكابد من أصحابه وأعدائه جميعا ما لا يقادر قدره ، ولكنّ عاقبته محمودة (٣).

__________________

(١) الحدائق الوردية ٢ / ٢٩.

(٢) دانيال : اسم نبي من أنبياء بني إسرائيل. وكتابه منزل من عند الله سبحانه وتعالى.

(٣) الشافي ١ / ٣٠٩. وأخبار الأئمة الزيدية ص ٢١٣.

المهدي [المنتظر] عليه‌السلام

روينا عن أم سلمة (رض) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «كيف تهلك أمّة أنا أوّلها ، والمهديّ وسطها ، والمسيح آخرها» ، وقالت أم سلمة : من المهديّ؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بني فاطمة» (١). وعن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «نحن سبعة سادات أهل الجنة : أنا ، وأخي عليّ ، وعمي حمزة ، والحسن ، والحسين ، وجعفر ، والمهديّ ، (ع)» (٢). وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل سبعة يدخلون الجنة : أنا ، وحمزة ، وجعفر ، وعليّ ، والحسن ، والحسين ، والمهديّ محمد بن عبد الله». وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تذهب الدّنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ، واسم أبيه اسم أبي ، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما» (٣). وفي خبر آخر : «يملك الأرض سبع سنين».

وفي حديث أبي سعيد الخدري عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «فيجيء الرجل فيقول : يا مهديّ أعطني قال (٤) ، فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمله» (٥).

__________________

(١) الكنز ١٤ / ٢٦٩ رقم ٣٨٦٨٢ ، عن ابن عباس ، وبلفظ : «كيف تهلك أمة أنا في أولها ، وعيسى بن مريم في آخرها ، والمهدي من أهل بيتي في وسطها». وفي ابن ماجة ٢ / ١٣٦٨ عن سعيد بن المسيب قال : كنا عند أم سلمة ، فتذاكرنا المهدي ، فقالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «المهدي من ولد فاطمة».

(٢) ابن ماجة ٢ / ١٣٦٨ برقم ٤٠٨٧ وبلفظ مقارب. وذخائر العقبى ص ١٥. وفضائل الصحابة لأحمد جزء منه ٢ / ٧٨٩.

(٣) أخرجه الترمذي ١ / ٤٣٨ رقم ٢٢٣٠ ، وقال : حديث حسن صحيح. وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٨٧. وفي هذا المقام أحاديث كثيرة بألفاظ متعددة.

(٤) في (ب) : بحذف قال.

(٥) الترمذي ٤ / ٤٣٩ برقم ٢٢٣٢.

وفي حديث جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعدّه» (١). إلى غير ذلك من الأخبار فإنها كثيرة.

جماعة معيّنون

روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها» (٢). تمّ كلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأقول : إنّا نظرنا في أهل البيت (ع) من كان منهم في هذا الوقت يصلح للإمامة والإفادة للمسلمين عامة (٣) ، فكان على رأس مائة سنة زيد ومحمد الباقر ابنا علي زين العابدين. وعلى رأس المائتين محمد والقاسم [الرسي] ابنا إبراهيم. وعلى رأس الثلاثمائة المرتضى لدين الله محمد بن الهادي والناصران جميعا الحسن بن علي الأطروش ، وأحمد بن الهادي. وعلى رأس الأربعمائة المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني (٤). وعلى رأس الخمسمائة أبو طالب يحيى ابن الأمير أبي القاسم ابن الإمام المؤيد بالله. وعلى رأس الستمائة المنصور بالله عبد الله بن حمزة صلوات الله عليهم جميعا ، وعلى آبائهم الأكرمين (٥).

__________________

(١) مسلم ٤ / ٢٢٣٥ عن جابر وأبي سعيد. وأحمد بن حنبل ٥ / ١٥٦ رقم ١٤٤١٣ ، بلفظ مقارب.

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ٤٨٠ رقم ٤٢٩١. والحاكم ٢ / ٥٢٢.

(٣) في (ب) : ولإفادة المسلمين عامة.

(٤) ولد سنة ٣٣٣ ه‍ ، وهو بحر لا ينزف ، وإمام في كل فن ، حتى قيل : إنه في عدله وأهل البيت في عدله ، وبويع له بالخلافة سنة ٣٨٠ ه‍ ، وتوفي سنة ٤١١ ه‍ ، وله مؤلفات منها : شرح التجريد والإفادة والهوسميات والزيادات والتفريعات والتبصرة والأمالي الصغرى والنوات والبلغة وسياسة المريدين. ينظر التحف ٢١١.

(٥) والمجدد على رأس السبعمائة الإمام المتوكل على الله المظلّل بالغمام المطهر بن يحيى وولده الإمام المهدي محمد بن المطهر. [التحف ٢٦٥]. وعلى رأس الثمانمائة الإمام الهادي إلى الحق علي بن المؤيد بن جبريل [التحف ٢٨٥]. وعلى رأس التسعمائة الإمام المؤتمن

ومن عرف أخبارهم واقتص سيرتهم وآثارهم علم أنّ من هؤلاء من دعا إلى الإمامة لرأس المائة السنة. ومنهم من كملت المائة وقد صار من العلم والفضل بالمنزلة التى معها يهتدى به ، ويغترف من بحر علمه ، ويفزع إليه في المهمات ويفتح بعلمه أقفال المشكلات.

فصل : في فضل أهل البيت على العموم

اعلم أيها المسترشد أنّ هذا باب واسع ، ولو استقصينا ما ورد فيه لخرجنا عن الغرض بالكتاب ، ولد خلنا في المكروه من الإطناب والإسهاب. فلنذكر من ذلك ما هو كالتنبيه عليه ، وكالإشارة إليه.

ذكر فضلهم على غيرهم

روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «نحن أهل البيت شجرة النبوة ، ومعدن الرسالة ، ليس أحد من الخلائق يفضل أهل بيتي غيري» (١).

وجوب الصلاة عليهم

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ارفعوا أصواتكم بالصلاة عليّ وعلى أهل بيتي فإنها تذهب بالنّفاق» (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ،

__________________

عز الدين بن الحسن [التحف ٢٩٦]. وعلى رأس الألف الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد [التحف ٣٢١] والإمام عبد الله بن علي من أحفاد الإمام عز الدين بن الحسن. وعلى رأس الألف والمائة الإمام المؤيد بالله محمد بن الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم [التحف ٣٤٤]. وعلى رأس الألف والمائتين الإمام المتوكل على الله إسماعيل بن أحمد بن الكبسي المغلس [التحف ٣٥٢]. وعلى رأس الألف والثلاثمائة الإمام محمد بن القاسم الحوثي [التحف ٣٦٤ ـ ٣٦٥]. هذا ما ذكره الوالد مجد الدين مؤلف التحف.

(١) المرشد بالله ١ / ١٥٤. والشافي ١ / ٧٢.

(٢) أمالي أبي طالب ص ٣٥٥ ، وفي هامش (ب) تعليق للوالد مجد الدين عافاه الله ضعّف حديث ارفعوا أصواتكم ؛ لعدم صحة طرقه بعد البحث والتحقيق ؛ ولأن بعض رواته من الغلاة وهو أحمد بن محمد البرقي ، وقد قدح فيه بعض الإمامية مع أنه منهم ،

ولكن صلّوا عليّ وعلى آلي معي ، فإنّ الله لا يقبل الصلاة عليّ إلا بالصلاة على آلي» (١).

وجوب مودّتهم

قال الله سبحانه : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] فجعل الله سبحانه مودتهم مستحقّة ؛ لأنه جعلها أجرا. والأجر لا يكون إلا مستحقّا. ولا خلاف بين المسلمين في وجوب تسليم الأجرة إلى الأجير. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه» (٢). ولفظة : القربى المراد بها القرابة بدليل قوله سبحانه (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) [الأنفال : ٤١].

ولا خلاف بين المسلمين في أنّ المراد به قرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد أوضحنا ذلك عند كلامنا في الأخماس في كتاب ثمرة الأفكار في أحكام الكفار. ولما نزلت هذه الآية وهي قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ

__________________

والحديث وإن رواه بعض أئمتنا المتأخرين فقد أوضحوا سنده فالعهدة على المطلع في النظر في الرجال ، وقد قال النجاشي : إنه ـ أي البرقي ـ قد أكثر الرواية عن الضعفاء ، واعتمد على المراسيل ، وفي الخلاصة للحلي من الإمامية والنجاشي عن الغضائري أن القميون طعنوا عليه ، وليس للطعن فيه ، إنما الطعن في من يروي عنه ، فإنه كان لا يبالي عمّن يأخذ على طريقة أهل الأخبار. وهذا الكلام منقول من أعيان الشيعة للأميني ٣ / ١٠٦ ، وقد ساق الأميني توثيقه عن كبارهم ، ثم استدل الوالد مجد الدين بأنه مخالف لقوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً) ، ونحوها ، ولم يشرع رفع الصوت إلا في الأذان والخطب وإمام الصلاة ، والتلبية.

(١) الشافي ٤ / ٩٦ ، وذكر أنه رواه عن أبيه مسندا.

(٢) أخرجه ابن ماجة ٢ / ٨١٧ رقم ٢٤٤٣. والطبراني في الصغير ص ٥٢ رقم ٣٤. والبيهقي في السنن ٦ / ١٢٠.

فِي الْقُرْبى) ، قيل : يا رسول الله ، من قرابتك الذين أمرنا بمودتهم؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فاطمة وولدها» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة ، أغصانها في الدنيا ، فمن شاء اتّخذ إلى ربه سبيلا. وإنّ الله جعل أجري عليكم المودة في أهل بيتي. وإني سائلكم غدا فمحف بكم (٢) في المسألة» (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي عليه‌السلام : «من أحبّ ولدك فقد أحبّك ، ومن أحبّك فقد أحبّني ، ومن أحبّني فقد أحبّه الله ، ومن أحبّه الله أدخله الجنة» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «والله لا تؤمنون حتى تحبّوني ، والله لا تحبّوني حتى أكون عند المؤمن آثر من نفسه. وأهل بيتي آثر عنده من أهل بيته. وولدي أحب إليه من ولده. وأزواجي أحب إليه من أزواجه». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو أنّ عبدا عبد الله بين الركن والمقام ألف عام ، ثم ألف عام ، ولم يقل بحبنا أهل البيت أكبّه الله على منخره في النار».

وجوب إكرامهم وقضاء حوائجهم

روينا عن أمير المؤمنين عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أربعة أنا شفيع لهم يوم القيامة : المكرم لذرّيّتي ، والقاضي لهم حوائجهم ، والساعي لهم في أمورهم عند ما اضطروا إليه ، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة : الضارب بسيفه أمام ذرّيّتي ، والقاضي لهم

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ / ١٣٠ رقم ٨٢٢ ـ ٨٢٩. والطبراني في الكبير ٣ / ٤٧ رقم ٢٦٤١. والعمدة لابن البطريق ص ٩١. وأحمد بن حنبل كما في هامش العمدة وقد سبق تخريجها.

(٢) في (ب) بدون في.

(٣) الصواعق لابن حجر ص ١٥٠.

(٤) الأحكام ٢ / ٥٥٥.

(٥) علي بن موسى ص ٤٦٣. وفرائد السمطين ٢ / ٢٧٧. وذخائر العقبى ص ١٨. وكنز العمال ١٢ / ١٠٠ رقم ٣٤١٨٠.

حوائجهم عند ما اضطروا إليه ، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من اصطنع إلى أحد من أهل بيتي معروفا فعجز عن مكافأته كنت أنا المكافي له يوم القيامة» (٢).

حكم باغضهم وقاتلهم والمعتدي عليهم

روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «اشتدّ غضب الله على اليهود ، واشتدّ غضب الله على النّصارى ، واشتدّ غضب الله على من آذاني في عترتي» (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لعلي عليه‌السلام : «يا عليّ من أبغض ولدك فقد أبغضك ، ومن أبغضك فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله ، ومن أبغض الله أدخله النار» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «حرّمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم ، والمعين عليهم ، ومن سبّهم ، أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الويل لظالم أهل بيتي ، عذابهم مع المنافقين في الدّرك الأسفل من النار» (٦). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «اشتدّ غضب الله وغضب رسوله على من

__________________

(١) أمالي أبي طالب ص ٤٤٣.

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط ٢ / ١٢٠ رقم ١٤٤ بلفظ : «من صنع إلى أحد من ولد عبد المطلب يدا فلم يكافئه بها في الدنيا فعليّ مكافأته غدا إذا لقيني». ورواه الجعابي في تاريخ الطالبيين كما ذكره الأمير. ينظر كشف الخفاء ٢ / ٢٢٥.

(٣) كنز العمال ١٢ / ٩٣ رقم ٣٤١٤٣٧ ، ٥ / ٢٧٦. وفيض القدير للمناوي ١ / ٥١٥ كما ذكره في فضائل الخمسة.

(٤) الأحكام ٢ / ٥٥٥.

(٥) أمالي أبي طالب ص ١٢١. وصحيفة الإمام علي الرضى ص ٤٦٢.

(٦) صحيفة علي بن موسى الرضى ص ٤٦٤.

أهرق دم ذرّيتي ، وآذاني في عترتي» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أبغضنا أهل البيت بعثه الله يهوديّا. قيل : وإن صام وصلّى وزعم أنه مسلم؟ قال : وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم» (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من كان في قلبه حبة خردل عداوة لي ولأهل بيتي لم يرح رائحة الجنة». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «في أهل بيته قدّموهم ولا تقدّموهم ، وتعلّموا منهم ولا تعلّموهم ، ولا تخالفوهم فتضلّوا ، ولا تشتموهم فتكفروا» فقضى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو لا يقضي بالهوى إن هو إلّا وحي يوحى ـ بالضلال على من خالفهم والكفر على من شتمهم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يبغضنا أهل البيت إلا ثلاثة : من يؤتى من دبره ، ومن كان لغير رشدة ، ومن حملت به أمّه في غبّر (٣) حيضة» (٤) يريد (٥) آخر حيضة. إلى غير ذلك من الأخبار في كونهم أمانا لأهل الأرض. روينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «النجوم أمان أهل السماء ، وأهل بيتي أمان أهل الأرض ، فإذا ذهبت النجوم من السماء أتى أهل السماء ما يوعدون ، وإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون» (٦).

__________________

(١) المناقب لابن المغازلي ص ٤٦ رقم ٦٤. ولسان الميزان ٥ / ٣٦٢. والبساط ص ٩٨.

(٢) الطبراني في الأوسط ٤ / ٢١٢ رقم ٤٠٠٢.

(٣) غبّره : بقية دم الحيض. القاموس ص ٥٧٥.

(٤) أخرجه المرشد بالله حديثا بنفس المعنى قال : «من لم يعرف حق عترتي والأنصار والعرب فهو لإحدى ثلاث : إما منافق ، وإما لزنية ، وإما امرؤ حملت به أمه في غير طهر». والمناقب للكوفي ٢ / ٦٠١ بلفظ : «لا يبغض أهل بيتي من الناس إلا ثلاثة : رجل وضع على فراش أبيه لغير أبيه ، ورجل جاءت به أمه وهي حائض ، ورجل منافق».

(٥) في (ب) : يريد في.

(٦) نهج البلاغة الخطبة رقم ٩٨ ص ٢٧١.

وفي بعض الأخبار : «فإذا انقرضوا من الأرض صبّ الله عليهم العذاب صبّا» ، يعنى على أهل الأرض. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «بنا أهل البيت بدأ الله الدنيا ، وبنا يختم الدنيا». وفي وجوب إجابة دعوتهم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبّه الله على منخريه في نار جهنم» (١).

وفي اتباع مذهبهم وعصمة جماعتهم

قال الله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣]. وروينا بالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه دعى بعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) وأجلسهم عن يمينه ويساره ومن خلفه وقدّامه ثم جلّلهم بكساء فدكيّ ، ثم قال : «اللهم إنّ هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا». فقالت أمّ سلمة (رض) : وأنا من أهل بيتك يا رسول الله؟ فقال : لست منهم وإنك لعلى خير (٢) ، فسمّيت بعد ذلك (٣) أمّ سلمة الخير.

وفي ذلك أخبار غير هذا عن عائشة ، وأمّ سلمة (رض) حذفناها هنا للاختصار. وإذا ثبت ذلك فالآية وإن كانت نازلة فيمن تقدم ذكره وهم الخمسة صلوات الله عليهم ؛ فإنه لا يجب قصر الآية عليهم ؛ لأنّ الدليل هو الخطاب ، وهو عامّ ، فيجب إجراؤه على عمومه. واستعماله فيمن يتناوله اسم البيت حقيقة ؛ لأنّ السبب ليس بدليل فيقال بوجوب قصر الخطاب عليه. وقال

__________________

(١) أخرجه المؤيد بالله في التجريد ٢ / ٢٥٥. والطبري في تاريخه ٥ / ٤٠٧ في سياق كلام الحسين عليه‌السلام.

(٢) الكوفي في المناقب ٢ / ١٣٢. وشواهد التنزيل ٢ / ٥٥.

(٣) في (ب) : لذلك.

الله سبحانه : (هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨] فاختارهم له شهداء ، وهو لا يختار شهودا إلا العدول الذين لا يجمعون على ضلالة ولا خطإ ، فثبت بذلك عصمة جماعتهم. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهل بيتي فيكم كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق وهوى» (١). والمعلوم أنه لم ينج من أمة نوح إلا من ركب في السفينة ، فيجب أن لا ينجو من هذه الأمة إلا من تمسّك بالعترة ، واتبع مذاهبهم ، واعتصم بهم ، وإلا بطل التشبيه ، وهو كلام حكيم لا يجوز ذلك فيه. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدا (٢) : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» (٣).

فجعل التمسك بهم كالتمسك بالكتاب ، فكما أن المتمسك بالكتاب لا يضلّ ، فكذلك المتمسك بهم. وإلا بطلت فائدة الخطاب.

وجوب نصرتهم والقيام معهم والذّبّ عنهم

روينا عن زيد بن علي عن آبائه عن علي أمير المؤمنين (ع) أنه قال : «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكنت أبايع له على السمع والطاعة في العسر واليسر وفي الأثرة علينا وأن نقيم ألسنتنا بالحق ، ولا يأخذنا في الله لومة لائم. فلمّا ظهر الإسلام وكثر أهله قال يا عليّ : «ألحق فيها أن تمنعوا رسول الله وذريته من

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) في (ب) : بعدي أبدا.

(٣) سبق تخريجه.

بعده مما منعتم منه أنفسكم وذراريكم» ، قال علي : فوضعتها على رقاب القوم ، وفي بها من وفى ، وهلك بها من هلك (١).

وفي زيارة قبورهم

قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبرا من قبور أهل البيت ثم مات في عامه الذي زار (٢) فيه وكّل الله بقبره سبعين ملكا يسبّحون له إلى يوم القيامة» (٣). ولنقتصر على هذا القدر من فضائل أهل البيت (ع) فليس غرضنا إلا التنبيه لا غير ونحن نسأل الله أن يجعلنا ممن أخذ في هذا الفضل بنصيب ، وأن يكفينا شر يوم عصيب ، ويصلي على محمد وآله.

فصل : إن قيل : قد رويتم في كتابكم هذا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل أهل بيته أحد الثّقلين ، وأنّ الثقلين هما الكتاب والعترة ، وأنه يجب التمسك بهما ، وأن من تمسك بهما نجا ، وقد ثبت أن في أهل البيت عصاة لا تجوز موالاتهم ، ومخالفون (٤) للحق وأهله لا يحل اتّباعهم.

قلنا : وكذلك في القرآن منسوخ سقط حكمه فلا يجوز لأهل الأيمان العمل به ، ومتشابه يتّبعه أهل الزيغ والضلال يجب رده إلى أدلة العقول ومحكم القرآن ، ولا يحل العمل بما يقتضيه ظاهره. فإن قلت : لا يجب اتّباع

__________________

(١) مجموع الإمام زيد ٤٠٢ ، وأبي طالب ص ١٢٦.

(٢) في (ب) : زاره.

(٣) أبي طالب ص ١١١.

(٤) في هامش (ب) : مخالفين. «ومخالفين» عطف على اسم أنّ ، «ومخالفون» على أنه مبتدأ و «في أهل البيت» خبر مقدم ؛ لأن ، وهو دليل على خبر مخالفون ، والتقدم ، وفي أهل البيت مخالفون من الثاني لدلالة الأول عليه.

القرآن كذلك (١) فقل في أهل البيت (ع) كذلك. قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ). [الحديد ٢٦] ، فلم يسقط (٢) فسق الفاسقين وجوب اتّباع الهداة الصادقين ، ولا إخراجهم من وراثة الكتاب ، فعل أهل الزيغ والارتياب. ونقول : بأن كثيرا مما ذكرناه من فضائلهم من وجوب موالاتهم ، ونصرتهم ، ومودتهم ونحو ذلك إنما يختص به منهم المؤمنون ، ويخرج منه المجرمون ، قال الله سبحانه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣] وقال : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩] وقال : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الآية [المجادلة : ٢٢].

وأما الفصل الثالث :

وهو في ذكر طرف يسير من مناقب أتباعهم وشيعتهم

فقال الله تعالى حاكيا عن إبراهيم الخليل عليه‌السلام : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [إبراهيم : ٣٦] ، فأقرّه الله تعالى ولم يعقبه بإنكار ، فثبت كون أتباعه منه. وسمع إبراهيم بن عبد الله صاحب باخمرا عليه‌السلام (٣) بعض شيعته وقد ضرب رجلا من المسوّدة يقول : خذها وأنا

__________________

(١) في (ب) : لذلك ، وقد كانت في الأصل «لذلك» ثم زاد كافا.

(٢) في (ب) : فلم يسقط في.

(٣) هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) ، كان عالما فاضلا خطيبا مصقعا شاعرا مفلقا شجاعا ، بحيث لا يبالي دخل على الموت أو خرج إليه ، واجتمع معه من الزيدية والمعتزلة ، وأصحاب الحديث ما لم يجتمع مع أحد من أهل بيته ،

الغلام الحداد ، قال عليه‌السلام : لم تقول : أنا الغلام الحداد؟ قل : أنا الغلام العلوي ؛ فإن إبراهيم صلّى الله عليه يقول : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) ، فأنتم منا ونحن منكم ، لكم ما لنا وعليكم ما علينا (١). فعلى هذا نقول : إن أتباع محمد وأهل بيته (ع) يجب أن يكونوا منهم في فضائلهم ومناقبهم.

روى الناصر بإسناده عن الصادق عن آبائه (ع) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال «إن في السماء حرسا وهم الملائكة ، وإن في الأرض حرسا وهم شيعتك يا عليّ لن يبدّلوا ولن يغيّروا» (٢).

فصل : والذي يجمع الشيعة [الزيدية] من القول تفضيل أمير المؤمنين على سائر الصحابة ، وأنه كان أولى بالإمامة ، ويرون الخروج على الظلمة ، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأن الإمامة تستحقّ بالفضل والطلب دون الوراثة وأنه لا نصّ على أعيان الأئمة بعد الحسين بن علي (ع). وذهبت الجارودية إلى حصر (٣) الإمامة في ولد فاطمة من أبناء الحسن والحسين إلى غير ذلك من مذاهبهم. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاكيا عن ربه عزوجل «أنت شجرة ، وعليّ أغصانها ، وفاطمة ورقها ، والحسن والحسين ثمارها. خلقتها من طينة عليين ، وخلقت شيعتكم منكم ، إنهم لو ضربوا على أعناقهم بالسيوف لم

__________________

دعا بعد مقتل أخيه النفس الزكية (ع) ، وقد كان بلغه خبر استشهاده يوم العيد غرة شوال فصلّى بالناس صلاة العيد ثم رقى المنبر وخطب ، وذكر مقتل أخيه ، ونعاه إلى الناس ؛ فلما نزل بايعه الكثير من العلماء والفقهاء والزهاد ، واستشهد في ١ / ذو الحجة سنة ١٤٥ ه‍ بباخمرا ، وهي منطقة بين البصرة والكوفة ، في المعركة التي كانت بينه وبين عيسى بن موسى ، ودفن هناك.

(١) أمالي أبي طالب ص ١٢٢. والحدائق الوردية ١ / ١٧٣.

(٢) تنبيه الغافلين عن فضائل الطالبيين ١٧٤.

(٣) في (ب) : قصر.

يزدادوا لكم إلا حبّا» (١). وقوله : وخلقت شيعتكم منكم فيه توسّع ومجاز ، وذلك لتشبّههم (٢) بهم ، واحتذائهم بسيرتهم ، ودخولهم في ملّتهم ؛ ولأنهم لم يتّبعوا إلا أهل البيت (ع) الذين قد شهد الكتاب ببراءتهم من رجس المعاصي في قوله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] والذين شهد لهم الرسول بالعدالة في قوله : «إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي أبدا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

وغير ذلك من الأدلة الدالة على وجوب اتّباع العترة الطاهرة ، فكان ذلك دليلا على فضل شيعتهم وأتباعهم ، وقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تختّموا بالعقيق فإنّه أوّل حجر شهد لله تعالى بالوحدانية ، ولي بالنّبوة ، ولعليّ بالوصية ، ولأهل بيته بالإمامة ولشيعته بالجنّة» (٣). وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «يا عليّ إنّ شيعتنا يخرجون من قبورهم يوم القيامة على ما بهم من العيوب والذنوب وجوههم كالقمر في ليلة البدر ، وقد فرّجت عنهم الشدائد ، وسهّلت لهم الموارد ، وأعطوا الأمن والأمان ، وارتفعت عنهم الأحزان يخاف الناس ولا يخافون ، ويحزن الناس ولا يحزنون ، شرك نعالهم تتلألأ نورا ، على نوق بيض لها أجنحة قد ذلّلت من غير مهانة ، ونجبت (٤) من غير رياضة ، أعناقها من ذهب أحمر ألين من الحرير ؛

__________________

(١) هذا جزء من حديث ذكر في الشافي ١ / ١٧٨. ومسند الإمام زيد ص ٤٠٦.

(٢) في (ب) : لتشبيههم.

(٣) المناقب للكوفي ١ / ٥٥. وابن المغازلي ص ١٧٩ رقم ٣٢٦. والعمدة لابن البطريق ص ٤٣٨.

(٤) هكذا ضبطت في الأصل ، والقياس «نجبت» مثل ظرفت. المختار ص ٦٤٥.

لكرامتهم على الله عزوجل» (١). وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «خلقنا من شجرة واحدة : أنا أصلها ، وفاطمة فرعها ، وأنت لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها (٢) ، وشيعتنا ورقها. يا عليّ لو أنّ رجلا عبد الله عزوجل ألف سنة حتى صار كالأوتار من صومه ، وكالحنايا من صلاته ، ثم لقي الله وفي قلبه مثقال ذرة من بغضك لكبّه الله على منخريه في النّار» (٣). فقال في ذلك الشاعر (٤) :

يا حبذا دوحة في الخلد نابتة

ما مثلها نبتت في الأرض من شجر (٥)

المصطفى أصلها والفرع فاطمة

ثمّ اللّقاح عليّ سيّد البشر

والهاشميان سبطاه لها ثمر

والشيعة الورق الملتفّ بالشّجر

هذا مقال (٦) رسول الله جاء به

أهل الرواية في العالي من الخبر

إني بحبّهم أرجو النجاة غدا

والفوز مع زمرة من أفضل الزّمر

وعن جعفر الصادق عليه‌السلام قال : نزل قوله تعالى : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ) (٧) [الشعراء : ١٠٠] فينا. وفي شيعتنا ، وذلك أنّ الله تعالى يفضّلنا وشيعتنا حتى إنا لنشفع ويشفعون ، فإذا رأى ذلك من ليس منهم قالوا : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ).

__________________

(١) شمس الأخبار ١ / ١٤٤.

(٢) في (ب) : ثمارها.

(٣) أخرجه الكنجي في الكفاية ص ٤٢٥. والحاكم ٣ / ١٦٠ ، وان استنكر متنه فقد صحح إسناده ، وأما شذوذ متنه ، فلأنه ذكر فيه فضائل الخمسة صلوات الله عليهم وشيعتهم لكن نكتفي ونقول حسبنا الله ونعم الوكيل. وذخائر العقبى ص ١٦.

(٤) هو أبو يعقوب الطبراني. الحدائق الوردية ١١ / ١٦.

(٥) ما في الجنان لها شبه من الشجر. الكفاية ص ٤٦٢.

(٦) حديث الكفاية ص ٤٦٢.

(٧) تنبيه الغافلين ١٧٤.

وروى الناصر للحق الحسن بن علي (ع) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : «يدخل الجنة من أمّتي سبعون ألفا لا حساب عليهم» ، ثم التفت إلى علي فقال : «هم شيعتك وأنت إمامهم» (١).

وقيل في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الفتح : ٧] إنّهم الزيدية (٢). وعن الصادق بن الباقر (ع) أنه قال : «كلّ راية في غير الزيدية فهي راية ضلال». وعن إبراهيم بن عبد الله (ع) أنه قال : لو نزلت راية من السماء لم تنزل إلا في الزيدية» (٣).

أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه وعقيدته

كان ممن يعتقد وجوب محبّة أهل البيت (ع) ، ووجوب نصرتهم ، ومعاونتهم ، وتحريم عداوتهم وبغضهم وكراهتهم (٤).

ولمّا قام زيد بن عليّ (ع) اعتذر إليه في القيام معه بأعذار حقّق بعضها ، وأعذار أجملها وكتمها ، فمن جملة ما اعتذر به ودائع كانت عنده للنّاس ، ثم أعانه بمال اختلف في كمّيته فقيل : هو ألف دينار.

__________________

(١) الكوفي في المناقب ٢ / ٢٨٥. والمناقب لابن المغازلي ١٨٤ رقم ٣٣٦ ، وتنبيه الغافلين ١٧٤.

(٢) في هامش (ب) : جنود السماء الملائكة ، وجنود الأرض الزيدية. الشافي ٢ / ١٢٠ ، وسلوة العارفين ٥٤٤.

(٣) ذكره في الاعتبار وسلوة العارفين ٥٤٤ ، والشافي لجعفر بن محمد (ع) ١ / ١٧٨. و ٢ / ١٢٠.

(٤) روى أبو الفرج في المقاتل ص ١٤٠ إن محمد بن جعفر بن محمد قال في أبي حنيفة : رحم الله أبا حنيفة لقد تحققت مودّته لنا في نصرته زيد بن علي.

ولمّا قام إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) كتب إليه أبو حنيفة كتابا من جملته قوله أما بعد : فإذا أظهرك الله على آل عيسى بن موسى فسر فيهم بسيرة (١) أبيك في أهل صفين ، فإنه قتل المدبر ، وأجهز على الجريح (٢) ، ولا تسر بسيرته في أهل الجمل فإنه لم يقتل المدبر ، ولم يجهز على الجريح. فوجد الكتاب فكتمه أبو جعفر الدوانيقي الملقّب بالمنصور حتى انقضت حروب إبراهيم عليه‌السلام ، وسكن النّاس ، ثم أشخصه إلى بغداد. فسقي شربة مات منها [سنة ١٥٠ ه‍] (٣) ، فهو شهيد في حبّنا أهل البيت ودفن في بغداد [رحمه‌الله].

وقام عليه رجل (٤) فقال : يا أبا حنيفة ما اتّقيت الله في فتواك أخي بالخروج (٥) مع إبراهيم بن عبد الله فقتل؟ فقال أبو حنيفة مجيبا له : قتل أخيك مع إبراهيم خير له من الحياة ، قال : فما منعك أنت من الخروج؟ قال : ودائع للناس عندي (٦). وسأله رجل (٧) تلك الأيام عن الحج ، أو الخروج إلى

__________________

(١) في (ب) : سيرة.

(٢) المقاتل ص ٣٦٧ ، والإفادة ص ٨٤.

(٣) المقاتل ص ٣٦٧ ـ ٣٦٨. قال الزمخشري ١ / ١٨٤ في تفسير قوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، وكان أبو حنيفة رحمه‌الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما ، وحمل المال إليه والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة كالدوانيقي وأشباهه ، وقالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل ، فقال : ليتني مكان ابنك ، وكان يقول في المنصور وأشباهه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت. وذكر صاحب مرآة الجنان أنه مات في السجن مسموما سنة ١٥٠ ه‍.

(٤) هو أبو إسحاق الفزاري ، واسمه إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن حارثة.

(٥) في بقية النسخ : للخروج.

(٦) مقاتل الطالبيين ص ٣٦٤. والإفادة ص ٨٦.

إبراهيم عليه‌السلام؟ فقال : غزوة خير من خمسين حجة.

وممّن خرج مع إبراهيم عليه‌السلام طبقات أصحاب الحديث في عصرهم : شعبة ابن الحجاج (١) ، وهشيم بن بشير (٢) ، وعبّاد بن العوّام (٣) ، ويزيد بن هارون (٤) ، إلى غيرهم (٥). فالغرض الاختصار. وسئل شعبة عن

__________________

(٧) هو إبراهيم بن سويد الحنفي. ينظر المقاتل ص ٣٧٩.

(١) شعبة بن الحجاج ولد سنة ٨٠ ه‍ ، وقيل : ٨٢ ه‍. كان من سادات أهل زمانه حفظا وإتقانا وورعا ، كان الثوري يقول عنه : أمير المؤمنين في الحديث ، وقال الشافعي : لو لا شعبة ما عرف الحديث ، وقال الأصمعي : لم نر أحدا أعلم بالشعر منه ، خرج مع إبراهيم بن عبد الله وروى أبو الفرج عن أبي سهل قال : ما زلت أسمع أن شعبة كان يقول في نصرة إبراهيم بن عبد الله للناس إذا سألوه : ما يقعدكم؟ هي بدر الصغرى. ينظر تهذيب الكمال ١٢ / ٤٧٩. وسير أعلام النبلاء ١٢ / ٢٠٢. والمقاتل ص ٣٦٥. والفلك الدوار ص ٦١٥.

