

أبي!
أهدي هذه البضاعة
الزهيدة إلى روحك الطاهرة وردّاً لخدماتك الجليلة اللامتناهية ، ليبقى اسمك يذكر
بخير ويكون ذلك سكينة لك في جوار الرحمة الإلهية ، وكذلك علامة متواضعة على عدم
إنكار ولدك للجميل وعرفانه بالحق .
__________________
المقدمة
الأيمان بالمبدأ والمعاد
الأصلان المذكوران
من أهم أركان الاسلام ، وذلك لتعذر إنتظام أي مشروع أخلاقي وعملي بدونهما ، كما لا
يسع أي إنسان أن يسلك نهج الحق والعدل والورع والتقوى.
أمّا الإيمان
بالمبدأ فيعني أنّ الإنسان يرى نفسه بين يدي الله الذي يعلم بكافة نيّات الإنسان
وأفعاله وأعماله صغيرها وكبيرها وظاهرها وباطنها ، بل إنّه يعلم حركة أعين الآثمين
، ويسمع حسيس المتناجين ، وهو عليم بكل ما يخطر على قلوبنا ويقتدح في أذهاننا : (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَ عْيُنِ وَمَا
تُخْفِي الصُّدُورُ) .
إنّه قريب مَنّا ،
بل أقرب إلينا من حبل الوريد : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) .
ليس هنالك أي حجاب
يمكنه أن يحجبنا عنه ، وهو لا ينفك عنّا في أي
__________________
زمان ومكان : (وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَما كُنْتُمْ)
وأمّا الإيمان
بالمعاد ، فهو يعني الإيمان بمحكمة العدل الإلهي التي ليس لها أي شبه بمحاكم
الدنيا وهذا العالم الذي نعيش فيه ، فجميع الأعمال حاضرة لديه : (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً)
والسّجل يضم كافة
الأعمال بغض النظر عن صغرها وكبرها : (لَا يُغَادِرُ
صَغِيْرِةً وَلَاكَبِيرِةً الّا احْصَاهَا)
ونحن الذين ينبغي
علينا أن نقرأ ملّف أعمالنا ، كما علينا أن نقضي بشأن أنفسنا ونحكم فيها : (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ
الَيْومَ عَلَيْكَ حَسِيباً)
ونحن الذين سندلي
بشهاداتنا على أعمالنا بما في ذلك أعضاؤنا وجوارحنا التي ستشهد في تلك المحكمة : (وَشَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ
وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ)
فلا سبيل إلى
الإنكار ولا سبيل إلى الرجوع وتلافي ما فرط منّا ، وليس لنا طاقة على تحمل العذاب
الإلهي ، كما ليس من سبيل للهرب.
المحسنون
والصالحون والمقربون في جوار الحق ورحمة الله يتلذذون بالنعم التي لم ترها عين أو
تسمع بها أذن أو تخطر على قلب بشر ؛ بينما يتجرّع المسيئون والآثمون والظالمون غصص
جهنم التي تطلع على أفئدتهم فتحرقهم : (نَارُ اللهِ
الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعَ عَلَى الافْئِدَةِ)
نعم لو عشنا
الإيمان بالأصلين المذكورين ، بل لو كانت لأرواحنا أدنى
__________________
إلتفاتة إليهما
لكفانا ذلك وكان لنا معيناً في تربية أنفسنا وهدايتها ، وبخلافه إذا غاب الإيمان
بالمبدأ والمعاد فسوف لن يكون هناك أية شرعة أو منهاج يمكنه إصلاح الإنسان.
والكتاب الذي بين
يديك ـ والذي نهضت دار سرور للنشر بطبعه ـ هو جهد متواضع من أجل إحياء الأصل
الثاني يعني المعاد ، بلسان العصر وبصيغة إستدلالية سهلة الإدراك والفهم لجميع
المستويات ويتضمن أجوبة شافية لكافة الأسئلة وعلامات الاستفهام.
نأمل أن نعيش
السعي في بناء الذات وتهذيب النفس قبل حلول ذلك اليوم من خلال الإيمان بهذا الأصل
الاعتقادي المهم.
|
قم ـ الحوزة العلمية
ناصر مكارم الشيرازي
نيسان ١٩٩٧ م
|
ماذا نعلم عن عالم ما بعد الموت؟
١ ـ آفاق من أبحاث الكتاب
لقد كتب القليل
النادر للأسف الذي لا يتجاوز عدداً محدوداً في مجال المعاد وقيامة الأرواح
والأجساد والعالم الأخر بعد الموت رغم الأهميّة القصوى التي تحظى بها هذه
الموضوعات ، وعلى الرغم من تعطش أفراد الجنس البشري لمعرفة ماذا سيحدث بعد الموت ،
هل ستستمر الحياة وفي إطار أفق أوسع وأشمل أم لا؟
هل أنّ ظروف الحياة
في العالم الآخر هي ذاتها بالنسبة للحياة في هذا العالم ، أم حالنا بالنسبة إلى
حقائق ذلك العالم حال الجنين الذي لايمكنه أن يتصور أوضاع الحياة خارج رحم أمّه
فلا يدرك من مفاهيم الحياة وشروق الشمس وضياء القمر ومداعبة نسيم الربيع وجمال
البراعم والزهور وتلاطم الأمواج وعظمة عالم الخلق سوى أنّها قبضة من اللحم والدم.
فهل لجهودنا في
ظلّ هذه الحالة أن تكلل بالنجاح؟
هل حقّاً ستكون
أعمالنا السيئة والصالحة معنا في ذلك العالم ، وهي التي ستسوقنا إلى العذاب
والنقمة أو الراحة والنعمة؟
وهل يمكننا أن
نحيط خبراً بذلك العالم رغم عدم عودة أحد منه؟
هل الموت أليم؟ ما
الذي يشعر به الإنسان حين الموت؟
هل تبقى الروح مع
تعفن الجسد وتآكله؟
ما هي الروح؟ وكيف
يمكن التعرف عليها والإرتباط بها من وجهة النظر العلمية والفلسفية؟
هل حقّاً يمكن
عودة هذا الجسم إلى الحياة (المعاد الجسماني) رغم كونه في حالة تغيير على الدوام
وأحياناً تنتقل بعض ذراته إلى غيره من الأبدان على مرور الزمان؟!
هل للإيمان
بالمعاد آثار تربوية واجتماعية وفكرية وأخلاقية على روح الإنسان وجسمه؟
وبالتالي هل يمكن
البرهنة على المسائل المرتبطة بعالم ما بعد الموت على ضوء الأسس العلمية و....؟
هذه هي الأسئلة
والاستفسارات التي يتصدى الكتاب الحاضر لمناقشتها وبحثها.
وبالرغم من خضوع
مضامين هذا الكتاب للبحث والدرس لسنوات ، لكن وكما ذكرنا سابقاً فإنّ قلّة الأبحاث
في هذا المجال تجعل من الممكن تطرق العيوب والنقائص لهذا الكتاب ، ومن هنا نناشد العلماء
والمفكرين أن يبعثوا لنا بانتقاداتهم ومقترحاتهم ووجهات نظرهم لنستقبلها بكل رحابة
صدر ونستفيد منها في هذا الكتاب ولهم منّا جزيل الشكر والتقدير.
وأرى من الضروري
ألا يتسرع الأخوة القراء الأعزاء ـ وبسبب حداثة أغلب الأبحاث ـ في إصدار أحكامهم
النهائية قبل مطالعة جميع الكتاب. وقد تبدو مباحث هذا الكتاب شيئاً هامشياً
وأجنبياً عن واقع الحياة ، بالنسبة لُاولئك الذين لا تعني الحياة في مدرستهم
الفكرية سوى الخبز والماء
وأقصى ما يميز
مدرستهم شعار الخبز والماء للجميع ، مع ذلك وعلى فرض أننا نمتلك مثل هذه الرؤية
الضيقة والمحدودة ، فانّنا سنشاهد التأثير العميق الذي يلعبه الإيمان بعالم الآخرة
ـ الحياة بعد الموت ـ في سبغ هذه الحياة المادية بالهدوء والسكينة والدعة
والاستقرار وفي الواقع أنّ الإنسان من دون الإيمان بالمعاد ليس بقادر على تطبيق
العدالة الاجتماعية ، ولا السير في مراحل التكامل الإنساني والمعنوي والأخلاقي.
وهنا أرى ضرورة
الإشارة إلى أمرين بعد هذه المقدمة :
٢ ـ كبيرة الكاتب
لقد إبتدأت ولله
الحمد الكتابة في مجال العقائد الإسلامية بالاسلوب العصري في كتاب «خالق العالم»
وإنتهيت بالكتاب الحاضر ، وممّا لاشك فيه أنّ مثل هذه الكتابات أحدثت تطوراً
نوعياً في كيفية طرح العقائد الدينية ضمن إطار جديد يجعل من اليسير إدراكها من قبل
الجميع.
إلّاأنّي أراني
مضطراً ـ لبيان حقيقة قد يتصور القاري أنّها من العُجب والأنانية أو مجرّد بيان
حقيقة في هذا المجال ، وهي أنّ هذه السلسلة من الأبحاث التي خاضت في أهم المسائل
العقائدية الإسلامية والتي طرحت في أربعة كتب هي : ١ ـ خالق العالم (في أدلة
التوحيد ومناقشة المدارس المادية) ٢ ـ معرفة الله (في صفات الله ومسألة الجبر
والتفويض) ٣ ـ القادة العظماء (في ضرورة زعامة الأنبياء ومسألة الوحي وما شابه ذلك)
٤ ـ القرآن والنبي الخاتم (بشأن المضامين الإعجازية للقرآن ومعرفة نبي الإسلام)
كان لها بالغ الأثر في أوساطنا ولا سيما لدى شريحة الشباب الواعي ، وما كثرة طبع
هذه الكتب ونفاذها من الأسواق إلّادليل واضح على صحة الادعاء
المذكور ، أمّا
الدليل الآخر هو أنّ هذه الكتب أخذت تعتمد كمواد دراسية منهجية في بعض الأوساط
والمحافل الدينية والعلمية في داخل البلاد وخارجها ، وقد ترجمت بعضها إلى اللغات
العربية والاردية والانجليزية. ولعل نجاح ذلك يعود في الحقيقة إلى أربعة عناصر هي
: إجتناب المصطلحات الرنانة ، الصدق في الطرح ، البعد عن التعصب ، التجدد ، إلأأنّ
البعض يعتقد بأنّ هذه السلسلة من الكتب تنطوي على عيب كبير يقلل من قيمتها ؛ وإذا
لم تعرب عن دهشتك وذهولك ، فعيبها الكبير برأيهم يكمن في بعدها عن المصطلحات
والعبارات الطنانة الرنانة إلى جانب عدم تقعيد الجمل وايرادها بمنتهى السهولة
والبساطة وتقريب المواضيع الصعبة إلى أذهان العموم ؛ ولعلها هي الأمور التي تجعل
مستوى البحث واطئاً لاعالياً! ولا يسعني هنا إلّاالاعتراف بهذا «العيب» أو «الذنب»
وأعلم لو تركت العنان لقلمي ليسطر ما يشاء من المصطلحات المعقدة والعبارات المغلقة
لبدا البحث لذلك البعض أكثر علمية ، لكني ما فعلت ذلك عامداً وأعتقد أنّ هذه هي
رسالة الكاتب.
وبالطبع يمكن
القول بقوّة أنّه يمكن تعقيد كل بحث من أبحاث هذه السلسلة بحيث يصعب فهمها على
أغلب القراء الاعتياديين ، فيكتفون بالقول أنّها أبحاث علمية ذات مستوى رفيع
لايسعنا إدراكه.
والسؤال الذي
نطرحه هنا هل يمكن التضحية بالمصالح العامّة المتمثلة بإدراك الحقائق من أجل حصول
الكاتب على شخصية خيالية كاذبة؟! وهل يجيز الوجدان مثل هذا العمل لمن يملك القدرة
على البساطة في كتابة المواضيع؟!
على كل حال لقد
إعتدت على هذا الذنب ولا أراني أقدر لا سامح الله
على التخلي عن هذا
الإدمان والإصرار.
والغريب في الأمر
إنّنا نرى أغلب الكتب الجامعية وغيرها التي يمكن كتابة مطالبها بعبارات أسهل وأوضح
دون أن يتطرق إليها أي خلل ونقص بغية الاقتصاد في وقت وعمر الباحثين وعمومية نفعها
وثمرتها.
فلا يمكن إتهام
جميع كتّابها ومؤلفيها بعدم القدرة على البساطة في التدوين.
وبناءاً على هذا
لابدّ من القول بأنّ البعض قد لايرغب بالقيام بهذا العمل ، ولعل ذلك يؤدّي إلى
فقدان الكتاب لقيمته العلمية لو اختصرت عباراته المغلقة! فلابدّ من الخروج على
النظام الطبيعي لترتيب المطالب وتقديم وتأخير العبارات والاستفادة من المفردات
والألفاظ الغريبة غير المألوفة والطارئة أحياناً لتصبح أعظم علمية! ومازال ذلك
يشكل أحد آلام مجتمعنا.
٣ ـ شهادة التأريخ
المطلب الآخر الذي
ضرورة ذكره للتأريخ هو أنّ أحد الأصدقاء أخبرني ذات يوم قائلاً : كنت منهمكاً
بترجمة كتاب عربي بشأن معرفة الله إلى اللغة الفارسية ، فشعرت بأنّ مطالب الكتاب
لم تكن غريبة عليَّ ، فلما تأملتها وتمعنت النظر فيها وجدت أنّ أغلب أبحاثه هي
عينا ذات أبحاث كتاب «خالق العالم» الذي ألفته ، فقد تبيّن أنّ الكاتب المحترم
المذكور قد ترجم المطالب والأبحاث المذكورة دون ذكره لمصادر كتاب «خالق العالم»
وأنّي الآن أقوم مرّة أخرى بإعادته من العربية إلى الفارسية!
فقلت بالتالي لا
مانع لديّ نشر هذه الترجمة طالما كانت خطوة في سبيل معرفة الله وخدمة للعلم ، ولكن
على الأقل كي لا اتّهم بأنّي أقتبست منه المطالب دون ذكر المصادر والمراجع فاكتب
هذه القضية في مقدمة الكتاب!
ثم رأيت أنّه لم
يقتصر الأمر في الاستفادة من هذه الأبحاث على ذلك الكاتب العربي المحترم ، بل قام
بعض الكتّاب الآخرين بالإتيان بذات العبارات أو بعض العبارات الأخرى في كتبهم دون
أدنى إشارة من قريب أو بعيد إلى المصادر.
لعل هذه القضية
لاتبدو بتلك الأهميّة ولكن أليس من الأفضل أن يستفرغ الكتّاب الأعزاء وسعهم
ويستفيدوا من طاقاتهم في إبداعات جديدة بدلاً من مصادرة جهود الآخرين والاستعانة
بمطالبهم ، فيعمل كل كاتب على ضوء إمكاناته المتاحة من أجل حلّ بعض المعضلات
والمشكلات ، كما يسلط الضوء على القضايا التي لم يتطرق لها الآخرون ، وليت شعري
ماذا يضر الكاتب لو لم يتحفظ عن ذكر المصادر والمراجع ويعترف بحقوق الآخرين؟!
طبعاً لست أنكر
أنّ لكل مفكر وعالم ، الحق في الاستفادة من أفكار الآخرين وإبداعاتهم ، ولكن بشرط
مراعاة الأمانة والإشارة إلى مصادر الكتاب والجهود التي بذلت من أجله إن تعرض لنقل
مطالبه دون أية إضافة أو إبداع أو الإتيان بها بأسلوب عصري جديد يجعلها تختلف عن
سابقها.
نسأل الله أن
يوفقنا جميعاً لبذل الجهود من أجل حفظ دينه وخدمة خلقه.
ولا يسعني هنا
إلّاأن أناشد ثانية كافة الأخوة أن يتحفونا بما لديهم من توجيهات وإرشادات بهدف
تكامل العمل وسد ثغراته.
هل الموت هو نهاية الحياة أم بداية حياة جديدة؟
عادة ما يعيش
الناس حياتهم في الزمان الحاضر ويكتفون بما هم عليه الآن ، والأفراد الذين يعيشون
الزمان الماضي ليسوا قلائل أيضاً ، وهذه الطائفة تنهمك على الدوام في التعامل مع
النماذج الحاوية لأحداث الماضي الحلوة والمريرة بعد إنتشالها من تحت الأنقاض ،
والواقع أنّهم يقضون أعمارهم في نبش قبور الماضين.
فهم لا ينفكون عن
أمرين ؛ إمّا ذرف الدموع على الحوادث الأليمة ، وإمّا التغني ببطولات وأمجاد عظمائهم
الذين دفنوا تحت التراب! نعم هناك من يفكر في المستقبل ولّا سيما المستقبل البعيد
وهم قليلون ، وهنا يطرح هذا السؤال : ما السبب الذي يكمن وراء التحفظ عن التعرض
لحوادث المستقبل والذي يتخذ أحياناً طابع الهروب؟
ترى أيعزى ذلك إلى
طبيعة المستقبل الخارجة عن دائرة الحس ، والناس أبناء الحس فهم يألفون هذه الأم
فقط؟
أم يعزى ذلك إلى
هالة من الغموض والإبهام التي تغطي المستقبل فتجعله يكتسي حلّة مخيفة ؛ الأمر الذي
يثير الهلع لدى من يقترب منه؟ أم أنّ المستقبل شئنا أم أبينا مقرون بالمشيب والعجز
والكهولة وبالتالي
الموت والعدم ،
وهي الأمور التي يرتعش منها الفرد ويهرب منها بكل كيانه.
ولكن على كل حال
لامفر لنا من التعامل مع المستقبل رغم الخوف والهلع والإبتعاد والهرب ، ولا شك أنّ
هذا المستقبل هو الذي يختزن مصيرنا وعاقبة أمرنا ، فالماضي ولّى وإندثر والحاضر
سينتهى كلمح بالبصر إلى الماضي ، وعليه فلا يبقى سوى المستقبل ؛ المستقبل البعيد
الذي تكتنفه الأسرار والألغاز والذي ينتظرنا فنسير نحوه دون تريث ، فلم لا ندركه
ونفكر فيه؟
الموت ليس بهذا الرعب
إنّ الناس ورغم كل
اختلافاتهم وتنوع مشاربهم الفكرية والعقائدية سيبلغون شاءوا أم أبوا وكيفما تحركوا
وإنطلقوا نقطة مشتركة تتمثل بالموت وإختتام هذه الحياة.
فنقطة إنطلاقة
الحياة غنية كانت أم فقيرة ، وفي وسط الجهل كانت أم العلم ، ومقرونة بالسعادة أم
الشقاء سيأتي عليها الموت بغتة فيجعل الجميع يعيشون حالة واحدة تسودهم فيها
المساواة التامة المطلقة التي يعجز الكل عن الإتيان بها.
ولهذا يمكن تأمل
مقدار العمر وطول الحياة ، بينما لايمكن مناقشة الموت ، حتى لو استخرجنا ماء
الحياة من الظلمات واحتينا جرعة منه ، فإنّ الحياة الأبدية متعذرة محالة ، لأنّ
طول العمر لايعني الأبدية قط.
وعلى هذا الأساس
يتفق جميع الأفراد على الإيمان بالموت رغم الفوارق الفكرية التي تسودهم ، ولعل
التعبير عن الموت باليقين على لسان آيتين من الآيات القرآنية هو إشارة إلى هذه
الحقيقة ، فقد صرحت إحدى
هاتين الآيتين
بالقول : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ
حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقينُ)
وصرحت الآية
الأخرى على لسان الآثمين : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَومِ الدِّينِ* حَتَّى اتَيْنَا الْيَقِينُ)
ومعنى ذلك لقاء
المحسنين والآثمين في تلك اللحظة القطعية واليقينة.
الشعور الإنساني حين الموت
السؤال الذي يطرح
نفسه هنا : بم يشعر الإنسان حين الموت؟
لا أحد يعرف
الشعور الذي يخالج الإنسان حين الموت ، حيث لم يعد أحد من هناك ليشرح للآخرين
شعوره في تلك اللحظة الحساسة.
فهل مفارقة هذه
الحياة كقلع السن اثر حالة التخدير ودون أي ألم ومعاناة ، أم يعاني الإنسان حينها
أقسى أنواع العذاب والشدّة بحيث يعجز الإنسان عن وصف تلك الحالة؟
أم القضية تختلف
باختلاف روحيات الأفراد وأخلاقياتهم وصفاتهم وأعمالهم؟ فهو سهل يسير على البعض
كاستشمام رائحة الوردة ، بينما ثقيل وصعب على البعض الآخر كحمل ثقل وزنه الجبل.
ولعل هناك شعورا
آخر يخالج الإنسان لحظة الموت لايسعه فكرنا وذهننا ولايمكننا إدراكه في ظل ظروف هذه
الحياة.
فلو قدر لوليد خرج
من رحم أمّه العودة الثانية إلى توأمه الآخر في الرحم ، فهل يسعه شرح ما شاهده
خارج رحم أمّه منذ الولادة حتى عودته ثانية إلى بطنها؟
__________________
أليس هذا الأمر
أشبه شيئاً بفرد أخرس يروم وصف رؤياه وما شاهده في المنام لآخر مكفوف البصر؟!
عبثية الهرب من الواقع
إنّ أسوأ سبل
مواجهة الحقائق المريرة يتمثل بالتهرب من إدراكها وإستيعابها أو إيداعها بوتقة
النسيان.
حقّاً ليس هناك
خفة عقلية تفوق هذه القضية بأن ننسى شيئاً لاينسانا أبداً ، أو نتوقع إعادة النظر
بشأن مطلب حتمي لايمكن إجتنابه بأي شكل من الأشكال.
لماذا لا نفكر
بالموت والحوادث التي تعقبه ومصير الروح بعد مفارقتها لهذه الحياة ومئات القضايا
الأخرى ذات الصلة بالموت؟ والحال وقوع الموت في المستقبل القريب بالنسبة لنا يعد
من الحوادث القطعية الحتمية التي لا غبار عليها ولا نقاش فيها.
إنّنا حين نتصفح
التاريخ نرى الموت قد صرع أقوى الأفراد وأقدرهم من قبيل الاسكندر وجنكيز خان
ونابليون ومن كان على شاكلتهم ، كما قضى على أعظم العلماء والمفكرين وأقوى الأدباء
والشعراء والكتّاب ، فقد ركع الجميع للموت واستسلموا له ، وعليه فليس من المعقول
أن ننساه أو نخشاه ونخافه عبثاً ، فقد ورد عن أميرالمؤمنين علي عليهالسلام أنّه قال (وَكَيْفَ
غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَطَمَعُكُمْ فِيْمَنْ لَيْسَ
يُمْهِلُكُمْ)
فما أحرانا أن
نتقدم إلى الأمام بكل شجاعة وبسالة وواقعية لنقف على الأمور المتعلقة بنهاية
الحياة ونحصل على الأجوبة الشافية والوافية
__________________
المنطقية بخصوص
الألغاز والأسرار التي تكتنف الموت.
رؤيتان لمصير الإنسان
هل لحظة الموت هي
لحظة وداع كل شيء؟ لحظة نهاية الحياة؟ لحظة الغربة الأبدية والإنفصال المطلق عن
هذا العالم ، وتحلل وعودة المواد المؤلفة لبدن الإنسان إلى عالم الطبيعة؟
أم هي لحظة
الولادة الجديدة؟
أم هي خروج ثاني
من رحم الدنيا إلى عالم واسع وشامل آخر؟
أم تحطيم قضبان
سجن رهيب؟
أم التحرر من قفص
ضيق وصغير وإفتتاح نافذة نحو عالم روحي واسع بعيد عن الزخارف المادية لهذا العالم
ومجانب للهم والغم والألم والمعاناة والعداوة والكذب والظلم والجور والإجحاف وضيق
النظر والحقد والضغينة والحرب والقتال ، وبالتالي كل المنغصات والكدورات التي
ينطوي عليها هذا العالم؟
بغض النظر عن مدعى
صحة الرؤيتين المذكورتين وإقترابها من الحقيقة والمنطق ـ وبالطبع سنتحدث في
الأبحاث القادمة باسهاب عن هذا الموضوع ـ فإنّ الرؤية الاولى تبدو مظلمة ومخيفة
وأليمة والثانية جميلة ورائعة وهادئة.
فصورة الموت على
ضوء النظرة الاولى تجعل شربت الحياة ـ مهما كانت الحياة مرفهة ـ علقماً مريراً على
الإنسان أو تضطره للخضوع لأي شيء والاستسلام لأي ظروف من أجل الفرار من الموت.
والقضية على العكس
تماماً بالنسبة للنظرة الثانية التي يسعها جعل
شربت الحياة عذباً
وشربت الشهادة في سبيل الحق والأهداف السامية أعظم عذوبة وحلاوة ، وتلقن الإنسان
بعدم الاستسلام لأي شيء والانحناء لأي شرط بسبب هذه الحياة ، بل عليه أن يكون
حرّاً في دنياه ولايخشى الموت المشرف! والخلاصة فإنّ الموت ليس مرعباً دائماً ،
فقد تكون هذه الحياة أعظم منه رعباً أحياناً.
* * *
لماذا نخاف من الموت؟
هنالك فردان يخافان
من الموت ؛ أحدهما من يفسّره بمعنى العدم والفناء المطلق ، والآخر من كانت صحيفة
أعماله سوداء ومظلمة ، أمّا من لم يكن من هؤلاء ولا اولئك فما مبرر خشيته من الموت
، أفهناك شيء يفقده من جراء الموت؟
مشهورة هي حكاية «ماء
الحياة» والتي تتناقل بسرعة فائقة حيث أقدم الإنسان منذ قديم الأيام بالبحث عن شيء
يسمى «إكسير الشباب» وقد نمقوه بالأساطير والخرافات وعقدوا عليه الآمال.
ولعل القضية تفيد
حقيقة تكمن في خشية الإنسان من الموت وحبّه لمواصلة الحياة والهروب من نهايتها ،
على غرار إسطورة «الكيمياء» تلك المادة الكيميائية الخفية التي لو أُضيفت على
النحاس الذي لا قيمة له جعلته ذهباً ذا قيمة باهضة ، والتي تفيد خوف الإنسان من
الفقر الاقتصادي ومدى سعيه للحصول على الثروة.
وإسطورة إكسير
الشباب هي الأخرى تعكس هلع الكهولة والضعف والتآكل وبالتالي الموت ونهاية الحياة.
إنّ أغلب الناس
يخشون الموت ويهربون من مظاهره ويشمأزون من إسم المقبرة ويسعون جاهدين لاطماس
الماهية الأصلية للقبور من خلال تزيينها وإضفاء بعض الجمالية عليها ، حتى أنّهم
يلجأون إلى تحذير الأفراد من بعض الأشياء الخطرة ـ غير الخطرة التي لايريدون
للآخرين أن يقتربوا منها أو يخربوها من خلال الكتابة عليها «خطر الموت» ويرسمون
عليها صورة لعظمين من عظام ميت في حالة علامة في خلف جمجمة جوفاء خالية من الروح
تطالع الإنسان.
وقد حفلت النتاجات
الأدبية لمختلف أصقاع الدنيا بما يفيد خوف الإنسان من الموت ، فبعض العبارات من
قبيل «هيولا الموت» ، «شبح الموت» ، «صفعة الموت» و«مخالب الموت» وما إلى ذلك من
التعبيرات التي تدل على مدى القلق والهلع والضطراب.
كما يؤيد ذلك
القصة المعروفة بشأن رؤيا هارون الرشيد ـ الذي رأى في المنام سقوط جميع أسنانه ـ فعبّر
له شخصان تلك الرؤيا قال الأول : يموت جميع أفراد أهلك قبلك. وقال الثاني : إنّ
عمر الخليفة سيكون أطول من جميع قرابته ، فما كان ردّ فعل هارون الرشيد إلّاأن وهب
الثاني مئة دينار ، بينما جلد الأول مئة جلدة ، فهذا دليل آخر على خشية الإنسان من
الموت. وذلك لأنّ الفردين عبّرا عن حقيقة واحدة ، إلّاأنّ أحدهما ذكر الموت
بالنسبة لقرابة الخليفة فكان جزاؤه مئة جلدة ، وعبّر الآخر عن ذلك الموت بطول عمر
الخليفة فتناول مئة دينار!.
ناهيك عن كل ما
سبق فقد إعتاد الناس بعض الأمثال والعبارات التي تكشف عن مدى خشيتهم من الموت ،
فإذا أرادوا مثلاً تشبيه فرد بآخر ميت في قضية إيجابية خاطبه قائلاً «إسم الله
عليك» أو «أبعد الله عنك» ذلك ، أو
فليخرس لساني
سيصبح الأمر بعدك كذا وكذا ، أو ترتيب الأثر على كل شيء يبعد احتمال الموت أو يكون
مؤثراً في طول العمر ، وإن بدا خرافة تماماً ولا أساس له وكذلك أدعيتهم التي تتضمن
كلمة الدوام والخلود من قبيل : دام عمره ، دام مجده ، دامت بركاته ، خلد الله ملكه
، أطال الله عمره وكل عام وأنتم بخير و...!
والتي تشكل كل
واحدة منها دلالة على هذه الحقيقة.
طبعاً لا يمكننا
إنكار وجود بعض الأفراد النادرين الذي ليس لهم أدنى خشية من الموت ، حتى أنّهم
يسارعون لاستقباله ، إلّاأنّهم قلائل ، كما أنّ العدد الحقيقي أقل بكثير من اولئك
الذين يزعمون ذلك.
ما مصدر هذا الخوف والقلق من الموت؟
عادة ما يخشى
الإنسان «الزوال» و«العدم».
يخشى «الفقر» ،
فهو زوال الثروة.
يخشى «المرض»
لأنّه زوال السلامة والعافية.
يخشى «الظلمة» حيث
ليس فيها نور.
يخشى «الصحراء»
وقد يخشى «الدار الخالية» لأنّه لا أحد فيها.
بل يخشى الميت حيث
لاروح فيه ، والحال لايخشى ذلك الشخص حين كان على قيد الحياة والروح فيه! وبناءاً
على ما تقدم فإن خشي الإنسان الموت فذلك لأنّه يراه «فناءاً مطلقاً» وعدماً لكل
شيء.
وإن خشي الزلزلة
والصاعقة والحيوان المتوحش ، فذلك لأنّها تهدد وجوده بالفناء والعدم.
طبعاً لايبدو هذا
الأمر غريباً من وجهة النظر الفلسفية ، لأنّ الإنسان «وجود» والوجود ينسجم مع
الوجود الآخر ، بينما ليست له أية سنخية وتناسب مع العدم ، فما عليه إلّاالفرار
والهرب منه ، لم لايهرب؟
إلّا أنّ هناك
قضية مهمّة هنا لاينبغي الغفلة عنها وهي : كل هذه الأمور صحيحة إذا فسّر الموت
بمعنى الفناء والعدم ونهاية كل شيء ، والحق لو فسّر كذلك فليس هناك شيء أعظم رهبة
منه ، وكل ما قيل بخصوص هيولا الموت هو عين الصواب.
أمّا إن إعتبرنا
الموت ـ كولادة الجنين من بطن أمّه ـ ولادة أخرى وآمنا بإنّ اجتيازنا لهذا الممر
الصعب يعني وضع أقدامنا في عالم أوسع وأشمل وأكمل من هذا العالم وهو مليىء بأنواع
النعم التي يصعب علينا تصورها في ظل الظروف الراهنة والحياة الفعلية.
وخلاصة القول فإن
اعتبرنا الموت أكمل وأسمى من هذه الحياة ، والتي لا تعد سوى سجناً إن قارناها
بالحياة في ذلك العالم ، فمن الطبيعي سوف لن تعد للموت مثل هذه المعاني التي تشير
الخوف والهلع والنقرة لدى النفس ، وستكون له معاني جمالية رائعة قريبة من القلب
محببة إلى النفس. لأنّه إن سلب من الإنسان جسمه زوده بالأجنحة ليحلق بها في سماء
الأرواح الشفافة اللطيفة التي تفوق التصور والخيال والخالية من كافة أشكال
الإقتتال والتراع والعداء والهموم والغموم.
وهنا نتذكر ذلك
الشاعر الذي له مثل هذه الأفكار وهو يأمر حكيماً عالماً بلغة الشعر :
فلتمت أيّها
الحكيم من مثل هذه الحياة ، فالموت من هذه الحياة لايعني سوى البقاء ، ولتحلق
بأجنحتك كالطيور فتطوي تلك المسيرة
الكاملة ، ولا
تخشى من الحياة التي تنتظرك فالخشية لابدّ أن تكون من هذه الحياة الضيقة المحدودة.
فمن البديهي أنّ
من ينظر هكذا إلى مسألة الموت لن يقول أبداً أنّ الموت حالة عبثية لا طائل من
وراءه أو هو إنتحار وقتل للنفس ، بل يراه حقيقة سامية يحث الخطى من أجل معانقتها ،
وما أجمله إن كان وسيلة لبلوغ الأهداف المقدسة والسامية ، وخلاص الإنسان من الذلة
والخنوع والبؤس والشقاء.
* * *
العنصر الآخر لخشية الموت
هناك طائفة أخرى
تخشى الموت لا لأنّه يعني الفناء والعدم المطلق ، بل لأنّ صحيفة أعمالهم بلغت درجة
من الاسوداد والظلمة بحيث يشاهدون بأم أعينهم ما سيترتب عليها من جزاء أليم وعذاب
شديد سيطالهم بعد الموت ، أو على الأقل أنّهم يحتملون ذلك.
فهؤلاء أيضا محقون
في خشيتهم الموت ، لأنّهم بمثابة المجرم الذي اقتيد من قضبان السجن وحمل إلى
المقصلة ، طبعاً الحرية والخلاص مطلوب ، لكن لا التحرر من السجن نحو المشقة! فحرية
هؤلاء من سجن البدن أو سجن الدنيا يتزامن وحركتهم نحو المقصلة ، «المقصلة» لا
بمعنى الإعدام بل بمعنى العذاب الأسوأ منه.
ولكن ما بال اولئك
الذين يخشون الموت ولايرونه فناءاً وعدماً ، كما ليس لهم من صحيفة أعمال سوداء؟
لِمَ يرهبون الموت في سبيل تحقيق الأهداف المقدسة؟ لماذا؟ ...
جذور المعاد في أعماق الفطرة
تنادينا إلهامات
الفطرة : الموت ليس نهاية الحياة ، وبالطبع لاتقتصر هذه الإلهامات علينا ، بل تفيد
كافة الشواهد الموجودة أنّه كان يؤمن بها كافة الأقوام بما فيها الإنسان البدائي
الذي عاش في عصور ما قبل التأريخ.
يقال : هناك
ذبذبات مجهولة ـ تشبه الأمواج الراديوية ـ تبث دائماً من أعماق السموات وجوف
المجرّات التي لها بالغ الأثر على الأجهزة المستقبلة.
لا أحد يعلم من
أين تنطلق هذه الأمواج وما مصدرها الرئيسي؟ هل هناك حضارات في ما وراء منظومتنا
الشمسية أكثر تطوراً من حضارة أهل الأرض بحيث يرسل سكنتها برسائلهم إلى العالم
بواسطة هذه الأمواج؟ أم هناك مصدر آخر؟ لا نعلم.
والأعجب من ذلك
إننا نستقبل بانتظام من أعماقنا وباطن أرواحنا رسائل مجهولة ولا نعرف مصادرها ،
فنرانا مضطرين للاصطلاح عليها بالفطرة ، وكل ما نعلمه إنّنا نحصل على إلهامات
مختلفة ترشدنا إلى الخطوط الأصلية حين نقف على مفترق طرق.
مثلاً : تقع حادثة
مفاجئة قريب منّا أو في أبعد نقطة من العالم ، فتدفع
بنا هذه القوة
الباطنية الخفية باتجاه الحصول على أخبار تلك الحادثة ، ثم نرانا نجهد أنفسنا في
هذا المجال دون أن نعلم الدافع والسبب الذي يقف وراء كل هذا الشوق واللهفة لرؤية
تلك الحادثة والوقوف على تفاصيلها التي قد لايكون لها أدنى إرتباط بأوضاعنا ، فلا
نستقر ولايهدأ لنا بال مالم نفهم تلك الحادثة.
ترافقنا هذه
الحالة منذ اللحضات الأولى للعمر ولا تنفصل عنّا حتى آخر العمر ، ثم أطلقوا على
ذلك فيما بعد اسم «حس حبّ الإطلاع» وقالوا إنّه جزء من فطرة الإنسان.
وكثيرة هي نظائر
هذه الغرائز والإلهامات الفطرية ، إلّاأنّ أحداً لا يسعه أن يزودنا بايضاحات أكثر
بشأن مصدر هذه الإلهامات الفطرية ، ولكن على كل حال ليس لدينا أي شك في أصل وجودها
ودورها في إرشادنا وتوجيهنا التكويني.
* * *
والإيمان بالحياة
بعد الموت واحد من هذه «الإلهامات الفطرية» : لدينا عدّة شواهد تاريخية تفيد عمق
إيمان البشرية على مدى التأريخ ، بل في العصور التي ما قبل التأريخ بالحياة الآخرة
بعد الموت ، والدليل على ذلك الآثار المختلفة التي خلفها قدماء الناس وكيفية بناء
قبورهم والأشياء التي كانوا يدفنونها في التراب مع موتاهم ـ كما سيأتي شرح ذلك
بالتفصيل ـ والتي تفيد إيمان الإنسان بحياة ما بعد الموت على ضوء إلهاماته
الباطنية ، حيث لايمكن التصديق بأنّ مسألة ليست بفطرية وقد تمكنت من الحفاظ على
قوتها ورسوخها إلى هذه الدرجة طيلة التأريخ ولما قبله إلى أبعد العصور والأزمنة
حتى بقيت عالقة في الأذهان ، فمثل هذه المسائل
المتجذرة التي لاتنفصل
عن البشر قط ، قطعاً لها نواة غريزية وفطرية ، ومن هناك كانت دائمية خالدة.
وقد صرّح عالم
الاجتماع المعروف «صاموئيل كونيغ» قائلاً : تفيد الآثار التي عثر عليها العلماء في
الحفريات أنّ أسلاف الإنسان المعاصر أي إنسان النياندرتال كانت لهم ديانة بدليل
أنّهم كانوا يدفنون أمواتهم بطريقة خاصة ، كما كانوا يدفنون إلى جانبهم وسائلهم
وأدواتهم ، وهكذا يعلنون إيمانهم بوجود عالم آخر بعد الموت.
نعلم أنّ إنسان
النياندرتال عاش قبل عشرات آلاف السنين ، حين لم يخترع الخط حتى ذلك الوقت ولم
يبدأ التاريخ البشري ، صحيح أن لا جدوى من هذه الوسائل والأدوات في حياة ما بعد
الموت مهما كانت ، إلّاأنّ المراد هو أنّ هذه الأعمال تشكل شهادة على إيمان أسلاف
الإنسان المعاصر بحياة ما بعد الموت.
ويبدو أنّ
المصريين كانوا قد سبقوا سائر الأقوام في هذا المجال ، إذ يقول المؤرخ المعروف «آلبرماله»
من بين تواريخ الأقوام يمتاز تاريخ الأقوام المصرية بأنّه أقدم الجميع ، حيث يذكر
حوادث وقعت لما قبل أكثر من خمسة آلاف سنة.
فالتاريخ المصري
العريق يشير إلى أنّ الأقوام المصرية كانت راسخة الإعتقاد بحياة ما بعد الموت
ويرون لها أهميّة خاصة ، وإن لم تسلم عقائدهم ـ وكسائر الأقوام ـ من الأباطيل
والخرافات.
ويسرد المؤرخ
المذكور قضية رائعة تنطوي على عدّة فوائد ، فقد ذكر أنّ
__________________
المصريين يعتقدون
بأنّ روح الميت تفارق القبر وتحضر عند الإله الكبير «آزيريس» ... فان قادوه إلى «أحكم
الحاكمين» آزيريس يمتحن قلبه في ميزان الحقيقة ، فإن كانت روحه طاهرة في الحساب
ذهب إلى المزرعة (والبستان) الذي لايتصور مدى بركته ...
كما كانوا يضعون
إلى جوار الموتى كتاباً يرشدهم في سفرهم إلى تلك الدنيا ، ويحتوي الكتاب على
عبارات يجب أن يردها الميت عند آزيريس لتبرأ ذمته ويطهر :
لم أغش الناس ...
لم أوذي أية أرملة
...
لم أكذب في
المحكمة ...
لم أرتكب التزوير.
لم أفرض على عامل
أكثر من طاقته في العمل.
لم أتكاسل في
القيام بوظيفتي.
لم أنتهك المحرمات.
لم أسع بعبد لدى
سيده.
لم أقطع خبز أحد.
لم أبك أحداً.
لم أقتل أحداً.
لم أسرق أطعمة
الموتى ، ولا أشرطتهم.
__________________
لم أغصب أرض أحد.
لم آخذ لبن
الأطفال الرضع.
لم أقطع أي نهر.
أنا طاهر ، طاهر
...
أيّها القضاة!
اليوم يوم الحساب فخذوا هذا المرحوم فهو لم يذنب ولم يكذب. وهو لايعرف السوء ولم
يجانب الحق والإنصاف في حياته وقد أتى بما يرضي الله ، لقد كسى العريان وذبح لله
وأطعم الأموات ، فمه طاهر ويداه طاهرتان.
على كل حال فالذي
يفيده التاريخ هو حالة التدين بصورة عامّة والإعتقاد الراسخ بحياة ما بعد الموت
لدى سائر الحضارات والمدنيات الأخرى والتي تزامنت مع الحضارة المصرية أو بعدها من
قبيل الحضارة الكلدانية والآشورية واليونانية والإيرانية.
والأهميّة التي
حظى بها هذا الموضوع في الأديان العالمية الكبرى ممّا لاغبار عليه فلا يحتاج إلى
أدنى توضيح ، وسنتعرف على نماذج ذلك في أبحاث القادمة.
هذا وقد نقل العالم
الاسلامي المعروف كاتب «روح الدين الإسلامي» عبارة عن مجلة «ريدرزد ايجست» نوفمبر
عام ١٩٧٥ عن «نورمان فن سنت بيل» أنّه قال : الحقيقة هي أنّ النشاط الغريزي بوجود
عالم آخر بعد الموت يعدّ من الأدلة المحكمة على هذه المسألة ، لأنّ الله إذا أراد
إقناع الإنسان بحقيقة غرسها في أرض غرائزه وفطرته ، فالاعتقاد بحياة خالدة في
العالم الآخر هو نوع من الشعور العام في باطن وجود كافة الأفراد بحيث لايمكن النظر
إليه بازدراء.
حقّاً أنّ الشيء
الذي نسير إليه بهذه السرعة إنّما هو ردّ فعل لجذور أساسية داخل وجودنا ، إنّنا لا
نؤمن بمثل هذه الحقائق من خلال الأدلة المادية ، بل عن طريق الإلهام والإدراك
الباطني ، فالإلهام يعتبر دائماً العامل الوحيد المهم لإدراك الحقائق ، وحين يبلغ
العلماء حقيقة علمية تحتاج إلى إثبات ، فانّهم يدركون تلك الحقيقة بوحي من الإلهام
على حدّ تعبير «برجسون». والإعتقاد بالحياة بعد الموت من هذه الإلهامات الفطرية.
المشي في المتاهات
رغم أنّ الإلهامات
الفطرية تساعد الإنسان في كشف أسرار الحياة الآخرة بعد الموت ، إلّاأنّها مالم
توجه بصورة صحيحة فانّها تصبح هالة من الخرافات والأساطير الغريبة ، ألا ترى إلى
الكهنة والشعابذة كيف كانوا يدفنون الفتيات الجميلات إلى جوار الملوك والسلاطين في
أفريقيا والمكسييك. يبدو أنّ هناك بوناً شاسعاً بين الدنيا المعاصرة وتلك التي
كانت قبل ستة آلاف سنة.
لم يكن هناك من
وجود لهذه الأدوات والوسائل الفلزية المتنوعة ، حيث كانت تقتصر حياة الإنسان على
الحجر والخشب والعظام وجلود الحيوانات ، وما أصعب العيش في ظل هذه الوسائل فقط ،
ولكن مع ذلك كانت تلك الحياة مقارنة بما نحن عليه أكثر هدوءاً وإستقراراً ، فلم
يكن هناك صوت للسيارات الفخمة ولا ضوضاء وصخب لانفجار القنابل ولا زئير للطائرات
التي تكسر حاجز الصوت ، فقد كانت حياة ـ كالموت ـ غاية في البساطة دون أي تعقيد!
__________________
بالمناسبة لا ندري
ما هو الشعور الذي كان يسود الإنسان آنذاك تجاه الحياة والموت ، فلو كان يحسن
الكتابة لعله دوّن جانباً من مشاعره وخلفها لأبنائه المعاصرين ممن يدفعهم حبّ
الاطلاع للوقوف على هذا الأمر ، غير أنّ المؤسف له لم يحصل هذا العمل حيث لم يكن
الخط والكتابة قد أخترعت بعد ، مع ذلك فإنّ والكهوف وأعماق الأرض قد حفظت كنوزاً
قيّمة من آثار حياة الناس آنذاك ، وكما أشرنا في البحث السابق فإنّ هذه الآثار ـ ولاسيّما
كيفية القبور التي خلفّوها ـ تفيد أنّهم كانوا يؤمنون بالحياة ما بعد الموت ،
ولهذا السبب كانوا يضعون وسائل موتاهم وأدواتهم معهم في التراب ، على أمل
الاستفادة منها بعد العودة للحياة ثانية.
أمّا إعتقاد
الإنسان بالقيامة بعد دخوله عصر التأريخ (عصر ظهور الخط وإكتشاف الفلزات فما
لاتتطرق إليه شائبة وعلى درجة من الوضوح لا إبهام فيه وقد ثبت ذلك في جبين تاريخ
الامم والشعوب.
وكل ذلك ـ كما
ذكرنا آنفا ـ يفيد إمتزاج هذه العقيدة بالفطرة البشرية.
* * *
الانحراف عن الفطرة والتخبط في المتاهات
عادة ما تبعث «الإلهامات
الفطرية» الإنسان دائماً على شكل دافع تلقائي باتجاه مختلف المسائل التي تحتاجها
روحه وجسمه ، ولو لم تكن هذه الإلهامات فطرية ، وأنّنا لا نكشف الأشياء إلّامن
خلال الإختبار والتجربة والعقل لتعقدت أعمالنا بهذا المجال.
فالتنسيق والتعاون
بين هذين الجهازين (الإلهامات الفطرية والكشوفات العقلية والتجربية) أدّى إلى هذه
السرعة التي بلغها الإنسان في
مسيرته نحو
المدنية والكمال.
ولكن لاينبغي
الغفلة عن أنّ الاستنتاج الصحيح من هذه الإلهامات الفطرية إنّما يتوقف دائماً على
نمط تفكير الإنسان وما يدور في ذهنه ، يعني لو كان هناك بعض الأفراد الذين يعيشون
الضعف والعجز من حيث التفكير والعلم فإنّ إلهاماتهم الفطرية ستبدو على هيئة منحطة
وناقصة وأحياناً مقلوبة.
بعبارة أخرى :
لابدّ من سقي شجرة الإلهامات الفطرية بماء العلم على الدوام لتؤتي أكلها كل حين ،
وإلّافإن تلك الإلهامات ستكون مشوبة بأنواع الخرافات والأباطيل ، وقد تعطي أحياناً
نتائج معكوسة.
والمثال الواضع
الذي يمكننا الاستشهاد به في هذا الموضع هو «الغريزة الجنسية» التي تعتبر نوعاً من
الإلهام الطبيعي والفطري «لحفظ النسل» والتي تدفع بالإنسان لحفظ نسله ، ولكنّها إن
إمتزجت بالأفكار الوضعية والأخلاق المنحّطة ، لأصبحت بؤرة فساد وفاحشة قاتلة للنسل
، يعني بالضبط يحدث عكس المطلوب ، من جانب آخر فإنّ كافة أقوام العالم تضع بعض
المقررات والقوانين لعقد الزوجية بغية عدم تزلزل نسلها بفعل الفوضى الجنسية ،
وتصدع كيانها ونظامها الاجتماعي ، إلّاأنّ هذه المقررات والقوانين قد تكون على
درجة من الصعوبة والتعقيد التي تفرزها حالة ضيق النظر والتخلف الفكري بحيث تسوق
الأفراد نحو مقاطعة الزواج والإنغماس في الفاحشة ، وكلاهما يهدد قضية حفظ النسل ،
وبناءاً على هذا فانّ الزعامة الخاطئة للغريزة الجنسية إنّما تعطي نتيجة معكوسة في
حفظ النسل.
والقضية كذلك
بالنسبة للحاجات الروحية والإلهامات الفطرية المتعلقة
بها ، مثلاً يبحث
الإنسان ـ على ضوء إلهام فطري ـ عن خالق العالم ، إلّاأنّ قصر النظر والجهل
والتخلف الفكري قد يقذف به أحياناً في مخالب «التشبيه والقياس» وذلك لأنّ هذه هي
سجية محدودي الفكر حيث يجعلون أنفسهم محوراً لكل شيء فيقيسون كل شيء ويشبهونه بهم
، وإثر هذه التشبيه والقياس يقدمون على عبادة كل شيء سوى «الاله الحقيقي» من قبيل
الحشرة المصرية إلى الفيل الهندي بصفتهما الإله الذي ينبغي أن يعبد على حدّ تعبير
المؤرخ المشهور «ويل دورانت».
والأعجب من ذلك ما
أخبرنا به بعض المسافرين القادمين من اليابان أنّهم رأوا بأم أعينهم المعابد التي
تضم الأوثان الصغيرة والكبيرة التي تضم بعض الأصنام بصورة «آلات تناسلية للرجل
والمرأة» فيقوم البعض بعباداتها وأداء مراسم التقديس لها!
وقد طبعت بهذه الأشكال
قضية المعاد والقيامة التي تبناها الإلهام الفطري لمساعدة الإنسان ومهد السبيل
أمامه بهدف التوجه العقلاني لعالم ما بعد الموت ، لأنّ إنعكاس شعاع هذا الإلهام
الفطري من الزجاجات المعوّجة لأفكار الناس قصارى النظر أدّى إلى تفاقم الإنحرافات
التي غيرت بالمرة وجه هذه القضية.
وفي الواقع فإنّ
التشبيه والقياس المذكور جعل البشرية تعيش الخرافات العجيبة التي تفوق التصور
والخيال إزاء قضية القيامة ، فكان لابدّ من إيداع كافة أدوات الإنسان ووسائله التي
يحتاجها في القبر ظناً بأنّ الحياة في ذلك العالم هي عين هذه الحياة على جميع
الأصعدة والنواحي.
__________________
خرافات مضحكة ومؤسفة!
إنّ هذا النمط من
التفكير الخرافي قد أفضى طيلة التاريخ إلى الأعمال المؤسفة والمضحكة أحياناً.
على سبيل المثال
كان سائداً بين أهل الكونغو دفن إثنتي عشرة فتاة جميلة على قيد الحياة مع زعماء
القبائل حين موتهم بهدف دفع الأسقام والسأم الذي يعانونه فى ذلك العالم.
أو أنّ بعض أهالي
المكسيك كانوا يدفنون الفكاهي (أو ما يصطلح عليه بالفنان الكوميدي) مع رئيس
القبيلة ليحول دون تكدر صفو خاطره في تلك الدنيا ، كما كانوا يأدون أحياناً بعض
الكهنة مع زعمائهم ليكونوا مستشاريهم في المسائل الدينية في ذلك العالم!
كما كانت بعض
الأقوام إلى عدم دفن ثياب الأموات وتعليقها على شجرة ليقوم بارتدائها الأموات
فوراً بعد بعثهم فلا يمتعظوا من العري!
أما تحنيط
المصريين القدماء لأجساد الموتى فليس له من فلسفة سوى الاستفادة من ذلك لجسد بعد
عودة الروح ، فقد كان التحنيط يتم بهدف الحيلولة دون تعفن جسد الميت وتفسخه ، حيث
كانوا يجففون جسد الميت ببعض المواد الكيمياية المعنية ، فإذا جف الجسد بصورة
كاملة غطوه بعدّة أشرطة كتانية ملطخة بمواد صمغية خاصة ، وكان يلزم ذلك العمل مئات
الأمتار من الكتان ، ثم يضعونه في توابيت خاصة ، وأحياناً في عدّة توابيت أخرى
ويرسمون بعض النقوش الرائعة على التابوت الكبير. والجدير بالذكر إن تحنيط الجسد قد
يتطلب أحياناً سبعين يوماً! طبعاً لم يقتصر التحنيط على مصر ، إلّاأنّ المصريين
برعوا في هذا العمل بحيث تشاهد الحنوط
__________________
المصرية بوضوح
اليوم في المتاحف العالمية وقد بقيت هذه الحنوط على صورتها السابقة دون أن يعتريها
أدنى تغير رغم تقادم العصور والأزمان على تلك الأجساد المحنطة.
كان أهل المصر
يغطون جدران المقابر بالصور التي تشرح الأعمال اليومية للشخص الميت وخدمه وشغله في
الدنيا ، فمثلاً في زاوية من الصورة نشاهد العمّال الذين يخبزون الخبز أو الذين
يريقون الشراب والخمر في الآنية ، وفي موضع آخر الخدم الذين يذبحون الشاة أو
البقرة أو الذين يخرجون الأسماك من النهر ، وفي مكان آخر يحلبون البقر ويطبخون
الطعام.
وكأنّهم أرادوا
الإبقاء على سرور أرواح الأموات من خلال تجديد ذكرياتهم الماضية.
فكل هذه الأمور
تشير إلى أنّ أتباع العقائد المذكورة كانوا يرون الإنتقال إلى العالم الآخر بمثابة
الأسفار في هذه الدنيا التي ينبغي أن تشمل كافة تفاصيل ومقررات هذه الحياة.
والواقع يبدو هذا
الموضوع أشبه بالطفل الذي يلد من رحم أمّه وكأنّه يعلم بلوازم السفر خارج الرحم
فيصطحب معه مقداراً من الدم في جوف الرحم بهدف عدم الموت جوعاً بعد القدوم إلى هذه
الدنيا ، فهل هذا الاسلوب من التفكير صحيح؟!.
لكن وعلى كل حال
فإنّ وجود مثل هذه الخرافات والإنحرافات إن دلّت على شيء فإنّما تدلّ على إمتزاج
الإلهام الفطري بالجهل وعدم التعقل ، وفي
__________________
نفس الوقت فإنّه
يختزن حقيقة تتمثل بإيمان البشر بالقيامة على ضوء الإلهام الباطني ، وإن إتخذ هذا
الإيمان طابع الخرافة بفعل قصر النظر وضيق الأفق.