(٢) هشيم بن بشير : محدث بغداد وحافظها ، ولد سنة ١٠٤ ه‍ ، سكن بغداد ، ونشر بها العلم ، وصنّف التصانيف. قتل أخوه وابنه في الجيش الذي كان يقاتل فيه مع إبراهيم ابن عبد الله كما ذكره صاحب المقاتل ص ٣٦٥. توفي سنة ١٨٣ ه‍. ينظر تذكرة الحفاظ ١ / ٢٤٩. سير أعلام النبلاء ٨ / ٢٨٧.

(٣) عباد بن العوام الواسطي : كان من الأعلام ، حبسه الرشيد على التشيع ثم خلى عنه ، ثقة ، قال الذهبي : أظنه خرج مع إبراهيم لذلك سجنه ، نعم إن ذلك سبب سجنه فهو أحد قوّاده ، كما ذكره أبو الفرج الأصفهاني ص ٣٦٤ ، وقد هدم الرشيد داره ومنعه من الحديث ، وروي أبو الفرج في المقاتل ص ٣٦٢ عن رحمويه ، قال المهدي لابن علاثة : أبغي قاضيا لمدينة الوضاح ، قال : قد أصبته ، عباد بن العوام ، فقال له : وكيف مع ما في قلوبنا عليه. توفي سنة ١٨٥ ه‍. ينظر تذكرة الحفاظ ١ / ٢٦١. وسير أعلام النبلاء ٨ / ٥١١. وطبقات ابن سعد ٧ / ٣٣٠. والفلك الدوّار ص ٣٦٢.

(٤) يزيد بن هارون ، كان ثقة ، كثير الحديث ، ولد سنة ١١٨ ه‍. وتوفي سنة ٢٠٦ ه‍. وكان ممن خرج مع إبراهيم بن عبد الله كما ذكره صاحب المقاتل ص ٢٦٤ ، وطبقات ابن سعد ٧ / ٣١٤. وسير أعلام النبلاء ٩ / ٣٥٨.

(٥) ذكر هؤلاء أبو الفرج ص ٣٧٧. والفلك الدوار ص ١١٥.

الخروج مع إبراهيم والقيام معه. قال : سألوني عن إبراهيم صلوات الله عليه وعن القيام معه والله لهي بدر الصغرى (١). وقال شعبة ـ لمّا جاء العلم بقتل إبراهيم ـ : لقد بكى أهل السماء على قتل إبراهيم ، إن كان من الدّين لبمكان.

مالك بن أنس رحمة الله عليه وعقيدته

جرى على هذا الحال ، ونسج على هذا المنوال ، فإنه كان يعتقد مثل ما تقدّم ، وكان يدين به. ولمّا قام محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه‌السلام حثّ على نصرته ، وقضى بوجوبها ، وأتاه قوم ممن قد بايع أبا جعفر الملقب بالمنصور وهو أبو الدوانيق ، فسألوه عن بيعتهم له ـ يرومون الاعتذار بالبيعة عن القيام مع محمد عليه‌السلام ، فقالوا له : إنّ في رقابنا لأبي جعفر يمينا ، وقد قام محمد بن عبد الله فما ترى؟ قال : انفروا إليه ، وليس على مكره يمين (٢).

وهكذا محمد بن إدريس الشافعي المطّلبي رحمه‌الله وعقيدته

كان من أوليائنا وهو داعية الإمام يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣). وكان يقول بفضل أهل البيت ، ويعترف به ،

__________________

(١) المقاتل ص ٣٦٥. والفلك الدوار ص ١١٥.

(٢) المقاتل ص ٢٨٣. والطبري ٧ / ٥٦٠. وأما الإمام مالك فقد خلع كتفه أمير الحرمين جعفر بن سليمان عم الخليفة المنصور العباسي بعد أن ضربه بالسياط كما بينه صاحب مرآة الجنان ؛ لأنه كان يروم قلب الخلافة العباسية عند ما أفتى بعدم صحة بيعة المنصور لأنها كانت عن إكراه ، وبايع محمد بن عبد الله بن الحسن بالخلافة وكان من أعوانه. ينظر سر انحلال الأمة العربية ووهن المسلمين لمحمد سعيد العرفي ص ١٢١.

(٣) الحدائق الوردية ١ / ١٨٢. والتحف شرح الزلف ص ١٣٠.

ويعرّف به ، ويعتقد وجوب مودتهم ، وتحريم عداوتهم. وهو القائل :

إن شئت تمدح قوما

لله لا لتعلّه

فاقصد بمدحك قوما

هم الهداة الأدلّة

أخبارهم عن أبيهم

عن جبرئيل عن الله

وهو القائل أيضا شعرا :

يا راكبا قف بالمحصّب من منّي

واهتف بواقف خيفها والنّاهض

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منّى

سيلا كملتطم الفرات الفائض

قف ثم ناد بأنّني لمحمّد

ووصيّه وابنيه لست بباغض

إن كان رفضا حبّ آل محمّد

فليشهد الثّقلان أنّي رافضي (١)

وهذا مما يدل على حسن اعتقاده ، وأنه مباين لطرائق كثير ممن ينتسب إليه في هذا الزمان ؛ لأنّ عندهم ، أو عند أكثرهم من البغضة (٢) لأهل بيت النبوة (ع) ما لا يخفى على من عرفهم واختبر أحوالهم ، بل قد تعدى الأمر حتى صاروا يبغضون كلّ من انتسب إليهم ، وعرف بأنه شيعي من شيعتهم ، وصار هذا الاسم معدودا عندهم من جملة الشتم ، والذّكر القبيح ؛ فيدخلون ببغضهم تحت ما ورد به الخبر عن سيد البشر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رويناه عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهوديا». قلت : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال : «وإن صام وصلى وزعم أنّه مسلم» (٣). إنما احتجز بذلك من سفك دمه ، وأن

__________________

(١) أنظر ديوانه ص ٥٥. ومناقب الشافعي ٢ / ٧١.

(٢) في (ب) ، (ج) : البغاضة.

(٣) أخرجه الإمام الناصر في البساط ص ٩٨. وسبق تخريجه.

يعطي الجزية عن يد وهو صاغر. وقد علمنا أيها المسترشد أن الجزية لا يعطيها عن يد وهو صاغر إلا أهل الذمة والعهد من الكافرين. إنّ في ذلك لآيات للمتوسّمين ؛ ولكن لا تبصرها أفئدة العمين ، وما يعقلها إلا العالمون (١).

مسألة : ونعتقد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

متى تكاملت شرائطهما. والكلام فيهما يقع في أربعة فصول :

أحدها في معاني هذه الألفاظ التي هي الأمر ، والمعروف ، والنهي ، والمنكر ؛ لأنه لا يحسن أن نتكلم (٢) في أحكام أمر ولمّا نعلم (٣) ذلك الأمر.

فالأمر : هو قول القائل لغيره افعل ، أو ليفعل ، أو ما يجري مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كون المورد للصيغة مريدا لحدوث المأمور به على ما هو مذكور في غير هذا الموضع. والمعروف : هو كلّ فعل عرف فاعله ، أو دل على أن لفعله مدخلا في استحقاق المدح. والنّهي : هو قول القائل لغيره : لا تفعل ، أو لا يفعل ، أو ما يجري (٤) مجراهما على جهة الاستعلاء دون الخضوع ، مع كون المورد للصيغة كارها للمنهي عنه. والمنكر : هو كلّ فعل عرف فاعله ، أو دلّ على أنّ لفعله مدخلا في استحقاق الذم ، على ما هو مفصّل في غير هذا الموضع (٥).

__________________

(١) يوجد من الشافعية وغيرهم كثير من أهل الإنصاف.

(٢) في (ب) : يتكلّم.

(٣) في (ب) : يعلم.

(٤) في (ب) : وما يجري.

(٥) في أصول الفقه.

والفصل الثاني : في حكمهما

واعلم أيها المسترشد أنهما واجبان متى تكاملت شرائطهما ، والذي يدل على وجوبهما الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران : ١٠٤]. وقوله عزّ قائلا : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ* كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ* تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) [المائدة : ٧٨ ـ ٨٠]. فبين سبحانه أنّ من جملة ما لعنهم به تركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من الآيات.

وأما السنة : فكثير نحو ما أخبرني به والدي وسيدي بدر الدين عماد الإسلام رضى الله عنه (١) بالإسناد الموثوق به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يحلّ لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغيّر ، أو تنتقل» (٢). وفي السماع المتصل بالمنصور بالله عليه‌السلام : «حتى تغيّر أو تنصرف» (٣). ونحو ما رويناه إلى زيد بن علي عن آبائه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا قدّست أمّة لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر ، ولا تأخذ على يد ظالم ، ولا تعين المحسن ، ولا تردّ المسيء

__________________

(١) هو الأمير بدر الدين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى (ع).

(٢) الأحكام ٢ / ٥٤٠. ورأب الصدع ٣ / ١٥٨٩.

(٣) درر الأحاديث النبوية ص ٣٦.

عن إساءته» (١). ونحو ما رويناه عن الحاكم رحمه‌الله يرفعه بإسناده إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أوحى الله إلى نبيّ من أنبيائه إنّي معذّب من أمّتك مائة ألف : أربعين ألفا من شرارهم ، وستين ألفا من خيارهم. قال يا رب : هؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار؟ قال : داهنوا أهل المعاصي ، ولم يغضبوا لغضبي» (٢). ونحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ، أو ليسلّطنّ الله شراركم على خياركم فيقتلونكم فلا يبقى أحد يأمر بمعروف ، ولا ينهى عن منكر ، ثم لتدعنّ الله فيمقتكم» (٣). وفي الحديث : «المستمع أحد المغتابين» (٤). وإنما كان كذلك لتركه لإنكار الغيبة على قائلها.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، هم أعزّ وأكثر ممن يعمله ولا يغيّرونه إلا عمّهم الله بعقابه» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «سيكون أمراء يملكون رقابكم ، يحدّثونكم فيكذبونكم ، ويعملون فيسيئون ، ولا يرضون عنكم حتى تحسّنوا قبيحهم ، وتصدّقوا كذبهم. فأعطوهم الحقّ ما رضوا به ، فإذا تجاوزوه إليكم فقاتلوهم ، فمن قتل على ذلك فهو شهيد».

__________________

(١) المجموع ص ٤٢٠.

(٢) أمالي أبي طالب ٢١٤. والمرشد بالله ١ / ٣٥ ، أوحى الله إلى يوشع بن نون (ع) أني مهلك من قومك مائة ألفا وأربعين ألفا من شرارهم فما بال خيارهم؟ قال : إنهم يؤاكلونهم ويشاربونهم لا يغضبون لغضبي ، ولا يرضون لرضاي.

(٣) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٣٥. وأبو طالب في أماليه ص ٢٩٣. والطبراني في الأوسط ٢ / ٩٩ رقم ٣١٧٩ بلفظ : أو ليسلطن الله عليكم .. إلخ. ودرر الأحاديث ص ١١٠ باختلاف يسير.

(٤) الزبيدي في اتحاف السادة المتقين ٧ / ٥٤٣. وتهذيب ابن عساكر ٣ / ١٤٣ كما في أطراف الحديث ٨ / ٦٧٢.

(٥) أخرجه أبو طالب ص ٢٩٧. وأحمد بن حنبل برقم ١٩٢٥٠. ١٩٢١٣. ١٩٢٣٦ عن جرير بن عبد الله. وأبو داود ٤ / ٥١١ برقم ٤٣٣٩.

وعن مالك بن دينار قال : أوحى الله إلى ملائكته : أن أهلكوا قرية كذا. قالوا : يا رب إنّ فيهم فلانا العابد! قال : أسمعوني ضجيجه فيهم ، فإنّ وجهه لم يتغيّر غضبا لمحارمي. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لمقام أحدكم في الدنيا يتكلّم بكلمة يردّ بها باطلا ويحقّ بها حقّا أفضل من هجرة معي» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أفضل الجهاد كلمة حقّ بين يدي سلطان جائر» (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر (٣) ، فهو خليفة الله في الأرض ، وخليفة كتابه ورسوله» (٤). إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما الإجماع فذلك ظاهر لا خلاف في وجوبهما بين المسلمين متى تكاملت شرائطهما.

وأما الفصل الثالث :

فهو في تعيين شرائطهما. وهي خمس شرائط :

أحدها : أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عالما بأنّ ما أمر به فهو حسن غير قبيح ، وأنّ ما نهى عنه فإنه قبيح (٥) مختص بوجه من وجوه القبح. فيدخل في ذلك أن يكون المأمور به حسنا والمنهيّ عنه قبيحا ؛ لأنه متى لم يكن

__________________

(١) أخرجه السيوطي في جامع الأحاديث ٥ / ١٠٨ رقم ١٧٤٩٢ ، بلفظ : «لمقام أحدكم في الدنيا يتكلم بحقّ يزيل به باطلا ، أو ينصر به حقا أفضل من هجرة معي».

(٢) المرشد بالله ٢ / ٢٢٨ من حديث : «أي الجهاد أفضل ، قال : كلمة حق عند إمام جائر». والطبراني ٨ / ٢٩٢ رقم ٨٠٨١ بلفظه ، وص ٢٨١ رقم ٨٠٨٠ بلفظ : أحب الجهاد. وابن ماجة ١ / ١٣٢٩ رقم ٤٠١١ بلفظ : أفضل الجهاد كلمة عدل. وأبو داود ٤ / ٥١٤ رقم ٤٣٤٤٤.

(٣) في الأحكام : من ذريتي.

(٤) الأحكام ٢ / ٥٠٥.

(٥) في (ب) : فهو قبيح مختص بوجه.

كذلك لم يأمن أن يكون آمرا بقبيح ، وناهيا عن حسن وذلك قبيح لا يجوز فعله. وثانيها : أن يعلم أو يغلب على ظنه أنّ لأمره ونهيه تأثيرا ؛ لأنّ الأمر والنهي لا يرادان إلّا لحصول المأمور به ، وامتناع المنهيّ عنه.

وثالثها : أن لا يؤدي الأمر والنهي إلى مثل ما نهي عنه أو أعظم منه من المناكير ؛ لأنّ الأمر والنهي ـ والحال هذه ـ لا يجوزان ؛ لأجل المفسدة التي فيهما ، وهذا مما لا خلاف فيه ، إلّا في وجه واحد ، وهو أنه إذا غلب على ظنه أنّ أمره ونهيه يؤديان ، أو المفعول من أحدهما إلى قطع عضو من أعضائه ، أو إلى قتله ـ وكان في ذلك إعزاز للدّين ـ هل يكون حسنا مندوبا ، أو قبيحا محظورا؟. من العلماء من ذهب إلى جواز ذلك ـ والحال هذه ـ وعليه دلّت أفعال العترة كالحسين بن علي ، وزيد بن علي ، ومن طابقهما من أهلهما سلام الله عليهم أجمعين. وعلى ذلك يدل سير (١) الصحابة (رض). وإليه ذهب الشيخان أبو عبد الله الحسن البصري ، وأبو الحسن الكرخي (٢).

وأما الشيخ أبو هاشم فجوّز ذلك عند إظهار كلمة الحق عند الظّلمة ، وإظهار الإسلام عند الكفرة دون ما عدا ذلك. والأول هو الأولى عندنا لما تقدم ذكره من أفعال الصحابة (رض) ، وأفعال العترة.

ورابعها : أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه متى لم يأمر بالمعروف الواجب ، أو لم ينه عن المنكر أدّى ذلك إلى تضييع المعروف ووقوع المنكر ؛ لأنه متى لم يعلم ذلك أو يغلب على ظنه لم يكن للأمر ولا للنهي وجه.

__________________

(١) في (ب) : تدل سيرة.

(٢) هو عبد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم ، قيل : إنه ولد سنة ٢٦٠ ه‍ ، وإليه انتهت رئاسة أصحاب أبي حنيفة ، وكان معتزليّا ، كثير العبادة ، صبورا على الفقر والحاجة. توفي في ١٥ شعبان سنة ٣٤٠ ه‍. ينظر طبقات المعتزلة ص ١٣٠. وتاريخ بغداد ١٠ / ٣٥٣. وسير أعلام النبلاء ١٥ / ٤٢٦.

وقلنا : المعروف الواجب ؛ لأن المعروف على ضربين : فرض ، وندب ؛ فالأمر بالفرض فرض متى تكاملت شرائطه ، والأمر بالندب ندب وليس بفرض ؛ لأنّ الأمر به تبع له ، فإذا لم يجب في نفسه فأولى وأحقّ أن لا يجب الأمر به (١).

وأما الفصل الرابع : وهو في مراتبهما

فاعلم أنه يجب أن يبدأ في ذلك بالوعظ والقول الليّن ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) [الحجرات : ٩] فأمر بالإصلاح أوّلا ؛ ولأن الله تعالى أمر موسى وهارون (ع) أن يبدءا في الأمر لفرعون المدّعي للربوبية بالقول الليّن ، فقال عز قائلا : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] ، وقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦]. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان آمرا بمعروف فليكن أمره ذلك بمعروف» (٢) أي بلطف ولين ، فإن أثّر ذلك وإلا انتقل إلى القول الخشن والوعيد والإغلاظ في الكلام ؛ لقوله تعالى : (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم : ٩] ؛ فإن نجع [أي نفع] وإلا انتقل إلى الضرب بالسوط والعصى ، فإن أثّر ذلك وإلا انتقل إلى الضرب بالسيف ؛ لقوله تعالى : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) [الحجرات : ٩] وإنّما لزم ترتيبهما [أي الأمر والنهي] هذه المراتب ؛ لأن الانتقال إلى الأعلى مع حصول الغرض بدونه يكون عبثا فلا يجوز فعله (٣).

__________________

(١) لم يذكر إلا أربعة شروط فلعل الخامس التكليف. ا ه السيد عبد الرحمن شائم.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ١٦٠. وشعب الإيمان ٦ / ٩٩ رقم ٧٦٠٣.

(٣) قال صاحب الأزهار : ولا يخشّن إن كفى اللّين.

فإن قيل : فهل يجوز جميع ذلك لغير الإمام أو لا (١)؟ ، قلنا : أما النهي عن المنكرات فممّا لا يختصّ به (٢) أئمة المسلمين ، بل يجب ذلك على جميع المؤمنين ، وكافة المسلمين ، على الشرائط المتقدمة ، والمراتب المرتّبة ، وعلى ذلك إجماع المسلمين كافة.

وأما الأمر بالمعروف فلا يجوز الضرب بالسوط والسيف فيه على الإطلاق ، ولو تكاملت شرائطه إلا في زمان الإمام ، فأما الأمر بالمعروف باللسان فهو جائز لغير الإمام ومندوب إليه ، وهو واجب ـ متى تكاملت شرائطه ـ باللسان لعموم المسلمين على ما فصّلنا ذلك في : «الرسالة المفصحة بالبراهين الموضحة».

مسألة : ونعتقد وجوب الموالاة لأولياء الله

وهم المؤمنون ، ووجوب المعاداة لأعداء الله وهم المجرمون ، كفارا كانوا أو فاسقين ، وسواء كانوا من الأباعد أو من الأقربين ، وسأضرب لك مثالا (٣) يكشف عن الحال ، ثم أتبع ذلك بالاحتجاج والاستدلال بمشيئة ذي الجلال. فنقول وبالله التوفيق : إن ملكا من الملوك لو كان له عبدان فأنعم على كل واحد منهما بالعتق وفكّه من ربق الرق ، ثم علّمه الدين ، وهداه إلى الصراط المستبين حتى صار عارفا بفروع الدين وأصوله ، عالما بالإسلام مسموعه ومعقوله ، ثم زوّجه ابنته المؤمنة التقية الرضية المرضية الكاملة خلقا وخلقا ، ثم سلّم له القصور العالية وملّكه القناطير المقنطرة من الذهب والفضة واللآلي والجواهر ونحو ذلك ، من كل صنف قناطير كثيرة ، وأنعم عليه بصنوف الأموال كلها

__________________

(١) في (ب) بحذف «أولا».

(٢) في (ب) بحذف «به».

(٣) في (ب) : مثلا.

من المواشي السائمة ، والمراعي الوسيعة ، والبساتين الحسنة الكثيرة ، والخلع والملابس الحسنة ، والزرائع الجيدة على الأنهار الجارية الدائمة ، وجعل له الخدم ، وخوّله النعم ، ومكّنه من كل ما يمكن (١) الإشارة إليه من نعم الدنيا ، ثم إن أحدهما عصى مولاه في كل وجه من الوجوه ، فقال الملك للثاني : إن هذا قد عصاني ، وخرج عن أمري ، وكفر نعمتي ، وأنا أحب منك أن تهجره وتقليه ، وتبعده وتقصيه ، فإن فعلت ذلك خوّلتك نعما أكثر من نعمك هذه بألفي ألف ألف ضعف ، فعند ذلك بادر هذا العبد إلى تقريب العبد العاصي ، وإتحافه وإنصافه ، والإنعام عليه بالأموال الجليلة والنعم الكثيرة معاندة لمولاه ، واتباعا لهواه ، مع استمراره على الالتزام بأوامر سيده كلها ، إلا ما كان منه من موالاته لمن عصى مولاه ، وخروجه في ذلك عن رضاه ـ ما حكم هذين العبدين عند أولي الأحلام والنّهى؟! أليس يشهد جميع العقلاء بأنهما كافران لنعم سيدهما التي ذكرناها ، وأياديه التي وصفناها ، وأن حكمهما قد صار واحدا عند العارفين ، فإذا كان يستقبح من هذا العبد موالاة عدو مولاه الذي أنعم عليه من النعم بما ذكرناه ـ وإنما قبح ذلك لكونه كفرا لنعمة مولاه ـ فكيف بنعم الله تعالى؟ إذ كل النّعم من جهته ، قال (٢) تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ولا سواء ؛ فإن نعم الله تعالى تمطر على عبيده كلهم ، في كل حركة وسكون ، وجدّ ومجون ، ولا تفارقهم في حال معصية يرتكبونها ، ولا في حال طاعة يفعلونها ، بل لا يقدر العبد على معصية الله إلا بنعمة الله ، ولا يقدر على القيام بما يلزمه من شكر الله إلا بنعمة الله ، فإنه لو لا تعريفه للعبد كيفية

__________________

(١) في (ب) : تمكن ويمكن بالتاء والياء.

(٢) في (ب) : قال الله.

الشكر ، وإقداره له (١) على الاعتراف بنعمه (٢) ـ لما ذكر الله تعالى ذاكر ، ولا شكره شاكر. (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) [إبراهيم : ٣٤]. وعلى الجملة أيها المسترشد فانظر في نفسك فما (٣) لا تستحسن لعبدك من مخالطة عدوك ـ فلا تستحسنها لعدو مولاك تبارك وتعالى ، فإنك لا تستحسن من عبدك (٤) مخالطة عدوك بالمناصرة ، والمعاضدة ، والملاينة ، والمساعدة ، والموادة ، والمشاورة ، والمعاونة ، والمظاهرة ، والمصاحبة ، والمجاورة ، ونحو ذلك. ثم أقلّ حقوق الله سبحانه وتعالى عليك أن تنزّله منزلة نفسك ، وتنزل نفسك فيما يحلّ لها من عدو الله منزلة عبدك فيما تستحسنه له في عقلك من عدوك ، ولا سواء ، فإن لله المثل الأعلى ، وهو أجل وأعلى ، ونعمه عليك لا تحصى. وأما ما وعدناه من إيضاح الدلالة فهذا حين إيضاح السبيل وإقامة الدليل. فنقول وبالله التوفيق : دلّ على وجوب موالاة أولياء الله ، ووجوب عداوة أعداء الله الكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب : فقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) الآية [المجادلة : ٢٢]. وقال عز قائلا : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] وإنما أراد بذلك مكاتبتهم بسر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) بحذف «له» من (ب).

(٢) في (ب) : بنعمة الله.

(٣) في (ب) : فيما ، وفي الهامش : فكما.

(٤) في (ب) : وتعالى علوا كبيرا ، فإنك لا تستحسن لعبدك.

وقصة حاطب بن أبي بلتعة ظاهرة (١) والغرض الاختصار وقال الله سبحانه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) [النساء : ١٤٤]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [التحريم : ٩]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣]. ونظائر ذلك في القرآن كثير ، ثم حكم الله سبحانه بأنّ حكم من والاهم كحكمهم (٢) فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة : ٥١].

وأما السنة : فكثير ، نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي ذر : «أتدري أيّ عرى الإسلام أوثق؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : الموالاة في الله ، والمعاداة في الله ، والحبّ في الله ، والبغض في الله» (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لو أنّ عبدا قام ليله

__________________

(١) فقد كتب لأهل مكة يخبرهم أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد غزوهم ، فأعلم الله نبيه بذلك فأرسل عليا والمقداد والزبير وعمارا وطلحة وأبا مرتد إلى روضة خاخ ، فوجدوا ظعينة معها كتاب حاطب ، وقد أخفته بين شعر رأسها ، وقد كانت أنكرته لو لا أن عليّا تهددها قائلا : والله لنكشفنك ، فو الله ما كذبنا ولا كذبنا. فطلب حاطب ، واعتذر بأنه ما نافق ، وإنما أراد أن يقدم يدا لمشركي مكة ؛ ليحفظوا له عياله ؛ لأنه لصيق بهم لا عشيرة له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد صدقكم» ، ونزلت الآيات. ينظر أسباب النزول للواحدي ص ٣٤٧.

(٢) في (ب) : حكمهم.

(٣) شمس الأخبار ٢ / ١٦١. والطبراني في الكبير ١٠ / ١٧١ رقم ١٠٣٥٧ ورقم ١٠٥٣١ ص ٢٢٠. وحلية الأولياء ٤ / ١٩٦.

وصام نهاره وأنفق ماله في سبيل الله علقا علقا (١) وعبد الله بين الركن والمقام حتى يذبح بينهما مظلوما ، لما صعد إلى الله من عمله وزن ذرة حتى يظهر المحبة لأولياء الله والعداوة لأعدائه» (٢).

وقد علمت أيها المسترشد شفقة الوالد على ولده ، وفرط محبته له ، فلما عصى الله تعالى ابن نوح قال له نوح عليه‌السلام : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ* قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) [هود : ٤٢ ـ ٤٣] ، ثم ظن نوح عليه‌السلام أنه ممن وعده الله نجاته ، (فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥]. فأجابه الله سبحانه : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] فعند ذلك تاب نوح عليه‌السلام واعترف واستعاذ بالله عزوجل : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ* قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٧ ـ ٤٨].

وهكذا قد عرفت عظم حرمة الوالد وحقه الذي ألزمه الله تعالى ولده وافترضه عليه فقال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، وقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) [الإسراء : ٢٣ ـ ٢٤] ولو علم الله أدنى من «أفّ» لذكره ، وقال :

__________________

(١) العلق : النّفس.

(٢) رواه الناصر الأطروش في البساط ص ٦٩.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥] ، ولا أقوم بفرض الله ولا أعرف بحق الله تعالى في الآدميين من الأنبياء المرسلين سلام الله عليهم أجمعين.

فكان (١) من قصة آزر ما هو ظاهر ، فإنه كان ينافق إبراهيم عليه‌السلام على ما ذكره بعض المفسرين حتى وعده أنه يستغفر الله له ، فاستغفر الله له سبحانه ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرّأ منه ، قال تعالى : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة : ١١٤] واتّبعه على ذلك أصحابه المؤمنون في التبري من قومهم المجرمين.

وأمرنا (٢) الله تعالى بالتأسي بهم والاقتداء بصنيعهم فقال (٣) عز قائلا : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] ، وتوعّد الله على موالاة أعدائه ، فقال عزّ قائلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [التوبة : ٢٣] ، وفي اجتماع المؤمنين في العقائد الصحيحة الدينية والأفعال الزكية المرضية جعلهم الله إخوة وأولياء ، فقال عز قائلا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ، فواخى بذلك بين الملائكة والأنبياء

__________________

(١) في (ب) : وكان.

(٢) في (ب) : فأمرنا.

(٣) في (ب) : قال.

والصديقين وسائر المؤمنين. وقال سبحانه : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة : ٧١] وهكذا حكم تعالى على المتوافقين في العقائد السقيمة ، والأفعال الذميمة ، بأن بعضهم من بعض فقال : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) [التوبة : ٦٧] ، وغير ذلك من الآيات كثير.

وأما الإجماع : فذلك مما لا خلاف فيه بين المسلمين ؛ بلى قد سوغ الله سبحانه التّقيّة إذا خشي المؤمن على نفسه ، وكذلك لدعاة الحق ما يقتضي ظاهره الموالاة ؛ لاستدعائهم إلى الدين ، أو التألّف لهم ؛ لنصرة المحقين ؛ وتكثير سواد المتقين ، أو تخذيل المردة الفاسقين على ما بينّا ذلك في «كتاب ثمرة الأفكار في أحكام الكفار». وهذا (١) ثابت في الشاهد ؛ فإنك تستحسن من عبدك ، إذا خشي على نفسه الهلاك من عدوك أن يعامله بالمداراة والمجاورة والموالاة حتى يتخلّص من مكره ، ويستنقذ نفسه من شره ، ثم يظهر له عداوته بعد ذلك ليرضي بها المولى المالك ، وكذلك تستحسن له (٢) موالاة عدوك ومقاربته ومحاورته ومشاورته ليرده إلى طاعتك ، وينظمه في سلك إرادتك ، ويخرجه من عداوتك.

وكذلك تستحسن منه أن يفرّق بين أعدائك بأن يوالي بعضهم ويعادي

__________________

(١) في (ب) : وذلك.

(٢) في (ب) : منه.

بعضا ، ويحارب ببعضهم بعضا حتى يذلّ أعداؤك كلهم ، ويصير أعزهم قبل ذلك أذلّهم. وكذلك تستحسن منه أن يفرق بين أعدائك المجتمعين على عداوتك ، المحاربين بجمعهم لك ، حتى يخذل بعضهم بعضا فيقف بعضهم عن حربك ، ويفترق جمعهم ، وتشتّت كلمتهم ، ويقلّ عددهم ، فكذلك يحل لك من عدو الله مثل ذلك ، فاسلك هذه المسالك فالأعمال بالنيات ، وأنت تعامل بارئ البريّات ، الّذي يعلم السّرّ وأخفى ، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور ، وهو على ما يشاء قدير.

مسألة :

ونعتقد صدق الله عزوجل في وعده ووعيده

وفي ذلك فصول عدّتها خمسة عشر فصلا :

الفصل الأول : أنه لا بد لكل مخلوق من الحيوان

من الموت والفناء ، وإنه لا بد من فناء العالم كله وهلاكه

أما الموت : فهذا (١) معلوم ضرورة بالمشاهدة فيما حضرنا ، وبالأخبار المتواترة فيما غاب عنّا فيما مضى ، ومنتظر في المستقبل بالأدلة المعلومة قال تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] ، وقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر : ٣٠] ، وقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [الأنبياء : ٣٥] ونظائرها في القرآن كثير. وفي شدة الموت ما روي عن الحسن رحمه‌الله أنه قال : الموت أشد من ضرب ألف سيف يقعن جميعا ، وأشد من طبخ في القدور ، وقطع بالمناشير. وعن الحسن : إن الأنبياء

__________________

(١) في (ب) : فهو.

قالوا لإبراهيم بعد الموت : كيف وجدت الموت؟ قال : شديدا كأنما أدخل في كلّ عرق مني وعظم ومفصل السّلاء ، ثم استلّ استلالا ، قالوا : أما إنه قد يسّر عليك (١).

وأما الفناء : فهو معلوم على الجملة قال تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] ، وقال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) [الرحمن : ٢٦ ـ ٢٧] ، وغير ذلك من السنة المعلومة تركناه للاختصار.

والفصل الثاني : في عذاب القبر وثوابه

أهل البيت (ع) مختلفون فيه. منهم من يثبته ، ومنهم من ينفيه ، وكذلك علماء سائر العدليّة مختلفون فيه كما تقدم. والعقل يجوّزه ؛ فإنه مقدور لله تعالى ، وجائز في الحكمة ؛ إذ لا وجه يقتضي قبحه ، فجاز وقوعه. وقد احتج من يثبته بآيات وأخبار ؛ فالآيات محتملة ، تركنا إيرادها ، وإيراد الأجوبة عنها للاختصار. وأما الأخبار فنورد طرفا منها.

فنقول وبالله التوفيق : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «القبر أوّل روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار» (٢). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه مرّ بقبرين ، فقال : «إنّهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير : أحدهما كان لا يستبري ، أو قال : لا يستنزه من البول. والآخر كان يمشي بالنميمة» (٣). وقوله : وما يعذبان في كبير يعني عند كثير من الناس لكثرة لهجهم به ، وإلا فالعذاب لا يستحقّ إلا على الكبائر. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ليس من يوم إلا يعرض على أهل القبور

__________________

(١) أخرج ما يوافق ذلك في شمس الأخبار ٢ / ٣٣٣.

(٢) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس ٣ / ٢٣١ رقم ٤٦٨٢. بلفظ : القبر روضة من رياض الجنة .. إلخ». والكنز ١٥ / ٦٠٣ رقم ٤٢٣٩٧.

(٣) أخرجه المرشد بالله ٢ / ٣٠٣. والبخاري ١ / ٨٨ رقم ٢١٣. والترمذي ١ / ١٠٢ رقم ٧٠. والنسائي ٤ / ١٠٦ رقم ٢٠٢٩. وابن ماجة ١ / ١٢٤ رقم ٣٤٧١.

مقاعدهم من الجنة والنار غدوة وعشية» (١). رواه ابن عمر. وعن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعوذ من عذاب القبر (٢). ورواه (٣) عمر بن الخطاب.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «المعيشة الضّنك عذاب القبر» (٤). وعن عائشة قالت : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عذاب القبر حقّ» (٥). والأخبار في هذا كثير ، ربما يبلغ حدّ التواتر في المعنى.

والفصل الثالث : من حالات القيامة

النفخ في الصّور : وهو معلوم ضرورة على الجملة ، قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] ، وقال سبحانه : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، والآيات في هذا كثير.

وعن ابن عباس وقد سئل عن الصّور (٦) فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «هو قصبة لها أربع شعب ، تدوار فم القصبة كتدوار الدنيا كلّها ، شعبة في أقصى مشارق الأرض ، وشعبة في أقصى مغاربها ، وشعبة في أقصى تخوم الأرض السابعة السفلى ، وشعبة أخرى فوق السماء السابعة». والأخبار أكثر من أن نحصيها في ذلك.

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية ٧ / ١٥٦ عن ابن عمر.

(٢) أخرجه المرشد بالله في أماليه ٢ / ٣٠٦. والنسائى ٤ / ١٠٣ وقد ثبت من طرق كثيرة أنه كان يتعوذ منه.

(٣) في (ب) : وروي عن.

(٤) ينظر الدر المنثور ٤ / ٥٥٧ فقد ساق ذلك من طرق عديدة. ومجمع الزوائد ٣ / ٥٥.

(٥) أخرجه المرشد بالله في أماليه عن عائشة ٢ / ٣٠٦.

(٦) المراد به كل الصّور : لأنه جمع صورة ، مثل الصوف جمع صوفة ، وهو مجاز. والنفخة الأولى تكون في الصور والأبدان ؛ لإفنائها. والثانية تكون في الصور والأبدان المتناثرة للنشور والحياة. ينظر في ذلك المجموعة الفاخرة ص ١٦٦.

الفصل الرابع : البعث وبعثرة القبور لإعادة الموتى

وهو معلوم من الدين ضرورة. قال تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) [المؤمنون : ١٦] ، وقال : (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧]. وقال : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١] ، وقال : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) [الانفطار : ٤] ، وقال : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً) [المجادلة : ٦] ، وقال تعالى : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) [الزمر : ٦٨]. إلى غير ذلك من الآيات.

الفصل الخامس : تغيّر العالم وحشر الحيوانات

أما السماء : فقال تعالى : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] ، ونظائرها كثيرة (١).

وأما الأرض ، فقال : (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) [الفجر : ٢١] ، وقال : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) [الواقعة : ٤] ، ونظائرها كثير.

وأما الجبال : فقال : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] ، وقال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً* فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً* لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٥ ـ ١٠٧].

وأما القمران : فقال : (وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) [القيامة : ٩] ، وقال : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [التكوير : ١] ، وقال : (وَخَسَفَ الْقَمَرُ) [القيامة : ٨].

وأما النجوم : فقال تعالى : (وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) [التكوير : ٢] ،

__________________

(١) في (ب) : كثير.

وقال : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) [الانفطار : ٢]. وأما البحار : فقال سبحانه : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار : ٣]. وفي آية : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) [التكوير : ٦]. وأما الحيوان : فالملائكة ، قال (١) تعالى : (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ* وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٦ ـ ١٧] ، يعني على أطرافها وأقطارها. (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

وأما الروح : فقال سبحانه : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) [النبأ : ٣٨] ، قيل : الرّوح خلق عظيم ، أعظم من الملائكة. وأما الناس : فقال سبحانه : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤]. وأما الوحوش : فقال عز قائلا : (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) [التكوير : ٥].

الفصل السادس : السؤال ، وشهادة الشهود

أما السؤال : فقال سبحانه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) [الصافات ٢٤] ، وقال : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف ٦] ، قيل : يسأل الرسل هل بلغوا ، ويسأل الأمم هل قبلوا؟. وقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٢ ـ ٩٣] (٢).

__________________

(١) في (ب) : قال الله.

(٢) يقال : كيف التوفيق بين هذه الآيات وبين قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) ، وكذلك سؤال المرسلين؟. والجواب عن الأول إضافة إلى كلام المؤلف من وجوه : أحدها إن السؤال سؤال تبكيت وتقريع ، وليس سؤال استعلام واسترشاد ؛ لأن المجرم معروف بدون سؤال لقوله سبحانه : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ). الوجه الثاني أنهم يسألون حتى تنفرد عقوبتهم ثم ينقطع السؤال كما قال سبحانه : (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) ؛ فلا تنافي بين الآيات. الوجه الثالث أن في القيامة عدة مواقف : ففي بعضها يسأل ، وفي بعضها لا يسأل. وأما الجمع بين قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ

وعلى الجملة فهو معلوم من الدين ضرورة. فأما قوله تعالى : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : ٧٨] ونحو ذلك في القرآن فإنه لا ينافي ما تقدّم ؛ لأن هناك مواقف كثيرة ، قيل : هي خمسون موقفا. وهناك حالات كثيرة ، ففي بعضها يقع السؤال كما تقدم وفي بعضها لا يقع سؤال ، كما في هذه الآيات ، وإذا كانت الحال هذه سلم كلامه عزوجل من التناقض والتعارض ؛ لاختلاف الوقتين ، وليس في آيات إثبات السؤال وآيات نفيه أنّ ذلك كلّه في وقت واحد ، ومن شروط (١) التناقض والتعارض أن يكون الوقت واحدا.

كذلك قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر : ٣١]. وقوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ* وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [المرسلات : ٣٥ ـ ٣٦]. فإن ذلك كله في وقتين فصاعدا ، وليس في الآيتين أنّ ذلك في وقت واحد ، فينبغي حفظ هذا الأصل فيما هذه حاله. فإن الجاهل بمقاصد القديم سبحانه في خطابه يظنّ أنّ بعض ذلك ينقض بعضا لجهله بشروط

__________________

(يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ، وقوله : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) فهو أن الأول معناه : لا يسأل بعضهم بعضا سؤال استخبار لتشاغلهم عن ذلك ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). والثاني معناه : يسأل بعضهم بعضا سؤال تلاوم وتوبيخ ، كما قال سبحانه في موضع آخر : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ). أما سؤال الرسل فالمراد به أيضا التهديد للمرسل إليهم مثل قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) فالسؤال لها توبيخ ، وتهديد. ينظر الطبرسي ٤ / ٢١٨. والكشاف ٤ / ٤٥٠.

(١) في (ب) : لأن من شروط.

التناقض والتعارض وحالات القيامة ومواقفها. وفي هذه الزّبدة إشارة إلى هداية المسترشدين والله الهادي.

وأما شهادة الشهود : فمن ذلك شهادة الأرض ، قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١] ، إلى قوله : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) [الزلزلة : ٤]. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أتدرون ما أخبارها»؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : «أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأمة بما عمل على ظهرها (١) ، تقول : عمل كذا وكذا ، يوم كذا وكذا (٢).

وقال تعالى : (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) [الزلزلة : ٥] ، أي أذن لها أن تخبر بما عمل عليها (٣). وفي آخر حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وتحفّظوا من الأرض فإنها أمكم ، وليس أحد يعمل عليها خيرا أو شرا إلا وهي مخبرة به» (٤).

ومنها شهادة الجوارح وهي معلومة على الجملة ضرورة ، وذلك يوم ختم الأفواه. قال تعالى : (حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) الآية (٥) [فصلت : ٢٠ ـ ٢١]. وقال تعالى :

__________________

(١) في (ب) : ظاهرها.

(٢) أخرجه أحمد ٣ / ٣١٠ رقم ٨٨٧٦. والترمذي ٤ / ٥٣٥ رقم ٢٤٢٩ وصححه. والنسائي في تفسيره ٢ / ٥٤٤. والحاكم ٢ / ٥٣٢ وقال صحيح ولم يخرجاه ، وسكت عنه الذهبي ، عن أبي هريرة.

(٣) جامع البيان ١٥ / ٣٣٨ ، وتفسير الخازن البغوي ٦ / ٤٧٧.

(٤) الطبراني في الكبير ٥ / ٦٥ رقم ٤٥٩٦ باختلاف يسير بلفظ : «استقيموا ونعمّا إن استقمتم ، وحافظوا على الوضوء ، فإن خير أعمالكم الصلاة وتحفظوا من الأرض ... الحديث

(٥) تمام الآية : (وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، وفي (ب) ذكر الآية الثانية (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ).

(الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يس : ٦٥]. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ) قال : «هي فروجهم» (١) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوّل ما ينطق من ابن آدم فخذه الشّمال» (٢).

الفصل السابع : أخذ الكتب وهي صحف الأعمال

وهو معلوم على الجملة ضرورة ، قال تعالى : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) [الكهف : ٤٩]. وقال : (وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) ونظائرها كثير ومنهم من يأخذه بيمينه (٣) ، قال تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) [الانشقاق : ٧] ، وهذا هو المؤمن.

وأما المجرمون : فمنهم من يأخذ الكتاب بشماله ، قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) (٤) [الحاقة : ٢٥] ، ومنهم من يأخذه وراء ظهره ، قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) [الانشقاق : ١٠] ، قيل : تغلّ

__________________

(١) قال الإمام زيد بن علي في غريب القرآن ص ٢٧٩ : إن معناها الفروج ولكن الله كنى عنها ، وهناك من قال : المقصود بالجلود الفروج. ينظر الماوردي ٥ / ١٧٦.

(٢) أخرجه أحمد ٦ / ١٣٤ رقم ١٧٧٦ بلفظ : إن أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل الشمال. والطبراني في الكبير ١٧ / ٣٣٣ رقم ٩٢١ عن عقبة بن عامر.

(٣) قال الإمام الهادي عليه‌السلام : معنى (بِيَمِينِهِ) فهو اليمن والبركة ، وما يتلقى به الملائكة أهل الدين والتطهرة من البشارة من ربهم والتبشير والتطمين لهم عند توقيفهم ومحاسبتهم. ينظر عدة الأكياس ٢ / ٣٤٩.

(٤) قال الإمام الهادي عليه‌السلام : هو مثل من الله عزوجل مثله الله لعباده ، وضربه لهم ، يريد بالشمال : العسر والشدة في كل حال. ينظر عدة الأكياس ٢ / ٣٤٩.

شماله وراء ظهره ، ثم يأخذ بها كتابه (١). فأما المؤمن فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا قال الله للعبد يوم القيامة : (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء : ١٤] ، يخرس لسانه ، فيقول الله : عبدي اقرأ كتابك ؛ فتأخذه الرعدة ، فيقول : يا رب ، نار جهنم أحبّ إليّ من قراءة كتابي ، فيقول الله : فاذهب إلى الجنة فقد غفرت لك» (٢).

الفصل الثامن : الحساب

وهو معلوم على الجملة من الدين ضرورة. قال تعالى في المؤمن : (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) الآية [الانشقاق : ٨]. وقال : (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) [الطارق : ٩] ، قيل : يحاسبه الله فيظهر كل سرّ مكتوم (٣). وفي حديث ابن عمر : «يحاسب الله المؤمن بينه وبينه» (٤) ، فيقول : يا عبدي ألم تفعل كذا؟ فيقول : يا رب بلى ، فيقول : قد سترتها في الدنيا ، وغفرتها في الآخرة (٥). وأما الكافر والمنافق فينادى عليهم : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهاجرين الأولين : «هم السّابقون الشافعون

__________________

(١) تفسير الخازن والبغوي ٦ / ٣٩٢.

(٢) السفينة ٢ / ٣١٨.

(٣) مجمع البيان ١٠ / ٣٢٤.

(٤) سئل الإمام الهادي عليه‌السلام عن الحساب فقال : إذا كان يوم القيامة ويوم الحشر والندامة أتى به ملكاه إلى من أمر الله من الملائكة لمحاسبة العباد ومحاسبتهم ، فتوقيفهم على أفعالهم وتعريفهم على ما كان من أعمالهم ، ثم شهد حافظاه عليه ووقفاه على ما كان من أمره ، وبكتاه بمعاصيه لربه ، ووقفاه على جرأته على خالقه ، فلم يذرا مما تقدم منه شيئا إلا أوقفاه عليه حرفا حرفا فهذا معنى محاسبة الرب لعباده. ينظر المجموعة الفاخرة ص ١٦٢.

(٥) السفينة ٢ / ٣١٧.

المدلّون على ربهم ، والذي نفسي بيده إنهم ليأتون يوم القيامة وعلى عواتقهم السلاح ، فيقرعون باب الجنة ، فيقول الخزنة من أنتم؟ فيقولون : هل حوسبتم؟ فيجثون على ركبهم وينشرون ما في جعابهم ، ويرفعون أيديهم ، ويقولون : أي رب أبهذا نحاسب؟ وقد خرجنا وتركنا الأهل والولد. فتمثّل لهم أجنحة من ذهب ، فيطيرون إلى الجنة ، فذلك قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) الآية [فاطر : ٣٤] (١).

الفصل التاسع : الميزان (٢)

وهو معلوم من الدين على الجملة ، قال الله تعالى (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [الأنبياء : ٤٧] ، وقال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٦] ، وقال : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) [القارعة : ٨]. والأخبار فيه كثيرة تركناها للاختصار.

الفصل العاشر : ظهور العلامات في الوجوه

قال تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦]. وقال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ* ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ* وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ* تَرْهَقُها قَتَرَةٌ* أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢] والأخبار في ذلك كثير تجنّبناها خوفا للإطالة.

الفصل الحادي عشر : الانتصاف والمقاصّة بين المخلوقين

وذلك ظاهر ، قال الله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ

__________________

(١) أخرج الحديث الحاكم في المستدرك ٣ / ٣٩٩ وزاد السيوطي في الدر المنثور ٥ / ٤٧٥ عن ابن مردويه وأبي نعيم.

(٢) المراد به الحق من إقامة العدل والإنصاف. ينظر عدة الأكياس ٢ / ٣٤٩.

مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] ، وقال : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [النحل : ١٢٤] ، وقال : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً) [النبأ : ١٧] ، وقال : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، معناه بعدله (١) ، (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الزمر : ٦٩] ، ونظائر ذلك كثير ، وقد قدمنا تفصيل ذلك.

الفصل الثاني عشر : الصراط (٢)

قال تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا* ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) [مريم : ٧٢]. عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الصراط بين ظهري جهنم ، دحض مزلّة. والأنبياء يقولون : سلّم سلّم ، كلمع البرق ، وكطرف العين ، وكأجاويد الخيل ، والبغال ، والرّاكب ، والشّدّ على

__________________

(١) السفينة ٢ / ٣٣١.

(٢) المراد بالصراط دين الله القويم ، وإن كان مجازا ، قال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ، وحجة على أنه لا جسر فوق جهنهم يمرون عليه قوله تعالى في صفة دخول العصاة النار (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) ، والدّعّ : الدفع العنيف ، فيدفعهم خزنة النار إلى النار دفعا عنيفا على وجوههم ، وزجا في أقفيتهم من غير جسر يتهافتون من فوقه ، وقوله تعالى : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) .. إلى قوله : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) ، فهاتان الآيتان نص صريح في أنهم لم يمسكوا على جسر فوقها. كما أن الإجماع منعقد من الأمة أنه لا تكليف في الآخرة ، والقول بالمرور على الصراط تكليف للمؤمنين ، كما أن ورود جهنم ليس المرور على الجسر ، بل ورودها يعني حضورها ؛ لأن الورود بمعنى الحضور. ينظر في ذلك كتاب عدة الأكياس ٢ / ٣٥٣.

الأقدام : فناج مسلّم ، ومخدوش مرسل ، ومكدوش في جهنم» (١). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يمدّ الصراط فيكون أوّل من يمر به أنا وأمتى ، والملائكة بجنبتيه ، أكثر قولهم : سلّم سلّم ، وإنّ عليه لكلاليب وحسكا ، يقال لها : السّعدان ـ ينبت بنجد ـ ، وإنه لدحض مزلّة ، فيمرّون عليه كالبرق ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل ، والرجال ، فناج مسلّم ، ومخدوش مكلم ، ومكدوش في النار» (٢). والأخبار في ذلك كثير.

الفصل الثالث عشر : الشفاعة

وذلك ظاهر عند علماء الأمة قال تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الإسراء : ٧٩] ، قيل : الشفاعة (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال (٤) : «أنا أوّل شفيع» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لكل نبيّ دعوة ، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة» (٦). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «أوّل من أشفع له من أمتي أهل بيتي ، ثم الأقرب فالأقرب ، ثم الأنصار ، ثم من آمن بي ، واتبعني من أهل اليمن ، ثم سائر العرب ، ثم الأعاجم» (٧). وعندنا أن شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تكون لأهل الكبائر المصرين عليها حتى يأتيهم الموت ، وإنما تكون لأهل الكبائر

__________________

(١) كنز العمال ١٤ / ٣٨٢.

(٢) مسلم ١ / ١٦٩ رقم ١٨٣ فقد ذكر ما يوافق ما ذكره الأمير حول الصراط.

(٣) تفسير الرازي ١١ / ٣٢.

(٤) في (ب) : أنه قال.

(٥) تيسير المطالب ص ٤٤٣. ومسلم ١ / ١٨٨.

(٦) تيسير المطالب ص ٤٤٣. والبخاري ٥ / ٢٣٢٣ رقم ٥٩٤٦. ومسلم ١ / ١٨٨ ، ١٨٩.

(٧) ظاهر القرآن أنه لا فرق بين الناس ، ولا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، والأولوية لأكثر الناس عملا ، وعليه يحمل الحديث فإن أهل البيت المجاهدين الذين قدموا نفوسهم ونفيسهم في سبيل الله ، كذلك الأنصار وأهل اليمن الذين ناصروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته.

الذين تابوا وماتوا على التوبة ، ولمن استوت حسناته وسيئآته فيبقى غير مستحقّ للثواب ولا للعقاب ؛ فيشفع له ؛ ليرقى درجة أعلا من درجات الصبيان والمجانين ، ويرفع إلى منزلة عالية لم يكن لينالها إلا بالشفاعة. فأما العصاة المصرّون على معاصيهم حتى يأتيهم الموت على غير توبة فلا شفاعة لهم ، وتصديق ذلك قول الله سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨].

ومعلوم أنّ من مات مصرّا على الكبائر فإنه غير مرتضى عند الله تعالى ، وقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] ، والمصرّ على الكبيرة حتى مات عليها ظالم لنفسه ، قال تعالى : (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١] ، وقوله عزوجل : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠] ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كذّب بالشفاعة لم ينلها يوم القيامة» (١).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رجال من أمتي لا تنالهم شفاعتي : ذو سلطان ظلوم غشوم ، ومارق من الدين خارج منه» (٢) ، فأما ما يحتجّ به المخالفون من قولهم ، في رواياتهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (٣) ، فهو

__________________

(١) شمس الأخبار ٢ / ٣٨٨.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ٣٨٧. والشافي ٣ / ٢٦٣.

(٣) والحديث الذي روي «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» مكذوب. وقد جزم بذلك الذهبي في ميزانه [١ / ٤٦٦] حيث قال في ترجمة صديق بن سعيد الصّوناخي التركي عن محمد بن بصير المروزي عن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» هذا لم يروه هؤلاء قط ، لكن رواه عن صديق من يجهل حاله : أحمد بن عبد الله السرسي فما أدري من وضعه. رقم الترجمة ٣٨٢٨. ومع حكم الذهبي بوضعه ، ودلالة الحديث بمتنه وسنده على عدم صحته ؛ فقد ورد في كتب الحديث المشهورة كالترمذي ٤ / ٥٣٩. وأحمد بن حنبل ٤ / ١٣٢٢١. وسنن أبي داود ٥ / ١٠٦ رقم ٤٧٣٩. والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٨٢ ، وقال : هذا حديث صحيح وعلى شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد خرجه غيره بنفس اللفظ ، وألفاظ أخرى متعددة.

__________________

والحديث الصحيح هو : «شفاعتي ليست لأهل الكبائر من أمتي» وقد روي عن الحسن البصري (مرسلا ، ومراسيله عن الإمام علي عليه‌السلام كما ذكره المزي في تهذيب الكمال ٦ / ١٢٤ حيث قال عن يونس بن عبيد ، قال : سألت الحسن قلت يا أبا سعيد إنك تقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنك لم تدركه؟ قال : يا ابن أخي لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ولو لا منزلتك منّي لما أخبرتك ، إني في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجاج ـ كل شيء سمعتني أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو عن علي عليه‌السلام ، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليا). والقول بالشفاعة للمجرمين من أهل الكبائر هدم للإسلام جملة وتفصيلا ، فافعل ما شئت ، فأنت على موعد مع الشفاعة أيّ كذب هذا؟.

وها أنا أسوق جملة من الأحاديث الشريفة تحرّم الشفاعة على كثير من مرتكبي الكبائر ؛ فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة مدمن خمر ، ولا عاقّ ، ولا منان». رواه الطبراني في الأوسط ١ / ١٨ برقم ٢٣٣٥. وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث حرّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة مدمن خمر والعاق والديوث الذي يقرّ في أهله الخبيث». رواه أحمد ٢ / ٣٥١ رقم ٥٣٧٢. والنسائي ٥ / ٨٠ برقم ٢٥٦٢. وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر ، وقاطع رحم ، ومصدّق بالسحر» ، رواه أحمد ج ٧ رقم ١٩٥٨٦. وعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدا : الديوث ، والراجلة من النساء ، ومدمن الخمر» ، رواه الطبراني في الأوسط ٣ / ٥ رقم ٢٤٤٣. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة» ، أخرجه البخاري ٣ / ١١٥٤ برقم ٢٩٩٥. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة قاطع رحم». رواه الطبراني في الأوسط ٤ / ٣٢ برقم ٣٥٣٧. والطبراني في الكبير ص ٣٠٢ رقم ١٣١٨٠. وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والديوث ، والمرأة المترجلة تشبه بالرجال ... إلخ». وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا» ... إلخ. رواه البخاري ٥ / ٢١٧٩ برقم ٥٤٤٢. ومسلم ١ / ١٠٣. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «صنفان من أمتي لا تنالهم شفاعتي : إمام ظلوم غشوم ، ومارق غال». رواه الطبراني في الأوسط ج ١ ص ٢٠٠ رقم ٦٤٠. وقال في مجمع الزوائد ٥ / ٢٣٥ : رجاله ثقات. وعن أبي بكر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة جسد غذّي من الحرام» ، رواه الطبراني في الأوسط ٦ / ١١٣ برقم ٥٩٦١. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة قتّات» ، والقتات : النمام. رواه الطبراني في الأوسط ٤ / ٢٧٨ رقم ٤١٩٢. وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة سيّئ الملكة ، ملعون من ضار مسلما ، أو غرّه». رواه الطبراني في الأوسط ٩ / ١٢٤

معارض لوجهين : أحدهما ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» (١) ، يريد المصرّين عليها حتى الموت. فإن صحّ خبرهم ، فالمراد به التائبون قبل الموت. الوجه الثاني أنه معارض لأدلة معلومة نحو ما تقدم وما أشبهه ؛ فيجب سقوطه أو تأويله على ما ذكرناه. وبعد فإن هذا الخبر أكثر ما يمكن أن يقال : إنه من أخبار الآحاد وهي لا يحتجّ بها في مسألتنا هذه ، فإنّ طريقها الاعتقاد ، وإنما يؤخذ بها في باب الأعمال ، وهذا ظاهر عند علماء الرجال.

الفصل الرابع عشر : الجنة والنار

وهما معلومتان من الدّين ضرورة. ولنذكر طرفا من نعيم أهل الجنة فيها ، وعذاب أهل النار فيها ، ولنقتصر على بعض ما جاء في ذلك في القرآن دون ما عداه.

أما الجنة فحياتهم كما قال تعالى : (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [القارعة ٧]. وسعة الجنة وصفتها. قال تعالى : (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١]. فأما طولها فلا يعلمه إلا الله (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الإنسان : ١٣] ، ودورهم. قال تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) [التوبة : ٧٢] ، وقال : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] ، وقال

__________________

برقم ٩٣١٢. والقرآن الكريم حاسم في هذا الشأن. قال تعالى : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) ، [الفرقان : ٦٨]. وقال سبحانه : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) ، [النساء : ١٤]. وقال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، [الزلزلة : ٧ ، ٨]. فلما ذا لم يقل : ومن يعص الله يشفع له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟!.

(١) الشافي ٤ / ٤٥ ، عن الحسن البصري.

في مجالسهم : (عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) [الواقعة : ١٥] ، وقال : (عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) [الطور : ٢٠] وقال تعالى : في مأكلهم : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) [فصلت : ٣١] وغير ذلك. وقال عزوجل في إدامهم : (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة : ٢١] ، وغير ذلك ، وقال سبحانه في بساتينهم : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، وقال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن : ٦٢] ، وقال في فواكههم : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] ، وقال : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] ، وقال : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) [الإنسان : ١٤] ، وقال في أنهارهم : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد : ١٥] الآية. وقال في شرابهم : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) [الإنسان ١٧] ، ونحو ذلك من الآيات نحو قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً* عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان : ١٧ ـ ١٨] ، وقوله : (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ* خِتامُهُ مِسْكٌ) [المطففين : ٢٥ ـ ٢٦] ، وقال في لباسهم : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣] ، وقال : (يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف : ٣١] ، وقال : (عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) [الإنسان : ٢١]. وقال في حليهم : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) [فاطر : ٣٣] ، وقال تعالى : (وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) [الإنسان : ٢١] ، وقال في زوجاتهم : (وَحُورٌ عِينٌ* كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [الواقعة : ٢٣] ، وقال : (عُرُباً أَتْراباً) [الواقعة : ٣٧] ، ونحو ذلك. وقال في زيارة الملائكة لهم وسلامهم عليهم : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ)

[الرعد : ٢٣ ـ ٢٤]. وقال في سلام المؤمنين عليهم : (إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٦]. وقال في سلام الله تعالى عليهم : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨]. وقال في فرشهم : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٤] ، وقال : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] ، وقال : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) [الرحمن : ٧٦]. وقال في خدمهم : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) [الواقعة : ١٧] ، وقال : (غِلْمانٌ لَهُمْ) [الطور : ٢٤]. وقال في كيزانهم : (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة : ١٨]. وقال في ظلهم : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] ، وقال في من يسقيهم : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) [الإنسان : ٢١] ، وقال في رفقائهم : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ) [النساء : ٦٩] الآية. وقال : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) [الحجر : ٤٧]. وقال تعالى في مناظرتهم لأعدائهم في النار : (قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا) [الأعراف : ٤٤] الآية. وهذه شماتة. وقال في استهزائهم بأعدائهم : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) [المطففين : ٣٤] ، وهذا مكافأة لهم بما كانوا يستهزءون بهم في الدنيا. وقال في مثل ذلك من الاستهزاء بهم والشماتة عليهم : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] الآية. وقال في حمدهم لله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] الآية. وقال في دوام ثوابهم أبد الآبدين : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] ، وقال تعالى : (لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٣] ، وقال : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [البينة : ٨] ، وقال تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر : ٤٨]. وذلك معلوم ضرورة

من الدين. والكلام في وصف الجنّة ونعيم أهلها فيها ، مذكور بكماله في آيات كثيرة من القرآن لم نتمكن من إيراد كلّها لما قصدناه من الاختصار ، فمن رام استقصاء ذلك ، فليتأمل كتاب الله سبحانه. فأما الآثار في هذا المعنى فكثيرة (١) أعرضنا عنها للاختصار.

أما النار فهي أيضا معلومة من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة ، وكذلك المعلوم ضرورة دخول من مات كافرا مصرا على كفره في نار جهنم وخلوده فيها ، وأنه لا يخرج منها أبدا. هذا كله معلوم ضرورة لا خلاف فيه. وإنما الخلاف في فسّاق أهل الصلاة ، هل يدخلون النار أو لا؟ ، وهل يخرجون منها بعد دخولهم فيها أو لا؟ ونحن نعتقد أنهم إذا ماتوا مصرّين على الكبائر دخلوا النار ، وأنهم لا يخرجون منها أبدا ، بل يخلّدون فيها كخلود الكفار سواء سواء. هذه هي عقيدتنا أهل البيت.

وهذا القول هو قول من عدا المرجئة. وذهبت المرجئة من اليهود (٢). وسائر فرق الإسلام إلى خلاف ذلك : فمنهم من جوّز أن يخرجوا من النار ، ومنهم من قطع على الدخول والخروج (٣). والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وبطلان ما ذهبوا إليه وجوه : منها أن العترة (ع) أجمعوا على دخول الفسّاق من أهل الصلاة النار ، وعلى خلودهم فيها أبدا. وإجماعهم حجة كما تقدم. ومنها

__________________

(١) في (ب) : فهي كثيرة.

(٢) يشير إلى قوله تعالى حكاية عنهم : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).

(٣) رووا أحاديث غريبة تشبه السرد القصصي وتصوير الله سبحانه بصورة المخلوق يتجلى ويتغير ويكشف عن ساق ويضع قدمه في النار فتقول : قط قط قط ، وهذا لا يليق بالله أبدا. وإذا صحح المحدثون سند الحديث فليس باستطاعتهم تصحيح الغرابة والشذوذ في المتن. ينظر الأحاديث رقم «٧٠٠٠» وما بعده من صحيح البخاري.

الآيات العامة لهم وللكفار نحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] ، والفاسق عاص بالإجماع ، لا يطلق عليه اسم الإيمان لكونه اسم مدح. ولا خلاف أن الفاسق يستحق الذّمّ والتحقير وأنه لا يستحق الإجلال والتعظيم.

ومما يدل على أنه لا يطلق عليه اسم الإيمان قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] إلى آخر الآيات التي أتى فيها على وصف المؤمنين. والفاسق لم تكمل فيه هذه الصفات. وكذلك قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال : ٢] الآية. والفاسق ليس كذلك. وقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤]. لمّا لم يعملوا بالإيمان. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان قول باللسان ، وعمل بالأركان ، ومعرفة بالقلب» (١). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السّارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن. الإيمان أكرم على الله من ذلك» (٢).

وإذا ليس بمؤمن دخل (٣) مع الكفار في وعيدهم ، وإنما خالف حكمه في الدنيا حكمهم في الدنيا (٤) ؛ لكون ذلك من باب التكاليف ، ونحو قوله

__________________

(١) أخرجه المرشد بالله في أماليه الخميسية ١ / ١٠ ، ٢٤. وابن ماجه ١ / ٢٦ رقم ٥٦ ، والخطيب في تاريخه ١ / ٢٢٥ ، عن علي عليه‌السلام ، وكنز العمال ١ / ٢٣.

(٢) أخرجه الكثير من المحدثين منهم البخاري ٢ / ٨٧٥ برقم ٢٣٤٢ ، ومسلم ١ / ٧٦ رقم ٥٧. وأبو داود ٥ / ٦٥ برقم ٤٦٨٩. والترمذي ٥ / ١٦ برقم ٢٦٢٥.

(٣) في (ب) : وإذ ليس بمؤمن من دخل.

(٤) «في الدنيا» محذوفة في (ب).

سبحانه : (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ* يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ* وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) [الانفطار : ١٤ ـ ١٦]. والاحتجاج فيه على نحو ما تقدم. وقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) [النساء : ١٤] والاحتجاج به كما تقدم. ومنها الأدلة (١) الخاصة لفساق أهل الصلاة ، وذلك في الكتاب وفي السنة.

أما الكتاب فقوله سبحانه : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) [النساء : ٩٣] ، وهذا نصّ على خلود القاتل في النار ، وهو غرضنا وقوله تعالى : (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩]. فدلّ ذلك على خلود العصاة من أهل الصلاة ، وذلك يقضي بصحة مذهبنا ، ونحو ذلك من الآيات إذا تأمله المتأمل.

وأما السنة فكثير : نحو قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة من كبر» (٢) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنّة خمسة : مؤمن بسحر ، ومدمن خمر ، وقاطع رحم ، ولا كاهن ، ولا منّان» (٣) ونحو ذلك في الأخبار كثير (٤) وإذا لم (٥) يدخلوا الجنة دخلوا النار ؛ لأنه لا دار إلا الجنة أو النار (٦).

__________________

(١) في (ب) : الدلالة.

(٢) أخرجه مسلم ١. ٩٣ رقم ٩١. والحاكم ١ / ٢٦. وابن ماجة ١ / ٢٣ رقم ٥٩. وأبو داود ٤ / ٣٥٠ برقم ٤٠٩١. والترمذي ٤ / ٣١٧ رقم ١٩٩٩.

(٣) مجمع الزوائد ٥ / ٧٤. ومسند أحمد رقم ١١١٠٧ ، ١١٧٨١.

(٤) مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» ، مسلم ١ / ٦٨ ، «ولا يدخل الجنة نمام» مسلم ١ / ١٠١ ، ولا مجال للحصر.

(٥) في (ب) : وإذ لم.

(٦) في (ب) : والنار.