* * *
نوافذ على العالم الآخر
كيف
أزالت الأبحاث العلمية الحديثة أغلب الصعوبات التي كانت تبدو ماثلة في طريق الحياة
بعد الموت والتي كان يتصورها بعض ضعاف التفكير وضيقي الأفق أنّها من المحالات؟
فقد طرب ذلك
الإعرابي فرحاً حين عثر على عظم رميم لإنسان لعله كان فريسة لحيوان مفترس ، أو
إستسلم للموت إثر موته عطشاً في صحراء الحجاز القاحلة فصرخ من أعماقه «لأخصمن محمداً»
وأثبت له إستحالة ما يزعم بخصوص إحياء الأموات.
ولعله قد حدّث
نفسه قبل ذلك : هل هناك من رأى أو سمع بفاكهة متعفنة ومن ثم فاسدة وجافة قد عادت
فاكهة طرية غضة من جديد؟ أم هل هناك من سمع عودة هذا اللبن الذي ترتضعه الناقة من
ثدي أمّها وقد أصبح جزءاً من لحمها وعظمها لبن مرّة أخرى وعاد إلى الثدي؟
ثم إنّ هذا العظم
الخاوي اليوم سيصبح غداً تراباً ثم تنثره العواصف الرملية لهذه الصحاري الواسعة
هنا وهناك بحيث لايبقى منه أدنى أثر ، فأي عقل يرى أنّه سيعود ثانية على هيئة طفل
جميل وفتى قوي وكهل فطن؟
إنّ مثل هذا
الكلام لاينطلي سوى على المجانين!
(وَقَالَ الَّذِينَ
كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ
مُمَزَّقٍ إنَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ* أَفَتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ
جِنَّةُ ...)
وهكذا كانت مسألة
الإيمان بالله الذي لا يُرى تعدُّ من أعقد المشاكل التي ثقلت على أفكار أهل
الجاهلية رغم سماعهم لزمزمة القيامة التي كانت تنبعث من داخل فطرتهم ، إلّاأنّ
ضوضاء جهلهم وصخبه كان يصادر لطافة تلك الزمزمة ويفقدها فاعليتها في أنفسهم ولعل
هؤلاء لايعلمون أنّ هذه التمرة الجافة والمتعفنة التي ضاعت في طيات التراب قد تكون
أصبحت جزءاً من الأرض عشرات المرات ثم ظهرت على غصن نخلة بعد أن إنطلقت من جذورها
فنمت وتفتحت لتصبح ثمرة لذيذة طرية ثم جفت ووقعت ثانية على التراب ، أو لبن النافة
الذي أصبح لمرات جزءاً من رضيعها وما إن مات وعاد تراباً حتى عاد إلى التراب فمر
بجذور نبات أو شوكة ليصبح جزءاً من بدن ناقة أخرى ثم جرى في عروقها لينتقل إلى
ثديها وبالتالي يعود لبناً جديداً!
وبالطبع فإنّ هذا
الفكر الجاهلي الذي يرى إستحالة عودة الكائنات الحيّة وعدم إمكانية إعادة
المعدومات لم يسود عقل عقل ذلك الإعرابى فحسب ، بل قد يتجلى ذلك بصورة أخرى فى عقل
فليسوف ليرى قضية «إعادة المعدوم» لو كانت هناك قيامة ومعاد وإعادة المعدوم محال!
إلّاأنّ الرقي
والتكامل الذي بلغته العلوم الطبيعية ـ وخلافاً لما كان يتوقعه أصحاب النزعة
المادية ـ قد أزاح الستار عن بعض الأسرار بحيث إتضحت على ضوء ذلك قضية المعاد
والحياة الأخرى بعد الموت بما لايدع مجالاً للشك.
__________________
وفي الحقيقة فإنّ
أعلام العلوم الطبيعية كالباحثين الذين يقفون كل يوم في حفرياتهم على آثار جديدة
تتعلق بالحضارات السابقة طبعاً قد يبذل هؤلاء الباحثون والمنقبون جهودهم بالبحث عن
الأشياء القديمة والتحفية لغرض تحقيق بعض الأرباح المادية ، لكن من المسلم به أنّ
هناك آثاراً أخرى لهذه الجهود والتي تتمثل بالوقوف على كيفية ظهور المدنيات
السابقة ومدى مهارة بناء تلك المدنيات.
توضيح ذلك :
دلّ تقدم العلوم
التجريبية لأول مرّة على عدم وجود الفناء المطلق والعدم التام بتاتاً بالنسبة
لمواد العالم والذي كان يستحوذ على عقول الكثير من القدماء ، فقد أثبت العالم
الفرنسي المشهور «لافوازيه» إنّ أي مادة في الكون لا تفنى ، بل مواد العالم تتحول
دائماً من شيء إلى آخر ، فلو أحرقنا شجرة ونثرنا رمادها في الهواء ، أو أشعلنا
مقداراً من البنزين بأكمله بحيث لا تبقى ذرة منه ، فليس هناك أي فارق يحدث في
المواد الموجودة في العالم ، وعلى أساس الفرض الأول فإنّ ذرات الشجرة تحللت
وانتشرت في الأرض والهواء فأصبح جزء منها رماداً وآخر تبدل إلى غازات كاربونية (مركب
من كاربون الشجرة واوكسجين الهواء) ولو توفرت الوسائل التي تقوم بجمعها من أتون
أجزاء الأرض والسماء وفصلنا عنها اوكسجين الهواء ثم ركبنا بعد ذلك جميع الأجزاء
لعادت تلك الشجرة الأولى دون أن ينقص منها حتى واحد بالألف من الغرام ، وفي الفرض
الثاني (الإحراق التام للبنزين) يتبدل جميعه إلى غازات يمكن إعادتها إلى البنزين
الأول ثانية دون أي نقص من خلال جمع تلك الغازات وترتيبها من جديد ، وعليه فقد
تقودنا حالة عدم
الدقة التي نمارسها فنطلق جزافاً أنّ هذه الأشياء قد فنت ، في حين ليس هنالك شيء
يفني بل يتحول من شيء إلى آخر. والواقع هو أنّ هذه العملية بالضبط كتبديل النقود
من عملة إلى أخرى باسعار ثابتة ـ من قبيل تبديل الدولار إلى دنيار ـ فلم يحصل سوى
تبدل شكل العملة وإلّا فقيمتها ثابتة ويمكن إعادة العملة الأخيرة إلى سابقتها في
أي وقت ، وهذا ما عليه الحال بالنسبة لمواد العالم التي تتحول من شكل إلى آخر.
وعلى هذا الأساس
ففي قضية تشتت ذرات بدن الإنسان ليس هنالك شيء يفنى ويزول وقد ادخر في صندوق توفير
عالم الطبيعة ويمكن سحبها في أي زمان.
طبعاً هنا مسألة
أخرى مطروحة وهي أنّ هذه الأجزاء قد تصبح أحياناً جزءاً من بدن إنسان آخر ويبدو
أنّ ذلك يسبب بعض المشاكل بخصوص إعادة حياة الموتى ، حيث يمكن أن تتصارع عدّة
أرواح بغية الحصول على بعض الأجزاء المعينة حيث تدعي كل روح أنّ ذلك الجزء لها ،
إلّاأنّنا سنرى قريباً أنّ هذا خطأ محض وليس هنالك أي صراع من هذه الناحية ، وحتى
لو فرض أنّ إنساناً إلتهم بدن إنسان آخر فليس هنالك أدنى مشكلة في أمر معادهما.
على كل حال فإن
حسابات لافوازية صحيحة في كافة المواضع سوى في موضع واحد تفقد فيه المادة وجودها
تماماً دون أن تتبدل إلى مادة أخرى ، وذلك في إنقسام الذرات والإنفجارات الذرية
حيث تتحول فيها المادة إلى طاقة ، ويعتبر أول من إكتشف ذلك لأول مرة «مادام كوري»
وزوجها «بير كوري» أثناء مطالعتهما للأجسام الراديو كتيفية (الأجسام ذات التشعشعات
الذرية والتي تكون ذراتها في حالة تآكل وزوال). فقد إكتشفا عام ١٨٩٨ في
مختبرهما في باريس
عنصراً جديداً يعرف بالراديوم والذي يتصف بخاصية عجيبة تتمثل بفرزه دائماً للحرارة
والضوء ، ثم توصل العلماء بعد عدّة تحقيقات في هذا المجال إلى أنّ ذرات الراديوم
في حالة تآكل وزوال على الدوام ، وفي الواقع فإنّ هذه الأجسام إنّما تفقد جزءاً من
وجودها حين تنبعث من باطنها تلك الطاقة الحرارية والضوء ، وقد أدّى الإكتشاف
الكبير إلى تعديل قانون بقاء المادة للعالم لافوازية فحلّ محلّه قانون «بقاء
المادة ـ الطاقة» ؛ أي ثبت أنّ مجموع مادة العالم وطاقته ثابتة ليست متغيرة
ولاينقص منها مثقال ذرة ، فتحول المادة إلى مادة أخرى ، والطاقة إلى طاقة أخرى ،
والمادة إلى طاقة ممكن ، أمّا الفناء والعدم فليس له من سبيل إلى هذا العالم.
وبناءاً على ما
تقدم فليس فقط ذرات وجودنا في هذا العالم لا تزول فحسب ، بل هي محفوظة في هذا
الصندوق الكبير إلى جانب أفعالنا وأعمالنا وأقوالنا وتصرفاتنا وحتى أمواج أدمغتنا
المغناطيسية التي تمثل بأجمعها صوراً وأشكالاً مختلفة للطاقة حين التفكير ، ولو
كانت لدينا الأجهزة والوسائل الكافية لأستطعنا سحب كافة الأمواج الصوتية لأسلافنا
ودورهم في الحياة.
ونعلم إنّ هذا
العمل قد حصل بصورة مصغرة ، حيث تمكن العلماء وبالاستفادة من بعض الأمواج الصوتية
المتبقية على الظروف الخزفية لما قبل ألفي سنة حيث يحيون أصوات النحّاسين آنذاك
ويسمعها الجميع.
وتشير المطالعات
على بدنة هذه الظروف الخزفية أنّه حين صنعها قد انتقشت الأمواج لصنّاعها عن طريق
رعشات أيديهم على البدنة وبمساعدة
__________________
ذلك تعود أصواتهم.
أو ليست مثل هذه الأمور خطوات بارزة عريضة من أجل إثبات القيامة على ضوء الدليل
العلمي! فلو كان ذلك الإعرابي حياً اليوم وإجتاز بعض المراحل الدراسية العليا لما
كان مستعداً لأن يأتي بذلك العظم الخاوي ليثبت إستحالة المعاد.
بل لو لم يجتاز ذلك
الإعرابي بعض المراحل الدراسية العليا وإكتفى بمشاهدة أجهزة تسجيل الأصوات وإلتقاط
الأفلام السائدة في عالمنا المعاصر ، لما أمكنه كذلك إنكار المعاد.
أفلا يدعونا ذلك
إلى الإذعان على عزار ما صرّح به آدولف بوهلر الكيميائي المعروف قائلاً : «إنّ كل
قانون يكتشفه الإنسان يقرّبه خطوة إلى الله ، وكل قانون يكتشفه يقرّبه خطوة من
القيامة والحياة الآخرة بعد الموت».
* * *
(أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرْجَعُون)
القيامة تهب الحياة نكهتها
لا شك أنّ للإيمان
بالقيامة والبعث آثاره في شكل الحياة البشرية ، ولو لم تكن هناك من حياة بعد الموت
لكانت الحياة في هذا العالم جوفاء وتافهة لا قيمة لها.
كان صوت حركة
الماء المنحدر بسرعة على الأحجاز المبعثرة في جرف النهر والذي يتخذ أشكالاً
حلزونية حول الأشجار كصوت وقع الأقدام المعروفة التي تداعب قلبي ومشاعري فأشعر
بالسكينة والاستقرار ، كانت لحظات ثمينة بالنسبة لي سيما أنّها كانت فرص نادرة ،
ولعلي سمعت كراراً من الكبار ذلك البيت الذي أنشده الشاعر المعروف حافظ الشيرازي
حين تقع أعينهم على عيون المياه الجارية والينابيع والأنهار والذي يخاطب فيه نفسه :
أن إجلس على حافة النهر وانظر تصرم العمر وكأنّه يوحي إلينا بالاكتفاء بهذه
البشارة حول نهاية العالم ـ فكانت هذه الكلمات بمثابة نسيم الربيع المعتدل الذي
يهب على شغاف قلبي ، فرأيتني أكرر تلك الكلمات مع
__________________
نفسي ، فشعرت
وكأنّي طرحت حملاً ثقيلاً عن روحي وتنفست بكل حرية ، رغبت آنذاك بأن يكون لي
جناحان فأحلق بهما كالطيور التي كانت تطير وترفرف بأجنحتها فوق رأسي ، ولكن لما
كانت الحياة تقتضي عدم إستقرار الذهن والبال فقد دار في خلدي هذا الهاجس ، رغم أنّ
تشبيه إنقضاء العمر بمرور الماء يمثل أروع مثال يمكن بيانه بالنسبة للحركة العامة
وسرعة حركة عالم الحياة بل عالم الوجود الذي يأبى التوقف والسكون ، إلّاأنّي فكرت
مع نفسي ليت شعري ما هي البشارة التي يحملها تصرم العمر لنكتفي بها كدلالة على
إنقضاء العالم.
لنفرض أنّي قطرة
من ملايين قطرات ماء هذا النهر وقد نبعت من عين حسب قوانين الخلقة وقد إندفعت خلال
هذه الأحجاز والاشجار ، ولكن ما عساني أبلغ في نهاية المطاف ، قطعاً لايمكنني
السير إلى الأبد ... فالتفكير بالمستقبل المجهول يؤرقني ، فهل سأتيه في مستنقع
متعفن مليىء بالحيوانات الوضيعة ... ما هذه البشارة!
وهل تبخرنا وسط
الصحراء القاحلة آخر هذه السهول الواسعة المترامية الأطراف يعد فخراً!
أم سأعود مرّة
أخرى إلى ذلك البحر الواسع الذي نبعت منه في البداية دون أي هدف فأعيش حياة مكررة
وجوفاء!
ياله من أليم تصرم
العمر هذا الذي آخره مثل تلك الأمور!
سأغوص في أعماق
الأرض إلى جوار جذور شجرة وعلى ضوء قانون «إسمز» أعبر قوة الجذب الأرضية فأتسلق
الأغصان بسرعة وأتنقل بين العروق اللطيفة الجميلة والزهور العطرة فأصبح فاكهة
فانهمك في صنع نفسي حتى أنضبح فتنقطع حاجتي إلى الغصن ثم أهبط من غصن الشجرة
كرائد الفضاء الذي
يقذف بصاروخه إلى كرات العالم ، فاقع في حضن إنسان مفكر وعالم جلس تحت الشجرة وهو
مشغول بابداع مؤلف قيّم أدبي وعلمي وأخلاقي وفلسفي.
فأجلب بلطافتي
وطراوتي إنتباه ذلك العالم حتى أصبح جزءاً من بدنه فأواصل سعي وجهدي في دمه وعروقه
وأخترق الأغطية الرقيقة والحساسة لدماغه فاتحول إلى أمواج فكرية مبدعة لخلق لوحة
أدبية وفلسفية رائعة أو أتحول إلى إكتشاف علمي مميز ، ثم أصبح أثراً خالداً بعد أن
يسطر في قلمه على صفحات كتابه ، وهكذا أكتسب صبغة أبدية فاوضع في المكتبات فاحظى
باستفادة الجميع.
فلو كان الأمر
كذلك لكان هذا التصرم دافعاً لي نحو النشاط والحيوية ، وذلك لأنّ قطرة ماء لا قيمة
لها قد إختلطت بوجود أكمل حتى تحولت آخر المطاف إلى أثر خالد.
فأية بشارة وفخر
وإعتزاز أعظم من هذا!
أما إن كان مصيري
الفناء في المستنقعات المتعفنة أو التبخر أو التطاير في الهواء أو العودة العابثة
إلى البحر فياله من مصير مؤلم ومفجع.
فهل هناك من فارق
بين مصير أولئك الذين يرون الموت هو نهاية الحياة ومصير تلك القطرة من الماء؟
فهل يمكن أن يكون
هناك من معنى صحيح لحياتهم ومماتهم؟
هل الإقرار بأصل
المعاد ومواصلة الإنسان لتكامله بعد الموت ودخوله لعالم أسمى وأرفع لايمنح حياة
الإنسان هدفاً ونماية؟
ويخرجها من
عبثيتها؟
ومن هنا نلاحظ أنّ
عبثية الحياة من أهم القضايا التي تزعج إنسان
عصر الفضاء ،
وأفضل شاهد حي على ذلك الشعور المزعج هو ظهور بعض المدارس ـ إن أمكن تسميتها كذلك
ـ الفلسفية الحديثة كالمدرسة المادية.
ويعترف العلماء
والمفكرون الذين يمتكلون رؤية صحيحة تجاه البلدان الصناعية التي رأوها أنّ شعوب
تلك البلدان قد تغلبوا على مشاكل البطالة والأمراض والكهولة والعجز والتعليم من
خلال المعامل والمصانع الضخمة والإمكانات الصحيحة الهائلة والأجهزة الثقافية إلى
جانب الضمان والتقاعد وما إلى ذلك ، فالواقع هو أنّ حياتهم وحياة أولادهم مضمونة
منذ الولادة حتى اللحظات الأخيرة للموت ، مع ذلك فهم يألمون من عبثية الحياة ويرون
أنفسهم يعيشون الخفة والطيش.
ولعل سر التنوع
الذي ينشده عالم الغرب ومبادراتهم العجيبة هو الهروب من التفكير بشأن هذا الطيش
والعبثية.
وقد نلمس هذه
الحقيقة في تعبيرها الفلسفي ضمن المدرسة المادية التي تقول : ينفرد الإنسان من بين
سائر الكائنات بإدراكه لمفهوم الوجود والعلم بوجوده ، وكما كان الوجود أمراً
بديهياً للإنسان فإنّ العدم يسود ذهن الإنسان مقروناً بتصوره للوجود ، ففي الوقت
الذي نشعر فيه بوجودنا أو وجود شيء آخر ، كذلك من الواضح لدينا عدمنا أو عدم الشيء
الآخر ، وعلى هذا الأساس فالإنسان يشعر بوضوح بعدمه كما يشعر بوجوده ، وما إضطراب
الإنسان وقلقه إلّانتيجة لهذا الشعور بالوجود والعدم ، وعلى حد تعبير «سارتر» ـ العالم
الوجودي ـ من هنا يتضح عبث الوجود وخوائه : لماذا جئنا للوجود ، وما سبب وجودنا؟ (ليس
لدينا من إجابة على ذلك) ...
فحين لايرى
الإنسان من سبب لوجوده يشعر بغربته في هذه الدنيا ، إنّه يشعر بانفصاله عن سائر
الأشياء والأفراد ، والخلاصة فإنّ وجوده زائد لايرى
لنفسه من موضع مناسب
له.
فلو كان للجنين في
بطن أمّه من علم وذكاء دون أن يكون له حظ من علم خارج الرحم وفكر في العيش في ذلك
الوسط لما تردد في إتباع مدرسة سارتر.
إنّه سيرى تلك
الحياة المحدودة والمزعجة التي تدار بشكل تبعي لا تحمل أي هدف وغاية وعبثية تماماً
، أمّا إن علم أنّه جاء من هناك ليستعد إلى حياة أخرى أوسع وأشمل ، وأنّ هذه
المدّة هي فترة تربوية خاصة لايمكن بدونها التمتع بحياة مستقله ، وآنذاك سيرى معنى
للحياة في فترة كونه جنيناً.
ولو أيقنا بأنّ
المنزل الذي ينتظرنا لاينطوي على العدم ، بل هو وجود بمستوى أرفع وإستمرار لهذه
الحياة بآفاق أوسع وأنّ كافة الجهود والمساعي ستنتهي بالتالي إليه ، فمن المسلم به
أنّ الحياة ستخرج على هذا الأساس من عبثيتها وطيشها وتتخذ لنفسها مفهوماً جدّياً
واضحاً.
وبناءاً على هذا
لابدّ من القول : إنّ الأثر الأول للإيمان بالحياة الآخرة بعد الموت والقيامة هو
منح الهدفية والغائية لهذه الحياة وإخراجها من العبثية.
* * *
__________________
عامل تربوي مؤثر
عامل مؤثر واقي وعامل محرك قوي
كان أحد الشباب
المتعلمين يقول : «أعتقد أني أتمتع بضمير قوي ، ولما كان ضميري قوياً فإنّي ملتزم
بأصول الحق والعدل ، ومن هنا فلا أرى في نفسي من حاجة إلى الدين والتعاليم الدينية
، فكل ما من شأنه أن يمنحني الدين في ظلّ الإيمان بالله والخوف من العقاب في الدار
الآخرة إنّما حصلت عليه في ظل ضميري الحي.
وعليه أفلا
تعتقدون أنّ الدين ضروري بالنسبة لُاولئك الأفراد دوني درجة والذين لايمكن إصلاحهم
ويأكل بعضهم البعض الآخر دون إستنادهم إلى إيمان قوي وراسخ بالدين ، أضف إلى ذلك
فالإيمان قد لايستطيع أحياناً إصلاحهم ، بل هم يعمدون إلى الحيل الشرعية بغية
مواصلة أعمالهم الخاطئة وتحقيق بعض المنافع».
طبعاً إنّنا نعلم
بأنّ هذا الأسلوب من التفكير لا يقتصر على هذا الشاب ، فهناك من بين الفلاسفة
والمفكرين من يرى نفسه فوق الدين ، ويعتقد أنّ الدين وسيلة تربوية مؤثرة بالنسية
للأفراد في المستويات المتدنية ، بينما هم في غنى تام عن هذه التعاليم! لكنهم
كأنّهم قد غفلوا أنّ أعظم الجنايات
والجرائم إنّما
ترتكب على الدوام من قبل كبار الشخصيات والعلماء الأفذاذ والأفراد من ذوي
المستويات العالية ، فهم الذين يصنعون القنابل الذرية والهيدروجينية ، وهم الذين
يخططون للحروب الألكترونية وبالتالي هم الذين يعينون خرائط الاستعمار السياسي
والاقتصادي للبلدان.
والخلاصة فهؤلاء
العلماء والمفكرون هم الذين كانوا أداة طيعة بيد قوى الدنيا الشيطانية وهم الذين
رسخوا دعائم الاستعمار والاستبداد والغطرسة من خلال بيعهم لمعلوماتهم وإبداعاتهم
وإستعداداتهم العالية ، ولايختص هذا الموضوع بعالمنا المعاصر ، فالأزمنة الماضية
هي الاخرى كذلك حيث يطالعنا الكثير من الأفراد دائماً الذين يقفون إلى جانب
الفراعنة ممن على غرار هامان وقارون العالم المقتدر الثري وهو ابن عم موسى وممثل
فرعون في بني إسرائيل وقد كانت له ثروة طائلة يرى أنّه جمعها بعلمه وقدرته ، كما
كان العديد ممن على شاكلة عمروبن العاص وأبي هريرة إلى جانب معاوية.
وبناءاً على ما
تقدم فقد تكون حاجة العلماء والمفكرين وذوي الاستعداد والمستويات العالية إلى
الدين أكثر من غير هم بكثير ، فهم الذين يسطيعون إشعال الدنيا أو سوقها إلى الصلح
والسلام.
أمّا الأفراد من
ذوي المستويات المتدنية فعادة ما يأتمرون بأوامر هؤلاء فهم إلعوبة بيدهم وضررهم
أقل بكثير إذا ما قارننا انحرافهم بمن سبقهم.
* * *
ولو آمن هؤلاء ـ وبصورة
عامة كافة لبشرية ـ بأنّ الموت ليس نهاية الحياة ، بل هو بداية حياة جديدة وكل ما
في هذه الحياة الدنيا هو مقدمة لها لاكتسب كل شيء طابع الأبدية ، وسوف لن تفنى
الأعمال والأقوال والحسنات والسيئات ،
وهذه هي الأمور
التي ترسم معالم حياتنا الخالدة التي تنتظرنا فإمّا تمنحنا الطمآنينة والسعادة أو
الاضطراب والشقاء ، والأمر بالضبط كالجنين إن كان له عقل وقد قصر في صنع نفسه خلال
تلك المدّة القصيرة من عمره في بطن أمّه والتي تعتبر فترة بناء الجسم والروح ،
فإنّ عليه أن يتحمل العواقب الوخيمة لعمر مديد (قد يستغرق مئة سنة مثلاً) ويذوق
الألم والمعاناة وهكذا الحال بالنسبة للإنسان إنّ قصر في صنع نفسه وتهذيبها في هذه
الحياة الدنيا وكبّدها مختلف العيوب والأمراض الأخلاقية والنفسية فإنّ عليه أن
يتحمل العذاب الأليم وشدته في عالم ما بعد الموت.
ومن شأن هذا
الإعتقاد أن يقلب حياة الإنسان رأساً على عقب ، كونه يشكل درساً تربوياً عالياً
ينهض بتربية روح الإنسان ونفسه ، ويحول دونه ودون كل تلك الجنايات التي يمكن أن
تصدر من إنسان مادي يعتقد أنّها تفنى وتزول جميعاً بفنائه وزواله.
فالإعتقاد بعالم
ما بعد الموت وبقاء أثر أعمال الإنسان يمكنه أن يكون عامل وقاية متين إزاء الذنوب
والمعاصي ، كما يمكنه أن يكون عاملاً مقتدراً للحركة وللحث على الاستثمار المادي
والمعنوي في سبيل خدمة الخلق.
لا شك أنّ آثار
الإيمان بعالم ما بعد الموت ليفوق بدرجات دور المحاكم وقوانين العقوبات الاعتيادية
والمكافئات والتشجيعات العادية في إصطلاح الأفراد الفاسدين والمنحرفين وتشجيع
الأفراد المضحين والمجاهدين ، وذلك لأنّ من خصائص محكمة العدل الإلهي في القيامة
هو خلوها من الاستئناف والتمييز ولا الواسطة ، كما لايمكن تشويش أفكار القضاة من
خلال طرح الوثائق المزيفة وممارسة الكذب والخداع ، كما تخلو من الروتينيات
والتشريفات التي تدعوا إلى الإطالة ، بل وكما سنذكر ذلك
بصورة مفصلة أنّ
الثواب والعقاب في ذلك العالم يشبه إلى حدّ بعيد الآثار والخواص الطبيعية ؛ يعني
كما لايخطىء الدواء الشافي أو السم القاتل في تأثيره ولا تجدي الرشوة والتوصية
عليه شيئاً ولا تغيّر من تأثيره ، فإنّ أفعال الإنسان وأعماله بنفس هذه الكيفية في
العالم الآخر بعد الموت ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فليس
هنالك من معنى للتشجيع في المحاكم العادية لهذا العالم ـ التي تنطوي على آلاف
العيوب ـ مثلاً إذا لم ينتهك فرد حرمة القانون لخمسين عاماً ولم يرتكب ولو مخالفة
صغيرة ، فليس هنالك من ثواب لالتزامه بالقانون ، يعني ليس هناك من ثواب ليعطيه.
وعليه فالضمانة
الإجرائية لهذه القوانين أحادية الجانب : أي أنّه يتّجه دائماً صوب من ينتهك حرمة
القانون ، لاصوب ذلك الذي يحترم القانون ويلتزم به ، والحال ضمانة التطبيق في
الدين ثنائية ، فهناك كفة الثواب التي تعدل بثقلها كفة العقاب.
فمما لاشك فيه أنّ
من يؤمن بذلك العالم يكون غاية الجدية في إصلاح نفسه والإتيان بمختلف الأعمال
الثقيلة والمعقدة ، وكذلك وعلى غرار الفرد العالم بخصائص الأدوية المشفية والقاتلة
فهو شديد الرغبة في الأول عظيم الخشية من الثاني ، فإذا ما أراد أن يقدم على عمل
مهما كان حسب آثار ذلك العمل وتمثلها أمام عينيه.
وهكذا يكون في
حالة مراقبة تامة ودقيقة دائمية على نفسه ، بحيث يسيطر عليها ويحول دونها ودون
مقارفة الجرائم والجنايات والمفاسد.
* * *
إنّ الإيمان بهذه
الحقيقة يبلغ بالإنسان درجة يجعله يقول : (وَاللهِ لَأَنْ
أَبِيْتَ
عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً ، أَوْ أُجَرَّ في الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً
، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ ، وَغَاصِباً لِشَيءٍ مِنَ الْحُطَامٍ)
ومثل هذا الفرد
يحمي حديدة ويقربها من أخيه ـ ذلك الأخ الذي سأله الزيادة من بيت المال والتمييز
بين الأفراد في العطاء ـ فيضج منها ويصرخ ، فيخاطبه ناصحاً (أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا
إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ ، وَتَجُرُّني إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا
لِغَضَبِهِ)
ولما إقترح عليه
بعض الأفراد من قصار النظر ترسيخ دعائم حكومته من خلال التمييز العنصري بين صفوف
المجتمع الإسلامي قال : (أَتَأْمُرُونِّي أَنْ
أَطْلُبَ النَّصْرَ بَالْجَورِ فِيْمَنْ وُ لِّيْتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لَاأَطُورُ
بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ في الَّسمَاءِ نَجْماً)
حقّاً كيف ستصبح
الدنيا لو أضاء بصيص من الإيمان القاطع في قلوب كافة زعماء العالم والأفراد من بني
البشر؟
فهل سيبقى فيها من
أثر لهذه الأنانيات والاستبدادات والظلم والانتهاكات والتجاوزات؟
* * *
ومن هنا تسعى كافة
الأديان السماوية لبذل كافة الجهود من أجل تربية الأفراد وإصلاح المجتمعات من خلال
إحياء الإيمان بعالم ما بعد الموت في قلوب الناس ، ولاسيّما القرآن الكريم الذي
أفرد جزءاً مهماً للمسائل التربوية من خلال سلوك هذا السبيل ، وعليه فليس من
العجيب أن ترد
__________________
الإشارة إلى هذا
الأمر لأكثر من ١٤٠٠ مرّة في القرآن ، وإليك بعض تلك النماذج.
١ ـ صرّح القرآن
الكريم بأنّ الإيمان واليقين القطعي بذلك اليوم العظيم يكفي في تربية الإنسان ، بل
للظن أيضا دوراً عظيماً بهذا الشأن : (الا يَظُنُّ اولَئِكَ
انَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَومٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ)
٢ ـ أكد القرآن
الكريم في مختلف المواضع أنّ «الأمل» و«الرجاء» بذلك العالم يكفي الإنسان في عدم
الطغيان وترك اللجاجة إزاء الحق والإتيان بالعمل الصالح ، وهنا ينبغي الالتفات إلى
أنّ القطع واليقين لم يتطرق إلى مفهوم الأمل والرجاء (فَمَنْ كَانَ
يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً) (وَقَالَ الَّذِينَ
لَايَرْجُونَ لِقَائَنَا لَوْلَا انْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى
رَبَّنا)
٣ ـ ورد في القرآن
الكريم أنّ لأعمال وأقوال الإنسان صفة الأبدية ، وكلها ستحضر يوم القيامة وتكون مع
الإنسان :
(يِوْمَ تَجِدُ كُلُّ
نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) كما أكّد في موضع آخر : (وَوَجَدُوا مَا
عَمِلُوا حَاضِراً)
وهكذا يتبلور في
أعماق روح الإنسان ؛ الإنسان الذي يؤمن بالحياة بعد الموت قبس كبير من الشعور
بالمسؤولية تجاه جميع أحداث الحياة ووقائعها.
* * *
__________________
القيامة في باطنكم
إنّ هذه المحكمة
التي يتحد فيها القاضي والشاهد ومنفذ الأحكام والتي تستقر في أعماق أرواحنا جميعاً
هي نموذج حي على محكمة العدل الإلهي في القيامة والبعث.
واليوم حين يراد
إنشاء بناية أو مصنع فانّهم عادة ما يصنعون مسبقاً نموذجاً مصغراً يشتمل على كافة
مشخصات ومواصفات تلك البناية الضخمة أو المصنع الكبير ليكون مثالاً ونموذجاً
يحتذونه في عملهم وهو ما يصطلح عليه بالمجسمة.
والإنسان أعجوبة
عالم الخلقة هو مجسمة صغيرة جدّاً ومختصرة للعالم ، مع فارق هو أنّ هذه المجسمة قد
أعدت بعد كل ذلك ، لأنّ صانعها ومصممها لم يعدها على غرار الصانعين من الأفراد
بهدف تلافي الأخطاء بسبب علمهم المحدود ، فالمفروغ منه أنّ الصغر والكبر يجري
علينا بفضل محدوديتنا ، بينما هما سيّان بالنسبة لمن كان مطلقا ولامتناهياً في
علمه وقدرته.
والعجيب في هذه
المجسمة الإنسانية أنّها حملت نموذجاً دقيقاً لكل شيء بما في ذلك الأسرار والقوى
والعجائب والدوافع والمنظومات والكواكب والحيوانات بخلقها وطبائعها والملائكة
بروحياتها وهكذا كل شيء
قد أختصر فيها ،
وما أروع تلك العبارة التي وردت في الشعر الذي ينسب إلى أميرالمؤمنين علي عليهالسلام أنه قال :
«وتزعم أنّك جرم صغير وفيك
|
|
إنطوى العالم
الأكبر!»
|
لقد ظهر اليوم
مشروع للاستفاده من المايكروفيلم في مكتبات العالم الضخمة بهدف حل مشكلة مكان
الكتاب ، فمثلاً يمكن حشر كبار المكتبات في صندوق من خلال استعمال أفلام غاية في
الصغر ، فإذا برزت الحاجة كبّروا تلك الأفلام بمجاهر خاصة ليتمكنوا من مطالعة
مايريدون ، وكأن هذا الإنسان بمثابة ذلك المايكروفيلم لمكتبة الخلق العظيمة ،
وكفاه ذلك فخراً.
وهذا تشبيه رائع
بين كبير العالم وصغيرة والذي أخذ يتضح أكثر فأكثر بوسطة التطور والتقدم الذي
أحرزه العلم ، وإنّنا لنرى نماذج أصغر من ذلك في سائر موجودات العالم.
البنية المذهلة
للذرة هي مجسمة للمنظومة الشمسية العظيمة بتلك السيارات والحركة الدورانية العجيبة
، والمنظومة الشمسية بدورها مجسمة للمجرّات وكذلك بُنية الخلية التي لايمكن الوقوف
على جماليتها وروعتها إلّا بالمجهر مجسمة لبُنية الشجرة والحيوان والإنسان.
البذرة الصغيرة
للزهور والخلية الحيّة الكامنة إلى جوار كل نواة ، والنطفة الصغيرة المعلقة في
صفار البيضة ، كل واحدة منها نموذج لطيف وجميل لباقة ورد أو شجرة عملاقة مثمرة أو
دجاجة جميلة ، فكل ما كان في تلك النماذج موجود في هذه ولابدّ أن يكون كذلك ، أو
ليس عالم الوجود وحدة واحدة متصلة مع بعضها؟ إن هذا التشابه بين العالم الصغير (الإنسان)
والعالم الكبير يجعلنا نلتفت إلى أنّ كل ما في العالم الكبير يوجد نظيره في
الإنسان ، والعكس بالعكس ،
فما كان في
الإنسان يلفت نظرنا إلى وجود شبيهه في العالم الكبير (إحتفظ بهذا في ذهنك).
* * *
يوجد في باطن
الإنسان محكمة صغيرة يصطلح عليها اليوم «الوجدان» ويسميها الفلاسفة «العقل العملي»
ووردت على لسان الآيات القرآنية باسم «النفس» أو «النفس اللوامة» ويطلق عليها
العرب إسم «الضمير» ، وحقاً إنّها لمحكمة عجيبة لا تعدلها كافة محاكم الدنيا بكل
أجهزتها وأبهتها وعرضها وطولها.
محكمة يتحد فيها «القاضي»
و«الشاهد» و«منفذ الأحكام» و«الحاضر» وهو ما اصطلحنا عليه بالوجدان.
وهذه المحكمة وخلافاً
للمحاكم الصاخبة التي قد تطلب أصول المحاكمات فيها خمس عشرة سنة ، فهي لا تحتاج
إلى الوقت ، نعم قد تطلب ساعة أو دقيقة أو لحظة ليتم فيها كل شيء.
ليس هنالك من سبيل
للاستئناف والتمييز وإعادة النظر والديوان العالي والتي تفيد جميعاً عدم الوثوق
بممارسات المحكمة السابقة إلى هذه المحكمة ، فلأحكامها مرحلة واحدة فقط ، ولاغرو
فالثقة والإعتماد هي الحاكمة هنا.
ليس فيها
الانحرافات التي تشوب أعمال القضاة في المحاكم الرسمية من قبيل الخوف من المسؤولين
والانفعال بالوصايا والوساطات وإصدار الأحكام لصالح هذا وذلك بعيداً عن العدل
والإنصاف والإغترار بالرشوة والأموال وما إلى ذلك ، نعم ، العيب الوحيد في هذه
المحكمة أنّه يمكن إستغلال صفائها وطهرها وبالتالي خداعها وتصوير الحق لها باطلاً
والعكس
بسبب عدم عصمتها
ومحدودية علمها ومعارفها مهما بلغا.
ومن هنا نقول إنّ
الضمير بمفرده لايمكنه أن يحّل محل الدين ، مع ذلك فلعل إنحرافه لايتجاوز الواحد
بالألف مقارنة بالانحرافات التي تخترق المحاكم البشرية.
* * *
ومن مميزات هذه
المحكمة أنّها تعاقب المجرمين وكذلك تكرم المحسنين ، خلافاً للمحاكم الرسمية التي
لا أحظى فيها بكلمة شكر ولو إلتزمت لمئة سنة بالقوانين ولم أنتهك حرمتها ، بل حتى
لو خلت صحيفة أعمالي من أدنى مخالفة ، فمثل هذه المحكمة ليس من شأنها التعامل مع
الأعمال الحسنة وتقتصر وظيفتها على معالجة الأعمال السيئة.
القضية الأخرى
التي تميز هذه المحكمة عمّا سواها هو أنّ عقابها ينبعث من باطن الإنسان وهو على
درجة من الشدّة والألم بحيث قد تضيق الدنيا برحابتها وسعتها على هذا الإنسان فتكون
أضيق عليه حتى من الزنزانة الإنفرادية.
قد يكون ذنب
الإنسان أحياناً كبيراً للغاية فيشتد عذابه حتى يكاد يعيش الجنون ، بل قد يعاني من
وطأة ذلك العذاب حتى يتمنى معه الإعدام أملاً في الخلاص من لهيب ذلك العذاب الذي
قد لا تطيقه الجبال بينما لايراه من أحد.
إلى جانب ذلك فإنّ
ثواب هذه المحكمة أيضاً على درجة من الجلال والعظمة بما لايمكن وصفه وهذا ما نصطلح
عليه بسكينة الضمير حيث ليس لدنيا مفردة أخرى تبلغ ذلك الوصف.
يقال : إنّ أحد
أسباب إتساع الأمراض النفسية في عصرنا يعزى إلى
إستفحال الخطيئة
في أوساط المجتمعات المعاصرة ، فالآثمون مهما تخلصوا من بعض الأمور فإنّه لايسعهم
الخلاص من عذاب الضمير وتأنيبه ، وما هذه الأمراض النفسية المختلفة إلا إنعكاسات
لذلك العذاب والتأنيب.
إنّنا لنعرف
الكثير من الشخصيات السياسية المعروفة التي تفقد جميع قواها وطاقاتها خلال مدّة
قصيرة وتستسلم للموت لمجرّد سقوطها ممّا كانت تحظى به من مقامات ومناصب.
ولعل أحد العوامل
المهمّة لذلك هي أنّهم حين كانوا يتصدون للأعمال لم يكونوا يصغون لصوت الضمير ـ تجاه
المخالفات التي كانت تسود حياتهم ـ أمّا الآن وقد تبخر ذلك الصخب والنشاط فقد أخذت
محكمة الضمير تشدد خناقها عليهم فأخذوا يترنحون على ضربات عذابها الموجع.
هذه بعض النماذج
البسيطة التي تتميز بها هذه المحكمة العجيبة والتي أسميناها الضمير.
* * *
فهل يمكن التصديق
بوجود مثل هذه المحكمة وبهذه الأجهزة لدى هذا الإنسان الصغير بينما تنعدم مثل هذه
المحكمة في هذا العالم الواسع من أجل النظر في أعمالنا صالحها وطالحها؟
أو لا تلفت نظرنا
هذه المحكمة الصغيرة إلى باطن هذا العالم العظيم الذي يضم محكمة عظيمة تسع هذا
العالم وبعظمة خالقه الجبار ، والتي لا تعرف للعيب والنقص من حدود ، ولابدّ أن
يحضرها الجميع يوماً ليرى ما بدر منه من أعمال ربّما يكون نساها إلّاأنّها محفوظة
هناك حيث لايضيع شيء ولاينسى شيء ، وعقابها نار أرعب وأوجع من نار الضمير وثوابها
أكبر وأعمق من ثوابه ولكل حسب سعيه وعمله؟
قطعاً مثل هذه المحكمة
كائنة في ذلك العالم الكبير والتي يمكننا تسميتها بضمير العالم.
* * *
ولعل هذا هو السبب
الذي قرن محكمة الضمير بالحديث عن البعث والقيامة العظيمة التي وردت في القرآن
الكريم : (لَا أُقْسِمُ
بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ* وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوّامَةِ* ايَحْسَبُ
الِانْسانُ الَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ* بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ
بَنَانَه)
فقد قرنت
المحكمتان مع بعضهما في هذه الآيات القرآنية.
* * *
__________________
القيامة ردود على الألغاز
لو
قطعنا رابطة هذه الحياة من عالم ما بعد الموت ، لأصبح كل شيء على هيئة لغز ولتعذر
علينا الردّ على أكثر التعليلات.
العالم في عين فرخ!
نريد أن نتعرف على
مفهوم الحياة والماضي والمستقبل وكذلك عالم الوجود من زاوية نظر «فرخ» لم يخرج
لحدّ الآن من البيضة ويرى العالم : «آه! ياله من سجن صغير ، لا أستطيع تحريك يدي
ورجلي ...
لا أدري لم خلقني
خالق العالم لوحدي ، ولم خلق الدنيا بهذا الصغر والضيق ، ماذا ينفعه سجن وحيد ،
وما عساه أن يحل مشكلة؟
لا أدري مم صنع
جدار هذا السجن ، كم هو محكم وأصم لعل سرّ ذلك عدم سراية موج العدم المخيف من خارج
هذا العالم إلى داخله ، لا أدري ....
آه! لقد نفد غذائي
الرئيسي من الصفار (المح) تماماً والآن أتغذى على الزلال ، ولعله سينفد سريعاً
فأموت جوعاً وتنتهي الدنيا بموتى ، ياله من عبث ولغو ودون طائل خلق هذا العالم مع
ذلك فهو يستحق منّي الشكر ، فقد منحني العزّة حيث خلقني وحدي وأنا صفوة العالم!
قلبي هو مركز هذا
العالم وأطراف بدني هي شماله وجنوبه وشرقه وغربه! ... إنّي لأشعر بالفخر والإعتزاز
من تصور هذا الأمر ، لكن ما الفائدة فليس هنالك من يشاهد كل هذا المجد ويبارك لهذا
الموجود صفوة الخلق!
آه لقد برد الجو
فجأة (لقد نهضت الدجاجة بضع لحظات من البيضة من أجل الحب والماء) لقد إجتاح البرد
الشديد جميع محيط السجن وقد دبّ في عظمي ، آوه ، إنّ البرد يقتلني ، لقد شع نور
عظيم من حدّ العدم في باطن هذا العالم فأضاء جدران سجني ، أظن قد حانت اللحظة
الأخيرة للدنيا وقد أشرف كل شيء في هذا العالم على نهايته ، أنّ هذا الضوء الشديد
المؤذي وهذه البرودة القارسة تكاد تقتلني.
آه! كم كان عبثياً
هذا الخلق وسريعاً لاهدف له ولاطائل من وراءه ، ولادة في السجن ، وموت في السجن ،
ثم لا شيء! ...
بالتالي لم أفهم «من
أين جئت ، وكيف كان!» ...
آه! يا إلهي ، لقد
زال الخطر (عادت الدجاجة ثانية لتنام على البيضة) بدأت تدبّ الحرارة في عظمي ، وقد
زال الضوء الخاطف والقاتل ، أشعر باطمئنان كبير ، كم هي لذيذة هذه الحياة!
يا ويلي زلزلة!
أصحبت الدنيا كن فيكون (تقوم الدجاجة بتقليب البيوض تحت أقدامها للحصول على حرارة
متساوية) لقد هز جميع عظامي صوت ضربة قوية مرعبة ، إنّها لحظة نهاية الدنيا
وسينتهى بعدها كل شيء ، أشعر بالدوار وأعضاء بدني ترتطم بجدار السجن ، وكأنّه قدر
لهذا الجدار أن يتحطم ويقذف بعالم الوجود بغتة في وادي العدم الرهيب ... إلهي ما
الذي يحدث!
آه! ياإلهي ، لقد
حسنت الأوضاع وها أناذا أشعر بالإستقرار ؛ فقد زالت
الزلزلة ، وعاد كل
شيء إلى سكونه ، لم يكن لهذه الزلزلة من أثر سوى أنّها غيرت قطبي العالم فقد أصبح
القطب الشمالي جنوباً والجنوبي شمالاً! إلّا أنّ الأوضاع أصبحت أحسن من السابق ،
شعرت لمدّة بحرارة شديدة في رأسي وعلى العكس كان البرد دبّ في يدي ورجلي ، والآن
عاد الاعتدال والتوازن.
كأنّها لم تكن
زلزلة ، بل كانت حركة للحياة! (مرّت عدّة أيّام على هذه الحالة) آه! لقد نفد غذائي
تماماً ، حتى أنّي لعقت كل ما في جدار السجن ولم يبق شيء ... خطر ، هذه المرة ،
جدي ... إنّها نهاية الدنيا ، وقد فغر الموت والفناء فاه على مقربة منّي. حسناً
دعني أموت ، لكن لم يعلم بالتالي الهدف من خلق هذا العالم ومن هذا المخلوق السجين
الوحيد؟ ياله من عبث! كم هو لغو! لا طائل من وراءه! ولادة في السجن وموت وفناء في
السجن ، «لست راضياً بهذه الخلقة ، كانت مفروضة!».
آه! إنّ الجوع قد
أخذ مأخذه منّي ، لقد فقدت توازني والموت يلاحقني ، كأنّ هذا السجن بكل بؤسه هو
أفضل من العدم ، جاءني خاطر ، كأنّي بصوت ينطلق من أعماقي إضرب بمنقارك وبشدّة
جدار السجن! يالها من فكرة خطيرة! أفيمكن ذلك. هذا إنتحار ، هذا آخر الدنيا ، هنا
الحد الفاصل بين العدم والوجود ... لكن لا ، لعل هناك خبراً آخر وأنا لا أعلمه ...
أنا محكوم بالموت ، دعني أموت بعد جهد.
لقد إشتد هذا
الصراخ في أعماقي وهو يناديني حطم الجدار ... آه! لعلي أمرت بقتل نفسي ... على كل
حال ليس لي من سبيل سوى طاعة ذلك النداء الباطني (هنا يشرع الفرخ بالضرب بمنقاره
الغطاء الشفاف للبيضة).
إضرب بقوة ... بقوة
أشد ... لا تخف! أكثر قوة! ...
آوه! تحطم جدار
الوجود والعدم ، مرّت من هذه النافذة عاصفة إلى باطنها ، لا نسيم لطيف ومنعش ، لقد
تجددت حياتي! لقد تغير كل شيء ، إنّ الأرض والسماء في حالة تبدل وتغيّر ، لابدّ من
الطرق بقوة أكثر! لابدّ من تحطيم هذا السجن تماماً ...
آه! يا إلهي ياله
من جمال! ... ياله من ساحر! ... ياله من واسع! ياله من كبير!
يالها من كواكب
رائعة! ياله من ضياء لطيف! إن عيني تمتلىء بالضوء ، يالها من أزهار! يالها من
أنغام! ...
أي أمٍّ حنونة لدي!
... ما هذه الأطعمة المتنوعة والمختلفة! ...
ما أكثر مخلوقات
الله! ... آه كم أنا صغير وهذا العالم الكبير! كيف أكون مركز العالم! لست أكثر من
ذرة غبار معلقة في فضاء واسع ...
الآن فهمت لم يكن
ذلك المكان سجناً ، كان مدرسة ، كان مؤسسة تربوية ، كان وسطاً تربوياً عظيماً
أعدني للعيش في هذا العالم الواسع الجميل ، الآن بدأت أفهم المعنى الذي تنطوي عليه
الحياة ، وما هدفها وما هي برامجها ومشاريعها ، الآن أستطيع القول بقوة كم كانت
قياساتي بسيطة بينما كبيرة جدّاً هي مفاهيم هذا العالم ، وقد كنت في حلقة صغيرة ضمن
سلسلة طويلة ، وهناك حوادث لا تعرف بدايتها من نهايتها ، والحال كنت أرى كل شيء
منحصراً في تلك الحلقة التي تخلص فيها البداية والنهاية.
الآن عرفت أنّي
فرخ صغير ، وأصغر ممّا يتصور.
* * *
كان ذلك شكل عالم
الوجود على ضوء رؤية فرخ سجين.
أفلا نتصور كذلك
هو الأمر لهذا العالم الذي نعيش فيه إزاء العالم الذي
يعقبه؟ هل هناك
دليل يقوم على نفي ذلك؟ لقد صور التأريخ مدى الإيرادات الضخمة التي طرحتها المدارس
المادية إزاء خلق الإنسان ، وبصورة عامة خلق العالم وكذلك المصائب والمعاناة
والآلام والويلات التي يواجهها الإنسان طيلة عمره القصير ، وأفضل نموذج على ذلك ما
أورده الشاعر العربي المادي النزعة المعروف «إيليا أبو ماضي» والذي يختتم فيه أحد
أشعاره باللازمة «لست أدري». كما نشاهد شبيه ذلك في أشعار الشاعر الفارسي المعروف «بهمني».
إلّاإنّنا نعتقد
بأنّ أغلب هذه الإشكالات هي وليدة المطالعات المحدودة في الدنيا المادية لهذا
العالم والانقطاع عن الحياة القادمة وعالم ما بعد الموت ، وهي بالضبط كتلك التي
أوردها الفرخ الذي لم يخرج بعد من بيضته ، وقد مرّ علينا جانب من شعوره وحسابه
للأمور.
طبعا إذا أغضضنا
الطرف عن القيامة وحياة ما بعد الموت فسوف لن نمتلك إجابة على كثير من التعليلات ،
أمّا إن نظرنا إلى هذه الحياة بصفتها حلقة تكاملية وسط سلسلة طويلة من التكاملات
لتغير الحال ولحلت أغلب المسائل العالقة من خلال إرتباط حاضر الحياة البشرية
بمستقبلها ، وأمّا قولنا أغلب المسائل ـ لاجميعها ـ فذلك لأنّ بعض هذه المسائل من
قبيل الآلام والمصائب والويلات إنّما تنبثق عادة كنتيجة لأعمالنا أو نظامنا
الاجتماعي الفاسد أو الحركات الاستعمارية أو الضعف والوهن والكسل ، وهي الأمور
التي ينبغي التفتيش عن عواملها في كيفية الأنشطة الفردية والاجتماعية والعمل أجل
إزالتها.
* * *
القيامة في الكتب السماوية
جهد «اليهود» إثر
غرقهم في الماديات وسجودهم للثروة في محو آيات القيامة ليتسنى لهم مواصلة أعمالهم
دون تأنيب من ضمير.
وأمّا «النصارى»
فقد إقتعلوا الآثار التربوية للإيمان بالقيامة على ضوء مسألة الفداء والخلاص
بواسطة السيد المسيح عليهالسلام وصكوك غفران القساوسة.
لقد تضمنت رسالة
الأنبياء والمفكرين إلفات إنتباه الإنسان إلى أمرين والإجابة على لغزين ؛ هما
بداية الخليقة ونهايتها وبعبارة أخرى : «المبدأ» و«المعاد».
ومن المسلم به أنّ
فهم معنى الحياة لايتيسر دون فهم الأمرين المذكورين ، وكذلك يتعذر دون فهمهما
المعرفة الواقعية للعالم.
والتربية بمعناها
الحقيقي ـ يعني التربية التي لا تقتصر على التشريفات وآداب الضيافة وأسلوب تناول
الطعام ومجاملة الأصدقاء وما إلى ذلك ، بل تلك التي تتجاوز سطحية الحياة وتغوص في
أعماق حياة الإنسان وروحه ـ فنحتاج إلى حلّ هاتين المسألتين ؛ يعني الإلتفات إلى
جهاز المراقبة الذي يحكم الإنسان والتوجه إلى الثواب والعقاب وتكامل الإنسان
وسقوطه
على ضوء أعماله.
وعليه فليس هناك
أي كتاب سماوي ولا نبي إلّاوقد إستندت دعوته إلى الموضوعين المذكورين ، ولكن دفع
الجهل وقلّة العلم بالكتب وإمتداد يد التحريف إلى الكتب السماوية قد شوه صورة
القيامة عن واقعها الصحيح.
ولا بأس أن نعرض
هنا إجمالاً إلى مضامين تلك الكتب وتسليط الضوء على بحث القيامة الوارد فيها بغية
إحراز بعض الفوائد.
* * *
الكتب التاريخية بدل الكتب السماوية
ينبغي الإلتفات
هنا إلى أنّ الكتب المقدسة لليهود والنصارى اليوم هي كتب مقدسة فقط كما يرونها ،
لا أنّها كتب سماوية ، ومن هنا فهم لايصطلحون عليها بالكتب السماوية ، فإنّنا
لانجد يهودياً ولانصرانياً واحداً يقول أنّ هذا الكتاب هو ذلك الوحي السماوي الذي
نزل على موسى وعيسى عليهماالسلام ، بل يعترف الجميع بأنّ هذين الكتابين قد خطّا بعد هذين
النبيين العظيمين من قبل حواريها وأتباعهما وإن تضمنت هذه الكتب شيئاً من الوحي
السماوي ، ومن هنا فقد ورد فيها الكلام عن سيرة المسيح عليهالسلام وموسى عليهالسلام وحتى الحوادث التي وقعت بعدهما.
توضيح ذلك :
العهد القديم (الكتاب
المقدس لليهود) ويشتمل على ٣٩ كتاباً خمسة منها المسماة بأسفار التوراة ، فنقرأ
على سبيل المثال في الفصل الآخير من السفر الخامس ـ والذي يسمى بسفر التثنية ـ فموسى
عليهالسلام عبدالله وقد
توفى حسب قول الله
في أرض «مواب» وقد دفن في أرض مواب أمام يعور ...»
فهذه دلالة واضحة
على أنّهم كتبوه بعد وفاة موسى عليهالسلام.