تصديق ذلك قوله تعالى : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] ، ومما يدل على دخول الفساق من أهل الصلاة النار وخلودهم فيها من السنة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه في نار جهنّم خالدا فيها مخلدا فيها أبدا ، ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» (١). والأخبار في ذلك مما يطول ذكرها والغرض التنبيه. وأما وصف عذاب أهل النار فهو في كتاب الله تعالى مذكور ، ونحن نشير إلى بعضه ؛ فالغرض الاختصار ، قال تعالى في مكانهم : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ* لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) [الزخرف : ٧٤ ـ ٧٥] ، وقال تعالى : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣]. وقال تعالى في بيوتهم : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف : ٤١] ، وقال : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) [الزمر : ١٦] ، وقال تعالى في طعامهم : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ* لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) [الغاشية : ٦ ـ ٧] ، وقال : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ* طَعامُ الْأَثِيمِ* كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ* كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٣ ـ ٤٦] ، وقال تعالى : (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) [الحاقة : ٣٦]. وقال في مياههم : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ) [الكهف : ٢٩] ، وقال تعالى : (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) [إبراهيم : ١٧] ، وقال تعالى في ثيابهم :

__________________

(١) البخاري ٥ / ص ٢١٧٩ رقم ٥٤٤٢ في باب شرب السم والدواء به. بلفظ : «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسّى سمّا فقتل نفسه فسمّه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا». والترمذي / ٤ / ص ٣٣٨ رقم ٢٠٤٤. ومسلم / ١ / ص ١٠٣ رقم ١٠٩

(قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) [الحج : ١٩] ، وقال : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) [إبراهيم : ٥٠] ، وقال في وكلاء عذابهم : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] ، وقال : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) [العلق : ١٨] ، وقال : (وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ) [غافر : ٤٩]. وقال في عذاب أعضائهم : قال في الجلود : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) (١) [النساء : ٥٦] ، وقال في وجوههم : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [الأحزاب : ٦٦] ، وقال في رءوسهم : (ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) [الدخان : ٤٨] ، وفي آنافهم : (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦]. وقال في جباههم وظهورهم وجنوبهم : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) [التوبة : ٣٥] الآية. وقال في أيديهم : (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ* ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ* ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة : ٣٠ ـ ٣٢] ، وقال في قلوبهم وأفئدتهم : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ) [الأنعام : ١١٠] الآية ، وقال في بطونهم : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) [الحج : ٢٠] ، وقال في أمعائهم : (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) [محمد : ١٥] ، وقال في أرجلهم : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً) [المزمل : ١٢] ، يعني قيودا (٢). وفي القرآن من وصف العذاب ما هو أكبر (٣) من قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [الجن : ٢٣] ، ونحو ما تقدم.

__________________

(١) قال في الكشاف ١ / ٥٣٢ : المراد أبدلناهم إياها ، فإن قلت : كيف تعذب مكان الجلود العاصية جلود لم تعصي؟ قلت : العذاب للجملة الحساسة وهي التي عصت الله لا الجلد.

(٢) الكشاف ٤ / ٦٤٠.

(٣) في (ب) ، (ج) : أكثر.

الفصل الخامس عشر : في التوبة

وفيها تسعة مباحث : أحدها : ما التوبة؟ والتوبة (١) : هي الندم على ما مضى ، ولكن لا يكون نادما على ما مضى من فعله للقبيح وتركه للواجب ـ وهو ذاكر لحال ما تاب منه ـ إلا بشرط أن يكون عازما على أن لا يعود إلى مثل ما تاب منه ، فهو من شروطها على ما نبينه ، وليس يدخل في حقيقتها.

المبحث الثانى : في وجوبها (٢) ، وقد دلّ على ذلك العقل والسمع.

أما العقل : فلما تقرر في عقل كلّ عاقل من وجوب دفع الضرر عن النفس ، وهي تدفع (٣) ضرر الذنب الذي يؤدي إلى العقاب الدائم ، فلا مضرة في العقول أعظم من ذلك. وأما السمع : فالكتاب : نحو قوله تعالى (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ، وقوله تعالى : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٤] ونحو ذلك.

والسنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أيّها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا» (٤) ، ونحو ذلك. والإجماع : وهو ظاهر بين المسلمين.

المبحث الثالث (٥) : بيان فضلها ومنفعتها ، وعلى الجملة فلا أفضل في الطاعات بعد أصول العقيدة منها ؛ لأن المكلف لا ينجو في أثناء تكليفه من السيئات. إما الكبائر ، وإما الصغائر ، وقد بيّنّا أنه لا مضرة أعظم من مضرة

__________________

(١) في (ب) : التوبة ، بحذف الواو.

(٢) في (ب) : المبحث الأول.

(٣) في الأصل : بدفع ، ولا معنى لها ولذلك أثبتنا ما في (ب).

(٤) سلوة العارفين ٤٣٣ ، وأخرجه ابن ماجه ١ / ٣٤٣ رقم ١٠٨١. والبيهقي في السنن ٣ / ١٧١. والقرطبي في تفسيره ١٨ / ٧٧.

(٥) في (ب) : المبحث الثاني في بيان ، وهو الصواب ؛ لأن الثالث سوف يأتي.

الذنوب المفضية إلى العذاب الدائم ، فمنفعة التوبة حسم تلك المضرة بالكلية ، منفعة أخرى ، وهي (١) حصول الثواب الدائم على فعل التوبة ، فقد دفعت أعظم الضرر وجلبت أعظم النفع ، فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عنها طرفة عين.

وفي حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ، وفي حديثه عليه‌السلام : «إذا تاب العبد أنسى الله الحفظة ما علموا من مساويه ، وأمر الجوارح أن يكتموا ما علموا من مساويه» (٣).

المبحث الثالث (٤) : في شروطها وصفتها ولها شرطان : أحدهما أن يتوب عن القبيح لقبحه فقط ، لا لمخالفة الناس ، ولا لخوف الفضيحة ، ولا لطلب نفع من أحد ، ولا لغير ذلك من الأغراض ، فإنّ من أساء إلى الغير واعتذر إليه لأجل قبح ما فعله معه ـ قبح منه ترك قبول عذره ، ويسقط اللوم عن المعتذر ، ومتى كان ذلك لغرض ـ لم يحصل ما ذكرناه من سقوط اللوم عنه ، ولزوم القبول. والشرط الثاني أن لا يتوب عن قبيح مع استمراره على قبيح آخر ؛ لأنه إنما تاب لقبحه ، فمتى كان مقيما على قبيح مثله ـ انتقض الغرض بالتوبة ، وجرى مجرى من يتجنّب العسل لحلاوته ، فإنه متى استعمل السّكّر ـ انتقض عليه غرضه باجتناب العسل ؛ لاشتراكهما في الحلاوة. وقد دل على ذلك قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه» (٥).

__________________

(١) في (ب) : وهو.

(٢) أخرجه المرشد بالله ١ / ١٩٨. وابن ماجه في سننه ٢ / ١١٤ رقم ٤٢٥٠. والبيهقي في السنن ٥ / ٣٨٨ رقم ٧٠٤٠ ، والهيثمي في مجمع ١٠ / ٥٠.

(٣) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ١٩٨ ، المنذري في الترغيب ٤ / ٩٤ ، وعزاه الأصبهاني. والمتقي الهندي في الكنز ٤ / ٢٠٩ رقم ١٠١٧٩ ، وعزاه إلى ابن عساكر.

(٤) في (ج) : المبحث الرابع.

(٥) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ٩٧.

وأما صفة التوبة : فروي عن علي عليه‌السلام : أنه سمع رجلا بحضرته يقول : أستغفر الله ، فقال له : ثكلتك أمّك ، أتدري ما الاستغفار؟ إنّ الاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم واقع على ستة معان : أولها : الندم على ما مضى. والثاني : العزم على ترك العود إليه أبدا. الثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله وليس عليك تبعة. والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقها ، والخامس : أن تعمد إلى اللّحم الذي نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان حتى تلحق (١) الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطّاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : أستغفر الله. (٢) وعن ابن عباس رضى الله عنه في قوله تعالى : (تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] ، قال : التوبة النصوح النّدم بالقلب والإقلاع بالبدن ، والإضمار على ألّا يعود ، والاستغفار باللسان (٣). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «التّوبة من الذنب أن يتوب العبد ثمّ لا يعود» (٤).

المبحث الرابع : في قبول التوبة : وقد دل على قبولها العقل والسمع ، متى وقعت على شروطها وصفتها. أما العقل : فهو أنّ من أساء إلى غيره بإساءة ثم اعتذر إليه لكونها إساءة لا لغرض ؛ لزمه (٥) قبول عذره ؛ لأن ذلك هو نهاية ما

__________________

(١) في (ب) : يلحق ، وفي النهج تلصق.

(٢) النهج ص ٧٧٤ رقم ٤١٧ ، وسقط الرابع والخامس من النهج وجعل الخامس الرابع. والكشاف ٤ / ٥٦٩ ، في تفسير : (تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) وآية «٨» من سورة التحريم باختلاف يسير

(٣) هو قول محمد بن كعب القرطبي كما ذكره القرطبي في تفسيره ١٨ / ١٢٩ ، والبغوي ٦ / ٢٣٥ ، والخازن ٦ / ٢٣٥.

(٤) أخرجه أحمد بن حنبل ٢ / ١٥٧ ، برقم ٤٢٦٤ ، عن عبد الله بن مسعود.

(٥) في (ب) : لزم.

في وسعه ، وقد بذله لمن أساء إليه ، فكذلك التوبة. والعلة الرابطة بينهما أن كل واحد منهما هو بذل الجهد في تلافي ما فرّط.

وأما السمع فالكتاب نحو قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) [الشورى : ٢٥]. ونحو ذلك في القرآن.

وأما السنة : فقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ العبد إذا أذنب ذنبا فاعترف به وتاب غفر له» (١) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» (٢) ، وقيل للحسن رحمه‌الله : المؤمن يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب ، ثم يذنب ثم يتوب ، إلى متى؟ قال : ما أعرف هذا إلّا أخلاق المؤمنين (٣). وأما الإجماع : فلا خلاف فيه.

المبحث الخامس فيما يفسد التوبة ، وما يمنع من التوبة : أما ما يفسدها ففسادها على وجهين : أحدهما : ما معه لا تصح التوبة ولا تكون مزيلة للعقاب ، وذلك إذا اختل بعض شروطها المتقدمة.

والثاني : أن يعود إلى مثل ما تاب عنه من القبائح ، فإنّ التوبة الأولى تبطل ، والعقاب يستحقّ ، ويعود عليه وبال إفسادها بإبطال الثواب ، واستحقاق العقاب. وأما ما يمنع منها فأمور :

منها أن يكون الإنسان معتقدا لصحة ما هو عليه من البدعة ، مصوبا

__________________

(١) أخرجه المرشد بالله في أماليه ١ / ٢٠٠ ، بلفظ : يا عائشة إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي ؛ فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار ؛ فإن العبد إذا استغفر الله من ذنب غفر له ، والبخاري ٢ / ٩٤٤ رقم ٢٥١٨. والحاكم ٤ / ٢٤٣ ، وغيرهم بلفظ : إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه» ، في ذكر حادثة الإفك.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي ١٠ / ١٥٤. ومجمع الزوائد ٨ / ١٩.

(٣) سلوة العارفين ٤٣٨.

لنفسه فيما هو فيه مخط ، وهذا داء مستحكم لا يزول أبدا ، ولا يكون لصاحب البدعة توبة ما دام معتقدا لصحة ما هو عليه (١). وقد مات على ذلك الطّبق الأكثر ، قال تعالى : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٢) [الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤]. وعلى هذا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعوذ بالله من ذنب لا أستغفر الله منه» ، قيل : يا رسول الله ويكون هذا؟ قال : «نعم أقوام في آخر الزمان يبتدعون البدع ، يدينون الله بها ، لا يستغفرون الله منها حتى يموتوا». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله حجر التوبة عن كلّ صاحب بدعة» (٣). وإنما يتوب من هذه حاله متى تغير اعتقاده ، وعرف خطأه ، فأما في حال اعتقاده لصحة ما هو عليه فلا يتوب.

ومنها : استحكام الذنب وكثرة اللهج به ، والاعتياد له من دون تخلّل طاعة ، ولا توبة ، قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا

__________________

(١) قال أبو هاشم فيمن دعا غيره إلى الضلال فقبله ، أنه مع التوبة يلزمه أن يعرفه بطلان ما دعاه إليه ؛ إن ظن أن ذلك يؤثر ؛ لأنه المختص بأن أضربه ، فإذا علم أو ظن صحة إزالة ذلك لزمه ، فأما إن لم يظن ، فسبيله سبيل سائر الناس إذا أرادوا النهي عن هذا المنكر. ينظر المغني ١٤ / ٣٣.

(٢) وروى الطبري في تفسيره مج ٩ ج ١٦ ص ٤٣ ، والقرطبي ١١ / ٤٤ وغيرهما : أن ابن الكوّاء سأل عليّا عليه‌السلام عن الأخسرين أعمالا. فقال : أنت وأصحابك. وكان ابن الكواء من الخوارج.

(٣) أخرجه الطبراني في الأوسط ٤ / ٢٨٠ رقم ٤٢٠٢ بلفظ : إن الله حجب التوبة .. الحديث. وابن ماجه ١ / ١٩ رقم ٤٩ بلفظ : لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجّا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين ، وقال في رقم ٥٠ : أبى الله أن يقبل عمل صاحب بدعة حتى يدع بدعته.

يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤] ، قيل : هو الذنب على الذنب حتى يسودّ القلب (١).

ومن موانع التوبة : كثرة الجهل ، وترك العلم ، حتى لا يدري بمضرة الذنب ، ولو عرف مضرة الذنب فإنه لا يدري كيفية المخرج منه ، ومن هاهنا يموت أكثر الخلق من غير توبة ؛ لجهلهم وقلة تمييزهم ، وهم العامة ، وقد شبههم الله بالأنعام ، فقال : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الأعراف : ١٧٩]. وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل ذنبا واحدا» (٢). ومن موانع التوبة للعارفين التسويف للتوبة وتأخيرها ، فإنه ربما هجمه الموت وهو مصرّ على الكبائر ، فخسر الدنيا والآخرة. ومن موانع التوبة : إغفال النّظر في الحساب والجزاء ، وقلة التفكر في الموت ، والمصير إلى القبر ونحو ذلك. ومن موانع التوبة : الإياس والقنوط من رحمة الله ونحو ذلك.

المبحث السادس : وبال تأخيرها ، ولا شبهة في أنّ وباله عظيم ؛ فإنه يؤدي إلى بقاء الضرر العظيم وهو العقاب الدائم ؛ لأنّ الموت ربما هجم عليه

__________________

(١) هو قول الحسن كما في النكت والعيون للماوردي ٦ / ٢٢٩ بمعناه. ويؤكد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا هو نزع واستغفر وتاب سقل قلبه ، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه وهو الرّان الذي ذكر في قوله : (كَلَّا بَلْ رانَ). رواه الترمذي ٥ / ٤٠٤ رقم ٣٣٣٥.

(٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خيار أمتي علماؤها ، وخيار علمائها خيارها ، ألا وإن الله .. الحديث». وتمامه : ألا وإن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب كما يسري الكوكب الدري. المرشد بالله ١ / ٥٢ ، ٦٢ ، وتاريخ بغداد ١ / ٢٣٨ ، وحلية الأولياء ٨ / ٢٠٢.

في حالة تركه للتوبة وهذا خطر عظيم ، لا خطر أعظم منه. قال علي عليه‌السلام : ما أطال رجل الأمل إلا أساء العمل (١). وقال عليه‌السلام : التسويف شعاع إبليس.

المبحث السابع : متى تنقطع منفعة التوبة : وهي تنقطع عند معاينة الموت وتنقطع عند ظهور علامات القيامة التي معها ينقطع التكليف ، قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) [النساء : ١٨] ، وقال تعالى : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) [الفرقان : ٢٢]. أي حراما محرّما (٢). وقال تعالى : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) الآية [الأنعام : ١٥٨]. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تاب قبل أن يغرغر بالموت تاب الله عليه» (٣) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : التوبة مقبولة ما لم ينزل سلطان الموت» (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «التوبة مقبولة حتى تطلع الشّمس من المغرب ، فإذا طلعت طبع على كلّ قلب بما فيه ، وكفّ الناس عن العمل» (٥). والأخبار في ذلك كثيرة.

المبحث الثامن : في سبب التوبة : ولها سببان : أحدهما : الخوف من وبال الذنب. والثاني : الرجاء لثواب التوبة. ولا يحصلان إلا بذكر الأمر

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ / ٦٨٨.

(٢) الماوردي ٤ / ١٤٠. والألوسي مج ١١ ج ١٩ ص ١٠. وفي (ب) : حرما محرما.

(٣) المستدرك ٤ / ٢٥٧ ، والخطيب في تاريخه ٨ / ٣١٧.

(٤) سلوة العارفين ٤٣٤ ، بلفظ : «التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت».

(٥) سلوة العارفين ٤٣٣ ، ومسلم ٤ / ٢٠٧٦. وأحمد بن حنبل ج ٣ برقم ٩١٤١ ، بلفظ : من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه».

المخوف والمرجو ، وهو العقاب والثواب ، وجميع ما يكون في حال الموت وبعده ، وفي القبر ، وعند النشر والحشر ، وعند المواقف ، والصراط ، والميزان ، ونحو ذلك.

وقد يكون سبب هذا الذّكر المولّد للخوف والرجاء من قبل النفس (١) بالفكر المولّد لذلك. وقد يكون من قبل الله تعالى ، وقد يكون من بعض عبيده الواعظين المذكّرين ونحو ذلك.

المبحث التاسع : في (٢) طرف مما جاء في الاستغفار ، وذكر كيفية (٣) ما جاء من التلفظ به عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما من عبد ولا أمة يستغفر الله كل يوم سبعين مرة إلا غفر له سبعمائة ذنب ، وقد خاب عبد أو أمة عمل في ليلته أو يومه أكثر من سبعمائة ذنب» (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت له ذنوبه وإن كان (٥) فرّ من الزحف. ومن قالها خمس مرات غفر له وإن كان عليه مثل زبد البحر» (٦). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن في القرآن لآيتين ما

__________________

(١) في (ب) : من شغل النفس.

(٢) في (ب) : في ذكر طرف.

(٣) في (ب) : كيفية بعض.

(٤) أخرجه الديلمي في مسنده ٤ / ١٧ رقم ٦٠٤٩. والمتقي الهندي في الكنز ١ / ٤٨٢ رقم ٢١٠٥ وعزاه إلى الحسن بن سفيان. والبيهقي في شعب الإيمان ١ / ٤٤٢ برقم ٦٥٢ ، وفيه الزيادة : وقد خاب وعيد ..»

(٥) كان ساقطة في (ب).

(٦) أخرجه الإمام زيد في المجموع ص ٤١٨. والترمذي ٥ / ٥٣١ رقم ٣٥٧٧. وأبو داود ٢ / ١٧٨ رقم ١٥١٧.

من عبد يذنب ذنبا فيقرأ هما ثم يستغفر الله إلا غفر له : قوله : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ١٣٥]. والآية الأخرى : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١) [النساء : ١١٠]. والأخبار في ذلك كثير (٢). وإذ قد فرغنا من الكلام في العقيدة فلنتكلم فيما طلبه السائل من الكلام في فروض الصلوات الخمس ، وسننها الداخلة فيها وهيئاتها ، والتمييز بين فروضها وسننها وهيئاتها.

[الأذان والإقامة]

فنقول وبالله التوفيق والتسديد والمعونة والتأييد : ينبغي أن نتكلم في الأذان والإقامة أوّلا ، وإن لم يكن من فروض الصلوات الخمس بل هو فرض مستقل بنفسه (٣) ، فإنه لا بد لكل مصلّ منه ، ولا بد من تقدّم الكلام فيه لأجل ذلك ، ولوقوع الخلاف فيه بيننا وبين من في جهتك من المخالفين.

وإذا كان كذلك قلنا : إن الأذان أصله من الله تعالى ، أمر الله ملكا من ملائكة الله تعالى ليلة أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعلّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هكذا روينا عن الأئمة الفضلاء : الباقر محمد بن علي السجاد زين العابدين (٤) ،

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والبيهقي عن ابن مسعود كما في الدر المنثور ٢ / ١٣٧ بلفظ : إن في كتاب الله لآيتين ..».

(٢) في (ب) : كثيرة.

(٣) ذكر المؤلف في الشفاء ١ / ٢٤٧ أنه فرض على الكفاية وهو قول القاسم والهادي والناصر والمؤيد بالله.

(٤) الباقر : ولد سنة ٥٧ ه‍ وقيل ٥٦ ه‍ ، كان عابدا زاهدا ناسكا ولقب بالباقر ؛ لأنه بقر العلم ، وعرف أصله واستنبط فرعه وتوسع فيه. والبقر التوسع ، توفي ١١٤ ه‍ ، وله كتاب التفسير ، رواه عنه أبو الجارود زياد بن المنذر. ينظر أعيان الشيعة ١ / ٦٥٠ والأعلام ٦ / ٢٧٠.

والعالم ترجمان الدين أبي محمد نجم آل رسول الله القاسم بن إبراهيم الغمر ، والهادي إلى الحق أبي الحسين يحيى بن الحسين ، والناصر للحق أبي محمد الحسن بن علي صلوات الله عليهم ، وأنكروا ذلك على من جعله مأخوذا من رؤيا (١) الأنصاري (٢). وقد ذكرنا فيما تقدم طرفا من فضائل هؤلاء الأئمة (ع) ، فيكون ما ذكرناه من فضائلهم مرجّحا لروايتهم على رواية غيرهم ، فلا يعدل عن روايتهم من طلب الاحتياط لنفسه ، والأخذ بالقوي من الأسانيد.

وإذا ثبت ذلك قلنا : إن الأذان الذي ذكره هؤلاء الأئمة المذكورون ورووه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو قول المؤذن : الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الصلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح ، حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله (٣).

والإقامة مثل ذلك ، إلا أنك تقول بعد قولك : حي على خير العمل ، حي على خير العمل ، قد قامت الصلاة ، قد قامت الصلاة ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله. فهذا هو لفظ الأذان ولفظ الإقامة. والنطق بذلك واجب ؛ لأنه

__________________

(١) في (ب) : من رؤيا بعض الأنصار.

(٢) أنظر الأحكام ١ / ٨٤. والاعتصام ١ / ٢٧٧. وشرح التجريد. وقد أخرج الطبراني في الأوسط ٩ / ١٠٠ رقم ٩٢٤٧. لمّا أسري به إلى السماء أوحى الله إليه بالأذان فنزل به ، فعلمه جبريل. والأذان بحي على خير العمل ص ٥٧ ، وعلي بن موسى الرضى في صحيفته ص ٤٤٨ ، وقد احتج للقول بأن الأذن شرع ليلة الإسراء غير واحد ووسع في ذلك الشهيد محمد بن صالح السماوي في الغطمطم الزخار ٤ / ٤٣٥ وما بعدها.

(٣) الأحكام ١ / ٨٤. وكتاب الأذان بحي على خير العمل. وشرح التجريد (خ) ، والتحرير ١ / ٨٤. وأصول الأحكام (خ).

قول ، والقول يحصل بالمخافتة. والجهر به سنّة. ولا يصحّ أذان الجنب ، ولا أذان الفاسق أيّ فسق كان : من سكر أو غيره ، ولا أذان الكافر [كافر تأويل] سواء كان مجبريّا قدريّا أو غيره ، ولا أذان المجنون. واللّاحن في أذانه لا يصحّ أذانه ، وكذلك أذان المرأة ، وكذلك الصبي الذي لم يبلغ ، لا يجب عليه الأذان ، ولا شيء من الشرائع فلا يعتدّ بأذانه.

ويصح أذان المحدث [حدثا أصغر] ولا تصح إقامته. ولا يقيم للغير غير مؤذنهم ، إلا عن عذر. فإن أعاد الأذان غير المؤذن الأول جاز أن يقيم ، كما فعل أبو محذورة مؤذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه جاء وقد أذّن إنسان فأعاد الأذان ثم أقام (١). ويجوز أن يؤذن مؤذنان وثلاثة وأكثر في وقت صلاة واحدة لصلاة واحدة ، سواء أذّنوا في وقت واحد ، أو أذّن كل واحد منهم وحده. وقد روينا أن بلال ابن حمامة (٢) ، وابن أم مكتوم ، وصهيبا الرومي. ورابع (٣) ، ذهب عمّن روى لنا اسمه فلا يدري (٤) أهو عبد الله بن زيد أو أبو محذورة رحمة الله عليهم ـ أذّنوا في وقت واحد لصلاة واحدة في مسجد رسول الله على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٥).

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد بن سليمان في أصول الأحكام (خ) بلفظ : جاء وقد أذن إنسان فأذن هو وأقام. والمؤلف في الشفاء ١ / ٢٥٣.

(٢) قيل : إنه بلال بن رباح وحمامة أمه ، نسب إليها ، كما ذكر ذلك في أسد الغابة. شهد بدرا والمشاهد كلها ، وكان من السابقين إلى الإسلام وعذب من أجل ذلك. وهو مؤذن رسول الله توفي بدمشق سنة ٢٠ ه‍ ، وقيل ١٧ ه‍ وقيل ١٨ ه‍ ، وقيل : بحلب. أنظر أسد الغابة ١ / ٤١٤.

(٣) في (ب) كانت «رابع» وصلّحها «رابعا» توهما للعطف والرفع على أنها ابتداء كلام ، والمعنى : ورابع ذهب اسمه عن الراوي. وسوّغ الابتداء به ، وهو نكرة التقسيم.

(٤) في (ب) : فلا ندري.

(٥) المؤلف في الشفاء ١ / ٢٥٦.

وروى في الوافي (١) عن السيد أبي العباس أحمد بن إبراهيم الحسني رحمه‌الله أنه قال : إذا كثر المؤذنون أذّن واحد بعد واحد ، والخبر الذي ذكرناه يقضي بخلاف ذلك ، وهو أنه يجوز أن يؤذن المؤذنون في وقت واحد ، فأما في الإقامة فتحتمل (٢) أن يقال : إنهم يقيمون. وفي كلام الناصر الحسن بن علي (ع) ما يقتضيه فإنه ذكر في الإبانة في آخر كلام له (٣) ما لفظه : حتى يفرغ المؤذنون من الإقامة ، فأما إن سبق واحد منهم بالأذان فإنه أولى بالإقامة ؛ لسبقه لهم بفضيلة الأذان ؛ ولأن الواجب قد سقط بأذانه فكانت متوجهة إليه ، فإن أقام غيره ممن أذن بعده جاز ، كما فعل (٤) أبو محذورة وقد ذكرناه. ولا يجوز الأذان لشيء من الصلوات قبل دخول أوقاتها ، خلافا في الفجر (٥) ، وإجماعا بين العلماء فيما عدا صلاة الفجر. قال زيد بن علي (ع) : من أذّن قبل الفجر فقد أحلّ ما حرم الله وحرم ما أحل الله (٦).

وروي أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يرجع فينادي : إن العبد نام ، أي سها وغفل (٧). وعن علي عليه‌السلام أنه قال : من أذّن قبل الفجر أعاد ، ومن أذن قبل الوقت أعاد (٨).

__________________

(١) هو للعلامة علي بن بلال الآملي.

(٢) في (ب) : فيحتمل.

(٣) «له» محذوفة من (ب).

(٤) في (ب) : فعله.

(٥) الخلاف للشافعي ومالك. ينظر الأم ٢ / ٦٢. والمدونة ١ / ١٥٩.

(٦) المجموع ص ٩٤. والأحكام ١ / ٨٦.

(٧) الأحكام ١ / ٨٦. وأبو داود ١ / ٣٦٣ رقم ٥٣٢. والترمذي ١ / ٣٩٤. وابن أبي شيبة في المصنف ١ / ٢٠١.

(٨) أخرجه الإمام الهادي في الأحكام ١ / ٨٦.

وعن علقمة رحمه‌الله أنه سمع مؤذنا في مكة يؤذن قبل طلوع الفجر فقال : أمّا هذا فقد خالف سنة أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو كان نائما لكان (١) خيرا له ، فإذا طلع الفجر أذّن (٢). فأخبر علقمة أن ذلك خلاف سنة أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدلّ ذلك على أنهم أجمعوا على خلافه. فأما ما احتج به المخالفون من أذان بلال قبل الفجر فإن ذلك على وجه التذكير فقط ، بدلالة ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن بلالا يؤذن ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم (٣) ، ويتسحّر صائمكم فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم (٤).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تؤذّن حتى يستبين الفجر هكذا ومدّ بيده عرضا» (٥) ، وروي عن عمر بن الخطاب أنّ مؤذنا يقال له : مسروح أذّن قبل الفجر فغضب عمر ، وأمر أن ينادى أن مسروحا وهم (٦).

والأذان بحي على خير العمل : من جملة الأذان بإجماع أهل البيت عليهم سلام رب العالمين ، ورووه عن جدّهم خاتم النبيين صلوات الله عليهم

__________________

(١) في (ب) : كان.

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ١ / ١٩٤.

(٣) أي يرد المتهجد لينام قليلا حتى يصبح نشيطا لصلاة الفجر.

(٤) أخرجه البخاري ١ / ٢٢٤ برقم ٥٩٦ ـ ٥٩٧ عن عبد الله بن مسعود بلفظ : لا يمنعنّ أحدكم أو أحدا منكم أذان بلال من سحوره ؛ فإنّه يؤذّن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ولينبّه نائمكم ، وليس أن يقول الفجر أو الصبح. وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل : حتى يقول هكذا. وقال زهير [راوي الحديث] بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ، ثم مدها عن يمينه وشماله. ومسلم في كتاب الصيام ٢ / ٧٦٨ رقم ١٠٩٢ ـ ١٠٩٣.

(٥) أخرجه أبو داود ١ / ٣٦٥ رقم ٥٣٤. ويقال : إن هذه الرواية تفرد بها أبو داود. وينظر عون المعبود ١ / ٣١١ طبعة حجري.

(٦) ينظر سنن أبي داود ١ / ٣٦٥ رقم ٥٣٣ ولفظه : أن مؤذنا يقال له : مسروح أذّن قبل الصبح فأمره عمر أن يرجع فينادي ألا إن العبد قد نام ، ألا إن العبد قد نام.

أجمعين ، وإجماعهم حجة يجب اتباعها ، ويقبح خلافها ، وروايتهم أولى من رواية غيرهم لما ذكرناه (١) من الأدلة التي ضمناها فضائلهم فيما تقدم.

ورووا عن أبيهم يعسوب الدين أمير المؤمنين وسيد الوصيين عليه‌السلام أنه روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه أمر بلالا بأن يؤذن بحي على خير العمل (٢) ، وروي عن أبي محذورة أنه قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقول في أذاني : حي على خير العمل ، وهو أحد مؤذني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وروي بأن الأذان بحي على خير العمل كان ثابتا في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى عهد أبي بكر ، وصدرا من خلافة عمر ، ثم أمر عمر بالكف عنها ، وقال : أخشى إذا سمعها الناس ضيعوا الجهاد ، واتكلوا عليها (٣).

وإذا كان كذلك دل على أن تركها بدعة ؛ لأنه لا نسخ فيما ثبت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا في حياته ، فأما بعد موته فذلك مما لا سبيل إلى زواله ، والأمر في ذلك ظاهر. ولو كان ترك حي على خير العمل من جملة الدين ـ لبيّنه الله تعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولما فوّت مصلحة العباد بموت محمد عليه‌السلام قبل كمال المصلحة مع قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣٥] ،

__________________

(١) في (ب) : لما ذكرنا.

(٢) ينظر مجموع الإمام زيد ص ٩٣. وكتاب الأذان بحي على خير العمل كتاب مطبوع حديثا من إصدارات مركز بدر العلمي ، رواية للإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن العلوي المتوفي سنة ٤٤٥ ه‍ ، وفيه ١٩٢ رواية حول حي على خير العمل ؛ فاطلبه لزاما. ورواه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف ١ / ٤٦٠ رقم ١٧٨٦ بلفظ : أن ابن عمر كان إذا قال في الأذان : حي على الفلاح قال : حي على خير العمل. وص ٤٦٤ رقم ١٧٩٧ بلفظ : عن نافع عن ابن عمر أنه كان يقيم الصلاة في السفر ، يقولها مرتين أو ثلاثا يقول : حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على خير العمل.

(٣) ينظر الأذان بحي على خير العمل فقد رواه من عدة طرق ، وأخرج ذلك ابن أبي شيبة في المصنف ١ / ١٩٥.

فلما لم يبينه لرسوله عليه‌السلام ، ولا أمره بتركه وإزالة حكمه دلّ ذلك على أنّ تركها ليس من جملة الدين. ولمّا أمر بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دل على أنها مشروعة من الله تعالى ، ومأمور بالأذان بها لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) [النجم : ٣ ـ ٤].

وقال تعالى فيما أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠]. والعجب من جهال من ينتسبون إلى مذهب الشافعي رحمه‌الله ، ينكرون على من يؤذن بحي على خير العمل ، ويرون من تلفّظ (١) بها في الأذان قد أتى أمرا كبيرا ، وربما يرون أنه قد خرج من الدين ، وذلك من كثرة جهلهم وقلّة تمييزهم (٢) ؛ لأنا قد بينا أن ذلك مروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعن علي عليه‌السلام ، وهو مذهب أسباط الأئمة (ع). فكيف ينكر على فاعله لو لا الجهل وضلال العقل ، وسفه الرأي ، وقلة العلم؟ فإنه متى كان حي على خير العمل مأخوذا من (٣) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبه كان يؤذّن مؤذّنوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على عهده حتى مات ، ثم أجمع أهل البيت (ع) على التأذين به ، لم يسغ خلاف ذلك. فإن ساغ لهم خلافه ، وقالوا : بأن المسألة اجتهاديّة ـ لم يسغ لهم الإنكار في

__________________

(١) في (ب) : يلفظ.

(٢) لعل هذا كان في أيّام المؤلّف ، أما في أيّامنا فلا يظهر منهم إلا كل خير ، والحرب على حيّ على خير العمل ، إنما جاء من أتباع محمد بن عبد الوهاب أصحاب نجد ، وقد رصدوا لهذا الغرض ونحوه من محو المذهب الزيدي أموالا طائلة ، وساعدهم الجهلة والمحتاجون من اليمنيين ؛ لأن الفقر كاد أن يكون كفرا وقد عمت بلواهم ، وانتشرت فتنتهم كفانا الله الفتن والأهواء.

(٣) في (ب) : عن.

مسائل الاجتهاد ، مع قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مجتهد مصيب». والأمر في ذلك أظهر من أن يخفى ، إلا أنا أتينا بهذه الجملة لتنبّه الغافلين وتذكّر المؤمنين وتهدي (١) الجاهلين.