وسبعة عشر كتاباً
منها تسمى «مكتوبات المؤرخين» حيث جاء فيه كما يفهم من إسمه تأريخ الملوك
والسلاطين وما إلى ذلك ، والسبعة عشر كتاباً الباقية تحمل عنوان مكتوبات الأنبياء
ورسل بني إسرائيل وسيرتهم وبيان قصار كلماتهم ومواعظهم ومناجاتهم.
وأمّا كتاب العهد
الجديد (الكتاب المقدس للنصارى) فيشتمل على ٢٧ كتاباً ، أربعة منها هي الأناجيل
الأربعة والتي كتبت من قبل تلامذة السيد المسيح عليهالسلام أو تلامذة تلامذته.
وإثنان وعشرون
منها هي الرسائل التي بعث بها بولس وسائر رجال النصرانية إلى المناطق المختلفة ،
والكتاب الأخير هو مكاشفات يوحنا الذي يشرح مكاشفاته على كل حال فإن هناك فارقاً
واضحاً بين العهد القديم والجديد ، وهو كثرة الكلام في كتب اليهود عن الدنيا
وقلّته وندرته عن القيامة!
والحال ليس الأمر
كذلك في الإنجيل فالحديث يبدو كثيراً نسبياً عن القيامة والعالم الآخر الذي يعقب
الموت والثواب والعقاب ، حتى صرّح «المستر هاكس» الأمريكي كاتب «قاموس الكتاب
المقدس» قائلاً إنّ أفكار اليهود في بعض المسائل المتعلقة بعالم ما بعد الموت
مجهولة وغير واضحة تماماً.
وكل الذي يمكن
قوله مع أخذ بنظر الاعتبار الوضع الخاص الروحي لليهود هو أنّهم ـ اليهود ـ يشتهرون
من بين كافة أقوام العالم بماديتهم وأنانيتهم وركوعهم للثروة دون أي قيد وشرط حتى
قيل أن إلههم هو
المال ، وحين
إمتدت أيديهم إلى تحريف كلمات الأنبياء وتعاليمهم فما كان في الدنيا ومادياتها
أثبتوه ، وما كان في القيامة وعقاب أصحاب الدنيا والظلمة والآثمة حذفوه منها ، فهم
لايقتصرون على تحريف أخبار العالم لصالحهم ، بل لايتورعون حتى عن تحريف كلمات
الأنبياء والكتب السماوية! وقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات التي تشير إلى
طبيعة اليهود الذين عاصروا النبي صلىاللهعليهوآله ومدى حرصهم على الحياة المادية : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ احْرَصَ النَّاسِ
عَلَى حَيوةٍ) .
وهذه هي الروحية
التي تلمس فيهم اليوم كما الأمس ، كأنّها أصبحت جزءاً من دمهم وطبيعتهم على مرور
الزمان ، وهذا مايفسر سلوكيتهم وتشردهم في الماضي ومدى لجاجتهم في العصر الراهن ،
ولانرى أنّهم سيخرجون من دوامتهم إلّاأن يعيدوا النظر في حياتهم ويمدوا يد السلام
إلى شعوب العالم ولايقتصرون بالقيمة والقدسية على المادة فقط ، على كل حال رغم عدم
إهتمام كتب العهد القديم بقضية القيامة فإنّ هناك تعبيرات واضحة يمكن مشاهدتها
بهذا الخصوص ، نعرض الآن إلى بعض نماذجها.
١ ـ نقرأ في
الكتاب الأول لصاموئيل (الباب ٢ الجملة ٦) :
«إنّ الله يحيي
ويميت ويقبر ويبعث». والعبارة ـ كما يفهم منها ـ تدل صراحة على المعاد الجسماني
إضافة إلى أصل القيامة ، فالقبر مكان الجسم الذي يتبدل فيه تراباً ، وإلّافالقبر
لايضم الروح لتنبعث منه ، وهذا يشبه ما ورد في القرآن : (وَانَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ في
الْقُبُورِ)
٢ ـ نقرأ في كتاب
يوشع النبي (الباب ٢٦ الجملة ١٩) :
«سيحيى موتاك
ويريدون أجسادي ، انهضوا يا من سكنتم في التراب
__________________
وانتبهوا وترنموا!».
فقد وصفت القيامة في هذه العبارة بأنّها نوع من الإنتباه (شبيه الإنتباه من النوم)
وهو الأمر الذي ورد في الروايات الإسلامية «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».
فتشبيه «الموت» أو
«القيامة» بالإنتباه من النوم يعلمنا كثيراً من الأشياء سنتعرض لها لاحقاً إن شاء
الله.
ولعل المراد
بالعبارة أجسادي (رغم أنّ لكل فرد جسد واحد) الأعضاء والأطراف المختلفة للجسد ، أو
الأجساد التي تتغير طيلة العمر وبمرور الزمان.
٣ ـ نقرأ في
مزامير داود (المزمور ٢٣ الجملة ٤ إلى ٦) :
«سوف لن أخشى
السوء من مشي في وادي الموت لأنّك معي ، سيلحقني كل إحسان ورحمة وأسكن في بيت الله
إلى أبد الاباد». حيث تتضح بجلاء من هذه العبارات الرابطة بين الإنسان في عالم ما
بعد الموت والأعمال التي بها في هذا العالم ، فستتبعه أعماله أينما حل ولا تنفصل
عنه أبداً.
* * *
وهكذا تكون قد
وردت إشارات واضحة إلى يوم القيامة في كلمات الأنبياء كداود ويوشع وصاموئيل ،
إلّاأنّ اليهود تناسوا القيامة والبعث وكأن ليس هنالك من دنيا بعد هذه الدنيا
وحياتها المادية.
* * *
القيامة في الأناجيل
كما ذكرنا سابقاً
فإن الأناجيل كانت أكثر صراحة من غيرها بشأن الحديث عن القيامة. وإليك نموذجان
منها :
١ ـ نقرأ في إنجيل
يحيى (الباب ٥ الجملة ٢٧ ـ ٢٨) :
«ستأتي الساعة
التي يسمع فيها كل من في القبور ندائه فينهضون ، فمن عمل عمل حسناً له قيامة
الحياة ومن عمل عمل سيئاً له قيامة الحساب».
والمراد بقيامة
الحياة هو الحياة الخالدة في النعم الإلهية التي تمثل ثواب المحسنين ، والمقصود
بقيامة الحساب هو عقاب المسيئين بمقتضى حساب الله وعدله.
وأخيراً فالعبارة
ـ بالنظر لذكرها القبور التي تمثل موضوع جسم الإنسان ـ إشارة إلى المعاد الجسماني.
٢ ـ وردت إشارة
صريحة إلى قضية الجزاء والثواب يوم القيامة في إنجيل متي ـ وهو أول الأناجيل ـ حيث
جاء فيه :
«سيأتى الابن في
جلال أبيه ومعه الملائكة وسيجزي كلا حسب عمله».
(إنجيل متي ،
الباب ١٦ الجملة ٢٧)
ونظير هذه
العبارات التي تتحدث عن الثواب والعقاب والجنّة والنار والحساب في عالم ما بعد
الموت ، وهي كثيرة في كتب العهد الجديد والأناجيل.
* * *
ولكن للأسف فقد
شوه بعض النصارى الآثمين الآثار التربوية العقائدية والإيمان بالمعاد والقيامة
بحيث لم يعد هنالك من دور للعمل الصالح أو السيىء في الفوز بالحياة الخالدة أو
العذاب الدائم ، وذلك من خلال البدع الخطيرة التي ابتدعوها من قبيل صكوك الغفران
وأنّ المسيح عليهالسلام صلب ليكفر عنهم سيئاتهم وما إلى ذلك من التحريفات.
* * *
القرآن والآخرة
أول إرشاد
لقد
كان يوماً بين هذه الذرات المؤلفة لأبداننا مسافة تتجاوز ملايين الكيلو مترات وكانت
متناثرة في كل مكان ، فهل يمكن أن ترتبط مع بعضها بعد تشتتها ثانية بعد الموت؟
لقد حدثت هزة
عنيفة في وسط الوثنيين فقد تزلزلت دعائهم الوثنية ، فقد ظهر دين جديد ، دين
التوحيد ، دين عبادة الله الواحد الأحد والذي أخذ ينتشر بين الناس بالسرعة ويسيطر
على أفكارهم ولاسيّما الشباب الذين إستقطبهم بصورة أعمق من غيرهم.
إثر ذلك عقدت
الجلسات والندوات الصغيرة والكبيرة ونظمت الاجتماعات في الأوساط العالمية والأندية
والأسواق والمسجد الحرام وفي بيوت المشركين بهدف مواجهة هذا الدين والحيلولة دون
إنتشاره ونفوذه ، وكان كل فرد يفكر في العثور على نقطة ضعف في هذا الدين الجديد
الذي سدد ضرباته لدينهم القديم. وفجأة إنبرى أحدهم من زاوية في المجلس ليقول : (هَلْ نَدُّلُكُمْ عَلَى رَجُلٍ
يُنَبِّئُكُمْ اذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّقٍ انَّكُمْ لَفي
خَلْقٍ
جَديدٍ* افَتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّة)
نعم كان الإعتقاد
بعالم الآخرة وبعث الموتى ووقوفهم للحساب آنذاك هو نوع من أنواع الجنون أو توجيه
التهمة لله سبحانه ، كما أن إنبثاق الحياة من المادة الصماء التي لاروح فيها هو
الآخر كان يمثل أمراً جنونياً لايمكن تصوره ، وبالطبع لايبدو هذا النمط من التفكير
مستغرباً من أولئك الأفراد ممن يعيشون في «ضلال مبين» ولم يشموا لسنوات مديدة نسيم
العلم والمعرفة.
إلّاأنّ الطريف
ماينبغي معرفته من القيامة التي أحدثها القرآن الكريم بشأن مسألة يوم القيامة ،
حيث إعتمد الأدلة اللطيفة والأمثال الرائعة والمنطق السهل والممتنع الذي يجتمع
عليه عوام الناس ممن لاحظ لهم من معرفة وعلمائهم ومفكريهم.
ولعلك لا تشاهد
صفحة من القرآن خلت من ذكر عالم الآخرة والحياة بعد الموت والمسائل ذات الصلة ،
وهذا بدوره يوضح الأهمية التي أولاها القرآن لهذه المسألة المهمّة.
وبصورة عامة يمكن تقسيم
آيات القيامة من حيث الدليل والبرهان إلى سبعة طوائف بحيث تفتح كل طائفة بدورها
نافذة على هذه المسألة الكبرى المهمّة وتعد طريقاً واضحاً ومطمئناً.
* * *
الطريق الأول : التذكير بالخلق الأول
(أَفَعَيِينَا
بِالْخَلقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ في لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)
__________________
لقد ذهل ذلك
الإعرابي حين وقعت عينه على قطعة عظم متعفن وسط الصحراء ، ولم يكن واضحاً أنّ ذلك
العظم لرجل قتل في نزاع قبلي أم توفاه الله سبحانه ، ففكر مع نفسه قليلاً : أنّ محمداً
يقول بأنّ هذا العظم البالي سيكتسب الحياة مرّة أخرى ويعود الإنسان شاباً حيوياً
طرياً ، يالها من خرافة عجيبة! ...
قسماً بهذه
الأوثان سأردّ عليه بهذا الدليل المحكم.
فحمل ذلك العظم
وأسرع يطلب رسول الله صلىاللهعليهوآله فلما رآه قال : (مَنْ يُحيي الْعِظامَ
وَهِىَ رَمِيم)
وهنا نزلت الآيات
القرآنية كحباب المطر في الربيع على قلب رسول الله صلىاللهعليهوآله لتجيب بمنطق صريح جذّاب : (قُلْ يُحيِيهَا
الَّذي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)
(أَوَ لَيْسَ الَّذي
خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم)
كما وردت آية أخرى
شبيهة للآية المذكورة : (كَمَا بَدَأْنَا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُهُ)
* * *
والآن نتصفح أوراق
تأريخ ظهور البشرية فنعود إلى الوراء لنرى بداية الخليقة : ... فجأة قذفت من الشمس
كتلة نارية عظيمة أطلق عليها فيما بعد إسم «الأرض» فأخذت فوراً بالدوران حول الشمس
، إلّا أنّها كانّت متقدة ومحرقة بحيث إذا تأملها الناظر لما احتمل إنّها ستصبح
يوماً موضعاً لكل
__________________
هذه البساتين
الغنّاء والأزهار الجميلة والشلّالات والطيور المتنوعة وأفراد الجنس البشري.
ولا ندري على وجه
الدقّة كم مضى على تلك اللحظة ، ولعلها تمتد إلى خمسة آلاف مليون سنة! مضت آلاف
ملايين السنين والأرض ساخنة ومحرقة.
ثم إتحد غاز
الهيدروجين مع الاوكسجين في أجواء الأرض ليكونا بخار الماء ، وبردت الطبقات العليا
من الجو بمرور الزمان فاشبعت ببخار الماء فبدأت سيول الأمطار الرهيبة. إلّاأنّ
الأرض كانت على درجة من السخونة بحيث لم تخترقها الأمطار ، فكانت تتحول بخاراً قبل
ملامستها فترتفع إلى الأعلى ، وهكذا بقيت البحار لسنوات مديدة ـ ربّما ملايين
السنين ـ تائهة معلقة ما بين الأرض والسماء!
فلم يكن لها من
سبيل إلى الأرض ولا إلى جو السماء ، فكلما حاولت أن تقترب من الأرض لم تدعها
الحرارة ، وحين كانت تندفع إلى السماء لم يكن لها القدرة الكافية لحل كل ذلك بخار
الماء ، فكانت دائبة الحركة.
إلّاأنّ تلك
الحركة أخذت تبرّد الأرض بالتدريج وتحد من جماحها.
فعادت المياه إلى
الأرض ، حيث تقبلتها ودعتها تستقر في الحفر ، لكن لم يكن يسمع في الكرة الأرضية
سوى صوت الرعد والبرق وزئير الشلّالات وأمواج البحار وصرير العواصف. فلم تتفتح
وردة ولابرعم ، كما لم تكن هناك فراشة تلقح الأوراق ولا أصوات لرفرفة أجنحة الطيور
التي تحلق على شكل أسراب وجماعات لتحطم حاجز الصوت المرعب لتلك المقبرة ، لا صوت
حشرة ولا تغريد بلبل ... كان الصمت سائداً في كل مكان!
وفجأة حدثت ثورة
عجيبة وحادثة فريدة فقد ظهرت أولى الكائنات
الحية في البحار ،
فأخذت النباتات بالانتشار تدريجياً ، ثم أخذت إثر ذلك أولى الحشرات الصغيرة
والحيوانات المختلفة تسرح وتمرح في البحار واليابسة.
لكن إلى الآن لا
أحد يعلم السبب الذي يقف وراء ظهور الكائن الحي من المادة التي لاحياة فيها ، وكل
الذي نعلمه هو أنّ عوامل خفية إتحدت مع بعضها لتكون هذا الإبداع العظيم ، أمّا
جزئيات ذلك فما زالت من الأسرار التي لم يقف كنهها العلماء لحدّ الآن.
* * *
وبناءاً على هذا
فإنّنا نلاحظ بوضوح أنّ أجزاء من بدننا الفعلي كانت سابقاً متناثرة في زوايا هذه
الأرض الواسعة الخالية من الروح والحياة ، ولعل هناك ملايين الكيلو مترات من
المسافة بين ذراتها.إلّاأنّ ذلك التناثر وهذه المسافة لم تكن لتمنعها من التجمع
يوماً مع بعضها وتشكيلها لبدن الإنسان.
فهل من العجب أن
يتكرر هذه العمل مرّة أخرى فتتجمع الذرات التي أصحبت تراباً وتناثرت هنا وهناك
لتلبس ثوب الحياة وتعاد الخلقة الأولى؟
فإن رأى الإعرابي
ذلك الأمر ضرباً من الجنون ، فما بالنا نحن الذين نعيش في ظل هذا التطور العلمي
فنراه عملياً يمكن تحقيقة ، وهو ما عبّر عنه الفلاسفة بقولهم : (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لايجوز واحد)
* * *
تكرر رؤيتنا للقيامة
الطريق الثاني :
هناك عيب كبير
يتخلل نظرتنا على الدوام وهو :
لايلفت إنتباهنا
عادة في حياتنا اليومية سوى الأشياء التي تصطدم بها بصورة إستثنائية ، أمّا تلك
التي نعيشها دائماً وبصورة مرتبة ـ مهما كانت خارقة وعجيبة وتنطوي على الدروس
والعبر ـ فقلّما تسترعي إليها إنتباهنا!
فعادة ما يتجمع
الناس حول مشهد أو لوحة أو ثوب مهما كان عديم الأهميّة إن كان متفاوتاً مع
مارأيناه لحدّ الآن على أنّه موضوع يثير التعجب والدهشة ، بينما لا تثير مشاعرنا
وأفكارنا أجمل وألطف وأعمق كائنات هذا العالم إن كانت معنا دائماً ، إنّنا نعرف
الكثير من الأفراد الأفذاذ والخارقين وليس لهم من عيب سوى أنّهم يعيشون بيننا وعلى
مقربة منّا ، ومن هنا لا نعير نبوغهم أيّة أهميّة ولا نكترث لأفكارهم السامية
وروحهم العالية! وبالعكس فإنّنا نعرف بعض الأفراد العاديين الذين نطريهم بمختلف
طقوس الإحترام والإعتزاز ، وما ذلك إلّالأنّهم ماتوا وإنقطعوا عنّا ، إنّ هذا نوع
من الاسلوب السطحي الساذج في التفكير ، والمؤسف له أنّه يسود كافة
طبقات المجتمع حتى
الخواص منهم.
لا نريد أن نبتعد
عن أصل الموضوع ، ففي عالم الطبيعة الذي نعيش فيه نرى كراراً قضية إحياء الموتى ،
غير أنّها وبسبب تعايشنا معها فهي لا تسترعي إنتباهنا.
يحل فصل الخريف ،
نتجول في الصحارى والسهول وما زال كل شيء لحدّ الآن قد إحتفظ بصورته الطبيعية فنرى
الأشياء ذابلة وشاحبة ، أوراق الأشجار تلفظ أنفاسها الأخيرة وتسعى جاهدة للإلتصاق
بأغصان الشجرة وبالتالي تستسلم لرياح الخريف الباردة فتسقط على الأرض ، الأغصان هي
الاخرى تعيش حالة الجفاف والذبول وكأنّ الحياة لم تدبّ فيها أبداً ، فإذا لاحت
بوادر فصل الشتاء تسلطت عوامله الطبيعية لتحيل الأشجار إلى جثث هامدة عارية يسودها
الصمت التام فلا من طراوة ولا ورق ولا ورد ولا ظل ، ولم يبق منها سوى ساق أجرد
أشبه بجهاز عظمي مهموم لاروح فيه ولا حركة كالعظام النخرة التي تبقى من أجساد
الأموات.
ولعل هذه الصورة
تتجلى بوضوح في الصحاري القاحلة القفراء كصحراء الحجاز ـ التي لا تصلها سوى مياه
الأمطار الموسمية ـ فهي تبدو في فصل الشتاء بالضبط كالمقابر القديمة والمتروكة ،
حتى ، صوت البوم لا يسمع فيها بصفته الرفيق الحميم لمثل هذه الأماكن! ثم لايلبث
ذلك طويلاً تلوح آفاق فصل الربيع بنسيمه الحيوي وأمطاره المناسبة وحرارته المعتدلة
الخلّابة وبالتالي بجميع بركاته التي تجعل الأرض تتنفس الحياة لتدب في تلك العظام
الخاوية للأشجار ، كما تفيض الحياة والحركة والنشاط على تلك الصحاري القفار التي
كانت تفوح منها رائحة القبور القديمة والمتروكة ، وأخيراً فإنّ قيامة عظيمة تقوم
لتجتاح أنحاء عالم الطبيعة.
لا شك إنّ موت
الطبيعة وبعثها الذي نشاهده كراراً طيلة سنوات عمرنا ، ما هو إلّانموذج حي لقيامة
البشرية وبعثها للحياة ما بعد للموت. فما الفارق في ذلك ، فقانون الموت والحياة
واحد في كل مكان.
فلو لم تكن هناك
من حياة بعد الموت ، لما إنبغى أن تستثنى الأراضي الموات من هذا القانون.
وإن كان ممكناً ،
فهو ممكن كذلك بالنسبة لأفراد البشر.
فإذا لم يكن هناك
أي أثر للحياة في تلك الصحراء الجافة بالأمس ، حتى لا يسمع فيها صوت البوم الشغف
بذلك المكان فيسارع للهرب منه ، بينما إخضرت وغرقت في الحياة والنشاط والحركة
اليوم بفعل إرتفاع درجة حرارة الجو وهبوب الرياح المعتدلة وهطول بعض الأمطار ، فما
بالنا لا نعمم هذا القانون على موت الإنسان وحياته ، حقاً ما الفارق بين هذين
الأمرين.
هذه هي إحدى صور
القيامة التي نمرّ عليها دائما مرور الكرام.
* * *
وقد تعرض القرآن
الكريم على لسان العديد من الآيات إلى هذه الحقيقة بهدف الإرشاد إلى قيامة الناس ،
فقد جاء في بعض الآيات :
١ ـ (وَاللهُ الَّذي ارْسَلَ الرّيَاحَ
فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ الى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ
بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) . وكما نلاحظ فإنّ قيامة البشرية قد قورنت بقيامة عالم
النبات.
٢ ـ (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
مُبَارَكاً فَانْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصيدٍ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ
لَهَا طَلْع نَضِيدٍ* رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً
كَذلِكَ الْخُرُوجُ) .
__________________
٣ ـ (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدةً فَاذَا
انْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَانْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوُجٍ
بَهِيجٍ* ذَلِكَ بِانَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَانَّهُ يُحيىِ الْمَوتى وَانَّهُ
عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِير) وبهذا الشكل أصحبت
قضية الحياة بعد الموت على هيئة أمر حسي وملموس يتكرر أمام العين كل سنة ، بعد أن
كانت تراه الجاهلية أمراً محالاً وغير معقول وحتى جنوني.
الردّ على إشكال مهم
قد يرى البعض أنّ
هناك إشكالاً مهماً يمكن طرحه بهذا الخصوص وهو : هناك بون شاسع بين حياة الإنسان
بعد الموت وتجديد الحياة بالنسبة للأرض الميتة في فصل الربيع ، لأنّنا نعلم أن ليس
هنالك من موت حقيقي بالنسبة لمثال الأرض والنبات ، كل ما هنالك ، هو إندثار لجذوة
الحياة ، فالأشجار لن تموت قط في فصل الشتاء ، بل هناك سبات ، بينما بصيص الحياة موجود
في جوف الجذر والغصن والساق ، ومن هنا فهي تفرق عن الشجرة الجافة واليابسة ، أضف
إلى ذلك هناك موت ظاهري للأرض لا واقعي حيث هنالك البذور الحيّة للنباتات التي
تتخللها فإذا توفر المحيط اللازم أخذت بالنمو والظهور ، فلو خلت تلك الأرض من
البذور لما دبّت فيها الحياة ولو هطل عليها المطر لآلاف السنين وهذا يختلف تماماً
والموت الحقيقي لبدن الإنسان.
وللإجابة على هذا
الإشكال لابدّ من الإلتفات إلى أمرين :
١ ـ لابدّ من
التوقف عند بذرة النبات أو نواة الشجرة بفضلها خلية حيّة
__________________
ليس أكثر فكيف
تتبدل إلى مئات الأغصان والسيقان والجذور والأوراق الحيّة؟ ألم تنبثق من هذه
الأتربة الهامدة الميتة وذرات الأرض وقطرات الماء واوكسجين الهواء وهيدروجينه وكل
هذه المواد أموات عالم الطبيعة ، لتشكل نفسها وتصنع كائنات حيّة من تلك الموجودات
الميتة؟ أو لم تكن هذه الشجرة وذلك البرعم والنبات الذي يحركه هبوب الرياح وما إلى
ذلك ، ألم تكن كل هذه الأشياء لبضعة أيام أو عدّة شهور قبل تلك الذرات الميتة
الهامدة في التراب وقد أصبحت اليوم بهذا الشكل؟
أفنجانب الواقع
بأن قلنا الأرض الميتة قد تبدلت إلى أرض حية؟ جدير بالذكر هو أنّ القرآن الكريم
لايقول الأشجار الميتة تصبح حيّة (لأنّها لم تمت) بل يقول : الأرض الميتة وذرات
التراب تصبح حيّة!
٢ ـ لو ألقينا
نظرة على بداية إنبثاق الحياة في الكرة الأرضية ، لأتضحت المسألة أكثر فأكثر ،
لأنّ الأرض كانت محرقة في البداية ولم يكن فيها أي كائن حي ، ثم بدأ عصر السيول
والأمطار ، واتحد عنصر الهيدروجين الخانق بالاوكسجين وأخذت السيول والامطار تضرب
الأرض لملايين السنين حتى بردت واستوت ، فلما توفر المحيط اللازم للحياة ، دبّت
فيه بدايات الحياة وظهرت من تلك المواد الميتة للأرض بطريقة تنطوي على الأسرار
التي ما زالت خافية على العلماء ، وهكذا إكتسبت تلك الأرض الميتة الحياة.
* * *
معاد الطاقة وقيامتها
الطريق الثالث :
* إنّنا نرى بأم
أعيننا قيامة كلما أشعلنا كبريتاً وتحررت منه طاقة حرارية خاصة ، فالحرارة التي
ربّما إنفصلت عن الشمس قبل خمسين سنة وقد ظن الجميع أنّها فنت ، بينما إدخرت بصورة
خفيفة في جوف عود الثقاب وقد قامت قيامته الآن.
* والطاقة
الحرارية المنبعثة من قطرة النفط أو البنزين التي نشعلها قد تكون إنفصلت عن الشمس
قبل ملايين السنين ، وقد أودعت بشكل في أعماق تلك المواد وننظر الآن إلى قيامتها.
* كيف يشير القرآن
في بحث المعاد من أجل رسم صورته في هذه الدنيا ويجسد قيامة الطاقة أمام أعيننا
بمثال رائع!
عليك بالدقّة في
مطالعة هذا البحث.
إنّ الشمس هي مصدر
جميع الطاقات الموجودة على الأرض (سوى الطاقة الذرية) ، ويخلو هذا الكلام من أي
إستغراق أو مبالغة بل هو واقع قائم.
على سبيل المثال
لو تأملنا جميع المصادر المنتجة للطاقة من قبيل
الفحم الحجري
والطاقة الكهربائية والرياح والحيوانات والإنسان والكائنات الحيّة لاكتشفنا أنّ
المصدر الأصلي لها هو ضوء الشمس.
١ ـ «الفحم الحجري» كما يفهم من إسمه المتبقي من غابات وأشجار العصور والقرون
السابقة وقد دفن في أعماق الأرض بفعل مختلف الحوادث التي مرّت على الأرض ، وقد
تحولت إلى فحم أسود إثر ظروف معينة وبمرور الزمان ، وسنقف قريباً أنّ الطاقة
المخزونة فيها من ضوء الشمس.
٢ ـ «النفط» تفيد آخر النظريات أنه ما يتّبقى من الحيوانات البحرية
الصغيرة والكبيرة للعصور السالفة وقد دفن في الأرض إثر تغير الظروف الجوية ، ثم
تبدلت جسيماته بعد سلسلة من الأفعال والانفعالات المختلفة والقدرة الخلاقة العجيبة
إلى هذا الذهب الأسود المذاب والذي يقال له آلاف المشتقات التي يفوق كل واحد منها
الآخر ، وسندرك عمّا قريب أنّ ضوء الشمس هو مصدر ظهور الحيوانات والمواد المنتجة
للطاقة في بدنها.
٣ ـ «التوربينات
والمولدات الكهربائية» إمّا أنّها تتحرك بواسطة ضغطماء الشلّالات والسدود ، وإرتباطها بضوء الشمس ـ بصفته
عامل تبخير مياه البحار وتكوين الغيوم ونزول الأمطار ـ واضح ، أو بواسطة المواد
النفطيةوأمثالها والتي مرّ علينا استمدادها للطاقة من ضوء الشمس.
٤ ـ «حركة الرياح» التي تكون عاملاً لحركة بعض الأجهزة الصغيرة كالسفن
الشراعية ، وهي ترتبط أيضا بضوء الشمس الذي يسبب إشعاعه على النقاط المختلفة للكرة
الأرضية اختلاف درجة الحرارة ، ونعلم أنّ اختلاف درجة حرارة نقطتين من الكرة
الأرضية يؤدّي إلى هبوب الرياح.
٥ ـ «الحيوانات» والتي تعتبر من مصادر الطاقة ، مغ ذلك لايمكنها العيش دون «النباتات»
، لأنّ كل حيوان ـ عادة ـ إمّا يتغذى على النباتات أو
على لحوم
الحيوانات الآكلة للنباتات ، ولا يستثنى من هذا القانون حتى الحيوانات البحرية
التي تتغذى على أصغر النباتات البحرية.
٦ ـ لايمكن تنمية
النباتات والأشجار دون الاستفادة من ضياء الشمس ـ سواء بصورة إشعاع مباشر أو غير
مباشر ـ ومن هنا تنعدم النباتات في أعماق البحار (لأعماق تتجاوز الستمئة متر) وذلك
لعدم وصول ضياء الشمس إليها.
طبعا يمكن العثور
على بعض الموارد النادرة للطاقة والتي لا تستندفيها إلى ضوء الشمس ، من قبيل
الطاقة الحاصلة من ظاهرة المد والجزر في البحار بواسطة جاذبية القمر والتي يستفاد
منها أحياناً من أجل السقي وإنتاج الكهرباء ، وكذلك الطاقة الناشئة من البراكين
وأمثالها ، إلّاأنّ هذه الموارد نادرة جدّاً كما ذكرنا.
* * *
حرارة النار من الشمس!
صحيح ما يقال أنّ
حرارة النار من ذاتها ، فحيثما كانت النار ، كانت الحرارة والحرقة ، فإن سلبت
حرارتها وحرقتها لم تعد ناراً ، وكما يقال فإنّ هذه الكيفية تعتبر من الخواص
الذاتية للنار.
ولكن إن نظرنا من
جانب آخر إلى هذه الحرارة فإنّها كانت يوماً في مركز الشمس وقد إنتقلت إلى الأرض
بواسطة إشعاعها لتستقر بطريقة غير معلومة في جوف جذوع النخل ولم تطفىء جذوتها بفعل
مرور الأشهر والسنوات ونزول مالايحصى من الأمطار ، وبعبارة أخرى لو بعث عود الثقاب
بشعلة من النار خارجاً ، أو إذا إنتشرت طاقة حرارية خارقة اثر حريق هائل
في غابة أو مخزن
ضخم من الأخشاب فانّها تفقد دفعة واحدة إلى الخارج كل ما إختزنته تدريجياً من ضوء
الشمس خلال عشرات أو مئات أو آلاف السنين ، أمّا كيفية ذلك فهو أنّ هناك قانونين
في علم الكيمياء يوضحان حقيقة الموضوع المذكور ، وهو أنّ أي تركيب أو تحليل
كيميائي لايخرج عن حالتين إمّا إكتساب أو فقدان الطاقة.
فمثلاً إذا أردنا
أن نحصل على بضع قطرات من الماء ، لابدّ أن نمزج مقداراً من الهيدروجين والاوكسجين
في زجاجة محكمة وجافة ، إلّاإنّنا نشاهد عدم تركبها وإتحادهما لتكوين الماء ، فإن
أشعلنا عود ثقاب وقربناه من فوهة الزجاجة لسمعنا صوتاً عظيماً يشبه صوت إنفجار
المواد المنفجزة ، فيتحد هذان العنصران مع بعضها وتظهر قطرات الماء على جوانب
الزجاجة.
ومن هنا نستنتج
أنّ الماء يساوي الحرارة بالاضافة إلى الاوكسجين والهيدروجين ، يمكن أن نتحفظ بذلك
الماء في قنينة محكمة لسنوات ، وأمّا إن أردنا تحليل ذلك الماء في جهاز تحليل
فاننا سنحصل على نفس نسبة الهيدروجين والاوكسجين بالاضافة إلى الحرارة التي يمكن
تحسسها من خلال جهاز التحليل.
ونقول في الصورة
الأولى : إنّ مركبنا الكيميائي قد إكتسب طاقة ، ونقول في الصورة الثانية : إنّ
تحليلنا الكيميائي قد فقد طاقة ، ونعود الآن لدراسة «أخشاب الأشجار» حيث تفيد
المطالعات الكيميائية أنّها مركبة من اوكسجين وهيدروجين وكاربون ومقداراً من
الأملاح المختلفة ، وكما نعلم فإنّ الأملاح مأخوذة من الأرض ، والهيدروجين
والاوكسجين من الماء ، وأمّا الكاربون فمن الهواء ، لأنّ أحد الغازات الموجودة في
الهواء هو غاز
الكاربون الذي
يتكون من إتحاد الاوكسجين بالكاربون ، فتقوم خلايا الأشجار في ظل ضوء الشمس بتحليل
هذا الغاز فتأخذ الكاربون وتطرح الاوكسجين (ومن هنا نقول أنّ الأشجار تنّقي الهواء
وتزودنا بالاوكسجين ، كما تمنح الغابات وخضرة حدائق المدن الإنسان النشاط والحيوية).
ولكن لاينبغي
نسيان قولنا «في ظل ضوء الشمس» ومرادنا من ذلك أنّه حين إنبات الشجرة وتشكيل
السليلوز النباتي فانّ هناك مقداراً من الطاقة الشمسية التي تدّخر في الشجرة أيضاً
، فمن الطبيعي أن تنبعث تلك الحرارة المدخرة من الشمس لسنوات ضمن عمل الكربنة حين
إحراق الشجرة وتحللها إلى اوكسجين وهيدورجين (يعني ماء) وتحرير الكاربون وإتحاده
بالاوكسجين.
* * *
وفي الختام لابدّ
من الإلتفات إلى هذه النقطة وهي أنّ الشجرة تقوم بعمل الكربنة وإدّخار ضوء الشمس
مادامها خضراء حيّة ومصداق «للشجر الأخضر» أمّا إن جفت فليس لها مثل ذلك العمل.
* * *
والآن بعد أن إتضح
هذا البحث ، نعود إلى القرآن الكريم لنرى كيف يجسد لنا معاد وقيامة الطاقة بهذا
المثال.
* * *
قيامة الطاقة بعد موتها
إن
إشعال عود الثقاب والكوّر العظيمة التي تشعل بالأخشاب أو بالفحم الحجري تمثل كل
منها إنبعاث وقيامة القيامة ، كيف طرح القرآن هذه الحقيقة بعبارات قصيرة؟
الحديث عن صور
متنوعة للعودة إلى الحياة في هذا العالم والتي نراه بأعيننا أو نمر عليها بينما لا
ندقق فيها.
القرآن الكريم من
جانبه وبعباراته القصيرة البعيدة المعاني يدعو الناس إلى التمعن في مظاهر القيامة
المذهلة ، ومن ذلك تجدد حياة الطاقة التي يفيد ظاهرها الموت.
فقد أثبتنا في
البحث السابق بالأدلة الواضحة أنّ كافة الطاقات الموجودة على الأرض ـ سوى الطاقة
النووية ـ إنّما تستند إلى «ضوء الشمس» ، فمثلاً حين يحرق الخشب والحطب وأوراق
الأشجار اليابسة فإنّ الحرارة والضوء المنبعث منها هو عبارة عن الحرارة والضوء
التي خزنتها تدريجياً لسنوات طويلة من الشمس ، وهي تفقدها الآن جميعاً خلال لحظة
واحدة أو عدّة ساعات وكأنّها قد جرت إلى عرصة القيامة ، نعود الآن إلى القرآن
الكريم لنرى كيف يبحث هذه المسألة. فقد ورد الحديث ضمن
الآيات الأخيرة من
سورة يس الآية ٨٠ مواصلة للبحث بشأن القيامة والمعاد : (الَّذي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ
الأَخْضَرِ ناراً فَاذَا انْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ). ويالها من عبارة عجيبة رائعة! وما ينبغي الإلتفات إليه
هنا هو أنّ لهذه الآية كسائر الآيات القرآنية عدّة معاني : بعضها «بسيطة» ليفهمها
عامة الناس وفي كل عصر ومصر ، وبعضها الآخر «عميقة» للخواص ، وأخيراً «عميقة جدّاً»
للنخبة من الخواص ، أو للعصور والقرون القادمة (بالنسبة لزمان نزول الآية).
المعنى الأول
للآية الذي أشار إليه بعض قدماء المفسّرين هو أنّ العرب في العصور القديمة كانت
تستفيد من بعض أخشاب الأشجار الخاصّة مثل «المرخ» و«العفار» التي تنبت في صحاري الحجاز من أجل إشعال النار ، فقد أشارت
الآية إلى اولئك بالقول : أنّ الله القادر على الإتيان بالنار من الماء (فالقسم
الأعظم من الشجر الأخضر هو الماء) قادر أيضاً على خلق الحياة من باطن الموتى! أو
ليس بعد «الماء» عن «النار» شبيه ببعد «الحياة» عن «الموت»؟!
فمن يأتى بالنار
من الماء ، ويحفظ الماء في جوف النار ، لا يتعذر عليه إفاضة الحياة على بدن
الإنسان بعد موته.
وإذا تقدمنا أكثر
نرى أنّ مسألة خاصية إشعال النار بواسطة أخشاب الأشجار لايقتصر على تلك الأخشاب
المعروفة بالمرخ والعفار ، بل تلك الخاصية موجودة في جميع الأشجار ـ وإن كانت تلك
الأخشاب المعروفة تتصف ببعض الخصائص والمواد التي تجعلها أكثر إستعداداً لذلك
العمل
__________________
من غيرها ـ بحيث
تولد النار إن دلكت بإحكام مع بعضها.
ولهذا السبب تحدث
أحياناً الحرائق الهائلة الواسعة في الغابات دون أن يكون للإنسان أي دخل فيها ،
ولم تكن النار إلّا وليدة الرياح التي ولدت إحتكاكاً بين أغصان الأشجار اليابسة
فانبعثت منها ، ثم أسهمت إستمرارية الرياح في إتساع رقعة النار وإنتشارها ، وهذه
هي الجدحة الكهربائية التي تظهر إثر الإحتكاك ، وهي تلك النار الكامنة في الواقع
في مركز كافة ذرات كائنات العالم (حتى في الأشجار والمياه) وتبرز في الظروف
المعينة ، فتنبعث «النار» من «الشجر الأخضر»!
يبدو هذا المعنى
أوسع حيث يجسد لنا جمع الأضداد في الخليقة ويدل على البقاء في الفناء.
أمّا التفسير
العميق الذي توصلنا إليه بفضل العلوم المعاصرة فهو عودة الطاقة المدخرة لضوء الشمس
حين تركيب السليلوز النباتي (من الكاربون والاوكسجين والهيدروجين) والتي تنبعث عند
إحراق الخشب والحطب وتحليل السليلوز وتركيب كاربونه باوكسجين الهواء وهذا هو الضوء
والحرارة اللطيفة التي تفيض الدفىء في فصل الشتاء في ذلك الكوخ وسط القرية وتضيئه
، فقد قامت قيامتها ، وهو يفقد الآن كل ما إختزنه من حرارة طيلة عمر دون أي نقص ،
بحيث لم ينقص منها حتى إشعال شمعة في لحظة (عليك بالدقة).
لا شك أنّ هذا
المعنى لم يكن متصوراً حين نزول الآية من قبل عامة الناس ، ولكن كما قلنا فإنّ هذا
الأمر ليس مدعاة لأية مشكلة ، لأن لآيات القرآن عدّة معان تختلف باختلاف المستويات
وتبعاً للإدراكات في العصور والقرون المختلفة. فمن عاصر القرآن كان يفهم شيئاً منه
، وتفهم اليوم نحن شيئاً أكثر من ذلك.
نقطتان مهمتان
هناك تعبيران في
هذه الآية هما أكثر إنسجاماً مع التفسير الأخير.
١ ـ النقطة الأولى
أنّ القرآن قال : (فَاذَا انْتُمْ
مِنْهُ تُوِقدُونَ)
«توقدون» من مادة «وقود»
وهو عود الثقاب والكبريت يطلق عليه في العربي الزناد ، وبناءاً على هذا فالقرآن
الكريم يعرض صورة حول قدرة الله على الإتيان بالضوء والحرارة من الأشجار الخضراء ،
وهي نفس القدرة التي تفيض الحياة على الموتى. وهو الكلام الذي ينطبق تماماً على
قيامة الطاقة (إنبعاثها) ، وما ذكره المفسرون بشأن أشجار النار «المرخ» و«العفار»
أنسب للزناد ، والحال عبرت الآية بالوقود لا الزناد.
٢ ـ النقطة الأخرى
التعبير «الشجر الاخضر» الذي يبدو غير ممكناً للوهلة الأولى لدى الذهن بالإتيان من
النار من الخشب الأخضر ، فما أحراه لو قال «الشجر اليابس» ليكون أكثر إنسجاماً مع
هذا المعنى ، ولكن لاينبغي الغفلة عن قضية وهي أنّ الشجر الأخضر وحده الذي يستطيع
القيام بعمل الكربنة وإدخار الضوء وحرارة الشمس ، أمّا الشجر اليابس فلو عرض مئة
سنة للشمس لما وسعه إدخار ذرة من طاقتها الحرارية ، فيقتصر ذلك الأمر الأشجار
الحيّة والخضراء القادرة على القيام بذلك العمل ، وعليه فالشجر الأخضر لوحده الذي
يمدنا بالنار وهو بمثابة مخزن للطاقة ، حيث يحتفظ بالحرارة والضوء بطريقة معيّنة
في خشب البارد والرطب ، وأمّا إن تيبست هذه الأشجار وجفت فقد عطلت فيه عملية
الكربنة وإدخار الطاقة.
كان ذلك صورة
لقيامة الطاقة في القرآن الكريم ، والذي يمثل من جانب آخر معجزة علمية لهذا الكتاب
السماوي الخالد.
* * *
لم القيامة ليست ممكنة؟
الطريق الرابع :
لقد تناولنا
بالدرس لحدّ الآن المنطق القرآني العميق بشأن الحياة بعد الموت من خلال ثلالة طرق
هي :
١ ـ كيفية الخلق
الأول.
٢ ـ القيامة
العامة لعالم النباتات التي نراها مراراً بأعيننا.
٣ ـ قيامة الطاقة
حتى بشأن الموجودة الخالية من الروح ظاهريا!
ونخوض الآن في
الطريق الرابع وهو التوجه لمظاهر قدرة اللّة سبحانه في عالم الوجود : ورد في الآية
٣٣ من سورة الأحقاف : (أَوَ لَمْ يَرَوُا
أنَّ اللهَ الَّذي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحيىَ الْمَوتى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديِر)
* * *
رؤيتنا لهذا العالم
عبرنا في إحدى
سفراتنا الصيفية من وسط غابة ، فطالعنا المشهد الطبيعي الرائع للغابة والأشجار
الهادئة الطافحة بالأسرار ، وزمزمة أوراق
الأشجار التي تعبث
بها الرياح ، كانت هناك الحيوانات والحشرات والطيورولكل مميزاته وحكايته الطويلة
الخاصّة به ، كان كل ذلك يثير فينا نحن الضيوف العابرون دافع الحيوية والنشاط ،
ولاسيّما في ظل التعب والأرهاق الذي عانينا منه بسبب حياة المكننة المعاصرة ، فقد
عدنا إلى أحضان الطبيعة ، الطبيعة التي ملأت بالطائف والظرائف الجميلة التي تبعث
الحياة والسرور في أرواحنا الهامدة ، وذلك لأنّ الخطوط والنقوش والمشاهد والمناظر
كانت معروفة ومألوفة لأرواحنا ، لا من قبيل المناظر المصنوعة التي تفقد الروح
والحركة.
طبعاً كل ما
شاهدناه هو حكاية الغابة اليوم ، والحال قد يكون لهذه الغابة تاريخ عريق بما يمتد
إلى مئات ملايين السنين ، ولعلها تستمر في المستقبل ويمرّ عليها مثل هذه المدّة ،
إن لم تأتي عليها الحياة التكنولوجية المعاصرة الخشنة والحافة «والقاتلة» لتحيلها
إلى خراب دائم.
لعل هذه الشجرة
الماثلة أمامنا الآن ويبدو لها ثلاثين سنة قد ولدت مئات الآلاف من المرات لحدّ
الآن ، فقد ماتت وتعفنت وأصحبت تراب ، ثم دبّت فيها الحياة من جديد من خلال بذرة
صغيرة فانجذبت لجذورها واستأنفت حياتها ، ولايعلم كم مرّة ستتكرر عليها صورة
الحياة والموت في المستقبل.
لو شبهنا مجموعة
عالم الوجود بتلك الغابة لكانت منظومتنا الشمسية إحدى أشجارها وكرتنا الأرضية أحد
أغصانها ، ومن الممكن أن تكون هذه المنظومة وهذه الكرات أن تكون قد توفت وولدت
آلاف المرات ، فقد تعفنت وتلاشت ثم إستعادت حياتها من جديد على غرار تلك الشجرة في
الغابة ـ أو لم يصرّح الجيوفيزيائيون بشأن الانطفاء التدريجي للعالم وظهور
حالة البرودة
والرتابة فيه ومن ثم تجدد الحياة بانفجار جدحة عظيمة أخرى في مركز ذلك العالم الذي
لاروح فيه ، ففي الحقيقة إنّ حياتنا ليست بعيدة الشبه عن حياة حفنة من الكائنات
الحيّة المجهرية على ورقة طافية وسط محيط عظيم ، كل الذي نراه هو أمواج تعبث
بشراعنا يميناً وشمالاً ، غير أنّه ليس من الواضح لدينا أنّ هذه الأمواج تنطلق من
أية نقطة في المحيط.
وبناءاً على هذا
فما نورده بشأن عظمة عالم الوجود إنّما يمثل قبس صغير لا يعد شيئاً إزاء سعة
الوجود ، فهو على درجة من الصغر يصعب حتى تصورها.
* * *
إلّا أن نفس هذا
القبس الصغير هو عظيم للغابة ومحيّر ، وهو لوحة رائعة ومذهلة في عظمتها وبنيتها.
نعلم أنّ أبعاد
هذا العالم في الماضي خمنت بثلاثة آلاف مليون سنة ضوئية (ذلك المقياس الفضائي الذي
تبلغ سنته مالايحصى ويقدر مقارنة بوحدات القياس الأرضية) ، ولكن إصطدم أحد العلماء
أخيراً في إحدى مطالعاته بكوكب أو منظومة في الجانب الآخر من المجرّات محتملاً
أنّها تبعد عنّا مسافة ١٢ ميلون سنة ضوئية! وإن إدعى هذا العالم أنّ الفضاء بعد
ذلك الكوكب يغط في ظلمة «العدم» ، وليس ورائه شيء ، إلّاأنّ الأفضل أن نقول : في
ظلمة «جهلنا وقلّة معرفتنا» ، وكما تضاعفت آفاق العلم خلال بضع سنوات ، فلعلها
تزداد بنفس هذه النسبة خلال السنوات القادمة وكذلك ....
وفي هذا العالم
العظيم يوجد كل نوع من أنواع الموجودات والكائنات التي يمكن أن نتصورها ، فهناك
الحياة في صور مختلفة ومتنوعة بأجهزة
وإمكانات غاية في
الاختلاف ، حتى قال العلماء بأنّ كرتنا الأرضية لوحدها وفي مجال الحشرات تضم أكثر
من مئتي ألف نوع تختلف عضوية أبدانها تماماً عن بعضها البعض الآخر ، وإن قبلنا ما
أورده علماء الطبيعة أنّ في المجرّة التي تعتبر منظومتنا الشمسية جرحاً بسيطاً
فيها مئات ملايين الكوالكب المأهولة ، مع سائر الكائنات الحيّة المتنوعة الاخرى ،
حتى يستحيل علينا تصور أطوار الحياة وكيفية ممارستها من قبل الكائنات ، وهذا ما
يقودنا إلى إدراك التنوع العجيب للحياة في هذا العالم.
وهنا نتأمل قول
القرآن الكريم : (اوَ لَمْ يَرَوْا
انَّ اللهَ الَّذي خَلَقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحيىَ الْمُوتى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَديِر)
وهل إحياء الموتى
شيء أرفع وأهم وأعقد من ظهور هذه العوالم الواسعة بكائناتها المتنوعة؟
حقاً لايرى ذلك
صعباً إلّا من غرق في ذاته وقدرته المحدودة الزهيدة ، بينما العلماء الذين ينظرون
بآفاق واسعه إلى عالم الوجود ويقفون على مدى العجائب التي تكتنفه ، فهم يرون بساطة
عودة الإنسان إلى تلك الحياة بعد الموت.
وهذا ما صرح به
القرآن الكريم بصيغة أخرى فقال :
(انَّما امْرُهُ اذَا
ارادَ شَيْئاً انْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ* فَسُبْحانَ الَّذي بِيَدهِ
مَلَكُوتُ كُلِّ شَىءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
فالآيتان
وبالالتفات إلى الآيات السابقة تثبتان إمكانية القيامة عن طريق عمومية قدرته
سبحانه وتعالى.
* * *
__________________
إشكال محيّر
مادام الكلام في
مسألة «عمومية قدرة الخالق» وقد اعتمد عليها بشأن القيامة ، لا بأس بطرح إشكال
يبدو أنّه حيّر البعض : يقول الإشكال : إن أقررنا بعمومية قدرة الله فاننا سنواجه
تناقضاً عجيباً وهو هذا السؤال : هل يستطيع الله خلق جسم عظيم ولا يستطيع أن يحركه؟
هل يستطيع خلق
كائن ولايستطيع إعدامه؟
إن قلنا يستطيع ،
فقد قبلنا عدم استطاعته تحريكه أو اعدامه ، وإن قلنا لايستطيع ، فقد أنكرنا قدرته
أيضاً!
أو يقال : هل
يستطيع خلق شبيه له؟
إن قلنا به ذلك
فقد قلنا بالشريك ، وإن قلنا ليس له ذلك فقد حددنا قدرته!
جواب
لايبدو هذا
الإشكال كما صوره البعض صعباً محيّراً ولا مهماً ، ويمكن الردّ عليه بعدّة وجوه ،
ويمكن توضيحه بصورة أخرى وهي : قد نصطدم في مجال الرياضيات ببعض المسائل التي يقال
عنها «صورة المسألة خاطئة» يعني ليس هناك من جواب للمسألة أصلاً ، مثلاً لو قال
شخص : لدينا عشرة أمتار قماش نريد تقسيمها على خمسة أفراد بحيث «يحصل أي منهم على
أقل من خمسة أمتار» فإننا نقول له على الفور إن هذه المسألة خاطئة ومتناقضة من
أولها إلى آخرها ، لأننا نقول في أول الأمر لدينا عشرة أمتار قماش ، ثم نقول في
الأخير لدينا خمسة وعشرين متراً ، فمن البديهي ألا تكون هناك إجابة على هذا السؤال.
والأسئلة المذكورة
بشأن قدرة الله من هذا القبيل. فنحن نقول في
البداية «يخلق
الله جسماً» يعني أنّ ذلك الجسم مخلوق ، وبالطبع فإنّ كل مخلوق محدود (والله وحده
اللامحدود) ثم نقول في الأخير «لايستطيع أن يحركه» ومفهوم ذلك أنّ ذلك الجسم
لامحدود ، وعليه فستكون صيغة السؤال كالاتي :
هل يستطيع الله أن
يخلق جسماً محدوداً ولامحدوداً؟!
فمن البديهي أنّ
صورة هذه المسألة خاطئة من حيث ترتيب العبارة والسؤال فلا يوجد جواب على مثل هذه
السؤال.
أو السؤال الآخر :
فحين نقول يخلق موجودا ؛ يعني حادث لا أزلي ، وعند ما نقول مثله فهذا يعني أنّه
أزلي ، وعليه فسيكون السؤال بهذه الصيغة «هل يستطيع الله أن يخلق موجوداً حادثاً
وأزلياً في نفس الوقت!».
فهل يحتاج مثل هذا
السؤال إلى جواب؟ ... قطعاً لا.
وللوقوف على
المزيد بهذا الخصوص عليك بمراجعة كتاب «معرفة الله» للمؤلف.
أصحاب الكهف
الطريق الخامس :
هل
قصة أصحاب الكهف حقيقة تاريخية ، وإن كانت كذلك فما علاقتها بقضية القيامة؟
هل
يقر العلم مثل هذا النوم الطويل ، وهل من دليل على ذلك؟
تطالعنا في القرآن
الكريم سورة الكهف التي تسرد وقائع فتية مؤمنين هربوا من قومهم الوثنيين الذين لا
يؤمنون بالله والمعاد ثم آووا إلى الكهف.
لقد دفعت الأفكار
السامية اليقظة لهؤلاء الفتية ونزعتهم التحررية إلى الإعتقاد بخرافة الوثنية التي
سادت الأجواء آنذاك وفرضت القيود والأغلال على الناس التي كرست صنمية الحكومات
التي إستخفت بأفكار الناس ومهدت السبيل أمام إلوهيتهم وتسلطهم.
وقد كان اولئك
الفتية أصحاب مراكز حساسة في الدولة والمجتمع ، وقد آثرت الحرية من هذه الخراقات
والذلة والهوان وغادرت سرّاً ديارها وأهلها إلى مكان مجهول حتى إنتهت إلى كهف
فاختارته كموضع للإستقرار ، وقد سيطرت عليها في الكهف حالة عجيبة من النوم الطويل
العميق ، فقد نامت مئات السنين ، وحين نهضت من نومها العميق ـ وعلى ضوء العادة ـ ظنت
أنّها لبثت يوما
أو بعض يوم ، إلّاأنّ كافة الشواهد والأوضاع المحيطة بالكهف كانت تشير إلى أنّ
الأمر ليس كذلك ، ومن هنا كان هناك ترديد في الموضوع.
ثم إتضحت حقيقة
الأمر بعد أنّ قدم أحدهم إلى مدينة قرب الكهف يشتري طعاماً ، فأخبر الجميع
بالحقيقة ، ففهموا أنّ حادثة عجيبة قد وقعت ، فلم تكن العملة التي في أيديهم تشير
إلى أنّها تعود إلى مئات السنين ، بل طريقة تعاملهم مع أهل المدينة ـ التي غادروها
قبيل قرون وقد تبدلت كل العادات والتقاليد والأعراف والحياة السائدة آنذاك ـ إضافة
إلى إطلاعهم على تلك القضية التاريخية التي تفيد غياب عصبة من الشباب من ذوي
المناصب العالية والتي تبرهن صحة وقوع تلك الحادثة.
كانت تلك الحادثة
درساً عظيماً بالنسبة لُاولئك الذين ينظرون بعين الريب والشك إلى موضوع القيامة ،
فإن كانت الحياة بعد النوم «أخو الموت» بل كان «نفس الموت» ممكنة ، فإحياء الموتى
هو الآخر لا يبدو مستعبداً ، فكانت تلك الحادثة إنعطافة كبيرة في ثقافتهم الدينية
...