والتثويب في أذان الفجر ليس من جملة الأذان (٢)

وهو قول المؤذن : «الصّلاة خير من النّوم». وإنما أحدثه عمر ، وأمر به في أذان الصبح (٣) ، وهو عندنا بدعة لما روى مجاهد رحمه‌الله قال دخلت مع عبد الله بن عمر إلى مسجد فثوّب المؤذن فقال ابن عمر : أخرجنا من هذه البدعة (٤).

والأذان فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر ، وكذلك الإقامة. وذكر بعض أئمتنا (ع) : أنه إذا أذّن في بعض المساجد في بلد

__________________

(١) في (ب) : لننبّه ... ونذكر ... ونهدي.

(٢) وقد قال الإمام الشافعي في الأم ٢ / ٦٩ رقم ١١١٥ : ولا أحب التثويب في الصبح ولا غيره ؛ لأن أبا محذورة لم يحك عن النبي أنه أمر بالتثويب ، فأكره الزيادة في الأذان وأكره التثويب بعده.

(٣) ينظر الأحكام ١ / ٨٤. وشرح التجريد ١ / ١٠٥. وأصول الأحكام ـ خ ـ والمصنف ١ / ١٨٩ عن إسماعيل قال : جاء المؤذن عمر بصلاة الصبح ، فقال : «الصلاة خير من النوم» ـ فأعجب بها عمر ، فقال للمؤذن : اقرأها في أذانك. ومالك في الموطأ ١ / ٦٩. وقال : بلغني أن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح ، فوجده نائما ، فقال : الصلاة خير من النوم ، فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح. قال الإمام القاسم بن محمد في الاعتصام ١ / ٢٨٣ بعد ذكر رواية مالك : وكفى بهذا جرحا لمن رفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأن إنكارهم متضمن لتكذيب ما رفعه.

(٤) أخرجه الترمذي ١ / ٣٨١ ، وأبو داود ١ / ٣٦٧. والمؤلف في الشفاء ١ / ٢٦٢.

أو قرية سقط فرض الأذان عن الباقين في سائر المساجد ، والمذكور هو السيد أبو طالب عليه‌السلام (١).

وذكر المنصور بالله عليه‌السلام أن الأذان يتقدّر سقوطه إذا وقع فيما دون الميل ، فمن كان في الميل سقط عنه فرض الأذان إذا أذّن فيه المؤذن ، ويكفي في سقوط فرضه العلم بأن الأذان قد وقع ؛ لأنّ سماعه لا يجب ، قال القاسم عليه‌السلام ومن صلى بغير أذان ولا إقامة صحّت صلاته (٢).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال لأبي ذر : «يا أبا ذر ، إذا كان الرجل في أرض

__________________

(١) ذكره في التحرير ١ / ٨٢ وهو الإمام الناطق بالحق يحيى بن الحسين الهاروني شمس العترة وقمر الأسرة «السادة الهارونيين» ، مولده سنة ٣٤٠ ه‍ ، كان عالما فاضلا ورعا ومن أئمة أهل البيت المشاهير ، قال الإمام عبد الله بن حمزة : لم يبق فن إلا طار في أرجائه ، وسبح في أفنائه ، وقال في الحدائق : كان عليه‌السلام في الورع والزهادة والفضل والعبادة على أبلغ الوجوه وأسناها ، وقال ابن حجر في لسان الميزان : كان إماما على مذهب زيد بن علي عليه‌السلام وكان فاضلا غزير العلم مكثارا ، عارفا بالأدب وطريقة الحديث ، ، وقال ابن طاهر : كان من أمثل أهل البيت المحمودين في صناعة الحديث ، بويع له سنة ٤١١ ه‍ ، وله في أصول الدين شرح البالغ المدرك مطبوع بمركز بدر ، وتيسير المطالب ، والمبادي ، وزيادات شرح الأصول ،. وله كتاب الدعامة في الإمامة طبع بعنوان «نصرة مذاهب الزيدية» ، ومنسوب إلى الصاحب بن عباد. وله في أصول الفقه جوامع الأدلة. وله المجزي في أصول الفقه مجلدان. وله في فقه الهادي عليه‌السلام التحرير ـ مطبوع بمركز بدر ـ وشرحه مجلدات عدة تبلغ ستة عشر مجلدا. ت : ٤٢٤ ه‍ ، بالديلم أنظر الحدائق الوردية ـ خ ـ ، لسان الميزان ٦ / ٢٤٨ ، والأعلام للزركلي ٨ / ١٤١ ، ومعجم المؤلفين لعمر كحالة ٤ / ٩٢.

(٢) لفظ الأزهار : ويكفي السامع ومن في البلد أذان في الوقت من مكلف ذكر معرب عدل طاهر من الجنابة. والظاهر أن سماع الأذان في غير المدينة يكفي ولو خارج الميل ، ولو بواسطة مكبر الصوت. أما في المدينة أو القرية فيكفي أذان واحد ولو لم يسمع الأذان. أما الإقامة فلا تكفي إلا إذا أقيمت في مسجد لمن صلّى فيه تلك الصلاة. ينظر شرح الأزهار ١ / ٢١٨ ، ٢١٩.

فتوضأ أو تيمّم ، ثم أذّن ثم أقام ثم صلّى ـ أمر الله الملائكة فصفّوا خلفه صفّا لا يرى طرفاه فيركعون بركوعه ، ويسجدون بسجوده ويؤمّنون على دعائه ، ومن قام ولم يؤذّن لم يصلّ معه أحد إلا ملكاه اللذان معه» ؛ وإذ قد ذكرنا هذه الجملة في الأذان والإقامة فلنعد إلى الكلام فيما طلبه السائل من فروض الصلوات الخمس وسننها وهيئاتها ، والتمييز بين هذه الأمور فنقول وبالله التوفيق :

باب : فروض الصلاة وسننها الداخلة فيها وهيئاتها

فصل : في الاستعاذة وما يحسن ذكره معها

فإذا فرغت أيها المسترشد من الإقامة فاستقبل القبلة ثم قل : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، قل ذلك وأنت مستقبل القبلة قائما مزاوجا لقدميك بحيث لا تضمّهما ، وأرسل يديك إرسالا ، واضرب ببصرك إلى موضع قدميك ، وإنما أمرت بالاستعاذة من الشيطان لعظم اعتراضه للآدمي عند الصلاة.

ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ركعتان خفيفتان في ذكر خير من قيام ليلة والقلب ساه. وإن القوم يكونون في صلاة بينهم من الفضل كما بين السماء والأرض ؛ لأن الخاشع يقبل ؛ فإذا دخل الرجل في الصلاة أتاه الشيطان يذكّره حوائجه (١) فيقول (٢) له الملك : أقبل على صلاتك ويناديه في أذنه اليمنى ،

__________________

(١) روي أن رجلا أتى أبا حنيفة رحمه‌الله فقال : يا إمام إني دفنت مالا ونسيت المكان الذي دفنته فيه. فقال أبو حنيفة : هذه ليست مسألة فقهية ، ولكن توضأ وصلّ فلعلك تذكر ضالتك ، فما صلّى إلا قليلا حتى جاء وقال : قد تذكرت ، قال أبو حنيفة : قد علمت أن الشيطان لن يدعك تصلي فهلّا أكملت ليلتك شكرا لله.

(٢) في (ب) : ويقول.

والشيطان يناديه في أذنه اليسرى وقلبه ينازع الأمرين فإن أطاع الملك ضرب الملك الشيطان بجناحه ، وإن أطاع الشيطان قال له الملك : أما إنك لو أطعتني لم تقم من صلاتك إلا وقد غفر لك» (١). صدق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولكن أيها المسترشد لن تكفى شرّه إلا متى صدق تعوّذك باعترافك بجلال الله وعظمته وأنه لا يتعاظمه عظيم ، واعتصامك بحوله وقوته لا بحول نفسك وقوتها ، وعليك بالخشوع في جميع صلاتك ، والخضوع لله تعالى والتفكر بقلبك في معاني حروف ألفاظ (٢) الصلاة ؛ فإن التفكر في الصلاة من جملة الواجبات فيها على ما ذكره السيد أبو طالب عليه‌السلام. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ينظر الله إلى صلاة عبد لا يحضرها قلبه مع بدنه» (٣). وفي (الوافي) عن القاسم عليه‌السلام أنه يجب على المصلي الإقبال بجهده عليها ـ يعني الصلاة ـ وتفريغ فكره لها حتى يتمها كلها خاشعا في جميعها». تم كلامه.

ووجه ذلك قول الله تعالى في صفة المؤمنين : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) [المؤمنون : ٢] ، ويمكن أن يقال : إن ترك الخشوع فيها لا يفسدها لما (٤) روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة ، فقال : أما هذا فلو (٥) خشع قلبه لخشعت جوارحه» (٦) ، ثم قال (٧) : «لا يقطع الصلاة

__________________

(١) الحاكم في السفينة ٣ / ٦٩.

(٢) «ألفاظ» ملحقة في «أ» ، ومشطوبة من (ب).

(٣) الحاكم ٣ / ٦٩.

(٤) في (ب) : كما.

(٥) في (ب) : لو خشع.

(٦) المجموع ص ١١٨. والأحكام ١ / ١٠٦. وكنز العمال ٨ / ١٩٧ برقم ٢٢٥٣٠.

(٧) في (ب) : وقال.

شيء ، وادرءوا ما استطعتم» (١) ، يعني به من جنس ما تقدم ذكره ، فاستعمل ذلك في جميع صلاتك أوّلها وآخرها.

فصل : في التوجه

ثم تقول بعد الاستعاذة : وجّهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ، الحمد لله الذي لم يتّخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذّلّ». هذا كله سنة وليس بواجب ، وإن اقتصرت ـ على الاستفتاح الصغير وهو من قولك : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا إلى آخره ، فلا بأس في ذلك. نص عليه القاسم عليه‌السلام (٢).

فصل : في نيّة الصّلاة

لا خلاف بين العلماء في وجوب نية الصلاة ، وتجوز نية الصلاة عند القيام إلى الصلاة عند القاسم عليه‌السلام. وفي الوافي حكاية عن السيد أبي العباس عن القاسم عليه‌السلام ما لفظه : ويجب (٣) أن ينويها قبل أن يقوم إليها (٤) تم كلامه. ويجوز عند القاسم وعند (٥) الهادي إلى الحق (ع) تقديمها قبل التوجه ، وفي حال التوجه ، وقبل تكبيرة الإحرام ، وفي أولها ، ويجوز أن تخالط

__________________

(١) المجموع ص ١٢٠. وأبو داود ١ / ٤٦٠.

(٢) ذكره الإمام الهادي في الأحكام ١ / ٩١ ، التحرير ١ / ٨٥.

(٣) في (ب) : يجب.

(٤) ذكر الرواية عن القاسم في التجريد ١ / ١٤٧. والوافي ص ١٨ مخطوطة مكتبة الجامع الكبير.

(٥) في (ب) بحذف عند.

التكبيرة من أولها إلى آخرها عندهما جميعا (ع) (١).

واعلم أيها المسترشد أنه يجزيك في النية أن تنوي الصلاة بقلبك ، وتميزها بما تتميز (٢) به عن غيرها ، ولن ينفعك إلا ما كان بقلبك دون لسانك. ومما يقع به التمييز أن تنوي عين الفرض ظهرا كان أو عصرا أو غيرهما ، فإن كنت إماما لجماعة نويت الإمامة لهم ، وإن كنت مؤتما نويت الائتمام بالإمام المتقدم لإمامة الصلاة ، وإن كنت تقضي نويت القضاء ونويت من أول ما فاتك أو من آخره ، ومن آخره أولى ، وذلك لأجل التعيين والترتيب ، ويكره التلفظ بالنية لكراهة الكلام بين الإقامة والصلاة (٣) ، وإن صليت صلاة من صلوات الأسباب قيّدتها بسببها (٤) ؛ ليقع التمييز به كصلاة الجنازة ، والعيدين ، والاستسقاء ، والخسوف ، والكسوف ، ونحو ذلك ؛ لأنه لا بد من تعيين الصلاة ، ولا يقع التعيين إلا بذلك ، فهذا من فروض النيّة.

ومن جملة ما يستحق به الثواب أن تخطر ببالك أن تصلي الصلاة لوجوبها ، ولوجه وجوبها إن كانت واجبة ، وإن كانت سنة ، فلكونها سنة ونحو ذلك من كونها عبادة لله وإرغاما للشيطان ونحو ذلك ، وليس ذلك بواجب بل هو فضيلة وهيئة.

__________________

(١) التجريد ١ / ١٤٧. والمنتخب ٣٦. والتحرير ١ / ٨٥.

(٢) في (ب) : تميّز.

(٣) أفتى ابن تيمية بقتل من جهر بالنية ، وذلك عند ما سئل عن رجل ، قيل له : لا يجوز الجهر بالنية ، فقال : صحيح ما فعله النبي ، ولا آمر به ، ولكن ما نهى عنه ، ولا تبطل صلاة من جهر بها ، ثم قال : إن لنا بدعة حسنة وبدعة سيئة ، واحتج بصلاة التراويح فإنها بدعة حسنة ، فأجاب ابن تيمية : يستتاب قائل هذا ، فإن تاب وإلا عوقب بما يستحقه!! ، أقول : إن الاستتابة والقتل لا تكون إلا للمرتد عن دينة ليس للذي يقول بالجهر بالنية فعديد من المسلمين يجهر بها فهل يستتابوا ثم يقتلوا كما قال ابن تيمية ، نعوذ بالله من التعصب والذميم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. مجموع فتاويه مج ٢٢ / ٢ / ٢٣٣.

(٤) قال في الأزهار : ويضاف ذو السبب إليه.

فصل : في تكبيرة الإحرام

ثم قل : الله أكبر ـ بضم الراء أو بسكونها والوقف عليها ـ وهذه التكبيرة عندنا من الصلاة وهي فرض واجب (١) ، والجهر بها سنّة على المنفرد والمأموم ، والجهر بها واجب على الإمام ، وحدّ الواجب من الجهر بها على الإمام مقدار ما يسمعه المؤتمون فيكبرون التكبيرة.

فصل : في القراءة

ولا خلاف بين أئمتنا (ع) ، وإن اختلفوا في مقدار الواجب منها ، فقال القاسم عليه‌السلام : وليس للقراءة عندي حدّ محدود من سورة أو غيرها ، وما قرأ المصلي في صلاته من قليل أو كثير فقد أغنى. يعني مع الفاتحة. وقال الهادي إلى الحق عليه‌السلام : أقلّ ذلك ثلاث آيات مع الفاتحة أو سورة (٢) ، وقال الناصر للحق عليه‌السلام : يجب قراءة الفاتحة في الأربع الركعات (٣) ، وإذا ثبت ذلك فعند القاسم والهادي جميعا (ع) أنه تجب القراءة لهذا القدر المذكور على الخلاف بينهما مرة واحدة في الصلاة ، في ركعة لا بعينها. والسّنّة أن يجعل ذلك في الركعة الأولى ، وأن يقرأ مرة ثانية في الركعة الثانية. والجهر واجب في القدر الواجب من القراءة في صلاة المغرب والعشاء الآخرة والفجر (٤). والمخافتة واجبة في القدر الواجب من القراءة في صلاة الظهر والعصر. ومن نسي القراءة في صلاته ثم تذكّر قبل التسليم فعليه أن يأتي بركعة كاملة يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وسورة ، ذكره السيد أبو طالب في فتاويه تخريجا على المذهب ، فإن

__________________

(١) خلافا للمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، وقول للشافعي. ذكره الجلال في ضوء النهار ١ / ٤٨٢.

(٢) التحرير ١ / ٨٥. والأحكام ١ / ٩٢.

(٣) الناصريات ٢١٨.

(٤) في هامش (ب) : والجمعة.

نسي الجهر في القراءة فيما يجهر به أو المخافتة فيما يخافت فيه (١) ـ فعليه أن يأتي بركعة كاملة يجهر فيها بالقراءة ـ إن كانت الصلاة مما يجهر فيها بالقراءة ، أو يخافت فيها إن كانت مما يخافت فيها ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام تخريجا على مذهب من يقول بوجوب ذلك. واجتهد أيها المسترشد أن لا تخلّ بشيء من التشديد في سورة الفاتحة ، وأن لا تدع شيئا من آي الفاتحة.

وبيان ذلك : إنّ بسم الله الرّحمن الرّحيم آية من الفاتحة عندنا ، وهي الآية السابعة ، روينا ذلك عن ابن عباس رحمه‌الله (٢). والجهر ببسم الله الرحمن

__________________

(١) في (ب) و (ج) : به.

(٢) ينظر أمالي أحمد بن عيسى ١ / ١١٤ ، وقد ذكر أنه إجماع أهل البيت (ع) ، وذكر روايات كثيرة حول ذلك. والكشاف ١ / ١. والأحكام ١ / ١٠٥. وتفسير الرازي مج ١ ج ١ ص ٢٠٢. وروى في ص ٢٠٤ : أن معاوية قدم المدينة فصلى بالناس صلاة يجهر فيها فقرأ أم الكتاب ، ولم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، فلما قضى صلاته ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين استفتحت القرآن؟ فأعاد معاوية الصلاة ، وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، وقال : وهذا الخبر يدل على إجماع الصحابة رضي الله عنهم على أنها من القرآن ، ومن الفاتحة وعلى الأولى الجهر بقراءتها. وروى في ١ / ٢١٢ عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وكان يقول : من ترك قراءتها فقد نقص ، وقال الشيخ أبو حامد الأسفرايني : روي عن أنس في هذا الباب ست روايات [أي في بسم الله الرحمن الرحيم]. أما الحنيفة فقد رووا عنه ثلاث روايات : أحدها قوله : صليت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلف أبي بكر وعمر وعثمان ، فكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين ، وثانيتها : أنهم ما كانوا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم ، وثالثها : قوله : لم أسمع أحد منهم قال : بسم الله الرحمن الرحيم ؛ فهذه الروايات الثلاث تقوي قول الحنفية ، وثلاث أخر تناقض قولهم ؛ أحدها : ما ذكرنا أن أنسا روى أن معاوية لما ترك بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أنكر عليه المهاجرون والأنصار ، وهذا يدل على أن الجهر بهذه الكلمات كالأمر المتواتر فيما بينهم. ثانيتها : روى أبو قلابة عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم. وثالثتها : أنه سئل عن الجهر ببسم الله

الرحيم واجب في مواضع الجهر ، والمخافتة بها واجبة في موضع المخافتة. والتشديد في الفاتحة في أربعة عشر موضعا ؛ فلا تخلّ بواحدة منها ، وافرق بين الضاد والظاء فيما تتلوه من كتاب الله تعالى ، فإن المغضوب والضالين ، بالضاد ، فإن قرأتهما أو أحدهما بالظاء بطلت صلاتك ، وكذلك في سائر آي القرآن ، إن قرأت ما هو بالظاء بالضاد ، أو قرأت (١) ما هو بالضاد بالظاء بطلت صلاتك ، إلا في لفظة واحدة في كتاب الله تعالى وهي قوله تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢) [التكوير : ٢٤] فإنه يجوز قراءتها بالضاد والظاء جميعا.

__________________

الرحمن الرحيم والإسرار به ، فقال : لا أدري هذه المسألة ؛ فثبت أن الرواية عن أنس في هذه المسألة قد عظم فيها الخطب والاضطراب ، فبقيت متعارضة فوجب الرجوع إلى سائر الدلائل. وأيضا ففيها تهمة أخرى وهي : أن عليا عليه‌السلام كان يبالغ في الجهر بالتسمية فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعيا في إبطال آثار علي عليه‌السلام ؛ فلعل أنسا خاف منهم ، فلهذا السبب اضطربت أقواله فيه. ونحن وإن شككنا في شيء فإننا لا نشك أنه مهما وقع التعارض بين قول أنس وابن المغفل وبين قول علي بن أبي طالب الذي بقي عليه طول عمره ، فإن الأخذ بقول علي أولى ، فهذا جواب قاطع في هذه المسألة .. إلى آخر كلامه. ينظر تفسير الرازي ١ / ٢١١. ومن أراد المزيد في ذلك فليرجع إلى المصابيح للشرفي ١ / ١٤٦. وتفسير الرازي فقد أوسعا في ذلك.

(١) في بقية النسخ : قريت.

(٢) لأنك إذا قرأت بالظاء فهي على قراءة ابن كثير وأبي عمر والكسائي. وإن قرأت بالضاد فهي على قراءة غيرهم. قال الزمخشري في كشافه ٤ / ٧١٣ (بِضَنِينٍ) : بمتهم من الظنة وهي التهمة ، وقرئ بضنين من الضن وهو البخل أي : لا يبخل بالوحي فيزوي بعضه غير مبلغه ؛ أو يسأل تعليمه فلا يعلمه وهو في مصحف عبد الله بن مسعود بالظاء وفي مصحف أبيّ بالضاد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ بهما ، وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب ، ومعرفة مخرجيهما ممّا لا بد منه للقارئ ؛ فإن أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين ، وإن فرقوا ففرقا غير صواب وبينهما بون بعيد ، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره. وهي أحد الحروف الشجرية أخت الجيم والشين. وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا ، وهي من الحروف المذلقة أخت الذال والثاء.

وإن كنت أيها المسترشد أمّيّا لا تحسن القراءة وجب عليك تعلّم الفاتحة وثلاث آيات. فإن أتى عليك آخر الوقت ولم تحفظ هذا القدر فإنك تقف في إحدى الركعات قائما ساكتا (١) ، مقدار ما يمكنك أن تقرأ فيه ثلاث آيات لو كنت ممن يعرف القراءة.

فصل : في الركوع

ثم لا تصل القراءة بتكبيرة الركوع (٢) ، إن كنت ممن يقرأ ؛ بل افصل بينهما بمقدار النّفس ، فإن ذلك من الهيئات ، ثم كبر للركوع فابتدأ بالتكبيرة قائما وطوّلها حتى تتمّها راكعا ؛ لأن تشغل بالذكر جميع الركن ؛ فإن ذلك هيئة حسنة ، ومن الهيئات في الركوع أن تضع راحتيك على ركبتيك ، وأن تمد ظهرك وعنقك ورأسك مستويا (٣) كالصّفحة ، وأن تجافي مرفقيك عن جنبيك ، فالركوع في نفسه واجب ، والطمأنينة فيه واجبة ، ثم قل : سبحان الله العظيم وبحمده ثلاث مرات ، وإن زدت إلى خمس فلا بأس ، ذكره الهادي إلى الحق عليه‌السلام في المنتخب [ص ٤٠]. والخمس في النوافل أفضل ، وهذا كله سنة ، أعني التسبيح وعدده. عند القاسم والهادي (ع). قال زيد بن علي (ع) : إن شئت قلت ذلك سبعا أو تسعا أو ثلاثا (٤) ، ذكره عنه في الوافي [ص ١٦] ، وروى محمد بن القاسم عن أبيه القاسم (ع) في كتاب الفرائض والسنن : أنّ من أكثر في التسبيح فله إكثاره ، ومن أقلّ أجزأه إقلاله.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : ساكنا.

(٢) في (ب) : ثم لا يصل القراءة بالركوع.

(٣) في (ب) : متساويا.

(٤) المجموع ص ١٠٦ قال : إن شئت قلت ذلك تسعا ، وإن شئت خمسا ، وإن شئت ثلاثا.

فصل : في القيام من الركوع

ثمّ ارفع رأسك من الركوع ، وقل : سمع الله لمن حمده ، إن كنت إماما أو منفردا ، وإن كنت مؤتما قلت : ربّنا لك الحمد ، مجيبا للإمام في قوله سمع الله لمن حمده ، وهذا اللفظ سنة ، وفعله بعد قول الإمام هيئة. ومن الهيئات أيضا أن تبتدئ بذلك وأنت راكع ، وتتمّها وأنت قائم لتكون قد شغلت جميع الرّكن بالذّكر ، ثم تبتدئ بالتكبير للسجود وأنت قائم وتتمّه وأنت ساجد ؛ لتكون قد شغلت جميع الرّكن بالذّكر. فالتكبير سنة وما عداه ، من الهيئات.

فصل : في السّجود

فإذا سجدت فلا تبرك كما يبرك البعير ، بل ضع يديك قبل ركبتيك على الأرض ، واسجد بباطن كفّيك دون ظاهرهما وحروفهما ، كذلك كان يسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد قال : «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ثم ضع ركبتيك ، ثم جبهتك وأنفك ، وخوّ في سجودك ، ومدّ ظهرك وسوّ آرابك ، وضع يديك حذا خدّيك ، وبالقرب من أذنيك ، وانصب قدميك ، ثم ليكن سجودك على أطراف أصابعهما ، ولا تسجد بظاهرهما ولا بحروفهما ؛ فإن ذلك يفسد صلاتك ، وفرّج إبطيك ، وأبن عضديك ومرفقيك عن جنبيك ، واطمئن ساجدا ، ولا تنقر نقر الديك ، واضرب ببصرك إلى أنفك ، وسبّح ثلاثا ، وإن شئت خمسا ، فقد ذكره في المنتخب [ص ٤٠] ، فقل : سبحان الله الأعلى وبحمده.

وذكر الهادي عليه‌السلام في المنتخب [ص ٤٠] : أن وضع الأنف في السجود ليس بفرض. فالسّجود واجب والطّمأنينة فيه واجبة ، والسّجود على أطراف الرّجلين (١) وعلى الجبهة وباطن الكفين واجب.

__________________

(١) في (ب) : أصابع الرجلين.

وظاهر كلام القاسم عليه‌السلام (١) أنه لا يجب كشف الجبهة والكفين في حال السجود ، وذلك لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ، ولا أكفّ ثوبا ، ولا شعرا» (٢). وإن سجد المصلي بظاهر كفيه أو بحروفهما لم يجزه ، وكذلك في القدمين. والتسبيح سنّة ، وما عدا ذلك من الهيئات (٣).

فصل : في القعود بين السجدتين

فإذا فرغت من التسبيح فارفع رأسك ، وأنت تقول : الله أكبر ، تبتدي بها ساجدا وتتمّها قاعدا ؛ لأن تشغل جميع الرّكن بالذّكر ، واجلس على رجلك اليسرى بعد وضع ظاهر قدمها على الأرض ، وانصب رجلك اليمنى على أطراف الأصابع بحيث تكون الأرض مماسة لباطن الأصابع (٤) اليمنى. هذا كلّه واجب مع الطمأنينة في القعود ، على ظاهر فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وذكر الشيخ علي خليل (٥) رحمه‌الله أنّ ذلك هيئة غير واجب على مذهب الهادي والمؤيد بالله (ع) إلا التكبير فهو سنة ، وتطويله هيئة. ومن الهيئة أيضا في القعود أن تضع يديك على فخذيك ، وأصابعهما على أسافل الفخذين مما يلي الركبتين وأن تبسطهما وتفرّقهما ، وأن تضرب ببصرك في قعودك إلى حجرك

__________________

(١) في (ب) بعد القاسم بزيادة : والهادي ، بخط جديد.

(٢) التجريد ١ / ١٥٨ ، ١٥٩.

(٣) ينظر في شرح التجريد ١ / ١٥٨ ـ ١٥٩. وكأن كلام الأمير مأخوذ منه.

(٤) في (ب) : أصابع.

(٥) هو علي بن محمد الخليلي الزيدي ، الجيلي ، من أتباع المؤيد بالله في أوائل المائة الخامسة ، وهو يروي كتب الزيدية وشيعتهم بالسند المعروف عن القاضي يوسف الجيلي. له المجموع المسمى بمجموع علي خليل ، والجمع بين الإفادة والإفادات. ينظر لوامع الأنوار ١ / ٢٩٦. وتراجم الرجال ص ١٥.

فصل : في السجدة الثانية

ثم ابتدئ بالتكبيرة قاعدا ، ثم أتمها ساجدا وافعل في سجودك الثاني ، وفي سائر السجدات المستقبلة مثلما فعلت في سجودك الأول ، فالحكم في الجميع واحد ، فإذا فرغت من ذلك كبّرت للقيام وطوّلت التكبيرة لتتمّها وأنت قائم ، وإذا انتصبت فانتصب على يديك في موضعهما الذي هما فيه ولا تسحبهما ، فإن سحبتهما أو رفعت إحداهما قبل الأخرى أو رفعت كلاهما خالفت في الهيئة ، فإنّ جميع ذلك هيئة ، إلا التكبير فهو سنّة ، ثم افعل في الركعة الثانية كما فعلت في الركعة الأولى. فإن كنت في صلاة الفجر قنّت بعد رفعك رأسك (١) من الركوع في الركعة الثانية ، وبعد قولك : سمع الله لمن حمده. ولا تقنت إلّا بشيء من آيات القرآن التي فيها الدعاء (٢).

[التشهد الأوسط]

فإذا جلست بعد السجدة الثانية من الركعة الثانية ، قلت : بسم الله وبالله ، والحمد لله ، والأسماء الحسنى كلّها لله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله (٣). وإن شئت قلت : التحيات (٤) والصلوات والطيبات ، أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله (٥). فإن كنت في صلاة الفجر أتممت التّشهّد وسلّمت.

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : رفع رأسك.

(٢) عملا بالأحوط فانظر استدلال الهادي للقنوت بالقرآن في الأحكام ١ / ١٠٨.

(٣) الأحكام ١ / ١٠٢. والمجموع ص ١٠٨. والتحرير ١ / ٨٧. ورأب الصدع ١ / ٢٦٧.

(٤) في (ب) : التحيات لله. وهو الأظهر.

(٥) التجريد ١ / ١٦١.

وسنذكره بلفظه فيما بعد إن شاء الله تعالى : وكذلك إن كنت في صلاة الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة (١) وأنت قاصر أتممت وسلّمت ، وإن كنت في صلاة الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة وأنت غير قاصر بل متمّ ، وكذلك إن كنت في صلاة المغرب قمت عند بلوغك هذا الحدّ من التشهد. وهذا التشهد سنّة ، وكذلك القعود فيه غير واجب بل سنّة.

[القيام إلى الركعة الثالثة]

فإذا انتهضت للقيام ابتدأت بالتكبيرة وأنت قاعد وطوّلتها حتى تنتصب قائما وأتممت التكبيرة وأنت قائم كما تقدم ، فهو من الهيئات ، ثم قلت : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر. تقول ذلك ثلاث مرات.

قد رواه في كتاب الفرائض والسنن محمد بن القاسم بن إبراهيم (ع) قال : وهو قول كثير من علماء آل محمد. وتخافت في جميع التسبيح في الصلاة وفي جميع التوجه ، وفي التشهد الأول ، والتشهد الآخر (٢) ، فإن ذلك من السنة. وإن قرأت الفاتحة وحدها في الركعتين الآخرتين من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة أو الثالثة من المغرب (٣) أجزأك إلا أن التسبيح أفضل عند القاسم والهادي (ع) وأسباطهما السادة ، ورووه جميعا عن أمير المؤمنين علي (ع) (٤).

وذكر محمد بن القاسم (ع) في كتاب الفرائض والسنن ما لفظه : قال أبي

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : والعصر والعشاء.

(٢) في (ب) : الأخير.

(٣) في (ب) كلها بغير أو. بل بالواو.

(٤) الأحكام ١ / ٩٤. والمجموع ص ١٠٤. والتجريد ١ / ١٦٠. والتحرير ١ / ٨٧. والمنتخب ص ٤٥.

رحمه‌الله : فمن أكثر من التسبيح فله إكثاره ، ومن أقل أجزأه إقلاله ، قال : وكان يسبّح كثيرا ، ويقول : التسبيح أيضا حسن جميل ، وليس لقائل أن يقول (١) : الفاتحة في هذا الموضع أولى ؛ لأن كلام الله أفضل من كلام غيره ؛ لأنا نقول : لا شكّ أنّ كلامه (٢) تعالى أفضل الكلام ، إلا أنه ينبغي اتباع السنة (٣).

ولا خلاف أنه لو قرأ في الركوع والسجود الفاتحة بدلا من التسبيح ، لكان مخالفا مبتدعا ، ولا خلاف أن التسبيح فيهما أفضل من قراءة القرآن فيهما مع كون ذلك من كلام الله تعالى ، فكذلك في التسبيح في الركعتين الأخيرتين ؛ لأن ذلك مأخوذ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الإمام الناصر للحق أحمد بن الهادي (ع) : والذي صحّ لنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يسبّح في الركعتين الأخيرتين بما ذكرناه ، وفي الثالثة من المغرب ، ولأنّ المصلي متى سبّح في هذا الموضع كان قد جمع في صلاته بين قراءة القرآن والتسبيح ، الذي فيه من الفضائل ما لا يحصى. والتسبيح غير واجب في شيء من الصلوات الخمس عند أئمتنا (ع) ، وهو قول جميعهم ، إلا ما ذكره المتوكل على الله عليه‌السلام (٤) ، فإنه ذكر وجوبه. واحتج على ذلك بأنّ الله تعالى أمر بالتسبيح في كتابه نحو قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) [النصر : ٣] ، وقوله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] ، ونحو ذلك.

وظاهر الأمر يقتضي الوجوب ، ولا خلاف أنه لا يجب في غير الصلاة ، فلم

__________________

(١) في (ب) : لقائل يقول إنّ الفاتحة.

(٢) في (ب) : كلام الله.

(٣) قد يقال : والقنوت بغير القرآن من السّنّة ، ولا سيما ما صح منها عند أهل البيت (ع)

(٤) الإمام أحمد بن سليمان عليهما‌السلام.

يبق إلا أن يجب في الصلاة. ويمكن أن يقال بأن إجماع متقدمي أهل البيت (ع) يخصّ عمومات الكتاب ، فيكون ذلك رافعا حكم الوجوب. وتفعل في القيام والسجود والركوع والقيام بعد الركوع والانحطاط من القيام والقعود بين السجدتين. وفي التشهد الأخير مثل ما ذكرناه أوّلا

[التّشهّد الأخير]

فإذا جلست بعد آخر سجدة من صلاتك جلست كما تجلس بين السجدتين في الهيئة ، وقلت ما قلت أولا في التشهد الأوسط ، ثم قلت : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد ، كما صلّيت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد.