وهذا هو الطريق
الآخر الذي سلكه القرآن الكريم بهدف إزالة قضية إستبعاد المعاد وتقريبها إلى أذهان
عامة الناس : (اذْ آوَى الْفِتْيَةُ
إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ
لَنَا مَنْ أَمْرِنَا رَشَداً* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ في الْكَهْفِ سِنيْنَ
عَدَداً * ثُّمَ بَعَثْنَا هُمْ لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ احْصَى لِما
لَبِثُوا امَداً* وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ
قَائِلُ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمَا اوْ بَعْض يَوْمٍ
قَالُوا ربُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُم فَابْعَثُوا احَدَكُمْ بِوَرَقِكُمْ
هَذِهِ الَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرُ ايُهَا ازْكى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ
بِرِزُقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَايُشْعِرَنَّ بِكُمْ احَداً. انَّهُمْ انْ
يَظْهَرُوا
عَلَيْكُمْ
يَرْجُمُوكُمْ اوْ يُعيدُوكُمْ في مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا اذاً ابَداً *
وَكَذلِكَ اعْثَرنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا انّ وَعْدَاللهِ حَقُّ وَانَّ
السَّاعَةَ لَارَيْبَ فِيهَا)
هل وردت هذه القصة
في سائر الكتب السماوية غير القرآن؟
هل ذكرت في
المصادر التاريخية؟
هل يعقل مثل هذا
العمر الطويل لبشر ـ وفي النوم ودون وجود الطعام؟ وبغض النظر عن كل ما سبق كيف
لهذه الحادثة أن تساعد في إدراك مسألة المعاد؟
هذه هي الأسئلة
التي تثار حول هذه الحادثة ولابدّ من الردّ عليها جميعاً.
* * *
للإجابة على
السؤال الأول والثاني لابدّ من القول :
لم تتعرض أي من
الكتب السماوية لقصة أصحاب الكهف سواء الكتب الأصلية أو المحرفة ، ولابدّ أن يكون
الأمر كذلك ، حيث يفيد التاريخ أنّ تلك الحادثة قد وقعت في القرون التي أعقبت ظهور
المسيح عليهالسلام. وبالضبط وقعت على عهد دقيانوس الذي جرع المسيحيين أنواع
العذاب ، فقد صرّح المؤرخون الاوربيون أنّ هذه الحادثة وقعت خلال سنوات ٤٩ إلى ٢٥١
م ، كما يرون أن مدّة نومهم إستغرقت ١٥٧ سنة ويطلقون عليهم «نيام افسوس السبع» بينما يعرفون عندنا ب «أصحاب الكهف».
ولابدّ أن نرى
الآن أين منطقة «افسوس» ومن هو أول من كتب بخصوصهم ، وفي أي قرن كانوا ، فافسوس أو
افسس بضم الألف والسين هي
__________________
إحدى مدن آسيا
الصغرى (تركيا الحالية وهي قسم من روما الشرقية القديمة) تقع على بعد أربعين ميلاً
إلى الجنوب الشرقي من «ازمير» التي كانت تعتبر عاصمة الملك «ايوني».
ولافسوس شهرة
عالمية بسبب معبدها المعروف «ارطاميس» والذي يعد من عجائب الدنيا السبع.
يقال : قم العالم
النصراني «جاك» زعيم الكنيسة السورية لأول مرّة في القرن الخامس الميلادي بتأليف
رسالة باللغة السريانية شرح فيها قصة أصحاب الكهف. ثم قام «جورجيوس» بترجمتها إلى
اللغة اللاتينية وأطلق عليها اسم «جلال الشهداء».
وهذا يدل بدوره
على أنّ تلك الحادثة قد اشتهرت لقرن أو قرنين قبل ظهور الدعوة الإسلامية في
الأوساط المسيحية واهتمت بها الكنيسة ، وكما ورد سابقاً فإنّ هناك بعض الاختلافات
ـ من قبيل مدّة نومهم ـ مع ما ورد في المصادر الإسلامية حيث ذكر القرآن تلك المدّة
صراحة على أنّها كانت ٣٠٩ سنة.
من جانب آخر فقد
نقل «ياقوت الحموي» في كتاب «معجم البلدان» (ج ٢ ص ٨٠٦) و«إبن خردادبه» في كتاب «المسالك
والممالك» (ص ١٠٦ ـ ١١٠) و«أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية» (ص ٢٩٠)
أنّ جمعاً من السيّاح وجدوا كهفاً في مدينة «آبس» كان يضم بعض الأجساد اليابسة
ويعتقدون أنّها ترتبط بأصحاب هذه القصة.
والذي تفيده
الآيات القرآنية في سورة الكهف وما ورد في الروايات
__________________
الإسلامية من
أسباب النزول بهذا الخصوص أنّ الحادثة المذكورة كانت مشهورة أيضا كحادثة تأريخية
بين الأوساط اليهودية ، وهكذا يتبيّن أنّ هذه القصة قد وردت في مختلف المصادر
التاريخية للأقوام.
* * *
حقيقة أم خيال؟
قلنا أنّ قصة
أصحاب الكهف (نيام مدينة افسوس) حقيقة تاريخية ذكرت أسنادها في التواريخ الشرقية
والغربية ، ونسلّط الضوء الآن على هذه القصة على أساس وجهات النظر العلمية
المعاصرة :
ربّما يتردد البعض
إزاء تلك المدّة الطويلة لنوم أصحاب الكهف ولا يراها تنسجم والموازين العلمية
فيعتقد أنّها من قبيل الأساطير والخرافات وذلك لأنّ مثل هذا العمر الطويل الذي
يستغرق عدّة مئات من السنين يبدو مستبعدا بالنسبة لأفراد البشر في حالة اليقظة
فضلاً عنهم في حالة النوم ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر لو سلمنا بمثل هذا العمر
لمن كان في حالة اليقظة فانّنا لا نسلم به بالنسبة لمن كان في حالة النوم والرقود
، فهناك مشكلة الأكل والشرب ، فكيف يبقى الإنسان حياً هذه المدّة دون طعام وشراب ،
ولو فرضنا متوسط ما يلزم الإنسان من طعام وشراب كل يوم كيلواً واحداً ولتراً من
الماء ، فالذي يلزم لأصحاب الكهف أكثر من طن من الطعام ومئة ألف لتر من الماء ،
وهو المقدار الذي لايمكن خزنه في الجسم.
ومن جهة أخرى فلو
أغضفنا الطرف عن كل ما مضى فهناك إشكال آخر يرد هنا وهو أنّ بقاء الجسد في ظل ظروف
رتيبة وبهذه المدّة الطويلة إنّما
يؤثر على عضوية
البدن ويسبب خسائر فادحة.
* * *
قد تبدو هذه
الإشكالات كعقبات كؤود تعترض سبيل هذه المسألة للوهلة الأولى ، والحال ليس الأمر
كذلك ، فالمدّة الطويلة للعمر ـ لمئة سنة وحتى أكثر من ألف سنة ـ ليست بالمسألة
غير العلمية ، فانّنا نعلم بعدم وجود مدّة معينة لطول العمر بالنسبة لأي كائن حي
من الناحية العلمية بحيث يقطع بموته الحتمي لمجرّد حلول تلك المدّة ، بعبارة أخرى
صحيح أنّ القوى البدنة للإنسان بالتالي محدودة مهما كانت وآيلة إلى الافول ، إلّا
أنّ هذا لا يعني عدم إمكانية عيش وتعمير إنسان أو كائن حي آخر لأكثر من المدّة
العادية ، ومثلاً حين يبلغ الماء درجة المئة الحرارية فإنّه يغلي ، وإن بلغ الصفر
يجمد ، فإن بلغ الإنسان مئة وخمسين سنة توقف قلبه عن الدق وحلّ أجله ، بل معيار
طول عمر الكائنات الحيّة يعتمد إلى حدّ على أوضاع وظروف الحياة المعاشية ويتغير
تبعاً لتغيرها.
والشاهد الحي على
هذا الكلام هو إنّنا نرى من جهة أنّ أحداً من علماء العالم ومفكريه لم يصرّح بوجود
ميزان معين لعمر الإنسان ، ومن جانب آخر فقد تمكنوا في مختبراتهم أحياناً من
مضاعفة طول عمر بعض الكائنات الحيّة إلى ضعفين ، بل وأحياناً أخرى إلى أثني عشر
ضعفاً أو أكثر ، وهم يبشروننا اليوم بأنّ عمر الإنسان سيزداد في المستقبل عدّة
أضعاف عمره الفعلي في ظل تطور الأساليب العلمية.
هذا خلاصة الكلام
بشأن مسألة طول العمر.
وأمّا بالنسبة
للطعام والشراب في هذا النوم الطويل ، فلو كان النوم عادياً لكان الحق لمن أورد الإشكال
في أنّ هذه القضية لا تتفق وأسس
العلم ، لأنّ
إستهلاك طعام البدن حين النوم العادي أقل منه عادة في اليقظة ، وعلى هذا الأساس
فسيكون كثير جداً بالنسبة لتلك السنوات المديدة ، ولكن ينبغي الإلتفات إلى وجود
نوم في عالم الطبيعة يكون إستهلاك طعام البدن فيها قليلاً للغاية.
السبات الشتوي
هناك الكثير من
الحشرات التي تنام طيلة الشتاء ، أي تغط في نوم شتائي ، وتتوقف تقريباً مختلف
النشاطات الحيوية في مثل هذا النوع من النوم ، فلا يبقى إلّابصيص منها ، فالقلب
يتوقف تقريباً عن الدق ، أو بتعبير أدق تكون دقاته على درجة من البطىء بحيث لا
يمكن الشعور بها ، وفي مثل هذه الحالة يمكن تشبيه البدن بالكوّر العظيمة التي تبقى
منها ولّاعة مشتعلة حين إنطفائها.
فمن الواضح أنّ ما
تتطلبه تلك الكورة من المواد النفطية في اليوم لتقذف بلهيبها إلى عنان السماء
يمكنه أن يكفي لعشرات بل مئات السنين لإشكال ولّاعة صغيرة (طبعاً يتوقف هذا الأمر
على الشعلة العظيمة حال إيقاد الكورة وولّاعتها).
يقول العلماء بشأن
سبات بعض الحشرات لو أخرجنا وزغاً من مكانه حين شتاء ، فانّه يبدو ميتاً ، لا هواء
في رئته ، ودقات قلبه ضعيفة لايمكن تحسسها ... هناك الكثير من الحيوانات التي تسبت
في الشتاء كالفراشات والحشرات والحلزونات والزواحف ، كما قد تسبت بعض الحيوانات من
فصيلة الثدييات ، فانشطة الحيوانات تبطىء جدّاً في مدّة سباتها فتستهلك دهنياتها
المدخرة في بدنها تدريجياً ، والمراد من ذلك أنّ لدينا نوم تقل
فيه الحاجة إلى
الغذاء جدّاً ، وتبلغ الأنشطة الحياتية فيه درجة الصفر ، وهوالأمر الذي يحول دون
إستهلاك الاعضاء وطول عمر هذه الحشرات ، ويبدوأنّ السبات الشتوي فرصة ثمينة
بالنسبة للحيوانات التي يحتمل عدم استطاعتها الحصول على الطعام في الشتاء.
نموذج آخر : دفن المرتاضين
لقد شوهد أيضا بشأن
المرتاضين أنّ بعضهم وبمرأى من الناس الذين لفهم الذهول والأندهاش قد وضعوا في
تابوت ودفنوا في التراب لمدّة اسبوع ، وما إن تمّت تلك المدّة حتى أخرجوا وقد
عادوا إلى حياتهم العادية بعد أن أجري لهم تنفس صناعي.
قد لا تكون الحاجة
إلى الطعام خلال هذه المدّة ، إلّاأنّ الحاجة إلى اوكسجين الهواء في غاية الأهميّة
، فالكل يعلم أنّ خلايا الدماغ حساسة جدّاً تجاه الاوكسجين بحيث لاتستغني عنه
أبداً سوى لبضعة دقائق.
والسؤال الذي
نطرحه : كيف يتحمل هذا المرتاض الهندي قلّة الاوكسجين لمدّة تستغرق اسبوعاً؟
لا تبدو الإجابة
على هذا السؤال صعبة بالنظر لما أوردناه سابقاً ، فنشاط بدن المرتاض خلال هذه
المدّة يتوقف تقريباً ، وعليه تقل حاجة الخلايا بشكل ملحوظ إلى الاوكسجين
وإستهلاكه بحيث يكفي الهواء الموجود في التابوت لتغذية خلايا البدن طيلة تلك
المدّة.
تجميد بدن الإنسان الحي
هناك عدّة نظريات
وأطروحات بشأن تجميد بدن الأحياء بما فيها
الإنسان من أجل
إطالة عمرها ، وقد وردت بعض تلك الأبحاث حيز التطبيق.
وعلى ضوء هذه
النظريات فإنّه يمكن إيقاف حياة الإنسان أو الحيوان بعد تعريضه إلى برودة تصل إلى
الصفر دون أن يموت حقيقة ، وبعد مدّة معينة يجعل في درجة حرارة مناسبة فيعود إلى
حالته العادية ثانية.
وقد طرح مثل هذا
الإقتراح بخصوص الرحلات الفضائية إلى الكرات البعيدة التي قد تستغرق أحياناً مئات
أو آلاف السنين حيث يجعل بدن رائد الفضاء في محفظة خاصة وتجميده ، وبعد سنوات
مديدة حين يقترب من الكرات المطلوبة تعاد إليها الحرارة الاعتيادية بواسطة جهاز
تلقائي فيعود إلى حالته العادية دون أن يكون قد هدر شيئاً من عمره.
لقد نشر هذا الخبر
في إحدى المجلات العلمية ، كما ألف «روبرت نيلسون» في السنوات الأخيرة كتاباً بشأن
تجميد بدن الإنسان لإطالة عمره وقد كان لذلك الكتاب صدى واسعاً في عالم العلم
والمعرفة.
وقد صرّح في مقالة
وردت في المجلة المذكورة بهذا الخصوص أنّ فرعاً علمياً من بين الفروع قد ظهر بهذا
الشأن ، وجاء في المقالة المذكورة : «إنّ الحياة الخالدة كانت من الأحلام الذهبية
والعريقة للإنسان على مدى التاريخ ، أمّا الآن فقد أصبح هذا الحلم حقيقة ، يدين
بالفضل للتطور الهائل الذي حققه العلم المعاصر الذي يعرف بعلم الكريونيك (العلم
الذي يصحب الإنسان إلى العوالم المنجمدة ويحفظه كبدن منجمد على أمل أن يعيده
العلماء يوماً إلى حياته).
هل يعقل هذا
المنطق؟ إنّ أغلب العلماء والمفكرين البارزين يفكرون في هذه المسألة من عدّة جوانب
، وقد خاضت فيه بعض الصحف العالمية ،
والأهم من كذلك
أنّ هناك برنامجاً الآن بهذا الخصوص في حيز التنفيذ» .
وقد أعلنت الصحف
قبل مدّة أنّه ثم العثور في الثلوج القطبية والتي تدّل أغطيتها على أنّها تعود إلى
ما قبل آلاف السنين على سمكة منجمدة وبمجرّد أن قذفت في ماء معتدل بدأت حياتها من
جديد وقد أصابت الجميع بالذهول لما شرعت بالحركة.
واضح أنّ الاجهزة
حتى في حال الانجماد لا تتوقف كما هي عليه الحال في الموت ، لأنّ العودة إلى
الحياة في تلك الحالة ليست ممكنة.
والذي نخلص إليه
ممّا مرّ معنا هو إمكانية إيقاف الحياة وشل حركتها لتتحرك ببطىء تام ، والدليل على
ذلك مختلف الدراسات والأبحاث العلمية الواردة بهذا الشأن.
وفي هذه الحالة
يبلغ إستهلاك البدن للطعام الصفر ، يمكن للاحتياطي الزهيد المخزون في البدن أيديم
الحياة بهذا البطىء لسنوات عديدة.
* * *
قطعاً نوم أصحاب
الكهف لم يكن نوماً عادياً طبيعياً على غرار نومنا ، بل كان نوماً إستثنائياً ،
وعليه فليس من العجيب ألا يشكو من قضية الطعام ولا من الضرر على مستوى عضوية البدن
بسبب ذلك النوم الطويل! والطريف في الأمر أنّ الذي يفهم من آيات سورة الكهف بشأن
هذه المسألة هو أنّ طريقة نومهم كانت تفرق عن النوم الاعتيادي : (وَتَحْسَبُهُمْ ايْقَاظاً وَهُمْ رُقُود
... لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مَنْهُمُ فِراراً وَلَمُلِئْتَ
مَنْهُمْ رُعْباً) .
فالآية تدل على
أنّ نومهم لم يكن عادياً ، بل كانوا يعيشون حالة تشبه
__________________
حالة الميت ـ بعين
مفتوحة ـ ، أضف إلى ذلك فقد صرّح القرآن بأنّ الشمس لم تكن تشرق على جوف الكهف ،
وبالنظر إلى أنّ الكهف كان في أحد مرتفعات آسيا الصغرى فقد كانت منطقة باردة ؛
الأمر الذي يكشف عن الشرائط الاستثنائية لنومهم ، من جانب آخر القرآن قائلاً : (... وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الَيمينِ
وَذَاتَ الشِّمالِ)
وهذا يدل على
أنّهم لم يكونوا يعيشون عملية رتيبة واحدة ، فما زالت هنالك بعض العوامل الخفية
الدخيلة في الأمر والتي بقيت مجهولة علينا (فيحتمل كانت تحدث مرّة كل سنة) تقليبهم
على جهة اليمنى والشمال للحيلولة دون المساس بعضوية أبدانهم.
* * *
يبدو إنّ البحث
العلمي بهذا الشأن قد إتضح تماماً ، والنتيجة التي يخلص إليها منه لا تدع من مجال
للنقاش بشأن مسألة المعاد ، وذلك للشبه الواضح بين النهوض من ذلك النوم الطويل
والنهوض للحياة بعد الموت والذي يقرب قضية المعاد إلى الأذهان.
* * *
__________________
فترة الجنين شبح من القيامة
الطريق السادس :
(يَا ايُّها النَّاسُ
انْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَانّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ
مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْر
مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ في الأَرحَامِ مَا نَشاءُ الَى اجَلٍ
مُسَمًى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) .
إنّ الاعتياد على
شيء رغم أنّه يحل كثيراً من مشاكلنا إلّاأنّه قد يكون مصلّاً أحياناً ، وذلك لأنّ
بعض المواضيع الساذجة التي لم نرها سابقاً ونتعودها تبدو لنا مهمّة من قبيل نمو
أسنان الفرس أو الطير الذي يضع البيض الكروية أو المخروطية الشكل بحيث تتناقلها
الألسن بشيء من الغرابة ، بينما تبدو لنا عادية تماماً كسائر المواضيع العجيبة
للغاية والتي تنطوي على عدّة أسرار وذلك لتعودنا عليها ، فعادة ما نسمع أنّ السيدة
الفلانية أنجبت ولداً فنقول : مبارك عليها إن شاءالله ، إلّاأنّنا لا نكلّف أنفسنا
عناء أي تفكير بالحوادث العجيبة والتغيرات التي عرضت على رحم المرأة طيلة تسعة
أشهر والتي لايمكن توضيح حقيقتها بمئة كتاب ، فذرة ترابية ترد البدن الإنساني عن
طريق النباتات فتمتزج معه فتصير بهيئة خلية حيّة
__________________
في الرحم وتختلط
بخلية أنثوية لتشكل بويضة ، ثم ينشط هذا الكائن الآحادي الخليّة بسرعة مذهلة ليشق
طريقه التصاعدي الهندسي خلال عدّة شهور ليتحول إلى كائن له آلاف الملياردات من
الخلايا.
وكأنّ فريقاً من
الرسّامين المهرة قد تجمعوا في ذلك الوسط المظلم وانهمكوا ليل نهار بالرسم فأحالوا
كل مجموعة من هذه الخلايا بشكل وقد سبغوا عليه ألواناً وكيفيات خاصّة معينة.
نعم هناك عشرات
المهندسين والفيزيائين والكيميائين الذين يتفنون في صنع أجهزته الحساسة والدقيقة
ويصنعون كائناً من عدّة غرامات من الحديد إلى جانب بعض الغرامات من الكالسيوم
والفسفور والكاربون و... ومقدار كثير من الماء الكائن الذي يعجز عن مصافاته أكبر
العقول الألكترونية وأعظم الصناعات العالمية الثقيلة وأدق الأدوات والوسائل
والأجهزة وأجمل ألواح الدنيا.
والجدير بالذكر
أنّ الإنسان يتابع بعد ولادته حركة هادئة وتدريجية ذات تكامل كمي لا كيفي ، فحركته
في المحيط الهائج للرحم سريعة جدّاً ومغيرّة وهي تكشف عن غطاء عجيب كل اسبوع بل كل
يوم.
إنّ التطورات
المتتالية والمذهلة للجنين في عالمه هي بمثابة الذهول من جراء تحول إبرة صغيرة بعد
عدّة شهور إلى طائرة تحلق دون طيار ، فالجنين حين يكون في مرحلة «المورول» وخلاياه
كحبّة ثمرة التوت تجتمع حول بعضها دون أن يكون لها شكل مشخص ، وحين يكون في مرحلة «البلاستول»
وتظهر حفرة التقسيم التي تعتبر بداية لتقسيم نواحي الجنين ، وحين يبلغ الطبقات
الثلاث للكاسترول وهي «الاندوديرم» و«الاكتوديرم» و«المزوديرم» ففي كل هذه المراحل
تكون خلايا الجنين
شبيهة لبعضها البعض
الآخر ولايوجد أدنى أثر لاختلاف أعضاء الإنسان ، ولكن فجأة تحدث تغييرات في
الأغشية الثلاث للجنين بحيث تتغير أشكالها بما ينسجم والوظيفة التي تقوم بها فتبدأ
الأعضاء بالبروز ، لا أحد يعرف أي الظروف دعت لحصول هذه التغيرات في الخلايا
المتشابهة تماماً ، فأسرارها مكتومة خفيفة كسائر أسرار الجنين ، وبالطبع تتم كل
هذه المراحل في وسط لا سبيل للوصول إليه ويخضع تماماً للسيطرة الداخلية للبدن.
القرآن الكريم من
جانبه يخاطب اولئك الذين يرون إستحالة الحياة بعد الموت بأنّ القيامة والبعث سوف
لن تكون أبعد ممّا تشاهدونه من هذا التبدل السريع الذي تتحول بموجبه النطفة إلى
إنسان ، وعليه فكيف يمكن للإنسان الشك في القيامة وهو يشاهد علم الجنين. والآية
التي تصدرت البحث ، أشارت في البداية إلى تبدل التراب بكائن حي وهي طفرة عظيمة ،
ثم أشارت إلى المراحل المختلفة للجنين والتي تعتبر كلها قفزات متتالية نوعية
بالنسبة للجنين ، ثم يدعو منكري البعث والقيامة إلى التوقف عند هذه المسائل ، وفي
عصر لم يكن فيه علم الأجنة علم مستقبل ، بل لم يكن حتى جزءاً من العلوم ، فلم تكن
هناك سوى معلومات ناقصة بهذا الشأن ، والتعبير القرآني في الآية المذكورة عن
القيامة بالبعث كأنّه إشارة لطيفة إلى معنى «الطفرة» التي تحصل في القيامة على
غرار دنيا الرحم ، وهذا طريق آخر من الطرق التي سلكها القرآن الكريم من أجل تعريف
الناس بالقيامة.
* * *
شبح القيامة
الحقيقة هي أنّنا
إذا أردنا أن نجسد شبح القيامة ونقارنه بوضع الحياة
في هذا العالم ،
فإنّ أفضل طريق لذلك هو ما نفكر به حول الإنسان في عالم الجنين والذي يبلغ العقل
والشعور ثم يفكر في المراحل التي تعقب الولادة ، فسوف يكتشف من خلال القرائن :
١ ـ أنّ محيط
الرحم محدود جدّاً ولذاته زهيدة وإمكاناته قليلة ومدّته قصيرة مثل محيط هذا العالم
إزاء العالم الآخر بعد الموت ، فهو صغير ومحدود وزهيد وقصير المدّة.
٢ ـ أنّ الفترة
التي يعيشها الجنين هي فترة إستعداد وتأهب من أجل القدوم على محيط أوسع وأكبر كهذا
العالم ـ لا أنّها فترة مثالية مستقلة ـ فهي بمثابة الحياة في هذا العالم حيث
تعتبر هذه الحياة مرحلة إستعداد وتأهب لتلك الحياة الخالدة في العالم الآخر.
٣ ـ حياة الجنين
تنطوي على أنواع المشاكل والويلات كالحياة الدنيا في هذا العالم إزاء الحياة
الآخرة مشوبة بمختلف الكدورات والمنغّصات.
* * *
القيامة في تجليات الفطرة
* إن خلقنا للفناء
فكيف نفسر غريزة حبّ البقاء؟
* لو لم تكن
القيامة قضية فطرية ، لماذا لم تنفك هذه العقيدة عن البشر على مدى التأريخ؟
* ليس من المعقول
أن تكون هناك في باطننا محكمة ، وليس هنالك من حساب وكتاب في هذا العالم الكبير!
* * *
تمّت الأبحاث
الابتدائية حول القيامة. وحان الآن دخول ذي المقدمة فنتناول بالبحث عن أدلة إثبات
ذلك العالم بخصائصه ومميزاته على ضوء ما يسعه إدراكنا نحن الذين نعيش السجن في
الجدران الأربعة لهذه الدنيا.
١ ـ الفطرة ، أول دليل على الطريق
لندع كل شيء
جانباً ولنستمع إلى النداء الذي ينطلق من باطننا ، فهل هناك زمزمة عن الحياة بعد الموت
، هل هذه المسألة مطروحة لدى القلوب أم لا؟
لماذا إتجهنا في
البداية إلى هناك؟
لا داعي لهذا
التعطيل ... لأنّ حوادث العالم ظهرت هناك سابقاً.
توضيح ذلك : كما
تتألف روحنا من جهازين «تلقائي» و«غير تلقائي» فإنّ القوانين الكبرى للعالم قد
تبلورت في مجالين ؛ قوانين الخلق «التكوين» وقوانين التعاقد «التشريع» وكأنّ
القوانين الأولى تشكل جهازنا الروحي التلقائي والثانية غير التلقائي.
فقوانين الخلق تشق
سبيلها دون إرادتنا وعزمنا وتوجهنا ، وهي على غرار أجهزتنا التلقائية التي لا
تكترث لإرادتنا ، أمّا القوانين التشريعية وما يتعلق بالتربية والتعليم فهي تابعة
لإرادتنا ، وممّا لاشك فيه أنّ كل قانون بصفته قانوناً سماوياً أوحي للنبي قد كانت
له جذور في الخليقة وقد صودق من قبل مجلس الخليقة ، والحقيقة هي أنّ هذين الجهازين
هما الخيوط الأصلية لنسيج الوجود ، فهل يمكن لخيوط قماش أن تتضارب مع بعضها؟ قطعا
لا. وإلّالما كان هناك قماش ولابدّ أن تكون مكملة لبعضها البعض للحصول على قماش
جميل ، على سبيل المثال وجودنا في هذا العالم دون علم يحيله إلى خواء لاروح فيه
وليس له من قيمة ، ومن هنا فإن عصب عالم الوجود تكاتف ليسوقنا نحو العلم والمعرفة.
فقد طرح بادىء
الأمر حبّاً شديداً في أعماق روحنا بحيث لاينفصل عنّا لحظة من المهد إلى اللحد ،
فأحياناً بمطالعة المجرّات وأخرى بما يجري في المريخ ويوماً بخلايا أبداننا وآخر
بأسرار أعماق البحار والمحيطات والغابات ، والخلاصة إنّ هذا المحرك التلقائي
لاينفك عنّا لحظة واحدة.
والطريف إنّنا
نشاهد في التعاليم الدينية شبيه ذلك تجسيداً لنداء الخلقة والفطرة : (اطْلِبُوا الْعِلْمَ مِنَ الْمَهْدِ
الَى الْلَّحْدِ)
__________________
وعليه فليس فقط
لأصل «التوحيد» بل جميع الأصول والفروع وتعليمات الأنبياء جذور في فطرة الإنسان
وإنّ كافة وصايا الأنبياء على كافة الأصعدة إنّما تربي الفطرة الإنسانية وتنميها ،
وهنا نخلص إلى نتيجة مفادها إننا إذا شعرنا بتعلق فطرتنا بشيء فلابدّ أن يكون لذلك
الشيء وجوداً خارجياً.
* * *
والآن نعود لنرى
جذور القيامة ونبحث عنها في وجودنا :
٢ ـ حبّ البقاء
لو خلق الإنسان
للفناء حقاً لوجب أن يعشق ذلك الفناء ولتلذذ بالموت وإن حلّ به في وقته وفي السنين
المتقدمة ، والحال لا نراه يستسيغ الموت (بمعنى العدم) في أي وقت ، ليس فقط ذلك
فحسب ، بل يعشق البقاء والوجود بكل كيانه ، ويبرز هذا العشق من بين جميع نشاطاته ،
ما الجهود التي يبذلها من أجل حفظ اسمه وذكره وبناء الأهرام والمقابر الدائمية
وتحنيط أجساد الموتى بتلك التكاليف الباهضة وحتى الرغبة بحياة ولده كامتداد لحياته
و... كل ذلك دلالة واضحة على غريزة حب البقاء لديه ، إلى جانب سعيه لإطالة عمره
وتعامله مع إكسير الشباب وماء الحياة التي تشكل أدلة أخرى على ثبوت الحقيقة
المذكورة.
فلو خلقنا للفناء
فما معنى هذا الحبّ والرغبة بالبقاء؟
لو كان الأمر كذلك
لكان هذا الحب والرغبة ضرباً من العبث واللغو ، لقد تجلت الحقيقة المذكورة بأروع
صورها في كلام الإمام علي (ع) إذ قال : (مَا خُلِقْتَ أنْتَ
وَلَا هُمْ لِدارِ الْفَنَاءِ بَلْ خُلِقْتُمْ لِدارِ الْبَقاءِ)
٣ ـ القيامة لدى الأقوام السابقة
كما يشير التاريخ
البشري إلى وجود الأديان لدى الأقوام السالفة ، يشهد أيضا باعتقادهم الراسخ
بالحياة التي تعقب الموت.
والشاهد على ذلك
الآثار التي وصلتنا من الإنسان القديم لما قبل التاريخ ولاسيّما طريقة بناء القبور
وكيفية دفن الأموات والتي تدل بأجمعها على أنّهم لم يكونوا يعتبرون الموت نهاية
الحياة.
فقد ورد في كتاب
عالم الاجتماع «كنيغ» ص ١٩٢ أنّ التحقيقات تفيد وجود الأديان لدى الطوائف الأولى
من البشر ، كما لاسلاف الإنسان المعاصر (النياندرتال) حيث كانوا يعتمدون أساليب
خاصّة في دفن أمواتهم وكانوا يضعون أدوات عملهم إلى جوارهم ليبرزوا عقائدهم للعالم.
وكتب «ويل دورانت»
في المجلد الأول من تأريخه ص ٢٢٥ لم بنى المصريون لأهرام؟
لاشك لم يكن
مرادهم بناء أثر معماري ، وقد قاموا بذلك بدافع ديني.
كانت أهرام مصر
قبوراً ترقت شيئاً فشيئاً لتخرج من صورتها الابتدائية وتصبح بهذا الشكل.
ثم تطرق بالتفصيل
إلى عقائد المصريين بشأن الحياة التي تعقب الموت والتي تعدّ الدافع لبناء الأهرام.
والحق أنّ الأهرام
المصرية من أعظم وأعجب البناء الذي قامت به البشرية وهي ثلاثة :
هرم خوفو وخفرع
ومنكورع ، وقد ضم هرم خوفو بمفرده مليونين ونصف قطعة حجرية تزن كل واحدة منها طنين
ونصف ، ويصل وزن البعض منها إلى ١٥٠ طن.
وقد إحتلت مساحة
من الأرض تبلغ ٤٦ ألف متر مربع! وقد جاءوا بهذه
الأحجار من مسافات
تبلغ مئات الفراسخ وقد إشتغل مئة ألف عامل خلال عشرين سنة من أجل بناء هذه الأهرام
، حتى قيل إنّ تكاليف الخضرة وبعض الأدوية للعمال بلغت ١٦ مليون دولار خلال تلك
المدّة.
ويتضح من كل هذا
مدى رسوخ عقيدة المصريين القدماء بالمعاد (طبعاً العقيدة الممزوجة بالخرافات) ،
فلا يمكن تجاهل هذه العقيدة واعتبارها مجرّد عادة أو قضية تلقينية ، بل تدل مثل
هذه العقائد المترسخة بين عموم الناس على فطريتها وإستنادها إلى أعماق روح الإنسان
، لأنّ الفطرة والغريزة التي يمكنها الصمود إزاء العواصف الشديدة لمرور الزمان
والتطورات الاجتماعية والفكرية ، فتبقى ثابتة مستقرة.
٤ ـ القيامة الصغرى والكبرى
كما أشرنا سابقاً
بأنّ نموذج القيامة والمحكمة الكبرى إنّما تكمن في وجودنا ، حيث تعقد في أعماق روح
الإنسان فور قيامه بالأعمال الحسنة أو السيئة.
فقد تنتابه
أحياناً حالة من الفرح والسرور والهدوء والسكينة الباطنية تجاه بعض الأعمال الحسنة
بحيث يعجز القلم والبيان عن وصفها وبالعكس فإذا ما صدر منه خطيئة ومخالفة فإنّه
يشعر بالهم والغم والألم الذي يعتصره بحيث قد يستعد أحياناً لأن يصلب بهدف الخلاص
من مخالب ذلك الإنزعاج.
ترى ما الشبه بين
هذه المحكمة الداخلية العجيبة ومحكمة القيامة العجيبة!
__________________
١ ـ أنّ القاضي
والشاهد ومنفذ الحكم هو واحد ، كما هو عليه الحال بالنسبة للقيامة : (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ انْتَ
تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ)
٢ ـ ليس هنالك من
توصية ورشوة وواسطة في محكمة الضمير بالضبط كما في محكمة القيامة : (وَاتَّقُوا يَوْمَاً لَاتَجزي نَفْسُ
عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَايُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَة وَلَايُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ
وَلَاهُمْ يُنْصَرُونَ)
٣ ـ تعالج محكمة
الضمير أهم وأضخم وأعقد القضايا في أقل مدّة ممكنة وتصدر أحكامها بسرعة ، فلا
إستئناف ولاتمييز ولاتجديد نظر ولا أشهر وسنوات من تضييع الوقت ، وهذا هو شأن
محكمة القيامة : (وَاللهُ يَحْكُمُ
لَامُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) .
٤ ـ أنّ العقوبة
والجزاء وخلافاً للعقوبات العادية المتعارفة في هذا العالم فهي تنقدح في الباطن ثم
تسري إلى الخارج ؛ إنّها تؤرق روح الإنسان في البداية ثم تظهر آثارها على جسمه
ونومه وطعامه ، على غرار القيامة : (نَارُ اللهِ
الْمُوقَدَةُ* الَّتي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفِئدةِ)
٥ ـ لاتحتاج محكمة
الضمير إلى الشاهد والحاضر ولا تحتاج في حصولها على المعلومات إلى خارج الإنسان
ونفس الإنسان يدلي بالشهادة لنفعه أو ضرره كمحكمة القيامة التي تشهد فيها أعضاء
الإنسان وجوارحه على أعماله : (حَتَّى اذَا مَا
جَاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ)
فهذا الشبه العجيب
بين هاتين المحكمتين هو دليل آخر على كون هذه
__________________
المسألة فطرية ،
حيث كيف يعقل وجود مثل هذا الحساب والكتاب الدقيق والمحكمة السرية العجيبة في
الإنسان الذي يمثل قطرة صغيرة في محيط الوجود العظيم ، بينما ليس هناك من حساب
وكتاب ولا محكمة في هذا العالم الكبير ، وعليه يمكن إثبات فطرية الإيمان بالحياة
بعد الموت من خلال ثلاثة طرق ؛ طريق غريزة حبّ البقاء وطريق وجود واستمرار هذا
الإيمان طيلة التاريخ البشري وأخيراً عن طريق وجود محكمة الضمير في باطن الانسان.
* * *
الادله العقليه للمعاد
الدليل العقلي الأول : العدالة الشاملة
إنّ الإنسان يحاكم
في أربع محاكم في هذا العالم أما ...
لايسع الإنسان أن
يستثنى من قانون العدالة العامة للخلق.
نعم يعاقب الإنسان
على ما يبدر منه خلاف وظلم في «أربع محاكم مختلفة» في هذا العالم ويدفع فيها ثمن
جريمته باهضاً ، الأولى المحكمةذات الأسرار «الضمير» التي تكتفي أحياناً يتصفية
كافة الحسابات بحيث لايبقى شيء.
والثانية محكمة «الآثار
الطبيعة للعمل» ولاسيما في الذنوب ذات البعد «العام» حيث يتضح سريعاً تأثير حكم
هذه المحكمة ، وتاريخ البشرية طافح بالدروس والعبر بشأن المصير المؤلم والمأساوي
للمجتمعات إثر الظلم والجور والإحجاف والتمييز العنصري والكذب والخيانة والنفاق
والتقاعس حيث إجتثت جذورهم وأصبحوا عبرة لغيرهم.
والثالثة محكمة «جزاء
الأعمال» وهي أغمض من كل هذه المحاكم وعلاقاتها مجهولة! وكأن قضاة هذه المحكمة
جلسوا يتدارسون الحكم خلف الأبواب المغلقة ليصدروا أحكامهم القاطعة والتي تنفذ
بصورة خفية.
ليس لدينا لحدّ
الآن أي تفسير علمي لمسألة «الجزاء» ، إلَاأنّه لايمكن أن نكرر رؤيتنا مراراً في
حياتنا أو طالعنا في صفحات التاريخ أنّ الأفراد الظلمة قد واجهوا آخر الأمر جزاءاً
جهنمياً لم يكن أحد قد تكهن به ، والعلاقة القائمة بين مصيرهم الأسود الأليم
وأعمالهم الشائنة التي إرتكبوها لايمكن تفسيرها عن طريق «الضمير» ولا عن طريق «الآثار
الطبيعية للعمل» كما لايمكن حملها على الصدفة.
وهذا يقوي
الإعتقاد القديم بوجود الجزاء في الأعمال بصورة غامضة ومبهمة ، إلّاأنّه يعمل بشكل
قاطع وصارم.
وأخيراً رابع
محكمة هي «المحكمة الرسمية» والعادية البشرية ذات القدرة الضعيفة ، والتي قد لا
ترى سوى مورداً واحداً من بين عشرة موارد وتغيب عنها البقية ، مع ذلك فأحكامها
ليست عادلة تماماً حتى في هذا المورد ، لأنّه كما نعلم فهي عرضة للتأثر بهذا وذاك
، إلى جانب صعوبة تشخيص الحق والعدل والتعامل معه بحزم ومن هنا فعادة ما يختل
توازن هذه المحكمة.
* * *
المحاكم الخاصة
هذه هي المحاكم
الأربعة التي تواجهنا ، إلّاإنّنا إذا أمعنا النظر في كل واحدة منها لرأينا أنّه
كتب على بوابة كل منها هذه العبارة «هذه المحكمة خاصة ولا تعالج إلّابعض الجرائم».
وخصوصية هذه المحاكم
لا تحتاج إلى بحث ، لأنّ وظيفة المحاكم الرسمية ـ كما ذكرنا آنفا ـ واضحة وليس لها
أن تطول جميع المجرمين
والآثمين ، ولو
وسعها ذلك وإنتصرت للمظلوم من الظالم ، لما إحترق العالم اليوم بنيران كل هذا
الظلم والجور والاستعباد والاستعمار والاستغلال.
وأمّا محكمة الجزاء
فهي الأخرى لا بُعد عمومي لها ، وكأنّي بها ليست إلّا برنامج تربوي وتحذير للجميع
من خلال إبانتها لبعض النماذج! ولذلك نرى بعض المجرمين الذين فروا من مخالبها ،
إضافة إلى أنّ بعض الجنايات قد تكون ثقيلة بحيث لايسعها الجزاء ويقتصر على التعامل
مع جانب معين من جوانبها.
وأمّا محكمة
الآثار الطبيعية للأعمال فهي كسابقتها لها بعد خاص ، لأنّ شعاع عمله إنّما يشتمل
غالباً على ذنوب تتخذ بعداً عاماً ، أو إن إرتكبه فرد لابدّ أن يواصل العمل به
لمدّة طويلة ليتضح شؤمه ومرارته ، وعليه فإنّ كثيراً من المجرمين والجرائم خارجة عن
نطاق قضاء هذه المحكمة ولم تبق إلّا «محكمة الضمير» والتي أثبتنا خصوصيتها في
الأبحاث السابقة حين تعرضنا إلى وظيفة هذه المحكمة ، فلا يتمتع كافة الناس بضمير
حي ويقظ ، فضعف الوجدان الذي يحصل بسبب عدّة عوامل إنّما يؤدّي إلى هروب جماعة من
المجرمين والجناة الخطرين تحت ذرائع مختلفة من مخالب عقوبات هذه المحكمة.
وبناءاً على ما
تقدم فالنتيجة التي نخلص إليها من خلال الدراسة الشاملة للمحاكم الأربع المذكورة
إلى أنّ أي من هذه المحاكم ليس لها بعداً عاماً وشاملاً بحيث تنزل العقاب بكافة
الجناة والمجرمين لإرتكابهم أية جنحة أو جناية بعد مثولهم للمحاكمة ، وكأنّها
بمنزلة إخطارات وإشعارات متتالية تهدف إلى تربية البشر وإيقاظه ليس أكثر.
* * *
قانون العدالة في عالم الوجود
لابدّ أن نرى هنا
هل يمكن الوثوق بوجود عدالة عامة وشاملة في ما وراء هذه الحياة ، أم أنّ البشرية
تنتقل من هذا المكان دون أن توفي حسابها وليس هناك من شيء ينتظرها!
لو ألقينا نظرة
إلى الحياة البشرية التي تشكل جانباً صغيراً جدّاً من نظام الخلقة وطالعنا بصورة
عامة الوضع العام لعالم الوجود ، لرأينا قانون «النظام والعدالة» الذي يحكم جميع
الأشياء ، والقانون المذكور على درجة من القوّة بحيث إنّ أدنى إنحراف عنه يؤدّي
إلى فناء كل شيء «بالعدل قامت السموات والأرض» . فالنظام والعدالة هي سبب تلك الحركة العظيمة والوجود
والسعة للسموات والأرض وجميع الكرات العظيمة التي ملأت أركان الوجود ، وما استمرار
حبة غاية في الصغر «الذرة» خلال ملايين السنين بتلك الدقة والظرافة التي استعملت
في بنيتها ، والذي ينبغي عادة أن يختل مثل هذا الجهاز اللطيف مبكراً ، أنّما هو
وليد تلك العدالة والحساب الدقيق لنظام الالكترونات والبروتونات ، فليس هنالك من
جهاز ـ صغير أم كبير ـ بمعزل عن هذا النظام الدقيق والعدالة العامة الشاملة سوى
الإنسان!
* * *
هل الإنسان كائن إستثنائي؟
هناك فارق رئيسي
بين الإنسان وكافة كائنات عالم الطبيعة ، وهو إتصاف الإنسان بتلك القدرة العجيبة
التي تعرف بالإرادة والمقرونة بالحرية والإختيار ؛ أي إنّه يشخص الأشياء بعد
المطالعة والفكر والبحث فما كان
__________________
لصالحه أتى به وما
كان بضرره تركه ومن هذه الناحية فإليه تعيين مصيره ، وهذا الإمتياز الكبير هو
الضامن لتكامله المعنوي والأخلاقي والإنساني ، لأنّه لو لم يكن حراً مختاراً وقام
مثلاً بالأعمال الحسنة وأسدى الخدمات للناس بدافع الإجبار أو تحت تأثير بعض
العوامل الداخلية والخارجية ، لما كان هناك من فرق بينه وبين أحجار الصحراء التي
تختزن بينها بعض الأجناس النفيسة والغالية إلى جانب الرخيصة ، وليس في هذا الفارق
بين الأجناس أي إمتياز أخلاقي.
على سبيل المثال
لو أجبر شخص بقوّة الحديد والنار على التبرع بعدّة ملايين لمؤسسة خيرية ، وقامت
تلك المؤسسة ببعض النشاطات ، مع ذلك فهذا الأمر لايدعو لأي تكامل أخلاقي وإنساني
لذلك الشخص ، بينما لو تبرع طواعية ولو بريال واحد بدافع من حريته وإختياره لأحرز تكاملاً
بذلك المقدار ، وبناءاً على هذا فالشرط الأول للتكامل الإنساني والأخلاقي التمتع
بالحرية والإرادة بحيث يسلك الإنسان طريقه بإرادته ، لا من خلال الإجبار من قبيل
العوامل الإضطرارية لعالم الطبيعة ، وهذا هو الهدف الذي من أجله منح الله سبحانه
الإنسان هذا الإمتياز العظيم (عليك بالدقة).
ومن الطبيعي أن
يستغل بعض الأفراد هذه الحرية فيرتكبون مختلف الجنايات ، طبعاً إذا نوى الإنسان
الذنب وأتى به فقد أران على قلبه ، وإن أكل مال اليتيم سار برجله نحو الموت ، وحين
يمد يده إلى سرقة ـ على حد زعم ذلك الرجل الأبله الذي كان يحدد وظيفة الله ـ تتيبس
فوراً ويكتب إسمه بخط واضح وكبير على صفحة السماء أنّه سارق ، طبعاً ليس هنالك
لإنسان أدنى فخر إمتياز إنساني وتكامل روحي فيما إذا لم يقارف الذنوب تحت طائلة
الإجبار ... هذا من جانب.
ومن جانب آخر
لايمكن للإنسان أن يستثنى من قانون العدالة الذي يمثل أمر الخالق في كافة أرجاء
عالم الوجود ، فليس هنالك من مبرر لهذا الاستثناء ، ومن هنا نوقن بأنّ هناك محكمة
سيمثل فيها الجميع دون إستثناء ، وسينالون نصيبهم من العدالة العامة لعالم الخليقة
(عليك بالدقة أيضا).
* * *
الدليل العقلي الثاني
تقول فلسفة الخلق
هنالك عالم بعد الموت
إنّ
معرفة فلسفة الخلق وخلقة الإنسان تساعد في التعرف على عالم ما بعد الموت بالتالي
سيأتي اليوم الذي تسكن فيه المنظومة الشمسية!
هل
ستتوقف عجلة تكامل الإنسان بعد كل ذلك الرقي والتطور؟
أليس
هذا من العبث؟
غالباً ما يطرح
هذا السؤال : ما فلسفة خلقنا وهذا العالم الواسع؟
ماذا كان سيحدث لو
لم نخلق؟
إن الفلاح يزرع
الأشجار ليحصد الثمار ، فما الذي يحصده فلاح عالم الوجود من زرعنا؟
إنّنا لا نفهم لم
جئنا؟ وما الهدف منّا؟ ولماذا سنرحل من هنا؟ ومن هنا نشعر بالعبثية وإنّ هذا
الشعور المؤذي لينتابنا كلما فرغنا من أعمالنا وإستغرقنا في التفكير.
ويبدو من خلال
المطالعات والآثار إنّ هذا الشعور كان سائداً أيضاً لدى بعض الفلاسفة والشعراء.
ولعلنا أشرنا
سابقاً أنّه لابدّ من الانطلاق من نقاط بسيطة وواضحة للإجابة على هذه الأسئلة التي
قد تبدو صعبة ومعقدة ، وقد تكون تلك النقاط الواضحة هي الأسس التي أرسى عليها
الفيلسوف الفرنسي المعروف «ديكارت» دعائم مدرسته.
لنفرض أنّنا مررنا
بمنطقة فوقعت أعيننا على بناية عظيمة وضخمة قد فرغ منها للتو ، فيطالعنا فيها
الاسلوب الدقيق والخارطة الممتازة والعمارة الرصينة والانارة الكافية والاختيار
الصحيح للمواد وما إلى ذلك من الأمور التي تشير إعجابنا ، فإنّنا نرى كل شيء قد
وضع مكانه على ضوء تخطيط دقيق ، إلّاأنّنا لا ندري ما هو الغرض الذي من أجله بني
هذا المبنى الضخم؟
فهل يجيزنا العقل
أن نعتقد بأنّ كافة أجزاء هذا المبنى قد بنيت لتحقيق هدف ووفق خارطة معينة ، بينما
ليس للمبنى بأجمعه أي هدف ووجد للعبث؟ ... قطعاً لا ، فمن كان له هدف في الجزء كيف
لا يكون له ذلك في الكل؟
* * *
والآن نغوص في
الباطن العميق لمصنع وجودنا ونشاهد القلب الذي يعمل بصوت موزون وحركات منظمة
متتالية دون أدنى توقف ، كما نرى تفرعات القلب من قبيل البطين والاذين والأوردة
والشرايين التي تضنخ الدم وتلك التي تستقبل الدم ، كما نرى هدف كل واحد منها وهي
تتحرك وتنشط للقيام به ، بحيث لا نرى أي شيء زائد في هذه المضخة ، ثم نتجاوز القلب
ونتيجة صوب المعدة ثم الكبد والكلية والرئة والعظلات و... فنرى
لكل عضو هدفه
ووظيفته.
ثم نرد بعد ذلك
جهاز الدماغ المذهل ونتعرف على هدفه ووظيفته ، بعد ذلك نستغرق في التفكير لنطرح
على أنفسنا هذا السؤال :
أو يمكن أن يكون
لأصغر أجهزة البدن والأعضاء ـ حتى أهداب العين ـ هدفاً ، بينما لا يكون هناك أي
هدف للإنسان ككل؟
فهل يسمح لنا
العقل بطرح مثل هذا الاحتمال والتفكير به؟
ثم نخرج من باطننا
العميق ونتسلق أجنحة الملائكة لنحلق معها ونسير في عالم الوجود لنرى كل ذرة وقد
كتب على لوحة إلى جانبها الهدف من خلق هذه الذرة ، وهو الأمر الذي تمكننا من
الوقوف عليه في ظل تطور العلوم والمعارف.
فقد وقفنا على
الهدف الذي تنطوي عليه جميع ذرات العالم ، أفهل يمكن ألّا يكون هناك هدف للعالم
بأسره؟
أو ليس هناك من
لوحة نصبت إلى جانب هذا العالم الواسع المترامي للدلالة على هدفه النهائي ،
إلّاأنّ عظمتها لم تجعلنا نراها للوهلة الاولى ، وهل من عبارة كتبت على تلك اللوحة
سوى «التكامل والتربية» .
والآن بعد أن
عرفنا بأنّ هدف الخلق هو تكاملنا وتربيتنا وهذه هي فلسفة خلق الإنسان ، ولابدّ أن
نرى هل سينتهي هذا التكامل بموتنا ، بحيث ينتهي كل شيء عند الموت؟
هل يمكن لهذه
الدنيا بمدّتها القصيرة وكل هذه المصاعب والويلات أن تكون هدفاً لهذا الخلق العظيم؟
* * *
__________________
هل نحن جسر لترقي الآخرين؟
يمكن أن يقال إنّ
عالم البشرية لاينتهي بموتنا ، بل فمنح مكاننا لأفراد أكثر منّا رقيّاً وتطوراً ،
وهكذا تسير قافلة التكامل إلى الأمام فاليوم في المجالات المادية والتكنولوجية
وغداً في المجالات الأخلاقية والإنسانية ، وبناءاً على هذا فإن فلسفة الخلق هو
تكامل وتربية النوع الإنساني لا الأفراد ، ومثل هذا التكامل لايتوقف بموت الأفراد
ويسير قدماً ، إلّا إنّ هذه الإجابة تشبه الدواء المسكن ، فهي لا تحل المشكلة
الأصلية من جذورها وذلك لأنّه :
أولاً : أليس
إستمرار تكامل نوع الإنسان بفناء فرد وزواله هو تمييز عنصري ظالم؟ فإن كانت نتيجة
حياتنا هي تمهيد السبيل وتوفير الأرضية الخصبة من أجل رقي وتطور الآخرين القادمين
وليس لنا من ذلك سوى أن تكون جسراً لترقيهم فيحصلون عليه دون أدنى جهد أو عناء
بينما نشقى فمن أجل إعداده لهم ، أفليس يتناقض هذا والعدالة المطلقة التي تحكم
عالم الوجود؟ (لأنّ كل هذه الأبحاث ترد بعد الإقرار بوجود الله وصفاته).
وعليه فلا يمكن
للموت أن يكون نقطة إنتهاء حتى بالنسبة للفرد ، وإلّا لأصبحت حياة فرد حي عبثية
لاطائل من وراءها.
ثانياً : يخبرنا
جميع العلماء : أنّ السيارة التي نعيش عليها ستؤول إلى السكون في المستقبل ـ المستقبل
الذي ليس ببعيد من حيث المقاييس الفضائية ـ كما ستظفىء بالتدريج الحضارة الرفيقه
والتكامل لذلك الزمان ، وتتحول الأرض إلى كرة خربة وباردة وساكنة ، وآنذاك يبرز
هذا السؤال : ما الذي حصل من هذا الذهاب والإياب؟ ألا يشبه هذا الأمر صنع لوحة
نفيسة وجميلة للغاية ومن ثم كسرها وتحطيمها؟
أمّا إن قبلنا
بأنّ حياة الإنسان ستعيش اللانهاية والخلود في عالم أوسع ، آنذاك نستطيع لمس فلسفة
الخلق بوضوح ونعيش استمرارية قانون التكامل.
وبناءاً على هذا
فإنّ فلسفة الخلق وقانون التكامل يقول للإنسان لا يمكن للموت أن يكون نهاية الحياة
، وستستمر الحياة بشكل أرفع وأسمى بعد الموت.
* * *
إنعكاس هذا المنطق في القرآن
رغم أنّ القرآن
الكريم تحدث على هامش مختلف السور القرآنية عن القيامة والحياة ما بعد الموت وخاض
في تفاصيلها ، مع ذلك نرى بعض السور التي تصدت لقضية المعاد من بدايتها إلى
نهايتها ، ومن ذلك سورة الواقعة التي تعالج تقريباً بأجمعها المعاد. وقد تعرضت
آياتها (من الآية ٥٧ إلى ٧٣ تقريباً سبع عشرة آية) إلى بحث فلسفة الخلق وقانون
التكامل بشكل رائع وبذكر عدّة أمثلة ، وخلاصتها كالآتي : «كيف تشكون في المعاد
والقيامة» رغم أنّه :
أولاً : إنّا خلقناكم من نطفة في رحم الأم ثم طويتم مسيرة
التكامل حتى أصبحتم أناساً كاملين ، فهل لمن جعل النطفة تتكامل جنيناً أن يوقفه
عند هذا الحد ، أم هل هو عاجز عن إعادة الحياة بعد الموت؟
ثانياً : أفلا تنظرون إلى ما تحرثون من الأرض ، فهل أنتم تزرعونه
أم نحن الزارعون ، فلو شئنا لجعلناه حطاماً فلا تحصلوا منه على شيء ، إلّاأنّنا
نسير بهذا العالم نحو السمو والتكامل وننبت مئات الحبات من حبة قمع واحدة ،
ثم تصبح جزءاً من
بدن الإنسان ، فيطوي مرحلة جديدة من التكامل. أفتنطفىء هذه الشعلة المتوهجة
للتكامل بمجرّد موت الإنسان لتتحول إلى تراب لا قيمة له؟ أفليس هذا العمل عبثاً
ولغواً؟
ثالثاً : انظروا إلى هذا الماء العذب الذي تشربون ولا تنسوا أنّه
كان ماءاً مالحاً ومرّاً في البحر ، نحن الذين صفّيناه وبعثنا به كغيوم إلى السماء
(وكنّا قادرين على نبعث بالأملاح معه إلى السماء) ونستطيع أن نجعله علقماً ، إلّا
أنا لم نفعل ذلك وأجرينا عليه قانون التكامل فجعلناه عذباً فراتاً ليصبح جزءاً من
بدن النباتات والناس ، فهل نطوي سجل التكامل بموت الإنسان؟ أو ليس هذا ضرباً من
العبث؟
رابعاً : انظروا إلى هذه النار التي توقدونها ، فهل أنتم أنشأتم
شجرتها؟ أم نحن المنشئون من أجل قضاء حوائجكم وتذكيركم ، نحن الذين أمرنا الشمس
بأن ترسل أشعتها فجعلنا تلك الشجرة تدخر الطاقة لتقوم بعد ذلك باعادة هذه الطاقة
على شكل حرارة لكم فتستفيدوا منها في حياتكم ، وقد فعلنا كل ذلك من أجل تكاملكم ،
فهل ينتهي كل شيء بموت هذا الإنسان؟ كلا ، ليس الأمر كذلك.
نعم كل هذه الأمور
تدل على عدم نهاية الحياة الواقعية بموت الجسم.
* * *
الدليل العقلي الثالث
لو كان الموت نهاية لكان خلق الإنسان عبثاً
لايمكن فصل
الإيمان بمبدأ للعلم والحكمة في عالم الوجود عن الإيمان بحياة ما بعد الموت ،
لنفرض أن فخّاراً يصنع آنية ، فما إن ينتهي منها حتى يضربها بالأرض ويكسرها ، فهل
من شك في حماقته؟
وهل نعتبره عاقلاً
مهما أضفى عليها من الجمالية وجعلها تحفة فنية واقعية إن كسرها عبثاً؟
بل إفرض أنّ
مهندساً ثرياً وماهراً وله ذوق سليم يقوم ببناء عمارة ضخمة وجميلة بأفضل مواد
البناء ووفق أدق الخرائط وبتكاليف كثيرة بحيث تثير تلك العمارة إعجاب كل من ينظر
إليها ، أو أن يقوم ببناء سد عظيم ، وما أن ينتهي من بناء تلك العمارة الضخمة أو
هذا السد العظيم حتى ينظم مراسم ويدعو جميع الشخصيات لإفتتاحه ، وفي الغد نطالع في
الصحف أنّ المهندس المذكور قام بتفجير العمارة والسد بالديناميت ، ثم تحدث للصحفيين
قائلاً أنّ هدفه من تلك العمارة هو الاستراحة فيها ليوم
واحد ، أو العوم
بسفينة لبضع ساعات في بحيرة السد!
فكم طفولي هذا
الكلام وبعيد عن العقل؟ لايبدو هذا العمل متوقعاً من شخص أمي فضلاً عن فرد حكيم
وعالم.
* * *
لو نظرنا إلى
منظمات ومؤسسات هذا العالم الواسع وفكرنا بالدقة والعظمة التي استخدمت في هذا
العالم بصورة عامة وفي الإنسان من الناحية الجسمية والروحية بصورة خاصّة ، لعرفنا
أنّ «الموت» لايمكنه أن يكون نهاية الحياة البشرية ونقطة توقف وجودها ، لأنّ حياة
الإنسان في هذه الحالة والعالم المحيط به سوف يكون عبثاً وغير منطقي ، وهو بالضبط
كفعل ذلك الفخّار والمهندس.
توضيح
ذلك :
تفيد مطالعة عالم
الخلق على مستوى عظمته وكذلك دقته حقيقة مؤدّاها أنّ هذا العالم أوسع وأجمل وأعقد
ممّا نتصوره.
فقد صرح «أنشتاين»
في كتابه «الفلسفة النسبية» : إنّ ما قرأناه من كتاب التكوين الكبير لم يكن أكثر
من صفحة (أو صفحات) وقد تعرفنا على ألف باء هذا الكتاب العظيم في ظل تطور العلوم
البشرية.
ولابدّ من الاضافة
إلى هذا الكلام : إنّه كتاب غطاؤه الخارجي «الأزلية» وغطاؤه الداخلي «الأبدية» وقد
إجتاحت أوراقه السماء والأرض ، بينما تشكل المنظومات والكواكب والكرات العظيمة
والمجرّات كلماته وحروفه ، وياله من عمر طويل يتطلب لمن أراد قراءته إن أمكن ذلك. كما
صرّح البروفسور «كارل جيلزين» في كتاب «رحلة إلى العوالم البعيدة» قائلاً : إنّ
المسافة الشاسعة
بين المجموعة الضخمة للكواكب أو المجرّات لهذه الجزر الفلكية التي تعوم في الفضاء
وتدور حول محورها ، ممّا يصعب حتى التفكير فيها ، فكل واحدة من هذه المجرّات تضم
ملياردات الكواكب ، وإنّ مسافاتها على قدر من السعة بحيث إنّ الضوء (وبتلك السرعة
الرهيبة والفريدة) يحتاج أحياناً مئات آلاف السنين من الوقت ليطوي المسافة بين
كوكبين يقعان ضمن مجرّة واحدة.
وبالطبع فإنّ
الدقة المستعملة في بنية أصغر وحدة في هذا العالم كالدقّة المحيرة والمذهلة التي
تشاهد في بنية أعظم وحدة ضخمة من وحداته ، والإنسان ـ في هذه الأثناء ـ هو أكمل
موجود على الأقل عرفناه لحد الآن ، وهو أعظم محصول لهذا العالم ـ حسب علمنا طبعاً
ـ بما يمتلكه من بنية عجيبة.
* * *
من جانب آخر :
نشاهد أنّ هذا
الإنسان الذي يعد أعظم نتاج لهذا العالم ، يتحمل أية مشاكل وصعاب خلال هذه المدّة
القصيرة من عمره التي تعتبر لحظة عابرة متبخرة إزاء عمر الكواكب والمجرّات ،
فمرحلة طفولته التي تعدّ أصعب وأعقد مراحل حياته حيث تتضمن برامج غاية في الثقل
الذي يرهق كاهله ، فقد وضع قدمه في محيط جديد لا يألف فيه أي شيء ، إنّه لا يعرف
حتى كيف يحفظ لعابه وعليه أن يتوفر على تجارب كثيرة وإختبارات وإمتحانات متعددة
وتمارين تأخذ أغلب أوقاته ليتعلم كيف يسيطر على عضلات شفتيه وأطراف فمه.
__________________
إنّه لايعرف الجهة
التي ينبعث منها الصوت ، كما لايعلم الفاصلة بين عينيه والأشياء ولعله يعتقد بادىء
الأمر بأنّ جميع الأشياء على صفحة واحدة وقريبة من عينه ، وليس له أدنى إطلاع عن حركة
أمواج الهواء على الأوتار الصوتية وايجاد أنواع الأصوات ومن ثم تكسر وتشكل الأصوات
بواسطة حركات اللسان وعضلات الفم والحنجرة ، وعليه أن يتمرن صباح مساء في مهده
ويدرس ويطالع ويتدرب ليتعرف على محيطه ويستفيد من وسائله وأدواته ، أضف إلى ذلك
عليه أن يكافح أنواع الأمراض ليتمكن من تحمل الظروف التي تواجهه في ذلك المحيط ،
وعلى كل حال فإنّ أهميّة التمارين التي يزاولها من أجل التعرف على المحيط لتفوق
التمارين المنهكة التي يمارسها رواد الفضاء من أجل التكيف على سطح القمر ، وهكذا
يقضي فترة الطفولة بكل معاناتها.
ولايكاد يلتقط
أنفاسه حتى يواجه المرحلة الصاخبة للشباب بعواصفها الشديدة الطاغية التي تعصره في
معترك أمواجها ، وهكذا يتنقل من مرحلة إلى أخرى ، حتى لا يكد يقف على رجليه فتنقضي
فترة الشباب ليرى نفسه في حالة الكهولة والشيخوخة ومن ثم العجز ، وهنا يشعر
تدريجياً بأنّه أخذ يفهم بعض أخطائه الماضية ـ والتي لابدّ من بعضها بغية بلوغ
حالة النضبح ـ فهو قلق ومضطرب ومنهمك في كيفية تداركها ، فيفكر مع نفسه بأنّه حصل
الآن على تجربة تؤهله لحياة جديدة بنضبح أكبر ، ولكن للأسف أنى له ذلك وقد ضعفت
القوى والموت كامن له في الطريق الذي سيحيل نضجه وتجاربه وعلومه ومعارفه تراباً ،
وبغض النظر عن ذلك فإنّ هذه المراحل الثلاثة من عمره كانت مسرحاً لمختلف الحوادث
المأساوية الطبيعية و
الاجتماعية وفقدان
الأحبّة والأعزة والأصدقاء وتحمل الهم والغم والمرارة.
والآن نحتكم
ونتساءل :
أمن المعقول أن
يكون هدف هذا الجهاز الجبار العظيم للخلق خاصّة الهدف من خلق هذه الدنيا الصغيرة
العجيبة التي تدعى «الإنسان» إنّما يتمثل بهذه الحياة وهذا الذهاب والإياب الممزوج
بآلاف الكدورات والإزعاجات ، وبعد ذلك يغلق ملف كل هذا العلم والتجارب والإستعداد
الروحي الذي يبدو أنّه كان مقدمة من أجل حياة أخرى ، ومن ثم تبدل تلك الخلايا
الدماغية العجيبة التي تضم أكبر ملفات الدنيا بالموت إلى ذرات بسيطة من تراب عالم
الطبيعة؟
أليس هذا شبيه عمل
ذلك المهندس الذي نسف عمارته؟
أليس هذا شبيه
بعمل ذلك الفخّار الذي حطم آنيته؟
هل ينسجم هذا
وحكمة البالغة سبحانه؟
إنّ الفلاح يغرس
الأشجار ليقطف ثمارها ، فما الذي يقطفه فلاح عالم الوجود منه؟ ... بضعة أيام منغصة!
لو إفترضنا أننا
كنّا مكانه وبهذا العقل الذي لدينا أفكنا نفعل مثل ذلك العمل؟ فما بالك به وهو
العقل والعلم والحكمة المطلقة.
كيف يمكن التصديق
بأنّ كل هذا الضجيج من أجل هدف يساوي تقريباً اللاشيء!
أليس ذلك بمثابة
الطفل الصناعي الذي يربونه في الرحم فإن نما وتأهب للحياة قتلوه؟
ونخلص ممّا سبق
إلى أنّ الشخص الذي يؤمن بالله وحكمته لا يسعه
إنكار نهاية حياة
الإنسان بموته.
* * *
وقد أشار القرآن
في عدّة مواضع إلى هذا الإستدلال حيث أورده على سبيل الاستفهام الإنكاري : (افَحَسِبْتُمْ انَّمَا خَلَقْناكُمْ
عَبَثاً وَانَّكُمْ الَيْنَا لَاتُرجَعُونَ)
فقد شبّهت الآية
عدم الرجوع إلى الله (يعني البعث والقيامة واستمرار الحياة والحركة نحو النقطة
اللامتناهية للوجود) بالبعث ، أي أنّ الخليقة ستنتهي إلى العبثية لو لم يكن هناك
من معاد وحياة بعد الموت.
(ايَحْسَبُ
الإِنْسَانُ انْ يُتْرَكَ سُدًى* الْمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِّيَ يُمْنى * ثُمَّ
كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوّى* فَجَعَلَ مِنْهُ الزُّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالانْثى* الَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى انْ يُحْيِىَ الْمَوُتى) .
فلو كان كل شيء
ينتهي بالموت لكان الخلق عبثاً مهملاً (حيث وردت سدى في اللغة بمعنى المهل) ، ومن
هنا قال بعض المفسرين أنّ المراد بالإنسان في الآية المذكورة (الْكَافِرُ بِالْبَعْثِ الْجَاحِدُ
لِنَعِمِ اللهِ) .
حقاً لايستحق سوى
الملامة من يشاهد هذا العالم وعظمته بينما لا يرى العالم الآخر.
* * *
__________________
الدليل العقلي الرابع :
بقاء الروح علامة على القيامة
أحد الأدلة الأخرى
ذات الصلة بمسألة القيامة والحياة بعد الموت والذي يشير إلى عدم فناء الإنسان
وزواله المطلق بالموت هو بقاء الروح.
إثبات وجود الروح
بصفتها حقيقة مستقلة ـ لاخاصية عارضة على البدن ـ توضيح هذا الموضوع في أنّ روح
الإنسان باقية بعد الموت ، وأنّ الموت لا يعني النهاية المطلقة للحياة ، وإثبات
هذا الموضوع في الواقع يعدّ خطوة كبيرة باتجاه إثبات عالم ما بعد الموت والمعاد ،
ولكن لابدّ من دراسة ثلاثة مواضيع من أجل بلوغ هذا الهدف هي :
١
ـ إستقلال الروح
٢
ـ تجرّد الروح
٣
ـ بقاء الروح
وقبل الخوض في ذلك
لابدّ من الإلتفات إلى أنّ قضية الروح من أقدم وأعقد المباحث التي واجهت الفلاسفة
والعلماء.
لا أحد يسعه بيان
مقدمة لهذا البحث ، لأنّه وطبق شهادة التاريخ أنّ المصريين ـ واحتمالاً سائر
الأقوام ـ قد تعرفوا قبل خمسة آلاف سنة على مسألة الروح ، حتى صرّح العالم
الاسلامي المعروف «الآلوسي» أنّ هناك مايقارب الألف قول ونظرية بشأن هذه القضية ،
وقد تحدث كل حسب طريقته عن ماهية الروح.
فالإنسان ـ حتى
إنسان ما قبل التأريخ ـ يشاهد في عالم النوم عدّةمشاهد وعوالم واسعة لم يرها بعد
النوم في محيطه ، وبالنظر إلى هذا الأمرفانّه يشعر بوجود قوّة خفية أودعت وجوده
تنشط وتتجلى بصورة حين اليقظة وأخرى حين النوم ، وهو مشغول بممارسة هذا النشاط حتى
في حالة سكون أجهزة البدن وارتماء الإنسان في زواية معيّنة ، وقد إصطلح على هذه
القوّة بالروح (أو ما يعادلها في اللغات الأخرى).
ثم إحتلت الروح
موقع الصدارة في أبحاث الفلاسفة حين أصبحت الفلسفة معرفة مدونة.
وسنرى ـ عمّا قريب
إن شاءالله ـ أنّ مسألة النوم هي أحد مفاتيح أبواب عالم الأرواح ، بل سنرى أنّ
الرؤيا يمكنها أن ترشدنا إلى عالم الأرواح من جهتين :
الأولى أصل مسألة
الرؤيا والمشاهد التي يراها الإنسان في المنام ـ سواءكان لها وجود خارجي أم لا ،
وبعبارة أخرى سواء كان لها تعبير أم لم يكن ـ والأخرى كيفية الرؤيا التي يشاهدها
الإنسان والتي تزيح الستار أحياناً عن الحوادث الموجودة أو القادمة أو الماضية.
وهنا بالطبع ينبرى
البعض من أصحاب الآراء السطحية ليخبرنا بأنّ الرؤيا ليست بالشيء المهم ، فهي هذه
المشاهد التي نراها في اليقظة ، كما قد
تكون تلك التي
نراها بفعل نشاط قوّة الواهمة والمتخيلة ، أو أنّها ما تفصح عن محتويات الضمير.
ولسنا بصدد معرفة
المصدر الذي تستند إليه الرؤيا وإلى ماذا تستند فعاليتها؟ وهل ترتبط بالماضي أم
المستقبل؟ والكلام في أنّ المشاهد الواسعة التي نراها في عالم المنام لابدّ أن
يكون لها حيزاً في وجودنا ، فهل هذا الحيز في خلايانا الدماغية وداخل الجمجمة ، أم
أنّها ترتسم على لوحات أخرى بنقوشها الكثيرة.
مثلاً نرى في
المنام أننا جلسنا في بستان يضم مسبحاً كبيراً في وسطه وتتقاذفه الأمواج المتكسرة
والجميلة ، ويقع هذا البستان على سفح جبل شاهق يرتفع إلى عنان السماء.
لا يهمنا إرتباط
هذا المشهد بالماضي أم المستقبل ، لكن على كل حال يلزم موضع لهذا المنظر الذهني
على غرار تلك اللوحة التي رسم عليها ، فهل هذا الموضع هو خلايا الدماغ؟ سنقف عمّا
قريب على أنّه ليس كذلك ، وعليه فموضعه شيء آخر نسميه «الروح».
وعلى كل حال سنرى
ما المدى الذي يسع الرؤيا أن تزيحه من غطاء عن أسرار الروح ، كما تدل على أنّ هذه
المسألة كما كانت في البداية مفتاحاً للحركة في منطقة الروح الواسعة ، فانّها
أصبحت اليوم تشكل الدليل الفلسفي وحتى التجربي في هذا المجال ، ونترك البحث
لمتابعة الأدلة الحديثة على إثبات وجود الروح التي توصل إليها العلم والفلسفة ،
والمراد هنا فقط الإشارة إلى تاريخ ظهور الحوار بشأن الروح على مستوى العموم
وأفكار العلماء.
* * *
إستقلال الروح
لا شبهة ولا شك في
الفارق بين الإنسان والحجر والخشب الخالي من الروح ، لأننا نشعر بانّنا نختلف عن
الجمادات بل وحتى النباتات ، فنحن نفهم وندرك ونتصور ونقرر ونعشق ونتنفر ولنا
إرادة و... بينما ليس هنالك أي من هذه المفردات للنباتات والأحجار ، وعليه فهناك
عدّة فوارق أصولية بيننا وبينها وذلك هو إمتلاك «الروح الإنسانية» ، ولم يتنكر
الماديون ولا غيرهم لأصل وجود «الروح» أو «النفس» ومن هنا فهم يقرون بعلمي معرفة
النفس وبحث النفس. والعلمان المذكوران وإن إجتازا تقريباً مراحلهما البدائية ،
فهما على كل حال من العلوم التي تدرس في كبار جامعات العالم ومن قبل الاساتذة
والباحثين ، وكما سنرى فإنّ «الروح» و«النفس» ليسا حقيقتين منفصلتين عن بعضهما ،
بل مراحل مختلفة لحقيقة واحدة. فإن كان الكلام عن إرتباط الروح بالجسم والتأثير
المتبادل لكل منهما على الآخر ، أطلقنا عليه إسم «النفس» بينما نستعمل اسم الروح
حيث نتعرض للظواهر الروحية المنفصله عن الجسم.
والخلاصة ليس هناك
من ينكر أن في وجودنا حقيقتان باسم الروح والنفس.
* * *
والآن لابدّ من
رؤية موضع النزاع بين «الماديين» و«فلاسفة الميتافيزيقيا والروحيين»؟
الإجابة على هذا
السؤال هي : يرى علماء الإلهيات والروحيون أنّ هناك حقيقة أخرى وجوهراً كامن في
نفس الإنسان من غير جنس المواد التي تشكل بدنه ، والتي يتأثر بها بدن الإنسان
بصورة مباشرة.
بعبارة أخرى : إنّ
الروح حقيقة ما وراء الطبيعة تختلف بنيتها ونشاطها عن بنية ونشاط عالم المادة ،
نعم هي مرتبطة دائماً بعالم المادة إلّاأنّها لا تتصف بخصائص المادة.
وبالمقابل هناك
الفلاسفة الماديون الذين يعتقدون بعدم وجود موجود مستقل عن المادة يدعى الروح أو
أي اسم آخر ، وكل ما موجود هو هذه المادة الجسمية أو آثارها الفيزيائية
والكيميائية ، لدينا بعض الأجهزة من قبيل الدماغ والأعصاب والتي تقوم بجانب مهم من
نشاطاتنا الحياتية وهي كسائر الأجهزة البدنية المادية والتي تمارس وظائفها في إطار
قوانين المادة.
ولدينا غدد تحت
اللسان تعرف باسم «غدد البزاق» والتي تقوم بوظائف فيزيائية وكيميائية ، فما إن يرد
الطعام الفم حتى تبدأ هذه الغدد بممارسة وظيفتها بفرز السوائل الكافية لترطيب
الطعام وسحقه ، وإن كان الطعام يشتمل على بعض الماء فانّها تفرز سائلاً بالقدر
الذي يرطبه أيضاً ؛ أي بمقدار أقل ، بينما تضاعف من هذا السائد إن كان الطعام
يشتمل على بعض الحوامض بحيث يترطب بالشكل الذي لايسبب أي ضرر على جدار المعدة.
فإذا ما إبتلع
الإنسان الطعام قعدت هذه الغدد عن العمل ، وزبدة الكلام
__________________
هناك نظام عجيب
يحكم هذه الغدد بحيث إذا إختل حسابها لساعة فإمّا أن يسيل الماء على الدوام من فمنا
على شفاهنا ، وإمّا أن يجف فمنا وبلعومنا بحيث تحشر لقمة الطعام في حناجرنا.
هذه هي الوظيفة
الفيزيائية للبزاق ، إلّاأنّنا نعلم بأنّ الوظيفة الكيميائية هي الوظيفة الأهم
للبزاق ، حيث يتحد مع مختلف المواد فيتركب مع الطعام ويحد من إجهاد المعدة.
يقول الماديون : إنّ
سلسة أعصابنا ودماغنا تشبه الغدد البزاقية وما شابهها حيث لها أنشطة فيزيائية
وكيميائية (والتي يطلق عليها فيزيا كيميائية) وهذه الأنشطة الفيزيا كيميائية هي
التي نصطلح عليها بالروح أو «الظواهر الروحية».
توضيح ذلك : حين
ننشغل بالتفكير فإنّ سلسلة أمواج ألكترونية خاصّة تنبعث من دماغنا ، واليوم تؤخذ
هذه الأمواج بأجهزة وتسجل على ورقة ولاسيّما في المستشفيات النفسية ، فيتوصلون من
دراسة هذه الأمواج إلى الطرق اللازمة للتعرف على الأمراض النفسية وسبل علاجها ،
هذه هي الوظيفة الفيزيائية لدماغنا.
إضافة إلى ذلك ،
فإنّ لخلايا الدماغ سلسلة من الأفعال والإنفعالات الكيميائية حين التفكير وسائر
الأنشطة النفسية.
وبناءاً على هذا
فالروح والظواهر الروحية ما هي إلّاالخواص الفيزيائية والأفعال والإنفعالات
الكيميائية للخلايا الدماغية والعصبية.
ثم يخلصون من هذا
البحث إلى هذه النتائج :
١ ـ كما أنّ أنشطة
الغدد البزاقية وآثارها المختلفة لم تكن موجودة قبل البدن وبعده سوف لن تكون أيضاً
، فإنّ أنشطتنا الروحية وجدت بظهور
الدماغ والجهاز
العصبي وستموت بموتهما.
٢ ـ الروح من خواص
الجسم ، إذن فهي مادية وليس لها من بعد لما وراء الطبيعة.
٣ ـ تخضع الروح
لجميع القوانين التي تحكم الجسم.
٤ ـ ليس للروح
ولايمكن أن يكون لها من وجود مستقل دون البدن.
* * *
أدلة الماديين على عدم إستقلال الروح
تمسك الماديون
بعدّة أدلة لإثبات صحة مدعاهم في أنّ الروح والفكر والإرادة وسائر الظواهر الروحية
مادية ومن الخواص الفيزيائية والكيميائية لخلايا الدماغ والأعصاب ، وإليك هذه
الأدلة :
١ ـ «يمكن الإشارة
بسهولة إلى توقف طائفة من الآثار الروحية إثر توقف بعض الأعصاب عن العمل» .
مثلا أجري إختبار
برفع مقدار من دماغ طير فلم يمت ، إلّاأنّه فقد الكثير من معلوماته ، فإن أعطي
طعام تناوله وهضمه ، وإن لم يعط وطرحت حبيبات أمامه لم يتناولها ويموت جوعاً.
كما لوحظ فقدان
الإنسان لجانب من معلوماته حين ترد دماغه بعض الضربات أو حين تعرضه لبعض الأمراض
والعوارض بحيث تشل بعض خلاياه.
قرأنا قبل مدّة في
الصحف : أنّ شاباً متعلماً تعرض لحادثة وهي ضربة دماغية قرب منطقة الأهواز فنسى
أغلب حوادث الماضي حتى أنّه لم يكن يعرف أمّه وأخته ، ولم يكن يعرف المنزل الذي
ولد وترعرع فيه ، فهذه
__________________
القضية ونظائرها
تدل على الرابطة الشديدة بين نشاط الخلايا الدماغية والظواهر الروحية.
٢ ـ فتزايد
التغييرات المادية للدماغ حين التفكير حيث يأخذ الدماغ طعاماً أكثر ويفقد مواد
فسفورية أكثر ، بينما تقل حاجته للطعام حين النوم وتوقف الدماغ عن التفكير ، وهذا
دليل على كون الآثار الفكرية مادية.
٣ ـ تشير القرائن
إلى أنّ وزن أدمغة المفكرين عامّة أكثر من الحدّ المتوسط (الحدّ المتوسط لدماغ
الرجال حدود ١٤٠٠ غم وأقل منه الحد المتوسط لدماغ النساء) وهذا دليل آخر على مادية
الروح.
٤ ـ لو كانت قوى
التفكير والظواهر الروحية دليلاً على وجود الروح المستقلة فلابدّ من قبول هذا
المعنى بالنسبة للحيوانات ، فهي تتمتع بادراكات تتناسب ووضعها.
والخلاصة فإنّهم
يقولون : إنّنا نشعر بأنّ روحنا ليست موجوداً مستقلاًويؤيد ذلك تطور العلوم
المرتبطة بمعرفة الإنسان.
فيخلصون إلى نتيجة
من مجموع هذه الإستدلالات إلى أنّ تطور فسلجة الإنسان والحيوان يوماً بعد آخر توضح
بصورة أعمق هذه الحقيقة التي تتمثل بالرابطة الحميمة بين الظواهر الروحية والخلايا
الدماغية.
* * *
ثغرات هذا الإستدلال
يبدو أنّ الماديين
إرتكبوا خطأ فادحاً هنا وذلك أنّهم خلطوا «وسائل العمل» ب «فاعل العمل».
__________________
وإليك مثالان بغية
الوقوف على هذا الخط :
لقد حدث تطور في
مطالعة وضع السماء منذ زمن العالم الإيطالي «غاليلو» حيث ساعده صانع للنظّارات
فتمكن من صنع منظار صغير يشبه منظار الأطفال هذه الأيام ، إلّاأنّ غاليلو كان شديد
الفرح آنذاك ، فكان يستعين به ليلاً لمطالعة كواكب السماء فكان يرى أمام عينه
مشهداً مذهلاً لم يكن رآه أحد آنذاك ، ففهم أنّه إكتشف شيئاً مهماً ، ومنذ ذلك
اليوم إنهمك في مطالعة أسرار العالم العلوي.
لقد كان الإنسان
حتى ذلك الحين أشبه بالفراشة التي لا تعرف سوى بعض ما حولها من أغصان ، بينما لاحظ
مقداراً أكبر منها حين إستعان بالمنظار ، وقد تكاملت هذه المسألة حتى صنعت
المنظارات النجومية الكبرى يبلغ قطر عدستها خمسة أمتار أو أكثر ، فكانوا ينصبونها
على سفوح الجبال المرتفعة الكائنة في المناطق المناسبة من حيث صفو الهواء ، فقد
مكنت هذه المنظارات الإنسان من رؤية عوالم من العالم الأعلى بما تعجز العين
المجرّدة عن رؤية واحد بالألف منها.
ولك أن تفكر لو
تطور هذا الجهاز بحيث يفوق قطر عدسته المئة متر وحجمه بقدر مدينة كبيرة ، قطعاً
ستكشف لنا عوالم لعلنا لا نستطيع اليوم حتى تصورها.
والسؤال المطروح :
لو سلبت منّا هذه الأجهزة فمن المسلم به أنّ قسماً أو أقساماً من معلوماتنا
ومشاهداتنا عن السماء ستتوقف ، ولكن من المشاهد الأصلي نحن أم المنظار؟
هل المنظار
والتليسكوب وسائل العمل التي نرى بواسطتها أم هي الفاعل والمشاهد الواقعي؟
وهنا نقول لا أحد
ينكر أنّه لايمكن ممارسة التفكير دون خلايا الدماغ ، ولكن هل الدماغ وسيلة عمل
الروح أم موجد الروح؟!
نضرب مثالاً آخر :
إنّنا نركب سفينة أو طائرة ونرتبط من داخلهما بجهاز لاسلكي مع الأرض فنتسلم
التعليمات بصورة مرتبة ، فمن المسلّم به إذا تعطل الجهاز فسوف لن نسمع صوتاً ،
يعني هناك رابطة شديدة بين سماعنا لتعليمات المركز وجهاز اللاسلكي.
ولكن من الذي يسمع
ويدرك نحن أم الجهاز؟
زبدة الكلام : إنّ
كافة الأدلة التي أوردها الماديون هنا فقط تثبت وجود الرابطة بين خلايانا الدماغية
وإدراكاتنا ، إلّاأنّها لا تثبت أنّ الدماغ هو القائم بالإدراك وأنّه ليس الوسيلة (عليك
بالدقّة).
ومن هنا يتضح أنّ
الموتى لو لم يفهموا شيئاً فإنّما ذلك لزوال الرابطة بين أرواحهم وأبدانهم ، لا
أنّ الروح فنت ، بالضبط كالسفينة والطائرة التي خرب جهازها اللاسلكي ، فالسفينة
والملاح وطاقمها ما زال قائماً ، إلّاأنّ أهل السواحل لايمكنهم الإرتباط بهم ،
وذلك لزوال وسيلة الإرتباط.
* * *
أدلة إستقلال الروح
كان الكلام عن
الروح وأنّ الماديين يصّرون على أنّ الظاهرة الروحية من خواص الخلايا الدماغية ،
والفكر والحافظة والإبداع والحب والبغض والغضب والعلم والمعرفة كلها من المسائل
التجربية والتابعة لقوانين عالم المادة ، وللفلاسفة الذين يقولون باستقلال الروح
أدلتهم التي ترفض العقيدة المذكورة ، والأدلة هي :
١ ـ العلم بالعالم الخارجي
السؤال الأول الذي
يمكن طرحه على الماديين هو : لو كانت الأفكار والظواهر الروحية هي الخواص الفيزيا
كيميائية للدماغ ، لما إنبغى أن يكون هناك تفاوت اصولي بين عمل الدماغ وعمل المعدة
أو الكلية والكبد ، لأنّ عمل المعدة ـ مثلاً ـ مركب من وظائف فيزيائية وكيميائية
فتقوم من خلال بعض حركاتها وإفراز الحوامض في هضم الطعام وإمتصاصه ، وكذلك وظيفة
البزاق ـ كما ذكرنا سابقاً ـ فيزيائية وكيميائية ، والحال إننا نرى بينهما فرقاً
واضحاً.
إنّ أعمال جميع
أجهزة الجسم تشبه إلى حدّ بعضها البعض ماعدا
«الدماغ» الذي
يتميز بوضع إستثنائي ، وكل هذه الأمور ترتبط بالجوانب الداخلية ، والحال هنالك
بُعد خارجي للظواهر الروحية وأنّها تنبهنا إلى الأوضاع الخارجة عن وجودنا.
ولتوضيح هذا
الكلام لابدّ من الإشارة إلى عدّة نقاط :
أولاً : هل هناك عالم خارج وجودنا أم لا؟
قطعاً هنالك مثل
هذا العالم ، والمثاليون ـ الذين ينكرون وجود العالم الخارجي ويزعمون أنّ كل
الموجود هو «نحن» و«تصوراتنا» والعالم الخارجي بالضبط كالمشاهد التي نراها في المنام
فهي ليست سوى تصورات ـ على خطأ عظيم ، وخطأهم قد أثبتناه في محلّه.
ثانياً : هل نعلم بالعالم الخارجي أم لا؟ قطعاً الجواب على هذا
السؤال بالإيجاب ، لأنّ لنا علم كثير بالعالم الخارجي ، كما لدينا معلومات واسعة
عن الموجودات من حولنا أو التي تقع في نقاط بعيدة عنّا.
والآن يطرح هذا
السؤال نفسه : هل يأتي العالم الخارجي إلى باطن وجودنا؟ قطعاً لا ، بل صورته لدينا
، حيث نستفيد من خاصية تشابه الواقع فنقف على العالم الخارج عن وجودنا.
ولا يمكن لهذا
الواقع أن يقتصر على الخواص الفيزيا كيميائية للدماغ ، لأنّ هذه الخواص وليدة
تأثيراتنا عن العالم الخارجي ، أو هي معلولاته ، بالضبط كالتأثيرات التي يتركها
الطعام على معدتنا ، فهل يؤدّي تأثير الطعام على المعدة وفعله وإنفعاله الفيزيائي
والكيميائي إلى إلتفات المعدة وتنبهها بالطعام ، إذن كيف يستطيع دماغنا أن يحيط
خبراً بالدنيا الخارجة عنه؟
__________________
بعبارة أخرى :
لابدّ من إحاطة للعلم بالموجودات الخارجية والعينية ، وهذه الإحاطة ليست من وظيفة
الخلايا الدماغية ، فخلايا الدماغ تتأثر فقط بالخارج ، هذا التأثير كتأثر سائر
أجهزة البدن بالخارج ، أمّا الإحاطة والعلم بالوضع الخارجي فهي شيء آخر ، فإن كان
التأثر بالخارج دليلاً على علمنا بالخارج ، للزم أن نفهم أيضاً بمعدتنا ولساننا. والحال
ليس الأمر كذلك ، والخلاصة فإنّ الوضع الاستثنائي لإدراكاتنا دليل على أنّها
تستبطن حقيقة أخرى (عليك بالدقّة).
* * *
٢ ـ وحدة الشخصية
الدليل الآخر الذي
يمكن ذكره لإستقلال الروح هو مسألة وحدة الشخصية طيلة عمر الإنسان.
توضيح ذلك : إنّنا
في الوقت الذي نشك في كل شيء لا نشك ونتردد في هذا الموضوع وهو «إنّ لنا وجود».
«أنا موجود» ولا
أشك في وجودي ، وعلمي بوجودي هو علم حضوري لا حصولي ، يعني أنني حاضر عند نفسي
ولست منفصلاً عنها ، وبناءاً على هذا فإن علمي بوجودي ليس من قبيل رسم صورة لوجودي
في ذهني ، بل عن طريق عدم إنفصالي عن نفسي.
بعبارة أخرى : إنّ
علمنا بالموجودات الخارجية ، مثلاً من قبيل هذا الكتاب الذي أمامي والذي يضم
خطوطاً وصوراً من خلال رسم صورة عنه في أذهاننا ، ومن هذا الطريق نحيط بالوضع
الخارجي ، ويطلق على هذا العلم في الفلسفة اسم «العلم الحصولي» أو الإرتسامي ،
أمّا علمنا بوجودنا
فليس كذلك ، لأنّه
كما قلنا أنّ هذا العلم ليس من خلال رسم صورة ذهنية ، بل من حضورنا لدى أنفسنا ،
ويصطلح على هذا النوع من العلم بالعلم الحضوري.
على كل حال إنّ
علمنا بوجودنا من أوضح معلوماتنا وليست هناك أية حاجة أبداً إلى إستدلال ، وعليه
فالإستدلال المعروف الذي أورده الفيلسوف الفرنسي المشهور «ديكارت» على وجوده فقال
: «أنا أفكر إذن أنا موجود» هو إستدلال زائد ويبدو غير صحيح ، لأنّه إعترف بوجوده
مرتين قبل أن يثبت ذلك (مرّة حين قال «أنا» وأخرى حين قال أفكر) ... هذا من جانب. ومن
جانب آخر فإن «أنا» هي واحدة من بداية العمر حتى نهايته «أنا اليوم» هي «أنا
بالأمس» وهي «أنا قبل عشرين سنة». إني شخص واحد منذ الطفولة ولحدّ الآن ، أنا ذلك
الشخص الذي كنت وسأكون كذلك إلى آخر العمر ولن أصبح شخصاً آخر ، طبعاً درست وتعلمت
وتكاملت وسوف أتكامل أكثر إلّا أنّي لم أصبح شخصاً آخر ، ومن هنا فإنّ جميع الناس
يعرفونني كشخص واحد منذ الطفولة لحد الآن ، فلي إسم واحد وهوية واحدة و...
والآن أريد أن أري
ما هذا الموجود الواحد الذي غطى جميع عمرنا؟ هل ذرات وخلايا بدننا أم مجموعة خلايا
الدماغ وفعلها وإنفعالاتها؟
فهذه تستبدل مرات
طيلة عمرنا وتقريباً تستبدل كافة الخلايا مرّة واحدة كل سبع سنوات ، لأنّنا نعلم
أنّ ملايين الخلايا تموت يومياً وتحلّ محلّها خلايا أخرى ، كالبناية التي يخرجون
بعض طابوقها تدريجياً ويضعون مكانه طابوقاً آخر ، فهذه البناية تتغير تماماً بعد
مدّة وإن لم يلتفت عوام الناس إلى ذلك ، أو كالمسبح الكبير الذي يرده الماء ببطىء
من جانب ويخرج من جانب آخر ، فمن البديهي أن يتغير كل ماء المسبح بعد مدّة ، و
إن لم يشعر أصحاب
النظرة السطحية بذلك فيرونه على حالته السابقة الثابتة.
وبصورة عامة فإنّ
حالة التبدل والتغير تسود كل كائن يتغذى ويستهلك هذا الغذاء ، وعليه يمكن أن يكون
جميع أجزاء بدن رجل السبعين عاماً قد تغيرت لعشر مرات ، الذي نريد أن نخلص إليه
إننا لو اعتبرنا الإنسان كما يراه الماديون هو ذلك الجسم والأجهزة العصبية
والدماغية والخواص الفيزيائية والكيميائية لابدّ أن تكون هذه «الأنا» قد تغيرت
عشرة مرات خلال السبعين سنة ولايبقى ذلك الشخص السابق ، والحال لا ضمير يقبل هذا
الكلام.
ومن هنا يتضح أنّ
هناك حقيقة واحدة ثابتة طيلة العمر غير الأجزاء المادية وهي لا تتغير كالأجزاء
المادية وتشكل أساس وجودنا وهي عامل وحدة شخصيتنا.
* * *
تفادي خطأ فاحش
يتصور البعض أنّ
الخلايا الدماغية لا تستبدل ويزعمون أنّهم قرأوا في كتب العلوم الفسلجية أنّ عدد
خلايا الدماغ واحد منذ أول العمر حتى آخره ، وهي لا تقل ولا تزداد بل تكبر فقط
أنّها لا تنتج مثلها ، ولذلك إن تعرضت لصدمة لما أمكن تعويضها ، وعليه فلدينا وحدة
ثابتة في مجموع البدن هي الخلايا الدماغية.
إلّاإنّ هذا خطأ
كبير ، وذلك لأنّ من يقول هذا الكلام قد خلط بين مسألتين ، فما برهنه العلم اليوم
هو أنّ خلايا الدماغ من حيث العدد ثابتة طيلة العمر فهي لا تزداد ولا تنقص ، لا
أنّ الذرات التي تشكل هذه الخلايا
لا تعوض ، وذلك
لأننا كما قلنا سابقاً أنّ خلايا البدن تستقبل الطعام دائما وتستهلكه بالتدريج
فتفقد الذرات القديمة ، بالضبط كالشخص الذي يستلم المال من جانب ويدفعه من جانب
آخر ، فمن المسلم به أن رأسمال مثل هذا الفرد يتغير بالتدريج وإن لم يتغير مقداره
، على غرار ذلك المسبح الذي يسكب فيه الماء من جانب ويطرح ماءاً إلى الخارج من
جانب آخر فلا تمضي مدة حتى يستبدل الماء بأجمعه وإن بقي مقداره ثابتاً.
ويبدو أنّ كتب
الفسلجة قد أشارت إلى هذا الأمر ، ومن ذلك كتاب الهورمونات ص ١١ وكتاب الفسلجة
الحيوانية ص ٣٢ لمؤلفة الدكتور محمود بهزاد وزملائه.
وبناءاً على ما
تقدم فخلايا الدماغ ليست ثابتة وتتعوض كسائر الخلايا.
* * *
تبريرات وتفاسير
إنهمك بعض المادييون
في حلّ المشكلة الكبرى المتمثلة بوحدة الشخصية ، فقالوا أحياناً : «أنا» مجموعة من
التصورات المختلفة والمتتالية التي تطرأ على الذهن ، وبناءاً على هذا فإنّ الإتصال
والإرتباط لهذه الإدراكات تشكل سلسلة واحدة تعرّف وحدة شخصيتنا طيلة العمر.
ويقول الدكتور آراني
: «إنّ مفهوم الذات يوجد بصورة منظمة وبشكل متوالي في أزمان متوالية في الكائنات
الحيّة السالمة ، ولا تنقطع إلّا بواسطة النوم ، ويمكن أن يظهر الإختلال في الذات
بواسطة المواد المخدرة والمسكرات».
__________________
ولكن يلزم من هذا
الكلام إنقطاع الأنا وتبدل وعدم وحدة الشخصية ، لأنّ الأنا التي أتى بها الدكتور
آراني بالضبط كأقمشة مصنع لحياكة الأقمشة التي تتبدل باستمرار إلّاأنّها متصلة مع
بعضها.
ومن هنا فقد أضطر
البعض للقول : للأنا حيثية نسبية ، فكل شخص من جهة هو نفسه ومن جهة غيره ، كما
يقول في نفس الكتاب :
«في الوقت الذي
أنا نفسي فأنا لست نفسي ، أنا ذلك الثابت ، ولكن المتغير أيضا ، أفضل مثال لفهم
هذه القضية التشبيه بالنهر ، فالنهر جاري وكل لحظة تختلف عن اللحظة السابقة ومع
ذلك فهو نفس النهر»
ويبدو هذا الكلام
عجيباً ، لأنّ معناه هكذا : أنا لست ذلك الشخص قبل عدّة سنوات وقد تغيّرت حقيقة
إلّاأنّي أظن أنّي أنا! ... وهذا على خلاف ضمير أي شخص.
وناهيك عمّا سبق
فان «أنا» لست مجموعة من التصورات ، والتصورات عملي (أنا) ، إذن فما هذه «الأنا»
المبدأ للتصورات؟
ليس لهم جواب قانع
على هذا السؤال ولايستطيعون أن يرونا موجوداً ثابتاً طيلة العمر كأساس لوحدة
شخصيتنا.
* * *
٣ ـ عدم تطابق الكبير والصغير
كان البحث هل روح
الإنسان حقيقة ثابتة وتفوق الطبيعة أم خاصية تتوقف على البدن ودائماً في حالة
تغير.
فهل للدماغ نشاط
فكري كما للفم نشاط إفراز البزاق والكبد الصفراء
__________________
بحيث تفنى الروح
بفناء الدماغ؟ أم هي كالسفن الفضائية التي تنفصل صواريخها عنها الواحد بعد الآخر
بعد أن تنطلق على شكل مراحل بحيث تستمر بسرعتها في مواصلة حركتها ، فروح الإنسان
أيضا بعد أن تنفصل عن البدن تبقي في عالم الأرواح وتواصل مسيرتها؟ لقد ذكرنا لحدّ
الآن بعض الأدلة على إثبات نظرية إستقلال الروح وإليك الآن الدليل الآخر :
* * *
نفرض إنّنا جلسنا
على ساحل بحر تتحرك فيه عدّة زوارق صغيرة وسفينة عظيمة ، ونشاهد الشمس تغرب من
جانب ، كما نشاهد القمر يطلع من جانب آخر ، وطيور الماء الجميلة تعوم دائماً على
ماء البحر تحط وتنهض ، وكان بجانبنا جبل شامخ يرتفع إلى عنان السماء.
والآن لنغمض
أعيننا لحظات ونتمثل كل ما رأيناه في أذهاننا : جبل بذلك الإرتفاع وبحر بتلك السعة
وسفينة عظيمة بتلك الضخامة ، هذا ما يتجسد في أذهاننا وهي كاللوحة الكبيرة جداً
التي توجد أمام أرواحنا أو باطن أرواحنا.
والآن يطرح هذا
السؤال : أين موضع هذه اللوحة الكبيرة؟
هل يسع خلايا
الدماغ الصغيرة إستيعاب مثل هذه اللوحة العظيمة؟
قطعا لا ، بناءاً
على هذا لابدّ أن نمتلك قسما آخر من الوجود يفوق هذه المادة الجسمانية وهو على قدر
من السعة بحيث يستوعب في نفسه جميع هذه اللوحات.
هل يمكن تطبيق
خارطة عمارة ذات خمسمائة متر على أرض ذات مائة متر؟
هل يمكن بناء صالة
رياضية بعشرة آلاف متر على أرض مساحتها متر واحد؟!
قطعاً إجابة هذه
الأسئلة بالنفي ، لأنّ الوجود الكبير وبحفظه لكبره لا ينطبق قط على الوجود الصغير
، فليزم من الإنطباق التساوي أو أن يكون أصغر ممّا يراد له الإنطباق عليه.
وعلى هذا الأساس
كيف نستطيع إستيعاب الألواح الذهنية الخارقة في الكبر في الخلايا الدماغية الصغيرة؟
إننا نستطيع أن
نرسم في أذهاننا الكرة الأرضية بخرامها البالغ أربعين مليون متر وكذلك نستطيع أن
نتمثل في فكرنا الشمس التي تكبر الأرض بمليون ومئتي مرّة وكذلك المجرّات التي تفوق
حجم الشمس بملايين المرّات ، فلو أريد لهذه الصور أن تنطبق على الخلايا الدماغية
الصغيرة لتعذرذلك طبق قانون عدم إنطباق الكبير على الصغير ، وعليه فلابدّ أن نعترف
بوجود يفوق هذا الجسم هو مركز إستيعاب هذه الصور الكبيرة وليس له أي بعد مادي.
* * *
سؤال ضروري
قد يقال أنّ صورنا
الذهنية مثل «المايكروفيلم» أو «الخرائط الجغرافية» التي يكتب عليها عدد كسري مثل أو الذي يبيّن مقياس صغرها ويفهمنا أننا لابدّ أو
نكبرها بنفس هذه النسبة لنحصل على الخارطة الواقعية ، وكذلك رأينا كثيراً أنّهم
إلتقطوا صورة لسفينة عظيمة لايمكنها بمفردها أن تشير إلى عظمة تلك السفينة ، ومن
هنا جعلوا شخصاً في تلك السفينة وإلتقطوا صورة لها معاً لتتضح عظمته السفينة من
خلال مقارنتها مع الشخص.
فصورنا الذهنية
صغيرة جدّاً وقد صغرت بمقاييس معيّنة فإن كبّرناها بتلك النسبة حصلنا على الصورة
الواقعية ، ومن المسلّم به أنّ لخلايا الدماغ القدرة على إستيعاب هذه الصور
الصغيرة في خلايا (عليك بالدقّة).
* * *
جواب
القضية المهمّة
هنا هي أنّ المايكروفيلم عادة مايكبّر بواسطة البروجكتر فينعكس على شاشة ، والعدد
الذي يكتب تحت الخرائط الجغرافية فهو يساعدنا على ضرب الخارطة به لنتصور الخارطة
الكبيرة الواقعية في أذهاننا ، والسؤال الذي يطرح نفسه أين تلك شاشة الكبيرة التي
ينعكس عليها مايكروفيلم ذهننا؟ هل هذه الشاشة الكبيرة هي خلايا الدماغ؟ قطعاً لا ،
وتلك الخارطة الجغرافية الصغيرة التي نضربها في عدد كبير ونبدلها إلى خارطة عظيمة
لابدّ أن يكون لها موضع ، فهل يمكن أن يكون الخلايا الدماغية الصغيرة.
بعبارة أوضح : في
مثال المايكروفيلم والخارطة الجغرافية فالموجود في الخارج هو تلك الأقلام والخرائط
الصغيرة جدّاً ، إلّاأنّ صورنا الذهنية ليست كذلك ، فهذه الصور بالضبط بقدر الوجود
الخارجي لها ، وقطعاً تحتاج إلى محل بقدرها ، ونعلم أنّ خلايا دماغنا أصغر من أن
يمكنها عكسها وهي بتلك العظمة.
وخلاصة الكلام :
إنّنا نتصور هذه الصور الذهنية بذلك الكبر التي هي عليه في الخارج ولايمكن لهذا
التصوير والتصور العظيم أن ينعكس في خلية صغيرة ، وبناءاً على هذا فهي بحاجة إلى
محل غير ذلك ، ومن هنا نقف
على وجود حقيقة
تفوق هذه الخلايا وتفوق عالم المادة.
٤ ـ الظواهر الروحية ليست كالكيفيات المادية
الدليل الآخر الذي
يمكنه أن يرشدنا إلى إستقلالية الروح وعدم كونهامادية هو : إنّنا نرى في الظواهر
الروحية خواصاً وكيفيات ليس لها أي شبه بالخواص والكيفيات التي تتصف بها الموجودات
المادية.
وذلك لأنّه :
الموجودات المادية تتطلب «الزمان» ولها حيثية تدريجيةهذا أولاً وثانياً تتآكل
بمرور الزمان
ثالثاً : أنّها قابلة للتحلل إلى عدّة أجزاء.
بينما ليس هناك
مثل هذه الخواص والآثار للظواهر الذهنية ، فإنّنانستطيع أن نرسم في أذهاننا عالماً
كالعالم الفعلي دون الحاجة إلى الزمان والتدريج. وبغض النظر عمّا سبق فإنّ الصور
المطبوعة في أذهاننا منذ فترةالطفولة لا يبليها الزمان ولا يجعلها تتآكل وتبقى
محافظة على شكلها.
يمكن أن يتآكل
الدماغ ولكن لايتآكل بتآكله الحيز الذي إرتسم في أذهاننا قبل عشرين سنة وهو يتمتع
بنوع من الثبات الذي يعدّ من خصائص عالم ما وراء المادة.
ولروحنا خلاقية
عجيبة بالنسبة للصور والمشاهد فإنّنا نستطيع في آن واحد ودون أية مقدمة أن نرسم في
أذهاننا ما نشاء من صور وكرات سماوية ومجرّات وكائنات أرضية وبحار وجبال وما إلى
ذلك ، وهذا ليس من خصائص المادة ، بل هو علامة لوجود يفوق عالم المادة.
أضف إلى ذلك فمما
لاشك فيه أن ٢ زائد ٢ يساوي ٤ حيث يمكن تحليل طرفي هذه المعادلة أي تحليل العد ٤
أو ٢ ، أمّا المساواة فلا يمكننا
تحليل أبداً كأن
نقول للمساواة نصفان وكل نصف غير الآخر فهذا الموضوع ليس بممكن ، فالمساواة مفهوم
يأبى التحليل ، أمّا موجود أو غير موجود ولايمكن تنصيفه ، وبناءاً على هذا فمثل
هذه المفاهيم الذهنية ليست قابلةللتحليل ولذلك لا يمكن أن تكون مادية ، لأنّها لو
كانت مادية لأمكن تحليلها ، وكذلك لا يمكن لروحنا بصفتها مركزاً لهذه المفاهيم غير
المادية أن تكون مادية ، وعليه فهي تفوق المادة (عليك بالدقّة).
* * *
٥ ـ الأدلة التجريبية على إستقلال الروح
أثبتنا لحدّ الآن
إستقلال الروح عن طريق أربع إستدلالات عقلية ومنطقية ، وبرهنا أو الروح لايمكنها
على ضوء مذهب الماديين أن تكون خاصية فيزيائية وكيميائية لخلايا الدماغ ، ولابدّ
أن تكون حتمياً موجوداً يفوق المادة الجسمانية.
ونتجه الآن صوب
الأدلة التجربية لنثبت من خلالها إستقلالية الروح وعدم كونها مادية ، فقد أورد
الفلاسفة وعلماء الإلهيات المعاصرون الروح في مصاف المسائل التجربية وقد منحوها
صورة حسية وتجربية لُاولئك الذين يتعذر عليهم قبول الإستدلالات العقلية ، حتى سلّم
جمع من علماء العلوم الطبيعية لتلك الأدلة التجربية فاعترفوا بالروح على أنّها
وجود يفوق المادة.
ويمكن الإشارة
باختصار إلى أقسام الأدلة التجربية وهي :
١
ـ الإرتباط بالأرواح
٢
ـ التنويم المغناطيسي
٣
ـ النوم الاعتيادي والرؤيا
٤
ـ الأعمال الخارقة للمرتاضين
٥
ـ إنتقال الفكر من بعيد
* * *
ونخوض الآن في
تفاصيل كل واحد منها بصورة مختصرة.
١ ـ الإرتباط بالأرواح
لقد أصبح موضوع
الإرتباط بالأرواح والتحدث معها اليوم بصورة علم ، وقد تشكلت جمعيات بهذا الاسم في
مختلف نقاط العالم ، وقد قال العالم المصري المعروف فريد وجدي (في المجلد الرابع
من موسوعته في مادة الروح) أنّ ثلاثمائة مجلة وصحيفة تنتشر في أنحاء العالم من قبل
«جمعيات الروح» ويشترك في هذه الجلسات طائفة من كبار علماء العلوم المختلفة.
وقد عقدت عدّة
جلسات في أمريكا وإنجلترا وفرنسا وألمانيا وأغلب البلدان بهدف التعامل مع هذا الموضوع
وقد حضرها أفراد معروفون من مختلف الشخصيات وقد عقد الإتصال بالأرواح بحضورهم
وحصلت عدّة أعمال خارقة للعادة ، ومن ذلك ما ورد في كتاب اصول علم النفس لفرويد ص
٣٢ : شكلت هيئة من ٣٣ شخص من أساتذة جامعات إنجلترا وعدد من القضاة لدراسة هذا
الموضوع ، فاستغرقت دراستهم سنة ونصف ، هل الإرتباط بالأرواح حقيقة أم خرافة؟ فلما
فرغوا من تحقيقهم ودراستهم قدموا آرائهم الإيجابية بشأن صحة هذه الموضوع إلى «جمعية
لغويين إنجلترا» التي كلّفوا من قبلها ، وقد وردت مسائل مدهشة عمّا يشاهد في تلك
الجلسات في كتب العالم بعد الموت لمؤلفه ليون ديني وعلم النفس لفرويد
وكتاب على إبطال
المذهب المادي ، ومنها :
١ ـ التحدث بلغة
غير اللغة الأم (يعني الشخص الذي يتصل بالأرواح في التنويم المغناطيسي يمكنه
أحياناً أن يتحدث معها بلغة لم يكن يجيدهاحتى ذلك اليوم!).