وفي الوافي [ص ١٩] : إن ترك التّشهّد والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لم يجزه. وروى ابن مرداس عن القاسم عليه‌السلام : أن التشهد لازم لا يحلّ تركه.

[وجوب الصلاة على النبي في الصلاة]

والذي يدلّ على وجوب الصلاة على النبي في الصلاة : قول الله سبحانه : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] ، فأمر بالصلاة عليه ، والأمر يقتضي الوجوب ، ولا خلاف في أنّ الصلاة عليه لا تجب في غير الصلاة ، فلم يبق إلا أن تجب في الصلاة ، وإلا أدى إلى سقوط فائدة الخطاب ، وذلك لا يجوز ؛ لأنه كلام حكيم لا يعرى عن الفائدة ، فثبت وجوب الصلاة عليه في الصلاة.

[وجوب الصلاة على آله معه في الصلاة]

والذي يدلّ على وجوب الصلاة على آله معه في الصلاة. قوله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء ، ولكن صلّوا عليّ وعلى آلي معي ؛ فإن الله لا يقبل

الصلاة عليّ إلا مع آلي» (١). ولما روي عن ابن مسعود ، قال : قلت يا رسول الله! كيف الصلاة عليك في الصلاة؟ فقال : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ، إلى قوله (٢) : وبارك على محمد وعلى آل محمد» (٣). والاستدلال به من وجهين : أحدهما : أنّه بيّن أن الصلاة على آله من جملة الصلاة عليه ، والصلاة عليه واجبة فكذلك الصلاة على آله. والوجه الثاني : أنه أمر بالصلاة عليه وعلى آله ، والأمر يقتضي الوجوب.

[وجوب التسليم بالألف واللام وكيفيته والنية فيه والتشديد عليها]

فإذا فرغت أيها المسترشد من ذلك سلّمت عن يمينك ، فقلت : السّلام عليكم ورحمة الله ، ثم كذلك تقول عن يسارك ، وتقصد بالسّلام الحافظين ـ إن كنت منفردا ، وإن كنت في جماعة قصدت به الحفظة ومن معك من المسلمين المؤمنين. هذا كله واجب عندنا. وذكر السيد أبو طالب وجوب التسليم بالألف واللام ، وأنه إذا سلّم بغير ألف ولام بطلت صلاته. وذكر المنصور بالله عليه‌السلام أن الجهر بالتّسليم واجب على الإمام ؛ لأنّ السّلام على الملائكة وعلى المؤمنين لا يتم إلا بإسماعهم. والجهر به سنة على المنفرد وكذلك المؤتم.

واعلم أيها المسترشد أن من الهيئات في التسليم أن تنحرف عند التّسليم

__________________

(١) الشافي ٤ / ٩١ ، والدار قطني ١ / ٣٥٥ ، بلفظ : من صلّى صلاة لم يصل فيها عليّ ولا على أهل بيتي لم تقبل منه. وفيه أيضا ١ / ٣٥٦ : عن أبي مسعود الأنصاري لو صليت صلاة لا أصلي فيها على آل محمد ، ما رأيت أن صلاتي تتم.

(٢) في (ب) بحذف إلى قوله.

(٣) أخرجه البخاري ٣ / ١٢٣٣ رقم ٣١٩٠ عن كعب بن عجزة. و ٤ / ١٨٠٢ رقم ٤٥١٩ عنه أيضا. وبرقم ٤٥٢٠ عن أبي سعيد الخدري ، وأيضا برقم ٥٩٩٦ ، ٥٩٩٧ عنهما. وأحمد بن حنبل ٨ / ٣١٧ رقم ٢٢٤١٥ عن أبي مسعود الأنصاري ، وغيرهم كثير. ونكتفي بذلك.

على اليمين حتى يكون خدّك الأيسر مستقبلا للقبلة ، وعند التسليم على اليسار بحيث يكون خدّك الأيمن مستقبلا للقبلة ، فإن نسيت نيّة السّلام على الملكين حال التسليم فعليك إعادة الصلاة في الوقت ، ولا إعادة عليك بعده ، قد ذكر ذلك أبو طالب رحمه‌الله.

وقد روى أبو مضر عن القاضي يوسف أنه قال : كان السيد أبو طالب يقول بوجوب نيّة السّلام على الملكين ثم رجع إلى أنها لا تجب. وروي عن الشيخ علي خليل أنه قال : من ترك نيّة التّسليم على الملكين لم تفسد صلاته ، فعليك بالمحافظة على نيّة السّلام على الملكين لتخرج من موضع الخلاف بين أهل المذهب. ويصلّي المريض على قدر ما يمكنه : إن أمكنه قائما فقائما وإن لم يمكنه صلّى جالسا ويجعل جلوسه في موضع القيام في صلاته تربّعا ، ويفعل في سائرها كما كان يفعل من التورّك وغيره ، وإن لم يقدر على الركوع والسّجود أومأ لهما إيماء ، يكون إيماؤه لسجوده أخفض من إيمائه لركوعه ، ولا يقرّب وجهه من شيء يسجد عليه ولا يقرب إليه شيئا ، من وسادة أو حجر أو غيرهما ، إنما عليه أن يسجد إن أطاق ، أو الإيماء (١) إن لم يطق. ويصلّي الأخرس راكعا وساجدا ويجزيه ما في قلبه. ذكره زيد بن علي ، قال : والأمي يسبح الله ويذكره.

قيل للسيد أبي طالب : إن كان الأخرس يحسن القراءة قبل حصول هذه الآفة هل يلزمه التفكر في القرآن ، وإمرار الفاتحة وسورة أخرى على قلبه أو لا؟ فقال : يحتمل أن يلزمه ذلك. ويكون هو المراد بقوله عليه‌السلام ويجزيه ما في قلبه ، ويحتمل أن يقال : إنه (٢) لا يلزمه. وقيل له : هل ما ذكره زيد بن علي في الأمي

__________________

(١) في (ب) : والإيماء.

(٢) في (ب) : إن هذا.

على الوجوب أو لا؟ فقال : الظاهر أنه على الوجوب. وإذا عجز المريض عن الإيماء للركوع والسجود برأسه سقط عنه وجوب الصلاة ، قد ذكره أبو العباس والسيد أبو طالب وحصّلاه من مذهب القاسم ويحيى (ع). والمومي والقاعد يصلّيان في آخر الوقت ، ويفسق المريض إذا ترك الصلاة وهو يقدر عليها بالإيماء والطهارة ولا خلاف فيه.

فصل :

وقد أوصيتك في استحضار قلبك واستعمال فكرك في الصلاة ، وفي التفهم لمعانيها وحقائق ألفاظها ، فعليك بذلك في كل صلاة تصليها ، فإنا روينا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له منها سدسها ولا عشرها ، وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. فإن وقعت معك الخواطر في صلاتك وأتيت بما ذكرناه من فروضها أسقطت عنك الفرض ولم يلزمك القضاء ، وقلّ لذلك ثوابك ؛ لأنه إذا استولى عليك فيها الوسواس قلّ انتفاعك بها إلا سقوط الفرض ، وفقد لزوم القضاء فاعرف ذلك راشدا.

فصل : في صلاة المرأة

قال القاسم عليه‌السلام : والمرأة في هذا كلّه كالرجل ، غير أنها تضمّم بين فخذيها ، وإذا ركعت انتصبت قليلا ولا تنكّب انكبابا شديدا ، ولا تتفجج إذا سجدت ولا تجافى (١) وتلصق بالأرض ما أمكنها ، ولا ترفع عجيزتها من الأرض. ولم يذكر القاسم والهادي (ع) أنها تتورّك تورّكا مخالفا لتورّك الرّجل ، فظاهر قولهما أنهما على سواء. وقال المنصور بالله عليه‌السلام : والمرأة تعزل قدميها إلى الجانب الأيمن ، وتنعطف من غير أن تقلّ عجيزتها ، وتسجد عند ركبتيها.

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : تتجافا.

وذراعاها (١) حيال فخذيها ، مبسوطتان على الأرض ، وعضداها يلصقان بإبطيها ، قال وإن خالفت في شيء من ذلك لم تفسد صلاتها. وذكر بعض أسباط الهادي عليه‌السلام (٢) : أن المرأة تقول في توجّهها حنيفة مسلمة ، ولم أظفر بذلك لغيره من آبائه (ع). وظاهر قولهم أنها تقول : حنيفا مسلما وهو أولى ؛ لأن يكون لفظها مطابقا للفظ القرآن.

فصل :

وإذا قد فرغنا من الكلام في كيفية الصلاة فقد بينا لك أيها المسترشد ما هو منها فرض واجب ، وما هو سنة ماضية ، وما هو هيئة حسنة ، فكأنها اشتملت على ثلاثة أمور : فرض واجب ، وسنّة ماضية ، وهيئة حسنة ، فاعرف كل شيء منها في موضعه فإن في ذكر ذلك وتمييز بعضه من بعض فائدة عظمى.

وغرضنا إسناد ذلك ، أن السهو اذا اعتراك في صلاتك : فإن كان في زيادة زدتها فيها فعليك سجود السهو بعد التسليم ، ولا نقص في صلاتك ، وإن كان في نقصان نقّصته من صلاتك : فإن نقّصت من مفروض الصلاة وذكرت قبل التسليم ، أعدته على الصّحّة والثّبات ، ووجب عليك سجود السهو بعد التسليم ، وإن ذكرت بعد التسليم بطلت صلاتك ، ولزمتك الإعادة للصلاة كلّها ، وإن نقّصت من مسنون الصلاة وجب عليك سجود السهو بعد التسليم وصحت صلاتك وأجزت ، وإن نقصت من الهيئات فلا نقص عليك في صلاتك فتجبره بالسهو ، فلا يجب عليك سجود السهو لأجل ذلك ، وذكر الشيخ علي خليل ما معناه : إن المصلي إن ترك نفس الفعل المسنون كالجلسة الأولى ، وكوضع اليدين على الأرض في السجود ، ـ إذا

__________________

(١) في (ب) : ذراعيها. والأصوب بالألف ؛ لأنه مبتدأ.

(٢) هو محمد بن المحسن أخو الإمام الداعي يحيى بن المحسن.

قلنا : إن ذلك ليس بواجب فإنه يستدعي سجود السّهو بالإجماع ، وإن كان المتروك صفة الفعل وهيئته وحليته كالقعود على الفخذ اليسرى في التشهد وافتراش القدم اليسرى ونصب اليمنى ووضع اليدين على الركبتين في الركوع ، والابتداء بوضع اليدين عند الإهواء للسجود وما أشبه ذلك ، ـ لم يدخل في ذلك سجود السهو. قال ذكره المؤيد بالله قدس الله روحه في الإفادة.

قال الشيخ علي خليل رحمه‌الله : وهو قول الهادي عليه‌السلام وذكر في عرض الاحتجاج : أنّ تغيير هيئة التشهد الأول والثاني لا يتعلّق به سجود السهو لأنه من الهيئات.

فصل : وسجدتا السهو واجبتان

وفروضهما : نيّة السجود للسهو الواقع في الصلاة ، وتكبير الإحرام لهما ، والسّجدتان في أنفسهما ، والقعود بينهما وبعد (١) الثانية ، والتسليمتان على اليمين واليسار كتسليم الصلاة.

والسّنّة فيهما تكبير النقل ، والتسبيح في السجود ، والتشهد بعد السجدة الأخيرة كما يفعل في التشهد الأخير في الصلاة من التشهد ، والصلاة على محمد وعلى آله كما تقدم ذكره.

وروى لي القاضي جلال الدّين محمد بن عبد الله بن معرّف أيده الله (٢) عن حي والدي وسيدي بدر الدين عماد الإسلام محمد بن أحمد رضى الله عنه : أن

__________________

(١) في (ب) ، (ج) : وبين.

(٢) هو من علماء الزيدية الأعلام ، عاصر الإمام أحمد بن الحسين (أبو طير) ، وامتد عمره إلى زمان الإمام الحسن بن بدر الدين وبايعه في سنة ٦٥٦ ، أخذ عليه المؤلف ، ويعد من المذاكرين ، وقبره بالقرب من الفندق من محافظة صعدة. وله البيان المشهور ببيان ابن معرّف ، ومذاكرة التحرير ، والمنهاج المنير في فوائد التحرير. ينظر طبقات الزيدية ٢ / ١١٤ ، ولوامع الأنوار ٢ / ٥٤. وتراجم الرجال ص ٣٦. والحبشي ص ١٧٩.

المصلي إن رفع يديه في حال سجوده بعد وضعه لهما على الأرض بطلت صلاته ، قال : فإن سحبهما في حال السجود فإنه يقرب بطلان صلاته ، ورواه عن القاضي شمس الدين رضي الله عنه.

فصل :

فإن كنت أيها المسترشد مسافرا وذلك بأن تنوي سفر بريد ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل ثلاثة آلاف ذراع ، بالذراع الهاشمي ، وأحسب أنه المعبّر عنه في زماننا هذا بذراع الحديد (١) ـ فإذا نويت سفر هذا القدر ، وخرجت من ميل بلدك ـ وجب عليك القصر في الصلاة الرباعية ، فتصليها (٢) ركعتين تخفيفا من الله تعالى على عباده. وسواء كان السفر في طاعة الله أو معصية له تعالى ، وسواء كان السفر في برّ أو بحر ، وسواء كان في خوف أو أمن. كذلك قصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر بريد ، وهو آمن غير خائف ، وقصر في خروجه من مكة إلى عرفات وهو بريد. وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«صلّوا كما رأيتموني أصلي» (٣) ، فأمر بذلك ، والأمر يقتضي الوجوب. وإن كنت في سفر ؛ فالجمع رخصة للمسافر بين الصلاتين ، ويجوز لك أن تجمع بينهما في أول وقت الأولى بأذان واحد وإقامتين.

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجمع بينهما في السفر إذا كان نازلا في أول الوقت ، وإذا كان سائرا جمع بينهما في آخر الوقت. ولا يجوز الجمع بين الصلاتين في سفر المعصية ؛ لأن الجمع رخصة بالإجماع فيما أعلمه ، وهذه الرخصة مأخوذة من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمعلوم أنه لم يكن سفره في معصية ،

__________________

(١) الظاهر أنه ٢١ كيلو بمقياس اليوم.

(٢) في (ب) : فتصليهما.

(٣) البخاري ١ / ٢٢٦ رقم ٦٠٥. والبيهقي في سننه ٢ / ٣٣٥. والدار قطني ١ / ٢٧٣.

والإجماع قد خصّ الجمع فلا يقاس عليه القصر ؛ لأنه لا دلالة على أن القصر رخصة.

فصل : في طرف من الكلام في إمامة الصلاة

اعلم أيها المسترشد أيدك الله أنه لا يصح إمامة الكافر ، ولا إمامة الفاسق لمؤمن ولا لفاسق ، ولا إمامة الصبي والمجنون ، ولا إمامة اللاحن ، ولا إمامة ناقص الطهارة أو الصلاة بكاملها ، ولا إمامة الأمّي للقارئ ، ولا إمامة المرأة للرجال ، ولا إمامة الرجل لنساء لا رجل معهن ، ويجوز أن تؤمّ المرأة النساء إذا كانت بالغة عاقلة مؤمنة كاملة الطهارة والصلاة. والذي تجوز إمامته على الإطلاق : هو الحرّ الذكر البالغ العاقل المؤمن الذي هو كامل الطهارة والصلاة بشرطين : أحدهما : أن لا يصلي بنساء لا رجل معهن ، فإن صلّى بهن ونوى أن يؤمّهنّ ونوين الإتمام به بطلت صلاته وصلاتهن. والثاني : أن لا يختلف فرض المؤتم وفرض الإمام ، فإن اختلفا لم تصح صلاة المؤتم.

وأولى الناس بالتقديم العلماء العاملون ؛ وأولاهم الأفقه لمساس الحاجة إلى الفقه في الصلاة إذا كان الأفقه صحيح الاعتقاد وكان ظاهره السّتر ، فإن استووا في جميع ما تقدم فالأقرأ ، فإن استووا فأكبرهم سنّا. والأب أولى بالتقدم من الابن إذا استويا في جميع ما تقدم. فإن تقدم الابن برضاه جاز. والحر أولى بالتقدم من العبد. والشّريف أولى بالتّقدّم متى كان جامعا لهذه الخصال ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عترته : «قدّموهم ولا تقدّموهم» ، وهذا أمر ، والأمر يقتضي الوجوب. قال المنصور بالله عليه‌السلام : وتصح إمامة من لا يرى بوجوب المضمضة والاستنشاق ، أو لا يستنجي من خروج الريح أو النوم ـ بمن يوجب ذلك ، وإن علم بذلك المأموم ، ولا نص للقاسم ولا للهادي إلى الحق (ع) في ذلك فيما

أعلم وفوق كل ذي علم عليم ، إلّا أن هذا القول قويّ من جهة النّظر لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ مجتهد مصيب». فإذا كان مصيبا فالمقتدي به مصيب ؛ ولأنه متى دخل معه في الصلاة كان دخوله فيها مؤتما به كالحكم عليه بالمتابعة ؛ فإن في الحديث : «لا تختلفوا على إمامكم فيخالف الله بين أفئدتكم ، أو قال بين قلوبكم» وهذا نهي يقتضي الحظر ؛ لاقتران الوعيد به ، فدل على وجوب المتابعة على المأموم ، فالظاهر صحة الصلاة (١).

وصفة صلاة الجماعة ظاهرة فلا نحتاج فيها إلى بيان ، إلا في وجه واحد وهو أن عندنا أن المأمومين لا يتقدمون على إمامهم بل يتقدم عليهم.

والاعتبار بذلك التقدّم بالأقدام ، فإن تقدّم بقدميه على أقدامهم وتقدّموا برءوسهم على رأسه صحت صلاتهم ، وكذلك إن استوى قدما المؤتم وقدما الإمام صحت الصلاة. ويجب أن يصلي المؤتمون خلفه ، فإن صلوا أمام إمامهم بطلت صلاتهم سواء كانوا متوجهين بوجوههم إليه أو لا (٢). وأما اللاحق فإذا لحق الإمام وقد فاته بعض الرّكعات جعل ما لحقه فيها أوّل صلاته ويصلّي معه باقي صلاته يقوم بقيامه ويقعد بقعوده ، وإذا سمع الإمام يقرأ قدر الواجب من القراءة في الصلاة المجهور بالقراءة فيها أجزأه ذلك عن فرضه.

وإن لم يسمع القدر الواجب من القراءة وجب عليه أن يقرأ ، فإن لم يمكنه

__________________

(١) قال صاحب الأزهار : إذا اختلف الإمام والمأموم في المذهب فالإمام حاكم ، وهو كلام يشهد بسماحة أئمة المذهب الزيدي شرفه الله.

(٢) أقول : إن صلاة المسلمين دائرة في الحرم المكي متقدمين على الإمام صحيحة إن شاء الله ، ولو بحكم الضرورة ؛ لأن الحجاج أصبحوا بالملايين ولا تسعهم جهة واحدة ، والله أرحم وأكرم من أن يرد عباده خائبين ، ولكن الأولى من باب التحري أن يقف الملتزم باجتهاد المذهب وراء الإمام ، والله أعلم.

لعجلة الإمام قرأ بعد أن يسلم الإمام ، وكذلك حكم المخافتة إن سبقه الإمام ولم يكمل القدر الواجب من القراءة بالمخافتة قرأ فيما يستأنف ، ولا يخالف الإمام في شيء من ذلك ، فإذا سلّم الإمام قام اللاحق فأتمّ لنفسه ما بقي عليه ، ويسجد (١) لسهو الإمام إذا كان إمامه سها في صلاته ، سواء سجد الإمام لسهو نفسه أو لا ، ولكن لا يقوم اللاحق لتمام ما بقي عليه حتى يفرغ الإمام من التسليمتين جميعا.

ولا بأس بالقعود مع الإمام فيما لا يقعد فيه المؤتمّ اللاحق من الصلاة لو كان وحده ، إلّا أنه يتشهّد فيما ينبغي له التشهّد فيه ، ويسكت فيما ليس التشهد بمشروع عليه في ذلك الموضع في صلاته ، نصّ الهادي إلى الحق عليه‌السلام على معنى ذلك (٢).

وإذا حدث على الإمام حدث في صلاته فلذلك (٣) أمور : منها أن ينتقض وضوءه ، فإذا كان كذلك بطلت صلاته وصلاة من خلفه صحيحة ، وله أن يستخلف عليهم إماما آخر من المؤتمين به بأن يجرّه إلى القبلة من الصف ، فإذا جرّه فعليه أن ينوي الإمامة ، وعلى المؤتمين أن ينووا الإتمام به ، وإن لم يقدّم الإمام رجلا جاز لهم أن يقدّموا على الفور رجلا منهم ، وإن أتمّ كلّ واحد من المؤتمين صلاته وحده صحّت صلاتهم. ومنها أن يلحن الإمام في القراءة ، فإذا كان كذلك فصلاته فاسدة ، وكذلك صلاة المؤتمين ، ذكره المؤيد بالله عليه‌السلام.

ومثله ذكره القاضي زيد بن محمد رحمه‌الله ، قال عليّ بن الخليل (٤) :

__________________

(١) في (ج) و (ب) : وليسجد

(٢) قال المهدي صاحب الأزهار : ولا يتشهد الأوسط من فاتته الأولى من أربع.

(٣) في (ج) ، (ب) : فذلك.

(٤) في (ب) و (ج) : خليل. وفي هامش (ب) تنويه بأن الأصل الخليل.

وهذا إذا لم يعزل المؤتم صلاته عن صلاة الإمام [بعد اللّحن ، بل تابعه فإنها تفسد ، وأما إذا عزل المؤتم صلاته] (١) فيجب أن لا تفسد ، كما لو أحدث الإمام فعزل المؤتم صلاته. ومنها أن يحصر الإمام عن القراءة ، فإذا أحصر وكان قد قرأ حدّ الواجب من القراءة أجزت الصلاة ـ وإن تمكنوا من الفتح عليه وجب على المؤتمين أن يفتحوا على الإمام ، بأن يقرءوا الآية التي تركها الإمام ؛ لأنه من المعاونة على البر والتقوى التي فرضها العليّ الأعلى ، وفي الحديث : «إذا استطعمك إمامك فأطعمه» ، وإن لم يتمكّنوا من الفتح عليه صلّوا فرادى ؛ لأن ذلك كالعذر في خروجهم ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام ، وذكر أبو العباس رحمه‌الله : أن الإمام إذا أحصر فقدّم رجلا يصلي بهم جازت الصّلاة. ومنها : أن تنكشف عورة الإمام ، فإنها إذا انكشفت بمقدار تأدية ركن فسدت صلاته وصلاة المؤتمين ، وإن (٢) كان دون ذلك فستر العورة لم تفسد عليه ولا عليهم ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام. ومن انكشفت عورته ولم يتمكن من سترها فليس له أن يستخلف ، ذكره بعض فقهاء العامة. قال السيد أبو طالب عليه‌السلام وهذا لا يبعد. وأقول : إن مذهب الهادي وجده القاسم (ع) أنّ عورة المصلي إذا انكشفت بطلت صلاته ، سواء انكشف منها قليل أو كثير ، وسواء كان قد أدّى من الرّكن قدر الفرض أو لا ، وبه قال المؤيد بالله عليه‌السلام.

ومنها أن يقعد الإمام فإن له أن يستخلف أحد المؤتمين يصلي بهم ـ وصلاة الإمام لنفسه صحيحة ، فلا يلزمه (٣) الاستئناف ؛ لأنه إذا استأنفها أتى بها كلها ، من قعود ، وإن بنى عليها كان بعضها من قيام فكان البناء أولى ، ذكره في

__________________

(١) ما بين المعقوفتين ساقط من (ب).

(٢) في (ب) : فإن كانت.

(٣) في (ب) : يلزم.

تعليق الإفادة. وإن أتمّ المؤتمون صلاتهم منفردين صحت صلاتهم. ومنها أن يغمى على الإمام ، ففي كتاب الوافي : ولو أن رجلا صلّى ركعة ثم غلب على عقله فسدت صلاتهم (١).

واعلم أن الإمام إذا سلم على الركعة الثالثة من الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ، أو على الركعة الأولى من الفجر فإن المؤتم يقوم ويتمّ صلاته ، وتجزيه ، وكذلك إذا سجد الإمام سجدة واحدة ، ولم يسجد السجدة الثانية بل قام فإنّ المؤتمّ لا يتابعه ، بل يسجد السجدة الثانية. قال المنصور بالله عليه‌السلام : وإذا ترك الإمام الجهر ـ وهو والمؤتمّ يريان وجوبه ـ وانتظره لعله يتذكر جاز ، فإن بلغ الرّكعة الرابعة ولم يذكر جهر المأموم ، فإن تيقّظ الإمام فقرأ كان على المأموم الامساك وسمع ، وما لم يركع فله أن يقرأ (٢). قال : وإذا نسي الإمام والمأموم الجهر في الركعات ثم ذكرا كان لهما أن يقوما فيأتيا بركعة يجهر الإمام فيها ، وكذلك حكم المخافتة يقومان فيخافتان في ركعة. قال : وهذا عند من يقول بأنّ ترك الجهر والمخافتة يفسدها. ويجوز الجمع بين الصلاتين في أوّل وقت الأولى منهما مع الإمام ، وهو أفضل من تأخيرها إلى وقت الأخرى ثم يصلّي منفردا (٣) ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام.

وإذا قد فرغنا من الكلام مما طلبه صاحب الكتاب فلنتبع ذلك بفصول

__________________

(١) في (ب) : صلاته.

(٢) سواء الإمام والمأموم ؛ لأنه إذا ركع فقد خرج من ركن القراءة فيلزمه إما إعادة الصلاة ، وإما العود من الركوع للقراءة ، وإما الإتيان بركعة ؛ ليقرأ فيها القدر الواجب جهرا في الجهرية ، وسرّا في السريّة.

(٣) أي إن الصلاة جماعة جمعا في أول الوقت أفضل منها فرادى في وقتها. ولقائل أن يقول : إنها في وقتها أفضل ولو فرادى. لما في ذلك من مشقة وانتظار للوقت ، وتأسّ بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والله أعلم.

خمسة نضمّنها طرفا مما جاء من التحذير عن الظلم ، والزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والمسكر ، واستعمال المغاني ، فإن هذه المعاصي مما كثر استعمال أهل جهته (١) لها ، حتى أفرطوا فيها ، فرجونا أن ينفع الله تعالى بما نذكره في ذلك وبالله التوفيق.

الفصل الأول : في النهي عن الظلم

قال الله تعالى : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [غافر : ٥٢] ، وقال عز من قائل : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً* يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) [الفرقان : ٢٧ ـ ٢٨]. إلى غير ذلك من الآيات ، وقال الله تعالى في الزبور : «يا داود من أتى يوم القيامة وعليه خردلة من ظلم لم يبارح عرصة القيامة حتى آخذ منه حقّ المظلوم ، ومن ظلم أجيرا أجرته أطلت حبسه في عرصة القيامة ، وعزّتي وجلالي لا خليت (٢) مظالم العباد».

وروينا عن نبينا محمد صلوات الله عليه وآله أنه قال : «من ظلم أجيرا أجرته أحبط الله عمله وحرّم عليه ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام ، ألا وإنّ الله عزوجل لا يجاوره ظالم ، وهو بالمرصاد ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى» (٣). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالجبابرة يوم القيامة في الحديد فيقول : سوقوهم إلى النّار».

وعن الباقر عليه‌السلام أنه قال : إذا كان يوم القيامة جعل سرادق من نار وجعل فيه أعوان الظلمة ، وجعل فيه كلاليب من حديد يحكّون بها أبدانهم

__________________

(١) في (ب) : جهتنا.

(٢) في (ب) مصلحة : لا أخليت.

(٣) شمس الأخبار ٢ / ٢٦٤.

حتى تبدوا أفئدتهم (١) ؛ فإذا كان هذا في أعوانهم ، فكيف حكم أعيانهم. وقال الله تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) .. الآية [الصافات : ٢٢].

جاء في الحديث : «أنّهم يحشرون حتى من برا لهم قلما ، فيؤمر بهم إلى النّار». وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الظلمة وأعوان الظلمة ، وأشباه الظلمة حتى من برا لهم قلما ، أو لاق (٢) لهم دواة ، فيجمعون في تابوت من حديد ، ثم يرمى بهم في جهنم». وعن ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لردّ دانق من حرام يعدل عند الله سبعين حجّة مبرورة» (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يؤتى بالظالم يوم القيامة ـ ويداه مغلولتان حتى يكون عدله الذي يفكّه ، وجوره الذي يوبقه». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن مطل غريمه وهو يقدر على أداء حقّه فعليه عن كلّ يوم مطله لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وقال الله سبحانه في الزبور : يا داود ما يؤمّن الظّالم أن أقصمه في الساعة التي ظلم فيها ، فإذا رأيت منكرا فغيّره. يا داود من عظّم فاسقا أو قرب من فاسق حشرته معه إلى سجّين.

وقال نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا (٤) من مدح فاسقا ذهب ماء وجهه ، ألا ومن مشى مع ظالم ـ وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الدّين ، ألا ومن كثّر سواد قوم فهو منهم ، ألا ومن تشبّه بقوم فهو منهم». وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سوّد علينا

__________________

(١) الأحكام ٢ / ٥٣٨. وأمالي أحمد بن عيسى ٣ / ٣٥٢.

(٢) لاق : هزّ.

(٣) أبو طالب في أماليه ص ٣٩٧.

(٤) في (ب) بحذف ألا.

فقد شرك في دمائنا» (١). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا مدح الفاسق اهتزّ العرش» (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ومن عظّم صاحب دنيا ومدحه لطمع دنيا يرجوها منه سخط الله عليه ، وكان هو وقارون في الدرك الأسفل من النار ، ومن حفّ سلطانا جائرا في حاجة كان قرينه في النار ، ومن علّق سوطا بين يدي سلطان جائر جعل الله ذلك السوط حيّة طولها سبعون ذراعا فتسلّط عليه في نار جهنم خالدا فيها وله عذاب مقيم».

فصل : وهذا لا يخرج عنه إلا دعاة الحق ، فإنه يجوز لهم أن يفعلوا من الأفعال ما ظاهره الموالاة للظّلمة والكفرة ، للتّألّف لهم ، والاستدعاء لهم إلى الحق ، أو الاستنصار بهم (٣) ، والاستعانة بهم على نصرة الدّين ، ولا يجوز لغير دعاة الحقّ إلا على وجه التّقيّة فقط على ما فصّلنا ذلك في كتاب «ثمرة الأفكار في أحكام الكفار» ، وعلى ما فصلناه أيضا في «الرسالة الحاسمة في الأدلة العاصمة».

فصل : وأما حكم المال الحرام فروينا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّ الله حرم الجنة أن يدخلها جسد غذّي بحرام» (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يكسب عبد مالا من حرام فيتصدق به فيؤجر عليه ولا ينفق منه فيبارك فيه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار» (٥). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أصاب مالا من حرام وتلبّس جلبابا

__________________

(١) أمالي أحمد بن عيسى ٣ / ٣٥٣.

(٢) السفينة ٣ / ٩٤.

(٣) في (ب) و (ج) : أو الانتصار بهم.

(٤) شمس الأخبار ٢ / ٢٤. والكنز ٤ / ١٤ رقم ٩٢٦١.

(٥) السفينة ٣ / ٢٦١. وفي الكنز ٤ / ١٧ رقم ٩٢٨٠ ما يوافق ذلك.

قميصا (١) لم تقبل صلاته حتى ينخرق ذلك الجلباب عنه. إن الله تعالى أكرم وأجلّ من أن يتقبّل عمل رجل أو صلاته وعليه جلباب من حرام» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من اكتسب مالا حراما لم يقبل الله منه صدقة ولا حجّا ولا عمرة ولا صياما ، وكتب ما أنفق عليه وزرا (٣) في عنقه ، وما بقي كان زاده إلى النار» (٤). وتصديق ذلك كله قول الله سبحانه وتعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧] ، وقوله تعالى : (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ) [التوبة : ٥٣] ، وقال الله في الزبور : مثل الصّدقة مع الحرام كمثل الذي يغسل القذر ببوله عن ثوبه. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : العامل بالظلم والمعين عليه والراضي به شركاء.

ومما يدل على عظم أمر الظّلم أن النّمرود بن كنعان مع ادّعائه للربوبية لم يرض لنفسه بالظلم ، ولا استحسن لنفسه أن يفعل ما يتّهم (٥) به الناس كونه ظالما ؛ فإن إبراهيم الخليل صلوات الله عليه لمّا كسر الأصنام رفعوا خبره إلى النّمرود فقال لهم : فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون ، فأمرهم بالإشهاد على كسر الأصنام ؛ ليظهر للنّاس أنه إنّما يعاقب إبراهيم عليه‌السلام لأجله فيخرج بذلك عن الظلم ، فلم يرض لنفسه بالظلم ، ولا بما يوهمه ، مع كفره وعتوّه ، وادعائه للربوبية. ثم لا أعدل من الله تعالى ، ولا أجلّ ولا أعظم ، فإذا كان يوم القيامة جاء بالشهود. قال تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ)

__________________

(١) في (ب) : أو قميصا.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ٢٦٥.

(٣) في (ب) و (ج) : وكتب عليه ما أنفق منه.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ٢٦٢.

(٥) في (ب) : ما يتهمه به الناس.

[النساء : ٤١] ليظهر تنزيهه تعالى عن الظلم قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) [الزخرف : ٧٦].