٢ ـ حل المسائل
الرياضية المعقدة في التنويم المغناطيسي من قبل أفراد ليس لهم أي إستعداد لحل مثل
هذه المسائل.
٣ ـ كتابة بعض
المطالب على ألواح جعلت في صندوق وقد أحكم غلقه!
٤ ـ حمل أجسام من
الأرض بواسطة الأرواح دون أن تمتد إليها أي يد! ٥ ـ ظهور الأرواح بشكل أشباح في
هذه الجلسات.
وكما ذكرنا فإنّ
هذه الأمور قد شوهدت من قبل كبار العلماء وقد إعترفوا بها وسجّلوها في مختلف الكتب
والمجلات.
فهل يمكن القول
وبالنظر لهذه المشاهدات الحسية أنّ الروح هي تلك الخواص الفيزيائية والكيميائية
لخلايا الدماغ؟
ماذا يقول الماديون بشأن هذه المطالب المدهشة؟
ليس لهؤلاء سوى ثلاثة
أجوبة :
١ ـ أحياناً
يقولون : إنّ مثل هذه الأمور من قبيل الشعبذة وخفّة اليد والاستفادة من الوسائل
الألكترونية أو الدسائس التي حيكت مسبقاً.
٢ ـ قد لايكون
هناك وجود واقعي لمثل هذه الظواهر ولعلها تستند إلى تلقينات متتالية ومتكررة
بواسطة أفراد مهرة.
٣ ـ يمكن أن يكون
بعض هذه الظواهر من حالة اللاشعور ، أي أنّ هناك سلسلة من الأمور في اللاشعور
للشخص وهو غافل عنها وعند التنويم
المغناطيسي يرفع
الستار عنها ، والأفراد الذين لايعلمون بوجود هذا اللاشعور يتصورون أنّهم يرون
مسألة خارقة.
إلّاأنّ علماء
الروح قد أغلقوا جميع هذه المنافذ وقد مارسوا بعض الأفعال التي لا تبقي من مجال
لاحتمال الدسائس والشعبذة والاستفادةمن مختلف الوسائل الألكترونية بحيث يزول أي
إبهام وغموض ومنها :
أولاً : يختارون الواسطة ممن لايزيد عمره على عامين ويسمعون كلام الأرواح عن طريقه
، وإن كان كبيراً جعلوه في قفص خاص وقيدوا يديه ورجليه وعصبوا عينيه حتى لايتسنى
لهم الاستفادة من أية وسائل خاصة.
ثانيا : كما أوردنا سابقاً فإن حضّار الجلسة ينتخبون أحياناً من
بين كبارالعلماء ، ومن البديهي أن يستحيل عادة احتمال تلقين مثل هؤلاء الأفراد.
من جانب آخر
أحياناً تحشر بعض الحيوانات في تلك الجلسات ليدرسواردود فعل المشاهد المرعبة عليها
ويبدو أنّها نتيجة إيجابية ، يعني أنّهاتتأهب للفرار من جراء رؤية تلك المشاهد أو
أنّها تهرب فعلاً ، ولا شك أوالتلقين بهذا الشأن لا يمكن الأذعان له.
ثالثا : أحياناً يصرّح الواسطة حين التنويم المغناطيسي بأمور لم
تطرق سمعه سابقاً قط كما لا يحتمل أن تكون كامنة في اللاشعور (راجع الكتب التي
ذكرت سابقاً بهذا الخصوص).
ملاحظات مهمّة
لابدّ من ذكر بعض
المواضيع لكي تتضح جوانب البحث :
١ ـ إنّ قضية
الإرتباط بالأرواح وإن كانت قطعية كما ذكرنا من وجهة نظر
__________________
الحاذقين في هذا
الفن وجمع من العلماء ، وقد أوردنا اسم جماعة كثيرة من العلماء والمحققين ممن
إعترفوا صراحة بهذا الموضوع في كتاب «عودة الأرواح» إلّاأنّ هذا لايعني إننا نقرّ
بالزعم الأجوف لبعض السذّج والبّله ممن يدعي الإرتباط بالأرواح.
فمما يؤسف له أنّ
مسألة الإرتباط بالأرواح قد استغلت إستغلالاً بشعاً ، فقد يدعى ذلك عدد كبير من
المنتهزين المحترفين أو السذّج البلهاء ويرون أنّهم يرتبطون بجميع الأرواح فيحصلون
من خلال ذلك على بعض الأرباح ، ولسوء الحظ فإنّ مثل هؤلاء الأفراد يضفون صبغة
خرافية على هذه المسألة العلمية والتجربية فيشوهونها لدى الآخرين ، وقد دفعت بعض
الأوهام والتخيلات البعض إلى إنكار أصل الموضوع والحال هناك فارق كبير بين هؤلاء
الأفراد والعلماء والمفكرين بالنسبة لهذا البحث ، وقد لايصدق واحد من عشرات الذين
يزعمون إرتباطهم بالأرواح ، وعليه لابدّ أن نتحلى بالوعي واليقظة وننأى بهذا البحث
بعيداً عن الإستغلال الذي يمارسه المهووسون والجهّال فلا نخدع بالمزاعم التي
يطلقها الدجّالون ولا ننسب أعمالهم الطائشة إلى هذا البحث العلمي.
ولاسيما اللعبة
الخاصة التي راجت في الأوساط باسم الإرتباط بالأرواح بواسطة الطاولة المستديرة ،
فادعى البعض ممن ليس له أي إستعداد علمي أو عملي سوى إعداد طاولة مستديرة مع مخطط
أنّه حصّل على مفتاح الأرواح وله أن يتصل بصغيرها وكبيرها ، وهذا من أوضح النماذج المزيفة
لمثل هذا الإرتباط الذي ينبغي الحذر منه بشدّة (ذكرنا هذا الموضوع بالتفصيل في
كتاب عودة الأرواح).
* * *
٢ ـ هل يوجد دليل
على إمكان الإرتباط بالأرواح في المصادر الإسلامية؟
الجواب على هذا
السؤال بالإيجاب ، حيث ورد في التواريخ الإسلامية أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله أمر بعد معركة بدر بالقاء قتلى الكفّار في القليب ثم وقف
على القليب فناداهم : (هَلْ وَجَدْتُمْ
مَاوَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقّاً فَانّي قَدْ وَجَدْتُ مَاوَعَدَني رَبّي حَقّاً)
فقال له البعض
أتحدثهم يا رسول الله صلىاللهعليهوآله ولم تبق إلّاجيفتهم. فردّ النبي صلىاللهعليهوآله بأنّكم لستم بأسمع لكلامي منهم.
وورد في نهج
البلاغة أنّ علياً عليهالسلام لما رجع من صفين وأشرف على القبور بظاهر الكوفة قال :
«يا أهل ديار
الموحشة ، والمحال المقفرة ، والقبور المظلمة ، يا أهل التربة ، يا أهل الغربة ،
يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة ، أنتم لنا فرط سابق ، ونحن لكم تبع لاحق ، أمّا
الدور فقد سكنت ، وأمّا الأزواج فقد نكحت ، وأمّا الأموال فقد قسمت. هذا خبر
ماعندنا فما خبر ما عندكم»
ثم إلتفت إلى
أصحابه وقال : «أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ «خير الزاد التقوى».
وبالنظر إلى هذه
الأخبار وماشابهها يتضح ومن خلال المصادر الإسلامية أنّ الإرتباط بالأرواح ليس
بالأمر المتعذر.
* * *
٣ ـ هل تعلم
الأرواح بكل شيء؟ وهل تستطيع الإخبار عن كل ما تعلمه؟
__________________
قطعاً الجواب
بالسلب ، لأنّ الروح بعد إنفصالها عن هذا العالم وإن كانت لها فعالية أوسع ، مع
ذلك فمعلوماتها محدودة ، وهي ليست عالمة بكل شيء ، وعلى فرض المحال أنّها كذلك ،
فلا يعلم أنّها تستطيع الإخبار عن كل ذلك ، والعبارة «لو أذن لهم في الكلام» التي
وردت في نهج البلاغة تدل على أنّهم ليسوا مأذونين بذكر جميع الأشياء.
* * *
٤ ـ الموضوع المهم
الآخر الذي قد يلتبس أحياناً هو خلط قضية «الإرتباط بالأرواح» مع «عودة الأرواح»
حيث يرى البعض ضرورة إلتزام من يؤمن بالإرتباط بالأرواح بموضوع عودة الأرواح ، يعني
يعتقد بأنّ الروح بعدإنفصالها عن البدن تقر في جنين أم أخرى فتولد من جديد ، ويمكن
أن يتكرر هذا العمل عدّة مرات ، فتقدم روح واحدة إلى هذا العالم عدّة مرّات.
إلّاأنّ هذه
العقيدة والتي تعرف بتناسخ الأرواح خطأ محض ، فالحياة التكرارية ليست ممكنة ،
والروح بعد مفارقتها البدن لا تستقر في بدن آخر.
هذا وقد أوردنا
عدّة أدلة تبطل هذه العقيدة في كتاب «عودة الأرواح» ومن أراد المزيد فليراجعه.
* * *
٢ ـ التنويم المغناطيسي
توصل العلماء منذ
القديم إلى وجود قوّة خفية في بدن الإنسان يمكنها التأثير على الأجسام الأخرى دون
اللجوء إلى الوسائل العادية والتي اصطلح عليها فيما بعد باسم «القوة المغناطيسية».
ولعل هذه القوّة
الخفية موجودة لدى كافة الأفراد ، غاية ما في الأمر أنّها
تكون ضعيفة جدّاً
لدى البعض ، بينما تكون خارقة للغاية لدى البعض الآخر ، كما يمكن تقويتها وتنميتها
بواسطة التدريب والتمرين ، حتى ورد أنّ بعض الحيوانات ـ ومنها الأفعى ـ تستطيع
بواسطتها شل حركة أعدائها أو فريستها ، وإن شككنا في وجودها لدى الحيوانات فلسنا
نشك في وجودها عند الإنسان.
لقد كشفت هذه
القوّة في البداية في مشرق الأرض حيث أدركها الكلدانيون والمصريون والهنود ،
لكنّها لم تكن مسألة عامة حتى طرحت كاكتشاف علمي أواخر القرن الثامن عشر (عام ١٧٧٥
م) من قبل الطبيب النمساوي «مسمر» فقال : هناك قوّة خاصة لدى الإنسان يمكن بواسطة
معالجة بعض المرضى.
طبعاً حسب العادة
فإنّه كل إكتشاف غالباً ما يواجه بالحملات اللاذعة من قبل الأفراد غير المطّلعين
وحسد الحاسدين ، ومن هنا فقد واجه «مسمر» عاصفة من الإعتراضات آنذاك حتى رآه البعض
مجنوناً ، وبالطبع فإنّ طموحات «مسمر» الخيالية قد زادت من حدة تلك الحملات وأصبحت
ذريعة بيد مخالفيه ، فقد إضطر إلى مغادرة النمسا والتوجه إلى فرنسا لمواصلة عمله ،
إلّاأنّ أبحاثه إقتصرت على السيّالة المغناطيسية دون الحديث عن التنويم المغناطيسي
، حتى تعرف «بويسغور» على طريقة أستاذه مسمر ، فكان يستفيد من هذه القوّة الخفية
في البدن لمعالجة المرضى حيث كان يدخل هذه الأمواج المغناطيسية الخاصة إلى بدن
المرضى.
ذات يوم وبينما
كان يعالج قروياً فوجىء بأنّه نام ، فأصيب بالذهول والدهشة فأراد أن يوقظه فصرخ به
إنهض! إنهض!
وهنا إزدادت دهشته
حين نهض ذلك الرجل وما زال في حالة النوم وقد أخذ يمشي!
فقال له مذهولاً!
قف. فوقف
ففهم بعد ذلك أنّ
المريض يغط في حالة تشبه النوم وهي تفرق كثيراً عن النوم الإعتيادي وكان يمتثل كل
ما يقال له.
أخيراً أيقظه
وأعاده إلى حالته الطبيعية ، وهكذا كشف موضوع التنويم المغناطيسي في ذلك الوسط
وتبيّن أنّه يمكن الحصول على «التنويم المغناطيسي» عن طريق «السيّالة المغناطيسية».
وباستمرار
التحقيقات في هذا المجال إتضح أنّه يكفي لتنويم الأفراد مغناطيسياً النظر الطويل
إلى نقطة شبه مضيئة إلى جانب التلقينات المتتالية مع الاستفادة من السيّالة
المذكورة ، وهكذا يمكن تنويم الأفراد مغناطيسياً بواسطة العناصر الثلاثة السابقة.
ثم استمرت الأبحاث
والإختبارات لتتوالى كل يوم كشف غرائب وعجائب هذا النوم الذي يشير إلى فرقه الشاسع
مع النوم الطبيعي ، والقضية المهمّة هنا هي أنّ العامل «المنوِّم» يستطيع أن يحلّ
محلّ إرادة وعزم المعمول «المنوَّم» ، بحيث يستسلم المعمول تماماً لإراداة العامل
فيمتثل كل ما يؤمر به دون نقاش سوى في بعض الحالات الاستثنائية.
ومن ذلك :
١ ـ يستطيع العامل
من خلال التلقينات المتابعة تخدير بدنه بحيث لايشعر بأدنى ألم.
وقد استفيد اليوم
في الطلب من هذا العمل بدلاً من الدواء المخدر ، وهنالك اليوم الأبحاث المسهبة في
الصحف والمجلات حول الاستفادة من
التنويم
المغناطيسي بدلاً من الأدوية المخدرة وقد إتخذت هذه القضية طابعاً عملياً في بعض
البلدان حيث يرى البعض أنّ آثاره أفضل من الأدوية المخدرة وعوارضه أقل.
٢ ـ يمكن للعامل
أن يلقّنه مثلاً أنّك آمر لجيش أو سجين مقيد ، فيتخذلنفسه مباشرة هيئة قائد عسكري
فيتحدث بصوت وحركات خاصة بالنسبةلذلك الآمر ، وفي الحالة الثانية يبدي ردود فعله
وكأنّه سجيناً مقيداً؟
وقد رأيت في منطقة
خرم آباد في أحد أسفاري مشهداً من مشاهدالتنويم المغناطيسي في منازل أحد الأصدقاء
وباقتراح البعض الآخر من الأصدقاء ، فالمنوِّم كان رجلاً محترماً ، كما كان الفرد
المراد تنويمه شاباًمؤدباً ، فأمره بالإستلقاء على الأرض وأخذ يدخل السيّالة
المغناطيسية في بدنه وهو دائم النظر إلى عينيه ويلقّنه باستمرار «الآن ستنام» و«ستنام
سريعاً» وما إلى ذلك من العبارات وقد كانت الغرفة شبه مظلمة وكان مايقرب خمسة عشر
من الفضلاء قد حضروا هناك ، وأخيراً جعله ينام ، ثم قطع بواسطة التلقين إرتباطه عن
جميع الأفراد سوى نفسه ، بعد ذلك لقّنه أنّ بدنه سيكون كالخشب الجاف.
ولم تمض مدّة حتى
أصبح كذلك بحيث أخذ فرد برجله وآخر برأسه ورفعوه من الأرض فجعلوا رجله على الحافة
العليا لكرسي ورقبته على الحافة الأخرى لكرسي آخر ثم وضعوا قطعاً من القماش تحته
كي لايتأذى من الكرسي وحافاته والطريف في الأمر أنّه إستقر على الكرسيين كأنّه
قطعةخشبية جافة ، حتى حين كانوا يضغطون على بطنه فإن ظهره كان يتحرك بمرونة دون أن
يعوّج أو يسقط على الأرض ، ثم طرحوه على الأرض وأخذ العامل يلقّنه حتى أعاده إلى
حالته العادية دون أن يوقظه من نومه.
ثم لقّنه ثانية
وبصورة مكررة فخدر بدنه بحيث لم يشعر بألم ، وهناأشعل سيجارته ووضعها على يده ،
إلّاأنّه لم يبد أي رد فعل ، لكنه لما أوقظمن نومه قال أشعر بقليل من الحرقة في
يدي.
٣ ـ أحياناً يأمر
العامل المعمول بالتحدث بلغات مختلفة حتى تلك التي لم يكن يعرفها.
٤ ـ أحياناً يذكره
العامل بالذكرات التي نساها بالمرة ويبعث به إلى حياته الماضية ، والغريب في الأمر
أنّ جميع ردود فعله في كل هذه الحالات كتلك التي أبداها في السنين الماضية!
٥ ـ أحياناً يأمره
العامل بالسفر إلى المناطق النائية ويتحدث عن مشاهداته.
وكل هذه الأمور
تدل على وجود قوّة أخرى في وجودنا غير خلاياناالدماغية وأفعالها وإنفعالاتها ، وهي
تفرق كثيراً عن القوى المادية التي نعرفها ، كما تفوق القوى المادية قدرة ونشاطاً
حيث أمكن التعرف عليهااليوم بواسطة العلم ، كما تبدي بعض الظواهر والآثار التي
تختلف وما نراه ونعرفه في عالم المادة.
* * *
نقلت عدّة مشاهدات
عن أفراد موثوقين بشأن «تجرّد الروح» يعني الإنفصال المؤقت عن البدن والذهاب إلى
نقاط مختلفة بحيث يستطيع الإنسان الاطمئنان من مجموعها إلى وجود الروح بصفتها
حقيقة مستقلة وتفوق المادة ، نورد نموذجا منها :
__________________
كان المرحوم الشيخ
هاشم القزويني من كبار علماء وأساتذة الحوزة العلمية في مدينة مشهد ، والحادثة
التي ننقلها قد سمعها منه الكثير من أصحابه وتلامذته ، ومن ذلك روى أحد تلامذة ذلك
المرحوم ـ وهو من فضلاء الحوزة العلمية في قم ـ قائلاً : ذهبت يوماً إلى المرحوم
الشيخ هاشم القزويني وطلبت منه أن يقص علي تلك الحادثة بشأن تجريد الروح وإنفصالها
المؤقت عن البدن الذي حدث له ، فردّ عليَّ قائلاً :
«كان هناك رجل
ضالعاً بهذا العلم فقصدته وسألته أن يجرّد روحي من بدني. فوافقني ، وحين تأهبت
لذلك ، رأيت فجأة بدني في زاوية وقد إنفصلت عنه!
فقلت : لابأس أن
أستغل الأمر وأتوجه إلى قريتنا الواقعة أطراف منطقة قزوين ، فرأيت نفسي قرب القرية
، فرأيت خارج القرية رجلاً قام بسرقة ماء من النهر حين السحر وحمله إلى ملكه ، ولم
تمض مدّة حتى رأيت صاحب الماء ، فلما علم بالأمر غضب وإنهال بالضرب على السارق
بالمسحاة حتى قتله.
كنت أشاهد تلك
الحادثة إلّاأنّه لم يراني ، أخيراً هرب القاتل وبقى جسد المقتول على الأرض ، فلما
جاءت نسوة القرية لأخذ الماء علمن بحادثة القتل ، فنقلن الخبر مبهوتات إلى أهالي
القرية ، فجاء أهل القرية جماعات جماعات لرؤية الحادثة ، ولكن ليس هناك من خبر عن
القاتل ، ومن هنا شعروا بالقلق والاضطراب ولم يعرفوا ماذا يفعلون ، أخيراً إستعدوا
لدفن بدن المقتول.
فلما أفقت إلى
نفسي كان ذلك قريباً من طلوع الفجر ولم أكن صليت الصبح حينها ، فرأيت نفسي فجأة في
بدني ، وقال لي الشخص الذي جرّد
روحي : كيف حالك؟
فأخبرته بكل ما رأيت وأطلعته على تاريخ الحادثة بالضبط ، وبعد شهرين قدم عدد من
أهالي تلك القرية فلما إلتقوني ، سألت عن المقتول دون أن أذكر الحادثة فقلت كيف
حاله؟
قالوا : للأسف لقد
قتل قبل شهرين وعثرنا على جثته قرب النهر إلّاإنّنا لم نعرف قاتله ، وبعد سبع
سنوات ذهبت إلى القرية لرؤية أقاربي وأصدقائي ، فجاءني عدد كثير من الناس حتى كان
القاتل أحدهم ، ولما خلى المجلس دعوته إلى قربي وقلت له : قل الصدق من قتل فلاناً؟
فاعرب عن عدم علمه وقال : لا أدري.
قلت : فمن رفع تلك
المسحاة وقتل بها فلاناً؟ فشحب وجهه وفهم أنّي أعلم بالموضوع ، فاضطر إلى سرد
الحادثة.
قلت : كنت أعلم ،
لكنّي أردت أن أقول لك إذهب وإدفع الدية لورثة المقتول أو أطلب منهم أن يعفو عنك».
* * *
ما ردّ الماديين على هذا الموضوع؟
طالما لايمكن
التنكر لموضوع التنويم المغناطيسي ، فقد صرّح القائلون بمادية الروح قائلين :
إنّنا نقرّ هذه الظاهرة ، إلّاأنّها قضية بسيطة ، ولا تدل على أنّ الروح هي أكثر
من الخواص الفيزيائية والكيميائية لمادة الدماغ ، لأنّ هذا النوم جاء إثر التلقين
إلى جانب التعب بسبب تكرار عمل واحد جعله ينام (فالصوت الرتيب للمقص أو محرك
السيارة يجعل الإنسان ينام أحياناً) ولكن يفقد الإنسان في هذا النوم إرادته
فتستبدل بما يلقن ، ثم تظهر آثاره الناتجة عن ذلك التلقين.
* * *
والذي ينبغي
الإلتفات إليه أنّ التنويم المغناطيسي مقبول إذا إنحصر بهذا الأمر في أنّ الإنسان
ينام ويظهر بعض الحركات إثر التلقين ، إلّاأنّ سفر الروح إلى الأماكن الأخرى
والتحدث باللغات التي لم تكن معروفة والعلم بالمسائل الخارجة عن حدود معلومات الشخص
فهذه من الأمور التي لا يمكن حلّها على ضوء التفسير الذي أقررناه ، ولابدّ أن
نعترف أنّ في وجود الإنسان حقيقة كامنة أخرى غير ما تفيده العلوم الطبيعية
والمادية والتي تبدى الآثار العجيبة التي لا تنسجم والاصول والقوانين المادية.
* * *
٣ ـ النوم والرؤيا
لقد شغلت قضية
النوم أفكار العلماء من ناحيتين.
١ ـ ما النوم؟
لماذا ينام الإنسان؟ ما هي التغييرات الفسلجية التي تطرأ على الإنسان حين النوم؟
٢ ـ ما المشاهد
التي يراها الإنسان في المنام والتي يطلق عليها اسم الرؤيا وكيف يحصل ذلك؟
لقد وردت لحدّ ،
الآن حسب تصريح بعض العلماء مئات النظريات بشأن النوم وحقيقة الرؤيا التي تشير إلى
أنّ هذه المسألة قد خضعت للدرس والبحث منذ قديم الزمان ، وما سنورده هنا مختصراً
من أهم النظريات التي عالجت هذا الموضوع.
وسنخوض في البداية
في أصل حقيقة النوم لنرى ما الذي يحصل لينام الإنسان؟ ثم نتابع البحث بتسليط الضوء
على حقيقة الرؤيا التي تشكل المحور الأصلي للبحث.
النوم يعني تعطيل
قسم من الأنشطة الدماغية للإنسان (الأنشطة الشعورية). من البديهي أنّ جميع أنشطة
هذا المركز القيادي لا تعطل حيث إنّ التعطيل العام للدماغ يعني الموت!
يعتقد فريق من
العلماء أنّ النوم يشمل كافة الكائنات الحيّة ، فجميع الحيوانات وحتى النباتات
تخلد إلى النوم ، يعني هناك سكون لبعض أنشطتها الحيوية بصورة متناوبة خلال الليل
والنهار.
أمّا ما الذي يحدث
لتتوقف مجموعة من دماغ الإنسان عن النشاط ويغط في النوم وتتباطىء فعاليات الجسم ، وبعبارة
أسهل ما الذي يحصل لينام الإنسان؟ لقد وردت عدّة أجوبة على هذا السؤال ، وأهمّها
النظريات الثلاث الآتية :
١
ـ نظرية العامل الفيزيائي
٢
ـ نظرية العامل الكيميائي
٣
ـ نظرية العامل العصبي
للنوم عامل
فيزيائي وسببه الرئيسي إنتقال الدم من الدماغ إلى الاطراف السفلى للبدن والأرجل ،
وحين يتجه الدم إلى الأطراف السفلى ويقل عن الدماغ ، فإنّ الدماغ يوقف جانباً من
أنشطته فنقول في هذه الحالة نام.
وقد إستفاد أنصار
هذه النظرية من أسرّة خاصة ـ تسمى الأسرّة الميزانية ـ لإثبات صحة آرائهم ، فالشخص
الذي يريد أن ينام يستلقي عليها
__________________
وقد أثبتت التجربة
أنّ رأسه يصبح أكثر ثقلاً قبل أن ينام ، لأنّه سحب مقداراً كبيراً من الدم ، أمّا
إن نام أصبحت أطراف رجليه أكثر ثقلاً ليدل ذلك على أنّ الدم قد سار نحو هذه
الأطراف.
وهذه النظرية وإن
كانت مقبولة ذاتاً ـ لأنّها تستند إلى التجربة ـ لكن لا يمكنها أن تكون العامل
الرئيسي للنوم ، لأنّ هناك سؤال يطرح نفسه وهو : ما الذي جعل الدم يترك الدماغ
ويتجه نحو الأقدام ، وبعبارة أخرى فالنظرية تبيّن نتيجة النوم لا العامل الأصلي
الذي يقف وراءه.
* * *
يقول أنصار
النظرية الثانية (العامل الكيميائي) : تتجمع بعض السموم في بدن الإنسان حين الجهد
والسعي والتي تشل جانباً من الدماغ عن العمل فإن جذبت هذه السموم من قبل البدن صحا
من نومه. إلّاأنّ أصحاب هذه النظرية لم يستطيعوا بيان هذا الأمر ، وهو لماذا ينام
الإنسان وينهض فجأة من نومه ، والحال نعلم أنّ التسمم موضوع تدريجي وزواله تدريجي
أيضاً؟ وعليه فلابدّ أن يتجه الإنسان بالتدريج من حالة اليقظة إلى حالة شبه المنام
ومن ثم حالة النوم الكامل ، ونهوضه يجب أن يكون كذلك ، والحال ليس الأمر كذلك ،
وغالباً ما تحصل الظاهرتان في آن واحد ، طبعاً ممكن أن يستلقي الإنسان ساعة على
الفراش محاولاً النوم ، إلّاأنّ فترة الإنتقال إلى النوم لحظة ليس أكثر ، وكذلك
اليقظة من النوم تحصل في لحظة واحدة ، ولا تنسجم هذه القضية والتدريج.
وأمّا النظرية
الثالثة فتقول : هناك جهاز فعال في دماغ الإنسان يضطره للعمل ، فإن توقف هذا
الجهاز عن العمل ، نام الإنسان ، هذا الجهاز العصبي له حكم معجل السيارة حيث يتوقف
عند التعب. لكن ما هذا التعب؟ ولم
يتوقف هذا الجهاز
العصبي الفعال عن العمل؟
هذه أسئلة لم تجد
جواباً شافياً لحد الآن.
والنتيجة التي
نخلص إليها ممّا سبق أنّ العامل الأصلي للنوم ما زال مبهماً غير معروف رغم جميع
الدراسات والتحقيقات التي أجريت بهذاالشأن ، ولعل المستقبل كفيل بالتوصل إلى كنه
حقيقة هذا الموضوع.
* * *
الرؤيا والأحلام
الأهم من النوم
الرؤيا ، وهي المشاهد القبيحة والجميلة والمحببة والموحشة التي يراها الإنسان في
المنام ، وما زال الإنسان لحدّ الآن يتساءل ما هذه المشاهد والمناظر التي يراها في
المنام وما مصدر الرؤيا؟ ما العامل الخفي الذي يجسد هذه المشاهد للإنسان في ساعات
النوم؟ هناك عدّة تفاسير بشأن حقيقة الرؤيا ويمكن تقسيمها إلى قسمين :
١
ـ التفسير المادي
٢
ـ التفسير الروحي
يزعم الماديون أنّ
للرؤيا عدّة أسباب هي :
الف : يمكن أن تكون
الرؤيا نتيجة لأعمال الإنسان اليومية ؛ يعني ما فعله الإنسان في الأيام الماضية
يمثل لدى فكره عند النوم.
ب : يمكن أن تستند
الرؤيا إلى بعض الأمنيات التي لم تتحقق ، كأن يرى العطشان ماءاً ، وذلك الذي ينتظر
السفر أنّه قدم من السفر (ومن هنا قيل قديماً أنّه يحلم ...).
ج : يمكن للخوف من
الشيء أن يدعو الإنسان لرؤيته ، فقد تكرر بالتجربة
أن من يبقى وحيداً
في البيت ويخشى اللص يراه في المنام.
ولفرويد وأنصاره
وأتباع مدرسته تفسير وتعبير مادي آخر للرؤيا ؛ فبعد مقدمات طويلة عريضة يصرحون
بأنّ الرؤيا هي عبارة عن إشباع الرغبات المكبوتة.
وتوضيح ذلك : أنّ
للنفس بعدان : «الشعور» وما هو يرتبط بالفكر اليومي والمعلومات الإرادية
والإختيارية للإنسان و«اللاشعور» وما يختفى في الضمير الباطني للإنسان بصورة رغبة
لم تشبع ، فهم يقولون عادة ما تكون لنا رغبات لم نستطع إشباعها فبقيت هذه الرغبات
مكبوتة فإن؟ نمنا برزت إلى السطح وقد لا تحتاج أحياناً إلى تعبير (كالعاشق الذي
يرى حبيبته المفقودة في المنام) وأحياناً تتغير إلى أخرى وبهذه الحالة تحتاج إلى
تعبير ، وبناءاً على هذا فالرؤيا إنّما ترتبط دائماً بالماضي وليس لها من صلة
بالمستقبل لتخبر عنه ، وهي وسيلة ممتازة للإطلاع على اللاشعور ، ومن هنا يعتمد
عليها في عالج الأمراض الروحية التي تستند إلى كشف اللاشعور عن طريق تنويم المريض
، ويعتقد بعض علماء الأغذية أنّ هناك علاقة بين الرؤيا والحاجة البدنية للغذاء ،
فيرون مثلاً أنّ الإنسان إذا رأى في المنام أنّ الدم يخرج من أسنانه فمعنى ذلك
قلّة فيتامين في بدنه وإن رأى مشيب شعر رأسه فهو يعاني من نقص فيتامين .
* * *
وأمّا فلاسفة
الروح فلهم تفسير آخر للرؤيا والنوم حيث يرون النوم والرؤيا على أقسام :
١ ـ النوم الرؤيا
المتعلقة بماضي الإنسان ورغباته وآماله والتي تشكل
__________________
القسم المهم من
رؤى الإنسان.
٢ ـ النوم المضطرب
والمبهم المعلول لفعالية الوهم والخيال (وإن أمكن أن يكون له دوافع روحية).
٣ ـ النوم والرؤيا
ذات الصلة بالمستقبل والمدّلة عليه.
لاشك أنّ الرؤيا
والأحلام المرتبطة بالماضي وتجسم المشاهد التي رآها الإنسان طيلة حياته ممّا لا
تحتاج إلى تعبير خاص ، وكذلك الرؤيا المضطربة والتي يصطلح عليها بأضغاث الأحلام
التي تفرزها الأفكار القلقة وعلى غرار الأفكار التي تسيطر على الإنسان حين إرتفاع
الحمى والهذيان هي الأخرى ليس لها من تعبير خاص بالنسبة لمسائل الحياة المستقبلة ،
وإن إعتبرها علماء النفس نافذة للتعرف على اللاشعور والاستفادة منها كعلاج لبعض
الأمراض النفسية ، وعليه فتعبير الرؤيا يهدف إلى كشف أسرار النفس والتعرف على علل
الأمراض ، لامن أجل الحوادث المستقبلة.
وأمّا الأحلام
المتعلقة بالمستقبل فهي على قسمين ؛ قسم صريح وواضح لايحتاج إلى تعبير بأي حال من
الأحوال وقد يتحقق أحياناً وياللعجب في المستقبل القريب أو البعيد دون أدنى إختلاف
، وقسم آخر يتحدث عن حوادث المستقبل لكنّه يحتاج إلى تعبير حيث يطرأ عليه التغيير
بسبب بعض العوامل الذهنية والروحية الخاصة.
ولكل قسم نماذج
كثيرة لايمكن إنكارها جميعاً ، وبالطبع لم يقتصر ذكر هذه النماذج على المصادر
الدينية والكتب التأريخية ، بل حدثت كراراً في حياتنا الخاصة أو حياة الأفراد من
معارفنا بحيث لا يمكن نسبتها جميعاً إلى الصدفة.
ونورد هنا بعض
النماذج التي تزيح الستار بصورة عجيبة عن المستقبل
وقد سمعناها من
أفراد لا نشك أبداً في وثوقهم :
١ ـ نقل أحد
العلماء والثقاة المعروفين في همدان المرحوم الميرزا عبد النبي والذي كان من كبار
أعلام طهران قائلاً :
حين كنت في سامراء
كان يبعث إليَّ كل سنة بمبلغ مئة تومان من «المازندران» ، فكنت أستدين بعض المبالغ
لقضاء الحاجة على أساس المبلغ المذكور ، فاذا وصل ذلك المبلغ سارعت إلى تسديد
الديون ، ذات سنة أخبرت بأنّ وضع المحاصيل هذه السنة سيىء للغاية وعليه فسوف لن
يبعث لي بذلك المبلغ ، فشعرت بالإنزعاج والإمتعاظ حتى نمت كذلك ، فرأيت رسول الله صلىاللهعليهوآله في المنام فناداني قائلاً : فلان قم وافتح باب تلك الخزانة
(وأشار إلى خزانة كانت في البيت) فإنّ فيها مئة تومان.
نهضت من النوم ،
ولم تمض مدّة حتى دق الباب ، كان الرجل مبعوث المرحوم الميرزا الشيرازي المرجع
الشيعي الكبير فقال : الميرزا يريدك ، فتعجبت ما الذي جعل ذلك الرجل العظيم يطلبني
الآن ، فذهبت إليه وكان جالساً في غرفته ، وكنت قد نسيت الرؤيا ، فقال لي المرحوم
الشيرازي : الميرزا عبد النبي إفتح تلك الخزانة فإنّ فيها مئة توماً فخذها!
فتذكرت فوراً
الرؤيا وأنا مذهول ممّا أشاهد ، أردت أن أقول شيئاً ، شعرت بعدم رغبته في سماع شيء
بهذا الشأن ، فتناولت المبلغ وخرجت.
٢ ـ نقل صديق ثقة
أنّه كان لكاتب «ريحانة الأدب» المرحوم التبريزي ولد ويبدو أن يده اليمنى كانت
مصابة بالروماتيز (التهاب المفاصل) بحيث كان يشق عليه الإمساك بالقلم فتقرر أن
يذهب إلى ألمانيا ليتلقى العلاج.
قال : كنت في
السفينة ، ولما نمت رأيت في المنام أنّ أمي قد توفت ، ففتحت دفتر المذكرات وكتبت
فيه اليوم والساعة لتلك الحادثة ، وبعد
مدّتي عدت إلى
إيران لأرى طائفة من أقربائي الذي أتوا لإستقبالي وقد إرتدوا الملابس السوداء ،
فتعجبت وكنت قد نسيت تلك الرؤيا تماماً ، أخبروني بالتالي أنّ أمي قد فارقت الحياة
، وهنا تذكرت الرؤيا ، ولما فتحت الدفتر وسألت عن يوم الوفاة كان كما دونت في
الدفتر.
٣ ـ نقل أحد
الثقاة أنّه إشترى قرب قزوين أرضاً بائرة واسعة بثمن غال جدّاً بحيث لامه جميع
الأصدقاء على أنّه إرتكب خطأ فاحشاً ، فليس هنالك من أمل في تهيئة الماء لتلك
الأرض ، وقد بذل مساعيه واستشار هذا وذاك من المهندسين من أجل حفر بئر والحصول على
الماء ، إلّاأنّه لم يحصل على نتيجة. فأثّر عليه ذلك تأثيراً كبيراً ، لكنه كان
نشطاً مكافحاً ولا يكف عن السعي ، إلّاأنّه يأس بعد كل ذلك حتى نام ليلة فرأى في
المنام أنّه يتجول في تلك الأرض من أجل العثور على الماء ، وفجأة بلغ نقطة كان
ينبع منها الماء ، فلما نهض من نومه وأصبح الصباح إنطلق إلى تلك النقطة التي رآها
في المنام ، فأمر بحفرها ، ولم تمر مدّة على الحفر حتى نبع منها الماء الوفير.
٤ ـ كتب الكاتب
الإسلامي المعروف سيد قطب صاحب تفسير في ظلال القرآن في تفسيره للآيات المرتبطة
بسورة يوسف أنّه لو إستطاع إنكار كل ما قيل في الأحلام لما وسعه أن ينكر ماحدث له
حين كان في أمريكا ، فقد رأى في المنام أنّ نزيفاً دموياً قد أصاب عيني بنت أخته (وقد
كانت حينها في مصر) بحيث لم تعد ترى الأشياء ، فاستيقظ من النوم مذعوراً وكتب
رسالة إلى أهله في مصر وقد سأل بالذات عن وضع عيني بنت أخته ، فلم تمض مدّة حتى
أتاه الجواب أنّها أصيبت بنزف داخلي ولا تقدر على الرؤية وهي الآن تتلقى العلاج.
ثم يستطرد قائلاً
: جدير بالذكر أنّ النزف الداخلي كان لا يمكن مشاهدته بالعين المجرّدة ، ولايتسنى
ذلك إلّامن خلال الوسائل الطبية.
على كل حال فقد
حرمت من البصر ، وقد شاهدت حتى هذا النزف الداخلي في المنام بشكل واضح.
* * *
والحق أنّ الأحلام
التي أشارت إلى الحقائق المرتبطة بالمستقبل والحقائق الخفية المتعلقة بالحاضر
والتي أزالت الستار عن بعض الحوادث لأعظم وأكبر من أن يفكر البعض بإنكارها ، أو
حتى حملها على الصدفة ولكل أن يقف على ذلك من خلال التعرف على بعض النماذج التي
تعرض لها ممن حوله من الأصدقاء.
إنّ مثل هذه
الأحلام لا يمكن تفسيرها على أساس النظرية المادية ، ولايمكن تفسيرها إلّاعلى ضوء
ما أورده فلاسفة الروح ومن يعتقد بإستقلالها ، وبناءاً على ذلك يمكن الاستفادة من
مجموع هذه الأمور بصفتها شاهداً على إستقلال الروح.
٤ و ٥ ـ الأعمال المذهلة للمرتاضين
الطريق الرابع
والخامس من الطرق التجربية لإثبات إستقلال الروح قضية إنتقال الأفكار ولاسيّما من
الطرق البعيدة ، وهذا هو الشيء الذي يصطلح عليه اليوم باسم «الحاسة السادسة».
حيث يقوم شخصان
ممن لهم إستعداد روحي كافي وبعد عدة تمارين بالتحدث إلى بعضهما البعض من بعيد دون
الاستفادة من أية وسائل ، كما يقرأ كل منهما أفكار الآخر ، وقد يحصل هذا الأمر في
جلسة أو منطقة أو منطقتان نائيتان.
كثيراً مايشعر
الآباء والأمهات والأقرباء والأصدقاء المقربين بحالة من القلق والاضطراب دون أن
يعرفوا السبب الذي يقف وراء ذلك ، فلا تمضي مدّة حتى يتبيّن أن حادثة مأساوية وقعت
لفرد يحبّونه وكأنّهم تحسسوا ذلك من بعيد وقد إتصلت القلوب مع بعضها لتخبر بتلك
الحادثة.
وقد نقل «فلا
ماريون» العالم الفلكي المعروف في كتاب «أسرار الموت» نماذج كثيرة بهذا الخصوص عن
عدّة أفراد وفي مختلف نقاط العالم ، ولو فرضنا أنّ بعضها كان مصادفة أو خيال أو
سذاجة ، لكن هل يمكننا إنكارها جميعاً.
فهل يمكن تبرير
قضية إنتقال الفكر عن طريق التفاسير المادية للروح؟ وإذا إعتبرنا الفكر ظاهرة
مادية صرفة ، فكيف يمكن أن ينتقل بهذه الصورة دون الاستفادة من الوسائل المادية
حتى أنّ مسألة الزمان والمكان ليست مطروحة بهذا الشأن.
* * *
يقوم المرتاضون
واستناداً إلى قوّة الإرادة ودون اللجوء إلى الوسائل بتحريك بعض الأجسام في الهواء
أو إيقافها عن الحركة ، كما يكتفون بنظرة واحدة لإعوجاج فلز أو كسره (حيث ذكرت
الصحف أخيراً نماذج من ذلك ، حيث قام شاب مرتاض في إنجلترا وبحضور عدد من الصحفيين
والمراسلين وأمام العديد من الأفراد بثني الأشياء الفلزية ، بل كان يقوم بذلك
العمل في العديد من البلدان وكان المراسلون يتناقلون ذلك).
أو يضعون مرتاضاً
لمدّة أسبوع في تابوت ثم يدفنونه تحت التراب وبعد المدّة المذكورة يخرجونه ويعملون
له تنفساً إصطناعيا فيعود تدريجياً إلى حالته الطبيعية ، وقد ذكروا أحد نماذج ذلك
في الصحافة حيث قام بذلك
المرتاض «هاريك
لوس» في إحدى المدن الهندية أمام الحاكم الإنجليزي «كلوديوس فايدو». فقد جعلوه في
تابوت وأقفلوه ثم دفنوه تحت التراب وأوكلوا من يحرسه ليل نهار وقد حضر عند قبره
الآلاف من صحبه وأتباعه وهم يشاهدون ذلك المنظر العجيب ، وبعد مدّة أخرجوه وقد بدا
بدنه ذابلاً وجلده ميتاً بحيث لا تشاهد فيه آثار الحياة ، ثم أخذوا يرشّون عليه
الماء الحار شيئاً فشيئاً وعملوا له تنفساً إصطناعياً حتى عاد إلى وضعه ، فكيف نفس
هذه القضية وسابقاتها إن إعتبرنا الروح من الخواص الفيزيائية والكيميائية الصرفة
لخلايا الدماغ ، وهل للخواص الفيزيائية والكيميائية لخلايا الدماغ القدرة على حركة
جسم أو ثني فلز وما شابه ذلك من الأفعال العجيبة؟
* * *
النتيجة
النتيجة التي يمكن
أنّ نخلص إليها من مجموع الأبحات ذات الصلة باستقلال الروح بما فيها الأدلة
العلمية والتجربية هي أنّ الروح حقيقة فوق المادة ، وعليه فليس لخواص المادة من
قبيل الفناء والعدم والتآكل من سبيل إليها ، وهكذا فهي تستطيع البقاء بعد فناء
البدن.
وإثبات بقاء الروح
بعد الفناء وإن تفاوت مع مسألة المعاد والقيامة ، ولكن مع ذلك فهو خطوة باتجاه
القيامة والعالم الأبدي الذي يعقب الموت ، وسيكون ردّاً على اولئك الذين يرون
الموت آخر مراحل الوجود الإنساني ونقطة زواله وفنائه ، ويعتقدون أنّ الإنسان حين
يموت يعود إلى عالم ميت فتضيع ذرات وجوده في طيات التراب والماء والهواء وينتهي كل
شيء!
* * *
ملاحظة مهمّة
هل من تلازم بين
إثبات القيامة وعالم ما بعد الموت وإستقلال الروح؟ وإن أنكرنا إستقلال الروح
واعتبرناها من الخواص الصرفة للمادة ، فهل تبقى مسألة المعاد ثابتة؟
لابدّ من القول
صراحة الإجابة على هذا السؤال : إنّ إثبات إستقلال الروح وكونها ليست مادية وإنّه
كانت خطوة عريضة باتجاه إثبات المعاد والحياة بعد الموت ، لكن مع ذلك لا مانع أن
يقول بالقيامة والحياة بعد الموت الأفراد الذين ينظرون إلى الروح على أساس النزعة
المادية ويرون الروح مادية ، بحيث يقولون : إذا مات الإنسان تلاشى بدنه والروح
أيضاً التي من خواص المادة تزول أيضا ، إلّاأنّ الذرات تبقى في الهواء ، وحين
القيامة تتجمع هذه الذرات بالضبط كما كانت متفرقة في بداية حياة هذه الدنيا ثم
إتصلت مع بعضها بفعل بعض العوامل ، فسوف تتجمع تلك الذرات في ذلك اليوم وتعيد
وجودناً من جديد وستلتحق بنا أعمالنا التي بقيت في هذه الدنيا على هيئة طاقة.
وإذا تذكرون فقد
قلنا سابقاً : أنّ أغلب الفاكهة والثمار والنباتات والبذور والحبوب يمكن أن تكون
أصبحت تراباً عدّة مرّات ثم عادت إلى وضعها الأصلي ، مثلاً فاكهة شجرة تنفصل عن
الغصن بعد نضجها وتقع على الأرض ، ثم تتعفن وتتحلل وتتحول بعد ذلك إلى مواد غذائية
مؤثرة تمتصها الأشجار عن طريق الجذور فتطوي المسار السابق وتظهر بشكل فاكهة ، وهذا
في الحقيقة نوع من الحياة بعد الموت ونموذج مصغّر للمعاد ، والحال نعلم أن ليس
للفاكهة والحبوب من روح ، وبناءاً على هذا فإثبات المعاد لايعتمد إلزاماً على
مسألة إثبات الروح ، وإن كان إستقلال الروح قطعياً على
ضوء الأدلة
المذكورة.
والجدير بالذكر
أنّ الآيات القرآنية المتعلقة بأبحاث المعاد قلّما ركزت على مسألة الروح وبقائها ،
ويبدو أن علة ذلك هو أننا نستطيع إثبات المعاد دون إثبات بقاء الروح.
* * *
بقاء الروح في القرآن
لا ينبغي الإلتباس
إنّنا نريد القول بأنّ القرآن لم يتطرق إلى مسألة الروح وبقائها ، بل نريد أن نقول
أنّه لم يوقف إثبات المعاد عليها ، فهناك عدّة آيات في القرآن أشارت صراحة أو
تلميحاً إلى بقاء الروح وإستقلالها وعدم فنائها بفناء البدن ، ومن ذلك ما ورد في
الآية ١٧٠ من سورة آل عمران بشأن الشهداء في سبيل الله :
(وَلَاتَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبْيلِ اللهِ امْوَاتاً بَلْ احْياءٌ عِنْدَ رَبِّهْمِ
يُرزَقُونَ* فَرِحِينَ بِمَا آتيهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ
بِالّذينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ الّا خَوْفٌ عَلَيِهُمِ
وَلَاهُمْ يَحْزَنُونَ).
فالآية صريحة في
بقاء أرواح الشهداء ، ونعلم أنّ هذا الحكم لايختص بالشهداء في سبيل الله ، وذلك
لعدم وجود الفارق بين روح هؤلاء والآخرين من حيث المادية وعدمها ، وإن إقتصر الذكر
عليهم فذلك لأنّ الكلام كان بشأن وضع الشهداء من قبل الناس (كما يستفاد ذلك من سبب
نزول الآية).
كما ورد في الآية
٤٦ من سورة المؤمن :
(النَّارُ يُعْرَضونَ
عَلَيْهَا غُدُواً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ادْخِلُوا آلَ
فِرْعَونَ اشَدَّ الْعَذابِ).
هذه الآية أيضا
وإن كانت في آل فرعون ، إلّاأنّ المسلّم به أنّها لا تختص بهذه الحفنة من الظلمة
والآثمة ، وعليه فالآيتان تفيدان أنّ لأرواح المحسنين والمسيئين بعد الموت الحياة
برزخية ، ولذلك فهي من الأدلة على إستقلال الروح.
ويستفاد من الآية
القرآنية : (قُلْ يَتَوَفَّيكُمْ
مَلَكُ الْمُوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) وسائر الآيات المشابهة كالآية ٥٠ من سورة الانفال والآية
٤٢ من سورة ٧ الزمر والآية ٣٦ من سورة يونس وغيرها أنّ في الوجود الإنساني شيء
يؤخذ منه عند موت الجسم حيث عبرت عن الموت بالأخذ ، وهذا يدل على عدم فناء الإنسان
كلياً بموت الجسم حيث يبقى منه شيء ، فالتعبيرات إشارة لطيفة إلى بقاء الروح.
* * *
__________________
المعاد الجسمي والروحي
هل الحياة بعد
الموت تقتصر على الجانب الروحي؟ يعني الجسم ينفصل عنّا دائماً حين الموت والحياة
الخالدة تتعلق بالروح فقط؟ أم يحصل المعادبالنسبة إلى الجانبين فيعود الجسم والروح
معاً؟ أم للمعاد بعد روحي وشبه جسمي ، أي تعود الروح ويعود الجسم ، لكن لا هذا
الجسم المادي الاعتيادي ، بل يعود جسم لطيف يفوق هذا الجسم وهو عصارته.
أم أنّ المعاد جسماني
فقط ، وهذه عقيدة الأفراد الذين لايقولون باستقلال الروح ويرونها من آثار وخواص
هذا الجسم.
لكل من هذه
النظريات الأربع أتباعها.
النظرية الأولى : المعاد الروحي
أغلب فلاسفة
القدماء هم من أنصار هذه العقيدة ويزعمون أنّ الروح تنفصل للأبد عن البدن حين
الموت وتبقى في عالم الأرواح ، وبناءاً على ذلك فإنّ مسألة المعاد لا تنطوي على
مفهوم فليس هناك من عودة ، بل تواصل الروح بقائها ، إنّهم يعتقدون كما أنّ الفرخ
يحتاج إلى مدّة يقضيها
داخل البيضة وكذلك
الجنين في بطن أمّه ، فإن طوى مسيرته التكاملية وإنفصل عنه ،
فإنّه لن يعود
إليه أبداً ، لا الفرخ إلى داخل البيضة ولا الجنين بعدالولادة إلى رحم الأم ،
والإنسان كذلك وبناءاً على هذا فإنّ لجميع الثواب والعقاب واللذة والألم بُعد روحي
في العالم الآخر بعد الموت.
النظرية الثانية : المعاد الجسماني والروحاني
وهو الرأي الذي
إختاره طائفة من العلماء والفلاسفة القدماء والمعاصرين وكما سنرى لاحقاً ـ قد أيدت
الآيات القرآنية هذا الرأي في أنّ الأجزاء المتناثرة من البدن ستجمع يوم القيامة
وتجدد وتكتسب الحياة ، طبعاً على مستوى أرفع وفي عالم وحياة أسمى.
النظرية الثالثة : المعاد الروحي وشبه الجسمي
يرى بعض الفلاسفة
القدماء والروحانيين أن لا عودة لهذا الجسم المادي والعنصري ، فإن إنفصلت الروح عن
البدن قرّت في جسم لطيف فعّال للغاية من حيث الزمان والمكان وحتى قادر على إجتياز
الموانع وليس للفناء والفساد من سبيل إليه ، وبه تواصل حياتها الخالدة.
وفي الحقيقة إنّ
هذا الجسم ليس كالمادة ، بل يشبه الأمواج ، ولكن حيث يشبه هذا الجسم من بعض
الجوانب ويعتبر شبحاً منه فقد إصطلحوا عليه باسم «الجسم المثالي».
النظرية الرابعة : المعاد جسماني فقط
وهو رأي بعض قدماء
العلماء والمعاصرين ، الذين يعتقدون بانّنا إن متنا
إنتهى كل شيء ،
بالضبط كالمولد الكهربائي الذي ينتهي فتنفد طاقته وتزول مادته ، وحين القيامة تجمع
الأجزاء المتلاشية لهذا المولد الكهربائي أي بدن الإنسان وتلحق مع بعضها وتكتسب
صبغة الحياة وبالطبع فإنّ الروح بفضلها من آثارها وخواصها كالطاقة بالنسبة لذلك
المولد الكهربائي تعودإليها.
الإسلام والمعاد
سنتناول في
البداية رأي الإسلام بهذه المسألة ثم نورد الأدلة العقلية بهذا الخصوص.
طبعاً يعتبر
القرآن من أهم المصادر بالنسبة للمسائل الإسلامية ، فهذاالكتاب السماوي تحدث في
أكثر من موقع عن المعاد الجسماني (طبعاًالمقرون بالمعاد الروحاني) وأدنى معرفة
بالآيات القرآنية تكفي لنفي إقتصارالمعاد على المعاد الروحاني ، لأنّ ـ كما بيّنا
ذلك بالتفصيل في صدر هذاالكتاب ـ القرآن بهدف تقريب المعاد إلى أذهان المنكرين قد
ضرب أمثالاًرائعة للردّ على إيرادتهم وهي ممزوجة بنوع من الإستدلال الحي ، حيث
أراد تجسيد قضية المعاد والقيامة إلى حدّ المشاهدة والإحساس لدى الناس ، ولذلك
فإنّ جميع هذه الأمثلة والتشبيهات القرآنية بشأن المعادإنّما تؤيد المعاد الجسماني.
فأحياناً يدعو
الناس إلى مشاهدة تكرار عملية الموت والحياة في عالم النباتات وكيف تكرر قضية
المعاد كل سنة أمام الأعين.
فالأرض تتجه في
فصل الخريف تدريجياً نحو الموت ، تكتسب الزهوروالأغصان والنباتات صبغة الموت ،
وتموت في الشتاء ، إلّاأنّها تستعيد
الحياة من جديد
حين يداعبها نسيم الربيع وتتساقط عليها قطرات المطر (وقد أوردنا الآيات المتعلقة
بذلك في بداية الكتاب) ، فهل يفيد هذا سوى المعاد الجسماني؟ أحياناً يشير القرآن
إلى بداية الخلق فيصرّح بأنّ الذي خلقكم أول مرة سيعيدكم بعد الموت تارة أخرى.
فمن البديهي أنّ
هذا التشبيه لأجل إثبات المعاد الجسماني وإلّافإنّ بقاء الروح بعد فناء الجسم ليس
له أي إرتباط بهذا التشبيه.
أضف إلى ذلك فإنّ
أبحاث القرآن بشأن معاد الطاقة الذي مرّ عليناتفصيله في أول الكتاب وقصة أصحاب
الكهف أو سائر القصص كقصةإبراهيم مع الطيور ومجيئ ذلك الإعرابي إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يمسك بعظم ويسأل عن كيفية إفاضة الحياة عليه والإجابة
التي أوردها القرآن في سورة يس والتي مرّت علينا في بداية الكتاب ، إنّما ترتبط
جميعاً بالمعادالجسماني ، وإلّاليست هناك من مناسبة للمعاد الروحاني دون الجسماني
بهذه الأبحاث (عليك بالدقّة).
والجدير بالذكر
إنّ عرب الجاهلية كانت تعتقد ببقاء الروح ، والذي أثار دهشة الإعرابي ودفعه للإنكار
مسألة المعاد الجسماني وعودة هذا الجسد إلى الحياة بعد الموت ، ولذلك قال القرآن
على لسانهم : (ايَعِدُكُمْ انَّكُمْ
اذَا مِتُّم وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً انَّكُمْ مُخْرَجُونَ)
وقال في موضع آخر
: (وَقَالُواءَاذَا
ضَلَلْنَا في الأَرْضِ أَءِنَّا لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ)
وقال : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ اذَا مُزِّقْتُمْ كُلَ
__________________
مُمَزِّقٍ
انَّكُمْ لَفي خَلْقٍ جَدِيدٍ* افَتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً امْ بِهِ جِنَّة بَلِ
الَّذِينَ لَايُؤُمِنونَ بِالآخِرةِ في الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعيدِ»)
فالذي يستفاد من
كل هذه الآيات أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان يتحدث عن عودة الجسم والمعاد الجسماني ولذلك كان يتعجب
المخالفون فكان القرآن يرد عليهم ويقول : (اللهُ يَبْدَؤُا
الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ثُمَّ الَيهِ تُرجَعُونَ) وخلاصة القول فإنّ
الف باء المعاد في القرآن الكريم هو المعاد الجسماني ـ العنصري وأنّ مَن يُوجه أو
الأصح «يُحرف» كل هذه الآيات الحاكية عن المعاد الجسماني ويفسرها بالجسم المثالي
وماشابه ذلك فلا يروم سوى التملص عن الحقائق!
المعاد الجسماني على ضوء العقل
اتضح تماماً من
الأبحاث السابقة أنّ القرآن الكريم إنّما أراد «المعاد الجسماني» في كل موضع تعرض
فيه لمسألة المعاد ، وقلّما نجد في محيط نزول القرآن من أنكر «المعاد الروحاني فقط»
، ومن هنا فإنّ الرهبة التي أصابت العرب الجاهلية من طرح القرآن لقضية المعاد
إنّما تعود لبعده الجسماني.
والآن لابدّ أن
نرى هل للعقل من دليل يؤيد هذا الكلام؟
يقول العقل : إنّ
الروح والبدن حقيقتان لا تنفصلان عن بعضهما ، بل هما متصلتان تماماً ، فهما معاً
كلزوم «المادة» لملزومها «الطاقة» ، فهما يتكاملان معاً ، وعليه فاستمرار بقاء أي
منهما (لمدّة طويلة) ليس بممكن ، هذا من جانب.
__________________
ومن جانب آخر فكما
أنّ جسم إنسانين لايتشابهان قط من جميع الجهات ، وبشهادة التحقيقات الواسعة التي
تمت بشأن الأفراد فإنّه لا يتشابه فردان حتى في بنانهما ، فإنّ روحين لا تتشابهان
أبداً ، وكما أنّ الجسم ناقص بدون الروح فإنّ الروح تنقص دون الجسم ، وإن إنفصلا
عن بعضهما في عالم البرزخ (العالم الفاصل بين الدنيا والآخرة) فانّه إنفصال مؤقت
تكون فعالية الروح فيه محدودة ولذلك ليس للحياة البرزخية سعة الحياة لعالم القيامة
أبداً.
بعبارة أخرى الروح
آمر وعامل مؤثر والبدن مأمور ووسيلة العمل ، وكما لا يستغني الآمر عن المأمور
وأدوات العمل ، فإنّ الروح لاتستغني عن الجسم في مواصلتها لفعالياتها ، غاية ما
هنالك حيث تستقر الروح في عالم آخر أرفع وأسمى من هذا العالم فلابدّ أن يكون لها
جسم أكمل وأرفع وسيكون الأمر كذلك ، على كل حال فإنّ الجسم والروح مكملان لبعضهما
، وعليه فلا يمكن أن يكون المعاد أحادياً كأن يكون روحانياً أو جسمانياً ، وتتضح
هذه الحقيقة من خلال تأمل وضع ظهور الجسم والروح.
لكن تبقى هنا
أربعة إشكالات أو كما يصورها البعض أربعة مطبات لابدّ من الخوض فيها بالتفصيل وهي
:
١ ـ شبهة الآكل
والمأكول.
٢ ـ قلّة التربة
على الأرض.
٣ ـ أي جسم يعود ،
حيث يتبدل جسم الإنسان طيلة عمره.
٤ ـ أين ستقع
القيامة والمعاد؟ لأنّ سطح الأرض لا يسعه حشر ونشر كافة الناس.
والآن نسلّط الضوء
على كل واحد من هذه الإشكالات.
* * *
١ ـ شبهة الآكل والمأكول
هذه من الإشكالات
القديمة التي أوردت على المعاد الجسماني وخلاصتها : إفرض أنّ إنساناً حين القحط
والمجاعة الشديدة تغذى على لحم آخر بحيث أصبح جزء من بدن الإنسان الأول أو جميعه
من لحم الإنسان الثاني ، فهل ستنفصل هذه الأجزاء في المعاد عن الإنسان الثاني أم
لا؟ فإن كان الجواب بالإيجاب أصبح بدن الإنسان الثاني ناقصاً ، وإن كان الجواب
بالسلب كان بدن الإنسان الأول ناقصاً.
أصلاً ليست هناك من
حاجة لهذه الفرضية ، فهذا الموضوع يجري دائماً في الطبيعة حيث يموت الناس ويصبح
بدنهم تراباً ويصبح التراب جزءاً من الأرض ثم يتبدل بعد إمتصاصه من قِبل جذور
الاشجار تدريجياً إلى نبات أو ثمرة فيتغذى عليها سائر الناس ، أو الحيوانات ، بعد
ذلك يتناول الإنسان لحوم هذه الحيوانات.
وعليه فأجزاء
الأفراد السابقين تصبح من هذا الطريق جزءاً من بدن الأفراد اللاحقين.
ولاينبغي لكم أن
تتعجبوا إذا ما علمتم بأنّ هذه التفاحة التي توضع أمامنا قد تكون أصبحت لعشر مرات
جزءاً من بدن إنسان ثم عادت إلى التراب ، وامتصت ثانية من قبل جذور وتحولت إلى
تفاحة ثم تناولها إنسان آخر وأصحبت جزءاً من بدنه ، وعلى هذا الأساس فإن كان
المعاد جسماني تصارعت عشرة أبدان يوم القيامة على بعض الأجزاء وسيكون لكل جزء من
يدعيه له ، فكيف سيكون المعاد جسمانياً؟
* * *
إجابة وتحقيق
قلنا أنّ الإيراد
المذكور من أقدام الإيرادات التي وردت على المعاد الجسماني وقد أجاب عليها
الفلاسفة والمتكلمين القدماء كالخواجة نصير الدين الطوسي والعلّامة الحلي و... كل
حسب مبانيه ، وأهم جواب طرحه قدماء العلماء على ذلك الإيراد عن طريق «الأجزاء
الأصلية» و«الأجزاء غير الأصلية».
وطبق ذلك فهم يقولون
: لبدن الإنسان قسمان من الأجزاء هي : الأجزاء الأصلية والأجزاء الإضافية.
الأجزاء الأصلية
هي الأجزاء التي تبقى طيلة عمر الإنسان فلا تتعوض ولا تفنى ولا تصبح جزءاً من بدن
إنسان آخر أبداً ، حتى وإن تناولها شخص آخر فلا تصبح جزءاً من بدنه.
أمّا الأجزاء الإضافية
فهي قابلة للتغيير والتعويض وهي دائماً في حالة تغيّر ويمكن أن تكون جزءاً من بدن
إنسان أو حيوان آخر ، وهكذا تحلّ المشكلة ، يعني في يوم القيامة فإن الأجزاء
الأصلية لبدن كل شخص تنمو في مدّة قصيرة كبذور النباتات أو نطفة الإنسان وتصنع
البدن الأصلي.
والسؤال الوحيد
الذي يبقى أمام هذا الجواب والذي يبدو بصورة فرضية مبهمة هو : أي الأجزاء من البدن
هي الأصلية وكيف يمكن تمييزها عن سائر الأجزاء؟
هناك عدّة إجابات
على هذا السؤال لعلها تزيل الإبهام ومنها :
١ ـ الأجزاء
الأصلية هي «الجينات» الواقعة على الكروموسومات في وسط نواة الخلايا ، وعليه فهذه
الجينات جزء من نواة الخلية الثابتة الوضع طيلة العمر وتشكل الأجزاء الأصلية لبدن
الإنسان.
٢ ـ الفقرة
الأخيرة في العمود الفقري يعني أسفل عظم في هذا العمود هو الجزء الأصلي لبدن
الإنسان حيث لايزول أبداً ولايستقطبه بدن حيوان أو إنسان آخر.
٣ ـ الأجزاء التي
لا نعرفها على وجه الدقة ، إلّاأنّنا نعلم أنّها موجودة في بدن الإنسان وخاصيتها
أنّها لا تزول أبداً ولا تنتقل إلى بدن حيوان أو إنسان آخر.
لكن أي من هذه
الاحتمالات ليس بمقبول من الناحية العلمية لأنّه : الجينات من حيث المواد دائمة
التغيير حيث تتعوض بمرور الزمان والباقي والثابت هو خواص الجينات.
من جانب آخر ، آخر
عظم للعمود الفقري لا يختلف وسائر العظام من حيث البنية ، والزعم المذكور ليس
مبرهناً في العلوم المعاصرة ، فهذا العظم كسائر العظام في حالة تغير وتبدل وسيصبح
تراباً بعد الموت وعليه فيمكن أن ينتقل إلى حيوان أو إنسان آخر.
أضف إلى ذلك فإنّ
موضوع الأجزاء غير المعروفة الثابتة أشبه بالفرضية منه بالموضوع القطعي ، يعني ليس
لدينا من دليل على وجود مثل هذه الأجزاء في البدن وإنّنا لا نرى من فارق بين أجزاء
البدن ويفيد قانون النمو أنّ الكل في حالة تغيير وسيتحول إلى تراب بعد الموت
ويمكنه أن يعود إلى بدن حيوان أو إنسان آخر.
وبناءاً على هذا
فمسألة الأجزاء الأصلية وغير الأصلية مجرّد فرضية يحتاج إثباتها إلى دليل ، وللأسف
ليس لدينا من دليل.
* * *
إجابة أوضح
لدينا سبيل أوضح
لحل هذا الإشكال والذي يحتاج شرحه إلى مقدمات لابدّ من تأملها بدقة.
١ ـ إنّ بدننا
يتغير خلال عمرنا عدّة مرّات ، كالمسبح الكبير الذي يرده الماء من قناة صغيرة
ويخرج بالتدريج من قناة صغيرة أخرى : فبعد مرور مدّة طويلة يتغير كلّه دون أن يشعر
به ، وكما قلنا في بحث إستقلال الروح أنّ هذا القانون جاري ولا يستثنى منه أي من
خلايا البدن حتى خلايا الدماغ.
ويرى البعض أنّ
المدّة الزمانية اللازمة لتبدل جميع أجزاء البدن بالأجزاء الجديدة قد تكون سبع أو
ثمان سنوات ، وهكذا يكون الإنسان الذي له سبعون سنة قد تبدل عشر مرّات منذ بداية
عمره إلى نهايته.
٢ ـ كل بدن يتبدل
ينقل صفاته إلى الخلايا التي إستبدلته ، ومن هنا فإن لون بشرة الإنسان وشكله ولون
عينيه وسائر مميزاته باقية على حالها طيلة عمره ، رغم أنّ مواده قد تكون تغيرت عشر
مرات ، وذلك يعزى إلى أنّ الخلايا حين التغير والتبدل تودع خواصها إلى الخلايا
الجديدة ، والواقع هو أنّ البدن الإنساني إلى آخر العمر يشتمل على جميع المميزات
والصفات والكيفيات التي كانت في البدن السابق ، ومن هنا يمكن القول : أنّ آخر بدن
للإنسان هو عصارة جميع الأبدان طيلة عمره.
٣ ـ ما يفهم بوضوح
من الآيات القرآنية إنّ الذي يعاد يوم القيامة آخر بدن للإنسان والذي يتبدل إلى
تراب وله في الواقع جميع صفات الأبدان
__________________
التي تغيّرت طيلة
العمر.
فقد ورد في الآيات
القرآنية الثلاث : (فَاذَا هُمْ مِنَ
الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلونَ) ، (يَخْرجُونَ مِنَ
الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٍ مُنْتَشِر) و (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ
سِراعَاً) . فالآيات تبيّن أن آخر بدن يعاد يوم القيامة ، لأنّ الذي
في القبر ليس سوى تراب آخر بدن.
طبعاً هذا إذا دفن
البدن ، أمّا إذا تبدلت الأبدان مثلاً في حريق إلى تراب أو فنت بسبب عوامل أخرى
فإنّما تعود يوم القيامة ذرات آخر بدن وإن لم يكن هناك من قبر.
وقد ورد في آخر
سورة يس بشأن المعاد : (قُلْ يُحْييَها
الَّذي انْشَاهَا اوَّلَ مَرَّةٍ)
فالآية تفيد أنّ
الذي يبعث هو آخر بدن للإنسان ، وهنالك عدّة آيات أخرى تؤيد هذه الحقيقة. وعليه
نخلص إلى هذه النتيجة : إنّ ما يعود يوم القيامة هو آخر بدن الذي يشتمل على كافة
الصفات والخصائص طيلة العمر.
٤ ـ هل يمكن إتحاد
بدنين بصورة تامة؟ وبعبارة أخرى هل يمكن أن يتبدل جميع بدن شخص بفعل التغذية إلى
جميع بدن شخص آخر؟
الجواب بالسلب ،
لأنّ بدن الإنسان يمكنه أن يكون جزءاً من بدن إنسان آخر فقط لا كل بدنه ، ودليل
ذلك واضح فالشخص الذي يتغذى على آخر كان موجوداً وعن طريق التغذية على بدن الآخر
يجعله جزءاً من بدنه لا كل بدنه ، صحيح أنّ بدن الشخص الأول يحلّ بصورة كاملة في
بدن الشخص الثاني ، لكن الشخص الأول لا يمكن أن يكون تمام الشخص الثاني قط
__________________
وليس له أن يكون
جزءاً منه (عليك بالدقّة).
نعم لو فرضنا أنّ
إنساناً تغذى على بدن آخر لمدّة سبع سنوات بحيث لم يتناول شيئاً غيره بما في ذلك
الماء والهواء ، ففي هذه الحالة سيكون بدن الإنسان الأول جميع بدن الثاني ، ولكن
واضح أنّ هذا الموضوع ليس أكثر من فرض ، ولايمكن لشخص أن يستغني سبع سنوات عن
الماء والهواء ، إضافة إلى أنّ هذا الأمر ليس له عادة صورة خارجية بأن يقتصر غذاء
الإنسان على مواد بدن آخر (بغض النظر عن مسألة الماء والهواء).
والنتيجة لايمكن
إتحاد بدنين بصورة تامة ومن جميع الجهات ، بل يمكن البدن أن يكون جزءاً من بدن آخر
(عليك بالدقّة أيضاً).
٥ ـ كل خلية من
خلايا بدننا تضم جميع شخصيتنا بحيث لو نمت لاستطاعت تشكيل بدننا ، وبعبارة أخرى
فإنّ كافة خصوصيات بدننا كامنة في كل خلية ، ويتضح هذا الموضوع سيّما بالنظر إلى
أبحاث الجينات وأنّ في نواة كل خلية داخل الكروموسومات ذرات غاية في الصغر تعرف
باسم الجينات التي تحمل كافة صفات الإنسان ، ولاينحصر هذا الموضوع ببدننا ، بل هو
قانون يصدق على جميع الكائنات الحية ، ومن هنا نرى كيف يكثرون الأشجار حيث يغرسون
غصن صغير في وسط مساعد ثم يتحول تلقائيا إلى شجرة كاملة ، وقد أجريت بعض التجارب
على الحيوانات البسيطة مثل بعض الدود أنّه إذا قطّعت عدّة قطع فإنّ كل قطعة تتبدل
بالتدريج إلى حيوان كامل. ويبدو هذا الموضوع ليس بمستبعد عن الإنسان من الناحية
الاصُولية والكلية ، يعني لو أمكن توفير ظروف مناسبة فإنّ كل خلية من خلايا بدن
الإنسان تستطيع بمفردها أن تكوّن إنساناً يشبهه بكل شيء ، بل هو نفسه ، أو لم نكن
يوماً خلية أحادية نمت تصاعدياً حتى تكونت الأعضاء
المختلفة بالتدريج
، أو ليست هذه الأعضاء والأجزاء قد ظهرت من إنقسام تلك الخلية الأحادية؟ أي أنّ
الخلية الأولى نمت وتحولت إلى خليتين ثم نمت هاتان الخليتان وتحولتا إلى أربع
خلايا وهكذا تزايدت فكونّت جميع عضلات البدن ، وعليه فكل خلية يمكنها بمفردها أن
تبني جميع بدن الإنسان.
وأحياناً نرى قطعة
قد فصلت من بدن الإنسان بفعل حادثة ، وسرعان ما تقوم الخلايا المجاورة لها تملأ
مكانها واستعادة ذلك الجزء.
٦ ـ هل تتغير
شخصيتنا من الناحية الجسمية بزيادة ونقصان وصغر وكبر موادها؟ قطعاً لا.
مثلاً كنّا في
اليوم الأول نطفة ذات خلية واحدة ، وأصبحنا بعد عدّة أسابيع جنيناً يزن عدّة
غرامات ، ثم يصبح وزننا بعد أشهر كيلوين أو ثلاثة كيلو غرامات ويعقب ذلك ولادتنا
ويختاروا لنا إسماً ، ولكن لم نكن حين الولادة نزن أكثر من ثلاث كيلوات فإن كبرنا
بمرور الزمان قد نصل إلى سبعين كيلو غرام ، وربّما ضعفت عضلاتنا وعظامنا في حياتنا
المستقبلية فيهبط وزننا إلى أربعين كيلو غرام. فهل تبدل هذه التغييرات شخصيتنا من
الناحية الجسمية؟ يعني لم نعد ذلك الوليد في اليوم الأول؟ ذلك الجنين والنطفة
الآحادية الخلية ، وإن هبط وزننا بفعل المرض والكهولة فبلغ نصف الوزن الفعلي ، فهل
لسنا ذلك الشخص السابق؟ ألا توجد شخصية واحدة في ظل كل هذه التغييرات والتبدلات؟
الإجابة على هذه
الأسئلة واضحة وهي : هناك واقعية واحدة في ظل كل هذه التغييرات والتحولات والتي
نعبّر عنها باسم زيد أو عمرو أو مسعود أو فاطمة ، وعليه فشخصية الإنسان لا تغيير
تبعاً لتغير مادته الجسمية
وزيادتها
ونقصانها.
* * *
وبعد أن إتضحت هذه
المقدمات الست نعود إلى أصل البحث لنرى هل تخلق تغذية إنسان على بدن آخر مشكلة
بالنسبة للمعاد الجسماني أم لا؟ الحقيقة أنّها لا تخلق أية مشكلة ، لأنّ الأجزاء
الأجنبية الموجودة في بدن الإنسان تعود إلى موضعها الأصلي يوم القيامة ولا تبقى
سوى أجزاء نفس البدن ، لأنّه كما قلنا أنّ البدن لايصبح جميع بدن إنسان آخر أبداً
، بل يصبح جزءاً منه ، وعليه فإن إنفصل منه ستبقى له بعض الأجزاء (عليك بالدقّة).
وهذا مسلّم من أنّ
البدن الثاني إنّما يصغر ويضعف بنفس النسبة التي يفقد بها الأجزاء الأجنبية
المتناثرة في جميع البدن ، ولكن واضح أنّ ذلك لا يخلق مشكلة ، فكما قلنا لو بقيت
من البدن الثاني خلية واحدة لأمكنها أن تنمو وتكوّن البدن الأصلي ، فضلاً عن بقاء
الكثير من البدن الثاني.
وبناءاً على ما
سبق فإنّ الأجزاء الباقية من كل بدن مهما كانت قليلة ستنمو وتتكامل يوم القيامة (في
مدّة زمانية قصيرة أو طويلة) وتشكل البدن الأولي وليس هنالك أية مشكلة تترتب على هذا
الأمر فالبدن هو البدن والشخصية هي الشخصية والصفات والمشخصات هي نفس الصفات
والمشخصات ولذلك ستكون العينية والوحدة محفوظة بين البدنين.
لعلنا لا نحتاج
إلى التذكير بأنّ هذا السبيل لحلّ مشكلة الآكل والمأكول لا يرتبط بفرضية الأجزاء
الأصلية وغير الأصلية ، لأنّ جميع الأجزاء أصلية من وجهة نظرنا وكلّها قابلة لأن
تستقطب من البدن الآخر.
سؤال
السؤال الوحيد
الذي يبقى هنا : على ضوء هذه النظرية فإنّه يمكن العثور على أجزاء معينة كانت
يوماً جزء بدن آثم وبعد تحولها إلى تراب وجزء من النباتات إلى جزء بدن إنسان صالح
، فهل عودة هذه الأجزاء التي كانت يوماً في مسير الذنب وآخر في مسير الطاعة إلى
بدن الأول وهو بدن الآثم ينسجم والعدالة؟
جواب
يتضح جواب هذا
السؤال من الالتفات إلى نقطة وهي أنّ الروح هي مركز الآلام والأوجاع وكذلك الهدوء
والراحة ، وما الجسم إلّاوسيلة ، ولذاإنّ بضّع بدن ميت إلى قطع قطع فأنّه لن يشعر
بأي ألم ، كما لايشعر بأي وجع لو قطع جسمه حين التخدير ، وعليه فالثواب والعقاب
يترتبان على الروح والجسم وسيلتها ، حيث يستند الثواب والعقاب والمعصية إلى الروح
والبدن وسيلتها كذلك في هذا الأمر ، وإننا لا نستند قط في مسألة المعادالجسماني
إلى هذا المطلب في أنّ البدن الفلاني أذنب أو البدن الفلاني أحسن بل نعتمد هذا
المعنى في أنّ الروح لايمكن أن تكون لها حياة كاملةدون البدن ، ومن هنا لابدّ أن
تعود الروح إلى جسمها الأصلي وتواصل حياتها الكاملة.
والنتيجة هي أنّ
وجود أجزاء معينة في بدنين (بعد حل مشكلة وحدةالشخصية) لايخلق مشكلة من حيث الثواب
والعقاب.
وهكذا يتبيّن حلّ
شبهة الآكل والمأكول التي شغلت أفكار أغلب الأفراد ولعل عدم حلّها جعلهم يترددون
في إقرار مسألة المعاد الجسماني ، أي يمكن الردّ على الإيراد المذكور من خلال قبول
المعاد الجسماني بهذا
البدن العنصري
المادي كما صرّح بذلك القرآن.
(يمكن مطالعة
البحث من البداية ثانية لمن بقى لديه شك في الموضوع).
* * *
٢ ـ قلّة التربة على الأرض
الإيراد الآخر
الذي طرح بشأن المعاد الجسماني هو لو تقرر أنّ تعود أجساد كافة أفراد بني الإنسان
يوم القيامة بهذا البدن المادي ، فإن التراب الذي على الأرض لا يكفي لكل هؤلاء
الأفراد ، وعليه ستكون لنا مشكلة المواد الأساسية لبناء كل هؤلاء الأفراد! وإن
قلنا بأنّ الأفراد سوف لن يكونون بهذه الهيئة الفعلية وسيتبدلون إلى أفراد صغار
جدّاً ، فانّ هذا الأمر عجيب ولايمكن تصديقه؟
جواب :
يبدو أنّ من يطلق
هذا الكلام ويتحدّث عن أزمة التراب اللازم لبناء جميع أفراد البشر إنّما يطلق سهمه
في ظلام دامس وقد خاب سهمه ، فما أحرى من يتفوه بذلك أن يتناول ورقة وقلماً ويحسب
الأمر بصورة رياضية ليعلم مدى الخطأ الذي يرتكبه في هذا المجال.
يقال أنّ الماء يشكل
٦٥ ـ ٧٠ بالمئة من جسم الإنسان ، وعليه فإنّ المواد المعدنية والآلية لبدن الإنسان
تقريباً ثلث وزن بدنه ، يعني الإنسان الذي يزن ستين كيلو غرام تقريباً عشرون
كيلواً ـ أو أقل ـ من بدنه تراب ومواد معدنية وآلية والباقي ماء ، والآن نحسب لو
كان لدينا متراً مكعباً من التراب فكم عساه يكفي كمواد لبناء بدن الإنسان؟
سنتوصل بسهولة إلى
أنّ هذا المقدار من التراب (المتر المكعب) يكفي لأكثر من مئة شخص ، والآن تستطيع
التعرف بسهولة على أنّ الكيلو متر المكعب من التراب يعني قطعة أرض طولها وعرضها
وإرتفاعها ألف متر تكفي لمئة مليارد إنسان ـ يعني في الكيلومتر المكعب مليارد متر
مكعب يكفي كل منها لمئة إنسان.
وبعبارة أوضح :
يمكن لهذا المقدار
من التراب أن يكفي لخمس وعشرين ضعفاً من سكان الكرة الأرضية ، وهل تصدق أنّ هذا
المقدار من التراب يشغل مساحة زهيدة من سطح الكرة الأرضية؟
وإذا تابعنا
القضية من حيث الزمان ، فمتوسط عمر الإنسان لايتجاوز الخمسين عاماً فاذا ضربنا
العدد ٢٥* ٥٠ متوسط عمر كل جيل يكون الناتج ١٢٥٠ سنة ، يعني يكفي كيلومتر مكعب من
التراب لبناء المادة الأصلية لجميع البشر على الكرة الأرضية بمدّة ١٢٥٠ سنة ،
وعليه فلو فرضنا أنّ عصر تأريخ الحياة البشرية على الأرض مثلاً كان إثني عشر ألف
وخمسمائة سنة ، ونفرض أيضا أنّ أي جزء من بدن إنسان لم يصبح جزءاً من بدن إنسان
آخر فإنّ عشرة كيلو مترات مكعبة من التراب تكفي لتشكيل أبدان جميع الأفراد.
وإن اعتبرنا طول
عمر الإنسان في الكرة الأرضية مليونين وخمسمائةألف عام والذي يتأتى من كشف آخر
جمجمة ولعله لايمكن الذهاب أبعدمن ذلك ، ففي هذه الحالة يكفي ألفي كيلومتر مكعب من
التراب لتشكيل أبدان جميع الأفراد طيلة ٠٠٠ / ٥٠٠ / ٢ عام ، ونعلم أنّ هذا المقدار
من التراب لايشغل سوى مساحة صغيرة من الأرض ، والنتيجة لو أخذنا بنظر
الاعتبار مساحة
إيران بعمق ألف متر من التراب فانّها تلبي بناء أبدان ملياردات مليارد من أفراد
البشر خلال ميلونين وخمسمائة ألف سنة ، رغم أنّ بلدنا يشغل زاوية صغيرة من سطح
الكرة الأرضية وهذا ما يتضح من أدنى نظرة إلى الخارطة الجغرافية.
فيتضح ممّا ذكرنا
عدم صحة الزعم القائل بعدم كفاية تراب الكرة الأرضية لتلبية حاجة أبدان جميع أفراد
البشرية.
* * *
٣ ـ ما الجسم الذي يشمله المعاد؟
السؤال الآخر الذي
يطرح بشأن المعاد هو : إذا كان المعاد جسمانياً ، فأي بدن من الأبدان التي إكتسبها
الإنسان طيلة عمره سيكون المعاد؟ لأنّنا نعلم أنّ البدن والجسم يتغير عدّة مرّات
طيلة عمر الإنسان ، ويحتمل أن تعوض خلايا البدن كل سبع سنوات وتستبدل بخلايا جديدة.
وطبعاً فإنّ هذا
التغيير إنّما يتم بصورة تدريجية ودقيقة بحيث لايبدو محسوساً قط ، والطريف أنّ
الخلايا الجديدة تجتذب جميع مميزات وخصوصيات الخلايا القديمة ، أي أنّها تكون بنفس
الحجم والشكل واللون ، أو ليست هي وليدة وراثة الخلايا القديمة ، فكيف لاتشبهها في
كل شيء؟
على كل حال
فبالنظر لما قيل يبقى سؤال وهو : إنّ الإنسان قد عوّض بدنه عشر مرات خلال سبعين
سنة وقد أتى بكل واحد منها أعمالاً حسنة أخرى سيئة ، فهل يعود بمجموع هذه الأبدان
بحيث يصبح هيولا عجيبة؟ أم ببدن واحد منها ، وذلك ترجيح بلا مرجح ، أضف إلى ذلك
فإن لكل بدن صحيفة أعمال بحيث يمكن أن تكون متفاوتة تماماً مع صحيفة أعمال
البدن الآخر ،
أمّا إن كان المعاد روحانياً فليست هنالك أية من هذه المشكلات.
* * *
جواب :
يمكن العثور على
جواب هذا السؤال في ذات السؤال ، فكما ورد في المتن أنّ كل بدن يجتذب جميع مميزات
وصفات البدن السابق ، وعليه فآخر بدن هو مخزن جميع الصحف طيلة العمر وهو خلاصة
وعصارة لجميع مميزات الأبدان السابقة.
ولذلك فإنّ عودة
وبعث آخر بدن تعني عودة جميع الأبدان وبعثها ، والجدير بالذكر هو أنّ الخلايا حين
التعويض تجتذب حتى العوارض الإكتسابية ، مثلاً الخال الموجود على البدن يمكن الّا
يقارقه طيلة العمر رغم أنّ الخلايا تتعوض ، وهذا مايشير بوضوح إلى نقل حتى الصفات
الإكتسابيةإلى الخلايا الجديدة. وكما ذكرنا سابقاً فالمفهوم من أغلب الآيات
القرآنيةأنّ المعاد يوم القيامة سيكون بآخر بدن ، فقد ورد في الآية ٥١ من سورةيس :
(وَنُفِخَ في الصُّورِ
فَاذِاهُمْ مِنَ الَاجْدَاثِ إِلَى رِبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) والآية ٧ من سورة الحج (وَانَّ اللهَ
يَبْعَثُ مَنْ في الْقُبُورِ) فالذي يستفاد من هذه الآيات وشبيهاتها أنّ المعاد يحصل
بآخر بدن ، وهذا ما يقتضيه قانون العقل ، لأنّ البدن الذي يكون عصارة وخلاصة جميع
أبدان مدّة العمر هوفي الحقيقة مع الروح دائماً وله سنخية وتناسب معها في كل جهات
، ولاتستطيع الروح سوى به أن تكتمل ، وعليه فليس هنالك من مشكلة من
هذه الناحية في
أمر المعاد الجسماني.
* * *
٤ ـ أين تقام القيامة؟
السؤال الأخير
الذي يطرح بشأن المعاد الجسماني وهو إذا أراد أن يعودكافة الناس منذ بداية الخليقة
إلى الحشر فسوف لن يكون هناك من مكان على الأرض يسعهم ، ونحن نعلم أنّ الأرض لا
تستطيع تلبية التعداد السكاني في بعض مناطق العالم ، ومن هنا هناك مواجهة شديدة
لازدياد عدد السكان ، فاذا أريد تجمع كافة الناس من الماضين والحاضرين والقادمين
في مكان واحد ، فكيف ستكون الحالة مزرية ، أمّا إن كان المعاد روحانياً فليست هنالك
أية مشكلة حيث لاتوجد مضايقات في عالم الأرواح.
جواب :
لعل من أورد هذا
الإشكال غفل عن نقطة وهي كما ورد صريحاً في القرآن فإنّ نهاية هذا العالم ستشهد
إختلال نظام كرات عالم الوجود : فالشمس تكوّر والقمر يصبح مظلماً والجبال تنسف
وتصبح كذرات الغبار ، ثم يقام عالم جديد على أنقاض هذا العالم وتبدأ حياة جديده
للناس في ذلك العالم ، ومن هنا فليست هنالك من مشكلة بالنسبة لصغر مساحة
الكرةالأرضية ، حيث لن تكون هناك كرة أرضية بهذا الشكل حتى نقلق من قلّةمساحتها ،
وسنستعرض مستقبلاً بصورة أعمق ـ إن شاء الله ـ هذا الموضوع.
* * *
شهداء المحكمة الكبرى للمعاد
والحساب والكتاب والميزان
القيامة محكمة
عظيمة لابدّ أن يحضرها الجميع دون إستثناء ويمثلواللمحاكمة ، ولكن كما ذكرنا أنّ
ألفاظنا قد أبتدعت منذ اليوم الأول بشأن حياتنا اليومية ، ولذلك سيتعذر علينا
التحدث بمجرّد أن نخرج عن إطارحياتنا اليومية ، لأنّنا لا نجد الألفاظ التي تبيّن
المفاهيم التي سنتعمل معها!
خاصة بشأن الحياة
في العالم الآخر ؛ العالم الذي يختلف تماماًعن هذاالعالم ، حيث يفوق بمراتب هذا
العالم سمواً ورفعة ، ولاينطوي على حياته المملة المتعبة. بالضبط كالتوأمين في بطن
أمّهما ـ فرضاً ـ يضعون ألفاظاًمن أجل قضاء حاجاتهما ، فمن البديهي أنّهما حين
يلدان ويريان أنواع المشاهد والمناظر والكائنات والظواهر والأفراد والأشخاص فليس
أمامهمامن سبيل سوى التفاهم عن طريق الإشارات وحركة العيون والحواجب من أجل إفهام
الآخرين ما يريدان ، لأنّ قاموسهما في مرحلة الجنين قد لايشتمل على عشر مفردات ،
والحال يحتاج العالم الواسع الفعلي إلى عشرات آلاف المفردات للتعامل مع مطالبه ومفاهيمه
، فسعة ذلك العالم بالنسبة
لعالمنا كنسبة هذا
العالم إلى عالم الجنين ، وعليه فليس من العجيب ألّاتستطيع الألفاظ والمفردات التي
نتحدث بها في هذا العالم أن ترسم لناصورة كاملة عن شكل الحياة في العالم الآخر ،
فنشعر بالإعياء والعجز لوصف روعة النعم وعظمة تكامل تلك الحياة ، بل يصعب علينا
نحن الذين نعيش في سجن الدنيا حتى تصورها.
* * *
على كل حال فحين
نقول سيمثل جميع الأفراد للمحاكمة في ذلك العالم ، فإن ذلك لايعني ستنصب عدّة
طاولات في المحشر وسيحمل كل فرد ملفه صغيراً كان أم كبيراً تحت إبطه ويرد مع
الشهود ، فيمثل مثلاً بين قضاة وحكام تلك المحكمة الذين يكونون من الملائكة ، ثم
تبدأ المحاكمة العلنية بعد الإستماع إلى الإفادة والتحقيق والسؤال والجواب ويهب
المتهم للدفاع عن نفسه ثم يتداول القضاة ـ الملائكة ـ الحكم فيصدرون أحكامهم
بتبرأة الأفراد أو إدانتهم ، وبعد إمضاء الحاكم المطلق ـ الذات الإلهية المقدسة ـ للحكم
يبلّغ مأموري إجراء الأحكام الإلهية ؛ أي ملائكة الجنّة والنار بتطبيقها ، كلا ليس
الأمر كذلك أبدا! فهناك تتخذ الألفاظ صبغة ومفهومها آخراً ، فهناك شبح للمحكمة
إلّاأنّه على مستوى أرفع بالشكل الذي لم نره ونسمعه قط.
وإن ورد الكلام عن
ميزان الأعمال فهذا لايعني وضعها في كفة من ميزان ويضعون عدداً من الأثقال في
الكفة الثانية حتى تحصل حالة التوازن فيعلم الوزن الواقعي ، أو إن كان أكثر جيىء
بميزان ضخم ليحسب وزن الأعمال ، كلا ليس الأمر كذلك. قلنا إنّ الألفاظ هناك تتخذ
شكلاً آخر (ولابدّ أن تكون كذلك) لأنّ الحديث عن عالم يختلف تماماً عن عالمنا هذا.
طبعاً لا ينبغي أن
تكون هذه الحقيقة وسيلة للتفاسير الخاطئة والمنحرفة ومدعاة إلى نوع من الفوضى في
الألفاظ المتعلقة بالعالم الآخر ، بل لابدّ من توضيح مفاهيم هذه الألفاظ في ظل
القرائن الموجودة ، من جانب آخر فإن مفاهيم الألفاظ إنّما تتغير بمرور الزمان في
الحياة الدنيوية : فحين كانت تطلق كلمة السراج يراد بها تلك القارورة المملوءة
بالزيت وفي فوهتها فتيلة طويلة يخرج جزء منها للإشعال ويأخذ الزيت بالإحتراق شيئاً
فشيئاً ، وأحياناً توضع عليها مظلة متواضعة لإحتواء الدخان.
أمّا اليوم فتطلق
هذه الكلمة ويراد بها المصباح الكهربائي الذي يعلق في السقف فلا من زيت ولا فتيلة
، ولا يحمل من السراج القديم سوى خاصيته في مكافحة الظلمة ، ويصدق هذا الكلام على
سائر وسائل الحياة القديمة والجديدة على أنّ تلك الوسائل والأدوات تغيرت تماماً ،
غير أنّ النتيجة باقية ثابتة ، فإن كان هذا الاختلاف والتغيير إلى هذه الدرجة بشأن
زمانين في هذا العالم ، فما بالك بذلك العالم الذي يختلف بكل تفاصيلة عن هذا
العالم ، بحيث إذا لم نحصل على ألف باء آخر لبيان مفاهيمه فلابدّ على الأقل أن
نفكر في إستعمال ألفاظ أكثر بالنسبة لنتائجها ، طبعاً لا نقول إنّنا نفسّرها كيفما
نشاء ونصرّح بأنّ لهذه الألفاظ وضع خاص.
ونخوض الآن في
تفسير هذه المفاهيم بعد تلك المقدمة.
* * *
الف ـ شهداء القيامة
تعرض القرآن
الكريم على لسان آياته إلى طائفة من شهداء المحشر وهم بالترتيب :
١ ـ الذات القدسية
المطهرة : (وَمَاتَكُونْ في
شَأْنٍ وَمَاتَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرآنٍ وَلَاتَعْمَلُونْ مِنْ عَمَلٍ الّا كُنّا
عَلَيْكُمْ شُهُوداً اذْ تُفِيضُونَ فِيْهِ وَمَا يَعْزَبُ عَنْ ربِّكَ مِنْ
مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأَرْضِ وَلَافي السَّماءِ وَلَاأَصغَرَ مِنْ ذَلِكَ
وَلَاأَكْبَرَ الّا في كِتَابٍ مُبينٍ)
٢ ـ الأنبياء : (فَكَيْفَ اذَا جِئْنًا مِنْ كُلِّ
امَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً)
٣ ـ الأعضاء
كالرجل واليد : (يَوْمَ تَشْهَدُ
عَلَيْهِمُ الْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيْهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ)
٤ ـ الجلود : (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ
شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذي أَنْطَقَ كُلَّ شَىءٍ)
٥ ـ الأرض تشهد
على الأعمال : (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثْ
أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَها)
٦ ـ الملائكة : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سَائِقٌ
وَشَهيد)
* * *
كيفية هذه الشهادة
يتضح من خلال عد
اللسان واليد والرجل وأعضاء البدن وكذلك الأرض في عداد الشهود ، أنّ تلك الشهادة
ليست من قبيل الشهادات البشرية التي لا تتجاوز الكلام وليست لها أية مطابقة للواقع
، فهي شهادة
__________________
«عملية» و«أثرية»
لا سبيل للكذب إليها.
توضيح ذلك ،
أحياناً نقول تشهد عين فلان أنّه لم ينم البارحة! يشهد شحوب وجهه ولعثمة لسانه
أنّه يخشى من شيء! تشهد نظافته الفائقة لملابسه وداره أنه ينتظر ضيفاً.
فهذه (الشهادة
الطبيعية والعلمية) تفيد أنّها أبلغ وأصدق شهادة ولايسمع أحد إنكارها.
غالبا ما ينكر
المتهم شهادة جميع الشهود ، ولكن بمجرّد أن يسمعوه كلامه من على شريط أو يروه
الصور حين إرتكابه للجريمة يشعر بإغلاق كافة الطرق بوجهه فلا يملك سوى الإعتراف ،
وسبب ذلك هو أن شهادة الشريط والصورة هي شهادة طبيعية وأثرية لا يسع أي أحد التنكر
لها ، لا ينبغي الغفلة أنّ روحنا وجسمنا إرشيف عجيب لكافة أعمالنا وتصرفاتنا
وأقوالنا طيلة عمرنا ، يعني كما أنّ الغذاء الذي تناولناه منذ بداية عمرنا لحدّ
الآن في جسمنا ـ قد أثرت وأن آثار كل غذاء موجود في دمنا وخلايا بدننا وفي عظامنا
وشرايينا وأنّ هذه الآثار ستنتقل إلى الخلايا القادمة حين تغيير هذه الخلايا
وتبدلها ، بحيث لو كان هناك جهاز دقيق يدرس دمنا وخلايا بدننا لأمكنه إطلاعنا على
جميع الأغذية مع تأريخها التي تناولناها لحدّ الآن ، كذلك لكل عمل من أعمالنا
إنعكاس في روحنا وجسمنا :
فللكذب والخيانة
وإنتهاك حق الآخرين وصفع البريء والشهادة الظالمة ، لكل هذه الأمور بصماتها على
روحنا وجسمنا وترسم خطوطاً تسهل قراءتها في محكمة القيامة التي تمثل على الظهور
والبروز ، فكل هذا من شهود تلك المحكمة.
بالمناسبة لو كان
المجتمع يؤمن بمثل هذه الحقائق فكم سيكون مراقباً
لأعماله وتصرفاته؟
وما أعظم الآثار التربوية التي سيفرزها هذا الإيمان بمثل هذه القيامة.
* * *
ب ـ الحساب في تلك المحكمة
يتضح ممّا قيل أنّ
هناك صبغة أخرى لمسألة صحيفة الأعمال والحساب في محكمة القيامة ، فوجود المجرمين
والصالحين هو صحيفة عمل ، وهكذا أبواب ونوافذ البيت المسكون كل منها صحيفة ، ولاشك
أنّ الكتاب الذي يعطى يوم القيامة إلى الصالحين بيمينهم وإلى الطالحين بشمالهم
والذي تحدثت الآيات القرآنية عن تعذر إنكاره هو من قبيل هذه الصحف الأثرية التي
يصعب علينا اليوم حتى تصورها ، ومن هنا تحل لدينا مشكلة أخرى يقول بشأنها القرآن :
(وَاللهُ سَرِيعُ
الْحِسَاب)
لأنّ الحساب واضح
هناك وهو مجموع آثار الأعمال الحسنة والسيئة في وجود كل شخص ونتيجتها معلومة واضحة.
ولتقريب هذه
الحقيقة للذهن يمكن أن نضرب مثلاً بسيطاً فنقول لعل السيارات العادية قد طوت عدّة
طرق كثيرة طيلة عمرها دون أن يستحضرها حتى سائقها فضلاً عن حسابها ، ولكن إن أدرنا
نظرنا إلى العدّاد فاستطعنا تعيين مقدار الطريق الذي إجتازته وهذه أيضا شهادة
أثرية ، عادة ما يتخلل الحساب العادي بعض الأخطاء وحتى حسابات الأدمغة الألكترونية
، إلّاأنّ لدينا حساب في هذا العالم لا يتسلل إليه الخطأ ، مثلاً تضيف الأشجار
المقلوعة كل سنة إلى نفسها بعض القشور التي تكشف عن عمرها ، وكذلك
__________________
طبقات الثلج ،
فهذه حسابات لا سبيل للخطأ إليها ، والحق أنّ حساب يوم القيامة من أرفع أنواع هذه
الحسابات.
* * *
ج ميزان الأعمال
كثر الكلام في
المتون الإسلامية عن ميزان الأعمال ويرى البعض أنّ هناك ميزاناً كالذي نراه في هذا
العالم ، ولذلك تكلّفوا عناء وجوده وماذايزن.
١ ـ نفس الأفراد
٢ ـ صحف الأعمال
٣ ـ تجسم الأعمال
له وزن
وكل ذلك لأنّهم
فسّروا الميزان والوزن على ضوء المفاهيم العادية التي نتعامل معها في الحياة
اليومية والحال ورد مفهوم أوسع وأجمع له في القرآن الكريم : (وَالسَّماءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ
الْمِيزَانَ) .
(وَأنْزَلْنا مَعَهُمْ
الْكِتَابِ وَالْمِيزَانَ)
توضيح ذلك : هناك
مع يار لدى كل قوم وملّة لتعيين القيم حيث يمكن القول لهذا الميزان إمكانية تحديد
مصيرها ، على سبيل المثال فمقياس العلم والعالم في دنياه المادة غير مقياس مدرسة
الأنبياء والأولياء والوحي ، فاليوم يطلق العالم على من يمتلىء دماغه بأكثر عدد من
القواعد والمعادلات وله معرفة بطبيعته وأسراره وكيفية الاستفادة منه وقد قضى
__________________
شطراً من عمره في
الجامعات والمختبرات وتفوق في الإمتحانات ، ولا فرق في أن يسخر هذا العلم لخدمة
البشرية أو لخدمة القنابل والصواريخ العابرة للقارات أو الرؤوس النووية أو صنع
المخدرات ، أو الدفاع عن عصابات اللصوص الدوليين حين يمثلون في المحاكم أو في خدمة
المنظمات الإستعمارية والاقتصادية العالمية.
بينما تكتسب هذه
الكلمة معنى آخر لدى أولياء الله كعلي (ع) الذي يرى العالم من يقوم على مصالح
الناس ويوظف العلم في سبيل نجاة البشريةويتحمل هموم الامة وإلّافليس هو بعالم. (وَمَاأَخَذَ اللهُ عَلَى الْعُلَماءِ
الّايُقارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَلاسَغَبِ مَظْلُومٍ) .
نعم ، فمقياس
العلم والشخصية والقيم الإنسانية والسعادة والشقاء مختلف تماماً بين الشعوب وأقوام
، فمحيط عرب الجاهلية الذي يرى الشخصية في السلب والنهب وكثرة الأولاد الذكور
إنّما ناتجه حفنة من اللصوص بتعدد الزوجات دون حساب ، أمّا حين أصبح العلم والورع
والتقوى هو المقياس بظهور الإسلام فقد تغيّرت الأوضاع كلياً وظهرت حصيلة أخرى
تباين سابقتها.
إنّ أحد أهداف
رسالات الأنبياء هو منح الضوابط والمعايير الواقعية الصانعة للإنسان ، والآية ٢٥
من سورة الحديد إشارة إلى هذه الحقيقة ، ومن هنا نرى الميزان بوسيلة المعيار
المعنوي الذي يشبه الميزان الحسي فقط في النتيجة يعني تعيين الوزن الواقعي ـ جدير
بالذكر ورد في إحدى زيارات أميرالمؤمنين علي عليهالسلام : (السَّلامُ عَلَيْكَ
يَا مِيزَانَ الَاعْمَالِ).
فهنا يصبح الإنسان
الكامل هو الميزان للأعمال ولكل أن يعلم وزنه
__________________
وقيمته على أساس
مدى شباهته به في الإيمان والعمل والتقوى والعدالةوالشجاعة
فهو ميزان دقيق
ووسيلة إختبارية تامة وكاملة للقيم الإنسانية.
ونرى اليوم بعض
الموازين الدقيقة تؤثر عليها حتى حركة الريح وكتابة كلمة واحدة ، وكذلك هناك ميزان
ضغط الدم والحرارة وحتى مقدار إستعداد الإنسان وذكائه ، بينما ليس لدينا أي ميزان
للعمل الصالح والسيىء مقدار الإخلاص وحسن النية ودوافع الأعمال. مثلاً ورد في
روايةأنّ مثل الشرك في الأمّة أخفى من دبيب حشرة سوداء في ليلة ظلماء على حجرة
صماء.
فمن المسلم به أنّ
حركة تلك الحشرة تؤثر على الحجرة وينبعث من حركتها عليها صوت مرتفع ، إلَاأنّه
زهيد إلى درجة أننا لا نستطيع حسابه بأية وسيلة ، فبطريق أولى ليس لدينا من وسيلة
لمعرفة نفوذ الأفكارالمنحرفة إلى نيّة الإنسان التي تعتبر أدق وأظرف من سابقتها ،
لكن من المفروغ منه أنّ هناك مثل هذه الوسائل في العالم الآخر ، نعم كل ما نعرفه
أنّها موجودة ، بينما لا نعلم كيفيتها وخصائصها.
* * *
الثواب والعقاب
إنّ القراءات غير
السليمة لمسألة الثواب والعقاب في عالم ما بعد الموت جعلها تنطوي على هالة من
الإبهام والغموض ، فهنالك عدّة علامات استفهام ونقاط مبهمة بشأن الثواب والعقاب في
القيامة والعالم الآخر ، والتي عادة ماتستند إلى التفسيرات الخاطئة للثواب والعقاب.
فمثلاً يتساءل
البعض :
ما تأثير ذنوبنا
على الله ليؤاخذنا بها ويعاقبنا عليها؟ إنّنا نذنب لكنّه هو الكبير والقادر
والعالم فلماذا يعاقبنا؟ إذن ما الفرق بيننا وبينه؟
فهو الذي يصفح
ويعفو.
وبغض النظر عمّا
سبق فإن أقصى ما يعمر أعتى الظلمة وأعظم الأثمة لا يزيد على مئة سنة ، فما معنى
هذا العذاب لملايين السنين والخلود فيه؟ إنّ فلسفة العقاب لا تتجاوز أحد ثلاث :
الاستناد إلى روح الثأر أو من أجل اعتبار الآخرين أو تربية الخاطئين. ولايصح أي من
هذه المواضيع الثلاثة بشأن العقاب في العالم الآخر ، فأمّا الثأر والإنتقام فالله
منزّه عنه ، لأنّ الإنتقام (وخلانا لما يتصور) لا يفيد القدرة ، بل هو علامة على
ضعف الإنسان وعجزه الروحي ، والانتقام مسكّن للأرواح المجروحة ، أو الأصح عامل من
أجل تخدير الأرواح
المريضة والعاجزة ، وعليه فالعقاب الإلهي لاينطوي على أي عنصر إنتقام.
كما لا ينطوي على «عنصر
تربوي» بالنسبة لمرتكب الذنب أو الآخرين ، فمركز التربية هو هذا العالم وليس هنالك
من فرصة في العالم الآخر ، وعليه فإنّ العقوبات في العالم الآخر ليست مثل القوانين
الجزائية ولعقوبات في عالم الدنيا ، فمثل هذه العقوبات تختزن الجانب التربوي ،
بينما لا معنى له في الحياة الآخرة.
* * *
يمكن الردّ على
التساؤلات السابقة من خلال الإلتفات إلى حقيقة وهي أنّ العقاب الاخروي والجزاء في
القيامة ليس إلَاآثار ونتائج الذنوب والمعاصي في روح الإنسان وجسمه وكذلك تجسمها.
توضيح ذلك : هنالك
عدّة آيات قرآنية وروايات إسلامية ذات عبارات رائعة بشأن رابطة هذا العالم بعالم
الآخرة يمكنها كشف الإغماض المذكور ، مثلاً ورد في الآية ٢٠ من سورة الشورى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الَاخِرَةِ
نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ) فالتعبير بالحرث يفيد أنّ الثواب والعقاب في ذلك العالم
ليس سوى نتائج أعمال الإنسان.
وورد في الآية ١٥
من سورة الجن : (امَّا الْقَاسِطُونَ
فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبَاً) ونخلص من ذلك إلى أنّ النار ليست سوى الصورة الأخرى لأعمال
الأفراد ، وجاء في الآية ٣٩ من سورة الصافات : (وَمَا تُجْزُوْنَ
إِلَا مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ) ويفهم من ذلك أنّ الثواب أيضا هو ذات الأعمال والذي يستفاد
من
هذه العبارات أنّ
الذي سيلازمنا في العالم الآخر هو الأعمال الحسنة والسيئة والتي صدرت منّا في هذا
العالم وهي التي ستبلغ بنا التكامل أوالتسافل. فستخرج هذه الأعمال آنذاك من
خفاياها وتظهرلنا بشكل جديد ، فإمّا أن تنير أعماقنا وتشعرنا بالحيوية والنشاط
وإمّا أن تحرقنا ، على كل حال فهي معنا ولا تفارقنا ، فهي أبدية بإذن الله كسائر
الأشياء في ذلك العالم لايتطرق إليها الفناء والزوال ، وهكذا فمسألة الثواب
والعقاب ليست مثل أجرة العمال ومعاقبة العبيد ، وليس لها بعد الإنتقام ، كما ليس
فيها عبرةللمذنبين أو غيرهم ، بل هي نوع آخر يمكن التعبير عنه ب «أثر العمل».
والطريف في الأمر
أنّه ورد في الرواية المعروفة «الدنيا مزرعة الاخرة». وبالإلتفات إلى مفهوم
المزرعة يتضح أنّ ما نحصده هناك هو المحصول لبذور الأعمل الحسنة والسيئة التي
غرسناها هنا ، فلو نثرنا عدّة بذور من الأشواك ورأينا أنفسنا بعد سنوات أمام ميدان
واسع مليئى بالشوك ولابدّ لنا من عبوره ، فهل نكون قد حصلنا على شيء غير الذي
زرعناه؟ وبالعكس لو نثرنا بذور الزهور في مزارعنا وواجهتنا بعد مدّة حديقة غنّاء
مليئة بالزهور والأوراد ذات الروائح العطرة التي تبعث النشاط والسرور في قلب
الإنسان ، فهل تكون سوى نتيجة عملنا؟ فلا في الحالة الأولى هناك ظلمنا ولا في
الحالة الثانية ما تلقيناه عبثاً دون حساب ، ولم نحصل في الصورتين سوى على نتيجة
عملنا (عليك بالدقّة). والآن نسأل : إذا كانت تلك الأشواك وهذه الزهور خالدة أبدية
، تجعلنا نعيش الألم أو اللذة دائماً ، فهل هناك من مقصر؟ أم أنّ ذلك ينافي العدل؟
أم لنا الحق في الشكوى؟ إذا فهمنا الثواب والعقاب على أساس ما تقدم فسوف تزول كل
علامات الإستفهام (عليك
بالدقّة أيضاً).