وروي أن رجلا من ملوك الصين أصابه الصمم في أذنيه فبكى يوما ثم قال إني لا أبكي للبلية (١) التي نزلت بي ولكن أبكي لصارخ مظلوم على الباب لا أسمع صوته ، ثم قال : فإن كان سمعي قد ذهب فإن بصري لم يذهب فلا يلبس ثوبا أحمر إلا من كان مظلوما حتى أعرف المظلوم إذا رأيته ، وكان يركب الفيل طرفي النهار بكرة وعشية لينظر إلى المظلوم ـ وهو مشرك بالله فلم يرض بالظلم (٢) ؛ لكونه مخرّبا لبلاده ، وحافظ على العدل ليدوم سلطانه ، ويعمر بلدانه.

ويجوز عندنا قتل الظالم دفعا لظلمه ، ويجب ذلك متى تكاملت شروط وجوب النهي عن المنكر. وإذا ظهر إمام الحق فله أن يأخذ جميع ما في أيدي الظلمة تضمينا لهم لما استهلكوه من أموال الناس ، وأموال الله التي أخرجوها في غير موضعها ، ومنعوها أهلها إلا أمهات أولادهم فإنه لا يجوز له أخذهنّ على ما فصلنا ذلك في الرسالة المفصحة ، وفي الرسالة الحاسمة.

وعلى الجملة فالآيات والأخبار في التحذير عن الظلم أكثر من أن نأتي عليه في هذا المختصر.

الفصل الثاني : في التحذير عن الزنا والنهي عنه

قال الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) [الإسراء : ٣٢] ، وقال عزوجل (وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً* يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) [الفرقان : ٦٨ ـ ٦٩] ، وقال

__________________

(١) في (ب) : لبليتين.

(٢) في (ب) : الظلم.

سبحانه : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) [المؤمنون : ٥ ـ ٧]. وعن علي عليه‌السلام أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في الزنا ستّ خصال : ثلاث في الدنيا ، وثلاث في الآخرة. فأما اللواتي في الدنيا فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق من السماء ، ويسرع الفناء. وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرّبّ ، وسوء الحساب ، والخلود في النار (١).

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الزنا يورث الفقر في الدنيا ، وشدّة الحساب والعقوبة في الآخرة» (٢). رواه أبو هريرة. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يجتمع الزنا والغنى في بيت ، ولا الفقر وقراءة القرآن في بيت» (٣). وعن علي عليه‌السلام أنه قال : أتدرون أيّ الذنب أعظم؟ قالوا : لا. قال : أعظم الذنوب عند الله تعالى بعد الشرك الزنا ؛ لأنه يزني بحليلة أخيه فيصير زانيا ، ويفسد على أخيه زوجته (٤). وعن المقداد بن الأسود رحمه‌الله قال : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الزنا فقال : حرام حرمه الله ورسوله ، ثم قال : «لأن يزني الزاني بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره» (٥). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن» ، وقد ذكرنا تمام الخبر أولا.

__________________

(١) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٤٠٣. والخطيب في تاريخه ١٢ / ٤٩٣ باختلاف يسير. وشعب الإيمان ٤ / ٣٨١ عن حذيفة بن اليمان ، بلفظ : يا معشر المسلمين إياكم والزنا .. إلخ. وشمس الأخبار ٢ / ١٩٣ ، عن جابر بن عبد الله ، وعزاه إلى الحسن بن بدر الدين في أنوار اليقين.

(٢) السفينة ٣ / ١١١ بلفظه. والديلمي ٢ / ٣٠٢. وابن عدي ٦ / ٤٣٢ بلفظ : «الزنا يورث الفقر».

(٣) السفينة ٣ / ١١١.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٠.

(٥) أخرجه الطبراني في الأوسط ٦ / ٢٥٤ رقم ٦٣٣٣. والترغيب والترهيب ٣ / ٢٧٤.

فائدة : ويجب الحد على الزاني بأن يقرّ أربع مرات في أربعة مجالس ، أو يشهد عليه أربعة شهود رجال ، أهل عدالة ، وأمانة ، وطهارة ، وديانة. ولا تقبل شهادتهم حتى يشهدوا بالجماع كالميل في المكحلة.

ويجوز لهم النظر إلى عورة الزّانيين لإقامة الشهادة عليهما متى كانوا أربعة ، ولا يجوز النظر لمن دون الأربعة ؛ لأنه لا يقام الحد بشهادتهم ، فإذا كملت الشهادة ، وحصل للحاكم ثبوت عقل الشهود ، وصحة عدالتهم ، وصحة أبصارهم ـ أقام عليهم الحد (١) : فإن كان الزاني بكرا فحدّه الجلد مائة جلدة ، إن كان حرا ذكرا كان (٢) أو أنثى متى كان الزاني عاقلا بالغا ، وإن كان الزاني محصنا فحدّه أن يجلد مائة جلدة ، ذكرا كان أو أنثى ، ويرجم بالحجارة حتى يموت ، ويكون الرجم عقيب الجلد ، ولا بد من الجمع بينهما. والإحصان يثبت بأن يكون الزاني حرا بالغا عاقلا ذكرا كان أو أنثى ، وأن يكون الزاني قد تزوج بامرأة عاقلة يجامع مثلها في الفرج ، وأن يكون نكاحه لها نكاحا صحيحا ، وأن يكون قد جامعها.

قال الهادي عليه‌السلام : وكذلك إن خلا بها خلوة صحيحة توجب كمال المهر : وسواء كانت الزوجة حرة أو أمة (٣). وذكر المرتضى لدين الله محمد بن الهادي (ع) : أن امرأة حرة لو تزوج بها صبي لم يبلغ ، ودخل بها ، ثم زنت ـ أنه إن كان مثله يأتي النساء فهو يحصنها ، وكذلك إن تزوج بالغ بصبية لم تبلغ ودخل بها ، ومثلها يؤتى فهو محصن ، ذكره في النوازل (٤).

__________________

(١) الظاهر عليهما أي الزانيين.

(٢) في (ب) : بحذف كان.

(٣) الأحكام ٢ / ٢٢٦.

(٤) هو لصاحب القول المرتضى بن الهادي (ع).

ويمكن أن يخرّج ذلك على أصل الهادي إلى الحق عليه‌السلام. وليس من شرط الإحصان الإسلام. وحكم الزانية في شرائط الإحصان حكم الزاني بلا خلاف في ذلك. ولا يثبت الإحصان إلا بشهادة شاهدين عدلين على ما مضى. ويسألهما الحاكم عن معنى الإحصان وتفسيره.

فائدة : وكان الأصل في حد الزنا (١) هو الحبس في النساء الزواني. قال الله تعالى (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) [النساء : ١٥]. وكان قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) إشعارا منه بالنسخ لهذا الحكم ، وهو وجوب إمساكهن في البيوت.

ثم نسخ الله تعالى ذلك بالجلد والتغريب في البكر ، وبالجلد والرجم في الثّيّب ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذوا عنّي ، قد جعل الله لهنّ سبيلا :

البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب رجم بالحجارة» (٢) ، ثم نسخ الله التغريب بأية الجلد ، فقال (٣) تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢]. وروي عن علي عليه‌السلام : كفى بالنفي فتنة (٤). وروي أنّ عمر بن الخطاب نفى واحدا فارتد ولحق بهرقل الكافر ، فقال عمر : لا أنفي بعده أحدا ، ولم ينكره أحد من الصحابة ، فكان ذلك دليلا على أنهم علموا أن النفي منسوخ ؛ لو لا ذلك لأنكروا عليه قوله : لا أنفي بعده أحدا (٥).

__________________

(١) في (ب) : الزاني.

(٢) مسلم ٣ / ١٣١٦ رقم ١٣١٦. وأبو داود ٤ / ٥٧١ رقم ٤٤١٥. والترمذي ٢ / ٣٢ رقم ١٤٣٤. ومسند أحمد ٨ / ٣٩٢ رقم ٢٢٧٢٩ ، وغيرهم.

(٣) في (ج) ، (ب) : قال.

(٤) الحاوي ١٧ / ٢٠. وعبد الرزاق ٧ / ٣١٤.

(٥) النسائي ٨ / ٣١٩. وعبد الرزاق ٧ / ٣١٤.

وبيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرجم ـ فرجم ماعز بن مالك بالحجارة حتى مات (١). ورجم امرأة من جهينة كذلك (٢). وكان الرجم ثابتا على عهد الصحابة (رض) ؛ فقال علي عليه‌السلام لمّا جلد الهمدانية ورجمها : جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣). والرجم إنما يختص بالأحرار دون المماليك فإنّ حدّ الأمة والمملوك على النصف من حد الحرّ ؛ لقوله تعالى في الإماء : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) [النساء : ٢٥] ، وحكم ذكران المماليك حكم الإماء في ذلك بلا خلاف بين المسلمين.

وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال : حدّ العبد نصف حد الحر (٤). وهذا إنما يتصوّر في الجلد. فأما الرجم فإنه لا يتبعّض ؛ فلهذا إنّ المماليك لا يرجمون. ولا خلاف بين أئمتنا (ع) في ذلك ، وحكم أم الولد والمدبّر والمدبّرة (٥) في ذلك حكم العبد والأمة.

فأمّا المكاتب : فإن كان لم يؤدّ شيئا من مال الكتابة فحكمه في الحدود حكم العبد ، وإن كان قد أدى شيئا من مال الكتابة ؛ فإنه يقام عليه الحد بقدر ما عتق (٦) ، وهذا في الجلد دون الرجم ، فإن المكاتب لا يرجم أبدا ؛ لأنه عبد.

__________________

(١) مسلم ٣ / ١٣٢٢ رقم ١٦٩٥.

(٢) مسلم ٣ / ١٣٢٤ رقم ١٦٩٦.

(٣) المجموع ص ٣٣٤. ورأب الصدع ٣ / ١٣٨٣. والبخاري ٦ / ٢٤٦٨ رقم ٦٤٢٧. وأحمد بن حنبل ١ / ٣٤٧ رقم ٩٤١ ، ٩٤٢.

(٤) المجموع ص ٣٣٥.

(٥) أم الولد : الجارية التي ولدت لسيدها واعترف بهم. والمدبّر والمدبّرة هو من يقول له سيده : اعتقتك بعد موتي.

(٦) في (ب) : ما قد عتق ، وفي قد مثبتة بعد ما من الحديث التالي.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» (١) ، وإنما خصصناه في الجلد وفي الميراث بما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا أصاب المكاتب ميراثا أو حدّا فإنه يرث على قدر ما عتق منه ، ويقام عليه الحد على قدر ما عتق منه» (٢).

وروي عن علي عليه‌السلام أنه جلد عبدا قد أعطى نصف مال الكتابة خمسا وسبعين جلدة (٣) : نصفه حدّ الحر ، ونصفه حدّ العبد. وإذا ثبت ذلك ؛ فإن إقامة هذه الحدود إلى الأئمة دون غيرهم من سائر الأمة إلا حدّ المماليك فإنه في وقت الأئمة إليهم كما تقدم مثله في الأحرار ، وفي غير زمان الأئمة إلى موالي المماليك ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» (٤). وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ، فإن عادت فليجلدها ، فإن عادت فليبعها» (٥). فإن قيل : فهل حد الزاني والزانية عقوبة أو لا؟ قلنا : نعم ؛ لقول الله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النور : ٢] فإن قيل : فما تقولون فيمن يتوب بعد الزنا وقبل إقامة الحد عليه ، أليس التوبة تسقط العقوبة؟ قلنا : التوبة تسقط العقاب بلا خلاف بين المسلمين ، وعلى ذلك يدل دليل العقل والكتاب والسنة والإجماع.

__________________

(١) الترمذي ٣ / ٥٦١ رقم ١٢٦٠.

(٢) الترمذي ٣ / ٥٦٠ رقم ١٢٥٩. وأبو داود ٤ / ٧٠٦ رقم ٤٥٨٢. والبيهقي في السنن ١٠ / ٣٢٥. والدار قطني في السنن ٤ / ١٢١. والحاكم ٢ / ٢١٩.

(٣) المجموع ص ٣٣٦.

(٤) أبو داود ٤ / ٤١٧ رقم ٤٤٧٣. والدار قطني في السنن ٣ / ١٥٨. والبيهقي في السنن ٨ / ١٢٢٩.

(٥) الترمذي ٤ / ٣٧ رقم ١٤٤٠. وأحمد بن حنبل ٩ / ٣٣٣ رقم ٢٤٤١٥ باختلاف يسير.

ومع ذلك لا يسقط الحد ؛ فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجم امرأة من جهينة أقرّت بالزنا وتابت وصلّى عليها ، فقال له عمر بن الخطاب : تصلي عليها وقد زنت ،؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد تابت توبة لو قسّمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم» (١). فإن قيل فكيف ترجم بعد التوبة ، والتوبة تسقط العقاب؟ قلنا : يكون ذلك على وجه الابتلاء والامتحان ، يعيضهم عليها الرحمن ، كما نقوله في أمراض المجانين والصبيان ، فإنهم لا يستحقون العقاب ولكن يبتليهم بذلك رب الأرباب ويعوضهم بأضعاف ذلك مضاعفة كما بينا ذلك في «كتاب النظام» ، والله الهادي.

الفصل الثالث : في التحذير عن اللواط وما أشبهه

قال الله سبحانه (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) [الأعراف : ٨٠ ـ ٨١] الآية ونظائرها في القرآن كثير وقال الله تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩].

جاء في تفسيره أن ذلك عشر خصال : اللواط ، والخذف بالحصى ، والرمي بالبندق ، والصفير (٢) ، وسيأتي ذكر سائرها في فصل اللهو والمغاني.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قبّل غلاما شهوة حرّم الله عليه الجنة ، وأوجب له النّار» (٣). وعن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ثلاثة لا يقبل الله

__________________

(١) أبو طالب ص ٤٠١. ومسلم ٣ / ١٣٢٤ رقم ١٦٩٦ باب الحدود. وأبو داود ٤ / ٥٨٧ رقم ٤٤٤٠. والترمذي ٤ / ٣٣ رقم ١٤٣٥. ومسند أحمد ٧ / ٢٢٠ رقم ١٩٩٧٤. والنسائي ٤ / ٦٣ رقم ١٩٧٥.

(٢) الدر المنثور ٥ / ٢٧٦.

(٣) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٤.

لهم شهادة أن لا إله إلا الله : الراكب والمركوب ، والراكبة والمركوبة ، والإمام الجائر» (١).

وعن علي عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ثلاثة لا تنالهم شفاعتي : ناكح البهيمة ، ولاوي الصّدقة ، والمنكح من الذكور مثل ما تنكح النّساء» (٢). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تملّوا (٣) أعينكم من أولاد الأغنياء فإنّ فتنتهم أشدّ من فتنة العذارى» (٤).

يريد بذلك مع اقتران الشهوة بالنظر ؛ لأنه إذا لم يقع عند النظر إليهم شهوة لهم جاز نظرهم بالإجماع. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «احذروا الملوك وأبناء الملوك ؛ فإن لهم شهوة كشهوة العذارى» (٥). وعن سعيد بن المسيب أنه قال «إياكم ومجالسة كلّ غلام ، فإنه أعظم فتنة من فتنة النساء» (٦). وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قبّل غلاما لشهوة فكأنما نكح أمّه سبعين مرة ، ومن نكح أمّه مرة فكأنما افتضّ سبعين عذراء بغير مهر ، ومن افتضّ سبعين عذراء بغير مهر ، فكأنما زنا بسبعين ثيّبا ، ومن زنى بامرأة مسلمة أو غير مسلمة حرة أو أمة فتحت عليه في قبره ثمانمائة ألف باب من النار ، تخرج إليه حيات وعقارب وشهب من النار ، فهو يعذّب بها إلى يوم القيامة» (٧).

__________________

(١) شمس الأخبار ٢ / ٢٠٠ ، وعزاه إلى السمان في أماليه.

(٢) رأب الصدع ٣ / ١٥٩١. وشمس الأخبار ٢ / ١٩٩ ، وعزاه إلى السمان في المجالس.

(٣) في بعض النسخ : لا تملئوا.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٤. والبيهقي في شعب الإيمان ٤ / ٣٥٨ ، عن الحسن بن ذكوان مرسلا.

(٥) السفينة ٣ / ١١٢.

(٦) السفينة ٣ / ١١٤.

(٧) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٥.

وروي عن عبد الله بن العباس رضى الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه» (١). وروي أنّ عبد الملك بن مروان لعنه الله سأل قاضي حمص عن ذلك فقال : يرمى بالحجارة كما رجم قوم لوط. قال الله تعالى : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) ، فقتله عند ذلك. وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستّة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، ولا يجمعهم مع الناس : الفاعل بيده ، والفاعل بحليلة جاره ، وشارب الخمر إلا أن يتوب ، والفاعل ، والمفعول به ، والضارب والديه حتى يستغيثان الله» (٢). وسئل إبليس لعنه الله عن أي شيء أحبّ إليه ، وأبغض إلى الله؟ فقال : الذّكران يعلو أحدهما الأخر (٣). وفي الحديث : وإذا رأى الشيطان ذكرا يعلو ذكرا فرّ منه مخافة أن ينزل بهم العذاب (٤). وفي الحديث : «يأتي يوم القيامة قوم ، بطون أيديهم كبطون الحوامل ، يريد بذلك الفاعل بيده حتى ينزل ماؤه» (٥). وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لعن الله ناكح البهيمة ، وناكح اليد».

واعلم أيها المسترشد أنّ إتيان النساء في أدبارهن حرام ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تأتوا النساء في أدبارهن» (٦). وقال : «هي اللوطية الصغرى» (٧).

__________________

(١) الترمذي رقم ١٤٥٦. وأبو داود رقم ٤٥٦١. وابن ماجه رقم ٢٥٦١. والحاكم ٤ / ٣٥٥ ، وغيرهم.

(٢) أخرج في شعب الإيمان ٤ / ٣٧٨ ما يوافق ذلك.

(٣) السفينة ٣ / ١١٣.

(٤) السفينة ٣ / ١١٣.

(٥) أخرج في شعب الإيمان ما يوافق ذلك ٤ / ٣٧٨.

(٦) البيهقي في السنن ٧ / ١٩٦. والدارمي ١ / ٢٦٠.

(٧) البيهقي في السنن ٧ / ١٩٨. وأحمد بن حنبل ٢ / ٦٠٢ رقم ٦٧١٨ ، ورقم ٦٩٨٥ ، ورقم ٢٩٨٦.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أتى حائضا ، أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمّد» (١). وعن جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في محاشّهنّ (٢). وقال الله سبحانه : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣] ، أي كيف شئتم ، والحرث موضع الزرع ، ولا يطلب الزرع إلا في القبل. وروي عن جابر أنه قال : إن اليهود كانت تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها جاء ولده أحول (٣) ؛ ثم فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يجوز للزوج أن يجامع زوجته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا من قبلها في قبلها فنعم ، وأما من دبرها في قبلها فنعم ، وأما في دبرها فلا. إن الله لا يستحيي من الحق ، لا تأتوا النساء في أدبارهن» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ومن نكح امرأة في دبرها ، أو رجلا ، أو غلاما ، حشره الله يوم القيامة أنتن من الجيفة ، يتأذى منه أهل الجمع حتى يدخل جهنم ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل (٥) ، وحبط كلّ عمل عمله في الدنيا ، وإذا دخل جهنم أمر به فأدخل في تابوت من نار ، ولو وضع ألم عرق من عروقه على سبعمائة أمّة لماتوا جميعا. وهو من أشد أهل النار عذابا» (٦).

والأخبار في هذه الأمور أكثر من أن نحصيها في هذا المختصر ، فلنقتصر

__________________

(١) مسند أحمد بن حنبل ٣ / ٣٧٨ رقم ٩٣٠١.

(٢) أخرج في الدر المنثور ٢ / ٤٧١ : إن الله لا يستحيي من الحق لا يحل مأتى النساء في حشوشهن.

(٣) ينظر الدر المنثور ٢ / ٤٦٩.

(٤) السنن الكبرى للبيهقي ٧ / ١٩٦. والدر المنثور ٢ / ٤٧١.

(٥) الصرف : التوبة ، وقيل : النافلة. والعدل : الفدية ، وقيل : الفريضة.

(٦) شمس الأخبار ٢ / ١٩٩.

على هذا القدر منها ، ونتكلم في حد من فعل شيئا من ذلك ، فنقول وبالله التوفيق : فنقول : أما المخنّث فإنه يقتل ؛ لإجماع الصحابة (رض) على ذلك ، وإجماعهم حجة. وروي أنهم أجمعوا على تحريق مخنّث (١). واختص أمير المؤمنين علي عليه‌السلام بالقول بأنه يلقى عليه حائط فيموت (٢) ، وإليه ذهب عثمان بن عفان. واختار بعضهم أنه يلقى من أعلى بناء في قرية فيموت (٣). ومنهم من قال : يحرّق (٤). فحصل من هذا الخلاف إجماع منهم على جواز قتله ، ولم يفصلوا بين أن يكون محصنا أو غير محصن ، وهو قول القاسم بن إبراهيم [الرسي] ، والناصر للحق الحسن بن علي [الأطروش] (ع) ، وهو قول الشافعي ومالك (٥).

وهكذا حكم الفاعل بالمخنث فإنه يقتل عندنا ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اقتلوا الفاعل والمفعول به» (٦). قال القاسم بن إبراهيم (ع) من أتى البهيمة فحكمه حكم من أتى الرجل (٧). قال المؤيد بالله عليه‌السلام : كلام القاسم عليه‌السلام يدل على أنه يرجم بكرا كان أو ثيّبا.

والذي يدل على ذلك ما رواه ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من وجد

__________________

(١) ينظر الاعتصام ٥ / ٧٧. والتجريد ٥ / ٩٨. والحاوي ١٧ / ٦١.

(٢) التجريد ٥ / ٩٨.

(٣) هو قول ابن عباس كما في الحاوي للماوردي ١٧ / ٦١ ، ٢ / ٦١. والاعتصام ٥ / ٧٧.

(٤) هو عبد الله بن الزبير ، ينظر الحاوي ١٧ / ٦١.

(٥) ينظر الماوردي ١٧ / ٦٢. والتجريد ٥ / ١٠٠.

(٦) مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٦٤٤ رقم ٢٧٣٣. وكنز العمال ٥ / ٣٣٩ رقم ١٣١٢٥.

(٧) التجريد ٥ / ١٠٠ ، والتحرير ٢ / ٥٦١.

على بهيمة فاقتلوه مع البهيمة» (١). قيل لابن عباس : ما شأن البهيمة؟ قال : إنها ترمى ، فيقال : هذه وهذه ، وقد فعل بها ما فعل. فدل ظاهر الخبر على وجوب قتل من يفعل هذا الفعل ؛ فإذا ثبت وجوب القتل ظهر بذلك صحة مذهب القاسم عليه‌السلام ، وهو أحد قولي الشافعي رحمه‌الله ، والقول الآخر ، أنه لا يقتل إلا أن يكون محصنا. وذكر أصحاب الشافعي فيمن أتى بقرة الغير فقتلت فإنه لا يؤكل لحمها ويضمن الواطي قيمتها.

ومثله ذكره الإمام السيد أبو طالب رضي الله عنه في وجوب قيمتها على الواطي. قال المؤيد بالله رضي الله عنه فإن اشتبهت عليه البقرة ، فلا شيء عليه.

وأما ناكح اليد فإنه يعزّر. وكذلك من أتى امرأته وهي حائض. وكذلك من أتى امرأته في دبرها فإنه يعزّر على قدر ما يقع بمثله الانزجار عن مثل هذا الصنيع القبيح ، والتعزير في مثل ذلك دون حد الزنا (٢) بسوط أو سوطين. وإقامة ذلك إلى الأئمة في وقتهم ، فإن لم يكن إمام وقتل المخنّث قاتل فلا قود عليه ولا دية. وكذلك ذكر أصحاب الشافعي رضي الله عنه فيمن يرى (٣) رجلا يزني بامرأة ـ وكان الزاني محصنا ـ جاز له قتله (٤). وإن كانا جميعا محصنين جاز له قتلهما. قال السيد الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين عليه‌السلام وهذا يجب أن يكون صحيحا على أصل يحيى بن الحسين الهادي عليه‌السلام ؛ لأن إقامة الحدود ـ

__________________

(١) أخرجه أبو داود في الجامع الصحيح ٤ / ٤٦ رقم ١٤٥٥. وسنن أبي داود ٤ / ٦٠٩ رقم ٤٤٦٤. وكنز العمال ٥ / ٣٣٥ رقم ١٣١٢٣ كما أخرجه في المستدرك ٤ / ٣٥٥.

(٢) في (ج) ، (ب) : الزاني.

(٣) في (ب) ، (ج) : رأى.

(٤) من هنا سقطت صفحة من الأصل ، واعتمدنا (ب) ، (ج) ، (د) ، (ه).

وإن كانت إلى الإمام ، ـ فإنّ قتل من هو مستحق للقتل مباح الدم كالمرتد ـ لا يوجب على القاتل القود. وأقول أنا : ولا خلاف في أنه لا يجب عليه الدية. قال المؤيد بالله قدس الله روحه : ويجوز التعزير لمن نصبه المسلمون ، إذا لم يكن في العصر إمام ، فإن كان فيه إمام لم يجز إلا بإذنه ، إلا أن يكون ذلك في بلد لا يجري للإمام فيها حكم. ومثل ذلك ذكره القاضي زيد في باب اللعان ، فقال :

حكاه المؤيد بالله عن السيد أبي العباس عليه‌السلام.

الفصل الرابع

في التحذير عن شرب الخمر والمسكر

فصل : الإثم : هو الخمر عند العرب. قال شاعرهم :

شربت الإثم حتى ضلّ عقلي

كذاك الإثم يفعل بالعقول (١)

وقد حرمه الله تعالى ؛ لقوله : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ) [الأعراف : ٣٣] ، وقال تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] ، فوصفها الله بأنها رجس ، وكل رجس محرم بدلالة قوله تعالى : (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) [الأعراف : ١٥٧] ، ولأنه وصفها بأنها من عمل الشيطان ، أي الدعاء إلى شرابها ، وهذا يقتضي تحريمها ، ولأنه قال : (فَاجْتَنِبُوهُ) ، فأمر ، والأمر يقتضي الوجوب باجتنابها ، وما يجب اجتنابه من الأشربة فإنه محرم ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخمر جماع الإثم» (٢). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «وحلف الله بعزته أن لا يشرب أحد في الدنيا الخمر إلا سقي مثلها من الحميم

__________________

(١) اللسان ١٢ / ٦ ، وفيه تذهب بالعقول.

(٢) شمس الأخبار ٢ / ١٩٠. والترغيب والترهيب ٣ / ٢٥٧.

يوم القيامة ، ولا يدعها أحد في الدنيا إلا سقاه الله منها في حظيرة الفردوس» (١).

وعن عبد الله بن العباس وأبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال في خطبة الوداع : «ومن شرب الخمر في الدنيا سقاه الله يوم القيامة من سمّ الأساود ، وسمّ الحيات والعقارب ، فيشربه فيتساقط لحمة وجهه (٢) في الإناء قبل أن يشربها ، فإذا شربها انفسخ منها لحمه وجلده ، وصار على جلده كالجيفة ، يتأذى منها أهل الجمع. ألا وإن ساقيها وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وآكل ثمنها ، فهم فيها سواء في إثمها. ومن سقاها يهوديا أو نصرانيا أو صابيا أو امرأة أو صبيا أو من كان من الناس ، فعليه وزر من شربها. ألا ومن باعها أو اشتراها لغيره أو اعتصرها لغيره لم يقبل الله منه صلاة ولا صياما ولا حجا ولا اعتمارا حتى يتوب منها ، فإن مات قبل أن يتوب كان حقا على الله أن يسقيه بكل جرعة شرب منها في الدنيا من صديد جهنم في الآخرة. ألا وإن الله لعن الخمر بعينها ؛ فقليلها وكثيرها حرام ، والمسكر من كل شراب. ألا وإن كل مسكر حرام ولو جرعة واحدة» (٣).

وعن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لعن الله الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه» (٤). وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) رأب الصدع ٣ / ١٥٨٥ بلفظ : أقسم ربي لا يشرب عبة في الدنيا خمرا إلا سقاه يوم القيامة حميما. وفي مسند أحمد ٨ / ٢٨٦ رقم ٢٢٢٨١ : ولا يدعها عبد من عبادي من مخافتي إلا سقيتها إياه من حظيرة الفردوس.

(٢) في (د) : لحم وجهه. وفي الهامش : لحم جلده.

(٣) شمس الأخبار ٢ / ١٩٠ ، وعزاه إلى أصول الأحكام.

(٤) أخرجه أبو داود ٤ / ٨٢ رقم ٣٦٧٦. وابن ماجه ٢ / ١١١٢ برقم ٣٣٨٠ ب ، بلفظ : لعن رسول الله في الخمر عشرة ..».

أنه قال : «ومن سكر لم يقبل الله صلاته أربعين ليلة ، فإن مات في سكره مات مثل عابد وثن» (١).

وعن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنه قال : «لا يدخل الجنة صاحب مكس (٢) ، ولا خمر ، ولا مؤمن بسحر ، ولا قاطع رحم ولا منّان» (٣). وروت عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أطعم شارب الخمر فكأنما قتل مؤمنا متعمدا ، ومن أعانه بشيء فكأنما هدم الإسلام» (٤). وروى عمر بن الخطاب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «لا تسلّموا على شارب (٥) الخمر ، ولا تعودوا مرضاهم ، ولا تصلّوا على جنائزهم ، وكأني (٦) أنظر إلى شارب الخمر يوم القيامة ـ وعيناه زرقاوان ، شفته مائلة (٧) ، يدلع لسانه ، ويجرى دماغ رأسه على صدره يستقذره أهل الموقف ، يسألون ربهم العافية ممّا ابتلاه به» (٨).

وعن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ما أسكر كثيره فقليله

__________________

(١) مجمع الزوائد ٥ / ٧٠ ، وقال : رواه البزار.

(٢) مكس في البيع من باب ضرب. والمكس الجباية وما يأخذه العشّار. المختار ص ٦٣٠.

(٣) أخرجه المرشد بالله ١ / ٣١ وغيره. وفي أحمد بن حنبل ٤ / ٣٠ رقم ١١١٠٨ : عن أبي سعيد : «لا يدخل الجنة صاحب خمس : مدمن خمر ، ولا مؤمن بسحر ، وقاطع رحم ، ولا كاهن ، ولا منان».

(٤) الحاكم في السفينة ٤ / ١٠٧.

(٥) في هامش (ب) ، و (د) : شاربي ، وهو الأولى بدليل ما بعده.

(٦) في جميع النسخ غير (ب) : فكأني.

(٧) في (د) : وأن شفته.

(٨) أخرج ابن حجر ١١ / ٤١ حديث : لا تصلوا على شارب الخمر ، ولا تعودوا شراب الخمر إذا مرضوا ، ولا تصلوا عليهم إذا ماتوا. والحاكم في السفينة بلفظه ٤ / ١٠٨.

حرام» (١) ، وعن أم سلمة قالت : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كل مسكر (٢). وعن عائشة أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره. وقال : «كلّ شراب مسكر فهو حرام» (٣). إلى غير ذلك من الأخبار ، فإنها أكثر من أن نحصيها في هذا المختصر ، وليس عرضنا إلّا الإشارة إلى الغرض فقط.

وأما حدّ شاربها فإنه يجلد الحد. فأما الخمر فلا خلاف بين أمة محمد عليه‌السلام في تحريمها ، وفي وجوب الحد على من شربها ، وسواء شرب منها قليلا أم كثيرا ، وإنما الخلاف في المسكر ، فإن عندنا (٤) أن حكمه في التحريم وفي وجوب الحد حكم الخمر ، وعلى ذلك إجماع العترة (ع) ، وإجماعهم حجة. والأصل في وجوب الحد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سكر فاجلدوه ، ثم إذا سكر (٥) فاجلدوه ، ثم إذا سكر فاجلدوه ، ثم إذا سكر فاضربوا عنقه» (٦). رواه أبو هريرة. وروى عمرو ابن الشريد (٧) عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا سكر أحدكم فاضربوه ، ثم

__________________

(١) رأب الصدع ٣ / ١٥٨٣. والمجموع ص ٣٣٨. وأبو داود ٤ / ٨٧ رقم ٣٦٨١. وابن ماجه ٢ / ١١٢٥ رقم ٣٣٩٣. والترمذي ٤ / ٢٥٩ رقم ١٨٦٩. والنسائي ٨ / ٣٠٠ رقم ٥٦٠٧.

(٢) أبو داود برقم ٣٦٨٦. وأحمد بن حنبل ١٠ / ٢٠٥ برقم ٢٦٦٩٦.

(٣) النسائي ٨ / ٢٩٨. وابن ماجة ٢ / ١١٢٣. والترمذي ٣ / ٢٥٧ رقم ١٨٦٣ بلفظ : كل شراب أسكر ..

(٤) في (ج) : فعندنا. وفي (د) : فالسكر عندنا.

(٥) في (ج) و (د) : إذا سكر أحدكم.

(٦) النسائي ٨ / ٣١٤ رقم ٢٠٦٦٣. وسنن أبي داود ٤ / ٦٢٤ رقم ٤٤٨٤. وابن ماجه ٢ / ٨٥٩ رقم ٢٥٧٢ باختلاف يسير.

(٧) تابعي ، وثّقه ابن حبان. ينظر تهذيب الكمال ٢٢ / ٦٣.

إن عاد فاضربوه ، ثم إن عاد فاضربوه ، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه» (١). وعن الهادي إلى الحق عليه‌السلام أنه قال : بلغنا أن عليا عليه‌السلام كان يجلد في قليل ما أسكر كثيره كما يجلد في الكثير ، وأنه كان يقول : لا أجد أحدا يشرب خمرا ولا نبيذا إلا جلدته الحد [الثمانين] (٢).