وسنتحدث بالتفصيل
عن ذلك في بحث «الخلود» و«تجسد الأعمال».
* * *
تجسم الأعمال
كيف
ستكتسب أعمالنا في الآخرة صفة الحياة بحيث يتجسم كل عمل بالصورة التي تناسبه؟
إنّ من بين
الخصائص التي يتصف بها ذلك العالم وتميزه عن هذا العالم هو مسألة تجسم الأعمال ،
فأقوالنا وأعمالنا في هذه الدنيا التي نعيش فيهاتبدو حركات عابرة ليس لها من دوام
وبقاء وعادة ما تمحى وتزول بعدالظهور ، يمكن أن يكون هناك مصور ماهر وعارف بالوقت
فيحضر في لحظةوقوع الجريمة فيلتقط عدّة صور لجميع مراحل الجريمة أو يسجّل الأصوات
بحيث يمنحها بنوع صبغة الدوام ، لكن أصل القول والعمل مهما كان حصل لعدّة لحظات ثم
تم وإنتهى.
ولكن نفس هذه
الألفاظ والكلمات والأعمال الحسنة والسيئة التي أتينا بها في هذه الحياة ويبدو
أنّها نسيت وزالت وكانت تعتمد علينا في وجودها حتى في تلك اللحظات ، ستظهر يوم
القيامة بصيغة موجودات مستقلة تبدو فيها جليستنا الأصلية التي لاتبتعد عنّا أبداً.
ورد في الحديث
النبوي الشريف أنّ : (الظُّلْمُ هُوَ
الظُّلُمَاتُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ) .، وأموال اليتامى تتجسم بصورة نار : (انَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ
الْيَتامى ظُلْماً انَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً) . كما يكون الإيمان نوراً : (يَوْمَ تَرَى
الْمُؤْمِنَيِنَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَبِايْمانِهِمْ)
والخلاصة فإنّ كل
عمل سيتجسم بالصورة التي تناسبه ، أحياناً تتبدل الكيفيات العملية بكيفيات روحية
وجسمية ، فمثلاً المرابين الذين يعثرون بأعمالهم القبيحة المسيرة المتوازنة
لإقتصاد المجتمع يعيشون نوعاً من مرض الصرع بحيث لايستطيعون التوازن حين قيامهم من
الأرض : (الَّذِيَن
يَأْكُلُونَ الرِّبا لَايَقُومُونَ الّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ)
أما الأموال التي
إحتكرها الأغنياء والبخلاء وجهدوا في جمعها ولم يبدو أية رحمة تجاه من حولهم من
الفقراء والمساكين الذين يعانون من الجوع والحرمان ، بل حتى هم أنفسهم لم يستفيدوا
من تلك الأموال ولم تجلب لهم سوى مسؤولية الحفاظ عليها والهم والغم من أجل عدم
فقدانها وتشتتها وبالتالي لم يكن لهم بد من مفارقتها والإرتحال عنها ، فإنّهم
سيطوقون بها وتكون وبالاً عليهم : (سَيُطَوَّقُونَ
مَابَخِلوُا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ)
فإضافة إلى الإشارات
في الموارد الخاصة الماضية حول تجسم الأعمال الذي ورد في مختلف الآيات القرآنية ،
فهناك إشارة إلى هذا الموضوع في عدّة موارد أخرى بصورد حكم كلي ومن ذلك :
١ ـ (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً) فكل ما يحبّونه انّما هو من صنع أيديهم وحاضر لديهم من هنا
أردف بقوله : (وَلايَظْلِمُ رَبُّكَ
أَحَداً)
__________________
٢ ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا
وَحَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤنَ)
٣ ـ (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ اشْتَاتًا
لِيُروَا اعْمالَهُمْ)
٤ ـ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَةٍ
خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ)
فالآية الأخيرة
تفيد أنّ الإنسان سيرى نفس العمل لا ثوابه وعقابه وكذلك الآيات السابقة ، طبعاً
يمكن تفسير ذلك على أنّه مشاهدة النتيجة وثواب وعقاب العمل أو مشاهدة صحيفة
الأعمال ، ولكن يبدو هذا التفسير خلاف ظاهر الآيات وليست هناك من قرينة على ذلك.
أضف إلى ذلك فهناك
الكثير من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية والتي تصدنا عن مثل هذا التفسير
وترشد إلى كيفية تجسم الأعمال الحسنة والسيئة هناك.
هل يمكن تجسم الأعمال؟
المسألة المهمّة
التي ترد هنا هي : هل تنطبق هذه المسألة والموازين العلمية؟ وتتضح الإجابة على هذا
السؤال بعد الإلتفات إلى عدّة مقدمات مختصرة :
١ ـ نعلم أنّ
العالم مركب من «مادة» و«طاقة» وإنّنا نراهما أينما نظرنا في السموات والأرض مع
بعضهما ويبديان في صور مختلفة.
أمّا المتصور
سابقاً هو أنّ هناك حدّاً فاصلاً لايمكن عبوره بين المادة والطاقة ، فالمادة مادة
دائماً والطاقة طاقة كذلك ، إلّا أنّنا وبفضل تطور العلوم
__________________
الطبيعية قد وقفنا
على الأسرار الكامنة في هذين الأصلين الأساسيين لعالم الخلقة ، حيث تبيّنت مدى
العلاقة الحميمة بينهما إلى درجة أنّ كل واحدمنهما أب وكذلك إبن الآخر.
وأخيراً فقد
إنهارت آخر قلعة محكمة للذرة بصفتها الحدّ الأخير لعالم المادة ، حيث إخترقها
العلم والتطور التكنولوجي ليتبيّن أنّه ليس في داخلها سوى الطاقة ، ولم تكن هذه
المادة سوى طاقة مضغوطة ، وهكذاأصبح تحول المادة إلى طاقة أمراً عادياً.
وقد أثبتت الأجسام
الراديو كتيفية التي تنبعث منها أشعة ذرية في الحالة العادية والطبيعية ، يعني أنّ
مادتها في حالة تآكل وإنهيار وتحول إلى طاقة ، عدم الحاجة في كل موضع إلى
المفاعلات الذرية القوية بغيةتجزأة الذرة وتحطيم أغطيتها ، بل إنّ أغلب ذرات
العالم الثقلية في حالةتجزأ تلقائي ـ أو بصورة تدريجية وبطيئة ـ هذا جانب من
المسألة.
والسؤال المطروح :
هل يمكن تبديل الطاقة إلى مادة على غرار تجزأالذرة وتبدلها إلى طاقة ، مثلاً يمكن
ضغط وفتح السلك المرن فهل يمكن هذا في عالم الطاقة بحيث يمكن ضغطها وتبديلها إلى
مادة ، طبعاً ـ حسبمانعلم ـ لم يستطع العلم المعاصر القيام بذلك العمل ، ولكن لا
دليل على نفي ذلك أيضاً ، فما دامناً أقررنا أن بينهما رابطة حميمة ، بل إنّهما
وجهان لعلمةواحدة ، فمن الممكن تبدل أحدهما إلى الاخر ، وعليه فلا مانع من تبديل
الطاقة بمادة.
٢ ـ إنّ أعمالنا
أشكال مختلفة للطاقة ، فكلامنا طاقة صوتية مخلوطة بالطاقات الميكانيكية للسان
والشفة وتستمد العون من الطاقة الخاصة للدماغ. حركاتنا وأفعالنا وأعمالنا الحسنة
والسيئة والظلم والعدل و
الإحسان والبخل
والعبادة والدعاء كلها أشكال أخرى للطاقة الميكانيكية أو الخليط من الطاقة
الميكانيكية والصوتية.
وهنا خطأ كبير
لابدّ من إجتنابه وهو أنّ الأغلب يتصور بأنّ المواد الغذائية في بدننا إنّما تتبدل
إلى طاقات وحركاتنا وأعمالنا المختلفة ، والحال إنّ هذه خطأ ، فالمواد الغذائية لا
تتبدل إلى الطاقة قط (تبديل المادة إلى طاقة يختص بتجزأة الذرة أو التشعشعات
الذرية في الأجسام الراديو كتيفية).
فما تفسير مايقال
من أنّ الغذاء وقود البدن ويتبدل فيه إلى طاقة؟ لا تبدو الإجابة صعبة على هذا
السؤال لأنّ في بدننا ماكنة كسائر المكائن التي تقوم بتحويل الطاقة من شكل إلى آخر
، لا أنّ المادة تتبدل إلى طاقة (عليك بالدقّة).
* * *
توضيح ذلك : إنّ
كل تحليل أو تركيب كيميائي إمّا أن يحرر طاقة أو يكتسبها ، فمثلاً حين نشعل حطباً
فانّ الكاربون الموجود فيه يتحد مع اوكسجين الهواء ، فتنبعث منه الطاقة الحرارية
التي إدخرها في جوفه خلال سنوات حين القيام بعملية الكربنة دون أن يتبدل شيء من
كاربون الأشجار أو اوكسجين الهواء إلى طاقة.
والآن يمكن أن
نجعل هذه الطاقة الحرارية تحت قدر من الماء ونبدلها إلى بخار فنستفيد من القوة
البخارية لتسيير العجلات ، فقد تبدلت هنا الطاقة الحرارية إلى طاقة ميكانيكية
وحركية.
كما نستطيع عن
طريق الضغط ضخ البخار عبر إنبوب لايجاد صوت عظيم ، أي تبدلت الطاقة الحرارية إلى
طاقة صوتية وكذلك ....
ففي جميع هذه
الحالات لم يقل شيء من المادة ، بل تغيّر شكل الطاقةالكامنة في جوف المواد.
ويصدق هذا الموضوع
على المواد الغذائية في بدننا ، لأنّ المواد الغذائيةفي أبداننا تتحد مع الاوكسجين
فتنبعث منها طاقة حرارية بفعل الإحتراق ، فتتغير هذه الطاقة لتتبدل إلى حركة وصوت
وما شابه ذلك.
* * *
نعود إلى الموضوع
، فأعمالنا وأفعالنا وأقوالنا إنّما تنتشر بصورة طاقات متنوعة في الأوساط المحيطة بنا
، وهي تؤثر على كل شيء بما فيه بدنناوالأرض التي نعيش عليها ، وأثرها باقي
لايعتريه الفناء ويحفظ دائماً في صحيفة الطبيعة ، فكما قلنا سابقا لا مفهوم للعدم
والفناء هناك ، بل هناك تغيير في الشكل.
وبالتالي سيأتي
اليوم الذي تجمع فيه هذه الطاقات التي تبدو منسية منتهية فتكتسب الحياة وتبيّن
أنّها لم تعدم.
لقد سمعنا بأنّه
اخترع جهاز يستطيع تصوير السرّاق الذين يفرون من الموضع (يعني يصور مكانهم الخالي)
لأنّ الأشعة تحت الحمراء التي بقيت بصورة حرارة بدنية في الموضع يمكن تصويرها ، أو
نسمع أنّ العلماء استطاعوا إستعادة الأمواج الموجودة على بدنة الأواني الفخارية
التي خلفّها المصريون قبل ألفي سنة فيجعلون الأصوات قابلة للسماع ، وعلى ضوء ذلك
سيمكننا التسليم والإقرار بحلول مثل هذا اليوم بالنسبة بجميع أعمالنا وأقوالنا ،
وطبق المقدمة الأولى لإمكانية تبديل الطاقة إلى مادة لا تبقى مشكلة بشأن تجسم
الأعمال وتبدلها إلى موجودات مادية ، وعليه فتجسم الأعمال مقبولة من وجهة النظر
العلمية ، وهذا بدوره يكشف عن مدى
اختلاف الحياة في
ذلك العالم عن الحياة هنا ، لو فرضنا أنّ هذا التجسم يحصل في عالمنا المعاصر
فمثلاً يتبدل السب والكلام الفاحش إلى موجود مؤذي إلى جانبنا ، أو يكمن لنا
كمستنقع نتن ، أو أن يتجسم صفع البريء وغصب حق الآخرين إلى موجود مشوّه مكروه ،
فكيف ستصبح حياتنا؟
سيقال : ما أحسن
أن تكون كذلك ، كي تكون خشيتها دافعاً للناس لعدم سلوك السبيل المنحرف ، بل
يسارعون إلى الخيرات (عليك بالدقّة).
ولكن لاينبغي
الغفلة أنّه على هذا الأساس سوف لن يكون هناك من تكامل في أرواحنا وأنفسنا ، بل
سيكون هنالك نوع من العمل الإجباري ، يعني كمن يحمل قسراً لمساعدة مؤسسة خيرية حيث
لايترتب أي تكامل أخلاقي أو معنوي على عمله ، ومن هنا أكتفي بأوامر العقل وتعاليم
الأنبياء في هذا المجال.
لكن على كل حال
للإيمان بأصل تجسم الأعمال دور بارز في بلورة الجانب التربوي لدى الإنسان ، إلى
جانب حثه الإنسان على الإتيان بالصالحات والحيطة والحذر من الطالحات والقبائح ،
ويفتح قلبه وفكره في الأمور التي تتطلب الفداء والتضحية (عليك بالدقّة أيضاً).
* * *
الجنّة والنار
لو أقيمت علاقة
بين أم وطفلها التي في بطنها واستطاعا التحدث معاً ، فسوف لن تكون هناك أم قادرة
على التعبير عن المنظر الجميل الساحر والخلّاب لحظة شروق الشمس أو غروبها على ساحل
بحيرة رائعة تتناثر حولها الحشائش والأشجار بأغصانها التي تداعب أمواج البحيرة.
إنّها لاتسطيع
تصوير حالة النسيم المنعش الممزوج بالرائحة العطرة للزهور والتي تحمل رسالة الحب ،
كما لا تستطيع شرح ألم فراق صديق حميم يتلظى بنار حبيبه ، وليس لها تمثيل سهره
الليالي وتطلعه إلى السماء والكواكب والنجوم ، وأنى للجنين إدراك هذه المفاهيم ولم
يتعامل سوى مع قبضة من اللحم والدم؟
إنّ شرح نعم
الجنّة والآلام المفجعة لعذاب النار بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في جنين هذه
الدنيا بالضبط كم مرّ معنا في إدراك الجنين.
حقاً ـ كما قلنا ـ
فإنّ كلماتنا المحدودة في هذه الحياة لأعجز من أن تصور الحقائق الخارجة عن دائرة
الحياة الدنيا ، وعليه فلابدّ من ألفاظ أخرى ومشاعر وأحاسيس وإدراكات أخرى لكي
يمكن التحدث عنها أو سماعها ، وما أروع ما قاله القرآن الكريم بشأن تلك الحياة : (فَلَا تَعْلَمُ نَفْس مَا اخْفِىَ
لَهُمْ
مِنْ قُرَّةِ اعْيُنٍ) وورد في الحديث : (فِيهَا مَا لَا
عَيْنُ رَاتْ وَلَااذُنُ سَمِعَتْ وَلَاخَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر) . ولعلنا نتعرف على أهميّة الأمر إذا ما تأملنا المفهوم
الواسع لكلمة النفي «لا أحد» ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر فإنّ
الصفات والخصائص التي ذكرها القرآن الكريم لنعم الجنّة لا يمكن مقارنتها قط بما في
هذه الدنيا :
١ ـ (اكُلُهَا دَائِمُ وَظِلُّهَا)
٢ ـ لا تتعفن
مياهها أبداً وفيها أنهار من لبن لا يتغير طعمه (وكأنّه بصورة دائمة في محيط وفضاء
مكشوف دون أن يفقد شكله الطبيعي) كما فيها أنهار من الخمرة التي تشتمل على اللذة
دون السكر والعفونة : (فِيهَا انْهَارٌ مِنْ
مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَانْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَانْهَارٌ
مِنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِلْشَارِبِينَ)
٣ ـ (وَدَانِيَةٍ عَلَيْهِمْ ظِلَالُها
وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْليلاً)
٤ ـ (يُسْقُونَ مِنْ رَحيقٍ مَخْتُومٍ*
خِتَامُهُ مِسْك)
٥ ـ ليس هنالك من
حدّ لنعمها من حيث النوع أو الجنس ، بل فيها كل ما تشتهيه النفس : (وَفِيهَا مَا تَشْتَهيِهِ الأَنْفُسُ
وَتَلَذُّ الْاعْيُنُ)
٦ ـ ليس فيها أي
من معاني البغض والحقد والحسد والصفات الذميمة ، وهي مفعمة بالحب والطهر والاخوة :
(وَنَزْعْنَا مَا في
صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اخْواناً)
__________________
٧ ـ محيط يفيض أمن
وأمان ، فلا وجود فيها للحرب وسفك الدماء ، بل ولا النزاع والجدال وكلها صلح وسلام
: (لَهُمْ دَارُ
السَّلامِ عِنُدَ رَبِّهِمْ)
٨ ـ ليست هناك من
لذة تفوق لذة مناجاة الله والاستغراق في جمال الحق وجلاله سبحانه والشعور بالسرور
لرضى الله : (دَعْوِيهِمْ فِيهَا
سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرٌ دَعْويهُمْ انِ
الْحَمْدُ لِلّهِ رِبِّ الْعَالَمِينَ)
٩ ـ تنبعث نار
جهنم من نفس الناس وهم وقودها وحطبها : (وَامَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) ، (وَقُودُهَا النَّاسُ
وَالحِجَارَةُ)
١٠ ـ تختلف هذه
النار وسائر النيران فهي تحرق من الداخل وتسري إلى الخارج وأول إقتداحها في قلب
الإنسان : (نَّارُ اللهِ
الْمُوقَدَة* الَّتي تَطَّلِعَ عَلَى الْأفْئِدَةِ)
* * *
ونخلص إلى نتيجة
ممّا سبق في أنّ العالم الذي يعقب الموت هو عالم أوسع بمراتب من هذا العالم
وبمفاهيم جديدة تماماً وحيّة ونعم جمة إلى جانب العذاب الأشد الذي لا نتصور سوى
شبحه.
الخلود والعذاب الأبدي
كما لا تتساوى خدمات
ومخالفات كل الناس ـ من حيث الكمية والكيفية ـ كذلك ثوابهم وعقابهم لايمكن أن يكون
واحداً ، وهذا ما عليه الحال بالنسبة لقوانين العقوبات العادية لأفراد البشر
فعقوبة من يسرق
__________________
خاتماً زهيد الثمن
ليست كعقوبة من يهجم على دار الآخرين فيسرق ويسلب ما يشاء ثم يعمد لقتل النساء
والأطفال في الدار.
ومن هنا فإنّ
هنالك تناسباً دقيقاً بين الثواب والعقاب الإلهي ـ والذي يجري وفق خطة محسوبة
وبعيداً عن كافة أشكال الخطأ التي لا تخلو منها القوانين البشرية عادة ـ وطبيعة
الأعمال ، ولاسيّما أننا أشرنا سابقاً إلى أنّ هناك رابطة تكوينية وطبيعية قائمة
بين العمل والثواب والعقاب ، وعليه فاختلاف ثواب وعقاب الأفراد أمر واضح لا نقاش
فيه.
إلّا أنّ المستفاد
من المصادر الإسلامية ـ بما فيها القرآن وكتب الحديث ـ هو أنّ جميع المؤمنين
سيخلدون في الجنّة ، أمّا الأفراد العصاة الذين مردوا على الكفر والإلحاد والذنب
والمعصية فانّهم سيخلدون في العذاب ، وقد عبّر القرآن عن ذلك بالخلود التي تعني في
اللغة بقاء الشيء على حاله ، ومن هنا يطلق الخالد على الشيء الذي يأبى الفساد.
وردت كلمة «الخالدون»
٢٥ مرّة في القرآن الكريم وأنّ ١٤ مرّة منها في عذاب جهنم والخلود فيه ، ووردت
مفردة «الخالدين» ٤٤ مرّة في القرآن وأنّ ١٣ مرّة منها متعلقة بما سبق أيضاً ، كما
وردت بعض العبارت الأخرى إلى مفردة الخلود ، مثلاً جاء في سورة هود بشأن المحسنين
: (وَامَّا الَّذِينَ
سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَادَامَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ
إِلّا مَاشَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) .
وقال بشأن
الأشقياء : (خَالِدِينَ فِيهَا
مَادَامَتِ السَّموَاتُ وَالأَرْضُ الّا مَاشَاءَ رَبُّكَ)
واضح أنّ
الاستثناء الذي ورد آخر الآية (الّا ما شاء ربّك) لا يعني قطع
__________________
الثواب والعقاب ،
بل بيان قدرة الله سبحانه ، يعني لايتصور بأنّ المسألة قد خرجت من يد الله بمثل
ذلك الثواب والعقاب ، كلا فكل شيء مازال في قبضته سبحانه وتعالى ، وشاهد ذلك
العبارة : «عطاء غير مجذوذ» بعد الاستثناء المذكور.
أضف إلى ذلك فإن
كان هناك من يتردد في دوام عقاب المذنبين فإنّه ليس هناك من ترديد في خلود ثواب
المحسنين ، وهذه قرينة أخرى على ما ذكرنا (عليك بالدقّة).
سؤال مهم
هنا ينقدح سؤال
مهم في جميع الأذهان ومفاده : كيف نفسر هذه الحالة من عدم المساواة بالنسبة لله
تعالى؟
كيف يمكن قبول هذا
الأمر في أن يقضي الإنسان جميع عمره الذي لايتجاوز الثمانين أو المأة سنة في عمل
الخير أو الشر بينما يكون ثوابه أو عقابه ملايين الملايين من السنوات بل أكثر؟ مع
ذلك هذا المطلب ليس مهماً بالنسبة للثواب ، لأنّ الثواب مهما كان كثيراً فذلك دليل
على فضل وكرم المثيب ، وعليه فلا إشكال في هذا الخصوص ، إلّاأنّ الإشكال في كيفية
العذاب الخالد إزاء الذنب والظلم والكفر والإنكار المحدود ، فهل ينسجم هذا الأمر
وأصل العدالة؟
فمن لم يتجاوز
ظلمه وطغيانه أكثر من مئة سنة لم يخلد في النار وعذابها؟ أفلا تقتضي العدالة نوعاً
من الموازنة بحيث يعاقب لمئة سنة أو أكثر على قدر ما صدر منه معصية؟!
إجابات غير مقنعة
إنّ صعوبة الردّ
على هذا الإشكال دفعت البعض لتوجيه آيات الخلود ، ففسروها بعدم إعتماد الخلود في
العقاب على أنّه يخالف العدل برأيهم.
١ ـ قال البعض :
المراد بالخلود معناه الكنائي أو المجازي ، يعني مدّة طويلة نسبياً وهذا من قبيل
مايطلق على من يحكم في السجن إلى آخر عمره فيقال حكم عليه بالسجن المؤبد ، والحال
ليس هناك من أبدية في أي سجن حيث تنتهي هذه المدّة بانتهاء العمر ، ومنه ما تعارف
لدى العرب من قولهم «يخلد في السجن».
٢ ـ وقال البعض
الآخر : إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين أفنوا أعمارهم في الذنب والخطيئة حتى أحاطت
بهم وأصبح وجودهم معصية فإنّهم وإن خلدوا في النار ، إلّاإنّ هذه النار لا تبقي
على حالها وبالتالى سيأتي اليوم الذي تخمد فيه هذه النار ـ كسائر النيران الأخرى ـ
فيشعر أهلها بنوع من الهدوء الخاص.
٣ ـ وأخيراً احتمل
البعض حصول حالة من الإنسجام مع النار بعد مرور مدّة من الزمان وتحمل شدّة العذاب
حيث يكتسبون خصائص الوسط فيتكيفوا معه بالتدريج ويعتادوه ، وعلى ذلك فلا يعودون
يشعرون بأي عذاب وألم!
* * *
طبعاً كما ذكرنا
فإنّ كل هذه التوجيهات بسبب العجز عن حلّ مشكلة العذاب الأبدي ، وإلّافإنّ ظهور
الآيات في خلود عذاب طائفة معيّنة ممّا لايمكن إنكاره.
حلّ الإشكال
لحلّ هذه المشكلة
لابدّ من العودة إلى الأبحاث السابقة وإصلاح الخطأ الناشىء من مقارنة عذاب يوم
القيامة وعقوبته بسائر العقوبات ، ليتضح من خلال ذلك عدم وجود أي منافاة لمسألة
الخلود مع عدالة الحق سبحانه ، ولإتضاح الأمر لابدّ من تسليط الضوء على ثلاث
مقدمات :
١ ـ كما ذكرنا
آنفا فإنّ العقاب الأبدي والخالد يختص بالأفراد الذين أغلقوا على أنفسهم كافة سبل
النجاة وقد مارسوا الكفر والنفاق عمداً وقد طبع الذنب على قلوبهم حتى عادوا أنفسهم
معصية وخطيئة كما وصفهم القرآن الكريم : (بَلَى مَن كَسَبَ
سَيِّئَةِ وَاحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَاولئِكَ اصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ)
٢ ـ يخطىء من يظن
أنّ مدة العذاب لابدّ أن تتناسب ومدّة الذنب ، لأنّ الرابطة بين «الذنب» و«العقاب»
ليست زمانية بل رابطة كيفية ، أي أنّ زمان العقاب يتناسب وكيفية الذنب لا مقدار
زمانه ، مثلاً يمكن أنّ يرتكب فرد قتل نفس في لحظة فيحكمه القانون بالسجن المؤبد ،
فنرى هنا أنّ زمان الذنب لحظة بينما قد تكون عقوبتها ثمانين سنة في السجن.
وعليه فالقضية
تتوقف على «الكيفية» لا «كمية الزمان».
٣ ـ قلنا سابقاً
أنّ لعقاب الآخرة حيثية الأثر الطبيعي للعمل وخاصية الذنب ، وبعبارة أوضح : الألم
والمعاناة التي يعانيها المذنبون في العالم الآخر هو أثر ونتيجة أعماله ، فقد جاء
في القرآن الكريم :
(فَالْيَومَ
لَاتُظْلَمُ نَفْس شَيْئاً وَلَاتُجْزَونَ الّا مَاكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (وَبَدا لَهُمْ
سَيِّئَاتُ مَاعَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَاكَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، (فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ
__________________
عَمِلُوا
السَّيِّئاتِ الَّا مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ)
وقد أوردنا عدّة
توضيحات بهذا الخصوص في بحث تجسم الأعمال.
* * *
وبعد أن إتضحت هذه
المقدمات الثلاث لا تبدو الإجابة على الإشكال صعبة ، ويكفي في الوصول إليها
الإجابة على هذه الأسئلة : لنفرض شخصاً أصيب بقرحة في المعدة إثر تناوله المشروبات
الكحولية لاسبوع متتالي بحيث لابدّ له من تحمل هذا الألم إلى آخر عمره ، فهل هذا
التناسب بين العمل السيىء ونتيجته على خلاف العدل؟
وإذا فرضنا أنّ
عمر هذا الفرد بدلاً من ثمانين سنة كان ألف أو مليون سنة ولابدّ أن يتحمل الألم
لمليون سنة بسبب تهوره لاسبوع ، فهل هذا يناقض العدالة؟ والحال قد أنذر سابقاً من
العاقبة الخطيرة لهذا العمل.
ولنفرض أنّ فرداً
ضرب عرض الحائط قوانين المرور التي تعود رعايتها بالنفع العام والحد من الحوادث ،
ولم يصغ لأقوال الأصدقاء وتحذيراتهم فارتكب حادثة في لحظة ففقد عينيه أو يديه
ورجليه ، وعليه أن يتحمل لسنين طوال هذا العمى أو قطع اليد والرجل ، فهل هناك من
تناقض والعدالة؟
وقد ضربناً سابقاً
مثالاً بهدف تقريب المطالب العقلية للذهن ، فقلنا نفرض شخصاً زرع شوكاً ثم رأى
نفسه بعد بضعة أشهر وسط مساحة شاسعة من الشوك فهي تؤذيه دائماً ... أو نثر بذور
الزهور ـ عن علم ـ ليرى بعد مدّة أنّه وسط حديقة غنّاء مليئة بالأوراد والزهور
بروائحها العطرة ، فهل مثل هذه الأمور التي تمثل نتائج عمله تتنافى والعدل ،
والحال ليست هناك من مساواة بين كمية العمل ونتيجته ، ونستنتج ممّا سبق :
حين يكون الثواب
والعقاب نتيجة وأثر لنفس عمل الإنسان لا يعد هنالك من مجال لطرح مسألة المساواة من
حيث الكمية والكيفية ، فربّما كان العمل بظاهره صغيراً وأثره عمراً من الحرمان
والعذاب والألم ، ولعله يكون صغيراً ويكون مصدراً للخير والبركة طيلة العمر.
(طبعاً مرادنا من
العمل الصغير من حيث المدّة الزمانية وإلّافالأعمال والذنوب التي تؤدّي إلى العذاب
الأبدي سوف لن تكون قطعاً صغيرة من حيث الكيفية والأهميّة).
وعليه فإن أحاط
الذنب والكفر بجميع كيان الإنسان وتمام وجوده حتى يؤدّي به في نار كفره ونفاقه فلم
التعجب من حرمانه من النعم الواسعة في ذلك العالم وخلوده في العذاب والألم؟!
ألم يأته النذير
ويحذر من هذا الخطر العظيم؟
بلى ... فقد أنذره
الأنبياء من جانب وحذره العقل من جانب آخر.
هل وقع في ذلك دون
إرادة وإختيار فابتلى بذلك المصير؟ كلا ، لقد بلغه عن علم وإختيار.
فهل صنع هذا
المصير سواه وعمله؟ فكل ما هنالك من آثار عمله ونتائجه ، وعليه فليس هنالك من مجال
للشكوى ولا إشكال على أحد ولا من منافاة مع عدل الحق سبحانه.
بقيت قضية واحدة
نختتم بها البحث ، فقد قال الصادق عليهالسلام :
(انَّما خُلِّدَ اهْلُ
النَّارِ في النَّارِ لأَنَّ نِيّاتِهِمْ كَانَتْ في الدُّنيَا انْ لَوْ خُلِّدُوا
فِيهَا انْ يَعْصُوا اللهَ ابَداً وَانَّما خُلِّدَ اهْلُ الْجَنَّةِ فِى
الْجَنَّةِ لأَنَّ نِيّاتِهِمْ كَانَتْ في الدُّنْيا انْ لَوْ بَقُوا فِيهَا انْ
يُطيعُوا اللهَ ابداً ، فَبِالنِّيّاتِ خُلِّدَ هؤُلاءِ وَهؤُلاءِ)
__________________
فلو نظرنا لهذا
الحديث لبدت لنا في البداية بعض الأسئلة التي لا يسهل الردّ عليها ، لأنّ عقد
العزم على الذنب لايكفي لكل ذلك العقاب بالاضافة إلى ما ورد في الروايات بشأن نيّة
الذنب لوحدها ليست ذنباً فضلاً عن عقوبته الخالدة ، إلّاأنّه يمكن القول بعد
التمعن أنّ هذا الحديث إشارة لطيفة إلى الأبحاث السابقة ، لأنّ نيّة الذنب الأبدي
فقط لُاولئك الذين طبع وجودهم بالذنب وقد أغلقوا على أنفسهم كافة سبل النجاة
وإحترقوا بمعاصيهم.
وبعبارة أوضح :
إنّ هذه النيّة لا تؤثر بمفردها ، بل «الخلود» خاصية تلك الروح الملوثة والطائشة
المصممة على الذنب الدائم ، ومن يبتلي بمثل هذه الحالة إثر الذنب فإنّه يبتعد عن
الله بحيث لا يبقي له من سبيل إلى العودة وهذا من آثار أعماله.
* * *
أين النار والجنّة؟
هل النار والجنّة
موجودتان الآن؟ ... أم في طريقهما إلى الإيجاد؟ ...
وإن كانتا
موجودتين فأين؟
وعلى فرض عدم
وجودهما الآن وسيوجدان فأين سيكون موضعهما؟ من جانب آخر فإننا نقرأ في بعض الآيات
القرآنية أنّ الجنّة عرضها السموات والأرض ، فاذا كان كذلك فهل سيبقى من مكان
لجهنم؟!
هذه هي الأسئلة
التي تعترض هذا البحث ، لكن قبل الإجابة عليها لابدّ من الإلتفات إلى نقطة وهي أنّ
للنار والجنّة ثلاثة معاني مختلفة وردت في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية :
١
ـ جنّة الدنيا.
٢
ـ جنّة البرزخ.
٣
ـ جنّة المأوى في العالم الآخر.
جنّة الدنيا
ظاهراً هي هذه البساتين النضرة لهذا العالم ، فمثلاً ورد في القرآن الكريم بشأن
قوم سبأ ـ اولئك القوم المتحضرون الذي عاشوا في أرض اليمن ومازال علماء الاثار
يهتمون بآثار مدنيتهم ـ قوله :
(لَقَدْ كَانَ
لِسَبَأٍ في مَسْكَنِهِمْ آيَة جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشَمِالٍ كُلُوا مِنْ
رِزْقٍ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَة طَيِّبَة وَرَبّ غَفُور)
ولا تقتصر مفردة «الجنّة»
على حدائق الدنيا المخضرة بهذا المورد ، فقد ورد هذا التعبير في مواضع أخرى من
القرآن ، والاحتمال القوي أنّ جنّة آدم كانت إحدى حدائق الأرض الخضراء ، وهبوط آدم
عليهالسلام من الجنّة إلى الأرض هو نوع من الهبوط المقامي ، لأنّ آدم عليهالسلام انتخب منذ البداية خليفة لله في الأرض ، هذا من الناحية
المادية ؛ ومن الناحية المعنوية فقد سميت مجالس العلم بستان من بساتين الجنّة.
* * *
الجنّة والنار
البرزخية ، مركز للنعمة والعذاب للمحسنين والمسيئين في «عالم البرزخ» يعني العالم
الكائن بين الدنيا والآخرة ، كما ورد بشأن الشهداء في سبيل الله : (... بَلْ هُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ
رِبِّهِمْ يُرزَقُونَ) .
أو أنّ الشهيد حين
يقع على الأرض يسقط في أحضان أهل الجنّة .
أو سائر العبارات
من هذا القبيل التي تفيد دخول بعض الأفراد الجنّة
__________________
حين موتهم ، كل هذا يتعلق بالجنّة البرزخية.
كذلك العقاب الذي
ورد في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية بشأن الظلمة والطغاة إنّما يرتبط
بالنار البرزخية.
والجنّة والنار
البرزخية التي يعبر عنها أحياناً بجنّة المأوى أو جنّات عدن وأحياناً أخرى ناراً
خالداً فيها هي مركز للرحمة أو العذاب الأليم في عالم القيامة الذي يفوق هذا
العالم سعة ، لكن أحياناً يحصل خلط في هذه المعاني الثلاث للجنة والنار والذي أدى
إلى نتائج خاطئة بهذا الشأن.
* * *
ونعود الآن إلى
أصل البحث :
كان السؤال الأول
هل للجنّة والنار الآن من وجود خارجي؟
والحال أنّ عدداً
من علماء الإسلام المعروفين ـ من الفريقين ـ مثل علم الهدى السيد المرتضى والسيد
الرضي وكذلك عبد الجبار وأبو هاشم وهما من علماء العقائد يرون عدم وجود الجنّة
والنار الآن وستجدان فيما بعد ، بينما يؤمن أغلب العلماء بوجودهما الآن ، وهنالك
العديد من القرائن والشواهد على هذا الموضوع ومنها :
١ ـ (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اخرى* عِنْدَ
سِدْرَةِ الْمُنتَهى* عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى)
فالآيات تتحدث عن
معراج النبي صلىاللهعليهوآله وتفيد وجود الجنّة.
٢ ـ (وَانَّ جَهَنَّمَ لُمحيطَة
بِالْكَافِرينَ)
فالتعبير في
الآيتين يفيد الإحاطة الفعلية للنار بالكافرين حيث تطلق
__________________
جهنم عادة على
النار.
٣ ـ (اعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) و (اعِدَّتْ لِلْكَافِرينَ) التي وردت في مختلف الآيات القرآنية هي شاهد آخر على
الموضوع . هذا من جانب.
ولكن من جانب آخر
يستفاد من بعض آيات القرآن أنّ عرض الجنّة السماوات والأرض : (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمواتُ وَالأَرْضُ اعِدَّتْ لِلْمُتَقِينَ) فقد عبرت الآية عن عرض الجنّة بعرض السموات والأرض ، بينما
عبرت آية أخرى بعرض السماء والأرض ، والفارق بين التعبيرين واضح.
فقد ورد في آية : (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرضِ السَّماءِ وَالأَرْض)
(من الواضح أنّ
العرض في الآية لايراد به العرض الهندسي الذي يقابل الطول بل المراد به العرض
اللغوي بمعنى السعة).
وهنا يطرح هذا
السؤال : فمن جانب يَقول ظاهر الآيات القرآنية أنّ الجنّة والنار موجودان الآن ،
ومن جانب آخر فإنّ سعة الجنّة بقدر سعة السماء والأرض ، فأين سيكون هذا المكان؟
أضف إلى ذلك ففي
هذه الحالة سوف لن يكون هناك من موضع لجهنم؟ وهنا يساورنا هذا الفكر أنّ كلاهما في
باطن هذا العالم ، ولا نرى اليوم هذا البطن ، إلّاأنّها يظهران ذلك اليوم بمقتضى :
(فَكَشَفْنا عَنْكَ
غِطائَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَديدٍ) وكل إنسان يحصل على نصيبه بقدر إستعداده!
__________________
يمكن أن يخطر هذا
الكلام العجيب إلى أذهاننا ، إلّاأنّنا نستطيع تقريب ذلك إلى الذهن بمثال : نعلم
إنّنا لا نسمع الأمواج الصوتية لهذا العالم وليس لنا سوى سماع بعض الأصوات التي
لها ذبدبات معينة ولا نسمع غيرها بأي شكل من الأشكال.
من جانب آخر نعلم
أيضاً أنّ محطات إرسال الدنيا تبث أمواج خاصة مستمرة ليل نهار لا نتمكن من سماعها
دون أجهزة لاقطة.
ولنفرض أنّ
مرسلتين قويتين تقوّي أمواجها فضائيات كبيرة وتغطى جميع أنحاء الكرة الأرضية واحدة
في الشرق والأخرى في الغرب ، تبث أحدهما آيات قرآنية بصوت مليح يداعب روح الإنسان
ويجعله يعيش الجذبات الإلهية.
بينما يبث من
المرسلة الثانية صوت مزعج ومؤذي يسبب تعب الروح وإرهاقها إلى جانب الأذن وبالتالي
تستبطن العذاب الأليم!
وهاتين المجموعتين
من الأمواج تسير مع سائر الأمواج الصوتية في الفضاء وقد ملأت كل مكان ، ولكنها
ليست قابلة للإحساس في الحالة العادية ، فإن كانت لنا مستقبلة ذات موجة واحدة
تلتقط مركزاً واحداً وذلك مركز إرسال الصوت اللطيف والمليح ، فمن الطبيعي إنّنا
نفتحه كل لحظة لنغرق في هالة من السرور واللذة والمعنوية ، والويل لنا لو إقتصرت
مستقبلتنا على سحب أمواج المرسلة الثانية ونجبر أيضاً على رؤيتها ، ولَكَم أن
تتصوروا مدى الألم والإنزعاج الذي نعاني منه ليل نهار.
طبعاً لم نرد سوى
بيان مثال من أجل تقريب المطلب إلى الذهن ، والآن عليك بالتمعن والتأمل : ألا يمكن
أن تكون الجنّة والنار موجودة في أبعاد أخرى من هذا العالم لا نشعر بها ، أي في
عمق وجوف هذا العالم ،
بحيث يسعنا إدراكه
لو كان لنا إدراك ورؤية أخرى؟!
ألا تنسجم الآية
المذكورة بشأن النار والتي قالت وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين وهذا التفسير؟ ألا
تتضح أكثر على هذا الأساس الآيات التي صرحت بأنّ سعة الجنّة كسعة السماء والأرض (بالنظر
إلى عدم وجود شيء خارج السماء والأرض).
ألا تعني الآية : (يَوْمَ تُبَدَّلٌ الارْضُ غَيْرَ
الأَرْضَ والسَّموَاتُ وَبَرَزُوا لِلّهِ الْوَاحِدِ الْقَهّارِ) أنّ هذه الأرض والمساء يوم القيامة تحطم أبعادها الفعلية
وتظهر أبعاد القيامة الكامنة اليوم في العالم.
فتصور هذه المسألة
ـ كسائر المسائل المتعلقة بالحياة بعد الموت والمعاد ـ لا تخلو من تعقيد ، لكن
بالإلتفات إلى المقدمات المذكورة ، فلعل ذلك احتمال قوي بخصوص التفسير الفعلي
لوجود الجنّة والنار ، جدير بالذكر أنّ ماذكرناه آنفا واحد من الاحتمالات بشأن
مكان الجنّة والنار وهنالك احتمالات أخرى نعرض عن الخوض فيها إبتعاداً عن الإطالة.
* * *
علامات القيامة
نزلت أغلب السور
القرآنية في مكّة والتي صرّحت بالتذكير بالمعاد والحياة بعد الموت إلى جانب ذكرها
للعلامات التي تسبق القيامة.
وكان لابدّ لذلك
الإنسان الوادع والبعيد عن المسؤولية والمجانب لمسيرة الهدف النهائي للخلقة
والتائه في صحراء الحياة ، أن يتحرك ولاسيما في ذلك الوسط الجاهلي الملوث ، وعليه
ينبغي أن تكون هناك صرخة عالية توقظه من سباته ، وليس هنالك أفضل من إلفات الإنتباه
إلى الحوادث المرعبة في الحياة الآخرة يمكنه أن يقوم بهذا الدور.
والآيات المتعددة
التي نزلت بشأن علامات القيامة تدل بأجمعها على انّ القيامة لا تقم بهذه البساطة
والهدوء ، بل يتزامن معاد الإنسان وقيامته مع قيامة عالم الخلق والتي تقترن
بتغييرات عظيمة تجتاح كافة أنحاء نظام الكائنات.
طبعاً يقول العقل
والمنطق أنّ النظام الجديد للحياة لابدّ أن يقم على عالم جديد ، لاعلى أنقاض
العالم السابق ، ويحصل هذا التقدم والتجدد كسائر التطورات والتجددات المهمّة التي
تكتنف العالم على أساس قفزات عظيمة تشمل أنحاء عالم الوجود.
والآن نسلّط الضوء
على الآيات الواردة بهذا الشأن.
١ ـ الزلزلة العظيمة
(يَا ايُّهَا النَّاسُ
اتَّقُوا رَبَّكُمْ انَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىءٌ عَظيمٍ* يَوْمَ تَرَوُنَهَا
تَذْهَلُ كُلّ مُرضِعَةٍ عَمَّا ارضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلُهَا
وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلكِنْ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ)
قطعاً تقع هذه
الزلزلة قبل القيامة وعلى أعتابها ، لا في يوم القيامة ، وذلك لأنّه لايوجدها في
ذلك اليوم ولامرضع ، على كل حال فإنّ تلك الزلزلة العظيمة بداية تغيير واسع وشامل
في عالم الوجود ، أي هو بداية الأمر ومن ثم ـ كما سنرى ـ يستمر حتى نهاية الكرات
السماوية ، وأخيراً إنبثاق عالم الآخرة.
٢ ـ إنطفاء جذوة الشمس والقمر
(إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ*
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِّرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ
سُجِّرَتْ* وَإِذَا الْنُفُوسُ زُوِّجَتْ* وَإِذَا الْمُوءُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَىِّ
ذَنْبٍ قُتِلَتْ* وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِّرتْ* وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ*
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ
مَا أَحْضَرَتْ)
فالواقع هو أن هذه
التغييرات العامة تشمل الناس والحيوانات والجبال والبحار والأرض والسماء وكلها
تحضر القيامة.
لابدّ من الإلتفات
إلى أنّ هذه الآيات تعرضت إلى علامت القيامة وكذلك
__________________
جانب من حوادث يوم
القيامة بحيث مزجهما معاً باسلوب رائع.
* * *
٣ ـ اليوم الذي يحطم فيه كل شيىء!
(الْقارِعَةُ*
مَاالْقَارِعَة* وَمَا ادريكَ مَاالْقَارِعَة* يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالفَراشِ
الْمَبثُوث* وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالِعِهْنِ الْمَنفُوش)
فالحقيقة هي أنّ
الزلزلة آنذاك شديدة إلى درجة بحيث تدك كل شيء وتقام القيامة!
وقد أشير هنا إلى
أوضاع الناس الحيارى الذين يخبطون خبط عشواء حين تلوح بوادر القيامة ، يعتقد البعض
وخلافاً للتصور المشهور والشاعري السائد في الأذهان بشأن الفراشة والشمع ، حيث
أنشدوا الأشعار وسردوا القصص التي تتحدث عن عشقها وتضحيتها من أجل معشوقها القاسي
، ويبدو أنّ الفراشة لا تضحي أبداً من أجل عشق الشمع ، وهي ضحية نسيانها فقط ،
لأنّ حافظتها ضعيفة وعاجزة بحيث تنسحب فور إقترابها من شعلة الشمع وشعورها بالحرارة
، إلّاأنّها تنسى بعد برهة فتعود ثانية إلى الشعلة وتكرر هذا العمل مراراً حتى
تخاطر بحياتها إثر هذا النسيان.
ولعل تشبيه الناس
في الآيات المذكورة بالفراش المبثوث حين بروز أولى العلامات المخيفة للقيامة من
أجل بيان عظيمة الحادثة التي تخطف العقول وتزيل الحافظة بالمرة.
* * *
كان ذلك جانب من
علامات القيامة والتي تفيد بأجمعها مدى التفاوت
__________________
الهائل بين ذلك
العالم وهذا العالم الذي نعيش فيه ، والذي سيقام على أنقاض هذا العالم.
وبهذا نختتم بحثنا
بشأن المعاد والعالم الذي يعقب الموت ، وإن كانت هنا وهناك بعض المسائل التي تتخلل
هذا البحث وتحتاج إلى الدرس والبحث ، إلّاإنّنا إبتعدنا عن ذلك خشية الإطالة.
أضف إلى ذلك فإن
عالم البرزخ وهو العالم الفاصل بين عالم الدنيا والآخرة هو الآخر من المواضيع التي
كثرت فيها الأبحاث والذي يتطلب دراسة مستقلة.
* * *
اللهم وفقنا لأن
نهذب أنفسنا إستعداداً لتلك الحياة.
اللهم وفقنا لحياة
أبدية إلى جوار رحمتك.
اللهم خذ بأيدينا
لخدمه دينك وعبادك بما توفقنا به لرضاك وترزقنا الشهادة في سبيلك والإستقرار في
مسكن رحمتك.
* * *
الفهرس
المقدمة.......................................................................... ٥
الأيمان
بالمبدأ والمعاد.............................................................. ٥
ماذا
نعلم عن عالم ما بعد الموت؟................................................... ٩
١
ـ آفاق من أبحاث الكتاب....................................................... ٩
٢
ـ كبيرة الكاتب............................................................... ١١
٣
ـ شهادة التأريخ.............................................................. ١٣
هل الموت هو نهاية الحياة
أم بداية حياة جديدة؟.................................. ١٧
الموت
ليس بهذا الرعب.......................................................... ١٨
الشعور
الإنساني حين الموت...................................................... ١٩
عبثية
الهرب من الواقع........................................................... ٢٠
رؤيتان
لمصير الإنسان........................................................... ٢١
لماذا
نخاف من الموت؟........................................................... ٢٢
ما
مصدر هذا الخوف والقلق من الموت؟........................................... ٢٤
العنصر
الآخر لخشية الموت...................................................... ٢٦
جذور
المعاد في أعماق الفطرة.................................................... ٢٧
المشي
في المتاهات.............................................................. ٣٢
الانحراف
عن الفطرة والتخبط في المتاهات.......................................... ٣٣
خرافات
مضحكة ومؤسفة!...................................................... ٣٦
نوافذ
على العالم الآخر.......................................................... ٣٩
القيامة
تهب الحياة نكهتها........................................................ ٤٥
عامل
تربوي مؤثر............................................................... ٥١
عامل
مؤثر واقي وعامل محرك قوي................................................ ٥١
القيامة
في باطنكم.............................................................. ٥٧
القيامة
ردود على الألغاز........................................................ ٦٣
العالم
في عين فرخ!.............................................................. ٦٣
القيامة
في الكتب السماوية...................................................... ٦٩
الكتب
التاريخية بدل الكتب السماوية............................................. ٧٠
القيامة
في الأناجيل............................................................. ٧٣
القرآن
والآخرة.................................................................. ٧٥
أول
إرشاد..................................................................... ٧٥
الطريق
الأول : التذكير بالخلق الأول............................................... ٧٦
الطريق
الثاني : تكرر رؤيتنا للقيامة................................................ ٨١
الردّ
على إشكال مهم........................................................... ٨٤
الطريق
الثالث : معاد الطاقة وقيامتها.............................................. ٨٧
حرارة
النار من الشمس!......................................................... ٨٩
قيامة
الطاقة بعد موتها........................................................... ٩٣
نقطتان
مهمتان................................................................. ٩٦
الطريق
الرابع : لم القيامة ليست ممكنة؟............................................ ٩٧
رؤيتنا
لهذا العالم................................................................ ٩٧
إشكال
محيّر.................................................................. ١٠١
جواب....................................................................... ١٠١
الطريق
الخامس : أصحاب الكهف.............................................. ١٠٣
حقيقة
أم خيال؟.............................................................. ١٠٩
السبات
الشتوي.............................................................. ١١١
نموذج
آخر : دفن المرتاضين.................................................... ١١٢
تجميد
بدن الإنسان الحي...................................................... ١١٢
الطريق
السادس : فترة الجنين شبح من القيامة..................................... ١١٧
شبح
القيامة.................................................................. ١١٩
القيامة
في تجليات الفطرة....................................................... ١٢١
١
ـ الفطرة ، أول دليل على الطريق.............................................. ١٢١
٢
ـ حبّ البقاء............................................................... ١٢٣
٣
ـ القيامة لدى الأقوام السابقة................................................. ١٢٤
٤
ـ القيامة الصغرى والكبرى................................................... ١٢٥
الادله
العقليه للمعاد.......................................................... ١٢٩
الدليل
العقلي الأول : العدالة الشاملة........................................... ١٢٩
المحاكم
الخاصة................................................................ ١٣٠
قانون
العدالة في عالم الوجود................................................... ١٣٢
هل
الإنسان كائن إستثنائي؟................................................... ١٣٢
الدليل
العقلي الثاني : هنالك عالم بعد الموت..................................... ١٣٥
هل
نحن جسر لترقي الآخرين؟.................................................. ١٣٨
إنعكاس
هذا المنطق في القرآن................................................... ١٣٩
الدليل
العقلي الثالث : لو كان الموت نهاية لكان خلق الإنسان عبثاً................. ١٤١
الدليل
العقلي الرابع : بقاء الروح علامة على القيامة............................... ١٤٧
إستقلال
الروح............................................................... ١٥١
أدلة
الماديين على عدم إستقلال الروح........................................... ١٥٤
ثغرات
هذا الإستدلال......................................................... ١٥٥
أدلة
إستقلال الروح........................................................... ١٥٩
١
ـ العلم بالعالم الخارجي....................................................... ١٥٩
٢
ـ وحدة الشخصية.......................................................... ١٦١
تفادي
خطأ فاحش........................................................... ١٦٣
تبريرات
وتفاسير.............................................................. ١٦٤
٣
ـ عدم تطابق الكبير والصغير................................................. ١٦٥
سؤال
ضروري................................................................ ١٦٧
جواب....................................................................... ١٦٨
٤
ـ الظواهر الروحية ليست كالكيفيات المادية..................................... ١٦٩
٥
ـ الأدلة التجريبية على إستقلال الروح......................................... ١٧٠
أقسام الأدلة التجربية.......................................................... ١٧١
١
ـ الإرتباط بالأرواح.......................................................... ١٧١
ماذا
يقول الماديون بشأن هذه المطالب المدهشة؟.................................. ١٧٢
ملاحظات
مهمّة.............................................................. ١٧٣
٢
ـ التنويم المغناطيسي......................................................... ١٧٦
ما
ردّ الماديين على هذا الموضوع؟................................................ ١٨٢
٣
ـ النوم والرؤيا............................................................... ١٨٣
الرؤيا
والأحلام............................................................... ١٨٦
٤
و ٥ ـ الأعمال المذهلة للمرتاضين............................................. ١٩١
النتيجة...................................................................... ١٩٣
ملاحظة
مهمّة................................................................ ١٩٤
بقاء
الروح في القرآن........................................................... ١٩٥
المعاد
الجسمي والروحي........................................................ ١٩٧
النظرية
الأولى : المعاد الروحي................................................... ١٩٧
النظرية
الثانية : المعاد الجسماني والروحاني......................................... ١٩٨
النظرية
الثالثة : المعاد الروحي وشبه الجسمي...................................... ١٩٨
النظرية
الرابعة : المعاد جسماني فقط............................................. ١٩٨
الإسلام
والمعاد................................................................ ١٩٩
المعاد
الجسماني على ضوء العقل................................................. ٢٠١
١
ـ شبهة الآكل والمأكول...................................................... ٢٠٣
إجابة
وتحقيق................................................................. ٢٠٤
إجابة
أوضح................................................................. ٢٠٦
سؤال........................................................................ ٢١١
جواب....................................................................... ٢١١
٢
ـ قلّة التربة على الأرض...................................................... ٢١٢
جواب
:..................................................................... ٢١٢
٣
ـ ما الجسم الذي يشمله المعاد؟............................................... ٢١٤
جواب
:..................................................................... ٢١٥
٤
ـ أين تقام القيامة؟.......................................................... ٢١٦
جواب
:..................................................................... ٢١٦
شهداء
المحكمة الكبرى للمعاد.................................................. ٢١٧
الف
ـ شهداء القيامة........................................................... ٢١٩
كيفية
هذه الشهادة........................................................... ٢٢٠
ب
ـ الحساب في تلك المحكمة................................................... ٢٢٢
ج
ميزان الأعمال............................................................. ٢٢٣
الثواب
والعقاب............................................................... ٢٢٧
تجسم
الأعمال............................................................... ٢٣١
هل
يمكن تجسم الأعمال؟..................................................... ٢٣٣
الجنّة
والنار................................................................... ٢٣٩
الخلود
والعذاب الأبدي........................................................ ٢٤١
سؤال
مهم................................................................... ٢٤٣
إجابات
غير مقنعة............................................................ ٢٤٤
حلّ
الإشكال................................................................ ٢٤٥
أين
النار والجنّة؟.............................................................. ٢٤٨
علامات
القيامة............................................................... ٢٥٥
١
ـ الزلزلة العظيمة............................................................ ٢٥٦
٢
ـ إنطفاء جذوة الشمس والقمر................................................ ٢٥٦
٣
ـ اليوم الذي يحطم فيه كل شيىء!............................................. ٢٥٧
الفهرس...................................................................... ٢٥٩
|