فإن قيل : فكم حدّ الشارب؟ قلنا : حدّه ثمانون جلدة ، وعلى ذلك إجماع العترة فيما أعلمه.

والأصل فيه ما روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه أمر بأن يحدّ شارب الخمر ثمانين ، ولما ولي عمر بن الخطاب الخلافة تحيّر في حد شارب الخمر ، واستشار عليا عليه‌السلام في ذلك ، فأشار عليه بأن يضرب شارب الخمر ثمانين جلدة ، فعمل به عمر. وقال علي عليه‌السلام إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحدّ المفتري ثمانون (٣) ، فجرى هذا مجرى الإجماع في كونه حجة ؛ لأنه لم ينكره أحد من الصحابة مع وفارتهم.

وروي أن الوليد بن عقبة لمّا شرب الخمر في ولاية عثمان ـ ولم يقم عثمان عليه الحد ، قال علي عليه‌السلام : لا يضيع (٤) حد وأنا حاضر ، فأمر عبد الله بن جعفر فأقام الحد عليه (٥) ، فجلده ، وعلي عليه‌السلام يعد حتى بلغ أربعين ، فقال

__________________

(١) في (د) : ثم إذا سكر في الموضعين ما عدا الرابعة.

(٢) ينظر الأحكام ٢ / ٢٦٦ ، وما بين القوسين من الأحكام.

(٣) الجامع الكافي كما في أنوار التمام ٤ / ٩٧. ومعرفة السنن والآثار ٦ / ٤٥٧. والموطأ ٢ / ١٩٥.

(٤) في (ج) : لا يضيع لله حدّ.

(٥) في (ج) : بإقامة الحد.

علي عليه‌السلام : حسبك ، وكان لسوطه رأسان (١). رواه الباقر محمد بن علي السجاد (ع) ؛ فيكون ثمانين ، فإن قيل : من يقيم الحد على الشارب؟ قلنا : الإمام ، فإن لم يكن إمام عزره المسلمون ، والتعزير دون حده بسوط أو سوطين كما تقدم ، فإن قيل : فكم حدّ المماليك؟ قلنا : على النصف من حد الأحرار ، فيكون أربعين جلدة وهذا مما لا خلاف فيه.

وأما الفصل الخامس :

وهو في التحذير عن استعمال المغاني والنهي عن اللهو والرقص والتصفيق وما أشبه ذلك فقال الله سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) [لقمان : ٦].

ذكر بعض أهل العلم من المفسرين أنه الغناء (٢). وفي قصة أنها في جاريتين اشتراهما بعض قريش ليشغل سفهاء قريش عن سماع القرآن ، (٣) وبمثل ذلك فسّر قوله تعالى : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) [المدثر : ٤٥] يريد (٤) سماع اللهو (٥). وقال الله سبحانه : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩]

__________________

(١) الكافي ٧ / ٢١٥ ، وبلفظ : فجلد بسوط له شفتان. والأحكام ج ٢. ذكر أنه جلده ثمانين جلدة.

(٢) غريب القرآن ص ٢٥٠. ورأب الصدع ٣ / ١٥٨١. والغنى ـ بكسر الغين مع قصر الألف ـ ضد الفقر. والغناء ـ بفتحها مع المد ـ جمع أغنية. المختار ص ٤٨٣. وفي (ج) : وذكر.

(٣) ينظر أسباب النزول للواحدي ص ٢٨٨. والدر المنثور ٥ / ٣٠٧. والقرطبي ١٤ / ٣٧. والطبري مج ١١ ج ٢١ ص ٧٤.

(٤) في (ج) : يريد به.

(٥) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٧.

هو اللهو واللعب (١). وقال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥]. والملاهي هي (٢) أقبح أنواع العبث. وقال الله تعالى : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً) [الأنعام : ٧٠] ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «كلّ لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة : ملاعبة الرجل لأهله ، ومناضلته بقوسه ، ورياضته لفرسه» (٣).

وعن سهل بن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ» ، فقيل : يا رسول الله متى؟ قال : «إذا ظهرت المعازف والقيان ، واستحلّت الخمر» (٤). وعن الحسن أنه قال : ما اجتمع قوم قط قلّوا أو كثروا على لهو ولعب وباطل إلا أغلقت عنهم أبواب الرحمة ، ونزلت عليهم اللعنة». ومثل هذا لا يكون إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنه لا يعلم أحكام الأفعال إلا الله تعالى ، فيعلّم بها رسله (ع) وفي معنى قول الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) نزلت في الجواري المغنيات (٥). وقيل : هو اتخاذ المعازف. وعن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : يمسخ قوم من هذه الأمة

__________________

(١) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٧.

(٢) في (ب) : بحذف هي.

(٣) مجمع الزوائد ٥ / ٢٦٩٠.

(٤) المرشد بالله ٢ / ٢٥٩. وأبو طالب في أماليه ٤٠١. والترمذي ٤ / ٤٢٩ رقم ٢٢١٢. وكنز العمال ١٤ / ٢٨١ رقم ٣٨٧٣٤ عن ابن حميد وابن أبي الدنيا ، وذكره من طريق غيرهم ١٤ / ٢٧٧.

(٥) الترمذي ٣ / ٥٧٩. وأسباب النزول ١٩٧ ، ١٩٨. والسفينة للحاكم ٣ / ١١٧ مصور من مكتبة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

في آخر (١) الزمان قردة وخنازير ، قيل : يا رسول الله ، يشهدون (٢) أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله؟ قال : «بلى ؛ ويصومون ويصلّون ويحجّون» ، قال : فما بالهم؟ قال : «اتّخذوا المعازف والدفوف ، والقينات ، وباتوا على شرابهم ولهوهم ، فأصبحوا قردة وخنازير» (٣).

واللهو أنواع جميعها حرام : فمنها شراء المغنية روى أبو أمامة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن بيع المغنيات وعن (٤) شرائهن ، وعن كسبهن (٥).

وعن علي عليه‌السلام أنه قال : كسب المغنية سحت ، وكسب الزانية سحت ، وكسب المرابي (٦) سحت ، وحقّ على الله أن لا يدخل الجنّة لحم نبت من سحت (٧). ومنها استماع الغناء عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من استمع إلى لهو غناء ؛ حرّم الله عليه استماع صوت داود إذا قرأ الزبور في

__________________

(١) من هنا نواصل اعتماد الأصل ؛ لانتهاء السقط.

(٢) في (ب) ، (ج) : أليس تشهدون؟.

(٣) أخرجه أبو نعيم في الحلية ٣ / ١٤١.

(٤) في (ب) بحذف عن. وأخرج الحديث أبو طال في أماليه ص ٣٨٢. والترمذي ٣ / ٥٧٩ رقم ١٢٨٢ ، بلفظ : «لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن وثمنهن حرام.

(٥) أخرجه أبو طالب في أماليه ص ٣٨٢. والترمذي ٣ / ٥٧٩ رقم ١٢٨٢ بلفظ : لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ، ولا خير في التجارة فيهن ، وثمنهن حرام. وفي مثل هذا أنزلت : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ ..) الآية.

(٦) في (ب) : الزاني.

(٧) أبو طالب في أماليه ص ٤٠٠. والمتقي في الكنز ١٥ / ٢٢٦ رقم ٤٠٦٨٩.

بطنان الجنة» (١). وعن نافع قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من استمع إلى لهو وغناء حرمه الله مرافقة الصديقين والشهداء والصالحين» (٢). عن نافع قال : كنت أمشي مع ابن عمر فسمع صوت مزمار فوضع إصبعيه في أذنيه حتى مرّ ، وقال : هكذا رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

ومنها أنواع الملاهي كلها : الدف ، والمزمار ، والعود ، والرباب ، وما أشبه ذلك ، أو استعمل لهذا المعنى. قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه خمر أو دف أو طنبور أو نرد ، ولا يستجاب دعاؤهم ، ورفع الله عنهم البركة» (٤). وعن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الدف حرام ، والمعازف حرام ، والكوب (٥) حرام ، والمزمار حرام» (٦).

وعن أبي أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين ، بعثني لأمحق المعازف ، والمزامير ، وأمر الجاهلية ، والأوثان» (٧). فإذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث لمحق هذه الملاهي ـ وأهل جهتك أيها المسترشد يعكفون عليها ليلا ونهارا ، ويفعلونها سرا وجهرا (٨) ، ويقول قائلهم : هاتي جبّة

__________________

(١) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٨.

(٢) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٨.

(٣) أخرجه الزمخشري في ربيع الأبرار ٣ / ١٣٠.

(٤) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٨.

(٥) بعض النسخ : الكوبة.

(٦) رأب الصدع ٣ / ١٥٨٢.

(٧) رأب الصدع ٣ / ١٥٨٥. وأحمد بن حنبل ٨ / ٢٨٦ رقم ٢٢٢٨١ ، ورقم ٢٢٣٧٠ بما يوافق ذلك.

(٨) في (ب) : جهارا.

المصادمة لا ثياب المنادمة ، وربما يجهرون باستحلال ذلك ، وينشد منشدهم بغير محاشمة ، يجوز على مذهب الشافعي تقبّل حبيبك في الجامع (١) ، ويقول أيضا : ما أنزه كتابي عن سطره فيه. كيف (٢) يشكّ في كفرهم ، أو يعتقد جواز مجاورتهم ، وهذا كالخارج عما نحن فيه ، إلا أن الحديث ذو شجون (٣). وعن علي عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من أدخل بيته مزمارا أو لهوا (٤) فقد شمت بأبيه آدم ؛ لأن إبليس اتخذ المزامير والسرور والطرب حيث وقع آدم في الخطيئة» (٥). وعن أبي أمامة وجابر : من مات وله جارية مغنّية لم يصلّ عليه (٦).

ومنها اللعب بالنرد ، ومن لعب به فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من لعب بالنّرد فقد عصى الله ورسوله» (٧).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من لعب بالنرد ثم يقوم يصلي لا يقبل الله صلاته» (٨). وعن علي عليه‌السلام أنه مر بقوم يلعبون بالنرد فضربهم بدرّته

__________________

(١) في (ب) : المجامع.

(٢) في (ب) : فكيف.

(٣) المؤلف رحمه‌الله شاهد عصره ، وربما كان هناك أصحاب مجون استحقوا ما قاله فيهم والله أعلم.

(٤) في (ب) : أو لهى.

(٥) الحاكم في السفينة ٣ / ١١٩

(٦) ذكر ذلك القرطبي ١٤ / ٣٧ عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات وعنده جارية مغنية فلا تصلوا عليه.

(٧) أخرجه أحمد بن حنبل ٧ / ١٣٠ رقم ١٩٥٣٨ ، ورقم ١٩٥٣٩ عن أبي موسى.

(٨) الحاكم في السفينة ٣ / ١٢١. وفي الكنز ١٤ / ٢١٧ رقم ٤٠٦٤٩ بلفظ : «من لعب بالميسر ثم قام يصلي فمثله كمثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ، فيقول الله : لا تقبل له

حتى فرّق بينهم ، ثم قال ألا إن الملاعبة بهذه قمار (١) ـ كأكل لحم الخنزير ، والملاعبة بها غير قمار ـ كالمتلطخ بشحم الخنزير. ثم قال علي عليه‌السلام : هذه كانت ميسر العجم ، والقداح كانت ميسر العرب ، والشطرنج مثل النرد (٢).

ومنها اللعب بالشطرنج : عن علي عليه‌السلام أنه مر على قوم يلعبون بالشطرنج ، فأمر رجلا من فرسانه فحرق رقعتها ، وأمر بكل رجل منهم فعقل له رجلا وأقامه عليها ، فقالوا لا نعود ، فقال : وإن عدتم عدنا (٣). وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله» (٤). وروي واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن لله تعالى في كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة ، لا ينظر الله فيها إلى صاحب الشاة» (٥). يعني الشطرنج ، ويريد بالنظرة الرحمة. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال : «ما هذه الصور؟ ألم أنه عن هذه ، ألا لعنة الله على من لعب بها» (٦).

وعن سمرة بن جندب أنه قال : كنت ألعب بالشطرنج فمر بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يسلّم عليّ ، ومر بقوم يلعبون بالشطرنج ؛ فقال ـ ولم يسلّم عليهم ـ :

__________________

صلاة» ، والنرد من جملة الميسر.

(١) في هامش (ب) : قمارا وهو الأولى لتنصب على الحال. وخبر إنّ كأكل لحم الخنزير.

(٢) المجموع ص ٤٢٠. ورأب الصدع ٣ / ١٥٧٣.

(٣) الأحكام ج ٢. ورأب الصدع ٣ / ١٥٨٨. والحاكم في السفينة ٣ / ١٢٠.

(٤) القرطبي ٨ / ٢١٦.

(٥) كنز العمال ١٤ / ٢١٨ رقم ٤٠٦١٤ ، وعزاه إلى الديلمي. والعلل المتناهية ٢ / ٧٨٣.

(٦) الحاكم في السفينة بلفظه ٣ / ١٢٠. والعلل والمتناهية ٢ / ٧٧٣ بلفظ : ما هذي الكوبة ألم أنه.

ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ (١). وعن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إياكم والغناء فإنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الشجر» (٢).

ومنها ما نذكره فيما رويناه عن علي عليه‌السلام أنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «عشرة من فعل قوم لوط فاحذروهن : إسبال الشارب ، وتصفيف الشعر ، وتمضيغ العلك ، وتحليل الأزرار ، وإسبال الإزار ، وإطارة الحمام ، والرمي بالجلاهق (٣) ، والصفير ، واجتماعهم على الشراب ، ولعب بعضهم ببعض» (٤).

ومنها التصفيق : قال الله تعالى : (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنفال : ٣٥]. والمكاء : طائر بالحجاز ، وأصل المكاء جمع الريح ، يقال : مكا يمكو إذا صفّر. والتصدية هي : التصفيق يقال : صدى تصدية ، ومنه الصدى صوت الجبل ، قال أبو علي : كان بعضهم يتصدى البعض بذلك الفعل ، يعني التصفيق ليراه ، وكان يصفّر له. وقيل : كانت قريش تطوف بالبيت عراة ، يصفقون ، ويصفرون ، يخلّطون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوافه وصلاته (٥). فإذا كان التصفيق والصفير من جملة أفعال الكافرين وجب تركه ، وحرم فعله ؛ لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تشبه بقوم فهو منهم» (٦).

__________________

(١) الحاكم في السفينة ٣ / ١٢٢. والآجري تحريم النرد والشطرنج والملاهي ص ٤. والبيهقي في السنن ١٠ / ٢١٢.

(٢) أخرجه أبو داود في سننه ١ / ٢٢٣ برقم ٤٩٢٧.

(٣) الجلاهق : جسم صغير كروي من طين يرمى به ، وهي كلمة فارسية. المنجد ص ٩٥.

(٤) الإمام زيد في المجموع ٤٢٤. والكنز ١٧ / ١٩ رقم ٤٤٠٥٨.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٤٦٣. والدر المنثور ٣ / ٣٣٢. والكشاف ٢ / ٢١٨.

(٦) أبو داود ٤ / ٣١٤ رقم ٤٠٣١. وأحمد من حديث طويل ٢ / ٣٠٩ رقم ٥١١٤.

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عشرة من أفعال قوم لوط فاحذروهن وذكر فيها الصفير». فحذر (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله من أفعال الكافرين ، وهم قوم لوط عليه‌السلام ؛ ولأن الله سبحانه قد عاب الصفير والتصفيق على الكافرين ووبخهم به ، فكيف لا يعيبه على المسلمين؟ وقد قال سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ) [القلم : ٣٥] ، وقال تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) [السجدة : ١٨] ، ولأن ذلك من جملة اللعب واللهو ، وقد قال الله سبحانه : (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) [الأعراف : ٥١].

فاحذر أيها المسترشد أن تغتر بأقوال الصوفية ، أو تنخدع بزخارف الحشوية ، أو أن تصطادك حبائل الأشعرية ، أو أن تستمسك بمعاذير القدرية الجبرية ؛ فترمي بنفسك في كل بلية ، وتوقعها في الظلمات السفلية ، حيث لم ترتع في رياض العدليّة ، واطّرحت الأدلة العقلية ، والآثار النبوية ، والسّير (٢) والأحكام الصحابية.

وقد أوقفناك أيام وصلنا إلى تلك الجهات على إبطال مذاهبهم ، إذ قطعنا بمحضرك من ناظرنا منهم ، وتصدينا لابن الأسدي فاختفى منا ، ولم يقدر على مواجهتنا ، وخشي أن نفضحه على أعيان الملا ، وأن نبين عوار (٣) مذهبه الذي اختدع به الجهلاء ، ولو علم صحة قوله ، وقوة حوله ـ لحضر وناظر ، ولأقدم وما

__________________

(١) في (ب) : النبي.

(٢) في (ب) : والسنن.

(٣) في (ب) : أعوار.

تأخر ، ما ضره لو حضر مجلسنا ، وسمع كلامنا ، وافتقد أحوالنا ، فإن رأى رشدا اتّبعه مع المتبعين ، وخرج عن ربقة المبتدعين ، وغسل درن الشك (١) بماء اليقين ونجا وفاز ببرد علم اليقين ، ودخل في زمرة المحققين (٢).

وإن رأى ـ والعياذ بالله ـ غيّا فارق مع المفارقين. فأما ادعاؤه كونه من الهداة المهتدين ، وأنّ خصماه من جملة المعتدين ، فإنّ الدعاوى متساوية من المدّعين ، ولكن أين الثّمد من المعين؟ (٣) وأين السلسبيل من الغسلين؟ وأين الشك من اليقين؟ دعوناه للإبانة فبان ، ولو أجاب لوقف على البيان. يا عجبا! ممّن يتّبعه مع جهله ، ويسمه (٤) بالفضل وليس من أهله كيف فضل الجمّا على الجمّا؟ وكيف ينقاد الأعمى للأعمى؟ (٥) إنما الفضل لعلماء آل (٦) الرسول ، وأسباط ابنته الطاهرة البتول ، الذين قضى بفضلهم الكتاب ، وأمر بسؤالهم ربّ الأرباب فقال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] ، (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [يونس : ٣٥].

__________________

(١) في (ب) : الشك والشرك.

(٢) في (ب) : المحقين.

(٣) الثّمد والثّمد : الماء القليل الذي لا مادة له. المختار ٨٦.

(٤) في (ب) : ويسميه.

(٥) أقول : لقد أنصف من دعا للمناظرة ، واستعدّ للمناقشة والمحاورة ؛ ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيّ عن بينة ، وها نحن في زمن نواجهه فيه صمّا وبكما وعما. لم يملكون من العلم سوى الدعوى ولا يصدر عنهم إلا الداء العياء. قوم فاقوا خوارج الماضي بحب الدنيا.

(٦) «آل» محذوفة في الأصل ، ولا يصح المعنى إلا بها ؛ فأثبتناها كما في (ب).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى» ، فكما أنه لم ينج من أمة نوح إلا من ركب في السفينة كذلك لا ينجو من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا من تمسك بأهل بيته ، واستن بأفعالهم ونسج على منوالهم.

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا أبدا (١) : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّ اللّطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» ، فكما أنّ من تمسّك بالكتاب ، وفعل بما يقتضيه ـ فإنه لا يضلّ كذلك لا يضل عن الصواب والهدى من تمسّك بأهل الكساء وأبنائهم العلماء ، السادة (٢) الحكماء ، أعلام الهدى ، ومصابيح الدّجى ، وحياة الورى ، أئمة أهل الدّنيا ، وشفعاء أهل الأخرى ، الذين بهم يفتح ويختم ، وينقض ويبرم ، ويوصل ويضرم ، ويخمد ويضرم ، ويهان ويكرم. قال جدي المنتصر لدين الله محمد بن الإمام المختار لدين الله (ع) (٣) في أبيات له :

فما إن زال أوّلنا نبيّا

ولا ينفكّ آخرنا إماما

يصلّي كلّ محتلم علينا

إذا صلّى ويتبعها السّلاما

فحسبك مفخرا أنّا جعلنا

لكلّ هدى ومفترض تماما

وقال المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ع) في أبيات له :

__________________

(١) في (ب) : من بعدي أبدا.

(٢) في (ب) : السادات.

(٣) والمختار هو القاسم ابن الإمام الناصر أحمد بن الإمام الهادي يحيى عليهم‌السلام ، وهو الذي ثأر لأبيه من قاتليه ، فقتلهم وشفى الغليل ، وقال بعد أن قتلهم القصيدة المعروفة بالحماسة الهاشمية والشجاعة العلوية ، منها هذه الأبيات التي ذكرها المؤلف. ت ٣٦٩ ه‍. ينظر التحف شرح الزلف ص ١٩٩.

وهل تجب الصلاة على أبيكم؟

كما تجب الصلاة على أبينا

وهل تمّت لكم أبدا صلاة

إذا ما أنتم لم تذكرونا

وهذا أوان فراغنا من غرضنا بهذا الكتاب ، والحمد لله ربّ الأرباب ، ومسبّب ما شاء من الأسباب ، ونحن نسأل الله سبحانه أن ينفعنا به وكافّة المؤمنين ، وأن لا يجعله حجّة علينا يوم الدين ، وأن ينوّر به أفئدة المتّبعين ، ويكبت به قلوب المبتدعين ، وأن يصلي على محمّد المختار الأمين ، وآله الهداة الأكرمين. آمين اللهم آمين.

* * *

فهرس الكتاب

مقدمة الطبعة الثانية............................................................... أ

مقدمة الطبعة الأولى............................................................. ب

مقدمة المؤلف.................................................................. ١٤

أوّل ما يجب على المكلف........................................................ ١٩

ما يجب على المكلف التفكر فيه.................................................. ٣٠

في إثبات الصانع............................................................... ٣٢

أن الله تعالى قادر............................................................... ٣٥

أن الله تعالى عالم............................................................... ٣٨

أن الله تعالى حي............................................................... ٤٣

أن الله تعالى قديم............................................................... ٤٣

أن الله تعالى يستحق هذه الصفات لذاته........................................... ٤٥

أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات...................................... ٥١

أن الله تعالى سميع بصير......................................................... ٥٤

أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض................................................ ٦٣

الرد على المشبهة في استدلالهم بالمتشابه............................................ ٧٠

الاستوآء على العرش............................................................ ٧٠

نفي المجيء والإتيان............................................................. ٧٢

نفي المكان على الله تعالى........................................................ ٧٨

الرد على المشبهة فيما يتعلقون به من الآيات التي فيها ذكر الأعضآء.................. ٨٦

الله تعالى غني................................................................. ١٠٧

أن اللّه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة...................................... ١٠٩

أن الله تعالى واحد............................................................. ١٣٧

أن الله تعالى عدل حكيم....................................................... ١٤٨

معنى العدل.................................................................. ١٤٨

تعيين الأفعال................................................................. ١٤٩

أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات.................................... ١٥٣

أن الله تعالى لا يفعل القبيح.................................................... ١٥٣

أفعال العباد منهم ، والرد على المخالفين......................................... ١٥٦

القضآء والقدر................................................................ ١٦٦

تعيين القدرية وذمهم.......................................................... ١٧٧

الهدى وتعيين معانيه........................................................... ١٨٤

الضّلال وتبيين معانيه.......................................................... ١٨٧

الطّبع والختم.................................................................. ١٩٣

أنّ اللّه تعالى لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعمله.......................... ١٩٧

الاستطاعة................................................................... ٢١٠

الدلالة على أن الله تعالى مريد وكاره............................................. ٢١٨

أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى الكفر....................................... ٢٢١

التكليف..................................................................... ٢٢٧

حسن التكليف............................................................... ٢٢٩

شروط حسن التكليف......................................................... ٢٣٩

الألطاف..................................................................... ٢٢٠

الاعتبار..................................................................... ٢٤٣

العوض...................................................................... ٢٥٣

الآجال...................................................................... ٢٥٩

الأرزاق...................................................................... ٢٦٩

الألطاف التي من أفعال العباد.................................................. ٢٧٤

جواز نسخ الشرآئع............................................................ ٢٧٥

النبوءآت..................................................................... ٢٧٨

كرامات أهل البيت........................................................... ٢٨٦

نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله.......................................................... ٢٩٨

القرآن كلام اللّه ووحيه......................................................... ٣١٨

القرآن محدث................................................................. ٣٢٠

الإمامة...................................................................... ٣٢٥

إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام...................................... ٣٢٥

ذكر فضائل أمير المؤمنين ومناقبه عليه‌السلام........................................... ٣٤٨

علي بن أبي طالب سيف الله المسلول............................................ ٣٩٤

إمامة الحسن والحسين (ع)..................................................... ٤٠٦

ذكر فضآئلهما............................................................... ٤١٨

مثالب معاوية وولده........................................................... ٤١٣

شبه الحشوية التي يحتوجون بها لمعاوية والرد عليها.................................. ٤٢٢

إثبات الإمامة بعد الحسنين في أبنآئهما (ع)...................................... ٤٢٨

ذكر فضائلهم ومناقبهم........................................................ ٤٣٢

فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام...................................................... ٤٣٣

فضائل فاطمة الزهراء (ع)..................................................... ٤٤٧

فضائل السبطين الحسنين (ع).................................................. ٤٥٧

فضائل الخمسة المعصومين (ع)................................................. ٤٥٨

زين العابدين عليه‌السلام............................................................ ٤٥٩

الباقر عليه‌السلام.................................................................. ٤٥٩

الإمام الأعظم زيد بن علي (ع)................................................ ٤٥٩

الإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) (ع)...................................... ٤٦١

الإمام الحسين بن علي الفخّي (ع).............................................. ٤٦٢

الإمام علي بن موسى الرضا (ع)................................................ ٤٦٣

الإمام القاسم بن ابراهيم (ع).................................................. ٤٦٤

الإمام الهادي عليه‌السلام............................................................ ٤٦٥

الإمام الناصر الأطروش عليه‌السلام................................................... ٤٦٦

الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام..................................................... ٤٦٨

ما ورد في جماعة معيّنون من أهل البيت (ع)...................................... ٤٦٩

فضل أهل البيت (ع) على العموم.............................................. ٤٧٠

وجوب الصلاة عليهم......................................................... ٤٧٠

وجوب مودّتهم................................................................ ٤٧١

وجوب إكرامهم وقضاء حوائجهم............................................... ٤٧٢

حكم باغضهم وقاتلهم........................................................ ٤٧٣

اتباع مذهبهم وعصمة جماعتهم................................................. ٤٧٥

وجوب نصرتهم والقيام معهم.................................................... ٤٧٦

زيارة قبورهم.................................................................. ٤٧٧

مناقب أتباعهم وشيعتهم رضي الله عنهم......................................... ٤٧٨

وجوب الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر............................................ ٤٨٧

الموالاة والمعاداة................................................................ ٤٩٣

الوعد والوعيد................................................................ ٥٠٠

الموت والفناء................................................................. ٥٠٠

عذاب القبر.................................................................. ٥٠١

النفخ في الصور............................................................... ٥٠٢

البعث....................................................................... ٥٠٣

في تغيّر العالم وحشر الحيوانات.................................................. ٥٠٣

في السؤال وشهادة الشهود في المحشر............................................ ٥٠٤

أخذ صحف الأعمال......................................................... ٥٠٧

الحساب..................................................................... ٥٠٨

الميزان....................................................................... ٥٠٩

ظهور العلامات في الوجوه...................................................... ٥٠٩

الانتصاف والمقاصة بين المخلوقين............................................... ٥٠٩

الصراط...................................................................... ٥١٠

الشفاعة..................................................................... ٥١١

الجنة والنار................................................................... ٥١٤

التوبة........................................................................ ٥٢٢

الأذان والإقامة............................................................... ٥٣٠

فروض الصلاة وسننها وهيئاتها.................................................. ٥٣٩

صلاة المرأة................................................................... ٥٥٥

سجود السهو................................................................ ٥٥٧

إمامة الصلاة................................................................. ٥٥٦

النهي عن الظلم.............................................................. ٥٦٤

ما يجوز لدعاة الحق أن يفعلوه مع الظلمة......................................... ٥٦٦

التحذير من الزناء والنهي عنه................................................... ٥٦٨

التحذير من اللواط وما أشبهه.................................................. ٥٧٤

التحذير من شرب الخمر والمسكر............................................... ٥٨٠

التحذير عن استعمال المغاني والنهي عن اللهو..................................... ٥٨٥

الفهرس...................................................................... ٥٩٦

ينابيع النصيحة في العقائد الصحيحة

المؤلف: السيد الأمير الحسين بن بدر الدين
الصفحات: 599
  • مقدمة الطبعة الثانية أ
  • مقدمة الطبعة الأولى ب
  • مقدمة المؤلف 14
  • أوّل ما يجب على المكلف 19
  • ما يجب على المكلف التفكر فيه 30
  • في إثبات الصانع 32
  • أن الله تعالى قادر 35
  • أن الله تعالى عالم 38
  • أن الله تعالى حي 43
  • أن الله تعالى قديم 43
  • أن الله تعالى يستحق هذه الصفات لذاته 45
  • أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات 51
  • أن الله تعالى سميع بصير 54
  • أن الله تعالى ليس بجسم ولا عرض 63
  • الرد على المشبهة في استدلالهم بالمتشابه 70
  • الاستوآء على العرش 70
  • نفي المجيء والإتيان 72
  • نفي المكان على الله تعالى 78
  • الرد على المشبهة فيما يتعلقون به من الآيات التي فيها ذكر الأعضآء 86
  • الله تعالى غني 107
  • أن اللّه تعالى لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة 109
  • أن الله تعالى واحد 137
  • أن الله تعالى عدل حكيم 148
  • معنى العدل 148
  • تعيين الأفعال 149
  • أن الله تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات 153
  • أن الله تعالى لا يفعل القبيح 153
  • أفعال العباد منهم ، والرد على المخالفين 156
  • القضآء والقدر 166
  • تعيين القدرية وذمهم 177
  • الهدى وتعيين معانيه 184
  • الضّلال وتبيين معانيه 187
  • الطّبع والختم 193
  • أنّ اللّه تعالى لا يعاقب أحدا إلا بذنبه ولا يثيبه إلا بعمله 197
  • الاستطاعة 210
  • الدلالة على أن الله تعالى مريد وكاره 218
  • أن الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضى الكفر 221
  • التكليف 227
  • حسن التكليف 229
  • شروط حسن التكليف 239
  • الألطاف 220
  • الاعتبار 243
  • العوض 253
  • الآجال 259
  • الأرزاق 269
  • الألطاف التي من أفعال العباد 274
  • جواز نسخ الشرآئع 275
  • النبوءآت 278
  • كرامات أهل البيت 286
  • نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله 298
  • القرآن كلام اللّه ووحيه 318
  • القرآن محدث 320
  • الإمامة 325
  • إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام 325
  • ذكر فضائل أمير المؤمنين ومناقبه عليه‌السلام 348
  • علي بن أبي طالب سيف الله المسلول 394
  • إمامة الحسن والحسين (ع) 406
  • ذكر فضآئلهما 418
  • مثالب معاوية وولده 413
  • شبه الحشوية التي يحتوجون بها لمعاوية والرد عليها 422
  • إثبات الإمامة بعد الحسنين في أبنآئهما (ع) 428
  • ذكر فضائلهم ومناقبهم 432
  • فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام 433
  • فضائل فاطمة الزهراء (ع) 447
  • فضائل السبطين الحسنين (ع) 457
  • فضائل الخمسة المعصومين (ع) 458
  • زين العابدين عليه‌السلام 459
  • الباقر عليه‌السلام 459
  • الإمام الأعظم زيد بن علي (ع) 459
  • الإمام محمد بن عبدالله (النفس الزكية) (ع) 461
  • الإمام الحسين بن علي الفخّي (ع) 462
  • الإمام علي بن موسى الرضا (ع) 463
  • الإمام القاسم بن ابراهيم (ع) 464
  • الإمام الهادي عليه‌السلام 465
  • الإمام الناصر الأطروش عليه‌السلام 466
  • الإمام المهدي المنتظر عليه‌السلام 468
  • ما ورد في جماعة معيّنون من أهل البيت (ع) 469
  • فضل أهل البيت (ع) على العموم 470
  • وجوب الصلاة عليهم 470
  • وجوب مودّتهم 471
  • وجوب إكرامهم وقضاء حوائجهم 472
  • حكم باغضهم وقاتلهم 473
  • اتباع مذهبهم وعصمة جماعتهم 475
  • وجوب نصرتهم والقيام معهم 476
  • زيارة قبورهم 477
  • مناقب أتباعهم وشيعتهم رضي الله عنهم 478
  • وجوب الأمر بالمعروف والنهي بالمنكر 487
  • الموالاة والمعاداة 493
  • الوعد والوعيد 500
  • الموت والفناء 500
  • عذاب القبر 501
  • النفخ في الصور 502
  • البعث 503
  • في تغيّر العالم وحشر الحيوانات 503
  • في السؤال وشهادة الشهود في المحشر 504
  • أخذ صحف الأعمال 507
  • الحساب 508
  • الميزان 509
  • ظهور العلامات في الوجوه 509
  • الانتصاف والمقاصة بين المخلوقين 509
  • الصراط 510
  • الشفاعة 511
  • الجنة والنار 514
  • التوبة 522
  • الأذان والإقامة 530
  • فروض الصلاة وسننها وهيئاتها 539
  • صلاة المرأة 555
  • سجود السهو 557
  • إمامة الصلاة 556
  • النهي عن الظلم 564
  • ما يجوز لدعاة الحق أن يفعلوه مع الظلمة 566
  • التحذير من الزناء والنهي عنه 568
  • التحذير من اللواط وما أشبهه 574
  • التحذير من شرب الخمر والمسكر 580
  • التحذير عن استعمال المغاني والنهي عن اللهو 585
  • الفهرس 596